تداول نشطاء عديدون على مواقع التواصل الاجتماعي موقفًا صادرًا عن جمعيّة تطلق على نفسها اسم "الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيّين"، وهو أنّ الخمر ليس محرّمًا، ولكن يحسن اجتنابه بحسب الدلالة القرآنيّة.
ومع تأكيدنا على أنّ استنطاق النصّ القرآني ليس محرّمًا على من امتلك أدوات فهمه، سواء من حيث اللغة أو المنهج، فإنّنا نورد ما يؤكّد تحريم القرآن للخمر بشكل واضح.
في البداية ننقل ما جاء في الخبر المتداول:
"أكدت الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين، في بيان صادر عنها إثر ملتقاها الأسبوعي الخاص بتدبر القرآن ، أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار المروية في كتب التفسير لم تحرّم شرب الخمر مشيرة إلى أن الله وصف المسكر بالرزق الحسن، وذلك في سورة النحل الآية 16. وقالت الجمعية في بيان لها “ثمّ في الآيات الواردة في الخمر يأمر الله بعدم إقامة الصلاة في حالة السكر، كما يذكر أنّ لها إثم كبير وإثمها أكبر من نفعها، وهذا يفيد أنّ الخمر إلى جانب إثمها الكبير فيها أيضا منافع. ثمّ يوصي بتجنّبها من دون أن يحرّمها بآية صريحة في هذا الصدد. ولو أراد الله عزّ وجلّ تحريمها لاستعمل فعل ” حرّم “، كما استعمله في الآيات التي تخصّ الميتة، والدم، ولحم الخنزير.” وانتهت الجمعية إلى أن الخمر ليس محرما، وفقا لما ورد بالنص القرآني، وهي إن كانت من عمل الشيطان فذلك ليس في ذاتها وإنّما في مفعولها السيء على صحّة الانسان وعلى صحّة المجتمع. فالافضل إذا الامساك عنها لما ينجرّ عنها من مساوىء لا تنتهي، وبهذا نعمل، لانّ الخمر لمساوئها وصفت بحقّ أنّها ” أمّ الخبائث “. وفي ما يلي الآيات محلّ التدبّر حسب الجمعية الدولية للمسلمين القرانيين: سورة البقرة (2) الآية 173: ” إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.” الآية 219: ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.” سورة النساء (4) الآية 43: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا.” (5) المائدة سورة الآية 90: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.” تعريفات : الخمر | القرآن الكريم | جمعية المسلمين القرآنيين | شرب الخمر حلال | نبيذ".

ونعلّق على ذلك ضمن نقاط:
1ـ السكر والرزق الحسن:
الآية 16 من سورة النحل فيها مقابلة بين أمرين: "السَّكَر" و"الرزق الحسن"، ومقتضى هذه المقابلة وكونه "رجسًا من عمل الشيطان" أنّ السَّكر هو الرزق السيّئ، وهذا بميزان الله يعني اشتماله على العناصر الذي تجعل منه "إثمًا كبيرًا".
وإنّ هذا النوع من المقابلة لبيان أنّ الله تعالى خلق الأشياء فيها قابليّة الاستخدام في الخير وقابليّة الاستخدام في الشرّ، والإنسان هو الذي يتّخذ جانب الشرّ. ومن المفيد الالتفات إلى أنّ الله عبّر عمّا يقابل السكر بالرزق الحسن؛ لأنّه هو الذي أراده الله، فكان رزقًا، بينما كان الخيار الآخر بيد الإنسان، وبتسويل الشيطان، وهو السكر.
2ـ النهي عن السكر وقت الصلاة
أمّا الأمر بعدم إقامة الصلاة في حالة السكر، فهو خطابٌ يعالج المشكلة بالتدريج؛ لأنّ الخمر من الأمور التي كانت مستفحلة في ممارسة المجتمع، ولذلك احتاج الخطاب إلى نوعٍ من التدرّج لكي يعتاد الإنسان على الامتناع عنها عمليًّا. ومن المعلوم أنّ لدينا خمس صلوات في اليوم موزّعة على خمسة أوقات، فإذا كان المطلوب في تلك الأوقات عدم كون الإنسان سكران، فهذا يعني أنّ عليه الامتناع كلّ يوم وفي كلّ الأوقات التي تسبق الصلاة. ولذلك نفهم بأنّ هذا الخطاب لا يبتعد عن الخطاب المحرّم للخمر، وإنّما يتوجّه – من ناحية عملية – وبطريقة غير مباشرة لمنع الإنسان من معاقرة الخمرة بشكل دائم.
وللمزيد من الوضوح هنا، لا بد من الالتفات إلى أنّ بعض القضايا كانت تتطلّب معالجة عمليّة، ومنها قضية العبيد والإماء، وبالتالي لا ينبغي فهم الخطاب معزولًا عن طبيعة الممارسة المجتمعيّة لذلك، وبالتالي فقد يكون التخطيط الإسلامي لتطبيق التحريم يقتضي هذا النوع من الخطاب غير المباشر، فلا نستطيع أن نقول إنّ أيّ خطاب غير مباشر ينافي الحرمة، وهذا ما يحيلنا إلى الآيات الأخرى التي تمّت مناقشتها من قبل هؤلاء.
3ـ الإثم الكبير والمنافع
هذا التعبير الإلهي بصدد تثقيف الناس بالعناصر الكامنة في الخمر والتي دفعت إلى تحريمه، وهو أنّ فيه إثم كبير (ليس مجرّد إثم)، ومنافع للناس، ومن الواضح من الآية أنّ الإثم هو العنصر الغالب في الخمر، ومع أنّ الإنسان – بمقتضى المنطق السليم لديه – لا يرتكب الإثم الكبير مقابل منفعة قليلة قد يمكن له الحصول عليها من طريق آخر لا يجتمع مع هذا الإثم الكبير.
ولعلّ الذين استدلّوا بأنّ الآية في مقام النصيحة افترضوا سلفًا أنّ الحرام هو ما كان فيه إثم بنسبة 100%، وهذا غير صحيح؛ لأنّه ما من حرامٍ إلّا وفيه فائدة ما، وما من حلال إلّا وفيه ضرر ما، ولكنّ العقلاء عندما يوازنون بين جانب الضرر والنفع هنا وهناك، يحدّدون الحكم بالفعل أو بالترك بحسب النسبة الغالبة، بحيث تكون الفائدة كأنّها غير موجودة إذا كانت نسبة الضرر كبيرة، ويكون الضرر كأنّه غير موجود قياسًا بالمنافع التي يحصل عليها الإنسان.
وعلى سبيل المثال: الصلاة فيها من الفوائد الكثير التي لا تحصى، ولكنّها بطبيعة الحال تتطلّب جهدًا ما من الإنسان، فهي تتطلّب الاستيقاظ لصلاة الفجر، وقد يحلو للإنسان النوم، وتتطلب أن يترك الإنسان أشغاله في وقتها خلال النهار أو الليل، وتتطلّب الاغتسال عندما يجب عليه الغسل، والوضوء بالماء البارد ربما في أيام الشتاء، وكلّ ذلك ليس مريحًا للإنسان، ولكنّه لا يلتفت إلى ذلك عندما يقيسه بحجم الفوائد الروحية والنفسية والاجتماعية التي يحصل عليها من خلال الصلاة.
وكذلك الخمر، فإنّ الآية تريد أن تقول للإنسان إنّ عليك أن تلتفت إلى طبيعة العناصر الكامنة في الخمر، والتي تتأكّد من خلالها أنّ نسبة الإثم الكبير لا تسمح للإنسان بارتكابها لنفع قليل لا يمثل شيئًا قياسًا بذلك.
والذي يلفت هنا هو قوله تعالى: (ويسألونك عن الخمر والميسر)، فالسؤال عن الخمر من قبلهم لا معنى له، فهم لا يسألون عن تعريف الخمر؛ لأنّه يعرفونها وهم يتعاطونها، وإنّما يصبح لهذا السؤال معنًى عندما نقول إنّه سؤال عن موقف المشرّع الإسلاميّ السلبي من الخمر، ومن الواضح حينئذٍ أنّه موقفٌ مناقضٌ لما عليه الناس.
قد يقول قائل: نسلّم معك أنّه موقفٌ مناقض، ولكنّه موقف الناصح وليس موقف المحرّم، وليس في السؤال دلالة على أكثر من السبب الذي ينصحهم في المشرّع الإسلامي بعدم معاقرة الخمرة.
والجواب على ذلك أنّه لو كان المشرّع الإسلامي يريد النصيحة لهم فقط، فهو لا يأتي لهم بشيء جديد أو بإضافة في هذا المجال؛ لأنّهم متّفقون معه على مساوئها، تمامًا كما نجد الأمر في هذه الأيّام، حيث الدراسات العلمية حول مساوئ الخمر والتدخين أصبحت واضحة، ومع ذلك لا يريد الإنسان أن يصدّق ذلك عمليًّا.. وبالتالي فموقفهم ليس مناقضًا له من هذه الجهة، وهذا يعني أنّ التناقض إنّما هو في الحكم بالحرمة وليس أمرًا آخر.
4ـ عدم تحريمها صريحًا!
أمّا أنّ القرآن لم يحرّمها صريحًا، فهذا ناشئ من غفلة المستدلّين على عدم الحرمة عن المنهج القرآني الداخلي في فهمه؛ لأنّ القرآن بيّن أنّه ليس فيه أيّ مضمون يخالف مضمونًا، وأنّه فيه تبيان كلّ شيءٍ، وبالتالي ينبغي الرجوع إليه بمجموعه لأجل ذلك. وهنا نقول إنّ القرآن كان صريحًا في تحريم الخمر من جهة كلّ العناصر التي تكتنف الكلام؛ فإنّه لا يصحّ أن تطلب الصراحة فقط بلفظ "يحرم"، وإنّما قد تكون الصراحة عبارة عن مجموعة من المفردات التي لا يمكن إلا أن تكون دالة على الحرمة، ولا معنى لها بمجموعها سوى ذلك.
أمّا لماذا يعتمد القرآن هذا اللون من الخطاب، فلما أشرنا إليه آنفًا من أنّ ذلك تقتضيه طبيعة العلاج لمشكلة واقعيّة، علمًا أنّ البلاغة لا تفترض التعبير بطريقة مباشرة، بل الأغلب هي الطرق غير المباشرة.
ثمّ إنّ القرآن قال (فاجتنبوه) والاجتناب ليس مجرّد عدم المقاربة، بل أخذ مسافة عنه، وهذا أبلغ في بيان الحرمة، فإنّ الحرمة ليس معناها سوى المنع من الفعل، وهذا متحقّق في لفظ (فاجتنبوه).
أمّا إذا أراد المستدلّ على عدم الحرمة أن يستدلّ بقوله (لعلّكم تفلحون) فهذا التعبير القرآني جزءٌ من عمليّة التثقيف بالوجهة العقلانيّة للتشريعات، والتي تفترض أنّ التشريعات لا تنطلق من عبث، وإنّما تنطلق دائمًا من قاعدة عقلائيّة تفيد الإنسان فردًا أو مجتمعًا أو في كليهما.
يبقى أن نتساءل: لماذا ركّز المستدلّون على قوله تعالى: (فاجتنبوه لعلّكم تفلحون) ولم يركّزوا على قوله تعالى: (رجسٌ من عمل الشيطان)، فهل أنّ الله يقبل أن يفعل الإنسان ما يعمله الشيطان، وهو الذي قال لنا: (إنّ الشيطان لكم عدوّ فاتّخذوه عدوًّا إنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)؟! وكذلك معنى الرجس الذي يلتقي بمعنى النجاسة التي تؤثّر في داخل الإنسان على أكثر من صعيد.
5ـ حرّم القرآن الخمر صراحة
وأخيرًا نقول: إنّ القرآن الكريم استخدم لفظ (حرّم) للدلالة على تحريم الخمر وجملة من الأمور، فقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، وشاهدُنا: (حرّم ربّي.... الإثم)، وإذا ضممنا إلى ذلك قوله تعالى: (فيهما إثم كبير)، فمعنى ذلك أنّ هذا الإثم المختزن بالخمر محرّم على الإنسان بصريح القرآن.
6ـ نظرة حول المنهج
ثمّة خلفيّة منهجيّة ينطلق منها الاستدلال، وهو الاكتفاء بآيات القرآن الكريم، بمعزل عن الأحاديث والتاريخ الذي يعكس ممارسة المسلمين في عصر النصّ؛ لأنّ القرآن الكريم يذكر لنا وجوب متابعة النبيّ (ص) في ما يأمر به ويوضحه، وقد أوضح حرمة الخمر بلا شكّ، وهناك العديد من الأدلّة من السنّة الشريفة على ذلك. ومع أنّنا وجدنا أنّ القرآن نفسه لو اكتفينا به لدلّ على الحرمة بلا إشكال، فإنّه من غير الصحيح أن نغضّ النظر عن كلّ ما يؤكّد هذه الوجهة القرآنيّة، وهي أنّ المسلمين لم يفهموا من ذلك سوى الحرمة، وعليها سيرتهم منذ عصر نزول القرآن وحتى اليوم، وهذا يؤكّد على أنّ المسألة واضحة لديهم وضوح الشمس، ولو لم يكن ذلك لشاع وبان، ولا سيّما مع اختلاطهم بالشعوب الأخرى التي كانت تعاقر الخمر، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.
جعفر محمد حسين فضل الله