جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الرابعة
1423 هــ ـــ 2003م
دار الملاك للطابعة والنشر والتوزيع ش. م.م
المرجع الديني
السيّد محمّد حسين فضل الله
الإسلام ومنطق القوّة
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا المبعوث رحمةً للعالمين محمّد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين وسلامٌ على عبادِه الذين اصطفى وبعد!
فإنَّ للقوّة في الإسلام مفهوماً خاصاً يرتكز على رسالية الهدف الذي تنطلق القوة من أجله فكثيرٌ من الآيات التي وردت في كتاب الله توحي بشكلٍ مباشر أنّ الحرّية والعزّة من أهمّ مقوِّمات الشخصية الإسلامية والإنسانية على حدٍّ سواء.. فقصّة القوّة/العزّة تنعكس على قضية إيمان المرء، وبذلك يكون الذلُّ حركةً سلبية في معنى الإيمان، لأنّ الإنسان جزءٌ من مجتمعه، وكيانه، وأمّته، ودراسة العوامل الموجبة لتحصين هذه الأجزاء تفرض الإطلالة على مصطلح القوّة، ومعناه في مسيرة العمل الإسلاميّ.
منذ ثلاثين عاماً، كتب "السيّد المرجع" الإسلام ومنطق القوّة، في الفترة العصيبة التي كانت الأمة الإسلامية تمرُّ بها، وفي المخاض العسير الذي كان يتجاذبُ الآراء والأهواء، كتبه لأنَّ مسيرة عطائه الجهادية أسلوباً وكلمةً ركّزت على تصويب المفاهيم الإسلامية العامة والتي كثر الجدل حولها ومنها موضوع القوّة، حيث اعتبر سماحته أنّه لا بدّ من "أنْ نركّز على قضية التربية الإسلامية التي يُراد بها تعميق مفاهيم القوّة في فكر الإنسان وشعوره، ليرتبط بالقوّة من خلال مفاهيمها الإسلامية الواسعة الممتدّة، فلا يبقى عرضةً للتأثُّر بالمفاهيم البدائية التي تحصُرُ القوة في نطاق الفروسية الذاتية، أو تبتعد بها عن كلّ المعاني والقِيَم الكبيرة الممتدّة في الحياة، فإنَّ ذلك هو الأساس في بناء الشخصية الإسلامية القوية الضاربة جذورها في الأعماق".
ولقد استند سماحته على النص القرآني في تحديد ما يُراد طرحه من تساؤلاتٍ وإشكالاتٍ وما يمكن أن يشكّل حلاًّ قائماً على التخطيط والموضوعية وصولاً إلى التوازن الإنساني وسلوك درب العدالة في الحكم والكلمة والسلوك، فالقوّة القائمة على "العدل" والدّعوة إلى الحوار والانفتاح وردع الويلات ليست عنفاً تجاه الآخر وإنّما هي دفاع الفكر أمام الفكر، والإنسان أمام الإنسان، لا سيّما إذا استبدّ الظلم وانتشر الضلال واختلطت المفاهيم وأُربِكَ الواقع.
فالقرآن الكريم قد قدَّم العديد من النماذج والتجارب، والكثير من الأساليب التي انطلقت دعوةً إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وإذناً للجهاد في الوقت الذي تفرض فيه طبيعة المعركة وخصوصيّاتها واقعاً تكون القوّة دواءه النَّاجع وسبيله الذي لا بدّ منه.
ولعلَّ سماحته ـــ وقد خبِرَ ـــ الأُمة يعلم أنَّ للقوّة روحاً لا يمكن أن تنفصل عنها وإلاّ تحوّلت القوّة إلى عنفٍ سلبي يعمل على تحطيم المقدِّمات والنتائج والأهداف. ولهذا محَّص سماحته وبحث في الفصل الأول موضوع القوّة وموقعها من العقيدة، ليكون هذا الموقع دفعاً للشبهات من أنّ الإيمان يدفع المرء إلى الخَدَر والسكون والركون إلى الواقع الفاسد الظالم، فهناك مفهوم قوّة الله/ العقيدة، فالله هو القوي العزيز، الذي أراد للإنسان أن يكون قويّاً في الله لا تأخذه لومةُ لائم.
وأمّا في فصله الثاني ـــ وما بعده من فصولٍ ـــ فقد حاول سماحته أن يُبرِز "منطق القوّة في مواجهة الطغيان" فالعبادة ليست استهلاكاً لفرائض أوجبها الله صقلاً لشخصية الإنسان الروحية وإنّما هي نهيٌ عن الفحشاء والمنكر، ورفض للظلم ودفع للطغيان، ومجابهة للظالمين وأمرٌ بالمعروف، وفي ذلك: "قد تكون دراسة أساليب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد الهجرة في معاهداته الداخلية والخارجية، وحربه وسلمه، كما قد تكون دراسة طريقة الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) سبيلاً لتأكيد هذه الفكرة" "فالإسلام لم يحدّد أسلوباً معيّناً للعمل الإسلامي في سبيل الله على مستوى حركة الدعوة أو حركة المواجهة للتحدّيات المضادّة، بل يمكن تحديد الأسلوب تبعاً للحاجة الواقعية إلى ذلك".
وأمّا القوّة الروحية والتي هي أساس في بناء وتحصين وترسيخ القوّة المادية. فقد أفرد سماحته عناوين خاصة تستلهمُ من مبادئ الإسلام سبيلاً لذلك. ولهذا فإنَّ افتقاد الروحية هو عاملٌ أساس للضعف والذلّ: "نحنُ نملك القوّة، ولكنّنا لا نملك الروحية التي نستعمل بها قوّتنا، لأنَّ هناك الكثير من الناس الذين يخافون أن يضبطهم العالم المستعمِر المستكبِر وهم متلبّسون بالشعور بالقوّة فيخافون من أن يصبحوا أقوياء".
إنّ القوّة الروحية تدفع الإنسان للهجوم والدفاع معاً لينتصر على الذّات ومن انتصر على نفسه، فإنّه يستطيع أن ينتصرَ على أعدائه وبسهولة.
والقوّة الروحية ركيزةٌ أساس للقوّة الاجتماعية، لأنّ الفرد الضعيف هو مجتمعٌ ضعيف، وأمّا أخوّة الإيمان وقوّة الفكر وحريّته، والحبّ في الله، والمسؤولية نحو البلاد والعباد، والتواصي بالحقّ والصبر، والتكافل الاجتماعي فهي ثوابت المجتمع المتين المتماسك الذي لا تزعزعه النوائب: "فإنّ يدَ الله مع الجماعة، والشاذ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب".
والقوّة الروحية والاجتماعية تفترضُ جانباً أخلاقياً للقوّة في الإسلام، لأنّ القضية لا تتعلّق بالكثرة العددية أو كثرة المفاهيم والمصطلحات والتي قد تكون هزيمةً نفسيّة للإنسان. ولقد أكّد أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الفكرة بقوله: "إنّ الحقّ لا يقاس بكثرةِ الرجال، اعرفِ الحقّ تعرف أهلَه".
كلُّ ذلك، وما فيه من نقاطٍ أثارها سماحته معتمداً على الآيات من كتاب الله، وأحاديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) لتكون دعوةً إسلامية نحو منطق التغيير ووسائله، التغيير الذي لا بدّ وأن يكون نتيجةً، لطرحِ القوّة في سبيل بناء مجتمعٍ يُؤمِّن للإنسان حياةً مثلى، فلقد جاءَ الدِّين لخدمة الإنسان وتصويب قضاياه وسبله، والتغيير يستدعي أساليب كثيرة قد تقوم على الرفق والعنف والدعوة والحوار والبحث. ممّا يُثير المناحي المتعدّدة في عرض طريقة العمل المختلفة بين الإسلام كدينٍ سماوي إلهيٍّ تشريعيّ وغيره من الأفكار الوضعيّة.
وأمّا في فصليه الأخيرين التاسع والعاشر، فيختم سماحته مبحث "علاقة القوّة بالإيمان" "وأخلاق القوّة وأخلاق الضعف" عارضاً ومناقشاً ومحلِّلاً ومفنِّداً لبعض الآراء التي لا تتوافق ومبادئ الإسلام وتطلُّعاته وآفاقه في تصويب المصطلحات والمفاهيم.
لقد آمن سماحته ـــ ومنذ مرحلة العمل الإسلامي في العراق ـــ أنّ الساحة مليئة بالتحدّيات الكثيرة، وحتى حين تصدّى لكلِّ ما كان يُطرح في المنطقة العربية والإسلامية من فكرٍ مضادٍ مناوئٍ للإسلام فإنَّ المرحلة تحتاج إلى كثيرٍ من الدقّة والتخطيط وبلورة الفكر وتصويب الآراء ومنهجة الموضوعات، لا سيّما أنّ الطفرة الهائلة من المصطلحات والمفاهيم قد تداخلت مع ما يطرحُهُ الإسلام من رؤيةٍ موضوعية لوسائل التعبير عن الذّات، ومحاولات التغيير المرتكز في جميعها على الفكر الإنسانيّ، هذا الفكر الذي أراده السيّد نقيّاً من الشوائب خالصاً لله تعالى صافياً من الأدران والتخلُّف والجهل والعصبية. فالقوّة عقلٌ يُنظِّم وعقلٌ يُخطِّط، والقوّة ساعدٌ يبني ويغيِّر، ونفس تتخلّق بروحية الرسالة ودعوة الإمامة. فقد روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه قال: "لا تزال أُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات، وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"(1).
إنّ القوّة التي يريدها الله وضحّى الأنبياء والأوصياء والأئمة لترسيخها هي القوّة الفاعلة في النفس والحياة، حتى لا نأتي على زمنٍ نفسدُ فيه روحاً وأخلاقاً، وتسودُ فيه حالات الانحراف والفساد الخُلقي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي. فقوّة الروحِ قوّةٌ للنفس والذات، والكيان، والمجتمع، والأُمّة، وأمّا الضعف فهو وليدُ البعدِ عن الله وشريعة الإسلام السّمحاء وقيمِهِ وفضائله.
إنّ القوّة التي أرادها "السيّد" هي التي تحمي لنا أهدافنا في العقيدة والحياة، وتطلّعاتنا وآفاقنا التي شرّع الله القوّة عزةً لها {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] بالحياة قوّةً وعزّة ورباطة جأشٍ. وهي الموضوع الذي تقدّمه "دار الملاك" في طبعته الرابعة عملاً رائداً وفكراً مبدِعاً خلّاقاً.
والله من وراء القصد
الناشر
ذو القعدة 1423 هــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
يشعر العاملون للإسلام ـــ وهم يمارسون الدور التوجيهي والتثقيفي ـــ بالحاجة الكبيرة إلى الدراسات الإسلامية الموضوعية التي تعالج قضايا الحياة من موقع المفهوم الإسلامي الشامل، لأنّهم يواجهون الفراغ الهائل للحلول الإسلامية أمام الكثير من المشاكل التي تفرض نفسها في الساحة، ويشعرون بالتحدّيات التي تواجههم ـــ من خلال ذلك ـــ في الداخل، عندما يتقدّم السائرون على الطريق ليطرحوا علامات الاستفهام في أكثر من قضية وفي أكثر من مشكلة، وفي الخارج، عندما يقف أعداء الإسلام ليثيروا في وجه العمل والعاملين الشبهات والاتهامات والأفكار السلبية، التي يقصدون منها إثارة الضباب في التصوّر الإسلامي للحياة، والإيحاء بعجزه عن متابعة خطوات التطوّر التي تنطلق، في كل يوم جديد، بمشكلة جديدة وتصوّر جديد للمستقبل.
أمّا نحن فنواجه القضية من موقع آخر، وهو حاجة كل عقيدة إلى وضوح الرؤية في كلّ القضايا التي تطرحها أو تُطرح عليها، بعيداً عن كلّ التحدّيات الداخلية والخارجية، فقد يكون من غير الطبيعي أن ينتظر العاملون التحدّيات لينطلقوا في البحث عن الحلول الإسلامية للمشاكل، أو التصوّر الإسلامي لحركة الواقع، لأنّ ذلك يُفقد العاملين الثقة بالفكرة أو بالعمل في الحالات التي تواجههم، وتبقى فيها الأسئلة دون جواب، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ البحث الذي ينطلق من موقع الحاجة إلى مواجهة التحدّيات لا يتحرّك إلاّ في إطار القضايا التي يثيرها الآخرون، ليسير البحث في خُطى تفكيرهم، فلا يعالج إلاّ المشاكل التي عالجوها من منطلقاتهم الفكرية لتكون الدراسة ردّاً على ما أثبتوه، ورفضاً لما قرّروه، ممّا يجعل الأفكار تتحرّك في داخل الأجواء الفكرية التي يعيشون فيها ويتحرّكون في إطارها.
ويفسح المجال للذهنية المنحرفة أن تفرض نفسها على التفكير قبل انطلاقه في خطّ الذهنية المستقيمة التي لم تتّضح أبعادها بعد. وقد يفوّت علينا كثيراً من الملامح الأساسية للعقيدة كنتيجة طبيعية لتناول القضية من خلال الجوانب التي يثيرها الآخرون، لا من خلال النظرة الموضوعية الشاملة التي تتلمَّس كلّ الجوانب من الموقع الطبيعي للدراسة، وللعقيدة.
إنّنا نواجه القضية على أساس البحث المستقل الشامل لقضايا العقيدة، حتى إذا واجهنا التحدّيات، كان الردّ الحاسم مرتبطاً بالفكرة من خلال تفكيرها الأصيل المتحرّك في الأجواء الإسلامية الفكرية، الأمر الذي يوحي للمسلمين العاملين بالثقة والأصالة، وبالتحرّك من موقع الفعل لا من موقع ردود الفعل لما يثيره الآخرون.
وذلك هو أحد الأساليب التي نستطيع من خلالها تربية الإنسان المسلم في فكره وحركته، على أساس الشخصية الأصيلة المستقلّة التي تنظر إلى الواقع بثقة وقوّة واطمئنان.
ولعلّنا لا نثير شيئاً جديداً إذا قرّرنا أنّ ذلك يُحمّل المفكّرين المسلمين مسؤولية التوفّر على البحث والدراسة في هذا الاتجاه, ويدفعهم إلى تجنيد طاقاتهم في سبيل سدّ هذا الفراغ الهائل، كواجب إسلامي تفرضه فريضة الجهاد في سبيل الله، الذي يشمل الجوانب الفكرية إلى جانب القضايا العملية.. ونحن نعلم أنّ الله يسألنا عن طاقاتنا التي خلقها لنبني من خلالها الحياة على ما يحبّه ويرضاه، لا لنفجّرها في الترف الفكري الذي لا يعطي الحياة شيئاً كبيراً.. أو نبدّدها في الفراغ.
وقد يكون موضوع القوّة من أهم المواضيع التي يلزمنا البحث عنها في دراسة موضوعية، لأنّ لها الدور الكبير في انطلاقة الإسلام الشاملة. ولذلك فقد نحتاج إلى أن نعرف طبيعتها ومجالاتها وحدودها لئلاّ نتحرّك في اتجاهٍ يبتعد عن الخطّ المستقيم للإسلام، عندما نرتبط بها من خلال مفاهيم غريبة عن الإسلام، ممّا يبعدنا عن الإسلام وسيلةً، ونحن نتّجه إليه هدفاً.
وقد حاولت أن أُثير هذا الموضوع في دراستي الإسلامية كموضوع مستقل، لأنّني لم أجد في حدود قراءاتي كتاباً يعالج القوّة بشكل موضوعي متكامل، بل كلّ ما وجدته منها، بعض الأبحاث المتناثرة في الدراسات الإسلامية المتفرّقة.
وربّما يوحي العنوان الذي وضعته للكتاب بأنّنا في مجال بحث مادّي للقوّة، يتناول الجوانب المتعلّقة بالصراع والقتال وغير ذلك من المفاهيم التي تتحرّك في إطار الحرب والسلام. ولكنّنا ننظر إلى القوّة كقضية عامة تتناول كلّ الجوانب التي تساهم في تكامل الوجود الإسلامي وثباته وقدرته على البقاء والاستمرار، لأنّ القوّة المادية لا تمثّل شيئاً كبيراً في ربح المعركة إذا لم تسندها القوّة الروحية، بل ربّما يفقد الجيش الكبير نفسه في المعركة أمام الجيش الصغير إذا كان مهزوماً روحياً بفعل العوامل الداخلية والخارجية التي تُفقِده ثقته بنفسه.. ولهذا نجد الدول المتصارعة تعمد إلى شنّ حرب الأعصاب على بعضها البعض لتحقّق الهزيمة النفسية التي تساهم في الهزيمة العسكرية.
وفي هذا الإطار لا بدّ لنا من أن نعرف موازين صنع القوّة. فنبحث في الكثرة العددية كعامل للقوّة أو للضعف، لأنّ هناك فكرة تعتبر الكثرة مصدر قوّة، ولهذا فهي تتّجه إلى الإيحاء للمجتمعات الكثيرة العدد بقوّتها انطلاقاً من ذلك، الأمر الذي قد يدفعها إلى الاسترخاء والاكتفاء بما لديها من العدد، ويمنعها من استكمال الشروط الأخرى التي تجعل من الكثرة عامل قوّة، لا عامل ضعف.
وقد حاولنا أن ندرس موضوع القوّة الاجتماعية كعنصر حيوي في صنع القوّة للأُمّة، لأنّ الأمة التي لا تملك أسباب هذه القوّة، لا تملك الأساس الذي يجعلها تستفيد من عناصر القوّة المادية الأخرى، لأنّ المجتمع المتفكّك لا يستطيع أن يربح المعركة مهما كان لديه من القوى، لأنّ الخلل في البنية الاجتماعية سوف يقلب موازين المعركة لمصلحة المجتمع المتوازن المتماسك مهما كانت قواه محدودة.
وهكذا كانت النظرة العامة للقوّة تفتح لنا عدّة مجالات للبحث باعتبار الطبيعة المترابطة التي تميّزها في عملية صنع القوّة للأمة.
وقد يكون من الغريب، لدى البعض، أنْ نتحدّث ـــ في بحثنا عن القوّة ـــ عن قضية الحكم في الإسلام، وضرورة التغيير الشامل على صورة الإسلام في الحياة، ولكنّنا ـــ إذا تأمّلنا الموضوع بشكلٍ عميق ـــ سنعرف أنّ البحث يتحرّك في إطار الفكرة المألوفة لدى الكثيرين من المسلمين التي تعتبر قضية التغيير بالقوّة أمراً يختلف عن الخطّ الإسلامي، لأنّ قضية الحكم في هذه العهود ليست شأناً إسلامياً، بل هي ـــ في بعض الاعتبارات ـــ قضية محرّمة على صعيد الممارسة لأنّها تعرّض سلامة الأفراد المسلمين للخطر ـــ عندما يقفون في مواجهة الظالم الكافر. وهذه وجهة نظر يتبنّاها الكثيرون من المفكّرين المسلمين وغير المفكّرين.. عندما يفهمون الإسلام عملاً فردياً خاصاً لا يقترب من عملية صنع المجتمع فضلاً عن صنع الدولة.
وهناك وجهة نظر أخرى ترى أنّ الله لا يترك فراغاً إسلامياً.. فإذا كان الإسلام شريعة الله النهائية للحياة فلا بدّ أن نعمل في سبيل تطبيقها على جميع الأصعدة. ولا بدّ لنا من أنْ نتلمّس الوسائل الكفيلة بذلك انطلاقاً من التجربة الإسلامية الأولى التي اتّبعت الرفق تارةً، ومارست العنف أخرى، ومن الآيات القرآنية والأحاديث المأثورة في السنّة الشريفة التي لم تحدّد اللجوء إلى القوّة بزمان أو مكان.
وجهة النظر هذه هي في مقابل تلك. وكلاهما يتّجهان إلى البحث في قضية ممارسة القوّة سلباً أو إيجاباً. ولا بدّ للباحث عن القوّة أن يعالج الموقف الإسلامي من هاتين النظرتين. لأنّ القضية لا تمثّل تَرَفاً فكرياً، بل ترتبط بالقضايا المصيرية لحياة المسلمين وتحرّكهم الاجتماعي والسياسي والعسكري. وهذا ما جعل الأهمية الكبيرة القصوى لموضوع القوّة في حديثنا.
وقد حاولت ـــ جهد المستطاع ـــ أنْ أوضح التصوّر الإسلامي للقوّة في مجال العقيدة والممارسة، من وجهة فهمي للإسلام، وأن أعرض لبعض التصوّرات السلبية الخاطئة في هذا الموضوع.
وختاماً: إنّ هذه الأحاديث التي أثرتها في كتابي، لا تمثّل في نظري إلاّ الخطوات الأولى في طريق هذا البحث، الذي نرجو له أن يتكامل على يد الطلائع المبدعة من مفكّرينا المسلمين، فإنّي لا أزعم لنفسي العصمة ولا أدّعي لها الإحاطة. وكلّي رجاء، من موقع المسؤولية، أن أجد في وعي القرّاء الفكر الناقد الذي يواجه القراءة بروح ناقدة، لا أثر فيها للمجاملة أو العاطفة، أو اللامبالاة.
وكلمة أخيرة: أحبّ أن أُثيرها أمام القرّاء، وهي أنّ هذا الكتاب قد كُتب في فترات متقطّعة، في أجواء الحرب والقتال في المنطقة التي كنت أسكنها في ضواحي بيروت وهي منطقة النبعة تحت تأثير القذائف الكثيرة، وفي أضواء الشموع. إنّها كلمة أقولها للذكرى، من جهة، ومن جهةٍ أخرى، أحمد الله سبحانه وأشكره على ما أمدّني به من قوّة في تلك الظروف القاسية الصعبة، وأعانني عليه من أسباب الفكر والعمل والإنتاج.
إنّه أرحم الراحمين وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.
محمّد حسين فضل الله
التمهيد
لماذا هذا الحديث؟
لماذا القوّة؟
القوّة في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
ما هو موقف الإسلام من منطق القوّة عندما يُفرض في المجتمع، في مجال العقيدة أو في مجال الحياة، في حالة السلم أو في حالة الحرب، في واقع الفرد أو في واقع المجتمع؟
ما هو موقفه من هذا المنطق؟ هل ينسجم معه في تفكيره وتشريعه وحركته في الحياة، أو يختلف معه في ذلك؟ وما هي حدود هذا الانسجام أو الاختلاف؟ أو بالأحرى ما هي مجالاته وآفاقه؟
وما هو نوع القوّة التي يؤمن بها الإسلام؟ إذا كان يؤمن بالقوّة من ناحية المبدأ ــ هل هي القوّة الغاشمة التي تبرِّر كلّ شيء حتى العدوان؟ أو هي التي تقف عند حدود العدوان فلا تتعدّاها؟
وفي هذا كلّه، ما هو موقع المفاهيم الأخلاقية في النصوص الدينية، كالعفو، والصفح والغفران والصبر والتسامح من هذا المنطق؟ هل هي مظهر ضعف لتكون دليلاً على تشجيع الإسلام لأخلاق الضعف لدى الإنسان، أو هي مظهر قوّة لتكون منسجمة مع خطّ القوّة في الإسلام؟ وكيف يكون ذلك، أو كيف نفهمه؟
تلك هي بعض علامات الاستفهام التي تواجهنا عندما نواجه منطق القوّة في الحياة، وموقف الإسلام منه. وتلك هي الأسئلة التي تبحث عن جواب، في قضايا الفكر حينما يتحرّك الفكر ليحلّ مشاكله، وفي قضايا الحياة عندما تنطلق الحياة لتواجه مشاكل الواقع بحلول علميّة.
لماذا هذا الحديث؟
هذا سؤال يطرح نفسه علينا، ونحن نخوض هذا الحديث.
لماذا هذا الحديث؟ ما هي ضرورته؟ هل نحن نواجه أزمة فكرية تناقش منطق القوّة في الإسلام؟ وهل نحن ـــ مع القوّة في قصّة فكر نحلّله ونفلسفه، أو أنّ القضية قضية حياة تواجه الحاجة إلى القوّة ـــ على الطبيعة ـــ في كلّ موقع من مواقع هذا الواقع الذي نعايشه كمسلمين.
أمّا الجواب عن هذا السؤال، فهو:
1 ـــ إنّنا ـــ هنا ــ من أجل التحرّك في خطوة نحو الواقع الذي يبحث عن مقوّمات القوّة. ولكنّنا في الوقت نفسه ـــ نشعر بأنّ من أولى مقوّمات القوّة في حياة الإنسان، هي رسم الصورة، وتخطيط الفكرة، وتحليل الأفكار المضادّة التي تجعل من مفهوم القوّة "شيئاً منتفخاً أجوف" لا يحمل أيّ شيء، ومناقشة المفاهيم المغلوطة التي أخطأ البعض في فهمها. حتّى حمل الإسلام وزر خطئه في أبحاثه، أو في سلوكه العملي. نحمل من مفاهيم. لأنّ تاريخ الانحراف والاستقامة، هو تاريخ الانحراف الفكري الذي يتحوّل إلى انحراف عملي. وتاريخ الاستقامة الروحية التي تتجسّد في السير على الخطّ المستقيم.
وعلى ضوء هذا.. فقد نلتقي بالفكرة التي تسيطر على أذهان الكثيرين، وهي أنّ الإيمان بالله يساوي الإحساس بالضعف، وأنّ الإنسان المؤمن هو الإنسان الضعيف، لنرى فيها بعض ما يغرينا بالبحث عن القوّة في الإسلام، لنصل إلى إثبات خطأ هذا التفكير، من أجل تغيير الواقع لدى المؤمنين في نظر أنفسهم ونظر الآخرين، ليتحوّل إلى واقع عملي آخر.
2 ـــ وقد يغرينا بهذا الحديث الاتجاه الفكري السائد في تفكير بعض المثقّفين، من تصوير الفكر الديني في الإطار الذي يوحي فيه للإنسان بالضعف في أصل الخلقة والتكوين. ويتعاظم هذا الشعور لديه، حتى يحسّ بالانسحاق تحت وطأة هذا الضعف الذاتي إلى الحدّ الذي يشعر فيه، أنّه لا حول ولا قوّة.
وتتمثّل خطورة هذا الاتّجاه الفكري بين شعور الإنسان بالسيطرة المطلقة لله تعالى، وبين استمرار سلطة القوى المُستغِلّة في المجتمع، لأنّ الشعور بفقدان الإنسان للقوّة الذاتية، أمام الله، يجعله خاضعاً لأجواء القوّة الآتية إليه من الخارج من دون أن يملك إزاءها أيّة مقاومة داخلية ذاتية.
3 ـــ وقد نجد من أسباب هذا الحديث، محاولة التركيز على جانب الحرب في الإسلام، وإخراجها من دائرة الحرب العدوانية ـــ كما يحلو للبعض أن يعتبرها ـــ إلى دائرة الحرب الوقائية، أو الدفاعية، ورفض الفكرة التي ترى في الحرب في الإسلام، أو القوّة التي يتبنّاها، أسلوباً من أساليب الدعوة إلى الإسلام، أو طريقة عملية من طرق إدخال الآخرين في هذا الدين.
ربّما نجد في هذا كلّه، بعض الجوانب الفكرية الحيويّة، التي توضح مفهوماً إسلامياً غير واضح، أو سلوكاً قلِقاً يحتاج إلى التركيز والتخطيط. وقد نصل ـــ من خلال ذلك ـــ إلى النتيجة التي تجعل من هذا الحديث وأمثاله، ضرورة فكرية ودينيّة، تضع أفكارنا وأعمالنا في الإطار السليم الذي ينبغي أن نضعها فيه، أو تُدخلنا ـــ على الأقل ـــ في المحاولة الجادّة التي تتّجه بنا إلى ذلك، في طريقنا العملي نحو الغد الإسلامي الأفضل.
لماذا القوّة؟
والآن لماذا القوّة؟
هل هي قيمة كبيرة من القِيَم الحياتية الضخمة التي يطلبها الإنسان لذاتها، تماماً، كما يطلب أيّ عنصر من عناصر زهو الذات بنفسها، أو هي إحدى الوسائل العملية التي تصل الذات ـــ من خلالها ـــ إلى صنع القِيَم في الحياة؟
إنّها هذا وذاك معاً. فهي قيمة للداخل تُشعر الإنسان بالاكتفاء والامتلاء في عملية صنع الشخصية وبنائها. وهي وسيلة كبرى من وسائل صنع الحياة، وتحقيق المبادئ الحقّة فيها.
تلك هي الصورة فيما نرى، وفيما نفكّر.
أنْ تملك القوّة في الحياة، معناه أن تكون نفسك لا غيرك، وأن تمسك بزمام الحياة في عملية إدارة وقيادة. أن تعطيك الحياة طاقاتها وثرواتها لتُسخّرها كما تريد، وتفجِّرها كما تشاء، وتصنعها كما يروق لك.
أمّا أن تفقد القوّة، فتكون ضعيفاً، تفقد القدرة على الصراع وعلى الحركة، فمعناه أن تكون صورة غيرك وظلّه، كمثل الشبح الذي يبدو، ويزول، ليعود في بعض اللمحات، باهت اللون، ضائع الملامح. وأنّك لا تشارك في الحياة إلاّ من بعيد تماماً، كاللمحة الخاطفة من الضياء الخافت الآتي من مسافات شاسعة، على خجل واستحياء من أجل أن يخترق سواد الليل فلا يخدش إلاّ بعض حواشي الظلام، بكلّ هدوء.
ذلك هو منطق الحياة المتحرّك، عندما يقدّم القوة، كإحدى القِيَم الكبيرة الفاعلة، في شمول المعنى الذي تمثّله الكلمة، ليتّسع للحياة كلّها، بما فيه من فكر وسلاح ومواقف.
وذلك هو واقع الأشياء الذي يفرض نفسه. ففي كلّ حالة من حالات تعاظم القوّة، كانت الحياة تتقدّم وتنمو وتفسح المجال لولادة طاقات جديدة، ومواقف مبدعة، وتُحرّك المبادئ لتفرض نفسها على الواقع.
والعكس هو الصحيح. أما في حالات الضعف، فإنّ الحياة تبدأ في الانهيار والتراجع إلى الخلف. أمّا الطاقات فإنّها تتضاءل وتنكمش وتتجمّد في النطاق الضيّق داخل الذات، فيما يشبه الاختناق والشلل.
حتى التاريخ، تاريخ الحرب والسلم، في العلم والمال وفي غير ذلك. إنّه تاريخ الأقوياء وخصومهم من أتباع الحقّ والباطل. أمّا الضعفاء والمستضعفون، فإنّهم لم يستطيعوا أن يربحوا الموقف لمبادئهم وأفكارهم ومصالحهم إلاّ بعد الأخذ بأسلوب القوّة، فلم يقفوا في بدايات الطريق، يراوحون أقدامهم ويبكون على المجد الغابر والقوّة الضائعة.
ولذا فإنّ حاجتنا إلى القوّة، هي حاجتنا إلى بناء الشخصية التي تشعر بأنّ أقدامها ثابتة على الأرض الصلبة في الحياة، لتملك زمام نفسها، وزمام الحياة. وإلى أنْ نحوّل الأهداف التي نؤمن بها، والقِيَم التي ندعو إليها، إلى واقع حيّ يحكم الحياة ويخطّط لها بالوسائل القويّة التي تواجه العقبات وتتخطّى الصعوبات، وتزيل الحواجز عن الطريق، وتفسح المجال لنا للبناء والتخطيط والعمل.
ومن جهةٍ أخرى، نجد أنّ حاجتنا إلى صنع القوّة، هي حاجة الحياة التي تريد أنْ تستثمر الطاقات المودعة في الأرض، والسابحة في الفضاء، والكامنة في أعماق البحار، وتسخّرها للخير، ولخدمة الإنسان. وإذا لم نملك قوّة العلم، وقوّة السيطرة على موارد القوّة المادية ومصادرها، فسنبقى ـــ حيث نحن ـــ نتطلّع إلى ذلك كما يتطلّع الحالمون إلى أحلامهم من بعيد، دون أن يملكوا السبل إلى تحقيقها وتحويلها إلى واقعٍ حيّ ثابت.
القوّة في القرآن الكريم
لقد تحدّث القرآن الكريم عن القوّة في أكثر من آية، كصفة من صفات الله القويّ العزيز، وتحدّث عنها كصفة من صفات الذين عاشوا في الأرض وأخذوا بأسباب القوّة، ولكن قوّتهم لم تنفعهم بشيء إزاء قوّة الله سبحانه.
وقد أكثر الحديث عن ضعف الإنسان، وعن نقاط الضعف الكثيرة المحيطة بتكوينه وبحياته بصورة عامة، ودعاه إلى التخلّص من أسباب الضعف، والأخذ بأسباب القوّة.
ثم ركّز ـــ في أكثر من سورة ـــ على الدعوة إلى القوّة في مواقف الجهاد، وعلى التخطيط لذلك، فيما قدّمه من نصائح وفيما شرّعه من أحكام. وإذا أردنا أن نتتبّع الآيات القرآنية، لوجدنا القرآن الكريم ـــ بأجمعه ـــ دستوراً عملياً للقوّة في كلّ مجالات الحياة الفكرية والعملية. يفتح للإنسان أبوابها، ويُغريه بالعمل على الدخول فيها، ويوجّهه إلى الوسائل العملية التي توصله إلى ذلك، ويوحي له بقدرته على بلوغ هذا الهدف بالطرق الواقعية السليمة.
وإنّنا نحاول ـــ فيما نستقبل من حديث ـــ أنْ نتلمّس ملامح هذه القوّة وعناصرها الأساسية، فيما نقرأ من آيات وفيما نواجه من لمحات القرآن وتوجيهاته في هذا السبيل، لأنّه المصدر الأساس الذي نستطيع الاطمئنان إليه ـــ بصورة كليّة ـــ باعتباره يمثّل الحقيقة الإسلامية الصافية، ولا بدّ لنا أنْ نعرض ـــ فيما نعرض ـــ للأحاديث الشريفة التي جاءت بها السنّة، لتُفصِّل لنا ما أجمله القرآن، وتشرح لنا ما يحتاج إلى شرح، لنستكمل ـــ في ذلك كلّه ـــ التصوّر الإسلامي للقوّة في جميع مجالاتنا العملية.
الفصل الأول
القوّة وموقعها من العقيدة
1 ـــ علاقة المفهوم الديني للقوّة بالضعف الاجتماعي
2 ـــ القوّة في الإطار الواقعي والمثالي
3 ـــ مفهوم قوّة الله في العقيدة
(جــ) إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة
(د) الله مصدر القوّة في كلّ شيء
4 ـــ مفهوم قوّة الإنسان في العقيدة
5 ـــ موقع الضعف الإنساني من العقيدة
6 ـــ العلاقة بين المفهومين
7 ـــ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله
8 ـــ إنّا لله وإنّا إليه راجعون
ما هو مفهوم الإسلام للإنسان، في قصّة الضعف والقوّة؟
ما هي الفكرة التي يهدف إلى إثارتها في طبيعة الإنسان؟ هل هي الفكرة التي توحي إليه بأنّه يملك القدرة الهائلة التي تتعاظم ـــ وتتعاظم ـــ حتى تستطيع أن تكتسح كل شيء أمامها من الصعوبات في كلّ مجال من مجالات هذه الحياة، فليس أمام طاقاتها وقدراتها حاجزٌ من ضعف يقعد بها عن المحاولة والتجربة. أو أنّ القضية على العكس من ذلك، فهي تخضعه للشعور بأنّه كائن ضعيف، لا يملك لنفسه حولاً ولا قوّة، ولا ضرّاً ولا نفعاً. فهو كيان مسحوق تحت تأثير مشاعر الضعف الذاتي الذي ينطلق من طبيعة تكوينه ووجوده؟
1 ـــ علاقة المفهوم الديني للقوّة بالضعف الاجتماعي
ربّما يحاول البعض أنْ يفهم من الإسلام في نصوصه الدينية، في القرآن الكريم وغيره، أنّه يتبنّى الاتجاه الثاني في فهمه للإنسان. فهو يجسّد أمامنا صورة الإنسان الضعيف العاجز، لا صورة الإنسان القوي القادر، في بدايته ونهايته، فإنّ الصورة تبدأ من بداية الخلق في الإنسان، حيث تواجهنا الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء : 28]، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم : 54]، حيث يمثّل الضعف حركة الحياة بين البداية والنهاية عبر القوّة المستمدّة من الله.
ثمّ تتنوّع الآيات التي تصاحب الإنسان في حياته، لتتحدّث عنه، من خلال فكرة العجز التي توحي بفقدانه للقدرة الذاتية، التي تصوّره بصورة الكائن العاجز الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. لتعمّق له هذا التصوّر في وجدانه، حتى يتحوّل إلى فكرة عميقة تملك عليه كلّ دوافعه وتحرّكاته في الحياة، لينتهي به الأمر إلى فقدان الثقة بنفسه، فيما يشبه الشلل.
إنّ القرآن الكريم حين يؤكّد على هذا كلّه، يركّز على الحاجة المطلقة إلى الله في مقابل الغنى المطلق لله، فلا تبقى للإنسان أيّة قيمة إزاء الله، وهذا هو ما تعبّر عنه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ*إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15 ـــ 17].
ثمّ يمتدّ هذا الأسلوب في كل حركات الإنسان، في هداه وضلاله، في فقره وغناه، في مرضه وشفائه، في مطعمه ومشربه وملبسه، في حياته وموته، لتواجهه الحقيقة القرآنية التي تفرغ الإنسان من كل قوّة تملك التحرّك في إطار تحصيل الاكتفاء الذاتي لهذه الحاجات، ولتجعل كلّ حركة ـــ مهما صغرت ـــ في هذه الأمور، بيد الله، فهو الذي يملك كلّ شيء، حتى الإنسان فهو بعض ما يملك، تماماً كأيّ عبد مملوك لا يقدر على شيء ـــ على حدّ التعبير القرآني ـــ ، ويمكننا أن نواجه هذه الفكرة في الآيات القرآنية التالية:
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} [الأعراف : 188].
{مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام : 39].
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت : 62].
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ*وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ*وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ*وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء : 78 ـــ 81].
ولن تقف القضية عند هذا الحدّ من تقرير هذه العقيدة في تفكير الإنسان ووجدانه، بل تحاول أن تجعل منها لازمة يومية يعبّر عنها في حالات الضعف والاستسلام أمام أحداث الحياة.
ولعلّ أوضح صورة تعبيرية عن ذلك، هي الكلمة المعروفة، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.. التي يردّدها المؤمنون، كتعبير عن طبيعة هذا الإيمان. فإنّها تجسّد الإيحاء الدائم العميق بالعجز المطلق الذي يجرّد الإنسان من كلّ حول وقوّة ذاتية. فيربطها بالله وحده، فهو الذي يمنحه الحول، وهو الذي يعطيه القوّة.
وتتّضح الصورة أكثر في الكلمة التي يردّدها المؤمنون أمام حالة الموت، تعبيراً عن حالة الاستسلام المطلق الذي يفقد معه الإنسان الشعور بوجوده ككيان مستقلّ وذلك في قوله تعالى:
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة : 156].
وقد وردت بعض الآيات القرآنية الكريمة، لتجعل من الانسجام مع الكلمة، لفظاً ومضموناً، والإعلان بها أمام المصائب، قيمة دينية كبيرة، ترتفع بأصحابها إلى المستوى الكبير الذي يحقّق لهم درجة امتياز عن غيرهم من المؤمنين، لدى الله سبحانه، وهي قوله تعالى:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 ـــ 157].
إنّه الموقف الخاشع الذي يجسّد الصورة الخاشعة أمام القوّة المطلقة، في شعور عميق بالانسحاق الذي يوحي للإنسان بأنّه مملوك لهذه القوّة المسيطرة، وبأنّه راجع إليها، لا محالة، من غير أن يملك إرادة واختياراً، أو اعتراضاً. فإذا كان الخوف والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات تعبيراً عن إرادة الله، فلنتقبّلها بصبرٍ ورضا واطمئنان؛ لأنّنا ملك الله، فله أن يتصرّف في ملكه بما يشاء وبما يريد.
وتكتمل الصورة وتزداد وضوحاً في الآية الكريمة:
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً*إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف : 23 ـــ 24].
فقد يفهم منها الفكرة التي توحي إلى الإنسان، أن يقف أمام مشاريع الغد وأعماله ومخطّطاته، التي خطّط لها، وعمل من أجل تحقيقها، وقفة المستسلم الذي يشعر بأنّه لا يملك القدرة على تحقيق أي هدف، أو القيام بأيّ عمل، إلاّ بمشيئة الله تعالى. أمّا مشيئته ـــ هو ـــ أمّا تصميمه، أمّا إرادته فلا قيمة لها في حساب العمل، إذا لم تلتقِ بالمشيئة المطلقة المسيطرة، التي تستطيع أنْ تدمّر كلّ المشاريع، وتخرّب كلّ الخطط، وتشلّ كلّ الأعمال، فهي كلّ شيء، أمّا الإنسان فهو ـــ أمامها ـــ لا شيء.
إذا انتقلنا عن الأجواء القرآنية، فإنّنا نلتقي بالأدعية التي وضعت ليواجه بها الإنسان ربّه، في مناجاه روحية خاشعة، يعبّر فيها عن هذا الانسحاق والذوبان والضعف العاجز المنهار، فنقرأ ـــ مثلاً ـــ في دعاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) المعروف بدعاء كميل: "ارحم ضعف بدني ودقّة عظمي ورقّة جلدي.. فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين".
ونقرأ في دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين في الصحيفة السجّادية: "اللّهم إنّك إنْ صَرَفْتَ عنّي وجهك الكريم، أو منعتني فضلك الجسيم، أو حظرت عليّ رزقك، أو قطعت عنّي سَيْبك، لم أجد السبيل إلى شيء من أملي غيرك، ولم أقدر على ما عندك بمعونةٍ سواك، فإنّي عبدك وفي قبضتك، ناصيتي بيدك، لا أمر لي مع أمرك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، ولا قوّة لي على الخروج من سلطانك، ولا أستطيع مجاوزة قدرتك، ولا أستميل هواك، ولا أبلغ رضاك، ولا أنال ما عندك إلاّ بطاعتك وبفضل رحمتك.
إلهي أصبحتُ وأمسيتُ عبداً داخراً لك، لا أملك نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بك، أشهد بذلك على نفسي، وأعترف بضعف قوّتي وقلّة حيلتي، فأنجز لي ما وعدتني، وتمِّم لي ما آتيتني، فإنّي عبدك المسكين المستكين الضعيف الحقير الفقير الخائف المستجير"(1).
ماذا يمثّل هذا كلّه؟
ألا يشارك هذا الاتجاه في إعطاء الصورة الإسلامية للإنسان، في تفريغ الذات من كلّ شعور بالقوّة، وكيف يمكن له ـــ في مثل هذا الجوّ ـــ أن يثق بنفسه وبطاقته، وبقدرته على الحركة، فضلاً عن الإبداع، ولا سيّما إذا عرفنا أنّ تلاوة القرآن وقراءة الأدعية، يمثّلان العبادة اليومية التي يمارسها الإنسان المسلم في أغلب أيامه، كلّما أراد أن يلتقي بالله، أو يجلس إليه في حالة مناجاة خاشعة. ممّا يعطي لهذه التصوّرات والأفكار بُعداً أكبر في تفكير الإنسان وشعوره، نظراً إلى تأثير التكرار المستمر في رسوخ ذلك في النفس.
إنّ هذا الجو الذي يخلقه الدين في نفس الإنسان المسلم أو غيره، يفقده الشعور بشخصيّته، حتى وهو يعطي كلّ جهده وطاقته، فيما يقوم به من بطولات وانتصارات في ساحة الحرب والقتال. ليحلّ محلّ ذلك كلّه الشعور المستسلم، بأنّه ليس ـــ هو ـــ الذي انتصر. بل الله هو المنتصر من خلاله، لأنّه هو الذي قام بالعمل دونه، وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة:
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} [الأنفال : 17].
ذلك هو منطق بعض المتفلسفين الذين حاولوا دراسة التفكير الديني بهذه العقلية، ليفسّروا ـــ بذلك ـــ حالات الضعف والعجز والانسحاق، أمام القوى الطاغية في المجتمع، ليصلوا إلى النتيجة السهلة التي لا تكلّفهم عناء البحث الطويل العميق.
ولنتابع بعض نماذج هذه الدراسة التي أثارها أحد هؤلاء في حديثه عن هذه الفكرة، في إطار البحث عن خصائص العقلية البرجوازية. قال الدكتور هشام نشابة ـــ في مجلة (مواقف) اللبنانية:
"... ولو أردنا أن نذهب أبعد من ذلك في وصف خصائص العقلية البرجوازية الإقطاعية، لوجدنا أنّ فيها افتراضاً أساسياً ـــ هو، أنّ العقل البشري ـــ في حدّ ذاته ـــ عاجز عن الفهم، وأنّه لا يستطيع أن يدرك ما في صنع الله من أسرار، فقوّة الله وقوّة الطبيعة قوّتان ساحقتان، ولا يمكن أن يقاوم أيّاً منهما. وهكذا نجد أنّ الظلم الناتج من تصوّر الله والطبيعة تدعم الخضوع للظلم الناتج من الإنسان، فعبارة "أنا لا شيء"، "أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً" لا تعبّر فقط عن حالة نفسية ناجمة عن الشعور بالعجز والحرمان، بل أيضاً عن نظرةٍ إلى العالَم تحدّ وتحصر دور الفرد وتطلُّعاته.
والواقع أن لموقف كهذا، جذوره في أوضاعنا الحياتية كما في نمط معيّن من أنماط تفكيرنا.
إنّ إنسان مجتمعنا البرجوازي ـــ الإقطاعي لا يحتاج إلى مزاج ديني للقبول بقول القرآن: "لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.." فالإنسان قليل الشأن. والدين يعلّمه يومياً أنّه قد خُلق كائناً ضعيفاً: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء : 28] (كذا). وأنّ الله وحده كلّي الاقتدار "أنتَ تريد وأنا أُريد والله يفعل ما يريد" والفرد يعيش في عالَم يعرف مسبَقاً أنّه لا يستطيع السيطرة عليه، وأنّ مصيره فيه محتوم "كلّ مَن عاش مات وكلّ مَن مات فات، وكلّ ما هو آتٍ آت" وفي النهاية، كما في البداية، فإنّ لله حقّاً في كل شيء "إنّا لله وإنّا إليه راجعون". ومن الواضح أنّ أيديولوجية ـــ كهذه ـــ بتشديدها على استمرار سلطة الله تغذّي استمرار سلطة المتنفّذين في المجتمع".
إنّه التفسير السهل للظواهر الاجتماعية، الذي لا يكلّف الباحث ـــ فيه ـــ نفسه، عناء البحث العميق، من أجل فهم السبب الأعمق في ذلك، المتمثّل في الواقع السياسي الذي يمارسه الطغاة الحاكمون في مختلف عصور التاريخ، ليزوِّروا فهم الإنسان للأشياء، كما يزوِّرون إرادته في كثير من المواقف الحياتية.
والآن..
نحن مع الفكرة من جديد.. من البداية.. لنضع ــ أمامنا ـــ مدلول المفردات الإسلامية في العقيدة بالله وصفاته، وموقع الإنسان من ذلك كلّه.. وتأثيره على التصوّر الإنساني لذاته، وعلى الدور العملي في اتّجاه هذا التصوّر.
وينطلق السؤال من جديد.
هل هناك علاقة بين الدور المطلق لله سبحانه وتعالى، في التفكير الديني، وبين الصورة التي تمثّل الإنسان كائناً ضعيفاً، لا إرادة له ولا اختيار؟.
وربّما تطرح القضية بشكل أكثر دِقَةً وقُرباً لهذا البحث الشائك العميق.
هل الإسلام يحاول أنْ يجسّد ـــ في الحياة ـــ صورة الإنسان الضعيف العاجز، بدلاً من الإنسان القوي القادر، من خلاله ما يقدّمه التفكير الديني التصوّري عن الله والإنسان؟
أو بالأحرى، هل يريد الإسلام أن يقدّم للحياة شخصية الإنسان القوي المندفع المتحرّك المتحدّي، الذي يتعامل مع القوى المحيطة به من خلال القوة المسيطرة؟
أو أنّه يريد أن يقدّم لها واقع الإنسان الضعيف الذي يسير في الحياة دون أن يملك حريّة أن يريد أو لا يريد، ويتعامل مع القوى الموجودة حوله في ضعف واستسلام، وخشوع وخضوع، يفرضه ـــ عليه ـــ شعوره بالعجز عن فهمها والسيطرة عليها، فضلاً عن تغييرها على حسب ما يريد؟
أين هي الصورة الحقيقيّة للإسلام، أو للتفكير الإسلامي، من بين هاتين الصورتين؟
إنّ الجواب على ذلك ـــ هو اختيار الجانب الأول من السؤال، في صيغته الأخيرة، الذي يلتقي مع قوّة الإنسان وفاعليته وحريّته في الإرادة والاختيار، وسيطرته الكبيرة على ما في الحياة من قوى وأسرار.. واعتبار الفكرة الإسلامية عن الله والإنسان وعلاقة الإنسان بالله، مصدراً من مصادر القوّة التي تشحن الإنسان باستمرار، وتدفعه إلى الحركة الذاتية في نموّ وتجدّد ليجدّد الحياة من حوله، ويدفعها إلى الأمام.
ذلك هو رأينا الإجمالي في المسألة، ولهذا الرأي جوانب وأبعاد، لا بدّ لنا من التوفّر عليها بالبحث والدراسة والتحليل، لينطلق الرأي من الوعي التفصيلي الشامل لكلّ الأبعاد المتعلّقة بالموضوع.
ويمكننا أن نلخّصها في عدّة نقاط:
1 ـــ القوّة في الإطار الواقعي والمثالي.
2 ـــ مفهوم قوّة الله في العقيدة.
3 ـــ مفهوم قوّة الإنسان في العقيدة.
4 ـــ موقع الضعف الإنساني من العقيدة.
5 ـــ العلاقة بين المفهومين.
6 ـــ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
7 ـــ إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
2 ـــ القوّة في الإطار الواقعي والمثالي
قد يكون من المفيد لنا في فهم فكرة القوّة في الإسلام في الإطار الواقعي والمثالي ـــ أن نطرح على أنفسنا سؤالاً، لنعرف الموقف من خلال الجواب: ما هو الهدف من التركيز على إثارة جانب القوّة لدى الإنسان، وشعوره بالحرية في إرادته وفي ممارسة طاقاته، وفي قدرته على الحركة فيما يواجه من قضايا الحياة وأسرارها؟
هل هو الحصول على نظرية مثالية تملأ داخل الإنسان شعوره بالحرية المطلقة، والإرادة الكاملة التي لا تقف عند حدّ، حتى يتحوّل الإنسان ـــ معها ـــ إلى إله أو شبه إله؟
هل هذا هو ما نريده؟ أنْ نعرف في الزهو الفكري الذي يضخّم دور الإنسان في الحياة إلى مستوى الخيال دون أن يفيده ذلك شيئاً، في قليل أو في كثير؟
أو أنّنا نريد الحصول على صورة كاملة واقعية للإنسان في هذه الحياة، ليتمثّل فيها الدور الكبير للإنسان، الذي يشعر ـــ معه ـــ بأنّه يملك القدرات التي يستطيع فيها أن يفجِّر كلَّ طاقاته، بعيداً عن أيّة قوّة حياتية تلغي إرادته أو تفرض عليه الإحساس المدمّر بالعجز؟
إنّنا نرى أنّ الغاية التي نستهدفها من إثارة قضية القوّة والضعف لدى الإنسان، هي الجانب الثاني من السؤال، لأنّ المشكلة لم تحدث من فقدانه للإرادة المطلقة التي تحوّل الإنسان إلى إله أو شبه إله، بل المشكلة الأساسية هي في شعور الإنسان بالعجز أمام قوى الطبيعة المحيطة به، وقوى الفئات المتنفّذة الطاغية الضاغطة على إرادته، في حركة إلغاء لإنسانيّته وانتقاص لقيمتها، الأمر الذي يشعر الإنسان فيه بالعجز عن التعامل مع الطبيعة ومع نفسه، ومع الآخرين، تحت ضغط القوّة القاهرة، والخوف المدمّر.
وقد نجد التأكيد على هذه النتيجة التي وصلنا إليها، في الأجواء الخياليّة التي نعيش فيها فكرة القوّة المطلقة في أذهان البعض؛ فلو وضعنا الفكرة الإلهية جانباً، وجرينا في تفكيرنا على أساس الاتجاه المادي في الفكر، الذي يلغي كلّ وجود للقوى خارج نطاق الطبيعة، وتركنا الإنسان وجهاً لوجه أمام الطبيعة، ليتعامل معها من موقع القوّة لا من موقع الضعف، من غير أن يشعر بوجود ضغطٍ فكري يُلغي إرادته، فماذا تكون النتيجة؟ هل تختلف عن النتيجة الواقعية التي تفرضها فكرة السيطرة المطلقة لله؟
إنّه سينطلق للتعامل مع الطبيعة، من أجل اكتشافها وتسخيرها لخدمته، وتعامله مع أسرارها الدقيقة، ليُصنّع الطبيعة ويستفيد منها في توفير الأشياء الصناعية على شكل الأشياء الطبيعية.
ولكن، هل يملك الإنسان أن يتخطَّى هذه القوانين، ويتمرّد عليها؛ ويمارس إرادته في إلغائها من الأساس؟ إنّه سيبقى تحت رحمة هذه القوانين، وستظلّ عملية التغيير خاضعة لضغط القوانين التي تحكم الكون منذ الأزل.
وهل يملك الإنسان أنْ يتخطّى قوانين الحياة في كيانه الجسدي والروحي، فيخرج من ضغط حاجاته الطبيعيّة الضرورية؛ لأنّ قانون الضرورة المادي لا يترك له أيّة قدرة على التحرّك خارج نطاقه مهما اختلفت الحالات أو تعدّدت النظريات؟
وخلاصة القول: إنّ فكرة الإرادة المطلقة التي لا تقف عند حدّ، بحيث لا يشعر الإنسان ـــ معها ـــ بأيّة حالة من حالات الشعور بالعجز، هي من الأفكار الخيالية عندما تعيش في إطار الكائن المحدود، لأنّ المحدود يظلّ خاضعاً، في كيانه وفي حركته العقلية والجسدية للحدود التي يعيش فيها سواءٌ في ذلك، وجوده المادي الخاص، أو آفاقه المحدودة التي تتحرّك فيها تجاربه الخاصة والعامة في الحياة.
إنّ الإرادة المطلقة، والغنى المطلق، هما من صفات المطلق، فليس لها أن تعيش في نطاق المحدود. أمّا طبيعة الحدود التي تقف عندها القدرة المحدودة للإنسان، فلا تحكمها التجارب المحدودة، لأنّها لا تترك إلاّ نتائج جزئية.. بل القوانين الطبيعية للكون والحياة التي يكتشفها الإنسان بعد جهد طويل، بشكلٍ قاطع لا يقبل الشكّ، ممّا يضطره إلى أن يخضع حياته لأحكامها، فيوفّق بين قوانين الكون وبين طبيعة الحياة.
وليس هذا الذي نقوله فلسفة تعيش في إطار النظريات الفلسفيّة لتخضع لما تخضع له تلك النظريات من نقاش وجدال، بل هو واقع حيّ تؤكّده طبيعة الحياة التي نحياها في جميع المجالات، وإن استخدمنا في ذلك كلمات الفلسفة ومصطلحاتها.
3 ـــ مفهوم قوّة الله في العقيدة
والآن.. نحن هنا.. وجهاً لوجه، أمام فكرة "قوّة الله" في العقيدة الإسلامية، كمرحلة من مراحل وعي العلاقة بينها وبين قضية الضعف والقوّة لدى الإنسان.
إنّنا نبدأ من الوقوف قليلاً مع الآيات القرآنية التي تتحدّث عن "قوّة الله" أمام ضعف الإنسان، لندرس طبيعة ذلك؛ بالإضافة إلى الأغراض التي أرادها الإسلام من التأكيد على ذلك كلّه، أو المجالات التي تتحدّث فيها عن الموضوع، لنخلص إلى النتيجة التي نشير إليها في بداية هذا الحديث، وهي، أنّ تلك الأغراض بعيدة كل البعد عن محاولة إضعاف الإنسان، من حيث تعميق شعوره بالضعف الذي يشلّ قدرته على الحركة الذاتية، بل هي منسجمة مع خطّ حماية الإنسان من ضعفه.
فإذا درسنا الآيات التي تحدّثت عن قوّة الله، وجدناها في موضوع عقوبة الإنسان على مخالفة التكاليف الإلهية، بالتمرّد على إرادة الله، وفي موضوع مواجهة الإنسان لقوى الشرّ في الحياة، وفي رزق الإنسان.. وفي أمثال ذلك من المواضيع التي يراد بها تحقيق التوازن في السلوك العملي للإنسان، لتكون قوّة الله عنصر ردع للانحراف، ومبعث قوّة في حالة الإحساس بالضعف، كما نرى ذلك فيما نقرأ من آيات.
أ ـــ إنّ الله شديد العقاب
إنّنا نواجه في هذه الآية وأمثالها حديثاً عن قوّة الله في معرض الوعيد بالعذاب الذي يتعرّض له الكفّار في الدنيا والآخرة، كإيحاء للآخرين الذين يتمرّدون على الله من جديد في الحاضر والمستقبل، بأنّ ما حدث من عقوبة وعذاب لأولئك، كان بفعل قوّة الله التي لا تقف عند حدّ، ولا يملك المتمرّدون لها دفعاً مهما كانت درجة قوّتهم.
ولنقف على بعض الآيات الكريمة التي تعالج الموضوع.
1 ـــ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال : 52].
2 ـــ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر : 44].
3 ـــ {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [البقرة : 165].
4 ـــ {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ*فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} [فصلت : 15ـــ 16].
فإنّنا نلاحظ ـــ في هذه الآيات التركيز على قوّة الله الكبرى، من أجل منع قوّة الإنسان من الطغيان المدمّر الذي يدمّر له حياته وحياة الآخرين. فهي تتحدّث بأساليب مختلفة عن قوّة هؤلاء الأقوياء الذين استكبروا وظلموا وتجبّروا، وكيف أنّها لم تثبت ـــ لحظةً ـــ أمام قوّة الله المتمثّلة بإرسال العذاب عليهم وإهلاكهم. ثمّ مواجهتهم ـــ بعد ذلك ـــ بعذاب الآخرة الذي هو أخزى وأشدّ. الأمر الذي يفقد الإنسان ـــ معه ـــ الثقة بقوّته المطلقة عندما يواجه المسؤولية، ويعرف نتائجها المترتّبة في حالة القيام بالمسؤولية أو الانحراف في الحاضر والمستقبل، ممّا يؤدّي به إلى الخضوع للقوّة الكبرى، فيتطامن ويخشع ويبدأ عملية الحساب الواعي للسير في الصراط المستقيم.
وبهذا تقوم هذه الآيات بدور تحذيري من جهة، وتربوي من جهة أخرى، فتجعل من الإيحاء بقوّة الله العظيمة، قوّة ردع الإنسان عن الانحراف والتمرّد، وعن الظلم والطغيان، حينما يدعوه إحساسه بالقوّة الذاتية التي يملكها إلى السير بعيداً في طريق الانحراف.
ولا بدّ لنا من الإشارة إلى نقطة مهمة في هذا المجال، وهي أنّ الإيحاء بقوّة الله، لا يريد أن يضغط على فكر الإنسان وإرادته في الاختيار، بل يحاول الضغط على عوامل الانحراف باعتبارها خطراً على الفرد وعلى المجتمع، أمّا الفكر الذي يبحث عن الهدف ويفتّش عن الطريق، أمّا الإرادة التي تواجه عملية الاختيار الصعب في تقرير المصير على أساس الحقّ والباطل، أما هذا وذاك، فقد عاشا في أجواء الحريّة الواسعة التي لا يتعرّض فيها الإنسان لأيّ ضغط فعلي أو إيحائي، بل تقف القضية عند المؤثّرات التي تساعد في عملية الاختيار، أو الأجواء التي تضعه في الجوّ الطبيعي للفكر والإرادة.
ولعلّنا لا نبتعد عن الحقّ، إذا قلنا: إنّ الإيحاء بالقوّة في المجالات التنفيذيّة أو التطبيقية، لا يهدّد الإرادة المستقلة الواعية للإنسان، بل يؤكّدها، على أساس أنّ ذلك يعزّز من إبعاد الإرادة عن مؤثّرات الانحراف، لتمارس دورها ممارسة مستقلّة ومجرّدة. لاسيّما إذا عرفنا أنّه موجّه إلى أولئك الذين قُدّمت لهم كلّ وسائل المعرفة، فتمرّدوا عليها من دون حجّة أو دليل؛ بل للرغبة المنحرفة في المشاغبة والتضليل.
ب ـــ لينصرن الله مَنْ ينصره
ونلمح، في بعض الآيات، إشارة إلى قوّة الله، من حيث هي عنصر ضمان للإنسان الذي يواجه قوى البغي والباطل بالموقف الحاسم المنطلق من موقع الرسالة، وقدرتها على الثبات والصمود. فهي تقف معه لتشدّ أزره، وتقوّي موقفه، مهما كانت قوّة العدوّ كبيرة؛ لأنّ الله معه ينصره ويقوّيه ويدعم موقفه.
وهذه هي بعض الآيات التي تتحدّث عن ذلك:
1 ـــ {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود : 66].
2 ـــ {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج : 40].
3 ـــ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب : 25].
إنّ قوّة الله تنقذ الإنسان من الشعور الداخلي بالضعف أمام قوى الباطل والطغيان التي تحاول أن تدمّره نفسياً، من خلال ما تحشده ضدّه من قوى كبيرة، ليعيش الإنسان الطمأنينة الروحية بأنّ الله لن يتخلّى عنه عندما يضعف، بل يعطيه القوّة من جديد. فلا يتخلّى ـــ إزاء ذلك ـــ عن قوّته.
إنّ قوّة الله ــــ هنا ـــ مصدر قوّة كبيرة، فكيف يمكن اعتبارها مصدر ضعف. لا سيّما إذا نظرنا إلى القضية من زاوية التأكيد على أنّ القوى المضادّة لا تملك شيئاً ضدّ قوّة الله. ففي هذا الحال لا يبقى أمام قوّة الإنسان حاجز يحجزها عن ممارسة دورها وإرادتها الفاعلة في الحياة.
ج ـــ إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة
ويحدّثنا القرآن الكريم عن قوّة الله، في مجال الحديث عن الرزق الذي يرزقه الله لعباده، من موقع قوّته المطلقة، وقدرته الشاملة عليه، لأنّه خالق أسباب ذلك كلّه، ليطمئن الإنسان إلى رزقه باطمئنانه إلى خالقه. وبذلك يغلق عليه أبواب الشعور بالضعف عندما تضيق به الحياة، أو تقبل عليه طلائع الفقر.
1 ـــ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات : 58].
2 ـــ {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ} [الشورى : 19].
د ـــ الله مصدر القوّة في كلّ شيء
ويمتدّ الحديث في القرآن الكريم عن قوّة الله في كل ظواهر الحياة، وفي كل قضية من قضاياها، وفي كل نعمة من نعمها، أو بلية من بلاياها. حتى تحسّ ـــ وأنتَ تسير في الرحلة القرآنية مع الكون في ظلال الله ـــ أنّك تلتقي بالله في كل شيء، ومع كل شيء، من أصغر ذرّة، إلى أكبر شيء. فكل ما في الوجود لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بالله، حتّى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ قمّة الموجودات في القيمة الدينية الكبيرة والمركز العظيم ـــ يصوّره القرآن مجرّداً من كل قوّة، ومن كل قابلية ذاتية لتحصيل القوّة، عندما يقف بين يديّ الله كما جاء في قوله تعالى:
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} [الأعراف : 188].
يشعر الإنسان ـــ في كل ذلك ـــ بالله القوي في كل جوانب الحياة يرعاه ويحوطه ويمنحه القوّة، كما يمنحه الرزق والصحة وكل شيء، ليحسّ بالحماية الدائمة في كل وقت وفي كل مجال؛ لئلا يستسلم إلى أيّة حالة من حالات الضعف الكثيرة التي قد تؤدّي به إلى السقوط تحت رحمة اليأس والقنوط.
وهكذا نرى أن التركيز على قوة الله المطلقة، لم يجعل الإنسان مسحوقاً يعاني من عقدة ضعفه، بل جعله يشعر بالقوة التي تحاول أن تحلّ له هذه العقدة بأسلوب إيماني واقعي.
ولعلّ هؤلاء الذين أثاروا ما أثاروه حول العقيدة الإلهية، تخيّلوا في وجدانهم، أن الله في الكون يمثّل قوّة عادية، كإحدى القوى المتنفّذة المسيطرة في الحياة، التي تتحكم في الإنسان فتلغي إرادته وتضطهد حريّته.
ولكنّ القرآن يعطينا الصورة التي تختلف عن ذلك، من الأساس، فهو الخالق البارئ المصور الرحمن الرحيم، الذي وهب للإنسان عقله وإرادته كما وهب له وجوده، وزوّده بكل شيء يهديه إلى طريق الخير، ويجنّبه طريق الشرّ، ويجعل منه قوّة فاعلة خيّرة. ثم أوحى إليه بأنّه غنيّ عنه في كلّ شيء، فلا حاجة له بأيّ شيء ممّا يملكه الإنسان أو يعمله لأنّ ذلك منه وإليه أوّلاً وأخيراً. ولذا فلا يمكن أن تتعارض إرادة الله وقوّته وسيطرته مع مصلحة الإنسان؛ لأنّ مثل هذا التناقض بين قوّة القوي وبين مصلحة الضعيف، لا ينطلق إلاّ من خلال حاجة القوي ـــ في حياته ـــ لاستغلال الضعيف واستثماره فتتحقّق ـــ بذلك ـــ الإرادة المضادّة من أجل تلبية الحاجات الطارئة للقوي، ضدّ الضعيف.
4 ـــ مفهوم قوة الإنسان في العقيدة
تنطلق الفكرة الدينية، في الإسلام، عن الإنسان من عنصرين أساسيين:
الأول: دوره في الكون، إنّ القرآن الكريم يحدّثنا عن الدور الكبير الذي أعطاه الله للإنسان، وهو خلافته في الأرض، وتزويده بالقابلية الكبيرة على وعي ما في الأرض، في سطحها وباطنها، وما في الفضاء، في أجوائه وكواكبه، من قوى وظواهر وموجودات ممّا لم يمنحه الله لملائكته المقرّبين الذين يسبّحونه ويقدّسونه.
ويمثّل هذا الدور القيادي، أعلى مركز للقوة وضع الله الإنسان فيه. وأيّ دور أعظم من أن يتولّى الإنسان إدارة الكون في الأرض وقيادته ورعايته، على أساس القوانين والسنن الطبيعية التي أودعها الله فيه، في إطار الرسالات الإلهية التي وضعها الله له.
قال الله تعالى:
... {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ*وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ*قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة : 30 ــ 33].
ثمّ نلاحظ الأمر الإلهي الموجّه إلى الملائكة بالسجود لآدم ـــ تأكيداً لعظمة خلقه، وتدليلاً على المركز القوي الذي جعله الله له، وأراد منه النهوض فيه.
... {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 34].
الثاني: تسخير الكون له، وتذليله لقدراته، في جوانب: أحدها: من حيث أنّه مخلوق لأجله ولمنفعته. وبهذا نعرف أنّ ذلك يوحي بالفكرة التي تعطي قدرته على استفادته من طاقاتها بأساليب مختلفة حسب الحاجة. ثانيها: من حيث إمكانية اكتشافها، والتعرُّف على أسرارها؛ وذلك بالبحث الجادّ والتفكير العميق الذي يتجه في هذا السبيل؛ ولنقرأ بعض الآيات الكريمة التي تتحدث لنا عن العناصر التفصيلية لهذا الجانب.
1 ـــ {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ....} [لقمان : 20]، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى...} [لقمان : 29].
2 ـــ { وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم : 33].
3 ـــ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة : 29].
4 ـــ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك : 15].
5 ـــ { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف : 10].
ثالثهما: تكريم الله للإنسان، واعتباره أفضل من كثير من المخلوقات، ممّا يجعلها تابعة له، ومنقادة لإرادته كما قال الله سبحانه:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء : 70].
ثمّ تأتي الآيات الكثيرة لتدعو الإنسان إلى حمل مسؤوليته في اكتشاف الحياة ومعرفة أسرارها بالدعوة إلى التفكير فيها، من أجل مواجهة ظواهرها بعقلية منفتحة واعية، تستعين بما تعرف على اكتشاف ما لا تعرف، لتتعامل مع الكون على أساس الوعي والمعرفة والعلم.
{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} [يونس : 101].
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} [آل عمران : 191].
إنّ ذلك كلّه يجعلنا نصل إلى النتيجة الحاسمة التي تقرّر أنّ الإنسان يتمتع بقوة هائلة كبيرة يستطيع من خلالها أن يكتشف الكون بقدراته الفكرية والعملية. ثم يتعامل معه، من موقع القوة على تسخير قوانينه المودعة فيه، لتحقيق إرادته في بناء الحياة، وتصنيعها على أساس حاجاته ومطامحه.
ذلك هو طابع التفكير الديني في مفهومه للإنسان، في إطار مفهوم القوة والضعف. ثم يأتي ـــ بعد هذا كلّه ـــ من يقول لنا: إنّ التفكير الديني يشجع على الإحساس بالعجز المطلق، فيجعل الإنسان عاجزاً أمام الطبيعة، لا يملك القوّة على الاقتراب منها ومن أسرارها، لمعرفتها، ولا يملك القدرة على التعامل معها من موقع القوة الكبيرة؛ ولهذا فإنّه ـــ من خلال هذا التفكير ـــ لا يستطيع الاستفادة منها في قليل أو كثير.
5 ـــ موقع الضعف الإنساني من العقيدة
أما حديث ضعف الإنسان فإنّه يخضع لنقطتين:
النقطة الأولى: ضعفه أمام قدرة الله المطلقة، من حيث أنّها مصدر حياته وقوّته في البداية والنهاية.. فكيف يمكنه أن يتحدّاها ـــ وجهاً لوجه؟.
النقطة الثانية: ضعفه أمام السنن الكونية التي لا يملك الإنسان القدرة على تغييرها، بل كل ما يستطيعه، هو أن يتعايش معها، ليضع الوسائل الكفيلة بحماية نفسه من نتائجها، أو ليكتشف القوانين التي توجهه في اتجاه الانسجام معها، كما نشاهده في موقف الإنسان من أوضاع الفيضان، والزلزال، أو في محاولاته للتعامل مع أوضاع الفضاء الخارجي، على أساس تصنيع الأجهزة التي تتلاءَم مع قوانينه وأسراره.
ولا نعتقد أنّ مثل هذا الشعور بالضعف، يختص بالتفكير الديني، بل يشترك معه التفكير المادي الذي لا يزعم لنفسه القدرة على تحدّي قوانين الطبيعة لتغييرها أو إلغائها، بل كل ما يدّعيه، هو قدرته على معرفتها واكتشافها؛ فإنّ العلم الذي يعتبره التفكير المادي، إله الحياة، لا يعتبر نفسه في موقف التحدّي للسنن الكونية، بل كل ما يراه لأفكاره ووسائله، أنّها تزحف من أجل أن تكتشف الكون، لتكتشف الوسائل الكفيلة بالتعاون والتعايش معه.
وخلاصة الفكرة الإسلامية في موضوع ضعف الإنسان وقوّته: إنّ الإنسان قويّ أمام الكون كله في داخل النطاق الطبيعي للكون، فقد سخّر الله الكون له ليفهمه ويكتشفه ويسيطر عليه، ولكنه ضعيف أمام الله؛ لأنّ قوّته مستمدة منه. وضعيف أمام القوانين الطبيعية؛ لأنّه لا يستطيع الخروج من نطاق هذه القوانين لأنّه ـــ هو ـــ بنفسه، جزءٌ من هذه القوانين، باعتبار حركة حياته في بقائها وفنائها، لخضوعها لسنّة هذا الكون، فكيف يمكن أن يتمرّد عليها في عملية ممارسة للقدرة الخيالية التي لا تعيش حتى، في الخيال؟!.
6 ـــ العلاقة بين المفهومين
لقد استطعنا أن نواجه في هذا العرض الموجز ـــ لفكرة القوة في الإسلام، بين قوة الله وبين قوّة الإنسان ـــ الحقيقة التالية: وهي أن الشعور بقوة الله المطلقة، لا يلغي شعور الإنسان بالقوة في ذاته، بل يزيده قوّة على قوة، باعتبار الله مصدر قوّته، فكلّما ازداد شعوره بقوّة الله، ازداد ثقة واطمئناناً بالمصدر الكلي للقوة. فلا يخشى على قوّته أن تضعف أو تتلاشى، ما دام المصدر باقياً بدون فناء.. رحيماً حكيماً عليماً.. ولا يخاف من أيّة قوة أخرى في الحياة أن تصرعه أو تلغي قوته، بل ربما كان شعوره بالله دافعاً له على تحدّي القوى الطاغية الغاشمة التي تتحدّاه؛ لأنّه قادر على الاستعانة بالله على ذلك كلّه، في أمل كبير أن الله سيعطيه المعونة في ذلك، في إطار الحكمة والمصلحة العامّة.
أمّا ضعفه أمام الله، في التفكير الديني فإنّه يشبه ـــ إلى حدّ كبير ـــ ضعفه أمام القوى الطبيعية التي تمدّه بالحياة كالهواء والماء والغذاء ـــ في التفكير المادي ـــ فهل يستطيع هؤلاء المفكّرون المادّيون الذين يحاولون أن يفلسفوا المجتمع ومؤثّراته على أساس هذا التفكير، أن يعتبروا شعور الإنسان بالضعف الطبيعي، أمام الحاجات الطبيعية الخاضعة لقوانين الكون مصدر شعور بالانسحاق أمام الكون ليصل بالنتيجة ـــ إلى الانسحاق أمام القوى الطاغية في الكون؟ إنّنا لا نعتقد وجود أيّ أساس للإجابة في هذا المجال.. فكيف يلصقون بالفكر الديني تهمة، لا يبتعدون في تفكيرهم عنها؟!.
7 ـــ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله
أمّا كلمة لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، فإنها لا تعبّر إلاّ عن المفهوم الذي شرحناه، وهو أنَّ مصدر القوّة هو الله، باعتباره خالقها وخالق أسبابها التي تستمد منها الامتداد والاستمرار، فهي دعوة لإمداده القوّة في حال الضعف، من جهة، واستسلام للقوانين الكونية في حال العجز أمام نتائجها، من جهة أخرى.. ولهذا فإنّها تصوّر الحالة التي يقف فيها عاجزاً أمام القوانين الطبيعية التي لا يملك أحد أمر تغييرها، كتعبير عن حدود القدرة، وأنه لا يملك من القدرة إلاّ ما أودعه الله فيه، ممّا لا يتعارض مع طبيعة الكون، تماماً، كما يقول الإنسان الذي لا يؤمن بالله، في تعبير واقعي، إنّني لا أستطيع ممارسة القدرة إلاّ في حدود الإمكانيات التي أملكها، من خلال الأدوات التي لديّ.
وعلى هذا الأساس، فإنّها لا توحي بأيّة حالة عجز طارئ عمّا يمكن للإنسان أن يمارسه، بل هي منطلقة من دراسة واقعية لما في الكون من قوانين قابلة للتغيُّر، وقوانين غير قابلة له، مع المقارنة بين ذلك، وبين ما يملكه الإنسان من قدرة إزاء هذا أو ذلك.
ولا نمانع من وقوع الإنسان في بعض الأخطاء العلمية في فهم قضايا الكون، فيزعم ثبات بعض الظواهر، أو الأوضاع الكونية أو يعتقد باستحالة شيء غير مستحيل، لنقص الثقافة العلمية، ولفقد التجربة التي يمكنه، من خلالها، أن يميّز بين الممكن وبين غير الممكن، ليعرف حدود القوانين الكونية الثابتة، إزاء الظواهر المتغيّرة التي لا مجال عنده للإطلاع على عنصر التغيّر والزوال فيها. ولكن هذا كلّه، لا يجعل من الكلمة الدينية، عنصراً إيحائياً بالعجز؛ لأنّ ذلك ليس وحي الكلمة، بل وحي النقص العلمي والثقافي، عندما يفسح المجال لممارسات فكرية خاطئة بفعل الرؤية غير الواضحة، وغير الدقيقة(1).
إنّا لله وإنّا إليه راجعون
أما كلمة "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" فإنّها تُعبّر، تماماً، عن الحقيقة الكونية المرتبطة بالإيمان بالله، التي تقول: إنّ الخلق ـــ كلّهم ـــ ملك لله، وإنّهم راجعون إليه لأنّهم لا يملكون الخلود في هذه الحياة(2). ولكن هل معنى ذلك، أنّ الله فرض عليهم "العجز التكويني" فألغى فيهم عنصر الإرادة والقدرة على التحرّك والاختيار؟. إنّنا لا نقرّ هذا أبداً، لأنّ الناس ـــ في التفكير الديني ـــ عباد الله الذين لا يملكون إرادة السلب والإيجاب، حتى في مقابل إرادة الله التشريعية فهم يعصون الله في أوامره ونواهيه، في بعض الحالات، كما يطيعونه في حالات أخرى، بعيداً عن أي ضغط هنا وهناك من ناحية عملية.
إنّ الظاهرة تعبر ـــ في أغلب الحالات ـــ عن استسلام الإنسان لحالات الموت، كظاهرةٍ كونية لا تقبل التغيّر. ولكن هذا لا يمنع من استمرار الكفاح ضدّ بعض أسباب الموت الطارئة، كبعض الأمراض المستعصية، التي تسبّب الموت، بفعل الجهل بطبيعتها وبدوائها، أو بعض العوارض الحياتية التي يمكن للإنسان أن يتغلّب عليها، كوسيلة من وسائل مواجهة نتائجها السيّئة. إنّ هناك فرقاً بين استسلامك للموت كظاهرة من ظواهر حدوث المادة التي تلتقي بالموت في نهاية المطاف، وبين استسلامك لأسباب الموت التي يمكن أن تزول أو تتغيّر، أو تخضع لسيطرة أقوى منها. فليس لك أن تستسلم لهذه، لأنّك تملك القدرة على مواجهتها بما تملك من علم وأدوات وتجربة، أو بما تملك تحصيله من ذلك. ولكن، لا بدّ لك من الاستسلام للموت؛ لأنّه قانون حتمي من قوانين الوجود المادّي الذي تتجسّد فيه.
وعلى ضوء هذا كلّه، لا نعرف كيف تكون هذه الكلمات والنصوص الدينية مسؤولة عن خضوع الإنسان لسلطة المتنفّذين في المجتمع، أو يكون الخضوع الواقعي لهذه السلطة سبباً في تقبّل إنسان المجتمع الإقطاعي البرجوازي، لهذه الأفكار الدينية، لأنّ عقلية الخضوع للظلم تفسح المجال لمثل هذه الأفكار، والعكس هو الصحيح.
إنّنا لا نعرف العلاقة فيما بين هذا وذاك؛ لأنّنا استطعنا أن نضع أيدينا على أنّ هذه النصوص لا تحمل أيّ معنى من معاني الضعف والعجز، فيما يمكن للإنسان ممارسة القوّة فيه من ناحية طبيعية أو مادّية.
وخلاصة القول: إنّنا لا نفهم أي ارتباط بين الفكرة الدينية عن الله بصفته كلّيّ القدرة، وبين الفكرة التي تعمّق شعور الإنسان بالضعف والانسحاق. بل نرى أن الفكرة الأولى تلغي الفكرة الثانية، لأنّها ـــ بدلاً من ذلك ـــ تعمّق الشعور بالقوّة الممتدة التي تملأ الإنسان ـــ في كل وقت ـــ بكلّ ما يستطيع أن يحمله من عناصر القوة في الحياة، لأنّ القوّة الإلهية أعطت الإنسان كل عناصر القوّة، وليس له إلاّ أن يأخذ منها بالمقدار الذي يتحمّله ويستطيعه.
وقد رأينا في حديثنا هذا، أن قوّة الله ــ في الفكرة الدينية ــ لم تُطلق لتسحق في الإنسان إرادته، بل لتسحق العناصر التي تشلّ تلك الإرادة. أمّا الحديث عن الطبيعة كقوة ساحقة، لا يملك الإنسان أن يفهمها أو يكتشف أسرارها، أو يواجهها، فقد استطعنا أن نكتشف، خطأ هذه الفكرة، وبالتالي، فإنّ الله سخّر الكون والطبيعة للإنسان، ودعاه إلى أن يتعامل معها من خلال الوعي العميق الشامل لأسرارها وقوانينها التي يملك القدرة على معرفتها بفكره وتجربته. فهو سيّد الطبيعة القوي، وليس خادمها الذليل الخاضع المطيع.
أمّا إشارة القرآن الكريم إلى فكرة ضعف الإنسان في قوله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء : 28]، فقد جاءت من أجل التأكيد على نقاط الضعف الطبيعية الموجودة في تكوينه الجسدي، لتشير إلى مراعاة التشريع الإسلامي، لها، لئلا يثقل على حياته. ولذا نجد في بداية الآية التي تحدّثت عن الضعف، قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} [النساء : 28].. مشيرة إلى التشريع الإسلامي المبني على السماحة والتخفيف، رعاية لواقع الضعف البشري في الإنسان.
وبهذا يتّضح لنا، ابتعاد الآية عن الإيحاء بالضعف الإنساني في مواجهة الحياة والطبيعة، ليكون ذلك سبباً في تعميق العقلية الخاضعة للكون، التي تنتهي إلى العقلية الخاضعة للظلم، كما يريد هؤلاء الباحثون المتفلسفون، أن يفهموا ويستنتجوا هذا كلّه من وجهة عامّة.
فإذا اقتربنا إلى مفردات العقيدة الإسلامية، في عملية تحليل، وانطلقنا إلى وقائع التشريع الإسلامي، في عملية استنتاج، لرأينا النظرة الإسلامية تحارب العقلية الخاضعة الذليلة للمجتمع الإقطاعي البرجوازي، من ناحية إثارة المفاهيم الواقعية في نفسه، كالعبودية والحرية، والقوّة والضعف، والتأكيد على قدرة الإنسان على الحركة في كلّ اتجاه، من أجل المحافظة على حريّته التي تبدأ من الشعور الداخلي بالقوّة المطلقة أمام القوى الطاغية في الكون، وبالحرية الذاتية الإرادية أمام إرادات الآخرين.
ثمّ، في الخطوات التشريعية التي يدفع الإنسان إليها، سواء في مجال العقيدة والعبادة، أو في مجال العمل والتبعية، الأمر الذي يدفعنا إلى القناعة الفكرية بأنّ "الحرية الإنسانية" التي يريد الإسلام أن يؤكّدها في عقل الإنسان وضميره، وإرادته وحياته، ليست فكرة طارئة جانبية، بل هي مبدأ إسلامي أساسي، يتّصل بالعقيدة والتشريع؛ ولذا فإنّ الإسلام لا يكتفي، في التركيز عليه، بالحديث عن قوّة الإنسان في الكون، بصورة إجمالية، بل يمتدّ إلى الحديث التفصيلي الذي يتلمّس كل جانب من جوانب الانتقاص من هذه الحرية، ليعلن عليها حرباً شعواء.. في أيّ زاوية من زوايا الحياة.
حتى موضوع الشرك بالله، وعبادة غير الله، فإنّ القرآن الكريم لا يعالجها من ناحية علاقتها بالتوحيد والإخلاص لله تعالى، باعتبارها تعدّياً على عظمة الله، بل يريد أن يعالجها من جانب إثارة الشعور بالحرية في داخل الإنسان، باعتبار أنّ هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله، أو يخضعون لهم بعيداً عن الخضوع لإرادة الله، عباد أمثالهم، فكيف يخضع الإنسان لعبدٍ مثله؟ وكيف يستعبد الإنسان نفسه لإنسان مثله؟ وقد خلقه الله حرّاً، مطلق الحرية في إرادته، أمام الآخرين، فكيف يتنازل عن هذه الحرية بدون أساس؟ وهو ما توحيه الآية الكريمة:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف : 194].
وقول الإمام عليّ (عليه السلام): "لا تكُنْ عَبْدَ غيرِك وقد جعَلَكَ الله حُرّاً"(1).
وسنواجه في أحاديثنا، في الفصول القادمة مفصلاً عن هذا الجانب؛ لأنّنا نعتبر أنّ التشريع الإسلامي، في كلّ ما يثير من مفاهيم وفي كلّ ما يجعله من أحكام، يمثّل الدعوة الدائمة إلى القوّة المعنوية والمادية، ليجعل من الإنسان، كائناً جديراً بخلافة الله على الأرض، وبإدارة الحياة على أساس القوّة والعدل والمحبة والرحمة، دون إخلال بالتوازن في أيّ واحد من هذه المبادئ الأساسية.
الفصل الثاني
منطق القوّة في مواجهة الطغيان
1 ـــ الموقف الإسلامي في خطّ القوّة ضدّ الطغيان
2 ـــ القرآن يحشد المستضعفين بالقوّة
3 ـــ قوّة المستضعفين في مواجهة الظالمين
4 ـــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في خطّ القوّة
5 ـــ نهاية المطاف
أين يقف الإنسان في قضية الصراع مع القوى الطاغية في الكون؟
هل يستسلم لها ويستكين، انسجاماً مع سياسة الأمر الواقع؟ كما يصوّر البعض القضية في نطاق قصة "القضاء والقدر" أو "مشيئة الله". فما دامت السيطرة الظالمة قدرنا، فلتكن لنا ميزة الرضا بالقضاء والقدر، وإذا كان الظلم هو مشيئة الله، فليكن لنا موقف التسليم لمشيئة الله، والاستسلام لضعفنا الذي أراده الله للناس.
أو يتمرّد عليها، ويتحرّك في اتجاه التغيير، من أكثر من موقع. فإذا انهزم في موقع، أو فقد القدرة على الحركة منه، فإنّ عليه الانتقال إلى موقع آخر يحارب منه، ويتحرّك فيه؟
تلك هي المسألة الاجتماعية، المرتبطة بأكثر من مسألة فلسفية. ممّا يجعل الموقف العملي تابعاً للموقف الفكري، باعتباره الواقع الحركي المجسّد للفكرة، فما هو موقف الإسلام من ذلك؟ هل هو مع الاستسلام، أو مع التمرّد والثورة؟
1 ـــ الموقف الإسلامي هو في خطّ القوّة ضدّ الطغيان
في رأينا: إنّ الموقف الإسلامي الحقّ هو في خطّ التمرّد والتحرّك من أجل تغيير واقع الظلم والطغيان. فالضعف ليس مشكلةً تستطيل على الحلّ، وليس عذراً يبرّر للإنسان التقاعس والضعف والانهزام، إلاّ على أساس سياسة المراحل.
وهو ما تعبّر عنه الآيات الكريمة في قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً*إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً*فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً*وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 97 ـــ 100].
إنّ هذه الآيات تتحدّث عن موقف هؤلاء المستضعفين أمام الله يوم القيامة، في لحظات الحساب، على مواقفهم في الدنيا، واستسلامهم للظلم بخضوعهم للظالمين وتنفيذهم لكلّ ما يريدون منهم، ويخطّطون لهم. فكيف عالجت هذه المواقف معهم؟ إنّهم ظلموا أنفسهم بالسير مع مخطّطات الظالمين، معتقدين أو ظانين، أنّ ضعفهم وعدم قدرتهم على الحركة، يبرّر لهم الرضا الخانع بالواقع. ولكنّ الآية تتحدّث عن فكرةٍ حاسمة تواجههم في موقف المسؤولية. إنّ هناك مجالاً للهجرة إذا لم يمكن التحرّك في الداخل. فالأرض واسعة لا تضيق عن أحد، فمن يهاجر فيها، من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا في إقامة الحقّ والعدل على الأرض، بعيداً عن الضغوط التي تدفعه إلى السير في خطّ الانحراف، يجد المجال واسعاً لذلك. فإذا مات ـــ وهو في هذا السبيل ـــ فإنّ أجره على الله، لأنّه مات وهو مهاجر إلى الله ورسوله.
ولم يستثن القرآن الكريم من المسؤولية، إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يملكون القدرة على التحرّك، ولا يهتدون حيلة، للتخلّص من المأزق، ولا يجدون سبيلاً للخروج منه. فقد جعلهم في موقف الرجاء بالعفو من دون جزم به، لئلا يدفعهم إلى الامتداد في الإسراع باعتبار أنفسهم من المستضعفين من غير دراسة واسعة للموقف، من حيث طبيعة القدرة المتاحة، والظروف الموضوعية المحيطة بهم، أو لأنّهم قصّروا ـــ في البداية ـــ فاستسلموا لإغراءات الظلم أو تهويلاته، وساروا معه حتّى أعطوه القوّة، من قوّتهم. فلمّا أخذ بأسباب القوّة وثبتت جذوره في الأرض، بدأ في تفريغهم من القوّة، وإغلاق المنافذ عليهم من كلّ جانب، حتى تحوّلوا إلى مستضعفين لا يهتدون حيلة ولا يجدون سبيلاً، أو لغير ذلك من الأسباب التي تجعل الإنسان واقفاً بين الخوف والرجاء وإنْ كان موقف الرجاء أقرب، كما تستوحيه من فعل الترجّي.
وهناك الكثير من الآيات القرآنية التي تتحدّث عن المواقف الضعيفة التي يشعر بها الضعفاء بالانسحاق إزاء إرادة الكبراء، بفعل شعورهم بالضعف تجاه قوّة أولئك. فيستسلمون لما يرسمونه من مخطّطات وأعمال وانحرافات.. فيأتي القرآن الكريم ليحدّثنا في أكثر من آية، عن الحوار الدائر بين هؤلاء وبين أولئك في يوم القيامة، ليوحي للضعفاء ـــ قبل أنْ يواجهوا الله يوم القيامة ـــ بالتمرّد على إرادة الكبراء، في الدنيا، والعمل على استثارة القوّة الذاتية التي أودعها الله فيهم، لمواجهة ضغوطهم الكبيرة والصغيرة، لأنّ الضعف الذي يقود إلى الانحراف، مع قدرة الإنسان على المقاومة لا يبرّر الانحراف أمام الله، فإنّه سيحمّل صاحبه المسؤولية كاملة أمام الله. قال الله تعالى:
{وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم : 21].
وينطلق القرآن بعيداً ـــ في هذا الأسلوب ـــ ليعمّق، في نفوس الجماعات المغلوبة على أمرها، الثورة على المضطهدين المتنفّذين الذين يغرونهم باتّباع ما يريدون. فيثير أمامنا الصورة الحيّة التي يواجه فيها كلّ الأطراف مسؤوليتهم، سواء في ذلك، الظالمون بممارستهم الظلم، أو المستضعفون، بسكوتهم عنهم وتنفيذهم لمخطّطاتهم واتّباعهم لهم في ما يأمرون وفي ما يريدون؛ فيقف المتبوعون ليبدأوا بالتبرؤ من كلّ مسؤولية من أوزار التابعين، ليحملوهم المسؤولية كاملة. فلا يملك التابعون إزاء هذا الموقف المتهرّب إلاّ أنْ يشعروا بالحاجة إلى الحياة، ليتبرّأوا منهم هناك في حالة حاجتهم إليهم.
إنّ القرآن يجسّد لنا الصورة، ويحرّكها في أكثر من اتّجاه، ليدعوَ هؤلاء المسحوقين، للتبرؤ منهم ـــ منذ الآن ـــ لئلاّ يواجهوا الموقف الذي يواجهونه، بعد الموت، في حالة الاستسلام للضعف، كعنصر تحذيري حاسم.
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ*وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166 ـــ 167].
...{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت : 25].
2 ـــ القرآن يحشد المستضعفين بالقوّة
ثم يبدأ القرآن الكريم، في حشد المستضعفين بالقوّة من الداخل باتّباع عدّة أساليب، ترتكز على تفريغ من مشاعر الضعف التي تدفعهم إلى هذا التصرُّف المنحرف.
فيبدأ بتعرية أولئك الذين يتّخذونهم أوثاناً يعبدونهم من دون الله أو يخضعون لهم في ضعف واستسلام. فيحاول تجريدهم من كلّ عناصر القوة، سواء في ذلك قدرتهم على النفع والضرر بشكل عام، أو ارتباط الرزق والموت والحياة بهم، أو غير ذلك، لأنّ مصدر ذلك كلّه هو الله، ومرجعه إليه، فهو الذي يملك كلّ شيء في الوجود. وهو ما تعبّر عنه الآيات الكريمة ـــ بوضوح ـــ:
{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة : 76].
{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت : 17].
{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً} [الفرقان : 3].
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [سبأ : 22].
وهكذا يمتدّ هذا الأسلوب ويتنوّع في إثارة الشعور بتفاهة هؤلاء، مهما كبرت مظاهر القوّة لديهم، أو تعدّدت مصادرها عندهم، فهم لا يستطيعون الاستغلال في الضرر والنفع حتى لأنفسهم، فكيف يستطيعونه لغيرهم.
ويتعاظم هذا الاتّجاه في كثيرٍ من الآيات، حتى ينتهي به الأمر إلى أن يطلب من الناس، الذين يشعرون بالضعف أمام هؤلاء، أن يتخلّصوا من الوقوع تحت تأثير المظاهر الخادعة المحيطة بهؤلاء، ويقوموا بعملية مقارنة بين هؤلاء وبين أنفسهم، لينتهوا إلى الحقيقة الواضحة، وهي: إنّ هؤلاء لا يملكون أيّة قوّة سرية، غير ما يملكه الناس، ولا يتمتّعون بأيّ صفة غير عادية، فيما لا يتمتّع به الناس، وإنّما هم عباد مثلهم، فأيّ معنى ـــ بعد ذلك ـــ للخضوع، وأيّ سبب للعبادة.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف : 194].
وقد يقول قائل: إنّ هذه الآيات تتحرّك في إطار محاربة عبادة غير الله، لا في اتّباع الظالمين والقاهرين والطغاة، فقد جاءت كردّ فعل لتيّارات الشرك التي كانت تسيطر على المجتمع آنذاك.
والجواب عن ذلك: إنّ الوثنية البشرية أو غيرها، كانت نتيجة لشعور الوثنيين بالقوى المطلقة أو الكبيرة التي يتمتّع بها آلهة الحجر، أو آلهة اللحم والدم، تماماً، كما هو الحال في أوضاع الجماعات المقهورة التي تمارس مع القاهرين نوعاً من أنواع الوثنية العملية، التي قد لا تعطي نفسها تلك الصفة، ولكنّها تمارسها عملياً، انطلاقاً من شعورها بالحاجة إلى هؤلاء، كنتيجة للشعور بالضعف أمام قوّتهم. الأمر الذي يحاول القرآن الكريم أن يحاربه في داخل ذواتهم، فيفرغ وجدانهم من كل شعور بالرهبة، عندما تفرغ نفوسهم من كلّ إحساس بالقوّة التي يملكها هؤلاء.
3 ـــ قوّة المستضعفين في مواجهة الظالمين
ويحاول القرآن الكريم أن يُثير لدى المظلومين الضعفاء، الشعور بضرورة الوقوف موقفاً إيجابياً في مواجهة الظالمين، من أجل مقاومتهم وتحطيم قوّتهم، فيأذن لهم بالقتال دفاعاً عن حقِّ بقائهم في ديارهم، وفي حرية ممارستهم للعقيدة التي يؤمنون بها.
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحجّ: 39 ــ 40].
فقد أذن الله لهم بالقتال، مع الإشارة إلى حيثيات هذا الإذن وأسبابه، التي تتمثّل في الدفاع عن حقّهم الشرعي ببقائهم في ديارهم أحراراً فيما يؤمنون به من عقيدة، وفيما يقومون به من عمل. ثمّ تعهَّد لهم بالنصر على الأعداء، فيما إذا استمرّوا في الخطّ السليم الذي يلتقي بالله وسيلةً وغايةً.
ثم أراد القرآن الكريم التأكيد على أن أسلوب مقاومة الضعفاء للأقوياء الذين يستغلّون قوّتهم في سبيل اضطهاد الضعفاء، يلتقي بالسنة الطبيعية التي سنَّها للحياة، ليشعر الإنسان بالاطمئنان لحياته ولمقدّساته. فلولا ذلك لَمَا استقام نظام على وجه الأرض، ولما عاشت قِيَم ومقدّسات. فهو التبرير الشرعي والطبيعي لكلّ تقاتل وتقتل أعداء الحرية والحياة.. لأنّ ذلك هو الطريق الواقعي لبناء الحياة واستمرارها على أساس النظام العادل.
وتعود الآية ـــ من جديد ـــ لتؤكّد لهؤلاء المقاتلين في سبيل الله، أنّ النصر هو وعد الله لمن ينصرون الله ويأخذون بأساليب النصر ـــ ولو بعد حين ـــ كأسلوب من أساليب رفع المعنويات، من جهة، والإيحاء بأنّ معركتهم هي معركة الله التي يرعاها بقوّته، من جهة أخرى. إنه الأسلوب الواقعي الجديد من القرآن في حشد نفوس الضعفاء بالقوة الكبيرة، بدعوتهم إلى ممارسة هذه القوّة ضدّ هؤلاء الأقوياء، بالاعتماد على قوّتهم الذاتية، وعلى الله، أوّلاً وأخيراً، للإيحاء لهم بأنّهم يملكون القوّة، ولكنّهم غافلون عنها، لِما كانوا يشاهدونه من مظاهر قوّة الأقوياء، فتضعف ثقتهم بأنفسهم، ممّا يؤدي بهم إلى الهزيمة، في نهاية المطاف.
ونلمح في بعض الآيات القرآنية، الإيحاء بأنّ الانتصار للنفس ضدّ الباغين، يمثّل قيمة إسلامية كبيرة، كما في قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى : 39].
فقد ذكرت هذه الآيات في ضمن العديد من الآيات التي تصف المؤمنين المتّقين الذين حصلوا على رضا الله وغفرانه؛ ثم تشير بعض الآيات، في موضعٍ آخر، إلى أنّ المظلومين لا يتحمّلون مسؤولية نتائج ما يحدث من خلال انتصارهم لأنفسهم ضدّ الظلم، بل المسؤولية الكبيرة واقعة على عاتق الظالمين، لأنّهم السبب في ذلك كلّه.
{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ*إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 41 ــ 42].
ويبلغ الأسلوب القرآني ـــ في هذا الاتجاه ـــ القمة، عندما يسجّل الله فيه وعداً على نفسه، بأن يتسلّم المستضعفون مركز القيادة في الأرض، ممّا يجعل من قصة ولادة القوّة الجديدة للضعفاء، قصةً يؤكّدها الإيمان في الواقع من خلال وعد الله لهم، كما في قوله تعالى:
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ*وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص : 5 ــ 6].
وقد تكون هذه الآية واردة في قصة بني إسرائيل، ولكنّها تمثّل خطاً عاماً في سنّة الله في الحياة، التي لا تجعل القوة ـــ مهما كانت ـــ خالدة في طغيانها وجبروتها، كما تعبّر عنه الآية الكريمة: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140].
والآية الأخرى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26].
4 ـــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد يتمثّل منطق القوة في مواجهة الطغيان، في التشريع الإسلامي الذي جعل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجباً دينياً مفروضاً على المسلمين ـــ بصورة عامة ـــ تماماً كأي واجب ديني آخر، يستحقّ الإنسان العقوبة والعذاب من الله على مخالفته، ويتحمّل ـــ إزاء ذلك ـــ المسؤولية الكبرى على المواقف السلبية الحيادية، مع القدرة على ممارسة المواقف الإيجابية الحاسمة.
وخلاصة هذا الواجب: هي أنّ الله ـــ سبحانه ـــ ألزم المسلمين كافةً، بملاحقة عملية الانحراف الاجتماعي، سواء منه، الانحراف الديني في شؤون التمرّد الفردي على إرادة الله في عباداته ومعاملاته، أو الانحراف الاجتماعي في السلوك الجماعي الذي يبتعد عن خطّ الرسالة فيما هو من مصلحة الفرد والمجتمع، أو الانحراف السياسي المتمثّل في أوضاع الحكم الظالم الذي يتمثّل في الطغيان السياسي، ضدّ الضعفاء والمضطهدين، ممّا يحوّل قضية الحكم إلى عملية طغيان وعدوان على البلاد والعباد، باسم المحافظة على قوّة الحكم والنظام، أو الانحراف الاقتصادي الذي يتمثّل في السياسة التي تقوم على أساس الاحتكار والاستغلال والغشّ والربا وأكل أموال الناس بالباطل، بالسرقة والرشوة ومنع حقوق الجماعات المستضعفة وغيرها من أساليب الظلم والعدوان.
وإلى الجانب الآخر، أراد من المسلمين أن يساندوا الأوضاع السليمة المستقيمة التي تلتقي مع إرادة الله ومصلحة الإنسان، في أي شأن من شؤون الحياة العامّة والخاصة.
وبذلك يخلق الإسلام في قلب المجتمع رقابة ذاتية، لا تخضع لتكليف رسمي، ولا لوظيفة تقليدية، بل تخضع للشعور الإيماني الواعي بالرسالة الإلهية التي تتحوّل في قلب الإنسان إلى قوّة دافعة، وفي كيانه الجسدي إلى قوّة رادعة، على أساس من الانسجام مع وعي المسؤولية وحيويتها في حياة الإنسان.
وقد عرفنا من العرض الذي قدّمناه، للصورة الصادقة لهذا الواجب، أنّ عملية مقاومة الظلم والوقوف بوجهه، من أبرز الأشياء التي تدخل في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّنا نعرف أنّ إقامة العدل وتدمير الظلم، كانا من الأُسس القوية التي ارتكز عليها بناء القاعدة الإسلامية.
وعلى ضوء هذا، نعرف كيف يتحوّل هذا الواجب الديني إلى موقف من مواقف القوّة الإنسانية في مواجهة الظلم والطغيان، باعتبارهما، من أبرز المنكرات في واقع الحياة الإنسانية.
ولعلّ الصورة تبدو أكثر وضوحاً إذا تابعنا السير مع الكتاب الكريم والسنّة الشريفة، والحديث المأثور عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام). ففي القرآن الكريم، نلتقي بالآيات الكريمة التالية:
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104].
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ*كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة : 78 ـــ 79].
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف : 165].
ففي الآية الأولى: كانت الدعوة إلى حمل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبارها وسيلة للفلاح في الدنيا والآخرة.
وفي الآية الثانية: كانت اللعنة من قِبَل الأنبياء على أولئك الذين لا يتناهون عن المنكر، ممّا أدّى إلى الكفر والخذلان.
وفي الآية الثالثة: مقارنة بين مصير المؤمنين الذين وقفوا ينهون عن الظلم وبين مصير الظالمين الذين لم ينتهوا ولم يرتدعوا، حيث انتهى أولئك إلى النجاة والخلاص، ووقع هؤلاء في نير العذاب والعقاب، بسبب فسقهم وظلمهم وضلالهم.
وفي السنّة النبوية الشريفة الحديث المشهور عن النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "مَنْ رأى منكم مُنْكَراً فليُغيّره بيده فإنْ لم يستطعْ فبلسانه، فإنْ لم يستطعْ فبقلبه وذلكَ أضعف الإيمان".
وفي حديث آخر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّ الله يبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقال: الذي لا ينهى عن المنكر"(1).
وفي نهج البلاغة: "من أحدّ سنان الغضب لله قوي على قتل أشدَّاء الباطل"(2).
وفي حديث الإمام عليّ (عليه السلام)، في النهج: "... وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلاّ كنفثة في بحر لُجّي، وإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُقرّبان من أجل ولا يُنقصان من رزق، وأفضل من ذلك كلمة عدل عند جائر"(3).
وفي حديث الإمام الباقر (عليه السلام): "مَنْ مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوّفه كان له مثل أجر الثقلين (الجن والإنس) ومثل أعمالهم"(4)..
ونلاحظ في هذا الحديث، أنّ النهي عن المنكر ينطلق في أجواء حركة تغيير المجتمع الفاسد، وتحويله إلى مجتمع صالح، والوقوف ضدّ واقع الظلم والطغيان، كما يصرّح به الحديث المأثور عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فيما رواه الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) في خطبته المعروفة، التي خطبها في طريقه إلى كربلاء.
"أيّها الناس: إنّ رسول الله قال: مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً مُسْتَحِلاًّ لِحُرَمِ الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أنْ يُدخله مدخله، ألاَ وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحَلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وأنا أحقّ مَنْ غَيَّر"(1).
وقد نجد في ثورة الحسين العظيمة ملامح هذا الواجب الكبير، حيث كانت انطلاقة الثورة تعبيراً ثورياً في النهي عن المنكر، كما يتمثّل ذلك في هذه الخطبة وفي خطبته الأولى التي بدأ فيها الثورة.
"إنّي لم أخرُج أشراً ولا بطراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً وإنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّة جدّي أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
أمّا أحاديث الإمام عليّ (عليه السلام) فإنّها تضع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في المركز العظيم الكبير الذي تتصاغر عنده جميع أعمال الخير، في أثرها الممتد، وفي ثوابها العظيم. حتى ليتحوّل هذا الواجب إلى ما يشبه البحر الواسع إزاء الأعمال التي تشبه نفثة ضائعة في خضم البحر المائج. ثم يثير القضية في إطار الإيمان بالقضاء والقدر، بأنّ هذا الواجب، لا يقرّب ولا يُبعِّد أجلاً، ولا يزيد ولا ينقص رزقاً. ويتسامى الموقف حتى يصل إلى القمة في قوّة الكلمة التي تواجه الظالم بظلمه، وتنكر على الظالم طغيانه وعدوانه.
وهكذا نجد في هذه الفريضة الثورية، الموقف الإسلامي القويّ، الذي يريد للإنسان أن يسلك درب القوّة في مواجهة الظلم والطغيان، فيقف موقفاً إيجابياً حاسماً من كلّ مظاهره. ويبتعد عن كل موقف سلبي، بما في ذلك الموقف الحيادي، الذي يتجمّد فيه المؤمن بين الظالم والمظلوم. لأنّ النظرة الإسلامية، لمسؤولية الإنسان المسلم لا تتمثّل في التزامه الذاتي بالأحكام الشرعية فحسب، بل تتعدّاه إلى الالتزام بالمشاركة في إقامة العدل، ومقاومة الظلم في حياة الأُمة بشكلٍ عام، ولو كان ذلك باستعمال القوة الضاغطة التي تفرض عملية التغيير، لأنّ قضية الحرية فيما يتعلّق بسلامة المجتمع ونظامه، ليست واردة في أيّ صيغة تشريعية أو فكرية في الإسلام.
5 ـــ نهاية المطاف
وخلاصة الفكرة: إنّ الحكم على أيّة فكرة من الأفكار، يتوقّف على الإحاطة بأبعاد الفكرة وجوانبها، في نطاق الفهم والتطبيق، ونتائجها العملية على الصعيد الإنساني. أمّا أن يندفع الإنسان مع تصوّراته الخاطفة البعيدة عن الإحاطة والشمول، ليحكم على هذه الفكرة، أو تلك، نتيجة استنتاج سطحي، فهذا بعيد عن روح العلم، ومسؤولية المعرفة. وعلى ضوء هذا نقرّر، أنّ الحديث الذي قدّمناه في بداية هذه الدراسة، في علاقة العقيدة بقوّة الله، بالعقلية الخاضعة للظلم المنسحقة الإرادة أمامه، لا نجد لها أساساً في طبيعة العقيدة، ولا في طبيعة التشريع وامتدادهما في حركة الرسالة في الحياة بل القضية، على العكس من ذلك التصوّر، تمثّل رفض الخضوع للظلم باعتباره، انتقاصاً من الإخلاص في العقيدة، وانحرافاً عن الاستقامة في خطّ التشريع. ممّا يُحمّل المسؤولية للسائرين معه، أو المحايدين، الذين يقفون في معركة الظلم والعدل، موقف المتفرّج، الذي لا يدعم المعركة، ولا يحارب فيها، بل يكتفي بملاحقتها بنظراته التي تنتقل بين المنتصر والمهزوم في حماس ساذج مهزوم. فقد اعتبر الإسلام السلبية، أو الإيجابية المضادة، عملاً يقع تحت طائلة المسؤولية والعقاب الإلهي، حتى في حالات الضعف الذي يمكن تحويله إلى قوّة، فكيف يكون الحكم إذا كان يملك القوّة، ولكنّه يحوّلها إلى ضعف ساحق؟!
الفصل الثالث
القوّة الروحية
1 ـــ الاستعمار ووسائله في تدمير القوّة الروحية
(هــ) ـــ الاتجاهات التي تخضع التاريخ لأفكارها
2 ـــ الإيمان في طريق بناء القوة الروحية
3 ـــ التوكل وعلاقته بالتحرّر من الخوف
4 ـــ القناعة وعلاقتها بالتحرّر من الخوف
5 ـــ الزهد وعلاقته بالتحرّر من الخوف
6 ـــ الطريق إلى بناء القوّة الروحية
(هــ) ـــ الإسلام يدعو إلى فتح الجبهة في الداخل
(و) ـــ الرياضة الروحية وسيلة للقوة، لا مزاج
8 ـــ المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف
9 ـــ ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة
قد يكون من الخير لحديثنا عن الإسلام ومنطق القوّة، أن نتحدّث عن القوة الروحية في داخل النفس، لنعرف الأسس التي ارتكز عليها الإسلام في بناء الشخصية الإسلامية القوية المتماسكة، في مواقفها أمام الأحداث العنيفة، والهزّات الشديدة، والعقبات الصعبة، فلا تنهار إزاء ذلك كلّه، بل تواجهها بروح هادئة واعية، تتحرّك بوعي وثبات من موقع القاعدة الإيمانية الصلبة.
وتظهر قيمة هذا الجانب من القوّة، في كل موقف من مواقف الحياة الصعبة، التي يتحرّك فيها الإنسان ليمارس أيَّ نوع من أنواع القوّة المادية، في مواجهة التحدّيات، لأنّ القوّة الروحية، هي التي ترفع من روحه المعنوية، وتجعله يعيش بعيداً عن مشاعر الخوف والحزن والقلق والضياع والاهتزاز في موقفه، ليعيش ـــ بدلاً من ذلك ـــ مشاعر الثقة والسرور والثبات والوضوح في الخطّة وفي الموقف، وفيما يملكه من القوى التي يقابل بها قوى الأعداء. ولولا ذلك، لكانت مشاعر الضعف الذاتي كفيلة بالهزيمة الداخلية، التي تملأ النفس بالرعب، وتحطّم فيها كل استعداد للمقاومة، فيلقي الإنسان سلاحه، قبل أن يرفع الآخرون السلاح.
1 ـــ الاستعمار ووسائله في تدمير القوّة الروحية
ولذلك نجد أنّ الدول الاستعمارية الكبرى، تلجأ إلى هذا الأسلوب لتحصل ـــ من خلاله ـــ على ربح المعركة ـــ مقدّماً ـــ في صراعها مع الشعوب أو الدول الصغيرة، عندما تدمّر في داخلها روح المقاومة، بإثارة كلّ العناصر التي تؤكّد الضعف وتعمّقه في نفوس هذه الشعوب المختلفة، بمختلف الأساليب الإعلامية.
أ ـــ الأخبار المدروسة
فنجد الأخبار المدروسة الموضوعة ضمن تخطيط نفسي معيّن، التي تحاول تقديم المعلومات الواقعية أو الخيالية، عن قوّة تلك الدول وسيطرتها، بالطريقة العلمية الذكية، التي يشعر القارئ والسامع ـــ معها ـــ بأنّ لا جدوى من المقاومة، لأنّ أيّة محاولة ـــ من هذا القبيل ـــ في أيّ جانبٍ كان، تشبه العمليات الانتحارية التي لا تؤدّي إلى شيء إلاّ إلى الهلاك.
ب ـــ الدراسات التي توحي للشعوب بالانسحاق
ولا تكتفي ـــ هذه الدول، بالأخبار، بل نجد ـــ إلى جانب ذلك ـــ الأبحاث والدراسات والإحصاءات التي تركّز على التفوّق الفكري والعلمي لدى شعوب هذه الدول، ممّا يخلق لدى الشعوب الضعيفة أو الصغيرة، أو المتخلّفة، عقدة الشعور بالدونية، والضعة، والانسحاق أمام تلك الإمكانيات الفكرية الخارقة التي لا تبارى ولا تجارى. فتفقد بذلك القدرة على الطموح ومواجهة قضايا التقدّم والتطوّر في الحياة من موقع الأصالة، بل تحاول ـــ جاهدة ـــ أن تستعين بعبقرية الخبرات والكفاءات البشرية لدى تلك الشعوب المتقدّمة، وأن تعمل على استيعاب تراثها الفكري والحضاري، بوجهٍ عام، لتكون صورة، ولو ممسوخة ـــ لتلك الشعوب، وتلك الحضارة، وبذلك تفقد شخصيّتها الحضارية التي تتحرّك لتتصارع أو لتتفاعل مع الحضارات الأخرى، من موقع الأصالة والقوّة لتتحوّل إلى شخصية تبعية ـــ تأكل كلّ ما يقدّم لها من فتات حضارة الآخرين، من دون أن يكون لها أيّ دور أساسي في قليل أو في كثير.
ج ـــ الأبحاث المشبوهة في مواجهة التراث الحضاري
وربّما نجد ـــ من مظاهر ذلك ـــ الدراسات والأبحاث التي تعمل على تحطيم كلّ ما لدى الشعوب الضعيفة، من تراث فكري وروحي وحضاري إمّا بإثارة الجوانب السلبية، وإهمال الجوانب الإيجابية، من خلال عرض التحدّيات الحضارية التي تملكها شعوب الدول الكبرى، من أجل تجميد العطاء التاريخي، فكراً وعقيدة وحضارة، بالإيحاء اللاشعوري بأنّ هذا التاريخ لا يملك القوّة والأصالة والحيوية التي تمدّ الحاضر بالحياة؛ لإبعاد الأمة عن جذورها الروحية والفكرية، لتتحرّك في الحياة، بدون جذور، فيسهل ـــ بذلك ـــ أمر احتوائها من قِبَل الآخرين، كنتيجة حتمية للشعور الهائل بالفراغ في مواجهة الامتلاء الذي يعيشه الآخرون.
وقد نجد بعض الشواهد على ذلك، في التيار الاستشراقي الذي نشأ في أوروبا منذ قرون عديدة، فانطلق يدرس تراثنا العلمي والأدبي والروحي والأخلاقي، بأسلوب يحاول أن يثير الشكوك في أكثر من جانب من جوانبها، أو يخضعها لتأويلات وتحليلات تبتعد بها عن واقعها وإطارها الطبيعي، أو تتّجه بها إلى افتراض مصادر أخرى تفقدها كل ارتباط حقيقي بشعوبها وتاريخها، وقد لاحظنا ذلك في الأعمال الفكرية الإستشراقية التي درست الأدب الجاهلي وغيره. فأثارت حوله الشكوك، لتتّجه بذلك إلى إثارة الشكوك حول القرآن الكريم، أو الأعمال الأدبية والتاريخية التي حاولت هذه الدراسات، أن تضخّم بها بعض الأدوار التي لا ضخامة لها في التاريخ، أو تركّز على بعض الجوانب السلبية لتحويلها إلى ظواهر مضادّة، كما في حركات التصوّف، وروّادها من الحلوليين وغيرهم.
ونحن لا نريد أن ندّعي العصمة للسند التاريخي الذي ينتهي إليه هذا الأدب، أو التاريخ، ولكنّنا نشير سريعاً إلى أنّ الطريقة التحليلية التي عولجت بها هذه القضايا، تفصح عن الأهداف السياسية أو الدينية التي تختبئ وراءها هذه الدراسات.
ونلاحظ هذه الطريقة ـــ أيضاً ـــ في الدراسات الإستشراقية التي عرضت للإسلام، في مفاهيمه وتشريعاته وتاريخه وشخصيّاته الروحية والفكرية والسياسية، فحاولت أن تثير حولها كثيراً من الضباب، وحشداً من التأويلات السيّئة، إلى المستوى الذي كانت تلجأ فيه إلى الافتراضات التي لا ترجع إلى أي سند أو مصدر تاريخي، أو فكري، من أجل أن تشوّه صورة الإسلام في وجدان أتباعه، وتحطّم قداسة شخصياته في نفوسهم، وتفرغ تفكيرهم من مفاهيمه، لتفسح المجال لعمل جديد يربطهم بشخصيات جديدة، ودين جديد. تماماً، كأيّ أمّة لا تملك قوّة الفكر والدين والتراث، عندما تلتقي ـــ في مرحلة الصراع ـــ بفكر جديد ومفهوم جديد، ودين جديد.
وبذلك وجدنا التبشير والاستعمار، في البلاد الإسلامية، يسيران جنباً إلى جنب مع حركة الإستشراق في التاريخ الأوروبي القديم والحديث، لأنّها تلتقي في الهدف الواحد، وهو، إضعاف المسلمين فكرياً وعسكرياً واقتصادياً وروحياً، ليتسنّى لها السيطرة عليهم من كل جهة، بعد إفراغهم من كلّ قوّة.
د ـــ الأسلوب الذي يحوِّل الأمة إلى ذيل للتاريخ
ولا يفوتنا أن نشير إلى الأسلوب الخبيث الذي تمارسه بعض الدراسات الفكرية، أو الاتجاهات الدراسية، التي تحاول تصوير التاريخ في تراثه وحضارته وشخصياته، وقوّته الحركية، بالصورة التي تضعه في أعلى مستوى من القمّة بطريقة توحي باستحالة مجاراته، فضلاً عن التقدّم عليه. لتتحوّل الأمّة في حاضرها، بهذه الطريقة الإيحائية، إلى ذيل للتاريخ، واجترار لمحتواه، من غير أن تضيف إليه شيئاً جديداً، أو تتقدّم عليه خطوة واحدة. وتتنوّع ـــ على ضوء ذلك ـــ الأساليب التي تضخّم أحداث هذا التاريخ وشخصياته، إلى ما يشبه "التدرّن العضوي"، وقد تمتد بعيداً، إلى اعتبار التاريخ مقدّساً معصوماً يعلو على النقد والاتّهام، حتى يتطوّر الأمر إلى ما يقارب التأليه؛ وبهذا تتحوّل الأخطاء إلى قِيَم مقدّسة، وتتحوّل القِيَم إلى أخطاء ملعونة، تبعاً لالتزام بعض الأشخاص بهذا وعدم التزام البعض بذاك.
وهذا ما نلاحظه في الدراسات التي تربط المجتمع بالزهو التاريخي المجرّد، الذي يحوّل التاريخ إلى ـــ طبل منفوخ ـــ لا تسمع منه إلاّ الرنين، كما نلاحظه في الدراسات الأخرى، التي تنسى أخطاء التاريخ، وتثير أخطاء الحاضر، حتى يظلّ الإنسان يعيش في غيبوبة تاريخية صوفية خاشعة حالمة، بعيدة عن الواقع، أو كافرة بالواقع، ممّا يؤدي إلى الضعف الساحق الذي يفقد الإنسان فيه الثقة بنفسه وبقدرته على الإبداع والتركيز، عندما يتحوّل إلى عيون مفتوحة على الماضي مُغلقة عن الحاضر.
هــ ـــ الاتجاهات التي تخضع التاريخ لأفكارها
وقد نلتقي ببعض الاتجاهات الفكرية السياسية التي تسير في دراستها وبحوثها التاريخية، على أساس إخضاع التاريخ للإطار الفكري الذي تتحرّك فيه، كأسلوب من أساليب الإيحاء للآخرين بالثقة فيما تدعو إليه من عقيدة، وبالإحساس بالضعف فيما يؤمن به الآخرون من فكر، عندما يتحوّل التاريخ ـــ عندهم ـــ عن مجراه الطبيعي الذي تصبّ فيه الرسالات، إلى مجرى آخر بعيد عنها.
ويتمثّل ذلك في محاولة الباحثين الماركسيين، تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً مادياً يرتكز على النظرية الماركسية، ليحاول إعطاء نظريته طابعاً شمولياً مستمدّاً من كلّ وقائع التاريخ، وليهدم الفكرة الروحية التي تجعل من قضية الرسالة، ظاهرة إلهية فذّة، لا ترتبط بالواقع الاجتماعي والسياسي لتلك الفكرة، بل ترتبط بالله وبسنّته في الكون. وقد امتدت هذه المحاولة إلى التركيز على تفسير التراث بجملته على أساس هذه النظرية.
لم نكن نريد من هذا العرض كلّه، أنْ نناقش كلّ هذه الاتجاهات، فندخل في عملية جدل، حول صحّة هذه الاتجاهات وفسادها، فإنّ لذلك مجالاً آخر.
بل نريد ـــ من ذلك ــ أن نعطي النماذج الحيّة، للطريقة التي تعتمدها التيارات السياسية والقوى الاستعمارية، في تهديم الروح المعنوية التي تملكها الشعوب الصغيرة، أو القوى الضعيفة المغلوبة على أمرها، ليُصار إلى إضعافها نفسياً وروحياً، ممّا يمهّد للمخطّط المرسوم، في الاحتواء السياسي والفكري، أن يصل إلى هدفه المحدّد، من دون إثارة للمتاعب، أو مواجهة للصراع في نطاق معركة سياسية أو فكرية، وقد شاهدنا نتائج ذلك، ضياعاً وتدميراً للبلاد والعباد. وما تزال الخطّة الجهنميّة تتقدّم، وما تزال الشعوب المغلوبة على أمرها، تعيش الصراع في جانب، والسذاجة التي تمهّد للخطّة أن تسير في جانبٍ آخر.
وعلى ضوء هذا نعرف القيمة السياسية والاجتماعية والفكرية، لبناء القوة الروحية، في نفوس الأمة، ممّا يجعلها تمارس دورها بقوّة وأصالة.
وقد حاول الإسلام في تصوّراته للكون وللحياة، وفي تشريعاته العملية، أن يحشد في الإنسان عناصر هذه القوة التي تبتعد به عن نوازع الضعف ومواقفه، لتحفظ له توازنه في مسيرته الحياتية إلى الله. وقد جرت هذه المحاولة في نطاق دراسة عوامل الضعف التي تهدم شخصية الإنسان، والعمل على مواجهتها من ناحية فكرية وعملية، وسدّ الثغرات الطبيعية التي يمكن أن تنفذ منها إلى حياة الناس.
2 ـــ الإيمان في طريق بناء القوة الروحية
يرتكز بناء القوّة الروحية على عنصرين: عنصر إيجابي وعنصر سلبي.
1 ـــ العنصر الإيجابي: الذي يتمثّل بوجود المؤثّرات الداخلية والخارجية، التي تكفل له الإحساس بحصول الظروف الموضوعية، الضرورية في عملية ممارسة القوّة على صعيد الواقع، من خلال الرصيد الذاتي للقوّة، أو المصدر الخارجي الذي يعتبر سنداً في كل حالة فراغ، أو موقف ضعف. فلا يمكن أن يكون الإحساس بالقوّة الروحية واقعياً إذا كان رصيده من القوة ضعيفاً، أو كانت مصادر القوة مفقودة لديه. لأنّ الطموح والخيلاء والزهو الفارغ بالذات لا يكفي أساساً للإحساس، باعتبار أنّ الإحساس، حالة نفسية تستمدّ قوّتها ومؤثّراتها من التجربة الواقعية للحياة.
2 ـــ العنصر السلبي: الذي يتمثّل بالإحساس بعدم قدرة الآخرين على إضعافه، أو بالأحرى، بعدم احتياجه إليهم في ضروريات حياته، وبعدم قدرتهم على أنْ يجلبوا له نفعاً أو يمنعوه منه، أو يجلبوا له ضرراً أو يدفعوه عنه، أو يسيطروا على مقدّرات وجوده ليملكوا أمر حياته وموته. بل ليشعر ـــ بدلاً من ذلك ـــ بأنّه يملك قدرة المقاومة التي يأمل فيها بالنصر، ويملك ما يملكون عمله، لأنّهم عباد مخلوقون مثله، لا يختلفون عنه في شيء، فإذا تفوّقوا عليه في جانب، فإنّه يملك التفوّق عليهم في جانب آخر. ويستطيع أن يعمل في سبيل تحصيل ما يفقده ممّا يجدونه، ليتساوى معهم، أو ليتفوّق عليهم ـــ بعد ذلك.
وخلاصة ذلك: أن يحصل على الثقة بالقوة، من خلال التحرّر من الخوف الذي يجمد تفكيره، ويشلَّ خُطاه عن الحركة، وطاقاته عن المقاومة، لينهزم تلقائياً دون حرب، أو قتال.
هذان هما العنصران الأساسيان الضروريان في ولادة القوة الروحية داخل الإنسان، فكيف حقّق الإسلام ذلك، في تجربته العلمية في بناء القوة الروحية للإنسان؟
أمّا العنصر الأول، فقد خطّط له الإسلام في جانبين يلتقيان في إطار الإيمان بالله.
1 ـــ شعور الإنسان بقوّته الذاتية من خلال ما أودعه الله فيه من قوى هائلة كبيرة، وما مكّنه من أدوات لتفجير هذه القوى، وما سخّره له من الظواهر الكونية، وما ذلّله له من الأرض التي جعله سيّدها المطلق، الذي يبدع لها ما يشاء من إبداع الاكتشاف المتطوّر أبداً في مصلحة الإنسان. الأمر الذي يوحي للإنسان بأنّ الحياة مفتوحة أمامه، بكلّ طاقاته، ليحصل منها على رزقه، وليدفع بها عن نفسه، وليبني عليها حياته وليكتسب منها في كلّ يوم قوّة جديدة تتصاعد وتتنامى في طريق الكمال، وليكتشف فيها كل يوم أُفقاً جديداً يفتح له مجالات عديدة للرزق وللقوّة وللحياة.
2 ـــ ثمّ يثير أمامه قوّة الله، من حيث هي مصدر قوته الذي لم يقتصر على صنع القوة، بل استمر في رعايتها وامتدادها وتنميتها وحمايتها من كلّ شيء.
فإذا امتلأت نفسه بقوّة الله المطلقة، وأدرك أنّها ليست بعيدة عنه، في كل وقت، وفي كل مكان، استطاع أن يحسّ بالطمأنينة والثقة، فيستمدّ منها الشعور العميق بالقوّة الذاتية، التي تتدفّق وتنمو وتتصاعد باستمرار وتجدّد.
ولما كانت قضية الرزق مصدر قلق للإنسان في حياته، جاء الإيحاء القرآني الدائم ليؤكّد للإنسان ـــ من خلال الإيمان بالله ـــ أنّ الرزق بيد الله، فهو الذي خلق مصادره، وفجّر ينابيعه، وأخرج ثمراته، وهو الذي يملك أن يرسله وأنْ يمسكه، في نظام دقيق للحياة، فقد يأتيه من حيث لا يحتسب، كما يأتيه من حيث يحتسب، وقد يمتنع عنه فيما يأمله وفيما يحتسبه.
{... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق : 2ــ 3].
وكان الشعور الإيماني العميق بأنّ النفع والضرر بيد الله يحرّكه كيف يشاء ويمسكه كيف يشاء، وأنّ الحياة خاضعة لنظام دقيق تابع للحكمة والرحمة، كما قال الإمام جعفر الصادق في حديثه عن أمير المؤمنين (عليه السلام):
"كان عليّ يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنّ الضارّ النافع هو الله عزّ وجلّ"(1).
وهكذا نجد فيما عرضناه الآن، وفيما تقدّم لنا من حديث حول مفهوم قوّة الله وقوّة الإنسان في العقيدة، أنّ العنصر الإيجابي الذي يثير أمام الإنسان الشعور العميق بالقوّة، من ناحية ذاتية مرتبطة بالله الكلّي القدرة، ليس غريباً عن حياة الإنسان وليس بعيداً عن خطّ الإيمان الشامل للحياة.
أما العنصر الثاني، وهو عنصر التحرّر من الخوف من القوى الأخرى التي يواجهها الإنسان في حياته، سواءٌ فيها القوى البشرية الطاغية التي تهدّد الإنسان في رزقه وفي حياته، أو القوى الطبيعية التي تواجه الإنسان بالرعب إزاء ما تثيره من متاعب ومن مصاعب، تهدّم كل ما بناه من أعمال وما خطّط له من مشاريع زراعية أو صناعية أو غير ذلك من شؤون الحياة.
أمّا هذا العنصر فقد واجهه مواجهة حاسمة، تستند إلى تحليل عناصر الخوف، باستقراء مصادرها ومواردها وطاقاتها، فيما تملكه وفيما لا تملكه.
فكانت الخطة العملية، هي تفريغ الإنسان من كلّ إحساس بالقوة الساحقة التي يملكها الآخرون، وكل شعور بالخوف والرعب من كل قوّة غير قوّة الله، سواء أكانت قوّةً بشرية؛ وذلك بإرجاع أمور الحياة كلّها إلى الله، باعتباره خالق الحياة، وتصوير القوى الأخرى بصورتها الواقعية التي تتكشّف فيها كائنات لا تملك لنفسها، ولا لغيرها ضرّاً ولا نفعاً إلاّ الله. فليست القوّة التي تملكها إلاّ قوّة طارئة محدودة قابلة للزوال في أيّ وقت، فيمكن للإنسان أن يقاومها بقوّته الذاتية أو يستعين عليها بقوّة الله.. وبالتالي.. يشعر بالتخلّص من عقدة الشعور بالخوف المرعب إزاءها، والضعف الساحق أمامها. وسنجد فيما نقرأه من آيات في هذا الجانب، أنّ الأسلوب القرآني يتّجه إلى إثارة القوّة الذاتية في الإنسان تحت رعاية الله، وإلى تعرية القوى الأخرى، من سيطرة القوة وشمولها، لينطلق الإنسان في قضايا الصراع بشكل طبيعي، لا يلغي إرادته ولا يضعف روحه، أو يشلّ حياته.
ففي المواجهة التي يلتقي فيها الإنسان بالقوى البشرية التي تتجمّع ضد أنصار الحق ودعاته، لتهاجمهم، ولترسل ـــ أمامها ـــ الرسل الذين يحذِّرون ويخوّفون ويدعون إلى التراجع والانسحاب من المعركة، ليوفّروا على أنفسهم الهزيمة الساحقة في المعركة، التي يفقد فيها الموقف عنصر التكافؤ في القوى. يأتي القرآن الكريم ليطرح وحي الله في الموقف، فقد قال الله تعالى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173 ــ 175].
إنّها الصورة المشرقة التي يعرضها القرآن للمؤمنين الذين واجهوا التخويف بالقوة العددية لخصومهم، ليتركوا ما هم فيه من دعوة الله، ويسيروا مع دعوة الشيطان، فوقفوا موقفاً صلباً عنيفاً مستنداً إلى الإيمان الذي يتزايد وينمو أمام حالات التحدّي والمواجهة، لتعاظم الشعور بالمسؤولية إزاء الكثرة الضالة المخدوعة، وأعلنوا للمحذّرين والمخوّفين والمخذّلين، بأنّهم سيواجهون التحدّي بقوّتهم المستمدّة من قوّة الله المطلقة، فإذا كانت الجموع الحاشدة تقف مع دعاة الباطل لتسندهم وتدعمهم وتدافع عنهم، فإنّ الله يكفي دعاة الحقّ، في القوّة والدعم والدفاع عنهم. وهكذا التجأوا إلى الإيمان بالله ليأخذوا منه القوّة على الصمود في الموقف، ومواجهة هؤلاء كلهم ـــ فانتصروا عليهم وكانت الغلبة لهم، ورجعوا إلى قواعدهم سالمين بنعمة الله وفضله، لم يمسسهم سوء والله ذو فضلٍ عظيم، لا يمنع أحداً من فضله، ولا يبخل على أحد بنعمه.
وتنتهي هذه الآيات، بالقاعدة الإيمانية العامة للمؤمنين، في كل حالة من حالات التخويف، وحرب الأعصاب، بأنّها من تسويلات الشيطان وتهويلاته التي لا تستجيب لها إلاّ أتباعه. أما المؤمنون فإنّهم يخافون الله، ولا يخافون غيره مهما بلغت قوّته، لأنّه القوة الوحيدة التي تخيف، ولذلك يريد الله منهم أن يلتزموا بهذا الخطّ، كما التزم هؤلاء المؤمنون الذين واجهوا التحدّي والصمود فكان لهم ما أرادوا من خير، عندما نفّذوا ما أراده الله لهم من صمود في الموقف.
ونلاحظ في أسلوب الآيات أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن هؤلاء الذين واجهوا التحدّي الكبير، حديث الواقع، كنموذج يُحتذى ويتبع، للإيحاء بأنّ قضية ارتباط القوة بالإيمان بالله، من القضايا الواقعية التي عاشت في حياة كثير من روّاد الدعوة، وليست من القضايا التي تتحرّك في نطاق التوجيهات والتمنيّات البعيدة عن الواقع العملي.
ويحدّثنا القرآن في آية أخرى عن أمثال هذه النماذج، بالنموذج الحي الذي تتجلّى فيه شخصية الداعية الذي يفرض التحدّي على الآخرين، ولا يقتصر على مواجهته من قبلهم، كردّ فعل، لما يثيرونه أو يفرضونه:
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب : 39].
إنّها الصورة الرائعة للدعاة إلى الله الذين يقفون، بقوّة دعوتهم المستمدّة من قوّة الله، أمام قوى الكون كلّه، ليبلغوا رسالات الله، بالأسلوب القوي الهادر، والتحدّي الرسالي الكبير لكلّ ما يطرحونه من دعوات، وما يثيرونه من شعارات. وليعلنوا أنّهم لا يخافون أحداً إلاّ الله. إنّهم حز//ب الله وأولياؤه، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
إنّ القرآن يعرض الصورة بوضوح، ويختم الآية باعتبار موقفهم، منسجماً مع الواقع، لأنّهم اكتفوا بالله، وهو الكافي لكلّ من استعان به في مهمّاته وشدائده.
ونلتقي بآية أخرى، لا تقدّم النموذج، بل تطرح الفكرة في أسلوب الرفض الحاسم لكلّ أساليب التخويف، واعتبار الإنسان الذي يخضع لها ضالاً عن الحقّ.. ضلالاً لا هداية معه، وذلك قوله تعالى:
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر : 36].
ولعلّ هذا الأسلوب، لا يقتصر على الجانب الفكري، بل يتعدّاه إلى الجوانب العملية التي تكفل للإنسان، ممارسة هذا الشعور الروحي بكفاية الله له، وحرّيته أمام الآخرين. وهذا هو ما يعبّر عنه الإمام زين العابدين، في دعاء مكارم الأخلاق الذي يشير فيه إلى بعض لحظات الضعف التي تجعل الإنسان، يتخلّى عن مواقفه المبدئية تحت ضغط الحاجة الملحّة للمال.
"اللّهم صن وجهي باليسار، ولا تبتذل جاهي بالإقتار، فأسترزق طالبي رزقك، وأستعطي شرار خلقك، فأُفتتن بحمد من أعطاني، وأُبتلى بذمّ من منعني، وأنت من دونهم وليّ الإعطاء والمنع"(1).
فهو يقرّر لنا الحالة، ونتائجها في حالة ضغط الانحراف، ليوحي بأنّ على الفرد والمجتمع ـــ الذي يريد الإنسان فيه أن يقف مع مبادئه وقفةً واقعيةً ـــ أن يخطّط لتخليصه من هذا الواقع لئلاّ يستغلّ أولئك حالة الضعف، في خلق حالة ضعف جديدة.
ونواجه، في القرآن الكريم، إلى جانب هذه الصورة الوضيئة التي توحي بالقوّة والإشراق، صورةً أخرى قاتمة، وهي صورة أولئك الذين يشعرون بالضعف الذي يدمّر مواقفهم ويهزم قوّتهم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء : 77].
هؤلاء الذين يعرضون عضلاتهم ـــ في البداية ـــ حتى إذا وقفوا أمام التجربة، انهزموا من مسؤولياتهم، وبدأوا يختلقون الأعذار، ويطلبون التأجيل، وليست القصّة قصّة وقت وأجل، بل هي فقدان الإيمان بالله، والخوف المدمّر من الناس، حتى يهون عندهم سخط الله أمام ذلك كلّه.
إنها صورة ضعف الموقف، كنتيجة لضعف الإيمان.
إنّ الفكرة القرآنية، في هذه الآيات كلّها، تصبّ في مجرى واحد، وهو ضرورة مواجهة حرب الأعصاب، بالقوة النفسية الداخلية التي تواجه المواقف الصعبة بهدوء، لتخطّط لها بثقة واطمئنان، من غير تشنّج أو انهيار، لأنّ الهزيمة النفسية أمام حرب الأعصاب، هي الميزان الدقيق لموضوع الهزيمة والنصر في أيّة معركة من معارك الحياة؛ لأنّك عندما تهزم عدوّك من الداخل، فلا يبقى أمامك، أو أمامه لقضية إنهاء المعركة بالانتصار إلاّ تصفية الساحة من فلولها العاجزة من دون جهد أو تعب، ولهذا نجد أن المعركة النفسية في كلّ حرب، هي المعركة التي تقرّر مصير الموقف في كل زمان ومكان.
وقد علّمنا القرآن الكريم الأسلوب العملي الذي نواجه فيه حرب الأعصاب، التي تتبع أساليب السخرية بالعمل وبالعاملين في سبيل الله فلا يضعفون أمامها، لأنّهم يشعرون بأن موقفهم ليس في مستوى السخرية، بل، كل ما هناك، أنّهم يهدفون إلى إضعاف ثقتهم بأنفسهم، وتحطيم قوّتهم الروحية، بتصوير القضية بالصورة المضحكة التي تبعث على السخرية والاستهزاء، لا المحاكمة والنقد والمناقشة.
وعلى ضوء هذا الوعي، للهدف من هذا الأسلوب، ينطلق المؤمنون من مركز القوّة، لينقلوا الأسلوب إلى المعسكر الآخر فلا يقفون، ليواجهوا السخرية بنقد ودفاع، بل يقابلونها بمثلها، فيواجهونها بسخرية مماثلة، تضحك منهم ومن عقائدهم الباطلة وعاداتهم السخيفة، وقيمهم التافهة التي هي في مستوى السخرية حقاً. وهذا هو ما تُصوّره الآية التي تتحدّث عن موقف نوح، النبيّ، حينما بدأ بصنع الفلك بأمرٍ من الله، فقابله قومه بالسخرية، لأنّه يعرف عاقبة الموقف:
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ*فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [هود: 38 ــ 39].
3 ـــ التوكّل، وعلاقته بالتحرّر من الخوف
وقد ركّز القرآن الكريم على عنصر التوكّل على الله، كأحد العناصر النفسية التي توحي للإنسان بالثقة والطمأنينة، وتبعده عن الشعور بالخوف، كسبيل من الإيحاء بالقوّة، لأنّها تحميه من القلق النفسي المدمّر، الذي يثير فيه نوازع الضعف أمام القوى البشرية أو الطبيعية التي لا تدخل في نطاق قدرته، عندما يخطر له ـــ وهو في مجال العمل ـــ أنّها قد تنطلق لتحطّم له كلّ أعماله ومشاريعه.
فكان التوكّل على الله عنصر الأمان ضدّ المجهول، أو غير المنظور، بعد أن يكون الإنسان قد استكمل كل عناصر النجاح للعمل، وبعد، أن بدأت الإرادة في التحرّك، وذلك في قوله تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران : 159].
وقد أوضحت النصوص الدينية المنقولة عن النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الصورة الصحيحة للتوكّل، فقد ورد في بعض أحاديث السيرة النبوية الشريفة، أنّ حواراً طريفاً حدث بين النبيّ وجبرائيل حول عدّة قضايا ومفاهيم إسلامية:
"قلت (والكلام للنبيّ) ما التوكّل على الله، قال: العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ولا يُعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك، لا يعمل لأحد، سوى الله، ولم يرج ولم يخف سوى الله، ولم يطع في أحد سوى الله"(1).
ونلاحظ في بعض الأحاديث، إيحاءً بالقوة التي يمثّلها التوكل، كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): "إنّ الغنى والعزّ يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا"(2).
وفي الحديث المأثور عنه جواباً على سؤال بعض أصحابه له عن التوكّل "ما حدّ التوكل".. قال اليقين، قلت فما اليقين قال: "أن لا تخاف مع الله شيئاً"(3).
4 ـــ القناعة، وعلاقتها بالتحرّر من الخوف
وقد حاول الإسلام ـــ في الدعوة إلى تحصيل القوة ـــ أن يوحي للإنسان بالقناعة النفسية، والابتعاد عن الشعور بالطمع الذي يجعل الإنسان مشدوداً إلى الإحساس بالحاجة إلى الآخرين، والشعور بالانسحاق أمام رغباتهم التي لا تقف عند حدّ، فتقع نفسه صريعة تحت نير العبودية للآخرين.
فكان الإحساس الذاتي بالقناعة تعبيراً عن الاكتفاء النفسي بما تتّسع له طاقاته وإمكاناته فيما يحب وفيما يريد ـــ الأمر الذي يجعله يفقد الإحساس بالجوع إزاء أيّة رغبة لا يملك أمر تحقيقها، أو أية حاجة لا يملك أمر قضائها، وبذلك يفقد الشعور بالحاجة المسحوقة للآخرين إزاء الشعور بالغنى أمامهم، فلا يعود للخوف من الآخرين أيّ معنى، فيما يخالفهم فيه، أو يبتعد به عنهم؛ لأنّ الخوف خاضع للرغبة التي يخشى فواتها، في تلك الحالات، فإذا فقدت الرغبة، ذهب الإحساس بالخطر.
وقد صوّرت النصوص الدينية هذا المعنى أبلغ تصوير.
ففي حديث الإمام عليّ (عليه السلام) في كلماته القصار:
1 ـــ الطمع رقٌّ مؤبّد(1).
2 ـــ الطامع في وثاق الذلّ(2).
3 ـــ كفى بالقناعة ملكاً(3).
4 ـــ الغنى الأكبر اليأس عمّا في أيدي الناس(4).
وفي حديث الإمام أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر الإمام الخامس من أئمة أهل البيت (عليه السلام): "بئس العبد عبد له طمع يقوده، وبئس العبد عبد له رغبة تذلّه"(5).
وفي حديث الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق الإمام السادس من أئمة أهل البيت (عليهم السلام): "ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه"(6)
إنّ كل هذه الكلمات تلتقي على الفكرة التي تعتبر الطمع ذلاًّ وضعفاً ورقّاً وفقراً. يفقد الإنسان الثقة بنفسه وبقوّته الذاتية، بينما يعتبر القناعة ملكاً، يملك فيه الإنسان نفسه، ويملك فيه الموقف الحرّ القوي المتحرّك إزاء الآخرين، ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى رفض الطمع، للوصول إلى رفض الخوف المدمّر الحاصل من الطمع.
5 ـــ الزهد وعلاقته بالتحرّر من الخوف:
ويلتقي هذا المفهوم الإسلامي حول القناعة، بالفكرة الإسلامية عن الزهد، باعتباره يمثّل القوّة الذاتية التي يسيطر الإنسان من خلالها على كلّ نزواته وشهواته، فلا تطغى ولا تنحرف ولا تجرّه إلى ما يخالف مبادئه، أو يوقفه في مواقف الضعف عندما تتحوّل رغبته وعلاقته الشديدة بحاجاته، إلى الوقوع صريعاً عندها، يعاني ـــ فيها ـــ ما يعاني من العبودية الداخلية للدنيا في كلّ مظاهرها وشهواتها، فيعيش تحت رحمة الخوف الدائم من الأشخاص أو المواقف، التي تمنعه من الحصول عليها. ولعلّ من أوضح النصوص الدينية التي يتجسّد فيها المعنى الأصيل لهذه الكلمة، النصّ الوارد عن الإمام عليّ (عليه السلام): "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء".
والكلمة الأخرى الواردة عنه، التي تحاول الدخول في تفاصيل الفكرة، من خلال المفهوم القرآني للنظرة الواقعية التي يتبنّاها الإنسان المسلم في نظرته إلى الحياة، فقد جاء في نهج البلاغة عن الإمام عليّ (عليه السلام): "الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه:
{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}(1) [الحديد : 23].
فقد انطلقت الآية ـــ من خلال تفسير الإمام (عليه السلام) وتطبيقها على الزهد ـــ من مواجهة الدنيا بشكل طبيعي جداً، لا تصرعه الخسارة، ولا يبطره الربح، لأنّه لا يشعر بأنّه مشدود، إلى هذا أو ذاك، بعلاقة تتجاوز العلاقة الطبيعية، التي يواجه بها الإنسان الأشياء التي لا تربطه بها إلاّ الرابطة العادية البسيطة.
وبهذا نعرف كيف يكون الزهد عاملاً للتحرّر من الخوف من الدنيا، وعليها، عندما يواجهها بالنظرة الواقعية الحكيمة.
6 ـــ الطريق إلى بناء القوّة الروحية
لم يقتصر الإسلام على إعطاء المبادئ العامة للقوة الروحية، بل حاول أن يدرّب الناس على الطريقة العملية التي توصلهم إلى تلك المبادئ.
ففي موضوع الإيمان بالله، الذي يحصل به الإنسان على الاطمئنان إلى القدرة الإلهية، التي تحرّره من عقدة الخوف، من كل القوى الأخرى، وتبني في داخله القوة الذاتية؛ أطلق الإسلام الوسائل الكفيلة بتنمية الإيمان وتقويته. بالتفكير في خلق السماوات والأرض، وما يتمثّل فيها من عظمة، أو يتحرّك فيها من قوى. والاتجاه إلى دراسة الإنسان أيّ إنسان كان ـــ بكلّ ما يملك من طاقة محدودة في زمانها وفي مكانها وفي مداها في الحياة، ممّا لا يمثّل شيئاً، بالإضافة إلى الطاقات الكثيرة التي لا يستطيع الوصول إليها، أو ممارستها في حياته الخاصة. ثمّ الاتجاه إلى إحصاء النعم الكثيرة، التي أنعم الله بها على الإنسان في كل مجالات حياته. ممّا لا يستطيع الإنسان بدونه أن يواصل مسيرة الحياة، ولو لحظة، ثمّ اللقاء الدائم بالله والوقوف بين يديه في صلاة روحية خاشعة، تجسّد الحضور الإلهي القوي في قلب الإنسان، ليتحوّل إلى إحساس يومي، يحتضن مشاعر الضعف ونوازعه.
وهذه هي الطريقة القرآنية التي أفاض القرآن الكريم في التوجيه نحوها، وفي التركيز عليها، وتبسيطها، وإعطاء التفاصيل المتنوّعة التي توضح كلّ جوانبها وأبعادها.
ومن الملاحظ، أنّها تستطيع أن تحقّق الوصول إلى الفكرة بشكلٍ سريع وعميق، كما حقّقت ذلك في حياة المسلمين الأولين الذين أخذوا منها المنهج العلمي، إلى جانب المنهج الإيماني؛ لأنّ الإيمان في الإسلام يمرّ بطريق العلم، في مسيرته نحو هدفه.
وفي موضوع القناعة والشعور بالاكتفاء الذاتي، الذي يبتعد بالإنسان عن الطمع والنهم، اللذين يثيران في داخل الإنسان الخوف من الآخرين، تبعاً للخوف على ما يطمع فيه عندهم.
جاءت الكلمة المأثورة عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "إنْ كنتَ تريد من الدنيا ما يكفيك فإنَّ أيسر ما فيها يكفيك، وإنْ كنتَ إنّما تريد مالاً يكفيك فإنّ كلّ ما فيها لا يكفيك"(1).
إنّها الفكرة التي تقول لك: إنّك ستظلّ تعيش الظمأ والجوع إلى كل شيء لا تجده، مهما بلغت من الحياة، لأنّك لا تبلغ حاجة إلاّ وتجد هناك حاجات جديدة يمكنها أن تثير شهوتك وتلهب جوعك، فلا يمكنك أن تحقّق أيّ طمأنينة، أو تبلغ أيّ استقرار، أو تبلغ أيّ استقرار، أو تشعر بأيّة سعادة داخلية.
ثم إنّك ستظل صريع الحاجة إلى الآخرين، في شعور عميق بالانسحاق والعبودية، وستبقى مشدوداً إلى غرائزك، دون أن تملك حريّة التفلّت من قيودها بشكل طبيعي أمين.
ولهذا، فإنّ عليك أن تُفكّر، بالطريقة التي تُحقّق لك هذا كلّه، مع الاحتفاظ بشخصيّتك وعزّتك وكرامتك، وهي القناعة الداخلية والزهد النفسي أمام كل رغبات الحياة وشهواتها، بحيث لا تُمثّل لك الرغبة رسالة حيّة بل تُجسّد لك حاجة طبيعية، تحفظ الحياة فيها نفسها، في إطارها الماديّ المحدود.
7 ـــ جهاد النفس:
وهذا سبيل من سبيل قوّة الروح في ما تريد وما لا تريد، ووسيلة من وسائل قوّة الإرادة، في ما تنفّذ ولا تنفّذ، لتجتمع للإنسان في حياته الداخلية العملية، قوّة الحسم في ما تنطلق به النفس من نوازع، وما تقبل عليه من أعمال. وهو جهاد النفس الذي أراد الإسلام فيه للإنسان أن يتوفّر على مراقبة نفسه ومحاسبتها، لتبقى دوافع الخير ونوازعه صافية نقيّة من كل شائبة، وأراد له ـــ في الوقت نفسه ـــ أن يراقب خطواته ـــ وهي تتقدّم نحو العمل ـــ ليحفظها من كلّ انحراف وليصونها من كل ارتباك واضطراب، ليعيش الإنسان في وحدة كاملة، فيما يفكّر فيه، وما يقوم به من عمل، ولا يستسلم لازدواجية الفكر والسلوك، فيفكّر في ما لا يعمل، ويعمل في ما لا يفكّر. وذلك هو السبيل الأقوم للقوّة التي ترتكز على الوحدة والتماسك، ولا تضعف أمام التجزئة والاهتزاز. وتلك هي الخطّة القويمة، التي تتحوّل فيها القوّة الروحية إلى عنصر فاعل في كيان الإنسان، يحرّكه في اتجاه الخير، ولا يتجمّد ـــ حيث هو ـــ فكرةً تختبئ في العقل، وإحساساً يتحرّك في دائرة الشعور على خجل واستحياء.
أ ـــ بين الإفراط والتفريط
وقد اختلف الناس في جهاد النفس بين إفراط وتفريط، فهناك الفئة التي أخذت بهذا الأسلوب في حياتها فحاصرت كلّ أبعاد النفس؛ فلم تترك لها مجالاً تنطلق فيه وتتجوّل، لتطلق خطواتها في الأرض الواسعة الفسيحة، لتبلغ المدى الذي تريد أن تبلغه في غير انحراف وضلال. وأغلقت عليها كلّ النوافذ، فلم تدع لها نافذة تطّلع منها على العالم. فليس لها إلاّ الجدران الأربعة الخالية إلاّ من بصيص ضوء، تجترّ أشكالها وألوانها ما أمكنها الاجترار، وتحوّلت إلى النفس في رغباتها وشهواتها، تمنعها من كلّ شيء، إمعاناً في الكبت، وإغراقاً في التعذيب. حتّى كأنّ تعذيب النفس وإيلامها، فرض من فرائض الدين، وشعيرة من شعائر الإيمان، التي تتقرّب إلى الله بها، ليمنحها الثواب عليها في الدنيا والآخرة.
ب ـــ عندما يتحوّل جهاد النفس إلى ضعف
وكانت النتيجة ـــ في ذلك كلّه ـــ مزيداً من الإمعان في إضعاف النفس، فوق ما هي فيه من ضعف، لأنّ الجهاد تحوّل إلى إجهاد طائل تحته، فإنّ الأسلوب كان بعيداً عن الوقوع في التجربة، لتجنّب الإنسان عن الدخول فيها، واختيار الابتعاد عن مجالاتها وإغراءاتها. وبذلك لم يحصل الإنسان على القوّة في إطار التجربة المتحرّكة في ساحة الصراع، بل كانت القوّة التي تتحرّك لتجرّب بطولاتها بعيداً عن وجود عدُوّ في الميدان، كالإنسان الذي يتخيّل عدواً يهاجمه، حتى إذا صادفه في الواقع، وجد أمامه شيئاً لم يحسب حسابه، فرأى أنّ الهزيمة هي خير ما ينقذ به نفسه.
وهذا هو سبيل الكثيرين ممّن اتّخذوا لأنفسهم سبيل العزلة عن الناس، وعن الحياة، لأنّهم يخافون من التجربة، ويخشون على أنفسهم عاقبة السقوط. فيمتنعون عن كل ما يخوض فيه الناس من صراع وعراك في قضايا الحياة، وقضايا العقيدة، لأنّ صراع العقيدة يورّطهم في الوقوع في الشكوك والشبهات. أمّا صراع الحياة، فيعرّضهم للوقوع في إغرائها المثير، ويسلمهم إلى عذاب السعير.
وهكذا انحرفوا حيث أرادوا لأنفسهم الاستقامة، وضلّوا حيث أرادوا لحياتهم الهدى، وانهزموا حيث حاولوا الحصول على النصر، لأنّ علامة الاستقامة والهدى، أن تستقيم في طريقك، وتهتدي في سبيلك، إزاء الطرق المنحرفة والسبل المعوّجة، كما أنّ دليل النصر هو أن تثبت في المعركة، لا أن تهرب منها. فإنّ الهارب من المعركة منهزمٌ، وإن حصل على السلامة، لأنّه لم يحصل على شرف الحرب، وإنْ حصل على نتائج النصر.
وقديماً قال الشاعر:
ليس البطولةُ أن تموت من الظما إنّ البطولةَ أن تَعُبَّ الماءَ
ج ـــ الفئات المنفتحة على الحياة من خلال المتعة
وهناك الفئة التي اعتبرت للنفس كلّ الحقّ في أن تأخذ نصيبها من متع الحياة وشهواتها ولذائذها، فمنحت نفسها كلّ الحرية في الإقبال على الحياة، تغرف منها ما شاءت لها قدرتها أن تغرف، وأطلقت لها العنان، في كل طريق تريد أن تسير فيه وتركض إلى المجالات الواسعة الفسيحة، لا تمنعها من السير في أي طريق، ولا تحجزها عن الوصول إلى أيِّ هدف، وانفتحت معها على كلّ أفق، تنظر إليه وتتطلّع، وتطوف معه في شتّى المناظر الجميلة، والأجواء الرائعة، لا تطلب لنفسها نصراً في معارك الرغبة، لأنّها لا تشعر بوجود معركة مقدّسة في هذا المجال، ولا تقحم طاقاتها في صراع للحياة من أجل القضية الكبرى، لأنّها لا تؤمن بقضايا الصراع في أيّ جانب، بل ترى أنّ على الفرقاء أن يسلّموا أو يستسلموا للأمر الواقع، ليوفّروا على أنفسهم الجهد والمشقّة، ولذا فلا يعتبرون الهروب من المعركة هزيمة منكرة، لأنّهم لا يؤمنون بقداسة المعركة أو بالأحرى، بوجود شيء مقدّس في الحياة.
هؤلاء هم الذين يواجهون الحياة بعقلية الرغبة المقدّسة، التي تعتبر عندهم أساساً لكلّ عقيدة أو فكر أو عمل، فكلّ ما يلبّي رغبة الإنسان هو الحقّ، والصلاح، والخير، وكلّ ما لا يحقّق للإنسان ذلك، فهو الباطل والفساد والشّر؛ لأنّ مقياس ذلك كلّه، هو تحقيق السعادة للإنسان، أو عدم تحقيقه! ممّا لا يتمثّل إلاّ في اعتبار الحياة فرصةً للّذة والمتعة والشهوة.
إنّهم ليسوا فلاسفةً، يستمدّون سلوكهم من فلسفتهم، بل هم ضعفاء مسحوقون أمام رغباتهم، فلا يملكون لها دفعاً ولا تحويلاً، وهكذا نجد أنّهم يلتقون بالفئة الأولى في الانهزام أمام مواقف الصراع، وإن اختلفت الفئتان، في انهزام الأولى من ميدان الحياة، بإماتة الحياة في داخلها، وانهزام الثانية أمام شهوات الحياة، بالاستغراق فيها حتى التخمة، دون أن ترفع سلاحاً ضدّ هذا الانهيار الروحي والإنساني الكبير.
د ـــ الموقف الإسلامي المتوازن
أما الإسلام، فإنّه يقف موقف التوازن بين موقف الإفراط هناك، وبين موقف التفريط هنا. فأراد من الإنسان أن يأخذ من الدنيا ما يأخذه بحساب، ويدعَ منها ما يدعهُ بحساب، وعمل على أن يتحوّل التوازن إلى موقف حازم، يرصد الخطّ الفاصل بين ما يأخذه وبين ما يدعه، فإرادة يَقِظَةٍ منفتحة، لا تختنق في ضباب التحريم، ولا تنهار أمام نوازع الإباحة. فللإنسان أن يأخذ من حياته ما يلبّي رغباته وحاجاته الطبيعية، ككائن حيّ؛ تعيش الغرائز في داخله كعالم كبير عميق، يتحرّك ليشبع جوعه ويُطفئ عطشه. ولكنّه يضع الحواجز أمامه، إذا تحوّل إلى ما يضرّ حياته وحياة المجتمع! وعلى الإنسان ـــ في الجانب المقابل ـــ أن يترك ما يتركه من شهوات ورغبات، ويقيم الضوابط الداخلية والخارجية التي تحقّق له التماسك والاتّزان. ولكن بدون أن يسيء ـــ في ذلك، إلى جسمه وعقله وحياته أو حياة الآخرين؛ لأنّ ذلك هو السبيل إلى القوّة الطبيعية، التي تملأ الروح كما تملأ الإرادة، وتحكم الفرد كما تحكم المجتمع، حيث لا يضعف جانب لحساب جانب، ولا يقوى سبيل على حساب سبيلٍ آخر، ليحقّق التكامل للإنسان في سلوكه وحياته، بعيداً عن أي ضغط داخلي أو خارجي.
ولا بدّ لهذا كلّه من مرحلة تدريب، يتوفّر فيها على دراسة نقاط الضعف ونقاط القوّة، فيواجههما من موقع الفكر الذي يطرح الفكرة ويحلّلها، ومن موقع الإرادة التي تحوّل الفكر إلى سلوك وعمل.
وقد لا يتحقّق ذلك، إلاّ على أساس الخطة العملية التي تعمل على التخفيف من ضغط الغرائز والرغبات، بإضعاف دوافعها ونتائجها، لئلا يتحوّل الضغط إلى عنصر إخلال بالتوازن، وإضعاف للإرادة. لأنّ قوة الإرادة وضعفها يتحدّدان بحدود قوّة الضغط الداخلي، للدوافع العملية وضعفه. فإذا كانت الدوافع متوازنة، تبعتها الإرادة في ذلك، والعكس بالعكس، إرادة غير متوازنة، نتيجة دوافع غير منضبطة.
هــ ـــ الإسلام يدعو إلى فتح الجبهة في الداخل
وكانت الخطّة العملية، أنْ يفتح الإنسان جبهة حربية في داخل نفسه، ليبدأ معركة دائمة ضدّ عوامل الانحراف الضاغطة، التي تحاول إضعاف إرادته، تماماً، كما ينطلق في معركته مع العدو الخارجي، بل إنّنا نرى العدو الداخلي، وهو النفس بغرائزها وشهواتها الطاغية، أشدّ خطراً من العدو الخارجي ـــ في نظر الإسلام ـــ فقد اعتبر المعركة التي يخوضها الإنسان ضدّ طغيان الرغبة في نفسه، أكثر شراسة من المعركة التي يخوضها ضدّ الأعداء الآخرين، لأنّ العدو الخارجي يحاربك بأسلحة منظورة، تستطيع أن تجابهها بأسلحة أخرى أقوى منها، أو مماثلة لها.
وإذا كانت ساحة المعركة واسعة بينك وبين العدو فبإمكانك أن تملك حرية الحركة، وأنتَ تحارب نظراً أنّك منفصل عن كيانه، كما هو منفصل عن كيانك، ولكلٍّ منكما طاقاته التي تواجه طاقات الآخر، بعنف، في عملية الصراع والقتال. أمّا العدو الداخلي، نفسك التي بين جنبيك غرائزك التي تتحرّك، رغباتك التي تثور، فإنّه يحاربك بأسلحة غير منظورة، لأنّها توقظ في كيانك، مشاعرَ وأحاسيس وعواطف، تدغدغ، وتلهب وتحرق، وتفحُّ، وتثير، وتثور، وتنفجر فلا تكبتها من جانب، إلاّ لتثُور من جانب آخر.
أما أنت، فإنّك ـــ في نطاق ذلك ــ لا تحارب في ساحة واسعة، أو في كيان منفصل؛ لأنّ الساحة لكلّ المتحاربين، هي، أنت، بكلّ كيانك، وشخصيّتك، وطاقاتك، متنافرتين، تقاتل إحداهما الأخرى.
إنّه الجهاد الأكبر، كما قال عنه النبيّ الأعظم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، في الحديث المشهور، بعد رجوعه من إحدى معاركه، مخاطباً أصحابه:
"مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهادُ الأكبر"..
فقيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟
قال: "جهاد النفس"(1).
إنّها المعركة الصعبة، التي تكون فيه مهاجماً، بنفس الشخصية التي تدافع، ومدافعاً بنفس الشخصية التي تهاجم. فأنتَ تحارب نفسك لتنتصر على نفسك بنفسك، وإنْ كانت الأسلحة التي تقاتل بها هي مبادئك وعقلك، وإرادتك. والأسلحة التي تقاتلها هي غرائزك وشهواتك وأطماعك، ولكنّك عندما تنتصر، ستكون القوّة التي لا قوّة فوقها؛ لأنّها هي التي تنتصر على كل عوامل الضعف، من أضعفها إلى أقواها.
ومن استطاع أن ينتصر على نفسه، فإنّه يستطيع أن ينتصر على الأعداء الآخرين، بكلّ سهولة.
وبهذا كانت عملية الجهاد النفسي، تخضع للتدريب المستمر المضني، في سبيل تحصيل القوّة واستكمالها. بطريقة حاسمة، بمختلف الرياضات الروحية، التي قد تتّخذ شكل إلزام النفس بترك بعض المباحات، لتتعوّد على أن تواجه بالرفض العملي فيما يجوز لها شرعاً، لتستطيع الانضباط أمام المحرّمات، بشكل أقوى. وقد تتّخذ الالتزام الطويل بترك الأمور المشتبهة، التي لا يعرف حكمها من حيث الحلّ والحرمة، وإن كان الجهل عذراً شرعاً، لتتحقّق له المناعة النفسية في ترك الأمور المعلومة من حيث الحكم بالحرمة، كما ورد بذلك الحديث المأثور عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): "مَن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك..".
وقد تطول المدّة أو تقصر، تبعاً لطبيعة الحالات التي تعيش فيها النفس، أو لنوعية الظروف الموضوعية التي تحكم الموقف، أو لأوضاع الأشخاص الذين يمارسون هذه الرياضة؛ لأنّ الهدف من ذلك كلّه هو تحقيق المناعة النفسية ضدّ عوامل الانحراف، بتخفيف نوازع الضغط الداخلية، وبتقليل تأثير الضغوط الخارجية على إرادة الإنسان، ممّا يوجب اختلاف طبيعة الرياضة، وزمانها، وأشخاصها.
و ـــ الرياضة الروحية وسيلة للقوّة، لا للمزاج
ولكنّ من الخير لنا أن نثير ناحية مهمّة في هذا الجوّ، وهي أنّ الرياضة هدفاً قائماً بذاته، حتى تتحوّل لدى الإنسان إلى مزاج شخصي، كما يفعله بعض المرتاضين، الذين قد يخالفون الشرع في رياضاتهم القاسية، التي قد تؤدي إلى بعض الأضرار المحرّمة، لأنّ فنّ الرياضة يفرض ذلك، وقد تتحوّل لدى بعض الناس إلى وسيلة من وسائل الحصول على امتيازات خاصة، لا علاقة لها بالانضباط العملي من قريب أو من بعيد، كالرياضات التي يتبعها بعض الأشخاص للوصول إلى حالة الانكشاف الروحي، الذي تطلع النفس فيه على بعض الجوانب الغيبيّة من حياة الناس، أو حياته الخاصة. إنّ مثل هذه الحالات، ليست قريبة إلى المنطق الإسلامي للقوّة الروحية، الذي لا يرى في التضييق على النفس في رغباتها قيمة ذاتية تقرب الإنسان إلى الله؛ لأنّها إذا حقّقت هدفاً من جهة، فإنّها تفقد أهدافاً كثيرة من جهات أخرى تتّصل بحياته الاجتماعية وعلاقته بالناس من حوله. من حيث ارتباط سلوكه بحياتهم، كما نلاحظ ذلك في حديث الإمام عليّ (عليه السلام) مع العلاء بن زياد الحارثي، الذي شكا له أخاه عاصماً لأنّه لبس العباءة وتخلَّى عن الدنيا، فكان فيما قاله له، كما في نهج البلاغة:
"يا عُدَيَّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى الله أحلَّ لكَ الطيّبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك"(1).
وعلى ضوء ذلك، فلا بدّ من مراعاة البقاء على خطّ التوازن الطبيعي في هذا المجال، فلا يلجأ إلى رياضة تثقل عليه حياته، أو تخلّف عنده عقدة مضادّة أو تحوّله إلى إنسان يفقد السلوك الطبيعي في الجانب الموافق، في طريقة ابتعاده عن الجانب المضادّ.
وقد ركّزت الأحاديث الكثيرة المأثورة عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على هذا النوع من الجهاد، وعلى القواعد الأساسية التي يمكن أن يرتكز عليها، وعلى الضوابط النفسية والعملية التي تحميها من كلّ نوازع الضعف وعوامل الانحراف، وعلى اعتبار ذلك مقياساً كبيراً للقوّة.
فقد جاء في الحديث عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "الشديد مَنْ غَلَبَ نفسه"، وفي حديث آخر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) "ليس الشديد بالصرعة بل الذي يملك نفسه عند الغضب".
وفي بعض الأحاديث إشارة إلى أنّ من أعلى المستويات التي يصل إليها الإنسان في الجهاد، هو المستوى الذي يتحوّل فيه إنسان يرتفع روحياً عن نيّة الظلم، فلا يقتصر على الامتناع عن ممارسة الظلم عملياً، بل يمتدّ إلى الحالة النفسية التي لا يفكّر فيها بظلم أحد.
فقد جاء في وصيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) المأثورة لعليّ (عليه السلام):
قال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يا عليّ: "أفضل الجهاد مَنْ أصبح لا يهمّ بظلم أحد".
وفي الحديث المعروف عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ـــ وهو يعطينا المقياس للقيمة الكبرى لمن يجاهد نفسه فينتصر عليها أمام نوازع الضعف القويّة الضاغطة.
قال: "مَن ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب حرّم الله جسده على النار".
وفي حديثٍ آخر: إنّما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن قول الحقّ، وإذا قدر لم يأخذ أكثر ممّا له، (أو) لم تدعه قدرته إلى أنْ يحيف على من تحت يده.
وقد انطلق علماء الأخلاق في دراسة الأساليب التي يمكن أنْ يلجأ إليها الإنسان، في ممارسة هذا النوع من الجهاد في حياته العامّة والخاصة، وأكّدوا على مراعاة جانب الشرع في ذلك، باعتباره الجانب الذي يحفظ للنفس قوّتها الروحية بشكلٍ إيجابي، من دون وقوع في السلبيات. ولئلا تتحوّل الفكرة إلى ما أشرنا إليه ـــ من الإساءة إلى صاحبها في صحّته وفي عقله وفي حياته الاجتماعية مع الناس، ليبقى ـــ كما يريده الإسلام ـــ إنساناً طبيعياً في حياته، وإنْ كان مسيطراً على الحياة بقوّته الروحية والفكرية.
8 ــ المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف
.. وتنطلق الأحاديث الشريفة في اتّجاه الأسلوب القرآني، الذي يريد أن يركّز على عنصر القوّة الذاتية لدى المؤمن، فقد جاء في الحديث الشريف ـــ كما في مجمع البحرين ـــ : "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف".
.. وفي هذا تأكيد على دور القوّة في تقييم الإنسان المؤمن عند الله سبحانه، واعتباره قيمةً دينيّة، إلى جانب الإيمان. وربّما نشأت هذه الفكرة، من خلال الحقيقة الدينية التي تعتبر الإيمان بالله دعوة صارخة إلى بناء القوة، وعملاً مستمراً في سبيل تحصيلها، نظراً إلى أنّ الضعف ينطلق من الخوف المذعور من القوى الأخرى من جهة، ومن فقدان المسؤولية تجاه إقامة الحقّ وإزهاق الباطل الذي يتوقّف على إعداد القوّة، من جهةٍ أخرى. ويقف كلاهما في الخطّ المقابل لخطّ الإيمان الذي ينطلق من الثقة بالله، والشعور بالمسؤولية.
وفي هذا الجو، نعرف أنّ الحديث الشريف على القوّة الروحية باعتبارها أساساً للقوّة المادية الملتزمة، التي إذا انفصلت عن الوجدان الروحي للقوّة الداخلية، تحوّلت إلى عمل شرير يُعتبر ضدّاً للقيمة وللتفضيل، بدلاً من أن يكون قاعدة ثابتة في واقع المجتمع المؤمن في الحياة.
9 ــ ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة
جاء في الحديث المأثور عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): "ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة".
وقد عالج هذا الحديث دور القوّة الروحية وتأثيرها على الحركة العملية للإنسان نحو القضايا الكبيرة أو الصغيرة في الحياة، فإنّ قوّة الدافع الذاتي للعمل، تعطي البدن قوّة مضاعفة، تجدّد فيه الحيوية، وتمنحه حرارة النشاط. كما أنّ ضعف الدافع، يشجّع على التراخي والكسل، لينتهي به إلى الضعف والانهيار.
ولهذا عملت الأمم ـــ في اللّحظات الحاسمة في حياتها ـــ على تنمية هذه القوّة الروحية، بالأساليب الانفعالية الحماسية، التي ترتفع بدرجات الإثارة النفسية إلى المستوى الكبير، لتتحرّك ـــ من خلال ذلك ـــ بخطوات سريعة نحو أهدافها المحدّدة.
وقد ورد في الدعاء المأثور عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، المعروف (بدعاء كميل): "قوّ على خدمتك جوارحي واشدد على العزيمة جوانحي".
وعلى ضوء ذلك كلّه، فإنّ من الخير لنا أنْ نعمل على تقوية الدوافع الخيّرة في النفس، كسبيل من سبل القوّة الذاتية، الروحية، للسير بالإنسان إلى الأهداف الخيّرة بسرعة وحيويّة ونشاط.
الفصل الرابع
القوّة الاجتماعية
1 ـــ ما هو المجتمع وما هي القوّة الاجتماعية
2 ـــ لا بدّ من تخفيف الإحساس بالفردية
3 ـــ المفهوم الإسلامي للخلاص لا ينفصل عن الصيغة الاجتماعية
4 ـــ القوّة الاجتماعية في الصورة الواقعية
5 ـــ الصورة الواقعية للمجتمع الضعيف
6 ـــ الصورة في إطار المَثَل
7 ـــ الصورتان معاً في الأسلوب المقارن
للإنسان حياة فردية واجتماعية، فهو كيان مستقل يتمثّل بحاجاته ونزواته وأفكاره الذاتية، وهو جزء من كلّ في إطار الحياة المشتركة مع الآخرين، في بيت واحد، أو إقليم واحد، أو أمة واحدة، أو عالَم واحد. وللحياة الفردية نوع من القوّة، يُعبّر الإنسان فيه عن ذاته، ويحفظها من عدوان الآخرين، وللحياة المشتركة مع الآخرين نوع من القوّة، يحفظ للمجتمع نظامه، واستقلاله، ويحميه من اعتداء الآخرين، أفراداً أو مجتمعات.
ونحن هنا نحاول أن نتلمَّس المفهوم الإسلامي للقوّة الاجتماعية من خلال الكتاب والسُنّة، فيما قدّمناه لنا من صور واقعية للتجربة الأولى للمجتمع الإسلامي، وما يشتمل عليه من عناصر القوّة، أو فيما يريدان لنا أنْ نتمثّله في حياتنا من تجربة جديدة.
ثمّ نتّجه بالبحث إلى السير مع المفردات التشريعية، في الفكر والعاطفة والسلوك، في الجوانب السلبية أو الإيجابية، لتكتمل لنا الصورة وتتركّز القاعدة، ويستقيم البناء.
أمّا السبب في السير على هذا المنهج، فلأننا لا نجد في القرآن الكريم والسُنّة الشريفة حديثاً تحليليّاً عن المجتمع في قوّته وضعفه، من حيث تعاقب عناصر القوّة وعناصر الضعف، بشكلٍ مستقل مباشر. ولكنّنا نجد بعض الصور، واللّمحات والأفكار والتشريعات التي تشير إلى القاعدة الأساسية لبناء المجتمع على أساسٍ قويّ ثابت، بدلاً عن المجتمع الضعيف المتزلزل.
1 ـــ فما هو المجتمع، وما هي القوّة الاجتماعية؟
ويجيب بعض علماء الاجتماع، عن السؤال الأول، فيعرّف المجتمع بأنّه مجموعة من الأفراد الإنسانيين الذين يعيشون تلقائياً، ولهم تقاليد وعادات واحدة، وآمال وغايات يريدون تحقيقها بوسائل مرسومة(1).
أمّا مصطلح القوّة الاجتماعية، فنقصد به: القوّة التي يملكها المجتمع في نطاقه الموحّد، في الجوانب العملية المتمثّلة بالتماسك والترابط العضوي ما بين أفراده، على أساس الفكر المشترك والشعور المشترك والعمل المشترك، في اتّجاه الهدف الواحد المشترك.
أمّا وسائل القوّة المادية من سلاح ومال وعلم وغير ذلك، ممّا لا بدّ منه في الحصول على القوّة العملية، للفرد والمجتمع، فليست هي ما نقصده في هذا الحديث، لأنّها تمثّل المواد الخام التي تستخدمها القوّة الفردية أو الاجتماعية، أو تصنعها في إعطاء الحركة مزيداً من الحريّة والاندفاع، بل كلّ ما نريده، هنا، هو الحديث عن القوّة من خلال العلاقات التي تحدث بين أجزاء المجتمع، لتجعل منه مجتمعاً مترابطاً متماسكاً، من خلال العناصر التي تترك أثرها على هذه العلاقات سلباً أو إيجاباً.
وقد يبدو لنا، أنّ القوّة الاجتماعية، ترادف، أو تقارب المفهوم العميق للمجتمع، فكلّما ازداد الشعور بالأفكار والآمال والغايات والتقاليد المشتركة، ازداد التماسك شدّة، والترابط متانةً وصلابة، ممّا يجعل القوّة التي تمثّلها هذه المجموعة من الأفراد المتماسكين المترابطين أمراً طبيعياً.
2 ـــ لا بدّ من تخفيف الإحساس بالفردية
وعلى ضوء ذلك، نشعر أن من الوسائل التي ينبغي للعاملين في الحقول الاجتماعية، أو الإسلامية بشكلٍ عام، أن يلجأوا إليها في تحقيق مزيد من القوّة الاجتماعية، هي تقوية الدوافع الاجتماعية، التي تخفّف من إحساس الفرد بفرديّته، لتشحنه بالشعور الواعي والمنفتح بالرابطة الاجتماعية التي تشدّه إلى الآخرين، ليحسّ ـــ بالتالي ـــ بالوجود الواحد الجديد النابض بالقوّة والحياة. وهذا ما نلمحه فيما نستقبل من نصوص دينية، تؤكّد على العناصر الأساسية في توثيق الدوافع والعلاقات والمشاعر بالمسؤوليات الاجتماعية.
3 ـــ المفهوم الإسلامي للخلاص لا ينفصل عن الصيغة الاجتماعية
وقد نلتقي ـــ فيما يواجهنا من حديث ـــ بالتشريعات والتوجيهات الإسلامية، التي تتحدّث عن بعض الأوضاع باعتبارها طريقاً للنجاة أو الخلاص في الدنيا والآخرة. ممّا قد يوحي بابتعادها عن الموضوع الذي نحن بصدده، ولكنّنا نلاحظ، في هذا المجال، أنّ مفهوم الإسلام للخلاص في الآخرة، أو في الدنيا، لا ينفصل عن مفهوم الصيغة الاجتماعية للحياة، نظراً إلى الترابط الوثيق بين التشريع وبين الحياة الاجتماعية ككلّ. فليس هناك تشريع فردي لا يلتقي بالجانب الاجتماعي، إذ لا وجود للإنسان الفرد، في التشريع الإسلامي، بعيداً عن الإنسان ـــ المجتمع ــ بل إنّنا نجد في الفضائل والقِيَم الفردية للإنسان، وجهاً اجتماعياً للفرد، يصنع فيه الإسلام للمجتمع أجزاءه، التي ترتبط فيه في عملية أخذ وعطاء، لتكون عنصر قوّة له لا مجرّد عبء ثقيل يأخذ منه القوّة دون أن يضيف إليه قوّة جديدة.
وبذلك نستطيع أن نفهم من مراعاة الإسلام للجانب الفردي، والجانب الاجتماعي، في الإنسان، أنها عملية تزاوج بين الجانبين والتقاء بين الشخصيتين، وليست عملية ثنائية تخضع الإنسان للشخصية المزدوجة التي يحسّ الإنسان فيها بالانفصال والانفصام، لينتهي إلى الصراع المدمّر الذي يعيش فيه الإنسان واقع الانقسام الذاتي، والتجزئة النفسية. وقد تتّضح لنا الصورة في ملاحظة أعضاء الجسد، التي يملك كلّ واحد منها وظيفة معيّنة، يحتاج معها العضو إلى تدريب خاص به، كما يملك ـــ في الوقت نفسه ـــ وظيفة مرتبطة بالهيكل العام للجسم، لينطلق في تدريب عملي مع الأجزاء الأخرى بشكلٍ جماعي.
وقد تطالعنا بعض النصوص الدينية التي تتحدث عن عقوبة الله التي ينزلها بالمجتمعات المتمرّدة على إرادته، المنحرفة عن الخط الذي رسمه لها، كنتيجة لهذا الانحراف أو التمرّد. وقد يبدو غريباً أنْ يكون لهذه النصوص علاقة بالقوّة الاجتماعية، وبالتالي، بالحديث الذي نعالجه، لأنّ عقوبة الله للمجتمعات على عصيان أوامره أو نواهيه، شأن إلهي يرتبط بالإرادة الإلهية المطلقة لقضايا العقاب والثواب، على المعصية والطاعة. وليست مرتبطة بأوضاع المجتمع في حركته ونظامه، ولكنّ القضية ليست كذلك، فيما يبدو، لأنّ قضية العقاب ليست شيئاً بعيداً عن الأرض، ليكون شأناً سماوياً ـــ كما يقولون ـــ بل هو نتيجة طبيعية لما يخلّفه الانحراف من انحلال للمجتمع، وإضعاف لعوامل الانضباط والتماسك فيه. فإنّنا نعرف أنّ التشريع لم ينطلق إلاّ من خلال ارتباطه بالمصالح الحيوية للإنسان في حياته الاجتماعية، أو علاقته بإبعاده عن المفاسد والمضار الكبيرة في سلوكه. ولذلك فإنّ العقاب الدنيوي انطلق ليكون عنصر ردع في البداية، عندما يكون وعيداً، وعنصر تقويم للحياة في المجتمع، عندما يتحوّل إلى واقع فعلي.
وربّما نستشعر من بعض الآيات أنّ التدبير الإلهي يمثّل الرمز للدمار الاجتماعي. كإيحاء بأنّ العقاب الدنيوي الذي أنزله الله بالناس، كان صورة حيّة للدمار الطبيعي الذي أنزلوه بأنفسهم عندما حوّلوا المجتمع، على أساس الانحراف، إلى مجتمع ضعيف منهار، تحكمه الشهوات والغرائز والمصالح الخاصّة، التي تنتهي به إلى الانحلال والتحلّل والذوبان.
وربّما نفهم من بعض الآيات الأخرى، أنّها تتحدّث عن الدمار الطبيعي، لا عن الدمار النازل من السماء، كما ربّما توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء : 16]
والآية الأخرى في قوله تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41]
فقد نفهم أنّ التدمير، في الآية الأولى، هو التدمير الذي يكون نتيجة للترف الفاسق المائع الذي يميّع المجتمع من حوله؛ كما أنّ الفساد، يمثّل الآلام والأزمات والمشاكل التي يتعرّض لها المجتمع نتيجة الممارسات المنحرفة الخاطئة فيه، التي يتحمّل الناس مسؤوليتها، فيواجهون ـــ في نتائجها ـــ عواقب المسؤولية.
قال تعالى:
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح : 29].
فإنّنا نجد في هذه الصورة الواقعية للمجتمع الإسلامي النبوي، الشعور العميق بالرحمة التي تمثّل الصفة الوديعة للمجتمع، ليتحوّل إلى منهج للعاطفة وللسلوك، يتمثّل في حياتهم شعوراً بالمسؤولية التي تتحرّك في علاقاتهم العملية، حتى نرى الفرد منهم يؤثر أخاه في الله على نفسه فيما حدّثنا الله به، عن علاقة مجتمع الأنصار المسلمين بالمهاجرين الذين جاؤوا من مكّة، لينضمّوا إلى المجتمع الإسلامي الجديد الموحّد، ليزدادوا بإخوانهم قوّة من بعد ضعف، وليزيدوا إخوانهم قوّة على قوّتهم، بما يملكونه من طاقات العلم والإيمان والشجاعة المميّزة، وذلك هو قوله تعالى:
{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ*وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8 ــ 9].
إنّه الشعور بالمحبة والتعاطف والانفتاح على القادمين الهاربين بدينهم، المضطهدين، الذين نصروا الله ورسوله، وصدقوا فيما عاهدوا الله عليه، فأخرجوا من ديارهم وأموالهم، من أجل الله، وهاجروا ابتغاء فضل الله ورضوانه. فهم القوّة الجديدة، للمجتمع الإسلامي الجديد. وها هم أفراد هذا المجتمع من الأنصار، يستقبلونهم بقلوب واسعة فسيحة لا تضيق عن أحد، ولا تحسّ بأيّ ثقل أو عناء من ذلك، بل تتحرّك ـــ مع هذا ـــ في اتّجاه المشاركة العملية، حتّى الإيثار، مع الفقر والحاجة، لا مع الغنى والاكتفاء، فهم يجوعون ليشبع إخوانهم، ويظمأون ليرتووا، ويتعبون ليرتاحوا..
وقد نفهم من أجواء الآية التي تنطلق من قاعدة الإيمان، لا من قاعدة أخرى طارئة، أنّ هذا الإيثار لا يخضع لعاطفة ساذجة، أو لنوبة من نوبات الكرم العربي الأريحي، المشدود إلى الحميّة الذاتية، بل يخضع للروح الإيمانية الواعية، التي تركّز القاعدة الروحية العملية للمجتمع الإسلامي الجديد، الذي يعتبر ذلك كلّه، من مسؤولية أفراد المجتمع كافة.
وقد نستطيع أن نفهم من كلمة الرحمة، الامتداد الرسالي للمعنى الذي يتّسع للأسلوب الإنساني في العلاقات والمعاملات، انطلاقاً من الاستعمالات المتنوّعة لهذه الكلمة، فقد جاءت في الآيات التي تتحدّث عن طبيعة الرسالة، وحركة الرسول، لتعتبر القضية كلّها لا تعدو أن تكون لوناً من ألوان رحمة الله للعالمين.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107].
وجاءت في الآية الكريمة التي تحدّثت عن الأسلوب الليّن المرن، الذي خاطب به النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) المشركين من قومه، وعن الروح الوديعة التي انسابت في سلوكه الإنساني معهم، وعن القلب الكبير الذي اتّسع لهم، ففاض عليهم بالحنان والعطف والمحبّة؛ لتجعل ذلك كلّه مستمدّاً من الرحمة في الإنسان، وفي الرسالة.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159] .
وجاء في الحديث عن الرحمة، أيضاً، في الآية التي ركّزت أساس العلاقة الزوجية في الإسلام على المودّة والرحمة، باعتبار أنّ المودّة تمثّل العاطفة، في إطار الشعور المتبادل بالمحبّة، بينما تُجسّد الرحمة، الفكرة التي تحكم الحياة الزوجية، من خلال تقدير كلٍّ من الزوجين لظروف الآخر، كتجسيد للرحمة في إطار العمل والممارسات اليومية لقضايا الحياة:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم : 21].
وهكذا نفهم من ذلك كلّه، أنّ الرحمة، ليست شعوراً طارئاً يعيش في القلب، ليعبّر عن نفسه في نفحات روحية عاطفية تنهمر في حياة الآخرين الشعورية عاطفة طيّبة ساذجة؛ بل هي منهج للتعامل وللعلاقات، وللسلوك العلمي العام، بما يتضمّنه من مراعاة للظروف الموضوعية المحيطة بأفراد المجتمع، ومن مواجهته للعلاقة الإسلامية التي اعتبرت الإيمان بالله وبرسله، عاملاً وجدانياً ومعنوياً، يؤاخي بين الناس كما يؤاخي بينهم في النسب الذي يجمعهم في ظلّ أب واحد وأُم واحدة، كما قال الله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات : 10].
ممّا يؤكّد لنا أنّ الجانب الاجتماعي في التعامل، مرتبط بالجانب الوجداني المتّصل بالإيمان بالله الذي ألّف بين قلوبهم. وعلى ضوء هذا، لا يشعر الإنسان في طبيعة العلاقات بالجانب القانوني، الذي يخضع لتوجيهات فوقية تأتي من خارج الذّات، بل يتلمّسه طبيعياً عفوياً، كأيّ علاقة أخرى عفوية، أو أي تصرّف عفوي طبيعي، تنساب دوافعه الخيّرة من ينابيع الروح الفيّاضة بمعاني المحبة والعطاء.
وهكذا نفهم كيف تكون هذه الصفة (رحماء بينهم) عاملاً من عوامل التماسك الاجتماعي، وبالتالي مصدراً من مصادر القوّة الاجتماعية.
فإذا انتقلنا إلى الصفة الثانية في هذه الآية:
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح : 29].
نجد العوامل النفسية الموحّدة التي تلتقي بالشدّة والعنف في الموقف، تجاه الكفّار الذين يمثلون العناصر الخارجية التي تهدّد وحدة المجتمع وسلامته، بتهديدهم للأساس الذي يقوم عليه تماسكه وقوّته، وهو الإيمان بالله وبرسله، فيقفون منهم صفّاً واحداً عنيفاً لمواجهته بشدّة وقسوة، لأنّ القضية ليست دعوة واقتناع بل هي قضية ردّ للاعتداء، وردع للأعداء، وحماية للمستقبل.
وقد صوَّر الله لنا هذا الموقف، في صورة تفصيلية في آية أخرى من آيات القتال:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف : 4].
وقد نستوحي من هذه الآية، أنّ هذه الشدّة على الكفّار، لا تقتصر على مواقفهم من المؤمنين، بل تمتد وتتّسع لكلّ عمل من الأعمال التي يراد بها إضعاف المجتمع من الداخل، بإضعاف إيمانه، أو إضعاف نتائج الإيمان، ولهذا التقت المواقف الإسلامية في دعوتها إلى إعلان الحرب على المنافقين، بنفس القوّة والأُسس في إعلان الحرب على الكافرين. كما في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة : 73].
فتتكامل ـــ في هذا الموقف الموحّد ـــ الصورة الإسلامية الرائعة للمجتمع، في علاقاته المستندة إلى الرحمة والتعاون من الداخل ليبني الأساس، وعلاقاته المبنية على الشدّة والقوّة والعنف، في الداخل والخارج، ليحمي البناء من الهدم والتصدُّع.
أمّا الصفة الثالثة: التي تعبّر عن الأهداف التي تجسّدها هذه العلاقات الاجتماعية، والممارسات القائمة على أساسها لتكون الأساس الذي يتميّز به المجتمع الإسلامي، عن المجتمعات الأخرى المعاصرة له، أو المتأخّرة عنه في الزمان، القائمة على أساس قبلي أو اقليمي أو قومي، أو غير ذلك من الأُسس التي لا ترجع إلى الله ولا ترتبط بالله من قريب أو من بعيد، بل هي العصبية، والعنصرية، وما إلى ذلك.
فليس في المجتمع الإسلامي، أيّة اعتبارات ذاتية أو نسبية أو مالية أو لغوية، ممّا تعارف الناس على اعتباره أساساً للعلاقات الاجتماعية أو الدولية، ولتأثيرها في الموالاة والمعارضة، والتأييد والرفض، والحبّ والبغض. بل هناك اعتبار واحد، يحكم هذه العلاقات وينطلق من هدف كبير، يحدّد لهم كلّ شيء في الحياة، فتخضع له مشاعرهم وعواطفهم وأفكارهم وعلاقاتهم العامّة والخاصة، وهو ابتغاء فضل الله ورضوانه، فإنّه الذي تختلف ـــ تبعاً له ـــ قوّة العلاقات وضعفها، حسب اختلاف تمثّلهم لهذا الهدف.
وقد عبَّر القرآن الكريم عنه في هذه الفقرة الكريمة من الآية السابقة:
{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح : 29].
فهم يخلصون ـــ لله ـــ العبادة، من منطلق الإيمان، والحصول على الهدف من فضله ورضوانه، ويخلصون ـــ من خلال ذلك كلّه ـــ لله، في عباده وبلاده، باعتبار ذلك امتداداً لعبادة الله بالمعنى الإسلامي الشامل الواسع لكلمة "العبادة".
ثم تزيد الصورة وضوحاً وإشراقاً بالمثل الذي يتحدّث عنهم في التوراة والإنجيل.
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} وهو الفرخ الذي يخرج في أصول الأغصان {فَآزَرَهُ} فقوي به {فَاسْتَغْلَظَ} فتكامل في نموّه {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} فاستقبل بنفسه، فيبدو في الصورة القويّة التي تجعله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} في منظره وزهوه وقوّته {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح : 29] عندما يشاهدون ملامح القوّة وشموخها وارتفاعها وامتداد جذورها في أعماق الأرض.
إنّه المثل الحيّ للقوّة المتكاملة للمجتمع الذي ينبت صغيراً، ثمّ يفسح المجال للطلائع الجديدة التي تدعمه وتقوّيه. وهكذا يظلّ في نمو وتصاعد حتى ينطلق إلى الحياة شامخاً صاعداً في الفضاء، من موقع القوّة والتماسك والاستقلال.
تلك هي بعض ملامح الصورة المشرقة الواقعية التي توضح لنا الفكرة، على الطبيعة، من خلال التجربة العملية، بعيداً عن كلّ مثالية بعيدة عن الواقع، أو خيال ترفرف عليه الأوهام في أجواء الأحلام. فقد استطاعت هذه الآية أن تشير إلى الصفات التي كانت تطبع مجتمع الإسلام. فتحقّق النصر للإسلام، وتقضي على كلّ عدوان خارجي أو داخلي في مسافة قصيرة من مسافات الزمان.
5 ـــ الصورة الواقعية للمجتمع الضعيف
ويعرض لنا القرآن الكريم صورة أخرى لمجتمع آخر، يمثّل التمزّق والتضعضع والتخاذل، كعامل من عوامل الضعف، وهي صورة المجتمع اليهودي، الذي يغريك تماسكه في ظاهر الصورة، ولكنّك لا تلبث، أن تكتشف التفكّك والتحلّل في واقع الممارسة العملية ـــ لتكون النقيض للمجتمع الإسلامي آنذاك ـــ لندخل في عملية مقارنة واعية بين هزيمة هذا المجتمع، وبين انتصار ذلك المجتمع، عندما وقفا وجهاً لوجه في معركة العقيدة والحياة، وانطلق كلٌّ منهما يستخدم سلاحه الداخلي الذي يحرّك يده، ويدفع خطواته إلى الأمام، فإذا بالسلاح يتحطّم، فتصاب الساحة بالشلل هنا، بينما يتحرّك السلاح هناك فيبعث الحيوية في قلب المعركة.. لتتحوّل المقارنة.. إلى مقارنة جديدة في المعركة المعاصرة بين مجتمعنا وبين المجتمعات الأخرى، التي نخوض معها معركة الحاضر ومعركة المستقبل، في صراع القوّة والضعف، بين الحقّ والباطل.
والآن، نحن مع صورة المجتمع اليهودي، في المدينة، عندما خاض المعركة، مع المجتمع المسلم.
{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [الحشر : 14].
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} إنَّ الشدّة ـــ هنا ـــ لا توجّه ضدّ العناصر التي تهدّد الوجود الواحد، لانعدام الشعور بوحدة المجتمع، لتحوّله إلى وحدات ذاتية متناثرة، لا ارتباط بينها ولا اتصال إلاّ في الصورة التي تختبئ خلفها التناقضات الفردية بين المصالح الشخصية، التي تجعل من كلّ فريق، أو من كلّ فرد، كائناً مستقلاً، بمصالحه وغاياته المتعارضة مع مصالح الفريق أو الفرد الآخر ووسائله وغاياته، ممّا يفسح المجال للصراع والخصام والتصادم، كما هو الحال بين أفراد مجتمع ومجتمع آخر، عندما يعيشون واقع الحرب والقتال، فتكون النتيجة اشتداداً في البأس ضدّ بعضهم البعض، وبالتالي، انهياراً في الموقف وهزيمة في المعركة.
وإذا كانت الظاهرية تمثّل الوحدة التي تجمع الأفراد في صفّ واحد، فهي صورة خادعة، لا تخدع إلاّ البسطاء الغافلين عن الأجواء الحقيقيّة؛ فلا ينظرون إلى واقع الأمور، بل يكتفون بالتطلّع إلى ظواهرها، فتبهرهم وتخدعهم وتبعدهم عن الصورة الحقيقية. فإذا اقتربَت منهم، وعشتَ معهم، وخبرت أوضاعهم، فستجد نفسك أمام صورة أخرى بعيدة كلّ البعد عن الصورة الظاهرة، حيث يطالعك الاختلاف في الانتماءات والاتجاهات والمشاعر، الذي يتفرّع عنه الاختلاف في الخطوات والحركات والمواقف، فلا فكر يوحّدهم، ولا مصالح تجمعهم، بل هو التمزّق في الداخل، يتحوّل إلى تمزّق في الخارج، وذلك هو ما نلتقيه في قوله تعالى: {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}..
ثمّ تختم الآية الصورة بالإعلان عن الأساس في ذلك كلّه، وهو أنّهم لا يعقلون؛ لأنّهم لو عقلوا الحقّ، ونظروا إلى الواقع بعين الحقّ، لانفتحوا على الحياة من باب واسع، لا يضيق بالجوانب العامّة التي توحّد، بل يتّسع لها وللحاجات الفردية التي لا تتناقض مع الحاجات الاجتماعية.
وقد تكون لهاتين الصورتين مهمّة تكريمية في المجتمع الإسلامي، ومهمّة توبيخية نقدية في المجتمع اليهودي، من غير أن يكون الغرض الأساسي من ذلك إبراز عناصر القوّة هنا، أو عناصر الضعف هناك ولكنهما ينطلقان ـــ في الوقت نفسه ـــ في هذا الاتجاه من حيث انطلاق التكريم هنا، والنقد هناك، من قاعدة اعتبار التماسك الاجتماعي مصدر قوّة، وعدمه مصدر ضعف.
6 ـــ الصورة في إطار "المثل"
وقد تلتقينا بعض الآيات القرآنية التي تحدّثت عن الوفاء بالالتزامات العهدية والعقدية، باعتباره أحد الأسس التي تدعم قوّة المجتمع وتماسكه، لأنّ قيمة المجتمع تتحدّد، بمقدار التزام أفراده بالالتزامات التي يلتزمونها، فيما بينهم، لتكون بمثابة القاعدة التي تحكم العلاقات وتحدّد السلوك، لأنّها هي التي تشكّل الوحدة التي تجمع المتفرّقات، وتؤلّف بين المتنافرات، ولهذا اعتبرت الآية الكريمة التالية، الخروج على هذا المبدأ، مصدر ضعف، مهما كانت الظروف والدوافع؛ حتّى في حالة انطلاق الدافع من الشعور بالفوقية والزيادة.
ثمّ حاولت الآية الكريمة إعطاء الصورة للقوّة والضعف، من خلال الالتزام بالعهد، والانتقاض عليه، بأسلوب تقديم المثل الذي يجسّد الصورة المعنوية، في مثال الصورة الحسّية، بالمرأة التي تغزل الصوف وتجمعه بشكلٍ متماسك، ثمّ تنقضه وتفرّقه من بعد قوّة.
{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ*وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 91 ــ 92].
7 ـــ الصورتان معاً في الأسلوب المقارن
وتواجهنا الآية الكريمة التي تدعو المجتمع إلى التماسك على أساس الاعتصام بحبل الله جميعاً، وتنهاهم عن التفرّق لأنّ دوافع التفرّق، مهما اختلفت وكثرت وتعاظمت، فلا يمكن أن ترقى إلى مستوى الأهمية التي تهدّد الاعتصام بحبل الله ـــ لأنّه فوق ذلك كلّه ـــ باعتبار أنّ الارتباط الإنساني بالله هو العلاقة الأولى الثابتة الدائمة، لأنّها تبتدئ من بداية الوجود في الدنيا، وتستمرْ إلى نهاية الوجود فيها، لتبدأ ـــ من جديد ـــ في الحياة الأخرى، بينما تتمثّل الارتباطات الأخرى في علاقات محدودة عابرة، لا تقوى على الاستمرار، فضلاً عن الخلود.
ثم تنطلق الآية في أسلوب مقارن بين واقعهم الحاضر في ظلّ الاعتصام بحبل الله الذي يمثّل القوّة والتماسك، وبين واقعهم الماضي في ظلّ الجاهلية البعيدة عن الله، ليعرفوا نعمة المحبّة والسلام الروحي التي يستمتعون فيها الآن، إلى جانب ما كانوا عليه من عداوة وحرب نفسية وجسدية، في كلّ ما تنتجه هذه، وتفرزه تلك، من دعوات الخير أو دعوات الشرّ، وفي كلّ ما تؤدّي إليه هذه أو تلك من السعادة أو الشقاء في الدنيا والآخرة، وفيما تمثّله ـــ في حياتهم من قوّة في هذا الواقع، أو من ضعف في واقع التاريخ.
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران : 103].
إنّه التسلسل المنطقي لولادة التماسك الاجتماعي، الاعتصام بالله الذي يمثّل اللقاء على قاعدة الإيمان، وحركة الشريعة ووحدة الأهداف ثمّ التأليف بين القلوب كنتيجة طبيعية لوحدة الانتماء والهدف، ثمّ التحوّل إلى علاقة الأخوّة في الله التي قرّرتها إحدى الآيات الكريمة في سورة الحجرات:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات : 10].
ذلك هو الموقف الأساس، في الفكرة الإسلامية للتماسك الاجتماعي الذي يمثّل أساس القوّة، من حيث ارتباطه الحيّ بالمسؤولية الإيمانية، ومن حيث هو صورة للواقع الذي يريد الإسلام بناءه في حياة المسلمين، ليجسّد النموذج الحيّ للمجتمعات الأخرى، لتقتدي به، فترتبط بالإسلام من خلاله.
8 ـــ مع القوّة الاجتماعية في عناصرها التفصيليّة
أمّا تفاصيل الفكرة، ومفرداتها التشريعيّة، التي أراد الإسلام ـــ فيها ـــ تحويل هذه الأجواء إلى ممارسات عملية، تتحدّد خطواتها بالقوانين الشرعية التي تخطّط للإنسان الطريق السويّ، الذي يسير فيه، وترشده إلى الخطوات الإيجابية التي تخدم الفكرة وتعمّقها وتقوّيها، وإلى الخطوات السلبية التي تقف حائلاً بين العناصر التي تريد أن تضعف المجتمع، وبين الوصول إلى أهدافها، لتتكامل للمجتمع قوّته من الداخل في بناء عناصر القوّة واستكمالها، ومن الخارج في تهديم الحواجز المادية والبشرية، التي توضع في الطريق لتمنع المجتمع من القوّة والنمو والتقدّم والازدهار.
وسوف نجد فيما نستقبل من هذا الحديث، أنّ البحث الذي نعالجه يتفرّع إلى عدّة جوانب، في الخطّ الإيجابي والسلبي، لأنّ قوام المجتمع وقوّته، بجوانب ثلاثة: الجانب الفكري، والجانب العاطفي أو الشعوري، والجانب السلوكي أو العملي. ولكلٍّ من هذه الجوانب، خطّ إيجابي يتمثّل في إغناء المضمون الداخلي للمجتمع بالفكر الواحد، والشعور الواحد، والسلوك المنسجم مع الفكر والشعور والهدف المشترك الواحد.
وسنحاول أنْ نتلمّس كلّ جانب من هذه الجوانب بصورة موجزة.
9 ـــ الجانب الفكري ـــ الخطّ الإيجابي
يؤكّد الإسلام على المحافظة على الأساس الفكري الواحد الذي يوجد بين أفراد المجتمع، ابتداءً بالعقيدة، وانتهاءً بالمفاهيم العامّة للإنسان والحياة، فلا مجال لأي ازدواجية في العقيدة، ولا موضع لأيّ اختلاف في المفاهيم العامة؛ لأنّ ذلك يفسح المجال للثغرات العملية في الهيكل الفكري والعملي في حياة المجتمع.
ونلاحظ في هذا المجال، النصوص القرآنية التي كانت تركّز على الفكرة الواحدة، في حديث العقيدة، عندما تطرح قضية الإيمان باعتبارها أساس اللقاء بين المسلمين في مجتمعهم، وبين المسلمين وغيرهم في مجتمع التوحيد.
ففي المجتمع الإسلامي، جاءت الدعوة إلى توحيد الإيمان فيما عبّرت عنه الآية الكريمة:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة : 285].
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف : 158].
وفي مجتمع التوحيد الرسالي، جاءت الدعوة إلى توحيد الأسس العامة للإيمان في خطابه لأهل الكتاب في قوله تعالى:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 64].
وجاء قوله تعالى ـــ في هذا المجال ـــ فيما يجب أن يقوله المؤمنون للآخرين في وضع الأساس الصحيح لوحدة الإيمان، في الدعوة إلى اللقاء:
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة : 136].
ونلتقي ـــ في هذا الجانب ـــ بالآيات الكريمة التي تتحدّث عن مواطن اللقاء الفكري، تحت شعارات متنوّعة.
فهناك شعار الاعتصام بحبل الله في قوله تعالى:
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران : 103].
والاعتصام بالله في قوله تعالى:
{وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران : 101].
والاستمساك بالعروة الوثقى:
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 256].
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان : 22].
وقد نلتقي ـــ في هذا الجانب ـــ بالآيات التي تحدّثت عن هؤلاء الذين يعيشون في حياتهم الازدواجية الفكرية بين الكفر والإيمان ليشجب ذلك فيهم ويتوعّدهم بالعذاب عليه، في مقارنة، بينهم وبين المؤمنين الذين يعيشون وحدة الإيمان وشموله.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً*أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً*وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 150 ــ 152].
{ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة : 85].
10 ـــ الجانب الفكري ـــ الخطّ السلبي
يؤكّد القرآن الكريم على رفض التيّارات والاتّجاهات الفكرية الكافرة والمنحرفة، وعلى التنديد بالجماعات المختلفة التي تحاول أن تفسح المجال للإلحاد والكفر بالرسالات والرسل، انطلاقاً من المحافظة على امتيازاتها الشخصية أو الطبقية. ويركّز على مواجهتها بكلّ طريقة ممكنة، سواء باللجوء إلى الحوار الذي يكشف زيف أفكار الكفر والضلال، فيما يمكن فيه الحوار، أو اللجوء إلى عملية التعرية الكاملة لكلّ هؤلاء، أو شنّ الحرب عليهم، أو غير ذلك من وسائل إضعافهم وتجميدهم.
وقد تحدّث القرآن عن كثير من الأفكار والاتجاهات المضادّة، كما تحدّث عن كثير من الجماعات الضالة التي تقف في وجه الرسالات باعتبارها عاملاً من عوامل إضعاف قوّة المجتمع، بالعمل على تهديدهم الأُسس الفكرية، لتحوّله إلى مِزَق وشِيَع وأحزاب، من غير فرق بين الجماعات التي تلبس لبوس الدين والفكر، أو التي تعمل في حقل السياسة والاقتصاد.
ونلاحظ في هذا المجال وجود نماذج ثلاثة بارزة فيمن تحدّث عنهم القرآن الكريم:
1 ـــ المترفون، الذين يملكون المال الوفير، فيعملون على أن تكون لهم حريّة التحكّم والاستغلال والسيطرة، لتبقى مصالحهم مزدهرة في خدمة أنانيتهم ومطامعهم، فيواجهون كلّ دعوة من دعوات الخير التي تجمع الناس على القضايا العامّة الواحدة الموحّدة، ليعيش الناس في مجتمع العقيدة البعيدة عن الضلال، والأهداف القائمة على الحقّ والتوحيد، البعيدة عن معاني الشرّ والاستغلال، وتكون النتائج العملية لذلك، أن يستخدموا أموالهم في حرب النبوّات وأصحابها، والرسالات وقياداتها وأتباعها، أو يثيروا الفرقة والشغب والتمزّق والانحلال.
وقد حدّثنا القرآن عنهم في أكثر من آية، تلتقينا في الجانب الفكري، هنا، وفي الجانب العملي فيما يأتينا من حديث، لتوحي إلينا بضرورة الوقوف في وجه مخطّطاتهم التخريبية الانحرافية، التي تعمل على إضعاف المجتمع وتدميره.
قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ*وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ*قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 24 ــ 36].
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ*وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ*أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ*هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ*إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ*إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون: 33 ــ 38].
فإنّنا نلاحظ في تركيز القرآن الكريم على المترفين، باعتبارهم الطبقة الاجتماعية المعارضة للرسالات، أنّهم ينطلقون في موقفهم هذا من الطبيعة المعقّدة لأوضاع الترف التي يعيشون فيها ومن الامتيازات الاجتماعية التي تجعل لهم حرية الحركة في السيطرة والاستغلال، ممّا يتعارض مع خطّ الرسالات وتخطيطها للحياة الكريمة، البعيدة عن استغلال الإنسان للإنسان، من خلال الشعور بالفوقية المستندة إلى المال أو الجاه أو غيرهما من شؤون الحياة.
ونلاحظ ـــ في الآيات الأخيرة التي قدّمناها ـــ أنّ المترفين كانوا يوجّهون نداءهم إلى الطبقات الأخرى لإبعادها عن المرسلين، من دون أن يرتفع هناك صوت مقابل، ممّا يدلّ على استسلامها للضغوط الاقتصادية الكبيرة، المفروضة عليها من قِبَل هؤلاء.
2 ـــ المفرّقون من علماء الدين وغيرهم، من رجالات السياسة والحاكمين، الذين يتعاملون مع عناصر الفرقة والاختلاف، الموجودة في المجتمع، أو التي يعملون في صنعها وإيجادها في كيانه؛ ليستطيعوا أن يعبثوا ما شاء لهم العبث، ويستغلّوا ما أمكنهم الاستغلال، أمَّا سبيلهم إلى ذلك فهو تنمية الاختلافات الفكرية، لتحويلها إلى حواجز كبيرة تفصل المجتمع عن بعضه البعض، بما تضيفه إليه من عوامل شعورية، وأطماع حياتية، تجعل من الفكر كياناً بشرياً لمن يفكّرون به، حتى لو كان هناك أكثر من جانب يلتقون عليه، ويتحرّكون منه. على أساس ارتكاز الخلافات على أشياء جانبية، أو قريبة من ذلك. ولكنّ هؤلاء المتاجرين بالخلافات الفكرية يظلّون يلاحقون عوامل الفرقة، ويهملون عوامل اللقاء، فيحوّلون المجتمع إلى مِزَقٍ وشِيَعٍ وأحزاب تمثّل في حياته، عدّة مجتمعات متفرّقة متنافرة في مشاعرها ومصالحها وأهدافها. ممّا يفقد المجتمع وحدته وقوّته وسلامته. ونلتقي في هذه الظاهرة بالخلافات الدينية التي تقسم المجتمع إلى طوائف، في إطار الدين الواحد، وبالخلافات السياسية التي يتوزّع المجتمع فيها إلى عدّة أحزاب، وتتجزّأ فيها البلاد إلى عدّة أوطان أو أقاليم.. وهكذا تمتدّ وتتّسع حتى يسقط المجتمع صريعاً أمام أنانيات هؤلاء، في لعبة الصراع الدامي بين المصالح المتنافرة، والأطماع المتباينة والأفكار المختلفة التي تغذّي تلك المصالح وتسند هذه الأطماع.
ونلتقي في هذا الجانب بالآيات الكريمة التي تتحدّث عن بعض هذه النماذج الموجودة في كلّ زمان ومكان:
1 ـــ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام : 159].
2 ـــ {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران : 105].
3 ـــ {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال : 46].
4 ـــ { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم : 31].
5 ـــ {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران : 19].
6 ـــ {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ*وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى : 13ــ 14].
ونلاحظ التركيز في بعض هذه الآيات على اعتبار السبب في اختلاف الذين أوتوا الكتاب، وفيما اختلفوا فيه، هو البغي والحسد والعداوة من غير أن يكون للأسس العلمية أيّ أثر في ذلك. ولذلك استحقّوا العذاب على ما قادوا إليه أتباعهم من اختلاف وتفرّق، وما أوقعوه فيهم من نزاع وقتال؛ لأنّ القضية قضية أهواء تتبع، لا أفكار تتعارض وتتصادم، وهذا ما تؤكّده الآية الكريمة:
{وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ*ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 17 ــ 18].
3 ـــ أصحاب الدعوات الكافرة والضّالة الذين يتحرّكون في الداخل، أو من الخارج، من أجل إضعاف الركائز الأساسية للعقيدة، أو تدميرها كسبيل من سبل تحطيم وحدة المجتمع وقوّته. فقد أراد الإسلام من المسلمين أن يقفوا ضدّهم ويمنعوهم من ممارسة حريّتهم في ذلك، لئلا يستغلّوا بعض نقاط الضعف في المجتمع، فينفذوا من خلالها إلى فكره وعقيدته وحياته.
11ـــ حرية الفكر في الإسلام
أمّا حريّتهم الفكرية المستندة إلى ما يؤمن به الإسلام من حرية الفكر في أنْ يختار ما يشاء من عقيدة، أو يريد من فكر، انطلاقاً من قوله تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة : 256].
وقوله تعالى:
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [الكهف : 29].
أمّا حريّتهم الفكرية هذه، فقد كفلها الإسلام في إطارها الفكري الخالص، الذي يتّجه إلى أصحاب الفكر وأهل الاختصاص ليحاوروهم ويناقشوهم فيقنعوهم بما يعتقدون أو يفكّرون به، أو يقتنعون بما لديهم من فكر وعلم وعقيدة. وذلك في المجامع الثقافية، وفي الندوات المفتوحة التي يشرف عليها العلماء الكبار، الذين يملكون القدرة على الدفاع والهجوم والإقناع والاقتناع.
وبهذا نفهم الحرية الفكرية في الإسلام، مزيجاً من الحرية والالتزام، فليست حرية مطلقة تفسح المجال للفوضى أن تتحرّك في حياة الناس وأفكارهم، من دون حماية لهم من عوامل الضلال أو عناصر الضعف، أو رعاية لعقيدتهم أن تنمو في جوّ طبيعي، وليست التزاماً مطلقاً يغلق عليهم نوافذ التفكير، أو يحجّر عليهم أن يطلعوا على الأفكار المضادّة التي يفكّر بها الآخرون. فمن حقّ الإنسان أن يفكّر كما يريد ويتبنّى ما يريد؛ لأنّه هو ـــ وحده ـــ الذي يتحمّل مسؤولية عقيدته وفكره، ولكن، من حقّ الدعوة أن تدافع عن نفسها وفكرها، ومن واجبها أن تبطل كلّ دعوة على خلافها.
ولذلك رأينا القرآن يفتح صدره لكلّ الأفكار المضادّة التي عاشت في عصره، كما يغرينا بالتفكير في أمثالها ممّا يعاند الحقّ ويدعم الباطل، ثمّ ينقل إلينا الفكرة بكلّ أمانة من دون زيادة ولا نقصان. حتّى إذا انفتح للإنسان مجال التفكير فيها، لم يدعها تدخل إلى فكره وحدها، بل يثير أمام الإنسان فكره الذي يقابلها، ودفاعه الذي يرد هجومها، ليعيش في فكر مقارن، يمنحه قوّة الحركة في إطار حريّة الفكر، الخاضعة لنظام دقيق من الشعور بالمسؤولية والالتزام. ونلاحظ في الجانب التطبيقي لهذا النوع من الحريّة الفكرية في الإسلام تاريخ الدعوة في الإسلام، ورجالاتها الذين كانوا يفتحون قلوبهم وأفكارهم وندواتهم ومساجدهم على الأفكار المضادّة، التي تصل إلى حدّ الإعلان عن الإلحاد بكلّ صراحة، في ميدان الصراع، كما ينقل لنا تاريخ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، الذي كان يقيم ندوات الحوار مع الزنادقة في بيت الله الحرام، ويمنحهم حرية الكلمة من دون ضغط أو إكراه، أو محاولة لإثارة الغوغاء، أو المتديّنين المتحمّسين ضدّهم، إيماناً منه بأنّ الحرية الموجّهة هي السبيل الوحيد للوصول إلى الإيمان، ولقوّة الفكر الجديد.
وينقل لنا بعض ذلك تاريخ الخلافة العبّاسية، في عصر المأمون الذي عقد للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، ندوة مفتوحة، أقام فيها الحوار الحرّ الشامل مع أهل الفرق والديانات والمِلَل المختلفة، في إطار من الحرية والتسامح الرائع المطلق. إنّ الإسلام يؤمن بحريّة الفكر، كجزء من إيمانه بالحريّات العامة للإنسان في الحياة الاجتماعية، بالقدر الذي لا يسيء إلى النظام الاجتماعي للناس، ولا يسمح لنقاط الضعف أن تعبّر عن نفسها في حركة تراجع وانهيار، دون حماية فكرية مماثلة تغذّيها بعوامل القوّة الكبيرة. ولذلك، فهو يحاول أن يحتاط لنفسه وللمجتمع، باعتبار أنّ قوّة المجتمع هي بالسيطرة المطلقة للإسلام على نظامه. تماماً، كأيّ نظام ملتزم بعقيدة معيّنة، فلا تسمح بالحرية، لأعداء الحرية، بل تعطيها لأصدقاء الفكر الحرّ الهادف، الذين يعيشون مسؤولية الفكر بنفس القوّة التي يمارسون فيها مسؤولية الحياة.
وخلاصة القول، في الجانب الفكري، للقوّة الاجتماعية، أنّ الإسلام ـــ ينظر إلى الفكرة، كأساس للتماسك والتوازن الاجتماعي الذي يمثّل الوحدة المرادفة للقوّة. ولذا فإنّ المسؤولية الإسلامية تفرض على المسلمين، أفراداً أو جماعات، أن يعملوا على تقوية الفكرة، في ذاتها بالتوفّر على جانب العمق فيها بالإضافة إلى جانب الامتداد والشمول، لتحافظ على نموّها الطبيعي المزدهر ويتحرّكوا ـــ في هذا الاتجاه ـــ نحو الأفكار المضادّة، أو الجماعات المضادّة ـــ ليواجهوها بكلّ قوّة، سواء أتمثّلت القوّة بالحوار لمن يريد الحوار، ويحترم الصراع الفكري في إطار الفكر السليم فيلتزم بنتائجه، أيّاً كانت، أم تمثّلت بالعنف، في الكلمة أو في غيرها لمن لا يريد الحوار؛ بل يصرّ على التخريب أو التهديم بعيداً عن كلّ مسؤولية أو التزام.
12ـــ الجانب الشعوري أو (العاطفي) ـــ الخطّ الإيجابي
إنّ من الملاحظ، في تخطيط الإسلام للعلاقات الإنسانية، ارتكاز التخطيط على قاعدتين، القاعدة القانونية التشريعية، والقاعدة الشعورية. ففي القاعدة الأولى، تنظيم للجوانب القانونية التي تحدّد لكلّ طرف من أطراف العلاقة حدوده التي لا يتجاوزها، وتضبط له حركاته وخطواته التي يتحرّك من خلالها، لئلا تقع العلاقات في إطار الفوضى التي تدمّر كلّ شيء حولها. أمّا القاعدة الثانية، فتتّجه إلى ربط العلاقة بالإحساس، لتتحوّل الروابط التي تخضع لها العلاقات، إلى مشاعر ذاتية صميمة، تنطلق منها الأوضاع والخطوات الضرورية، بطريقة عفوية رائعة، لا أثر للإجبار أو التكلّف فيها من قريب أو من بعيد.
إنّ هذا التخطيط الدقيق يتحرّك ضمن فلسفة واقعية عميقة الغور في داخل تكوين الإنسان، الذي تتحوّل ـــ فيه ـــ الممارسات القانونية، والروابط الاجتماعية، إلى عبء ثقيل، يثقل كاهل الإنسان، ويُقيّد خطواته ويدفعه إلى التمرّد عليه، نظراً إلى ثقل الالتزامات على نفس الإنسان، لا سيّما إذا كان لها صفة الدوام والشمول. ولهذا كان لا بدّ من إخضاع الإنسان إلى حالة شعورية حميمة، يتفاعل فيها مع طبيعة العلاقة، كما يتفاعل مع الأشياء التي تتّصل بقضاياه الذاتية. وهذا ما سلكه الإسلام في كلّ وضع قانوني اجتماعي يستتبع التزامات محدّدة على الأفراد والجماعات، فحاول أن يجعل القانون يتحرّك في ضمن قوانين غير إلزامية، وتوجيهات أخلاقية وظروف عاطفية، تحوّل الممارسة إلى عمل ذاتي محبَّب.
وعلى ضوء ذلك كان التخطيط الإسلامي لقضية التماسك الاجتماعي، الذي ترتكز عليه القوّة الاجتماعية للمجتمع المسلم. فكانت الخطّة الإيجابية أن تتحوّل علاقة المؤمنين ببعضهم إلى شعور حيّ يتفاعل مع آلام المجتمع ومشاكله وحاجاته، تماماً، كما هو الإحساس العاطفي بقضايا الذات، وقضايا الأسرة؛ لأنّ الإسلام يعتبر المجتمع مؤسسة إنسانية كبيرة، تخضع للتخطيط الذي وضعه للمؤسسات الإنسانية بصورة عامّة.
ويتمثّل هذا الجانب، في التأكيد على طبيعة العلاقة الاجتماعية، التي تفرض انسياب المشاعر الإنسانية في حركة تعاطف مع كلّ الهموم الحياتية، بحيث يتمثّل في وعي الإنسان وإحساسه، كهموم شخصية، على أساس وحدة الشخصيتين الفردية والاجتماعية في شعوره بالحياة، وارتباطهما ببعضهما ـــ على الأقل ـــ .
13ـــ المجتمع المؤمن وحدة عضوية
فكان من توجيهاته الاجتماعية، اعتبار المسلمين في حياتهم الجماعية وحدة عضوية في الآلام والمشاعر، تماماً، كمثل الجسد الواحد، في علاقة أعضائه ببعضها البعض من الناحية الشعورية، ممّا يوحي للإنسان بأنّه لا يمثّل وجوداً مستقلاًّ، أو شخصية مستقلّة، تجاه الآخرين، بل يمثّل جزءاً من كل، تماماً كما هي اليد مع الأخرى، والعين مع أختها، والرأس مع الجسد، وهكذا؛ لأنّ صفته الإسلامية تفرض ذلك، من ناحية الكيان الإسلامي المرتبط بأجزائه في تحقيق الأهداف الكبرى للمجموع، وفي استمرار الأُسس الفكرية والروحية في فاعليتها وعطائها الكبير.
وقد عبَّر عن ذلك الحديث النبوي الشريف المشهور..
"مثل المؤمنين المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمَّى".
ونلاحظ ـــ في هذا الحديث ـــ التركيز على الوحدة الشعورية، التي تمثّلها، كلمة (توادهم وتراحمهم) التي توحي بالمودّة القلبية والرحمة الروحية.
14ـــ المؤمنون إخوة
ونلاحظ في بعض الآيات القرآنية، إعطاء العلاقة الإيمانية، طابع الأخوية، من حيث قوّة الأساس الذي يخلق الارتباط.
وبهذا اعتبر التحرّك نحو المسؤولية العملية نتيجة طبيعية لذلك، كما ورد في قوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات : 10].
ونلتقي مع بعض الأحاديث النبوية الشريفة، التي تجعل الاهتمام النفسي بأمور المسلمين، من المقوّمات الأساسية للشخصية الإسلامية، بحيث يخرج الإنسان الذي يفقد هذا الاهتمام، فيعيش جوّ اللامبالاة إزاء آلام الآخرين ومشاكلهم، عن صفته الإسلامية، ممّا يجعل القضية الاجتماعية مرتبطة بالتكوين النفسي للإنسان المنتمي للإسلام. وبهذا تلتقي الشخصية الفردية بالشخصية الاجتماعية في الإسلام، وذلك هو الحديث المأثور عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم):
"مَنْ أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"(1).
ولم يقتصر الإسلام على هذه العلاقة صفة الأُخوّة، من ناحية تشريعية، بل حاول أن يخضعها للتجربة العملية في المجتمع الإسلامي الأول في المدينة، عندما آخى النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بين المهاجرين والأنصار، باعتبار فرد ما من المهاجرين أخاً لفرد من الأنصار، وبين المهاجرين أنفسهم، والأنصار أنفسهم. وكان من أثر هذا التآخي العملي، أنْ عاش المسلمون هذه الروح، في إطار نفسي يتحوّل إلى مسؤولية عملية عفوية تجاه بعضهم البعض، حتى كان أحدهم يشاطر أخاه الجديد في الإيمان إذا لم يكن لديه مال، انطلاقاً من فكرة الإيثار التي تفرضها مشاعر الأُخوة وأحاسيسها.
15ـــ الحبّ في الله والبغض في الله
وكثرت الأحاديث التي تتحدّث عن الحبّ في الله والبغض في الله، كأساس للعلاقة بين المؤمنين التي ترقى إلى مستوى القيمة التي تقرّب المؤمنين إلى الله، وتجعلهم جديرين بثوابه. ممّا يعطي القضية اتّجاهاً إيجابياً في تصنيع العاطفة، بحيث تتحرّك مع حركة العقيدة، وتنسجم مع أجوائها، وبذلك يتحوّل الإيمان بالله إلى رابطة عاطفية، إلى جانب اعتباره رابطة فكرية، تجمع الناس على أساس الفكر والوجدان.
فمن هذه الأحاديث، ما ورد عن الإمام محمد بن عليّ الباقر (عليه السلام): "إذا أردتَ أنْ تعلمَ أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإنْ كان يحبّ أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك، وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع مَنْ أحبّ"(1).
وفي حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
"مَنْ أحبّ لله وأعطى لله فهو ممّن كمل إيمانه"(2).
وفي حديث آخر عنه:
"كلّ مَنْ لم يحبّ على الدين ويبغض على الدين فلا دين له"(3).
ولعلّ من البديهي، القول بأنّ القضايا الشعورية والعاطفية لا تفرض فرضاً، ولا يمكن إيجادها بقانون تشريعي، بل هي عملية داخلية تخضع للقناعات الفكرية التي تتحوّل ـــ بفعل وضوح الرؤية في الهدف ـــ إلى أشياء ذاتية تستقرّ في الأعماق، وتظلّ تنمو في حركة تدريجية حتى تلامس الشعور فتبدأ في التحوُّل إلى فيض عاطفي، وحالة شعورية حميمة.
16ـــ الجانب الشعوري ـــ الخطّ السلبي
لقد أكّد الإسلام على مواجهة الحالات العاطفية الذاتية، المنطلقة من صلات القرابة والصداقة، بشكلٍ حاسم، فأراد أن يخضعها للخطّ العتيد الذي يجعل الإيمان والكفر، مقياساً للتعامل العاطفي مع الأشخاص والأشياء، فليس هناك أيّ مجال للعاطفة الأبوية والأخوية وغيرهما من علاقات الرحم، فيما إذا كان الأب أو الأخ أو الابن، منحرفاً عن خطّ الله، ومتمرّداً على أوامره ونواهيه؛ لأنّ حركة العاطفة والشعور في هذا الاتجاه، تخفّف كثيراً من الشعور بقيمة الإيمان بالله في نفس الإنسان، لأنّ معنى أنْ تحبّ إنساناً يرفض الإيمان ويحتقره ويحاربه ويتمرّد عليه، أنّك لا تقيم وزناً لذلك في علاقاته، ممّا يجعلك تفضّل الجوانب الذاتية على الجوانب العقيدية في عملية التقييم والتفضيل، أمّا بالنسبة إلى الأشياء التي تحيط بالإنسان، أو تواجهه في حياته، ممّا يرتبط به الإنسان شخصياً أو مالياً أو غير ذلك من الروابط الطارئة، فلا بدّ للإنسان المؤمن، من التخلّص من الجوّ العاطفي الذي يربطه بها، ليظلّ مع رسالته، ومع ربّه، لئلا تصرفه هذه الأشياء عن رسالته وعن ربّه، عندما تضغط عليه بقوّة، في حالة اتّجاه دعوة المسؤولية إلى رفضها، أو التنكُّر لها، والسير بعيداً عنها في مجالات التضحية والفداء.
وبذلك تفقد العاطفة السلبية، التي تدعوه إلى الخروج على الأسس الرسالية التي ارتكز عليها المجتمع، دورها في إضعاف الفرد عن حركة المسؤولية، وبالتالي، تفقد تأثيرها على حركة المسؤولية في حياة المجتمع، عندما تدعوه إلى إفساح المجال للعواطف العائلية، لتفصله عن قِيَم المجتمع وسلامته ووحدته.
إنّ الإسلام يوجّه الإنسان إلى رفض هذه العاطفة، إذا اقتربت من قيمه الكبيرة، ليربطه بالعاطفة الكبيرة الممتدة في حياة المجتمع ككلّ، لتبقى العاطفة الذاتية، مجرّد تلامس الإحساس، ولكنّها لا تستطيع أن تحرّكه بعيداً عن أهداف المجتمع وأوضاعه ومصالحه الحيويّة.
أمّا الفكرة العامة التي تدعو إلى رفض العاطفة الذاتية، فيما إذا تعارضت مع العاطفة الرسالية ـــ إنْ صحّ التعبير ـــ فتتمثّل في الآيات الكريمة:
1 ـــ {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة : 22].
2 ـــ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة : 23].
3 ـــ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة : 23].
أمّا الفكرة التي توافق على وجود العاطفة الشخصية، ما لم تقترب من الجانب الشعوري والعملي للإيمان بالله، فتتمثّل في الحديث الذي يرويه الزهري عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، في تحديد العصبية التي حاربها الإسلام.
إنّ العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم.. (1).
وبهذا يرتفع الإسلام إلى أعلى درجات الواقعية، حينما لا يكلّف الإنسان التخلّص من العواطف الأصلية في نفسها لارتباطها بالجوانب الذاتية من شخصيته، بل كل ما يدعوه إليه، أن يمنعها من الاقتراب من منطقة الإحساس بالإخلاص للعقيدة، والسير في طريقها بقوّة واندفاع، وبذلك يضمن الإسلام للمجتمع حمايته من النوازع الفردية التي تضعف قوّته وتهدّد سلامته.
17ـــ الجانب العملي ـــ الخطّ الإيجابي
لا بدّ لكلّ رابطة فكرية أو عاطفية من مخطّط عملي تنفيذي، يجسّد الفكرة في عمل، والعاطفة في حركة، لأنّ ذلك هو شرط واقعية الفكرة، وحيويّة العاطفة، فلولاها لكانت العملية كلّها خيالاً أو حلماً يعيش في الضباب.
ولذلك حاول الإسلام أن يعطي الفكرة، أو العاطفة، دورها العملي، في ميزان القيمة الدينية، وفي مجال التخطيط الواقعي، فلم تعد مجرّد شيء يعيش في الفكر، أو يرقد في الشعور، دون أن يتعدّاه أو يتجاوزه.
وقد أكثر القرآن الكريم من الحديث عن الإيمان ومقارنته بالعمل، باعتباره المظهر الوحيد لصدق الإيمان وواقعيّته في داخل الذات، حتى أنّنا نرى كثيراً من الآيات والأحاديث الدينية، التي تُعبّر عن التمرّد العملي، بأنّه كفر، لتساوي الكفر العقيدي، والإيمان المجرّد عن العمل، في النتائج الواقعية، لأنّهما يمثّلان وجهين من وجوه الانحراف العملي عن الخطّ المستقيم، فإذا اتّحد الواقع فيهما، لم يبقَ لتعدّدهما الذاتي أيّة قيمة حركية أو اجتماعية.
فمن الآيات الكريمة التي سارت في هذا الاتّجاه:
{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97].
ومن الأحاديث الشريفة ما ورد في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن وجوه الكفر:
الوجه الرابع من الكفر: ترك ما أمر الله عزّ وجلّ به وهو قول الله عزّ وجلّ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ*ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فكفرهم بترك ما أمر عزّ وجلّ به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: {فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 84 ــ 85].
ونلاحظ، في بعض الآيات، الاتّجاه إلى التنديد بالكافرين، من حيث انتهاء الكفر إلى الانحراف العملي، ممّا يجعل خطورته العملية امتداداً لخطورته الفكرية، في حياة الناس، فتبدأ في الحديث عن الانحرافات من حيث أنّها مظهر من مظاهر الكفر كما في قوله تعالى:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1 ــ 3].
وعلى ضوء ذلك، فقد ركّز الإسلام القوّة الاجتماعية على قاعدة التماسك الاجتماعي، من خلال الالتزام بالمسؤوليات العامة والخاصة كمظهر من مظاهر الترابط الفكري والعاطفي.
18ـــ المسؤولية الشاملة
نلاحظ ـــ في البداية ـــ أنّ الإسلام أعطى المسؤولية بُعداً شاملاً ممتداً في حياة الناس، فاعتبر العمل الاجتماعي مسؤولية المسلمين جميعاً تحت طائلة العقوبة الإلهية، فعلى كل واحد من المسلمين، حمل المسؤولية، والقيام بها، تبعاً للمساحة التي يشغلها وجوده، وللدور الذي يمثّله مركزه وذلك هو ما يمثّله الحديث النبويّ المشهور:
"كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته"(1).
ونجد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت، التأكيد على هذه المسؤولية فيما يملكه الفرد من طاقات، ليبذلها للمجتمع الذي يحتاج إليها، لأنّ طاقات المجتمع، هي طاقات الأفراد، فمن حقّ المجتمع على أفراده أن يوجّهوا طاقاتهم في ميادينه، ولا يحبسوها عنه، أو يستغلّوها في منفعتهم الشخصية، أو ينحرفوا بها عن وجهها، ويحوّلوها إلى غير سبيلها. فقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
"إنّ الله لم ينعم على عبد بنعمة إلاّ وقد ألزمه فيها الحجّة من الله، فمن منَّ الله عليه، فجعله قوياً، فحجّته عليه القيام بما كلّفه، واحتمال مَن هو دونه ممّن هو أضعف منه، ومن منّ الله عليه فجعله موسَّعاً عليه، فحجّته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بنوافله وفرائضه، ومَن منّ الله عليه فجعله شريفاً في بيته، جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن يحمد الله على ذلك، وأن لا يتطاول على غيره فيمنح حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله".
ونلاحظ ـــ في هذا المجال ـــ التركيز ـــ في هذا الحديث ـــ على كلمة "الحجّة" التي توحي بفكرة الأساس الذي يجعل المحاسبة على التقصير مستندة إلى حجّة قوية من الله على الإنسان، فيما يفعله، وفيما يتركه، بما رزقه من طاقات على القيام بمسؤولياته.
19ـــ التكافل الاجتماعي
وقد قرّر الإسلام نظام التكافل الاجتماعي، في التشريعات القانونية الإلزامية، وفي التخطيط الأخلاقي لشخصية الإنسان وسلوكه في مفاهيمه العامّة عن الكون والحياة. ونجد ذلك المجال المالي، في نظام الحقوق الشرعية الواجبة والمستحبّة، التي اعتبرها حقّاً أساسياً للفئات المحرومة، لا تمثّل فكرة "الإحسان" بقدر ما تمثّل فكرة "الحقّ" حتى رأينا الحديث الشريف المأثور، يصف الفقراء بصفة "الشركاء" فيعتبر الفقير شريكاً للغني بمقدار الحقّ الشرعي، بكلّ ما توحيه كلمة الشريك من تكاليف شرعية، أو أحكام وضعية، تتمثّل في اعتبار التصرّف بالمال، عملاً غصبياً تبطل الصلاة ـــ معه ـــ فيما إذا كان الثوب الذي يلبسه المصلّي مورداً للحقّ، وتفسد المعاملات المتعلّقة به، ويأثم الإنسان على كلّ تصرّفاته الواقعة عليه. إلى غير ذلك من آثار وأحكام، فقد روى الكليني في الكافي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): أنّ الله أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال فليس لهم أنْ يصرفوا إلى غير شركائهم(1).
ولم يقتصر الإسلام على ذلك، بل تعدّاه إلى مجالات أخرى، تتمثّل في قيام الإنسان بالإنفاق والمعاونة المالية في خارج نطاق الحقوق الشرعية، فقد ورد في حديث أئمّة أهل البيت في تفسير قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ*لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24 ــ 25].
إنّ رجلاً جاء إلى الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) (والحديث لولده الإمام محمد الباقر) فقال له: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ:
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ*لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ما هذا الحقّ المعلوم؟ فقال له عليّ بن الحسين: الحقّ المعلوم الشيء يخرجه من ماله، ليس من الزكاة ولا من الصدقة المفروضتين. قال: فإذا لم يكن من الزكاة ولا من الصدقة فما هو؟ فقال: هو الشيء يخرجه الرجل من ماله إنْ شاء كثَّر، وإنْ شاء أقلّ على قدر ما يملك، فقال له الرجل فيما يصنع به؟ فقال: يصل به رحماً ويقوّي به ضعيفاً ويحمل به كلاًّ أو يصل به أخاً في الله، أو لنائبة تنوبه(2).
وجاء في حديث آخر عن الإمام جعفر الصادق في تفسير قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون : 7].
قال: هو القرض يقرضه، والمعروف يصطنعه، ومتاع البيت يعيره، ومنه الزكاة(3).
ويتّضح لنا دور التكافل الاجتماعي، في الجانب المالي وغيره، في علاقة المجتمع المؤمن ببعضه في الحديثين التاليين:
1 ـــ حديث الإمام جعفر الصادق لأحد أصحابه "المعلّى بن خنيس" الذي وجّه إليه سؤالاً: ما حقّ المسلم على المسلم؟
قال الصادق: "له سبع واجبات، ما منهن حقّ إلاّ وهو عليه واجب، إنْ ضيّع شيئاً منها خرج من ولاية الله وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب".
قلت له: جعلت فداك وما هي؟
قال: "يا معلَّى إنّي عليك شفيق، أخاف أن تضيّع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل".
قلت: لا قوّة إلاّ بالله.
قال: أيسر حقّ منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك، الحقّ الثاني: أن تتجنّب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أوامره، والحقّ الثالث: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك، والحقّ الرابع: أن تكون عينه ودليله ومرآته، والحقّ الخامس: أن لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى، والحقّ السادس: أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهّد فراشه، والحقّ السابع: أن تبرّ قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته، وإذا علمت أنْ له حاجة تبادره إلى قضائها، ولا تلجئه أن يسألكها ولكن تبادره مبادرة؛ فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك(1).
2 ـــ حديث الإمام محمد بن عليّ الباقر (عليه السلام) (فيما رواه عنه في كتاب الكافي):
قال أحد أصحابه: أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت: ما أعرف ذلك فينا، فقال الإمام الباقر: فلا شيء إذاً قلت: فالهلاك إذاً فقال: إنّ القومَ لم يُعطوا أحلامهم بعد(1).
فإنّنا نلاحظ في هذين الحديثين أنّ الإسلام يتّجه في تشريعه القانوني والأخلاقي إلى أن يجعل الترابط بين المسلمين في مستوى التكامل العضوي، الذي يحوِّل التكافل الاجتماعي، إلى حركة عفوية طبيعية لا أثر فيها للتكلّف، ولا للإلزام.
وقد نجد في بعض النصوص الدينيّة التأكيد على تعاظم الدور الاجتماعي، في مسألة التكافل، فيما يمثّله من قيمة روحية كبرى لدى الله، بالمستوى الذي يُفضّل فيه على عدد كبير من الممارسات العبادية العظيمة كالحجّ، فقد ورد الحديث عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر الذي عرض فيه المفاضلة بين أداء سبعين حجّة مستحبّة وبين القيام بالكفالة المالية لبعض البيوت المحرومة من المسلمين، ثم جعل الأفضلية في جانب الاختيار الثاني، وهو الكفالة الاجتماعية لهؤلاء، ممّا يوحي بأنّ العمل الاجتماعي يرتفع إلى المستوى الكبير الذي يتقرّب به إلى الله كعبادة اجتماعية خالصة، تتميّز على العبادات الفردية الأخرى، ويثير الشعور في نفس الإنسان، بأنّ أقرب طريق للوصول إلى الله، بعد الفرائض، هو خدمة عباده.
فقد جاء في كتاب الكافي أنّ الإمام محمد الباقر قال لأحد أصحابه: ".. لأن أعول أهل البيت من المسلمين، أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفّ وجوههم عن الناس؛ أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة وحجّة مثلها ومثلها حتى بلغ عشراً، ومثلها حتى بلغ السبعين"(2).
ونلتقي ـــ في هذا الاتّجاه ـــ بالحديث النبوي الشريف: "ما آمن بي شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم".
وفي حديث الإمام جعفر الصادق لبعض أصحابه، الذي وجّه إليه سؤالاً:
قلت: قوم عندهم فضول، وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس تسعهم الزكاة، أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم فإنّ الزمان شديد؟
فقال الإمام الصادق (عليه السلام): "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه. فيحقّ على المسلمين الاجتهاد فيه والتواصل والتعاون عليه والمساواة لأهل الحاجة والعطف منكم تكونون على ما أمر الله فيهم رحماء بينكم متراحمين"(1).
وفي الحديث النبويّ المشهور: "الخلق عيالُ الله فأحبّ الخلق إلى الله مَن نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً"(2).
تلك هي الفكرة العامة عن التكافل الاجتماعي، الذي يمتزج فيه الجانب الإيماني بالجانب الإنساني، لينطلقا معاً في خدمة القوّة الاجتماعية التي تحمي للمجتمع حياته، وتساعد على نموّه واستمرار بقائه، بينما تتحوّل القضية إلى العكس في حالة امتداد الروح الأنانية الانعزالية المستغلّة لدى أفراده، فإنّ التوازن الاجتماعي يبدأ بالاختلال والانحلال لينتهي إلى ضعف المجتمع، بفقدانه عنصر التماسك، وبالتالي إلى انحلاله وانهياره. ولعلّ التجارب الاجتماعية التي عاشتها كثير من المجتمعات العالمية التي انهارت أنظمتها، وانحلّت علاقاتها، كانت دليلاً حيّاً على صدق الفكرة الإسلامية، التي دفعت بالتكافل الاجتماعي إلى القمّة في نموّ المجتمع وقوّته. وقد عبّر الإمام الصادق عن هذه الحقيقة في حديث رائع، يطرح فيه المشكلة الاجتماعية من جانبها الاقتصادي بطريقة واقعية.
قال الإمام جعفر الصادق: إنّ بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند مَن يعرف فيها الحقّ ويصنع المعروف، وإنّ من فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي مَن لا يعرف فيها الحقّ ولا يصنع فيها المعروف(3).
20ـــ التواصي بالحق والصبر والرحمة
وهناك نوع آخر من التكافل الاجتماعي يتمثّل في جانب التوعية الاجتماعية، التي يتحمّل مسؤوليتها أفراد المجتمع في إبقاء القضايا الأساسية، حيَّة في ضمير الجميع، لئلا يتعرّض المجتمع إلى عملية التشكيك والتشويه فيما يؤمن به، أو يخضع لتأثيرات الضعف التي تتحدّاه بفعل الأزمات المتلاحقة، والعقبات الكبيرة التي تواجهه في الطريق الصاعد نحو الهدف، أو يستسلم لنوازع الأنانية الذاتية، التي تؤدّي به إلى الامتناع عن المشاركة الوحدانية والعملية للآخرين من أفراد المجتمع، كنتيجة طبيعية لانعدام الشعور العميق بآلام الآخرين ومشاكلهم، ممّا يؤدّي إلى فقدان الرحمة في قلبه. فكانت التوجيهات الإسلامية التي تؤكّد على ضرورة الملاحقة الدائمة لهذه القضايا، من قبل أفراد المجتمع بصورة عامة كشرط من شروط الفلاح في الدنيا والآخرة، وكأساس من أُسس القوّة الاجتماعية، في حياة المجتمع واستمراره، فطرحت من خلال القرآن، شعار التواصي بالحقّ، الذي يمثّل التوعية المتبادلة بالحقّ، وضرورة إبقائه حياً في وعي الإنسان وضميره؛ لئلا يضعف تدريجياً، بما يطرأ عليه من عوامل الإهمال والنسيان، بفعل أحداث الحياة المتلاحقة، التي تشغل الإنسان عن أكثر الأشياء في حياته.
ثم طرحت ـــ من خلال القرآن ـــ التواصي بالصبر، باعتباره القوّة النفسية الضرورية التي تفرض قوّة الموقف في حياة الإنسان، أمام الشدائد والأهوال والتحدّيات الكبيرة والمواقف الصعبة، فتحفظ له توازنه وتدفعه إلى التحمّل والاستمرار في السير، بالرغم من كلّ الآلام والخسائر.
ثمّ كان شعار التواصي بالمرحمة، باعتباره الشعار الذي يحفظ للروح تفاعلها الدائم مع الآلام التي يعانيها الناس من خلال الأزمات الكثيرة، والمصائب الشديدة، ليبقى الإنسان على صلة بالعنصر الإنساني في داخله، فتوقظ فيه الرحمة الوجدانية التي تنساب منها الرحمة العملية بالتعاون والتعاطف والمشاركة في كلّ الهموم والآلام الإنسانية، لتخفيفها أو إزالتها نهائياً من حياتهم جميعاً.
وهذا هو ما نلتقيه في الآيات الكريمة التالية:
1 ـــ {وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 ــ 3].
2 ـــ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ*أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 17 ــ 18].
21ـــ الأمر بالمعروف
وهناك نوع ثالث من أنواع التكافل الاجتماعي، يتمثّل في فرض الحقّ والمعروف في حياة الناس، وتوحيد الطاقات في هذا السبيل، لأنّ ذلك هو الطريق لبناء المجتمع على أساس متين. فلو تركنا للأفراد الحرية في أن يفعلوا ما يشاؤون، ويتركوا ما يشاؤون، لأصبح المجتمع خاضعاً لمزاج الأفراد في ذلك، في تقلّباته وتحوّلاته، ولتحوّلت الحياة إلى مدّ وجزر يومي في سيطرة النظام وامتداده وقوّته، الأمر الذي يهدّد بالانهيار أو الانحلال الاجتماعي، لفقدانه لعنصر الضبط الذي يحفظ التماسك، ويحقّق القوّة.
وعلى ضوء ذلك كان الأمر بالمعروف، من أشدّ الواجبات قيمة في التشريع الإسلامي، في إقامة العدل مِن قِبَل الحاكم والمحكوم، وفي توفير الأمن وسيطرة النظام، والالتزام بالواجبات الدينية والقانونية، الفردية والاجتماعية، والمحافظة على العزّة والكرامة، وفرض الجهاد على الأفراد، وغير ذلك من التشريعات القضائية والمدنية والعسكرية والعبادية والاجتماعية والاقتصادية. ممّا يجعل للجانب التنفيذي في الواجبات القانونية امتداداً في مسؤولية الناس تجاه بعضهم البعض، بنفس المستوى الذي يمارسون فيه مسؤوليّتهم الذاتية تجاه أعمالهم خاصّة.
وقد يقول قائل: إنّ إعطاء أفراد المجتمع حرّية فرض الالتزام بالواجبات العامّة والخاصة، يتنافى مع حرية الأفراد الشخصية التي تقرّرها الوثائق العامّة لحقوق الإنسان، فإنّها تمثّل الاعتداء المباشر الصريح على تلك الحريّة.
والجواب على ذلك: إنّ الإسلام لا يؤمن بالحرية المطلقة في ممارسة النظام، بل يؤكّد على الحرية الملتزمة التي تخضع للحدود المشروعة للرسالة والمجتمع، تماماً، ككلّ نظام يقوم على الفكرة الملتزمة، حيث تتلاقى حرّية الفرد بحرية المجتمع في القضايا المشتركة، فتمثّلان حرية واحدة، وذلك على أساس إنّ إهمال الواجبات من جهة الفرد يعتبر بداية لإهمالها لدى المجتمع ككلّ، لأنّ بداية الانحراف الاجتماعي، انحراف فردي، ثمّ يسري إلى الآخرين بالعدوى والمحاكاة.
وهناك نوع رابع للتكافل الاجتماعي، يتمثّل في الشعور بالمسؤولية تجاه أفراد المجتمع، الذين يتعرّضون لأيّ عدوان مهما كان نوعه، فإنّ من واجب المسلمين أنْ ينصروه ويدعموه بكلّ ما يملكون من وسائل الدعم والنصرة، ولو تقاعسوا عن ذلك وأهملوه، فإنّهم يخرجون عن دائرة الأسرة الإسلامية، وبذلك جاء الحديث النبويّ الشريف: "مَنْ سَمِع رجلاً يُنادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"(1).
22ـــ الجانب العملي ـــ الخطّ السلبي
ويتمثّل في مبدأ النهي عن المنكر، الذي يجمع ألوان الموقف الرافضة، من خلال العمل، لكلّ حالة من حالات الانحراف والفساد الخلقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتربوي، لأنّ ذلك ـــ كالأمر بالمعروف ـــ هو السبيل الواقعي للقضاء على عوامل نموّ الفساد وانتشاره في المجتمع، لأنّ هناك كثيراً من الحالات الانحرافية التي لا تكتشفها السلطة إلاّ بعد فوات الأوان، ممّا يجعل أمر معالجتها ومجابهتها أمراً بالغ الصعوبة، لارتباطها بالجذور العميقة التي امتدت بفعل الزمن الطويل والممارسة المتكرّرة، بينما يستطيع أفراد المجتمع اكتشافها في بداياتها الأولى، نظراً إلى انعدام الحواجز في الداخل، في الممارسات العملية التي لا يستتر فيها الناس عن بعضهم؛ وقد تحدّثنا بعض الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار مقاومة الطغيان عن طريق القوّة، ولكنّنا نريد أن نتحدّث هنا عنه من حيث ارتباطه بالقوّة الاجتماعية.
ونكتفي باستعراض الأحاديث التي تمثّل التأثيرات العميقة التي يتركها إهمال هذا الواجب في حياة الناس الاجتماعية.
فقد جاء في كتاب التهذيب للشيخ الطوسي:
روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه قال: لا تزال أُمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات، وسلِّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء(1).
وفي حديث آخر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم):
قال: كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر! فقيل له: أو يكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف! فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ نعم وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً(2)!.
وفي حديثٍ أخر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم):
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضر إلاّ عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرَّت بالعامّة.
قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (تعليقاً على هذا الحديث): وذلك أنّه يذلّ بعمله دين الله، ويقتدي به أهل عداوة الله(3).
وجاء في حديث الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام):
لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم(1).
ونحن نعلم، أنّ الحديث لا يوحي بأنّ سلطة الأشرار على الأخيار، كنتيجة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كانت بأمر من الله، أو بتسهيل منه، بل هي خاضعة للسببية الطبيعية للأشياء، التي تلتقي فيها النتائج بمقدّماتها، فإنّ من الطبيعي، أن تمتدّ سلطة الأشرار بامتداد أعمال الشرّ دون رادع، فتضعف سلطة الأخيار، تبعاً لذلك. في هذا الحال لا يعتبر الدعاء وسيلة من وسائل إعانة الله لعباده، لأنّ دور الدعاء في الإسلام لا يتمثّل في الحالات التي يملك الإنسان أمرها بقدرته على أسبابها الطبيعية، بل يتمثّل في الحالات التي يعجز فيها عن الحركة مطلقاً، أو في مجال خاص، فيستعين بالله على ذلك، بسبب الدعاء، ليعطيه الله القوّة حيث لا قوّة، ويهبه العون حيث لا موقع للعون البشري بالطرق العادية. وبهذا نفهم أسلوب التدرّج في الحديث النبوي، من الانحراف، فإهمال مقاومته. فانعكاس الدعوة بالأمر بالمنكر، فتبدّل المفهوم وتَغيُّر النظرة إلى الأشياء.
وقد عرفنا فيما تقدّم من حديث أنّ مقاومة المنكر، ومجابهة الانحراف، لا تقتصر على اللسان، بل تمتدّ إلى المقاومة بالقوّة المسلّحة. ونجد ذلك واضحاً في الآية الكريمة، التي تتحدّث عن مسؤولية المجتمع في الوقوف ضدّ الفئة الباغية، في حالات النزاع بين الطائفتين من المؤمنين، ورفض فبول الصلح:
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات : 9].
وفي الحديث الشريف: "ما قدّست أمّة لم يؤخذ لضعيفها حقّه من قويّها غير متعتع"(2).
وقد قرّرت بعض الآيات والأحاديث الدينية مبدأ إعلان الاحتجاج على ممارسة المنحرفين للمنكر، فيما إذا لم يستطع الإنسان المقاومة بالقوّة، ليظلّ الاحتجاج، ولو بالأسلوب السلب، كالمقاطعة، مؤشّراً اجتماعياً لرفض المنكر، واعتباره شيئاً بعيداً عن واقع الأُمة ورضاها، ممّا يفسح المجال لتنمية هذا الرفض إلى عمل عنيف، يقضي على الانحراف بالقضاء على عوامله وجذوره.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن بعض الحالات التي يجلس فيها الإنسان المؤمن، في مجلس من المجالس التي تضم الخليط من الناس من المؤمنين وغير المؤمنين، فيتنوّع الحديث ويختلف حتى ينتهي إلى الخوض في آيات الله ومهاجمتها، أو الاستهزاء بها، ولم يكن للمؤمن القوّة على منع ذلك الحديث، أو التصدّي العملي لأصحابه. فإنّ القرآن يأمره بالخروج من المجلس، كإجراء سلبي للإعلان عن الاحتجاج على الحديث وعدم الموافقة عليه.
قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140].
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام : 68 ــ 69].
وفي بعض الأحاديث المروية عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في كتاب التهذيب للشيخ محمد بن الحسن الطوسي:
قال الصادق لقوم من أصحابه: إنّه قد حقّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقّ لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يترك(1).
1 ـــ وقد ورد في الحديث النبوي المشهور، التأكيد على مقاومة التخريب الفردي الذي يقوم به بعض الأفراد، في المجالات الخاصة التي تنعكس على حياة المجتمع ككلّ، بحيث تترك آثارها السيّئة في القضايا المصيرية للناس، ممّا يعطينا الفكرة التي تربط بين الحرية الفردية وبين الحرية الاجتماعية، فتجعل للفرد حريّته في ممارسة قضاياه الخاصة، بما لا يتعارض مع مصلحة المجتمع، فإذا اقتربت حريّته من حياة المجتمع، فللمجتمع الحقّ في المحافظة على حريّته الاجتماعية، بتقييد حرية الفرد، لأنّ ذلك هو السبيل الوحيد لصيانة حياة المجتمع وحياة الفرد على السواء.
"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا؛ فإنْ تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً(2).
وقد نلتقي بهذا المفهوم الإسلامي العظيم بالآية الكريمة التي تؤكّد على أنّ نتائج الظلم والانحراف لا تقتصر على القائمين بها، بل تنعكس على حياة الناس جميعاً، لأنّ التصرّفات الفردية ليست فردية في مساحاتها ونتائجها، وإنْ كانت فردية في أشخاصها ودوافعها، وذلك هو قوله تعالى:
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال : 25].
2 ـــ وربّما نجد في القرآن الكريم بعض المواقف المشرقة، التي نزل القرآن فيها ليهاجم موقفاً عاشه المسلمون، وأرادوا أن يحملوا النبيّ على الانسجام فيه معهم، وهو الدفاع عن بعض الخائنين، الذين خانوا الأمانة في سرقة أموال المسلمين، وألصقوا ذلك بأحد اليهود، مستغلّين العداوة المتبادلة بين المسلمين واليهود، كسبيل من سُبُل تأكيد التهمة هنا، وإثبات البراءة هناك، فأوحى الله إلى نبيّه برفض ذلك.
إنّه يطرح المبدأ، في نطاق معالجة القضية.. إنّ الموضوع هو موضوع الخيانة والأمانة، فلا بدّ من شجب الأولى، والدفاع عن الثانية، وذلك بشجب الخائنين وحماية الأمناء، لأنّ ذلك هو سبيل الانسجام مع الواقع وتركيزه، ولا ينظر في ذلك إلى الفوارق الدينية، لأنّ حماية الخائنين بالدفاع عنهم، والجدال لمصلحتهم، بحجّة اعتناقهم للإسلام، يفسح المجال للخيانة بالامتداد والتعاظم في الحياة الإسلامية، عندما يطمع المسلمون بالحماية في كلّ خياناتهم التي يستطيعون أن يلصقوها بالأبرياء من الدين الآخر، ممّا يشارك في انحلال المجتمع، بانحلال التماسك الاجتماعي لقضايا الأمانة والعدالة.
وقد ورد في الحديث المأثور الرفض لذلك كلّه مؤكّداً على أنّه السبب الرئيسي لهلاك الأُمم وانحلال المجتمعات: "إنّما أهلك مَن كان قبلكم أنّهم كانوا يقيمون الحدّ على الوضيع ويتركون الشريف؛ والذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة فعلت ذلك لقطعتُ يدها"(1).
إنّه التركيز الإسلامي على أنّ سلامة المجتمع مرتبطة بإلغاء الفوارق الدينية والاجتماعية في تطبيق القانون.
23ـــ نهاية المطاف
وخلاصة الفكرة الإسلامية في القوة الاجتماعية، أنّه لا بدّ في ولادة هذه القوّة واستمرارها في حياة الناس، من أنْ يتحوّل أفراد المجتمع إلى كيان تتوحّد فيه الأفكار والمشاعر والممارسات العملية، لتنطلق من ذلك علاقات الترابط التي تنتهي إلى الوحدة الاجتماعية، التي هي أساس القوّة، ثمّ ملاحقة كل عوامل الانحراف وأشخاصه، لمنعهم عن كل عمل يضرّ بهذه الوحدة في أي جانب كان.
الفصل الخامس
القوّة العدديّة
1 ـــ الكثرة وعلاقاتها بالقوّة
2 ـــ تحليل الحديث النبوي في التشجيع على الكثرة
3 ـــ ألهاكم التكاثر
4 ـــ الكثرة لا تعني الحق
5 ـــ الديمقراطية لا تساوي الحق
6 ـــ الشورى ليست الديمقراطية
7 ـــ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة
8 ـــ قصة طالوت وجالوت
9 ـــ معركة حُنين
شخأشخاصه، لمنع
1 ـــ الكثرة.. وعلاقتها بالقوّة
قد يظنّ البعض: أنّ القوّة العددية لأيّة أمّة من الأمم، تمثّل قيمة كبيرة في حساب القوّة بين الأُمم الأخرى، بما تثيره في نفوس الآخرين من شعور بالرهبة والعظمة، وفي نفوس أصحابها من إحساس بالقوّة، وبما تهيّئه للمعركة من طاقات هائلة تفرض لها النصر أو تجعل الخسارة ـــ إنْ حدثت ـــ غير ذات بال، لأنّ الرصيد الباقي من العدد الكبير لن يكون قليلاً مهما كبر حجم الخسائر البشرية في المعركة.
وعلى ضوء هذا المفهوم، يفسّر هؤلاء الحديث النبوي الشريف الذي يدعو الأمة إلى التوالد والتكاثر. لتكون في مركز القوّة بين الأمم.
فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق، أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: "تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة حتى إنّ السقط يجيء مُحَبنطِئاً على باب الجنّة فيقال له: ادخل الجنّة فيقول: لا حتى يدخل أبواي قبلي"(1).
قد فهم هؤلاء ـــ من هذا الحديث ـــ الدعوة النبوية إلى التكاثر العددي باعتباره عنصراً حيوياً من عناصر التمايز بين الأمم، وقيمة كبيرة من القِيَم الذاتية للأُمّة.
ولكنّ القضية ليست كما يبدو لهؤلاء ـــ فيما نظنّ ـــ فإنّ الكثرة ـــ بطبيعتها ـــ ليست أساساً للقوة ما لم تتوافر فيها العناصر الأخرى، التي تنظّم طاقاتها وتوجّهها وتحيطها بالعوامل الحيوية التي تضيف إليها عنصر "النوعية" إلى جانب ما تحمله من ضخامة "الكمية"، لأنّ واقع الحياة هو الذي يفرض ذلك، انطلاقاً من طبيعة الأشياء التي ترفض نظرية العامل الواحد في أيّة ظاهرة من ظواهر الواقع، فلا بدّ من توفّر عوامل عديدة حتى تكتمل الظاهرة وتعطي نتائجها الكبيرة في الحياة، فيما تعطيه من قوّة، أو تحقّقه من توازن.
وإذا اقتربنا من الواقع، لنضع النقاط على الحروف، فقد نواجه الكثرة، كعامل ضعف، فيما إذا لم تتوفّر لها القوى المادية التي تمدّها بالغذاء الذي يقيم لها حياتها، وبالسلاح الذي يدفع عنها كيد الأعداء، وبالصناعة التي تحقّق لها الاكتفاء الذاتي في المواد الاستهلاكية وغيرها، كما نشاهده في بعض الشعوب الإفريقية والآسيوية، كالهند، التي تفتك بها المجاعات والأزمات الاقتصادية الخانقة، كنتيجة للكثرة العددية التي لا تتلاءَمُ مع القوى المادية التي تحتاجها في استمرارها مع الحياة، سواء كان السبب في ذلك، انعدام التنظيم الدقيق لهذه القوى، أو سوء الاستغلال الجشع من قِبَل السلطة المسيطرة، أو ظروف القحط والجفاف التي تفتك بالبلاد، أو غير ذلك من الأسباب التي تجعل الأمة تلهث جرياً وراء الغذاء، لتجعل الميزانية كلّها تصبّ في ذلك، ولتمدّ يديها إلى الآخرين، الذين يستغلّون حاجتها إليهم للإجهاز عليها وعلى عزّتها وكرامتها، بالأساليب الاستعمارية الظاهرة والخفيّة.
إنّنا لن نذهب بعيداً، مع الفئات التي تعتبر الكثرة ضدّ القيمة، إلى المستوى الذي يجعل الأمة تضمر وتتقلّص حتى تفقد طاقتها على البقاء والاستمرار، ولهذا فنحن لا نرى في تنظيم النسل، أو تحديده، قيمة إنسانية كبيرة مطلقة، تشمل كلّ الأمم في جميع الأزمنة والأمكنة، بل إنّنا نقرّه على أساس ملاحظة الواقع الموضوعي الذي يُراد لها أن تسير فيه، فربّما تقتضي مصلحة الأمة مزيداً من التنظيم للتوالد والتناسل في نطاق مرحلي معيّن، وربّما تستدعي المصلحة العامة زيادة في التناسل، وكثرة في العدد، في مرحلة زمنية أخرى.
إنّ كل ما نريد الإشارة إليه، أنّ أيّة كمية، في أي جانب من الجوانب الحياتية، لا تمثّل أيّة قيمة، في أي مستوى من المستويات ـــ ما لم نضف إليها "النوعية" و"الكيف" الذي يجعل منها عنصر قوّة بدلاً من أن يكون عنصر ضعف، وعامل نظام بدلاً من أنْ يتحوّل إلى عامل فوضى.
2 ـــ تحليل الحديث النبوي في التشجيع على الكثرة
أمّا حديث النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في موضوع التوالد والتكاثر، فإنّه لا ينفي ما قرّرناه، بل يحاول أن ينظر إلى القضية من هذا الجانب الذي يمثّل جزءاً من عنصر القوّة، معتمداً على الدعوة إلى بقية العناصر، على أحاديث أخرى، كما رأينا ذلك في الدعوات الكثيرة في الكتاب والسنّة، إلى الأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية، ممّا أشرنا إليه فيما تقدّم من حديث، ولذلك، فإنّ هذا الحديث لا يصلح أن يجعل أساساً لرفض فكرة تنظيم النسل، فيما إذا اقتضته المصلحة الإسلامية العامة، لأنّ الحديث لا يعالج إلاّ جانب الحاجة إلى الكثرة، من أجل أنّها تمثّل حاجة إسلامية دائمة للطاقات الكثيرة التي ينتجها العدد الكثير، تماماً، كما هي الأحاديث التي تعالج بعض الجوانب الحياتية، على أساس المفهوم الإسلامي، فيخيّل لمن يقرأها أنّها تتّسع لأكثر من جهة، أو أنّها تتنافى مع بعض المفاهيم الأخرى، كما نلاحظ ذلك في الأحاديث التي تدعو إلى العمل في سبيل تحصيل الرزق، وممارسة اللذّات الطبيعية، وغير ذلك من شؤون الحياة الدنيا، إلى جانب الأحاديث التي ترغّب في الإعراض عن الدنيا، وتدعو إلى الزهد فيها. فيأخذ البعض بالأولى، فيعطي للإسلام المفهوم الذي يعزل الإنسان عن الحياة، ويأخذ بعض آخر بالثانية، فيصوّر الإسلام ديناً ماديّاً يهتم بالشؤون الدنيوية، دون أن يُعطي للروح دورها الكبير في تفكيره وتشريعه.
وبذلك يقع كلّ واحد منهما في الخطأ، لأنّ كلّ فئة من هذه الأحاديث، تنطلق في اتّجاه لا يختلف مع الاتجاه الآخر، بل يحاول أن يكمله، لتكتمل الصورة الكاملة للمفهوم الإسلامي المتوازن عن الحياة، الذي يريد للإنسان أن يبني الحياة على أساس الحقّ، دون أن يفسح المجال لنوازع الأطماع والشهوات أن تطغى عليه لتنحرف به عن الخطّ. فهو يزهِّد في الحياة دون انعزال، ويرغِّب فيها دون عبودية، بأن يمارس الرغبة في الحياة، من خلال شعوره بالحرية في إرادته إزاء شهوات الحياة وملذّاتها، ويمارس الزهد فيها من خلال شعوره بأنّ بناء الحياة هو رسالته الممتدّة في رحاب الحقّ.
ومن خلال هذا المنهج، في فهم النصوص الدينية التي تعرض لجوانب الحياة من خلال مفاهيم الإسلام، نضع أيدينا على النصّ النبوي الشريف الذي يدعو إلى التكاثر، لنفهم منه المبدأ الذي يلتقي مع المبادئ الأخرى في القوّة التي تتكامل لتجسّد الصورة الإسلامية الكاملة.
ولعلّ الذي يؤكّد لنا ذلك، هو الحديث النبوي المشهور الذي خاطب به النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أصحابه، وهو يحدّثهم عن المستقبل الذي ينتظرهم في حركة الإسلام في الحياة:
"يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا... أو من قلّة يا رسول الله: قال: لا.. إنّكم يومئذٍ لكثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل".
فقد نفهم من هذا الحديث، أنّ الكثرة التي يدعو إليها رسول الله، ليباهي بها الأمم يوم القيامة، هي الكثرة التي تقف في المستوى الكبير الذي يضعها في مركز الرفعة بين الأمم، ويجعلها قوّة فاعلة تؤثّر في حياة الآخرين توجيهاً وقيادة، وليست هي الكثرة التي تكون ثقلاً تنوء به الحياة، تماماً، كغثاء السيل، وهو ما يحمله السيل من الأحجار وغيرها ممّا لا يفيد ولا ينفع.
وهكذا تكتمل الصورة الرائعة التي يريدها الإسلام، لأُمته، وهي صورة الأمة الكثيرة العدد، القويّة العُدّة، في العلم والسلاح، والمال، في إطارها الإسلامي المتّصل بالله.
أمّا الأمّة الكثيرة العدد، الضعيفة في قوّتها، فإنّ الإسلام لا يرحّب بها، بل يفضل عليها القوّة القوية المتوازنة التي تفعل في الحياة، بدلاً من أن تنفعل بها، وتقود حركة التاريخ، بدلاً من أن تقودها القوى التي تتحرّك في مسيرة التاريخ.
3 ـــ ألهاكم التكاثر
وقد عرض القرآن الكريم، لمفهوم الكثرة والقلّة في أكثر من آية، فأطلق الفكرة التي تندّد بأولئك الذين يعتبرون الكثرة العددية مقياساً للتفاخر والتباهي، على أساس ما يمثّل من قيمة معنوية في حساب المجتمع.
قال تعالى في سورة التكاثر:
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ*كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ*ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ*ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 1 ــ 8].
فقد نزلت هذه السورة ـــ فيما يُروى من أسباب النزول ـــ في حيّين من قريش، بني عبد مناف بن قصي وبني سهم بن عمرو، تكاثروا وعدّوا أشرافهم، فكثرهم بنو عبد مناف. ثمّ قالوا نعدّ موتانا، حتى زاروا القبور فعدّوهم وقالوا: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان فكثّرهم بنو سهم، لأنّهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية(1).
فكانت هذه الصورة توبيخاً لهم على ذلك، وتوجيهاً لهم بأنّ الشيء الذي ينبغي أن يشغلهم ويثير اهتمامهم، هو العمل الصالح الذي يواجهون نتائجه عند الله، إيحاءً لهم بأنّ الفخر لا يكون إلاّ بالعمل، لا بالعدد وبالكيف لا بالكم.
4 ـــ الكثرة... لا تعني الحقّ
وينطلق القرآن الكريم في مجال آخر، ليواجه الحالات النفسية التي يعيشها الناس أمام كثرة الباطل وقلّة الحقّ، فينهزمون نفسياً أمام ذلك، أو يخيّل لهم أنّ الحق في جانب الكثرة، فيحاول أن يربطنا بواقع الأشياء لننفذ إلى أعماقها، فنتعرّف خصائصها، لنميّز الخبيث من الطيّب والحقّ من الباطل.
{قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة : 100].
ونلتقي ــ في هذا المجال ـــ بحوار الإمام عليّ أمير المؤمنين مع بعض الأشخاص ـــ وهو الحارث بن حوط ـــ في موضوع حربه مع أهل الجمل في البصرة، فقد واجه هذا الرجلُ الإمامَ بهذا السؤال:
أتراني أظنّ أنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟
قال الإمام ـــ وقد عرف نقطة الضعف في فهمه للأشياء ـــ إنّك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحِرت، إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف مَن أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه(1).
فقد كان هذا الرجل خاضعاً لفكرة خاطئة تلحّ على فكره بقوّة، وهي استبعاد ضلال الناس بمثل هذا العدد الكبير، فخيّل إليه أنّ مجرّد الكثرة كاف في رفض الحكم بالضلال والباطل عليهم. ولكنّ الإمام أجابه بالتركيز على المقياس الحقيقي، للتمييز بين الحقّ والباطل في حياة الناس، وذلك بمعرفة طبيعة الحق في ملامحه الفكرية، وطبيعة الباطل في خصائصه الذاتية، بعيداً عن عنصر الكثرة والقلّة، وبذلك يستقيم له الحكم، فترتكز القناعات الفكرية على أساس الرؤية الواضحة المحدِّدة للمبادئ التي تحكم الأشياء لتكون أساساً للتقييم، في جانب القلّة والكثرة، لا على أساس النظر إلى طبيعة "الكم" لنأخذ منها المبادئ التي تحكم الحياة.
وقد كثرت ـــ في القرآن الكريم ـــ الآيات التي تصف الأكثرية بأنّهم لا يعلمون ولا يؤمنون ولا يشكرون، لأنّ الغالب في أيّة فكرة من الأفكار، أو أيّ دين من الأديان، أن لا تستقطب الناس جميعاً ـــ إلاّ بعد زمن طويل ـــ فأراد القرآن أن يزيل من نفوس المؤمنين الشعور بالضعف والرهبة والوحشة، أو الاستسلام لنوازع الشكّ والحيرة، فيما هم عليه إزاء كثرة الباطل وقوّته، ليعرفوا أنّ قضية الحقّ والباطل لا تخضع لحساب الأرقام في أيّ مجال من مجالات الحياة. ولنقرأ بعض نماذج هذه الآيات الكريمة:
{وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 131].
{وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} [هود : 17].
{وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة : 243].
{وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف : 102].
5 ـــ الديمقراطية لا تساوي الحقّ
وعلى ضوء ذلك، فإنّنا لا نعتبر "الديمقراطية" التي يأخذ بها كثير من دول العالم، في نظام الحكم وأسلوبه، قاعدة ثابتة للتقييم والتقنين، لأنّ الأكثرية الشعبية أو النيابية، لا تخضع لمقاييس الحقّ والباطل في تأييدها أو رفضها، بل ربّما تقع تحت مؤثّرات نفسية أو مالية أو شهوانية، أو غير ذلك من الحالات التي تنحرف بالموقف عن الخطّ السليم. ولا سيّما إذا عرفنا الأساليب التي يمارسها أصحاب المصالح السياسية والشخصية والاقتصادية، في جمع الأصوات المؤيّدة أو الرافضة لهذا التشريع أو ذاك، حيث تشهد العروض الكثيرة التي تطرح في سوق المزايدات الانتخابية في داخل "البرلمان" وخارجه، بالأثمان المادية والمعنوية.
وقد لا نجد كبير فرق في ذلك بين الديمقراطية الغربية التي يسيطر عليها الرأسمال، وبين الديمقراطية الموجهة الاشتراكية، التي تخضع لتأثير الحزب الواحد، ممّا يجعل القضية ـــ في واقعها الأصيل ـــ ممثّلة لتفكير الجماعات والمؤسسات التي تقود عملية الانتخاب وتؤثّر فيها، ولهذا قال بعض المفكّرين "إنّ الديمقراطية هي أقلّ الأنظمة سوءاً".
6 ـــ الشورى ليست الديمقراطية
أمّا مبدأ الشورى الذي اعتمده الإسلام كمبدأ في القضايا الاجتماعية فليس من الضروري أن يكون تعبيراً عن "الديمقراطية" بل ربّما يكون الأساس فيه هو إدارة الموضوع بين أكثر من شخص، أو هيئة، لتتّضح الصورة، ويبيّن الحقّ، من خلال توارد الأفكار واختلافها، لينتهي الأمر في النتيجة إلى الأخذ بالحقّ، سواء كان موافقاً لآراء الأكثرية، أو منسجماً مع رأي الأقليّة، ولعلّنا نستوحي هذا المعنى من الآية الكريمة في قوله تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران : 159].
فإنّنا نفهم من هذه الآية الكريمة، التوجيه الإلهي للنبيّ، بأن يعتمد أسلوب المشاورة للمسلمين قبل اتّخاذ قراراته، والبدء بالتنفيذ، كأسلوب تربوي من أساليب الحكم والحياة، لئلا يعتادوا الانفراد فيما يواجههم من قضايا، وفيما يستقبلون من أوضاع الحكم والمسؤولية، لأنّ التفرّد بالرأي، في القضايا التي تلتقي بأكثر من جانب، وتتوزّع على أكثر من صعيد، سوف يفسح للأخطاء مجالاً واسعاً في عملية اتّخاذ القرار وممارسته، كنتيجة طبيعية لإغفال كثير من الجوانب الحيوية في ولادة الفكرة وامتدادها عمقاً وشمولاً.
وبذلك تتّجه الشورى في الآية إلى محاربة الجانب الآخر من التفرّد بالرأي والاستقلال به عن الآخرين، من دون الرجوع إلى وجهة نظرهم للتفكير فيها ومناقشة رأيه والحساب على أساسها، وليست واردة في اتّجاه الأخذ بالرأي الذي توافق عليه الأكثرية في الشورى، وإنْ كان الحقّ في جانب الأقلية، ولذلك اتّجهت الآية الكريمة إلى النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لتطلب منه إمضاء الرأي، بعد المشاورة، سواء كان على وِفق الشورى، أو على خلافه.
ولعلّ هذا هو ما نستوحيه من الآية الكريمة التي تتحدّث عن طبيعة العلاقة التي تحكم المجتمع المسلم في قضاياه الخاصة والعامة، من حيث ارتكازه على مبدأ الشورى، وذلك هو قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى : 38].
فقد نجد فيها التركيز على هذه الصفات من ناحية المبدأ دون الدخول في التفاصيل، ممّا يجعلنا نقف بالآية عند حدود المبدأ، من غير أن نتجاوزه إلى ما استحدثه الناس من أساليب الحكم وكيفيّات اتّخاذ القرارات، فإنّ ذلك لا يبرّر لنا إخضاع القضايا الإسلامية التشريعية، لما لا يتّسع له مدلول النصوص، لفظاً وروحاً، لمجرّد الرغبة في إعطاء التشريع الإسلامي صفة "العصرنة" التي تمنحه رضا الناس الذين يختلفون عنه في الرأي، فإنّ رضا الناس غاية لا تدرك، لاختلاف آرائهم وأهوائهم ورغباتهم حسب ظروف الزمان والمكان، ولهذا واجه الله سبحانه نبيّه بالحقيقة الحاسمة في هذا الجانب من مواقف الرضا والسخط، وذلك هو قوله تعالى:
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة : 120].
فإذا شاء الإنسان الحصول على رضا الآخرين فإنّ لذلك ثمناً واحداً، وهو التنازل عن المبدأ وعن المواقف، لحساب مبادئ الآخرين ومواقفهم، ولن يحصل على ذلك ـــ في نهاية المطاف ـــ ما دام الآخرون مختلفين في النظرة والمبدأ والموقف، وسوف يتحوّل في النهاية إلى إنسان يفقد مواقعه يومياً بأسلوب مضطرب متغيّر، حسب اختلاف المواقع والمتغيّرات، لينتهي إلى الموقف الأخير الذي يفقد فيه نفسه وأصالته وموقفه. وخلاصة القول في هذا المجال: إنّ الإسلام لا يريد للإنسان أن ينهزم نفسياً إزاء مظاهر الكثرة، سواء في ذلك، مواقف الإيمان والكفر، أو مواقف الحقّ والباطل، لأنّ الكثرة العددية لا تمنح الموقف قوّة فكرية، كما لا تمنحه قوة عسكرية من ناحية الأساس، بل الموقف للنوعية هنا وهناك.
7 ـــ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة
وقد أراد القرآن الكريم ـــ في آيات أخرى ـــ أن يشير إلى خطأ اعتبار الكثرة عنصراً أساسياً في النصر، حتى في أشدّ المواقف ارتباطاً بالكثرة في أذهان الناس، وذلك من خلال القصّة القرآنية التي حاولت الإشارة إلى المبدأ في إطار الواقع العملي للمعارك الإسلامية وغير الإسلامية، التي خاضتها الكثرة الكافرة ضدّ القلّة المؤمنة، فانتصرت القلّة المنظّمة التي تعتمد التخطيط، فترتفع في حساب النوعية، على الكثرة الموزّعة التي تعيش زهو الضخامة العددية، كأساس لربح المعركة في حساب "الكمية".
وربّما كان القرآن الكريم، يريد أن يحرّك الفكرة في خطّ الواقع الموضوعي للهزيمة والنصر، بعيداً عن الانتماء العقائدي للمنتصرين والمنهزمين، فقد تنهزم الفئة المؤمنة الكبيرة أمام الفئة الكافرة القليلة، في بعض الحالات التي لا يواجه فيها ـــ المؤمنون ـــ المعركة من خلال الشروط الواقعية للنصر، بينما يعمل الآخرون من الكافرين على الأخذ بها، والانسجام معها. وقد ينتصر المؤمنون القليلون عندما يتحوّل إيمانهم في المعركة إلى قوة جديدة تضاف إلى ما لديهم من قوى أخرى، في الوقت الذي يفقد فيه الآخرون ذلك، ولذلك فقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية في قصّتين مختلفتين في الزمان والمكان، وفي الفريق المنتصر، والفريق المهزوم في كلّ قصة.
8 ـــ قصة طالوت وجالوت
الأولى: قصّة "طالوت" الذي كان يقود معسكر الإيمان في جماعة قليلة، ضد "جالوت" الذي كان يقود معسكر الكفر، في جماعة كثيرة. وقد أخذت هذه القصة مساحة كبيرة من الآيات الكريمة التي توضح لنا الصورة النفسية التي كان يعيشها المعسكر القليل، إزاء مشكلة الكثرة العددية التي تواجههم، وكيف أطلق القرآن أساليبه في معالجة الفكرة، فيما صوّره لنا من حالات الخائفين والمنهزمين، والواثقين بالله الصامدين في مواقفهم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ*وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ*وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ*وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ*فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 246 ــ 251].
فإنّنا نلاحظ أنّ لدى الفئات المؤمنة تخوّفاً كبيراً من قوّة الجماعات غير المؤمنة، لكثرتها العددية، ممّا خلق بلبلة بين الصفوف كادت تؤدّي إلى الهزيمة النفسية قبل الهزيمة العسكرية، لولا صمود بعض الفئات الواعية القليلة، الذين طرحوا الشعار الإيماني الذي دفع المعركة باتجاه النصر، بما أعطاه لهم من القوّة الجديدة المضاعفة، وبما منحهم من رؤية جديدة للموقف، فجعلهم يوازنون بين ما يملكون من الطاقات التي تمتاز بالنوعية، وبين ما يملك العدد من الطاقات التي تتميّز بضخامة "الكمية" ولهذا كان اهتمامهم الكبير بتعميق هذه القيمة في النفوس بالارتباط العميق بالله والالتجاء إليه، بأنْ يمنحهم القوّة المضاعفة في مواجهة العدد، وهو ما عبّرت عنه الآية الكريمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران : 200].
9 ـــ معركة حنين
القصة الثانية: التي حدثت في التاريخ الإسلامي في إحدى معارك النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مع المشركين هي معركة حنين، التي بدأت بهزيمة كبيرة للمسلمين، في الجوّ الذي كان يعيش بزهو الكثرة، ويتحرّك معها في أمنيات النصر وأحلامه وانتهت بالنصر الإلهي الذي أخضع المعركة للألطاف الإلهية، والتحرّك الدقيق الذي اعتمدت عليه القوّة القليلة الصامدة بقيادة النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في إطار الإيمان والتخطيط الرائع.
وكان جيش النبيّ، يشتمل على اثني عشر ألفاً حتى قال أبو بكر لا نغلب اليوم من قلّة، وانتهى النبيّ في مسيره إلى حنين، فبعث مالك بن عوف (قائد المشركين) ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فرجعوا إليه وقد تفرّقت أوصالهم من الرعب، ووجّه رسول الله عبد الرحمن بن أبي حدرة الأسلمي؛ فدخل عسكرهم فطاف به وجاء بخبرهم، فلمّا كان من الليل، عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبّأهم في وادي حنين، وأوعز إليهم أن يحملوا على محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأصحابه حملة واحدة وعبّأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، أصحابه في السحر وصفّهم صفوفاً، ووضع الألوية والرايات في أهلها، مع المهاجرين لواء يحمله عليّ بن طالب (عليه السلام)، وراية يحملها سعد بن أبي وقاص، وراية يحملها عمر بن الخطّاب، ولواء الخزرج يحمله حباب بن المنذر، ولواء الأوس يحمله أسيد بن حضير، وفي كلّ بطن من الأوس والخزرج لواء أو راية يحملها رجل منهم مسمّى، وقبائل العرب فيهم الألوية والرايات يحملها قوم منهم مسمّون، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قد قام سليماً من يوم خرج مكة واستعمل عليهم خالد بن الوليد، فلم يزل على مقدّمته حتى ورد الجعرانة. وانحدر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في وادي الحُنين على تعبئة، وركب بغلته البيضاء "دُلدل" ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن شيء لم يرو مثله قطّ من السواد والكثرة وذلك في غبش الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادي وشُعبه فحملوا حملة واحدة، وانكشف الخيل خيل بني سليم مولّية، وتبعهم أهل مكّة وتبعهم الناس منهزمين؛ فجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: يا أنصار الله وأنصار رسول الله، أنا عبد الله ورسوله، ورجع رسول الله إلى المعسكر وثاب إليه من انهزم، وثبت معه يومئذٍ العبّاس بن عبد المطّلب وعلي بن أبي طالب والفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب وأبو بكر وعمر وأسامة بن زيد في أناس من أهل بيته وأصحابه، وجعل يقول للعباس: نادِ يا معشر الأنصار يا أصحاب السّمْرة يا أصحاب سورة البقرة، فنادى، وكان صيّتاً، فأقبلوا كأنّهم الإبل إذا حنت على أولادها يقولون: يا لبيك يا لبيك، فحملوا على المشركين، فأشرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فنظر إلى قتالهم فقال: الآن حمي الوطيس، أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب، ثمّ قال للعباس بن عبد المطّلب: ناولني حَصَيات، فناولتُهُ حصيات من الأرض ثمّ قال: شاهت الوجوه ورمى بها وجوه المشركين وقال: انهزموا وربّ الكعبة؛ وقذف الله في قلوبهم الرعب وانهزموا لا يلوي أحد منهم على أحد"(1).
وجاء القرآن الكريم ليحدّثنا عن الدرس العملي الذي يطلق التجربة الكبيرة، التي كلّفت الإسلام كثيراً من جنوده المؤمنين، لتكون أساساً للحركة الإسلامية المستقبلية فيما تواجه من معارك وفيما تطرحه من شعارات.
قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ*ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [التوبة : 25 ــ 26].
وخلاصة الفكرة التي نحاول أن نخرج بها من النصوص الدينية في الكتاب والسنّة، أنّ الله سبحانه ، يريد أن لا يطغى الشعور بالأمان الذي تولّده الكثرة العددية على الرؤية الواسعة للموقف، وما يتطلّبه من دراسة للأرض التي تتحرّك فيها المعركة، وللظروف التي تحيط بها، والمؤثّرات الخارجية والداخلية المتنوّعة التي تساهم في النصر والهزيمة.
وفي الجانب الآخر، لا يريد الله للإنسان، أن ينهزم نفسياً أمام الكثرة العددية للعدوّ، بل يجب أن يفكّر في النصر من حيث تحقيق النوعية التي تجعل من قلّة "الكمية" التي تملك العناصر الأساسية للقوّة، قوّة قادرة على حسم الموقف، من ناحية عسكرية أو غير عسكرية.
وبكلمة واحدة، أن ينظر الإنسان إلى الكثرة كإحدى عناصر القوّة، لا العنصر الوحيد في القضية، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى: أن لا تكون الكثرة، إلى جانب ذلك، مقياساً للحقّ والباطل عندما يقف الناس في الحياة بين فريقين يختلفان في الفكرة، كما يختلفان في القلّة والكثرة.
وعلى أساس ذلك، تتحدّد الواقعية للأشياء، بالحدود الطبيعية العملية، فلا تترك مجالاً للسذاجة والغرور، ولا تهمل أيّ دور لأي عنصر من عناصر الكم والكيف في الحياة.
الفصل السادس
الجانب الأخلاقي للقوّة في الإسلام
1 ـــ مع الأهداف الكبرى للقوّة في الإسلام ــ الجانب السلبي
2 ـــ مع الأهداف الكبرى للقوّة في الإسلام ـــ الجانب الإيجابي
3 ـــ الفكرة في نطاق التطبيق
ما هو نوع القوّة التي يؤمن بها الإسلام، أو يدعو إليها، من خلال طرحه لفكرة القوّة في الحياة؟
هل هي القوّة التي تبرّر لأصحابها كلّ شيء، فتستبيح لنفسها أيّ تصرّف تريده، حتى العدوان؟
أو هي التي تضع لنفسها الحدود الخاصة التي لا تتعدّاها، فلا تتحرّك إلاّ في النطاق المشروع للعمل، الذي ينطلق من القاعدة الأخلاقية الإسلامية للحياة، التي تتحدّد بحدود الأهداف الكبرى للإسلام.
ربما نلتقي في الجواب عن هذه الأسئلة بنقطتين أساسيتين:
الأولى: الأهداف العامة لحركة القوّة في الإسلام وعلاقتها بالقاعدة الأخلاقية الإسلامية.
الثانية: ملاحقة التطبيق العملي للفكرة العامة، على الممارسات الشرعية، في حروب النبيّ ومعاركه، باعتبارها أساساً تشريعياً للحركة التطبيقية في الإسلام.
1 ـــ مع الأهداف الكبرى للقوّة في الإسلام ـــ الجانب السلبي
نحن نعلم أنّ القوّة في التاريخ، كانت تمثّل مشكلة للفئات المستضعفة والمضطهدة، لأنّها تعطي الأقوياء الوسيلة العملية لاستغلال الضعفاء واضطهادهم، ممّا دعا، تلك الفئات، في الماضي والحاضر، إلى أنْ تعمل بكلّ ما لديها من طاقة، للحصول على قوّة جديدة تدافع بها عن نفسها، وعن مواقعها الكريمة في الحياة.
ونعلم ـــ أيضاً ـــ أنّ وجود القوّة، أيّة قوّة، يغري النفس بالاستعلاء والطغيان وممارسة السيطرة على الآخرين، لأنّه يلبّي ـــ في داخلها ــ الرغبة الطبيعية لإثبات الوجود والشعور بالزهو الذاتي أمام الآخرين، وربّما تشير الآية القرآنية الكريمة إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى:
{إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 ــ 7].
ونلاحظ ـــ إلى جانب ذلك ـــ أنّ كثيراً من الاتجاهات والحركات، في الماضي والحاضر، حاولت أن تنمّي هذه الروح العدوانية في مجتمعاتها، كما نجده في الحركة النازية والفاشية والصهيونية وغيرها من الحركات التي تقوم على أساس عنصري، بشكل مباشر أو غير مباشر، لتتجسّد في الأشكال الاستعمارية المتنوّعة قديماً وحديثاً.
وكانت لدينا ـــ مع ذلك كلّه ـــ اتّجاهات أخرى عملت ـــ من خلال أفكارها وممارساتها التربوية والعملية ـــ على إبعاد الإنسان عن هذه الروح، في محاولات رسالية رائعة، لدفعه ـــ من جديد ـــ إلى الأهداف الكبيرة في الحياة، التي تجعل من القوّة وسيلة لحماية الرسالة من الأعداء، لتنطلق في حركتها من موقع الحرية في الفكر والدعوة والممارسة والتطبيق، وعلى ضوء هذا، فإنّنا نلتقي بالقوّة في الإسلام، فلا بدّ لنا من البحث عن الجوّ الذي يحشده الإسلام في داخل الإنسان المسلم، في الحياة الإسلامية العامة، من أجل أن تبقى القوّة المتنامية، عنصر خير، لا عنصر شرّ، ولتتحوّل إلى أداةٍ لحماية الحياة من أعدائها، لا لتدميرها على أساس الاستعلاء والسيطرة المطلقة.
ونستطيع أن نلمح ذلك كلّه، في طبيعة الإيمان بالله، وفيما يوحيه للإنسان في إطار القوّة، عبر علاقة الخالق بالمخلوق، وفي الأهداف العامة للإسلام، وفي الأهداف المباشرة للقتال.
فقد نخرج من ذلك بنتيجة حاسمة، وهي، أنّ الإسلام لا يرضى ـــ في أيّة حالة من الحالات ـــ بأن يستخدم الإنسان، فرداً أو جماعة ـــ ما يملكه من قوّة في أي سبيل من سُبُل الفساد والعدوان على الحياة، لمجرّد مزاج شخصي مريض، أو أطماع ذاتية جشعة، بل يريد له، أن يُبدّلها ويفجّرها في المجالات التي تبني للإنسان حياته على أساس متين من الإيمان والعدالة والسلام.
وسنحاول وضع النقاط على الحروف، في كلّ واحدة من هذه العناصر التي تخلق الجوّ الذي يريد الإسلام أن يحشده في داخل الإنسان، وفي حركة الحياة، من أجل حماية القوّة نفسها، وحماية الآخرين من انحرافها.
1 ـــ فنجد ـــ في البداية ـــ أنّ الإيمان بالله القوي القادر، الذي لا حدّ لقوّته، ولا نهاية لقدرته، يمنع الإنسان الذي يعي هذه الحقيقة، ويعيشها بعمق، من الاستسلام الطاغي للعوامل النفسية المنحرفة، التي تجعله يستطيل على الآخرين بقوّته، لأنّه يشعر بقوة الله المطلقة المسيطرة على قوّته، فيتضاءل ويتصاغر ويخشع أمام ذلك كلّه، وبالتالي، يمتنع عن ممارسة الظلم والعدوان على الناس..
وقد تحدّث القرآن الكريم كثيراً عمّا ينتظر الظالمين من عقاب لدى الله، دون أن يملكوا شيئاً يستطيعون أن يفتدوا به أنفسهم من سوء العذاب، وصوّر لنا مواقف الذلّة والمهانة التي يواجهونها يوم القيامة، وانطلق في تهديدهم على ذلك كلّه، بأسلوب الإبهام الذي يجعل الإنسان ينتظر كلّ شيء من خلال ذلك، كما في قوله تعالى:
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء : 227].
وقد نجد في الكثير من الأحاديث المأثورة عن النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، التأكيد على خطورة الظلم الذي لا يشعر المظلوم معه بأيّة قوة ذاتية تجاه الظلم، بل يتّجه بنظره، في حاجته إلى الاقتصاص من ظالمه، إلى الله تعالى.
ففي الحديث عن الإمام عليّ (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): يقول الله عزّ وجلّ: "اشتدّ غضبي على مَنْ ظَلَمَ مَنْ لا يجدُ ناصراً غيري".
وفي حديث الإمام جعفر الصادق: ما من مظلمة أشدّ من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلاّ الله(1).
وفي حديث آخر عنه قال: إنّ الله أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبّار من الجبّارين: إن أتيت هذا الجبّار فقل له: إنّي لم أستعملك على سفك الدماء واتّخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين فإنّي لم أدع ظلامتهم وإنْ كانوا كفّاراً(1).
ونلمح ذلك في الأشعار الأخلاقية الوعظية، التي يستمدّ أصحابها مضمونها من النصوص الدينية التي تؤكّد خطورة الظلم وعقوبته، كإيحاء للظالم بأنْ لا يعتد بقوّته التي تدعوه إلى الظلم، لأنّ هناك قوّة أخرى منه قادرة على الاقتصاص منه، إنْ عاجلاً أو آجلاً، كما قال الشاعر:
تنامُ عينُكَ والمظلومُ منتبهٌ يدعو عليك وعينُ اللهِ لَمْ تنمِ
وقول الآخر:
وما من يدٍ إلاَّ يدُ اللهِ فوقها وما ظالم إلاَّ سَيُبلى بأظلمِ
ولم يقتصر الأمر في أحاديث القرآن الكريم على الحديث عن عقاب الله للظالمين في الآخرة، بل حاول أن ينقل لنا في أكثر من آية صورة الجبابرة والطغاة، الذين حكموا الناس بالشدّة والقسوة والعنف، فأنزل الله عليهم العذاب في الدنيا ودمّرهم تدميراً، بالصواعق والزلازل والصيحة وغيرها، كنتيجةٍ لفسادهم وطغيانهم، ممّا يوحي لغيرهم بالعاقبة السيّئة التي تنتظرهم، فيما إذا ساروا في هذا السبيل أو سلكوا هذا المسلَك.
قال الله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ*وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ*فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6 ــ 14].
2 ـــ ونواجه ـــ في هذا المجال ـــ الأهداف الإسلامية، التي تبتعد كثيراً عن الأهداف العدوانية المنحرفة، التي يمارسها الإنسان في حركة القوة والحياة.
فنحن لا نجد في القوّة الإسلامية، القوة التي تنطلق من الشعور بالحاجة إلى تأكيد الذات، بالتعبير عنها في حركات استعراضية، في عملية زهو واختيال.
ويلاحظ ـــ في هذا الجانب ـــ الآيات الكريمة التي تحاول أن تعرّي هؤلاء الذين يتباهون في المجتمع بقوّتهم، فيحاولون التعبير عنها بأوضاع استعراضية مختلفة، وذلك بالإيحاء بالسخرية منهم ومن الأوضاع التي يتّخذونها ويمارسونها أمام الآخرين.
قال الله تعالى:
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء : 37].
إنّها صورة هؤلاء الذين يحاولون التعبير عن الشعور الذاتي بالعظمة، بطريقة المشي على الأرض بقوّة، بحيث يقومون برفع أعناقهم وأكتافهم في أسلوب استعلاء، ويضربون الأرض بأقدامهم في عملية تأكيد على القوة. وهنا تنطلق الصورة القرآنية لتقول لهم: إنّكم، مهما ضربتم الأرض بأقدامكم، فلن تستطيعوا أن تخرقوها أو تتركوا فيها أيّ أثر، بل تقف النتيجة عند حدود الألم الذي يصيبكم من عنف الضربة، ومهما رفعتم أكتافكم وتطاولتم بأعناقكم، فلن تستطيعوا أن تبلغوا الجبال طولاً، فلماذا هذا الجهد؟ ولماذا هذا العناء؟ ولماذا هذه الحركات الاستعراضية التي لا معنى لها؟!
وربّما نلمح نفس الصورة في إطارٍ آخر يمثّل الإمعان في السخرية بطريقة مثيرة، في آيةٍ أخرى، قال تعالى:
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان : 18].
فقد شبّه الإنسان الذي يلوي عنه بالإبل التي تلوي أعناقها عندما يصيبها داء الصعر، الذي يصيب الإبل فيجعلها تلوي أعناقها. ونترك للقارئ أنْ يتصوّر مبلغ السخرية في صورة هذا الإنسان، الذي يحاول أن يمنح نفسه مظهر العظمة أمام الآخرين، فإذا به يجد نفسه، ويجد الآخرين، وجهاً لوجه أمام صورة البعير الذي يظهر بنفس الصورة في حالة مرضية خاصة.
3 ـــ ولا نلمح ـــ في القوة التي يريدها الإسلام للحياة ـــ القوّة التي تتحرّك لتلبّي حاجة في ذاتها لتدمير ما حولها، كطريقة عملية للتنفيس من عقدة النقص الكامنة في الأعماق، بل نلمح العكس في ذلك، موقفاً مواجهاً للذّات في حركة صراع نفسي حاسم، يؤدّي بها إلى الانفتاح على الرسالة بدلاً من الانغلاق على الذّات، وهذا هو ما نواجهه في دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في الفقرة التالية: "اللّهم... ولا أُظلمن وأنتَ مطيق للدفع عنّي، ولا أَظلِمنّ وأنتَ القادر على القبض منّي..".
فإنّنا نجد في هذه الفقرة دعاءً رائعاً يستدعي فيه الإنسان ربّه على ذاته، ويستعين فيه بقوة الله وقدرته على السيطرة على نوازع الظلم الكامنة فيه، التي يثيرها الشعور بالقدرة الذاتية على ظلم الآخرين.
ويلتقي مع هذه الفقرة، دعاؤه في موضعٍ آخر: "... وامنعني عن أذى كلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة.."
ونواجه في دعاءٍ آخر فيضاً من هذه الروح التي ترتفع بمشاعرها إلى المستوى الذي يتساوى فيه لديها الشعور بظلم الناس لها، وظلمها هي للناس، في الرفض والكراهة لذلك كلّه.
"اللهم فكما كرَّهت إليَّ أن أُظلَم فقني مِنْ أنْ أَظلِم..".
وكأنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) يطلب من الله أن يظلم الناس على أساس تنمية الشعور بالكراهية ضدّ نزعة الظلم، تماماً، كما يعيش في داخله الشعور بكراهته لظلم الآخرين له.
ويتسامى هذا الشعور الروحي الرائع ويشف عن الطهر الداخلي المتموّج في أعماق النفس، ليتجسَّد في شعور إنساني إزاء هؤلاء الذين أساؤوا إليه بما يملكون من قوّة غاشمة. إنّه يفكّر في مصيرهم في الآخرة، كيف يقفون بين يدي الله، وكيف يواجهون عقابه وعذابه على عدوانهم عليه، وإساءتهم لكرامته. إنّه يفكّر بهم تفكير صاحب القوة في الموقف في الآخرة، لأنّه موقف صاحب الحقّ أمام من يملك قوة الاقتصاص ممّن عليه الحق، ويعفو إذا عفا صاحب الحق. إنّه يفكّر بهم تفكيراً إنسانياً من جهة، وواقعياً من جهةٍ أخرى. فهو ـــ من الناحية الإنسانية ـــ لا يريد لأحد أن يتألّم أو يعذّب نفسه بسببه، أمّا من الناحية الواقعية، فإنّه ـــ كإنسان ـــ يشعر أنّه أخطأ مع الله، كما أخطأ هذا الإنسان معه، فيريد أن يعفو عن حقّه، ليكون ذريعةً له إلى طلب عفو الله، لأنّ الله أكرم منه وأرحم، فلا يمكن أن يطلب من الله العفو عمّن أساء إليه، ليعاقبه على معصيته له وتمرّده عليه. وبذلك يخضع الموقف لعملية حسابية، تطلب عفواً بعفو وتستدرّ رحمةً برحمة، انطلاقاً من لطف الله ورحمته في إنسانية الفكرة وواقعيتها العملية. وهذه هي بعض فقرات الدُّعاء فيها الفيض الشعوري ويتسامى في النفس مع كل كلمة رجاء، ولفتة خشوع:
"اللّهم وأيّما عبد نال منّي ما حظرتَ عليه وانتهك منّي ما حجرت عليه، فمضى بظلامتي ميتاً أو حصلت لي قِبلَه حيّاً فاغفر له ما ألمّ به منّي، واعف له عمّا أدبر به عنّي، ولا تقفه على ما ارتكب فيّ ولا تكشفه عمّا اكتسب بي، واجعل ما سمحتُ به من العفو عنهم وتبرّعت به من الصدقة عليهم أزكى صدقات المتصدّقين وأعلى صلات المتقرّبين، وعوّضني من عفوي عنهم عفوك، ومن دعائي لهم رحمتك، حتى يسعد كلّ منّا بفضلك وينجو كلّ منّا بمنّك، اللهم وأيّما عبيدك أدركه منّي درك أو مسّه من ناحيتي أذى، أو لحقه بي أو بسببي ظلم ففتّه بحقه أو سبقته بمظلمته فصلِّ على محمد وآل محمد، وأرضه عنّي من وُجدك، وأوفه حقّه من عندك ثمّ قني ما يوجب له حكمك وخلّصني ممّا يحكم به عدلك، فإنّ قوّتي لا تستقل بنقمتك وإنّ طاقتي لا تنهض بسخطك؛ فإنّك إن تكافني بالحقّ تهلكني، وإلاّ تغمّدني برحمتك توبقني(1).
إنّها الروح الخيّرة الوديعة، التي تُفكّر بالحياة والراحة والسلام للناس كلّ الناس، وتنطلق همومها الدنيوية والأَخرويّة لتعيش حركةً وفكراً ودعاءً، من أجل أن تخفّف أثقال الناس عن أكتافهم وتخلّصهم من أوزار الحياة، وخطايا العمل، ليسعد الجميع برحمة الله في الدنيا والآخرة.
إنّها الروح الإسلامية التي تطرد من الداخل كلّ عقدة نقص، لتبدّل الذات في اتجاه الانفتاح الواعي الذي يتّسع لكلّ الناس بالخير، للأصدقاء وللأعداء. وتلك هي إحدى خصائص الروحية الإسلامية، فيما تقدّم للإنسانية من عطاء الروح وامتدادها المنطلق أبداً في مدارج القِيَم.
4 ـــ وليست طبيعة القوّة التي ينشدها الإسلام، هي التي تتحرّك من أجل تركيز قواعد الاستعمار والسيطرة على العباد والبلاد، للاستيلاء على المصادر الطبيعية والمواد الخام للشعوب، وتحويلها إلى حقل للاستثمار والاستغلال، من خلال اعتبارهم سوقاً استهلاكية لتصريف المنتجات الصناعية والزراعية، التي تنتجها البلاد القوية، كما فعله ويفعله المستعمرون القدامى والجُدُد، في أيامنا هذه، عندما يستخدمون قوّتهم السياسية والعسكرية في إذلال الشعوب واستعبادها من أجل الشعور بالتفوّق العنصري من جهة، أو الحاجة إلى المواد الخام التي تنتجها بلدان الشعوب الضعيفة المستعمرة، لتغذية الصناعة في بلدان الدول الاستعمارية، كما هو الحال في الثروات الطبيعية من النفط والذهب والمعادن الأخرى التي تحتاجها الصناعة في نموّها وازدهارها من جهةٍ أخرى. فقد كان ذلك كلّه سبباً من أسباب الاستعمار القديم والجديد لبلداننا، سواء في ذلك الاستعمار الأوروبي أو الأميركي الذي عشنا تحت وطأته بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. وكان من بين الأسباب المباشرة في ذلك، حاجة تلك الدول إلى تصريف منتجاتها الزراعية والصناعية، سواءً في ذلك، المواد الاستهلاكية أو أدوات الحرب التي تنتجها مصانع الأسلحة، الأمر الذي يجعلها تخلق لهذه الشعوب حاجات غير ضرورية، ثم تنطلق في حياة الشعوب لتطبعها بطابع حضارتها الصناعية، فتصوغ شخصيّتها على صورتها الحضارية، لتظلّ مشدودة إلى ذلك في كلّ مجالاتها العامة والخاصة بشكل طبيعي.
وعلى أساس ذلك كلّه، كانت تخلق الفتن وترتجل الحروب، وتصنع المشاكل وتمنع نمو الحركة الصناعية في البلاد النامية التي تجاهد من أجل الحصول على القوة، من خلال الاكتفاء الذاتي في المنتجات الاستهلاكية وغيرها. فتأتي الدول الاستعمارية لتحوّل اقتصادها إلى اقتصاد حربي، يمتصّ ثروات البلاد كلّها ليقدّمها لقمة سائغة لأدوات الحرب التي تنتجها تلك الدول، كنتيجة طبيعية لإثارة المشاكل الداخلية والخارجية التي تنتهي إلى الحرب. وهكذا تستمر اللعبة الاستعمارية حتى تسقط البلاد صريعة الإفلاس الاقتصادي، تحت ضغط الأعباء العسكرية والديون الكثيرة، حيث تنهار تماماً لترتمي في أحضان المخطّطات الاستعمارية من جديد.
إنّ الإسلام يشجب هذا كلّه، لأنّه يرفض الأساس الذي ينطلق منه في حركة القوّة، أو نشاط الأقوياء في الحياة. فإنّنا نجد في القرآن الكريم حديثاً مسهباً، في أكثر من آية، عن طغاة التاريخ، وكيف كانت أساليبهم في الحكم وجرائمهم ضدّ شعوبهم، ومحاولتهم تفريق صفوفهم، ليتسنّى لهم ممارسة الحكم على هذا الأساس، عمقاً وامتداداً.
ففي حديثه عن فرعون تواجهنا هذه الصورة، كنموذج للحاكم الذي يدعو القرآن إلى الثورة عليه وتحطيم قوّته، فيما يحدّثنا عن دعوة موسى ورسالته في إنقاذ الأمة من واقع الحكم الذي يسيطر عليها، بكلّ قسوة وشدّة طغيان.
قال تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس : 83].
وقال تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} [المؤمنون : 46].
وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ*وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ*وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 4 ــ 6].
إنّه يستعرض لنا كلّ التصرفات التي تستغلّ ضعف المستضعفين، لتجعل من القوّة التي يملكها الحاكم منطلقاً للفساد الذي ذكر القرآن بعض نماذجه في قصّة فرعون. ثم يطلق وعد الله للمستضعفين بالنصر، إذا ساروا مع إرادة الله في الأخذ بأسباب النصر التي تخطّط لها رسالات الله، كما حدث لفرعون، ونهايته في إغراقه بالبحر، وانتصار موسى عليه.
ويحدّثنا القرآن الكريم عن بعض النماذج الأخرى من هؤلاء الجبابرة الذين استخدموا قوّتهم للبطش بالضعفاء، فبعث الله الأنبياء برسالاته، من أجل تغيير الواقع، وأرسل العذاب ـــ بعد ذلك ـــ عليهم لتدميرهم بقوّة الله، عندما لم ينتفعوا بالكلمة الطيّبة، والدعوة الصالحة. وهم عاد، قوم هود الذين حدّثنا القرآن عنهم في أكثر من سورة، مستعرضاً قوّتهم الطاغية الكبيرة من جهة، وسوء استخدامهم لها من جهةٍ أخرى، للإيحاء بأنّ الله لا يريد للقوّة التي يهبها للإنسان أن تسير في هذا الاتجاه، فإذا لم تتّجه الاتجاه الصحيح، فإنّ الله بالمرصاد له، كما كان بالمرصاد لكلّ طاغ أو باغ سابق، إنْ عاجلاً أو آجلاً.
قال تعالى:
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ*إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ*فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ*وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ*أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ*وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ*وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ*فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ*وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ*أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ*وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ*قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ*إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ*وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ*فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 123 ــ 139].
وهكذا نجد الإسلام، في آيات أخرى، يعلن رفض هذا الأساس، لأنّ الأهداف الإسلامية في كلّ ما خلقه الله أو ما يخلقه من طاقات في الكون، في حياة البشر وغيرهم، لا تلتقي بمظاهر الفساد في الأرض، وبكلّ مظاهر الكبرياء في الحياة، لأنّ الإسلام انطلق من أجل القضاء على الفساد، وعلى الشعور الذاتي بالزهو والعظمة الفارغة التي تخاطب الآخرين من فوق لتشعرهم بأنّها تملك الحقوق الإلهية التي تجعل لها السيطرة على الناس، وهو ما نستلهمه من الآية الكريمة في قوله تعالى:
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص : 83].
فنحن نواجه في هذه الآية الكريمة أساسين للتقييم الإنساني عند الله:
1 ـــ رفض إرادة العلوّ في الأرض، التي تنطلق من شعور الإنسان بذاته، بالمستوى الذي يرتفع به فوق الآخرين؛ ولذا فإنّه يعمل من أجل تجسيد هذا الشعور في علاقته بهم وعلاقتهم به، الأمر الذي يجعله يبرّر كلّ تصرّف يصل به إلى هذه الغاية. والإسلام يرفض ذلك، ويعمل على أن يتحوّل الإنسان إلى الشعور الإنساني الجديد، الذي لا يجد معه أيّ امتياز لنفسه في مقابل الآخرين، بل هو مخلوق مثلهم، قد يتميّز عنهم ببعض الأشياء، كما قد يتميّزون عنه بأشياء أخرى، فليس من حقّه أن يطلب منهم شيئاً على أساس ما يميّزه، كما لا يرضى لنفسه أن يتطلّبوا منه ذلك على أساس ما لديهم من صفات وأعمال تميّزهم عنه.
2 ـــ رفض إرادة الفساد في الأرض، فإنّ الله لا يحبّ الفساد، ويُبغض عمل المفسدين، لأنّ ذلك يصطدم بالأهداف الإسلامية الكبرى التي تتمثّل في بناء الحياة، في الأرض والسماء على الحقّ، حيث قال الله تعالى:
{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان : 39].
ولا يقوم الحقّ إلاّ بالعدل والإصلاح الذي قامت رسالات الأنبياء وسلوكهم العملي على أساسه، كقوله تعالى في سورة الحديد:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25].
وتتنوّع أحاديث القرآن الكريم في تصويرها للنماذج البشرية التي تجعل من قوّتها الذاتية في المال، أو في الجاه، طريقاً للفساد والسيطرة على البلاد والعباد، ولتغذية نوازعها الإجرامية المرتكزة على أساس ما يحملونه من العقد النفسية الناتجة عن الشعور بالنقص. وتنطلق الأساليب القرآنية لتشرح لنا نتائج سلوكهم وعملهم في الدنيا والآخرة، كإيحاء للناس بالرفض لهؤلاء، في واقع حركة الإنسان الهادفة إلى تحصيل القوّة.
قال الله تعالى ـــ وهو يضرب لنا المثل للإنسان الذي يطلب من الناس أن يمنحوه قوّة المركز بتأييدهم له، باسم شعارات الحقّ والعدالة والإصلاح، حتى إذا استجابوا له في ذلك، وحصل على ما يريد من سلطة، فأخذ بزمام الأمور، تنكّر لكلّ شعاراته، ومضى ينفذ نواياه الخفيّة في مخطّطات الفساد والدمار ـــ :
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 ــ 206].
وقال تعالى، وهو يحدّثنا عن قارون "الذي آتاه من الكنوز، ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أُولي القوّة.. {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ*وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ*قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 76 ــ 78].
إنّه الإنسان الذي يشعر بالقوّة المالية التي تبرّر له كلّ عمل، وكلّ موقف، حتى ليرتفع عن المواعظ الموجّهة إليه في استخدام قوّته في الخير، وترك توجيهها نحو الشر، لأنّه يرى أنّ هذه القوة من صنع يديه، فليس لأيّة قوّة حتى الله، أيّ تأثير في ذلك، ولذا فلا يملك أيّ أحد وصاية عليه فيما يريد أن يعمل أو يترك.
والقرآن الكريم ينقل الصورة، أمام هذا وأمثاله، إلى التاريخ الذي تنطلق فيه القوى الهائلة في المال والسلاح وغيرهما حتى تأخذ بمشاعر الناس، ولكنّها لا تلبث أن تقع صريعة قوانين الله في الحياة وسننه في الكون، التي تدمّر كل القوى التي تسير في طريق البغي والعدوان والطغيان.
... وكانت النتيجة ـــ مع هذا الإنسان ـــ لا تختلف عن نهاية أمثاله في التاريخ:
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ*وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 81 ــ 82].
وخلاصة القول في هذا الحديث كلّه: إنّ القرآن يشجب كلّ هذه النماذج الشريرة للقوة، ليوجه الإنسان من خلال ذلك إلى الأهداف التي يجب أن يستهدفها الإنسان فيما يملك من قوى، وليقرّر الخطّ المستقيم الذي يريد للإنسان أن يسير عليه، وهو أنّ القوة التي يريدها الإسلام لا تنطلق مع الفساد وللفساد، بل هي للخير، ومع كل خطوات الخير، في كل زمان ومكان.
وخلاصة ما نريد أن نقرّره في هذا الجانب من الحديث: إنّ الإسلام لا يقرّ استخدام القوّة من أجل تحقيق الأهداف المضادّة للقِيَم الإسلامية، لأنّ القوّة ووسائلها هي هبة الله، فلا يمكن لدين الله أن يبيح للإنسان استخدامها فيما لا يريده الله، وبذلك تُحدّد الخطوط الأساسية للجانب الأخلاقي للقوّة في الناحية السلبية من الهدف، فيتحوّل سلب القوة إلى ميّزة أخلاقية للقويّ الذي يمنع قوّته عن الامتداد والتحرّك في الاتجاه المضادّ للقِيَم الإسلامية، فإنّ أخلاقية أيّ عمل، تتبع القاعدة العامّة للبناء الأخلاقي في الحياة. فإذا كانت القاعدة في الإسلام مرتكزة على الانسجام مع أوامر الله ونواهيه المنطلقة من مصلحة الإنسان العليا، فلا بدّ للأخلاق العملية أن تتحرّك في هذا الاتجاه، وتصبّ في مجاريه، تماماً، كما هي الينابيع عندما تتفجّر لتتحوّل إلى أنهار تهب الحياة والخضرة والخصب والريّ والجمال، وكما هي الجذور التي تمتدّ في الأعماق لتبعث في الأغصان الريّ والنضارة والثمر، فإذا كفّت الينابيع عن التفجّر والامتداد والعطاء، أو حالت الأحجار المتراكمة بينها وبين الانطلاق بعيداً، تحوّلت الأنهار إلى مستنقعات لا تلبث أن تجفّ أو تنتهي، وإذا كفّت الجذور عن امتصاص الماء من الأرض، لتعطي الأغصان الحياة، تحوّلت الأغصان إلى خشب. إنّها الحياة في كلّ مظاهرها، التي يُعتبر فيها الفرع امتداداً للأصل، وإلاّ انفصل عنه ليكون ذرّة تائهة في الفراغ.
2 ـــ مع الأهداف الكبرى للقوّة في الإسلام ـــ الجانب الإيجابي:
كان الحديث عن الأهداف الإسلامية للقوّة، في الفقرة السابقة من البحث، حول الجانب السلبي من الهدف، الذي يتمثّل فيما يرفضه الإسلام من المجالات العملية، التي تتحرّك القوّة نحوها أو في إطارها الكبير، في واقع الممارسة الإسلامية للقوّة في الحياة.
ونحن ـــ في هذه الفقرة من البحث ـــ ننطلق في محاولة الدخول في الجانب الإيجابي للهدف الإسلامي، الذي يُراد لنا أن نُحقّقه ونُجسّده، فيما نُحقّق من أهداف أو نُجسّد من قِيَم، لتكتمل للحركة الإسلامية شخصيّتها المستقلّة في جوانبها الإيجابية والسلبية، لتمثّل الحدّ الفاصل بين الشخصية المسلمة وبين الشخصية الكافرة في الحياة. فإنّ فقدان الوضوح في الخصائص الأصيلة، يُفقد الإنسان نفسه، في الوقت الذي يُخيّل إليه فيه، أنّه يعيشها فكرةً وحياةً.
وقد حدّد القرآن الكريم الجانبين، السلبي والإيجابي، من خلال تحديده الفارق الأصيل في حركة القوّة بين المؤمنين وبين الكافرين، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء : 76].
إنّهما الخطّان المتوازيان، أو بالأحرى المتعاكسان، فلكلٍّ منهما اتجاه يختلف عن اتّجاه الآخر، فالمؤمنون الذين يؤمنون بالله في عقيدتهم ووجدانهم، كأساس لتصوّر الحياة, وحركتها الصاعدة، يقفون في النقطة التي تواجه البداية التي انطلقت من الله، لتسير في طريق الغاية التي تنتهي إلى الله، ولذا فإنّهم يتحرّكون بهاجس الإيمان بالله، ليحصلوا على رضاه وينالوا رحمته.
أمّا الكافرون، الذين لا يستجيبون لنداء الإيمان، ولا يتفاعلون بمؤثّراته ـــ أمّا هؤلاء ـــ فإنّهم يواجهون الموقف، بالروح التي باعت نفسها للطاغوت، الذي يتجاوز الحدّ في الطغيان، فلا يقف عند حدود العدل والحقّ والخير، بل ينطلق بعيداً في طريق الظلم والباطل والشرّ. ولذا فإنّهم لا ينفتحون على الله لينفتحوا على ما يمثّله هذا الإيمان، من خير للإنسان والحياة، بل يظلّون واقعين تحت تأثير غرائزهم وأطماعهم الصغيرة والكبيرة، على السواء، بعيداً عن معاني رحمة الله ولطفه وعنايته، وقد عرفنا كيف يرفض الإسلام سبيل الطاغوت فيما تحدّثنا عنه من الجوانب الشريرة، التي يريد الإسلام للقوّة أن تقف منها موقفاً سلبياً، لأنّه يؤمن بأنّ ممارسة الضعف عن الحركة أمام دعوة نوازع الشرّ، تمثّل القوّة نفسها في ميزان القِيَم في الإسلام.
أمّا سبيل الله، فهو الخطّ العريض لكلّ أهداف الحياة المثلى، التي تتحرّك القوّة فيها في تشريع الإسلام وتطبيقه، لأنّ القوّة هي هبة الله، سواء في طبيعتها، باعتبارها مخلوقة لله القويّ خالق القوى، أو في وسائلها التي تستخدمها، باعتبارها أساساً للتحرّك في هذا الاتجاه، وإذا كانت هبةً من الله، كان على الإنسان أن يُسخّرها في طريق الله.
قد أثار الإسلام أمام الإنسان، مسؤوليّته العملية عن القتال في سبيل الله، والجهاد بالمال وبالنفس في هذا السبيل، ومحاربة الجماعات التي تصدّ عن سبيل الله. ولا شيء آخر غير هذا السبيل، الذي يجب أن يحرّك الإنسان طاقاته فيه، لأنّ ذلك هو معنى الإيمان، وحقيقته وواقعيته. وهو الأساس الأخلاقي الذي يبرّر للإنسان القتال، الذي قد يؤدّي إلى قتل الآخرين أو قتل نفسه، لأنّ الحياة تظلّ قيمة كبيرة ممتدّة لا يمكن للتشريع أن ينتهك حرمتها، أو يؤدّي إلى إباحة قتلها، ما لم تصطدم بهدف أكبر، وبغاية أعظم، لأنّ الأهداف تتزاحم أمام حركة الحياة، تماماً، كما هي الظواهر تتصارع في واقع الحياة، ولا بدّ أن يكون التشريع في خدمة الأصلح من الأهداف، كما يقال عن البقاء للأفضل في ظواهر الحياة. وعلى هذا الأساس، كانت قِيَم الحياة الكبيرة التي يجسّدها الإسلام في مفاهيمه وتشريعاته وخططه العملية في تنمية الحياة وتطويرها في اتّجاه الانسجام مع الكون أمام الله. فكان لها الأفضلية في حساب التشريع، عندما وقفت القِيَم في جانب، ووقفت حياة أتباعها وخصومها في جانبٍ آخر، ولم يكن هناك أيّ خيار في الساحة، فلا بدّ من سقوط أحدهما فيها، لأنّ استمرار الحياة المنطلقة مع القِيَم في سبيل الله، يتوقّف على أن يسقط في الطريق الكثير من الشهداء والأعداء، وبذلك ـــ وحده ـــ نفهم كيف يكون القتل قيمة أخلاقية كبرى، بدلاً من أن يكون جريمة فظيعة صارخة.
وقد كثرت النداءات الإلهية في القرآن الكريم، التي تطلب من الإنسان الاتجاه في قواه نحو هذا السبيل، وتدعوه إلى الجهاد بالمال والنفس، باعتبارهما القوّتين الكبيرتين اللّتين يملك تفجيرهما في خدمة الله، على طريق ما أراده للإنسان من أهداف خيّرة في حياته وفي آخرته.
قال تعالى:
1 ـــ {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة : 190].
2 ـــ {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً*وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النساء: 74 ــ 75].
3 ـــ {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء : 84].
4 ـــ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة : 218].
5 ـــ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف : 4].
ولم يتوقّف القرآن الكريم عند الدعوة إلى القتال في سبيل الله، كموقف من مواقف الانسجام مع خطّ الإيمان، بل انطلق ليعبّر عن القيمة الروحيّة الكبيرة التي يعطيها للمقاتلين والمجاهدين، سواء منهم الذين يقتلون في المعركة، أو الذين يخرجون منها أحياء بعد أن أبلوا فيها البلاء الحسن، وقاموا بواجبهم خير قيام ـــ كما نلاحظه في الآيات الكريمة التالية ـــ :
قال تعالى:
1 ـــ {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً*دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 95 ــ 96].
2 ـــ {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة : 111].
3 ـــ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 ــ 171].
4 ـــ {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 74].
ولكن أين نتلمّس سبيل الله، فيما نتلمّسه من سُبُل، وهل الله تعالى بحاجة إلى الجهاد من أجله؟.. إنّ القضية لا تعيش في هذا الاتجاه، ولا تتمثّل في إطار حاجة الله إلى أن ننصره وأن ننصر إرادته ـــ فإنّه سبحانه، أعلى من ذلك وأجلّ ـــ ولكنّها حياتنا نحن الذين افتقدنا السبل الهادية في حالات الضياع، فكان سبيل الله، هو سبيلنا الهادي إلى الحقّ والنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة. وبذلك كانت القضية قضية الإنسان بالذات، وليست قضية الله سبحانه، لأنّه الغني المطلق عن كل شيء حتى هُدانا وضلالنا. ومرّة أخرى، أين نتلمّس سبيل الله فيما نتلمّسه من سُبُل، وما هي أهدافنا في السير في طريق الله؟.. إنّنا لن نستطيع استيعاب ذلك كلّه، لأنّه يتّسع للحياة كلها، بما يتّسع له من مجالات وأهداف، ولكنّنا قد نضع أيدينا على بعض الجوانب الأساسية البارزة في أهداف القتال المطروحة في الإسلام.
1 ـــ العمل على بناء الحياة على أساس قاعدة الإيمان بالله وبرسله وشرائعه، من خلال اعتبار القوّة منطلقاً عملياً، يجعل الحركة أقوى وأسرع، ويعطي للعاملين شعوراً بالثقة أكثر، حيث تمتزج القوة التي يمنحها الإيمان بالقوّة التي يفرضها الواقع، كما يدفع الناس إلى الدخول في الدعوة الإسلامية بشكلٍ أعمق.
2 ـــ حماية العقيدة من الاضطهاد من قِبَل أعدائها، بخنق حريّتها من جهة، ووضع الحواجز التي تمنعها من التحرّك والانطلاق بعيداً في حياة الناس من جهة ثانية، وفتنة أتباعها عن دينهم بمختلف وسائل الضغط، من التعذيب والنفي، والإجهاز على مصالحهم العامة من جهة ثالثة.
3 ـــ الانتصار للقوى المُضْطّهَدة والمظلومة المغلوبة على أمرها، ضدّ القوى الظالمة التي تصنع قصّة الاستعمار والاستغلال والعدوان في قلب الحياة.
4 ـــ إضعاف قوّة المشركين وتحطيم بأسهم، لئلاّ يبقى الكفر قوّة تمنع الإسلام من متابعة سيره وتحقيق أهدافه الثورية والإصلاحية.
5 ـــ الدفاع عن النفس وصدّ العدوان عن العباد والبلاد والمقدّسات، ومحاربة المعتدين.
هذه هي بعض الأهداف التي تتمثّل في مفهوم "سبيل الله" الذي يريد الإسلام للإنسان أن يحرّك القوّة في اتجاهه، ويعتبر التضحية بالمال والنفس على هذا الأساس قيمة كبيرة من قِيَم الحياة، التي يرتفع بها الإنسان لدى الله، في درجات الرضوان.
ومرةً أخرى يطرح السؤال نفسه، هل تبرّر الأهداف وسائلها التي تتجسّد في إزهاق أرواح الكثيرين من المقاتلين، في سبيلها أو في سبيل الأهداف المضادّة لها مِن قِبَل أعدائها؟.
أمّا الجواب عن ذلك، فنجده في بعض الآيات القرآنية التي تفلسف القتال، واستعمال القوّة ضدّ العدوان على العقيدة والناس والحياة، بالمحافظة على استمرار الحياة على أساس النظام والصلاح، ومنع الفساد والإفساد، وذلك هو قوله تعالى:
1 ـــ {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة : 251].
2 ـــ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ*الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحجّ: 39 ــ 41].
ففي الآية الأولى، يفلسف القضية من ناحية عامة، وهي المنع من فساد الأرض وانهيار الحياة فيها، لأنّ إفساح المجال للمعتدين والطغاة والمتجبّرين والمنحرفين، يؤدّي بالحياة إلى أن تخضع لعدوانهم وطغيانهم وانحرافهم، ممّا يجعل من الحياة فرصة طيّبة للعبث والفساد واضطهاد الأبرياء بكلّ الوسائل المتنوّعة، حتى القتل.
وفي الآية الثانية، يفلسف الحرب من ناحية حرية العقيدة وحرية ممارستها، باعتبار ارتباطها بواقع هؤلاء المسلمين الضعفاء في مكة، الذين اضطّهدهم المشركون لأنّهم قالوا ربّنا الله، فعذّبوهم وأخرجوهم من بلادهم، فكان الدفاع عن حرية العقيدة، وعن أنفسهم ضدّ الظلم الذي تعرّضوا له، حقاً طبيعياً لهم، ولولا ذلك لما استطاع المؤمنون أن ينطلقوا في الحياة في حريّة وكرامة.
وإذا أردنا مواجهة الفكرة، في أجواء هذه الآيات، فسنضع الفكرة في إطارها الطبيعي من حركة الواقع، وذلك ضمن سؤال نوجّهه إلى أنفسنا.
ماذا نفعل إزاء واقع الظلم والطغيان والضغط على حرية العقيدة والحركة في الحياة؟
هل نقف مكتوفي الأيدي، فنمتنع عن كل أساليب الدفاع والهجوم، ونترك الطغاة والظالمين يفعلون ما يريدون، ويعبثون ما يشاؤون؟..
وهل تستطيع المواقف السلبية أن تحلّ مشكلة الحياة، فتحفظ للحياة حرمتها، وللناس حياتهم؟
إنّ الإيجاب لن يكون جواباً أساسياً، لأنه يعقّد المشكلة ولا يحلّها، لأنّ الطغاة لا يفهمون أساليب المحبّة والرفق واللين، إلاّ لوناً من ألوان الضعف الذي يغريهم بالامتداد في طغيانهم، ولا يجدون في سكوت الضعفاء، إلاّ مظهراً من مظاهر الانسحاق أمام قوّة الطغيان. فليس هناك شيء أدعى للطغاة في الاستمرار في طغيانهم، من ضعف الضعفاء أو تخاذل المتخاذلين، أو فقدان الصوت الذي يطلق كلمة الحقّ في قوة وإصرار، أو انعدام الموقف العملي الذي يجابه القوّة بالقوّة، والشدّة بمثلها. وعلى ضوء هذا، فإنّ الموقف يتحدّد بين اختيارين لا ثالث لهما، إمّا الانسحاب من موقف الرسالة ومبادئها وشعاراتها الإصلاحية، وترك الحياة لقمة سهلة لهؤلاء، يعيثون فيها فساداً، بكل ما تتّسع له كلمة الفساد من أعمال وأوضاع، وإمّا مواجهة هؤلاء بمختلف أساليب المواجهة، حتى بالتضحية بالمال والنفس.
إنّ الإسلام في تشريعه الجهاد والدفاع كمبدأين أساسيين يقف أمام الخيار الصعب، فيختار المواجهة، لأنّ ذلك هو مصلحة الإنسان بشكل عام. ممّا يجعل لحياة الرسالة في مبادئها وشعاراتها، مركز الأهمية الذي تتضاءل أمامه حياة الأفراد في بعض مراحل التاريخ، أمام الحياة الممتدّة في جميع المراحل، فإنّ الرسالة ليست مجرّد فكر يعيش خارج نطاق الواقع، أو مجرّد عمل يبتعد عن ضرورات الحياة وحاجاتها، بل هو المعنى العميق لحياة الإنسان، في ما تمثّله الحياة من ضرورات وشروط للامتداد والاستمرار. فإذا فقدها الإنسان فقد حياته؛ لأنّ الحياة التي تفقد مضمونها الحق، تفقد ذاتها في النهاية.
وبذلك وحده ـــ نفهم "أخلاقية القوّة" في الإسلام، فليست هي اللّين في إطار السلم الذي يحفظ الروح، وليست هي العنف في إطار الحرب الذي يزهق الحياة، بل هي الهدف الكبير الذي يتّصل بالحياة الكريمة وجوداً واستمراراً، الذي يحكم اللّين كما يحكم العنف، ويتعامل مع السلم كما يتعامل مع الحرب، وليس هذا هو شأن الإسلام وحده في قضية السلام والحرب، بل هو شأن كل رسالة أو مبدأ، فيما يخطّط له من شؤون الحياة والناس، في إطار القِيَم التي يؤمن بها، والمبادئ التي يدعو لها. فنجد لديه فكرة الحرب والسلم، في المركز الكبير من الأهمية في قاعدته الفكرية والتشريعية والأخلاقية، لعلاقتها بالقاعدة، وعلاقة القاعدة بها في ارتباط عضوي متلاحم، لا مجال فيه للانفصال والانحلال.
وقد بلغ الأمر ببعض المفكّرين(1)، أن يعتبر الحرب أمراً طبيعياً من زاوية بشرية أو إنسانية، باعتبار الغرائز المودعة في الإنسان كغريزة المقاتلة، ممّا يغريه بالظلم والانحراف والعدوان، ولذا فإنّها تعتبر استثناءً من القاعدة التي تحرم القتال وتشجب العنف، بل تعتبر قاعدة طبيعية، تماماً، ككلّ القضايا التي تنطلق من طبيعة الحياة وتنسجم مع واقعها الأصيل.
ولسنا هنا، في مجال مناقشة هذه الفكرة أو تلك، بل كلّ ما نقوله هو أنّ الإسلام لم يبتعد عن قاعدته الأساسية الروحية والأخلاقية، عندما شرّع الجهاد، وأباح القتال وشجّع على العنف، من أجل مواجهة الضرورات الدفاعية والوقائية التي تفرضها طبيعة حركته في الحياة، كدين يتحدّى الظلم والانحراف، ويهدم الإلحاد والفوضى، فإنّ شرعية إعدام الانحراف تفسح المجال أمام شرعية إعدام المنحرفين إذا توقّف عليه إعدام انحرافهم.
ولا بدّ لنا ـــ في ختام الحديث ـــ من الإشارة إلى أنّ بعض الآيات الكريمة قد حرصت على تحديد هذه الخطوط كلّها بعدم الاعتداء باستعمالها وممارستها، لأنّ الله لا يحبّ المعتدين.
ومن الطبيعي أنّ الاعتداء يتحدّد بحدود الأهداف التي رسمها الإسلام لحركة القوّة، فقد تكون بعض التصرّفات عدواناً، في حالة أو موقف، وقد لا تكون عدواناً في حالة أخرى وموقف آخر، تبعاً لانسجامها مع الخطّ العريض للهدف وابتعادها عنه.
3 ـــ الفكرة في نطاق التطبيق
... وكانت حروب النبيّ ومعاركه الإسلامية تجسيداً حيّاً وصورة أمينة للفكرة الإسلامية، فلم تختلف عنها، أو تنحرف عن خطّها العريض في قليل أو كثير. فإنّنا نلاحظ أنّها لا تخرج عن إحدى حالتين:
1 ـــ حالة الحرب الوقائية التي استهدفت إضعاف القوة الطاغية للشرك والكفر والضلال، حتى لا تتحوّل القوة إلى تدمير للعقيدة والحياة.
2 ـــ حالة الحرب الدفاعية التي كان الإسلام يدافع فيها عن نفسه ضدّ هجمات الكفر والشرك، أو عن الالتزامات والعهود التي نقضها الكفّار والمشركون.
ولم نجد هناك معركة استهدفت غير ذلك، في كل حروب النبيّ ومعاركه، ممّا يجعل القضية تعيش في إطار الانسجام التامّ بين الفكرة والممارسة، وبين النظرية والتطبيق جملةً وتفصيلاً. ولعلّنا نستطيع الحصول على الوضوح في هذا الموضوع، باستعراض خاطف للأسباب والبواعث التي كانت تدفع النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى إعلان الحرب على المشركين وغيرهم.
"فقد كان أوّل صدام مع قريش هو سرية عبد الله بن جحش في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين وقيل: في رجب، وفيها تعرّض المسلمون لقوافل قريش القادمة من الشام بقيادة أبي سفيان، وتبرير ذلك هو أنّه كانت هناك حالة حرب بين المسلمين وكفّار قريش في مكة، فإذا بدأ المسلمون بعمل كهذا بعد توالي اعتداءات قريش لم يكن في ذلك ضير أو حرج، سيّما إذا كان الغرض التعرّف على أخبارها، ولم يكن من أغراضها القتال. والمعروف حتى اليوم أنّ الحصار الاقتصادي من الوسائل المشروعة التي يقوم بها أحد المتحاربين ضدّ الآخر، ولا سيّما أنّ عمل المسلمين كان من قبيل القصاص والمعاملة بالمثل. وكانت بقية غزوات الرسول، إمّا لنقض العهد كما حصل من يهود بني قينقاع في المدينة، ومن مشركي قريش في نقض صلح الحديبية، وإمّا لردّ العدوان كما في غزوة أُحُد والخندق، أو لشنّ حرب وقائية كما كان الأمر مع الروم والفرس، حيث صار الإسلام في وسط مذأبة من الأرض، يراد به السوء من كلّ جانب، وما بقي إلاّ انتهاز الفرصة المؤاتية للانقضاض عليه واجتثاث أصوله في عقر داره، وقد شرعوا في ذلك بالفعل، فأرسل كسرى عظيم الفرس من يأتيه برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهرقل عظيم الروم قتل بعض ولاته ممّن أسلم في بلاد الشام"(1).
وانطلقت الحروب في الحياة الإسلامية لتتحرّك في نطاق هذين الهدفين. وبذلك كانت الفتوحات الإسلامية نقطة انطلاق لتحرير الإنسان من عبودية القوى الطاغية التي كانت تستغلّه، وضغط الأوضاع الشاذّة التي كانت تحيط به، والأجواء المظلمة التي كانت تخيِّم عليه، ليعيش مع مفاهيم الإسلام وتشريعاته الفكرة الإسلامية الأصلية، التي لا يشعر فيها المحكوم أمام الحاكم إلاّ كما يشعر الإنسان أمام إنسان مثله، في حدود مواجهة المسؤولية التي يشترك فيها الحاكم والمحكوم، من أجل تحقيق العدالة في الأرض، كلٌّ في موقعه ومجاله، دون أن يكون هناك أيّ شعور آخر بالقوة الطاغية التي تستعبد وتتحكَّم.
وإذا كانت هناك ـــ في هذه الفتوحات ـــ بعض الانحرافات الطبيعية التي تحدث في أيّ فتح بشري، في الحركة والممارسات والأوضاع الخاصة التي اقتضاها انحراف الحكم الإسلامي في كثير من مجالاته عن خطّ الإسلام، فإنّ تلك الانحرافات لا ترتبط بالإسلام فكرةً ومفهوماً وشريعة وتطبيقاً، وإنّما ترتبط بالأشخاص الذين قد يسيئون إلى وجه الفكرة عندما يجلسون في مركز القيادة ظلماً وعدواناً، دون أن تملك تصرّفاتهم صفة الشرعية الإسلامية، تماماً، كما قال بعض الأوروبيين: الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر.
ومع هذا كلّه، فإنّ الواقع الذي حدث في بعض الفترات لم يمنع مفكّراً مثل غوستاف لوبون من القول: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم وأعدل من العرب.
وقد نلتقي ببعض اللّمحات الحيّة البارزة في التشريعات الإسلامية، في نطاق التعاليم الموجّهة إلى المقاتلين في حركة الجهاد الإسلامي، ممّا يوحي بأنّ النظرة الإسلامية، لم تكن نظرة عدوانية تتطلّع إلى القتال، من حيث هو مزاج حاقد، أو وسيلة شرّيرة لهدف شرّير، بل هي نظرة رسالية، فلا تلتقي به إلاّ في طريق الرسالة وأجوائها وضروراتها، فإذا ابتعد عن هذا الإطار، أو كان للرسالة بديل عنه، ابتعدت عنه، واتّبعت طريق السلام، ما كان إليه سبيل. فنجد أمامنا التعاليم النبوية التي كانت توجّه إلى المقاتلين في سلوكهم الحربي، الذي يُراد له أن يبتعد عن طبيعة الحقد وروح الدمار وحالة الانفعال ـــ ما أمكنه ذلك ـــ لئلاّ تقوده هذه الأمور إلى ما يبتعد به عن هدفه ورسالته. ففي الحديث المأثور عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، لا تغلو ولا تمثّلوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلاّ إن تضطّروا، وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإنْ أبى فأبلغوه مأمنه(1).
وقد جاء في الحديث عن الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يُلقى السّم في بلاد المشركين(2).
فإنّنا نواجه في هذه التعليمات النبويّة، الخطّ الإسلامي الإنساني الذي يريد من المحارب أن يبقى منسجماً مع القِيَم الأخلاقية الإنسانية في حربه، كما ينسجم معها في سلمه، لأنّ علاقة الإنسان بالقِيَم ليست علاقة طارئة تفرضها الظروف، بل هي علاقة ثابتة لازمة يفرضها الإيمان، وتقتضيها الحياة، فإذا كانت الحرب خاضعة في أسبابها للدوافع الاستثنائية التي تواجه الواقع، فيجب أن نخفّف ما يمكننا تخفيفه من أثقالها وخسائرها الإنسانية، لتقتصر النتائج على ضرورات الحرب. فلا يُطلِق الإنسان لنفسه انفعالاتها ونوازعها التي تفجّرها أحقاد الحرب وآلامها، ممّا يحوّله في بعض اللحظات القاسية، إلى كيان متفجّر مدمّر لا يعقل، بل يتحرّك من خلال غرائزه التي تحكمها الرغبة في تدمير كلّ شيء تمرّ به ممّا يتعلّق بالعدو، حتى الأشخاص الذين لا يقاتلون أو لا يرغبون في القتال، أو الذين لا يستطيعونه، وحتى الأشياء الأخرى التي لا ربط لها في أوضاع الحرب.
وقد نواجه في بعض المواقف الرغبة في التريّث والتباطؤ، أملاً في تفادي الحب، والتخلّص من أجواء الدخول في المعركة، واستثارةً لروح السلام التي قد تفرض نفسها على الموقف من خلال الالتقاء على الهدى والحقّ والخير. كما نلاحظ ذلك في موقف الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة صفّين، وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال، فكانوا يتساءلون، هل كان ذلك منطلقاً من موقف جبن طارئ كنتيجة لكراهة الموت، أو كان راجعاً إلى عدم وضوح الرؤية لديه، فيما هو الحقّ والباطل في موقفه وموقف أهل الشام، ممّا يجعله في موقف الشاكّ في واقع المحاربين من أهل الشام وقيادتهم، فكان جوابه الذي ينقله لنا الشريف الرضي في نهج البلاغة، جواب المنهج الإسلامي في قضية الحرب والسلام في حركة الإسلام الفكرية والعملية.
قال الإمام عليّ (عليه السلام): "أمّا قولكم: أكان ذلك كراهية الموت، فوالله ما أُبالي أدخلت على الموت أو خرج الموت إليَّ؛ وأمّا قولكم: أشكّاً في أهل الشام، فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أطمعُ أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أُقاتلها على ضلالها وإنْ كانت تبوء بآثامها"(1).
فليست الحرب عنده رغبة جامحة تشتاق إليها نفسه، بل هي ضرورة غير محبّبة، يدافعها كما يدافع الأشياء المفروضة عليه، فإذا لقيها فإنّه يلقاها من غير حماس في طبيعتها، ولكنّه ينفعل بها انفعاله بالقضية التي تقوده إليها، ويرتبط بها ارتباطه بالقضية التي يتحرّك معها عندما تتحرّك، ويقف معها عندما تقف. إنّها ليست حرب الفروسية التي يدفع إليها المزاج، ولكنّها حرب الواجب التي تفرضها الرسالة، وتدعو إليها الحياة دفاعاً عن الحياة.
وقد يكون هذا الموقف العلوي مستمّداً من الموقف النبويّ المحمّدي، الذي ورد عنه في بعض كتب الحديث أنّه كان إذا بعث بعثاً قال: "تألّفوا الناس وتأنّوا بهم ولا تغيروا عليهم حتّى تدعوهم؛ فما على الأرض من أهل بيت من مدر ولا وبر إلاّ أن تأتوني بهم مسلمين، أحبّ إليّ من أنْ تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم"(2).
ونلتقي بالفكرة الإسلامية عن الحرب في الآيات الكريمة التي تطلب من المسلمين أن يستجيبوا لنداء السلام الذي يوجّه إليهم، فيما إذا كان النداء ممّثلاً لموقف عملي حاسم يقترب من قضية الرسالة، ومن طبيعة الأهداف التي أثارت الحرب وأوقدتها، لأنّ الإصرار على الحرب ورفض الاستجابة للسلم في هذا الموقف، يبتعد بالقتال عن هدفه، ويجعله مجرّد عملية ذاتية، لا ترتبط بالفكرة بقدر ارتباطها بالذات، فتفقد بذلك أخلاقيّتها التي تبرّر وجودها وتشريعها إسلامياً، لتتحوّل إلى حرب جاهلية غير أخلاقية.
قال الله تعالى:
{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ} [الأنفال : 61].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 208].
{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء : 90].
وهكذا نفهم من هذه الآيات أنّ من واجب المسلمين العمل على الاستجابة لمواقف السلام، التي يبادر إليها الآخرون، وذلك بإنهاء الحرب، على الأُسس التي تحقّق المصلحة العامة للمسلمين، في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الحرب، وهي منع العدوان، أو دفعه، إمّا بدخولهم في الإسلام، أو بالمعاهدات التي يتّفق عليها الفريقان، أو بالإقرار بالالتزامات المالية، التي يفرضها التشريع الإسلامي للتعايش السلمي بين الأديان، ضمن شروط وقوانين محدّدة.
وهكذا نخلص إلى نهاية الفصل، لنلتقي بالنتيجة الحاسمة التي تقرّر أخلاقية الحرب في الإسلام على أساس مبدأ الأهمية، الذي يستمدّ شرعيّته من قانون التزاحم بين الملاكات، أو المصالح والمفاسد التي تخضع لها الأحكام الشرعية، في جعلها وتشريعها. فإنّنا نعلم أنّ الله لا يأمر إلاّ بمصلحة، ولا ينهى إلاّ عن مفسدة، وأنّ المصالح والمفاسد إذا التقت وتزاحمت في موضوع واحد، فلم يكن مصلحة كلّه، أو مفسدة كلّه، بل كان فيه شيء من هذا وشيء من ذاك، فإن الحكم يكون لأغلبهما وأقواهما في التأثير، فتبقى المصلحة المغلوبة كَلَا مصلحة، كما تكون المفسدة المغلوبة بمنزلة العدم، فيظلّ الحقّ لما تقتضيه المصلحة العليا للإنسان والحياة.
وعلى ضوء هذا، يتحرّك التشريع مع الحرب، تبعاً لحركة الأهداف المرتبطة بحركة الحرب وتطوّرها وتصاعدها، ويقف حيث تقف الأهداف، عندما تتقدّم إلى الساحة، أهداف الذات والأنانية وغايات الأطماع والشهوات. وهذا ما يعبّر عنه الحديث المأثور عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما سأله أحد الأشقاء عن تحديد سبيل الله في الحرب. فقد ورد في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): مَن قاتَلَ لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله(1).
الفصل السابع
الدعوة... ومنطق القوّة...
1 ـــ القوّة وعلاقتها بالدعوة إلى الإسلام
2 ـــ الآيات والأحاديث الداعية إلى القتال والجهاد من أجل الدعوة
3 ـــ الفقه الإسلامي وعلاقة الجهاد بالدعوة
4 ـــ مناقشة المفهوم من خلال الأُسس الفكرية للإسلام
5 ـــ علاقة الجهاد بالدعوة
6 ـــ استعراض الظروف الواقعية لدخول الشعوب في الإسلام في البلاد
7 ـــ القوّة وعلاقتها بسيادة الإسلام
1 ـــ القوة وعلاقتها بالدعوة إلى الإسلام
ما هي علاقة الدعوة إلى الإسلام، بالمنطق الإسلامي للقوّة؟. هل يعتبر الإسلام العنف والقهر والإكراه والقتال، وغيرها من مفردات المفهوم العملي للقوة، وسيلة لإدخال الآخرين في الدين الإسلامي. فليس أمام الإنسان الذي يرفض الاعتراف بالإسلام، إلاّ الخضوع للضغوط التي تضطره إلى الاعتراف، من دون اعتبار لفكره وقناعته؟.
وأخيراً، هل نستطيع اعتبار القوّة المتمثّلة في الفتوحات الإسلامية، أساساً تحليلياً لتفسير انتشار الإسلام في العالم؟.
تلك هي الأسئلة التي أُثيرت، ولا تزال تُثار من قِبَل كثير من الدعاة الحاقدين على الإسلام، كأسلوب من أساليب التشكيك بقدرته على الاستمرار في ظلّ ظروف الحرية الفكرية، التي تبتعد فيها الضغوط العسكرية أو غيرها، عن ساحة المعركة الفكرية، ليبقى الفكر وحده، يواجه الحقيقة، بوسائله المتعدّدة، التي تلتقي بقوّة الفكرة من الداخل بعيداً عن أيّ شيء.
وربّما خُيّل لهم، أنّ القضية التي أثاروها عن الإسلام، لا تقبل الجدل، بل هي في مستوى الحقيقة الثابتة التي ترتكز على أساس آيات القتال والجهاد في القرآن، وأحاديث النبيّ في الدعوة إليه، ثم الممارسة الدائمة التي كان الإسلام فيها ينتقل من حرب إلى حرب، ومن غزوة إلى غزوة، في شعار واحد يحمل الدعوة الملحّة إلى الدخول في الإسلام، تحت طائلة التهديد في حالة الامتناع. وإذا اجتمعت الممارسة مع التشريع في حركة الإسلام، فلا يبقى هناك أيّ شك في طبيعة الفكرة المطروحة، من خلال النظرية والتطبيق.
وقد كان الهدف من هذا كلّه، أن يُسبغ هؤلاء على الإسلام صفة الدِّين الذي يؤمن بالأساليب التعسّفية، وينطلق مع الحياة على أساس وحشي لا يعترف بحريّة الإنسان فيما يأخذ وفيما يدع، كطريق من طرق إبعاد الناس عنه.
وهكذا تمّ لهم أن يبعدوا الإنسان الغربي عن الإسلام، حتى رأينا أديباً عظيماً مثل "برنارد شو" يعجب لعالِم إسلامي ـــ التقى به في بعض البلدان ـــ أن يحاضر في فلسفة السلام، فيما نقلته مجلة "المسلمون" من المحاورة التي جرت بينه وبين الشيخ عبد العليم الصديقي، فقد فاجأه "برنارد شو" بقوله: "دار حديثك حول فلسفة السلام، وقد كان الأجدر بك ما دمت مسلماً لو تحدّثت عن فلسفة الحرب، لأنّ الإسلام إنّما انتشر بحدّ السيف".
وإذا جرينا قليلاً مع هذه المحاورة، فسنجد مبلغ تأثّر هذا الأديب الكبير بهذه الفكرة، إذ يتساءل ـــ بعد أن حاول العالم المسلم أن يصحّح نظرته من خلال التهمة التي نسبها إلى الإسلام ـــ بقوله: "قد نقر سيادة كثير من ضروب الفهم للإسلام، لكن، هل توافقك الجماهير المسلمة على تفسيرك؟ وهل يعتقد هؤلاء أنّ الإسلام لم يسبق له أن انتشر إلاّ بالقهر وما ينبغي له ذلك؟
ولم تقف الفرية عند هذا الحدّ، بل حاول بعضهم أن ينكر على الأساليب السليمة، التي مارسها الإسلام في الدعوة، قابليتها لإحراز أي نجاح، فهي ـــ من وجهة نظره ـــ لم تستطع أن تحرز أيّ تقدّم للدين، لأنّ تعاليمه ومبادئه المجرّدة لا تشجّع الآخرين على الدخول فيه واعتناقه طواعيةً واختياراً؛ فقد قال "فردريك دنيون موريس": "من الثابت أنّ الإسلام لم يكن يصادف نجاحاً إلاّ عندما كان يهدف إلى الغزو".
أمّا الفكرة التي تفسّر الأسلوب السلمي للدعوة الإسلامية بمرحلة زمنية معيّنة، لم يكن استعمال القوّة فيها أمراً عملياً، فنستطيع أن نتعرّف عليها فيما ذكره صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" حيث يقول: "وقد أكّد الكتّاب الأوروبيون مراراً أنّ النبيّ سلك مسلكاً جديداً تمام الجدة منذ أن هاجر إلى المدينة، ومنذ أن تغيّرت ظروف حياته هناك، وأنّه لم يعد ذلك البشير النذير المرسل إلى الناس، الذين كان قد أقنعهم بالحجّة بصدق الدين الذي أوحي إليه، وإنّما ظهر الآن أقرب إلى أن يكون متعصّباً مندفعاً، يستغلّ كل ما في سلطته من قوّة ومهارة سياسية في فرض نفسه وفرض آرائه"(1).
تلك هي بعض ملامح الفكرة المضادّة عن الإسلام، فيما أثارته من تحليلات، وفيما أطلقته من علامات الاستفهام، فهل يستجيب الإسلام لذلك كلّه في تشريعه وتطبيقه، أو لا؟.. وكيف ذلك؟
2 ـــ الآيات والأحاديث الداعية إلى القتال والجهاد من أجل الدعوة
ربما نجد أنفسنا ـــ في معالجة الجواب ــ بحاجة إلى استعراض آيات الدعوة التي تعتبر الأساس التشريعي لأسلوب الدعوة في الإسلام، أو بالأحرى للطريقة التي يدعو إليها الإسلام في إدخال الآخرين في هذا الدين. لنعرف هل يشجّع الإسلام الإكراه في ذلك، أو يتبنَّى ـــ بدلاً من ذلك ـــ مبدأ الحرية في الإرادة والاختيار.
وهذه هي بعض الآيات الكريمة:
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل : 125].
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت : 46].
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 256].
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس : 99].
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29].
ما الذي نفهمه من هذه الآيات؟
إنّ الفكرة واضحة، فليس هناك إكراه في الدين، لأنّ عناصر الإيمان واضحة بيّنة الرشد، كما أن عناصر الكفر ظاهرة الغيّ. فلماذا الضغط ولماذا الإكراه؟ أو بالأحرى، ما هي فائدة الضغط والإكراه؟ ما دام الإيمان خاضعاً لعوامل القناعة في الفكر والشعور، اللذين لا تستطيع القوة أن تقترب منهما، لأنّ مجالها الجسد، لا الروح. فليس هناك بشر يستطيع النفاد إلى الداخل ليزرع فيه الإيمان بالقوّة. بل الأسلوب الطبيعي لذلك، هو الكلمة الطيّبة، التي تتمثّل فيها الحكمة والموعظة الحسنة، والحوار الهادئ، بالتي هي أحسن ـــ فذلك هو السبيل السليم للوصول إلى ذلك ـــ فقد شاء الله للناس أن يحصلوا على الإيمان باختيارهم، بعد أن أعدّ لهم وسائله، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة، ولم يشأ أن يخلق الإيمان فيهم خلقاّ، تماماً، كما يخلق أجسادهم.
فما موقع ذلك من الفكرة التي تقرّر انطلاق الدعوة الإسلامية من خلال الضغط والإكراه والتهديد بالقوّة؟ إنّ الجواب يتمثّل في ابتعاد الفكرة المذكورة عن واقع التشريع الإسلامي في مجال الدعوة(1).
ولكن، هل يكفي ذلك كلّه، لرفض الفكرة.
قد نشكّ في ذلك؛ لأنّ بعض الآيات الكريمة تعتبر القتال وسيلةً من وسائل انتشار الإسلام في العالَم ليكون الدين كلّه لله. فلا يبقى لغير الله أيّ شيء فيما يتعارف عليه الناس من أديان الضلال. وهذا ما تدلّ عليه الآية الكريمة في قوله تعالى:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة : 193].
فقد نفهم من هذه الآية: أنّ من أهداف القتال أن لا تكون فتنة للمسلمين عن دينهم، أولاً، وأن يكون الدين كلّه لله، ثانياً. ممّا يوحي بأنّ الدعوة إلى الإسلام، هدف إسلامي يبرّر الإسلام أن تخاض المعركة من أجله.
وقد نجد في بعض الآيات الأخرى التصريح بالموقف الحاسم، الذي تندفع فيه الحرب لتفرض على الناس أمرين لا ثالث لهما، إمّا القتال، وإمّا الإسلام. وذلك في قوله تعالى:
{قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح : 16].
ثم تأتي بعض الأحاديث المأثورة، التي تصرّح أو تُلمّح بأنّ السيف هو الأساس في الدعوة وفي الطاعة، وفي كل خير يريد الله تطبيقه على الإنسان في كلّ مجالات حياته.
فقد روى أحمد في مسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي، وجعل الذلّ والصغار على مَنْ خالَف أمري"(1).
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: "أمرت أنْ أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على الله"(2).
وقد روى الإمام جعفر الصادق (عليه السالم) عن رسول الله أنّه قال: الخير كلّه في السيف، وتحت ظلّ السيف، ولا يقيم الناس إلاّ بالسيف، والسيوف مقاليد الجنّة والنار(3).
وفي حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: إنّ الله عزّ وجلّ بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال، فالخير في السيف وتحت السيف والأمر يعود كما بدأأأأ (1).
إنّ هذه الأحاديث، تعتبر السيف "رمز القوّة والقتال والعنف" أساساً في حركة الدعوة، واستمرارها في الحياة، ولا سيّما في الحديث الأخير، الذي يصرّح بأنّ الأسلوب السلمي لم يستطع أن يُخضع الناس أو يُقنعهم بالإسلام، حتى إذا جاء الإذن في القتال والأمر به، انطلق الإسلام بعيداً في حياة الناس وفي قناعاتهم الفكرية والعملية، فهل يبقى هناك شكّ في اعتبار القوّة قاعدة للدعوة الإسلامية في الحياة؟.
أما حديث "أمرت أن أُقاتل الناس".. فليس مفاده أن القتال من أجل الدعوة إلى الله، بل كل مفاده هو انتهاء القتال بالدخول في الإسلام، ولا مانع من أن تكون أسباب القتال أشياء أخرى ممّا ذكره القرآن الكريم.
3 ـــ الفقه الإسلامي وعلاقة الجهاد بالدعوة
أمّا الفقه الإسلامي، فإنّنا نواجه كثيراً من التصريحات الفقهية للفقهاء المسلمين، التي تجعل من الجهاد وسيلة من وسائل الدعوة، أو أداةً من أدوات الضغط على الناس، من أجل حملهم على الدخول في الإسلام.
قال محمد المعروف بابن رشد القرطبي في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد:
"اتّفق المسلمون على أنّ المقصود بالمحاربة لأهل الكتاب ـــ ما عدا أهل الكتاب من قريش ونصارى العرب ـــ هو أحد أمرين: إمّا الدخول في الإسلام، وإمّا إعطاء الجزية؛ لقوله تعالى:
{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة : 29]، وكذلك اتّفق عامّة الفقهاء على أخذها من المجوس لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب.." واختلفوا في سوى أهل الكتاب من المشركين هل تقبل منهم الجزية أو لا"(1).
وقال الشيخ الكبير صاحب كتاب كشف الغطاء، في حديثه عن أقسام الجهاد: "خامسها جهاد الكفر والتوجّه إلى محالهم للدعوة إلى الإسلام والإذعان بما أتى به النبيّ الأُميّ المبعوث من عند الملك العلّام".
فإنّنا نلاحظ في هذين الكتابين "اللذين هما نموذجان لفقه السنّة وفقه الشيعة" أنّهما يعتبران الجهاد باباً من أبواب إدخال الكافرين في الإسلام، باعتباره وسيلة من وسائل الدعوة إلى الإسلام، ممّا يوحي لنا بأنّ الإسلام يشجّع على استعمال القوّة لإدخال الآخرين في حظيرته.
وهكذا نجد الكتاب والسنّة والفتاوى الفقهية التي ارتكزت عليهما تؤيّد النظرية التي تربط بين القوّة وبين الدعوة إلى الله، في رابطة عضوية كاملة، فماذا نقول؟.
أمّا تعليقنا على ذلك كلّه فيتلخّص في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: مناقشة المفهوم المفروض من خلال مضمون الآيات والأحاديث المتقدّمة، في محاولة لاستنطاقها على أُسس علمية دقيقة، لنخلص من ذلك إلى التأكيد من جديد على رفض الفكرة التي تربط بين الدعوة وبين ممارسة الإكراه بالقوة.
النقطة الثانية: في علاقة الأساس التشريعي للجهاد، بالدعوة إلى الإسلام.
النقطة الثالثة: في استعراض الظروف الواقعية لدخول الشعوب في الإسلام في البلاد المفتوحة بالجهاد، وفي البلاد غير المفتوحة، ودور الجهاد في ذلك كلّه.
4 ـــ مناقشة المفهوم من خلال الأسس الفكرية للإسلام
أمّا الحديث في النقطة الأولى، التي نريد من خلالها أن ننفتح على مدلولٍ للآيات والأحاديث، يختلف عمّا فهمه القائلون بارتباط الدعوة بأساليب الضغط والإكراه بالقوّة. فقد يدعونا إلى أن ننطلق من قاعدة لغوية أصوليّة، يُحرّرها علماء الأصول الإسلاميون، في فصل المطلق والمقيّد عن علم الأصول، عند الحديث عن شروط الأخذ بإطلاق اللّفظ في حالة صدوره بدون قيد. فقد ذكروا لذلك شروطاً أطلقوا عليها اسم "مقدّمات الحكمة" وأرادوا منها المقدّمات التي تتوفّر فيها عناصر الأسلوب الحكيم، الذي ينسجم مع حكمة المتكلّم الذي لا يطلق اللفظ، ولا يقيّده إلاّ ضمن الأصول المألوفة في طريقة العقلاء وأسلوبهم.
وكان ممّا ذكروه في هذه الشروط أن يكون المتكلّم في مقام البيان من الجهة التي يُراد حمل اللفظ عليها؛ لأنّ للكلام عدة جهات يمكن أن يقصدها المتكلّم. فقد يقصدها جميعاً، لارتباط أغراضه بها، وقد يقصد بعضها لأنّه المقصود له بالذات. فلا بدّ لنا من فهم تلك الجهة، لنستطيع معرفة المعنى الحقيقي للكلام. ويمثّلون لاختلاف الجهة بالآية الكريمة الواردة في صيد الكلب المعلَّم:
{فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ} [المائدة : 4].
فإنّ للآية جهتين يمكن لنا أن نحملها عليهما، حلّية الأكل بدون تذكية، وحلّيته بدون تطهير من نجاسة الكلب. ولكنّ الفقهاء يقولون إنّها واردة في معرض الحديث عن الحلية من حيث التذكية، لا من حيث الطهارة، ولذلك فإنّنا نأخذ بإطلاق اللّفظ، بأنّه يجوز لنا أن نأكل من الحيوان الذي صاده الكلب، ومات قبل الوصول إليه، أو التمكّن من ذبحه من غير حاجة إلى تذكية. ولكن لا بدّ من تطهيره لملاقاته للنجس وهو الكلب، لأنّ الآية ليست في معرض البيان من هذه الجهة، فيتبع في حكمه القواعد الشرعية العامة.
وعلى ضوء هذا فلا بدّ لنا أن نقف على الجانب الذي يتّجه الحديث لمعالجته، لنحدّده ونحمل الكلام عليه، دون الجانب الآخر الذي أهمله المتكلّم وتركه لكلام آخر، لأنّ مقاصد المتكلّمين هي التي تُحدّد مفاهيم الكلمات ومداليلها في مثل هذه الحالات. ومن خلال هذه القاعدة اللغوية الأصولية ننفذ إلى آيات القتال وأحاديثه.
ففي الآية الأولى، كان الأسلوب يتّجه إلى إزالة الحاجز من طريق الدعوة، بتحطيم العناصر التي كانت تفتن المؤمنين عن دينهم بمختلف الأساليب، وتمنعهم من ممارسته عملاً ودعوة. فكان القتال من أجل منع الفتنة، على أساس تحقيق الهدف الكبير، وهو أن يكون الدين كلّه لله. ولكن لم يظهر لنا من الآية الكريمة، أيُّ دليل يبرّر القتال من أجل الدعوة إلى الله، لأنّها ليست واردة في هذا الاتجاه.
أما الآية الثانية، فقد كانت نداءً للمخلَّفين من الأعراب بالانضمام إلى صفوف المجاهدين الذين يقاتلون الكفّار الذين يقفون بين خيارين، الإسلام، أو القتال. ولكنّها لم تبيّن لنا أن انطلاق القتال كان لمجرّد الدعوة، بل كل ما تحدّثت لنا عنه، هو أنّ المعركة ستُقرَّر على هذا الأساس، دون أن تتحدّث عن أسباب القتال، فقد تكون رداً لعدوان، أو وقاية منه، وفي كلتا الحالتين، لا مفرَّ من أحد هذين الخيارين.
فإذا انتقلنا إلى الأحاديث فسنجد أنّها تعالج موضوع القتال باعتباره ضرورة لكل مبدأ يريد أن يثبت قواعده على أرض صلبة، وسط الزعازع والزوابع التي تحاول أن تقتلعه من جذوره بكلّ ما لديها من قوّة، فيقف من خلال القوة، ليردّ العدوان، وليوفّر لنفسه ولأتباعه الحماية بأسلوب دفاعي أو وقائي، أو هجومي، تبعاً للمصلحة العليا. وبتعبير أوضح: إنّها جاءت لتدلّل على أنّ العنف حاجةٌ حيوية للمبادئ التي تريد أن تتحدّى وتُجابِه التحدّي، لأنّ اللين إذا أفاد مرّة أو أكثر، فإنّه يحقّق نتيجة حاسمة في أكثر الحالات. أمّا موضوع علاقته بالدعوة كهدف يحكم حركته، لتكون الدعوة منطلقة من خلال العنف، أو مرتكزة على أساس العنف، فهذا ما لا نجد له أثراً في كلّ مداليلها وأساليبها. حتى في الحديث الأخير الذي كان يتحدّث عن الفرق بين ما قبل الهجرة وبين ما بعدها، فإنّه كان يشير إلى قيمة القوّة في ردّ العدوان بمثله أو بأقوى منه، كما في حالة ما بعد الهجرة، حيث استطاع الإسلام أن يتقدّم ويمارس حرّيته في الدعوة والإقناع بعيداً عن أيّ ضغط أو تهديد أو إكراه. فليس في الحديث أيّ إشارة إلى أنّ نجاح الإسلام في دعوته بعد الهجرة، كان مستنداً إلى تشريعه القتال من أجل الدعوة إلى الله، كأسلوب من أساليب إدخال الناس في الإسلام، بل كل ما هناك، أنّه أوجد القوّة الرادعة للعدوان، ومضى يمارس الدعوة بأسلوبه الخاص المرتكز على الحكمة والموعظة الحسنة.
وخلاصة القول: إنّنا لا نجد فيما اطّلعنا عليه من النصوص الدينية في الكتاب والسنّة تأييداً للفكرة التي تجعل من الدعوة هدفاً للقتال، أو تعتبر القتال وسيلة من وسائل إكراه الناس على الدخول في الدين، بل كل ما هناك، أنها اعتبرت القتال وسيلة مشروعة من وسائل حماية الدعوة، ووقايتها من التحدّيات المضادّة التي يقوم بها أعداؤها الكافرون.
5 ـــ علاقة الجهاد بالدعوة
أمّا الحديث عن النقطة الثانية، وهي علاقة الأساس التشريعي للجهاد بالدعوة إلى الإسلام، فيتلخّص بأنّ مراجعتنا للآيات الكريمة أو للأحاديث الشريفة الواردة في تشريع الجهاد، تعطينا النتيجة التالية: وهي أنّ تشريع الجهاد انطلق من حاجة الإسلام إلى القوّة، كأيّ مبدأ من المبادئ التي تريد أن تتحرّك في الحياة، ولتحكم الحياة. ويختلف عنها، بأنّ المبادئ الأخرى، غير السماوية، قد تكون خاضعة لاختيار الإنسان وإرادته، باعتبارها من القضايا التي لا تنطلق من عنصر إلزامي مقدّس خارج حياة الإنسان، بل تنطلق من خلال إرادة الإنسان الذاتية، كأيّ شيء طبيعي، لا يشعر معه الإنسان، بالتحمية الذاتية، في فعله أو تركه. أما الأديان، فإنّها تمثّل إرادة الله خالق الإنسان، الذي يريد له أن يبني الحياة ويحكمها على أساس إرادته، فليس للإنسان الحرية ـــ من ناحية ذاتية ـــ في أن يقبل إرادة الله أو لا يقبلها، وإذا كان له الحرية، من ناحية المسؤولية، في أن يختارها أو لا يختارها تحت طائلة العقاب، فلا بدّ له ـــ على كلّ حال ـــ من أن يلتقي بها ويتعرّف إليها، لتكون عملية الاختيار، منطلقة من أساس المعرفة الكاملة، إذ لا مسؤولية بدون معرفة. وفي ضوء هذا، كانت المعرفة مسؤولية الإنسان أمام نفسه وخالقه، فلا يُعذر في ترك المعرفة من وجهة نظر عقلية. وكانت المعرفة ـــ إلى جانب ذلك ـــ اللطف الإلهي الذي يهبه الله للإنسان، ليشقّ له الطريق إلى تحمّل المسؤولية وممارستها، فتقوم عليه الحجّة بذلك؛ إذ لا حجّة لله في أي انحراف، بدون إعطاء الضوء للمعرفة الكاملة الشاملة.
ومن هنا كانت النبوّات سبيل المعرفة الوحيد، للإرادة الإلهية، فمنها تنطلق رسالة الله، وبها تقوم الحجّة. فكيف يمكن أن تمارس دورها الطبيعي في الحياة؟
من البديهي أن يكون لنشر الرسالة دور كبير في ذلك. ولكن كيف يمكن لها أن تحصل على هذا الدور الكبير إذا كانت العقبات تنتظرها على الطريق. فمنها ما يقف وقفة التحدّي القتالي الذي يريد أن يهزم الرسالة من خلال هزيمة إنسان الرسالة، ومنها ما يقف وقفة الحاجز الذي يريد للرسالة أن تقف عند حدودها الجغرافية التي ولدت فيها، فلا تتعدّاها إلى حدود أخرى ومجالات أخرى. ومنها، ما يعتبر الرسالة تحدّياً لما يمثّله من دين أو فكر أو عقيدة، ولذا فهو لا يريد للرسالة أن تتحدّاه في دينه وفكره وعقيدته. ومنها ما يجد في الرسالة انتقاصاً من سلطاته القائمة على الظلم والطغيان، وخطراً على الأوضاع المنحرفة التي يرعاها ويجسّدها في كل ممارساته العملية. فما الذي تستطيع الرسالة أن تفعله أمام هذا كلّه؟
هل تتجمّد وتنكمش وتحبس نفسها في زنزانة ضيّقة تغلق عنها كل النوافذ، لتكون بعد ذلك فريسة لكلّ عدوّ، لا تملك لنفسها نفعاً ولا تدفع عنها ضرّاً. وإذا كان لها أن تختار ذلك كلّه فما هو مبرّر وجودها وما معنى أن تكون رسالة الله إلى الناس، إذا كانت تهرب من الناس عند أوّل بادرة للتحدّي أو للاعتراض أو للعنف؟.. وكيف يمكن لها أن تساهم في عملية استمرار المبادئ الخيّرة في الحياة، إذا كانت لا تستطيع أن تمنح نفسها القدرة على الاستمرار في الوجود من خلال قوّة الموقف الصلب؟
إنّ الجواب الطبيعي لكلّ هذه التساؤلات، هو اختيار الموقف الذي يلتقي بالحرية المطلقة للرسالة، في الحركة من أجل نشر مفاهيمها وأحكامها العامة والخاصة، ووسائلها وأهدافها، لكلّ بقعة من بقاع الأرض، لأنّ ذلك هو الذي ينسجم مع شمولية الرسالة في الزمان والمكان، وهو الذي يتناسب مع مسؤوليتها في إعطاء المعرفة لكلّ الناس، ولذلك فإنّ لها الحقّ في أن تعمل على أساس صنع القوّة الكبيرة التي تتحدّى العقبات، وتواجه التحديات باعتبارها الشرط الوحيد لقدرتها على البقاء والاستمرار. لتكون القوّة حماية للرسالة من العدوان، وسبيلاً من سبل مواجهة الآخرين الذين يريدون أن يخنقوا حريتها، ويحولوا بينها وبين الناس في إسماع صوتها إليهم. ولتحمي ـــ مع ذلك كلّه ـــ أتباعها من الاضطهاد والنفي والتعذيب والفتنة عن دينهم. وهذا هو الذي يجعل من الجهاد تشريعاً واقعياً عادلاً، لا يبتعد عن طبيعة الحياة في حسابات الخير والشرّ، والحقّ والباطل، ولا يختلف حاله ـــ في ذلك ـــ عن حالة السياسات الدفاعية والوقائية والهجومية التي تخطّط لها كلّ الدول التي تلتزم بطريقة معيّنة في الحياة، أو بمبدأ من المبادئ العامة التي تتجاوز حدودها الجغرافية. وهذا هو المفهوم القرآني عن الحرب، الذي عبّرت عنه بعض الآيات الكريمة:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} [الحج : 40].
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج : 78].
وعلى ضوء ذلك نجد أنّ موقع الجهاد من الدعوة، هو موقع القوّة التي تحمي الرسالة وتفسح لها المجال للامتداد، وإبلاغ صوتها إلى كل بقعة من بقاع الأرض. وليس موقع القوّة التي تفرض الإسلام بالإكراه والتهديد.
ومن خلال ذلك، وقف كثير من العلماء ـــ من المفسّرين وغيرهم ـــ ضدّ فكرة النسخ في القرآن الكريم في بعض الآيات، التي تدعو إلى العفو والصفح والمغفرة، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والآيات التي تدعو إلى القتال، حيث حاول البعض اعتبار الآيات الثانية ناسخة للأولى.
وكانت الفكرة في ردّ ذلك، أنّ الآيات الأخرى لا تزال تفرض نفسها في كل موقف من مواقف الدعوة للإسلام. أمّا آيات السيف والقتال فلها مجال يبتعد عن ذلك كثيراً، لأنّه يرتبط بقضية المحافظة على قوة الإسلام والمسلمين، وعلى حرية الدعوة إلى الله، بإزالة الحواجز البشرية وغيرها من طريق الدعوة، ممّا لم يمكن السيطرة عليه إلاّ بالقتال.
وقد وردت الأحاديث الشريفة التي تصوّر لنا كيف يتحوّل الموقف في المعركة إلى موقف دعوة، تطلب من أهل البلاد أن ينفتحوا على الدعوة الجديدة، وذلك بإبراز العناصر الأساسية للرسالة، وشرح الأهداف الكبيرة التي تستهدفها في بناء الحياة على أساس ثابت متين.
فقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن الإمام جعفر الصادق قال: قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: "بعثني رسول الله إلى اليمن فقال: يا عليّ لا تقاتلنّ أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لأن يهدي الله عزّ وجلّ على يديك رجلاً خير لك ممّا طلع عليه الشمس"(1).
وفي رواية الزهري قال: دخل رجال من قريش على عليّ بن الحسين فسألوه كيف الدعوة إلى الدين؟ فقال: تقول بسم الله الرحمن الرحيم أدعوك إلى الله عزّ وجلّ وإلى دينه؛ وجماعُهُ أمران: أحدهما معرفة الله عزّ وجلّ، والآخر العمل برضوانه، وإنّ معرفة الله عزّ وجلّ أنْ يُعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزّة والعلم والقدرة والعلو على كلّ شيء، وأنّه النافع الضارّ القاهر لكلّ شيء، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ ما جاء به هو الحقّ من عند الله عزّ وجلّ وما سواه هو الباطل، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين(1).
ونحن نفهم من هذين الحديثين أنّ الدعوة إلى الإسلام سابقة على القتال، كما نفهم منهما، من خلال كلمة "الهداية" في الحديث الأول، وتفصيل عناصر الدعوة في الحديث الثاني، أنّ الدعوة ـــ هذه ـــ لا تمثّل مجرّد كلمات تقليدية رسمية، يقولها المجاهدون قبل البدء بالقتال، إبراءً للذمّة، تماماً كالكلمات التي لا تشير إلى معنى أو لا يراد بها الوصول إلى هدف معيّن، بل هي دعوة حقيقية تستند إلى كلّ الأساليب والأفكار التي تتكوّن فيها الحجّة على الحق، والسبيل إلى الهداية، وذلك بالتركيز على العناصر الحقيقية للرسالة، والاستعداد للإجابة على جميع الشبهات الواردة في هذا المجال، بالكلمة الطيّبة والأسلوب الحكيم، والقلب المفتوح الذي تملأه المحبّة بدلاً من الحقد، وروح الرسالة بدلاً من روح السلطة. وفي مثل هذا الجوّ، كيف نفهم من الجهاد، أنّه السبيل الذي انطلق من الإكراه على الإسلام.
وربّما يقول قائل، إنّ انطلاق الدعوة في أجواء القوّة، لا يحقّق الشروط الطبيعية لحرية الإرادة والاختيار، لأنّ الإنسان الذي يشاهد السيف أمامه، لا يمكن أن يعي أيّة كلمة ممّا يقال له ليفكّر فيها، أو ليناقشها، وكيف يجرؤ على المناقشة، في الجوّ الذي يشعر فيه أنّه في موقف الضعف أزاء موقف القوة الذي يمثّله جيش الدعوة؟.
ولكنّنا نجيب على ذلك، بأنّ التشريع الذي نتحدّث عنه، يفرض على القائمين على الأمر، أن يعملوا على إيجاد الأجواء الملائمة التي توحي بالحرية، بعيداً عن أيّ ضغط أو إكراه، فإنّ القضية تعيش في أجواء الإيمان، أكثر ممّا تعيش في أجواء السيطرة. ولا بدّ للقيادة التي تحمل مسؤولية ذلك، من أن تكون في مستوى المسؤولية، لأنّ ذلك هو الشرط الأساسي في موضوع الجهاد الذي يحمل فيه القائد همّ الدعوة إلى الله، بوسائلها الحقيقية، أكثر ممّا يحمل فيه همّ النصر القتالي، كما يوحي به جوّ الحديث النبوي الشريف المتقدّم، الذي خاطب به النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً عندما بعثه إلى اليمن. وقد يعتبر بعض الناس هذا النوع من الجوّ الروحي الرائع، لوناً من ألوان المثالية التي تعيش في الخيال، ولا تعيش في الواقع، ولكنّ القضية عاشت في إطار الواقع في كثير من التجارب وفي حروب النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي بعض الفتوحات الإسلامية. وإذا لم نجد مثل هؤلاء الذين يعيشون في صفوف الجيش الإسلامي قيادة وأتباعاً، فليس من المعلوم أن يكون الجهاد أمراً راجحاً أو واجباً في هذه الحالات لأنّه يبتعد، بذلك، عن مهمّته وهدفه، ليكون صورةً مشوّهة عن الإسلام، بدلاً من أن يكون صورة حقيقية مضيئة. وقد ورد الحديث ببعض ذلك عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فمن ذلك ما رواه أبو حمزة الثمالي قال: قال رجل لعليّ بن الحسين: أقبلت على الحجّ وتركت الجهاد فوجدت الحج أيسر عليك، والله يقول: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} [التوبة : 111].. فقال عليّ بن الحسين اقرأ ما بعدها، قال: فقرأ "التائبون العابدون الحامدون" إلى قوله "الحافظون لحدود الله" قال: فقال عليّ بن الحسين: إذا ظهر هؤلاء لم نؤثر على الجهاد شيئاً(1).
وفي حديث محمد بن عبد الله السمندري قال: قلت لأبي عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) إنّي أكون بالباب يعني باب الأبواب فينادون السلاح فأخرج معهم قال: فقال لي: أرأيتك إنْ خرجت فأسرت رجلاً فأعطيته الأمان، وجعلت له من العقد ما جعله رسول الله للمشركين، أكان يفون لك به؟ قال: قلت: لا والله ـــ جعلت فداك ـــ ما كان يفون لي به، قال: فلا تخرج(2).
وفي حديث الإمام جعفر الصادق عن آبائه قال: قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): لا يخرج المسلم في الجهاد مع مَن لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ في الفيء أمر الله عزّ وجلّ(3).
وقد يعتبر بعض الناس، هذه الأحاديث، خروجاً عن المألوف من التشجيع على الجهاد والدعوة إليه. ولكنّ التدبّر فيها يضع أيدينا على واقع القضية المطروحة. فليس من الطبيعي أن نشجّع الجهاد الذي لا يرتكز على الشروط الشرعية في القيادة والممارسة المنحرفة، فيكون إعانةً على الإثم والعدوان، لا إعانة على البرّ والتقوى، وبهذا كانت التحفّظات التي كان يطرحها أئمّة أهل البيت، تنطلق لتحافظ على قوّة التشريع وسلامته، لا لِتفرّق الناس عنه، وقد نفهم ذلك بشكلٍ واضح، من خلال الدعاء المعروف ـــ في الصحيفة السجّادية ـــ بالدعاء لأهل الثغور، الذي كان يدعو به الإمام عليّ بن الحسين لأهل الثغور الذين كانوا يقاتلون أعداء الإسلام، مع جيش بني أمية، الذين يمثّلون الحكم المنحرف في نظر الإمام زين العابدين. ولكنّ الحرب لم تكن حربهم ـــ بل كانت حرب الإسلام، لذلك كانت القضية في نظره تختلف عن الحالات الأخرى التي تمثّل الإسناد للحكم. وبذلك تكون هذه الأحاديث، احتجاجاً على بعض مظاهر الواقع اللاإسلامي الذي كان يأخذ صفة الشرعية الإسلامية، ورفضاً لأوضاعه، وتوجيهاً عملياً للناس، في العمل على تغييره، مع ملاحظة أنّه واجب غير ملزم للأشخاص الذين لا يتوقّف أداء الواجب عليهم، لقيام الآخرين به.
6 ـــ استعراض الظروف الموضوعية لدخول الشعوب في الإسلام في البلاد المفتوحة وغير المفتوحة
أما النقطة الثالثة، وهي استعراض الظروف الموضوعية لدخول الشعوب في الإسلام في البلاد المفتوحة بالجهاد، وفي البلاد غير المفتوحة، ودور الجهاد في ذلك كله. فإنّنا نلاحظ ـــ في هذا المجال ـــ نقطة حيوية جدّاً، وهي وجود كثير من غير المسلمين في البلاد الإسلامية، من دون أن يتعرّضوا لأيّ اضطهاد في عقيدتهم من قِبَل الحكم الإسلامي، أو مِن قِبَل المسلمين هناك. ممّا يدلّ على أنّ الإكراه على الدخول في الإسلام لم يكن هدفاً للتشريع الإسلامي، في مسؤولية الحكم، أو في مسؤولية المسلمين العاديين.
ونلاحظ إلى جانب ذلك، وجود أكثريات إسلامية في المناطق التي لم يدخلها الفتح الإسلامي، أو التي دخلها ولم يستطع أن يؤثّر فيها إلاّ بعد وقت طويل، انطلقت فيه الدعوة بكلّ هدوء وبساطة، لتدعو الناس إلى دين الفطرة بعيداً عن الحواجز العدوانية، فتقبّلوها بكلّ صدر رحب، وفكر نيِّر، وبدأوا يدخلون في دين الله أفواجاً، ممّا يوحي بأنّ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، لا القوّة الفاتحة، هي التي ساهمت في انتشار الإسلام في العالم، من خلال القناعة الذاتية بأحكامه ومفاهيمه. ونحن نقدّم عدّة ملاحظات في هذا المجال أمام القارئ نقلاً عن كتاب "مقارنة الأديان":
1 ـــ ففي بدايات الإسلام، يقول المؤرّخون إنّ أهم فترة انتشر فيها الإسلام، هي فترة السلم الذي تلا صُلْح الحُدَيْبيّة بين قريش وبين المسلمين، وكانت فترة السلم سنتين، ويقول المؤرّخون إنّ مَن دخل الإسلام في هاتين السنتين أكثر ممّا دخلوه في المدّة التي تقرب من عشرين عاماً، منذ بدء الإسلام حتى ذلك الصلح.
2 ـــ يذكر بعض الكتّاب الأوروبيين، أنّ الإسلام لم يتّخذ طريقه وراء الصحراء بإفريقيا إلاّ بعد انحلال دولته الكبرى في المغرب، وكانت وسيلة الإسلام لهذه البقاع، هي الثقافة والفكر والدعوة، فانتشر الإسلام بين شعوب البربر، وقامت خلف الصحراء دولة إسلامية لعبت في التاريخ دوراً كبيراً.
3 ـــ انتشر الإسلام انتشاراً واسعاً في أندونيسيا وفي إفريقيا، فأين القوّة التي نشرته في هذه البلاد الفسيحة وجذبت له قلوب الملايين؟.
4 ـــ جاء الصليبيون إلى الشرق إبّان ضعف الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية، لمحو الإسلام والقضاء عليه، وإذا بالإسلام يجذب جموعاً منهم فيدخلون ويحاربون في صفوف المسلمين. يقول "توماس أرنولد": لقد اجتذبت الدعوة المحمّدية إلى أحضانها من الصليبيين عدداً مذكوراً حتى في العهد الأوّل ـــ أي في القرن الثاني عشر ـــ ولم يقتصر ذلك على عامّة النصارى، بل إنّ بعض أمرائهم وقادتهم انضمّوا ـــ أيضاً ـــ إلى المسلمين في ساعات انتصارات المسيحيين. ويروي توماس أرنولد عن بعض مؤرّخي النصارى قوله: "إنّ ستّة من أمراء مملكة القدس استولى عليهم الشيطان ليلة معركة حطّين، فأسلموا وانضموا إلى صفوف الأعداء دون أن يُقهروا من أحد على ذلك". فهل يمكن أن نقول لهم إنّ الإسلام انتشر بين الصليبيين بالقوّة".
5 ـــ في القرن السابع الهجري هجم المغول على العالم الإسلامي، وكان هجومهم وحشياً قاسياً مدمّراً، سفكوا الدماء فسالت أنهاراً، وحطّموا الحضارة الإسلامية وهدموا القصور والمساجد، وأحرقوا الكتب وقتلوا العلماء، وامتدت أيديهم إلى الخليفة فقتلوه وقتلوا معه أهله، وأزالوا الخلافة العباسية سنة 656 هــ وأصبحت للمغول اليد العليا، وهَوَتْ أمامهم كل قوى المسلمين في عاصمة الخلافة وما حولها ولكن سرعان ما جذب الإسلام إليه الفاتحين الغزاة، وسرعان ما دخله المغول الذين هاجموه وعملوا على تقويضه. فهل يمكن أن نقول إنّ الإسلام انتشر بين المغول بالقوّة.
يقول سير توماس أرنولد في ذلك: "لا يعرف الإسلام من بين ما نزل به من خطوب وويلات خطباً أعنف قسوة من غزوات المغول، فلقد انسابت جيوش جنكيز خان، واكتسحت في طريقها العواصم الإسلامية، وقضت على ما كان بها من مدنية وحضارة. على أنّ الإسلام لم يلبث أن نهض من رقدته وظهر من بين الأطلال، واستطاع بواسطة دعاته أن يجذب أولئك الفاتحين البرابرة ويجبرهم على اعتناقه".
6 ـــ يتحدّث أحد الكتّاب المسيحيين، وهو الكاتب الفرنسي هوبير ديشان حاكم المستعمرات الفرنسية بإفريقيا حتى سنة 1950/ في كتابه الديانات في إفريقيا السوداء، عن دخول الإسلام إلى إفريقيا.. فيقول: "إنّ انتشار دعوة الإسلام في أغلب الظروف لم تقم على القسر، وإنّما قامت على الإقناع الذي كان يقوم به دعاة متفرّقون، لا يملكون حولاً ولا طولاً إلاّ إيمانهم العميق بربّهم، وكثيراً ما انتشر الإسلام بالتسرّب السلمي البطيء من قوم إلى قوم، فكان إذا ما اعتنقته الأرستقراطية، وهي هدف الدعاة الأول، تبعتها بقية القبيلة، وقد يسّر انتشار الإسلام أمرٌ آخر هو أنّه دين فطرة بطبيعته، سهل التناول، لا لبس ولا تعقيد في مبادئه، سهل التكييف والتطبيق في مختلف الظروف، ووسائل الانتساب إليه أيسر وأيسر، إذ لا يطلب من الشخص لإعلان إسلامه سوى النطق بالشهادتين، فيصبح بذلك في عداد المسلمين"(1).
7 ـــ قال أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام: "ظهر أنّ الفكرة التي شاعت بأنّ السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام، بعيدة عن التصديق، وأنّ السيف إذا كان يمتشق أحياناً لتأييد قضية الدين، فإنّ الدعوة والإقناع، وليس القوة والعنف، كانا هما الطابعين الرئيسيين لحركة الدعوة هذه"(1).
8 ـــ قال غوستاف لوبون: "وسيرى القارئ حيث نبحث في فتوح العرب وأسباب انتصارهم، أنّ القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العرب الفاتحون المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتّخذوا العربية لغة لهم لما رأوه من عدل العرب الغالبين، ممّا لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل. والتاريخ أثبت أنّ الأديان لا تُفرض بالقوة، فلما قهر النصارى عرب الأندلس، فضّل هؤلاء القتل والطرد عن آخرهم على ترك الإسلام. ولم ينتشر الإسلام بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقت الإسلام الشعوب التي قهرت العرب مؤخّراً كالترك والمغول... الخ".
9 ـــ قال جورج سيل الإنكليزي ـــ وهو الذي ترجم القرآن إلى الإنكليزية:
"إنّه لن يتحرّى الأسباب التي من أجلها صادفت شريعة محمد ترحيباً لا مثيل له في العالم؛ لأنّ هؤلاء الذين يتخيّلون أنها قد انتشرت بحدّ السيف وحده، إنّما ينخدعون انخداعاً عظيماً"(2).
وهكذا نجد في هذه النصوص والملاحظات، أنّ الجهاد لم يكن عاملاً في انتشار الإسلام، كأسلوب من أساليب القهر، بل كان دور الجهاد في ذلك، هو إفساح المجال للدعوة لتأخذ حريّتها، وإعطاء الحرّية للناس لينفتحوا على الدعوة بحريّة. ويبقى الدور الأكبر للدعوة في أكثر البقاع التي دخلها الإسلام، من خلال المبادرات الفردية والجماعية، التي كانت تنطلق نحو أهدافها بوعي ومحبّة وإيمان.
7 ـــ القوة وعلاقتها بسيادة الإسلام
عندما أُرسل النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بالرسالة، وَضع أمامه هدفين: الأول إزالة الشرك والوثنية من العالم، ولا سيّما من الجزيرة العربية التي كانت المنطلق للرسالة الإسلامية، والقاعدة التي ترجع إليها، الثاني: سيادة دين الله على الأرض، بحيث يكون صوته الأعلى، وكلمته العليا، وحكمه الأقوى.
وعلى ضوء هذا اختلفت أحكامه مع المشركين، وأهل الكتاب، فلم يقبل من المشركين ـــ في حالات القتال إلاّ الإسلام ـــ بينما قَبِل من أهل الكتاب الدخول في "عقد الذمّة" الذي يجعل العلاقات بينهم وبين المسلمين خاضعة لالتزامات تعاقدية معيّنة. ولكن هذا لا يمنعنا من ملاحظة وجود وحدة الموقف، تحكم ذلك كلّه، وهي إخضاع الاتجاهات كلّها للسلطة الإسلامية. ونحن في محاولة تقييم للموقف من وجهة عامّة، ثم الدخول في بعض التفاصيل التي تفرض علينا طبيعة البحث معرفتها. أما دراسة الموقف من وجهة عامة، فقد عالجناها في كتابنا "أسلوب الدعوة في القرآن" معالجة وافية، ننقلها، هنا:
لا بدّ لنا ـــ في سبيل إعطاء فكرة واضحة عن ذلك ـــ من أن نضع في حسابنا مسألة واحدة، وهي أنّ الإسلام قد قرّر هذه الأحكام واتّخذ هذه الإجراءات، باعتباره دولة إسلامية ذات سيادة، تمثّل سيادة الله على الأرض ـــ كما يقول بعض المستشرقين ـــ ومن الحقّ لطبيعة القضية وأهميّتها أن نطرح أمامنا سؤالاً واحداً وهو: ماذا يمكن للإسلام أن يصنعه تجاه المشركين الذين لا يزالون يهدّدون كيانه وسلامة دولته، ويريدون به الشرّ ويقعدون له كل مرصد؟ ما الذي يستطيع الإسلام أن يفعله مع هؤلاء للحفاظ على سلامته، وعلى فكره وعقيدته؟.
إنّه قد جرّب في فترات متعدّدة أن يلتقي بهم في معاهدات ومواثيق تستهدف أن يعيش الجميع في سلام مدّة من الزمن، ريثما تستقرّ الأمور وتتركّز، ويرجع إلى نصابه، فماذا كانت النتيجة في هذه التجربة؟.
لقد استغلّوا فرصة الهدنة التي حدثت بفعل العهود والمواثيق، فعبّأوا أنفسهم وجدّدوا قواهم، وهجموا على المسلمين في جيش قوي على حين غرّة، وفي عملية غدر وخيانة ونقض صريح للعهود. وكانت هذه التجربة بمثابة الدليل الواضح على طبيعة العدوان المتأصّلة لديهم، وعلى أنّهم غير مستعدّين للعيش بسلام مع المسلمين ومع الإسلام بوجه من الوجوه. وبذلك حدّدوا للإسلام موقفه الطبيعي منهم في قرار حاسم صريح.
وهناك ناحية أخرى تتّصل بطبيعة الشرك والكفر بوجه عام، وطبيعة الإسلام والإيمان بالله، بشكلٍ عام. وهي أنّ الشرك بطبيعته، وكذلك الكفر بالله بوجهٍ عام، لا يمكن له أن يلتقي بالإسلام في أيّ طريق، لأنّ القضية ليست قضية اختلاف في تفاصيل العقيدة وفروعها، وليست القضية قضية اختلاف في النظام الذي يسود ويحكم، بل القضية قضية خلاف في أساس العقيدة، بين عقيدة التوحيد والإيمان بالله، التي ترى أنّ من أولى مهمّاتها العمل على تحطيم مبدأ الصنمية والإلحاد، في أي شكل من أشكاله، وفي أي وجه من وجوهه، لأنّ ذلك يمثّل جزءاً من عقيدتها، وبين عقيدة الشرك والكفر، التي ترى في فكرة التوحيد فكرة تستهدف القضاء عليها، وتسفيه أحلامها وعقائدها، ومن هنا، فهي ترى أنّ عليها أن تحاربها ما دامت تملك القوّة لذلك، وما دامت تجد الجوّ المناسب له.
وإذا كان الخلاف يعيش في هذا المستوى ومستوى اللاإلتقاء، فكيف يمكن أن يعيش هذان الاتجاهان في سلام، وكيف يمكن أنْ يتحقّق الصفاء بين أتباعهما في ظلّ دولة واحدة؟.
ثمّ، إنّ من مظاهر الحرية التي يتصوّر السماح بها لعقيدة الشرك ـــ لو قدّر ذلك ـــ هي حرية ممارسة الطقوس العبادية للأصنام ـــ مثلاً ـــ فهل يستطيع الإسلام ـــ من وجهة نظر عقيدته ـــ أن يسمح بذلك، مع أن أولى مهمّاته هي تطهير الأرض من الأصنام فكرةً ومظهراً؟.
وهنا نستطيع أن نضع أيدينا على بداية الجواب عمّا يستطيع الإسلام عمله تجاه هؤلاء، فإنّ الذين قدّمناه يجعل فكرة السماح لهم بالبقاء في ظلّ الدولة الإسلامية ـــ كمواطنين ـــ أمراً غير عملي وغير واقعي. حتى لو دفعوا الجزية، فإنّ ذلك لن يغيّر من الموقف شيئاً، فلا يبقى أمامهم ـــ إذا أرادوا الحياة ـــ إلاّ الاعتراف بالإسلام، لأنّ الشرك ـــ في حساب الإسلام ـــ يعتبر انحرافاً عن الفطرة الإنسانية، وانحطاطاً بالإنسان إلى أقصى درجات البدائية، ويرى أنّ مهمّته الكبرى هي نسف قواعد الشرك والإلحاد في الأرض، كجزء من مهمّته الأساسية في رسالته الشاملة، التي تعتمد التوحيد أساساً لحياة البشرية، ومنطلقاً لآمالها وأحلامها.
وعلى ضوء هذا، نعرف أنّ القضية لا تتّصل بمجرّد مخالفتها لفكرة بقدر اتصالها بمناوأتها لمصير البشرية ومستقبلها. هذا بالإضافة إلى أنّ الشرك لا يعتبر بمثابة العقيدة، التي يمكن أن يُقام لها وزن في حساب الحرية لدى الإسلام، لأنّها تمثّل السلوك المنحرف للإنسان، والوضع غير الطبيعي لحياته.
وانطلاقاً من ذلك، لا يبقى مجال للإسلام، يبرّر له السماح بالحرية لهذا المبدأ، فكرة وأتباعاً، لأنّه بمثابة السماح بالحرية لعناصر الإفساد في الأرض، وهذا ممّا لا يمكن أن يقرّه أي مبدأ، أو أيّة عقيدة مهما كان نوعها.
ومن هنا لا بدّ من إخضاع أتباعه لسيطرة الدولة الإسلامية، وبالتالي، لسيطرة الإسلام، كطريق عملي للسيطرة على عنصر الفساد والإفساد في الأرض، فكيف يتحقّق هذا الإخضاع؟.
لا بدّ من القوة، ولكنها ليست القوة التي تبدأ العدوان، بل القوة التي تعتبر آخر تجربة للإصلاح، وليست القوة التي تعتبر أسلوباً من أساليب إدخال الآخرين في الإسلام، بل هي التي تحاول إخضاعهم لسيادة الإسلام، وتجعلهم أمام الأمر الواقع في الاعتراف العملي بقوّة الدعوة الجديدة وسيادتها. الأمر الذي يجعل عقيدتهم ـــ إنْ كان الشرك عقيدة ـــ تعيش في ضمن النطاق الداخلي لحياتهم، دون أن تجد منفذاً ينفذ إليه في الواقع الخارجي للحياة التي يحيونها داخل الدولة الإسلامية، وبالتالي لتجعلهم، وجهاً لوجه، مع التجربة الحياتية للإسلام. أملاً في أن تفتح أعينهم على واقعه النيّر العظيم، فتنفتح له قلوبهم وأرواحهم. إنّ بداية الطريق التي تسمح لهم بالاحتفاظ بوجودهم، وبحقوق المواطنة المحترمة في الدولة الإسلامية، هي الاعتراف بهذا الشكل الصوري المجرّد للإسلام، الذي يتمثّل في النطق بالشهادتين ـــ وإنْ لم يكن ديناً ـــ كما يقول الشيخ الطوسي ـــ .. وتبقى الخطوات الأخرى التي تتولّى تعريفهم الإسلام وما فيه من خير وأمن وعدالة ـــ بعيداً عن جوّ الشرك وفساده ـــ أملاً في أن يفيئوا إلى الإسلام، وتستيقظ فطرتهم ـــ في وعي ويقين ـــ على نداء الحق وصوت الله.
ويبدأ من هنا الجواب عن السؤال الأول، حول اعتبار مثل هذا الإجراء إكراهاً في الدين أو لا، فإنْ كان المراد من اعتباره إكراهاً في الدين، كونه أسلوباً من أساليب إدخال الناس في الإسلام، كجزء من أسلوب الدعوة في الإسلام، فهو أمر نشجبه ولا نقرّه، كما تشجبه الآية المتقدّمة التي عرضت لنفي الإكراه في الدين، لأنّ الموقف لم يكن موقف دعوة، ولأنّ مجالها الفكر والقلب. ولا مكان للإكراه فيهما، كما لا حاجة للإكراه في شكله الصوري ـــ من وجهة الدعوة ـــ لوضوح الدين وظهور حقيقته بما لا يدع مجالاً للحاجة إلى الإكراه.
وإنْ كان المراد من ذلك، كونه أسلوباً من أساليب إخضاع المشركين والكفّار بوجهٍ عام، للدولة الإسلامية، كوسيلة من وسائل السيطرة على الشرك والكفر، لتقليص ظلّه في الأرض، من أجل إقامة المجتمع الإسلامي بعيداً عمّا يفسده ويسيء إليه. إن كان المراد منه ذلك، فلا نمنع منه ومن شرعيته في نطاق الدولة، كعملية وقائية لحفظ نفسها وعقيدتها الأساسية من عدوان المعتدين، وإضلال المضلّين، ولكنه لا يكون إكراهاً في الدين، بمعنى الإدخال في الدين، بل بمعنى الإخضاع للدين.
أمّا لماذا كان الإخضاع هنا متمثّلاً في إلزامهم بالاعتراف الشكلي بالإسلام، فيتّضح ممّا قدّمناه آنفاً من محاولة الإسلام القضاء على عنصر الفساد في الأرض المتمثّل بالشرك، وذلك بقطع صلتهم الرسمية به مطلقاً، كما يتبيّن ممّا أشرنا إليه سابقاً، من أن منح الحرية لهم مع تباين المظهر العقيدي لكلّ من الشرك والإسلام، أمرٌ غير عملي، وغير واقعي، وذلك على العكس من موقف الإسلام من أهل الكتاب، الذين يلتقي بهم الإسلام في الطبيعة العامة للدين ولتعاليمه، ممّا يجعل أمر منحهم الحرية ممكناً من الوجهة العملية.
وممّا يرشدنا إلى ما عرضناه من ارتكاز القضية هنا على طبيعة الإخضاع لسيادة الإسلام، لا الإكراه على اعتناقه هو، أنّ السلطة الإسلامية كانت تلاحظ وجود المنافقين ـــ في المجتمع الإسلامي ـــ الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، كما حدّث الله عنهم في قوله تعالى:
{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون : 1]. أي ـــ في دعواهم الاعتقاد برسالتك التي تتمثّل بادّعائهم الشهادة. لقد كان النبيّ يعلم ذلك، ومع ذلك فقد أجرى عليهم حكم الإسلام، لأنّهم كانوا خاضعين لسيطرة الدولة الإسلامية، كما كان يعلم بوجود عناصر قلقة في إسلامها غير مؤمنة به، فحاول أنْ يتألّفها، الأمر الذي يرشدنا إلى أنّ القضية كانت متعلّقة بالكيان العام للدولة، الذي أُريدَ له أن لا يرتفع للشرك فيه صوت، وأن يبقى منطلقاً مع التوحيد ورسالته.
ويجب أن لا يغيب عنّا ـــ ونحن في ختام الحديث ـــ أنّ القضية تدور في نطاق الظروف الحربية بين الكفّار وبين المسلمين. أما في غير تلك الظروف، فللمسألة حديثٌ آخر ليس مجاله هنا.
ولقد أحسن جولد تسيهر بقوله: "لقد خلف محمد ما صنعه في محيطه العربي وصية لمستقبل أُمّته: ذلك هو محاربة الكفر ونشر العقيدة الإسلامية. ولكنّ هناك أشياء أكثر من ذلك، ألاَ وهو توسيع نطاق السيادة الإسلامية التي هي سيادة الله؛ ولم يكن الغرض فيما يتعلّق بالجهاد الإسلامي يتّجه إلى تغيير عقيدة الناس بإدخالهم في الإسلام، بقدر ما كان يرمي إلى إخضاع الكفّار..".
وهكذا نخلص إلى نتيجة حاسمة في الموضوع، وهي أنّ الإسلام لم يمارس الإكراه على الدين، كطريقة لتغيير العقيدة وإدخال الناس في دينه، بل مارس في عملية الإكراه هذه، إخضاع الكفّار للسيادة الإسلامية حفظاً لكيانه، وصوناً لسلامة دولته؛ إلاّ أنّ شكل هذا الإخضاع اختلف، فتمثّل في أهل الكتاب بفرض الجزية عليهم، فإنّه مظهر من مظاهر الخضوع للدولة، وتمثّل في المشركين بإظهار الشهادتين، لأنّه مظهر من مظاهر الاعتراف بسيادة الإسلام وسطوته(1).
هذا من جهة عامة، فإذا اقتربنا إلى بعض التفاصيل فسنواجه عدّة أمور:
1 ـــ إنّ إثارة قضية الحريات، في مثل هذه الحالات، كانت مرتكزة على فكرة "الحرية الإنسانية" على الطريقة الغربيّة، التي تمنح للفرد حريّته، حتى على حساب المجموع، أو تمنح للمجموع حريّته حتى على حساب قضية الإنسان الكليّة، لأنّها لا تؤمن بفكرة رائدة مقدّسة، بل الفكرة التي تحكم الإنسان، هي وليدة فكره، ولذا فإنّ من الممكن أن تتغيّر تبعاً لإرادته واختياره، وبهذا كانت الديمقراطية، أعلى أشكال الحكم التمثيلي الذي يحكم الإنسان فيه نفسه.
ولكنّنا نعتبر الحرية مرتبطة بمصلحة الإنسان التي يحدّدها خالقه، ولذا فلا مجال لإعطاء الحرية المضادّة لإرادة الله، لأنّها مضادّة لمصلحة الإنسان، ولهذا كانت الأُسس العملية للحرية في الإسلام تختلف عن الأُسس التي ترتكز عليها الحرية في مفهوم الآخرين.
وتلتقي الفكرة الإسلامية، بكل الدول التي تنطلق في حكمها من خلال فكرة متكاملة شاملة، ترتبط بها كلّ التشريعات والممارسات، وتعطي صفة "الديمقراطية الموجهة" التي تعبر عن حكم الشعب نفسه من خلال الذين يمثّلون فكرته، لتكون أفكارهم منطلقة من خلال الخطّ العام الذي يمثّل المصلحة العامة للجميع.
2 ـــ إنّ الدعوة في الإسلام كانت تسير جنباً إلى جنب، مع بناء الدولة، ممّا أوجب الاختلاط بين مفاهيم الدعوة وأساليبها، ومفاهيم الدولة وأساليبها، فخيّل للكثيرين الذين يتابعون حركة الإسلام ونموّه وتطوّره أن الإسلام يقاتل من أجل قضية الدعوة، كوسيلة من وسائلها، بينما كان الواقع أنّه يقاتل من أجل قضية الدولة التي ترتكز على الدعوة كفكر، من أجل حماية الدولة، وحماية الدعوة معاً، ممّا نُعبّر عنه بسيادة الله المتمثّلة في سيادة السلطة الإسلامية على الأرض. وهذا هو ما نحتاج إلى التركيز عليه دائماً، ليتّضح الخط الفاصل بينهما، ويعرف الناس الفرق بين موضوع السيادة وبين موضوع الدعوة.
3 ـــ هل يجب إعلان المسلمين الحرب على الكفّار، وإن لم يبدأوا بها أو لا؟.. قد يظهر من فقهاء المسلمين السنّة والشيعة ذلك، على أساس الآيات الكريمة المطلقة التي أطلقت الأمر بقتال المشركين إلى أنْ يسلموا، وأهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية، واختلفوا ـــ بعد ذلك ـــ هل يجب إعلانها كلّ سنة مرة، انطلاقاً من قوله تعالى:
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة : 5]، حيث علقت الأمر بالقتال على انسلاخ الأشهر الحُرُم، ممّا يقتضي إطلاق وجوبه بعد ذلك، أو يجب حسب الإمكان والقدرة، أو يختلف حسب اختلاف المصلحة الإسلامية العليا، "فقد تجب الزيادة عليها مع الحاجة، كخوف قوّة العدوّ مع الاقتصار على المرّة، وأدائه إلى ضعف المسلمين عنهم، ويجوز تركه أصلاً في السنة بل والسنتين للعذر، مثل أن يكون في المسلمين ضعف في عدد أو عدّة، أو حصول مانع في الطريق، كعدم المانع ونحوه، أو لرجاء الرغبة في الإسلام أزيد من القتال"(1).
ولكنّنا نحسب أنّ القضية ليست بهذه المثابة من الوضوح، بل كلّ ما هناك أنّ الجهاد مشروع في نطاق شروطه الشرعية، ولذا فإنّنا لا نستطيع اعتباره أصلاً، يحتاج تركه إلى الرخصة، بل ربّما يبدو لنا أنّ الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هي السلم، في الظروف التي يمكن للسلم أن يحقّق النتائج المطلوبة للإسلام والمسلمين، فإذا انقلب السلم إلى موقف ضعف أو حالة خطر على الإسلام والمسلمين، كانت الحرب هي السبيل المشروع لمواجهة حاجات الموقف ومشاكله، ولعلّ هذا هو الذي تشهد به الآيات القرآنية الكريمة، التي جاء في بعضها كلمة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج : 39]. وفي بعضها الآخر {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ} [البقرة : 190].. وغيرها، حيث جاءت هذه الآيات لتبرّر تشريع الجهاد بالأسلوب المعلّل، الذي يفلسف التشريع بالحالات الطبيعية التي تفرضه وتبرّره، ممّا يجعل القضية تبحث عن وجود الحالة المبرّرة، بدلاً من العكس.
ولعلّ هذا هو الذي توحي به ـــ إلى جانب ذلك ـــ الآيات التي تدعو إلى السلم، عندما يخلد الآخرون إلى نداء الإسلام أو يطلبوه ابتداء في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 208].
{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [الأنفال : 61].
ونستوحي ذلك من الآية الكريمة في قوله تعالى:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة : 8 ــ 9].
وقوله تعالى:
{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء : 90].
أمّا الاستدلال لذلك بالمطلقات، فنحسب أنّه لا يخضع للحسابات الدقيقة، لأنّ الأسلوب يطرح القضية في إطار معيّن، كما في الآية التي تطلق الأمر بعد انسلاخ الأشهر الحُرُم، فإنّها تتحدّث عن المشركين الذين نكثوا العهد ولم يحفظوه، وترشد المسلمين إلى التوقّف عن القتال في الأشهر الحُرُم، لتطلق لهم الحرية في معاودته بعد انقضائها، فهي واردة في قتال يجد مبرّراته، في واقع الحرب المعلنة آنذاك بين الإسلام وبين الشرك.
أمّا آية: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة : 36]... فإنّها توجّه المسلمين إلى كيفية القتال وشموله، وأمّا آية قتال أهل الكتاب، فإنّها واردة في أصل التشريع لا في تفاصيله، فلا مانع من أن يترك القرآن بيان التفاصيل إلى آيات أخرى أو أحاديث نبوية، كما هي طريقة التشريع الإسلامي في إطلاق الفكرة أوّلاً، لتقرّ المبدأ، ثمّ الدخول في التفاصيل من خلال الكتاب والسُنّة.
ولعلّ الخطأ الذي يقع فيه كثير من الباحثين والمفسّرين، أنّهم ينظرون إلى كلّ آية بمفردها، ويعتمدون في صرف ظواهرها على أخبار غير موثوقة، ويتحدّثون عن نسخ بعضها ببعض فيما لا مجال فيه للنسخ، لاختلاف الموضوع والجهة، استناداً إلى أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا ظنّاً، ممّا يجعل الإنسان يفقد الجوّ القرآني المتكامل في التشريع، فيم يقرأه من آيات، لأنه يضيع عن المعنى الأصيل، أمام هذا الركام الهائل من الوجوه أو الأحاديث.
إنّ قيمة القرآن الكريم، في القضايا التي يثيرها، هي في هذا التناسق الرائع الذي يمثّل وحدة القضايا، في كل التفاصيل التي تثيرها الآيات، لتكون كل واحدة منها، جزءاً من كلّ، لا قطعة قد تلتقي بالأخرى، وقد لا تلتقي، ولن نستطيع فهم القرآن إلاّ على هذا الأساس، وبهذه الروح التي أرادنا القرآن أن نتدبّر فيها آياته وأحكامه.
ولعلّ من الطريف أن نجد بعض الفقهاء الكبار، يستدلّون على وجوب ابتداء الكفّار بالحرب، بسيرة النبيّ والتابعين، التي تدلّ على شدّة المواظبة والحثّ عليه، حتى تكرّر ذلك منه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو في النزع وخصوصاً في تنفيذ جيش "أسامة بن زيد"(1). فإنّنا نسجل على هذا الاستدلال ملاحظة أساسية، بل كل ما تدلّ عليه مشروعية الجهاد ضمن الظروف الموضوعية التي كانت موجودة في ذلك العهد. وهذا ممّا لا شكّ فيه؛ لأنّ حديثنا ليس في المبدأ، بل في التفاصيل.
إن كل ما نريده من هذا الحديث، هو إبداء التحفّظات حول الفكرة التي يدعو إليها جمهور فقهاء المسلمين، من اعتبار الحرب أصلاً في الشريعة الإسلامية، بحيث يحتاج السِّلم إلى مبرّر. فربّما كانت الفكرة الأكثر قرباً للإسلام، هي اعتبار السلم أصلاً، لتكون الحرب قضية طارئة تخضع لمبرّراتها، ولهذا ترجع إليه كلّما زالت المبرّرات، أو ربّما كانت قضية السِّلم والحرب خاضعة لمصلحة الإسلام والمسلمين، فليس أحدهما أصلاً، ليكون الآخر أمراً طارئاً، بل كلّ منهما أصل في إطاره وضرورة في موقعه، تماماً كأيّ أسلوبين يختلف موضوعهما ومجالهما في الحياة. فلكلٍّ موضعه الذي يستقلّ به ولا يشاركه فيه شيء آخر.
وعلى ضوء ذلك كلّه، نجد أنّ من الحقّ لنا، أن نرفض الفكرة التي حاول بعض المستشرقين أن يحاربوا الإسلام بها، فيتحدّثون عن الروح الحربية التي تحكم القائمين على شؤون الإسلام، من خلال شريعة الجهاد التي تعمل على إشعال نار الحروب الدائمة في العالم، فلا تخمد حرب في مكان، إلاّ لتشتعل في مكانٍ آخر، ولا تهدأ جبهة في جانب إلاّ لتثور جبهة أخرى في جانبٍ آخر، ممّا لا يسمح للعالم أن يستقرّ أو يخلد إلى طمأنينة أو استقرار.
إنّنا نستطيع أن نقرّر من خلال حديثنا هذا أنّ الإسلام لا يختلف عن أيّة عقيدة أخرى، لا تخضع للمقوّمات الاقليمية والقومية، بل تمتد في مجرى الحياة الإنسانية لتشمل العالَم كلّه، من موقع المسؤولية الشاملة التي ترتبط بحياة الإنسان، بعيداً عن روح الغلبة والسيطرة والقهر والاستعلاء. فهي تخضع ـــ حربها وسلمها ـــ للخطّة العامة الشاملة التي تتحرّك في مصلحة الإنسان، في أسلوب النظرية والتطبيق. فقد تتطلّب المصلحة العليا أن يكون الأسلوب السلمي، سبيل العقيدة إلى الدخول في حياة الناس، وقد يكون العنف هو الأسلوب الأمثل في ذلك كلّه. فللقائمين على التخطيط لحركة العقيدة أن يأخذوا بهذا أو بذاك، من دون خوف أو حرج، وعليهم أن ينفذوا ما يأخذونه وما يختارونه، على أساس أمانة الحركة وأمانة العمل في جميع الحالات.
وربّما كانت قصة سيادة الإسلام التي تفرض معالجة كثير من المواقف بأسلوب القوّة والعنف، منطلقة من هذا الخطّ الواسع الشامل، الذي تتحرّك فيه الدعوة في الطريق الصحيح المستقيم.
4 ـــ لقد تحدّث الفقهاء المسلمون عن حالة السلام بين المسلمين وبين الكافرين، واختلفوا ـــ كعادتهم ـــ في مدّته. هل هي موقّتة بوقت معيّن، أو أنها تخضع لما يراه وليّ الأمر من مصلحة الإسلام ومصلحة المسلمين في ذلك. فمن قائل بأنّها عشر سنين، ومن قائل بأنّها عشرون سنة، ومن قائل بأنّها لا توقّت بوقت معيّن بل تتبع المصلحة، ولكلّ قول وجهٌ يستند إليه قائله من فعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مع بعض قبائل الكفار. ونحن لا نجد أفضل من القول الذي يجعل القضية في إطار المصلحة الإسلامية العليا التي يراها وليّ الأمر، على أساس الفكرة التي قدّمناها في الفقرة السابقة من الحديث، وهي خضوع قضية الحرب والسلام في الإسلام، للمصلحة العليا في الإسلام. أمّا ما استندوا إليه من فعل النبيّ فقد ذكرنا في قضية مماثلة، أنّ الوقت الذي يعينه النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) للحرب والسلام، أو الفعل الذي يمارسه، ممّا يحتمل أكثر من وجه، لا يمثّل الصيغة الشرعية النهائية، بل يمثّل الفعل الذي يخضع للمصلحة الآنية في طبيعته وفي وقته، من دون أن يكون ملزماً للمسلمين إلاّ فيما يدلّ عليه من مبادئ عامة. ولذلك قال الأصوليون والفقهاء، إنّ الفعل مجمل لا يدلُّ على أكثر من الإباحة، لأنّ ذلك هو المعنى الواضح فيه. أما بقية الجوانب فتخضع في وضوحها وخفائها للقرائن الحالية والمقالية التي تحيط بالموضوع(1).
وعلى ضوء ذلك، فإنّنا لا نجد مانعاً شرعياً من أن يأخذ المسلمون بالطريقة الحديثة، التي تتبعها الدول المختلفة في أفكارها وأنظمتها، في نظام المعاهدات والمهادنات، التي قد تمتد زمناً طويلاً. وقد تنقطع لظروف طارئة، تبعاً للمصالح الإقليمية أو الدولية التي يفرضها الواقع السياسي العام. فإذا اقتضت المصلحة الإسلامية العليا السير مع هذه الطريقة، كان للمسلمين أن ينسجموا معها. ولن ننطلق في ذلك من واقع الأنظمة المعاصرة كأساس للتشريع، بل نرجع في ذلك إلى نظام التعاقد والتعاهد، الذي شرّعه الإسلام كقاعدة عامّة في قضايا التعامل في الأنفس والأموال والأعراض، في حالات الحرب وحالات السلم. فقد قرّرته الآية الكريمة في قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة : 1] وفي كثيرٍ من الآيات التي تحدّثت عن أحكام المعاهدات التي كان النبي يقوم بها مع المشركين وغيرهم. ولسنا في معرض الإفاضة في أحكام الجهاد في حالتي الحرب والسلم، فقد لا يكون في كتابنا سعةٌ لمثل ذلك. ولكنّنا نريد ـــ من هذا الحديث الخاطف ـــ أن نشير إلى المرونة التشريعية الإسلامية التي لا تضيق بأيّ تطوّر حياتي، لا يختلف مع قواعدها العامّة، كما نريد أن نردّ على الفكرة المعادية للإسلام، التي تحاول أن تصوّر الإسلام في صورة الدين المحليّ، الذي انبثق من تفكير بشري محدود بحدود البيئة الخاصة، لأنّ التشريعات الحربية والسلمية تعيش في إطار الأشكال التاريخية التي رافقت عصر الدعوة، ولا تخرج عن هذا الإطار، فلا يمكن ـــ والحال هذه ـــ أنْ تمتدّ إلى عصور تاريخية أخرى، تختلف أوضاعها وأشكالها في شؤون الحرب والسلم. إنّنا نريد أن نفهم خطأ هذه الفكرة وضلالها من خلال هذا الحديث الذي أثرناه، لنخرج بالنتيجة المشرقة التي تقرّر شمول القواعد الإسلامية العامة للتشريع، لكلّ حالات التطوّر المعقولة في الحياة.
الفصل الثامن
التغيير... ومنطق القوّة
1 ـــ الإنسان هو صانع التغيير
2 ـــ ماهية وسائل التغيير في الإسلام؟
3 ـــ هل يمكن فصل الدين عن الدولة؟
4 ـــ الإسلام دعوة ودولة
5 ـــ هل هناك تعارض بين عقيدة المهدي لدى الشيعة وفكرة الدولة؟
6 ـــ لا تعارض بين الفكرتين
7 ـــ التغيير بين الرفق والعنف
8 ـــ الثورات الإسلامية سند تشريعي للثورة الآن
9 ـــ لا علاقة بين العصمة والتاريخ الثوري في الإسلام
10 ـــ هل انتهى العنف بانتهاء ثورة الحسين؟
11 ـــ الأئمة يرفضون الحركات المنحرفة
12 ـــ الأئمة يتعاطفون مع الحركات الإسلامية المستقيمة
13 ـــ المرحلة تحكم نصوص الهدوء
14 ـــ التقية استثناء لا قاعدة
15 ـــ العمل التنظيمي ضمان لا خطر
16 ـــ العمل التنظيمي في التاريخ الشيعي
17 ـــ الدسُّ والوضع في الحديث
18 ـــ القوّة خارج إطار الحكم الإسلامي
19 ـــ الماركسية وفكرة التغيير بالقوّة
20 ـــ الفرق بين الإسلام والماركسية
21 ــ التغيير لا يبتعد عن أخلاقيات الإسلام
22 ـــ الإسلام يرفض الغدر
لقد جاء الإسلام ليغيّر العالَم على صيغته، كدين يبحث في الحياة عن الجذور التي يرتبط بها الواقع، ليقتلعها بقوّة من أجل السماح للجذور الجديدة بالامتداد والانتشار في اتّجاه الواقع الجديد.
1 ـــ الإنسان هو صانع الغيير
أمّا الفكرة الإسلامية عن التغيير، فلم تكن وليدة ظروف غير طبيعية، وأعمال غير اختيارية تفرض على الإنسان فرضاً يشلّ قدرته على الحركة، بل كانت وليدة الظروف الطبيعية التي يستطيع التحكُّم فيها وإخضاعها لإرادته واختياره في الحدود المعيّنة، فهي تنطلق من موقع الإرادة والاختيار، لا من موقع القهر والإجبار، ولهذا كان الإنسان ـــ في مفهوم الإسلام ـــ صانع التغيير، لأنّه الذي يمثّل للحياة حركتها العملية في النطاق العملي للأشياء. وفد جاءت الآيات الكريمة التي تتحدّث عن الواقع الشرير، فتربطه بالإرادة الإنسانية كما في قوله تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41].
فقد انطلقت الآلام الإنسانية من خلال الاختيارات العلمية، التي يجسّدها الإنسان في سلوكه العام والخاص على الصعيد الفردي والاجتماعي. فهو الذي صنع آلامه. لأنّه صنع أسبابها الطبيعية في الحياة بإرادته واختياره، أمّا منطلق التغيير في الإنسان الفرد، فهو داخله، أفكاره وعواطفه، لأنّ الفكر والعاطفة، هما اللذان يحدّدان للإنسان تصوّراته واختياراته التي تنطلق منها مواقفه وأعماله، فنلاحظ أنّ الواقع يبدأ فكرة في عقل الإنسان، أو صورة في خياله، أو شعوراً في ذاته، ثمّ تتحوّل إلى خطوات عملية تجسّد الفكرة والصورة والشعور في إطار الواقع، من دون فرق في ذلك بين القضايا العامة على مستوى المبادئ، أو الأطماع أو الأشياء، وبين القضايا الخاصة، على مستوى الممارسات الفردية. ذلك هو واقع الحياة، إنّه تاريخ الأفكار والعواطف والمشاعر، حتى الذين يعتبرون الواقع أساساً للفكر، باعتبار الفكر انعكاساً للواقع الموضوعي، يعودون، بعد ولادة الفكر، ليجعلوا الواقع انعكاساً له في المرحلة التالية.
على ضوء ذلك جاءت الآيتان الكريمتان:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال : 53].
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11].
إنّ الفكرة تقول للإنسان: لا بدّ لك، لكي تُغيّر الواقع، من أن تُغيّر نفسك من الداخل، من خلال تغيير تصوّراتك وأفكارك ومشاعرك تجاه القضايا التي تواجهك، أو الأشياء التي تُحيط بك، أو الأشخاص الذين يعيشون معك. وقد حاول الإسلام أن يضع للإنسان منهجاً تربوياً تغييرياً، يُخطّط فيه للإنسان المنهج الذي يواجه فيه الكون بدقّة وتأمّل، ليواجه ـــ من خلاله ـــ الله، بوعي ومعرفة، ليلتقي ـــ على أساس ذلك ـــ بالمسؤولية العامة عن الحياة والإنسان من خلال المفاهيم الكبيرة، والشريعة الواسعة الممتدّة في كلّ مجال من مجالاته العملية، ليلتقي التغيير الفكري بالتغيير العملي، ويُحقّق الصياغة الإسلامية الجديدة للإنسان على صورة الحقّ.
ولكن، إذا كانت الحياة تبدأ من الداخل، في عملية انطلاق وامتداد، فقد يحدث أن يخضع الداخل لتأثيرات الضغوط الخارجية للبيئة وغيرها، كنتيجة طبيعية لتأثّر الإنسان نفسياً وفكرياً بما يحدث حوله، ولذلك حاول الإسلام أن يحيط الواقع الحياتي للإنسان المسلم بالعناصر الرادعة، التي تحارب الانحراف من جهة، وتخفّف الضغط على الداخل من جهة أخرى، وبذلك كان الاتّجاه الإسلامي منطلقاً نحو الداخل، ليبني القاعدة النفسية للإنسان، كما كان الردع الخارجي، طريقة من طرق حماية القاعدة وتقويتها.
وهذا كلّه من التصوّر الإسلامي لقضية التغيير في إطار الواقع الفردي للإنسان، عندما نريد أن نفسح المجال لأساليب الدعوة أن تنشط لتركّز قواعده في داخل الإنسان فكرة وحياة.
أمّا قضية التغيير في الواقع الاجتماعي، لحياة الإنسان، سواءٌ في ذلك واقع الانحراف العملي في ظلّ النظام الإسلامي، أو واقع النظام الكافر الذي يجسّده الانحراف العقائدي والعملي على خطّ الكفر، أمّا قضية التغيير ـــ هذه ـــ فلها حديث يرتبط بقضية اللين والشدّة، والضعف والقوّة وينطلق في عدّة اتجاهات فكرية، تلتقي في الجواب عن سؤال واحد كبير، يضع القضية في إطارها الطبيعي.
2 ـــ ماهيّة وسائل التغيير في الإسلام
ما هي الوسيلة للتغيير في الإسلام، عندما يتعلّق الأمر بالجانب التنفيذي للسيطرة الإسلامية على الواقع فكرةً وتطبيقاً؟
فهل يعتبر الإسلام الوسائل السلمية التي تتمثّل بوسائل الدعوة وطرقها المبنية على الإقناع والهداية التي تبدأ من الفرد، لتنتهي بالمجتمع حيث يلتقي أفراده جميعاً على كلمة الله، فتكون قضية النظام وسيطرته نتيجة حتمية لذلك كلّه. وتتمثّل هذه الوسائل، بالكلمة المعبّرة، والأسلوب الطيّب، والموقف المساند أو الرافض، تبعاً للحالات التي تقتضي التأييد أو الرفض. وقد تتمثّل في الدول ذات الطابع الديمقراطي البرلماني، بالطريقة البرلمانية التي تعتبرها الأنظمة الديمقراطية، الطريقة الوحيدة المشروعة للوصول إلى عملية التغيير، من خلال الحصول على الأكثرية المطلقة للناخبين، المؤدية إلى أكثرية أصوات المجلس النيابي للنظام الجديد المقترح؟
أو أنّ الإسلام يؤمن، كما تؤمن كثير من المبادئ الثورية بالعنف والثورة، كأسلوب وحيد من أساليب التغيير، فيمكن لنا ـــ على ضوء ذلك ـــ استخدام القوّة المسلّحة، واللجوء إلى كلّ عناصر الإثارة الشعبية، حتى الفوضى، ضدّ الأنظمة الفاسدة التي تتحكّم فيها القوى الشريرة، معتبرين ذلك عملاً مشروعاً بجميع نتائجه العامة والخاصة؟
ربّما نحتاج ـــ في معالجة الجواب الدقيق عن هذا السؤال ـــ أن نضع أمام أنفسنا سؤالاً ثانياً يُحدّد لنا طبيعة الممارسة العملية لهذا الدين، لنعرف من ذلك الطبيعة الحركية للدين، في وسائله وأهدافه، فكيف انطلق الإسلام؟. هل انطلق ـــ في الحياة ـــ كدين، يُخطّط للإنسان كلّ أوضاعه وحركاته، ويريد أن يحكم الحياة في كلّ زمان ومكان، بحيث كان الحكم رسالته في الحياة، كما كان التشريع إطار الحكم في الرسالة؟ أو أنّه انطلق كدين يسير مع الإنسان كفرد، حتى إذا جاءت الحياة إليه لتدعوه إلى الحكم، حاملة إليه كل عناصر الاطمئنان بالنتائج، من دون سلبيات ولا مشاكل، أقبل عليها بوداعة، ولكنّه ليس مستعدّاً لأنْ يدفع أتباعه في الاتّجاه الخطر، بل يطلب إليهم ـــ بدلاً من ذلك ـــ الصبر والابتعاد عن كلّ شيء يمسّ بحياتهم؟ ربما يحسب بعض الناس، ممّن لا يزالون يطرحون شعار فصل الدين عن الدولة، أو عن السياسة، أنّ للدين مهمة تختلف عن الدولة، وبالتالي، أنّ لها وجوداً يتميّز عن وجوده، في الإطار والفكرة والممارسة، فللدولة فكرتها القائمة على أساس تنظيم حياة الناس التشريعية والتنفيذية في إطار علاقاتهم العامة والخاصة، وتتمثّل ممارساتها لذلك في الأجهزة التي تحشدها للقيام بعملية التنفيذ بكلّ الوسائل الممكنة، بالعنف واللين، أو بالمزيج منهما، بحسب اختلاف الظروف والحاجات.
أمّا الدين، فإنّ فكرته تقوم على أساس عبادة الله بكلّ ما يستتبعه ذلك من طقوس وأوضاع خاصة، في إطار المفاهيم الروحية، والأخلاقية التي تهذّب نفس الإنسان، وتطهّر سلوكه في علاقاته العامة والخاصة، وتتمثّل ممارساته العملية في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن بعيداً عن كلّ عنف، وعن كل علاقة مادية تربطه بالشؤون الدنيوية الخاصة في الحكم والحياة؛ ولهذا فليس من حقّ القائمين على شؤون الدين، أن يجبروا الناس عليه، أو يحاربوهم لأجله، أو يدفعوهم إلى التضحية في سبيل ذلك، حتى لو كانت القضية قضية مقاومة الظلم والظالمين. وقد يستشهدون لذلك بالآيات الكريمة التي تصرّح برفض الإكراه في الدين، وبتحديد شخصية النبيّ بأنّه مُبلِّغ ومُذكِّر وهادٍ وغير ذلك، ممّا يوحي بأنّ الكلمة هي سلاح الدين، وليست الرصاصة.
قال تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة : 256].
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29].
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ*لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21:22].
{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد : 7].
{نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد : 40].
وعلى ضوء ذلك كلّه يرى هؤلاء انحراف علماء الدين عن مهمّتهم الدينية، عندما يتدخّلون في السياسة، أو يلجأون إلى القوة في معارضتهم لبعض الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في نطاق الدولة، لأنّ مجالهم الطبيعي هو المسجد، لا الحياة.
4 ـــ الإسلام دعوة... ودولة
ولكنّنا نقف في الموقف المعاكس تماماً لهذا الرأي، لأنّ الإسلام دعوة ودولة. فهو، من الناحية الفكرية التي ترتبط بقضية الإيمان والكفر، دعوةٌ ـــ يدفع إليها الإسلام كل ما لديه من وسائل الإقناع، التي تجعل المفاهيم الدينية في موقع القوّة من قناعات الإنسان الفكرية والشعورية. وفي هذا الإطار تتقدّم أساليب الرفق واللين والأسلوب الطيّب، والجدال بالتي هي أحسن، أمام هذا الهدف، لتكون الأسلوب الوحيد في هذا المجال.
ولكنّه، من الناحية العملية، دولة تحكم حياة الناس الفردية الخاصة، كما تحكم حياتهم الاجتماعية العامّة ـــ في كلّ جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغير ذلك ـــ وهي ـــ في هذا الإطار ـــ تأخذ بكلّ الوسائل التي تقتضيها طبيعة الدولة من العنف في موضع العنف، واللين في موضع اللين، لأنّ ذلك هو السبيل الوحيد للمحافظة على النظام والخروج من الفوضى، وفي هذا الإطار تتقدّم أساليب الجلد والقطع والقتل والسجن، وغير ذلك من أساليب القهر والعنف.
أمّا أنّ الإسلام دولة ـــ إلى جانب كونه دعوة ــ فقد لا نجد مجال الدخول في تفاصيله الفقهية في حديثنا هذا. ولكنّنا نكتفي بالإشارة إلى ما يحتويه الفقه الإسلامي من نظام كامل شامل للحياة، يستوعب حاجات الإنسان العامة في جميع المجالات ليضع لها الحلول، بما في ذلك نظام التصميم التشريعي للإسلام، كدولة. هذا بالإضافة إلى الواقع التنفيذي الذي عاشه المسلمون في تاريخ الحكم، حيث لم نجد هناك أي فراغ تشريعي ينتقص من البناء الكامل للدولة.
ولا نجد أفضل ـــ في مجال تقديم صورة عن ضرورة الدولة الإسلامية من الناحية الفقهية ـــ من تحليل السيد حسين البروجردي رحمه الله ـــ أحد مراجع التقليد للمسلمين الشيعة الإمامية في القرن الرابع عشر الهجري، قال: "لا يبقى شكّ لمن تتبع قوانين الإسلام وضوابطه، في أنّه دين سياسي اجتماعي، وليست أحكامه مقصورة على العبادات المحضة المشروعة لتكميل الأفراد، وتأمين السعادة في الآخرة، بل يكون أكثر أحكامه مربوطة بسياسة المدن وتنظيم الاجتماع وتأمين سعادة هذه النشأة، أو جامعة للحُسنيين، ومرتبطة بالنشأتين، وذلك كأحكام المعاملات والسياسات، من الحدود والقصاص والديات، والأحكام القضائية المشروعة لفصل الخصومات، والأحكام الكثيرة الواردة لتأمين الماليات، التي يتوقّف عليها حفظ الإسلام كالأخماس والزكوات ونحوها.
ولأجل ذلك اتّفق الخاصة والعامة على أنّه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدبّر أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام".
ويقول ـــ رحمه الله ـــ في موضع آخر: "لا يخفى أنّ سياسة المدن وتأمين الجهات الروحانية، والشؤون المرتبطة بتبليغ الأحكام وإرشاد المسلمين، بل كانت السياسة فيه من الصدر الأول مختلطة بالديانة ومن شؤونها. فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يدبّر أمور المسلمين ويسوسهم، ويرجع إليه في فصل الخصومات، وينصب الحكّام للولايات، ويطلب منهم الأخماس والزكوات ونحوهما من الماليات. وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده من الراشدين وغيرهم، حتى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنّه بعدما تصدّى للخلافة الظاهرية، كان يقوم بأمر المسلمين، وينصب الحكام والقضاة للولايات. وكانوا في بادئ الأمر يعملون بوظائف السياسة في مراكز الإرشاد والهداية كالمساجد، فكان إمام المسجد نفسه أميراً لهم. وبعد ذلك كانوا يبنون المسجد الجامع قبل دار الإمارة، وكان الخلفاء والأمراء بأنفسهم يقيمون الجمعات والأعياد، بل ويدبّرون أمر الحجّ أيضاً، حيث إنّ العبادات الثلاث ـــ مع كونها عبادات ـــ قد احتوت على فوائد سياسية لا يوجد نظيرها في غيرها، كما لا يخفى على مَنْ تدبَّر.
وهذا النحو من الخلط بين الجهات الروحية والفوائد السياسية من خصائص دين الإسلام وامتيازاته..."(1).
وربّما كان هذا التداخل أو التمازج بين طبيعة الدولة وبين طبيعة الدعوة، أو بين أسلوب الداعية وبين أسلوب الحاكم، هو الذي أدّى في كثير من الحالات إلى الوقوع في الوهم والاشتباه، في فصل الدين عن الدولة، في رأي البعض من الباحثين.
5 ـــ هل هناك تعارض بين عقيدة المهدي لدى الشيعة وفكرة الدولة؟
وقد يقف بعض الناس ـــ أمام هذا الرأي ـــ موقف المتحفّظ، أو الرافض، من خلال عقيدة الشيعة الإمامية الاثني عشرية، الذين يعتقدون بالإمام الغائب "المهدي المنتظر"، فيرى هذا البعض، أنّ السلطة الشرعية في الدولة للإمام أو لنائبه الخاص، أو العام، فإذا كان الإمام غائباً، ولم يكن له نائب خاص، بالضرورة، ولم يكن له نائب عام في مثل هذه السلطات المطلقة، إذ لا دليل على ذلك، فلا بدّ من أن نترك القضية أساساً، ونكتفي بالجانب الفردي من الدين، ولا نحاول أن نتناول من الجانب الاجتماعي للدين، إلاّ الأمور التي ترتبط بالخروج من واقع الفوضى، بقدر الضرورة، التي يتطلّبها الموقف. وقد يستند هؤلاء إلى بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت، ممّا يوهم ذلك أو يوحي به.
6 ـــ لا تعارض بين الفكرتين
ولكنّنا نرفض ذلك، تماماً كما رفضنا الفكرة سابقاً، انطلاقاً من الأدلّة العامة التي تقرّر تشريع الدولة، إذ لا يفرق فيها بين أيّ زمن وآخر، بل ربّما نفهم من طبيعة الحاجة إلى النظام والدولة في زمن النبيّ والإمام أنّ القضية ليست خاضعة لوجود القيادة المعصومة، بل هي خاضعة لطبيعة حاجة الحياة إلى النظام الحاكم، لينقذ الحياة من الضياع والفوضى. وقد نجد في طبيعة شمول الشريعة وامتدادها في الحياة، إلى الجوانب الاجتماعية العامة، التي تدخل في سياسة الحكم وإرادته، بعض ما يؤكّد لنا ذلك، لأنّنا إذا ألغينا فكرة الدولة، نكون قد ألغينا كلّ هذه الأحكام، لأنّنا نلغي شرعية وجود الشرط الأساسي لبقائها واستمرارها، ولا يمكن لنا أن نقرّ أو نتوهّم أنّ الله قد أرسل رسوله بشريعته الواسعة، لإرساء قواعد العدالة في الحياة. ثمّ يحصر ذلك في مرحلة زمنية ضيّقة، كنتيجة لتقييدها بشروط محدودة لا تملك الامتداد والاستمرار، فيعتبر ـــ من وجهة نظر هؤلاء ـــ قيام القيادات الإسلامية العادلة التي تملك الكفاءة في العلم والدين والإدارة، بتطبيق الأحكام العامة للإسلام في ضمن حكومة إسلامية، عملاً غير شرعي يعاقب الإنسان عليه، كما يعاقب على أيّة معصية من المعاصي التي تتعلّق بالاعتداء على سلطة الناس وعلى أنفسهم، فإذا جلد الحاكم الشرعي إنساناً على شرب الخمر فحاله حال الحاكم الذي يجلد إنساناً بغير حق، لأنّ الأمر يتساوى في فقد السلطة الشرعية التي تبرّر له ذلك. ونعتقد أنّ السبب في مثل هذه الاتّجاهات الفكرية في فهم النصوص أو القضايا الدينية، هو محاولة التأكيد على الفهم الحرفي للنص، بعيداً عن الأجواء العامة التي تحيط به، ممّا يدخل في نطاق القرائن المقامية التي قد تفسّر شيئاً من تفاصيل المضمون، ككلّ نص يرتبط بظروفه وأجوائه. وقد جاء في كتاب جواهر الكلام تعليقاً على هذا الرأي الذي يذهب إليه هذا البعض، الذي ينكر تفويض الأمر إلى الحاكم الشرعي في عصر الغيبة، بإقامة الحدود والحكم بين الناس في الأمور العامة. قال: "فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً، ولا تأمّل المراد من قولهم إنّي جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجّة وخليفة، ونحو ذلك ممّا يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم. نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها، كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان وجيوش وأمراء ونحو ذلك، ممّا يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك، وإلاّ لظهرت دولة الحق كما أومأ إليه الصادق (عليه السلام) بقوله: لو أنّ لي عدد هذه الشويهات وكانت أربعين لخرجت، وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إليه أدلّة"(1).
7 ـــ التغيير بالرفق تارة وبالعنف أخرى
إذن فلا بدّ من الحكم، ولا بدّ من الدولة في أيّ زمان وفي أيّ مكان، يمكن فيه للحكم أن ينطلق، وللدولة أن توجد، فما هو الأسلوب للوصول إلى ذلك، من أجل تغيير الحكم الفاسد إلى حكم صالح، وتبديل الدولة الكافرة بدولة إسلامية، هل هو الرفق، أو هو العنف، أو هما معاً، كلٌّ بحسب موقعه وظرفه؟
ربّما نستطيع أن نقرّر تفضيل الإسلام للرفق، بالدرجة الأولى، لما ورد في الحديث النبويّ الشريف: "إنّ الرفق ما وضع على شيء إلا زانَه، وما رُفِع عن شيء إلاّ شانه" و"إنّ الله يُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف" ولما جاء في سيرة النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من اللجوء إلى أسلوب اللين في كلّ شيء مهما أمكن، سواء في ذلك مجال الدعوة أو مجال الحكم، فقد كان يؤخّر الأخذ بأسلوب العنف ما كان للرفق سبيل، فإذا فقدت حالات اللين، كان العنف سبيله للوصول إلى حلّ المشكلة. أو بلوغ الهدف، لأنّ العنف لا يخلو من كثير من السلبيات الفردية، وذلك هو أسلوبه العملي في بدايات الدعوة ونهاياتها، فقد كان يتفادى الحرب مهما أمكن، فلا يخوضها إلاّ إذا فرضت عليه فرضاً من قِبَل العدو، أو من طبيعة الظروف العامة المحيطة به.
وقد أثار الفقهاء المسلمون في حديثهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النطاق الفردي، قضية اللجوء إلى العنف حتى القتل في حالة انحسار السيطرة على الانحراف، بذلك. فأقرّوا شرعيته من ناحية المبدأ، واختلفوا في الحاجة إلى إذن الإمام وعدم الحاجة إليه، وعلّل القائلون بارتباط الشرعية بإذن الإمام، بأداء التصرّف الفردي إلى الفوضى واختلال النظام. ونحن نميل إلى تأييد هذا القول، لأنّنا نعتقد أنّ التشريعات التنفيذية العامة، لا تعيش في نطاق الأعمال الفردية المستقلّة، وإنّما تخضع للخطّة الشاملة للدولة، مهما أمكن، إذ قد تُسيء إلى بعض الأوضاع في المجالات الأخرى، فكان لا بدّ من التنسيق، الذي يجعل الرجوع إلى إذن القيادة العليا أمراً ضرورياً، تفرضه طبيعة المصلحة الإسلامية العليا.
أمّا في النطاق العام، الذي ترتبط فيه عملية التغيير، ممّا لا يؤمن معه من الضرر والخطر، فقد يتحفّظ فيه بعض العلماء الذين يرون عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مشروطة بالأمن من الضرر، ولكنّ البعض الآخر يرتئي أنّ هذا الاشتراط خاضع في التشريع للحالات الفردية في داخل النظام، أمّا في الحالات العامة التي يراد منها تركيز الأُسس، وحفظ الشريعة، وفرض النظام، وتطبيق العدالة، فلا اشتراط، ولا تقييد، وإلاّ لكان التشريع لغواً، لأنّ الكثير من الحالات لا تنفصل عن احتمال الخطر، لا سيّما في الحالات التي تنطلق الدعوة فيها في عملية مواجهة ومجابهة.
وقد وردت بعض الأحاديث الشريفة التي تركّز على إطلاق هذه الأحكام، حتى في حالات الخطر. وذلك كما في الحديث المأثور عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) ـــ فيما روي عنه ـــ قال: "يكون في آخر الزمان يُتبع قوم فيهم مراؤون يتقرّأون ويتنسّكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلاّ إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم المعاذير، يتبعون زلاّت العلماء وفساد عملهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلّفهم في نفس ولا مال، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها. إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سبل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصُكّوا بها جباههم ولا تخافوا بالله لومة لائم، فإن اتّعظوا، وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم "إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحقّ أولئك لهم عذابٌ أليم" هناك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالاً ولا مريدين بظلم ظفراً، حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته"(1).
وفي الحديث عن الإمام علي (عليه السلام) فيما رواه الطبري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: إني سمعت علياً (عليه السلام) يوم لقينا أهل الشام يقول: أيها المؤمنون إنّه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يُدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أوجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونوّر في قلبه اليقين.
وفي خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) عند خروجه من مكّة: أيها الناس إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.
وفي خطبته عند لقائه بالحرّ بن يزيد الرياحي: أيُّها الناس إنّ رسول الله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لِحُرَم الله مخالفاً لسنّة رسول الله ناكثاً بعهده، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغر عليه بقول ولا بفعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخَلَه. ألاَ وإنّ هؤلاء القوم قد تركوا طاعة الرحمن ولزموا طاعة الشيطان واستأثروا بالفيء وعطّلوا الحدود، وأنا أحقّ مَنْ غَيَّر.
فإنّنا نلاحظ في هذه النصوص التركيز على ارتباط عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالخطّة الإسلامية الشاملة من أجل التغيير، لا سيّما فيما نراه في الحديث الأول، الذي يعتبر هذا التشريع قاعدة شاملة ترجع إليها كل الفعاليات العامة، التي يريدها الإسلام للمجتمع من خلال تحقيق أهدافه. بما في ذلك عملية الثورة ضدّ الواقع الفاسد والحكم الظالم، في إطار تطبيق حكم الله في كلّ شيء. كما نلاحظ، في الأحاديث الثلاثة عن عليّ والحسين (عليهما السلام)، التأكيد على الجانب التطبيقي لهذا المبدأ، في نطاق الحركة الثورية أو الإصلاحية التي قام بها كلّ منهما، فالإمام عليّ (عليه السلام) يعتبر حربه في صفّين ضدّ معاوية الذي يُمثِّل الحكم المنحرف عملية تطبيقية لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإمام الحسين، يرى في ثورته ضدّ الحكم الأموي المنحرف، تجسيداً للعملية التغييرية في اتّجاه الحكم الإسلامي العادل.
8 ــ الثورات الإسلامية سند تشريعي للثورة الآن
وعلى ضوء هذا نستطيع أن نفهم شريعة الثورات الإسلامية، من أجل تصحيح الانحراف في ظلّ النظام الذي يحمل الطابع الإسلامي، من خلال هذه الممارسات القتالية التي تؤدّي إلى قتل النفوس وإزهاق الأرواح، لأنّها لم تتحرّك من خلال مبرّرات خاصة ترتبط بتعليمات شخصية لا تشمل غيرهما، فلا نستطيع ـــ على هذا الأساس من اعتبارها سنداً شرعياً لتحرّكنا في الحالات المماثلة. بل انطلقت ممارساتها، من طبيعة المبادئ العامة التي تحكم كلّ نشاط أو حركة فلا يكون هذا العمل، عملاً صامتاً لا يحمل أيّ تعبير أو مدلول شامل، بل هو من الأعمال المعلّلة بمبرّراتها وحيثياتها الشرعية، الأمر الذي يجعل لهذه الحيثيات صفة الشمول والامتداد. وبذلك نستطيع اعتبار الشعارات، التي طُرحت في حروب الإمام عليّ وولده الإمام الحسين (عليهما السلام)، حول كل قضايا الحرب والسلم والعزّة والكرامة شعارات إسلامية مرتبطة بالمبادئ الإسلامية العامة، لا بالتكليف الشخصي للإمام بما هو إمام، كما يحلو لبعض الفقهاء أن يذهبوا إلى ذلك، ممّا لا نجد له أساساً ثابتاً من القواعد الشرعية العامة، بل هي مجرّد افتراضات يراد بها الخروج من المأزق الذي يقع فيه الفقهاء من تطبيق الأحكام الشرعية الفردية، في حفظ النفس وغير ذلك، على الأعمال العامة التي ترتبط بحياة الإسلام والمسلمين بشكلٍ عام.
9 ــ لا علاقة بين العصمة وبين التاريخ الثوري في الإسلام
وقد يحاول بعض الناس أن يربط مثل هذه الحركات بقضية العصمة التي تواجه الواقع بالمعرفة الشاملة، التي تحفظ للمعركة سلامتها، وللمقاتلين خطواتهم وحياتهم، وتتحرّك ــ مع ذلك ـــ نحو الأهداف الشرعية المستقيمة بوسائلها المشروعة، فلا تسمح للانحراف أن يفرض نفسه على المعركة، فلا يجوز لغير المعصوم أن يتحرّك في هذا الإطار إلاّ بإشرافه وإذنه، وهذا ما لم يتحقّق فيما لدينا من نصوص.
ولكنّنا نعارض هذا التفكير، لأنّ الحركات الصادرة من الإمامين عليّ والحسين (عليهما السلام) لم تكن خاضعة لتوجيه غير عادي، أو تخطيط غير واضح، بل كانت جارية على أساس الأوضاع المألوفة، في حسابات الحرب والسلم، سواء في ذلك الظروف التي تفرض الدخول في المعركة، أو الأشخاص الذين يحاربون فيها، أو الخطط العسكرية التي توضع للقتال، أو المبادئ الشرعية التي تتحرّك في نطاقها المعركة. ولذا كانت نتائج المعركة تختلف حسب اختلاف الظروف الموضوعية التي تفرض الربح تارة، والخسارة أخرى، ولم يقتصر الأمر على حروب الإمامين، بل كانت حروب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، خاضعة للأوضاع الطبيعية للحرب، في المشورة في التخطيط والتنفيذ، والنتائج المختلفة من نصر وهزيمة. وعلى هذا الأساس، لا نجد هناك مجالاً، للقول بأنّ القضايا كانت تتحرّك في إطار العصمة، بل كلّ ما يمكن أن نقوله وجود نوع من التأييد والتسديد الإلهي بالوحي للنبيّ في بعض المعارك التي كانت تحتاج إلى ذلك، كما حدث في معركة بدر، ولكنّ ذلك ليس في جميع المعارك، لما نلاحظه من نزول الوحي على النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد انتهاء بعض المعارك، ليوبّخ المسلمين على بعض التصرّفات والانحرافات، كما نجده في معركة أُحُد وحُنَيْن والأحزاب.
وخلاصة ما نريد أن نقوله في هذا المجال، إنّ بإمكان الفقيه أن يأخذ بإطلاقات أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تقرير شرعية التحرّك الثوري والإصلاحي، بطريقة العنف، مهما كلّف ذلك من خسائر، مع المحافظة على القواعد العامة للتخطيط والتنفيذ في إطار إمكانات الربح والسلامة. كما أنّ من الممكن أن نجد في الحركات الإسلامية الإصلاحية السند الشرعي التطبيقي للمبدأ العام، ممّا يجعلنا نطمئن إلى الفكرة التي تبرّر العنف كوسيلة من وسائل التغيير للحكم وأساليبه، والحاكم وأجهزته، مع مراعاة بعض التحفّظات التي نشعر بضرورتها في كل ما نثيره من حديث، وهو انطلاق التحرّك من خلال القيادة الواعية التي تملك شرعية الحركة من حيث الصفات التي يجب أن تتوفّر في الحاكم، ليملك شرعية الحكم، من خلال الأدلة الفقهية التي لسنا في مجال عرضها ومناقشتها في حديثنا هذا.
10 ـــ هل انتهى العنف بانتهاء ثورة الحسين
وقد يُخيّل لبعض الناس، أنّ قضية التغيير بالقوة، انتهت بانتهاء ثورة الحسين (عليه السلام)، فقد بدأ أهل البيت، مرحلة سلمية، لا تصطدم بالحاكم، بل تسالمه، ولا تكتفي بهذا الموقف، بل تحاول أن تمتدّ به إلى حياة أتباعهم وشيعتهم، فقد نجد بعض الأحاديث التي تأمر بالتقيّة، وتنهى عن المعارضة بالسيف، وتترك القضية في اتّجاه توقيت غير معيّن، يوحي بالأمل القريب، ولكنّه يغرق في ضباب المجهول ـــ في نهاية الأمر، ممّا يجعل المرحلة السلمية تمتدّ بامتداد الحياة. ولعلّ هذا التفكير السلبي، هو الذي يمنع الكثيرين من التحرّك الإسلامي المنظّم، الذي يتّجه إلى اعتبار الحكم هدفاً كبيراً للحركة، بل ويدفع البعض إلى مقاومة الحركات الإسلامية الحزبية، وإنْ كانت تعيش في إطار الحقّ، وتتّجه في طريق أهدافه، باعتبارها سبباً من أسباب الإضرار بالواقع الإسلامي الفردي والجماعي في الحياة الحاضرة، ويعتبرون التقيّة عنصراً رئيسياً من عناصر السلوك العملي في إطار الحكم المنحرف، ويحتجّون لذلك بسلوك الأئمّة، وبأحاديثهم المتنوّعة في هذا المجال، ممّا يبعد صفة الشرعية من أيّة حركة إسلامية، مهما كانت صفتها ومهما كانت أهدافها العملية.
ولكنّنا نتحفّظ في هذا الحكم السطحي المبني على الارتجال، لا على الدراسة والعمق، لنثير أمامنا عدّة أمور:
11 ـــ الأئمة يرفضون الحركات المنحرفة
1 ـــ إنّ رفض الأئمة للخروج على الحكم القائم، وعدم تأييدهم لبعض الحركات المسلحة التي قام بها بعض العلويين آنذاك، كان منطلقاً من طبيعة القيادة التي لا يرون صلاحيتها لولاية أمور المسلمين، وربح المعركة، لفقدانها للكفاءة الدينية، وبالتالي للحقّ الشرعي، ممّا يجعل القضية في حسابهم واحدة بين الحكم العباسي، وبين الحكم العلوي (المفترض) المتمثّل في بعض حركات بني الحسن من أبناء عمّهم. الأمر الذي يجعل القضية خاسرة على مستوى تطبيق النظام الإسلامي الحقّ، أو على مستوى الحفاظ على قوّة الفئات المعارضة للحكم، لإدخالها في معركة خاسرة لا تحقّق أي هدف حاضر أو مستقبلي. وقد تشير بعض الأحاديث إلى أنّ الأئمة كانوا يملكون معلومات، أو تنبّؤات، تدلّ على النتائج السلبية لتلك الحركات.
12 ـــ الأئمة يتعاطفون مع الحركات الإسلامية المستقيمة
2 ـــ إنّ الأئمة أيّدوا بعض الحركات الثائرة ضدّ الحكم المنحرف أو تعاطفوا معها، أو مع قياداتها للثقة بالدوافع التي دفعت إليها، وبإخلاص قياداتها للحقّ وللقيادة الإسلامية الصحيحة، فلم تكن ثورة من أجل الذّات بل من أجل تحطيم سلطة الظلم لإقامة سلطة العدل، وتهديم قوّة الباطل لبناء قوّة الحق. كما نجد ذلك في الموقف الإيجابي المتعاطف الذي وقفه الإمام جعفر الصادق من حركة زيد بن عليّ بن الحسين. فقد جاء في الكافي، عن عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وانظروا لأنفسكم، فوالله إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يُجرّب بها، ثمّ كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إنْ أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون، ولا تقولوا خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد، ولو ظهر لوفّى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه؛ فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء، يدعوكم إلى الرضا من آل محمد، فنحن نشهدكم أنّا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا إلاّ من اجتمعت بنو فاطمة معه، فوالله ما صاحبكم إلاّ من اجتمعوا عليه.. الحديث(1).
فقد رأينا أن القضية لا تدور حول طبيعة الحركة ومشروعيّتها، بل تنطلق في إطار أهداف الحركة وقيادتها، ممّا يوحي ـــ كبعض النصوص الأخرى ـــ بأنّها موجهة ضدّ بعض الثائرين في ذلك العهد ممّن لا كفاءة لهم ـــ للقيادة على ما ألمحنا إليه.. لتبقى رفضاً عملياً لذلك كلّه.. من أجل بقاء الشيعة على الموقف المتماسك الذي لا يجعل من انتساب الثائر إلى الإمام عليّ (عليه السلام) أساساً للتحرّك معه، بعيداً عن القيادة والهدف. وبهذا نفهم أنّ رفض التحرّك، والأمر بالسكون قبل قيام القائم، كان من قبيل الحصر الإضافي الذي يوجّه إلى الدعوات المبطلة، التي تنطلق من قيادات غير صالحة. فلا مانع ـــ على هذا الأساس ـــ من الحركة إذا كانت سائرة على الخطّ الذي يلتقي مع خطّ أهل البيت في ظلّ قياداتهم التي يرتضونها. وربّما كان ذلك تحذيراً لأصحابهم من الحركة، باعتبار أنّ المرحلة لم تكن مرحلة تحرّك يؤدّي إلى نتيجة عملية ملموسة. بل ربّما كانت له نتائج خطرة، كتصفية العناصر القيادية منهم، ممّا يوجب فقدان الامتداد الفكري الإسلامي السائر على الخطّ المستقيم، وبالتالي: فقدان الأصالة الإسلامية في حياة الإسلام على المدى الطويل. وقد يكون ذلك هو التغيير الصحيح لاعتبار قيام القائم هو المرحلة العملية لنجاح التحرّك، فإنّ الظاهر أنّ ذلك ثابت في إطار حكم الأئمة، لا في إطار حكم الفئات التي تلتزم بخطّهم في خطى القيادات التي تنبثق منهم.
13 ـــ المرحلة تحكم نصوص الهدوء
3 ـــ يتّضح ممّا قدّمناه، أنّ طبيعة المرحلة هي التي كانت تحكم النصوص التي تأمر بالسكون والثبات وعدم الحركة، وليست طبيعة الرسالة. إذ لا يحتمل أن يرفض أئمّة أهل البيت، التحرّك الثوري ضدّ الظلم، في الوقت الذي كانت تعليماتهم وتوجيهاتهم ودروسهم لأصحابهم، تنطلق في اتّجاه محاربة الظلم والظالمين، بالطريق السلبية السليمة بترك التعاون معهم، أو بالطرق الإيجابية المضادّة، أو في اتّجاه إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، ولو بالسيف، كما رأينا ذلك فيما قدّمناه من أحاديث.
14 ـــ التقيّة استثناء لا قاعدة
4 ـــ إنّ قضية التقيّة ليست من المبادئ الأساسية الشرعية التي تعتبر حكماً شرعياً طبيعياً مستمراً، بل تعتبر حكماً استثنائياً، يدخل في نطاق الضرورات العملية، التي تُقدّر بقدر الضرورات، فلا تتجاوزه إلى غيره، ممّا لا يشكّل خطراً على سلامة العمل، أو سلامة الأجهزة القيادية التي تُشرف على العمل، على أنّ المبدأ لا يدخل في جانب الإلزام، بل يتمثّل في جانب الرخصة والعذر في أغلب الحالات.
15 ـــ العمل التنظيمي ضمان لا خطر
5 ـــ إنّ قضية العمل التنظيمي الحزبي، للقوى الإسلامية، لا يشكّل أيّ خطر على الفكرة، ليحارَب باسم الدفاع عن الإسلام. بل ربّما نجد فيه عنصر ضمان للاستمرار في الواقع المعاصر، الذي تكثر فيه أحزاب الكفر والإلحاد، فقد يبدو لنا أنّ أهمال هذا الجانب يفسح المجال لتعاظم دور القوى اللاإسلامية، وتضاؤل دور العناصر الإسلامية في الحياة، لأنّ لكلّ زمن أسلوبه في العمل الذي يتناسب مع ظروفه الاجتماعية والسياسية. وقد جاء في القرآن الكريم التركيز على حز//ب الله، وحزب الشيطان، كمظهر من مظاهر ارتباط قوى الإيمان، وقوى الكفر ببعضها البعض؛ لأنّ الترابط هو الذي يجعل من التجمّعات البشرية أحياناً. أما أسلوب الارتباط فتختلف خصائصه حسب اختلاف الظروف كما ألمحنا إليه.
وربّما تكون ممارسة القوة ـــ من خلال التنظيم الحزبي ـــ أكثر تأثيراً وأقرب وصولاً إلى الهدف من أي عمل عنيف أو غير عنيف، لا يخضع للرابطة العضوية التي تربط بين أفراد المجتمع حول تعاليم محدّدة، ومواقف موحّدة، وهدف مشترك واضح؛ لأنّ ذلك هو الذي يعطي القوة، باعتبار أنّه يحقّق للاتحاد مضمونه الحيّ المتحرّك في أكثر من موقع وفي أكثر من اتجاه، بدلاً من الاتحاد العاطفي الغائم، الذي يُترك فيه كل واحد مع مزاجه وطريقته في التفكير والعمل، الذي قد يتعارض مع مزاج الآخرين، وطريقتهم في العمل والتفكير. كما نشاهده في واقع المسلمين الذين قد لا يعوز الكثيرين منهم، الإخلاص، ولكن يعوزهم التنظيم والتركيز ووحدة الطريق والهدف، ممّا أدّى إلى تبديد الطاقات وإضعاف القوى، وارتباك المواقف.
16 ـــ العمل التنظيمي في التاريخ الشيعي
وقد لا نبتعد كثيراً عن الحقّ، إذا قرّرنا أنّ الشيعة، عرفت نوعاً من أنواع التنظيم الذي ترتبط فيه القاعدة بالقيادة في نطاق علاقات محدّدة، تحدّد لكلّ واحد منها دوره ومسؤوليته التي لا يجوز للآخر تجاوزها والتعدّي عليها، كما نقرأه في طريقة تنظيم الوكلاء، وعلاقة الجماعات المتفرّقة هنا وهناك بهم، حيث جُعل لكلّ وكيل منطقة خاصة لا يجوز للآخر أن يتدخّل فيها، الأمر الذي يضع قضية التنظيم في سلسلة تاريخية متّصلة الحلقات.
أمّا نشاط هذه التنظيمات وتحرّكها؛ في مواجهة الواقع المنحرف الفاسد، أو الكافر، فيخضع للقواعد الشرعية العامة التي قد تلتقي مع إباحة العنف، وقد تلتقي مع تحريمه، سواء كان ذلك العنف قتالاً أو غير قتال، وسواء أدّى إلى احتمالات الخطر، أو لم يؤدّ إلى شيء من ذلك. على أساس التحليل الذي تعرّضنا له فيما تقدّم من حديث. فإنّ مراقبة ذلك كلّه، أمر تفرضه ضرورة السلامة الشرعية للحركة. فنحن لا نتحدّث هنا ـــ في التفاصيل، لأنّ لها مجالاً آخر يجعلها شرطاً في كلّ نشاط، بل إنّنا نتحدّث في المبدأ والأساس، تماماً، كما نتكلّم عن الجهاد، والدعوة وغيرهما من أساليب العمل للدولة، وللدعوة.
17 ـــ الدّس والوضع في الحديث
6 ـــ إنّنا نحاول أن نلفت النظر إلى حقيقة تاريخية أساسية، وهي قضية الدّس والوضع في الأحاديث المنقولة عن النبيّ والأئمة، والصحابة، الذي يفرضه ويمليه، الواقع السياسي من جهة، والاتجاه المذهبي من جهة أخرى، تبعاً لانتماءات الرواة السياسية والمذهبية، أو لمصالحهم مع هذا الفريق أو ذاك الفريق. ممّا يبعث على الحذر الكبير والدقّة المتناهية، فيما يأخذه الإنسان من الأخبار وفيما يدعه منها. حتّى في أحاديث الثقات من الرواة، لأنّ الوضّاعين قد اتّبعوا أسلوباً خبيثاً في إعطاء الثقة لأخبارهم المكذوبة، وذلك بأنْ يدسّوا أخبارهم في كتب هؤلاء الثقات بتقليد خطوطهم، وإفساح المجال لها في المواضع غير المكتوبة في تلك الكتب، التي يحصلون عليها بطريق الاستعارة، فلا يتنبّه إليها الآخرون. وتمرّ الكذبة ـــ على أساس ذلك ـــ باسم الثقات من حيث لا يشعرون. ولذلك فإنّ علينا أن لا نستسلم كثيراً إلى أحاديث الضعف والخلود إلى الهدوء والسكينة، والمحافظة على النفس والمال، والاستسلام إلى الواقع الفاسد، ممّا يجعل قضايا القوّة والجهاد والتضحية والعزّة والكرامة، ونصرة الله والوقوف مع الحقّ مهما كلّف الأمر، محصورة في نطاق تاريخي معيّن، ومحدودة بأشخاص محدودين. فتفقد الآيات القرآنية ومفاهيمها حيوية الحركة التغييرية، ويتحوّل المسلمون، كما تحوّلوا الآن ـــ إلى ما يشبه غثاء السيل الذي لا غناء فيه ولا نفع لأنفسهم وللآخرين. إنّنا نريد أن نثير أمامنا احتمالاً بأنّ الحاكمين في تلك العهود، حاولوا أن يوظّفوا بعض هؤلاء الرواة الوضّاعين الذين يتاجرون بالحديث، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً بتحريف الكلم عن مواضعه. ليدسّوا ما يتناسب مع مصالحهم وأوضاعهم السياسية والمذهبية. من الأحاديث التي تخدّر الناس، وتصرفهم عن التفكير بالثورة، أو بالنقد وتجعل لمراكزهم، قداسة الإيمان، مهما أجرموا ومهما عملوا. ولعلّنا لا نبتعد عن بعض هؤلاء الذين فسّروا الآية الكريمة: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء : 59] فسّروا {وَأُوْلِي الأَمْرِ} بكل حاكم مهما كانت صفته، عادلاً أو ظالماً.. إنّنا نريد إثارة هذا الاحتمال، ليكون أساساً للبحث والنقد والتأمّل والنظر، لا ليكون طريقة لتجميد الحديث الديني عن الحركة في صنع مفاهيمنا الإسلامية عن الكون والحياة.
ذلك كلّه هو بعض الحديث عن أسلوب التغيير بالقوة في داخل الحكم الإسلامي، إذا انحرفت قياداته عن العدل أو انحرفت شرائعه عن الإسلام. وقد كانت حصيلة البحث إقراراً بالمبدأ، مع التحفّظات العامة التي تجعل التحرّك كلّه خاضعاً للمصلحة الإسلامية العليا. فإذا كانت الحركة سبباً في خلق بعض الأجواء الخطرة على الإسلام والمسلمين، أصبحت محرّمة شرعاً، وذلك في حالة وجود عدوّ خارجي أو داخلي يستغلّ الخلافات الداخلية، أو الحركة التغييرية، للنفاذ إلى الداخل، لتفجيره لمصلحته، أو للسيطرة عليه، لذلك، كما نلاحظه في سلوك الاستعمار إزاء البلدان الضعيفة، عندما يستغلّ خلافاتها الدينية والمذهبية والسياسية ليدخل البلاد، باسم بعض الطوائف والأحزاب ليستعمرها باسم الخير والحضارة والإصلاح. فيجب على العاملين أن يكونوا على حذر من ذلك، فلا يطلقوا للحركة عنانها إلاّ إذا درسوا الواقع بدقة وشمول. وأمنوا ـــ ما أمكنهم ذلك ـــ ردّات الفعل المضادّة التي تجعل البلاد تحت سيطرة الكفر، في الوقت الذي يريدون فيه أن يخرجوها من الضلال. وهذا هو ما جسّده الإمام عليّ (عليه السلام)، في موقفه من الخلفاء الذين تقدّموه، في الوقت الذي كانوا لا يُمثّلون فيه الموقع الشرعي للحكم، من وجهة نظره الحقّ، حيث وقف موقف المساندة والمساعدة، وترك الثورة والعنف، خشية من تعرّض السلامة الإسلامية العامة للخطر، من قِبَل الأعداء المحيطين به، وذلك هو ما عبّر عنه بهذه الكلمات:
"فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان (أبي بكر) يبايعونه، فأمسكت يدي حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فخشيت إنْ أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فَوْت ولايتكم هذه التي إنّما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما زال كما يزول السراب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأنَّ الدين وتَنَهْنَهْ"(1)
18 ـــ القوة في خارج إطار الحكم الإسلامي
أمّا حديث التغيير بالقوة في خارج إطار الحكم الإسلامي، كما إذا كانت القضية تعيش في إطار نظام الكفر وبلاده. فهذا ما يرتبط بحديث الجهاد تارة، من خلال اختلاف الحكم فيه، باختلاف حالة الكفر، من حيث هو كفر منتسب للكتاب، أو كفر مرتبط بالكفر والشرك. وقد يرتبط بطبيعة العمل الداخلي الذي تنطلق الحركة فيه لإيجاد قوة إسلامية تمهّد للسيطرة على البلاد بشكلٍ تدريجي، يبدأ في النمو والتصاعد، ليتسلّم الحكم بالأساليب المتنوّعة. فالكفر الكتابي، الذي يخضع لشروط الذمّة، وللمعاهدات المعقودة بينه وبين الإسلام، والكفر غير الكتابي الذي يرتبط بالمعاهدات، لا بدّ من احترام المواثيق المعقودة مع أهله، فلا يجوز استعمال القوّة لتغيير واقع العقيدة والحياة إلاّ إذا خرجوا عن الاتّفاقات، ونقضوا الميثاق.
وأمّا غير ذلك ممّا لا يخضع للعهد أو للميثاق، بل يقف موقف الحرب والعدوان، فإنّ للإسلام أن يبسط عليه سيادته، ويُنفّذ فيه قوانينه وشرائعه، على أساس عقيدته ومفاهيمه، بالقوّة الفاتحة، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى.
19 ـــ الماركسية وفكرة التغيير بالقوّة
ونقف ـــ من خلال ما قدّمناه ـــ على وجوه الفرق بين منطق القوّة التغييري في التشريع الإسلامي، وبين منطقها في التفكير الماركسي. وذلك إذا أخذنا لمحة عن فكرة الماركسية في التغيير. فقد انطلقت من خلال إيمانها بالمادية التاريخية، التي تخضع التاريخ كلّه بكلّ ما فيه من تغيُّرات وتطوّرات لقانون "الحتمية التاريخية"، المتمثّلة في صراع المتناقضات في الأشياء، الذي يحرّك عجلة التاريخ نحو التطوّر في علاقات الإنتاج التي تحكم كلّ الأشياء، وبذلك تكون "الثورة" التي تصنع التغيير ضرورة حتمية تفرضها طبيعة الأشياء، في ظلّ الشروط الموضوعية التي تحتاجها عملية الصراع.
يقول صاحب كتاب "دراسات في الاجتماع"(1) وهو يشرح لنا طبيعة الثورة "في المادية والتاريخية": "والثورة، في المادية التاريخية، عنصر ضروري من عناصر نزاع الطبقات، عندما يؤول هذا النزاع، بحكم الضرورة إلى صراع سياسي هدفه الاستيلاء على جهاز الحكومة، لتجريد الطبقة المهيمنة على شؤون المجتمع من وسائل هذا الجهاز الذي تسخّره لخدمة أغراضها".
ولا يقصد بالثورة التبدّل الشكلي للحكومة كما في "الانقلاب" و"الفتنة" وإنّما يقصد بها التبدّل الحاسم الشامل في جميع وجوه النظام الاجتماعي.
والثورة بهذا المعنى عنصر من عناصر التطوّر، تقوم في الطبيعة كما تقوم في الاجتماع، ويتمّ بها تحوّل النمو "الكلي" الذي ينجم عن تراكم التبدّلات الجزئية إلى تبدّل "نوعي"، كما يصير "الجنين" عندما تبلغ التبدّلات فيه حدّ النضج إلى مولود بثورة المخاض، أو يصير إلى فرخ بعد أن يتم دوره في داخل البيضة فيثور ويحطّم القشرة. وكما يتحوّل الماء إلى حالة الانجماد، عندما تبلغ التبدّلات الجزئية في الحرارة حدّها الأعلى في الارتفاع، فينقلب فجأةً إلى حالة الغاز. وفي جميع هذه الحالات يؤدّي تراكم التبدّلات "الكمية" إلى تبدّل "نوعي" في الكيان المادي. وفي الاجتماع، عندما تتراكم الفوارق بين الطبقات فتبلغ حدّها الأقصى، بأنْ تؤول السلطة إلى أقلية صغيرة تنحصر بها منافع الوضع القائم، ويصير الشعب في كتلة كبرى لا تجد في الوضع القائم ما يعود عليها بغير الخسران، تحدث الثورة، لتحقّق تبدّلاً يضمن مصلحة الأغلبية. ويسبق هذه الثورة انحطاط في جهاز الحكم، ووعي متزايد تجتمع فيه كلمة الأغلبية على المعارضة، وتنقطع به كلّ صلة إيجابية بين الحكومة والشعب، فتتّسع الشقة بينهما، بحيث لا يعود الحكم يعبر عن أيّة مصلحة من مصالح الأغلبية، فتقوم الثورة لتزيل وضعاً فقد اتّزانه، وتنشئ وضعاً جديداً تعبّر فيه الحكومة عن إرادة العدو ومصالحه. وبهذه الثورة تخسر الأقلية الحاكمة وضعاً عجزت عن المحافظة عليه وضاق العدد الأكبر به ذرعاً، ولم يعد يطيق تحمّل مفاسده وأثقاله.
ويعتبر التمايز الطبقي من الشروط الأساسية في قيام النزاع الطبقي الذي يؤدّي إلى الثورة الاجتماعية، لأنّه يقوّم الوعي الطبقي الذي يحمل الطبقة الناشئة على الإحساس بمساوئ الوضع القائم، والوقوف منه موقف المناوئ من جهة، ويحملها من الجهة الأخرى على تنظيم صفوفها وتعبئة قواها وتعيين مُثُلها، والاندفاع إلى خلق وضع جديد يحقّق رسالتها، ولهذا كان من ضرورات كلّ ثورة: وجود مُثُل وشعارات طبقية تثير الحماس وتلهب النفوس، وتنظيم ثوري فعّال ينظّم الحركة ويقرّر الخطط ويضمن الغلبة على نظام قائم تتوافر له حتى في أقصى ما يبلغه من حالات الضعف، بقية عنيدة من القوّة التقليدية التي لا يمكن التغلّب عليها بيسر وسهولة، وكان من ضرورات هذا التنظيم الثوري أن يتغلغل في جميع نواحي الحياة الاجتماعية وزواياها، وأن يتسرّب إلى جهاز الطبقة المسيطرة ليفسد عليها موطن قوّتها، وأن يجتذب إلى دعوته كلّ ما يستطيع أن يجتذب من الأوساط الاجتماعية، كما فعلت الحركة الثورية في فرنسا حين اتّخذت من صالونات القرن الثامن عشر الأدبية الأرستقراطية منابر للدعوة إلى مثلها.
وتدلّ الشواهد التاريخية على أن ممّا يعجّل في وقوع الثورة، الكوارث الاجتماعية مثل المجاعات والحروب والهزائم فيها. باعتبار أنّ ذلك يساعد في نشر الدعوة، وتقوية روح الاستياء والتمرّد، وفي جرّ العناصر المتردّدة والمحايدة إلى جانب الثورة، وتدلّ الشواهد كذلك على أنّ الثورات الاجتماعية يسبقها دور من الاضطراب الداخلي، تقع فيه حوادث الاغتيال السياسي والإخلال بالأمن والتخريب والإضرابات والمظاهرات، ومثل ذلك من الحوادث التي تكون بمجموعها دليلاً على توتّر الوضع الاجتماعي، واحتمال اندلاع نيران الثورة لأتفه الأسباب، وفي مثل هذه الحالة تجد الثورة إذا اندلعت نيرانها تأييداً اجتماعياً، يوحّد كلمة الأمة ويجمع صفوفها تحت راية الثورة، فتنهار قوّة المقاومة بيسر قد يتجاوز كل ما كان متوقّعاً، ويتسابق أنصار الوضع السابق إلى الانضمام إلى صفوف الثورة. وتعتقد الماركسية، أنّ البروليتاريا تستطيع الاحتفاظ بالسلطة، وإنْ لم يكن لديها مقدار جاهز من الملاكات الكافية والمثقّفة الإدارية القادرة على تنظيم البلاد. فيمكن ـــ كما يقولو لينين ـــ أن نستولي على السلطة أولاً، ونخلق الظروف الملائمة لتطوّر البروليتاريا، ثمّ نسير بخطى الجبابرة إلى أمام، لنرفع المستوى الثقافي لجماهير الشغيلة، ونكوّن ملاكات عديدة من القادة ورجال الإدارة المنبثقين من أوساط العمّال.
أمّا دور البرلمان، فيعلّق عليه "لينين" بقوله: يدلّ تاريخ الحركة الثورية على أنّ النضال البرلماني ليس سوى مدرسة ووسيلة مساعدة لتنظيم نضال البروليتاريا خارج البرلمان، وأنّ القضايا الأساسية لحركة العمل، إنّما تحلّ في ظلّ الرأسمالية بالقوّة، وبنضال الجماهير البروليتارية المباشر وبإضرابها العام وبثورتها(1).
ويقول لينين في نصٍّ آخر: إنّ الثورة البورجوازية غير ممكنة بدون تحطيم جهاز الدولة البرجوازي بالعنف (الأُسس اللينينية) ص66.
ويقول أنجلز، عن البيان الشيوعي: ولا يتدنّى الشيوعيون إلى إخفاء آرائهم ومقاصدهم ومشاريعهم، ويعلنون صراحة أنّ أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها إلاّ بهدم كل النظام الاجتماعي التقليدي بالعنف والقوّة. (البيان الشيوعي) ص8.
إذاً فالثورة واقع حتمي على أساس الصراع الطبقي الحاصل بين تناقضات مصالح الطبقات، من خلال الديلكتيك الذي يحكم واقع الحياة والتاريخ؛ ولذا فإنّ دور الطبقة العاملة، أنْ تحقّق شروط الصراع والتحوّل، أو تعجل فيه، بإثارة كلّ ما تستطيع إثارته، وتدمير كلّ ما تستطيع تدميره، وخلق الفوضى في كل جانب من جوانب الحياة، إذ لا شيء غير جائز، في سبيل الوصول إلى الهدف الأساسي الذي يحقّق عملية التحوّل والتطوير.
20 ـــ الفرق بين الإسلام والماركسية
أمّا التفكير الإسلامي فيعتبر الأساليب السلمية أساساً للتحرّك الشرعي في الحالات التي يمكن لها أن تحقّق الهدف أو بعض مراحله، لأنّ "الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف" فإذا توقّفت عملية التغيير على العنف، كان له أن يمارسه، ولكن لا على الأساس الذي ترتكز عليه الماركسية. فإنّ الإسلام لا يعتبر القضية خاضعة للصراع الطبقي كعنصر وحيد من العناصر التي تحرّك الحياة والتاريخ، وتدفع عجلة التطوّر، لأنّنا لا نؤمن بنظرية العامل الواحد، سواء كان ذلك العامل الاقتصاد كما يقول ماركس، أو الجنس كما يقول فرويد، أو الاجتماع كما يقول دركايم. بل إنّنا نؤمن بأنّ الحياة تحتضن أكثر من جانب، وتخضع لأكثر من عامل في حركتها التطورية، وفي انطلاقها في عملية التغيير. ولذا فإنّ قضية التغيير بالقوة، لا تتحرّك ضمن الواقع الطبقي، بل تتحرّك في إطار عوامل الواقع كلّها، في وعي يحقّق للثورة ذاتها في حركة تخفّف من السلبيات، وتثير كثيراً من الإيجابيات.
أ ـــ ممّا يجعل للحركة الثورية أو الإصلاحية حرية العمل، فلا تتقيّد بظرف خاص ولا بجمهور معيّن، إلاّ بالظروف الموضوعية التي ترتبط بها مصلحة الحركة وواقعيّتها، أو الجمهور الذي يحميها ويحقّق لها الانسجام بين الفكرة والواقع.
21 ـــ التغيير لا يبتعد عن أخلاقيات الإسلام
والحركة التغييرية في الإسلام، لا تبتعد عن أخلاقياتها وقيمها الكبيرة، بل وتظلّ مشدودة إلى الخطّ الإسلامي العريض في كلّ خطواتها، في استقامة واقعية، لا تشلّ الحركة، أو توقفها، لأنّ أخلاقية الممارسة تتحدّد بحدود مبدأ الأهمية الذي يحكم قانون التزاحم في الأشياء، فإذا أرادت الحركة أن تقتحم بعض الحدود المحظورة أخلاقياً، فإنّ من الممكن أن يرتفع المنع والحظر، عن تلك الحدود والأشياء، إذا تعرّضت الحركة للخطر، أو توقّفت سلامة الهدف الكبير على القيام به.
22 ـــ الإسلام يرفض الغدر
ولذا كان الإسلام يرفض الغدر ونقض الميثاق، فيما إذا أعطى العهد على أيّ شيء، إلاّ أن يبدأ الآخرون الخيانة ونقض العهد، أو يبدو منهم ذلك، فإنّه يتصرّف في شأن العمل بحرية؛ لأنّ ذلك يحلّله من التزاماته وعهوده.
ب ـــ وفي هذا الإطار تظلّ الثورة الإسلامية، ثورة إنسانية، في شمولها لكلّ طبقات المجتمع وفئاته، وفي المبادئ التي تحكم حركتها فيما تجسّده من معانٍ إنسانية تتعامل مع الواقع من جهة، ومع قيمة الإنسان من جهة أخرى.
وخلاصة الفكرة: إنّ العنف واللاعنف في وسائل التغيير يسيران جنباً إلى جنب مع الأهداف الكبيرة للإسلام في الحياة. فلا بدّ من الوعي الدقيق للمرحلة من حيث علاقتها بالهدف، ومن حيث موقع الوسيلة من الهدف والمرحلة معاً. مع ملاحقة طريقة التطبيق والتحرّك من حيث خضوعهما للتخطيط الأخلاقي الإسلامي، في إطاره الواقعي، وبذلك نحقّق للحركة سلامتها في إطار النظرية والتطبيق، لننطلق في سلبيات قليلة وإيجابيات كبيرة في كلّ المجالات.
وبكلمة واحدة: إنّ الإسلام لم ينطلق في تشريعه لأساليب التغيير من فلسفة تربط الواقع بالعنف، ولهذا لم يعتبره أساسياً في مفهومه العملي للتغيير، بل انطلق من فلسفة واقعية تعتبر الإنسان القوّة الأساسية في ذلك، وفي هذا الإطار تتحرّك الأساليب من خلال الواقع المتحرّك للإنسان، في داخل ذاته وخارجها، لأنّ الإنسان ليس صيغة جامدة تعيش في قالب جامد، بل هو كيان متحرّك تختلف نوازعه وحركاته وتأثّراته في مرونة وحركية.
فقد يكون الرفق هو النهج السليم في الحركة، عندما تكون الساحة خالية من التحدّيات العنيفة التي تفرض مواجهتها بعنف، وقد يكون العنف هو الأسلوب الأمثل، عندما تكون القضية قضية صراع يتحرّك في الواقع ليواجه المسألة بقسوة. وهذا هو منطق الواقع العملي في كل التجارب العملية، بما فيها التجربة الماركسية، التي كانت تختلف مجالاتها في العنف واللين حسب اختلاف قوّة الضغط المعاكس وضعفه. ولعلّ ذلك هو الذي دعا بعض الأحزاب الشيوعية الكبيرة في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، إلى الأخذ بالنظرية الجديدة، التي ترفض انحصار طريقة التغيير بالثورة، وترى إمكانية الوصول إلى ذلك بالأساليب البرلمانية الديمقراطية على الطريقة الغربية، انطلاقاً من دراسة الواقع المعاصر، الذي لا يسمح بالطريقة الثورية على أساس التفكير الماركسي، لا سيّما في العالم الأوروبي، الذي لا ينسجم تفكيره في طريقة ممارسة العمل التنفيذي لأيّة فكرة مع الفكرة التي لا ينطلق فيها الإنسان ـــ في نطاق الفرد والمجتمع ـــ من موقع قناعاته وإرادته الذاتية. وقد نجد في تنامي هذا الاتجاه وتصاعده، الدليل الكبير على واقعية الوعي الإسلامي للحياة في أساليب العمل ومنطلقاته وأهدافه.
الفصل التاسع
علاقة القوّة ... بالإيمان
1 ـــ الإيمان... والقوّة
2 ـــ معركة بدر... وقضية الإيمان
الإيمان... والقوّة
هناك من يقول في معرض الحديث عن التأخّر والتقدّم، والنصر والهزيمة، في حركة الإسلام في الحياة: إنّنا لم ننتصر، لأنّنا فقدنا الإيمان بالله وبرسالتنا، وإنّ الآخرين المتقدّمين انتصروا في معاركهم مع الكفر لأنّهم انطلقوا ـــ في حياتهم على خطّ الإيمان.
ويسمع الكثيرون هذا القول، ويقلبون شفاههم استخفافاً بهذه السذاجة، واستنكاراً لهذه الدعوى. ونحن مع الذين يرفضون هذا القول من ناحية عامة، ولكنّنا نؤيّده من جهة أخرى، على أساس الملاحظات التالية:
1 ـــ كيف نُفسّر انتصار الكفرة، إذا كان الإيمان بالله هو كلّ شيء في المعركة والحياة؟
2 ـــ كيف نُفسّر خسارة المسلمين لبعض معاركهم في زمان النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي ظلّ قيادته الحكيمة، التي هي في القمّة من مستوى الإيمان بالله، بعد أن انتصروا في البداية، مع أنّ الإيمان لم يكن يعوز القاعدة، ولا القيادة؟
3 ـــ إنّ قضية النصر والهزيمة في الحياة تخضع لأسباب موضوعية تتعلّق بطبيعة المعركة، من حيث الأسلحة التي تُستخدم فيها، والأشخاص الذين يحاربون فيها، أو يتولّون قيادتها، والظروف السياسية التي تُحيط بها، والخطط الحربية التي توضع لها، والأوضاع الإقليمية والطبيعية التي تتحكّم في مسيرتها، وتخضع لها حركتها العامّة. انطلاقاً من سنّة الله في الكون، الجارية على أساس ارتباط الأمور بأسبابها، فيجعل لكلّ ظاهرة سبباً ولكلّ معلول علّة، ولكل نتيجة مقدّماتها، ولهذا، فلا بدّ من توفّر ذلك كلّه، في حصول النصر أو الهزيمة. أو التقدّم والتأخّر. وهذا ما لاحظناه في الآيات القرآنية الكثيرة الداعية إلى الاستعداد، واستكمال أسباب النجاح، في أحاديثها عن تاريخ الأمم وأسباب هلاكها وانحطاطها، وعن الظواهر العامة في الحياة، من الآلام التي يقاسيها المجتمع الذي يعيش في ظلّ الواقع الفاسد الذي يُفرز ذلك كلّه، كما في قوله تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41].
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء : 16].
أمّا كيف نضع القضية في إطارها الصحيح، فهذا ما نلاحظه في عدّة نقاط:
1 ـــ إنّ الإيمان بالله يُعطي الإنسان قوّة معنوية مضاعفة، يشعر معها بارتباطه بالقوّة الأعظم التي تملؤه بالإحساس بحمايتها له من كل قوّة أخرى، ولذا فإنّه لا يعيش روح الخضوع للقوى البشرية، مهما كانت درجة قوّتها وسلطانها.
2 ـــ إنّ الإيمان بالله يوحّد الهدف أمام الإنسان، فيحسُّ ـــ معه ـــ بقيمة الهدف من ناحية دينية، لا من ناحية وجدانية ذاتية فحسب، فلا يجعل من قضايا الحرب قضايا للسلب والنهب والارتزاق، ولا يتّخذ من حركة القوّة حركةً للبغي وللعدوان.
3 ـــ إنّ الإيمان بالله يفرض على المقاتلين الإخلاص لقضية القتال، بإعداد كلّ الوسائل اللازمة لها؛ فإنّ من أحكام هذا الإيمان إعداد القوّة، كما ورد في الآية الكريمة:
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال : 60].
وأسلوب المواجهة الشاملة، كما في قوله تعالى:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة : 36].
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة : 123].
ومن أحكام هذا الإيمان، الصمود في المعركة حتى الاستشهاد، مهما بلغت درجة الخطورة في حركة المعركة نحو النصر أو الهزيمة. ولعلّ أوضح شاهد على ذلك، الآية الكريمة التي تعتبر الفرار من الزحف خطيئة كبيرة مهلكة، يُعاقب الإنسان فيها بالنار، ويستحقّ عليها غضب الله سبحانه، وذلك هو قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ*وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15 ــ 16].
4 ـــ إنّ الإيمان بالله يجعل المؤمن يحسّ بالربح في كلتا الحالتين، حالة الشهادة وحالة النصر، فبالشهادة يسلك طريق الجنّة، وبالنصر يحصل على رضوان الله في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، مع قيادة الحياة في معركة الحياة، وهذا هو الذي تشير إليه الآية الكريمة التالية، التي تتحدّث عن حوار المؤمنين مع الكافرين:
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة : 52].
وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر فاعل، يضمن للإنسان النصر، ويُهيّئ للمجتمع عناصر جديدة للقوّة في الحياة.
وعلى ضوء ما عرضناه نعرف أنّه لا يكفي القول، في معاركنا الحاضرة التي نواجه ـــ فيها ـــ قضايا المصير: إنّ علينا أن نؤمن لننتصر ـــ بالمفهوم الساذج لهذه الكلمة ـــ بل يلزمنا القول: إنّ علينا أن نؤمن بالله إيماناً يدعونا إلى الإعداد لمعركة النصر من خلال مفهوم الإيمان، ونرتبط على أساس ذلك بالله الذي هو القوّة المطلقة التي لا تقف عند حدّ، لنحصل على نتائج النصر من خلال حماية الله لنا في حالات المواجهة للأوضاع المفاجئة وغيرها. ثم إنّ فقدان الإيمان، يجعل المعركة تفتقد جذورها، لأنّ هؤلاء الذين ينطلقون من خلال صفة معينة، أو انتماء محدّد، يفقدون القضية الدافعة إلى الحرب، عندما تفرغ قلوبهم من الإيمان بالله ورسالاته، فينطلقون إلى المعركة بدون قضية جديدة تملأ النفس والفكر والحياة لينطلقوا ـــ من خلالها ـــ كما ينطلق الآخرون من قضاياهم المحدّدة نحو معركتهم معنا.
إنّ خلاصة الفكرة هي: إنّ علاقة الإيمان بالقوّة، تتمثّل في دور الإيمان في إعطاء المعركة قوّة جديدة أساسية، تضاف إلى بقية القوى التي تفرض النصر، ممّا يجعل عناصر القوّة متكاملة في روح المعركة ونموّها، بينما يحول ابتعاد المعركة عن الإيمان، إلى معركة لا روح فيها ولا حياة.
2 ـــ معركة بدر... والإيمان
قد يقول قائل: إنّ النصر الذي حصل عليه المسلمون في معركة بدر، يدلّ على أنّ القوّة ليست كلّ شيء، لأنّ المسلمين كانوا في مركز الضعف من حيث العدد والمال والسلاح، بينما كان المشركون في مركز القوة الكبيرة من ذلك كلّه.
ونجيب عن ذلك: إنّنا حين نقرّر دور القوة المادية والمعنوية في حساب النصر في المعركة، لا نحاول إغفال دور القوة النفسية؛ أو إهمال الألطاف الإلهية التي تُحيط بالمقاتلين، وتمنحهم روحاً جديدة عالية، فتقوّي موقفهم، وتحشد فيهم الشعور بالقوة الروحية الكبيرة التي تضاعف قوّتهم وترفع معنوياتهم، ممّا يحدّد للمعركة مسارها وطريقها في اتّجاه النصر، لأنّ جندياً واحداً عالي المعنويات، يستطيع أن يتحدّى فئة كبيرة مهزومة نفسياً، لأنّ القوة المعنوية تعطي صاحبها قوّة مضاعفة بقدرها.
ولقد حدّثنا الله عن معركة بدر، وأفاض الحديث عن الأجواء الروحية التي عاش فيها المسلمون في حركة المعركة، وعن القوى المعنوية التي كان القرآن الكريم يحشدها في نفوسهم، حتى يزيل من أنفسهم كلّ إحساس بالخوف والضعف الذي كان يطغى عليهم، من خلال شعورهم بتعاظم القوة الطاغية التي يتمتّع بها المشركون من مال وعدد وسلاح.
قال تعالى:
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ*وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ*إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ*إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 9 ــ 12].
وقال تعالى:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ*بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ*وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ*لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} [آل عمران: 123 ــ 127].
فإنّنا نُلاحظ ـــ في هذه الآيات ـــ أنّ المسلمين عاشوا ـــ طيلة أجواء المعركة ـــ في حالة نفسية مرتفعة،، بواسطة الإحساس بأنّهم يحاربون بقوّة الله ورعايته المباشرة غير العادية، التي تمدّهم بالقوى الهائلة غير المنظورة، ممّا خلق في موقفهم طاقةً مضاعفة جعلتهم يربحون النصر في النهاية، ويستميتون في سبيل الحصول عليه من موقع الثقة به والاطمئنان له.
وقال تعالى في آيةٍ أخرى ـــ وهو يحدّثنا عن بعض الحالات النفسية المرتفعة التي كانت تعيش في داخل المؤمنين قبل المعركة وفي أثنائها، في تقديرهم لقوّة المشركين العددية ـــ بفعل الرؤيا التي رآها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).. ثم بعض الحالات النفسية للمشركين، في تقديرهم لقوّة المؤمنين العددية، ممّا جعلهم يواجهونهم باستهانة واستخفاف يمنعهم من الاستعداد لهم بقوة:
{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ*إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ*وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} [الأنفال: 42 ــ 44].
ثمّ تنطلق الآيات الكريمة لتخطّط للنبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الخطّة الروحية التي يحاول أن يُثير بها الروح المعنوية العالية لدى أصحابه، بالتأكيد على دور الصبر والثبات في المعركة، بالمستوى الذي يحقّق قوّة مضاعفة بمستوى العشرة للواحد، فيما إذا استطاع الفرد المسلم أن يرفع مستوى الصبر في موقفه. أمّا إذا لم يستطع ذلك، ووقف في موقع لا يبتعد عن بعض حالات الضعف، فإنّه يظلّ في مستوى مضاعف، بنسبة الاثنين في الواحد. الأمر الذي يجعل المسلم المحارب في المعركة يشعر بتعاظم قوّته على كلّ حال، وإن اختلفت النسبة، تبعاً لاختلاف درجة الصبر عنده.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 65 ــ 66].
ولا نغفل ـــ بعد ذلك ـــ العوامل الأخرى التي ساهمت في ربح المعركة، من التخطيط الدقيق لخطواتها، ومن الفارق الكبير بين الموقفين، فقد كانت روحية المسلمين عالية، فقد كانوا يشعرون بأنّهم يدافعون عن رسالة وعن موقف، وبذلك كانوا يعتبرون أنفسهم جنود الله المشدودين إلى إرادته، المرتبطين به ارتباط المحبّة والعبودية والإيمان، وكانوا ـــ في الوقت نفسه ـــ يرون أنّهم يثأرون لأنفسهم من ظلم الكفّار والمشركين في إبعادهم، أو إبعاد إخوانهم من ديارهم، واضطهادهم في أنفسهم وأموالهم، ممّا يجعل من المعركة قضية ترتبط بالذات من جهة، لتكون لها صفتها الشخصية. وترتبط بالرسالة من جهة لتكون لها صفتها العامة، فلم يترك الموقف أيّ ثغرة في داخل النفس ممّا اعتاد المجاهدون أن يعيشوه، عندما يعيشون الصراع المدمّر بين نوازع الذات، ومسؤوليات العقيدة، كلُّ ذلك في أجواء روحية مقدّسة. أمّا المشركون فقد اختلفت روحيّتهم عن ذلك اختلافاً كبيراً، فإنّهم كانوا موزّعين بين عدّة نوازع لا تملأ نفس صاحبها بأيّ معنى كبير، الأمر الذي يجعل جانب التضحية في الموقف، والاستماتة في المعركة، أمراً لا يخضع لأيّة قاعدة صلبة تحمي خطوات الإنسان حتى النهاية.
وخلاصة القول: إنّ معركة بدر ـــ بالرغم من توفّر عنصر الغيب في بعض ما يحيط بها من أجواء وأوضاع ـــ لم تبتعد عن الأسباب الموضوعية التي هيّأت أسباب النصر، سواء في ذلك الأسباب الداخلية التي عملت على تقوية شخصية المقاتل المسلم وتركيزها، أو الأسباب الخارجية الأخرى المتعلّقة بأوضاع المشركين وغيرها، التي ساهمت في دفع المعركة بعيداً في اتّجاه النصر.
ولعلّ الأساس في ذلك كلّه: هو أنّ الله ـــ سبحانه ـــ لم يركّز الحياة في مظاهرها، وظواهرها العامة والخاصة، على جوانب غيبيّة خارجة عن الأسباب الطبيعية التي أودعها في الكون، بل جعلها خاضعة للجوانب الواقعية التي تنبع من طبيعة الأشياء، سواء في ذلك الأشخاص أو الأزمنة، أو الأمكنة أو غير ذلك من الأمور التي تتحرّك ـــ في نطاقها ـــ الحياة، في ظلّ نظام دقيق ينطلق من الحكمة، ويتحرّك من خلالها، ليجعل الحياة كلّها تنتهي إلى الحكمة البالغة، في البداية والنهاية كما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر : 49].
الفصل العاشر
أخلاق القوّة وأخلاق الضعف
1 ـــ أخلاق القوّة وأخلاق الضعف
2 ـــ أخلاق السادة وأخلاق العبيد في مفهوم نيتشه
3 ـــ مناقشة المفهوم الأخلاقي لدى نيتشه
1 ـــ أخلاق القوة وأخلاق الضعف
هناك، في الشريعة الإسلامية، وفي غيرها من الشرائع السماوية، دعوة دائمة إلى بعض الأخلاق السلمية في حياة الإنسان، كالدعوة إلى الصبر والعفو والتسامح والمغفرة والتواضع.
وقد نجد ـــ في بعض الآيات القرآنية ـــ اعتبار هذه الأخلاق أقرب إلى الله، من أخلاق العنف التي تتمثّل في ردّ المعتدي بمثل عدوانه، وأخذ الحقّ ممّن عليه الحقّ، فنقرأ في الآيات التالية:
{... وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126].
{... وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى : 40].
{... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237].
وهكذا يتّجه الإسلام في التوجيه القرآني في الأخلاق إلى التركيز على المسالمة والموادعة، بدلاً من المحاربة والمواجهة بالعنف.
أمّا في المسيحية، فتُعتبر الدعوة إلى المحبّة والتسامح مع المعتدي، أساساً للأخلاق التي ترتكز عليه الشخصية الإنسانية الفاضلة، فقد جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل متّى: طوبى للودعاء لأنّهم يرثون الأرض ــ 5، طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء الله يدعون ــ 9(1).
وجاء فيه ـــ على لسان السيّد المسيح ـــ : قد سمعتم أنّه قيل للقدماء: لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم: إنّ لكلّ من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم(2) "21ــ22".
"وقد سمعتم أنّه قيل: عين بعين وسنّ بسنّ، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرّ، بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً. ومن سخّرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين. من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" "28ــ43"(1).
"سمعتم أنّه قيل: تحبّ قريبك وتبغض عدوّك. وأما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم" "43ــ44"(2).
فهل هذه أخلاق قوّة، أو أخلاق ضعف؟
وهل ينسجم هذا كلّه مع الدعوى القرآنية إلى الأخذ بأسباب القوّة، واستعمال العنف حتى القتال مع المعتدين على العقيدة وعلى الحياة والإنسان؟.
أمّا الجواب على ذلك، فيفرض علينا أن نميّز بين أخلاق القوّة وبين أخلاق الضعف، انطلاقاً من المفهوم الصحيح للقوّة والضعف، ممّا يجعلنا بحاجة إلى تحديد المقياس الدقيق لهذين المفهومين.
ربّما يظن البعض: أنّ القوة تساوي العنف، في مواجهة حالات الصراع التي يتعرّض لها الإنسان في حياته، وبذلك يكون القتال، وردّ الصاع صاعين، والكيل كيلين، هو التعبير الحيّ عن الواقع الحيّ للقوّة في الحياة. أمّا الضعف، فيساوي اللاعنف وما يلتقي به من مفاهيم المسالمة والموادعة والصفح والعفو والمغفرة وما إلى ذلك ولكن، هل القضية كما يظنّ هؤلاء؟
إنّنا لا ننكر الفكرة القائلة بأنّ العنف المتمثّل في جرأة الإنسان على مقابلة العدوان بمثله هو أحد مظاهر القوّة في الحياة في نطاقها المادّي.
ولكنّه ليس القوّة كلّها، أو بالأحرى ليس هو المظهر العملي للقوّة دائماً فقد يلتقي ببعض الحالات التي تجعل منه مظهر ضعف، إذا نظرنا إلى القضية من جانب آخر، يتجاوز الصورة الظاهرية للأشياء.
ولعلّنا نعرف ذلك جيداً، إذا عرفنا المبدأ الذي يقول بنسبيّة القوة في واقعها التطبيقي في الحياة، لأنّ هناك مجالات للقوّة في حياة الإنسان يختلف باختلافها المظهر العملي للقوة.
فهناك مجال الصراع الحربي الذي يفرض على طرفي الصراع، أن يخوضا عملية القتال من أجل ربح المعركة. ففي هذه الحالة، تتجسّد القوة، بالثبات على الموقف، والقدرة على استعمال أدوات المعركة من سلاح وعضلات وغيرهما، بالمستوى الذي يقضي على مقاومة الطرف الآخر، ويتجسّد الضعف بالهروب والانهزام وعدم القدرة على مواجهة المعركة بسلاحها الطبيعي، لأيّ سبب كان، وقد تختلط مظاهر القوة ومظاهر الضعف، في بعض الحركات التي يختلف اعتبارها من هذا الجانب أو ذاك، تبعاً لاختلاف الخطّة العسكرية الموضوعة للمعركة، ممّا يجعل الانسحاب في موقف مظهر قوّة، أو غير مناف للقوة، بينما يكون القتال في موقف آخر مظهر ضعف، أو غير مناف للضعف.
ولعلّ هذا النوع من القوّة، هو النوع السائد في حياة الأمم والشعوب، بالنظر إلى كثرة الحالات التي تدور فيها الحرب والقتال بينها، ممّا يجعل الأفراد مشدودين إلى حركة الحرب والقتال، وما تحقّق من بطولات فردية وجماعية، وما تخلّف وراءها من هزائم وانتصارات تترك آثارها الكبيرة في حياة الأمم والشعوب، فتطبع في حياتها ــ من خلال هذا الواقع ــ الصور الحيّة التي توحي بالأسلوب العملي للقوّة العسكرية، كأسلوب وحيد في حركة القوّة في الحياة، تبعاً لأهمية هذا الجانب في تاريخها الطويل.
وهناك مجال الصراع الفكري، الذي يُراد منه تغليب فكرة على أخرى من أجل إقناع الآخرين بها، أو إخضاعهم لها، ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الصراع يفرض على طرفيه، أن ينطلقا في مجال قوة الحجّة والبرهان والأسلوب الذي يعرض الفكرة، والكلمات التي تعبّر عنها، ممّا يجعل المعركة معركة حجةٍ وأسلوبٍ وكلمة، تتجسّد فيها القوّة بمقدار ما يملك كلّ من الطرفين من معرفة نقاط الضعف والقوّة في فكرته وفكرة الآخرين، ثمّ في قدرته على الاستفادة من ذلك في مجال الصراع، وربّما تعتبر الأساليب العنيفة التي تتمثّل بالتهديد والضرب والصراخ وغير ذلك، من علامات الضعف البارزة لدى من يستعملها، نظراً إلى أنّها تكشف عن عجزه عن إثبات حقّه بالأساليب الطبيعية لإثبات الحقّ، فيلجأ إلى إخفاء ذلك بهذه الطريقة التي لا قيمة لها، ولا علاقة لها في معركة الفكر هذه من قريب أو من بعيد.
وهناك مجال الصراع السياسي والاجتماعي، الذي يتجسّد في صراع المواقف العملية التي يملكها الأفراد والجماعات، فيحاول أطراف الصراع أن يعملوا على إزاحة خصومهم عن مواقفهم، من أجل تحويلهم عنها والاكتفاء بذلك، أو نقلهم إلى مواقف جديدة كالتي يقفونها في الحياة.
وفي هذه الحالة، نجد أنّ القوة لا تتمثّل في استعمال العنف دائماً. بل قد يكون أسلوب اللاعنف هو المظهر الطبيعي للقوة، باعتبار أنّ المقياس العملي للقوّة، هو في القدرة على مواجهة العدو في نقطة ضعفه، من أجل تحطيم قوّته في الجانب الآخر، الأمر الذي يُدمّر قوّته بأقل قدر ممكن من الخسائر، وقد تكون أساليب المظاهرات والإضرابات السلمية، من بعض أساليب اللاعنف التي تقف في المواجهة من أساليب القوّة الشعبيّة، ضدّ الحكم المنحرف أو القوى الاستعمارية الطاغية.
ولعلّ من بين المواقف التي تفرض هذا الأسلوب، هو الموقف الذي يفقد فيه الإنسان التوازن في ميزان القوّة العسكرية أمام خصمه، بحيث تكون المعركة التي يخوضها معه في هذا المجال، معركة انتحارية، يستطيع العدو أن يربحها بسهولة في جولة سريعة.
وحينئذٍ يشعر الإنسان بأنّ الاندفاع في هذا الاتجاه، وفقدان الصبر على مواجهة التحدّيات المضادّة من قِبَل العدو، لا يعتبر مظهر قوّة، بل مظهر ضعف، لأنّ منطق القوّة، هناك، يفرض عليك الثبات على موقفك، وتفويت الفرصة على العدو من أن يحطّمك في نقطة ضعفك. ممّا يتطلّب منك أن تمارس أكبر قدر من السيطرة على أعصابك ومشاعرك وانفعالاتك، لتضغط عليها في عملية تفكير وتركيز، لتبدأ الحملة التي تعبّئ فيها الأُمة ضدّه، بالأسلوب الذي يواجه نقطة ضعفه، لتحطّمه فيها، أو لتحوّله عن موقفه إلى الموقف الذي تريده، وليس من الضرورة في مثل هذه الحالة أن يكون أسلوب المواجهة ليناً وسلاماً وموادعةً في جميع مراحل الصراع، بل ربّما يفرض عليك الموقف ممارسة أسلوب العنف في نهاية المرحلة، ليكون بمثابة رصاصة الرحمة التي تطلقها، بعد أن تكون قد أنهكته وفرّغته من عناصر قوّته. ولكن ذلك كلّه يتوقّف على أن تملك القوّة على ضبط أعصابك والصبر على التحدّيات، وعدم الاستسلام لزهو البطولة الانفعالي الذي يجعلك تفكّر في الموقف من خلال سياسة اللحظة السريعة، لا من خلال سياسة النفس الطويل. وقد تختلط المقاييس كثيراً، في هذا المجال، فيخيّل لكثير من الناس أنّ القوّة تتمثّل بمواقف الفروسية الانفعالية، التي تنطلق من خلال مشاعر الزهو الذاتي، الذي يفجّر في أعماق الإنسان الإحساس بالبطولة، التي توحي له بالمغامرة والتضحية بنفسه، ولو على حساب موقفه وقضيّته، وقد يقف الإنسان خاشعاً أمام هذه الجرأة النادرة التي يواجه فيها الإنسان خصمه حتى الموت، وقد يحترم النوازع الذاتية أو الروحية التي أوحت له بهذه التضحية. ولكنّه لا يملك أن يعتبر هذا الموقف، موقف قوّة، بل موقف ضعف، لأنّ الحقيقة الصارخة التي تحكم الموقف، هي أنّ هذا الإنسان كان ضعيفاً أمام عوامل الانفعال في نفسه، لأنّه لم يستطع الصمود أمام التحدّيات العاطفية التي أُريد لها أن تهزم موقفه، فانهارت بذلك مقاومته، وسقط صريع عقلية الفروسية الفردية، التي تخضع للحمية العاطفية، بدلاً من أن يصمد إزاء طبيعة الفروسية الجماعية التي تنطلق من الخطّة المدروسة العاقلة. إنّنا لا نتمكّن من اعتبار هذا الموقف وأمثاله، موقف قوّة من خلال طبيعة المعركة التي يعيش فيها الصراع، إلاّ في حالة واحدة، وهي الحالة التي تكون فيها التضحية، أو العملية الفدائيّة جزءاً من خطّة كاملة للثبات على الموقف، تتوزّع فيها أدوار العنف واللاعنف بين الأفراد، تبعاً للمرحلة التي تفرضها الخطّة أو تتحرّك في نطاقها، وعلى ضوء ذلك، نستطيع أن نقرب أنّ كثيراً من الناس ربّما تكون قوّتهم في ضعف، وذلك، إذا استطاعوا أن ينطلقوا من خلال هذا الضعف، لممارسة القوّة من جانب آخر. وقد يكون من الصحيح أن نقول عن آخرين من الناس، إنّ ضعفهم في قوّتهم، عندما يفسحون المجال للعدو، أن يستفيد من تعاظم الشعور بالقوّة لديهم، فيثور إزاء أي انفعال ليجرّهم إلى مواقف محسوبة لدى العدو، لمصلحته، ولكنّهم لم يحسبوا لها أيّ حساب، أو يدفعهم إلى معارك، لم يستعدّوا لها في جميع مراحلها القريبة والبعيدة.
ومن خلال هذا العرض، نعرف كيف نميّز بين أخلاق القوة وبين أخلاق الضعف، على أساس التمييز بين ماهيّة القوّة وماهيّة الضعف، فيما انتهينا إليه من نتائج البحث، من إبعاد العنف عن أن يكون مظهر قوة، أو اللاعنف على أن يكون مظهر ضعف، ليكون الأساس في ذلك كلّه التركيز على طبيعة ما له القوّة، وما له الضعف في الأشياء، فالصبر من مظاهر القوّة، عندما ينطلق في الحالات التي تفرض على الإنسان مواجهة الموقف، من غير الجانب الذي يملك العدو فيه قوّة الحركة، لأنّه يعطي الإنسان قوّة التحمّل للآلام التي تفرضها المعركة، من مشاعر عنيفة تتحدّى الكرامة، وإعداد طويل للمستقبل، واستسلام للجوع والحرمان، والخسائر المتلاحقة التي يحاول العدو من خلالها زحزحة الإنسان عن موقفه، دون حرب، وملاحقة واعية لمراحل تنفيذ الخطّة، دون الوقوع في هاوية السرعة والارتجال.
إنّ الصبر يمثّل ـــ من خلال هذا المفهوم الذي عرضناه ـــ المعنى الذي يضبط الإنسان فيه انفعالاته، ويملك ـــ معه ـــ أعصابه ليستطيع أن يتحرّك بهدوء، ويفكّر بهدوء، ويحتمل الآلام التي تقتضيها طبيعة المعركة، بكلّ هدوء، وبدون توتّر، ليصبر، وهو يحارب، ويصبر، وهو يسالم، وهو في كلا الحالتين عنصر قوّة في الداخل، كما هو عنصر قوّة في الخارج، ولذا يحاول القرآن الكريم في حديثه عن الصبر أن يعتبره من عزم الأمور كما في قوله تعالى:
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان : 17].
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى : 43].
ونراه في آية أخرى يجعل الصبر أساساً لعدم الضعف والذلّ والانهيار، كما في قوله تعالى:
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران : 146].
ونجد في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، اعتباره أساساً للحرية الإنسانية الداخلية التي هي جوهر الحرية: "إنّ الحرّ حرٌّ في جميع أحواله، إنْ نابته نائبة صبرَ لها، وإنْ تداكت عليه المصائب لم تكسره ولم تقهره، وإن استُعبد وأُسر وقُهر".
أمّا العفو والتسامح والمغفرة، وغيرها من القِيَم الأخلاقية في الإسلام، التي تلتقي بترك استعمال الإنسان حقّه في القصاص والمعاملة بالمثل، فإنّها ترتبط بالجانب الروحي الذي يعطي القوة معنى أخلاقياً يبتعد بها عن القسوة والتعسّف، وعن الانفعال الذي قد يدمّرها ويدمّر الحياة من حولها، وبذلك يكون أحد مظاهر القوّة الروحية التي تحدّثنا عنها في فصل سابق. وممّا يوضح ذلك، أنّ هذه القِيَم لا تنطلق في حالات الضعف البشري الذي لا يملك الإنسان معه إلاّ أن يستسلم للإساءة والعدوان، لأنّه لا يستطيع أن يأخذ بحقّه من ظالمه أو يواجه الإساءة بمثلها، بل الإطار الطبيعي لهذه الأخلاق هو الموقف، الذي يشعر معه الإنسان بالقوّة القادرة على ردّ الاعتداء بمثله، ومواجهة الموقف بموقف أشدّ، ولكنّه ـــ في الوقت الذي تنفجر فيه نفسه حنقاً للأخذ بالثأر ـــ يضبط مشاعره، ويملك أعصابه، فيتسامى ويترفّع عن المعاملة بالمثل إلى موقف التفضّل على المسيء الذي هو، الآن، في مركز الضعف، ممّا يجعل الإنسان يشعر أنّه قد أخذ حقّه بالوضع الذي يعيش فيه المعتدي، ويشعر ـــ معه ـــ بحاجته إلى الصفح والغفران. وبذلك يحسّ الإنسان بالانسجام مع أخلاقية الإنسان الواقعية وفروسيته، التي تعطي له حقّ مواجهة العدوان بمثله، وتترك له أمر التنازل عنه كرماً لا ضعفاً، لإفساح المجال للمذنب أن يتراجع عن خطئه دون سلبيات. ولهذا انطلق الإسلام ليضع العفو في الموضع الذي يملك فيه الإنسان الحقّ في القصاص والعقاب، فيعفو عفو صاحب الحق، من موقع القوّة، ولا يتنازل تنازل الضعيف الذي لا يملك لنفسه الضرر والنفع، وقد ورد في الحديث الشريف عن النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ما يؤكّد على النتائج التي يؤدّي إليها العفو في إطار القوّة، بالنسبة إلى صاحب العفو: "العفو لا يزيد العبد إلاّ عزّاً فاعفوا يعزّكم الله".
أمّا النصوص الواردة عن السيّد المسيح (عليه السلام)، فإنّها لا تبتعد عن الجانب الإسلامي في التأكيد على العفو من حيث هو قيمة روحية، تعبّر عن الموقف الواثق بالنفس التي تتسامى في مجال العطاء الروحي، كما تتسامى في مجال العطاء المادّي.
وبذلك كان التأكيد على العفو محاولة للتخفيف من ضغط النزعة المادية، والاتجاه القانوني الجامد في العلاقات الإنسانية العامة والخاصة، ممّا يجعل الحياة تعيش في إطار ضيّق ضاغط يخنق الأنفاس، ويُحوّل المجتمع إلى جحيم لا يطاق. وعلى هذا، كانت النصوص التي قدّمناها إشارة إلى المدى الذي يمكن أن تبلغه روح المحبة التي تدفع إلى العفو والتسامح، وليست إدانة للعنف في الحالات التي تدعو المصلحة فيه للعنف واستعمال القوّة، ولعلّنا نستطيع الاستشهاد لذلك بالكلمات التي جاءت في الإصحاح العاشر من إنجيل متى: "لا تظنّوا أنّي جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، فإنّي جئت لأفرّق الإنسان ضدّ أبيه والابنة ضدّ أمها والكنّة ضدّ حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحبّ أباً أو أماً أكثر منّي فلا يستحقّني، من وجد حياته يضيّعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها" "24ــ39".. وقال في إنجيل لوقا في الإصحاح الثاني عشر: "جئت لألقي ناراً على الأرض. فماذا أريد لو اضطرمت. ولي صبغة أصطبغها وكيف نحصر حتى تُكمّل. أتظنّون أنّي جئت سلاماً. كلا بل انقساماً" "49ــ51".
فقد نستطيع أن نعرف من هذه النصوص إقرار السيد المسيح (عليه السام) للعنف فيما إذا كان الوقوف مع خطّ الحقّ والعقيدة، مستلزماً لذلك، عند استنفاد الأساليب السلميّة في جميع قضايا الحياة الرسالية.
وبذلك يلتقي الإسلام مع المسيحية في الوقوف على خطّ التوازن بين أسلوب العنف وبين أسلوب اللاعنف، ليمثّل الأوّل قوّة العدالة في حياة الإنسان، وليجسّد الثاني قوّة المحبة في رحلة السموّ الإنساني إلى الله، فلا يبقى هناك أي ضعف في الاتجاه الأخلاقي الديني في كلتا الرسالتين الإسلامية والمسيحية.
ونقف ـــ بعد ذلك ـــ أمام التواضع والتكبّر. فهل التواضع مظهر ضعف، ليكون التكبّر مظهر قوّة، ليتنافى ذلك مع خطّ القوة الذي يدعو الإسلام إلى السير عليه، عندما يدعو إلى التواضع ويحارب التكبُّر؟ ولكن الجواب على ذلك يؤكّد العكس. فالتواضع يمثّل موقف القوّة، بينما يمثّل التكبُّر موقف الضعف، لأنّ التواضع يجسّد النظرة الواقعية إلى النفس، التي يلتقي فيها الإنسان بنفسه ليعرف كلّ حسناتها وسيّئاتها، ثم ينظر إلى الناس من خلال فهمه لنفسه، ولهم، فلا يجد لنفسه ميزة كبيرة، بل ربّما يوازن ـــ في عملية دقيقة ـــ بين ما يملكه من نقاط الضعف والقوّة، وبين ما يملكونه منها. فقد يرجّح غيره على نفسه، ليظلّ خاضعاً للشعور الداخلي بحاجته إلى التكامل والتسامي فيما يريد أن يحصل عليه من كمال وسموّ. وبذلك يبقى سلوكه طبيعياً، لانطلاقه من النظرة الواقعية لنفسه وللحياة، من دون أن تترك في داخله أيّ تأثير سلبي يخلق في داخله شعوراً بالضعف، لأنّ الشعور بالضعف يحدث من الإحساس بالدونية العاجزة عن التطوّر والتصاعد، وبالانسحاق أمام الآخرين. بينما نجد المتواضع يملك الثقة بالنفس، ولكن بشكل طبيعي لا يطغى بها ليصل إلى مستوى الغرور، الذي يوقف الإنسان عن التقدّم تبعاً للشعور بالاكتفاء، ويمنعه عن الشعور بما عند الآخرين من كفاءات ومميّزات.
أمّا التكبّر والتجبّر والغرور وما إلى ذلك من المعاني التي تلتقي بفكرة الركون إلى رؤية النفس فوق الغير، فإنّها تنطلق من عدم معرفته بنفسه وبالآخرين في البداية. ومن الإحساس بالخوف من الآخرين فيما يملكونه من قوى إزاء ما يملكه من قوّة، ممّا يخلق لديه شعوراً بالقلق الدائم المدمّر، الذي يوحي له بالذلّة الداخلية، فيدفعه ذلك إلى أن يتخيّل لنفسه بطولات وهمية، وصفات خياليّة، ترفعه فوق مستوى الآخرين، الذين يخاف من نشاطاتهم وخطواتهم في الحياة، أن تكشفه أو تطغى عليه، فيحاول أن يغطّي ذلك كلّه ببعض المظاهر والمواقف التي توحي بالعظمة الفارغة، بشكلٍ استعراضي ساذج.
وبهذا ورد الحديث الشريف عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّ التواضع لا يزيد العبد إلاّ رفعة فتواضعوا يرحمكم الله.." وورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي يتحدّث عن التكبُّر، فيقول: "ما من رجل تكبّر أو تجبَّر إلاّ لذلّة وجدها في نفسه".
وقد نجد في بعض الأدعية المأثورة، الإشارة إلى أنّ الظلم الذي يمارسه الطغاة ضدّ المظلومين من الفقراء والمساكين والضعفاء لا يعبّر عن موقف قوّة، بل يعبّر عن موقف ضعف. لأنّ القويّ يشعر بحماية القوّة له في جميع علاقاته مع الناس، سواء في ذلك تصرّفاته في الحياة كحاكم، أو تصرّفاته كمحكوم. فهو لا يشعر بالحاجة إلى أن يظلم الناس، لأنّ الظلم يمثّل الحالة التي يخاف فيها من الآخرين، فلا يجد طريقة يدافع فيها عن خوفه إلاّ باضطهادهم والاعتداء عليهم، ليسكتوا عنه، فتضعف قوّتهم بذلك، فيطمئن لضعفه. ولو كان يملك طريقاً آخر يقف فيه وجهاً لوجه أمام الناس فيما يريدونه وفيما لا يريدونه، لما لجأ إلى ذلك. وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين، في دعاء يوم عرفة:
"وقد علمت أنّه ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، وإنّما يعجل من يخاف الفوت، وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف".
2 ـــ أخلاق السادة وأخلاق العبيد في مفهوم نيتشه
ربما كان من الضروري لاستكمال حديثنا السابق حول أخلاق القوّة وأخلاق الضعف، أن نتعرّض لتقييم طريف لهذه الأخلاق، من قِبَل أحد فلاسفة أوروبا للقرن التاسع عشر، وهو الفيلسوف نيتشه، الذي انطلق من خلال نقده للأُسس الأخلاقية لتقرير الأخلاق، بالفكرة التي تجعل من العنف مقياساً لأخلاق القوّة، بينما تعتبر اللاعنف مقياساً لأخلاق الضعف، وبذلك تعتبر العنف مظهراً للأخلاقية السامية، انطلاقاً من مبدأ إرادة القوّة التي تمثّل المثل الأعلى للقيمة في الحياة، وقد أعطى لأخلاق العنف، صفة أخلاق السادة، كما أعطى أخلاق اللاعنف صفة أخلاق العبيد، فلننظر كيف يعالج هذا التفكير في عرض واضح مسهب للفكرة، ننقله بتفاصيله من كتاب "الفلسفة الأخلاقية" للدكتور رفيق الطويل:
"فأمّا أخلاق العبيد فتتمثّل في أخلاق الدهماء، وهم الكثرة الغالبة، هي أخلاق الصبر والحلم والتواضع وغيرها ممّا دعت إليه المسيحية من وجوه الضعف والانحطاط! ويلحّ القساوسة في توكيده ليحتفظوا بنفوذهم على الجماهير، وقد استسلم العلماء المحدثون لهذه القِيَم، وقنعوا بأنْ يضعوا العمل مكان الله، ثم يكبرون بعد هذا من شأن المساواة والحرية والديمقراطية وغيرها من أوهام!
أمّا أخلاق السادة، فهي التي تمكن للإنسان القوي وتوطّد نفوذه، وهي تتمثّل في الاعتزاز بالقوّة واحتقار الضعف، واحترام القسوة والاستخفاف بالرحمة والدعة والاستحذاء، وحبّ الصراحة وكراهية الكذب والنفاق والخداع، والنفور من أنصاف الحلول، والميل إلى الظفر في ميادين الكفاح، وقهر المنافسين والسير على جثثهم في غير رفق ولا رحمة!
ولكنّ العبيد يتمرّدون على قِيَم السادة ومعاييرهم، ويضعون غيرها ممّا يلائم وضعهم كعبيد، ومن هنا جاء التناقض بين أحكام ساداتهم، فإذا كانت الفضيلة عند السادة تقتضي القوّة والقدرة على الصراع، والمغامرة والسيطرة ونحوها من فضائل إيجابية قوية، اقتضت الفضيلة عند العبيد الدّعة والمسالمة والتواضع والتعاطف، ونحوه من فضائل سلبية هزيلة، وبهذا تتغيّر القِيَم بدافع من حقد العبيد على سادتهم ورغبتهم اليائسة في الانتقام، وعن هذا تنشأ المثُل العليا الهزيلة التي تجعل من الضعف فضيلة، ومن العجز عن الانتقام عزوفاً عن ارتكاب الشرّ، ومن الخضوع الذليل طاعة، ومن عدم القدرة على ردّ العدوان بالمثل صبراً، ومن القصور عن تحقيق المطامع تواضعاً.. وهلمّ جرّا.
ومضى نيتشه فقال: إنّ قيم العبيد تتنافى مع قوانين الطبيعة، فإذا كان من الطبيعي أن ينقرِضَ الضعيف ويبقى الأصلح، أوجبت قيم العبيد مساعدة الضعيف والمعتوه، أقامت المستشفيات من أجلهم، وإذا كان من الطبيعي أن يردّ الإنسان العدوان بمثله، اقتضت قِيَم العبيد أن يصبر المظلوم على المكروه، لأنّ احتمال الظلم خير من ارتكابه، بل طالبته بأن يحبّ من أنزل به الظلم، وإذا كان من الطبيعي أن تفترق مراتب الناس، دعت قيم العبد إلى التساوي بينهم.. إلى آخر هذه القِيَم التي تنحدر إلى اليهود الذين عانوا من الظلم الفادح أجيالاً، فتسلّحوا بهذه القِيَم الهزيلة في مقاومة ساداتهم من الرومان. وقد تمكّن الأنبياء بمهارتهم من جعل العبيد الأذلاء مصدر القِيَم الأخلاقية، ومرجع الكمالات الإنسانية. ومن هنا أصبح الفقر سمة الفضيلة، والتمتّع بمباهج الحياة نذير الشرّ.
هكذا هدم نيتشه التصوّر المألوف لمشكلة القِيَم الأخلاقية، ثم تصوّر مثله الأعلى قائماً في إرادة القوة، وقد تكفّل هذا المبدأ بقلب القِيَم المعروفة، وتوكيد الأنانية والبطش بالآخرين، وتمجيد القسوة والمغامرة والشجاعة ونحوها من فضائل إيجابية، وبهذا تجلّى المثل الأعلى قائماً في توكيد الذات والسيطرة على الآخرين، لابتغاء السعادة الفردية، بل ابتغاء التوصّل إلى الإنسان الأعلى "السوبرمان"؛ وإذا كان التطوّر البيولوجي قد تأدّى إلى الإنسان الحاضر، فليمض بنا التطوّر حتى نتوصّل إلى "السوبرمان" الذي يتمكّن بإرادته من أن يسيطر على الآخرين ويخضعهم لنفوذه، إنّ حياته ينبغي أن تكون خصاماً لا هوادة فيه، ومغامرةً لا تنقطع، وألماً لا يثير في نفسه ضيقاً، والإنسانية تخطئ حين تبقى على حياة الضعاف وتعمل على ترقية الدهماء، وتحسن صنعاً إذا حصرت غايتها بالتسامي بالصفوة، الذين وُهبوا القوّة والجمال، ومن الخطأ الاعتماد على الانتخاب الطبيعي وحده في تحقيق هذه الغاية، لأنّ الطبيعة تقاوم الشذوذ وتحابي المتوسّطين من الناس، وبالتالي تهبط بالممتازين إلى مصاف المتوسّطين، ولا ترتفع بالمتوسّطين إلى مراتب الممتازين، ومن هنا وجب الاهتمام بتربية الأجيال والإشراف على تهذيبهم، والحرص على جعل الزواج وسيلة لترقية النسل، وليس مجرّد أداةٍ للتناسل، بمعنى أن يكون خير الشبّان لخير الفتيات جسماً وعقلاً، ولا يقوم الزواج على مجرّد الحبّ(1).
3 ـــ مناقشة المفهوم الأخلاقي لدى نيتشه
ونلاحظ في هذا التقييم الأخلاقي عدّة أمور:
1 ـــ إنّ العرض السابق يدل على أنّ "نيتشه" أساء فهم القِيَم التي اعتبرها من أخلاق العبيد، فإنّ الضعف لا يعتبر فضيلة، بل القوّة هي الفضيلة من حيث هي تعبير عن الكيان المتكامل في وجود الإنسان، ولكن القوّة شيء، واستعمال العنف شيء آخر، فقد تكون القوّة في اللاعنف، في بعض مجالاتها العملية، أما العزوف عن ارتكاب الشرّ، فلا يعتبر فضيلة إذا كان منطلقاً من العجز عن الانتقام، لأنّه لا يكون عزوفاً عن الشيء، بل استسلاماً للعجز من دون أن يكون لإرادته دخل فيه، بل الفضيلة، هي في الرفض الاختياري المرتكز على قدرة الفعل وعدمه، وأما الطاعة، فهي الفعل أو الترك المنبثق من الإحساس بالمسؤولية على أساس قناعاته الفكرية، أو حاجاته الحياتية، وليست خضوعاً ذليلاً على أيّ حال؛ بل هي الخضوع الذي يوحي بالقدرة على اتخاذ الموقف، تماماً كما هو الحال في الإنسان "السوبرمان" عندما يؤكّد ذاته وقضاياها، في علاقاته مع الآخرين. أمّا الصبر فقد عرفنا كيف يكون عنصر قوّة، وإلاّ فكيف نفسّر قوّة السادة "الأقوياء" في تحمّلهم لنتائج القسوة والعنف، عندما تواجهها ردود الفعل الدامية. إنّ القضية لا تختلف في الصبر عند العبيد "الضعفاء" لأنّهم يصبرون من موقع القدرة على الردّ، لا من موقع العجز عنه، لأنّ ذلك لا يسمّى صبراً، بل يسمّى استسلاماً، أمّا التواضع فهو أبعد شيء عن التفسير الذي أعطاه، بل هو، كما ذكرنا إحساس الإنسان بالمستوى الحقيقي لكفاءاته وقدراته، مع احترام كفاءات الآخرين وقدراتهم، ممّا يجعله، في الموقع الذي يحترم فيه نفسه، ولا يسمح لها بالاستهانة بالآخرين، أو بالتخلّي عن احترامهم في سلوكه العملي معهم.
إنّ القضية التي تفرض نفسها تتقرّر كما يلي: إنّ الفضيلة، ليست في التحرّك العملي، أو في الرفض العملي، عن عجز عن اختيار الجانب المقابل، بل الفضيلة تتجسّد في الحركة التي يملك فيها الإنسان جانب السلب وجانب الإيجاب، ليختار السلب أو الإيجاب تبعاً لطبيعة الموقف، وظروف الاختيار.
2 ـــ إنّ "نيتشه" قد انطلق في هذا التقييم للأخلاق من تاريخ القوة المادية، التي كان يملك منها السادة الشيء الكثير، بينما لا يملك "العبيد" منها شيئاً. أمّا القوّة المعنوية التي تتحرّك في الداخل بعيداً عن القدرة المادية، لتواجه الحياة من الداخل المملوء قوّة وإحساساً عميقاً بالامتلاء، فلا نستطيع تجريد الضعفاء منها، لأنّ ذلك هو الذي أعطاهم القوّة على الامتداد والالتفاف على سادتهم، لتطويقهم والانقلاب عليهم، فلو كانوا يعيشون واقع الضعف الداخلي لانهزموا في أوّل لحظة، ولما استطاعوا التماسك والثبات في مراحل العمل الطويلة، على الطريق الصعب الطويل. إنّنا نستطيع أن نقرّر من خلال التاريخ، أن "الأقوياء السادة" كانوا يعيشون الفراغ من القوّة المعنوية الذاتية، فلم تكن قوّتهم إلاّ من خارج ذاتهم، ممّا يملكونه من مال وجاه وسلاح، بينما كان العبيد الضعفاء يستمدّون القوّة من الحقّ المتفجّر في داخلهم حركة وحياةً.
3 ـــ إنّ تقييم القوة في إطار العنف، لا يحقّق إرادة القوة التي تمنح الحياة تطوّرها ونموّها وتقدّمها في إطار الإنسان الأعلى "السوبرمان"، لأنّ إرادة القوة، لا تتحرّك من خلال العنف، بل تتحرّك من خلال الموقف الذي يحكم الجماعات والأفراد، في إعطاء الحياة شحنةً جديدة من الداخل والخارج، لتتفجّر بالحقّ والحياة في مرحلة جديدة، وموقف جديد، وهكذا دواليك في قوافل العلماء والخبراء والقادة، في مختلف مراحل التاريخ.
4 ـــ إنّ ما يتحمّله الفرد والمجتمع من الآلام الكبيرة في كثير من المواقف التي تمليها الأخلاق السليمة أو السلمية، المتمثّلة في مواقف اللاعنف، هو أعظم بكثير من الآلام التي يتحمّلها الأفراد الكبار من آلام البطولة في الأخلاق الإيجابية، في مواقف العنف. فكيف يمكن اعتبار القوّة في هذا الجانب دون الجانب الآخر؟ وما هو معنى القوّة، إنْ لم يكن ذلك قوّة؟ وهل العضلات والأدوات التي تستعمل في العنف، هي كل شيء في قضية التقدّم والتطوّر.
5 ـــ إنّ ممّا يبعث على الرثاء والطرافة، أن تتجسّد إرادة القوّة، في قتل الألوف والملايين من الذين لا يملكون قوّة الجسد وجماله، وإنْ كانوا يملكون قوّة الفكر والروح وجمالها، فينبغي لنا أن نساهم في عملية التربية الصالحة القويمة، بقتل العلماء والمفكّرين والقادة الاجتماعيين والسياسيين، إذا كانوا لا يملكون عضلات مفتولة، وجمالاً أخّاذاً، وغير ذلك من عوامل القوّة ومظاهرها. ثم لا ندري كيف يمكننا أن ندفع عملية التطوّر، بالإمعان في جعل الزواج وسيلة لترقية النسل باختيار العناصر التي تمثّل الفحولة والرجولة من الرجال، والعناصر التي تمثّل الصنف الأرقى من الإناث، لتحصل لنا من خلال ذلك الزواج فصائل جديدة، تشتمل على العناصر الراقية التي يتمثّل فيها الإنسان "السوبرمان".
خاتمة المطاف
1 ـــ القوة التي نريد
2 ـــ التربية في اتّجاه القوّة
1 ـــ القوة التي نريد:
لقد أرادنا الإسلام أن نكون أقوياء، بكلّ ما للقوّة من معنى، لتحقيق هدفين:
1 ـــ هدف الأمة في بلوغ أهدافها الكبيرة من خلال قوّتها الذاتية، التي تنطلق من سيطرتها على موارد القوّة ومصادرها، لتستطيع فيها أن تحمي تلك الأهداف.
2 ـــ هدف منع الحرب، بمنع الآخرين من الاعتداء، بحشد القوة الكبيرة التي ترهب العدو وترعبه، ليحسب ألف حساب لأيّة خطوة يخطوها قبل أن يتحرّك في اتجاهها، سواء في ذلك المستوى الذي يتفوّق على مستوى قوة العدو، ليكون في موقف الضعف أمام مركز القوة لدى المسلمين، أو المستوى الذي يتوازن ويتساوى فيه مع قوّة العدو، في حالة فقدان القدرة على التفوّق، من خلال الواقع الموضوعي، لأنّ التوازن، كالتفوّق، يمنع الآخرين من البدء في الحرب والعدوان، انطلاقاً من الفكرة الواقعية التي تقول: إنّ العدوان يبدأ، عندما يشعر صاحب القوة بقدرته على ربح الحرب، لئلاّ تتحوّل الحرب إلى مغامرة لا يعرف الإسلام كيف تنتهي، أو عملية فدائيّة يعرف الإنسان ـــ مسبقاً ـــ أنّها تمثّل الخطوة التي تدمّر أمامها كلّ شيء للبادئ. هذا ما نواجهه في واقع الدول الكبيرة المعاصرة، التي تظلّ تلاحق خطى القوى لدى بعضها البعض، لتبقى في مركز الحركة الدائمة التي تواجه كلّ احتمال جديد، وكل قوّة جديدة من أجل أن تضع ـــ لنفسها ـــ القوّة التي تحفظ لها مركزها أمام الآخرين، ولهذا انطلقت كثير من مختلف الاختراعات والاكتشافات في مجال اختراع الأجهزة والآلات، التي تستطيع أن تكتشف كل سرّ من أسرار القوة لدى الأعداء، ممّا جعلنا نعيش في عصر الأقمار الصناعية التي تتخطّى الحواجز، لتصوّر أدق الحركات والآلات والأوضاع المختلفة في العالم، إلى جانب الأجهزة البشرية التي تلاحق ذلك كلّه بالعين التي ترى ما لا تراه الأجهزة المادية المعقّدة، وبالأذن التي تسمع ما لا تسمعه تلك، وبالفكر الذي يواجه الاحتمالات من خلال ما يرى وما يسمع، ليحلّلها ويأخذ منها النتائج التي يحتاجها ويريدها في أيّ مجال.
وربّما نلمح الإشارة إلى هذين الهدفين في الآية الشريفة، التي أطلقت شعار القوة في الحياة الإسلامية، كواجب تفرضه طبيعة حاجة الإسلام إلى حماية ذاتية من أعدائه، الذين يخوض معهم معركة العقيدة والحياة:
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال : 60].
ونلاحظ ـــ ونحن نقرأ الآية الكريمة ـــ التركيز على كلمة (ما استطعتم) للإيحاء بأنّ على الأمة، أن تهيّئ ما تستطيعه من القوة، بعيداً عن كلّ الأهداف الخيالية من جهة، وعن الواقع الموضوعي الذي تفرضه بعض الظروف الطارئة، التي يمكن للإنسان أن يتحدّاها ويتغلّب عليها بالحركة السريعة الدائبة من جهة أخرى. فإذا لم تستطع الأمة القيام بالتعبئة، فلا بدّ لها أن تعمل على أساس الحصول على التعبئة الممكنة، دون أن تتعلّل بأنّ ذلك لا يجدي ولا يفيد أمام القوة التي يملكها العدو، لأنّ أيّة قوّة تملكها الأمة تستطيع أن تضعف العدو، وتؤخّر العدوان أو تعطّله بالمستوى الذي تتحرّك فيه.
ثمّ، إنّ قضية القدرة والعجز، ليست في نطاق الحياة، بامتدادها وسعتها، بل هي في إطار المراحل المحدودة الضيّقة، التي قد تتغيّر وتتبدّل لتفسح المجال إلى عجز يعقب القدرة، أو قدرة تأتي بعد العجز، الأمر الذي يجعلنا نفكّر في أن لا نترك أي فراغ في أيّة مرحلة، بل نحاول أن نأخذ منها كلّ طاقة ممكنة، وكل فرصة موجودة، لتكون بقية المراحل محاولة جديدة في استكمال ما بدأ، وتقوية ما ضعف، لأنّ سنّة الله في الحياة التي جرت عليها قوانينها الخالدة، هي، أنّ الحياة لن تمنح قيادها وقوّتها دفعة واحدة، بل توزّع ذلك على مراحل تعيش في حركة نمو، تتصاعد وتتنازل، وتقوى وتضعف، تبعاً للظروف الموضوعية التي تحيط بذلك كلّه. فكان علينا أن نواجه ذلك كلّه في حركة رصد دائمة، وكسب مستمر.
ولن نستطيع أن نحصر هذه القوّة المطلوبة في السلاح، لأنّ الصراع بين الإسلام وبين أعدائه لا يقتصر على الصراع المسلّح، بل يمتدّ إلى كثير من الجوانب العملية، فنحن نجد الصراع في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية، الذي يتّخذ لنفسه مختلف الأسلحة التي يمكن أن تهزم الخصوم، فلا قيمة للسلاح ـــ في بعض الحالات ـــ إذا لم تملك ـــ معه ـــ قوّة سياسية تدعم موقفك، وتترك لك حرية الحركة في استعمال السلاح، ولا قيمة للسياسة ـــ وحدها ـــ إذا لم تملك القوة الاقتصادية التي تجعل الفئات الأخرى القادرة على التدخّل في دعم المعركة، تشعر بحاجتها إليك، ممّا يوجب تحوّلها إليك وإلى عدوّك تبعاً للقوة التي يملكها، هو، أو تملكها، أنت.
وهكذا نقف مع القوّة العلمية التي تستطيع، من خلالها، أن تفجّر الطاقات الكامنة لديك بالطرق العلمية، لئلاّ تشعر بالحاجة إلى الوقوع تحت رحمة الآخرين، الذين يملكون الخبرة التي منعوها عنك ولا يعطونك منها ما تريد إلاّ بحساب.
وربّما نجد أنّ القوى ـــ التي ألمحنا إليها ـــ لا تنفصل عن بعضها البعض في الواقع العملي، فإنّ القوة العلمية هي التي تهيّئ لك إمكانية صنع القوى الحربية المعقّدة التي ينتجها العلم، ولن تستطيع السير بعيداً في هذا المجال، إذا لم تملك القوة الاقتصادية التي تمدّك بالمواد الخام، أمّا القوة السياسية فهي التي تجعلك تعرف كيف تسيطر على تلك المواد، وكيف تستغلّها في بلادك وبلاد الآخرين، من خلال التعامل مع القوى الأخرى التي تملك ذلك أو تصنعه، وهي التي تمنحك حرية الحركة فيما تريد أن تأخذ، وفيما تريد أن تدع، وفيما تريد أن تقوم به من أعمال ومشاريع، أو تخطّط له من تطلُّعات المستقبل القريب والبعيد.
أمّا كيف نحصل على هذه القوة، فليست هناك مصادر خاصة نأخذها منها، لتكون هي المصادر المشروعة بينما يكون غيرها داخلاً في المصادر أو المناطق المحرّمة، بل الصفة الوحيدة التي تحكم الموقف، هي أن لا ترغمنا على تقديم أيّة تنازلات على حساب المبدأ والعقيدة والحياة، وأن لا تتطلّب منّا بعض التنازلات التي تمسّ جوهر القضايا الأساسية التي نؤمن بها، ونتحرّك في اتجاه الحصول عليها.
ولعلّ من بين القضايا الضرورية في هذا المجال، أن نؤكّد على دراسة ما لدينا من طاقات وقوى، لنستخدمها ونفجّرها ونسخّرها في خدمتنا وخدمة الحياة، لئلاّ تضيع طاقاتنا في الفراغ، أو تتحوّل إلى قوة يستغلّها الأعداء، في سبيل إذلالنا بالتحكّم فيها كما يريدون، كما نشاهده في طاقة "البترول" وغيرها من الثروات الحيوية التي يملكها المسلمون في العالَم، لتسيطر عليها بعض الفئات التي تبدّدها في الشهوات والمشاريع التي لا تدر على البلاد أي شيء، كما تظلّ مشدودة في استغلالها إلى القوى الطاغية المستعمرة، التي تحوّلها إلى أداة ضغط علينا، بدلاً من أن تكون ورقة ضغط نساوم بها من أجل مصالحنا الكبيرة، ومصيرنا الحاسم في الحياة.
وليست القوة بالحماس والانفعال، بل السعي الدائب نحو الوصول إلى الهدف، بالتخطيط والتدريب العملي، وضبط النفس أمام التحدّيات الخارجية، التي تحاول أن تنحرف بالإنسان عن الخطّ من خلال الضغوط التي تمارسها ضدّه.
وفي هذا المعنى جاء الحديث الشريف عن النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "ليس الشديد الصُّرَعة، بل الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
لأنّ حالة الغضب تمنع الإنسان من الثبات والصمود أمام التحدّيات المضادّة، الأمر الذي يجعل الإنسان يفقد زمام نفسه، فيفقد زمام المبادرة في المعركة التي تحتاج إلى الشخص الذي يملك قوّة الأعصاب، ليستطيع إدارة المعركة بقوّة أعصابه، من خلال ما يملك من قوى، أكثر من حاجتها إلى الشخص الذي يملك قوة السلاح ولا يملك صلابة الموقف، فقد ينهار أمام أيّة خطوة يستخدمها العدو للإثارة، من أجل الانقضاض على المعركة بشكلٍ مفاجئ.
وإذا كانت القوة التي نريدها، هي التي تحمي لنا أهدافنا في العقيدة والحياة، فلا يجوز لنا أن نلجأ إلى تحصيل القوة ممّن يعملون من أجل ضرب تلك الأهداف، تماماً، كما هو الملحوظ في تعاون بعض الشعوب مع الاستعمار، للتخلّص من قيادتها الداخلية السيّئة، أو من استعمار آخر، كما رأينا في تعاون الشعوب العربية، مع بريطانيا من أجل التحرّر من عسف السلطة العثمانية، الأمر الذي انتهى بهم إلى الوقوع في نير الاستعمار البريطاني والفرنسي وغيرهما. أو كما تحاوله بعض الجماعات التي تعمل على الارتباط بالأحزاب والاتجاهات التي تمثّل قوة سياسية أو عسكرية، للاستعانة بها على قوى أخرى، دون أن تنظر إلى أنّ هذا الارتباط يجعلها تحت رحمتها، إذا لم تملك القوة الذاتية التي تقف ـــ بها ـــ في خطّ التعاون المتكافئ المتوازن، الذي لا يحولها إلى قوة تابعة للقوة الجديدة، تنفذ لها مخطّطاتها من غير أن تحصل على أيّ هدف من أهدافها. بل ربّما تكون النتيجة الطبيعية، هي، إضعاف تلك الأهداف وتدميرها من الأساس. وهذا هو الذي حذّرنا القرآن منه، عندما حذّرنا من الاستسلام لأعداء الله في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ*هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ*إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 118 ــ 120].
إنها الصورة الواقعية التي تنبثق من التصوّر الحقيقي لطبيعة الأشياء، فإذا كان الموقف، هو موقف الخلاف في العقيدة الذي يمتدّ إلى الفكر والسلوك والحياة، تبعاً لامتداد العقيدة إلى ذلك كلّه، وإذا كانت القضية التي يفرضها الواقع، هي قضية القوة التي فرضت عليهم مسالمتكم، لا القناعة الذاتية بالموقف، فكيف يمكن لكم أن تأمنوا لهم أو تسلّموهم قيادة الأمور، أو تتركوا جانب الحذر على الأقل، في الوقت الذي تغلي فيه القلوب بالحقد، الذي لا يمكن إلاّ أن يعبّر عن نفسه في بعض المواقف أو الكلمات، بطريقة عفوية، تفصح عن الروح العدائية الحاقدة التي تتحكّم في الواقع.
وإذا كانت هذه الآيات، تتحرّك في أجواء أعداء العقيدة الذين يضمرون العداوة في الداخل، ويظهرون الصداقة في الخارج، فلا يمنعنا ذلك من أن نمتدَّ في أجوائها إلى كلّ أشكال القوى الأخرى التي تشبه هؤلاء، لأنّ أجواء الآية تتحرّك في نطاق الفكرة العامة، من خلال بعض النماذج الموجودة في الساحة، لتتّسع ـــ من خلال الفكرة ـــ للنماذج الأخرى التي يمكن أن تستغلّ حاجتنا إليها أو غفلتنا عنها لضربنا من الداخل، أو إبعادنا عن الخطّ المستقيم إذا استطاعوا، كما أخبرنا الله تعالى، عن بعضهم في قوله تعالى:
{... وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 217].
وقد تكون هذه الآية واردة في ظروف القتال، ولكنها تتّسع للظروف الأخرى، من خلال الهدف الأخير الذي يخضع له القتال في بدايته ونهايته، وينعكس على كلّ تصرّفاتهم وعلاقاتهم في حالة السلم والحرب.
إنّ القضية تتلخّص في كلمة واحدة: إنّ الاعتماد على مراكز القوى التي تملك الأطماع، وتعمل في سبيل أهداف تختلف عن كثير من أهدافنا، يحوّلنا إلى أداة طيّعة سهلة من أجل تحقيق أهدافها، دون أن نحصل على شيء من أهدافنا أبداً، بل ربّما تضيع أهدافنا إزاء قوّتها الساحقة الكبيرة. ولذا فإنّ علينا أن نقف بحذر ووعي أمام أيّة حالة من هذه الحالات، التي يفرضها واقع الحياة في التعاون مع الآخرين، لأنّ تعاون الضعفاء مع الأقوياء، يتحوّل في أغلب الحالات إلى عملية استغلال للضعيف من قِبَل القوي، باسم المواثيق والمعاهدات.
أمّا إذا كان الهدف، من ذلك كلّه، أن يتطلّب العزّة والقوّة من خلال ذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم، يطلب منا أن نعملَ ـــ بقوّة ـــ في سبيل تحصيل العزّة الذاتية من خلال التعاون مع المؤمنين والارتباط بهم، من أجل خلق قوّة جديدة تخضع ـــ في تخطيطها ـــ لمبادئ الإيمان والإسلام. قال تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء : 139].
ولا بدّ لنا ـــ ونحن في نهاية الحديث ـــ من أن نركّز على قضية التربية الإسلامية، التي يُراد بها تعميق مفاهيم القوّة في فكر الإنسان وشعوره، ليرتبط بالقوة من خلال مفاهيمها الإسلامية الواسعة الممتدة، فلا يبقى عرضة للتأثّر بالمفاهيم البدائيّة، التي تحصر القوة في نطاق الفروسية الذاتية، أو تبتعد بها عن كلّ المعاني والقِيَم الكبيرة الممتدة في الحياة، فإنّ ذلك هو الأساس في بناء الشخصية الإسلامية القوية الضاربة جذورها في الأعماق، فقد رأينا، فيما تقدّم من حديث، كيف انطلق القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة في الإيحاء بالقوة المادية والمعنوية، على الصعيد الفردي والاجتماعي، وكيف حاولا أن يصحِّحا المفاهيم الخاطئة عن موارد القوّة ومصادرها في الإسلام. وقد عرفنا كيف يعتبر الإسلام العدالة في الحكم والموقف والكلمة مصدر قوة، وكيف يعتبر الظلم في ذلك كلّه مصدر ضعف. وقد أوضح ذلك النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في بعض أحاديثه التي أثار فيها الحوار حول القوة والضعف، إزاء مشهد لعرض القوة، من بعض المسلمين أمام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأراد أن يصحّح لهم المفهوم، أو يربطهم بالمعنى الأعمق لمدلوله المعنوي العملي في الحياة، فقد جاء في حديث السنّة النبوية الشريفة:
أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مرّ بقوم يتشاءلون حجراً فسألهم عمّا يفعلونه، فقالوا نختبر أشدّنا وأقوانا، قال ألا أخبركم بأشدّكم وأقواكم، قالوا نعم، قال: "أشدّكم وأقواكم.. الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل، وإذا غضب أو سخط لم يخرجه غضبه عن قول الحقّ، وإذا قدر لم تدعه قدرته على أنْ يتعاطى ما ليس له بحق..".
فإنّ هذه المواقف تمثّل التوازن، الذي يتجسّد فيه مقياس العدالة في الحكم والكلمة والسلوك. وتبرز، من خلالها، شخصية المؤمن القوي، باعتبارها تجسيداً للواقع التطبيقي للقوّة الروحية، وقد أثرنا الحديث في ذلك كلّه.
ثمّ، لا بدّ من التأكيد على الحدود التي تقف عندها القوة المادية للإنسان، في إطار العنف القتالي وغيره، كشرط من شروط الممارسة "الشرعية"، لئلاّ تطغى في سلوكه فتهدّده في دينه وحياته وحياة الآخرين، فإنّ ذلك هو الضمانة للاستقامة الواعية في السير على الخطى السليمة للإنسان.
التربية في اتّجاه القوّة
وقد يكون من الضروري، في إطار التربية الإسلامية، أن ينفتح على مفهوم الضعف والقوّة لدى الإنسان إزاء مفهوم قوّة الله, وعلاقة المفهومين ببعضهما البعض، وتأثير ذلك على التصرّفات العملية للإنسان. فإنّ للانحراف ـــ في هذا المجال ـــ آثاراً سلبية كبيرة على الصورة الحقيقية للشخصية الإسلامية للإنسان المسلم، كما لاحظنا ذلك في بداية هذا الحديث، عند إثارة البحث في المفاهيم الخاطئة، ونتائجها الفكرية، لدى بعض المفكّرين، وكيف اعتُبرت تلك المفاهيم مسؤولةً عن كلّ الأوضاع المنحرفة، التي تتجسّد في خضوع الناس للقوى الاستعمارية والاستغلالية.
وقد يكون من الضروري للفكر الإسلامي، والحركة الإسلامية، أن تتّجه التربية في اتّجاه تصحيح أمثال هذه المفاهيم، لئلاّ يجرّ الفكر وراءه سلبيات الفهم الخاطئ، وتحمل الحركة أثقال المفاهيم المغلوطة على أكتافها، فيضيع الفكر في رمال التيه، وتتحطّم قوة الحركة على عناصر الضعف الذاتية. وتموت القضية في نفوس أتباعها فتتحوّل إلى شيء جامد، كبقيّة الأشياء الميّتة التي تأخذ فراغاً في الفكر، ولكنّها لا تعطي الحياة شيئاً، بل ربّما تعطيها ضدّ الحياة.
وفي نهاية المطاف، إنّنا هنا مع قضية الإسلام في الفكر والحركة والواقع، لأنّها قضية الإنسان في فكره وحركته وواقعه، فلا بدّ للفكر من أن يسير في الطريق المستقيم ليصل إلى غايته بدون أخطاء.
ولا بدّ للحركة من أن تحافظ على خطاها من الزلل، وخططها من الانحراف لتصل إلى هدفها بدون خسائر، ولا بدّ للواقع من أن يحقّق التوازن في عناصر تكوينه، ليحفظ قاعدته من الاهتزاز، وآفاقه من الارتباك والاضطراب، وليصنع الشخصية الإسلامية القوية التي تمسك بيدها زمام القوّة، لتوجّهها في طريق الرسالة والخير، كما قال الله تعالى:
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 ــ 14].
ونحن هنا من أجل تصحيح الفكر، من أجل الحركة العملية المنفتحة التي تصبّ في مجرى الواقع، الذي يضمّ الحاضر والمستقبل في عملية تخطيط شامل.
فإنْ حقّق الحديث بعض غايته فهذا ما نأمله، وإلاّ فحسبه من النجاح، أنّه يشقّ الطريق نحو بحوث جديدة، وأفكار جديدة، للمفكّرين المسلمين في مدى الزمن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وهو حسبنا ونِعم الوكيل.
محمد حسين فضل الله
(1) وسائل الشيعة ج11، ص560.
(1) الصحيفة السجادية، الدعاء 21، ص76ــ77 دار إحياء التراث العربي.
(1) وهناك تحليل طريف لمعنى هذه الكلمة في نهج البلاغة عن الإمام عليّ (عليه السلام) قال، وقد سُئل عن معنى قولهم: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله": إنّا لا نملك إلاّ ما ملّكنا فمتى ملّكنا ما هو أملك به منا كلّفنا، ومتى أخذه منّا وضع تكليفه عنا.. وهذا التحليل يشير إلى الفكرة التي ألمحنا إليها مع استيحاء الجانب التكليفي الذي يربط الحياة الموهوبة من الله بالمسؤولية وجوداً وعدماً.
(2) في نهج البلاغة عن الإمام عليّ (عليه السلام) وسمع رجلاً يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون" فقال (عليه السلام): إنّ قولنا: "إنّا لله" إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: "وإنّا إليه راجعون" إقرار على أنفسنا بالهلك. نهج البلاغة ص 485.
(1) نهج البلاغة، ص401.
(1) وسائل الشيعة ج6، ص397.
(2) نهج البلاغة ص501.
(3) المصدر السابق ص542.
(4) وسائل الشيعة ج6/ ص406.
(1) تاريخ الطبري ج2293.
(1) وسائل الشيعة ج6، ص157.
(1) الصحيفة السجادية ص78.
(1) وسائل الشيعة ج6، ص152.
(2) الصحيفة السجادية ص166.
(3) نفس المصدر ص158.
(1) نهج البلاغة ص501.
(2) المصدر السابق ص508.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق ص534.
(5) وسائل الشيعة ج6، ص321.
(6) المصدر السابق.
(1) نهج البلاغة: ص353.
(1) الكافي (شرح المازندراني) ج9 ص385.
(1) الكافي ج5، ص12 مطبعة الحيدري بطهران.
(1) نهج البلاغة ص324.
(1) حسن سعفان، أسس علم الاجتماع ص128.
(1) وسائل الشيعة ج11، ص559.
(1) وسائل الشيعة ص445.
(2) المصدر السابق ص431.
(3) المصدر السابق ص440.
(1) الكافي (شرح المازندراني) ج9، ص305.
(1) الكافي (هامش مرآة العقول) ج2، ص377.
(1) الكافي ج1، ص163 (مطبعة الحيدري بطهران).
(2) وسائل الشيعة ج6، ص29ــ30.
(3) المصدر السابق ص28.
(1) وسائل الشيعة ج8، ص544.
(1) الكافي (شرح المازندراني) ج9، ص45.
(2) المصدر السابق ص77.
(1) وسائل الشيعة ج11، ص597.
(2) وسائل الشيعة ج11، ص563.
(3) الكافي ج4، ص25 (مطبعة الحيدري بطهران).
(1) وسائل الشيعة ج11، ص560.
(1) المصدر السابق ص398.
(2) المصدر السابق ص396 ــ 397.
(3) المصدر السابق ص 407
(1) المصدر السابق ص394.
(2) المصدر السابق ص395
(1) المصدر السابق ص415.
(2) البخاري والترمذي.
(1) صحيح البخاري (فتح الباري) ج15، ص92ــ93.
(1) وسائل الشيعة ج14، ص3.
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن ج10، ص534.
(1) نهج البلاغة (دار الكتاب اللبناني) ص521.
(1) طبقات ابن سعد ج2، ص149 ــ 152.
(1) الكافي (شرح المازندراني) ج9 / 1،36.
(1) المصدر السابق ص362.
(1) الصحيفة السجادية الدعاء/ 29 ص128 ــ 129.
(1) قال ابن خلدون مؤيّداً لهذا الرأي: "إنّ الحرب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام لبعض البشر من بعض، ويتعصّب لكلّ منها أهل عصبيّته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان: إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع كانت الحرب. وهو أمر طبيعي لا تخلو عنه أمة ولا جيل.. وسبب هذا الانتقام في الأكثر إمّا غيرة ومنافسة، وإمّا عدوان، وإمّا غضب لله ولدينه، وإمّا غضب للملك وسعي في تمهيده" مقدّمة ابن خلدون ص270ــ271.
(1) آثار الحرب في الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي، ص104 وللتوسّع في الاطلاع على الفكرة بشكلٍ وافٍ يراجع كتابنا "أسلوب الدعوة في القرآن" فصل "حروب النبيّ وغزواته".
(1) وسائل الشيعة ج11، ص43.
(2) المصدر السابق ص46.
(1) نهج البلاغة ص46.
(2) شرح السير الكبير ج1، ص59.
(1) نيل الأوطار ج7، ص214.
(1) محمد حسين فضل الله. أسلوب الدعوة في القرآن ص101 ـــ 103 الطبعة الثانية.
(1) يراجع ـــ للتوسّع ـــ كتابنا "أسلوب الدعوة في القرآن" فصل: لا "إكراه في الدين" ص134، الطبعة الثانية.
(1) شرح العيني على البخاري ج14، ص192.
(2) فتح الباري ج6، ص85.
(3) وسائل الشيعة ج11، ص5.
(1) المصدر السابق ص9.
(1) بداية المجتهد ج1، ص389.
(1) وسائل الشيعة ج11، ص30.
(1) المصدر السابق ص31.
(1) وسائل الشيعة ص34.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق ص34.
(1) مقارنة الأديان ج3/ 185ــ 188.
(1) آثار الحرب في الفقه الإسلامي (نقلاً عن الدعوة إلى الإسلام) ص17ــ 77.
(2) المصدر السابق (نقلاً عن حضارة العرب) من 76ــ 77.
(1) المصدر السابق ص90.
(1) أسلوب الدعوة في القرآن من 156 ــ 163/ الطبعة الثانية.
(1) جواهر الكلام ج21، ص49/ الطبعة السادسة.
(1) المصدر السابق ص48.
(1) البدر الزاهر في صلاة الجمعة وصلاة المسافر ص52ــ53.
(1) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج21، ص397/ الطبعة السادسة.
(1) هذا الرأي للمرحوم السيّد محسن الحكيم ـ أحد مراجع التقليد الإسلامي الشيعي في هذا العصر. وقد جاء جواباً للسؤال التالي:
لقد جاء في رسالتكم العملية في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر في النفس والعرض أو في المال.. ولقد رأينا جملة من المؤمنين الصالحين العاملين قد أمروا بمعروف ونهوا عن منكر وقد لاقوا ما لاقوه من قوى الشرك والضلال فهل أن عملهم هذا غير صحيح؟
الجواب: إنّ شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ذكرناها وذكرها الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ إنّما هي شرائط للنهي عن المنكرات المتعارفة كترك الصلاة وشرب الخمر وأكل أموال الناس أو أعراضهم أو نحو ذلك ممّا لا يمسّ أساس الدين وبيضة الإسلام أمّا المنكرات التي يخشى من وقوعها على أساس الدين فيجب مكافحتها والتضحية في سبيل المحافظة على أصل الدين وأساسه بكل غالٍ ورخيص وبالنفس والنفيس، كما وجب الجهاد في كثير من الأعصار والأمصار حفظاً لبيضة الإسلام كيان الدين.. وما قام به هؤلاء المؤمنون الصالحون من تضحيات وما لاقوه من قوى الشرّ والضلال من هذا النوع (نقلاً عن كتاب انتظار الإمام ـ عبد الهادي الفضلي ـ ص 142 هامش).
(1) الكافي.
(1) نهج البلاغة ص451.
(1) عبد الفتاح إبراهيم. دراسات في الاجتماع/ ص272ــ274.
(1) أُسس اللينينية، ستالين ص23ــ25.
(1) العهد الجديد ص13.
(2) المصدر السابق ص14ــ16.
(1) المصدر السابق ص34.
(2) المصدر السابق ص36.
(1) د. توفيق الطويل ــ الفلسفة الأخلاقية ص231 ـ 234.