آية الله العظمى
السيّد محمد حسين فضل الله
الندوة – الجزء الثاني
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
إعداد عادل القاضي
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة على المصطفى محمد خاتم النبيين، وعلى آله الميامين.
ربّما لا يتوفر العلماء على مركز حقوقي واجتماعي كما توفّر عليه علماء الإسلام وبالتحديد وفقاً لمنهج أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، فقد كان لهم ـــ ولا يزال ـــ في قلوب وضمائر القواعد الشعبية مكانٌ مكين، يستند إلى تراث نظري وتاريخي، ويرتكز على توجيهات دينية، وإرشادات صادرة عن مقام الإمامة، وذلك بإرجاع الناس إلى العلماء، وإن اختلفت وجهات النظر في طبيعة هذا الرجوع، ومدى سعته وضيقه.
وقد تعمّق هذا الحضور على مدى الزمن، وبمظاهر عديدة تعدَّتْ الأُطر التقليدية إلى الأطر غير المألوفة من قبيل المساهمة الفعّالة لهؤلاء العلماء في القيادة السياسية.
وعلى وَقْعِ هذا التراث النظري والتاريخي تزايدت حلقات الاتصال وتعمّقت اللُّحمة بين القواعد الشعبية والعلماء، وأخذت تتّخذ صيغاً متعدّدة ابتداءاً بالوشائج ذات الطابع الاجتماعي ومروراً بالمسائل ذات الصلة بالدين أساساً وفكراً وفقهاً ورؤى.. وانتهاءً بالمسائل السياسية.
وإنْ تباينت مظاهر الحضور العلمائي على هذه المستويات المُشار إليها تبعاً لبعض الظروف الذاتية والموضوعية، فإنّها تبقى محكومة بسمةٍ عامة وهي الثقة الشعبية الكبيرة بهذه النخبة المتميّزة والتعاطي معها وفقاً لطبيعة مهامّها ومسؤولياتها، وإن تنكّر البعض لها أو أدار ظهره إليها. لأنّ مثل هذا التنكّر ـــ من وجهة نظر القواعد الشعبية ـــ عبارة عن حالة طارئة لا تمتلك حظاً من الثبات والاستقرار.
وعوداً على بدء، نؤكّد أنّ هذا الحضور العلمائي الفاعل على ما فيه من مظاهر تقليدية وأشكال كلاسيكية، ظلَّ هو السمة البارزة في مدرسة أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وإنْ كنّا لا نمتلك الكثير من المعطيات التاريخية لرسم صورة كاملة وواقعية لهذا الحضور على مدى الزمن، وابتداءاً من البواكير الأولى لعصر الغيبة الكبرى، فقد حفظ لنا التاريخ بعضاً من مظاهر الاتصال الشعبي بهذه النخبة، تلك المظاهر التي أسهمت في تكوين الكيان المرجعي، والذي تعود جذوره ـــ ربّما ـــ إلى عهد الشريف المرتضى، والتي أسهمت في تطوير فن الكتابة الفقهية، خاصة على المستوى الشعبي والذي عُرف بالرسائل كما هي رسائل الشيخ المفيد والشريف المرتضى والشيخ الطوسي.. والذي أسّس فيما بعد لما يُعرَف بــ (الرسائل العملية).
وبعض هذه الآليات قائم إلى اليوم، ولكن للأسف بدأت هذه الآليات تنكمش على ما هو المألوف تاريخياً شكلاً ـــ وربّما مضموناً ـــ وتكفّ عن التجديد، وأخذت وسائل الاتصال بين النخبة العلمائية وقواعدها الشعبية تقتصر على نطاق ضيّق جداً، وتخلّى العلماء ـــ للأسف مرة أخرى ـــ عن عدد من المظاهر المعروفة سابقاً، إلى درجة أخذ معها الفقيه لا يجيب عن الأسئلة الشعبية خارج إطار الحقل الفقهي، وإنْ أجاب فإنّه يجيب على طريقة المتون، بل وأشبه بالبرقيات وأحياناً بلغة دبلوماسية فائقة خشية التشنيع، وفي الغالب لا يخفي الفقيه امتعاضه من الأسئلة الشعبية التفصيلية والتي تماطل الفقيه وتطالبه بالكشف عن بعض مستنداته ومداركه الشرعية وإنْ بلغة غير علمية.
هذا فضلاً عن الغياب الملحوظ للفقيه على مستوى الخطابة والوعظ، وربّما نأى بعضهم عن أي شكلٍ من أشكالها، بل وربّما يعتبر البعض الخطابة ووعظ القواعد الشعبية بهذه الطريقة أسلوباً لا يليق بالفقيه، متناسين أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووصيّه عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كانا خطيبين!
وإذا كان ما ذكرناه يشكِّل القاعدة فثمّة استثناء! وللأسف نقول (استثناء) لأنّه في الحقيقة يعتبر هو القاعدة، لولا انقلاب المعايير.
وفي هذا السياق يتمّ تقييم الندوة، فإنّها ـــ أي الندوة ـــ بقطبها (آية الله العظمى المجاهد السيد محمد حسين فضل الله دام ظلّه)، تكرّس الحضور العلمائي الفاعل نظرياً وتاريخياً، بل وتؤصِّل لهذا الحضور، لتمدّ أكثر من جسر، وتقيم أكثر من وشيجة مع القواعد الشعبية، وعلى المستويات المختلفة، ومنها حقل الثقافة وبالتحديد الإسلامية، بغية تعميمها وتعميقها في آنٍ واحد.
ولذلك جاءت ـــ الندوة ـــ بحضورها الجماهيري المكثّف والمتميّز تعبيراً عن ثقة هذه الجماهير بدينها وهويّتها الثقافية، ومدى اعتزازها بعلمائها ومراجعها الفكرية.
وربّما زاد هذا الاعتزاز الشعور المتبادل بين الجمهور وآية الله السيّد فضل الله بما أُوتي من فرادة في التفكير وأصالة فيه وانشراح الصدر وقوّة في الحوار. وفوق ذلك احترامه لهذا الحضور من خلال مواظبته على حضور ـــ ندوة السبت ـــ وفي أكثر الظروف قساوة وشدّة، ولذلك جاءت الإجابات متنوّعة تعبّر عن المستوى الثقافي للسائل، وكانت الإجابات حقّ الجميع، دونما استهانة بهذا أو ذاك، ولا انتقاص من هذا أو ذاك، لأنّ الندوة إنّما انطلقت بغية تعميم الثقافة الإسلامية على اختلاف حقولها، وجعلها برسم التوزيع لتكون في متناول أكبر قدر ممكن من القطاعات الشعبية، وفوق ذلك تجد الأسئلة المعمّقة والإشكاليات الفكرية المتنوّعة والتي تشكّل اليوم أهمّ المسائل الفكرية الحرجة السائدة في الأوساط الفكرية. فلا الانفتاح على الأسئلة المتواضعة قلَّل من شأن الأسئلة المبدعة والهادفة ولا الأسئلة المبدعة كانت قادرة على مصادرة أضدادها.
كانت (جلسة) السبت مائدة مفتوحة متنوّعة العطاء، ولم يحدَّها غير الحدود الشرعية والأخلاقية، وبالتحديد تلك الأسئلة التي ربّما يفهم منها الإساءة أو التعريض بالآخرين أو تهديد الأمن الإسلامي ووحدة المسلمين، بل وأمن النسيج الاجتماعي لأتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، أو تلك المسائل التي لا يروق للبعض الإجابة عليها، ومع ذلك كانت الندوة غنية بأسئلتها وأجوبتها معاً، فهي كما تعبّر عن الفكر المبدع والموسوعي لسماحة السيّد ـــ دام ظلّه ـــ فإنّها تعبّر في الوقت نفسه عن المستوى الثقافي للقواعد الشعبية وقدرتها على الخلق والإبداع الثقافي، ومدى ثقتها بهويّتها الثقافية إزاء التحدّيات الفكرية والثقافية الأخرى.
وكانت الإجابات مرتجلة كما هي الأسئلة مباشرة، بمعنى أنّها لم تُعدّ سلفاً ولم تُحضّر في زوايا الغرف المغلقة، بل تركت الحرية للحضور على نطاق واسع لتحديد طبيعة الأسئلة ومحاورها، وكان عدد غير قليل جريئاً، والبعض كان يتعلّق بشخص سماحة السيّد نفسه ـــ دام ظلّه ـــ فلم يجد سماحتُه حرجاً في الإجابة عليه وبكلّ محبّة.
وإذا كان يتمّ حجب بعض الأسئلة وتهذيبها، فإنّ ذلك إمّا لجهة (الوقت) إذ لا يتّسع في الغالب للعديد من الأسئلة، أو لجهة المعايير الأخلاقية والشرعية والاجتماعية، أو لجهة تكرار بعض الأسئلة.
ولو كنّا في وقت تسود فيه مظاهر المحبة والنوايا الحسنة، أو احترام الرأي الآخر، لقُدِّر لهذه الندوة أن تكون أكثر حرية وأكثر انفتاحاً (ورُبّ كناية أبلغ من تصريح)!
وفي الختام، نودّ الإشارة إلى سمتين بارزتين في الجزء الثاني من الندوة المطبوعة، أوّلها: حذف المكرّرات من الأسئلة وأجوبتها والتي أخذت طريقها للنشر في الجزء الأول.
وثانيها: محاولة تخريج مصادر الآيات والأحاديث والمرويات على تنوّعها بما أُتيح لمعدّ الندوة، خاصة وأنّ بعضها من المشهورات والتي تجري على الألسن مجرى المسلّمات، فإذا وجد القارئ الكريم من هذه المرويات ما لم يشر إلى مصدره فليعذر (المعدّ)، فإن تتبع هذه المرويات ليس بالأمر الهيِّن خاصة مع هذا العدد الهائل من المرويات التي يستشهد بها سماحة السيّد ـــ دام ظلّه ـــ دونما إشارة إلى مصدرها تفصيلاً.
وكنّا نعتقد أنّ تقديم محتويات الندوة على طبيعتها، خاصة لجهة ما يتوفّر عليه سماحة السيّد ـــ دام ظلّه ـــ من حفظ النصوص القرآنية والحديثيّة والتاريخية والأدبية والمأثور من أدعية آل بيت العصمة (عليهم السلام)، أكثر مصداقية لرسم الصورة الحقيقية لهذه الندوة، لولا اقترح بعض الأخوة بضرورة القيام بهذه المهمة.
وإذا كانت ـــ الندوة ـــ تستعدّ لتوديع سنتها الثانية فإنّها ستبقى إنْ شاء الله تعالى ملتقىً فكرياً يروّج لثقافة إسلامية أصيلة تستهدي بأنوار القرآن ومنهج آل بيت العصمة (عليهم السلام)، مع مزيد من العطاء والتقدّم.
محمد الحسيني(*)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة الطبعة الرابعة
الحمد لله والحمد حقّه كما يستحقه حمداً كثيراً.. والصلاة والسلام على خير البريّة محمد وعلى آله الهداة الدعاة الميامين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
إنّ مِن نِعَمِ الله تعالى ـــ وهي سابغة لا تحصى ـــ أنْ تحظى ساحتنا الثقافية بهذا الزاد الأسبوعي الخيّر والمنوّع، فمع كثرة المجالس الخطابية والندوات الثقافية الموسمية أو المرهونة بالمناسبة، لكنّك لا تجد تخصيصاً موقوتاً في هذه الساحة لمثل هذا اللون من النشاط الفكري والثقافي والفقهي الذي يمثّل جنساً من الثقافة الشعبية العامة التي تتعامل مع الحاجات والمشكلات لا من منطلق الدراسة الأرشيفية والبحث المكتبي، بل من خلال التواصل الحيّ الذي يحقّق الثراء للاثنين معاً: للمحاضر المسؤول وللمستمعين السائلين، هؤلاء من جهة الحظوة بالإجابة المباشرة على أسئلتهم وتساؤلاتهم، وذلك من جهة معرفة الحاجات الفكرية للناس.
يضم هذا الجزء من كتاب الندوة (27) محاضرة و(99) مسألة قرآنية (111) مسألة عقيديّة وأخرى في السيرة و(65) مسألة فكرية و(140) مسألة تربوية (27) مسألة خاصة بالمرجعية و(188) مسألة فقهية في مختلف شؤون الشريعة الإسلامية.
وإذ تطرح (دار الملاك) الطبعة الرابعة من الجزء الثاني من كتاب (الندوة) نسال المولى اللطيف الخبير أن يمنّ على آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله ـــ دام ظلّه ـــ بمديد العمر وموفور الصحة، حتى تنعم الأمة بالمزيد من عطائه المبارك الأصيل. كما نتمنّى أن يجد القارئ الكريم في أجزاء الندوة المتتابعة ضالته إنْ في أسئلتها الملونة الكثيرة، أو في المفاهيم الحيوية التي عالجتها المحاضرات في فواتح الندوة التي تقام مساء كل سبت في (حوزة المرتضى) عليه السلام بدمشق. ونسأله عزّ من مسؤول أن يأخذ بأيدينا إلى تقديم الأنفع والأصلح دائماً، وأنْ يتقبّل من القائمين على مشروع الندوة بأحسن القبول، إنّه خير مسؤول وأكرم مجيب.
عادل القاضي
دمشق ـــ في 15 ربيع الآخر 1419 هــ
المدخل
عزيز القارئ الكريم...
تحيةً من عند الله مباركةً طيّبة.
هذا هو لقاؤنا الثاني من كتاب (الندوة)، ولأنّ الجزء الأول منه كان كبيراً في حجمه بسبب ما احتواه من مادة الندوات الأسبوعية لسنة كاملة، ونزولاً عند رغبة الكثير من القرّاء الأكارم تقرّر أن يكون الكتاب نصف سنويّ.
وبناءاً على ملاحظات ومؤاخذات واقتراحات وردت على هامش صدور الجزء الأول حاولنا في الجزء الثاني إبراز ما يلي:
1 ـــ إفراد هوامش مستقلة بأرقام الآيات الكريمة بعد أنْ كانت مرفقة مع سياق النصّ في الكتاب الأول.
2 ـــ عمدنا ـــ ما أمكننا ذلك ـــ إلى استخراج أصول غالبية الروايات والأحاديث التي سيقت بمضامينها في الندوة الأصل، وأشرنا إلى ذلك في الهامش، وتركنا ما تعذّر استخراجه بمضمونه من غير أن يبرّز بمزدوجتين؛ ما عدا الأدعية المأثورة، وأودّ أن أشكر هنا الأخوة في المركز الثقافي في بيروت لما قدّموه في هذا المجال من خدمة تذكر فتشكر.
3 ـــ أدرجنا في مستهلّ كل فصل العناوين الفاصلة للمفردات الأساسية التي يتضمّنها الفصل.
4 ـــ تحاشينا ـــ ما وسعنا ذلك ـــ أيّ شكل من أشكال التكرار, فلو اندرجت مسألة ما تحت عنوانين، نركن إلى حسمها تحت جناح أحدهما ونغفل الآخر.
وثمّة ملاحظة خاصة بباب الافتتاحيات، وهي أنّ المحاضرات أو ما أسميناه بـــ (افتتاحيات الندوة) هي في هذا الجزء أطول من محاضرات أو افتتاحيات الجزء الأول، وما ذاك إلاّ لأنّ الندوة خلال عاميها المنصرمين أخذت ثلاثة أشكال من الفواتح: ففي البدء كان سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله ـــ دام ظلّه ـــ يدخل في الإجابة على أسئلة روّاد الندوة مباشرة، ثمّ راح يتحدّث أحاديث مقتضبة تدور حول مفهوم معيّن ومحدّد ومختصر، إلى أن انتهى المطاف إلى تقسيم الندوة إلى محاضرة وإلى إجابات على الأسئلة.
بيد أنّ القارئ الفاضل سيجد في ثنايا المحاضرات لفتات وإضاءات وإثارات ومعالجات حركية تقدّم طرحاً غنياً لطائفةٍ من أسئلة الواقع الاجتماعي والفكري الملّحة والدقيقة.
بقي أن أشير إلى أنني قد وطّنتُ نفسي منذ مطلع الرحلة الشاقّة والشيّقة على أن أفتح نافذة صدري قبل كوي مسامعي إلى "هدايا" ولا أقول "سهام" النقاد معتبراً أنّ الحق دائماً إلى جانب الناقد ـــ المسدّد أياً كانت صائبيّة ملاحظاته.
وإذا كان ثمّة فارق بين الجزئين فقسطٌ من الفضل في ذلك يعود إلى ما تناهى إليّ من تلك الملاحظات.
كما يجدر بي وأنا أرحبّ بالقارئ في مستهلّ الرحلة الجديدة أن أشكر زميلي في هذه الرحلة الأخ الأستاذ محمد الحسيني لمراجعته مسودّات الكتاب وعلى مرحلتين ابتدائية وختامية.
وإلى المولى المسدّد أتوجّه بعد الفراغ من بناء الكتاب مستهدياً بقول شيخ الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) وابنه إسماعيل (عليه السلام): {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(1)
وفي الختام كما في البدء، وكما دائماً..
الحمد لله ربّ العالمين.
عادل القاضي
دمشق 20 صفر الخير 1418 هـــ
الموافق لـــ 26/6/1997م
باب الافتتاحيات
الافتتاحية الأولى
15/6/1996
في ذكرى وفاة الإمام زين العابدين (ع):
هدوءُ العقلِ في خضمِّ المأساة
"مشكلتنا هي أنّنا قومٌ تُحرِّكنا غرائزُنا لا عقولنا"
1 ـــ علاقة الخط:
في هذا الأسبوع مرّت ذكرى إمام من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وهو الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام). وعندما نريد أن ندرس شخصية هذا الإمام بعيداً عن جوّ المأساة التي عاشها بكلّ عقله، نرى أنّه كان الإنسان الصامد إزاء مأساة كربلاء بالرغم من كل قساوتها، فقد رأيناه في هذه الواقعة يتحرّك بكلّ هدوء العقل وبكل ثبات العاطفة ويتحدّث مع أبيه الحسين (عليه السلام) وهو في قلب المأساة حديث العقل للعقل.
ولا بدّ أنه كان يعيش بمشاعره الحالة التي تضغط المأساة فيها على المشاعر، ولكن لم يُنقل عنه في كربلاء أي موقف انفعالي لا مضمون له من خلال حركة الوعي.
فعندما نذكر حواره مع أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) عندما جاء يودّعه وقد بقي وحيداً بعد أن قتل كلّ أهل بيته وأصحابه، حينها شعر بأنّه قد يكون من واجبه أن يساهم في هذا الجهاد وهو العليل المريض. فقال لعمّته زينب (عليها السلام) ـــ كما تقول كتب السيرة الحسينية ـــ ناوليني السيف والعصا، وعندما سألته ماذا يفعل بهما، قال: أمّا العصا فأتوكّأ عليها وأمّا السيف فأذبُّ به عن ابن بنت رسول الله.
لقد كان يعيش القضية، فلم يقل أذبَّ به عن أبي بفعل العاطفة بين الأب وابنه، بل قال كما تقول كتب السيرة: أذبّ به عن ابن بنت رسول الله، باعتبار أنّ المسألة تتّصل بالعلاقة برسول الله، وهي ليست علاقة النسب ولكنها علاقة الخطّ وعلاقة الإمام الحسين برسالة جدّه التي تجسّدت في جدّه عليّ (عليه السلام) وتجسّدت في أمّه فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي كانت في عمق شخصيتها الإنسانة التي عاشت الرسالة بعقلها وقلبها وحركتها.
2 ـــ الموقف الهادئ الصلب:
وهكذا نجد موقفه الهادئ الصلب بعد أن قتل الإمام الحسين (عليه السلام) حيث استطاع أن يصدر التعليمات لعمّته زينب (عليها السلام) التي كانت تعتمد عليه كونه المسؤول من الناحية الشرعية والواقعية عنهم بالرغم من مرضه.
وهكذا أيضاً نراه يقف في مجلس "ابن زياد" ويتحدّث بكلّ صلابة وبكلّ برودة الأعصاب عندما تحدّث "ابن زياد" عن الإمام الحسين (عليه السلام) بطريقة سلبية غير لائقة، فلقد قال له: "هؤلاء قومٌ كتبَ الله عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمعُ الله بينكَ وبينهم فتُحاجَّ وتُخاصم، فانظر لمنْ الفَلْج يومئذٍ"(1).
ولقد كان يعيش هدوء العقل حتى في أشدّ ساعات المأساة. ويقال أنّه كان في الطريق مُتعباً وكانت الرواحل التي أُركبوا عليها عجفاءَ مهزولة وكان مقيّداً على الراحلة، فيأتي إليه شيخ قبل إدخالهم الرؤوس إلى الشام ويقول له "الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح الرجال من سطوتكم وأمكن أمير المؤمنين منكم"(2) إنّه كلام الإنسان الشامت، فلو أنّك تصوّرت نفسك وأنت في هذا الموقف إنساناً ثاكلاً مفجوعاً تتحرّك المأساة معك. فكيف يكون موقفك؟! فالرؤوس مرفوعة على الرماح وأنت تعيش في عمق مشاعرك مع السبايا من أخواتك وعمّاتك، ومع كل هؤلاء الأطفال، هذا المنظر الذي يخرج فيه الناس ليتفرّجوا عليك وعلى من حولك، فأيّة قسوة أشدّ من هذه القسوة؟! ثم تسمع مثل هذه الكلمة من إنسان لا يعرف ماذا هناك، من إنسان غُسل دماغه وعبّئ بطريقة غير صحيحة.
فكيف واجه الإمام هذا الموقف؟ فكأنّي بالإمام (عليه السلام) قد فكّر بأنّ هذا الشيخ كان خاضعاً لدعاية مضادّة، والموقف يقتضي أن لا تردّ عليه بعنف ولكن أن تغيَّر له فهمه للأشياء، وهذا يحتاج إلى عقل مفتوح وإلى إرادة قوية صلبة، وإلى موقف ثابت وإلى برودة أعصاب لا يمتلكها في مثل هذا الوقت إلاّ الذين ارتضاهم الله واصطفاهم للرسالة.
"فقال له عليّ بن الحسين (عليه السلام): يا شيخ! هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل قرأتَ هذه الآية: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(1) قال الشيخ: قد قرأتُ ذلك، فقال له عليّ: فنحنُ القربى يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}(2) قال: نعم، قال عليّ: فنحن القربى يا شيخ، وهل قرأت هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(3) قال الشيخ: قد قرأت ذلك، قال عليّ: فنحن أهل البيت الذين خصصنا بآية الطهارة يا شيخ، فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، وقال: بالله إنّكم هُم؟! فقال عليّ بن الحسين: تالله إنّا لنحنُ هم من غير شكّ وحقّ جدّنا رسول الله، إنّا لنحن هم، فبكى الشيخ ورمى عمامته، ورفعَ رأسه إلى السماء وقال: اللّهم إنّي أبرءُ إليك من عدوّ آلِ محمد من جنٍّ وإنسٍ ثم قال: هل لي من توبة؟! فقال له: نعم"(4).
السموّ الروحيّ:
هذه هي الروح العالية والعقل الهادئ والأعصاب الباردة التي لا تهتزّ أمام أيّة عاصفة. وعندما ننتقل من هناك إلى المدينة رأساً وقد ثار أهل المدينة على بني أميّة وحارَ بنو أمية أين يذهبون قبل (واقعة الحرة) جاء (مروان بن الحكم) مع أولاده وأولاد أولاده وبناته بما يزيد على (400) شخصٍ جاء يستجير بوجوه المدينة من أصدقائه ليؤوا عياله عندهم ولم يجبه أحد، وجاء إلى (عليّ بن الحسين) وهو ـــ أي مروان ـــ الذي كان قد طلب من والي المدينة أن يقتل الحسين إذا لم يبايعه، وقال له (عليه السلام): "ابعث بعيالك إلى عيالي"!! واستضافهم ورعاهم واعتنى بهم مدة طويلة(5)، حتى قالت بعض بنات (مروان) لم نجد من الرعاية في بيت أبينا كما وجدناها عند (علي بن الحسين).
والقصة الأخرى(1) هي أنّه كان والٍ في المدينة يسيئ إلى (عليّ بن الحسين) وإلى أهله فغضب عليه الخليفة ورأى أن يخلّص الناس منه وأعطى الحرية للناس أن يشتموه وأن يضربوه وأن يسبّوه. فكان يعتقد أنّ أقسى من يرد عليه هو (عليّ بن الحسين) وأهل بيته، لأنّه كان قد أساء إليهم كما لم يسئ إلى أحد، كما تقول الرواية: فاجتمع الإمام مع أهل بيته يوصيهم بأن لا يعرضوا له بسوء ولا يسيئوا إليه بكلمة بل يحسنوا إليه، فأتاه وقال إن كان عليك دين فأنا أوفي دينك، ومرّ عليه (بنو هاشم) ولم يتمالك هذا الرجل الذي كان الحقد يملأ قلبه إلاّ أن قال أمام هذه الأريحيّة الإسلامية الروحية {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(2).
درسٌ في السمو الروحيّ:
ووقف على عليّ بن الحسين رجل فشتمه، فلم يكلّمه فلما انصرف، قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردّي عليه. فقالوا له: نفعل، وقد كنّا نحبّ أن تقول له ونقول، فمشى وهو يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3) فلمّا بلغ منزله، وناداه، خرج إليه متوثّباً للشرّ فقال له عليّ بن الحسين (عليه السلام): "يا أخي إنّك كنت قد وقفت عليّ آنفاً قلتَ وقلتَ، فإنْ كنت قد قلت ما فيّ فأنا أستغفر الله منه، وإنْ كنتَ قلت ما ليس فيّ غفر الله لك" فقبّل الرجل ما بين عينيه وقال: بل قلتُ فيك ما ليسَ فيك وأنا أحقُّ به"(4).
ـــ أيّها الأحبّة ـــ نحن بحاجة إلى مثل هذا العقل البارد الذي ينطلق من قيمة روحية إنسانية لا تحمل للآخرين الحقد حتى ولو أساؤوا إليها، بل تعيش في مستوى القيمة الأريحيّة الرائعة، كما فعل كل هؤلاء ولاسيّما مع مروان بن الحكم ومع ذلك الوالي.
وهنالك رجل رأي النبيّ محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام، فقال له إنّك عندما سيطرت على مشركي مكة "قلت: اذهبوا فأنتم الطلقاء". ولكن ماذا فعل هؤلاء في أهلك؟ أرشده النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ حسب الرواية ـــ إلى شاعر نظم مضمون القيمة الروحية في سلوك النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأخلاقي مع مشركي مكّة مقارناً بسلوك بني أميّة مع أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الأبيات:
ملكنا فكان العفوُ منّا سجيّةً فلمّا ملكتم سالَ بالدمِ أبطحُ
وحلّلتمُ قتلَ الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوتُ بيننا وكلُّ إناء بالذي فيه ينضحُ
إنّها الأخلاق الإسلامية ـــ أيها الأحبة ـــ فالإمام انطلق من خلال أنّه الصورة الصادقة للإنسان المسلم الذي يسمع قول الله تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(1)، ويسمع قول الله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(2) فالمؤمن لا يحقد بل إنّه يحبّ لأعدائه أن يهتدوا، كما نقل أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يبكي في عاشوراء، وقيل له لِمَ تبكي؟ قال أبكي لهؤلاء الذين يعذّبهم الله بسببي، لأنّهم أقدموا على قتلي.. كان قلبه يفيض رحمة وحناناً وخوفاً على هؤلاء الذين جاءوا يقاتلونه.
أخلاقنا ليست تجارية:
هذا هو السموّ الأخلاقي ـــ أيّها الأحبة ـــ فالأخلاق في الإسلام ليست تجارية، الأخلاق ليست تبادل منفعة أن تصلني فأصلك، ولكن كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "ثلاثُ خصالٍ من مكارم الأخلاق: تعطي مَنْ حَرَمَكْ، وتصل مَنْ قَطَعَكْ، وتعفو عمّن ظَلَمَكْ"(3).
أن تكون أخلاقك فعلاً نابعة من ذاتك ومن عمق القيمة الأخلاقية في نفسك، لا أن تكون ردّ فعل للآخرين، وهذا ما جسّده الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) في دعاء (مكارم الأخلاق)، هذا الدعاء الوثيقة الإسلامية التي يعيش فيها الإنسان كل الخطوط الأخلاقية التي ترفع مستوى إنسانية الإنسان "وسددّني لأنْ أُعارِضَ مَنْ غشَّني في النصح وأجزيَ مَن هجرني بالبرِّ، وأُثيب مَن حرمني بالبذل، وأُكافئ مَن قطعني بالصلة وأُخالف مَن اغتابني إلى حُسنِ الذكر، وأن أشكُرَ الحسنة وأُغضيَ عن السيئة"(1).
وهكذا كان يسير في الطريق فسبَّه إنسان فأكمل الإمام طريقه، وظنّ الرجل أنّه لم يسمع كلمة السبّ منه، ـــ قال إيّاك أعني ـــ قال الإمام: (وعنكَ أُعْرِض)، والله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(2).
لندخل الله في حساباتنا:
ـــ أيّها الأحبة: إنّ مشكلتنا هي أنّنا نحسب حساب أنفسنا في علاقاتنا ببعضنا ولا نُدخل الله في حساباتنا، فعندما تواجهني بغيظ لا أصبر حتى أغيظك، وتشتمني فأشتمك وتسيء إليّ فأُسيء إليك.
فليكن عندنا الصدر الواسع الذي يتقرّب إلى الله بالصبر ليحصل على أجر الصابرين، ويتقرّب إلى الله بالعفو كما فعل الإمام زين العابدين (عليه السلام) "اللّهم إنّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا"(3). فلن نكون أكرم منك يا ربّ، فلقد عفونا عمّن أساء إلينا وإذا لم تعف عنا فمعنى ذلك أنّنا أكرم منك ولا يكون ذلك فأنت ربّ الكرم وأكرم الأكرمين.
فلنتعلّم ـــ أيّها الأحبة ـــ كيف نصبر على كلمات السلبيين، ولنتعلّم كيف نعفو عمّن أساء إلينا، لنتعلم كيف نعيش العقل المفتوح الذي يفكر بالأمور بانفتاح، ولا يستعجل ردّ الفعل، والقلب المفتوح الذي يمتصّ كل الإساءات بكلّ معاني الخير فيه، والموقف المفتوح الذي يدرس كل الظروف الموضوعية ليعرف هل أن عاقبة تصرّفه خيرٌ أو شرّ؟!
وذلك هو درس الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي يقول: "أحبّونا حبَّ الإسلام"(2) لا حبّ الذات بعيداً عن الإسلام، وإنّ علينا أن ننطلق معهم من حيث ما يجسّدونه من الإسلام حتى يكون الإسلام هو الذي يربطنا بهم وهو الذي يربطنا بالحياة وبالإنسان كلّه، لأنّ الإنسان إذا كان منتمياً إلى دين الله فلا بدّ أن تكون كل علاقاته منطلقة من خطوط هذا الدين، وعلينا كذلك أن نحبّ في الله وأن نبغض في الله.
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الثانية
22/6/1996
التقوى العملية
"إذا أردتَ أن تتدرّبَ على أجواءِ الجنّةِ، فكن الإنسانَ الذي يعيش الصدرَ الواسعَ والصبرَ الجميلَ أمام التحدّيات"
كظم الغيظ:
يقول تبارك وتعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}(1).
في هذه الآيات نداء من الله تعالى باستعجال العمل، وأنْ تتحرّك في حياتك العملية في خط المسؤولية على أساس أنّ عمرك في كلّ يوم هو فرصتك التي قد تكون الأخيرة. ومن هنا فإنّ الله قد فتح لك أبواب المغفرة من خلال العمل الصالح. وفتح لك أبواب جنّته من خلال الانفتاح على مسؤولياتك العامّة والخاصة، فلا تؤجّل عمل اليوم إلى غد.
لا تقل في غدٍ أتوب لعلّ... الغدّ يأتي وأنتَ تحت التراب
وحاولوا أن تعيشوا حركة السباق مع الزمن.. وليس من الضروري أن تعيش السباق مع الآخرين، وإنّما تعتبر عمرك مسؤوليتك.. وهو رأس المال الذي تتاجر فيه ربّك.. وكن واعياً لكل دقيقة كيف تملؤها بذكر الله وفي العمل في سبيله.
التقوى العملية:
لقد جعل الله للجنّة ثمناً.. فهي للصابرين وللعاملين في سبيله.. وللمجتهدين.. كما أنّها لا تعطى مجاناً.. وقد قال عليّ (عليه السلام) متحدّثاً مع أصحابه: "أفبهذا تريدون أن تُجاوِروا الله في دار قدسه وتكونوا أعزَّ أوليائه عنده، هيهات لا يُخدع الله عن جنّتهِ ولا تُنال مرضاتهُ إلا بطاعتهِ"(2).
إنّ المتّقين هم الذين حاسبوا أنفسهم ووقفوا في خطّ الانضباط أمام أمره ونهيه، عاملين على التوازن في حياتهم بين مسؤوليات الدنيا ومسؤوليات الآخرة، فلم تلغِ آخرتهم دنياهم كما لم تلغِ دنياهم آخرتهم، وهم الذين أطاعوا الله في كل ما أمرهم وما نهاهم.
ولكنّ الله ركّز على التقوى العملية فيما يتصل بالناس، لأنّ هناك تقوى تتصل بعملك الفردي فيما تعيش من علاقات مع الناس، فهناك التقوى كل التقوى.. كتقوى العطاء: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء}(1) بأن تعطي من خلال إرادة العطاء في نفسك ولتتقرّب إلى الله بالعطاء. وأن تعطي وأنتَ تعيش في ضيق من أمرك، وأن تعطي ولو كان العطاء قليلاً: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(2).
والأمر الآخر المتعلق بالناس، هو أنك قد تعيش الغيظ عندما تسمع كلمة من الآخرين تؤذيك بحيث تتحدّاك وتثقل قلبك، فكيف بك إذا أردت أن تعيش في أجواء الجنة التي يصفها الله تعالى بقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}(3). حيث لا حقد ولا بغضاء ولا عداوة، ذلك أنّ الجنة كلّها حب وسماح وانفتاح، فإذا ما أردت أن تتدرّب على الجنّة فكن الإنسان الذي يعيش الصدر الواسع والصبر الجميل أمام التحديات.. ادفن همّك.. لا تفجّره بكلمة نابية أو بضربة أو ما شاكل، فلقد قال عليّ بن الحسين (عليه السلام): "ما تجرّعت جرعة أحبَّ إليّ من جرعة غيظ لا أُكافئ بها صاحبها"(4).. وعليك أن تنتصر على انفعالك، فكظم الغيظ ليس مجرّد خلق تعيشه من أجل الآخر، ولكنّه خلقٌ تربّي عليه نفسك، فكلّما كنتَ قادراً على السيطرة على انفعالات الغضب في داخلك كلّما كنت قادراً على دراسة المسألة ووعيها أكثر.
آثار الغضب:
أما عن دراسة الأثر السيء للغضب، فقد قال سماحته: "تذكر أن أسرارك تتكشّف عند الغضب، وتمثّل قول الشاعر:
أغضب صديقك تستطلعْ سريرتَهُ للسرّ نافذتان: السكرُ والغضبُ
ما صرّحَ الحوضُ عمّا في قرارته من راسب الطين إلاّ وهو مضطَربُ
فأنت مع عقلك إذا كنت هادئ العقل والشعورَ والإحساس وإذّاك فلا أحلى منك: كلمات طيبة وسيطرة على أسرارك.. أما إذا شتمك إنسان فعند ذلك تطفح على لسانك كل الكلمات القذرة واللامسؤولة وتبوح بكلّ أسرارك، فكظمُ الغيظ ـــ في هذه الحال ـــ هو حركة قوة تسيطر فيها على إرادتك من أجل أن تفكّر بهدوء.
فعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه عندما مرّ بقوم يتشائلون حجراً ليختبروا أشدّهم وأقواهم، قال: "ليس الشديد بالصُرعة إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(1).
وأوضح سماحته أنّ كظم الغيظ خُلُقٌ يحمي الآخرين منك عندما تغضب، ويحمي نفسك من نفسك عندما يسيطر الغيظ عليك {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(2).. فإذا أردت أن ترتفع روحك وتسمو فحاول أن تحسن إلى مَن أساء إليك.
فليست التقوى أن لا تعصي الله مطلقاً، فكلّنا خطّاؤون نقع في المعصية، ولكن التقوى: هي كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}(1). فمعصية المتقين هي في السطح وأمّا معصية الفاسقين ففي العمق.
فحتّى الشرك إذا تاب الإنسان منه فإنّ الله يقبل توبته كما جاء في الحديث: "لا صغيرة مع الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار"(2) فالصغيرة تصبح كبيرة إذا أصررت عليها، والكبيرة تذوب أمام التوبة.
فعلينا أن لا ننسى ربّنا ولا نغفل عمّا ينتظرنا {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(3) إمّا إذا كنت قد كشفت الغطاء عن عينك وقلبك في الدنيا فإنّك سوف تزداد نوراً هناك.
{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(4).
الافتتاحية الثالثة
29/6/1996
الأمنُ الاجتماعيُّ
"إنَّ المجتمعَ الذي لا يحكم بدونِ بيّنةٍ ولا يتجسّسُ على خصوصياتك.. ولا يذكرُ عيوبَك، يشعر بالأمن الاجتماعي"
الغيبةُ.. الظنّ.. التجسّس:
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(1).
نقدّر قيمة المجتمع ـــ أيّ مجتمع ـــ بمقدار ما يملك الفرد من استقراره النفسي ومن القِيَم التي تحميه من الأوضاع السلبية التي تتحدّى ذاته وسرّه وكتمانه.
وفي هذه الآية يريد الله سبحانه وتعالى للمجتمع المؤمن أن يعيش إيمانه حركة كما يعيشه فكراً وعاطفة، لأنّ الإيمان ليس هو خطوات الفكر ونبضات القلب ولكن الإيمان إنسان تتجسّد فيه كل القيم التي يؤمن بها، فالإيمان هو قصّة ما يتجسّد فيك من خلال ما تفكّر فيه، لا قصّة الكلمة التي لا تتطابق مع الفعل، والفكرة التي لا تنسجم مع الواقع، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(2)، لذلك فإنّ الله يخاطب المؤمن في إيمانه كي يستنفره من داخل فكره ليتحوّل بالتالي إلى واقع، ويستنفر إيمانه من داخل قلبه ليتحوّل إلى منهج في العلاقات الإنسانية في الحياة.
عناصر حماية المجتمع:
لذلك فإنّ هذه الآية تريد أن تركّز على العناصر الثلاثة التي يريد الله تعالى من المجتمع المؤمن أن يحميها:
العنصر الأول: وهو أنّ كل إنسان معرّض إلى أن يحمل الناس عنه انطباعات معينة، ونحن معنيّون أن نحمل الانطباعات عن بعضنا البعض، فهذا مخلص، وهذا مزيّف، وهذا عميل، وهذا كافر، وهذا فاسق، وهذا منحرف، وإذاً فمن الطبيعي أن يعيش كل إنسان في المجتمع الانطباعات بشكل عفويّ أو غير عفويّ عن الناس الذين حوله.
والله سبحانه لا يمنعنا من أن نكوّن انطباعاتنا عن الآخرين، كما لا يمنعنا أن نحكم على الآخرين، فالله يقول لك، عندما تحقّق انطباعاتك عن الآخرين حاول أن تكون تلك الانطباعات منطلقة من حجّة ومن برهان، ومن حقيقةٍ تملك الدليل عليها، فلا تحكم بقناعاتك على الآخرين من خلال الظواهر السريعة، من الكلمات الطائرة والطارئة التي تخرج منهم، والأوضاع التي قد تخضع لظرف معين، ولا تحقّق انطباعاتك عن الآخرين من خلال حدس أوتخمين تخمّنه، بل من خلال عناصر موضوعية تكشف لك، بإشراقة فكر، داخل هذا الإنسان وواقعه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ} والظنّ تعبير عن الحالة الذهنية أو الوجدانية التي لا ترتكز على أساس بل على التخمين {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(1)، كما في خرص شخص التمر من العذق كيفما كان فكذلك البعض (يخرص) أي أنّه يحبّ ويكره نتيجة وضع نفسي أو عاطفي أو انفعالي. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ}(2)، في تفكيركم عن الأشخاص وفي حكمكم عليهم، وفي انطباعاتكم عنهم لأنّ الظنّ لا يمثّل الوسيلة الإنسانية اليقينية التي تركّز على العدل لتحكم به.
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} فقد تكون لك ظنون كثيرة تتّصل بالناس، وقد تكتشف أنّها غير حققية، والقرآن يقول: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}(3). فإذا أردت أن تحقّق انطباعاتك عن إنسان ما فحاول أن تعتمد اليقين، حتى أنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: "ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يجيئ ما يغلبك منهُ ولا تظنّنَّ بكلمةٍ خرجت من في أخيكَ المسلم سوءً وأنت تجدُ لها في الخيرِ محملاً"(4) فإذا كان الواحد في المائة خيراً فاعتبره فلعلّ الحقيقة هي في هذا الواحد في المائة.
وهذا هو ما نستوحيه من قوله سبحانه وتعالى في الخطّ العريض في تكوين الانطباعات وإطلاق الأحكام {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(5)، أي ما ليس لك به حجّة أو برهان، فقد تطلق الكلمة العشوائية التي تحكم بها على الناس يتقبّلونها منك لأنّك صاحب سلطة، ولكنك في غدٍ تقف أمام صاحب السلطة القاهر فوق عباده، المهيمن على الأمر كلّه، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(1)، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(2) فيسأل الله تعالى سمعك وبصرك وعقلك. (فالسمع وما سمع والعين وما رأت والعقل وما وعى) فأحضر من الآن جواباً لنفسك يوم يقوم الناس لربّ العالمين. فلا ينبغي أنْ ننطلق من الظنّ والاحتمال والتخمين في تحقيق انطباعاتنا عن الآخرين، بل نظلّ نبحث ونبحث حتى نصل إلى الحقيقة في عين صافية.
ثم قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} فالأشياء الخفيّة التي يريد الإنسان أن يخفيها سواء كانت سرّاً أو عيباً أو أمراً تجارياً أو أمنياً أو خطاً سياسياً، أو أي شيء هي منطقة محرّمة والله يريدنا أن نحترمها، فلا تقتحم سرّ أخيك إذا أراد أن يحفظه لنفسه، ولا تلق بسمعك لمن يهمس لأخيك الذي إلى جانبك. ولا تلق بنظرك إلى رسالة أو تقرير يقرأه مَن إلى جانبك، وإذا دخلت بيت أخيك فلا تفتح خزائنه ولا تطلعَ على كل ما يخفيه، فلا تتجسّس على حياته المالية وعلى معاملاته التجارية، وإذا رأيت مذكّراته فلا تقرأها، {وَلَا تَجَسَّسُوا} أي لا تقتحموا على أخيكم كل ما يخفيه من شؤونه الخاصة والعامة.
مخاطر التجسّس:
هذا مع ما في التجسّس من فضول، فإذا تحوّل التجسّس ليكون تجسّساً على المؤمنين والمجاهدين والعاملين لحساب أعداء الله ورسوله ولحساب أعداء الأمة، فإنّ الجريمة تكبر وتكبر بحجم النتائج التي تحصل من هذا التجسّس، وهكذا فليس لك أن تتجسّس على أسرار أمتك ووطنك ومجتمعك، سواءً كانت أسراراً اقتصادية أو أمنية أو عسكرية أو سياسية لتقدّمها هديةً إلى أعداء الله، فبعض الناس يصيرون جواسيس مجّانيّين من خلال فضولهم، ومن الناس من يحبّ الكلام كيفما كان، أفلا ترون في ليالي الشتاء عندما تطول السهرة ويتكلّم الناس ثم يسكتون ويندفع صوت ليقول: "إحكوا لماذا أنتم ساكتون؟"!! أي إحكوا كيفما كان، فالمهم أن لا نسكت وأن لا نفكّر، وننسى أنّ (للحائط آذاناً من لحم ودم) و(آذاناً من مسجّلات) و(آذاناً تختبئ هنا وهناك) تسمعكم وأنتم تتحدّثون بحريتكم عن أسرار قياداتكم وعن أسرار أمتكم وعن أسرار وطنكم مجاناً ومن دون عوَض، فيأخذها الموظّفون الذين يسترقون السمع، وقد تقوم بعض الصحف بفضح الأسرار باسم الحرية، وقد تنطلق الإذاعات في ذلك، وقد ورد في الحديث "يؤتى الإنسان يوم القيامة بقارورة فيها دم، فيقال له: خذ، هذا نصيبك من دم فلان، يقول: يا ربّ لقد عشت حياتي ولم أسفك قطرة دم، فيقال: لقد سمعت من فلان كلمة فنقلتها إلى فلان الجبّار فقتله فهذا سهمك من دمه". فكلمتك هي الرصاصة التي انطلقت لتقتله.
مسؤولية الكلمة:
وهكذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ تنطلق مسؤولية الكلمة {وَلَا تَجَسَّسُوا} في أسماعكم وفي أبصاركم وفي كل الوسائل التي تملكونها، إلاّ أن يكون في ذلك مصلحة للأمة، تجسّس على العدو، ولقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرسل عيناً هنا وعيناً هناك حتى يتعرّف على ما لدى المشركين، فهناك تجسّس لمصلحة الأمة قد يكون فريضة، وهناك تجسّس ضدّ مصلحة الأمة وهو جريمة.
فإذا اطلعت على عيوب الناس وكانوا يحرصون على إخفائها، فلا يجوز لك أن تصرّح بها {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} والغيبة هي أن تذكر أخاك بعيب مستور في غيبته والله يصوّر لنا المسألة هكذا {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}(1) فماذا تقول إذا مات أخوك وجاء وقت الطعام وقلت أعطوني سكيناً، فيقال لك ماذا تفعل بها، فتقول لقد كان أخي سميناً أُريد أن أقطّع عضلات يديه أو رجليه لأشويها فأتغذّى بها" فهل مَن يفعل هذا إنسان أم وحشٌ؟ بل هو أشرُّ من الوحش!! {فَكَرِهْتُمُوهُ} أيّ رفضتموه، لكنّكم تفعلون مثله، والغائب كالميّت، فالميت لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، وكرامة الإنسان كلحمه، فبعض الناس قد يقول لك: قطّع من لحمي ولكن لا تقطع من كرامتي، وأخوك في الإيمان هو مثل أخيك في النسب {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2)، وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) إنّه قال: "إيّاكم والغيبة، فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا، إنّ الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبها"(1).
ففي الزنا حق عام هو حق الله، والغيبة فيها حقّ عام، وحقّ خاص، فالله لا يسامح في حقوق الناس إلاّ من يسامحه الناس، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(2) فمسألة الغيبة هي من الممنوعات الإسلامية إلاّ في مقام النصيحة في زواج أو شركة، فلو كنت تعرف أنّ هناك عيباً فيمن يتقدّم للزواج بها فانصحه لأنّ مصلحة النصيحة هنا أهم من مفسدة الغيبة، أمّا عندما تكون مظلوماً وتريد أن تتحدّث عن ظالمك بسوء فتحدّث في حدود ما ظلمك به {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ}(3)، أمّا عندما يكون العيب الذي يخفيه الإنسان عيباً يهدّد مصلحة الأمة، كما لو اطلعت مثلاً على جاسوس للأعداء، فهنا يجب عليك أن تغتابه. وهكذا يجمع الله عناصر الاستقرار النفسي فأنتَ تشعر في المجتمع الذي لا يحكم بدون بيّنة، ولا يتجسّس على خصوصياتك، ولا يذكر عيوبك بالأمن الاجتماعي، الذي هو في المجتمع المسلم أمانة الله.
والحمد لله رب العالمين
الافتتاحية الرابعة(*)
6/7/1996
في مدرسة الحسين (عليه السلام):
لنتعلّم كيف نكون المحاورين
"إنَّ الخلافَ في الرأي لا يعني أنْ نغلق أبوابَ الحوارِ.. حاورْ أولاً وثانياً وثالثاً.. أعطِ وجهةَ نظرك وحاول أن تستمعَ إلى وجهةِ نظرِ الآخرين".
نحن هنا في مدرسة الحسين (عليه السلام) لنتعلّم الإسلام في عقائده وشرائعه ومناهجه وحركته في الحياة، ولنعيَ كذلك الواقع الذي حمّلنا الله مسؤوليته، ولنقارن بين هذا الواقع الذي نعيش فيه، وبين الإسلام الذي أرادنا الله أن نطبّقه على الواقع كلّه، لذلك فمدرسة الحسين (عليه السلام) ليست لها صفة خاصة، إنّها مدرسة الإسلام، فهو من رسول الله ورسول الله من عمق خطّه وحركته.
فماذا ترك لنا الحسين من تراث وماذا حمّلنا من مسؤولية؟ إنّ للحسين (عليه السلام) صورة في معنى الإنسان، وعلينا ـــ أيّها الأحبة ـــ أن تكون صورتنا صورة الحسين، فالدموع التي نذرفها هي الحركة التي نتفاعل بها مع الحسين عاطفياً، فنحن نحبّه بكلّ الحبّ وكلّ الإحساس، ولذلك نفرح لفرحه ونحزن لحزنه ونتفاعل معه، فالبكاء إذاً ليس شيئاً ندعو إليه فحسب ولكنّه شيء نعيشه.
لنتمثّل خطّ الحسين:
إنّ قصّة أن نبكي هي قصّة أنّنا نحبّ، وأن نحزن، هي أنّنا نرتبط به ارتباطاً عضوياً فيما هو ابن الرسالة، فلنبق مع الحزن لا على أساس أن نجعله كل القضية، فقيمته ـــ أي البكاء ـــ في الإنسانية هو أنّه يجعل الإنسان يحتج على المأساة وأن يزداد احتجاجه عليها في الواقع، فالتاريخ كان صناعة الذين عاشوه والذين أحسنوا وأساؤا فيه، أمّا نحن فعلينا أن ننطلق من مبادئنا وخطوطنا الفكرية لنلاحق كلّ مآسي الحاضر وكل الذين يصنعون المأساة فيسقطون ـــ من خلالها ـــ حرية الأُمة، ويبدّلون العدل بالظلم، ويعملون من أجل اضطهاد إنسانية الإنسان ليكون الوحش هو الذي يقود الإنسانية والواقع.
حدّقوا في كربلاء، وكيف كان يتصرّف الحسين (عليه السلام) وتصرّفوا كما تصرّف، لأنّ مشاكلنا صورة عن الخطّ العام للمشكلة التي عاشها، وهي مشكلة الناس الذين لم ينفتحوا على الحق في عقولهم، ولكنّهم انفتحوا على الباطل في غرائزهم، وهذا هو الفرق بين العقل وبين الغريزة، فالعقل يفكّر والغريزة تعتدي، ذاك يحاور وهذه ترفض الحوار، العقل يعطي الحرية للعقل الآخر في أن يعرض وجهة نظره والغريزة تتعصّب، فلا تعطي فرصة للآخر لكي يعرض وجهة نظره، وعندما تكون هناك غريزة تخاطب غريزة فهناك السقوط للعقل وللحق، ولكن عندما يخاطب العقل عقلاً فهناك التفاهم والمجادلة والوصول إلى الحقّ من أقرب طريق.
المنطق الحسينيّ:
مرة أخرى، ماذا كان في كربلاء؟ لقد كان الآخرون يتحدّثون مع الحسين (عليه السلام) ليبعدوه عن الانطلاق في خطّه، وكانوا يخافون عليه، ويحذّرونه، ويخوّفونه، لأنّهم كانوا ينظرون إلى الجانب الذاتي من القضية، وكان الحسين ينظر إلى الجانب الرسالي من القضية، كانوا يقولون له: إنّنا نخاف عليك، وكان يقول لهم بمنطقه: إنّي أخاف على الرسالة والدين، كانوا يقولون له: أصلح وضعك مع الآخرين فإنّهم لا يريدون بك إلاّ خيراً، ولكنه كان يقول لهم: إنّي أفكر أن أصلح أمّة جدي! كانوا يحدّثونه عن المخاطر، وكان يحدّثهم عن التضحيات.
ولو تأمّلنا في كلمات (الفرزدق) التي وصف بها أهل الكوفة "قلوبهم معك وسيوفهم عليك" لرأينا أنّ سيوفهم كانت في خدمة مصالحهم، أما قلوبهم فهي تنبض بمحبّة الحسين لكنها لم ترتفع إلى المستوى الذي يجعلهم يشهرون سيوفهم ضد أعدائه.
وهذه هي الصورة التي عشناها مع الذين يتحدّثون عن محبة الحسين بألف طريقة وطريقة، ولكن عندما جاء الطاغية هنا والظالم هنا والمنحرف هناك أقبلوا عليهم وحرّكوا سيوفهم في أكثر من (حسين) وأطلقوا سيوفهم لخدمة ألف (يزيد).
إنّ مشكلتنا هي أنّنا نستغرق في التاريخ، ولكنّنا لا نحاول أن نحرّك قِيَم التاريخ في الواقع، فأي فرق بين معركة الحسين (عليه السلام) ويزيد وبين المعركة التي بين السيّد محمد باقر الصدر (رض) وصدّام من جهة وبين الشعب العراقي وصدام من جهة ثانية؟ فالذين تخاذلوا هنا هم الذين تخاذلوا هناك، والذين أعانوا الطاغية هنا هم الذين أعانوه هناك.
الحسين في واقعنا:
أمّا في لقاء الحسين (عليه السلام) بزهير بن القين ورفضه ـــ في البداية ـــ دعوة الحسين لنصرته، فإنّ العصبية عنده كانت تعيش في سطح ذاته ولم تتعمّق فيها، حتى إذا حدّثته زوجته ونزلت إلى عمقه انفتح على الحسين واستمع إليه وسقطت الغشاوة عن السطح وانطلق النبع الصافي في قلبه يتفجّر، وبرز مع الحسين (عليه السلام) إلى مضجعه.
وعلى الصعيد الحركي فإنّنا عندما نرى إنساناً منحرفاً عن الحق ومتعصّباً ضدّه، قاسياً في كلماته شديداً في موقفه علينا ألاّ نهمله، فلعلّ الباطل يعيش في سطح قلبه وسطح عقله، وعلينا أن نخاطبه في العمق، فالكثيرون ممّن نعتبرهم أشراراً يعيشون عمق الخير في نفوسهم، وعلينا دائماً أن نبحث عن عنصر الخير في الإنسان، فالخير أصيل في نفس الإنسان والشرّ طارئ عليه، فلا بدّ لنا أن نصبر على الشريرين، وأن لا نهملهم {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(1).
وهذه هي تجربة الحسين الناجحة مع "مسلم بن عوسجة" الذي وقف فيما بعد ليقول "واللهِ لو علمتُ أنّي أُقتَل ثم أُحْيَى ثم أُحرَق ثم أُحْيَى ثم أُذرّى، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتُك حتى ألقى حمامي دونك فكيف لا أفعلُ ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً"(2) فكيف كانت البداية وكيف أصبحت النهاية! فالكثيرون ممّن ساروا في طريق الخطأ هم كـ "زهير بن القين".
شخصية المحاور:
وهكذا في حوار الحسين (عليه السلام) مع (الحرّ بن يزيد الرياحي) ومع الذين قاتلوه في كربلاء، فلقد كانت شخصية الحسين (عليه السلام) هي شخصية المحاور الذي يريد أن يخاطب الطيبة في أنفسهم، ويزيل عنها كل ركام الحقد والبغض والخصام والأطماع، ولم يكن يرفض محاورتهم حتى أنّ (الشمر) عندما نادى: أين "العبّاس" واخوته، ورفضوا أن يتحدّثوا معه طلب "الحسين" منهم أن يجيبوه، وتحدّث مع (عمر بن سعد) فيما يسمّى "مفاوضات" لأنّه كان يريد أن يقول للناس إنّ الخلاف في الرأي لا يعني أن نغلق أبواب الحوار.. حاور أولاً وثانياً وثالثاً.. أعطِ وجهة نظرك.. حاول أن تستمع إلى وجهة نظر الآخرين، لأنّ الناس قد يختلفون في الدين وفي السياسة والاجتماع فإذا كان الخلاف يتمثّل حقداً وعداوة فستنتهي الدنيا ويبقى الخلاف {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ*إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}(1)، فعلينا أن نعرف كيف ندير خلافاتنا بالحوار وبالالتزام بالتي هي أحسن وبالدفع بالتي هي أحسن، وهذا ما مارسه الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا ما انطلق به قبل ذلك القرآن الذي صوّر لنا حوار الله مع إبليس ومع الملائكة ومع الملحدين والمشركين والمنافقين، لأنّ الإسلام كأي دين وكأي فكر إنّما ينطلق من خلال الحوار إلى العقل، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(2)، فإذا ما اختلفنا فليكن الحوار حجّة مع حجّة وبرهاناً مع برهان لا حوار غريزة مع غريزة.
فتعلّموا من كربلاء أن تكونوا محاورين، فالذين يشتمون وجهة النظر الأخرى، ويتّهمونها ويتعسّفون ويعاندون، هم أصحاب (عمر بن سعد) يحاورهم الحسين (عليه السلام) ثم يقولون له: "ما ندري ما تقول ولكن انزل على حكم بني عمّك"(3)، أليس هذا المنطق هو منطق المستكبرين الذين يقولون للمستضعفين: ما ندري ما تقولون ولكن انزلوا على حكم النظام الدوليّ؟!".
وفي الختام: هل نريد أن نكون الحسينيين؟ وإذاً فلا يكفي أن نبكي وأن نلطم أو نجرح رؤوسنا أو صدورنا.. فطالما أنّنا نريد أن ننطلق بالحوار للعالَم كلّه على أساس الإسلام وخطّ أهل البيت (عليهم السلام) وقضايا الحرية والعدالة، فلا بدّ أن نكون المحاورين الذين يجتذبون الآخرين إلى الحوار.
إنّ ما يريده الحسين (عليه السلام) هو أن ننصر خطّه ورسالته وقضيته ومنهجه في الحوار وفي الدعوة إلى الله {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(1).
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الخامسة
13/7/1996
في ذكرى رحيل الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)
ذكرى الكبار تفرضُ علينا أن نكونَ كباراً
"أمةٌ لها مثلُ هذا التأريخ لا تتوقّفُ عنده، بل تصنعُ مثله".
جولة مع التاريخ:
نحن الآن في نهايات شهر (صفر) وقد عشنا في هذين الشهرين (محرّم وصفر) جولة مع التاريخ الذي نحترمه، والتأريخ الذي نبكيه والذي يفتح لنا أكثر من أُفق، ويثير في عقولنا أكثر من شعاع، التأريخ الذي نلتقي فيه بصانع التأريخ، رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم)، ونلتقي فيه بمفجّر حركة الثورة في قلب المأساة، الإمام الحسين (عليه السلام)، كما نلتقي فيه بالإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) الذي عاش مع الناس من خلال ما عاشه مع الله تعالى، فكان انفتاحه على الله هو المدخل لانفتاحه على الناس، ونلتقي بالإمام الحسن (عليه السلام) الذي عاش الروح الثورية، كما عاش الأزمة التي قادته إلى أنْ يسالِم لا عن رغبة في الراحة، ولكن عن حركة في القضية.
وهكذا التقينا بالإمام الرضا (عليه السلام) الذي عاش حياة تختلف في بعض تفاصيلها عن حياة الأئمة (عليهم السلام) لأنّه دخل ـــ ولو من ناحية رسمية ـــ في أجواء السلطة وإنْ لما يمارس السلطة.
هذه الأسماء الحبيبة إلى أسماعنا، والحبيبة إلى عقولنا، والحبيبة إلى قلوبنا لأنّها فتحت قلوبنا على الله وعلى الحق وعلى الإسلام، هذه الأسماء كان لها دور في تأريخنا ودور حتى في صنع شخصياتنا، لأنّنا في انتمائنا إلى النبيّ (صلّى عليه وآله وسلَّم) وأهل بيته نغترف من كل هذا الحوض الذي ملأه بالعلم والمعرفة في الدنيا، وننتظر أن نستقي منه الرحمة والرضوان في الآخرة.
لقد عشنا جولة مع هذا التأريخ الكبير، ولكن، أيّها الأحبّة، هل أنّ القصة عندنا أن نذكر هذا وذاك، وأن نبكي هذا وذاك، وأن ننفتح على عنصر المأساة هنا وعنصر الثورة هناك، لنتجمّد في التأريخ الذي يمثّل مسؤوليتنا؟ فأمة لها مثل هذا التاريخ في حجمه وفي سعته وفي رحابته وقداسته وروحانيته وتضحيته وفي كلّ امتداداته في عمق الإنسان وفي العقل والروح والقلب والحركة، أُمّة تمتلك هذا التأريخ هي أمة ترجع إليه، لتصنع مثله، وهي أُمة تتحرّك من أجل أن يكون كسب ذلك التأريخ إيحاءً لها بأن تكسب مثله، وإذا انطلقت في الظروف التي توسع ساحاتها، فقد تكسب الكثير في السعة أكثر ممّا كانت السعة في الماضي.
الأئمة مرآتنا:
أيّها الأحبّة: لقد خطّ لنا رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) الخطّ ومضى لربّه وامتد الإمام الحسين (عليه السلام) والحسن (عليه السلام) في هذا الخطّ سلماً وحرباً ومضيا لربهما، وسار عليّ بن الحسين (عليه السلام) والإمام الرضا (عليه السلام) وسارت كلّ تلك الصفوة ومضت لربّها، فما هي مسؤوليتنا؟ هل نظلُّ نحدّق بذواتهم ولا نحدّق بالأرض من حولنا ولا بالناس من حولنا، هم مرآتنا لأنّهم مثّلوا الإسلام في صفائه ونقائه، وهم مرآتنا التي نرى فيها مسؤولياتنا لأنّنا نرى فيهم رسالتنا، ونرى فيهم كل حاضرنا ومستقبلنا.
أيّها الأحبة، إنّ الأرض لتهتز من تحت أقدامنا، وفي الدنيا أكثر من بركان يتفجّر لا بالمعنى المادّي ولكن بالمعنى الثقافي والسياسي والاقتصادي والعلمي، والدنيا تتحدّانا من مواقع الاستكبار في الدنيا، لا نزال نناقش في الصغائر من الأمور، فهل فكّرنا مثلاً كيف نضرب رقاب العدو، وكيف نضرب رؤوس الأعداء بالمقدار الذي نفكّر فيه، كيف نضرب فيه رؤوسنا بأيدينا، أيُّ هم هو الهمّ الكبير عندنا؟ هل الهمّ الكبير هو الذي يثقلنا وهو كيف نتنامى في صنع القوّة، والعدو يقول (وقد استمعتم إليه هذا الآتي الذي يعرض عضلاته ـــ أي نتنياهو رئيس وزراء العدو الصهيوني ـــ): "لا تخيفني تهديدات العرب، نحن نصنع الواقع والعرب يتكيّفون، نحن نصنع السياسة والعرب يسيرون وراءنا" ألم تسمعوا بهذا وأنتم تدمنون سماع الإذاعات؟
القوم يتسلّحون وأميركا تعطيهم أقوى السلاح ليضربوننا، وليقتلوننا، وليدمّروننا، وليسقطوا كلّ عزّتنا وحريّتنا وكرامتنا، ونحن نتناقش: كيف يمن لنا أن نضرب رؤوسنا ونجلد ظهورنا، ونظلُّ نلعن بعضنا بعضا، والعدو يصبّ علينا كل لعنات التأريخ.
ـــ أيّها الأحبّة ـــ مَن كان صغيراً بهذا الحجم فليس من شأنه أن يتحدّث عن الكبار، ومن كان يتحدّث عن شخص في حجم رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) وفي حجم عليّ وفي حجم الحسن والحسين وفي حجم الأئمة (عليهم السلام) لا بدّ أن يكون كبيراً في طروحاته، رحباً في آفاقه، قوياً في مواقفه، منفتحاً على كل قضايا الأمة، وقضايا الإسلام.
لنكن كباراً:
فذكرى الكبار ـــ أيّها الأحبّة ـــ تفرض علينا أن نكون كباراً، فلقد كان رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) يفكّر بالإسلام في حجم العالَم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}(1)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(2)، كل العالمين، فلقد كان همّه وهاجسه، كيف يقود إنساناً إلى الله وكيف يفتح عقل إنسان على الله، وكيف يفتح قلبَ إنسان على الله، وكيف يقود الناس إلى الصراط المستقيم، ولقد كان يعيش مع الناس وقلبه يبكي عليهم.. على تخلّفهم وضلالهم.. على آلامهم وانحرافهم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(3).
أيّها الأحبّة، لقد دعا (صلّى عليه وآله وسلَّم) إلى الله، وبشّر وأنذر، وجاهد ثم ذهب إلى ربّه، ونزل القرآن قبل ذلك بقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}(4)، فإذا مات الرسول فلن تموت الرسالة، ولا بدّ لكم أن تبقوا في خطّ الرسالة وفي دربها وفي حركتها وفي همومها واهتماماتها.
أيّها الأخوة:
إنّ الإسلام هو مسؤوليتنا التي نحياها عقلاً وقلباً ومنهجاً وحركة وتحدّياً وردّاً للتحدّي.. وأن يكون كل واحد منّا مسلماً في حجم الإسلام بحيث يعيش همّ الإسلام في نفسه، لينمّي نفسه إسلامياً، وهمّ الإسلام في عائلته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(1)، وأن ننمّي الإسلام في واقعنا كلّه لنملأ الحياة إسلاماً، وأن تكون حياتنا إسلامية، وأن يكون أمننا إسلامياً، وأن تكون علاقاتنا مع الآخرين إسلامية، وأن نكون إسلاماً يتجسّد.
المطلوب حالة طوارئ:
فلقد كان كل واحد من أهل البيت (عليهم السلام) كتاب الله الناطق، والله يريد من كل واحد منّا أن يكون قرآناً يتجسّد في عقله وفي عاطفته وفي أخلاقه وفي قِيَمه ولو بنسبة 20%.
أيّها الأحبة، إنّ مرحلتنا التاريخية التي نعيشها في مواجهة إسرائيل وفي مواجهة الاستكبار العالمي وكل تيارات النفاق والضلال والفسق والفجور وفي مواجهة كلّ تيارات الجهل والتخلُّف التي يروح الناس فيها ويغدون، إنّ مرحلتنا هذه صعبة جداً وقاسية جداً، فالمعركة واسعة سعة العالَم، والتحدّيات كبيرة في مدى الزمن.
فعلينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وسياسية وأمنية واقتصادية حتى نثبت للعالَم أنّنا لسنا الضعفاء الذين تأتي كل أُمّة لتستضعفهم، لسنا الأذّلاء الذين يأتي كل طاغية ليستغلّهم، وأن تكون لنا العزّة من خلال كل روحيّتنا، لكي تكون لنا الحياة من خلال كل مواقفنا وإرادتنا وصلابتنا، وأن نكون الأُمّة ــــ التي قال الله تعالى عنها ـــ {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}(2)، وأن لا نكون المقتولين أبداً.. بل أن نكون القاتلين المقتولين.. وأن نكون الهازمين الذين إذا هزمنا مرّة، فإنّ علينا أن نخطّط لمرحلة أخرى ننتصر فيها، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(1) تعيشون الإيمان متجسّداً في كلّ كيانكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يقول بعضكم لبعض {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(2)، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تنتصرون لله وينتصر الله بكم.. {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}، فلا تسقطوا.. ولا تبكوا.. ولا تنهزموا.. ولا تشعروا باليأس.. إنّها سنّة الحياة {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(3).
فيوم علينا ويوم لنا، ويوم نُساء ويوم نسرَّ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(4).
لنكن مع الحقّ كلّه.. مع الله.. مع العدل كلّه.. مع الله.. مع الخير كلّه. مع الله، ونبقى عباد الله المؤمنين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. والذين ينطلقون في الدنيا ليؤكّدوا رسالة الله، وينطلقون في الآخرة لينالوا رضوان الله {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(5).
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية السادسة
20/7/1996
الكلمتانِ الطيّبةُ والخبيثةُ
"عطاءُ الكلمةِ الطيّبةِ ليس لهُ موسمٌ معيّن، فهي تؤتي أُكلَها كلَّ حين".
الكلمتان ـــ الطيّبة والخبيثة:
في البدء تحدّث سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله عن الآية الكريمة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}(1).
الإنسان المؤمن (كلمة الله):
وتطرّق سماحته إلى أهمية الكلمة الطيبة في الواقع الاجتماعي، فقال: إنّ الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ يريد أن يركّز في وجدان الإنسان أن كل حياته في دورها الإيجابي تختصرها (الكلمة الطيبة) كما أنّ كل حياته في دورها السلبي تختصرها (الكلمة الخبيثة) فالإنسان الذي يعيش العقل كما يريده الله، ويعيش القلب كما يحبّه الله، ويعيش الحركة كما يرضاها الله، هو (كلمة الله) المتجسّدة في إنسانه، ونحن نؤمن أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى عيسى (عليه السلام) صفة أنّه كلمته، وربّما يفسّرها البعض لأنه انطلق من إرادة الله التي يعبّر عنها {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(2).
ولكنّنا قد نستوحي من (كلمة الله) أنّ (عيسى) في كل روحيّته وبكلّ انفتاحه على الرسالة في واقع الإنسان وبكل جهده وجهاده، وبكلّ الحب الذي أعطاه للإنسان وللحياة كلّها، جسّد الكلمة التي يحبّها الله من حيث تجسّدها في الإنسان".
الكلمة القرآنية:
وأفاض سماحته في كيفية أن تتحوّل الكلمة القرآنية إلى فعل يتجسّد في حركة الواقع، فقال:
"نستطيع ـــ أيّها الأحبة ـــ أن نستوحي من كل القرآن أنّ الله أراده أن يغدو كل حياة الناس، ولعلّ القمة في هذا التجسّد القرآني في الإنسان، يتمثّل في النبيّ محمد (صلّى عليه وآله وسلَّم) والأئمة الهُداة من أهل بيته لاعتبار أنّهم القرآن الناطق، فقد تحولوا إلى كلمة، وتحولت الكلمة فيهم إلى عقل وروح وحركة وحياة، وهذا ما يريده الله منّا بأن تتحوّل الكلمة القرآنية عندنا عقلاً نفكّر به في خطّ القرآن، وقلباً نتحسّسه في عواطفنا في عاطفة القرآن، وحركة نعيشها في حركة القرآن، وأن لا تكون الكلمة حروفاً، بل إنساناً، بكل ما تعنيه إنسانيته التي تتحرّك من خلال معاني الكلمات القرآنية، وهذه هي قمّة هدف التربية في الإسلام، بأنْ نحوّل القرآن إلى شيء نعيشه ونحسّه ونتمثّله ونتحرّك فيه.
طيبة تغني الحياة:
هذه هي الكلمة الطيّبة، لأنّ الطيبة ليست محدودة في جانب معيّن، فهي كلمة طيبة لأنّها تغني الحياة وتعطيها حركيّتها وحيويّتها، وهي كلمة طيبة للإنسان لأنها تجعل عقله طيّباً ينفتح بكل الطيب الذي يتحرّك به الفكر فتشعر بطيب الفكر في عقله، وتجعل القلب طيّباً فإذا بالقلب كلّه محبة وخير وانفتاح، وتجعل الحركة طيّبة فإذا بها تنطلق لتعطي فاكهة فكرية هنا، وثمرة روحية هنا، ومشروعاً للحياة هناك.
فالكلمة الطيبة تمثّل كل إيجابيات الحياة وكلّ إنسانية الإنسان ولهذا شبّهها الله تعالى في عطائها وحيويتها وفي امتدادها وفي عمقها بالشجرة الطيّبة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً}(1)، أتريد أن تعرف ما هي الكلمة الطيبة في الواقع، انظر إلى الشجرة الطيّبة، فإذا بها تمتدّ جذورها في أعماق الأرض حتى تكاد تنفتح على الأرض بكلّ عروقها، وإذا بها ـــ أيضاً ـــ تمتد في السماء حتى تبلغ إلى أبعد ما يمكن أن تبلغه أغصان الشجر.
الكلمة الطيبة ليس لها موسم:
ثم إنّ عطاء (الكلمة الطيبة) ليس له موسم معيّن، ففي الربيع تعطيك الثمر وفي الصيف تعطيك وفي الشتاء وفي الخريف.. هذه هي الكلمة الطيبة في صورتها المادية الحسّية، فهي عندما تكون صدقاً، حقاً، وعندما تكون عدلاً، علماً، وعندما تكون خيراً، فهي تؤتي أُكُلَها كل حين، فالخير لا فصل له، فكلّ الفصول فصوله، والحق لا موسم له، فكل المواسم مواسمه، وهكذا العدل وكلّ القِيَم الروحية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} في عمقها، وفي امتدادها، وفي عطائها، {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}(1).
والله تعالى لا يأذن إلاّ بالمحبة {وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}(2)، فالله يضرب المثل بالشيء الحسيّ لننتقل منه إلى الشيء المعنوي {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيا أيّها الإنسان فكّر، وحرّك فكرك وعقلك، وحاول أن تأخذ شيئاً من شيء، وحاول أن تستنتج، ولا تجمد على ما عندك بل طوّره بالانتقال من (الحسّي) إلى (المعنوي) ومن (المعنوي) إلى معنوي آخر.
الكلمة الخبيثة:
أمّا الشجرة الخبيثة {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}(3)، فليس لها جذور، وإذا لم يكن لها جذور في أعماق الأرض، فكيف تكون لها فروع في أعالي الفضاء، فالشجرة تمتدّ في الفضاء بمقدار امتدادها في الأرض، فإذا كانت تعيش على السطح، لا علاقة لها بالعمق، فإنّها ستموت أمام أيّة عاصفة، والكلمات الخبيثة هي كذلك، فكلمة (الكذب) وكلمة (الغيبة) وكلمة (النميمة) وكلمة (الباطل) وكلمة (الظلم) وكل كلمة لا تتعمّق في حياة الإنسان ولا ترتفع إلى الله، فهي قد تترك تأثيراً بين وقت وآخر، لكنّها لا تستطيع أن تصل إلى مستوى الخلود.
أيّها الناس، انظروا إلى الكلمات الطيّبة كيف امتدت وقد مات الرسل ومات الأولياء، ويبقى القرآن أمدَ الدهر يمتدّ فكراً وقيمة وحركة وحيوية، وانظروا إلى الكلمات الخبيثة، كيف ذهبت مع الرياح، فيما يبقى الله وتبقى كلماته، ويبقى الإنسان يحلّق في الكلمات الطيّبة التي ترتفع إلى الله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}(4) ، فهل لنا أن نأخذ بالكلم الطيّب في حياتنا الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية حتى ينطلق الكلم الطيب ليغني حياتنا؟.
أيّها الأحبّة: فكّروا فيما يخلد، ولا تفكّروا فيما يموت.. {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ}(1) تلهون بها لحظة أو لحظتين {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} في كلّ الحبّ الذي تعطونه، وفي كل الحقّ الذي تثبّتونه، وفي كل الباطل الذي تهدّمونه {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ويبقى الأمل عند الله للعاملين الصالحات يخضرُّ في حياتهم، وينطلقون للخضرة اليانعة في الجنّة التي أعدّها الله للمتّقين في أُخراهم.
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية السابعة
27/7/1996
في ذكرى المولد النبويّ الشريف:
رسالة العظيم هي القيمةُ الكُبرى
"قد يكونُ مولدُ العظيم قيمة، لكنّ رسالته هي القيمةُ الكبرى".
في هذه الأيام نستقبل ذكرى ولادة نبيّنا محمد (صلّى عليه وآله وسلَّم) وإذا اختلف المسلمون في موعد الذكرى فإنّ المسألة لم تعد خلافاً بين تاريخ لأهل السنّة وهو الثاني عشر، وتاريخ لأهل الشيعة وهو السابع عشر من ربيع الأول، فإنّ الشيخ (الكليني) ثقة الإسلام يرى في (الكافي) أنّ المولد النبوي هو في الثاني عشر من ربيع الأول، ومن هنا فإنّ المسألة ليست سنيّة ـــ شيعية ليختلف الفريقان على أساس التاريخ باعتبار أنّهم قرّروا الخلاف في كل شيء، لأنّ تاريخ الثاني عشر التقى فيه بعض علماء الشيعة مع بعض علماء السنّة، والسؤال متى يكون تأريخ ولادته ليس مشكلة كبيرة، لأنّ القضية هي أن نتمثّله هو في رسالته المتمثّلة في شخصه، فرسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) إسلام كلّه، وهو القرآن الناطق، عقله عقلُ الإسلام، وقلبه قلب الإسلام، ومنطقه منطق الإسلام، وحركته حركة الإسلام، فليس فيه شيء غير الإسلام حتى وهو يعيش في بيته مع عياله، وحتى وهو يتحدّث مع الناس. فرسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) لا يمكن أن يقترب من الباطل حتى في طريقة أكله وشربه.
التكامل في شخصية الرسول (صلّى عليه وآله وسلَّم):
ولهذا فإنّ الحديث عن أنّ رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) يخطئ في غير مجال التبليغ، حديث عن تقسيم شخصية رسول الله، فبعض الناس الذين يتحدّثون عن عصمة في التبليغ وعن خطأ يمكن أن يمتدّ إلى الانحراف العملي أو في واقع الحياة، لا يعرفون حقيقة الإنسانية، وهي أنّ الإنسان واحد فينا، فأنت إمّا أن تكون معصوماً بكلّك، وإمّا أن تكون غير معصوم بكلّك، أمّا أن تكون معصوماً في جانب، وغير معصوم في جانب، فمن الذي جزّأ عقلك حتى يلتقي بالباطل تارةً ويلتقي بالحق أخرى فتضع بذلك الفواصل لتجعل فيه منطقة للحق وأخرى للباطل؟ ومَن الذي قسّم قلبك فجعلك تنفتح في عاطفتك على الحق تارةً، وتنفتح على الباطل تارةً أخرى، ليكون هناك فاصل بين الحق والباطل في قلبك.
أيّها الأحبّة، إنّنا نفهم معنى العصمة في النبوّة من خلال فهم معنى النبوّة في الدور، فهي ليست مجرّد شخص يحمّله الله رسالة ليكون بمثابة ساعي البريد للناس في إبلاغ الرسالة ويرجع إنساناً عادياً كبقية الناس. وهي في معناها: رسالة الله التي لا بدّ أن تتجسد في الرسول كما في الوحي، بحيث أنّ الله يريد أن يغيّر العالم على أساس الحق من خلال إنسان يتجسّد فيه الحق، وإذا عرفنا أنّ الله الذي يخلق الشمس نوراً كلّها، ويخلق ماءً يتفجّر بكلّه ويعطي بكلّه، فلماذا لا نتصوّر أن يخلق الله إنساناً هو النورُ كلّه؟ كيف هو النورُ فيه؟ لقد خلق الله له عقلاً فيه كل الإضاءة فلا ينفتح إلاّ على الحق، خلق له قلباً يملك موازين العاطفة في حركة العاطفة بالحقّ، وهداه الصراط المستقيم في حركته.
حقيقة الخطاب الإلهيّ:
أمّا أنْ يتحدّث الناس عن بعض الآيات القرآنية التي تقول إنّ الله تعالى عاتب رسوله (صلّى عليه وآله وسلَّم) كما في {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}(1)، ففي القرآن خصوصية لا بدّ أن ننتبه إليها وقد حدّثنا عنها أحد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهو الإمام محمد الباقر (عليه السلام) فقد روى عنه أنه قال "إنّ القرآن نزل بــ إيّاك أعني واسمعي يا جارة"(2) فالله إذ يخاطب نبيّه يخاطب الناس من خلاله ليقول لهم إذا كان خطاب العنف في فرضية الانحراف يوجّه إلى النبيّ فكيف بكم؟! إنه يريد أن يصوّر عظمة القضية التي يعنّف فيها في خطاب النبيّ لا لأنّ النبيّ (صلّى عليه وآله وسلَّم) يعيش أجواء هذه المسألة، ولكن ليعرّفنا سبحانه وتعالى أنّ المسألة بمستوى الخطورة التي لو صدرت من النبي لكان لله عزّ وجلّ منه موقف عنيف، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}(3)، فهل أنّ فرضية أن يشرك الأنبياء الذين جاءوا بالتوحيد هي فرضية معقولة؟ بالطبع لا.
ولكن كما يقول الفلاسفة فإنّ (فرض المستحيل ليس مستحيلاً)، وكما في قوله سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}(4)، ولذلك فإنّ الله تعالى أراد أن يؤكّد بشرية النبيّ في حياته، ولكنها بشرية معصومة بالوحي وبالعلم الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى له، وعندما قال رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"(5) فمعنى ذلك أنّ العلم كلّه اجتمع في ذاته، فهو المدينة وهو الذي تجد العلم فيه، وعندما يتحدّث عليّ (عليه السلام) عن علمه فإنّه يتحدّث عن التلمذة على رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم). ولذلك علينا أن لا نغلو فنساوي عليّاً (عليه السالم) بالرسول (صلّى عليه وآله وسلَّم) أو كما يغلو البعض فيرفعه فوقه، في حين أنّه يقول "علّمني رسول الله" فأنا تلميذه "ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب"(1).
فمعنى قوله تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}(2) أنْ ليس للنبيّ هوىً يدفعه إلى أن يتكلّم أيّةكلمة مخالفة لما يريده الله، ولذلك كانت كلماته شريعة، وكان فعله كذلك شريعة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(3).
لذلك ـــ أيّها الأحبّة ـــ افهموا القرآن عندما يتحدّث عن رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) بأسلوب قد يوحي بحسب بعض قواعد اللغة العربية بأنّ الكلام موجّه إليه وهو ـــ في الحقيقة ـــ ليس موجهاً إليه وإنّما يخاطبنا من خلاله، فلقد تعلّم رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) من القرآن هذا الأسلوب عندما أراد أن يعبّر عن خطورة مسألة معيّنة تتّصل بالنظام العام لانضباط الناس في الحق أنّه قال: إنّما أهلك من كان قبلكم أنّهم إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها فهل يمكن أن تتصوّر فاطمة (عليه السلام) تسرق وهي التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيراً، كما أذهب عن أهل البيت (عليهم السلام) ذلك، ولكنّه أراد أن يبيّن أنّ الإسلام لا يمكن أن يتسامح مع أي إنسان يمكن أن يصدر عنه الخطأ حتى لو كان في هذا المستوى.
العمل هو الأساس:
ففي (طبقات ابن سعد) أنّ رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) عندما كان في مرض الموت وكان إلى جانبه عمّه (العبّاس) وعمّته (صفيّة) وابنته (فاطمة) التفت إليهم بأسمائهم وبصفاتهم النسبية: "يا عباس بن عبد المطّلب، يا عمّ رسول الله إعمل لما عند الله فإنّي لا أُغْني عنك من الله شيئاً، يا صفيّة بنت عبد المطّلب، يا عمّة رسول الله إعملي لما عند الله فإنّي لا أُغْني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد يا بنت رسول الله إعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنكِ من الله شيئاً" أي أنّ العمل هو الأساس والشفاعة تأتي في مرتبة متأخّرة، لهذا علينا أن نفهم بأنّ رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) هو الحقُّ كلّه، وأنّه العدل كلّه، وأنّه النورُ كلّه، والصفاء كلّه.
وعندما نقف في ذكرى رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) نلاحظ شيئاً يتّصل ببعض تقاليدنا الجديدة، وهو أنّ القرآن الكريم وحتى في السنّة النبوية الشريفة لم يتحدّث عن مولد أيّ نبيّ إلاّ نبيّين فقط وهما موسى (عليه السلام) لأنّ الله أراد أن يتحدّث عنه من باب كرامته به والمعجزة في ذلك، وأراد ذلك كجزء من تصوير البيئة وسيطرة فرعون عليها، فالمولد هنا مرتبط بطبيعة القصّة لأنّ له معنى خاصاً.
ولادة السيّد المسيح (عليه السلام):
والمورد الآخر، هو ولادة عيسى (عليه السلام) باعتبار أنّها مظهر لقدرة الله وإلاّ فإنّ الإسلام بشكلٍ عام لا يهتم بمناسبات المولد، بما هي تأريخ للحظة تاريخية معينة بعيداً عن المفاهيم العقيدية والتربوية، ولكنّ ذلك لا يعني بالضرورة تأكيد حديث بعض الناس أنّ الاحتفال بالمولد بدعة فهذا كلام لا معنى له.
ففي الإسلام حركة العظيم هي القيمة الكبرى، ودور العظيم هو القيمة، ورسالة العظيم هي القيمة، ولذلك نرى أنّنا عندما تحدّث القرآن الكريم عن النبيّ (صلّى عليه وآله وسلَّم) لم يتحدّث عن مولده أبداً {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ}(1)، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}(2).. الخ، فكلّها تتحدّث عن الرسالة، وهكذا بالنسبة للأنبياء وعلى هذا فإنّ الإسلام يريدنا أن نرتبط بالناس من خلال دورهم الحركيّ، فبمقدار ما يملك الإنسان من دور حركي وعطاء للإنسانية بحيث يغني الحياة، يمكنك أن تتحدّث عن تاريخه، فتاريخ الإنسان يبدأ من دوره لا من ولادته، وقد نحتاج أن ندرس حياة الإنسان منذ ولادته لنفهم بعض المؤثّرات، أو تحيط بالشخصية كلّها، كما في اهتمامنا بحياة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) منذ ولادتهم.
أفضل هدية:
ولهذا فنحن نحتفل في مولده وفي مبعثه وفي إسرائه وفي معراجه على أساس أنّنا نحتفل به بصفة أنّه رسول الله وأنّه يمثّل الإنسان الكامل، وأنّه يمثّل قرآناً يتحرّك، فلقد كان الناس يقرأون القرآن من خلال كلماته، وكانوا يقرأون القرآن من خلال سيرته، وكانوا يسمعون منه الآيات ويتمثّلونها وفي ملامحه وفي كل حركته وحياته.
ومن هنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أتريدون أن تقدّموا هدية لرسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) في عيد مولده كما اعتدتم ذلك في تقديمكم هدية لإنسان ما في عيد ميلاده؟ لا تقدّموا له الزينات في شوارعكم، ولا أناشيد المولد في موسيقاكم وألحانكم وحسب بل ليقدم كل واحد نفسه إلى رسول الله مسلم القلب والحركة والعلاقة والتطلّع ليقول له: يا رسول الله إنّي أقدّم نفسي كمسلم يعيش الإسلام من خلال كل ما عشته وبلّغته، فهي أعظم هدية تقدّمها لرسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم).
وإذا كنتَ تعصي الله قبل ذلك في الصغير والكبير وجاء يوم المولد وأصبح الصباح عليك فتُب إلى الله من ذلك وقدّم توبتك هدية لرسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) فإنّه جاء ليتوب الناس عن الشرك، وعن الكفر، وعن المعصية.
وإذا كنت متعصِّباً لعائلتك أو لشخصك أو لمن تحب، فقل لرسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم): يا رسول الله كما أنّ الذين أسلموا على يديك منذ البداية رفضوا عصبيّاتهم وجاءوا إليك من أجل أن يعيشوا الرسالة معك بعيداً عن العصبية فإنّنا نرفض العصبية.
أيّها الأحبّة، ليعش رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) في عقولنا عقلاً إنسانياً منفتحاً على الحقّ، وليعش في قلوبنا عاطفة إنسانية تتحرّك في الخطّ العاطفي على أساس الحق، وليعش رسول الله في حياتنا حركة للدعوة إلى الله، وللجهاد في سبيله.. وليكن كل واحد منّا رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) ولو بنسبة الواحد إلى الألف، وليكن فينا شيء منه، من أخلاقه، ومن تقواه، ومن روحانيّته، ومن حركته، ومن بطولته في سبيل الله، فذلك هو معنى المولد ومعنى الاحتفال بالمولد.
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الثامنة
3/8/1996
في ظلال المولد النبويّ:
لنتجدَّد بتجدّد ذكراه
"خُذوا مولدَ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من عقله وقلبه وروحه وأخلاقه وستُولدون من جديد".
لا نزال في أجواء ذكرى المولد، وهي ذكرى الرسالة لأنّ رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) بكلّه رسالة، فقد انطلق قبل أن يبعثه الله رسولاً ليجسّد أعلى معاني إنسانية الإنسان في عقله، فكان المتأمّل الذي يعيش مع الله في صدقه وأمانته حتى أن كلمة (الصادق الأمين) تحوّلت إلى اسم له، وكان الإنسان الذي يلتقي عليه الجميع لأنّه وحده الذي لم يجدوا لديه أي خطأ في الفكر وأي خطأ في الكلمة، وأي خطأ في السلوك وفي العلاقات.
فلم يذكر أحد في تاريخه، وتاريخهُ قبل البعثة أربعون سنة، أيّ عيب له أو نقصاً أو انحرافاً، ومن هنا ففي الوقت الذي قال الله له: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(1)، كان يعيش روحية الإيمان وروحية الكتاب، لذلك اختاره الله نبيّاً بعد أن كانت النبوّة روحيةً في عقله وفي سلوكه، فكان المعصوم قبل النبوّة كما هو المعصوم بعد النبوّة.
الرسول والرسالة:
ولذلك نستطيع أن نقول أنّه (صلّى عليه وآله وسلَّم) جسّد الخطوط العامة للرسالة في معنى الإنسان في الرسالة قبل أن يبعثه الله رسولاً.
فنحن لا نستطيع أن نفصل بين رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) وبين رسالته، هو الرسالة الناطقة، فيما الكتاب هو الرسالة الصامتة، ونحن نعرف أن لا بدّ للصمت من حيوية نطق لتجلّي معانيه، وكان رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) يجلّي معاني القرآن في أخلاقه، فكانت أخلاقه كما قالت إحدى زوجاته (أخلاق القرآن) وكان يجسّد القرآن في روحانيته، فكانت روحانيّته روحانية القرآن في كلّ خصائص الروحانية.
وعندما حدّثنا الله تعالى عنه، فقد حدّثنا عن رسالته، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ (أي وقّروه) وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1) فعندما نقرأ هذه الآية فإنّنا نتحسّس أنّ حركة الرسالة تجري في حركته، فهو بالرغم من أنّه نبيّ أميّ {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(2)، {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(3) ولكنّه النبيّ الذي لم تكن أميّته جهلاً، ولكنه إذا لم يكن يمارس القراءة والكتابة فقد أعطى للقراءة والكتابة معيناً لا ينضب على مدى التاريخ يكتبه الناس منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً، ولا زال الناس بحاجة إلى أن يكتبوا الكثير، ويقرأ الناس منه ما بلّغه من كتابٍ وما قاله من سنّة، ولا يزال الناس يقرأونه بحثاً وتحليلاً وفكراً، ويبقى الرسول الأميّ يعطي للعالم أعلى أنواع الثقافة ويحرّك فيه أعمق مواقع الفكر بحيث يمتدّ فكره حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، لأنّ فكره وحيّ من الله ووحيّ يمثّل الامتداد في كل مواقع الإنسان في الحياة لأنّه الوحي الذي ينطلق من خالق الإنسان {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(4) وهكذا نجد أنّ الله ركّز في هذه الآية على الإتباع {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}(5) فالله يكتب رحمته لمن يتّبعه لا لمن ينتمي إليه انتماء الكلمة، ولا لمن ينطلق معه بعيداً عن حالة الإتباع {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} هذا العنوان الكبير هو للمسلمين، أمّا في موقع الدعوة فإنّه يتحدّث عن اتباع القرآن، {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون.
الانتماء إلى الرسالة:
وعلى هذا الأساس نعرف ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن المسألة الإسلامية هي في انتمائنا إليه، وانتمائنا إلى رسالته وهي قضية اتباع لا قضية انتماء، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}(6) شريعة تختزن الفكر في جوانب العقيدة، وتختزن القانون في جوانب الشريعة، وتختزن كل المفاهيم التي تتّصل بالكون وبالإنسان وبالحياة، اتبعها ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون.
فكل ما عدا الإسلام هوى، وكل من يدعو إلى غير نهج الإسلام عقيدة وشريعة وأسلوباً ومنهجاً فهو يتّبع الهوى، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} لا يعلمون عمق القضايا ولا امتداداتها، {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}(1) وهب أنّهم يملكون المال، فتتبعهم من أجل مالهم، وهب أنّهم يملكون الجاه فتتبعهم لتأخذ بعضاً من جاههم، هب أنّهم يملكون السلطة فتنحني تحت تأثير سلطتهم، هب أنّهم يعطونك بعض لذاذات الحياة وبعض شهواتها، ولكنّهم ماذا يملكون؟ إنّهم ـــ إذا وقفت غداً بين يدي الله ـــ وأراد الله أن يصيبك ببلاء، أو أن يصيبك بضرّ، لن يغنوا عنك من الله شيئاً، لن ينفعوك قطّ، فالله تعالى يملك أمرك، ويملك ما تملك ويملك مَنْ حولك، ويملك الحياة كلّها.
فلو أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل الليل عليكم سرمداً مَنْ إلهٌ غير الله يأتيكم بضياء، ولو أنّ الله أراد أن يجعل النهار عليكم سرمداً مَنْ إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه، ولو أنّ الله أراد أن يجعل ماءكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين، ولو أنّ الله أمسك عنكم هذا الهواء الذي تتنفّسون، أمسك عنكم نبات الأرض فجعل الأرض لا تنبت، مَنْ الذي يخرج ذلك، هل هؤلاء؟ إنّهم لن يغنوا عنكم من الله شيئاً.
الأسلوب القرآني في التعامل:
وهذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ هو أسلوب قرآني في التعامل، فإذا واجهك الناس بمظاهر العظمة فتذكر عظمة الله، وقارن بين عظمة الإنسان وعظمة الله.. فسترى أنّ الإنسان لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}(2)، إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإن الظالمين أنفسهم بالكفر، والظالمين أنفسهم بالفسق وبالانحراف، والظالمين أنفسهم بالبغي والعدوان بعضهم أولياء بعض.. يساعد بعضهم بعضاً.. ويتبع بعضهم بعضاً، فما دخلك بالظالمين، {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}(3) فمن تريد أن يكون وليّك؟ هل تريد أن يكون الله مالك السماوات والأرض وخالق الكون كلّه، أو أن يكون فلان الذي خلق كما خلقت، وسيموت كما تموت، ويمرض كما تمرض، ويتألّم كما تتألّم {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}(1)، {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}(2)، {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}(3).
البصيرة والوعي:
فهذا الحديث وهذا الخطّ والاتجاه بصائر للناس تبصّر عقولهم بحقائق الأشياء عندما يأتي الآخرون ليربطوهم بسطح الأشياء {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} المهم أن يكون قلبك مبصراً، فإذا كنت أعمى القلب مفتوح العينين فما قيمة عينيك عندما لا يتدخّل قلبك ليوجّههما إلى معنى ما ترى وإلى سرّ ما تبصر.
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} فاستبصروا وتبصّروا به، {وَهُدًى} فاهتدوا به {وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ}(4) ثم يقول الله لنا {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ}(5) أتظن أنّك تعصي الله في الصباح وتعصيه في المساء ثم تريد منه أن يدخلك جنّته؟ قالها عليّ (عليه السلام) لأصحابه وإذا كنتم من أصحابه فاستمعوا له بوعي "أفبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يخدع الله عن جنّته" {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} فلا يمكن أن يساوي الله سبحانه وتعالى بين من يعيش عمره في الانحراف وفي المعصية وبين مَن يعيش عمره في الإيمان والعمل الصالح {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(6).
لقد أقام الله السموات والأرض على الحق، فالسماوات والأرض تتحرّكان في موسيقى الحق التي نسمعها بعقولنا قبل أن نسمعها بآذاننا، فلا تكن نشازاً عندما تنسجم الموسيقى الإلهية بالحق، لا تكن نشازاً يخرّب الأجواء الإلهية، كن الإنسان الذي يتحرّك عقله بالحقّ وقلبه بالحق وحياته بالحق حتى تنسجم مع الحق الذي ينهمر نوراً من الشمس، وحتى تنسجم مع الحقّ الذي ينهمر مطراً من السماء، وحتى تنسجم مع الحق في كل ما أودع الله من القوانين في سنّته في الكون. ولقد خلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت.. هذا هو حقّ العدل، {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(1)، لأنّ الله لا يمكن أن يظلم أحداً ذلك لأنّ من يحتاج للظلم هو الضعيف، والله هو القوي.
معاني وآفاق المولد:
ـــ أيّها الأحبّة ـــ
مولده (صلّى عليه وآله وسلَّم) يمثّل حركتنا في اتجاهه، ويمثّل حركتنا في مسيرته، ويمثّل انفتاحنا عليه، على عقل رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) المشرق بالله، وعلى قلبه المشرق بكلّ المحبة والعاطفة والحنان على الناس {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(2).
فلننطلق معه، ولنعش آفاقه، ولنتجدّد بتجدّد ذكراه، ولنركّز إسلامنا في الحياة كلّها، وفي الواقع كلّه. ولنبنِ في كل بيت من بيوتنا بيتاً للإسلام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(3) فإذا أردتم أن تعيشوا مع أولادكم ومع عيالكم في الجنّة {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(4) بما صبرتم على طاعة الله، وبما صبرتم على تجنّب معصيته وعلى بلائه، فالمهم أن يكون أمرك صالحاً لتلتقي بهم هناك، وأن تكون زوجتك صالحة لتلتقي بها هناك، وأن تكون ذرّيتك صالحة لتلتقي بها هناك، لأنّ القيامة تقطع العلاقات إلاّ علاقات الإيمان {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(5)، إنّ لكم صداقاتكم في الدنيا.. ولكن هل تبقى الصداقات؟!.. صداقة واحدة هي التي ستبقى، وهي الصداقة القائمة على التقوى، والتي تنطلق من الحب في الله والبغض في الله، والصداقة التي تنطلق من موالاتك لأولياء الله ومن معاداتك لأعداء الله {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}(1) تقولون إنّنا مسلمون وكلٌّ يحمل جواز سفر إلى الجنّة بمجرد انتمائه {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} فلا تعيشوا في الأماني {وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}، {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى}(2) فالله لا قرابة لا بالمسلمين ولا باليهود ولا بالنصارى {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}(3).
إنّه خط عناصر الشخصية الفردية وعناصر الشخصية الاجتماعية {وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}(4) فالكل تحت الغربال، ولكن مَن هم فوق الغربال {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(5) وهذا عمق شخصية الفرد الذي يعيش البلاء {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} وهذا عمق المجتمع المسلم وهو أن يوصي بعضكم بعضاً بالحق، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أن يوصي بعضكم بعضاً بالصبر إذا كلّفكم الحق مشقّة أو تضحية، وفي نهاية المطاف {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}(6) بأنْ تتواصوا بأنْ يرحم بعضكم بعضاً.
ـــ أيّها الأحبّة ـــ هذا هو محمد (صلّى عليه وآله وسلَّم) في قرآنه وفي مولده، فخذوا المولد من عقله ومن قلبه ومن روحه ومن أخلاقه، فستجدون أنّ كلّ واحد منكم يولَد من جديد مسلماً كما هو الإسلام في ذكرى ولادة رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم).
فنحن ولدنا منذ زمن ولكن أن نولَد مسلمين محمديّين.. فهذه هي الولادة التي يمكن أن تجعلنا نحسّ إسلامنا بحق، ونحسّ حياتنا في الضوء المنطلق من الرسالة.. ومن قلب صاحب الرسالة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(7)، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(8).
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية التاسعة
10/8/1996
العزّةُ كمفهومٍ قرآنيّ
"الخوفُ شيطانيّ... والذين يخوّفون النَاس أولياءُ الشيطان".
من المفاهيم القرآنية التي اهتم بها الإسلام في القرآن، مفهوم (العزّة) فلقد جعلها الله تعالى لنفسه {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ}(1).
وقد تحدّث هؤلاء الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين والذين سمّاهم الله سبحانه بــ (المنافقين): {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(2).
وهكذا نرى أنّ الله سبحانه وتعالى يتحدّث عن العزّة لذاته المقدّسة، كما يتحدث عن العزّة لرسوله وللمؤمنين ممّا يوحي بأنّ هذا المفهوم أصيلٌ في معنى القيمة في أيّة ذات حتى الذات الإلهية التي تختزن العزّ كلّه من حيث أنّها تختزن القوّة كلّها، لأنّ قضية أن تكون عزيزاً هي قضية أن لا ينفذ الضعف إليك، ذلك لأنّ الذلّ ينفذ إلى الإنسان من خلال الضعف الذي يستغلّه القوي ليسقط ذاته أو يحطّم موقعه.
أمّا عندما يكون الوجود كلّه قوّة، لا ضعف فيه ولو بأصغر نسبة، فإنّ من الطبيعي أن تكون العزّة له. فلقد تحدّث الله عن نفسه بقوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(3)، لأنّ كل قوي يستمدّ قوته منه، ومن خلال ذلك فإنّ كل عزيز يستمدَّ عزّته منه، من خلال هذه القوة الموهوبة له.
العزّة قوّة:
ولهذا رأينا أنّ الله يتحدّث بالتفصيل في هذه المسألة العامّة، في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(4)، فالعزّة منه والذلّة منه لأنّ القوة منه والضعف منه، ولأنّه الخالق لذلك كلّه، وعلى ضوء هذا أراد الله لرسوله أن يأخذ بالعزّة فلا يضعف أمام أي مخلوق، وأمام أي موقع، ليبقى عزيزاً قوياً أمام الإغراء فلا يذلّ نفسه من أجل إغراء يجتذبه فهو أكبر من الشهوة ومن اللّذة، وبذلك يكون أقوى من الإغراء، وهذا ما تمثّلناه في كلمة الرسول (صلّى عليه وآله وسلَّم) عندما جاءه عمّه "أبو طالب" يعرض عليه ما عرضته قريش من الملك إنْ شاء مُلْكاً، ومن المال إنْ شاء مالاً، ومن الجاه إنْ شاء جاهاً، فقال له الكلمة الخالدة "يا عمّ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك"(1)، وهكذا رأيناه يصمد أمام التخويف فقد اندفع إليه كل أولئك العتاة من أهل (الطائف) هذا يشتمه وهذا يرميه بحجر، وذاك يدفعه حتى أخرجوه من الطائف واستند إلى شجرة هناك وقال كلمته الخالدة التي يخاطب الله فيها "إنْ لم يكن بكَ عليّ غضبٌ فلا أُبالي"(2).
عزّة المؤمنين
ومن هنا، كان رسول الله (صلّى عليه وآله وسلَّم) القوي أمام التخويف، الذي لا يجد في نفسه أيّ ضعف لأنّ نفسه اختزنت القوة من الله سبحانه وتعالى، فلم يبقَ فيها شيء من الضعف، وانعكس ذلك عندما {أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(3). وهكذا أراد للمؤمنين أن يكونوا الأعزّاء {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(4). لأنّ الله أراد للمؤمنين أن يكونوا أقوياء: أمام الإغراء فلا يسقطون أمام لذةٍ تعرض عليهم، أو شهوة تجتذبهم، أو مال يمكن أن يسقط إرادتهم، لا يسقطون أمام التخويف أيضاً، وهذا ما حدّثنا الله عنه في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ}(5). وسيهجمون عليكم، وسيقتلونكم وسيسقطونكم وسيصادرون كلّ شيء فيكم {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} لأنّهم عندما خوّفهم الناس بقوة الناس انفتحت عليهم قوّة الله كمثل الشمس وبدأوا يقارنون بين قوة الناس المتناثرة في إنسان يملك بعض القوة ومعها الكثير من الضعف، ويتطلّعون إلى الله القوي الذي له القدرة جميعاً، ويشعرون بأنّ هؤلاء الأقوياء استمدوا القوة من الله وهو القادر على أن يسلبهم قوّتهم لأنّه الذي أعطاهم الحياة وهو القادر على أن يسلبهم الحياة، كما قال سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ*إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(1).
الخوف الشيطانيّ:
يقول تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ}(2) فالخوف الشيطاني والذين يخوّفون النّاس هم أولياء الشيطان الذين لا يملكون بفعل وسوسة الشيطان أيّة قاعدة للقوّة في أنفسهم، ولذلك يخافون ويخوّفون، أمّا الإنسان الذي يرتبط بالله ويخاف من الله وحده، ولا يخاف من أحد، فهو إنسان يمتلأ قلبه وعقله وروحه بالله فلا يمكن أن يدخل في قلبه أيّ خوف من غير الله، {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3)، لذلك فأن تكون مؤمناً يعني أن تخاف الله ولا تخاف غيره.
الإيمان عزّة:
ولقد قلنا في حديث سابق أنّ هناك فرقاً بين أن (تخاف) وبين أن (تحذر) فالخوف يسقطك والحذر يفتح عينيك على ما في الدرب وعلى ما حولك ومن حولك.
لذلك ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن تكون مؤمناً يساوي أن تكون عزيزاً، وقد قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وهو يفسّر هذه الآية "إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً" فالمؤمن يكونُ عزيزاً ولا يكونُ ذليلاً، وقال: "إنَّ المؤمن أعزُّ من الجبلِ، الجبلْ يستقلُ منه المعاولِ والمؤمن لا يستقلُّ من دينهِ"(4)، فليس لك أن تذلّ نفسك لفرد أو لجماعة أو لدولةٍ أو لمحورٍ أو لأيّ شيء، فربّما يضغطون على جسدك، ولكن تبقى لك حرية عقلك، بأن تفكّر بحرية، وحرية قلبك بأنْ ينبض بحريّة، وحرية قرارك بأنْ ينطلق بحرية، وحرية موقفك، فالإنسان ليس جسداً يمكن أن يضغط عليه الآخرون ليسقطوه، ولكنه عقلٌ وإرادة وقلب وموقف وقرار، فحاذروا أن يكون عقلكم ضعيفاً أمام عقول الآخرين، وأن يكون قلبكم ساقطاً أمام قلوب الآخرين، وأن تكون مواقفكم وقراراتكم ومواقعكم محكومة للآخرين، فإنّك عندما تكون المؤمن فأنت العزيز.
وقد أكمل الإمام الصادق (عليه السلام) كلمته بالقول: "إنّ المؤمن أعزّ من الجبل" انظر إلى الجبل في قوّته وصلابته وامتداده في أعماق الأرض وفي شموخه في الفضاء، كيف هو الصلب القوي الذي تأتي الرياح ولا تهزّ منه شيئاً، ومع ذلك فــ (المؤمن أعزّ من الجبل، الجبلُ يُستقلَ منه ــ أي ينقطع منه بالمعاول فتنزل منه حجارة هنا وحجارة هناك، يستقلّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستقلّ من دينه)(1) يبقى دينه في عقله وقلبه وحركته وعلاقاته وموقفه وموقعه، ولن يستطيع الآخرون أن يسقطوا منه شيئاً بل يبقى مع الله عندما شعر بالضعف: "اللهم إنّي أسألك إيماناً لا أجل له دون لقائك، أحيني ما أحييتني عليه، وتوفّني إذا توفّيتني عليه، وابعثني إذا بعثتني عليه". إنّ دين المؤمن يبقى حيّاً في عقله متجذّراً في كيانه، متحرّكاً في حياته. وإن دينه ينطلق ليحدّد له قراراته وقناعاته الثقافية، ومواقفه السياسية والاجتماعية، وعلاقته الإنسانية.
درس العزّة:
فكونوا الأعزّاء في عقولكم، حتى يكون عقلكم عقلاً عزيزاً لا يسقط، وكونوا الأعزاء في قلوبكم، حتى تكون قلوبكم عزيزة لا تستعبد، وكونوا الأعزاء في واقعكم حتى يكون واقعكم حيّاً صلباً لا مجال فيه للضعف، فإذا جاءكم الضعف فحاولوا أن تستعيذوا بالله حتى تستمدّوا القوّة منه في كل مواقفكم، وفي كل مواقعكم فهو الذي يعطيكم العزّة والغنى والرفعة ولن يفعل ذلك غيره، كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): "فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ من غيرك فذلّوا وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا". وهكذا جاء في الحديث: "من أراد عزّاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"(1).
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية العاشرة
17/8/1996
"الأمانة" و"الخيانة"
"خيانة الأُمة أعظمُ الخيانة، وهي إثارةُ الفتنة بينَ أفرادِها".
إنّ "الأمانة" تقابلها "الخيانة" فقد ورد في الحديث: "بُنيَ الإنسانُ على خصال فمهما بُنيَ عليه فإنّه لا يُبنى على الخيانة والكذب"(1)، فإذا خان أو كذب فإنّه ينحرف عن خطّ الإيمان ولا يكون مؤمناً في مثل هذا الجو، والله يخاطبنا ــ في كتابه الكريم ــ من موقع صفة الإيمان، وعلينا أن نعرف بأنّ الله عندما يخاطبنا بهذه الصفة فإنّه يريد أن يستفزّ إيماننا في داخلنا بحيث يخاطب العقل المؤمن والقلب المؤمن والإحساس المؤمن والعمل المؤمن ليقول لنا: إنّ معنى أن تكونوا مؤمنين هو أن تتحرّكوا في هذا الخطّ، ومَن لم يتحرّك في هذا الخطّ فليس بمؤمن.
خيانة الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} ـــ إذا كنتم مؤمنين ـــ هذا هو إيحاء النداء {لاَ تَخُونُواْ اللّه}(2)، وخيانة الله معصيته، وخيانته الانحراف عن خطّه، وخيانته موالاة أعدائه ومعاداة أوليائه، وخيانةُ الله هي العمل مع الحركة التي تقوّي الكفر وتضعف الإسلام، {لاَ تَخُونُواْ اللّه}، ولكن كما قال الله لبني إسرائيل {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}(3) لأنّ الإيمان هو عهدٌ بين الله وبين عباده، فأنت تعاهد الله من خلال إيمانك على أنّك توحّده ولا تشرك به شيئاً في الربوبية والعبادة والطاعة، وإنّك تؤمن برسله وبرسالاته وباليوم الآخر، فإذا وفيت بعهد الله فإنّ الله يفي لكَ بعهده بأنْ يرحمك في الدنيا والآخرة، وأن يمنحك رضوانه ومغفرته وعفوه ونعيمه في دار الخلد وفي دار السلام.
خيانة الرسول (صلّى عليه وآله وسلَّم):
{لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ} (4)، وخيانة الرسول تتمثّل في عصيانه فيما بلّغه عن الله وفيما شرّعه بأمر من الله، وفيما أوصى به، وفيما خطّط له، وفي الأمانة التي وضعها بين أيدينا.. وهي أمانة الإسلام بأن نكون الدعاة إليه بعد انتقاله إلى رحاب ربّه، وأن نكون العاملين من أجله والمجاهدين في سبيله، وأن لا يضعف الإسلام أمامنا ونحن في حالة الاسترخاء، بل أن يكون الإسلام مسؤوليتنا في عقيدته، بأن نحمي عقيدته، وفي شريعته بأنْ نعمل على تركيزها في حياتنا العامة والخاصة وفي كلّ أهدافه فيما يريد الله للحياة أن تقوم على العدل، وعلى الحرية، وعلى العزّة والكرامة.
خيانة الأمانة:
{وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ}، وللناس أمانات مع بعضهم البعض، فكل عقد من العقود في أي شأن من الشؤون المالية أو الزوجية أو في الشؤون السياسية، أيّ عقد بينك وبين إنسان آخر إذا كان مستجمعاً للشروط الشرعية فإنّه أمانة الله عندك، وأمانة الناس عندك.
أمانة الله عندك لأنّه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(1)، {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}(2)، وأمانة الناس عندك لأنّ أي إنسان التزم معك والتزمت معه بأنْ أعطيته كلمتك وأعطاك كلمته، فلا تنقض عهدك إذا أضاع الإنسان وثيقة العقد الذي بينك وبينه ولا تنكر دينَه إذا أضاع السند الذي كتبت له الدين فيه.
وهكذا إذا عقدت على امرأة من دون أن تسجّل ذلك العقد بطريقة رسمية فلا تنكر عقدك معها إذا اصطدمت ببعض المشاكل، فالعقد التزام والالتزام أمانة، وعليك أن لا تخون أمانتك.. أمانة الناس عندك، فإذا لم تفِ بالعقود التي عقدتها مع الناس فأنت خائن لأمانات الناس.
خيانة السرّ:
ثم أنّ السرّ أمانة، فإذا أودع الإنسان عندك سرّاً، أيّ سرّ كان، فإنّك إذا أفشيته كنت خائناً لأمانة أخيك، وربّما كانت أمانة السرّ أكثر خطورة من أمانة المال لأنّ سرّ الإنسان قد يقتله إذا افتضح فيه لا سيما إذا أعطي السرّ للظالم، وهنا تأتي مسألة أن يكون الإنسان مخبراً للظالم أو جاسوساً للمستكبرين، إنّه بذلك يكون خائناً لأخيه ولله ورسوله.
لذلك.. حذارِ.. حذار من أن يكون الإنسان عيناً أو جاسوساً للكافرين والظالمين والمستكبرين من أعداء الله ورسوله لأنّه يخون الله ورسوله في المواقع الكبرى أو المواقع الصغرى، ونحن نقرأ في الحديث المأثور عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): ما مضمونه "يؤتى للإنسان يوم القيامة بقارورة فيها دم، فيقال له خذ هذا نصيبك من دم فلان، فيقول يا ربّ كيف يكون هذا نصيبي من دم فلان ولم أهرق دماً، فيقال له: سمعت كلمة من فلان، فنقلتها إلى فلان الجبّار فقتله" فكلمتك هي الرصاصة التي أصابت قلب هذا الإنسان.. فقد تكون الكلمة أنفذ من الرصاص، لذلك حاذروا أن تتحدّثوا عن أسرار الناس سواءً كانت حديثاً مجّانياً أو لحساب أيّة جهة من الجهات.
لا تخن من خانَك:
وهكذا في خيانة المال، فليس لك أن تخون المال إذا أودعه إنسان عندك حتى لو خانك، فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّ رجلاً قال له: كان لي دينٌ على فلان فجحد دينه ثم استودعني مالاً وقبلت وديعته، فهل لي أن آخذ ماله في قبال مالي، قال: إذا خانك فلا تخنه، هب أنّه خانك ولكنّه ائتمنك على ماله وقبلت أمانته وما دمت قد قبلت أمانته فعليك أن تؤدي له أمانته حتى لو كان خائناً لأنك إذا خنته فأنتَ مثله، والمؤمن لا يخون. وقد ورد في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: "اعلم أنّ ضارب عليّ (عليه السلام) بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثمّ قبلت ذلك منه لأدّيتُ إليه الأمانة"(1).
أعظم الخيانة:
لذلك ـــ فمسألة الأمانة حاسمة وخطيرة، فهناك أيضاً أمانات الأمة عليك، لأنَّ عليّاً (عليه السلام) يقول: "أعظم الخيانة خيانة الأُمّة"(2) وخيانة الأمّة تحصل بالفتنة بين أفراد الأمة لا سيّما في الأوضاع التي تعيش فيها الأمة أخطر أزماتها، عندما تتحرّك لتثير مشكلة تخلق فتنة ولتطرح موضوعاً يشعل حرباً، ولتجعل الواقع يخوض في أمور هامشية لا تمثّل قضايا المصير فيما العدو يدقَّ الباب ليدخل أرضك وبيتك.. ويثير الزلزال ليزلزل الأرض من تحت أقدامك.. إنّ كلّ مثير للفتنة خائن للأُمة، وهي أعظم الخيانة لأنّ هناك فرقاً بين أن تخون شخصاً وبين أن تخون أُمة، أو بين أن تخون شخصاً في مالٍ تأخذه منه وبين أن تخون أمة في حرية تسلبها وفي ذلّ تفرضه عليها، وفي ضعف يحلّ بها.
أخطر مراحل التأريخ:
لذلك ـــ أيّها الأحبّة ـــ فإنّ هذه المرحلة هي من أخطر المراحل التي مرّت في كل التأريخ على العرب والمسلمين، فالاستكبار العالمي يحاول أن يحيط بنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وشمائلنا كالشيطان.. فالشيطان الأكبر يتلبّس بأخلاق الشيطان، الذي قال لله بعد أن أمهله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(1)، والشيطان الأكبر يريد أن يحيط بنا حتى يصادر كل ثرواتنا وكل سياساتنا وكلّ أمرنا وكل واقعنا حتى نتحول إلى شيء لا معنى له بلا ثروة وبلا أمن وبلا سياسة لنمدّ أيدينا إلى فتات موائده.
الشطيان الأوسط:
وهناك "الشيطان الأوسط" الذي هو إسرائيل الذي استلب أرض المسلمين ويريد أن يستلب الأرض الأخرى، ونحن في غفلة عن هذا.. يمزّق بعضنا بعضاً ويشتم بعضنا بعضاً ويتّهم بعضنا بعضاً ونتحرّك هنا وهناك بعيداً عن كل القضايا المصيرية.
إنّ أعظم الخيانة في هذه المرحلة هي خيانة وحدة الأمة. هب أنّنا نختلف في أشياء كثيرة، ولكن هل فرّقت إسرائيل بين شيعي وسنّي في (فلسطين) أو في جنوب لبنان، أو في (الجولان) أو في أي بلد آخر. وهل يفرّق الاستكبار العالمي بين إيران وأفغانستان وبين الشيشان؟! إنّهم يريدون كل ما عندنا ونحن نتحدّث ونتنازع ونختلف كما لو كنّا في غير خطر.
ـــ أيّها الأحبّة ـــ إنّ مشاكلنا الداخلية تنتظر، ولكن مشكلة الحرية أمام الاستكبار العالمي والصهيوني لا تنتظر.. كما أنّ مشكلة العزّة والكرامة لا تنتظر.. والقصة هي أن يكون لنا مكان في العالَم، وهم لا يريدون لنا مكاناً في العالَم.
الشيطان الأكبر يريد لإسرائيل أن تكون سيّدة المنطقة ويريد أن يقنع هذا البلد العربي وذاك بأنّ الطريق إلى أميركا تمرّ بإسرائيل.
الخائنون أمّتهم:
ولذلك يقولون أخلصوا لإسرائيل تخلص لكم أميركا، فهذه خيانة وكل من يطبّع العلاقات مع إسرائيل يخون أُمته، وكل من ينحني لإرادتها يخون أُمته، وكل من يثير الخلافات بين المسلمين لحساب أجهزة خفيّة تريد الإضرار بالإسلام وبالمسلمين يخون أُمته.. وكل من يشغل الناس عن قضاياهم المصيرية يخون أُمته، ومَن خان أمته فلا يجوز لأحد أن يدافع عنه.
مَن أنا ومَن أنت ومَن الآخرون أمام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي يخاطبه الله بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}(1)، ولا تكن للخائنين مدافعاً، {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}(2)، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}(3) فكيف نحبُّ مَن لا يحبّه الله؟!
أيّها الأحبّة: من السهل علينا أن نصلّي لأنّنا اعتدنا الصلاة منذ طفولتنا، ومن السهل علينا أن نصوم وأن نذهب للحجّ والحج سياحة، ولكن من الصعب علينا أن نكون الصادقين في موقف يكون الكذب فيه هو الربح، وأن نكون الأُمناء في موقف تكون الخيانة فيه هي الدنيا، ولقد قلتها مراراً بأنّ مشكلتنا في علاقاتنا بأئمّتنا هي أنها دائماً علاقة عين تدمع في الوفيّات وأكفٍّ تصفِّق في الموليد، فيما يريد الأئمة (عليهم السلام) أن نبكي على كل نقاط الضعف فينا لنحوّلها إلى نقاط قوّة، وأن نبكي كل هزائمنا لنحوّلها إلى انتصارات، وأن نبكي كل الذلّ لنحوّله إلى عزّة.. وأن نبكي كل العبودية التي تفرض علينا لنحوّلها إلى حريّة.. وأن نعرف كيف نقيس الأشخاص.
طريقة معرفة الرجال:
يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) ما مضمونة إذا أردتم أن تعرفوا الرجل فلا تنظروا إلى طول ركوعه وسجوده، فلعلّها عادة اعتادها، ولكن اختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة فلربّما يقضي الإنسان ليله في العبادة ونهاره في الصيام ولكنّه يكذب ويكذب، ويخون ويخون، فأيّة صلاة هي هذه، والصلاة ـــ كما يريدها الله ـــ تنهى عن الفحشاء والمنكر فعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه قال "مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعداً"(1) وأي صيام هو هذا، والصيام ـــ كما صمّمه الله ـــ حركة في التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2).
الصدق.. الصدق:
أيّها الأحبة، إنّنا بحاجة إلى صدق في الفكر، وصدق في العاطفة، وصدق في الحركة وفي الموقف والموقع.. صدق مع الله ومع النفس ومع الناس، والتزام بالأمانة مع الله ومع الناس {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} المسؤولية {عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}(3)، حملها ولم يتحمّل مسؤوليتها فظلم نفسه، وجهل ما يقبل عليه من نتائج فضاعت المسؤولية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(4) وستعرفون نتائج ذلك في الدنيا والآخرة.
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الحادية عشرة
24/8/1996
المسؤولية في عناوينها المتشعّبة
"إنّ الله لا يريدُ للإنسان أنْ يعيشَ ازدواجيةَ الشخصية بين فكرٍ ينطلقُ مع الحقّ وقلبٍ يتحرّك مع الباطل".
عنوان كبير:
"المسؤولية" عنوان كبير يمثّل حركية الإنسان في كل مواقع حياته: أمام نفسه، وأمام الله، وأمام الناس، لأنّ الإنسان عندما يريد أن ينطلق في حياته ليفعل أو ليتحرّر، ليؤيّد أو ليرفض، ليتحرّك أو يسكن، لا بدّ له من أن يوجّه لنفسه سؤالاً لماذا ذلك كلّه، لماذا أنطلق في هذا الاتجاه ولا أنطلق في غيره. لماذا الصدق لا الكذب، لماذا الأمانة لا الخيانة، لماذا كلّ ذلك؟
عندما يعيش الإنسان في وعيه للكون، وفي وعيه لربّه الذي خلقه وخلق الكون كلّه فإنّ عليه أن يعرف موقع ربّه منه، ومقام ربّه، وموقفه من ربّه. هل أنّ الله خلق الناس وتركهم يتحرّكون كما يريدون، يضرّون أنفسهم أو ينفعونها يسيئون إلى بعضهم أو يحسنون، هل أطلق الله الإنسان في هذا الكون ليعيش الفوضى في غرائزه في كلّ أوضاعه؟
لقد قال سبحانه وتعالى للإنسان، لقد خلقتك لتكون خليفتي في الأرض ولتمارس دور الخلافة من خلال ما أعطيتك من طاقات في عقلك وفي قلبك وفي كلّ حركتك. أنتَ خليفتي في الأرض لتعمّر الأرض ولتجعلها ساحة يسودها الخير والمحبّة والسلام. ولتجعلها موقعاً من مواقع الطاعة. فالخلافة عن الله لا بدّ لها من برنامج، وقد وضع الله البرنامج للإنسان في إيحاءات عقله بما يحكم به عقله، وفي وحيه الذي أنزله على رسوله.
فأنت ـــ أيّها الإنسان ـــ أمام الله عبدٌ بكلّك.. ليست لك حرية أمام ربّك.. لأنّه {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ*فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}(1)، فإنّك لا تملك نفسك لأنّك لم تخلق نفسك. ولا يملكك أحد لأنّه لم يشارك في خلقك، وحتى أبواك وهما ـــ من الناحية الطبيعية ـــ وسيلة خلق الله لك، لا يملكانك. والعبودية ـــ بعد ذلك ـــ تفرض الطاعة، والطاعة تتحرّك في خطّ المسؤولية، فأنتَ مسؤول عن كلّ شيء في حياتك الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية. مسؤول عن نفسك وعن الناس من حولك بحجم ما تتّصل مسؤوليتك بحياتهم. ومسؤول عن الحياة: كيف تعطيها من عقلك وقلبك وطاقتك، ومسؤول عن الأرض التي تسكن عليها.
من وحي القرآن:
فتعالوا نقرأ في كتاب الله بعضاً من آيات المسؤولية بشكل موجز:
{تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ} أيّها الكاذبون ـــ أيّها الكافرون ـــ أيها الضالون المضلّلون ـــ {تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ}(1)، فالافتراء سواءً كان افتراءً على الله أو على الرسل، أو على كلّ عباد الله وأوليائه. لن يكون شيئاً يملك حريّته.. ستسأل عنه {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2) ستسأل عن كل عمل سواءً في حياتك الفردية أو العامة.
ــــ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(3) فالله سيسأل الأنبياء هل بلّغوا؟ وكيف بلّغوا؟ وكيف واجهوا المشكلة وكيف تعاملوا معها؟ وكيف انطلقوا في مواجهة التحدّيات؟ وسيسأل الله الرسل ونحن نقرأ في القرآن الكثير ممّا يتحدّث به الله مع الرسل {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي الناس الذين هم مجتمع الرسالات. (4) امشوا معنا.. ولنحمل خطاياكم.. ونتحمّل مسؤوليتكم.. نحملها في رقابنا.. ألسنا نقول أحياناً "كُلْ من هذه وعلى رقبتي"، "امشي معي وعلى ذمّتي"، "اعمل هذا العمل وعلى مسؤوليتي"، انطلقوا إلى هذا الخطّ وأنا أتحمّل المسؤولية"، وهذا هو منطق الكافرين، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ}(5) فكيف يحملون خطاياهم والله هو الذي يحمّل كلّ إنسان خطاياه، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(6) إنّهم لا يملكون خطاياهم، ولا يملكون ما يغفر خطاياهم فكيف يدّقون على صدورهم، ويقولون لهم "إنا نحمل خطاياكم! إنّهم لكاذبون {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}(1) في إضلالهم وفي خداعهم {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} عندما يضعون أنفسهم في الموقع الذي يقولون فيه للناس "إنّنا نحمل خطاياكم".
مسؤولية الوفاء بالعهد:
وهكذا نجد أنّ الله يتحدّث عن المسؤوليات في كل حركة الإنسان التعاقدية: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}(2). عهدك مع ربّك.. وعهدك مع زوجك.. وعهدك مع أولادك.. ومع كل الناس الذين تتعامل معهم، {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} فسيسألك الله عن العهد. ثمّ أنّ هناك مسؤولية دقيقة.. دقيقة.. وصعبة.. صعبة {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إنّ السمع في المسموعات.. والبصر في المبصرات.. والفؤاد في المعقولات {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(3) فأنت سمعت.. ولكن كيف سمعت؟! ورأيت، ولكن كيف رأيت؟ واقتنعت، فعلى أيّ أساس اقتنعت. فليست القضية كلمةً تقولها، أو نظرة تلقيها، أو فكرة تنتمي إليها، ولكنّ القضية هي كيف تُحرز ذلك كلّه، وكيف تجيب ربّك عن ذلك كلّه؟
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(4)، {وَقِفُوهُمْ} والقوم يتراكضون وينطلقون في المحشر يميناً وشمالاً، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}(5)، ومن هنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ ينطلق إحساس المسلم من خلال شعوره بالمسؤولة أمام الله في كل أعماله في الدنيا، وأنّ الآخرة تمثّل اليوم الذي يحصل فيه على نتائج المسؤولية، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(6)، وعندما تنطلق في تفاصيل المسؤولية، فإنّ مسؤوليتك تجاه ربّك هي أن توحّده، وأن تستقيم على خطّ التوحيد في كل ما يفرضه خطّ التوحيد عليك من توحيده في الطاعة وفي العبادة وفي الحركة وفي كلّ شيء.
مسؤوليتنا إزاء الرسالة:
إنّ مسؤوليتك عن الرسالة والرسول هي أن تكون مع الرسول في رسالته، وأنْ تتحمّل مسؤوليتها في الدعوة، وأن تتحمّل مسؤوليتها بالنصرة، وأن تتحمّل مسؤوليتها بأن تعيش في كيانك، وهكذا تنطلق في مسؤوليتك لتوالي مَن والى الله ولتعادي مَن عادى الله، فقلبك يتحرّك في دائرة مسؤوليتك كما هو عقلك وكما هي حياتك، فليس قلبك ـــ والحال هذه ــــ حرّاً في أن يحبّ من يشاء ويكره من يشاء، بل لا بدّ أن يتحرّك حبّك في خطّ فكرك، وأن يتحرّك بغضك في خطّ فكرك.
إنّ الله لا يريد للإنسان أن يعيش ازدواجية الشخصية بين فكر ينطلق مع الحق وقلب يتحرّك مع الباطل، وحركة تنطلق هنا وهناك لتأخذ حقاً من هنا وباطلاً من هناك، إنّ الله يحشرك بكلّ شخصيتك ويريدك أن تكون مسلماً عقلاً وقلباً وحركةً في الحياة.
أن لا تكون مجزّءاً.. يقول الله تعالى: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً}(1) .
المسؤولية الفردية والاجتماعية:
وهكذا هي مسؤوليتك عن نفسك في حياتك الفردية.. أن تصوغ نفسك على الإيمان، وعلى التقوى، وأن تفتح عقلك ليفكّر بحريّة ومسؤولية ولتفتح قلبك ليتحسّس بحريّة وبمسؤولية.. وأن تحمي حياتك، فليس لك أن تقتل نفسك لأنّك لا تملك حياتك.. بل مسؤوليتك أن تحميها من الخطر ومن الضرر، وأن تحميها من كل ما يذلّها ومن كلّ ما يسقطها، ومن كل ما يستعبدها: "لا تكن عبْد غيرك وقد جعلك الله حرّاً"(2).
كما إنّ عليك أن تنطلق في حياتك الاجتماعية لتشعر بنفسك جزءاً من مجتمع، ولا بدّ لك أن تتحمّل مسؤوليتك عن مجتمعك من خلال مسؤولية الجزء عن الكلّ. وأن تحمي مجتمعك من كل ما يسقطه، ومن كل ما يفسده، ومن كل ما يمزّقه. فليس لك أن تتكلّم في المجتمع بمزاجك، ولكن عليك أن تدرس مجتمعك وكلمتك فلعلّها تمثّل ناراً تحرق الكثير من الهشيم الاجتماعي، وبذلك تحرق المجتمع كلّه، ولذلك فلا بدّ للإنسان عندما يحرّك كلماته في المجتمع، وعندما يحرّك خطواته في المجتمع، وعندما يحرّك علاقاته في المجتمع، أن يحرّكها بطريقة مسؤولة، يلحظ فيها علاقة ذلك كلّه بسلامة المجتمع وباستقراره في كلّ جوانبه.
المسؤولية الوطنية:
عندما تنطلق في وطنك الذي يمثّل إنسانيّتك، فإنّ الوطن ليس أرضاً وحسب، فبإمكان الإنسان أن يستبدل أرضاً بأرض أخرى فعليّ (عليه السلام) يقول: "خير البلاد ما حملك" لأنّ الوطن هو إنسان، وقيمة الأرض في أنّ حريتها تتّصل بحرية الإنسان، فالأرض المستعبدة يمكن أن تنتج إنساناً مستعبداً، والأرض الجديبة يمكن أن تسيء إلى حياة الإنسان.. فخصوبتها هي خصوبة حياته، وحريّتها هي حرية ذاته وهكذا في هداها وفي ضلالها.. إنّ وطنك هو مسؤوليتك، لأنّه وطن الإنسان وعليك أن تحمي إنسانه بحماية أرضه وأن تحمي حريته بحماية استقلاله بشرط أن لا يكون الوطن دائرة مغلقة تغلقها على نفسك وتنفصل عن الآخرين.
إنّ وطنك دائرة مفتوحة على دوائر أخرى صغيرة وكبيرة، فلا بدّ أن تشعر بمسؤوليّتك إزاءه وأن لا تكون حيادياً أمام الذين يستعمرون وطنك ويستعمرون إنسان وطنك، وان لا تكون حيادياً أمام الذين يضغطون على قرار وطنك، وأمام الذين يسقطون إنسانه وأن لا تكون حيادياً أمام الذين يظلمون إنسانه ويتعسّفون في التعامل مع أوضاعه ومع أرضه، ولذلك فإنّ وطنك هو مسؤوليتك، سواءً فيمن يسيطر عليه، أو فيمن يفسده، أو فيمن يجلب الفقر والحرمان إليه. لا تقل كذاك الشاعر:
ما علينا إن قضى الشعبُ جميعاً أفلَسنا في أمان؟!
لأنك لن تكون في أمان إذا لم يكن وطنك آمناً، وشعبك آمناً ومجتمعك آمناً. فالأمن الفردي ـــ لا سيما في مجتمعاتنا التي نعيشها بتركيبة معيّنة ــــ وهمٌ عندما لا يكون هناك أمن جماعي، فإذا أمنتَ اليوم فستخاف غداً، وإذا أمنت من جانب فسوف تخاف من جانب آخر، لذلك، حافظ على أمن المجموع لتكون آمناً، وحافظ على حريّة المجموع لتكون حرّاً، وحافظ على عزّة المجموع لتكون عزيزاً.
المسؤولية السياسية:
ننطلق ــ أيّها الأحبّة ـــ لنواجه مسؤوليتنا السياسية في كل مواقع السياسة في العالم، وفي كل خطوطها التي تتّصل بكل مواقع حياتنا.. وبكل قضايا المصير.. وبكل قضايا الثروة في أرضنا، وبكلّ قضايا التحدي والصراع في ساحاتنا، فعليك أن تكون الإنسان المسؤول بحجم طاقاتك.. وأن لا تعيش فرديّتك في نطاق القضايا الكبرى، عش فرديتك في غذائك.. وفي شرابك.. وفي ملبسك وشهواتك الخاصة بشرط أن تكون من حلال، ولكن إذا انطلقت فرديتّك لتكون حاجة للمجتمع فاترك فرديّتك وكن الإنسان ـــ المجتمع الذي يحتضن المجتمع في عقله ليفكّر عقله اجتماعياً، والذي يعيش المجتمع في قلبه ليتعاطف اجتماعياً، فيحاسب نفسه في كل كلمة وفي كل موقف، وفي كل عمل، وليحاسب نفسه أمام ربّه حتى يستطيع أن يحضّر لكلّ سؤال ـــ في خطّ المسؤولية ـــ جواباً، لا تحضّر دفاعاتك بعد أن تعمل العمل، ولكن حضّر دفاعاتك قبل أن تبدأ العمل، وأن لا تقدّم رجلاً ولا تؤخر أخرى حتى تعلم قبل أن تقدّمها، أو تؤخّرها، أن في ذلك لله رضا.
فالقضية، كلّ القضية ـــ أيّها الأحبّة ـــ فيما نتكلم وفيما نعمل وفيما نؤيّد ونرفض، وفيما ننشئ من علاقات ونتّخذ من مواقف، هي هل يرضي الله ذلك أو يسخطه؟ كن حرّاً أمام الناس كلّهم.. وكن حرّاً أمام الكون كلّه، ولكن إيّاك أن تتحسّس حريتك أمام ربّك لتقول أنا حرّ أمام ما يفرض ربيّ عليّ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(1)، وقالها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلينا أن نتأسّى به في كل مواقع الحياة وصراعاتها وضغوطاتها وكلّ مشاكلها واتهاماتها "إنْ لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أُبالي"(2).
ولنختم بما قاله ذلك العارف:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
الافتتاحية الثانية عشرة
31/8/1996
الظُلْم والظالمون
"لا بدّ لنا أنْ نبني إنسانيّتنا على أساسِ أن لا نعيشَ الظلمَ في أنفسنا وعلاقاتنا بالآخرين وبالبيئة".
حديثنا في هذه الليلة حول موضوع عاشت الرسالات كلّها من أجل أن تخلّص العالَم منه لتستبدله بما يبني للعالَم إنسانيته وحيويته وكل قضاياه، وهو موضوع الظلم.
وقد تحدّث الله عنه في أكثر من آية، وحدّثنا أنّه لا يهدي القوم الظالمين، وأنّه لا يحبّ الظالمين، {وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(1).
وهكذا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى قد أخرجهم من دائرة هدايته لمّا انطلقوا في درب الظلم فوكلهم إلى أنفسهم وأبعد رحمته عنهم، وبالتالي نالوا سخط الله وفقدوا محبّته لهم، فأبعدهم عنه في الوقت الذي تتمثّل كل السعادة للإنسان في قربه من الله تعالى.
عدل الرسالات:
ولذلك فإنّ مسألة الظلم تتّخذ بعداً خطيراً في حياة الإنسان الفردية وحياته الاجتماعية العامة، بحيث يقف بين أن يكون مؤمناً ليكون عادلاً، وبين أن يكون ظالماً، ليكون غير مؤمن، لأنّنا إذا فهمنا أنّ الله سبحانه وتعالى قد ركّز الرسالات كلّها على أساس العدل، وذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(2) فإذا جاءت الرسالات من أجل إقامة العدل بين الناس فإنّ الذين يتحرّكون بالظلم إنّما يتحرّكون بعيداً عن خطّ الرسالات أو في الاتجاه المضادّ للرسالات، ومن الطبيعي أنّ الذي يتحرّك في هذا الاتجاه لا يمكن أن يكون مؤمناً.
دوائر الظلم الثلاث:
وعندما نتأمّل في مفهوم الظلم فإنّنا نجد أنّ الظلم يتحرّك في دوائر ثلاث:
أ ـــ ظلم الإنسان لربّه.
ب ـــ وظلم الإنسان لنفسه.
جــ ـــ وظلم الإنسان للآخرين وللحياة.
وقد يعجب الإنسان من الحديث عن ظلم الإنسان لربّه، لأنّ كلمة الظلم تختزن غلبة الظالم على المظلوم وقوّة الظالم بالنسبة إلى المظلوم، لكنّ المسألة هنا ليست كذلك. فالظلم هو أن تمنع الآخر حقّه، فكلّ مَن له عندك حقّ ولم تعطه حقّه، فأنت ظالم له. وعلى ضوء هذا نفهم كيف يكون الإنسان ظالماً لربّه. وهذا ما عبّر عنه "لقمان" فيما قصّه الله علينا من أمره {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(1)، عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "ألا وإنّ الظلم ثلاثة: فظلم لا يُغفرُ، وظلم لا يترك، وظلم لا يطلب"(2).
فأمّا الظلم الذي لا يغفر، فالشرك بالله {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}(3) وأمّا الظلم الذي يغفر، فظلم العبد نفسه عند ارتكابه بعض الهنات، وبعض المعاصي الصغيرة، وأمّا الظلم المطلوب الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا.
القصاص من الظالمين:
ثم يتابع الإمام (عليه السلام) قوله: "القصاص هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمُدى ولا ضرباً بالسِّياط" فلتتمثّل السكاكين وهي تجرح جسدك، كيف هو الألم؟ وفكّر في السياط وهي تلهب جلدك، كيف يكون إحساسك؟
إنّ القصاص في يوم القيامة عندما يقف المظلوم أمام الله ويقول: يا ربِّ إنّ فلاناً ظلمني حقّي فخذ لي بحقي منه. وقد تحدّث الإمام (عليه السلام) في "نهج البلاغة" عن صفة الظالم، وعلى ضوئها يستطيع كل واحد منّا أن يعرف نفسه، هل هو ظالم أو ليس بظالم.
يقول (عليه السلام) "للظّالم من الرّجال ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويُظاهر القوم الظَّلمة"(1) وعلى هذا ينطلق الإنسان ليعرف هل هو ظالم.. هل إذا كنتَ مسؤولاً أمام مَن له المسؤولية فهل تظلمه حقّه؟ هل تقف أمام من هو دونك ومن هو أضعف منك لتتغلّب عليه وتقهره وتمنعه حقّه؟ هل تقف مع الظالمين لتساعدهم أو مع العادلين لتنصرهم؟
إقتلاع بذرة الظلم:
من خلال ذلك ـــ أيّها الأحبّة ـــ فإنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يقتلع بذرة الظلم من داخل نفسه، بحيث لا يفكّر في ظلم أحد تماماً كما لا يسمح في أن يظلمه أحد، أن لا يظلمك الناس، وأن لا تظلم الناس وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في دعائه: "اللهم ولا أظلمنّ وأنت مطيق للدفع عنّي ولا أظلمنّ وأنت القادرُ على القبض منّي".
إنه يستنفر قدرة الله على نفسه ليتدخّل سبحانه بقوّته ليقهره حتى لا يظلم الناس. وفي دعاء آخر يتحدّث عن هذه المسألة على مستوى الشعور والإحساس: "اللهم فكما كرّهت لي من أن أُظلَم فقني مِنْ أن أظلِم".
وهكذا نفهم أنّ القيمة في الإسلام تتحرّك من دائرتك لتدخل دائرة الآخرين، كما تتحرّك من دائرة الآخرين لتدخل في دائرتك، فإذا كنت تكره شيئاً لنفسك فاكرهه لغيرك، وإذا كنت تحبّ شيئاً لنفسك فأحبّه لغيرك، وذلك هو ميزان القيمة في نفسك.
بناء إنسانية غير ظالمة:
وفي هذا الاتجاه لا بدّ لنا من أن نبني إنسانيتنا على أساس أن لا نعيش الظلم في أنفسنا ولا نعيشه في علاقاتنا بالآخرين، ولا في علاقاتنا بالبيئة التي فيها مخلوقات تريد أن تعيش وتريد أن تحسّ بالراحة وقد خلقها الله من أجل أن تكمل للحياة نظامها وحيويّتها وغناها في كل الأمور، ولذلك فأنتَ لستَ حرّاً في أن تلوّث الهواء ولستَ حرّاً في أن تلوّث الماء، ولست حرّاً أن تلوّث الأرض بما يرهق الإنسان والحيوان والنبات وما إلى ذلك، لأنّ لكلّ شيء من هؤلاء حقاً عليك فلا تظلم الأشياء حقّها.
وفي هذا الاتجاه ـــ أيضاً ـــ لا بدّ للإنسان أن يلاحق نفسه ويحاسبها في كلّ حركة من حركات إنسانيّته في الواقع. وابدأ من تفكيرك فقد تظلم الناس في تفكيرك إذا حققت في فكرك انطباعاً سيّئاً عن إنسان آخر دون أن تستجمع لنفسك كلّ العناصر التي تبرّر لك انطباعاتك عنه، لأنّ تشكيل الانطباعات عن الآخرين يعتمد على تجميع العناصر التي تؤكّد هذا الانطباع أو ذاك لأنّه حكم على الشخص في داخل نفسك.
فعندما تفكّر مثلاً ـــ بأنّ فلاناً شرير، وأنّ فلاناً فاسق، وأنّ فلاناً منحرف، وأنّ فلاناً عميل إسأل نفسك لماذا هذا الانطباع؟ هل رأيت منه ما يؤكّد فسقه؟ هل رأيت منه ما يؤكّد عمالته؟ هل رأيت منه ما يؤكّد انحرافه؟
إنّك تقول أحياناً: "لقد سمعتُ" وممّن ـــ يا ترى ـــ سمعتَ؟! وعلى أيّ أساسٍ سمعت؟! وكيف سمعت؟! ولقد اختصر الله تعالى المسألة كلّها في قوله {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (1).
فإذا اقتربت من الواقع وأردت أن تعلن انطباعك للناس في أن تحدّثهم عن فسق فلان، وعن انحراف فلان، وعن عمالة فلان فإنّ القضية قد لا تصل إلى مستوى الجريمة ما دامت في داخل نفسك لكنّها إذا انطلقت على لسانك وفي سلوكك، فإنّها تمثّل تشويه صورة إنسان، وتدمير موقع إنسان، وذلك يمثّل جريمة كبيرة عند الله ورسوله، لأنّك لا يجوز لك أن تكسر مؤمناً "ومَنْ كسر مؤمناً فعليه جبرهُ" لذلك، فلا بدّ للإنسان أن يكون دقيقاً.
الظلم في نطاق الأسرة:
فإذا انطلقت إلى الواقع، وكنت صاحب قوّة في بيتك، وقد جعل الله لك بعضاً من القوّة في زواجك فلا تظلم زوجتك بذهنيّتك التي تعتبر فيها نفسك سيّداً لها، لتكون زوجتك في ذهنيتك أمة في موقع العبودية، فإنّ الله جعل المؤمن أخا المؤمن، وزوجتك أختك في الإيمان، ولهذا ساوى الله بين الأخ وبين أخيه ذكراً كان أو أُنثى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1)، فلست أرفع منها في القيمة عند الله، وليست أرفع منه في القيمة عند الله. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(2) الأتقى هو الأرفع وهو الأكرم. أمّا إذا انطلقت في واقع علاقتك مع زوجتك فمن منطق القاعدة القرآنية {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} إنّ لها عليك حقاً ولك عليها حقاً، وعليك أن تؤدّي إليها حقّها إذا كنت تريد منها أن تؤدّي حقّك {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(3) في حركة الواقع التنظيمي للمؤسسة العائلية الزوجية.
وهكذا عندما تنطلق بعيداً عن حقوقك وحقوقها في نطاق الزوجية فليس هناك فرق بين زوجتك وبين أيّة إنسانة أخرى. كما لا فرق بين زوجها وبين أيّ إنسان آخر. فليس لك الحق، خارج نطاق هذا الجوّ، أن تسبّها.. وأن تضربها، وأن تطردها من بيتها.. وليس لك أن تتعسّف في معاملتك معها.. وليس لك أيضاً أن تذلّها.. وليس لك أن تسيء إلى إنسانيتها في كلمة أو نظرة أو حركة كما ليس لها أن تفعل ذلك معك. إنّ زوجتك كأيِّ إنسانة غريبة عنك في احترام إنسانيّتها خارج نطاق الحقوق الزوجية.. وإنّ زوجك ـــ والخطاب للنساء ـــ كأيّ رجل أجنبي عنك في كل الأمور التي ينبغي للإنسان أن يتعامل فيها مع الإنسان الآخر. إنّك ـــ أيّها الرجل ـــ أخذتها بكلمات الله ولذلك فعليك أن تبقى مع كلمات الله التي بدأت علاقتك بها من خلالها وعليك أن تتحرّك في كلمات الله في كل معاملاتك معها، كما إنّ عليها وقد ارتبطت بك بكلمات الله أن تبقى مع كلمات الله في علاقتها معك.
وهكذا فإنّ ولدك ليس قطعة أثاث في بيتك.. هو أمانة الله عندك، لك عليه حق، وله عليك حق، ولذلك لا بدّ لك أن تؤدّي إليه حقّه ويؤدّي إليك حقّك.. فليس لك أن تشتم ولدك، وليس لك أن تضربه.. وليس لك أن تذلّه، وليس لك أن تحتقر إنسانيته. وليس لك أن تسقط نفسيّته، وليس لك أن تهدم روحيّته، لأنّ ولدك إنسان مثلك، ولك عليه حق أن يوقّرك، وأن يحسن إليك، وله عليك حق أن تربّيه، وأن تعدّه إعداداً صالحاً.
الظلم الاجتماعي:
وهكذا في كلّ الواقع الاجتماعي الذي أنتَ جزء منه، فللمجتمع عليك حقوق بأن لا تسيء إلى وحدته، وإلى نظامه وإلى روحيّته وإلى إيمانه وإلى كلِّ مواقع قوّته. ولك على المجتمع حقّ أن لا يفعل ذلك معك. وتبعاً لذلك، فعندما نعيش في جوّ اجتماعي معيّن فإنّ على الإنسان أن يعرف أنّه لا يملك المجتمع ليكون حرّاً في تصرفاته معه، ولا يملكه المجتمع ليقهره في ذاتيّته.. فعلى المجتمع أن يحترم فرديّتك في نطاقها، وعليك أن تحترم مجتمعيّته في نطاقها. وفي نفس السياق، عندما تريد أن تتحرّك في القضايا الحيوية والقضايا المصيرية للأُمة، فلا تظلم أمّتك في خيانة مصيرها وخيانة قضاياها الحيوية، ولا تظلم أرضك لتسلّط عليها بخيانتك وبتجسّسك ـــ محتلاً أو غيره ـــ لا تظلم الإنسان كلّه لتمكن المستكبرين منه، وبعد ذلك {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(1) فمعنى أن تركنوا إليهم.. وأن تستسلموا لهم.. وأن تساعدوهم في كلّ المجالات.. الدخول إلى النار.. لأنّك تظلم نفسك بأنّ تورّطها فيما يثقل مصيرها وفيما يبعدها عن الله ويعرّضها للنار {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(2).
آفات الظلم:
فلنقتلع الظلم من كل عقولنا، ومن كل قلوبنا، ومن كل مشاعرنا ومن كل حركاتنا في أيدينا وأرجلنا لأنّ أيدينا وأرجلنا سوف تتكلّم {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ}(3)، كيف ضربتْ ضعيفاً، كيف قتلت.. كيف جرحت.. كيف أعانت خائناً.. كيف أعانت على بريء.. كيف كتبتْ هذه الوثيقة أو تلك مزوّرةً ومشوّهة.. {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} كيف سارت إلى مواقع معصية الله {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، قالوا لجلودهم لمَ شهدتم علينا؟! والعذاب لكم. {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا}(1)، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ*وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ}(2).
العدل المنتظر:
وهكذا نلاحظ كيف نثير ذكر الإمام المهدي (عليه السلام) في وجداننا العقيدي على أساس الانفتاح على التغيير العالمي لمصلحة العدل الذي نتطلّع إليه لنشارك فيه معه في مواجهة الظلم كلّه، ألسنا ننتظره" هل ننتظره ونحن الظالمون في خطّ الظلم نسير، وفي خطّ الظالمين نتحرّك.. وإذا التقينا به فهل نكون معه، أو نكون في الجبهة المضادّة؟ إنّه يأتي ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويحارب كلّ الظالمين ويقف مع كل المظلومين، فإذا كنّا الظالمين لربّنا، والظالمين لأنفسنا وللحياة من حولنا، والظالمين للإنسان كلّه، فأين نكون، نخشى أن نكون كأولئك الذين أحبّوا الحسين (عليه السلام) أعظم الحبّ وقاتلوه أعظم القتال، لأنّ حبّهم كان مشوباً بظلم، ولأنّ حبّهم كان لا يعيش في عمق ذاتهم ولكنّه في السطح.
انزلوهُ إلى عمق عقولكم وإلى عمق قلوبكم، وإلى عمق حياتكم لتبذروا بذرة العدل وتنمّوها بالإيمان، وبالخوف من الله وبمحبّة الله، عند ذلك تكونون معه ومن جنده.. من الذين يحملون سيف العدل معه في مواجهة كلّ سيوف الظلم {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(3).
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الثالثة عشرة
7/9/1996
كيف نفهم سنّة الإبتلاء؟
"حتّى لو أطبقت الدنيا علينا نبقى منفتحين على الله".
قبسات قرآنية:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(1).
وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(2).
وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(3).
وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(4).
في هذه الآيات تتكرّر كلمة "الابتلاء" و"البلاء"، ويؤكّد القرآن الكريم في مضامين هذه الآيات وفي غيرها على أنّ الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده، وقد نقرأ في بعض مضامين الآيات: أنّ الغنى قد يكون ابتلاءً كما أن الفقر قد يكون ابتلاءً {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ*وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}(5).
وإذا أردنا أن نستوحي هاتين الآيتين فإنّنا قد نجد القوّة ابتلاءً كما نجد الضعف ابتلاءً، وقد نجد السلطة ابتلاءً، كما نجد البعد عن السلطة ابتلاءً.
أسئلة في مستهلّ البحث:
فكيف نفهم مسألة الابتلاء؟ هل أنّ الله سبحانه وتعالى ينزل البلاء على الناس، من المصائب والمشاكل بدون مناسبة واقعية؟ ثم، هل إنّ البلاء عقوبة أو أنه شيء غير ذلك؟ أو أنّه قد يكون كذلك، وقد يكون ـــ معه ـــ غير ذلك؟
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} المراد منها الاختبار، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ}(1)، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ}(2) ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(3).
إنّ حركة البلاء ـــ في الواقع الإنساني ـــ هي اختبار الإنسان في إيمانه، وفي حركة الطاقات الموجودة في نفسه، فالبلاء ينطلق بأسبابه، فأن تكون فقيراً فليس ذلك على أساس أنّ الله يجعلك فقيراً بشكل مباشر، ولكنّ فقرك ينطلق من أسباب الفقر التي أودعها الله سبحانه وتعالى في حركة المال في الواقع، وفي حركة الفرص التي يعيشها الإنسان، فأنت قد تفتقر لأنّك لا تملكُ فرصاً للعمل من خلال الظروف الموضوعية المحيطة بك، وأنت قد تفتقر من جهة أنّ واقع البلد الذي تعيش فيه، من خلال جدب أرضه، ومن خلال الحصار الذي يعيشه من ناحية اقتصادية أو سياسية، يفرض عليك الفقر، وما إلى ذلك. وقد تكون غنيّاً من خلال أنّك ولدت من أبٍ غنيّ، أو لأنك وجدت في بيئة تتوفّر فيها فرص العمل وأسباب الرزق، ومن هنا فإنّ الفقر قد حدث بأسبابه الطبيعية التي أودعها الله في الكون وكذلك "الغنى" يحدث بأسباب طبيعية، وهكذا "الضعف" و"القوّة" فقد تكون ضعيفاً في جسدك نتيجة بعض الأمراض أو نتيجة تكوينك الجسدي، أو لجهة عوامل الضعف المحيطة بك في الداخل والخارج، وقد تكون قوياً من خلال الأسباب الخارجية التي تكسبُك قوّة إلى قوّتك، وربّما من خلال أسباب داخلية.
وفي نفس الشيء عن النجاح والفشل، والهزيمة والانتصار على مستوى الفرد أو المجتمع، فمسألة البلاء بمعنى الأحداث التي تصيب الإنسان سواءً كانت سلبية أو إيجابية، تنطلق من خلال الأسباب والسنن، فالله تعالى يقول: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(1).
ويقول سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(2). فالفساد هو تعبير عن اختلال الواقع الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الذي ينتج للإنسان مشاكل كثيرة في حياته الفردية والاجتماعية، فأنت تذوق وبال أمرك نتيجة كسبك، وتحصد ما تزرع وكما يقول المثل (من يزرع الريح يحصد العاصفة) فالريح إذا زرعتها ونمت تصبح عاصفةً.
وإذن، فالبلاءُ يقع بأسبابه التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون ومن خلال ما أراد أن يتحرّك فيه من سنن وقوانين، سواءً كانت هذه السنن تتحرّك في الظواهر الكونية، أو السنن التاريخية التي تتحرّك في حياة وحركة الإنسان في التاريخ والسنن الخفيّة المودعة عند الله ممّا يدخل في غيبه.
إنّ البلاء ينطلق من أسباب الواقع "الاختيارية" أو غير الاختيارية، بحيث يجعل الله الإنسان موضوعاً للاختبار والامتحان، فهو "اختبار: لك و"امتحان" لإيمانك وصبرك وشكرك، أتشكر أو تكفر، ولعلّ أوضح دلالة على هذه المسألة آيتان:
يقول الله سبحانه: {أَلَمْ*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(3) أي لا يختبرون ولا يمتحنون، فالفتنة هنا كوسيلة للاختبار تهيء لك الجوّ لأن تفتتن بها.
وأمّا قوله سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(4). فالله تعالى يعلم ما عندنا قبل خلقنا من خلال مظاهر السلوك والعمل، ذلك أنّ الحياة هي حركة اختبار دائم وامتحان دائم {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(5)، لتتحرّك في خطّ التنافس والصراع والتجربة الحيّة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}(1) فالشرّ هو تعبير عن الجانب السلبي في حركة الإنسان. والخير تعبير عن الجانب الإيجابي، وكلاهما فتنة.
الصمود بوجه البلاء:
وعلى ضوء هذا لا بدّ لنا أن لا نسقط أمام البلاء، فليس من الضروري أن يكون البلاء عقوبة لك، فقد يكون خدمة أو نعمة، لأنّ الإنسان إذا لم يدخل التجربة الصعبة فسوف يبقى هشّاً لا يملك عزماً ولا إرادة، فكلّما جرّبت أكثر وكلّما عانيت أكثر، وكلّما اقتحمت الصعوبات أكثر، قويت أكثر.
والشباب بالخصوص يعرفون في مجال الرياضة، أنّ أحدهم إذا أراد أن يربيّ عضلات حديدية بدلاً من العضلات اللبنيّة ليفوز في السباق، فكم يتألّم من التدريبات العنيفة القاسية، ولكنه بعد أن ينتهي من التمارين يشعر بقوّة جديدة، فكلّما عشت جهداً جديداً اكتسبت قوة جديدة، فالناس الذين لا يعيشون التجربة والمعاناة ولا يواجهون التحديات ولا يتألمون، هم الناس الضعفاء الذي لا حول لهم ولا قوّة، وهم الذين يسقطون أمام أيّة هبّة ريح، حتّى لو كانت ريحاً هادئة، لأنّهم لا يملكون التماسك.
هذه هي المسألة التي ينبغي لنا أن نواجهها، فعلينا أن نفهم أنّ الله يبتلينا لا ليعاقبنا، ولكنه يبتلينا ليقوّينا {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}(2). فلقد أعطاني الله المال والقوة والحياة حتى يختبرني هل أشكر فأوجّه ما أعطاني في سبيل ما يحبّ أو في سبيل ما لا يحبّ؟
وعلى هذا الأساس، لا بدّ لكلّ الشعوب المستضعفة والمقهورة من أن تعتبر المشاكل التي تمرّ بها سواءً من خلال الهزّات السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، أن يعتبروها موقع تجربة جديدة للصبر وللصمود وللمواجهة بما يجعلهم يتماسكون للوصول إلى النتائج الكبرى بعد وقت طويل، لأنّ النتائج الكبيرة كالحرية والعدالة والقوة والاستقلال والسيادة لها عمرُ حملٍ كما هو عمر الحمل عند المرأة، فإذا لم يكمل الجنين لتسعة أشهر يكون خديجاً (أي غير مكتمل النموّ) وبعض الأهداف تحتاج إلى عشرين سنة أو خمسين سنة أو مائة سنة بحيث ينقل هذا الجيل المرحلة إلى الجيل الذي يليه، ذلك أنّنا نصنع مرحلة ونتقدّم خطوات ليأتي الجيل الجديد حتى يتابع من حيث انتهينا، وهكذا.
ولذلك فإنّ مسألة اليأس مرفوضة، فهو خلق الضعفاء والناس الذين يعيشون الحياة في دائرة مغلقة وزاوية محدودة، خصوصاً الإنسان المؤمن حيث لا بدّ أن يخضّر الأمل في قلبه حتى لو كان كل ما حوله جدباً.
نماذج متقابلة:
فنحن نلاحظ أنّ الله سبحانه حدّثنا عن نموذجين في (وقعة الأحزاب):
النموذج الأول: {وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا*هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً*وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}(1).
والنموذج الثاني: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}(2).
والله يحدّثنا كذلك عن الناس الذين عاشوا الاضطهاد من قِبَل الكافرين والمشركين والطغاة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(3)، بحيث نعيش الزلزال ولا نسقط أمام الزلزال، فلا بدّ أن تكون هناك عزمة قوية، وعلينا أن نتعوّد ونتدرّب، فكما نُدرّب عضلاتنا حتى نستطيع دخول ساحة الملاكمة، لا بدّ أن ندرّب عضلات عقولنا، وعضلات قلوبنا، وعضلات حركتنا بحيث نواجه المشكلة ولا نيأس.
الأمل الأخضر:
وكثيراً ما كنت أقول للشباب الذين هجّروا وشرّدوا وعاشوا أقسى الظروف.. خاصة وأن من أكبر مشاكلنا في الشرق هي مشكلة المشرّدين الذين لا يجدون في بلادهم مأوى وينتشرون في أنحاء العالَم، كنت أقول: إنّ علينا أن لا نسقط، ونقول: لا جدوى، فالله سبحانه يعلّمنا التفاؤل إذ يقول على لسان "يعقوب" {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(1) فلقد قيل أنّه افتقده (18) سنة ولم يفقد الأمل. فأن تكون مؤمناً يساوي أن تبقى في أمل أخضر في المستقبل، وأن تكون يائساً أن تكون كافراً، لأنّ معنى اليأس أن تقول لا فائدة، بل يصل الأمر بالبعض لدرجة أن يقول: وأعوذ بالله من ذلك: (حتى الله لا يقدر على ذلك)!!، ومن يقول بذلك ينكر قدرة الله سبحانه وتعالى، وهو أسوأ أنواع اليأس، فما دمت تعيش في قدرة الله والإيمان بأنّه على كلّ شيء قدير، وأنه سيجعل من بعد عسرٍ يُسرا، فإذن يجب أن لا تكون يائساً أبداً.
ولذا، فإنّ علينا أن نفهم بأنّ إيماننا ليس فقط في الصلاة والصوم وإنّما من خلال تعميق العلاقة بالله بحيث لو وقفت الدنيا برمّتها أمامنا لشعرنا بالقوّة، ففي أول تجربة متحركة خارج مكة، تجربة الهجرة إلى المدينة، أراد القوم قتل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فخرج متخفيّاً ووصل الغار واقتصّوا أثره {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(2)، في الوقت الذي لا يوجد هناك أي أساس للأمن.
وحدّثنا الله تعالى عن المؤمنين في معركة أُحُد: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(3).
فما قيمة الناس أمام ربّ الناس، ملك الناس، إله الناس؟! {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(1).
ولذلك فلا بدّ أن نعيش التجربة وأن نعيش المعاناة، فحتى لو أنّ الدنيا أطبقت علينا نبقى منفتحين على الله سبحانه وتعالى.
ولقد قلت لكم دائماً، وعن تجربة، إذا كنت تفكّر بالناس فإنّ الدنيا تضيق عليك، وإذا كنت تفكّر بالله سبحانه وتعالى فإنّه هو الرحمن الرحيم، وهو الكريم العطوف. ولذا فلا بدّ من تعميق الإيمان بالله، وأن نكون أصحاب القضايا الكبيرة، ففي الإسلام إذا استطعت أن تحوّل الضعف إلى قوة فليس لك عذر في أن تبقيه ضعفاً {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بالكفر أو بالانحناء أمام الظالمين أو بالضلال. {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}، كفرنا لأنّ الأقوياء فرضوا علينا الكفر، وضللنا لأنّ المستكبرين وجّهونا في طريق الضلال، وانحنينا وانحنت كلُّ إرادتنا من خلال هؤلاء {قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} إذا ضاقت عليك البلاد وحوصرت ولك أن تنطلق إلى ساحة أخرى تتفادى من خلالها هذا الضعف وتحوّله إلى قوّة فافعل وإلاّ فقد تنطبق عليك هذه الآية: {فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً*إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}(2)، فهؤلاء هم الذين لا يملكون الفرصة للتخلّص من الواقع الصعب الذي يحيط بهم ويضغط عليهم فقد يأتيهم العفو من الله على سقوطهم الفكري تحت تأثير الضعف الذي يخضعون له انطلاقاً من الحصار الشامل الذي يحاصرهم بشكلٍ شاملٍ.
رياضات مطلوبة:
وعلى هذا الأساس، فإنّ علينا أن نمارس رياضة روحية وثقافية وسياسية واجتماعية، وكل ذلك بحاجة إلى تدريب وجهاد أصغر في مواجهة العدو، وجهاد أكبر في مواجهة الشيطان وفي مواجهة النفس الأمّارة بالسوء، فالمعركة مفتوحة مع الشيطان ليخرجنا كما أخرج أبوينا من الجنّة، فمنذ أن خلق الله الإنسان والشيطان، والمعركة مفتوحة مع أولياء الشيطان. {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}(1)، فقد يستعرض الشيطان عضلاته لكنه ضعيف. فلا بدّ من تدريب دائم وشاق حتى ننجح في الامتحان الذي ليس فيه غشّ وإنّما هو امتحان تدفع فيه من دمك وعرقك وإرادتك وتعبك ومعاناتك. وهو امتحان لا يقوم غيرك بأدائه.
ولذلك ففي الآية التي افتتحنا فيها الحديث هناك نتائج للصبر، سواءً كان الصبرُ صبراً سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو أمنياً أو جهادياً {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أمام المشاكل والخسائر والبلايا {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} في أنفسهم وأموالهم وأهلهم وفي الواقع من حولهم، {قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فما هي جائزة الله للصابرين {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} والصلاة من الله هي المغفرة والرحمة والعفو والرضوان {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(2) فكلّما صبرت أكثر كلّما انطلقت في خطّ الهدى أكثر، فهل ننطلق في خطّ الصابرين؟ وفي آية أخرى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً}(3)، فلا تسقطوا ولا تنهزموا ولا تتراجعوا، فالصبر حركة إرادة، وحركة عزيمة.. وحركة قوّة {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(4).
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الرابعة عشرة
14/9/1996
في النقد الذاتي ونقد الآخر:
المطلوب: حالة طوارئ تقوائية
"لنبقَ في حالة طوارئ تقوائية في الفكر التقيّ والعاطفة التقيّة والحركة التقيّة والعلاقات التقية فذلك هو خيرُ الزاد".
من القضايا التي يؤكّدها الإسلام على مستوى حياة الإنسان الفردية وعلى مستوى حياته الاجتماعية، في خطّ الدنيا وفي خطّ الآخرة، هي قضية النقد الذاتيّ سواءً كان ذلك نقد الإنسان لنفسه او نقد الإنسان لغيره، لأنّ قضية الإنسان هي قضية فكره وعاطفته وحركته.
وقد يخطئ الإنسان فيها وقد يصيب، وقد يخطئ الناسُ فيها وقد يصيبون، ولعلّ من مميّزات الإسلام أنّه لا يحمِّل الإنسان مسؤولية نفسه فقط، ولكنه يحمّله مسؤولية كل السلبيات الاجتماعية بالمستوى الذي يستطيع فيه أن يخفّف منها أو يزيلها.
هذا هو الخطّ العام، وهو أن تكون معنيّاً بنقد نفسك وبنقد الناس من حولك، وهذا ما اختصره القرآن الكريم في الجانب المتّصل بحياة الإنسان الفردية سواءً منها ما يتّصل بالدنيا أو بالآخرة، وذلك هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}(1).
حالة طوارئ تقوائية:
أي أن تكون في حالة طوارئ تقوائية، لأنّ التقوى تدفعك دائماً إلى أن تراقب فكرك لترى، ما إذا كان التقيّ الذي ينطلق من حقوق الله في خطّ التفكير أولاً، أو تراقب قلبك، عندما ينبض بحبّ إنسان أو بحبّ جهة أو ببغض إنسان وبغض جهة، لأنّ للحبّ تقواه وللبغض تقواه فلا بدّ لك إذا كان حبُّك تقيّاً أن تحبّ من يحبّه الله، وإذا كان بغضك تقيّاً أن تبغض من يبغضه الله.
ثم تراقب نفسك في خطّ التقوى: في حركتك.. فيما تقول وفيما تفعل، وفي علاقاتك بالناس، وفي كل الواقع الذي يحيط بك.. في كلّ أوضاعك ومواقعك.. أين هو الموقع الذي تضع نفسك فيه، كيف هو؟ وفي مواقفك عندما تؤيّد وترفض، ثم تجمع ذلك كلّه وأنتَ تحصي سلبياته التي انحرفت فيها عن الخطّ، وإيجابياته التي استقمت فيها على الخطّ لتجمع ذلك وتنظر: ماذا قدّمت لغد؟ أين هو الرصيد الذي تقدّمه بين يديّ الله الذي يريدك دائماً أن تقدّم له شيئاً، وما تقدّمه لربّك فإنّما تقدّمه لنفسك لأنّ ربّك ليس بحاجة إليك، هو الغنيُّ عن وجودك، فكيف يكون فقيراً إلى عملك، إنّك الفقر كلّه أمام الله لذلك قالها سبحانه وهو يريد منّا أن نقدّم إليه قرباتنا في عباداتنا وكل نشاطاتنا {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ}(1).
إذن، فالمسألة هي أن نبقى في حالة طوارئ تقوائية في الفكر التقي، والعاطفة التقية والحركة التقية والعلاقات التقيّة، والأوضاع التقيّة لأنّ ذلك هو الزاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}(2) أن تنقد نفسك.
اتهام المؤمن لنفسه:
"المؤمن نفسه ضنون عنده" هذا هو مضمون حديث عن أهل البيت (عليهم السلام) ومعناه أن يحاول المؤمن أن يتّهم نفسه دائماً وأن لا يستسلم لنفسه وأن لا يسترخي أمام نفسه، وأن لا تدفعه تلك النفس الأمّارة للقول: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}(3) ويدعو مع الإمام زين العابدين (عليه السالم): "وأعوذُ به من شرّ نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء إلاّ ما رَحِمَ ربّي".
وهكذا ندعو معه أيضاً: "ومتى وقفنا بين نقصين في دين أو دنيا فأوقع النقص بأسرعهما فناءاً واجعل التوبة في أطولهما بقاءاً وإذا همّمنا بهمّين يرضيك أحدهما عنا، ويسخطك الآخر علينا، فمل بنا إلى ما يرضيك عنّا وأوهن قوتنا عمّا يسخطك علينا، ولا تخلّ في ذلك بين نفوسنا واختيارها فإنّها مختارةٌ للباطل إلاّ ما وفقتْ، أمّارة بالسوء إلاّ ما رحمت".
فالمطلوب هو أن تراقب نفسك وأن تحاسبها وتحاكمها وتجاهدها. هذه هي الخطوات: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا وزِنوها قبل أن توزَنوا"(4) والخطر كلُّ الخطر أن تزكيّ نفسك أو أن ترضى عنها، أو تضخّم شخصيتك وتفتتن بها.. {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}(1).
وهكذا أيّها الأحبّة ـــ تنطلق عملية النقد الذاتيّ في محاسبة دقيقة لنفسك من أجل أن تفهم نفسك، لأنّ المشكلة فينا جميعاً هي أنّنا نعرف الناس أكثر ممّا نعرف أنفسنا.
فلو سألك إنسان عن عيوب الناس من حولك فهل تتوقّف أو أنّك تقدّم تقريراً طويلاً ربّما يستوعب النهار كلّه وأنتَ تحصي عيوب الناس الذين تعرفهم. ولكن لو فاجأك شخص وقال لك: ما هي عيوبك؟ وما هي أفكارك؟ وما هو خطّك السياسيّ؟ وما هو خطّك الاجتماعي؟ فهل تجيب إلاّ بطريقة مبهمة وبطريقة مجملة، لأنّك لا تجلس مع نفسك لتحاورها وتحاسبها، ونفسك هي أقربُ الناس إليك، فإنْ لم تفهمها فقد يقودها الآخرون إلى ما لا تحمد عقباه.
التوفّر في المعيار:
أيّها الأحبّة، وليوجّه كل واحد منّا سؤالاً لنفسه، لماذا يملك الآخرون أن يضلّلونا؟ لماذا يملك الآخرون أن يغرّونا؟ لماذا يملك الآخرون أن ينحرفوا بنا عن الطريق؟ أتعرفون لماذا؟ لأنّهم يعتبرون أنّنا لا نفرّق بين الحق والباطل ومن هنا فإنّهم يقدّمون لنا الباطل باسم الحق لنتّبعه، والحق باسم الباطل لنجتنبه. لماذا يضلّلونا؟ لأنّهم يعتمدون على أنّنا لا نفرّق بين الخير والشرّ، ولا نعرف الفرق بين ما هو عقل وبين ما هو غريزة، فينطلقون ليخاطبوا غرائزنا باسم أنّهم يخاطبون عقولنا، ويريدون بذلك أن نرفض عقولنا.
لذلك فعلينا أن نعرف أنفسنا جيداً وأن نعرف خطوطنا الفكرية وأن نعرف خطوطنا العاطفية وأن نعرف خطوطنا الحركية وأن نعرف أوضاعنا العامّة والخاصة، عند ذلك نملك أن نستقيم {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}(2) فإذا لم تعرف الدرب فكيف تستطيع أن تستقيم على الدرب؟ وفي الحديث "مَن عَرَفَ نفسه عرفَ ربّه" لأنّك عندما تعرف نفسك بكلّ أسرارها وبكل أفكارها وبكلّ تطلُّعاتها وبكلّ وجودها وبكل موتها وبعثها فهل تستطيع أن تنكر ربّك؟! إنّ الذين ينكرون ربّهم هم الذين لا يفهمون وجودهم ولا يفهمون معنى وجودهم.
النقد الذاتي الموضوعي:
أُنقد نفسك نقداً موضوعياً ولا تهرب من نفسك عندما يُقدّم لك الحسابُ نفساً ممرغة بالوحول وقلباً مملوءاً بالحيّات والعقارب، وعندما يقدّم لك الحسابُ ساحةً مفروشة بالقذارات، إنّ عليك أن تقوم بعملية غسل، إغسل فكرك، لماذا نترك الآخرون يقومون بعملية "غسل الدماغ" فيغسلون دماغنا سياسياً واجتماعياً وفكرياً ولا نقوم بعملية غسل من جانبنا؟.
يقول "أبو العلاء المعريّ" في لزوميّاته:
ثوبيَ محتاجٌ إلى غاسلٍ وليت قلبي مثلَه في النقاء
فهو يقول أنا لا أشعر بحاجة قلبي إلى الغسل لأنّني أتصوّر أنّه نظيف، ولو قارنت بين الوسخ الذي في ثوبي والوسخ الذي في قلبي، لأحببتُ أن يكون قلبي مثل ثوبي في الوسخ لأنّ أوساخه أكثر وأعقد ولكن الإنسان يغسل ما يبدو للناس ولا يغسل ما يبدو لنفسه، وما ينفتح به على الله سبحانه وتعالى.
النقد الذاتي للآخر:
ثم يأتي نقد الذات للآخر، فالنقد الذاتي للآخر هو أن تشعر بنفسك مسؤولاً عن الآخر.. لتحدّق فيه لا لتلتقط عيوبه لتستغلّها كما يفعل الآخرون، فالآخر يصاحبك ويصادقك ويقاربك.. فتعطيه بعض سرّك ويلتقط بعض عيبك ويطلّ على بعض سلبياتك ويخبئها إلى يومٍ ما، فإذا ساءت الأمور بينك وبينه راح يستغلُّ ذلك ليحاربك بسرّك وبعيبك وليطعنك بسلبياتك ألا نفعل ذلك؟! ففي اللغة الدارجة "أنا أعرف كل سيّئاته" ألاَ نقول ذلك؟ إسمعوا كلام الإمام الباقر (عليه السلام) وكلام الإمام الصادق (عليه السلام) في الإنسان الذي يفعل ذلك: "إنّ أقرب ما يكون العبدُ إلى الكفر أن يؤاخي الرجلُ الرجلَ فيحصي عليه عثراته وزلاّته ليعنّفهُ بها يوماً ما"(1) كم منّا قريبون للكفر؟!.
والإمام الصادق (عليه السلام) يقول "أدنى ما يعرف به الرجل من الإيمان أن يؤاخي الرجل على دينه فيحصي عليه عثراته وزلاّته ليعنّفه بها يوماً ما"(2) فهذه تخرج الإنسان الذي يعيش هذه الروحية أو الذهنية من الإيمان إلى الكفر ويكون أقرب إلى الكفر. إنّها ليست روحية مؤمن وإنّما هي روحية كافر. وعندما يملك المؤمن روحية الكافر فإنّ المسافة بينه وبين الكفر ستكون قريبة جداً.
لذلك فالنقد من أجل أن تعيّر، أو من أجل أن تعنّف، أو من أجل أن تسقط أخاك، ليس هو النقد الذي يريده الإسلام في علاقة المؤمن بالمؤمن بل إنّ الإسلام يرفضه.
وهناك النقد الذي نسميه بــ "النقد الغيابي" وهو أن تطلّع على عيوب أخيك فتتحدّث بها إلى الناس {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}(3)، وفي الحديث: "إيّاكم والغيبة، فإنَّ الغيبة أشدُّ من الزنا إنَّ الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه، وإنَّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه" هذا هو مضمون الحديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). فالغيبة هي ذكرك أخاك بعيب مستور والعيوب الخفيّة هي المنطقة المحرّمة التي لا يريد الله لكَ أن تكتشفها {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً }(4).
النقد الموضوعي:
ويبقى النقد الموضوعي وهو أن تطلّع على خطأ في فكر أخيك أو على عيب في خلقه أو على سلبيّة في حركته. هنا أقبل عليه بكل الكلمة الطيّبة {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(5)، ولا تقسُ.. ولا ترهقه بالكلمة الثقيلة الحادّة، قلها كلمة خفيفة على قلبه، قوية في عقله، قلها سرّاً له ولا تقلها علانية "مَنْ وعظَ أخاه سرّاً فقد زانه ومَن وعظَه علانية فقد شانه"(1) أي عابَه. إنّ نقدك أخاك من أجل أن تصلح أمره، هو معنى "المؤمن مرآه لأخيه المؤمن، ينصحه إذا غاب عنه، ويميط عنه ما يكره إذا شهد، ويوسّع له في المجلس"(2) حيث لا ينبغي أن يكون المؤمنون مع بعضهم البعض كالأعداء، بل المؤمن مرآة أخيه يميط عنه الأذى. إنّك حينما تنظر في المرآة وترى شيئاً معيباً في وجهك تبادر إلى أن تزيله قبل أن تذهب لتقابل الناس، فالمؤمن يميط الأذى الفكري والأذى الخلقي والأذى الجسدي عن اخيه المؤمن. المؤمن مرآة أخيه يميط عنه الأذى، والمسلم أخو المسلم، هو مرآته ودليله وعينه التي ينظر بها إلى ما ينظر بها إلى الآخر، ومرآته التي ينظر بها إلى نفسه، ودليله الذي يدله على الخير وعلى الصراط المستقيم، وعليٌّ (عليه السلام) وهو المعصوم بأعلى درجات العصمة يقول "أحبُّ إخواني إليَّ مَن أهدى إليّ عيوبي"(3) فكأنّه يهتف برعيّته: أيّها الناس إذا وجدتم فيَّ عيباً فقدموه لي فإنّه هدية كبيرة، وهو فوق ذلك وأجلّ، لكنّه يريد أن يخطّ الطريق نحو ذلك، لأنّ الذي يهدي إليك عيبك يفتح لك الطريق من خلال اكتشاف عيبك الذي لم تكتشفه أنتً لتصلح نفسك.
وتلك هي خير الهدية، وعلى الإنسان أن يرتاح لما يقدّمه الآخرون إليه من عيوبه، ففي دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) "ووفقني لطاعة من سدّدني ومتابعة مَنْ أرشدني" إجعلني موفقاً لأنْ أُتابع الذي يسدّدني فيدلّني على الرأي السديد ومتابعة من يرشدني إلي الخير. فعلينا أن نعيش هذا النوع من النقد الذاتي لبعضنا البعض، سواءً نقد المجتمع لبعضه على المستوى الجماعي وهو ما يسمى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مسؤولية الجميع، يقول تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}(4)، ويقول سبحانه {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(5)، فلقد لعنهم الله لأنّهم لا يتناهون عن المنكر سواءً أكان أخلاقياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو أي نوع من الأنواع، لأنّ ذلك هو ضمانة سلامة المجتمع، ضمانة النقد الاجتماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. النقد يمكن أن يتحرّك بالكلمة، ويمكن أن يتحرّك بالنظرة ويمكن ان يتحرّك بالقوة "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهُنّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم" لأنّ المنكر عندما يتحرّك ويقف الناس حياديين أمامه، فيقول هذا لا دخل لي، وذاك يقول لا أُريد أن أصدّع رأسي، وذاك يقول لا أريد أن أدخل في مشكلة تقلقني وتؤرّقني، فإنّه يتعاظم ويكثر أهله ويصغر المعروف ويقلّ أهله وحينذاك يكون الأشرار هم سادة المجتمع.
وعلى هذا الأساس لا بدّ أن نعيش هذا الجوّ النقدي الذي ينطلق من وعي الحقيقة في داخلنا وفي داخل الآخرين وأن ننطلق من أجل الواقع بحيث نصلحه باكتشاف أسراره، علينا أن نكتشف واقعنا وواقع الآخرين وواقع الحياة من حولنا بالوسائل الإسلامية الحضارية التي عرفنا الله {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(1).
تجربة الإسلام في النقد الذاتي:
وفي خاتمة المطاف أحبّ أن أُثير أمامكم دراسة نظرية الإسلام وتجربة الإسلام في النقد الذاتي في الأدعية، فالأدعية هي عملية نقد ذاتي يعيش الإنسان فيه بين يدي ربّه ليحاسب نفسه وليحاكمها وليبتعد عن تضخيم شخصيته "اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها" فعندما يرفعك الناس على أكتافهم لا ترتفع بنفسك إلى ما يرفعونك إليه، إنزل عند نفسك، فتّش عن عيوبك، وقل لنفسك يا نفس إنّ الناس قد رفعوك إلى أعلى لأنّهم لا يطّلعوا على العيوب الخفية التي أنا أعرفها فيك "اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها" وهذا ما علّمنا إيّاه أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي لا يعيش الذنب في كلّ حياته وفي فكره، ولكنّه يعلّمنا أنّه عندما يمتدحه الناس فإنّه يخضع لربّه ويتواضع له ويقول "اللّهم اجعلني خيراً ممّا يظنون واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون".
وهكذا أيّها الأحبّة نقرأ في (دعاء أبي حمزة الثمالي) عملية حساب داخلي مع النفس "اللّهم إنّي كلّما قلتُ قد تهيّأتُ وتعبّأتُ وقمتُ للصلاة بين يديك وناجيتُكَ ألقيتَ عليَّ نعاساً إذا أنا صلّيت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ومالي كلّما قلتُ قد صَلُحَتْ سريرتي وقَرُبَ من مجالِسِ التوّابينَ مجلسي عَرَضَتْ لي بَلِيَّة أزالَتْ قَدَمِي وحالَتْ بيني وبين خدمتك، سيّدي لعلّك عن بابك طردّتني وعن خدمتك نحَّيْتَني". إلى أن يقول "أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلَّيتني" فهذا كلّه أسلوب لمحاسبة النفس واكتشاف سرّ الظاهرة، ظاهرة أنّ الإنسان يريد أن يصلّي ويريد أن يتوجّه فلا يحصل على التوجّه ويريد أن يتوب فلا يهتدي للتوبة، فما هو السبب يا ترى؟ ليحاول كلٌّ منا أن يراجع الواقع المحيط به ليكتشف سرّ ذلك.
إنّه أسلوب عملي في كثير من حالات الاعتراف، وهو نوع من أنواع حساب النفس، فحينما يقول الإمام (عليه السلام) "أنا الصغير الذي ربّيته وأنا الجاهل الذي علّمته، وأنا الضال الذي هدَيتَه" ثم يقول "أنا يا ربّ الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملاء، أنا صاحب الدواهي العظمى، أنا الذي على سيّده اجترى أنا الذي عصيتُ جبّار السماء، أنا الذي أعطيتُ على معاصي الجليل الرُشا أنا الذي حين بُشِّرتُ بها خرجت إليها أسعى أنا الذي أمهلتني فما ارعويت وسترتَ عليَّ فما استحييت، وعملتُ بالمعاصي فتعدّيت، وأسقطتني من عينكَ فما باليت"، فإنّه يعلّمنا طريقة الاعتراف والنقد الذاتي لأنّه المعصوم عن الذنب والخطأ كبيره وصغيره.
هذه كلّها عملية نقد ذاتيّ وهي أن تستحضر ما عندك خصوصاً أمام ربّك. لهذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أُحبُّ أن تقرأوا في الأدعية المنهج الإسلامي في النقد الذاتيّ، والمنهج الإسلامي في الحديث مع الله وفي الاعتراف فعندما تقرأون الأدعية قراءة واعية كثقافة تملأ عقولكم وقلوبكم وتوجّه حركتكم فإنّ كل دعاء تقرأونه سوف يكون مدرسة تدخلونها، ولكنّ مشكلتنا أنّنا ندخل المدرسة والمعلّم يلقي الدرس وقلوبنا وعقولنا في غمرة عن هذا.. نلهو. ونلعب. ونسترخي.. وننطلق بعيداً عن وعي أنفسنا وعن وعي ربّنا وعن وعي حياتنا.
إنّ على الإنسان أن يفهم ما معنى وجوده وإلى أين، وما معنى حياته وأين تتحرّك. وما معنى مسؤوليته أمام الله {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(1)، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(2)، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(3)، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}(4)، {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}(5) {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(6).
الافتتاحية الخامسة عشرة
21/9/1996
وحدةُ الفكرِ والعاطفةِ والحركة
"إذا آمن الإنسانُ بالأصل، فلا يمثّل الفرعُ لديه شيئاً جديداً، بل يكونُ الفرعُ منطلقاً من الأصلِ الذي يمثّلُ القاعدة، ذلك أنّ الخط يختزنُ في داخله كلَّ الفروع".
الأصول والفروع:
السؤال الذي يفرض نفسه علينا دائماً في عملية الانتماء ولا سيما الانتماء إلى الإسلام: هل أنّ الإنسان المنتمي يواجه كل الخطوط التفصيلية التي يتحرّك فيها انتماؤه، أم أنّه يملك الخيار بين أن يرفض بعضاً ويقبل بعضاً؟ فيرفض ما لا ينسجم مع مزاجه أو مع مصالحه أو بعض أوضاعه الاجتماعية ويقبل ما ينسجم مع ذلك. أو أنّ قضية الانتماء تقتضي تركيز القاعدة التي تجعل انتماءك شرعياً من خلال قناعاتك بالفكرة وبالخطّ. فإنّ عليك أن تقبل كل فروعها جملة وتفصيلا. لأنّ الإنسان إذا آمن بالأصل فلا يمثّل الفرع لديه شيئاً جديداً، فلا بدّ أن يؤمن به ولا يرفضه، بل يكون الفرع منطلقاً من الأصل الذي يمثّل القاعدة. ذلك أنّ الخطّ يختزن في داخله كل الفروع.
وهناك نماذج من الناس تنتمي إلى فكر معيّن فإذا صادفها خط من خطوط هذا الفكر بما لا ينسجم مع مزاجها ومع مصالحها رفضته وعلَّلت ذلك بمختلف التعليلات، وأمّا إذا كان منسجماً معها انفتحت عليه.
الخطّان الفكري والعملي:
إنّ الله يحدّثنا عن هذا النموذج، ثمّ يحدّثنا بعد ذلك عن النموذج الإسلامي الذي يمثّله المؤمنون في عملية انتماءهم إلى الإسلام. ففي سورة النور يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} وَأَطَعْنَا} (1)، فهذا هو العنوان الكبير الذي يقدّمونه أمام الناس عندما يعلنون انتماءهم الفكري إلى الإسلام وهو ما نصطلح عليه بــ (الخطّ الفكري)، ثم عندما تتحرّك التجربة في الواقع {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} ، يعرضون وينحرفون ويتحدّثون بطريقة أخرى أو يتحرّكون بخطّ آخر وقد يكون كما قال تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}، لأن المؤمن هو الذي يتحرّك في خطّه العملي وفي امتدادات خطّه الفكري بحيث لا يكون هناك أي فاصل بين منطق الفكرة ومنطق العمل.
فهؤلاء مؤمنون بالشكل فقط في حين أنّ مسألة الإيمان هي مسألة تتّصل بالعمق، عمق الاقتناع في عقلك وعمق الإحساس في شعورك وعمق الحركة في اتجاهاتك. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}(1) عندما يواجهون الواقع، فيما هو الحق وما هو الباطل، وقيل لهم إنّكم مؤمنون، والمؤمن لا بدّ أن يرجع إلى الله وإلى رسوله، لأنّ الله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(2) تعالوا إلى الله والرسول ليحكم بينكم {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}(3)، لا ينفتحون على هذه الدعوة ولا يستجيبون لله ولرسوله ولا يحكّمون الله ورسوله، بل يحكّمون الطاغوت الذي يتحرّك في غير خطّ الله ورسوله {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ}(4) يأتوا إليه ويظهروا الإذعان والتسليم لا من موقع الإيمان بل من موقع معرفتهم بأنّ الحقّ لهم ممّا يجعل الإذعان إذعاناً بالمصلحة للذّات لا بالحقّ في الإيمان.
في مواقع الاختلاف:
أمّا عندما يحدث الخلاف بيننا وبين فريق آخر، وعندما تندلع مشكلة فحينئذٍ يُسئل المختصّون: ما هو الحكم الذي يمكن أن يصدر في هذه القضية؟ فإذا رأوا أنّ الحكم الذي سيصدر ينسجم مع مصالحهم جاءوا إلى ساحة حكم الله ورسوله وأعلنوا حماسهم له وتقبلهم له، أمّا إذا رأوا أنّ الحكم لم يكن لصالحهم بل لصالح خصمهم رفضوا ذلك {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}(5)، أفي قلوبهم مرض؟ هل كانوا منافقين عندما أعلنوا إيمانهم، فكانوا يعلنون الإيمان ويبطنون الكفر، والنفاق ـــ كما هو معلوم ـــ مرض وهو أن تعيش حياتك في شخصية مزدوجة، فشخصيتك المعلنة تمثّل خطاً وشخصيتك الخفيّة تمثّل خطاً آخر {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً}(6)، إنّه المرض العقلي والمرض النفسي والمرض الشعوري والمرض العملي {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا}، شكّوا بالحق بعدما كانوا يؤمون به {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}(7)، يخافون أن يظلمهم الله ولم يسألوا أنفسهم لماذا يظلم الله الناس، إنّ الذي يظلم كما جاء في دعاء زين العابدين (عليه السلام) هو الضعيف، من يأكل مالك بغير حقّ ومن يضربك بغير حق، ومن يتّهمك بغير حق، ومن يسبّك بغير حق، فهو لا ينطلق من موقع قوّة وإنّما ينطلق من موقع ضعف ذلك لأنّ ضعف موقفه وضعف حجّته التي يدافع عنها تفرض عليه أن يهرب إلى الإمام فيظلمك وينتهك حرمتك "وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً" {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الحقيقة، وظلموا الإنسان والحياة كلّها، وهذا تعبير قرآني يعبّر به عن المنحرفين بأنّهم الظالمون، لأنّ الإنسان المنحرف لا يظلم نفسه عندما ينحرف بها عن الخطّ المستقيم، ولكنّه يظلم الناس عندما يحرّك الخطّ المنحرف ليحكم حياتهم، ويظلم الحياة عندما يبتعد بها عن خطّ الاستقامة التي يبني لها قوّتها وثباتها وانطلاقها وانفتاحها. بل أولئك هم الظالمون الذين ظلموا ربّهم بالمعصية، لأنّ من حقّ الله أن يُطاع ولا يُعصى، وظلموا أنفسهم فاستحقّوا غضب الله وسخطه، وظلموا الإنسان من حولهم عندما حرّكوا في حياته الانحراف، وظلموا الحياة عندما أبعدوها عن خطّ الاستقامة. ثم يقول الله سبحانه وتعالى بأنّ هذا النموذج هو نموذج الناس الظالمين لأنفسهم وللناس.
الانطلاق في خطٍ واحد:
غير أنّ هناك المؤمن الحق الذي ينطلق من قاعدة واحدة ويسير في خطّ واحد، المؤمن الذي لا يعيش الازدواجية بين ما هو فكره وبين ما هو عليه، لا يعيش الازدواجية والاهتزاز بين ما يعلنه للناس وما يعيشه في نفسه. إنّ المؤمن واحدٌ ينطلق في خطّ واحد ويؤمن بإله واحد ويتحرّك في الحياة من خلال وحدة الفكر والقلب والحركة والاتجاه {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}(1) لأنّهم آمنوا بالله وانطلق إيمانهم ليحكم كل وجدانهم وليتحرّك في كل حياتهم. وعندما آمنوا بالرسول عرفوا أنّه هو الذي يمثّل وحي الله بكل صدق وبكل عصمة. ولذلك عندما آمنوا بالقاعدة تحرّكوا بشكل عفوي وطبيعي لا يحتاج إلى المزيد من الفكر، تحرّكوا في الخطّ المستقيم {اَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وأولئك هم الذين يطابق قولهم فعلهم ويطابق إيمانهم العلني إيمانهم الباطني، الداخلي، الفكري، وأولئك هم المفلحون.
ثمّ يعطي الله سبحانه وتعالى الخطّ والقاعدة العامّة للفائزين، من هم الفائزون عند الله؟ مَن هم الناجحون؟ {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(1) وقد حدّثنا الله عن الفائزين في آيةٍ أخرى {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}(2).
ثمرة البحث:
وهكذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ يعطينا الله سبحانه وتعالى القاعدة ولا بدّ لنا أن ننطلق في الحياة على كلّ الأصعدة سواءً كان ذلك في العقيدة أو في الخطّ لننطلق من فكرة واحدة، ركّز عقيدتك وركّز خطّك وركّز انتماءك أولاً وقبل أن تنتمي لأيّ فكر إسال عنه: على أي أساس يقوم هذا الانتماء؟ فكّر بعلم وبوعي، وعندما تضع خطة فكّر من أين تبدأ وإلى أين تنتهي، فإذا اقتنعت بما تعتقد به على أساس من وعي وفكر واستوعبت ما تنتمي إليه على أساس دراسة عميقة، وإذا رسمت خطّك في الحياة على أساس الوضوح في البداية والنهاية عند ذلك أغمض عينيك وسرْ لأنّ عقيدتك هي النور الذي يشرق في قلبك، وهي الزخم الذي يحرّك لك خطواتك. ولأنّ انتماءك الحق هو الذي يحدّد لك مواقفك ومواقعك ولأنّ الخطّ الذي درسته جيداً في هندسة فكرية وروحية وثقافية هو الذي يحدّد لك أين البداية وإلى أين النهاية. ولا تكن مزدوج الشخصية ولا تكن شخصاً يعيش الشيء وضدّه، ولا تكن الإنسان الذي يعيش في نفسه حرباً بين شخصيتين، إنّ الله الواحد يريد لك أن تكون الإنسان الواحد المتنوّع الأبعاد، ويريد لك أن يكون الخط واحداً والفكر واحداً والعاطفة في خطّ فكري واحدةً والحركة في خطّ ذلك كلّه.
ـــ أيّها الأحبّة ـــ إنّ قصّتنا هي قصة الإخلاص. قل مع عليّ (عليه السلام) في دعاء كميل "فإليك يا ربيّ نصبتُ وجهي وإليكَ يا ربّي مددتُ يدي" وانطلق بعد ذلك {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(1). فمع الله الواحد في العقيدة الواحدة والخطّ الواحد ننطلق في حياتنا الفكرية وفي علاقاتنا الاجتماعية. فإذا كنتُ أؤمن بالله وكنتَ تؤمن به، وإذا كنتُ أؤمن برسول الله وكنتَ تؤمن به، وإذا كنتُ أنتمي إلى الإسلام وكنتَ تنتمي إليه، فأين الأثنينية بيننا؟ فنحن واحد في تنوّع الموقف، وواحد في الفكر والإيمان والعقيدة. وفي ضوء هذا علينا أن نكتشف وحدتنا بإيماننا وبربّنا وبنبيّنا وبالإسلام كلّه لنستطيع أن نتحرّك في وحدة تختزن التنوّع من دون أن يسيء هذا التنوّع إلى الوحدة.
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية السادسة عشرة
28/9/1996
خطُّ العدالة في حركة الإنسان
"قلبُكَ عرشُ الله، فلا تُدخلْ فيه منْ لا يُحبّه الله".
خطّ العدالة:
في حديث القرآن، وفي خطّ حديث السيرة، هناك فصل من فصول سورة (النساء) أنزله الله آيات متعددة من أجل أن يسدّد نبيّه، ويسدّد الواقع الإسلامي، وأن يؤكّد خطّ العدالة في حركة الإنسان في الواقع. من دون فرق بين أن يكون العدل لمسلم أو لغير مسلم، وفي حركة هذه الآيات هذه عدّة نقاط تتّصل بحركة الإنسان في المجتمع في علاقته بالناس الآخرين، وهذا هو دور القرآن في أن يرافقنا، كما رافق المسلمين من قبلنا، في حركتنا لينقد أيّ انحراف يحدث هنا وهناك، وليوجّهنا إلى خطّ الاستقامة في الطريق.
فلنقرأ هذا الفصل من آيات سورة (النساء) ولنقف مع المفاهيم التي يمكن أن نستوحيها من ذلك:
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}(1) والخطاب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً*وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً* وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً* يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً* هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً* وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً* وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً*وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}
إلصاق التهم:
هذا هو الفصل، فما هي القصّة؟
كان هناك في عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) رجل مسلم سرق من رجلٍ مسلمٍ آخر كيساً من طحين أو ما أشبه ذلك، وكانت الظروف كلّها تتجمّع من خلال العلامات لتبتعد بهذا الإنسان المسلم السارق عن التهمة... فانبرى أفراد العشيرة للتداول مخافة أن تلتصق التهمة بصاحبهم فقرروا أن يلصقوا التهمة بيهوديّ، مستغلّين الحساسية من اليهود وجوّ العداوة الذي كان سائداً بين المسلمين واليهود وبيّتوا المسألة على أساس أن يأتوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من أجل إكمال الحيثيّات التي تدين اليهوديّ وتبرّئ ذمّة المسلم، وكادت المسألة أن تتم لولا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو الذي يعلّمه الله غيبه كان يقضي الإيمان والبيّنات، وكان يقول: "إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار"(1).
فالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يحكم بحسب البيّنات التي بين يديه، ولربّما تخطئ البيّنة ولا يخطئ الرسول، فلا يقول أحدكم إذا كانت بيّنته على غير الحق، أو كان يمينه على غير الحقّ، لقد قضى لي رسول الله بهذا وقضاءُ رسول الله هو الحق، فهو لا يقضي بعلمه ولا من خلال الوحي وإنّما يقضي من خلال الحيثيات والمعطيات التي تقدّم بين يديه.
فالخطأ هو خطأ المعطيات، وليس خطأ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو المعصوم عن الخطأ.
ولذلك كادت المسألة أن تتم، لأنّ القوم ربما كانوا قد أحكموها إحكاماً شديداً، فأنزل الله هذه الآيات ليبرئ اليهوديّ وليركّز الجريمة على المجرم السابق وهو المسلم.
في إطار القضايا المماثلة:
دعونا نتحرّك مع الآيات لنفهم الظروف التي أحاطت بالقصة حتى لا تبقى الآيات مجرّد تأريخ نقرؤه في القرآن، بل تتحوّل إلى واقع حيّ في كل القضايا المماثلة التي يمكن أن تحدث لنا عندما يجرم أو يخطئ بعض أقاربنا أو بعض أصدقائنا أو بعض "محازبينا" أو مَنْ هم من طائفتنا أو مذهبنا، فنحاول أن نبرّأه من الخطأ لنلصقه بإنسان بريء مستغلّين بعض الظروف القلقة، وبعض التعقيدات الاجتماعية التي توجه التهمة.
فالله تعالى يخاطب رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ويقول: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فالكتاب هو الحق، والله عندما يريد للكتاب أن يتحرّك في حياة الناس ليركّز حياتهم على أساس الحقّ فلأجل أن تكون مفاهيمهم مفاهيم الحق وشرائعهم شرائع الحق، وحتى تكون أعمالهم أعمال الحق، وحتى تكون أحكامهم أحكام الحق.
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} من الحق الذي لا باطل ولا لبس فيه {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} أي لا تكن مدافعاً عن الخائنين، فكل مَن خالف الله ورسوله ونفسه ومجتمعه وأُمّته والحياة من حوله فلا تدافع عنه مهما كانت قرابته وعلاقته بك.
{وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ} إذا كان بك ما يبعدك عن الحقّ، فإنّ من
(يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً)، ومن الطبيعي، أنّ الآية ليست موجّهة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لأنّه لا ينطق عن الهوى، ولأنّ الله عصمه من أن يخطئ كما عصمه من أن ينحرف، ولكنّ القرآن كما قال أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) نزل على طريقة (إيّاك أعني واسمعي يا جارة).
فالخطاب هنا للنبيّ ولكن المقصود هو الأمة ليؤكّد القرآن في أسلوبه أن لو أخطأ النبيّ ــ ولكن يكون ذلك ـــ لخوطب بالاستغفار، فكيف بكم أنتم، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لا يخطئ وعلى هذا جاء قوله: (لأن أشركت ليحبطنّ عملك) وهو داعية التوحيد {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ}ﭼ أي عن الذين يخونون أنفسهم وخيانة الإنسان لنفسه، كما بيّنا في أحاديث سابقة، هي أن يورّط الإنسان نفسه فيما لا مصلحة فيه لنفسه، وأن يوجّه الإنسان نفسه في الطريق الذي يمكن أن يؤدي إلى هلاكه وخسارته في الدنيا والآخرة.
ولا تجادل عن هذا الإنسان الذي يخون نفسه، لأنّه إنسان يقف في أعلى درجات الخيانة، لأنّ الإنسان عادةً يخون الآخرين لمصلحة نفسه، فإذا كان يخون نفسه فكيف يمكن أن يتعامل مع الآخرين؟
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} وإذا كان الله لا يحبّ الخونة ولا يحبّ العاصين فكيف بك أيّها المسلم المؤمن أن تحبّ هؤلاء الخائنين لمجرّد أنّهم أقرباؤك أو أصدقاؤك أو محازبوك وما إلى ذلك.. إنّ المؤمن هو الذي يحبّ من أحبّه الله، ويبغض مَن أبغضه الله.
فعلينا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نجعل قلوبنا في خدمة إيماننا، من خلال الخطّ المستقيم، فإذا انطلق إيمانك في اتجاه فعلى قلبك أن يتحرّك في عاطفته ومشاعره وأحاسيسه ونبضاته في هذا الاتجاه. لذلك لا يجتمع أن تحبّ الله وأن تحبّ من لا يحبّه الله. ففي الحديث عرشُ الله قلبُ المؤمن. وفي الحديث القدسي "ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن". فقلبك هو عرشُ الله، وإذا كان قلبك ـــ أيّها المؤمن ـــ هو عرش الله فكيف تدخل في عرش الله مَن لا يحبّه الله، فاعط قلبك الله، واستأذن في كل مَن تدخله قلبك، وذلك أنّ علامة الإيمان أن تتولّى من تولاّه الله وأن تحبّ مَنْ أحبّه الله وأن تتبرّأ ممّن تبرأ الله منه، أو ممّن تحرّك في غضب الله.
قيمة عليّ (عليه السلام):
لقد كانت قيمة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واضحة جليّة ولذلك أحَبَّه، واحتضنه وأشاد به وولاّه، كما عبّر في (وقعة خيبر) وقد انهزم بعض الناس أمام اليهود "لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله"(1) فقيمته أنّ قلبه امتلأ بحبّ الله، وليس فيه فراغ ـــ البتة ـــ لغير حبّ الله وحبّ الرسول، لأنّ حبّ الله يجعل الإنسان يحب كل عباد الله السائرين في الخطّ، ولأنّ حبَّ رسول الله يجعل الإنسان يحبّ كلّ السائرين في خطّ رسول الله {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(1).
الخوّان الأثيم:
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} فحاسبوا قلوبكم وحاولوا أن تحاكموها لأنّ الكثير من الناس ممّن يخونون الله والرسول وأمانات الأمة يدخلون إلى قلبك من غير شعور عندما يقدّمون لك خدمة أو يثيرون أمامك بعض ما تحبّ، ولذلك احترس من أن يسرق أحدٌ قلبك.. واحفظه من أن يسرقه الخونة ليدخلوا فيه ويتملّكوه.
{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} كيف يفعل هؤلاء؟
إنّهم يجتمعون في الليل ويغلقون الأبواب ويضعون الحرس على المنافذ لئلا يسمعهم أحد ولئلا يقترب منهم أحد فتنكشف الخطّة المبيّتة، وهناك عندما يخلو بعضهم إلى بعض يشعرون بالأمن، ظنّاً منهم أن لا يراهم ولا يسمعهم أحد {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ} ، {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}(2)، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(3)، يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين ويسمع السرَّ وأخفى ويسمع وساوس الصدور، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ}، إذ يبيّتون مالا يرضى من القول من مؤامرتهم وخطّتهم ومشاورتهم، وكان الله بما يعملون ويخطّطون ويتحرّكون محيطاً.
ثم يقول الله لهم: هل تتصوّرون أنّ الدنيا هي نهاية المطاف؟ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ودافعتم عنهم وبرّأتموهم، تنصّبون محامياً هنا ومدافعاً هناك، وتوسطون رجلاً كبيراً هنا ورجلاً وجيهاً هناك، وتستطيعون من خلال ذلك أن تبرّأوا المذنب، ولكن عندما يقوم الناس لربّ العالمين؟ ماذا تفعلون يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ لله؟ ماذا تقولون يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها؟ ها أنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ أم من يكون عليهم وكيلاً، من الذي يكون وكيلاً عليهم حيث لا محامي دفاع. والله يقول: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}(1).
وهكذا تنطلق الآيات لترسم القاعدة. أيها الإنسان الذي يعمل السيّئات عندما يطوف بك الشيطان، أيها الإنسان الذي يظلم نفسه عندما تنحرف عن طريق ربك، هناك فرصة للتراجع، فالله الذي عصيته أرحم الراحمين، والله الذي انحرفت عن طريقه المستقيم يمكن أن يعطيك فرصة للعودة إليه. {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ} إذا عملت سوءاً وظلمت نفسك قل اللّهم اغفر لي ذنوبي "ربِّ إني عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي كلّها فإنّه لا يغفر الذنوب كلّها إلاّ أنت".
فاستغفر الله تجد الله غفوراً رحيماً. ثمّ {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} أنت عندما تكسب إثماً أو ترتكب جريمة فإنّك المسؤول عنها ولا تطال عشيرتك ولا ولدك ولا أباك ولا كلّ الناس {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(2) المسؤولية في الإسلام فردية {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}(3)، {وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}(4).
المسؤولية فردية:
لذلك فالمسؤولية فردية لأنّك تدافع عن نفسك، فأنت تكسب الخير فتجزى به خيراً وتكسب الشرّ فتجزى به شرّاً {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(5). {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} إنّه يعلم عندما تكسب الإثم وعندما تقوم بالجريمة، لكنه حكيم يعاملك وفق حكمته فقد يستر عليك وقد يفضحك {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً} أنتَ تفعل الخطيئة إثماً ثم تقول فعلها فلان، لستُ أنا السارق وإنّما هو، لستُ أنا الخائن ولكن الخائن فلان لستُ أنا القاتل ولكن القاتل فلان، وهكذا.. {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}، ولا بدّ لله سبحانه وتعالى من أن يعاقبك على ذلك لأنّك عندما تمارس البهتان وهو أن تنسب إلى شخص آخر ما لا يفعله أو تمارس الإثم فتعصي الله في ذلك، فإنّ الله يعاقبك على ذلك كلّه.
درس قصة السارق:
ويبقى الدرس لنا، أيّها الأحبة، من خلال هذه القصة، أنّنا إذا واجهنا مثل هذه القصة فعلينا أن نقف ضدّها وأن لا نعمل مثلما عمل الأوّلون، وعندها سوف يبقى المجتمع أميناً على نفسه وحافظاً لتوازنه، لأنّه إذا بقي المجرم في دائرة جريمته لينال جزاءه وبقي البريء في داخل برائته ليخرج من دون أي سوء فهذا هو المجتمع المسلم، المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان البريء فلا يخاف من الآخرين أن يتّهموه لأنهم مؤمنون والمؤمن لا يتّهم إلاّ على أساس حجّة، وكما لا يشعر المجرم بأنّ الآخرين سوف يحفظونه وسوف يحرسونه لأنّ المؤمنين لا يمكن أن يحرسوا المجرمين، هذا هو درس القرآن في حركة الحياة فهل نعمل على أن نحرّك القرآن في حياتنا ليغنيها وليقويها وليثبتها وليركّزها وليقرّبنا من خلال ذلك إلى الله زلفى وليعمل القرآن على تحويل حياتنا إلى جنّة مصغّرة على الأرض تماماً كما هي الجنّة في الآخرة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}(1). هل لنا أن نتعلّم أخلاق الجنّة في الأرض لنعرف كيف نمارس حياتنا في حركة الإنسان في الجنّة؟
والحمد لله ربّ العالمين.
الافتتاحية السابعة عشرة
4/10/1996
خطُّ القرآن في التناجي
"لندخُلَ إلى أجواء النجوى بقلوبٍ تقيّة وعقولٍ تقيّة وإحساسٍ تقيّ يتحرّكُ من أجل أن تكون الأحاسيسُ السريّة لحماية الحق وإزهاق الشرّ وإقامة العدلِ ودحضِ الباطل".
هناك في القرآن عنوان تحدّث عنه الله تعالى في أكثر من آية، وهو عنوان النجوى، والنجوى تعبر عن الكلام السري الذي يدور بين شخصين أو عدّة أشخاص، لأنّ الموضوع الذي يريدون أن يتحدّثوا به قد تكون له أهمية وقد تكون له خطورة بالنسبة لهم، وربّما تكون النجوى في الخير إذا أرادوا أن يتحدّثوا عن الخير سراً، حذراً من أن يعطّل الآخرون خطة الخير إذا عرفوها مسبقاً، وقد يكون التناجي شرّاً إذا كانوا يخطّطون لبعض السوء المتعلّق بالأشخاص وبالأوضاع وبالقضايا.
النجوى غالباً ما توحي للإنسان بالحرية في الحديث لأنّ الإنسان يتحفّظ عادة في أحاديثه إذا كان هناك من يخشى أن يسمعه، أما إذا كان الذي يسمعه محلّ ثقة لديه انطلاقاً من وحدة الحال أو وحدة الموقف أو وحدة الخطّة فإنّه يشعر بالحرية. ولذلك فقد تكون النجوى أقرب إلى الشرّ منها إلى الخير لأنّ الخير قليلاً ما يخاف الإنسان علانيته، بينما، الشرّ يخاف الإنسان العلانية فيه فيحاول إخفاءه.
خطّ القرآن في التناجي:
لقد انطلق القرآن الكريم ليؤكّد لنا الخطّ فيما نتناجى به، وليشرح لنا طبيعته الروحية التي كان المنافقون يجيّرون فيها النجوى للإساءة إلى المؤمنين، ثم يعطينا الخطّ العام والقاعدة العامة في موضوعات النجوى. ففي البداية يقول الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} وتحدّثتم بحديث في السرّ بحيث لا يطلع عليه أحد {فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ} بما يغضب الله {وَالْعُدْوَانِ} بما يشكل خطّة للاعتداء على الآخرين أفراداً أو جماعات، بحيث تحاولون أن تخفوها عن الناس لتنفذوها بطريقتكم الخاصة {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}(1) لأنّ الآية كانت آنذاك في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ويمكن أن نمتدّ بها إلى زماننا هذا، لأنّ معصية الرسول لا تتحدّد، فقط في تعليماته اليومية ولكنها تشمل تعليماته العامة على مستوى الخطوط المتصلة بالواقع الإسلامي كلّه سواءً على صعيد المفاهيم أو على صعيد الواقع. كما أنّنا عندما نسمع كلمة معصية الرسول فإنّ القضية لا تتّصل به شخصياً وحسب ولكنها تتّصل به موقعاً ودوراً وقيادة، فإذا كان للمسلمين قيادة تتحرّك في خطّ الرسول على مستوى الإمامة أو على المستوى الذي يمتد من خلال الإمامة، فإنّ من الممكن أن تشملها كلمة معصية الرسول، لأنّ الله يريد أن يطاع أولياؤه كما يريد أن يطاع أنبياؤه فالأمر ليس خصوصية الرسول في صفته الذاتية بل هو خصوصية الرسول في صفته الرسالية التي تتحرّك مع الولي وتتحرّك مع القيادة الشرعية مع ما هناك من فرق بين شخصية الرسول في عصمته وشخصية القيادات الأخرى التي لا تملك عصمة في حركيتها، ولكن تبقى طاعة القيادة الشرعية هي الخطّ الذي يريد الله للناس أنْ يتّبعوه.
هذا هو الجانب السلبي {فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}(1) أي بالخير الذي تريدون أن تقدّموه للناس سواء أكان خيراً في مستوى حاجات الناس المادية أو كان خيراً في مستوى حاجات الناس الروحية والاجتماعية والسياسية والأمنية والثقافية، لأنّ كل ما يرفع مستوى الناس وكل ما يقدّم الخير للناس فهو من البرّ والتقوى، فالمطلوب هو أن تتناجوا في كيفية تحريك التقوى في أنفسكم من خلال عناصرها التي تنطلق على أساس العقيدة والانضباط والالتزام أو التقوى في حركة الإنسان كلّه. وأن تدرسوا كيف يمكن أن نخطّط للتقوى الاجتماعية، وكيف يمكن أن نخطّط للتقوى السياسية وكيف يمكن أن نخطّط للتقوى الأمنية والثقافية وما إلى ذلك.
خطوط التقوى في الحياة:
لكلّ خط في الحياة تقواه، والله تعالى يريد للإنسان في كل خطّ أن يقف على حدوده فلا يتجاوزها إلى غيرها {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(2). اتّقوه عندما تتحدّثون همساً، وعندما تتحدّثون جهراً، واتّقوه في مضمون ما تتحدّثون، واتّقوه في تطلعاتكم، اتّقوه في الوسيلة واتّقوه في الهدف، اتّقوه لأنّكم ستحشرون إليه {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ*ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }(3).
ثمّ يحدّثنا الله عن تجربة النجوى في الواقع الإسلامي في مجتمع المنافقين {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}(1). كان المنافقون يجتمعون وإذا رأوا المؤمنين تهامسوا فيما بينهم في طريقة إيحائية كما لو كانوا يدبّرون لهم شيئاً، وكما لو كانوا يخطّطون كما يملأوا قلوب المؤمنين بالحزن والقلق ما يفعل الكثير من الناس عندما يجدون شخصاً يريدون أن يثيروا القلق والخوف في نفسه، فإنّهم يتهامسون أمامه ويشيرون إليه حتى يفقد استقراره النفسي، {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، فأن يضرّ الإنسان إنساناً أو أن ينفع إنساناً فإنّ ذلك ينطلق من حركة الإنسان في المطلق، فينسى أنّ هناك إذن الله في الظروف المحيطة بالأشياء وفي الأوضاع التي تتحرّك في الداخل وفي القوانين التي رسمها الله في قضائه وقدره {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}.
دعوا القلق فالله كافيكم:
أيّها المؤمنون لا تدعوا القلق يدمّر نفسياتكم ولا تدعوا الخوف يأكل أمنكم، لا تعيشوا حالة الضياع والتردّد والقلق، إنّ لكم إلهاً يرعاكم وإنّ لكم ربّاً يدبّركم وإنّ لكم مولىً يحميكم.
اعملوا كل ما عندكم من وسائل الأمن وتوكّلوا على الله {وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(2). ويقول الله في آيةٍ أخرى {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}(3). ولا يبلغ أمره أحد، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} نظاماً وتوازناً في كل حركة الواقع وفي كل حركة الإنسان وفي كل حركة التاريخ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(4). وإذا كان الله يكفيك فمن ذا الذي يخوفّك ومن ذا الذي يقلقك، كنْ الإنسان المطمئن، كن صاحب النفس المطمئنة بالله فإنّ مَن عاش الطمأنينة بالله فلن يخاف أحداً ولن يحزن في الدنيا قبل الآخرة لأنّ الثقة بالله هي التي تعمّق الثقة بالنفس وبالخطّ وبالحياة.
وتبقى آية أخرى وأخيرة في مسألة النجوى وهي الآية التي ختم الله بها الفصل الذي تحدّثنا عنه في الآيات التي جاءت لتبرئة اليهودي ممّا اتّهم به ولتأكيد التهمة على المسلم السارق.
إنّ الله سبحانه بعد أن يتحدّث لنا عن ذلك كلّه يلتفت إلى المجتمع وإلى كل النجاوى التي تدور بين الناس ليقول: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} لا خير فيها لأنّ النجوى تختزن ـــ في الغالب ـــ الأجواء السرية التي يشعر الناس فيها بحرية أن يتكلّموا من دون ضوابط وأن يُخطِّطوا من دون تقوى، إذن {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} والصدقة تعني العطاء في كل ما يريد الله للإنسان أنْ يعطيه، فالمتبادر من الصدقة أنها صدقة المال ولكنّ هناك صدقة العلم وهناك صدقة الرأي وهناك صدقة القوّة وصدقة السلطة، فلكلّ شيء صدقة ولكلّ شيء زكاة وقد ورد في بعض الآثار (إنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم، كما فرض عليكم زكاة ما مَلَكَتْ أيمانكم) وإذاً حاول أن تتصدّق بقوّتك وبجاهك وتتصدّق بعلمك وبخبرتك وببسمتك وبكلمتك إنّ "الكلمة الطيّبة صدقة".
نجوى الخير:
لذلك {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} حتى يركّز العطاء في واقع الناس {أَوْ مَعْرُوفٍ} والمعروف يتّسع اتّساع الخير كلّه في الدنيا في كل جوانبها، هناك معروف في العلاقات ومعروف في الأعمال الفردية ومعروف في السياسة ومعروف في الاجتماع ومعروف في الأمن ومعروف في كل ما يعرفه الناس ممّا يرفع مستواهم وممّا يخدم التطوّر الإنساني في حياتهم {أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هذه النجاوى الخيّرة التي تخطّط في السرّ لإنجاح صلح بين اثنين أو بين جماعتين والإصلاح بين الناس إذا تخاصموا وتقريبهم إذا تباعدوا.
ولكن يبقى الإصلاح بين الناس يتحرّك في مستوى المفاهيم ليصلح أمر الناس فيما بينهم من خلال المفاهيم التي يلتقون عليها ومن خلال الأساليب والوسائل التي تقرّب القلوب والتي تجمع النفوس على الخطّ الذي يحبّه الله ويرضاه {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} لا يفعله لشيء ذاتي أو لطمعه، بل ابتغاء مرضاة الله وتلك هي قمّة الإخلاص وقمّة وعي المسؤولية في وعي معنى العبودية المطلقة في الإنسان أمام الألوهية المطلقة في الله. أن تفعل ابتغاء مرضاة الله ليحبّك أكثر وليقربك أكثر وليحتضنك بعطفه وحنانه ولطفه أكثر {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(1)، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}(2) وإذا كان الله يعد العاملين من أجل مرضاته بالأجر العظيم فإنّ ذلك يوحي بالحجم الكبير الذي لا حدّ له من ثواب الله ورضوانه.
ويبقى لنا، أيّها الأحبة، من هذه الدروس القرآنية أن ننطلق في هذا العنوان الكبير "النجوى" من أجل أن ندخل إلى أجواء النجوى بقلوب تقيّة وعقول تقيّة وإحساس تقي يتحرّك من أجل أن تكون الأحاسيس السرية لحماية الخير ولإزهاق الشرّ ولإقامة العدل ودحض الباطل، هذا هو الطريق للإنسان الذي يريد أن يعيش إسلامه مسؤولية في الدنيا.
ليلتقي بنتائج المسؤولية في الآخرة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(3).
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الثامنة عشرة
12/10/1996
بين خطيّ اللهِ والشيطان
"لا بدَّ للحركةِ أنْ تنطلق من قاعدةٍ، ولا بدَّ لها من وليٍّ يسدّدها، وينظّم لها خطواتها، ويخطّط لها منهجها، لأنَّ الحركة بدون وليٍّ تتحوّل إلى فوضى".
"حز//ب الله" و"حزب الشيطان":
في القرآن مصطلحان ينطلقان ليحدّدا العلاقة الحيوية، الفكرية والعملية بالله أو بالشيطان، وهما "حز//ب الله" و"حزب الشيطان".
وعندما يتحدّث القرآن عن كلمة الحزب فإنّه لا يعني هذا الشكل التنظيمي الذي يتحرك بطريقة معينة وبأسلوب معيّن قد يفصل قسماً من الأمة عن جسم الأمة، ولا ينفتح على الواقع كلّه.
ولكنه يريد أن يعطي مسألة الانتماء إلى الله بعداً جماعياً في حجم الإنسان، كما يعطي بعداً جماعياً في حجم الإنسان بالانتماء إلى الشيطان، فليس هناك خطّ ثالث، هناك خطّ الله وخطّ الشيطان، وهما خطّان متضادّان، متناقضان، لا يلتقي أحدهما بالآخر في عمق الدوافع الإنسانية، ولا في الخطوط المتحركة في حياة الإنسان.
فلننطلق من القرآن لنرى كيف حدّد الله صفة هؤلاء وصفة هؤلاء، فبالنسبة لمصطلح "حز//ب الله" يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ*إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ*وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْ//بَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(1).
هذا نموذج من الآيات، وهناك نموذج للمصطلح، ففي هذا النموذج يخاطب الله الذين آمنوا بأنّ عليهم أن يستقيموا في الخطّ، وأن لا يعتبروا أنفسهم أول الناس أو آخرهم، فإذا استمرّوا بالإيمان عاش الإيمان بهم، وإذا ابتعدوا عنه سقط الإيمان، وعليهم أن يعرفوا أنهم إذا كانوا مؤمنين فتلك ليست منّة يمنّون بها على الله، ولا على الرسول، لأنّها في بعدها الواقعي العملي ليست لحساب الله ولا لحساب الرسول، بل هي لحساب أنفسهم كما قال الله سبحانه وتعالى، في آية أخرى وهو يعالج هذه النفسية المنتفخة التي إذا أقبلت على فكرٍ حمّلت داعية الفكر المنّة بأنّها آمنت بالفكر.
الإسلام ليس منّة:
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم}(1). فليست المسألة متصلة بي من خلال ما ينفعني ذاتياً، لأنّ قصة الداعية ليست قصةً شخصية، يمنحه الناس فضلاً إذا استجابوا له، ويواجه واقعهم بالتعسّف وبالمنقصة إذا لم يستجيبوا له. فقد حلّ الله المسألة لرسوله عندما كان (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يعيش في نفسه بعض الألم لا من خلال حسابات شخصية ولكن من أجل الناس، لأنّ روحيته كانت روحية الرأفة والرحمة والانفتاح على الناس، كانت نفسه تذهب حسراتٍ عليهم لأنّهم لم يؤمنوا.. كان يعيش في نفسه حالة الحزن الرسالي لأنّ الناس لم يستجيبوا له، لا من خلال إحباط شخصي يعيشه الإنسان ليشعر بأنه فاشل، ولكن من خلال ذهنية رسالية تريد للناس كلّهم أن يسعدوا بالله وبرسالاته، وأن ينفتحوا على الله في كلّ شيء.
ولذلك قال الله لرسوله، وهو يريد أن يلطِّف المعاناة النفسية التي يعيشها، لماذا تتألّم؟ لماذا تذهب نفسك حسرات؟ {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}(2) فقصّتهم هي مع الله لا معك، {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ*لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (3)، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}(4). ولذلك يريد الله تعالى أن يوحي لكلّ المؤمنين أن اثبتوا على إيمانكم، حاولوا أن تنمّوه، وأن تطوّروه، وأن تعمّقوه، وأن تثبّتوه، وأن تنفتحوا به على كل آفاق الحياة لأنّ إيمانكم يمتدّ بامتداد الحياة كلّها.
الردّة:
ولكن إذا ارتدّ أحد منكم عن إيمانه لطمع لوّح إليه به شخص أو جماعة، أو لضغط أطبق عليه من خلال الواقع، أو لنقاط ضعف تحرّكت في نفسه من خلال غرائزه {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} فسوف يهمله الله وينساه، لا نسيان الوعي للأشياء، فالله لا ينسى، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، ولكنّ النسيان هنا هو نسيان الإهمال:
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}(1). تتحوّل إلى كمية مهملة في زاوية من زوايا الحشر لا يلتفت إليك فيها أحد، حتى يفرغ الله من حساب الخلائق {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} فإذا انحرفت القافلة فهناك أكثر من قافلة سوف تسير على الطريق {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ} يتحوّل الحبّ عندهم إلى حبّ الله، وأيّ حبّ أكثر سعادة من حبّ الله لك من خلال حبّك له.
أيّها الأحبّة، هناك بعض المشاعر والأحاسيس وبعض الألطاف الإلهية إذا عاشها الإنسان روحاً وعقلاً وقلباً وحركةً فإنّه يشعر بالسعادة التي ليس فوقها سعادة، تماماً كما هي الجنّة فيها ما لا عين رأت ولا أُذُن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بَشَرْ، فمن أين يأتي حبّ الله للإنسان؟ فليس بين الله وبين أحدٍ من عباده قرابة، فالله يحبّ العباد من خلال ما يعيشونه من روحانية الفكر، ومن استقامة السلوك، ومن سعة الأُفق، ومن كلّ هذه النبضات في قلوبهم وفي مشاعرهم التي تتحوّل إلى إحساس بالإنسان الذي هو خلق الله، وليحصلوا على حبّ الله من خلال حبّهم للخلق لأنّهم عيال الله، فأحبّهم إليه أنفعهم لعياله.
الإتّباع:
فإذا كنت الإنسان الذي لا ينفتح على عيال الله، ولا يساعد عيال الله، ولا يهدي عيال الله، ولا يرفع مستوى عيال الله، فكيف تريد أن يحبّك الله. {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(1). فالإتباع هو أن تتّبع رسول الله إيماناً وشريعة ومنهجاً وحركة وحرباً وسلماً وفي كل شيء، فإذا اتّبعت رسول الله فهناك حبُّ الله.
وعليّ (عليه السلام) كنموذج راقٍ أحبّ الله وأحبّه الله، لأنّه انفتح على الله بالمعرفة واتسعت المعرفة عنده وانطلقت في الآفاق، حتى قال: "لو كُشِفَ لِيَ الغطاء ما ازددتُ يقيناً". وعاش عليّ الحبّ لله حتى كأنّه لا يحسّ لذعات جهنم عندما يفكّر فيها ـــ وهو البعيد عنها كلّ البعد لأنّه معصوم ـــ، ولكنه يحسّ بلذعات فراق الله من خلال جهنم، ولا يحسُّ بضغط حرّ النار ولهيبها وآلامها، ولكنه يحسُّ بضغط فقدان النظر إلى كرامة الله، وهذا ما كان يقوله في دعائه: "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرتُ على عذابك فكيف أصبِرُ على فراقك" كيف يصبر الحبيب على فراق حبيبه، ودورُ النار هو أن تفصل الإنسان عن ربّه.
"وهبني يا إلهي صبرتُ على حرّ نارك" تلذعني، تشعلني، تؤلمني، "فكيف أصبرُ عن النظر إلى كرامتك".
فهذا هو الحبُّ، فأنْ تحبّ الله يعني أن تنفتح على كل مواقع رضا الله، وأن تحبّه يعني أن تحبّ أولياءه، وأن تحبّه هو أن تتبرّأ من أعداء الله بحيث يكون عقلك عقل إنسان منفتح على الله، وقلبك قلب إنسان ينبض بالله، وحركتك حركة إنسان يتحرّك في طريق الله.
{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فعندما تحبّ ربك فكيف يمكن أن تعصيه، وعندما تحبّ ربّك فكيف يمكن أن تغفل عنه، وعندما تحبّه فكيف يمكن أن تنساه؟! يقول ذلك الشاعر بالأسلوب العرفاني:
تهوى ليلى وتنامُ الليلَ؟ لعُمرك ذا طلبٌ سمجُ!
فالحبّ يبقى مشتعلاً في قلب المحبّ بحيث لا يدع له جفناً يغمض.
تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حُبَّه هذا لعمرُك في الفعالِ بديعُ
لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأطعتَهُ أنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
ذلُّ التواضع:
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وذلك بأنْ تعيش معهم مظهر الذلّ لا روح الذلّ، فالله لا يريد للمؤمن أن يكون ذليلاً، بل يريده أن يعيش عزيزاً، ولكن الذلّ هنا هو ذلُّ التواضع، ذلّ تقديم التنازلات من أجل الحقّ والخير، أذلّة على المؤمنين، وفي (دعاء كميل) فقرة لو عشناها لما عشنا التكبُّر "وفي جميع الأحوال متواضعاً" هذا ما يطلبه عليٌّ (عليه السلام) من رب العالمين باسمنا وهو المتواضع لله وللمؤمنين، فكان إذا مدحه شخص خشع لربّه، وكان يقول: "اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنون واغفر لي ما لا يعلمون"(1).
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أن تشعر أنّ المؤمن أخوك وأنّ روحك روحه، وأنّ مصلحتك مصلحته، وأنّ إنسانيتك تنفتح على إنسانيته، فليس هناك إثنينية في مسألة العزّ والذلّ بين المؤمنين، ولكنّها مسألة الوحدة التي تجعل "مثل المؤمنين في توّادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الأعضاء بالسهر والحمّى" فهل تشعر يدك إذا تواضعت لرجلك أو أي عضو إذا تواضع للعضو الآخر، هل يشعر بانتقاص عزّته، أمْ يشعر أنّه متداخل ومتفاعل معه؟!.
عزّة الإيمان:
{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} لا عزّة الكبرياء، فالله لا يريد لنا أن نعيش الكبرياء بمعنى العقدة الذاتية التي يشعر فيها الإنسان بعلوّ الذات تجاه الآخر أيّاً كان الآخر، ولكنّها العزّة التي بمعنى الشعور أنّ الإيمان يجعل الإنسان أعلى وأكبر ويجعل الآخر أصغر وأسفل، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}(1). لا في ذاتيّاتكم ولا في أحسابكم وأنسابكم ولا في ثرواتكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالعلوّ بالإيمان هو أن لا تسقط أمام الكافر حتى لو كان يملك الدنيا، حاول أن تقف وقفة العزيز بالإيمان أمام ذلّ الآخر بالكفر، حاول أن تقف وقفة العزيز بطاعة الله أمام الإنسان الذليل بمعصية الله.
{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} فهم لا يعيشون الاسترخاء واللامبالاة ولا يهملون ساحة الصراع، ولا يبتعدون عن ساحة التحدي، ولا يواجهون المشاكل التي تفترس الواقع الإسلامي مواجهة الإنسان الذي يقول:
ما علينا إنْ قضى الشعب جميعاً أَفَلَسْنَا في أمان؟!
بل ينطلقون ليجاهدوا في سبيل الله جهاداً ثقافياً في ساحة الصراع الثقافي، وجهاداً سياسياً في ساحة الصراع السياسي، وجهاداً أمنياً في ساحة الصراع الأمني، وجهاداً اجتماعياً في ساحة الصراع الاجتماعي، وجهاداً عسكرياً في ساحة الصراع العسكري، أن تشعر بأنّ جهدك وقوّتك وطاقتك ليست ملكاً لك، ولكنّها لله، فالله أعطاك إيّاها من أجل أن تحرّكها في طريق الله.
{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} إنّهم يقفون المواقف الصلب، وإذا لامهم اللائمون واتّهمهم المتهمون، وشتمهم الشاتمون، وابتعد عنهم المبتعدون، {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}، هب أنّ الناس كلّهم يلومونك، فما دام الله هو وحده الذي يعذرك ويرعاك ويلطف بك ويرضى عنك فما قيمة غضب اللائمين إنّه "غضبُ الخيلِ على اللجُم" وكما قالها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، "إن لم يكن بك غضبٌ فلا أُبالي".
فليتك تحلوُ والحياةُ مريرةٌ وليتكَ ترضى والأنامُ غضابُ
وليت الذي بيني وبينكَ عامرٌ وبيني وبين العالمينَ خرابُ
{وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} ذلك هو الوعي للإيمان، وذلك هو الوعي للإسلام، وذلك هو الحبُّ لله، وتلك هي الصلابة في أمر الله، ذلك هو الجهاد المرّ القاسي الصعب.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} فالإيمان نعمة، وحبّك لله نعمة، وحبُّ الله لك نعمة، وجهادك، وعزّتك وتواضعك كلّها نِعَمْ، وتقول دائماً: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله" فالسعادة الكبرى هنا {وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
لكلّ حركة وليّ:
ذلك هو الإنسان المؤمن، ولكن الحركة لا بدّ لها أن تنطلق من قاعدة، ولا بدّ لها من وليّ يسدّدها، وينظّم لها خطواتها، ويهيّء لها دربها، ويخطّط لها منهجها، لأنّ الحركة بدون وليّ هي حركة تتحوّل إلى فوضى، لذلك:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ} هو وليّ الكون كلّه، ووليّ الخلق كلّه، وهو {وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ}(1). وهو المهيمن على الأمر كلّه، وهو الربّ بكل سعة ربوبيّته من موقع أنه هو الذي خلق الخلق ودبّرهم وأنعم عليهم وأرسل لهم رسله.
{وَرَسُولَهُ} الذي يتحرّك بالولاية في خطّ الحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(2) . وفي خطّ تنظيم أموركم وتخطيط حياتكم حتى تنطلقوا في الصراط المستقيم إلى مواقع رضوان الله.
خطُّ الولاية:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} في غياب الرسول والذين يعيشون هذه الروح وهذا الإخلاص لله، والانفتاح على الله بصلاتهم، والانفتاح على الإنسان من خلال الله بزكاتهم.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} وكان عليّ (عليه السلام) الذي نزلت فيه هذه الآية، يتقرّب إلى الله بعبادته في صلاته التي لم تشغله عن عبادته وهو يتقرّب إلى الله بصدقته، ومن هنا انطلقت ولايته في خطّ القرآن.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} فهذا هو خطّ الولاية، ولا بدّ للولاية أن تتحرّك في الأرض، {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ويكون من "حز//ب الله" لأنّه ينطلق من القاعدة التي وضعها الله لحركة الولاية لله وللرسول وللذين آمنوا الذين يتميّزون بالصفات التي تجعلهم في هذا المستوى وليس كلُّ الناس يتميّزون بذلك.
{فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} الغالبون بحجّتهم، والغالبون بشجاعتهم، والغالبون بجهادهم، والغالبون ولو بعدَ حين، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1).
وهذا هو الجانب الإيجابي.
وهناك الجانب السلبي الذي يختلط بالجانب الإيجابي، أي فيه سلبٌ من جهة وفيه إيجاب من جهة!
{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ}(2) في عقولهم وفي قلوبهم وفي إحساسهم وشعورهم، بحيث تهتزّ كلّها للذين حادّوا الله ورسوله احتراماً، كلا لا يجتمع في قلب إنسان حبّ الله وحبُّ مَن عادى الله، ولقد قالها عليّ (عليه السلام) وهو يحدِّدُ لنا أعداءنا وأصدقاءنا: "أصدقاؤك ثلاثة، وأعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك: صديقك، وصديق صديقك، وعدوّ عدوِّك، وأعداؤك: عدوُّك، وعدوُّ صديقك، وصديق عدوِّك"(3).
التولّي والتبرّي:
إنّ "التولّي" و"التبرّي" خطّان يتحرّكان ليجتمعا عند قاعدة الإيمان في النفس {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}(1)، أي عمّق وخلّد، والله عندما يكتب شيئاً في قلبك، فإنّه لا يكتبه إلاّ إذا كان كل قلبك لله: "ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن" فقلبك إذا كنت تحبُّ الله هو عرش الله.
(كتب في قلوبهم) إنّها كلمة يهتزّ لها كل كيان الإنسان، فإنّني عندما أقرأها أشعر: بفيض السعادة والروحانية واللطف الإلهي الذي ينهمر على الإنسان عندما ينطلق ربّ العالمين ليكتب في قلبك أنّك مؤمن{أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} كما أيّد عيسى بروح القدس، فالله يؤيّد المؤمن الذي لا يوادُّ من حاد الله ورسوله حتى لو كان أقرب أقربائه، إنّه يؤيّده بروح منه كما يؤيّد الأنبياء بروحه {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2).
إنّ حز//ب الله ـــ أيّها الأحبّة ـــ ليس ورقة في كتاب، وليس حركة في التنظيم، هو حركة في الإيمان وفي حبّ الله وفي أن تكون كلُّ حياتك لله، يتحرّك الله فيها بكل وحيه وفي كل ما يريده منك وما ينهاك عنه.
الشيطانيون:
أمّا الشيطان فلا يحتاج إلى كلّ هذا التفصيل، فإذا لم تكن مع الله فأنت شيطانيّ، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}(3) فدوره أن يغلق عقلك عن الله، فلا يعود يفكّر بالله، ودوره أن يغلق قلبك عن الله فلا ينبض بالله، ودوره أن يبعد الله عن طريقك وعن خطّتك وعن علاقاتك، وعن معاملاتك وعن كل أقوالك، وعن كلّ أفعالك.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}(4) فإذا نسيت ربّك نسيت نفسك، ونسيت مسؤوليتها ومصيرها {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} والله يقول لنا ويحذّرنا {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(1)، ولقد حدّثنا الله عن الشيطان في أكثر من آية وإشارة {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} (2) قال وقد حضّر كل أسلحته {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}(3) كحاجز في منتصف الطريق {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(4) ولكن الله قال له {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}(5) سلطانك على الغافلين والضالين {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ}.
ويحدّثنا عنه {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} هناك يصبح الشيطان تقيّاً {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}(6) فكان عاقبتهما أنّهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين.
في مشهد القيامة:
وفي نهاية المطاف يقف الشيطان في يوم القيامة ويقف الناس الذين أغواهم، وزيّن لهم، وأضلّهم، وأنساهم ربّهم وأبعدهم عن الله, ويجد الناس الشيطان فرصة لهم ليقدّموا عذرهم أمام الله فليتحمّل الشيطان وزر كلّ الخلائق {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ}(7) إنّه محامٍ من أروع المحامين {إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} ، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(8) وها أنتم ترون الخير أمامكم لمن عمل الخير، والشرّ لمن عمل الشرّ والله أصدق الواعدين {إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}(9)، فمهمتي ـــ والكلام للشيطان ـــ هي أن أكذب، فلقد كذبت على أبيكم عندما أقسمت له أيماناً مغلّطة {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}(1)، {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}(2).
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} فلا يحمّلني أحدٌ المسؤولية {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} قرعتُ الطبل فتجمّعتم حولي {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} لقد أعطاكم الله عقلاً فلماذا لم تحرّكوه، وأنزل عليكم رسلاً فلماذا لم تتّبعوهم؟ ثم يقول لهم: كلّنا في المحرقة {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(3).
ويبقى "حز//ب الله" و"حزب الشيطان" خطّين يتحرّكان في الحياة وليعرف الإنسان أين الشيطان وأين الله، لأنّ بعض الشياطين قد يأتونكم باسم الله، فتنسون الله، فلذلك افتحوا عقولكم وافتحوا قلوبكم، وانفتحوا على ربّكم حتى تملكوا معرفة الله لتعرفوا الشيطان من خلال معرفتكم لله، لأنّ المشكلة هي أنّ الحقّ والباطل قد يمزجان فيرى الإنسان الحق باطلاً والباطل حقاً، هدانا الله سواء السبيل وعرّفنا أنفسنا وطريقنا وغايتنا.
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية التاسعة عشرة
19/10/1996
واقعية الأخلاق الإسلامية
"الأخلاق الإسلامية واقعية تخاطب الإنسان في مشاعرهِ وأحاسيسهِ وأوضاعه الحياتية، ثمّ تحاول الارتفاع به إلى الأعلى من موقعِ إرادته واختياره".
واقعية الأخلاق الإسلامية:
من مميّزات الأخلاق الإسلامية أنّها أخلاق واقعية تخاطب الإنسان في مشاعره وأحاسيسه وفي أوضاعه الطبيعية في الحياة، ثم تحاول الارتفاع به إلى الأعلى من موقع إرادته واختياره، فمن ذلك أنّ الناس عندما يختلفون في حياتهم ويتنازعون ويتقاتلون فيسيء إنسان إلى إنسان بحيث يكون هناك إنسان يسيء وآخر يُساء إليه، إمّا بكلمة غير مسؤولة وإمّا بحركة غير مسؤولة كما يضرب إنسان إنساناً أو يجرحه أو يشرّده من بلده أو يعطّل مصالحه، ففي مثل هذه الحالة جعل الله للإنسان الحق ـــ في الخطّ الأخلاقي الحقوقي الإسلامي ـــ بأنْ يرد العدوان بمثله {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(1)، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}(2)، {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}(3).
فالخطّ الإسلامي هو أنّ لك أن تأخذ حقك ممّن اعتدى عليك بالعدل أي بشرط أن لا تتجاوزه قيد شعرة، لاحظوا {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} ، {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} فإذا سبّك إنسان فليس لك أن تضربه، وإذا ضربك فليس لك أن تجرحه، وهكذا إذا اغتابك فليس لك أن تبادره بطريقة عنيفة.
ففي القصاص لو قتل إنسان إنساناً فإنّ القرآن يحدّد الموقف في ذلك في قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}(4)، فإذا أردت أن تقتل اقتل قاتل ولدك أوقاتل أخيك، وليس لك أن تقتل أباه أو عمّه أو ولده أو مَن يحيط به، بل ليس لك أن تضرب القاتل ولا أن تجرحه، وليس لك أن تمثِّل به.
مثل من سيرة عليّ (عليه السلام):
وهذا ما طبّقه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) على نفسه فعندما ضربه (ابن ملجم) جمع الإمام (عليه السلام) أهل بيته وعائلته وبني عبد المطّلب وتحدث معهم في الخطوط العامة ثم تحدث بعد ذلك في القضية الخاصة، قال لهم فيما روي عنه: "يا بني عبد المطّلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين قتل أمير المؤمنين ألاَ لا يقتلن بي إلاّ قاتلي، أنظروا إذا أنا متُّ مِنْ ضربته فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: "إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور"(1).
لا تقطعوا يديه ورجليه أو تشوّهوا صورته، بل ليس لكم أن تبصقوا بوجهه، ليس لكم أن تشتموه، وليس لكم أن تذلّوه، أو أن تجيعوه فهذه ليست من الحقوق التي جعلها الله لكم، إنّما جعل لكم أن تقتلوه فقط بالحق.
أمّا إذا كان مسلماً فله حق المسلم على المسلم وإذا كان ذميّاً أو معاهداً فله حق الذمي والمعاهد على المسلم وهكذا.
نموذج آخر:
وقد مارس أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هذا الأمر في حادثة أخرى، حيث كان جالساً مع أصحابه وهو يومئذٍ أمير المؤمنين أي (الخليفة)، فمرّت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم هكذا في (نهج البلاغة) فالتفت إليهم الإمام عليّ (عليه السلام) معلماً وموجِّهاً، لم يتحدث معهم بأسلوب عنيف، قال لهم "إنّ أبصار هذه الفحول طوامح، وإنَّ ذلك سببُ هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فيلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأته"(2) وسكت الإمام. وكان هناك شخص من الخوارج الذين كفّروا عليّاً (عليه السلام) لقبوله بالتحكيم قد أعجب بكلام الإمام، ولكنه يعتقد بأنّ الإمام كافر فقال: "قاتله الله كافراً ما أفقهه!!" يعني كم يفهم هذا الكافر قاتله الله، فتصوّر أنّ خليفةً وبيده السلطة وأصحابه حوله وهذا الخارجي يشتمه وهو بمفرده، ماذا يكون الموقف؟ لقد وثب إليه القوم ليقتلوه فأومأ إليهم أمير المؤمنين وقال: "رويداً إنّما هو سبٌّ بسب أو عفو عن ذنب" إنّ الرجل سبّني فليس رد فعل السبّ هو القتل {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(1) فإمّا أن أسبّه لآخذ حقي وإما أن أترك ذلك فأعفو عنه. هذا هو الخطّ الإسلامي الواقعي وهو أن يكون لك الحق ولكن بعدل لأنّك عندما تمنع إنساناً من أن يثأر لنفسه فإنّك تخلق مشكلة اجتماعية لأنّ المسألة عند ذلك سوف تتحوّل إلى عقدة نفسية تتفجّر بأشياء أخرى، لأنّ طبيعة ثأر الإنسان لذاته هي طبيعة إنسانية ذاتية يتحرّك نحوها الإنسان بشكل طبيعي، ولكن الله سبحانه وتعالى بعد أن أعطاك هذا الحق قال لك إنك صاحب حق الآن، ولكن إذا عفوت عن هذا الإنسان وأنت قادر أن تقتصّ منه فإنّ الله يعطيك ثوابه وأجره، وإنّ ذلك يمكن أن يمثّل وسيلة هي الأقرب في خطّ الانضباط في خطّ الله والالتزام بمواقع حجّة الله ورضاه، ولذلك قال {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(2).
الأجر على الله:
كذلك {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}(3) .
\والآية التي قرأناها أيضاً {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}(4)، وكلمة {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} تدخلك في أمل كبير بأن يعطيك الله كل ما تتصوّر وكل ما لا تتصوّر حيث استخدمها القرآن في آية أخرى {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ} والكثيرون من المشردين الذين فرّوا بدينهم إلى الله تعالى تنطبق عليهم هذه الآية {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}(5)، فالله يتكفّل بأجرك وهو الكريم الجواد الذي يعطي بلا حساب {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، ولكنه يحب العافين الذين يعفون عن الناس وقد جعل العافين عن الناس من أهل الجنّة {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1). فأنت إذا عفوت عن الناس فإنّ الله سبحانه وتعالى يتكفّل بأجرك. وفي آيةٍ أخرى يريد الله لك أن تتخلّق بأخلاقه فقد أعطاك القدرة على أخذ حقّك وقال لك اعفُ وهو القادر على أن يأخذ حقّه منك ومن كل العاصين وقد عفا عنك {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}(2). فالله هو العفوّ القدير فكن أنتَ العفوّ من موقع القدرة ففي الحديث "تخلَّقوا بأخلاق الله".
الأخلاق في خطّ التوازن
وهكذا ركّز الله سبحانه وتعالى الأخلاق الإسلامية على خطّ التوازن فلا يعني كونك صاحب حق أن تأخذ بحقك كيفما تشاء، فالله أراد لك أن تعفو عمّن أساء إليك، هذا في القرآن الكريم.
أمّا في السنّة الشريفة فهناك حديث يقول: "ألاَ أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة، العفو عمّن ظلمك، وأن تصل مَنْ قطعك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاء مَن حرمك"(3) وهذه الخصال تمثّل عمق الأخلاق الإسلامية، فإنّك إذا كنت تعطي من أعطاك فهذه مبادلة، أو تصل مَنْ وصلك فهذه أيضاً مبادلة وعملية تجارية وليست أخلاقاً، إنّ الأخلاق تتمثّل وتتجلّى عندما يكون للطرف الثاني حق عليك بل يكون ضدّ الحق، وهذا الذي عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في دعاء (مكارم الأخلاق) وأنا أنصح بقراءته في كل يوم "اللّهم وسدّدني لأنْ أُعارِض مَنْ غشّني بالنصح وأجزي مَنْ هجرني بالبر وأُثيب مَنْ حرمني بالبذل وأُكافي مَنْ قاطعني بالصلة وأُخالِف مَن اغتابني إلى حسن الذكر". هذه هي الأخلاق غير التجارية وهي أن تعطي في الوقت الذي يمنعك الآخر.
والآن نأتي للجائزة، فما هي جائزتك إذا كنت عافياً عن الناس، تعفو عن زوجتك إذا أخطأت وتعفو عن ولدك أو عن جارك وعن صديقك إذا أخطأوا، ما هي الجائزة المعدّة لك من قبل الله لقد جاء في الحديث أنّه: إذا أوقف العباد نادى منادٍ ليقم من أجره على الله وليدخل الجنة. قيل من الذي أجره على الله قال: العافون عن الناس ألم تسمعوا قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
العفو عزٌّ:
ربما يتصوّر بعض الناس أن العفو يمثّل ذلاً وأنّ الإنسان الذي يعفو ضعيف في موقفه جبان ذليل والناس يلومونه بقولهم أنتَ لم تأخذ حقّك ضربك فلان فلم تضربه وشتمك فلم تشتمه، فيما يقول الحديث: "عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلاّ عزّاً فتعافوا يعزّكم الله". المسألة إذن هي أنّ الله سبحانه وتعالى يعطيك عزّاً من عنده ونحن نعرف أنّ العزّ ليس من الناس {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(1). وفي الحديث عن الصادق (عليه السلام): "يا سفيان من أراد عزّا بلا عشيرة وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"(2). وعلى هذا الأساس ينبغي لنا أن ننطلق لنربي أنفسنا على هذا الخلق الإنساني الذي يفتح قلوب الناس، عليك بدلاً من أن تغلقها عنك، والذي يمكن أن يحلّ المشكلة بدلاً من أن يعقّدها.
وكان الإمام عليّ (عليه السلام) يعبّر عن مسألة امتناعه عن شفاء غيظه من الناحية الأخلاقية فيقول: "متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي لو صبرت؟ أم حين أقدر عليه فيقال لي لو عفوت" فإذن أنا عندما أغضب فسأقف بين حالتين: حالة العجز التي يريد الله مني أن أصبر عليها وحالة القدرة التي يريدني أن أعفو فيها.
وهذا ما أراده أمير المؤمنين (عليه السلام) من عمّاله الذين كان يوليهم شؤون الناس وكان من كلامه في كتابه إلى (مالك الأشتر) عندما بعثه إلى مصر "ولا تكونن عليهم سبعاً ضارباً تغتنم أكلهم" وهذا هو الخطّ الإنساني الإسلامي عند عليّ (عليه السلام): "النّاس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين، أو نظيرٌ لك في الخلق، يفرط منهم الزلل"(3) فالإنسان الذي هو نظير لك في الخلق هو الذي تلتقي معه في الإنسانية، عليك أن تنفتح عليه لتتعامل معه كما يتعامل الإنسان في إنسانيته مع الإنسان الآخر "يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل وتؤتى على أيديهم في العمد والخطاء فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه"(1) أي حاول أن تعفو لتعرض أمام نفسك هذه الصورة: أنتَ مذنب أمام الله وتطلب من الله العفو والصفح وهؤلاء المذنبون أمامك ويطلبون منك العفو والصفح، فإذا كنت لا تعفو عنهم فكيف تطلب من الله أن يعفو عنك. وإذا كنت تأمل من الله أن يعفو عن ذنبك وأن يصفح عنك فعليك أن تفكّر بأن تعفو عن هؤلاء وتصفح عنهم.
ثم نلتقي بالإمام زين العابدين (عليه السلام) في هذا الاتجاه في دعاء أبي حمزة الثمالي عندما يقارن العفو عند الله بالعفو عن العباد الآخرين "اللهم إنّك أنزلت في كتابك العفو وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنّا فإنّك أولى بذلك منّا" يعني نحن لسنا أكرم منك، نحن نعفو عمّن ظلمنا وأنت لا تعفو عنّا وقد ظلمنا أنفسنا وقد ظلمناك حقك، هذه معادلة لا تصح لذلك فلتعفُ عنّا يا ربّ إذا عفونا عن الذين من حولنا.
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "ألاَ أخبركم بخير خلائق الدُّنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، وأن تصل مَن قطعك، والإحسان إلى مَنْ أساء إليك، وإعطاء مَن حرمك، وفي التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشَّعر ولكن حالقة الدين"(2).
نخلص من ذلك إلى أنّ مسألة العفو في الإسلام هي مسألة تتوازن مع مسألة الحق. الإسلام يعطيك الحق ويطلب منك أن تعفو عفو صاحب الحق عن حقّه ويعدك الله بالأجر غير المحدود على عفوك.
وبهذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ يكون العفو في الإسلام إنسانية عندما ينفتح على الناس الذين لا يضرّهم العفو، كما هو حال المجرمين الذين لا يزيدهم العفو إلاّ إصراراً على الاعتداء والإجرام ويبقى الإسلام في أخلاقه واقعياً يدرس الإنسان في نقاط ضعفه ونقاط قوّته فيجعله يعيش التوازن بين الحق وبين العفو وهذا ما ينبغي لنا أن نعيشه وأن نتخلّق بأخلاق الله {فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}(3).
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية العشرون
26/10/1996
في الذكر العطرة لمولدها:
كيف نعيشُ الزهراء (عليها السلام)؟
"عندما نعيشُ ذكرى الزهراء (عليها السلام) فإنّنا نستعيد ذكرى الإنسانية التي جسّدت أعلى مثلٍ للمرأةِ المسلمةِ في كل مواقعها".
يوم المرأة المسلمة:
نلتقي في هذا اليوم بذكرى عطرة أنعشت قلب سيّد الخلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وذلك في مناسبة ولادة ابنته "فاطمة الزهراء" (عليها السلام) سيدة نساء العالمين، فهذا اليوم هو يوم مولدها كما جاء في السيرة.
وعندما نريد أن نستذكرها كإنسانة فإنّنا نرى أنّها تمثّل النموذج الكامل للإنسانة المسلمة التي انفتحت على الله بكلّ عقلها وبكلّ روحها، وبكلّ حركيّتها وبكلّ مسؤوليتها، ومن خلال انفتاحها على الله انفتحت على الإنسان وعلى كل القضايا الحيّة التي تتّصل بمسؤوليته في الحياة.
فإذا كنّا نريد أن نجري على ما جرى عليه الناس من تقاليد بأنْ جعلوا لكلّ عنوان من العناوين الحيّة في الواقع الإنساني يوماً معيناً كـــ (يوم الأُم) أو (يوم المرأة) أو (يوم العامل) فإنّ أفضل يوم نجعله عنواناً للمرأة المسلمة هو فاطمة الزهراء (عليها السلام) الإنسانة التي تمثّل المثل والنموذج والقدوة للإنسان المسلم، لأنّها كانت البنت كأفضل ما تكون البنات، وكانت الزوجة كأفضل ما تكون الزوجات، وكانت الأم كأفضل ما تكون الأُمهات، وكانت المسلمة المسؤولة المتحركة في ثقافتها ومواقفها كأفضل ما تكون المسلمات، فهي تجمع كل هذه العناوين الإنسانية في المرأة وفي الإنسان المسلم، الأمر الذي يمكننا من التحرّك من خلال ما اقترحه (الإمام الخميني) (قدّس سرّه) من اعتبار يوم مولد الزهراء (عليها السلام) في العشرين من شهر جمادى الثانية يوماً للمرأة في العالم، لأنّنا نعرف أنّ ما جرى عليه الناس في المناسبات التي ينطلق منها اليوم استمدّ عنوانه من خلال امرأة هنا أو عامل هناك، فيما نريد في (يوم المرأة) نموذجاً يمكن له أن يستجمع العناصر التي تمثّل كل نشاط المرأة في حياتها الخاصة كبنت وزوجة وأمّ، وحياتها العامة كمسلمة عاملة منفتحة على قضايا الإنسان في الحياة.
لفتة قرآنية:
وهناك نقطة لا بدّ أن ننتبه إليها وهي أنّ القرآن الكريم عندما تحدّث عن القدوة في المرأة، سواءً في استحيائها في الجانب السلبي أو في الجانب الإيجابي، فإنّه لم يعتبر المرأة قدوة للنساء فحسب، بل اعتبرها قدوة للنساء وللرجال معاً، فنحن نقرأ في قوله تعالى، فيما هو العنصر السلبي في المرأة الذي طرحه الإسلام ليبتعد الناس عمّا يتحرّك في هذا العنصر من سلبيات منفّرة:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} خيانة الرسالة، وخيانة المسؤولية {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}(1) لأنّ المسؤولية في الإسلام هي فردية، فالإنسان هو الذي يجزى بعمله ولا يُجزى غيره بعمله، كما أنّ الله لا يحابي إنساناً يعيش الكفر لمصلحة إنسان يمثّل الإيمان كلّه، ولذلك جعل الله امرأة نوح وامرأة لوط مثلين للرجل والمرأة، بأنّ على الإنسان أن لا يعتمد على علاقته النسبية أو السببية بالإنسان الكبير جداً ليفكّر بأنّ الله سبحانه وتعالى يمكن أن يغفر له، أو يمكن أن يبعده عن المسؤولية التي يركّزها على الكافرين لحساب هذا الإنسان الكبير أو العظيم، لأنّ الله لن يدخل كافراً الجنّة {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}(2) أي ينطلق الزوج الصالح مع الزوجة الصالحة، أمّا الزوجة الكافرة مع الزوج المؤمن {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}(3) هذه الإنسانة التي عاشت في قلب مجتمع الكفر وفي أعلى مواقعه ودرجاته المهيمنة والمتمثلة بادّعاء الربوبية، وقد انفتحت أمامها الحياة الرخيّة، بحيث كانت الإنسانة التي تأمر وتنهى فيستجاب لها في ذلك كله، كانت المرأة التي تجمّعت عندها كل الشهوات والامتيازات التي كانت موجودة آنذاك، ولكن انفتاحها على الله وعبادته ورسالته وعلى القيم الروحية التي تفيض من الروح المنفتحة على الله، جعلها ترفض كل ذلك النعيم وتقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (4).
وإذن، فإنّ الله ضرب (آسية) ـــ امرأة فرعون ـــ مثلاً للرجال والنساء المؤمنين معاً، بأن ينطلقوا في الحياة في الخطّ الذي سارت عليه، فإذا طلبت الدنيا منهم أن يخضعوا للظلم على حساب إيمانهم وإسلامهم وللحصول على الامتيازات الكبرى، فإنّ عليهم أن يستحضروا هذا المثل الحي الإنساني الذي يمثّل قمّة في الالتزام وقمّة في الروحية (امرأة فرعون) التي رفضت ذلك وتوسّلت إلى الله أن ينجّيها منه، كما لو كان مأزقاً تعيش فيه، وكما لو كان مشكلة صعبة تواجهها، وكما لو كان سقوطاً في حياتها تريد أن ترتفع فوقه.
وكذلك هي {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فكانت مثالاً للعفّة وللطهر وللنقاء {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}(1)، هذه الإنسانة التي أنبتها الله نباتاً حسناً، والتي كفلها سبحانه لزكريا، والتي كانت تعيش مع ربّها في المحراب {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(2)، وهكذا استطاعت أن تعيش لتصدّق بكلمات ربها وليمتلئ عقلها وقلبها وروحها وحركتها بها {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} الخاشعين لله، المبتهلين له، العائشين معه في كل المجالات.
فالمرأة في القرآن ليست فقط مثلاً للمرأة في الجانب السلبي والإيجابي، بل هي مثلٌ للرجال والنساء معاً.
فاطمة المثل والقدوة:
وعندما ننطلق في مولد الزهراء (عليها السلام) نعرف بأنّ هذه الإنسانة التي لم تعرف مربّياً إلاّ رسول الله، حتى أنّ أمها (خديجة) كانت قد ربّتها لوقت قصير كانت تعيش فيه روح رسول الله وأخلاقه، ولذلك فإنّ قيمة الزهراء في تلك الروحانية يشير إليها نصّان:
النصّ الأول: ما ينقل عن أُمّ المؤمنين (عائشة) عندما قالت: "ما رأيت أعبد في هذه الأُمة من فاطمة" وبالطبع بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). هذه الشهادة تدلّ على أنّ هذه الإنسانة التي كانت تعيش، وهي في مقتبل العمر، العبادة بهذه الدرجة الرفيعة بحيث أنّك إذا قارنتها مع الذين يعبدون الله فلن تجد هناك سبيلاً للتوازن في المقارنة.
والنص الآخر: عن الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: "رأيت أُمّي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جُمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عامود الصُّبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدُّعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أُمّاه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بنيّ! الجار ثمَّ الدار"(1) أي أنّنا أهل بيت نفكّر بالآخرين عندما نجلس مع الله، ونفكّر بآلامهم ومشاكلهم وبكل حاجاتهم وقضاياهم قبل أن نفكّر بأنفسنا، لأنّ الإنسان المؤمن هو الذي يحبّ عيال الله ويحبّ خلق الله، كما لو كان همّهم همّه، وكما لو كانت مشاكلهم مشاكله.
عطاء لوجه الله:
وهكذا أيضاً في الآية الكريمة التي تدلّل على الروحية التي ينطلق بها المسلم والمسلمة عندما يقدّم عطاءه للناس فيفكر بردّ الفعل الإلهي برحمته وعفوه وغفرانه قبل أن يفكّر برد فعل الناس في مدحهم وثنائهم. وذلك عندما نذرا أن يصوما ثلاثة أيام إذا شفي الحسن والحسين (عليهما السلام)، واستجاب الله دعاءهما فصاما في اليوم الأول، وجاء مسكين فأعطياه إفطارهما وتبلّغا بشيء يسير، وفي اليوم الثاني جاء يتيم وأعطياه إفطارهما، وهكذا في الثالث حيث جاء أسير فأعطياه إفطارهما، ونزلت الآية {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} ويرى البعض أنّ الضمير (هاء) في حبّه يرجع على (حبّ الطعام) أي يطعمون الطعام وهم في حاجة إليه شديدة، وهناك تفسير آخر أي على (حبّ الله) قربة لله سبحانه وتعالى {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} والطعام نموذج للخدمات الأخرى، فنطعمكم لوجه الله، تعني نخدمكم لوجه الله، ونقضي حاجاتكم لوجه الله، ونعلمكم لوجه الله، وندافع عنكم لوجه الله، وندخل السرور عليكم لوجه الله {لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}(1)، فالمؤمن يعمل ما يعمل من أجل أن يرضى الله عنه، ومن أجل أن يحبّه الله سبحانه وتعالى.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}(2) ، وجاءتهم الجائزة {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً*وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}(3).
فنحن نجد هذا المثل الحيّ في روحانية الإنسان مع الله، وهي روحانية لا تغيب عن الواقع. ذلك أنّ هناك روحانية تستغرق في الله فتنسى الحياة وتذوب فيه فتنسى عباده، وهي ليست الروحانية التي يريدها الله سبحانه وتعالى، إنّما يريد سبحانه أن ينطلق إيماننا ليحرّك حياتنا في خطّ المسؤولية، ويريدنا أن نحبّه لنحبّ الناس من خلال حبّه، وأن نحبّه ونتقرّب إليه من أجل أن يفجّر في عقولنا كل طاقات الحقّ لتكون عقولنا حركة في الحق كلّه، ولأجل أن يفجّر في قلوبنا كل عواطف الحق لتكون قلوبنا حقاً في العاطفة كلها، وليفجّر طاقاتنا في حياتنا لتكون حركتنا حقاً كلّها.
لذلك، فأنْ تحبّ الله يعني أن يتحوّل حبّك إلى مسؤولية وإلى حركة وإلى أن يكون انفتاحاً على الإنسان الآخر {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ} فإنّ القضية قضية الحبّ الذي يُترجم إلى عمل وليست أن تردّدوا (الله حيْ.. الله حيْ) وليست أن تتغزّلوا في الله:
شربنا على ذكرِ الحبيبِ مُدامةً سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرمُ
فأنْ تحبّ الله يقتضي أن تنزل إلى الواقع الذي خلقه الله، وأنْ تتحرّك مع الإنسان، وأن تنطلق مع رسول الله في كل ما شرّع وعمل وهدى ودعا، وفي كل ما حارَب وسالَم، فلقد كان حبّ الرسول وأهل بيته لله حبّاً يتحرّك في مسؤولية الدعوة والجهاد في سبيل الله والعمل من أجله.
القدوة في الصدق:
وفي حديث عن عائشة أيضاً "ما رأيتُ أصدق منها إلاّ أباها". وهذا يمثّل كم هي قيمة الصدق، وكم تعلّمت الصدق من رسول الله، فلقد كانت صفته أنّه "الصادق" والصدق يجعلك أميناً أيضاً لأنّ الخائنين يكذبون على ربّهم وعلى أنفسهم وعلى الحياة والإنسان. فمن صدق الله في عقله وقلبه وإحساسه، ومن صدق الناس في مسؤوليته، ومن صدق الحياة في كل ما تحتاجه، فلا يمكن أن يكون خائناً. ولذلك كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) "الصادق الأمين"، وقد تعلّمت الصدق كلّه من رسول الله فأصبحت القدوة في الصدق، فيما يعيش البعض الحياة كذباً كلّها، كذباً في الدين مع كلّ الدجّالين والمنحرفين، وكذباً في السياسة مع كل الخائنين والمستكبرين، وكذباً في الواقع الاجتماعي مع كل التعقيدات الاجتماعية التي يتحرّك الكذب فيها من أجل مصلحة هنا وطمع هناك.
فكما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الأسوة الحسنة في كل شيء، فهو الذي جاء بالصدق وصدَّق به {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(1) وكذلك هي بضعة منه، وهي أمّه في العاطفة (أُم أبيها) التي كانت قطعة من عقله وقلبه وإحساسه وحركته ورسالته، لأنّها كانت صورته، ولم تبلغ ما بلغه لأنّه أكمل الخلق لكنها اقتربت من القمّة ـــ التي تتمثّل برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ لأنّها عاشت تحت أضواء القمّة وتحت ينابيعها.
انطلاقتها مع عليّ (عليه السلام):
وانطلقت مع عليّ في بيتها لتعطي عليّاً بيتاً مسلماً في كل أوضاعه وروحانيته وفي كل اهتماماته ومسؤولياته، والدعاة المجاهدون الكبار يحتاجون عندما يعيشون مع المرأة المسلمة أن يتنفّسوا الإسلام في بيوتهم، وأن يعيشوا روحانيته وثقافته وفكره، وقد وجد عليّ (عليه السلام) كل ذلك في بيت فاطمة وهذا ما تمثّل في رثائه لها وهو يتحدّث عن عمق العاطفة الرسالية بينها وبينه.
وكانت الأم التي استطاعت أن تعمّق في الحسن والحسين (عليهما السلام) كل معنى الحب لله وكل معنى السير في خطّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وكل معنى الجهاد في سبيل الله سلماً كان الجهاد كما في قضية الإمام الحسن (عليه السلام) أو حرباً كما في قضية الحسين (عليه السلام). كما أعدّت ابنتها (زينب) لتكون مثلها تخطب في المسلمين من خلال قوّة المنطق وصفاء الروح وشجاعة الموقف، فلقد كانت كأمّها تمشي كما تمشي وتتحدّث كما تتحدّث الزهراء (عليها السلام)، وذلك بفضل البذور الأولى التي وضعتها أمّها في عقلها وقلبها وفي حياتها ومن ثم رعاها عليّ (عليه السلام) بالتنمية وبكلّ المعاني الطيّبة.
وفي قبال ذلك، تحرّكت في الوضع الصعب الذي عاشه المسلمون، فوقفت لتدافع عن الحق الذي تعتقده في عليّ للقيادة الإسلامية بالمنطق والحجّة لا بالوسائل التي يتحدّث بها الناس سبابٌ هنا وشتائم هناك، ولكن من خلال كتاب الله وحديث رسول الله وكلّ الحجج والبراهين، ولذلك كانت أول امرأة مسلمة دخلت ساحة الصراع السياسي من موقع المسؤولية المثقّفة والمنفتحة على الإسلام وعلى المسلمين.
كيف نعيش الزهراء؟
أيّها الأحبّة: عندما نستعيد الزهراء فإنّنا نستعيد ذكرى المرأة التي جسّدت أعلى مثل للمرأة المسلمة في كل مواقعها، ومن خلال ذلك كلّه نريد للمرأة كما للرجل أن يعيشوا روحانيتها ومسؤوليتها، وأن يعيشوا حركيّتها، وأن تعرف المرأة من خلال فاطمة أولاً، ومن خلال زينب ثانياً أنّ لها دوراً في الصراع السياسي على أساس خطّ الإسلام وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم، ولسنا ننظّر في المطلق: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(1)، فالمرأة إلى جانب الرجل، والمؤمنون إلى جانب المؤمنات يأمرون بالمعروف الذي ينطلق من خلال يدٍ تتحدّى، وكلمة تثور، ومن خلال قلب يرفض. أمرٌ بالمعروف العقيدي، والمعروف الشرعي، والمعروف السياسي، وأمرٌ بالمعروف الاجتماعي والحربي والسلمي، كما هو نهي عن المنكر في ذلك كلّه.
فإذا كان دور المؤمنين والمؤمنات هو التكامل والنصرة والمعونة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كانت سعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حجم كل نشاط إنساني سلباً أو إيجاباً، فهل يمكن لنا أن نقول إنّه لا دور للمرأة في حركة الصراع؟
إنّ الأمومة عظيمة جداً، وهي قيمة إسلامية، والأبوة عظيمة جداً وهي قيمة إسلامية، فمسؤولية المرأة في الأمومة لا بدّ أن تكون كاملة بحكم ما أراداها الله لها وجوباً أو استحباباً، ومسؤولية الرجل في الأبوّة لا بدّ أن تكون كاملة كما أراده الله وجوباً أو استحباباً، وتبقى مسؤوليتهما كمؤمنين وكمسلمين أن يسيرا في خطّ الله ولا ينحرفا عنه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً}، في الدعوة وأمراً في الجهاد وأمراً في الحركة وأمراً في العلاقات {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(1).
هكذا كانت فاطمة، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون والمؤمنات وذلك هو معنى الذكرى.
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الحادية والعشرون
9/11/1996
مقوّمات المجتمع الإسلاميّ
"حافظ على امتدادِ تقواكَ بأنْ تحمي إسلامَكَ من كلِّ ما يمكنُ أن يُضعفَه أو ينحرفَ بهِ عن الخطّ المستقيم.. فالغايةُ أن تموتَ مسلماً".
يا أيّها الذين آمنوا
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد مخاطباً الذين آمنوا مستثيراً إيمانهم من عمق وجدانهم، لكي يفكّر الإنسان من موقعه الإيماني لا من موقعه الذاتي، لأنّ مشكلة الكثيرين منّا أنّهم عندما يفكّرون في المواقف أو في الأشياء فإنّهم ينطلقون من تفكيرهم الذاتي، كما لو كان من يفعل ذلك إنساناً لا انتماء له ولا قاعدة له. ومن هنا فنحن قد نعيش شخصيتنا الإيمانية في عباداتنا ولكنّنا نعيش شخصيتنا الذاتية في مواقفنا، وهذه هي الازدواجية بين حركة الذات وحركة الإيمان.
لهذا فإنّنا نلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى في كثير من الحالات يخاطب الناس بكلمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} ليستحضر الإنسان الإيمان بربّه وإيمانه برسالته وبرسوله وباليوم الآخر، فإذا استحضر ذلك فكّر في الخطّ الذي لا بدّ أن يتحرّك فيه من خلال ذلك.
ولهذا فإذا كنت مؤمناً بالله وبرسوله وباليوم الآخر، فإنّ عليك أن تكون تقيّاً لأنّ إيمانك بالله الخالق البارئ، المصوّر، المنعم الذي يحيي ويميت وإليه تبعث وفي اليوم الآخر أمامه تقف يفرض عليك أن تراقب ربّك، وأن تعرف ربّك، ذلك أنّ علاقتك بربّك ليست علاقة مفصولة عن وجودك وعن حاضرك ومستقبلك، بل هي علاقة متصلة بكلّ شيء فيك، فأنت خلقت بإرادته وتحرّكت في الحياة في كل ما أودعه في جسمك من شروط الحياة، وما أعطاك من النعم المحيطة بكلّ حياتك من كل عناصر الحياة.
إنّ كل ذلك يجعلك مشدوداً لربّك من موقع اتصال وجودك بإرادته وبنعمته فهو القادر على أن يبقي عليك حياتك، وهو القادر على أن يزيل حياتك، مع العلم أنّ المسؤولية ليست في الدنيا فحسب ولكنها تتحرّك في الآخرة لتقدّم هناك حسابها كاملاً غير منقوص.
التقوى من مقتضيات الإيمان:
لذلك إذا كنت مؤمناً بالله فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(1). فاتق الله، تعني اخش الله، وخف الله واحسب حساب الله كما هو الله فيما ينبغي له وفيما هو موقعه، إتّق الله كما يجب أن يتّقى، فأنْ تتّقي الله حقّ تقاته هو أن تعبده، وأن تطيعه وأن تراقبه في نفسك كما هو حضور السلطات البشرية القاهرة القوية في وجودك، ألا تخاف أن تخالف القانون لأنّ القوة التي تحمي القانون هي قوّة قاهرة قادرة؟! ألا تحسب في نفسك حضور هذه القوة؟! فليكن حضور الله في نفسك حضوراً يستولي على كل نفسك {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}(2) بحيث تعيش في نفسك حالة الهيبة لربّك، كما قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفة المتّقين "عظُم الخالقُ في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم" وأن تحبّ ربّك أكثر ممّا تحبّ أي شيء وأي شخص {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ}(3) يحبّون الله أكثر ممّا يحبّون أي أحد، ولذلك فإنّهم يعيشون هذا الحبّ ويطوّرونه وينمّونه بالتأمّل والتدبّر في آيات الله وفي آلائه ونعمه {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} والتقوى هي بأنْ لا يجدك الله حيث نهاك وأن لا يفقدك حيث أمرك، وهي تلخّص في جوانبها العملية عمل الفكر وعمل القلب وعمل الجسد.
تقوى الفكر والقلب والحركة:
التقوى تمثّل إذاً كلّ انضباطك أمام ربّك، فإذا حرّكت فكرك في ما يدور حولك فإنّ تقوى الفكر هي أن لا تحرّك الفكر باتّجاه الشرّ، وأن لا تحرّك الفكر باتجاه الكفر، وأن لا تحرّك الفكر باتجاه الظلم، وأن يكون فكرك للخير وللحق وللعدل وللإيمان، وإذا ما عاش فكرك ساحة الصراع بين الكفر والإيمان وبين الخير والشرّ فحاول أن توجّهه بإرادتك ليختار الإيمان ويرفض الكفر، وينتخب الخير ويرفض الشرّ، لا تعط فكرك حريته السائبة، بمعنى أن تواجه ما يتحرّك به باللامبالاة، ليكن فكرك جديّاً وليكن هادفاً في كل ما تعمله.
وهكذا تقوى القلب، وهي أن تجعل قلبك كلّه لله فلا تحبّ أحداً إلاً من خلال الله، ولا تبغض أحداً إلاّ من خلال الله، لتكن عاطفتك تحت إمرة إيمانك، وأن لا يكون هناك فاصل بين الإيمان وبين العاطفة، فإذا كنت تؤمن بالله فمعنى ذلك أن تلتزم الله وتلتزم أولياءه وتبتعد عن الشيطان وعن أوليائه، وهذا هو معنى التولّي والتبرّي وهو أن لا تدخل أحداً إلى حرم قلبك إلاّ من خلال الله سبحانه وتعالى.
وهكذا بالنسبة إلى تقوى الحركة، أن لا تقدّم رِجلاً في أي طريق تريد أن تسير فيه ولا تؤخّر أخرى حتى تعلم أنَّ ذلك لله رضا.
ومن هنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ لا بدّ للإنسان أن يتعلّم دينه وأن يعرف ربّه وما صنع به وأن يعرف ماذا أراد منه، لأنّ الإنسان الذي يجهل ربّه، ويجهل نعم ربّه عليه، ويجهل ما أراد الله منه، فإنّه لم يستطع أن يجد طريقاً مستقيماً يسير فيه، بل سيكون كما قال ذلك الشاعر:
إذا الريحُ مالت... مالَ حيثُ تميلُ
وهكذا ينبغي لنا أن نعيش ثقافة الإسلام ووعي الإسلام في ضوء ذلك، لأنّ ذلك يختصر كل وعينا لله، في تعاملنا معه في كل حياتنا. {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ولتمتد تلك التقوى التي تمثّل خطّ الإسلام إلى نهاية الحياة {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(1) فلا بدّ من أن تحافظ على امتداد تقواك بأنْ تحمي إسلامك في كل ما يمكن أن يضعفه، ومن كل ما يمكن أن ينحرف به عن الخطّ المستقيم بحيث تكون واعياً لكل مفردات إسلامك، وأن تكون واعياً لحركة هذه المفردات في الواقع، ونحن نلاحظ أنّ هذه الغاية، وهي أن يموت الإنسان مسلماً، كانت عنوان شكر يوسف (عليه السلام) لربّه عندما شكره على ما أنعم عليه، وكانت قمّة طلباته {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(2)، بحيث يفكّر الإنسان في أن تنطلق حياته من موقع الإسلام ليواجه ربّه مسلماً بكل ما للإسلام من معنى، وليقال له كما جاء في الآيات الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ*نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}(1).
في اتجاه الحركة الاجتماعية:
ثم تنطلق الآيات في اتجاه حركتنا الالتزامية الاجتماعية فأنتَ لست فرداً في المجتمع تعيش وحدك، ولكنك جزء من حركة الإنسان {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً}(2). واعتصموا بحبل الله الذي تتمسّكون به جميعاً وهو الإسلام، وهو القرآن، وحاولوا أن تجدوا وحدتكم فيه، لأنّ الله لا يريد لكم أن تتوحّدوا عائلياً وإن كان للرحم دورها، ولا يريد لكم أن تتوحّدوا جغرافياً وإن كان للوطن معناه، ولا يريد لكم أن تتوحّدوا قومياً وإن كان للنسب أو للغة أو للأرض مواقعها، ولكنه يريدكم أن تتوحّدوا به، بحبله، بدينه، بمنهجه، بالقيم التي تتمثّل في ذلك كله، لأنّ هذه هي الوحدة التي توحّد الإنسانية كلّها، ذلك لأنّ الوحدات الصغيرة كوحدة العائلة ووحدة الوطن ووحدة القومية ووحدة العرق هي وحدات صغيرة لا تمثّل حركة الإنسانية كلّها.
أمّا وحدة الإسلام، ووحدة الدين، ووحدة القيم الروحية فإنّها تواجه الناس كلّهم وتجمع هذه الوحدات الصغيرة في الوحدة الكبرى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فوحداتكم الصغيرة من شعب أو قبيلة هي وحدات تتداخل من خلال أن كل وحدة تعطي للوحدة الأخرى ما عندها من خبرة، وما عندها من معلومات، وما عندها من تطلُّعات، فهذه هي الحياة الإنسانية التي تتحرّك في دوائر صغيرة لتكون الدائرة الكبيرة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فالإنسان يتفاعل مع الإنسان في خبرته وفي علمه وفي طاقته وفي كل حاجاته، ولكن تبقى هناك الدائرة الواسعة وهي دائرة الإنسانية المنفتحة على الله في خطّ التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(3).
الاعتصام بحبل الله:
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(1) لأنّ ما يجمعه الله لا يفرّقه إنسان، فالله جمعنا على دينه، وعلى قرآنه فلا ينبغي أن تفرّقنا عائلياتنا وأوطاننا وقومياتنا بل أن نجعل من هذه الدوائر الصغيرة تجتمع كلها عند الله.
وإذا حدث أنّ أحداً أراد أن يفرّقكم انطلاقاً من عنصريات معينة، أو من خصوصيات متنوعة، أو أن يدخل على وحدتكم بأن يضعفها، وأن يسقطها، وأن يجعل بينكم العداوة بدل الأخوة، فلا تستغرقوا في الخلافات بل حاولوا أن تتذكّروا كيف كنتم متفرّقين فجمعكم الله، فلا تعودوا متفرّقين بعد أن جمعكم. وكذلك تذكّروا تاريخكم وحاضركم، كيف كانت سلبيات الفرقة في البداية، وكيف كانت إيجابيات الوحدة في المرحلة الثانية، وإذا رأيتم إيجابيات الوحدة بعد أن عشتم سلبيات التمزّق، حاولوا أن لا تقعوا في السلبيات من جديد، لأنّ الإنسان إذا رأى الربح فعليه أن لا يأخذ بأسباب الخسارة، وهذه الآية كما يقال نزلت في مجتمع المؤمنين الأول في المدينة عندما كانوا متفرّقين بين "أوس" و"خزرج" ومهاجرين، إذ لم تكن هناك جامعة تجمعهم لأنّ العنصريات والأحقاد العشائرية والحساسيات المناطقية كانت تفرّقهم، فجمعهم الإسلام وجاء اليهود ليدسّوا أسباب الفرقة وليعيدوا العصبيات وليذكّروهم بما كانوا عليه، واستغرق المسلمون في عصبيّاتهم وغفلوا عن إيمانهم وتنادوا السلاح السلاح بعد أن راح أحدهم يفخر على الآخر بما ذكّرهم به هذا اليهودي من جاهليتهم، وجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد أن بلغه الخبر وتحدّث إليهم ونزلت الآية {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء} بعصبياتكم وبأحقادكم {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بالإسلام وبكلمته {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}(2) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(3) إخواناً بالله {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ} من خلال تلك العصبيات التي تؤدي بالإنسان إلى النار {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} التي توقظكم من الغفلة وتوجّهكم إلى الوعي وإلى التفكير وإلى التقوى {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(4).
ثم بعد ذلك يريد الله منّا أن نكون الدعاة إليه وأن لا نعيش إيماننا بطريقة انعزالية بحيث يقول أحدنا ما عليّ أن يؤمن الناس أو لا يؤمنوا، ما عليّ إنْ انحرف الناس أو استقاموا، بل إنّ عليك في انتمائك أن تحمل مسؤولية الدعوة إلى ما تنتمي إليه {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} فإذا عرفت الخير فعليك أن تجعل مسؤوليتك في أن تدعو كل من تلتقيه إلى الخير {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} والمعروف هو كل ما يرفع مستوى الإنسان، وما يقرّبه إلى الله من كل ما يتّصل بمصالحه، عليك أن لا تكون حيادياً أمام الانحراف الاجتماعي وأمام السقوط الاجتماعي وأمام الضلال الديني في المجتمع {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1) الذين يتحرّكون ليحقّقوا رسالة وجودهم التي أراد الله لهم أن ينطلقوا بها من أجل إقامة الحق للإنسان كلّه وإطفاء الباطل بكل عناوينه ومواقفه وهذا هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} فابتعدوا عن الخطّ المستقيم ودخلوا في الخطّ المنحرف {وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2)، {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}(3) إنّ الإيمان في قلبك يتحول إلى نور في وجهك {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}(4) {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ويتحول الكفر والضلال إلى ظلام في الوجه {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً}(5) {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} كفر العقيدة، وكفر العمل {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ} بكل سعتها وبكل لطفها وبكل كرمها وبكل حيويتها وبكل عطفها وبكل حنانها.
{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(6)،
{تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} لتتحرّك في خطّ الحق، ولتحضن الحق في عقلك وفي قلبك وفي حياتك {وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ}(1)، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(2).
وفي نهاية المطاف لا بدّ أن نعيش هذه الحقيقة {وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}(3) لا يملكها أحد غيره، هو المالك لكلّ شيء {وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} في تدبيرها وفي حسابها وفي مسؤوليتها، فإذا كنّا لله وإلى الله نرجع، فكيف نبدأ الخطوة، وكيف تنتهي تلك المسألة في دنيانا وآخرتنا؟!
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الثانية والعشرون
16/11/1996
الدنيا والآخرة في الميزان القرآني
"الساحةُ مفتوحةٌ والطريقُ إلى الله بعددِ أنفاسِ الخلائق، فهل نبقى في سجن شهواتِ الدنيا، أو أنّنا ننطلق إلى رحاب الله تعالى؟".
هدى القرآن:
في القرآن هدى الفكر.. وهدى القلب.. وهدى الحياة.. وفيه حديث متنوّع دائم.. يفتح عقل الإنسان وقلبه على العناصر الحيوية التي تجعل من حياة الإنسان شيئاً مهماً يؤهّله لأن يكون قريباً من الله، وأن يكون الإنسان الذي يفتح الله عليه كل رضوانه وكل جنانه.
وفي القرآن حديث متنوّع عن الحياة الدنيا في طبيعتها.. وفي هشاشتها.. وفي زوالها، إنّها مجرّد شيء طارئ لا بدّ للإنسان من أن يلمّ به تماماً كما يلمّ بالأشياء الطارئة في حياته.
أمّا الثبات وأمّا العمق والامتداد فهو في الدار الآخرة (فلمن الدارُ الآخرة) هذا هو السؤال {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ} في داخل ذاتكم، وفيما تبصرون وفيما تسمعون وفيما تلمسون وفيما تشمون وتذوقون وتتلذّذون، وفيما أوتيتم في خارج ذواتكم من مالٍ وبنين وجاه وفرص وحركة حياة تشعرون فيها بالامتلاء النفسيّ والسرور.
{فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(1) كلّ ذلك مجرّد متاع، وكلنا يعرف مصطلح المتاع.. فهو الشيء الذي تأخذه في سفرك أو تستمتع به مما يعطيك بعض الغذاء وبعض الراحة وبعض السرور ثم يذوب.. ويبلى ويتمزّق ولا يبقى هناك شيء، لذلك علينا أن نقرأ كل الذين سبقونا.. أين كل ما حصلوا عليه.. فهناك مَن حصل على مجد.. وهناك من حصل على لذّات الدنيا وشهواتها وأموالها وجنودها وما إلى ذلك.. أين هم.. هل تحسّ أحداً منهم أو تسمع له ركزا؟!. ذهبوا. وذهب كل ما هناك.. فأين هي دنياهم.. وأين المتاع؟
نعيم الآخرة:
هذا ما عند الدنيا {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ} وهنا نرتفع ونسمو وننطلق إلى الآفاق التي لا أُفق فوقها (يا من عَلا فلا شيء فوقه) لنجد أن ما عند الله سبحانه خير، والخير هنا يشمل كل نعيم الآخرة، والخير هنا يشمل رضوان الله وهو الذي يحدّثنا في قرآنه أنّ رضوانه أكبر من كل نعيم الجنّة.
وقد يسأل الإنسان كيف هذا؟ فإنّ النعيم يغذّينا ويفتح كل ما تحتاجه نفوسنا على اللّذة والسرور، ولكن الآخرة ـــ أيّها الأحبّة ـــ ليس كعالم الدنيا، حتى أن طيّبات الآخرة تختلف في العمق عن طيّبات الدنيا.. ففي الدنيا قد تسأم من السعادة لأنّ الخلود قد يوحي إليك بالسأم، ولكن عالم الآخرة يتجدّد فيه الخلود، فهو ليس شيئاً ممتداً بطريقة رتيبة، ولكنّه شيء ينطلق لتكون كل ثانية فيها لوناً من الحياة يختلف عن الثانية الأخرى.. ويبدو أنّ الشاعر العربي "بدويّ الجبل" لم يفهم معنى الخلود في الآخرة عندما نظم هذين البيتين، وقال:
إنّ الخلودَ وما تروي مزاعمُهم عن السعادةِ في الأخرى نقيضانِ
ملَّ المقيمونَ فيها من هنائتِهم كما يملّ الشقاءَ المُدنفُ العاني
إنّه يتصوّر خلوداً كخلود الدنيا ولكنه ـــ في الحقيقة ـــ شيء آخر (فيها لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلبِ بشر)، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}(1) فمفردات ما بعد الموت.. أي الآخرة قد تكون مثل مفردات الدنيا "حور عين" و"أنهار من لبن" وما إلى ذلك، ولكنها شيء آخر، كما إنّ كل ما في الآخرة شيءٌ آخر.
فهنا عالم المادة التي قد تطلّ على الروح لكن العالم هناك روحٌ كلّه، "ورضوان من الله أكبر" من كل النعيم الذي يتحسّسه الإنسان بعقله، وبقلبه وبكلّ مسامّ جسده، لأنّ فيه لذّة تسمو على اللّذة الجسدية، وفيه انفتاح يسمو على انفتاح الإنسان على الطيّبات.
فكلمة "ما عند الله" يعيشها الإنسان حتى لا يقف عند أُفق، فهو المطلق الذي لا حدّ له، وما عنده يتحرّك في هذا الاتجاه {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ} ممّا عندكم من متاع الحياة الدنيا "وأبقى".
بين الفكر والإيمان:
لمن الآخرة؟ لمن ما عند الله {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(1) للمؤمنين الذين عرفوا الله بعقولهم معرفة امتدت إلى كل كيانهم، فتحولت المعرفة إلى إيمان ومشاعر وإلى أحاسيس وإلى حب، وهذا هو الفرق بين المعادلات الفكرية وبين الحالة الإيمانية، فالفكر معادلة تبقى في عقلك، فإذا تحوّل إلى مشاعرك وأحاسيسك فهنا الإيمان، ولذلك فلا يكفي أن تفكّر بالحقيقة، بل أن تتحوّل الحقيقة عندك إلى أحاسيس ومشاعر تعيشها كما تعيش مع كل أحاسيسك ومشاعرك {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} والتوكّل ـــ أيّها الأحبّة ـــ هو ابنُ الإيمان ونتيجته، لأنّك عندما تعرف أنك خلقُ ربّك.. وأنك رحمةُ ربّك.. وأنك لطفُ ربك، تشعر آنذاك بأنّه يرعاك وأنت نطفة كما يرعاك وأنتَ في أحسن تقويم.. ويرعاك في غذائك وفي شرابك ولباسك وفي مسكنك بل وفي كل ما يحيط بك.
وإذن فأنت الفقرُ لله.. محض الفقر.. والله هو الغنيّ.. محضُ الغنى.. لذلك عليك أن تتوكّل عليه وأن تعيش في ظلّ إرادته.. فلو افترقت إرادته عن وجودك متّ، فكأنّ الإنسان يقول: يا ربِّ أنا خلقك وأنا أتوكّل عليك.. فافعل بي ما تشاء.. إحمني ممّا تشاء وأعطني ممّا تشاء، بيدك الخير كلّه وبيدك الأمر كلّه، ولذلك فأن تكون مؤمناً يعني أن تكون متوكّلاً لأنّ من لا يفهم التوكّل لا يفهم الإيمان، ومَن لا يفهم الإيمان لا يفهم التوكّل.. وأن تؤمن بالله المهيمن على كلّ شيء، وأنّ وجودك هبة منه وخاضع له، وأنك متوكّل على الله في وجودك قبل أن تتوكّل عليه بشعورك وإحساسك.. وليس أن تجلس في بيتك لتتوكّل على الله بأن يرزقك وأنت في حالة استرخاء, أو ليعلمك وأنت في حالة جهل لا تتحرّك لطلب العلم.. فلقد أعطاك الله من القوى في داخل ذاتك، وأعطاك من النعم والوسائل في خارج ذاتك ما يجعلك تتحرّك على أساس أن تفجّر طاقاتك لتحقّق لنفسك ما تريد وفق ما يريده الله ويحبّه.
حقيقة التوكّل:
ولذلك جاء في الحديث "إعقل وتوكّل" فالمتوكلون كما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) "هم الزرّاعون" فإذا أردت أن تجد التوكُّل متجسّداً في شخص فانظر إلى الفلاح.. فهو يحاول أن يهيّء الأرض وينثر البذور ويجري عليها الماء.. يرعاها وهي تنمو ويهيّء لها كل شيء ثم بعد أن يفرغ ممّا عنده يقول توكلت على الله من كل ما يقع من أحداث وأوضاع فيما بعد.
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ}(1)، والله جعل من الذنوب صغائر وكبائر، فتوعّد على الذنوب بدخول النار، وهي كثيرة ويجمعها أنها ترهق حياة الإنسان وتسيء إلى نظامه، وتفسد أوضاعه، وتجعله يتحرّك بعيداً عن القيم في حياته.
المالكون غضبهم:
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} والفواحش هي المعاصي أو الأعمال التي تتجاوز الحدود ويغلب فيها الحديث عن الأمور التي تتّصل بالجانب الجنسيّ المنحرف. {وَإِذَا مَا غَضِبُوا} فلا يتحركون في غضبهم، بالطريقة التي يفجّرون فيها غضبهم ويتصرّفون من خلال غضبهم لأنّ الله لا يريد للإنسان أن يتصرّف بدون عقل.. فالغضب عادة يذهب العقل ففي الحديث: "من لم يملك غضبه لم يملك عقله" فالله لا يريد للإنسان أن يخضع لغضبه، بل يريد له أن يتسامى وأن يرتفع وأن يعيش قيمة التسامح والعفو فيغفر لمن أغضبه وآذاه {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ*وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ}(2) في كل دعواتهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}(3)، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(4).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(1).
الاستجابة لله:
و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(2)، {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ}(3) في كل نداءاته وكلّ دعواته، لأنّ الله ربهم ولأنّه سيّدهم ولأنّه إلههم ومن حقّه عليهم أن يستجيبوا له في كلّ شيء، وهو الذي يستجيب لعباده إذا دعوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويسمع لهم إذا ناجوه.. فكيف لا يستجيبون له؟! ذلك لأنّ المسألة ليست فقط مسألة إحساس بالربوبية في عظمتها وبالعبودية في صغرها، ولكنّها حبّ، ففي الدعاء "الحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره، ولو دعوتُ غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الذي أرجوه ولا أرجو غيره، ولو رجوت غيره لأخلف رجائي، والحمد لله الذي وكلني إليه فأكرمني ولم يكلني إلى الناس فيهينوني، والحمد لله الذي تحبَّب إليّ وهو غنيّ عني، فربّي أحمدُ شيءٍ عندي وأحقُّ بحمدي" فأيّ ربٍّ هذا الربّ الذي يفيض عليك بكل العاطفة والحنان.. ولا يستحقّ أن تستجيب له، و {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(4) فالربّ يستجيب لنا.. وإنه يقول ادعوني بكلّ أحلامكم وبكل ما تريدون من تخفيف آلامكم وما تتحرّكون فيه من قضاياكم {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(5) فإذا كان الله يقول لك استجب لي أستجب لك، فكيف تبتعد عن ذلك {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} بكل ما أمرهم وبكل ما نهاهم.
إقامة الصلاة:
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} والصلاة ليست ركوعاً ميّتاً ولا سجوداً جامداً ولا قراءة باردة ولا شيئاً تعلكه بلسانك.. وإنما الصلاة في عقلك عندما ينفتح على الله ليعرف أنّ الله أكبر وأنه لا إله إلاّ هو، وأنّه وحده الذي يعبد، ووحده الذي يستعان به، ووحده الذي يهدي إلى الصراط المستقيم.. فأن تعيش الصلاة يعني أن يصلّي عقلك بكلّ المفاهيم التي تتحرّك في صلاتك.. وأن يصلّي قلبك بكلّ الأحاسيس التي تنطلق من أوضاع صلاتك.. وأن يصلّي جسدك وهو طاهر لا من الحدث ولكن من كل الدنس الذي تمثّله المعصية. فإذا صلّيت كما ينبغي أن تكون الصلاة {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}(1) فإنّك بذلك تعرج إلى الله، والصلاة (عمود الدين) لأنّها تربط الإنسان بالله وتذكّره به، بل وتجعله في حزام زمني ليرتبط في الصباح، وفي الظهر ليقترب من الله، وفي العصر لينفتح على الله، وفي المغرب ليناجي الله، وفي العشاء تكون خاتمة صلاتك الواجبة "لتتعشّى" كلّ تلك الروحيّات التي يهبها الله لك في حياتك! فكلّما هربت منه جاءتك صلاة وأرجعتك إليه {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(2) فيا أيّها المسلمون إذا أردتم ما عند الله فلا تستبدّوا برأي ولا تحتقروا بعضكم بعضاً فيما يحمل من آراء في الفكر وفي الحياة والسياسة والاجتماع فلكلٍّ منكم تجربة ثقافية واجتماعية وسياسية، فلا تحتقروا التجارب فلربّ إنسان أمّيٍّ يعيش تجارب الحياة هو أكثر وعياً من إنسان جامعي يملك الفكر ولكنه لا يملك حركة الفكرة في الواقع.
الشورى الأسرية:
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فلتتشاوروا في البيت، فلا يفرض الأب سلطته على أولاده ليلغي فكرهم، ويسيطر الزوج على زوجته ليلغي فكرها.. فالله أعطاها عقلاً كما أعطاك عقلاً، والله أعطاك عقلاً وأعطى أولادك تجربة عقلية يتحرّكون فيها ويتصاعدون.
فحاولوا أن تعوِّدوا أولادكم على التفكير لأنّكم بذلك تصنعون منهم شخصيات تملك القرار في المستقبل، لأنّك إذا علّمت ولدك أن يخضع ويطيع ولم تسمح له بالتفكير فقد يأتي غيرك ليأمره وقد يضلّه، ولكنّك إذا علّمت ولدك أن يفكّر معك لترشده في تفكيرك ولتسمح له أن يناقشك وتناقشه فإنّك تصنع ولداً يعتمد على فكره في حياته.. فنحن نصنع من أولادنا ومن بناتنا ونسائنا شخصيات ضعيفة لا تملك أن تقرّر لأنّنا لم نعطها القرار، وليس ثمّة فرق بين الحاكم الذي يمنع شعبه من القرار وبين الأب الذي يمنع أبناءه من القرار.. فنحن بهذا نُنشئ شعباً لا يملك إرادة أن يقرّر، وبالتالي نساهم في المسألة السياسية والاجتماعية بشكل سلبيّ.
في الإطار القيادي:
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فلا بدّ أن تكون في البيت لجنة شورى، وفي المحلة، والقرية والبلد وفي كل مجال، فمن "شاور الرجال شاركها في عقولها" فأي عقل أكبر من عقل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد قال الله له {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ليربّي الذين معه على التشاور فيما بينهم، والقيادة المسؤولة هي التي تجعل أتباعها يفكّرون معها، لا أن تفكّر لهم.. والقائد الذي يعيش فكرة أنه هو الذي يفكّر وعلى الآخرين أن يطيعوه قائد يشعر بالغربة والضعف، لأنّ العقول عندما تتجمّع عندك فإنّها تغني فكرك، وهذا ما قرأناه في الإيحاءات القرآنية، فنحن نجد أنّ الله عندما يتحدّث عن المؤمنين فإنّه يتحدّث عنهم مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} هو سيّد ولد آدم وفي المرتبة العليا، ولكنه مع أصحابه {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}(1) يتّصف بما يتّصفون به، ويتحرّك بما يتحرّكون به.
فإذا كنتَ قيادةً شرعية فإنّ عليك أن تستشير مَنْ معك لتعرف كيف تصوغ قرارك ولتفهم أتباعك، فالكثير من القادة لا يفهمون الناس لأنّهم لم يستمعوا إليهم كيف يفكرون وكيف يتحدثون وكيف يتألمون.. ولذلك فإنّ الشورى تعطيك فكرة عن الناس بأنْ تفهم مجتمعك وأولادك.. فإذا لم يصارحك أولادك فسوف يتحولون إلى صناديق مغلقة لا تملك مفتاحها، وعندما تمنع زوجتك من أن تفكّر معك فإنّ معنى ذلك أنك لا تفهمها، وبالتالي فإنّك لا تستطيع أن تعيش معها كإنسانة، بل تعيش معها كما يعيش جسد مع جسد، وما قيمة حياة مع ولد أو زوجة أو أي إنسان عندما تكون المسألة جسداً مع جسد؟! والجسد قد يعطي اللّذة لكنه لا يعطي المودة والرحمة.
حياة العطاء:
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(1)، فهم يعيشون العطاء لأنّهم يشعرون أن ما رزقهم الله ليس مالهم {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}(2) فأنت وكيل على المال الذي أعطاك الله وحدّد لك مصارفه في حاجاتك وحاجات من تعول {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ*لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(3) إنه حق وليس مجرّد إحسان.
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}(4) ، فإذا اعتدي عليهم فلهم الحق في أن ينتصروا لأنفسهم، ولكن إذا أردت أن تنتصر لنفسك فلا تنطلق مع غريزتك ومع انفعالاتك، فللإنتصار في الإسلام حدود، {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}(5)، فالكلمة تردُّ بالكلمة لا بكلمتين والضربة تردُّ بضربة لا بضربتين... إنّها مماثلة، فمن حقّك أن تنتصر لنفسك بمثل ما اعتدي عليك... وبعد ذلك يبقى لك أن تعفو وتتسامى وأن تكون أكبر من البغي والباغي، بأن تنفتح روحك على العفو وعلى التسامح لأنك تريد العفو من الله فتعفو عن عباد الله من أجل أن يشملك الله بعفوه ورحمته على طريقة الإمام زين العابدين (عليه السلام): "اللّهم إنّك أنزلت في كتابك العفو وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعفو عنّا فإنّك أولى بذلك منّا".
{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وإنّها لجائزة عظيمة، فهو لم يحدّد لا مائة ولا مئتي حسنة، فكلمة "أجره على الله" إنّما ترد في المفاصل الكبرى كما في قوله تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ}(6) إنّه عطاء مفتوح تماماً كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(7) فلو سبّني شخص وسببته فعلى ماذا أحصل؟!، لكنني إذا عفوت فإنّ الله سبحانه وتعالى يتكفّل بأجري وربمّا يعطيني بواسطة هذا العفو سعادة الدنيا والآخرة، فإذا أراد الإنسان أن يفجّر غيظه فعليه أن يحسب حسابات الربح والخسارة.
{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} في حقّك وفيما لا حقّ لك {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}(1)، فلا يحاسبهم الله لأنّ ذلك من حقّهم {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(2) فيفسدون في الأرض حياة الناس وسياستهم واجتماعهم واقتصادهم وأمنهم.
{أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ}، {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(3) فليس ضعفاً أن تصبر، وليس جبناً أن تغفر، فالصبر مظهر قوّة ومظهر إرادة وسيطرة على أعصابك وانفعالاتك، والمغفرة سمّو، بأن ترتفع عن كل هذا الوحل، فهذا هو خطّ من يريد ما عند الله، فهل نقف عند متاع الحياة الدنيا أو ننطلق لنطلب ما عند الله، فالساحة مفتوحة والطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فهل سنبقى في سجن شهوات الدنيا، أو أنّنا ننطلق إلى رحاب الله سبحانه وتعالى؟.
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الثالثة والعشرون
23/11/1996
في ذكرى مولد إمام المتّقين (عليه السلام):
ليسَ بين عليّ وبين الحقّ مسافة
"كانَ عليٌّ (عليه السلام) يتحركُ من أجل أن يُصلِحَ أمرَ الناس، ومن أجل أن يركّز الإسلامَ في مواقِعه".
البائع نفسه لله:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}(1)، وفي أسباب النزول يقول المفسّرون أنّ هذه الآية نزلت في عليّ (عليه السلام) عندما بات على فراش النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلة الهجرة، وهي تختصر كلّ سر عليّ في كل منطلقات حياته وفي كل امتداداتها وفي كل آفاقها وفي كل روحانيّتها وحربها وسلمها.
عليّ (عليه السلام) هو الإنسان الذي باع نفسه لله فلم يشعر أنّ هناك شيئاً للذات في عقله ليحرّك عقله على أساس ما يعطي الذات ضخامة وانتفاخاً وقوّة وحيوية بين الناس كما ينطلق المثقّفون والمفكّرون والأبطال من أجل أن يضخّموا شخصيتهم لخدمة أطماعهم وأحلامهم.
وهكذا كان قلب عليّ (عليه السلام) في كل نبضاته، وفي كل خفقاته، فلم ينبض قلبه إلاّ بحبّ الله حتى إنه عندما كان يفكر في النار، فإنّه وهو البعيد كل البعد عنها لا يفكّر في لذعاتها ولا يفكّر في لهيبها ولكنه يفكّر في الله ويخشى أن تحجبه عن الله "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرتُ على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟" ليست مشكلتي يا ربِّ هي مشكلة العذاب، بل هي أنّ العذاب لو حدث فإنّه يمثّل حاجزاً يحجزني عنك فلا ألتقي بك لأنّ الذين يعذّبون يبعدهم الله عن رحمته فلا يلتقونه "وهبني صبرتُ على حرّ نارك فكيف أصبرُ عن النظر إلى كرامتك" وقد عوّدتني كل كرامتك وكل لطفك وكل آفاق المحبة التي تملأ قلبي.
وهكذا كان عندما يتحرّك في الحياة مع نفسه "يا دنيا غرّي غيري قد طلّقتك ثلاثاً" وعندما كان يعيش مع الناس لم يكن يفكّر فيهم إلاّ من خلال الله "ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".
الزهد بالخلافة:
وعندما كان يعيش ساحة الصراع في مسألة الخلافة لم يكن يفكّر فيها موقعاً متقدّماً يعلو به، ولكنه كان يراها مسؤولية باهظة الأعباء والتكاليف كاملة غير منقوصة "فلقد دخل عليه ابن عباس وهو يخصف نعله فقال له ابن عباس: انبذها عنك واتركها لمن يصلحها لك فأنتَ خليفة المسلمين وأمير المؤمنين ولا يليق بك أن تخصف نعلك، فقال له أترى هذه النعل يا ابن عباس، إنّها أعظم من إمرتكم هذه إلاّ أن أُقيم حقاً أو أدفع باطلاً" النعل تقي رجلي من الحرّ والبرد فماذا تنفعني إمرتكم، فلقد كان بإمكاني أن آكل جيداً خارج الإمرة فأصبحت ـــ وأنا الأمير ـــ آكل الطعام الجشب، وكان يمكن لي أن ألبس جيداً خارج الإمرة فصرت ألبس اللباس الخشن، فماذا تنفعني إمرتكم، هل تضخّم شخصيتي؟ إنّني أترك كلّ شخصيتي تواضعاً لله، ذلك أنّ الذين يبحثون عن الإمرة وعن الموقع المتقدّم يرون فيه ما ينفع مقامهم ويؤكّد عنفوانهم، إنّهم الذين يفكّرون بالدنيا لا الذين يفكّرون بالآخرة.
وهكذا كان يقول وهو يؤكّد تحمله للمسؤولية في (الخطبة الشقشقيّة) "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا كل كظّة ظالمٍ ولا سغب مظلوم" لولا أني أريد أن أقف مع المظلوم ضدّ الظالم ولولا أنني أريد أن أُقيم الحقّ وأزهق الباطل "لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز".
إصلاح أمر الناس:
وهكذا كان يتحرّك، في كلّ الأجواء الحاقدة التي أحاطت به، من أجل أن يصلح أمر الناس ومن أجل أن يركز الإسلام في مواقعه، فلقد انطلق الناكثون تارة والقاسطون أخرى والمارقون ثالثة كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1). "بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراق لهم زبرجها"!! ثم يقف بين يدي الله داعياً ليُشهد الله على قلبه وعلى موقفه، وليعبّر لله عن كل خلفيات حركته عندما كان يتحرّك في مسألة الخلافة.
لقد علّمنا (عليه السلام) أنه عندما تنطلق في ساحة صراع وعندما تتحرّك مع الناس الذين يصارعونك وتصارعهم ويسابقونك وتسابقهم حاول أولاً أن تقف بين يديّ الله لتقدّم إليه حساب دوافعك قبل أن تتقدّم إلى الناس ببيانك "اللهم إنّك تعلم إنّه لم يكن الذي كان منّا" ممّا تحدّثنا به وممّا حاربنا وممّا سالمنا، "منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام" ليست الدنيا همّنا فيما انطلقنا به وليست الدنيا قضيّتنا فيما طالبنا به، وليست الدنيا كلّ شيء عندنا فيما اتخذناه من مواقف، (ولكن لنرد المعالِم من دينك)، حتى ننطلق في الخطّ الواضح الذي تتحرّك فيه هذه المعالم التي تشير إلى عقيدة هنا ومفهوم هنا وشريعة هناك (ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون وتقام المُعَطِّلة من حدودك)(1) ثم قال وهو يعبّر لله عن انه كان منذ البداية معه، وهو في الطريق معه أيضاً، وسيكون في نهاية المطاف معه "اللّهم إنّي أول من سمع وأجاب لم يسبقني إلاّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالصلاة" وهكذا كان مع الصلاة والمصلّين بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
طفولة عليّ:
وتعالوا ـــ أيّها الأحبّة ـــ نعيش مع عليّ (عليه السلام) حديثه عن طفولته، كيف كانت؟ ومن الذي علّمه وربّاه مَن الذي أعطاه علمه وروحه؟ مَن الذي وهبه كل عناصر الحق في شخصيته؟ مَن الذي فتح عقله على الله وفتح قلبه على المسؤولية وحرّكه في اتّجاه الحق؟ استمعوا إلى عليّ يتحدّث "وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره" وعمره آنذاك سنتان أو أقل "وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده"(2)، كان يحتضنه عندما ينام كما تحتضن الأم ولدها "ويمسّني جسده ويشمّني عرفه ـــ رائحته الذكية ـــ وكان يمضع الشيء عندما كانت أسنانه لا تزال في البداية "فكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ـــ في كل ما تحدّثت معه ومع غيره ـــ ولا خطلة في فعل" ومعنى ذلك أنّ عصمته في طفولته عصمة وعي لأنّ بيئته كلّها كانت رسول الله، فهو لم يعش مع الأطفال ولم يتحرّك في طفولته ليكتسب عادة سيئة هنا أو عادة قبيحة هناك بل كان رسول الله كل شيء عنده... كان مدرسته... كان بيئته وكان مجتمعه بل كان رسول الله فكره وقلبه وروحه، ثم يحدّثنا عن أستاذه الذي ربّاه وعلّمه ليعرّفنا أنّه أخذ كل أخلاقه من ينبوع صاف يتدفّق من لطف الله ومن روح الله "ولقد قرن به رسول الله من لدن أن كان فطيماً" ولاحظوا هذا التناسب فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ أن فطم عن الرضاعة تلقفته ألطاف الله، وعليّ عندما فطم عن الرضاعة تلقفه رسول الله، لاحظوا هذه المسألة الدقيقة التي تعرّفنا لطف الله بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولطف الله بأخيه عليّ (عليه السلام) "ولقد قرن الله به ـــ رسول الله ـــ من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليل نهار، وكنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه" كيف يسير فصيل الناقة خلف أمّه، يقف عندما تقف ويتحرّك عندما تتحرّك "يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به" ليس علماً نظرياً يدخل العقل ولكنه علم عملي يتحرّك في العقل وينزل إلى القلب ويتحرّك في الجسد ليكون حياة تتحرّك ثم "ولقد كان يجاور بكل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري" ومعنى ذلك أنه ليس هناك مع النبي إلاّ عليّ في عزلته التأمليّة، العبادية، الروحية، التي يعيش فيها مع الله في ابتهالاته وفي تأمّلاته، وما شُغلُ عليّ إلاّ أنّه كان يتأمّل من حيث يتأمّل رسول الله ويبتهل من حيث ابتهل، ويعيش الروحانية من حيث عاش الروحانية "ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما" ففي بداية الدعوة الإسلامية لم يكن هناك إلاّ بيت إسلاميّ واحد يضم رسول الله وخديجة وعلياً، وكان هذا البيت يتحرّك بكلّه ليذهب إلى المسجد الحرام ليهدم كل عبادة الأصنام، ولقد كان رسول الله يصلّي وعليّ إلى جانبه وخديجة خلفهما حتى مرّ "أبو طالب" وقال لابنه "جعفر" يا بني صِلْ جناح ابن عمّك وكانت تلك أول صلاة جماعة في المسجد الحرام.
ويضيف عليّ (عليه السلام): "أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوّة" هل كان شمّ عطر الجسد أو هو شمّ عطر الروح؟ إنّه عطر الأخلاق وعطر العلم وعطر كلّ عناصر شخصية رسول الله، حيث تتفاعل تماماً كما يتفاعل العطر الذي تشمّه مع مسام جسدك. كان عطر الرسالة يتفاعل مع مسام روح عليّ (عليه السلام) وكان يقول وهو يصوّر لنا مجتمعه من أي قوم هو وأيّة جماعة جماعته "وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم" يقفون مع الحق في صلابة الموقف وينطلقون في خطّ المواجهة في شجاعة الموقع، ولا تأخذهم في الله لومة ما دام الله يريدهم أن يقفوا، فما قيمة اللائمين، وما قيمة المعاتبين وما قيمة كل الناس ما دام الله يريد لنا أن نقف.
أين نحن من عليّ (عليه السلام)؟
أيّها الأحبّة: إذا كان عليّ من هؤلاء القوم فكيف نحن؟ هل نحن من قومه؟ هل نحن من الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم عندما تنطلق كلمة الله وعندما تتحرّك شريعة الله وعندما يخذل أولياء الله، هل نكون من الذين لا يخافون في الله لومة لائم أو أنّنا نقول (ربّنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجّنا من الشرير) ولنبتعد لتكون "الصلاة عند عليّ أقوم والطعام عند معاوية أدسم والجلوس على التلّ أسلم" كم هم الذين يجلسون على التلّ منّا؟ ولولا الجالسون على التلّ لما كان خذلان لأيّ حق، ولكن المشكلة، أيّها الأحبّة، هي أنّ الذين ساهموا في قتل عليّ هم الذين قالوا إنّنا نخذل الحق ولا ننصر الباطل، والحياديون اللامبالون الذين لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء شعارهم: لا أريد أن أورّط نفسي مع الجماعة ولا مع عليّ بل أقف على التلّ، ولقد قالها الإمام الكاظم (عليه السلام) وهو يتحدّث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمَّعة قال وما الأمّعة، قال أن تكون مع الناس وتقول أنا واحد من الناس"(1) أنا واحد من العائلة ماذا تقول أقول وماذا تفعل أفعل، "إنّما هما نجدان (طريقان) نجد خير ونجد شرّ فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير" لذلك فلا مجال لأن تعيش اللامبالاة، والسلبية، لا مجال لأن تعيش الحيادية بين الحقّ والباطل وبين الظالم والمظلوم.
لقد قالها عليّ في آخر أيامه "كونا للمظلوم عوناً وللظالم خصماً"(2) وقال "وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم سيماهم سيماء الصدّيقين" الذين صدقوا الله في عقولهم في الحقّ، وصدقوا الله في قلوبهم بالخير والمحبّة، وصدقوا الله في حياتهم بالموقف الصلب وبالجهاد، و"كلامهم كلام الأبرار" فكلّ كلامهم حق وخير وعدل "عمّار الليل" في العبادة ـــ "ومنار النهار" بما يضيؤنه للناس من علمهم وخبرتهم، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن رسول الله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون، أي لا يحملون الحقد على الناس، ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل فهم يعملون وقلوبهم منفتحة على الجنّات، يريدون من الله أن يدخلهم جنّته وأن يمنحهم رضوانه.
أتباع عليّ (عليه السلام):
أيّها الأحبّة ـــ هذه نشأة عليّ (عليه السلام) وهذا هو روح عليّ (عليه السلام). وهكذا أرادنا أن ننطلق معه لا لنعيش عاطفة لا مجال لموقف فيها فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "إلا وإن لكل مأموم إماماً، يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألاّ وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك"(1) فأنا لا أكفلكم ذلك، ولكن أيّها المسلمون، أيها المؤمنون، العون العون، لا على المستوى الخاص ولكن على مستوى القضية وعلى مستوى الإسلام، "أعينوني بورع، عن الحرام، واجتهاد في طاعة الله وعفّة عمّا لا يحبّه الله، وسداد في الرأي، هذه هي مسألته إنّه لا يتحدّث عن الخاص بل كان يحدّث الناس بالعام، لأنّ عقله مع الله وقلبه مع عباد الله وأولياء الله وجسده مع كل حركة جهاد ومع كل انطلاقة حقّ.
أيّها الأحبّة: أن تكون من أتباع عليّ وأن تكون من محبّيه فذلك شيء متعب جداً لأنّ قصة أن تنتمي إلى شخص في هذا الحجم، شخص لا يزال الإنسان في كل مكان يغترف من بحار فكره ومن آفاق روحانيته ومن صدق مواقفه، هذا الإنسان الذي أقبلت عليه الدنيا ولكنَه كان يرفض أي دنيا تبتعد عن الله "قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وجهَ الحيلةِ ودونها حاجز من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين وينتهز فرصتها مَنْ لا حريجةَ له في الدين"(2) مشكلته أنّه كان إنساناً ليس في شخصيته شيء من الباطل، ولقد قالها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحديث المأثور "عليٌّ مع الحق والحق مع عليّ" فهل نكون مع عليّ إذا كنّا مع باطل الكلمة ومع باطل الموقف ومع باطل الشريعة ومع باطل السياسة والاجتماع؟!.
أن تكون معه يعني أن تلتصق به وبالحق، لأنّه ليس هناك مسافة بين الحق وبين عليّ بحيث يمكن للباطل أن ينفذ منها.
ومن هنا فإنّنا عندما نحتفل به، عندما نعيشه، عندما نتطلّع إلى آفاقه، علينا أن نعيش فكره وأن نعيش روحه وصدقه ومحبّته لله وأن نعيش محبّته لرسول الله الذي قال عنه "لأعطيّن الراية غداً (في خيبر) رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّار من موقع إيمانه ومن موقع عضلاته غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه" وذاك هو عليّ، عليٌّ في سموات الإبداع والروحانية والعلم والتقوى، عليّ الذي كان يعيش أزمة مجتمعه "إنّ ههنا لعلماً جمّا لو وجدت له حَمَلَة"(1)، "سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّي بطرق السماء أعرفُ منّي بطرق الأرض" وينطلق شخص ليقول كم شعرة في رأسي، ويقول أحد المستشرقين لو كان عليّ موجوداً الآن لرأيت مسجد الكوفة ممتلأ بالقبّعات الغربية.
احتفلوا به في كل لحظة فكر وفي كل لحظة وعي تعيشون فيه وعي عليّ وحركته في الحياة، فعليٍّ هو الإنسان الذي مهما انطلقت معه ومهما عشته ومهما قرأت نهج بلاغته فإنك تجد في كل يوم شيئاً جديداً لأنّ علمه علم رسول الله ومن وحي الله "علّمني رسول الله ألف باب من العِلْم يُفْتَح لي من كل باب ألفَ باب" وقالها رسول الله عن تلميذه هذا "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها".
وفي نهاية المطاف، نقرأ مع الشاعر المسيحي (بولس سلامة):
يا سماء اخشعي ويا أرض قرّي واخضعي إنّني ذكرتُ عليّاً
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الرابعة والعشرون
30/11/1996
نظرة الإمام عليّ (عليه السلام) إلى التطوّر
"علينا أن نرفضَ كلَّ ما يتنافى مع الإسلام، وأن نفهمَ أنّ ما أحدثَ الناسُ لا يحلُّ لنا ما حُرّم علينا".
استنطاق عليّ (عليه السلام):
ونبقى مع عليّ (عليه السلام) لنستنطقه في الكثير ممّا نعيشه، لأنّنا نريد لذكراه أن تكون حركة فكرية عملية في حركة الواقع من حولنا، ذلك لأنّ علياً عندما تحدّث لم يتحدّث للناس الذين عاشوا في زمنه وحسب، ولكنّه تحدّث للأجيال التي تأتي من بعده، لأنّ حديث عليّ هو حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو حديث الإسلام الذي انطلق به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحديث رسول الله هو حديث الله {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(1).
لذلك فنحن هنا من أجل أن نسأل عليّاً (عليه السلام) عمّا نعيشه من قضايا تفرض نفسها على الذهنية العامة للإنسان المعاصر.
والسؤال الأول الذي نوجّهه إليه: يا أمير المؤمنين إنّ في حياتنا دعوات تقول إنّ ما يصلح للماضي لا يصلح للحاضر، وأنّ التشريعات التي جاء بها الإسلام في زمان الدعوة وما بعده ربّما لا تنسجم مع التطورات التي يتحرّك فيها الزمن وينطلق بها الناس، فهناك أوضاع جديدة فرضت نفسها على الواقع، وهناك تطورات جديدة فرضت نفسها على حركة الفكر والتشريع، وهناك أحداث جديدة قد تحتاج إلى حلول لا تنسجم مع الحلول التي كانت مع الأحداث القديمة.
هذا هو سؤالنا لعليّ (عليه السلام)، وقد أجاب (عليه السلام) عن هذا السؤال بقوله: "واعلموا عبادَ الله أنّ المؤمن يستحلّ العام (يعني السنة) ما استحلّ عاماً أول ويحرم العام ما حرم عاماً أوّل، وأن ما أحدث الناس" من أفكار ومن تشريعات ومن عادات ومن تقاليد ومن أوضاع "لا يحلّ لكم شيئاً ممّا حرم عليكم ولكن الحلال ما أحلّ الله والحرام ما حرّم الله"(2).
حقيقة التطوّر:
إذاً عندما يجتهد المجتهدون في الحلال ليروا الحقيقة فيه فهو حلالٌ في مدى الزمن، والحرام عندما يكتشفه العلماء اكتشافاً يقينياً فهو حرام في مدى الزمن، ونحن نعرف أنّ الله عندما ختم رسالاته بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّ معنى ذلك أنّ رسالة الله تمتدّ مدى الحياة "إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي".
لذلك كانت رسالته رسالة الحياة لأنّ رسالته وحيٌ فيما يحتاجه الناس وفيما يؤمّن لهم شروط حياتهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1)، فكل دعوة رسول الله في حلاله وحرامه هي دعوة للحياة في تطوّرها وهي دعوة تنفتح على آفاق جديدة.
أمّا ما أخذه الناس من أفكار ومن عادات ومن أوضاع فقد يقول قائل إنّها تمثّل تطوّر الزمن ونحن لا نستطيع أن نتجمّد في مرحلة من الزمن، ذلك أنّ الحياة تطوّرت، ولا بدّ للإنسان الذي يريد أن يبقى متحرِّكاً أن ينطلق مع التطور، ولكن نتساءل: هل أنّ الزمن في ذاته يحمل عناصر التطوّر؟ إنّ الزمن واحد، والشمس هي التي تحدّد الزمن ليله ونهاره، وليس الزمن الذي انطلق منذ أن خلق الله الشمس مختلفاً عن الزمن الذي بقي وامتد إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
إنّ الزمن ـــ أيّها الأحبّة ـــ لا يتطوّر ولا يمنح الحياة أيّ عنصر من عناصر التطوّر.
هل الحياة في أرضها وفي زمانها وفي جبالها وفي سهولها وأنهارها وبحارها تتحمل عنصر التطوّر الذي يعطي خطاً للفكر جديداً، أو يعطي حركة في الجانب العملي جديداً؟ كذلك الأرض هي الأرض مهما تتنوّع في شكلها ممّا يصنع الإنسان فيها، والجبال هي الجبال والبحار والأنهار والسهول كما هي.
فمن الذي صنع هذا التطوّر؟ إنّ الإنسان هو صانع هذا التطوّر من خلال أنّ هناك فكراً لمفكّر فرض نفسه على الذهنية العامة بفعل القوة التي يملكها أو فعل العناصر التي أحاطت بهذا الفكر، فجعلت الناس يفكّرون بهذه الطريقة.
فالمسألة هي هل أنّ الحياة تطوّرت بطبيعتها أو أنّ الزمان تطوّر بطبيعته؟ أو أنّ هناك فكراً فرص نفسه على الواقع، وهل معنى ذلك أنّ على الإسلام أن ينحني لفكرٍ آخر؟ إنّ معنى انحناء الإسلام لهذا التطوّر هو أنّ الإسلام ينحني للفكر الذي حرّك هذا النوع من التطوّر، وليس من الطبيعي أن تفرض على أيّ فكر سواءاً كان إلهياً أو بشرياً، أن يخضع لفكرٍ آخر، لأنّ للإسلام وجهة نظر في هذا الفكر الذي أطلق حرية الإنسان بشكل شامل أو أطلق حرية المرأة أو أطلق كثيراً من الحريّات، وكثيراً من الأفكار الاقتصادية أو الاجتماعية.
إنّه يقول لنا تعالوا يا مَن فرضتم أنفسكم بفعل القوة التي تملكونها أو بفعل القوّة التي انضمت إليكم فإنّني أعتبر أنّ هذا التطوّر عملية تراجعية في حياة الإنسان، فتعالوا نتحاور {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1).
مفهوم التطوّر عند عليّ (عليه السلام):
لذلك يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "إنّ ما أحدث الناس لا يَحلُّ لكم شيئاً ممّا حُرِّم عليكم" لأنّ ما أحدث الناس هو من خلال فكرهم الذي انطلق بعيداً عمّا أنزله الله من فكر وعمّا أراده من شريعة وعمّا خطّط له من منهج، فتعالوا قولوا لهؤلاء الناس لنتحاور فيما أحدثتموه وفيما قدّمه الإسلام.
إنّني أحبّ ـــ أيها الأحبّة ــــ أنْ تدقّقوا في هذه النقطة لأنّ كلاماً يقال بطريقة الاستهلاك الفكري أو الاستهلاك الحضاري، لا يجدي شيئاً، فلك أنّ الزمن هو هكذا:
يقولون الزمانُ به فساد وهم فسدوا وما فسدَ الزمانُ
إنّ الزمن إطار والأرض إطار والإنسان هو الذي يتغيّر {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(2)، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(3). فالقضية إذاً ليست أنّ الحياة فرضت تطوّرها على الإسلام ليتراجع الإسلام على أساس أنّ هناك خطاً أفضل منه، ولكنّ الناس هم الذين أمسكوا بزمام الحياة على أساس القوة وعلى أساس الظلم وعلى أساس تضليل الناس.
لهذا لا بدّ لنا كمسلمين أن نبقي على إسلامنا بعد أن اقتنعنا بأنّه وحي الله وبأنّه كلمة الله الأولى والأخيرة إلى العالم. علينا أن نرفض كلّ ما يتنافى مع الإسلام وأن نفهم أنّ ما أحدث الناس لا يُحلّ لنا ما حُرّم علينا ولكن الحلال ما أحلّ الله والحرام ما حرّم الله وإذا جاء الآخرون يقولون لكم أنّكم متخلّفون في نظرتكم إلى المرأة، وفي نظرتكم إلى قضايا الحريات، وفي نظرتكم إلى القضايا الاقتصادية نقول لهم: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، تعالوا إلى الحوار من موقع الموضوعية العقلانية الهادئة كما علّم الله رسولَه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(1).
فـــ (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة).
ثم يتابع عليّ (عليه السلام) حديثه ليربطكم بالتجربة، وعليّ عندما يتحدّث عن التجربة، يتحدث عن المنهج القرآني الذي زاوج بين الدليل العقلي الذي ينطلق من تأملات الإنسان في فطرته وبين الدليل التجريبي {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}(2)، فلقد كان لكم عبرة في كل ذلك، لذلك يقول الإمام إذا أردت أن تفهم القضايا جيداً ادرسها في الواقع، أدرس تجربتك وافهم عناصر التجربة، وافهم حركية التجربة، وافهم الظروف التي تحيط بالتجربة وبعد ذلك حاول أن تستنتج التجربة "فقد جرّبتم الأمور وضرستموها" ـــ أي أطبقتم عليها ـــ "ووعظتم بمن كان قبلكم" أولئك الذين انحرفوا عن الخطّ الذي وضعه الأنبياء لهم "وضربت الأمثال لكم" من وحي الله " {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}(3)، إنّ الله ضرب لكم الأمثال في أولئك كلّهم "ودعيتم إلى الأمر الواضح" فإنّ الشريعة قد انطلقت بالوضوح الذي يعطيك وضوحاً في العقل ووضوحاً في القلب ووضوحاً في واقع الحياة فلا يصمّ عن ذلك إلا أصم، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى، التفتوا إلى هذه الكلمة من خلال عليّ (عليه السلام) في التجربة في كل شيء في الحياة، ولا تعتبروا أنّ ما انطلق به الأقدمون هو الحقيقة دائماً فلا بدّ أن تجرّبوا ما انطلق به الأقدمون لتروا هل هو حقيقة أم لا، أن تجرّبوه تجربةً فكرية وأن تجربوه تجربة عملية.
"ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة" ذلك أن الإنسان الذي لا يتعلّم من معاناته، ولا يتعلّم من حركيّته، ولا يتعلّم من كل ما يدور حوله بكل ما ينطلق فيه، وبكل ما يتحرّك فيه الناس معه، فكيف تنفعه العظة، إنّ من لا ينتفع بالألم الذي يعيشه في خطّ الانحراف فكيف يمكن أن ينتفع بالكلمات؟!
الانتفاع من التجارب:
لذلك فنحن بحاجة ـــ أيها الأحبة ـــ أن ننتفع في الكثير من تجاربنا في الهزيمة وتجاربنا في الألم وتجاربنا في الفرح وفي كل التجارب الأخرى لأنّ ذلك يعطينا فكراً جديداً وعظة جديدة، وقد قال عليّ (عليه السلام) في كلمةٍ أخرى: "من العقل حفظُ التجارب" لأنّ التجربة تعطيك عقلاً جديداً: "خيرُ ما جرّبتَ ما وعظك"، والتجربة التي تضيف إلى علمك علماً وإلى فكرك فكراً فهي التجربة الكبرى في حياتك.
"ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة وأتاه التقصير من أمامه حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف"(1) أي تنقلب الصورة عنده، فإذا الصورة المنكرة تتحوّل إلى صورة معروفة، والصورة المعروفة تتحول إلى صورة منكرة لأنّه لا يحرّك وعيه من خلال تجربة الواقع وتجربة الفكر.
"فإنّ الناس رجلان: متّبع شرعة ومبتدع بدعة"(2) أي أنّ الناس على خطّين: فهناك الذي يتّبع الشرع في كل تفاصيله والذي تكون عقائده عقائد الإسلام وليس غير الإسلام، وأن يكون شرعه شرع الإسلام ومفاهيمه مفاهيم الإسلام ومناهجه مناهج الإسلام، وهناك الإنسان الذي يبتدع فكراً آخر غير فكر الإسلام ونهجاً آخر غير نهج الإسلام.
"ليس معه ـــ أي المبتدع ـــ من الله برهان سنّة ولا ضياءُ حجّة" ولذلك تراه يتخبّط في حياته، ثم يقول لنا وهو يشير إلى القرآن الكريم هذا الذي يعرّفنا حقائق الإسلام في حقائق الوحي:
"وأنّ الله سبحانه لم يعطِ أحداً بمثل هذا القرآن فإنّه حبل الله المتين وسببه الأمين وفيه ربيعُ القلوب وينابيعَ العلم"(1) إذا قرأته فإنّك تشعر بأنّ قلبك يخضرّ بكل تلك الخضرة المعشبة بعشب الفكر والوحي والروح، وتشعر أنّ العلم يتفجّر من كل آية من آياته ليعيش في قلبك ينبوع فكر وينبوع حركة.
"وما للقلب جلاء غيره" فالقرآن هو الذي يعطيك جلاء القلب إذا تراكم الصدأ والأدران عليه، لتجد بقراءة القرآن الجلاء عن الصدأ، وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف: "إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: قراءة القرآن وذكر الموت".
"مع أنّه قد ذهب المتذكّرون وبقي الناسون والمتناسون، فإذا رأيتم خيراً" وهذا الخطّ الذي يرسمه عليّ لأتباعه، فتّش في الشارع والبيت، وفتّش في أيّ مكان، فإذا ما رأيت الخير يتحرّك أمامك، خيراً في حياة الناس وفي فكرهم وفي ساحة الصراع. "فإذا رأيتم خيراً فأعينوا عليه، وإذا رأيتم شرّاً فاذهبوا عنه" لأنّ الإنسان في خطّ القرآن ونهجه يتحرّك بين الخير والشرّ. "فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقول: يا ابن آدم اعمل الخير ودع الشرّ فإذا أنت جواد قاصد"(2) أي فرس مستقيم ينطلق في الجادة إلى الهدف الكبير في الحياة.
التلوّن في الدين:
وهكذا يريدنا الإمام (عليه السلام) في نهاية المطاف "فإيّاكم والتلّون في دين الله" والتلّون كناية عن النفاق في أن تظهر شيئاً وتخفي شيئاً، والله يخاطب نبيّه {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}(3)، فالنفاق انحراف عن الحق وعن إنسانية الإنسان، فهو ـــ أي عليّ ـــ يدعو للتوّحد في دين الله والاجتماع على دينه، فما يجمعه الله بينكم من خلال دينه لا يفرّقكم عنه أحد.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1)، والأخوة الإيمانية قد تكون أعظم من الأخوة النسبيّة لأنّ أخوّة النسب انطلقت من خلال اللحم والدمّ، وأمّا أخوّة الإيمان، فقد انطلقت من فكر ينفتح على الله، ومن خطّ يتحرّك في طريق الله، ومن شرع يجمع الناس على حكم الله، فعلينا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نلتقي على أخوّة الإيمان وأخوّة الإسلام حتى لو اختلفنا في بعض التفاصيل فيما نفكّر ونستفتي، أو بعض ما نأخذ من خطّ سياسي هنا أو اقتصادي أو اجتماعي هناك، عندما يجمعنا الله على كلمته فإنّ كلّ تفاصيل الكلمات لا يمكن أن تفرّقنا، فلنعِ جيداً أمرنا في انفتاحنا على الله، لنعي أمرنا في مواجهتنا للتحدّيات الكبرى، وفي ساحة الصراع حتى نعرف كيف يمكن لنا أن نجمع المتفرّقات بدلاً من أن نفرّق المجتمعات، فنحن مولعون بأن نفرّق ما اجتمع وأن نمزّق ما التئم، وأن نبعّد ما قرب، ولذا فإنّنا نحتاج إلى إيمان يختزن العقل في نظرته إلى الواقع، وإلى قلب ينفتح على المحبة التي تنطلق من محبّتنا لله ولرسوله ولأوليائه.
فهل يعجبكم كلام عليّ؟ ولو جاءكم عليّ ليتحدّث معكم شفاهاً فهل تقبلونه أو ترفضونه؟ ذلك أنّ مشكلتنا أنّنا مع عليّ عندما يكون في التأريخ ولكن عندما يأتينا عليّ والسائرون في خطّ عليّ ويقولون كلمة الإسلام وكلمة القرآن وكلمة الرسول وكلمة عليّ التي هي كلمة الله وكتابه ورسوله، فأخشى أن نرفضه لنقول له: ارجع يا أبا الحسن إلى سنة الأربعين من الهجرة حيث كنت في مسجد الكوفة.. فلا تربك حياتنا في هذه السنّ المتقدّمة، ولا تزعج عصبياتنا ولا تصادر أنانيّاتنا ولا تحدّثنا عن الحق فسوف لن يكون لك صديق بيننا الآن كما لم يكن لك صديق هناك، عندما قلت "ما ترك لي الحقّ من صديق"، فإنّ الذين يحملون الحقّ فكراً في عقولهم ونبضة في قلوبهم، وحركة في خطواتهم يرجمهم الناس بالحجارة ولن تكون أفضل من ذلك، فهل ترانا نقول لعليّ ذلك؟ ربّما قلنا له أكثر من ذلك!!
"فإياكم والتلوّن في دين الله، فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما تحبّون من الباطل"(2) فلو درستم هذه الجماعة و"يد الله مع الجماعة" التي تجمعكم على الحق حتى لو كرهتموها وحتى لو أتعبتكم وصادرت بعض منافعكم، فستجدون أنّ النتائج الإيجابية التي تحصلون عليها من اجتماعكم على الحق أفضل من النتائج الإيجابية التي تتصوّرونها عندما تتفرّقون من خلال الباطل.
"وإنّ الله سبحانه لم يعطِ أحداً بفرقةٍ خيراً" فلن يكون هناك خير من الفرقة لا في بداية الزمان ولا في نهايته "ممّن مضى وممّن بقي".
وختاماً، يعظنا عليّ (عليه السلام) بكل محبّة وبكل روحانية: "يا أيّها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس" أن تجلس لتفكّر بأخطائك وسلبياتك وعيوبك حتى إذا اكتشفتها أصلحتها قبل أن تفكّر في عيوب الناس لأنّك مسؤول عن عيوبك وأمّا عيوب الناس فهم مسؤولون عنها، فلماذا تفكّر فيما لا مسؤولية لك فيه إلاّ من خلال الدعوة والإصلاح، بينما تفقد نفسك، وهناك كلمة مأثورة للسيد المسيح (عليه السلام) "ماذا ينفعك إذا ربحت العالم وخسرت نفسك" وما فائدة أن تعرف كل عيوب الناس من حولك، ولا تفهم عيوب نفسك؟!.
"وطوبى لمن لَزِمَ بيته وأكل قوته واشتغل بطاعة ربّه" ولا يعني لزوم البيت الانعزال عن الناس، بل الابتعاد عن كل الساحات التي يمكن أن تضلّه أو تهدم إيمانه "وبكى على خطيئته فكان من نفسه في شغل والناس منه في راحة" وذلك هو المؤمن الذي يكون الناس منه في راحة لأنّه لا يؤذي أحداً ولا يشتم أحداً ولا يخون أحداً ولا يضرّه، وبدنُه منه في تعب لأنّه يجاهد نفسه في كل ما يثقل نفسه وما تأمره به من السوء.
ذلك هو عليٌّ في كلماته، والذي يبقى لنا ومعنا، فهل نبقى معه؟!
هذا هو السؤال الكبير الذي يفرض نفسه علينا في حركة الواقع.
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية الخامسة والعشرون
7/12/1996
السؤال في "المبعث" و"الإسراء والمعراج":
ماذا قدّمنا للإسلام؟!
"كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) النبيَّ الداعية، وعلى كل مسلمٍ أن يكون المسلمَ الداعية" .
في "المبعث" و"الإسراء والمعراج": يقول الله سبحانه وتعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ*وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ*ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(1).
ويقول الله سبحانه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(2).
في هذه الليلة نلتقي بذكرى (المبعث النبويّ الشريف) في رواية يرتضيها الكثيرون من المسلمين، وفي ذكرى "الإسراء والمعراج" في رواية أخرى، ومهما اختلف المسلمون في تحديد هذه المناسبة أو تلك فإنّهم لا يختلفون في عظمة المناسبتين معاً: فأمّا المناسبة الأولى فهي مناسبة المبعث التي هي تعبير عن ولادة الإسلام، فلقد ولد الإسلام في اليوم الذي بعث الله فيه رسوله ليهدي وليفتح للناس أبواب معرفته ويشقّ لهم طريق السير في خطّ الله ولينفتح بهم على ما عند الله من رضوانه ومن نعيمه.
لذلك فلا بدّ لنا من أن نتابع مثل هذه الذكريات في القرآن الكريم لنعرف كيف يصوّر الله سبحانه وتعالى لنا مهمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودوره في كتابه، لأنّنا من خلال ذلك نعرف ما هي مهمّتنا وما هو دورنا لأنّ النبيّ الذي أراده الله نبيّاً للعالم ورسولاً للإنسانية لا يريد له أن يبقى مجرّد نموذج شخصي في الارتباط الوجداني بذاته، وإنْ كان هو النموذج الأوحد، الأمثل، الأكمل، الأعلى، فيما يتمثّل في عقله وفي روحه وفي معرفته بربّه وفي جهاده وصبره كنموذج أكمل للإنسانية جمعاء، بل يريد لنا أن نتمثّله في صفّته الرسالية بحيث يكون ارتباطنا به من خلال ارتباط المسلمين برسول الله بكل ما توحي به الرسالية من معان وإيحاءات وكمالات إنسانية ليبقى في وجداننا العقيدي مثالاً للرسالة وتجسيداً من حيث هو رسالة متجسّدة ونبوّة متحرّكة.
النبيّ الداعية:
وقد يبقى النموذج في خصائصه العامة نموذجاً لا يمكن أن يعطي الحركة لمن بعده في نماذج متدرّجة في الحجم وفي الموقع وفي الحركة، إلاّ أنّ النبي كان النبيّ الداعية وعلى كل مسلم أن يكون المسلم الداعية، ولقد كان كما يقول عنه الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يفتح عقولهم على معانيها، ويفتح قلوبهم على مشاعرها وأحاسيسها، ويفتح حياتهم على حركيّتها ليعيشوها عقلاً وقلباً وروحاً وحركة.
{وَيُزَكِّيهِمْ} بأن ينفذ إلى داخل نفوسهم ليعطيها هذه الطهارة الروحية والصفاء الفكري والنموّ العقلي لأنّ التزكية تتحرّك في عالم النموّ كما تتحرك في عالم الطهارة والصفاء.
الدور التربوي:
ومن هنا نعرف أنّ الدور النبويّ العظيم الذي كان يمارسه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الدور التربوي الذي يعيش فيه مع أصحابه كأحدهم ليشعروا بعفوية العلاقة معه وببساطتها لكي يتحسَّسوا روحه وطهارته وروحانيته وتواضعه وكل أخلاقه وأسلوبه في الحياة، ولعلّ هذه من الخصائص التي لا بدّ للعاملين في سبيل الله أن ينتبهوا إليها، فإنّك لن تستطيع مهما أوتيت من علم أن تفتح قلوب الناس على ما تعظهم به وترشدهم به وتدعوهم إليه إذا لم تعش معهم حياة تشعرهم فيها أنّك كأحدهم، ذلك أنّ الموعظة الفوقية هي ممّا يثقل على الإنسان، فيشعر بالاضطهاد حتى أمام من يرشده إذا كان يعيش العقلية المستعلية التي ينظر فيها إلى الناس من فوق، تماماً كما لو كان العالم وكانوا الجاهلين، وكان المهتدي وكانوا الضالّين، "كان فينا كأحدنا" هذه صفة في الرسول في مستوى العظمة، وصفة في الداعية في مستوى حركة الدعوة في الواقع.
الوحدة الروحية:
ونلاحظ ـــ أيها الأحبة ـــ أنّ الله سبحانه وتعالى قد صوّر هذه العلاقة بين الرسول وبين أصحابه على أنها علاقة فريق واحد وليست علاقة شخص يطلّ عليهم من فوق وإن كان في واقعه فوق الفوق، لأنّه لا بدّ للرسول أن يعيش مع الناس، لاحظوا التعبير القرآني الإيحائيّ {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ}(1)، إنّه يتحدث عنهم بأنّهم (معه) لا (خلفه) لأنّ الأتباع والأصحاب عندما يندمجون في الرسالة، وعندما ينطلق الرسول في كل المواقع فيجاهد حيث يجاهدون، ويسالِم حيث يسالِمون ويجلس حيث يجلسون، ويتألم حيث يتألمون، ويفرح حيث يفرحون.. عند ذلك لا تكون هناك حواجز.. ففي الساحة هم جميع، وفي مواقع الصراع هم جميع، وهذا ما نستطيع أن نستلهمه من القرآن، وعظمة القرآن بمقدار ما تستوحيه لا بمقدار ما تفهمه من قاموس اللغة {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}(2) وكلمة {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} تعطي معنى الاندماج بين الرسول وبين الأمة، كما تعطي معنى الوحدة في الشعور عندما يكون الإنسان من داخل نفسك، وقد يفهم في اللغة {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من داخل مجتمعكم، ولكن للكلمة إيحاءات لاحظوا أنّه قال {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} ولم يقل (من بلدكم) أو (من عائلتكم) أو (من قوميّتكم) إنّما قال {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي أنّ هناك وحدة روحية تتمثّل في هذا الرسول الذي يعيش معهم ويعيشون معه.
ثمّ لاحظوا هذه الوحدة النفسية {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يعزّ عليه ما تجهدون فيه، وما تتحمّلون من المشقّة {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} من خلال هذا الاحتضان الروحيّ، فتمثّلوا الأم كيف تحرص على أولادها، إنّه ينفتح عليكم بروحه ويتفاعل معكم بمشاعره {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ولن يستطيع أيّ داعية أن يقتحم عقول الناس وقلوبهم وأن يقتحم مشاعرهم، فإذا لم تحبّ من تعمل معه، بأن يكون همّه همّك وألمه ألمك وتحرص عليه بأن تعيش كل قضاياه واهتماماته، إذا لم تكن كذلك كانت كلماتك مجرّد كلمات جامدة تخرج دون نبض ودون إحساس ودون روحية ودون معنى.
التواضع لله:
إنّ الكثيرين من الناس ممّن يعتبرون أنفسهم في موقف الدعوة إلى الله وفي موقع التبليغ، لا ينجحون، لماذا؟ لأنّهم يعتبرون الناس بقرة حلوباً يشربون من ألبانها، ولأنّهم يعتبرون الناس مجرّد أشياء من حولهم يتعاملون معهم كما يتعامل الإنسان مع الشيء الخالي من الروح ومن القلب.
لذلك فإنّ حديث الله عن رسوله إنّما هو إيحاءً لكل من يتحرك في خطّ رسول الله، بأن يكون المتواضع لله أولاً، وأن يشعر دائماً بالإنسان أمام ربوبية الله لينفّذ أمره على أساس أن لا إرادة له أمام إرادته، ولا كلمة له أمام كلمته، كما كان عليّ (عليه السلام) عندما كان يتحدّث عمّا يتوهّمه الآخرون في أنه يحبّ الفخر، فكان يقول: "وإنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس، أن يُظنّ بهم حُبُّ الفخر، ويُوضعَ أمرُهُم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنِّكم أنّي أُحبُّ الإطراء، واستماع الثناء، ولست بحمد الله ـــ كذلك، ولو كنت أُحبُّ أن يُقال ذلك لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحقُّ به من العظمة والكبرياء"(1). لأنّ الإنسان الذي يعيش عظمة الله في نفسه لا يسمح أن يتحسّس معنى العظمة في ذاته، وإن كان يملك بعض عناصر العظمة البشرية، بحيث تعيش ولا تشعر بعظمتك حتى لو قال الناس إنّك عظيم، ولا تشعر بحجمك الكبير حتى لو قال الناس عنك إنّك الكبير.
فينبغي أن تتواضع لله وللناس الآخرين لأنّك عندما تتكبّر عليهم فمعنى ذلك أنّك تعيش في اللاشعور روح العدوانية عليهم كأنك تقول: أنا الذي يجب أن أُطاع وأن أُسمع وأن أُتّبع وأن يصفّق لي الناس، وعند ذلك سيكون كل تفكيرك، وأنت تعظّ، كيف يهتزون لمواعظك، لا كيف تصل مواعظك إلى نفوسهم، وعندما تتحدّث معهم وتأمرهم وتنهاهم، ليكن تفكيرك في كيف يكون لك أن تجتذب تأييدهم وحبّهم.
ثمّ {وَيُزَكِّيهِمْ} من خلال زكاة نفسه والصفاء والنقاء والروحانية التي يتميّز بها لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
لذلك ـــ أحبّ أن أقول لنفسي أولاً ولكم ثانياً، مَن وضع نفسه في موقع الدعوة إلى الله وفي موقع التبليغ لرسالة الله فعليه أولاً أن يحبّ الله ورسوله ويحبّ الرسالة من خلال ما يحبّه في الله والرسول، ثمّ يحبّ الناس من خلال ذلك، حتى ينفتح عليهم انفتاح الحبيب إلى حبيبه، كيف تخاطب حبيبك بالكلمات التي تريد أن تجتذبه إلى حبّك، خاطب مَن تعظه ومن ترشده ومن تهديه بكلمات الحبّ، وبأن تنطلق الموعظة من قلبك كما تنطلق من عقلك.
تعليم الكتاب والحكمة:
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} الكتاب كلّه، كتاب موسى وكتاب عيسى والكتاب الذي أنزل إليه، حتى يعيشوا وحدة الرسالات {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}(1)، {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}(2)، وهذا هو الفرق بين المسلمين وبين غير المسلمين، وهو أنّ المسلمين يؤمنون بالكتاب كلّه، وغيرهم لا يؤمنون بالكتاب كلّه، لذلك يعلّمهم عندما يلتقون بأهل الكتاب {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(3) فالمسلمون وحدهم الذين يعيشون معنى الإسلام لله لأنّهم آمنوا بكل ما أنزل الله وكل رسل الله.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} وقد ضمّن الله القرآن ما في الكتاب من أحاديث الانجيل فيما يبقى منه للحياة كلّها، وأحاديث التوراة فيما يبقى للحياة منها، وأعطى الله من خلال الوحي الجديد ما تحتاجه الحياة في تطوّرها ومتغيّراتها.
{وَالْحِكْمَةَ} وقد يقول قائل: إذا أنزل علينا الكتاب، والكتاب كلمته لموسى ولعيسى ولنبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأية حاجة إلى الحكمة.. إنّ الحكمة حركة الكتاب في الواقع.. وهي الجانب التطبيقي للكتاب، فالنبيّ لا يعلّم الناس الكتاب فقط، ولكنه يعلّمهم كيف يحرّكون الكتاب.. فعندما يحدّثهم عن الأخلاق في القرآن كان يعلّمهم كيف يطبّقون هذا الخطّ العمليّ "كان خُلُقه القرآن" وكان قرآناً يتجسّد وقرآناً يتحرّك، ولقد ذكرت أكثر من مرّة بأنّ هناك من كان يقول: لو أنّ الله أرسل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعه القرآن مذهبّاً، مجلّداً، مزخرفاً، مشرقاً، وأعطاهم إيّاه ثم انعزل عنهم لم يدخل في الإسلام أحد، ولكنّ الله أرسله بالقرآن، وجعله قرآناً ناطقاً يتحرّك، فكان الناس يسمعون القرآن من فمه، ويرون القرآن في سلوكه وفي حركته، وكنّا نقول ولا نزال إنّ السنّة هي قوله وفعله وتقريره لما يفعله الناس ولا يستنكره.
وهكذا يريد الله أن نحصل على الحكمة وهي الذهنية التي تربّي عقلك وقلبك وحركتك عليها بحيث تضع الشيء في موضعه، فتكون الكلمة مطابقة لمقتضى الحال، تتحرّك في الموضع الذي تكون فيه الحركة منسجمة مع حاجة الواقع، فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فأن تكون الحكيم أي الذي يضع الأشياء في مواضعها فهذا ما يريده الله، لذلك لا يكفي ـــ أيها الأحبة ـــ أن تفهموا الكتاب في الجانب النظريّ بل لا بدّ لكم أن تفهموا الكتاب في الجانب التطبيقي.
فمثلاً أنتَ تقرأ الصلاة في القرآن، ولكن السؤال هو: كيف تصلّي؟ وتقرأ كذلك الحديث عن الصوم، ولكن السؤال: كيف تصوم؟ وتقرأ الحديث عن الصدق، ولكن في أي موضع تحرّكه؟ وهكذا عن الأمانة وعن كل شيء، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو التجسيد لذلك، ولهذا أراد الله لنا أن نقرأ وأن نقرأ رسول الله ومن ثمّ نعرف قيمة دراسة المسلمين لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما جاء منها في القرآن وفيما جاء منها في السنّة، لأنّنا مكلّفون بأن نقرأه في كلّ حياته وكل أقواله وأفعاله، أتريدون شاهداً من كتاب الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(1) أن ينطلق خطّ النظرية مع خطّ التطبيق في خطّ القدوة.
قراءة كتاب الحياة:
فلا بدّ للإنسان المسلم الداعية المبلّغ الواعظ المرشد أن يكون لديه روح ينفتح فيها على الناس بروحانيّته، وأن يكون له علم ينفتح به على الناس بعلمه، وأن يكون له عقل يتحرّك في حياته وحياة الناس بحكمته.
لهذا لا يكفي بأنْ يكون للعلماء علم، بل لا بدّ أن يكون لهم عقل الرسالة وعقل الحياة، ومن لا يملك عقل الحياة ومعرفة الناس في كل أوضاعهم وأطوارهم والتيارات المسيطرة عليهم لا يستطيع أن يعظ الناس لأنّه سيقرأ شيئاً ممّا عاشه الأوّلون، يقرأ في الكتاب فقط والداعية لا بدّ أن يقرأ في كتاب الحياة، وكتاب الإنسان، كما يقرأ في كتاب الله وفي كتاب العلماء الذين استوحوا كتاب الله.
وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما قال: "وصحبة الجاهل شؤم، والعقل حفظ التجارب، وخير ما جرّبت ما وعظك ومن الكرم لين الشيم"(1) فالإنسان الخالي من التجربة إنسانٌ لا يفهم الحياة ولا يفهم الإنسان، لذلك نحن بحاجة إلى أن ندخل الحياة بكل عمقها وبكل صراعاتها، فالذين ينعزلون عن ساحة الصراع وعن حركية الحياة لا يستطيعون إغناءها لأنّهم لا يفهمون كيف يحرّكون الكلمة وكيف يقدّسونها، وكيف ينطلقون في عقل الإنسان من أجل إغناء ذلك كلّه.
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ثمّ يبيّن أن هذا النهج، هو نهج الرسالة الذي يفتح باب الهدى للضالين، والذي يتابع سيره في خطّ الزمن، من خلال الطلائع الإسلامية التي تتابع المسيرة في الدعوة والحركة والجهاد {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} من خلال لطفه وإلهامه وما يهديه للإنسان من سبله. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} علماً وروحاً ومعرفة وحركةً {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(2)، فلا بدّ لك أن تفتح قلبك لله ليتحرّك في الاتجاه الذي ينطلق من خلاله في خطّ الهدى.
الإسراء إغناء للمبعث:
وهكذا نطلّ على الإسراء ونرى أنّ الإسراء حركة في خطّ إغناء المبعث من خلال إغناء الرسول ثقافياً، لأنّ هناك مسألة ثقافية تنطلق ممّا يقرأه الإنسان في الوحي، وهناك مسألة ثقافية تنطلق ممّا يقرأه الإنسان في الكون وفي آفاق الله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ}(3)، حتى يقرأوه بعيونهم ثم ليقرأوه بعد ذلك بعقولهم، لأنّ العين طريق القلب فهي تهيّء لنا المواد الخام لنصنعها بعقلنا وثقافتنا.
فالله تعالى يريد لنا أن نعيش في الآفاق لنرى آياته {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فلقد عاش النبيّ في مكّة، وكانت كل آفاقه الجغرافية تتمثّل في رحلته من مكّة إلى الشام في تجارة أو تجارتين، ولكنّه كان يحتاج إلى أن يعرف الآفاق الأبعد لأنّ رسالته كانت رسالة كونية وشمولية وهذا ما عبّر الله عنه بقوله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}.
ومن الطبيعي أن يكونَ النبيّ الذي يحمل الكتاب الذي يدعو الناس إلى أن يروا كتاب الله في الآفاق، أن يرى آيات الله في الساحة التي تمثّل مجمّع النبوّات، وساحة حركة الروحانيات، فقيمة (المسجد الأقصى) أنّه المسجد الذي يعيش أنفاس الأنبياء الذين كانوا يتحرّكون فيه، فلا بدّ للنبيّ الخاتم أن يعيش على الطبيعة حركة ساحة الرسالات، وإذا صحّ الحديث أنّه أمّ الأنبياء في بيت المقدس عندما أسريّ به إلى هناك، فإنّ معنى ذلك أنّ الله أراد أن يريه آياته في الأنبياء ليلتقي بهم حتى يجمع كلّ تجاربهم ويتعرّف كلّ آفاقهم ليبدأ تجربته ودعوته من خلال أن يجمع كل الأنبياء في شخصه، وكل روحهم في روحه، وكلّ تطلّعاتهم في تطلّعاته، وكل تجاربهم في تجاربه.
ثم ينطلق (الإسراء) ليكون إسراءاً إلى آيات الله في السماء، فلقد أجمع المسلمون على أنّ معراجه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان معراجاً بالجسد ومعراجاً بالروح حيث رأى من آيات ربّه الكبرى في الكون الأرضي وفي الكون السماوي ممّا يحتاج أن يعلّمه للناس فكراً من خلال ما عرفه عياناً، كما ورد في أحاديث المعراج. ومن هنا كانت مسألة الإسراء الأرضيّ والسماويّ تتّصل بتثقيف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، والذي كان يثبّته بكل وسائل التثبيت ومواقعه، ولذا ارتبط خطّ الإسراء بحركة خطّ المبعث، إذ لم يكن مجرّد معجزة تكريمية تشريفية لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّ الله قد أعطاه الشرف كلّ الشرف، والكرامة كلّ الكرامة، فلا يحتاج في زيادة شرفه إلى إسراء يشرّفه أكثر أو معراج يشرّفه أكثر لأنّ الشرف هو هبة الله ولطفه الذي أعطاه كلّه فلا يحتاج إلى شيء ماديّ في حركة الشرف.
خطّ الرسالة:
وهكذا يلتقي المبعث والإسراء في خطٍّ واحد هو خط الرسالة في حركة الرسول من أجل أن ينفتح أكثر، ولكي يعيش التجربة بنحو أوسع، وحتى ينفتح على الآفاق كلّها لتنطلق رسالته من موقع الرسول الذي أعطاه الله علم الكون في حركة رسالته التي تمثّل الرسالة الكونية الشاملة وأنّها للإنسان كلّه وللزمن كلّه.
وهذا هو الفرق بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين بقية الأنبياء (عليهم السلام) الذين لم يعطهم الله الفرصة في هذه التجربة، لأنّ رسالتهم كانت محدودة الزمن، وربّما في الأُفق أيضاً. أمّا الرسالة التي تتحرّك في الزمن كلّه وفي الآفاق كلّها فتحتاج إلى مثل ذلك.
هذا موجز عن كلّ هذا الجوّ، ولكن ما هي عناصر هذه الرسالة؟ إنّ العنصر الأساس هو "العقلانية" فالله سبحانه وتعالى: اعتبر العقل أساساً لحركة الإنسان ولذلك خاطب الذين "يعقلون" واعتبر مشكلة الذين يدخلون النار {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} على اعتبار أنّ السمع فوهة تنفذ من خلالها الكلمة إلى العقل ليفكّر، فعلاقته بالعقل علاقة الجهاز الذي يهيّء له المواد الخام ليفكّر فيها {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(1) فمشكلة أصحاب السعير إذاً هي أنّ لهم قلوباً لا يعقلون بها وأسماعاً لا يسمعون بها كما كانت لهم أعين لا يبصرون بها.
فلا بدّ أن نعيش العقلانية لا الانفعالية والعاطفية التي أراد الله لها أن تعطي حركة الإنسان شيئاً من الليونة والطراوة، أمّا أن تحكم الإنسان فهذا ممّا لا يرضاه الله.
شمولية الإسلام:
وفي الإسلام "الشمولية" فأنتَ كمسلم ليس لك أن تضيّق إنسانيتك في دائرة خاصّة لتجعلها سجينة في نفسك، فقد تعيش خصوصيات إنسانيتك.. كن عربياً أو فارسياً أو عراقياً أو أوروبياً.. كن الأسود أو الأبيض، كن أيّ شيء ولكن على أساس أنّ كل دائرة صغيرة تنفتح على الدائرة الأوسع، وهكذا يتم الانتقال من الدوائر الصغيرة إلى الدائرة الكبيرة وهي دائرة الإنسانية، فالمسلم إنسانيّ يعتبر الخصائص القومية والجغرافية والعرقية خصائص في الإنسانية، ولا يعتبرها الدائرة التي تغلق نفسها على مَن في داخلها، فلا تسمح له بالانفتاح على ما في خارجها.
وهكذا انطلق الإسلام من خلال العدل كلّه والحقّ كلّه والرحمة كلّها والمسؤولية في الحياة، فلست الإنسان الذي يعيش اللامبالاة والحياد في الحياة، فالمسلم منتمٍ وليس حيادياً، فلا بدّ لنا كمسلمين أن نتحرّك في الإسلام لننطلق مع خصائصه التي تمثّل مسؤوليتنا {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1).
ماذا قدّمنا للإسلام؟
أيّها الأحبّة، في ذكرى المبعث لا بدّ أن ندرس ماذا قدّمنا للإسلام في أنفسنا وفي الواقع، وماذا عملنا من أجل دعوة الآخرين إلى الإسلام وتربية أنفسنا على أساسه؟ ماذا فعلنا من أجل قضايا الإسلام والمسلمين في العالَم، فعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: "مَنْ أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس منهم، ومَن يسمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"(2)، "المؤمنون في تبّارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"(3) فلا بدّ أن نشعر أنّنا جزءٌ من أمّة وأن قضاياها ومشاكلها مشاكلنا، وأنّ انتصاراتها وهزائمها هي انتصاراتنا وهزائمنا، ولا مجال لمسلم أن يعيش فرداً يفكّر بذاته بعيداً عن أُمّته بلا دور في عملية الدعوة للإسلام، ولا مجال للمسلم بأن يتحرّك في الخطّ المنحرف بعيداً عن خطوط الإسلام ليكون إسلامه مجرّد انتماء شكليّ، فليس الإسلام مجتمعاً تنتسب إليه ولكنه فكر وروح وحركة منهج، وانفتاح على كلّ ما في الإنسان بغية الوصول إلى هدايته.
فكما أسرى الله بالنبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، علينا أن نعيش الإسراء الفكري والسياسي والروحي للمسجد الأقصى من أجل أن يبقى طاهراً، صافياً، نقياً، بعيداً عن رجس هؤلاء الذين يقتلون النبيّين بغير حق، والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. فمسألة المسجد الأقصى تلخّصها مأساة فلسطين والتي بدورها تلخص الموقف الذي يواجه التحدّيات.. إنّها مسألة المسلمين جميعاً، وهذا هو درس يوم المبعث وهذا هو درس الإسراء والمعراج.. فليس هو زينة تُزَيَّن بها شوارعنا ولا كلمات نستهلكها ولا مدائح نجترها وحسب.. بل أن ندخل الحياة وهي في صورة معينة حتى إذا خرجنا منها غدت صورة الإسلام أكثر إشراقاً وساحاته أكثر امتداداً {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).
والحمد لله ربّ العالمين
الافتتاحية السادسة والعشرون
14/12/1996
في ميلاد الحسين والعبّاس والسجّاد (عليهم السلام):
ليكنْ الخيرُ سيِّدَ كلِّ العلاقات
"لمناسباتِ التأريخ الذي نتّصلُ به اتصال الانتماء.. معنى التأمّل والتفكيرِ والانفتاح على كلّ خصائصِ هذا التأريخ" .
التأمل في مناسباتنا:
لمناسبات التاريخ الذي نتّصل به اتصال الانتماء لما يحمله في داخله من حركة الرسالة وحركة الرساليين ولا سيما إذا كانوا ممّن أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.. لهذه المناسبات معنى التأمّل والتفكير والانفتاح على كلّ خصائص هذا التاريخ، لا لنستغرق فيه فلسنا من أهله، ولكن لنستوحيه ولنأخذ مند الدرس والفكرة والعبرة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}(1).
وفي هذه الأيام الثلاثة نلتقي بالحسين (عليه السلام) وبأبي الفضل العباس (عليه السلام) وبعليّ بن الحسين (عليه السلام) في ذكرى مولدهم، فهي مناسبات فرح من خلال أشخاص أدمنّا المأساة عندما نذكرهم، والدموعَ عندما ننفتح عليهم، لذلك فقد يحتاج الإنسان إلى أن يجدّد وعيه ويحرّك مشاعره وأن يستوحي من المأساة معنى الفرح.
إنّ هناك نوعين من المأساة: المأساة التي تتّصل بالذات، في حال الإنسان الذي يعيش الظلم من قبل إنسان آخر، فيقتله ذاك أو يحبسه أو يجرحه، فلا تملك ـــ إزاء ذلك ـــ إلاّ أن يبكي قلبك ويجري دمعك على هذا المظلوم.. وهناك المأساة التي لا تستطيع إلاّ أن نعيش فيها الفرح، فحتى عندما تسيل دموعك فإنّها تختزن في داخلها الابتسام، وعندما يحزن قلبك فإنّه يعيش الفرح في نبضاته، حيث تلتقي المأساة بالرسالة من جرّاء التقاء الفرح بحزن الذات، وهذه ميزة أهل البيت (عليهم السلام) فهم ليسوا مجرّد مظلومين في التاريخ سواء كانت الظلامة تتّصل بحقّهم المغتصب، أو تتصل بالدماء التي سالت منهم أنهاراً، أو بالسجون التي دخلوا فيها، أو بالحصار الذي مورس ضدّهم.. إنّهم ليسوا مجرّد مظلومين ولو أرادوا أن لا يكونوا مظلومين لاستطاعوا ذلك، فلقد فتحت لهم الدنيا كلّ أبوابها، وحتى الذين ظلموهم أرادوا لهم أن يعيشوا عيش الرخاء والدعة والاسترخاء شريطة أن لا يأمروا بالمعروف ولا ينهوا عن المنكر، وأن لا ينطلقوا لتأكيد الحقّ ولتأصيل العدل، وأن لا ينفتحوا على الله انفتاح وعي ليفتحوا قلوب الناس كلّ الناس على الله، وأن لا يحدّثوهم عن أصالة حقّ وعن حركة عدل، بل أن يتركوهم في غفلاتهم، يضحك عليهم هذا ويصادرهم ذاك، ويلعب بأفكارهم وأوضاعهم هذا وذاك.
تلك هي مشكلتهم، فلقد قالها أبوهم عليّ (عليه السلام): "لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصّة" وقال: "قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُّ وجهَ الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأيَ عين بعد القدرة وينتهز فرصتها مَن لا حريجةَ لهُ في الدين"(1) وقال: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذي عندي أهون من عفطة عنز"(2).
إشعاعات يوم الحسين (عليه السلام):
وهكذا قيل للحسين (عليه السلام) يا ابن رسول الله لو وضعت يدك في يد بنيّ عمّك فإنّهم لا يريدون بك إلاّ خيراً، عش في المدينة كما يعيش الآخرون ولك كل الاحترام والتقدير فسوف تُقبل شفاعتك بالناس الذين يقصدونك بحوائجهم، وسوف يُحفَظُ مقامك، واترك الدنيا لأهلها والسلطان لأهله، لأنّ مشكلتك أنّك إنسان تطلب حقاً وعدلاً في ساحة ليس فيها للحق ولا للعدل مكان.
فقال لهم: (عليه السلام) مؤكّداً موقفه: "إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطِراً ولا ظالِماً لا مُفسِداً ولكن خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبِلَني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومَن ردَّ عليَّ أصبر حتى يحكم الله وهو خيرُ الحاكمين"(3).
وعندما أرادوا منه أن يعطي بيده إعطاء الذليل ويقرَّ إقرار العبيد قالها كلمة خالدة: "والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرَّ لكم إقرارَ العبيد" وإذ كان يخيّر بين الموت وبين الحياة فإنّه يرسم بإجابته برنامجاً لكل الثائرين ولكل المصلحين ولكلّ المسؤولين ـــ المسؤولين الذين يتحملون مسؤوليتهم في الحياة: "الاّ وإنّ الدعيّ ابنَ الدعيّ قد ركَزَ بين اثنتين: بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجورٌ طابت، وجدود طهرت وأنوفٌ حميّة ونفوسٌ أبيّة مِنْ أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام"(1).
وكانت آخر كلماته وهو يودّع أصحابه فرداً فرداً.. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(2)، فلقد كان سرّه أنّه عاهد الله، وكانت مسؤوليته أن يفي بعهد الله، ولقد اختصرت هذه الآية كلّ رحلته ومرحلته وكلّ جمهوره الذين عاشوا معه.
الناسُ عبيدُ الدنيا:
وعندما رأى الناس الذين خرجوا معه، وأعطوه كلمات الحبّ والدعم، وكانت قلوبهم معه وسيوفهم عليه، قال لهم كلمة تتحرّك في كل زمان ومكان، لتكون برنامجاً يحدّد الخطّ الفاصل، بين الذين يسقطون أمام التجربة وبين الذين ينجحون فيها: "الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا محّصوا في البلاء قلَّ الديّانون" بحيث يتجه البلاء إلى أموالهم فيقول لهم ربّما تخسرونها في سبيل رسالتكم، وإلى مواقعهم فيقول لهم قد تخسرونها في سبيل دينكم، وإلى أنفسهم فيقول لهم إنّكم ستخسرون أنفسكم في سبيل ربّكم. فسقطوا ناسين الله والرسالة والحبّ لأولياء الله.. وسقطوا (قَلَّ الديّانون) وبقيت الفئة الطيبة التي عبّر عنها الإمام الحسين (عليه السلام) "يستأنسون بالمنيّة استئناس الطفل بمحالب أُمّه" وكان ذلك الفرح الروحيّ. فكيف نتمثّل الحسين في فرحه الروحي فيما قلبه يبكي، فلقد كان فرحاً بالله وهو في الذروة من بكائه.
الفرحُ الحسينيّ:
كانت عيناه تدمعان ولكنهما كانتا تنفتحان على الله وهو يتلقّى دم ولده الرضيع بين يديه، ويهتف في فرح الرسالة وفرح الجهاد "هوّن ما نزلَ بي أنّه بعينِ الله" كان فرحاً وهو يجاهد، وكان فرحاً في نظر الله إليه وهو يتألّم، فما قيمة الألم في سبيلك يا ربّ، ولقد قال القائل عن لسانه:
تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا وأيتمتُ العيالَ لكي أراكا
فلو قطّعتني في الحبِّ إرباً لما مال الفؤادُ إلى سواكا
كان الحسين (عليه السلام) يعيش مع ربّه دائماً.. وكان الناس يعيشون مع الذين حوّلوا أنفسهم أرباباً.. كان الإنسان الذي عاش الله في قلبه، ولو قرأنا دعاءه في يوم عرفة لعرفنا كم هو هذا الحبّ الحسيني لله، وكم هي هذه المعرفة الرائعة المنفتحة على كلّ صفات الله تعالى وأسراره، ولعرفنا سرَّ الحسين في أنّه كان يحبّ الله فأحبّ الناس الذين هم عيالُ الله، وأحبّ الحقّ، وأحبّ الإسلام كلّه.
هؤلاء أحباب الحسين:
فيا من تحبّون حسيناً أعطوه موقفاً من مواقفكم قبل أن تعطوه دمعة من عيونكم.. وصرخة من صرخات الحق في حناجركم قبل أن تعطوه صرخة من صرخات الألم في كلماتكم. إنّه يريدنا أن نعيش الفرح الذي يختلط بالمأساة حتى إذا حدّقنا بكلّ جراحاته وبكل السهام التي أصابت جسده، والأحزان التي عاشت في قلبه، عرفنا أنه كان يقول لنا إنّ الرسالة والإسلام أكبر من ذلك.. لقد أرخصت كل دمي وجراحاتي وأهلي في سبيل الله.. فهل ترخّصون دماءكم ومواقعكم في سبيل الله.
هذا هو الحسين (عليه السلام) في إيحاءات ثورته وحركته ونهضته.. فلقد كان يفكّر بالمستقبل عندما كان الناصحون ينصحونه وهم يفكّرون بالحاضر، وهذا هو الفرق بين الذين يعيشون الحاضر راحةً واسترخاءً ومنفعة وشهوة ولذّة وبين من يعيشون الحاضر مسؤولية ورسالةً وجهاداً، لأنّهم المستقبليون الذين يريدون أن يحرّكوا الحاضر من اجل أن يصنع المستقبل، ولقد كان الأنبياء الرساليون يفكّرون في مستقبل كلماتهم في عقول الناس الذين يأتون من بعدهم.. فمن لا يكون مستقبلياً لا يكون حسينياً.. والذي يعيش الحاضر فيستغرق فيه لينسى المستقبل فلا يخطّط له ليس بينه وبين الحسين قرابة.
لذلك ـــ أيّها الأحبّة ـــ عندما تحبّون حسيناً أحبّوا رسالته.. أحبّوا الإنسان الذي أحبّه، والحق الذي أحبّه، والعدل والإصلاح في أمّة جدّه، وقبل ذلك وبعده كان الحسين (عليه السلام) يحب الله ورسوله كما كان أبوه يحبّ الله ورسوله، فعلينا أن نربّي قلوبنا وعقولنا وحركتنا في حياتنا لتحبّ الله ورسوله {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(1).
الناطقٌ باسم أصحاب الحسين:
أمّا أصحابه فكان الناطق باسمهم هو أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) فلقد كانت كلماته كلمات كلّ الجمهور الحسينيّ.. كان يريد أن يختصر ما يفكّرون فيه، وأن يتحدّث عن طبيعة المهمّة المناطة به، هل هي حبٌّ عائليّ من أهل بيته له؟ وهل هو حبٌّ ذاتي من أصحابه له؟ وهل كانوا يقاتلون معه لكونه رئيسهم، كما يقاتل أبناء العشيرة مع رئيسهم. أو كانت المسألة أنّهم الرساليون في خطّ رسالته؟!.
فلقد قال بعدما قطعت يمينه "والله إنْ قطعتموا يميني" وأنتم تعلمون ما هي قيمة اليمين بالنسبة للبطل الشجاع لأنّها تختصر كلّ حركته في ساحة الحرب، فإذا قطعت اليمين تبدّدت كلّ فرصه في أن يحارب حتى لو بقيت الشمال بعدها لأنها لم تتعوّد على تحريك السيف بلباقة، ومع ذلك قال ناطقاً باسم كل أهل بيته، وكل أصحابه في نظرتهم إلى هذا الصراع:
والله إنْ قطعتموا يميني إنّي أُحامي أبداً عن ديني
وعن إمامٍ صادقِ اليقين نجلّ النبيّ الطاهرِ الأمينِ
لم يقل أنه يقاتل عن أهله، وهو في موقع العنفوان في إخوّة الحسين له.. ولكنّه قال (عن إمام) أي أنه يدافع عن الإمام الذي يمثّل قيادة الأمة وإمامة الدين فهو إذ يدافع عن الحسين يدافع عن الدين، فإذا كنتم تحبّونه فهل تملكون أن تقولوا ذلك، عندما يعيش الدين في أزمة وعندما يعيش الإسلام في مشكلة ويواجه الواقع الإسلامي الكثير من التحدّيات.
ولقد ناداه (شمرٌ) وهو بعض أخوال العبّاس: أين بنو أختنا.. أين العباس وإخوانه.. ورفضوا أن يجيبوه فقال لهم الحسين بكل رحابة صدره وسعة أُفقه وعمق الانفتاح على كل نقطة ضوء يمكن أن تبرق فيمن عاش الظلام في كل كيانه: أجيبوه فإنّه بعض أخوالكم وإن كان فاسقاً. وقال لهم (شمر) لكم الأمان.. في محاولة منه لاجتذابهم أو تحييدهم، فقالوا له: الأمان لنا ولا أمان لابن بنت رسول الله؟!.
ولم يقولوا لأخينا وهم أخوة الحسين، ولكنّهم أرادوا أن يذكّروه بمن يريد محاربته.. فرفضوا أمانه، ذلك أنّ الحياة لم تكن بالنسبة إليهم طموحاً بل مسؤولية اندفعوا إليها واعطوها كلّ دمائهم وكل موقفهم.
شاعر الله:
وإذا التقينا بزين العابدين (عليه السلام) الذي سمّاه بعض أدبائنا (شاعر الله) هذا الإنسان الذي عاش كربلاء في كل مشاعره وأحاسيسه ووجدانه ولم يسقط أمام حزن كربلاء، بل حوّل الحزن إلى حركة رسالية تذكّر الناس بين وقتٍ وآخر بأنّ كربلاء كانت ثورة المظلومين على الظلم كلّه، وثورة العادلين على الظلم كلّه والمحقّين على الباطل كلّه.
كان يريد أن يذكّرهم بكربلاء ليذكّرهم بشعاراتها وبأهدافها وليثير العقدة في نفوسهم فيما قاموا به سكوتاً أو تحييداً أو مشاركة.. وعندما انطلق في حياته لم يشغله حزنه الكربلائي عن أن يملأ الواقع الإسلاميّ علماً، فقد كان (عليه السلام) فيما نقرأ من الذين تتلمذوا عليه من الشخصيات التي كانت تمثّل رجال الثقافة الإسلامية آنذاك، كان الإنسان الذي أعطى الإسلام تراثاً متنوّعاً في كلّ مجالاته، فنحن لا نوافق الذين يقولون إنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) يتحرّك بأسلوب الدعاء، فالدعاء بعضُ نشاطاته، فلو قرأنا تراثه الفقهيّ والأخلاقي والاجتماعي لرأيناه واسعاً يشمل أكثر المفردات الإسلامية في ذلك العصر.
رسالة الحقوق:
فعندما رأى أنّ مشكلة الناس هي في جهلهم بحقوق الله عليهم وحقوق أنفسهم عليهم وحقوق بعضهم على بعض، جمع الإمام الحقّ والواجب فحدّثنا في (رسالة الحقوق) عمّا للأبناء من حق على أبيهم وعمّا له من حقّ على أبنائه وما للمعلّم من حق على المتعلّم وحقّ هذا على المعلّم وحقّ السلطان على الناس وحقّ الناس على السلطان، وهكذا في حقوق الناس على بعضهم البعض ولذلك كانت (رسالة الحقوق) التي تركها الإمام زين العابدين (عليه السلام) تحاول أن تجمع للناس الحقّ والواجب.
ونراه أيضاً الإنسان العابد لله الذي يعيش مع الله في فرح روحيّ يختلط في مساماته الروحيّة مع دموعه الابتهالية، وكان ينكر على الناس وهو صاحب النسب الرفيع أن يحدّثوه عن نسبه، وكان يبكي ويبكي ويبكي عند البيت الحرام حتى خاف عليه أحد أصحابه من بكائه، وقال له: أنتَ تبكي وتتضرّع إلى الله وجدك محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجدّك عليّ (عليه السلام) وجدّتك فاطمة (عليها السلام) وعمّك الحسن وأبوك الحسين؟! فمن كان له نسب كهذا كيف يكون له هذا الخوف من الله، وهو لا يعلم أنّ الإمام وكلَّ الأئمة يختلط الخوف لديهم بالحبّ، فلم يكن لديهم خوف مجرّد ولكنه كان خوفاً ينفتح على حبّ الله، فهم يلتقون عند الله الجبّار القهّار، وعند الله الرحمن الرحيم: "وأيقنتُ أنّكَ أرحمُ الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشدُّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة) فقال له: "دع حديث ذكر أبي وأمّي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}(1) والله لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدّمها من عمل صالحٍ"(2).
وكأنّه بذلك كان يفسّر قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(3)، فلقد كان يجسّد تفسير هذه الآية في سلوكه.
مفهوم العصبية:
وعندما كان يرى العصبيات في حياة الناس سواءً الطائفية أو المذهبية أو العائلية أو الذاتية، فإنّه يحدّد لهم مفهوم العصبية بمعناها السلبيّ، وفي علاقة الإنسان بمن يحبّ وينتمي وينتسب، فلقد سئل عليُّ بن الحسين (عليه السلام) عن العصبية فقال: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم"(1) فلقد أراد للعلاقات الإنسانية أنْ تتحرّك في البعد الإنسانيّ ولكن بشرط أن لا تقترب من البعد الفكري والانتمائي، فلك الحق في أن تحبّ عائلتك وأهل بلدك ومنطقتك وقوميتك، فالإنسان ينجذب عادةً، عاطفياً لمن يتكلّم لغته وإلى ابن بلده وعائلته، فإذا وصلت عاطفتك إلى الحدّ الذي تريد أن تسقط مبدأك ورسالتك فاجعل العاطفة تقف ليتحرّك المبدأ. فليكن الخيرُ سيّد ما تعمل في علاقاتك بالآخرين وبالحياة وليكن الشرُّ سيّد ما تترك منها.. فعندما يكون هناك شرٌّ وخير فكن مع الخير حتى لو كان الخير مع أعدائك، وكن ضدّ الشرّ حتّى لو كان الشرّ عند أقربائك:
كانت مودّةُ سلمان لهم رحماً ولم يكن بين نوحٍ وابنه رحمُ
فإذا كان أهلك، أيّاً كان أهلك، الظالمين فقف ضدّهم، وإذ انطلق خصومك وكانوا المظلومين فكن معهم، ولذلك فإنّ كلمة الإمام زين العابدين (عليه السلام) تحدُّد لنا خطّ العصبية السلبية وخطّ العصبية الإيجابيّة إن كان لها إيجابيات.
ولقد حدّد (عليه السلام) لنا حبّ أهل البيت حينما قال: "أحبّونا حبّ الإسلام"(2) بأن يكون حبّنا لهم من خلال ما يتمثّل به وجودهم وحركتهم، لأنّنا إذا أحببناهم حبّ الإسلام فإنّنا نتمثّل الإسلام الذي أحبّوه وعملوا به ولأجله جاهدوا، وأن ننطلق معهم لأنّهم الطاهرون {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا}(1)، فهل نعيش هذه الطهارة وهذا الصفاء الروحي، وهذه الروح التي لا تتعقّد حتى ممّن أساء إليها.
وفي الختام نقرأ معه:
"وسدّدني لأنْ أُعارِض مَن غشّني بالنصح وأجزي من هجرني بالبرّ وأُثيب مَن حرمني بالبذل وأُكافي مَن قطعني بالصلة وأُخالف مَن اغتابني إلى حسن الذكر وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيّئة اللّهم وعمّرني ما كان عمري بذلةً في طاعتك، فإذا كان عمري مَرْتَعاً للشيطان ـــ يصول فيه ويجول ـــ فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ أو يستحكم غضبك عليّ" "واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير والوفاة راحة لي من كلّ شرّ".
ذلك هو خطّ أهل البيت وحبّهم لله، فلنحبّهم في الله، ولقد جاهدوا في سبيل الله فلنجاهد من خلال خطّهم في سبيل الله، ويبقى الله قبل كلّ شيء ومع كل شيء وبعد كلّ شيء {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(2).
الافتتاحية السابعة والعشرون
22/12/1996
هكذا احتفلَ القرآنُ بالسيّد المسيح (عليه السلام)
"نحنُ كمسلمين لا نفرّقُ بين أحدٍ من رُسلِ الله، ونعيشُ آفاقَ السيّد المسيح (عليه السلام) كما نعيشُ آفاق الأنبياء الآخرين من خلال ما نعيشهُ من آفاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي جمعَ كلَّ خصائص الأنبياء (عليهم السلام)".
بعد أيّام تحلّ ذكرى ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) فيما يعيش العالم هذه الذكرى بعيداً عن أجواء السيّد المسيح، لأنّ الأسلوب الذي يحتفل به الكثيرون من الناس هو أسلوب أقرب إلى الوثنية منه إلى الرسالية والإيمان. ونحن نعرف أنّ الغرب قد أدخل الكثير من الأشكال الوثنية في تقاليد الواقع المسيحي، وهذا ما نلاحظه في أكثر من شكل وأكثر من أسلوب، ونحن كمسلمين لا نفرّق بين أحد من رسل الله، ونعيش آفاق السيّد المسيح (عليه السلام) كما نعيش آفاق الأنبياء الآخرين من خلال ما نعيشه من آفاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي جمع في شخصه كلّ خصائص الأنبياء، وفي رسالته كلّ عناصر الرسالات، وجمع في حركته كلّ الأساليب التي انطلق بها رسل الله إنْ من خلال العناوين الكبرى التي أطلقها في الواقع وفي الحركة، وإن من خلال النداءات التي نادى بها الإنسان في إنسانيته والمؤمن في إيمانه.
ونريد بهذه المناسبة أن نتابع السيّد المسيح (عليه السلام) من خلال القرآن الكريم، فهذه هي الصورة الصحيحة التي تنطلق من موقع العصمة لأنّ القرآن هو الكتاب المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه.
فكيف ولد السيّد المسيح؟ وما هي جذوره؟ وكيف انطلق؟ وما هي عناوينه؟ وما هي الصفات التي تحدّث القرآن عنها، حتى يكون تصوّرنا عن السيّد المسيح (عليه السلام) تصوّراً قرآنياً بعيداً عمّا حرّفه المحرّفون أو وضعه الوضّاعون.
قصّة المسيح في القرآن:
في البداية، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ*ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1)، فلقد بدأت القضية من جدّة عيسى (عليه السلام) كيف كانت روحيّتها؟ وكيف كانت تطلّعاتها للجنين الراقد في أعماقها؟ وكيف كانت تفكّر؟ فهي من قوم عاشت الرسالة في حياتهم من خلال اصطفاء الله لهم. ولذلك فلم تفكّر مادياً بل كانت تفكّر روحياً: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} (1)
خادماً للهيكل "بيت العبادة" لأنني أريد يا ربّ ـــ كما عشتُ خدمتك في حياتي وعاش أبي خدمة رسالتك، فأنا أريد أن يكون ولدي خادماً لك في بيت العبادة يخدم المؤمنين والعابدين {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}(2)، فلم يستجب الله دعاءها لا لأنّها بعيدة عنه، ولكن لأنّ هناك قضاءاً إلهياً وحكمة إلهية في هذا الجنين الراقد في أعماقها الذي أعدّه الله ليكون مظهراً لقدرته.
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}. ولربّما كان المقصود بهذه المسألة ـــ من خلال سياق النص ليس تفضيل الذكر على الأنثى، من حيث الجنس وإنّما من حيث الخدمة إذ ليس الذكر الذي طلبته امرأة عمران الذي يصلح لأن يكون خادماً لبيت العبادة كالأنثى التي حرّم عليها أن تخدم في الهيكل، فلم تكن المسألة في مورد إعطاء حكم لتفضيل الذكر على الأنثى، إذ لا نجد في القرآن أثراً لذلك بالمعنى الذي يفضّل فيه إنسان في خصوصية إنسانيته على إنسان آخر في خصائصه الإنسانية.
فلربّما كان هذا تقريراً لقولها أو تقريراً للواقع أنّ أمنياتها لم تتحقّق، لأنّ الأنثى لا تصلح لذلك {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} .
المنبت الحسن:
وتقبّلت قضاء الله وقدره واختيار الله لها، وبدأت تتحدّث عن تطلّعاتها في هذه الأنثى {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} فقد تتعرّض للكثير من حبائل الشيطان وخطوات الشيطان ووساوسه، وأنا أُريد ـــ يا ربّ ـــ أن تكون هذه الأنثى وذرّيتها بعيدين عن الشيطان وقريبين إليك، لأنّي يا ربّ أريد أن تكون كل سلسلة حياتي فيما أنتجت كسلسلة حياتي فيما أسلفت في خدمتك، إن لم تكن في بيت العبادة، فلتكن خدمة في ساحة الحياة. {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}(1) ، وهذا هو الإيحاء الإلهيّ الذي يريدنا المولى أن نفكّر فيه، وأن نضع أولادنا في المنبت الحسن، لأنّ مسألة الأرض التي تضع فيها ولدك، والبيئة التي يتحرّك فيها ولدك، والعلم الذي تعطيه ولدك، هو ما يمثّله النمو الروحي الطبيعي لولدك.
{وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً}(2) ، فمن النبات نبات حسن ومنه نبات سيء، والإنسان لا بدّ أن يفكر بإنبات ولده نباتاً حسناً فلا يضعه في بيئة تضلّه، ولا في مدرسة تنحرف به عن الخطّ، ولا في برنامج يبتعد به عن الله. {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}(3) هذا العبد الصالح الذي هو من الأنبياء، من خلال ما تدلُّ عليه بعض الآيات القرآنية، هذا الذي حُرِمَ الولد فكفلها كفالة الأب لابنته، وكانت مفاجأته وهو يرى هذه الإنسانة تنمو نمواً روحياً لا مكانَ للشيطان فيه، ولا مكان للشهوات فيه.
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} ناضجاً، طازجاً، ساخناً، كما لو كان ابن ساعته، وفوجئ زكريا أنّه لم يقدم إليها طعاماً من بيته فتساءل: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ}.
الذريّة الطيبّة:
{إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} بالطريقة المألوفة وبالطريقة غير المألوفة، ولمّا تقبّلها الله بقبولٍ حسنٍ وبشكلٍ مباشر ميّزها عن الأخريات من بنات جنسها، وكانت هذه هي المناسبة التي جعلت زكريا يعيش قلق الحاجة إلى الولد.
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}(4)، بأن يعطيه ذرية ليمتدّ فيها امتداداً يجعلهم كمثل هذه الإنسانة، ولكنّنا نريد أن نتابع مريم لنعرف كيف أعدّ الله عيسى بإعداد أمّه، كما أعدّ أمّه بإعداد جدّته {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}(1)، وهذا الاصطفاء هو الاختيار، فلقد اختارها من بين نساء العالمين لتكون مظهراً لقدرته وأمّا لعيسى من دون أب، هذا هو معنى الاصطفاء فيما توحي به الكلمة (وطهّرك) فكانت الطاهرة من كلّ دنس، والطاهرة في عقلها وفي قلبها وجسدها.
{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} أي اختارك من بين نساء العالمين، وميَّزك في لطفه ورعايته. {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أي تابعي عبادتك بالقنوت {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}(2)، ويحدّث الله نبيّه عن هذا أنه لم يسبق أنْ تحدّث به أحد للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولقومه لأنّه من غيب الله {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ}(3) أي يجرون القرعة بينهم {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} لأنها كانت طفلة جميلة ذكيّة مهذّبة، فكلّهم كان يريد أن يحتضنها ليرعاها، لأنّها فقدت أمّها وأباها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في أيّهم يحتضن هذه الطفلة المحبّبة.
كلمة الله:
ثم انطلقت الملائكة بحديثٍ آخر {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}(4) وبدأت الآيات تتحدّث عن موقع هذا الإنسان، فهو وجيه في الدنيا من جهة أنّه يتحرّك في رسالة الله بالدرجة التي يفتح فيها الدنيا على رسالة الله، ليكون وجيهاً في الآخرة حيث يعطيه الله سبحانه وتعالى في الآخرة الدرجات العليا {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} الذين قرّبهم إليه من جهة إخلاصهم وجهادهم وروحانيتهم.
وبذلك تنطلق المعجزة في بدايات طفولته {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} يكلّم الناس برسالة الله {وَمِنَ الصَّالِحِينَ}(1) وفوجئت مريم (عليها السلام)
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}(2)، لأنّ قضية الولد تنطلق من الوضع الطبيعي الذي قدّرته في ولادة الناس {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} لا بطريقة شرعية ولا غير شرعية ممّا أنا بعيدة عنه {قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، فلقد قضى الله أمراً في آدم، وفي أولاده فإنّ العجائبية والمعجزة في خلق الإنسان بالطريقة الطبيعية هي في خلقه من طين، لأنّ الذي نفخ في الطين من روحه، هو الذي نفخ في النطفة من روحه، ولأنّ قدرته هناك كقدرته هنا، وكقدرته في هذا النوع الثالث من المخلوقات.
أجواء الولادة:
ثمّ نتابع هذه الآيات لنطلّ على الولادة كيف حدثت وكيف هي أجواؤها، لأنّنا نريد الاحتفال بالسيد المسيح في أجواء الولادة بالطريقة القرآنية، وهذا ما ينبغي للمسلمين إذا أرادوا أن يشاركوا المسيحيين الاحتفال بميلاد السيّد المسيح، حيث عليهم أن يقرأوا "سورة مريم" ليزدادوا وعياً في قدرة الله ولطفه ورحمته ورسالة السيّد المسيح حتى لا تختلط عليهم الكلمات التي تنحرف بالعقيدة عن السيّد المسيح.
فكيف عاشت مريم (عليها السلام) أجواء الولادة {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}(3)، لقد انعزلت لتتعبّد إلى الله ولتتأمّل وتخلو بنفسها بعيداً عن كل هذا اللغو الذي يدور حولها في مجتمعها. لأنّ الإنسان عندما يعيش اللغو الاجتماعي، فإنّه يشغله عن روحانيته وتأمّلاته وصفاء فكره {إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}، فاتخذت من دونهم حجاباً يعزلها عنهم حتى في الشكل، فربّما جلست في الخيمة أو وضعت أيّ حجاب آخر {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}(1)، وكلمة "روح الله" يقال إنّها "جبرائيل" ويقال إنّه خلق عظيم من الملائكة ولا يهمّنا أن نحدّد ذلك، ولكنّنا نفهم أنّه ملكٌ مزوّد بميزة تختلف عن بقية الملائكة حتى أنّ الله تحدّث عنه أنّه روحه، وهذه منزلة كبيرة.
{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}، وتصوّروا هذه الشابة الطاهرة العفيفة التي تعيش العفّة في معنى الإيمان والطهر والصفاء والنقاء.. تصوّرها وقد هجم عليها شابٌ لا عهد لها به قد تمثّل لها بشراً سوياً، فلربّما جاء ليعتدي عليها {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ}(2) أستجير بالله منك فليس عندي من يحميني منك أنا الضعيفة في جسدها القوية بالله {إِن كُنتَ تَقِيّاً} إن كنتَ تخاف الله وتراقبه في كل ما تتحرّك به.
ولم يتركها في كل هذا القلق والخوف وهنا كانت المفاجأة الكبرى {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ}، فلست بشراً {لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً}(3) ، وأضحت المفاجأة أكبر {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} بالطريقة الشرعية {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}(4)، بالطريقة غير الشرعية {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ}، فالمفاجآت إنما تكون في حديث الإنسان، وفيما يفعله الإنسان بالإنسان ولكن عندما تكون القضية قدرة الله فليس هناك مفاجآت، إنّه على كل شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(5).
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، ثمّ أراد أن يبيّن لها نوعية هذا الغلام وأنّه مميّز {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}(6)، {فَحَمَلَتْهُ} وشعرت بالحمل {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} ابتعدت عن أهلها لأنّ المسألة محرجة ولا تستطيع أن تواجه بها أهلها، وهنا، يدور جدل حول الوقت الذي حملت به، هل هو تسع ساعات أو يوم أو أكثر أو أقل ولا نريد الدخول في نقاش حول ذلك، لكنّ طبيعة الأمور تفرض أن يكون الحمل سريعاً، فلو كان طبيعياً فإنّ أهلها سوف يفتقدونها {فَأَجَاءهَا} فالفاء هنا تدلّ على الترتيب القريب، بعكس "ثمّ" التي تدلّ على الترتيب البعيد، {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ} في مدى قريب جداً {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}(1) ، وكانت مستندة إلى الجذع، فلو أردنا أن نصنع شجرة ميلاد فينبغي أن تكون نخلة لأنّها تعبّر عن الميلاد بحسب القرآن، لا الشجرة المتعارفة.
وأدركها الضعف البشريّ حيث مخاض وولادة، ولا نقول ضعف الأنثى لأنّ الله اعتبر الضعف خصوصية الإنسان {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}(2)، ولم يقل (خلقت المرأة ضعيفة) فلقد أدركها ضعف الإنسان الذي يواجه موقفاً صعباً لا يملك الخلاص منه ولا الابتعاد عنه. {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}، {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} لأنّها كانت على مرتفع، {أَلَّا تَحْزَنِي} بل عليك أن تعيشي الفرح بدل الحزن لأنّ تلك هي كرامة الله ولطفه ورعايته، وإنّ الذي رعاكِ في البداية سوف يرعاك في النهاية فلن يجعلك تقفين وحدكِ أمام هذه التجربة {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}(3) ينبوع ماء {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً*فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}(4)، فإذا صحّ أنّ الولادة في كانون الأول فأيُّ رطب على النخل، وحتى لو كان هناك رطبٌ على النخل فكيف يمكن لهذه الإنسانة الضعيفة أن تهزّ النخلة على ضخامتها ليتساقط الرطب، ولذلك فإنّ في نبع الماء الذي جرى ولم يكن من قبل، وفي هزّ النخلة والرطب الجنيّ، معجزة، فكيف تواجه الموقف الصعب؟
صوم الصّمت:
واجهته في صوم الصمت كما أوحى الله لها بذلك {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي} أي بالإشارة {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}(5)، فـــ {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}(6) ، وفوجئوا بمريم الطاهرة العفيفة تحمل ولداً {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} أي عظيماً {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}(7) وهنا كانت المفاجئة {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} كلّموه وظنّوا أنها تسخر منهم فاشتدّ غضبهم، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً}(8) ولم يتركها عيسى تقف في هذا المأزق حيرى {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}(1)، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً}، وكلمة مباركاً مفسّرة بكلمات أهل البيت (عليهم السلام) "نفّاعاً للناس" {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}(2) بأنْ أعيش عبادة الروح والعطاء {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}(3) في ممارساتي وأفعالي {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}(4)، {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}(5) وهذه هي صورته وشخصيته، فهو نبيّ وليس إلهاً ولم يتجسّد الإله فيه، فليكن تصوّركم للسيّد المسيح بهذه الصورة {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}، {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}(6)، لأنّ الوالد ينطلق من حاجة إلى الامتداد في الحياة من خلال الولد، والله سبحانه هو الغنيّ الذي يبدع الخلق كلّه بكلمته، {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، {إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(7) ويبقى لعيسى هذا الشعور العميق بعبوديته لله الذي يريد للناس أن يتمثّلوه معه في معنى الربوبية الشامل وهذا هو الصراط المستقيم الذي ينتهي بالإنسان إلى النهايات السعيدة في الدنيا والآخرة.
وهذا هو عنوان عيسى (عليه السلام) وهو السلام الذي يعيش في معناه الروحي الذي ابتدأ من حين ولادته لينتهي عندما يبعث حيّاً، وهذا هو الذي ينبغي للمؤمن أن يفكّر به ليعيش السلام في فكره وعاطفته وحركته من خلال انفتاحه على الله وعلى الناس من خلال الله.
شخصية السيّد المسيح (عليه السلام):
هذه هي صورة الولادة في حركيّتها التفصيليّة، ثم نرجع إلى شخصية السيّد المسيح (عليه السلام) لنرى كيف يحدّثنا القرآن عنه؟
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}(1)، باعتبار أنّ التوراة والإنجيل مصداق الكتاب والوسيلة إلى الحصول على الحكمة {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}(2)، في البداية ـــ كما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسولاً إلى "أمّ القرى" ومن حولها لأنّ رسالة الرسول حتى لو كانت للعالم فإنّه ينطلق من موقع محدّد ليركّز رسالته ثم ينفتح بعد ذلك على الآفاق البعيدة.
{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}(3)، تدلُّ على أنّي ليستُ مجرّد إنسان ينطلق من ذاته، ولكنه ينطلق من رسالة الله ورعايته وعنايته في الطاقات التي وهبها لي ممّا يمكنني من القيام بما لا يقوم به البشر من خلال قدراته الذاتية {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ}، في بيوتكم، أي إنّ الله أعطاني علم غيب ما عندكم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}، لأنّ الإنسان الذي يعيش معنى الإيمان بالله لا بدّ له أن ينفتح على آيات الله في مواقع قدرته ومظاهر كرامته لرسله فيفكّر بآيات الله بالطريقة التي تقوده إلى الإيمان برسوله الذي جرت الآيات على يديه {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(4)، وهذا يعني أنّ الرسالات قد تغيِّر بعض الأحكام التي جعلها الله محدودة بزمنٍ معين {وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ} لأنّكم لا تطيعونني كشخص ولكن تطيعون الله بطاعتي {إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ*فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ}(5) ولم يقل: مَن أنصاري؟! لأنّه لا يعيش ذاته ولكنه يعيش رسالته وعبوديّته لربّه، وهذا ما ينبغي لكلّ رساليّ ولكلّ مبلّغ أن يطلب من الناس أن يكونوا أنصاراً له، بل أن يكونوا أنصاراً لله ولرسالته، فهذا هو إيحاء هذه الكلمات.
أنصار الله:
ورأينا أنّ الحواريين في إيمانهم وروحانيتهم وإخلاصهم لم يقولوا له إنّا أنصارُك، ولكن قالوا {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ}، "آمنا بالله" {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1)، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}(2)، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(3)، وهكذا ننتقل في تصوّر هذه الخصائص إلى قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(4)، فآدم وُجد من خلال قبضة من الطين ونفخة من روح الله {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}(5) ونفخ الله في مريم من روحه، وهذا كناية عن قدرة الله سبحانه، ثمّ يحدّثنا الله عن الشخصية البشرية للسيّد المسيح {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} فلا حاجة به إلى الولد لأنّ مثل هذه الحاجة تنبثق من الفراغ {وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً}(6).
ويقول تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}(7)، أي أنها بلغت الدرجة العليا في الصدق (كانا يأكلان الطعام) كما يأكل البشر، فكيف يكونان آلِهَيْن؟ {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ويحدّثنا عمّا يتحدّث به اليهود عن موت السيّد المسيح وصلبه {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} لأنّهم ينسبون إليها الزنا {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (8) {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} فهم لا يتحدّثون عن قناعة يقينيّة {إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً*بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}(9).
مشهد القيامة:
ويحدّثنا الله أيضاً عن حوار بين عيسى (عليه السلام) وبين الله وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ}(1)، والله يعلم أنّه لم يقل ذلك، لكنه أراد أن يقيم الحجّة على لسان السيّد المسيح {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(2)، والأمر إليك {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(3)، وفي نهاية المطاف {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(4).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} والنداء إلينا ـــ أيّها الأحبّة ـــ {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} في حركتكم الفكرية والعملية، فلا تكونوا أنصار الشيطان والمستكبرين والمنحرفين والظالمين {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}(5) وسيؤيدنا الله على عدوّنا فنظهر عليه إذا نصرنا الله وكنّا من أنصاره.. وبهذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ نستقبل ميلاد السيّد المسيح بالوعي والانفتاح على الله ورسالته ورسالة الإسلام كلّه.
الافتتاحية الثامنة والعشرون
28/12/1996
مسؤوليتُنا في عصر الغيبة
"إنّنا نعيشُ حضورَ الإمام المهديّ (عجَّل الله فرجه الشريف) في الخطّ الإسلاميّ كلّه كتاباً وسنّةً".
عنوانان:
أمامنا عنوانان: الأول هو ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في الخامس عشر من شعبان، والعنوان الثاني: هو رأس السنة الميلادية.
أمّا العنوان الأول فقد لا يتّسع المجال للحديث عن كل ما أُثير حوله من القضايا الفكرية التي تتّصل بهذا الموضوع، لأن فكرة المهدية فكرة إسلامية وليست مذهبية تتّصل بالمذهب الإمامي فحسب، فالمسلمون متّفقون على أنّ هناك مهديّاً يخرج في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وقد ذكر (ابن خلدون) في مقدّمته أنّ الروايات متواترة حول المهدي، وقد عدّ بعض العلماء من المؤلفين الروايات التي وردت في ذلك فوصل العدد إلى ستة آلاف رواية، ولكن المسلمين اختلفوا بين من يعيّنه باسم خاص وهم الشيعة الإمامية، كما يذكر ذلك مفصلاً المرحوم السيّد (محسن الأمين) في (أعيان الشيعة) ويقولون إنّه "محمد بن الحسن العسكري) (عليه السلام) وبين من يقول إنّه لم يولَد ولكنّ الله يبعثه في آخر الزمان من دون أن يعين إسمه ونسبه.
وقد أُثير حول العقيدة التي تقول بتعيينه وامتداد عمره إلى مدى لا يعرفه إلاّ الله جدلٌ كثير، فلقد ذكرت استبعادات منها هذا العمر الطويل، وعندما ندرس مسألة العمر فإنّنا نجد أنّ الإمكان العقلي ينفتح عليها، بمعنى أنّها ليست مستحيلة عقلاً إذ من الممكن أن يعيش الإنسان هذا المدى، ما دام العمر بقدرة الله تعالى.
وليس مستحيلاً علمياً فإنّ العلم لا يعتبر طول العمر أمراً مستحيلاً، ولذلك يتابع العلماء في شتى أنحاء العالم، دراسة سرّ تجدّد الخلايا علّهم يستطيعون إطالة عمر الإنسان بطريقة وبأخرى. فلا هي مستحيلة عقلياً ولا هي مستحيلة علمياً.
وأمّا الأسئلة التي تُثار من قبيل ما هي الحكمة، وما هي الفائدة من ذلك، فالردّ عليها أنّ غيبة الإمام من غيب الله شأنها شأن أيّة مسألة غيبية آمنا بها لأنّ الصادق المصدّق أخبرنا بها، فالحديث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثابت "إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض" فهذا النوع من الاتصال بين العترة وبين الكتاب في مدى الزمن يدلّ على أنّ العترة تظل مع الكتاب، وهذا لا يتمثّل إلاّ بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف).
وهكذا جاء في الحديث أيضاً "يكون منّا إثنا عشر خليفة ينصرهم الله على مَن نأواهم ولا يضرّهم من عاداهم"(1) وهو ممّا يرويه السنّة والشيعة معاً، ولا ينطبق إلاّ على الأئمة الاثني عشر حصراً، فلا هو ينطبق على الخلفاء الراشدين ولا على الأمويين ولا على العباسيين بل الخلافة منحصرة فيهم فقط.
وعن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً ورد تخصيص في هذا الأمر "لن تنقضي، الأيّام واللّيالي حتى يبعث الله تعالى رجلاً من أهل بيتي، اسمُه اسمي، وكنيته كنيتي، واسمُ أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا"(2). ولقد تكاثرت وتظافرت الأحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام). فالإمام المهدي (عليه السلام) حقيقة حديثية كما هو إمكانية عقلية وعلمية، وعلينا أن نصدّق كل ما جاءنا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّا عرفنا سرّه وممّا لم نعرف.
فالمهدية ـــ من هذا المنطلق ـــ عقيدة ثابتة بالأدلة الشرعية القطعية التي لا مجال لإنكارها من خلال الوسائل التي تثبت بها العقائد. ولقد تحدّث العلماء في ذلك كثيراً وحاولوا اكتشاف بعض الأسرار وأن يوجّهوا بعض الاحتمالات، لكنّنا نختصر المسألة في أنها من أمور الغيب التي ثبتت لنا من خلال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة من أهل بيته سواءً من جانب التعيين أو من جانب المبدأ كما ثبت ذلك بإجماع المسلمين.
مسؤوليتنا في عصر الغيبة:
غير أنّ ما يواجهنا هنا هو: ما هي مسؤوليتنا في هذا الوقت الضائع في المدة التي تفصل بين غيبته وبين ظهوره، هل إنّ الإسلام قد تجمّد خلال ذلك، وهو دين الله الذي أراد للناس أن يتحرّكوا فيه على مدى الزمن، فالإنسان لا بدّ أن يكون مسلماً ممارساً ومسؤولاً ومنفتحاً على كل حكم من أحكام الإسلام على مدى الزمن، فالإسلام بكل أحكامه وشرائعه ومناهجه ومفاهيمه لا يزال حيّاً متحركاً يواجه الناس بمسؤولياتهم في هذا الوقت وفيما قبله. وفي ضوء ذلك، نعتقد أنّ كل العناوين الإسلامية إنْ من ناحية المسائل الفردية المتصلة بتكليف الفرد من صلاة أو صوم وما إلى ذلك، أو من ناحية المسائل العامة المتصلة بالأمة في حركتها هي من أجل أن يكون الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة.
فما دام الإسلام هو دين الله، وهو الحلّ الذي أراده لمشاكل الإنسان، والمنهج الذي رسمه لتغطية حاجاته، فلا بدّ للمسلمين أن يحتضنوا الإسلام في وجدانهم، وفي ممارساتهم وحركتهم فردياً وجماعياً ليحقّقوا الخطوط العامّة بجهدهم كما يحقّقون الخطى التفصيلية. ولهذا فإنّ مسؤولية المسلمين في غيابه (عجَّل الله فرجه الشريف) قد تكون أكثر من مسؤوليتهم في حال حضوره، باعتبار أنّ حضور الإمام قد يخفّف الكثير من المسؤوليات عن عاتق العاملين لأنّهم يلقون ذلك إليه. ولكنّنا في غيابه نحتاج إلى أن نحتضن الساحة ونلاحقها ونستوحي كلّ كلماته التي هي ليست فقط ما صدر عنه بالخصوص، ولكنّ كلماته هي القرآن كلّه، وهي السنّة النبوية الشريفة كلّها، وهي كل ما صدر عن آبائه الأئمة (عليهم السلام) وما صدر عنه هو شخصياً.
وعلى هذا الأساس فنحن نعيش حضوره في كل هذا الخطّ الإسلاميّ من الكتاب والسنّة بكل امتداداتها وتفاصيلها، فنحن لا نشكو فراغاً من خلال فراغ حضوره لأنّ هذا الفراغ يمتلأ بهذا التراث الدينيّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولقد قال للذين سألوه عمّا يصنعون في حال غيبته، كما روي عنه: "وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله".
ومن هنا ابتدأت مسيرة العلماء في احتضان التراث الإسلاميّ في خطوطه العامة وتفاصيله.. ومن هنا أيضاً انطلقت مسيرة العلماء المجتهدين المتّقين الواعين المجاهدين والمنفتحين على قضايا الإسلام وقضايا الحياة بكلّ اجتهادهم ووعيهم وإخلاصهم وجهادهم. فنحن مسؤولون عن أن نملأ الفراغ في كل مجالات حياتنا، ونتحسّس وجوده من خلال ما نتحسّسه من رقابته علينا ورصده لنا وبركته علينا بكل ما للحركة الإسلامية من قضايا ومشاكل وتحدّيات.
العدل الكلّي الشامل:
وأمّا النقطة الثانية التي لا بدّ أن نتمثّلها ونستوحيها من خلال هذه الذكرى هي أنّ العنوان الكبير الذي وضع لظهوره هو عنوان (العدل الكليّ الشامل) أي العدل للإنسان كلّه وللحياة كلّها، فالتجربة الوحيدة التي لم يعهد الإنسان لها مثيلاً في كل تأريخه هي التي أراد الله لها أن تتحقّق في حضوره.
وبديهي فإنّ ذلك لا يتم بلمسة سحرية تحوّل واقع الظلم إلى واقع عدل، ولكنها مسألة تنفتح على الجهاد معه ومواجهة كلّ التحديات تحت قيادته، فنحن عندما ننفتح على ظهوره فإنّنا ننفتح على العدل الشامل، فماذا يوحي لنا ذلك؟ إنّه يوحي بأن تكون حركتنا في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني منطلقة من قاعدة العدل، وأن لا يكون اهتمامنا بالعدل في الساحة الإسلامية فحسب، بحيث نفكّر بالعدل للمسلمين جميعاً ولا يهمنّا إذا ظلم الناس من غير المسلمين، كما يحاول الكثير من الناس أن يعتبروا أنّ معنى التزامك بالإسلام هو أن تلتزم بالمسلمين فحسب في القضايا الأساسية في العالم، فقد نجد بعض الناس في تصوّراتهم الفكرية أو الاجتهادية يستحلون أموالَ وأغراضَ ونفوسَ ودماءَ الناس غير المسلمين على أساس أنّ الاحترام للمسلمين فحسب.
إنّ القِيَم في الإسلام ـــ أيّها الأحبّة ـــ ليست محدودة بجماعة خاصة فعندما تكون صادقاً فليس حدود الصدق في مَنْ تصدق معه، بل في قيمة الصدق في وجودك كلّه وكذلك الأمانة، فليست منحصرة في مَن تكون أميناً معه، بل أن تكون قيمة روحية وأخلاقية في وجودك. وعندما يكون الصدق قيمة والأمانة قيمة وإنسانية الإنسان قيمة فإنّ ذلك ليس ممّا يختلف عليه شخصان.
وعلى ضوء هذا نقول إنّ مسألة العدل في الإسلام هي مسألة العدل لكلّ الناس، وهذا ما نستوحيه أولاً من قول الله سبحانه وتعالى {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(1)، أي لا تمنعكم العداوات سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية، أن تعدلوا مع الذين تعادونهم وتخاصمونهم، فالعداوة شيء والعدالة شيء آخر. فقد يكون الإنسان من أكفر الكافرين، ولكن إذا كان لديه حقّ عندك فعليك أن تحمي حقّه وأن تعطيه حقّه.
وقد ورد في الحديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في كتاب (الكافي) لــ (الكليني) "أوحى الله إلى نبيّ في مملكة جبّار من الجبّارين، قال له: إئتِ هذا الجبّار، وقل له إنّما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإنّي لن أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّارا" فالله لا يريد للظلم أن يتنوّع ليكون هناك ظلم مشروع وظلم غير مشروع، نعم قد يكون لهذا حقّ وقد لا يكون، فإذا لم يكن هناك حقّ فليست هناك قصّة عدل وظلم، ولكن ما دام له في شريعة الله حقّ فعليك أن تعطيه حقّه حتى ولو كان كافراً.
ونلاحظ كذلك أنّ العدل في القرآن لم يحدّد بحدود: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}(2)، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}(3)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ}(4).
العدل ركيزة الأديان:
ونجد أيضاً أنّ الله ركّز الأديان على أساس العدل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(5)، مَن آمن ومَن لم يؤمن حتى يكون العدل ممثلاً لقيمة الحياة وحركتها، وعلى هذا الأساس فإنّنا نستوحي من هذا العدل الشامل الذي لا يختلف فيه إنسان عن إنسان، أن نقف ضدّ قضايا الظلم في العالَم، حتى لو كان المظلومون من المستضعفين من غير المسلمين، وعلينا أن نقف ضدّ الظالمين من العالم حتى لو كانوا من المسلمين ومع قضايا العدل في العالم حتى لو كانت في مصلحة غير المسلمين، الأمر الذي يفتح لنا الأبواب على المستضعفين في العالم، عندما يسرق الاستكبار العالمي ثرواتهم ويخنق حرياتهم ويمنع تقرير مصيرهم.
فبوحي التزام الإنسان المسلم بقضايا العدل الشامل يصبح إنساناً يقف مع المستضعفين في العالم، وهذا هو الذي جعل الإمام الخميني يطلق نداء (يا مستضعفي العالم اتّحدوا) ليشكّل المستضعفون في العالم جبهة من خلال الإيمان بالعدل ورفض الظلم، ذلك أنّ قضايا الجبهة لا تتجزّأ، فإذا ما قوي الظلم في منطقة فسيقوى في المناطق الأخرى، وإذا ضعف في منطقة فسيضعف في المناطق الأخرى، فعلينا أن نؤسّس لجبهة المستضعفين في العالم ضدّ كل المستكبرين في العالَم.
خطواتُ عدل على الطريق:
وأمّا النقطة الثالثة، فهي أنّنا ونحن نؤمن بالعدالة في نهاية الزمان على يدي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) علينا أن نكون العادلين ثم ندعو: (اللّهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والمستشهدين معه) أي أن تكون فريقَهُ وجنده، ففريقه فريق العدل، وجنده جند العدل، فإذا كنت تظلم زوجتك وولدك وجارك والذي تتعامل معه والذي تتحمّل مسؤوليته، فكيف يمكن أن تكون جنداً له، كيف تحارب الظالمين وأنتَ معهم؟!. فإذا كنّا جادّين بالالتزام به فعلينا أن لا نظلم بعضنا في أنانياتنا في حركة الواقع ضدّ الآخر، وعلينا أن لا نظلم بعضنا في عصبياتنا سواء كانت ذاتية أو عائلية أو إقليمية أو قومية أو طائفية أو مذهبية. وعلينا أن لا نتصوّر بأنّ لنا حقّاً وليس للآخرين حقّ، بل أن نفكّر بأنّ الله قد جعل لنا حقوقاً كما جعل علينا واجبات، وجعل للآخرين حقوقاً وجعل عليهم واجبات، وعلينا أن نؤدّي للناس حقوقهم علينا ونطالبهم بحقوقنا عليهم، وعلينا أن نؤدّي الحقّ الأكبر وهو حقّ الله فله كلّ الحق علينا وليس لنا على الله أيّ حق إلاّ ما تفضّل به علينا ممّا جعله لنا من حقّ عليه فيما يثيبنا ويعطينا.
وعندما نعيش هذه الأجواء علينا أن نسال عما هي مسؤوليتنا، ذلك أنّ غيبته لم تكن مسؤوليتنا وظهوره كذلك ليس من مسؤوليتنا، وأمّا ما هي علامات ظهوره، فذلك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه. فمسؤوليتنا مع كل التاريخ والرموز في مرحلتنا وعصرنا هي أنْ نصنع التاريخ من خلال الخطوط التي نؤمن بها ونتعامل معها والأهداف التي نسعى لبلوغها.
رأس السنة الميلادية:
نستقبل ـــ هذه الأيام ـــ العام 1997م ونريد أن نثير عناوين سريعة على أعتابه:
أولاً: ليست لدينا مشكلة في الالتزام بالتاريخ الميلادي، لأنّنا لا نفرّق بين أحد من رسل الله، فنحن نؤمن بعيسى (عليه السلام) على أنّه روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وأنّه عبد الله الذي آتاه الكتاب وجعله نبيّاً وجعله مباركاً أينما كان وأوصاه بالصلاة والزكاة.
وعندما نتذكّر هذا التاريخ بوعي فإنّنا نتذكّر ولادة عيسى من خلال (سورة مريم) التي حدّثتنا عن ولادة عيسى فنعيش مع روحانيته وإخلاصه لربّه ومع أخلاقيّته فلا مشكلة عندنا في أن نلتزم أو نتبنّى التاريخ الميلادي.
لكن علينا كمسلمين أن نؤكّد على التاريخ الهجري لسبب بسيط وهو أنّ قصّة التاريخ في كل أمّة هي قصة مسيرة الأُمة ـــ كلّ الأمة ـــ في هذا التاريخ. من حيث هزائمها وانتصاراتها وكل أوضاعها المتحركة، فكل سنة من سنيّ هذا التاريخ تحمل في داخلها حركة الأمة في كل مواقعها في هذه السنة، فعندما نؤكّد التاريخ الهجري في كل يوم فنسجّله في مذكّراتنا، ونؤرّخ به رسائلنا، ونثبّته في كلّ ما يحتاج إلى التاريخ، إنّ ذلك يجعلنا نعيش التاريخ الإسلامي منذ هجرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكيف انطلقت الهجرة، وكيف عاشها المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكيف كانت مرحلة الدعوة قبل الهجرة وبعد الهجرة، ثم كيف تحرّك المسلمون إلى العالم وكيف كانت الفتوحات والانتصارات والتعقيدات الداخلية السياسية منها أو الثقافية أو الأمنية، وكيف واجه المسلمون التحدّيات، فإنّك وأنتَ تعيش التاريخ الهجري، إنّما تعيش تاريخك وأصالتك وأنّك جزء من هذا التاريخ وأنّك يمكن أن تشارك في صنعه كما شارك الآخرون في صناعته أيضاً. فللتاريخ الهجري في بعده الإسلامي معنى يتّصل بتركيز الأصالة في كياننا ووجودنا ويتّصل كذلك بحركة الأمة في هذا التاريخ، وبمسؤوليتنا قبال هذا التاريخ بحسب ما نملك من جهد وطاقة.
فإذا كان الواقع الذي نعيش فيه واقعاً يسيطر فيه الاستكبار العالمي الذي فرض علينا التاريخ الميلادي، فلا بدّ من أن نضع التأريخ الهجري إلى جانب التأريخ الميلادي. وإذا أمكن أن نضعه جنباً إلى جنب مع الميلادي كما نقول ـــ أحياناً ـــ التأريخ الهجري (كذا) الموافق للتأريخ الميلادي (كذا). لأنّ أيّة أُمّة لا تحترم تأريخها هي أمّة لا تحترم أصالتها ولا تحترم حركيتها ووجودها. فعندما نستعير التأريخ من غيرنا فماذا يبقى لنا يا ترى، ذلك أنّ للآخرين تأريخهم وقد نلتقي معهم في هذا التأريخ، ولنا تأريخنا وعلينا أن نؤكّده. لأنّ هذا يمثّل نوعاً من الهزيمة النفسية والحضارية والإسلامية أمام الآخرين. والمؤسف أنّ الكثير من المسلمين لا يتذكّرون التاريخ الإسلامي كما ينبغي، حتى أنّك إذا سألتهم ما هو التاريخ الهجري اليوم فإنّهم لا يعرفون ذلك.
كيف نستقبل السنة الجديدة؟
وثمّة نقطة أخرى، وهي أنّ علينا أن لا نستقبل رأس السنة بالطريقة التي يستقبل بها العالم الوثني رأس السنة فهي عملية تغييب للعقل بما يمارسه البعض من السكر واللهو والفجور والعبث، فلنتأمّل المسألة جيداً، فأن تموت سنة من عمرك يعني أنّ قطعة من عمرك دخلت في حسابك أمام الله، فلا تدري ما صنعت فيها من خير أو شرّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}(1) فعندما تغيب سنة (1996) م أو سنة (1417) هــ فعليك أن تعرف أنّ ملف هذه السنة قد أغلق ودخلت في كتابك وستدعى إلى أن تقرأ كتابك، وقد يكون خيراً وقد يكون شرّاً، فلا بدّ أن تفكّر بما قدّمت لغد من خلال سنتك هذه.
وبعد أن تغلق حسابات السنة المنصرفة ليفتح حساب السنة القادمة فكّر فيما أنت صانع فيه، فإنْ كنتَ قد عملت خيراً، فاطلب من الله أن يوفّقك لخير جديد، وإنْ كنت عملت شرّاً فكّر أن تستغفر ربّك وتتوب إليه، وأن تغيّر مسيرتك من الشرّ إلى الخير. فبداية الزمن إذاً تفرض عليك التأمّل في حساب الأرباح والخسائر، أما نظرت إلى المصارف والشركات في العالَم كيف تجمّد كل أعمالها قبل بداية السنة وبعد بدايتها بأيام لأنّها تقوم بعملية جرد وإحصاء للأرباح والخسائر، وقد تخسر مادياً وقد تربح، لكن الربح يغنى والخسارة تغني أيضاً والخاسر الأكبر من يخسر نفسه {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1).
فعندما تموت قطعة من عمرك فعليك أن تعرف أنّها هربت منك ولن تعود، فليكن حزنك إيجابياً عليها، وعندما تبدأ سنة إفرح لأنّ الله أبقاك إلى هذه السنة واشكر ربّك على ذلك، وقل كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) وهو يستقبل بداية يومه، ولا فرق بين بداية اليوم وبين بداية الأسبوع والشهر والسنة "اللّهم وهذا يوم حادث جديد وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنّا ودّعنا بحمد وإنْ أسأنا فارقنا بذمّ. اللّهم ارزقنا حسن مصاحبته واعصمنا من سوء مفارقته بارتكاب جريرة أو اقتراف صغيرة أو كبيرة، واجزل لنا فيه من الحسنات واخلنا فيه من السيئات، واملأ لنا ما بين طرفيه حمداً وشكراً وأجراً وذخراً وفضلاً وإحساناً".
فلنفرح ـــ أيّها الأحبّة ـــ فرح المسؤولية، وليكن فرحنا فرح الروح التي تريد أن تصفو وتنقّى وتحلّق في آفاق الله، وليكن فرحنا فرح الإنسان الذي يريد أن يجعل من سنته سنة خير وحرية واستقلال وعدالة.. وليكن فرحنا مع المستضعفين فرح الحقّ كلّه والعدل كلّه والمسؤولية كلّها {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2).
والحمد لله ربّ العالمين
الباب الثاني
أسئلة الندوة وأجوبتها
ي أي
الفصل الأول
أنوار قرآنية
"نحنُ نعيش القرآن نازلاً على عقولنا في كلِّ آيةٍ نقرؤها وعلى قلوبنا في كلّ مفهومٍ نتمثّله، ذلك أنّ المشاكلَ التي عالجها القرآنُ الكريمُ في حياةِ المسلمين هي مشاكلنا".
أولاً: التفسير:
استشعار رعاية السماء:
كان المسلمون في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحسّون برعاية السماء مباشرة لأوضاعهم، حيث يلاحقهم القرآن في الصغيرة والكبيرة. فكيف نستشعر نحن رعاية السماء بعد نزول القرآن؟
ــــ نحن نعيش القرآن نازلاً على عقولنا في كل آية نقرؤها، وعلى قلوبنا في كلّ مفهوم نتمثّله بل في كل نبضاتها وخفقاتها، ذلك أنّ المشاكل التي عالجها القرآن الكريم في حياة المسلمين هي مشاكلنا الآن، لأنّ القرآن إذا نزل في قوم فإنّه لا يتجمّد عندهم ولكنه كما قال الإمام الباقر (عليه السلام) "يجري مجرى الليل والنهار، كيف يتجدّدان، ومجرى الشمس والقمر، كيف يشرقان بعد أُفول".
لذلك فلو درسنا القضايا التي عالجها القرآن في حياة المسلمين لوجدنا بينها قضايانا وإن اختلفتْ الأسماء والمواقع والقضايا والحالات: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ}(1)، هو نور للذين عاشوا هناك ونور للذين يعيشون هنا وفي الزمن كلّه، ولكن المسألة هي {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}(2)؟ كيف نفهمه؟ كيف نتدبّره؟ كيف نوسّع آفاقنا من خلال انفتاح آفاقه؟ كيف نتحرّك في القرآن على أساس أن نجعله يمشي في شوارعنا، ويدخل بيوتنا ويحاربَ معنا، ويسالِم معنا، اقرأوا القرآن بحركة الحياة فإنّكم كلّما تطلّعتم إلى القرآن وهو يمشي في الأرض ويلاحق قضاياكم عند ذلك تفهمون القرآن جيداً، نعم إنّ ما فقدناه هو أنفاس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما فقدناه هو الرمز العظيم المتمثّل بشخصه، لكّنا نعيش مع إمامنا (عجَّل الله فرجه الشريف) في أنفاسه وإنْ كنّا لا نرى شخصه ولكنّنا نعيش روحه، ونعيش التطلّع إلى المرحلة التي ينطلق فيها ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
الروح الانتقائية:
كيف يمكن التخلّص من الروح الانتقائية في التفسير للقرآن الكريم والتي سببها عدم صراحة القرآن واعتماده على الظهور؟
ــــ إنّ بعض الناس يحاول أن يجرّ القرآن إلى جهته، فالمذهبيون يجرونه نحو مذهبهم والكثيرون من المنحرفين قد يحاولون أن يجدوا في القرآن ما يؤكّد انحرافهم، لكن هذا ليس لأنّ القرآن لم يصرّح أو أنّه اعتمد على الظهور، فالظهور ليس إجمالاً إنّما هو ضدّ الإجمال، ومعنى أن يكون اللفظ ظاهراً في المعنى يعني أن يكون واضح الدلالة على معنى بحيث يكون هو المتبادر إلى الذهن والمتبادر مع احتمال معنى آخر يمكن إفادته بحسب نظام اللغة، وهو احتمال بنسبة ضئيلة كأن تكون 10% ممّا لا يمكن أن يأخذ به الإنسان في القواعد العربية إلاّ إذا قام هناك دليلٌ واضحٌ أيضاً يصرف اللفظ عن ظاهره أي إلى هذه النسبة الضئيلة كما هي طريقة المجاز والاستعارة وما إلى ذلك فالروح الانتقائية ليست من الظهور.
وإذن فكيف انطلقت المسألة في هذا الجدل حول القرآن؟ إنّهم انطلقوا دون أن يفتحوا للقرآن عقولهم. ولهذا نحن نحترم الإنسان الذي يقبل على القرآن وهو يملك ثقافة اللغة العربية ويحرّك فكره بالإيحاءات التي تصحّح أفكاره بالقرآن لا أن يجمّد القرآن من خلال أفكاره.
لذلك فالقرآن أصل وكل كتاب غيره هو بعد القرآن، ولهذا فمنهجنا في العقيدة وفي الفقه هو أن ندرس القرآن أولاً، ثم ندرس الأحاديث لعرضها على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو الحقيقة وما خالف كتاب الله فهو الباطل مهما كانت المسائل، وهذا ما ينبغي لنا وهو الذي يحمينا من التخلُّف ومن الغلو ومن كل انحراف، فالمسألة هي أن نقول ماذا قال الله قبل أن نقول ماذا روى الأئمة، فنحن نرى أنّ ما يقوله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الحقيقة لأنّه هو الذي جاء بكلام الله وما يقوله الأئمة (عليهم السلام) حقيقة أيضاً، لكنّ المسألة هي هل ثبت أنّ رسول الله هو الذي قال أم لا؟ هل ثبت أنّ الأئمة قالوا أو لم يثبت. ولذلك انطلق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ليقولوا لنا إذا جاءكم حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو حديث عنّا سواء رواه إنسان برّ أو فاجر فاعرضوه على كتاب الله لأنّه الكتاب الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}(1)، وفي الحديث "كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسنّة وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف".
أمّا في القرآن، فلا نستطيع أن نقول هل ثبتت هذه الآية أو لم تثبت لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(2).
شفاء القرآن:
ما هو تفسير "الشفاء" في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ}(3)؟
ــــ الشفاء شفاء العقل والقلب وشفاء الروح وليس شفاء الجسد، وإذا كان بعض الناس يشفيهم الله ببركة القرآن فليس معنى ذلك أنّ القرآن يمثّل في آياته عقاراً طبيّاً، ولكنّ المسألة هي أنّ الله قد يشفي إنساناً من خلال بركة القرآن كما قد يشفيه من خلال بركة أنبيائه وأوليائه.
تفسير سورة الفاتحة:
لماذا لم تفسّروا (سورة الفاتحة) من خلال كتابكم (من وحي القرآن)؟
ــــ فسّرتها في نهاية التفسير، ففي البداية كانت (من وحي القرآن) عبارة عن دروس ولكن في الجزء (الخامس والعشرين) تجدون فيه تفسيراً لسورة الفاتحة وفي الطبعة الجديدة سوف تكون في أوّل الكتاب ـــ إنْ شاء الله ـــ .
معنى "الإصر" و"الأغلال":
ورد في القرآن الكريم أنّ وظيفة الرسول هي وضع الإصر والأغلال عن المسلمين وعن الناس، فما هو المقصود بالإصر والأغلال؟
ــــ وردت هذه الآيات لتتحدّث عن الثقل الذي كانت تمثّله بعض التشريعات التي كانت تعيشها الأمم السابقة كعقوبة، فعندما يريد الله أن يعذّب بعض الأُمم ومنهم اليهود فإنّه يجعل التشريعات ثقيلة عليهم، ففي بعض الأحاديث إنّ بني إسرائيل ضيّقوا على أنفسهم بكثرة سؤالهم، فعندما قال الله لهم اذبحوا بقرة أيّة بقرة، سألوه: ما لونها؟ {إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}(1)، وكلّما أضافوا سؤالاً أضاف الله عليهم تعقيداً إضافياً بسبب الفضول الزائد، فلقد كان ممكناً أن يشتروا بقرة بعشرة دنانير لكنهم اشتروها بثمانين ديناراً أو أكثر أو أقل وهكذا عقّدوا المسألة الواضحة المفهومة، ففي الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال:
"إنّ الله كتب عليكم الحجَّ فقامَ (عكاشة بن محصن) ويروى "سراقة بن مالك" فقال أفي كل عام يا رسول الله فاعرض عنه حتى عاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلتُ نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم كفرتم فاتركوني ما تركتم فإنّما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"(2).
إنّ هذا يعطينا فكرة أنّ الإنسان عندما يسأل يجب أن يسأل عن أشياء معقّدة حتى يحلها، بينما نرى أنّ كثيراً من الناس الآن يحاولون أن يسألوا عن أشياء بسيطة كيما يعقّدوها.
إنّ (الأغلال) هي القيود التي كانت الأمم السابقة ترسف فيها، وربّما كانت التشريعات الصعبة التي تتحدّث عن الواقع في الماضي.
هل قبل (آدم) آدم؟:
يفسّر بعضهم الآية الكريمة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}(1)، على أنّه هناك آدم قبل نبيّ الله آدم (عليه السلام)؟
ــــ هناك حديث يقول بأنّه "قبل أدمنا ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين"(2)، ولكن هذا ليس من الضروري أن يكون تفسيراً للآية.
والشيء الذي رجّحناه في تفسيرنا (من وحي القرآن) هو أنّ القرآن لا يدخل في التفاصيل فعندما يقول الله سبحانه وتعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، فالمفروض أن يسألوا ما هو شكله؟ وما هي صفته؟ وما هو دوره؟ وما هي مسؤولياته في الأرض؟ وماذا يعمل؟ وهكذا.. فمن الطبيعي أن يسألوا مثل هذه الأسئلة، وربّما سألوا وأجابهم الله بأنّ هذا الخليفة هو الإنسان وسيتحرّك، وستنشب معارك دامية، ولذا قالوا أتجعل فيها؟ لكنّ الله سبحانه وتعالى اقتصر على التفاصيل الأساسية. ولذلك فمن المرجّح جداً ـــ والله أعلم ـــ أنّ الملائكة سألوا الله عندما قال {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} سألوا عن هذا الخليفة وعن دوره وعن مسؤوليته وما هي نتائج خلافته في الأرض هل هي سلبية أم إيجابية؟ فأجابهم الله تعالى فعرفوا المسألة من خلال ذلك {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} فلو افترضنا أنّ هناك قبل هذا الآدم آدميون فلا علاقة لهذا الموضوع بذاك، فلربما كان هناك خلق عاش قبل هذا الخلق، لكن هذا الخلق جديد وليس من الضروري أن يفسد المخلوق الجديد كما فسد سابقه أو أنّ التجربة الجديدة ستكون مماثلة.
علاقة الطاعة بسعة الأرض:
قال الله تعالى {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}(1)، فما هي العلاقة بين سعة الأرض وبين وجوب الطاعة؟
ــــ الظاهر، والله أعلم، أنّ المقصود هو أنّه إذا ضاقت بكم الأرض فلم تستطيعوا أن تعبدوني فيها فهناك أكثر من أرض تستطيعون أن تعبدوني فيها {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} لماذا انحرفتم؟ {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}(2)، {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}(3). فليس المعنى هو وجوب الطاعة فالطاعة واجبة، لكن إذا ضاقت بك الأرض عن عبادة الله، أو إذا ضاقت بك الظروف في أرضك فهناك أرض أخرى يمكنك أن تذهب إليها.
مسؤولية الأمم الماضية وتجاربها:
تذكرون بين الحين والآخر الآية المباركة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}(4)، في موارد يبدو أنكم تريدون القطيعة بين الماضي والحاضر، فيما تتحدّثون دائماً عن توظيف الأول في خدمة الثاني؟
ــــ هناك فرق بين المقالتين فعندما أتحدّث عن الآية {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}(5) فأنا أتحدّث عن المسؤولية، فلسنا مسؤولين عن الماضي وليس الماضي كسبنا وليس الحاضر كسب الأمم والأقوام التي سلفت ولا هم مسؤولون عمّا عملناه ولسنا مسؤولين عما عملوا، هذا في جانب المسؤولية، أما في جانب العبرة وجانب الدرس {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي}(6) فنحن ندرس التأريخ لنتثقّف بالأشياء الثابتة التي تمتد مع الزمن وتبقى لنا، ونتعلّم من الأشياء التي ماتت كيف واجهها الذين عاشوا في التاريخ، والتاريخ مدرسة لنا ولكنه ليس مسؤوليتنا ونحن عندما نصنع التاريخ في مرحلتنا فإنّه ليس مسؤولية الأجيال التي تأتي بعدنا، وهذا هو الفرق بين الآية هنا والآية هناك والفكرة هنا والفكرة هناك.
الطلاق مرّتان:
ليس هناك آية في القرآن الكريم تبيّن أنّ الطلاق مهما تكرّر في الموقع الواحد يعتبر مرة واحدة غير قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}(1)، نرجو أن تبيّنوا لنا ذلك؟
ــــ هذا أمر يتّفق فيه الشيعة والسنة، فليس لدينا آية أخرى تنافي هذه الآية {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}(2)، لا فرق بين الشيعة والسنة في ذلك، ولكن هناك بعض الآراء عند السنة تقول أنّه إذا قال لها (أنتِ طالق) ثلاثاً فقد طلقت ثلاثاً غير أنّ بعض آراء السنة تتّفق مع آراء الشيعة في هذا المجال، فحتى لو قال لها ثلاث مرات (أنتِ طالق) فإنّها تعتبر طلقة واحدة، وهناك محاكم سنّية تأخذ بهذا (الطلاق مرتان) أي الطلاق الأول ثم الرجعة ثم الطلاق ثم الرجعة، فالتكرار أساسي في هذا الموضوع، ولذلك أخذ بعض علماء السنة بالرأي أن الواحدة لا تصير ثلاثة بمجرّد النطق بها.
الجهر بالحق:
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(1) ونرى أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: "لا تقل مالا تعلم بل لا تقل كلّ ما تعلم"(2) فإنّنا نتساءل هل يكون جهرنا بالحق مقيّداً بالزمان والمكان؟ أم أن علينا أن نصدع بالحق في كل زمان ومكان؟
ــــ إنّ الآية تتحدّث عن الحق وأمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: "ليس كل ما يُعْرَف يُقال" فأنت تعرف عيوب الناس وتعرف الأمور التي تضرّ بهم فإذا تحدّثت بها فقد تقع كارثة ولذا فليس المقصود لا تقل كل ما تعلم حتى الحقّ الذي لا بدّ أن تبلغه إلى الناس، وإنّما احذر أن تقول كل ما تعلم عن معلوماتك الشخصية التي تتعلّق بالناس والأمور التي قد تعطي نتائج سلبية.
معنى "البلاغ المبين":
أرجو أن تفسّروا قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}(3)؟
ــــ قال تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(4)، وقال سبحانه {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}(5) من هنا فإنّ الله لم يعطِ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القدرة لأن يغير عقل الإنسان بطريقة خفيّة إنّما أعطاه القدرة على أن يبلغ رسالات الله وأن يقرّبها إلى الناس وأن يفتح للناس باب الحوار. هذه هي مسؤوليته كرسول وكداعية، ولكن كحاكم طبعاً له مسؤولية أخرى تحدّث عنها القرآن في مناسبات أخرى.
علم من الكتاب:
قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(6). ما المراد بالعلم في هذه الآية؟ هل هو العلم الذي يمكن للإنسان أن يتعلّمه؟
ــــ الظاهر أنّ هذا النوع من العلم يسمى (العلم اللدنيّ) أو العلم الخفي الذي يهبه الله سبحانه لبعض أوليائه فيعطيه قوّة يستطيع بها أن يختصر المسافات بطريقة غير عادية، كمثل الذي قال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} فهذا ليس هو العلم العادي وإنّما هو العلم الذي يزوّد الله به أوليائه من أجل أن يقوموا ببعض الأمور التي لها صلة بالقضايا الإيمانية كالمعاجز وما إلى ذلك، أو يمنحه بعض عباده كهذا العفريت من الجن، لبعض الخصوصيات أو الاعتبارات التي يعلمها الله سبحانه.
(طه) و(يس):
لقد نادى الله عزّ وجلّ الرسول الكريم بأسماء منها (ياسين) و(طه) فما هو معناها؟
ــــ لم يثبت أنها أسماء للرسول فـــ (طه) أساساً مركبة من (طــ)، (هــ) مثل (ألف، لام، ميم) لكن عيّنوها كتركيب وهي ليست كلمات إنّما هي حروف مقطّعة، وكذلك (ياسين) (ياء) و(سين) من الحروف المقطّعة وليست اسماً مركّباً حتى نقول أنّه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويبدو أنّ بعض الناس يتصوّر أنّ (طه) في الآية {طَهَ*مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(1)، هو اسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والظاهر أنّه خطاب استئنافي للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وربّما تذكر بعض الروايات أنّها من أسماء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يثبت عندنا ذلك لا سيّما إذا عرفنا أنّ الاسم هو ما يطلق على الوليد عند ولادته، أو ما يغلب عليه بلحاظ بعض الأمور الحادثة في حياته ولم يحدّثنا تاريخ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك والله العالِم.
الضلال والهداية:
نرجو أن تشرحوا لنا هذه الآية {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}(2)؟
ــــ هذه الآية مثل قوله تعالى: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(1) أي أنّ الله يخلق من يشاء بشكل مباشر لا بأسباب الخلق، ومثل {وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ}(2)، بالأسباب التي يودعها للرزق، والله يهدي من يشاء بالأسباب التي أعطاها لهداية الناس، ويضل من يشاء أيضاً بأسباب الضلال، فمن يأخذ بأسباب الهدى يهتدي، ومن يأخذ بأسباب الضلال يضل، وإنّما ننسبها إلى الله سبحانه وتعالى لأنّه هو الذي خلق الأسباب، لكنه خلق لك في قبال ذلك الإرادة والاختيار، فلقد خلق لك أسباب الهدى، لكن الأسباب وحدها لا تهديك إلاّ إذا أخذت بها، ويبقى اختيار الإنسان وحرية الإنسان في الإرادة هي الأساس في كلّ ما يتحرّك به الإنسان من الهدى ومن الضلال، والله ربط الأمور بالإنسان {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(3) يعني أنّك تصنع تاريخك وتصنع جنّتك وتصنع نارك، فحسّن واقعك الداخلي وركّز إرادتك يتحسن واقعك الخارجي.
تساؤلات عن مقتل الغلام:
في قصة نبيّ الله (موسى) والعبد الصالح هناك ثلاثة أمور أتى بها العبد الصالح أثارت تساؤل موسى (عليه السلام) واعترض عليها وهي خرقه السفينة، وقتل النفس، وإقامة الجدار وإذا كان تفسير خرق السفينة وإقامة الجدار واضحاً، فإنّ قتل النفس وتفسيره بأنّ هذا الطفل حين يكبر يكون فاسقاً مؤذياً لوالديه يبدو غير مقبول إذ ما ذنب الطفل الصغير وهو لم يبلغ الحلم بعد؟
ــــ أولاً إنّ قصة العبد الصالح هي قصة تخرج عن النسق الطبيعي للتشريع ممّا حمل موسى (عليه السلام) على أن يعترض، ذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى أرسله برسالة تتحرّك بشكل طبيعي على مستوى ظواهر الأشياء فقط، وأرسل له العبد الصالح حتى يطلعه على ثقافة إلهية أخرى ومن نوع آخر كما علّم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بواسطة جبرائيل أو الإلهام أو بالمنام، فهذه القضايا لها خصوصيتها ونحن نقول من أين جاء عدم جواز قتل فلان، لماذا يجوز قتل الناس في الحرب ولا يجوز قتلهم في السلم مثلاً، لماذا يجوز أن أقتل إنساناً قصاصاً وجريمةً بجريمة ما دامت النفوس كلّها بيد الله؟
إنّ الله كلّف هذا الإنسان (العبد الصالح) أن يقتل هذا الغلام لأنّ أبويه قد يكون لهما دور إصلاحي ودور رسالي، وربّما إذا كبر فإنّه يذلّهما ويخرجهما عن الإسلام، والقضية مهمة جداً والأهمية هنا يعرفها الله، فهو الذي أمر بذلك، هو الذي أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح اسماعيل (عليه السلام) {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}(1) ولم يقل يا ربّي ماذا أذنب إسماعيل؟ هذا أمر الله وإذا أمر بشيء فعلينا أن ننفّذ ونطيع، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(2)، الله يملكنا ويملك أطفالنا ويملك كل الناس وهو بيده وحده أن يأمرنا بقتلهم أو يأمرنا بقتل أنفسنا، لذلك فالمسألة تخرج عن القضايا العادية وتنطلق من خلال ما يعلمه الله سبحانه وتعالى من الأشياء.
ولاية المؤمنين:
هل أنّ للمؤمن، كلّ مؤمن، ولاية كما أنّ الله جعل ولايته لرسوله أم أنّ الولاية للمؤمن هي ولاية خاصة وهي لأهل البيت وهم الذين تعنيهم الآية: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ}(3)...؟
ــــ إنّ ولاية الله على الكون باعتبار أنّ الله هو خالق الكون، لكن الولاية لله هي ولاية للرسول ومن بعده لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهذه الولاية هي لإدارة شؤون الناس ومثلها ولاية الأمّة، وكذلك ولاية المؤمنين أيضاً وولاية (القاصرين) ولاية كل إنسان بحسبه، بحسب الحجم الذي يعطيه الله تعالى إيّاه.
دعوة "موسى" و"هارون"
بماذا يمكن تفسير اختلاف النبيّ موسى (عليه السلام) مع أخيه "هارون" عندما أخذ رأسه وشدّ لحيته كما ذكر القرآن، فما اختلفت دعوتان كما يقال إلاّ كانت إحداهما ضلالة؟
ــــ ليس هناك دعوتان، فلم يكن موسى يدعو إلى شيء وهارون يدعو إلى شيء آخر، وإنّما كان ذلك بعد لقاء موسى بالوحي النازل عليه من ربّه حيث جاء ليجد قومه يعبدون العجل المصنوع من الذهب الذي له خوار والذي صنعه "السامري"، فالمسألة هي أنّ موسى عندما شدّ رأس أخيه على اعتبار أنّه أكبر رأس في القوم كخليفة لموسى وإذا رأى القوم ذلك فإنّهم سيقدرون أهمية الموقف وخطورته، فلا نتصوّر أنّ موسى (عليه السلام) كان ينطلق من حالة غضب غير عقلانية.
حجّة الله:
ألاَ يدلُّ قول الله تعالى {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}(1)، ألاَ يدلّ ذلك على أنّ الحجة أو الإمام الذي تقول به الشيعة لا داعي له؟
ــــ الرسل حجّة من الله على الناس من خلال وحي الله تعالى، وبالنسبة للأئمة فهم حجّة لله على الناس من خلال تنفيذ وحي الله وتفصيله وسلامته، ومفهوم الحجّة يختلف.. فالعالِم قد يكون حجّة على الناس الذين يتعلّمون منه، والمبلِّغ حجّة لله على مَن بلغه.. فالحجّة إذاً نسبية.
العين الحمئة:
ما هو تفسير قوله تعالى: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}(2)؟
ــــ الحمأ هو الطين الأسود، فكأنها تغرب في عين أو ينبوع أسود من خلال الطين الموجود هناك.
ما معنى {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(3)؟
ــــ يرى البعض أنّ الله تعالى خلقنا، وخلق أعمالنا بشكل مباشر في حين يرى بعض آخر وهو الصحيح أنّه خلقنا من خلال الأسباب بالتوالد والتناسل، أي بأسباب الخلق الموجودة في الواقع.
وأيضاً، خلق أعمالنا من خلال الأدوات التي نتحرّك بها، ومنها إرادة الإنسان، فهو خلقنا (مريدين) متحرّكين، فنحن عندما نعمل إنّما نتحرّك في عملنا ونختاره، فخلق الله لعملنا لا يلغي اختيارنا، وكما في خلقه لرزقنا، فنحن لنا اختيارنا في رزقنا بأنْ هيّأ الله لنا سبل العمل التي نكتسب بها أرزاقنا.
فنسبة الأشياء إلى الله ليس معناه أنّ الله يخلقها خلقاً مباشراً، ولكن نسبة الخلق إلى الله هنا باعتباره سبب الأسباب، وهو الأساس في الوجود، ولكنّ هذا لا يمنع من تعلّق الاختيار.
معنى (طرد الذين يعبدون):
ما هو تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}(1)؟
ــــ من خلال سيرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقال أنّ بعض وجهاء قريش ومن غيرها كانوا يتضايقون من جلوس هؤلاء المستضعفين الفقراء البسطاء الذين لا يملكون اسماً ولا مالاً إلى جانب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا سيّما أنّ بعضهم يأتي بملابسه الرثّة ورائحة العرق تفوح من أجسامهم فكانوا يطلبون من النبيّ إبعادهم إذا أراد أن يأتيه وجهاء الأمّة إلى مجلسه.
فالخطاب لهؤلاء لا للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما في الحديث (نزل القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة)(2) قال تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} فكيف يمكن أن يطردهم، لأنّه لو فعل فإنّ معنى ذلك أنه يطرد حركة الرسالة في الإنسان. ثمّ يقول للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّك لست مسلّطاً عليهم، فمن يطرد شخصاً يكون مسلّطاً عليه كعبده أو ما شاكل، أمّا هؤلاء فأحرار يملكون إرادتهم وموقعهم ولذلك قال {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}(3)، فالذي يحاسبهم هو الله سبحانه وتعالى ولستَ أنتَ حيث أنّ مسؤوليتك هي أنْ تربيهم.
تفسير "أبو زيد":
هل أنّ منهج "نصر حامد أبو زيد" في التفسير حرام أم حلال؟
ــــ لا يقال حلال أم حرام، بل يقال خطأ أم صواب، فمشكلة الرجل أنّ لديه بعض التأويلات التي لا تنسجم مع فهم اللغة العربية، فالتأويل ليس حالة مزاجية، ولكن لا بدّ أن يخضع في التعبير الفنّي للخصائص الموجودة فيه.
تفسير الرحمة للعالمين:
لما كانت الرحمة في الآية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(1) واسعة فهل أنّ الله لا يعاقب أحداً حتى الذين تسبّبوا في أذى الرسول وفيما بعد الأئمة (عليهم السلام)؟
ما علاقة هذا بهذا؟ النبي رحمة للعالمين برسالته وبعناصر الرحمة الموجودة في شخصيته، أمّا هل يعاقب الله من آذاه، فقد تحدّث سبحانه عن الذين يؤذون الرسول بأنّ لهم عذاباً أليماً في الدنيا، فهذا شأن الله لا شأننا {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(2) فهو قد رفع العذاب الدنيوي المباشر عن الأمّة بسبب وجود رسول الله بين ظهرانيهم. وأمّا ذاك فهو عذاب الجزاء والعقاب.
فلا يصحّ أن نقول أنّ الله أرسل رسوله رحمة للعالمين، ولذا فإنّه لا يعاقب الكافرين، فلا علاقة لهذا بهذا.
اعتبار موسى:
نفهم من عدم إخبار موسى (عليه السلام) من قبل الخضر (عليه السلام) وكثرة تنبيهه ثمّ تهديده إنْ سأل مرة أخرى بأنْ يقع الفراق بينهما، أنّه لم يعتبر من سؤاليه السابقين؟
كان موسى (عليه السلام) يتأثّر للحقّ الذي أنزله الله عليه، وكان الخضر (عليه السلام) ينطلق من بعض الأحكام الخفية التي لم يكلّف الله بها موسى (عليه السلام).
هل الأنبياء يُسحرون؟
يقول البعض إنّ النبيّ يمكن أن يُسحر، وهناك أدلة من القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}(1)؟
هذا ليس دليلاً على أنّ النبيّ يُسحر، بل هذا دليل أنّهم قدّموا السحر أمام النبيّ، ولكن ليس معناه أنّهم سحروه، بل خيّل إليه من جهة طبيعة السرعة التي انطلقوا فيها في ألاعيبهم السحرية بحيث تصوّر أنّها تسعى، فهم لم يسحروه في جسده. ويقول السائل إنّ هناك أحاديث في (الصحاح) تشير إلى ذلك أيضاً، ولكنّنا نتأمّل في مثل هذه الأحاديث باعتبار أنّ الله الذي أرسل نبيّه من أجل أن يكون عقل العالم، ومن أجل أن يركّز العالم على أساس القوّة والثبات والعقلانية لا يمكن أن يسلّط عليه إنساناً يسحره أو يربك فكره، أو يربك حركته في الحياة.
العذاب من فوق ومن تحت:
ما هو تفسيركم لهذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ}(2)؟
لعلّ المقصود بقوله تعالى: {مِّن فَوْقِكُمْ} الصواعق والنار التي تحرق والعواصف وغيرها، ومعنى {مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يمكن أن تكون الزلازل والفيضانات وما إلى ذلك ممّا يكون تحت الأرض أو فوقها {يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي ممزّقين بإرادتكم وليس الله سبحانه وتعالى هو الذي يفرّق بينكم، وهكذا ينتهي الأمر إلى الدخول في المنازعات القتالية ويذيق بعضكم بأس بعض، صورة للنتائج السلبية الحاصلة لهم في الدنيا في مستوى العذاب من خلال انحرافهم عن خطّ الإيمان بالله الذي يؤدّي إلى استغراقهم في ذاتيّاتهم وأطماعهم وتعقيداتهم النفسية.
الإشاءة الربّانية:
نرجو شرحاً وتفسيراً موجزاً للآية الكريمة {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}(1)؟
يعني أنّ العباد لا يمكن أن يتحرّكوا بعيداً عن النظام الذي وضعه الله في الكون من خلال مشيئته وإنّ مشيئة الله هي عبارة عن تدبيره للكون من خلال القوانين التي أودعها فيه لتحكم مسيرته من خلال السنن الاجتماعية التأريخية التي أودعها في حركة المجتمعات وفي حركة الإنسان في نفسه من خلال أجهزته ومن خلال عقله وإرادته، فكلّ شيء تشاؤونه أي تعملونه هو بمشيئة الله ولكن مشيئة الله تتحرّك من خلال اختيارك ومن خلال إرادتك ومن خلال الضوابط، التي وضعها للإنسان في السنن التاريخية لحركته في الحياة ممّا أوكل الله أمره له لذا قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(2)، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(3)، لذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى شاء لك أن تفعل ذلك ولكن بإرادتك، ومعنى شاء أي أراد فلقد دبّر الكون على أساس أن يجعل هناك موجودات تمارس الأشياء باختيارها وهي الموجودات الحيّة المتحرّكة المريدة وهناك الموجودات التي تتحرّك بغرائزها كالحيوانات أو التي تتحرّك من خلال السنن الطبيعية التي أودعها فيها وهي الموجودات الكونية ولهذا فإنّ المشيئة الإلهية تؤكّد اختيار الإنسان في أفعاله لأنّها تعلّقت بالفعل الاختياري الصادر منه، ولا تلغيها.
الوسيلة:
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}(1)، فما هي الوسيلة؟
ــــ البعض يفسّر الوسيلة بأولياء الله من الأنبياء والأوصياء، فيما يفسّر آخرون الوسيلة بأنّها الوسائط التي تهدي الإنسان وتقربّه من الله سبحانه وتعالى ولعلّ التفسير الثاني أقرب إلى السياق وهو الذي يتبنّاه العلامة الطباطبائي في "الميزان" قال: "فالوسيلة هي التحقّق بحقيقة العبودية وتوجيه المسكنة والفقر إلى جنابه تعالى فهذه هي الوسيلة الرابطة"، ويمكن أن نجمع بين الاثنين بأنْ يكون الأولياء هم الذين يقرّبون الناس إلى الله برسالتهم وتعاليمهم ويدلونهم على الطريق إليه ومواقع القرب منه.
أجر الأنبياء:
ما وجه الجمع بين الآيات النّافية لطلب الأنبياء الأجر من الناس وبين الآية الكريمة {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(2)؟
الأنبياء لم يطلبوا الأجر من أحد حتى المودة في القربى وهذا ما توحي به الآية الكريمة: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}(3)، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(4)، فمن يطلب الأجر من الله لا يمكن أن يطلبه من الآخرين حتى لو كانت المودة في القربى من حيث ظاهر الكلمة، وأمّا تفسير هذه الآية فهو: لا أسألكم عليه أجراً ولكن أسألكم المودّة في القربى لأنّ ذلك لا يتّصل بكم، باعتبار أنّ القربى يمثّلون الموقع القيادي الذي يحمل رسالة الله، ولذلك فأنا أسألكم إنْ أنا رحلت عنكم أن تودوا قرابتي لا بالحب الذي هو خفقة القلب ودمعة العين، ولكنّه ودّ الإسلام، ودّ الرسالة بأنْ تتحرّكوا معهم وأن تنطلقوا مع خطّهم، وهكذا يقترب الوجه الثاني من هذا الوجه وهو أنّ هذه الآية تعبير عن الولاية {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}(5) أيّ أنّني سأعيش معكم دون أن أطلب منكم شيئاً وسأفارقكم دون أن أحمل عنكم شيئاً، ولكن عليكم أن تنطلقوا في خطّ الولاية، فالمطلوب هو الودّ الولائيّ، الود الحركي، الودّ العقلي والفكري لأنّ هؤلاء "كسفينة نوح من دَخَلَ فيها نجا ومن تخلَّف عنها غرق"(1)، فهو ليس أجراً يريده لشخصه ولكنها ولاية ومودّة من أجل الناس لا لأنّهم قريبون لرسول الله (فأبوا لهب) من أقرب الناس إلى رسول الله و(سلمان) من أبعد الناس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والله يقول هناك {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}(2)، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول هنا: "سلمان منّا أهل البيت" إنّها القرابة التي تمتزج فيها الرسالة والعصمة والانفتاح على الله ورسوله.
سبب نزول آية:
بمن نزلت هذه الآية: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}(3)، لأنّ الدكتور (عبد الرحمن الصابوني) ينسبها إلى إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في تفسير (الصفوة)؟
ــــ إنّ هذا الحديث روي في (تفسير الطبري) وذكره أيضاً صاحب (السيرة الحلبية) لكنّنا ناقشناه من جهتين: الأولى هي أنّ هناك أكثر من حديث في هذا الموضوع، فإنّ بعض رواة الأحاديث يهملون اسم الشخص فلا يريدون الإشارة إليه وبعضهم يقول هو (عبد الرحمن بن عوف) وفي رواية أخرى تنسب للإمام عليّ أنّه يقول: "صلّينا وسكرنا".
فأولاً: إذا أردنا أن نتكلّم بطريقة علمية فإنّ هناك روايات متعارضة ويقولون (إذا تعارضت الروايات تساقطت جميعها) فليس لها قيمة، ثمّ إنّ النقطة الهامة هي قضية أنّنا لا نحرّم الخمر في عقيدتنا كمسلمين خصوصاً (المذهب الإمامي) فقط، بل إنّ الله حرّم الخمر في كل شريعة، فالخمر ما كانت حلالاً لا قبل الإسلام ولا في شريعة إبراهيم، والسبب هو أنّ الله يريد للإنسان أن ينمّي عقله وأن يكون مسؤولاً في كل مواقع حياته، والخمر يعتبر غيبوبة بحيث يعطّل العقل، ولهذا نقول إنّ الله حرّم الخمر في كل شريعة من الشرائع، ويعتبر تحريم الخمر من الأدلة على تحريف (الانجيل) لأنّه ذكر فيه تحليل الخمر (قليل من الخمر) وإنّ عيسى (عليه السلام) حوّل الماء إلى خمر، فتعتبر هذه من الأدلة على تحريف الانجيل.
والنقطة الثانية: هي أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يعش البيئة القرشية كإنسان يتأثّر بها، فالإمام عليّ (عليه السلام) منذ أن كان طفلاً في السنة الأولى أو الثانية احتضنه رسول الله وهو يقول "يشمّني عرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل"(1)، ويفتخر بأنّ معلّمه الأول منذ طفولته هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولذلك فليس له أستاذ إلاّ رسول الله، وهل يمكن لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يعلّم عليّاً بأنْ يستهين بشرب الخمر، رسول الله الذي كان حقّاً كلّه وعقلاً كلّه وصموداً كلّه وروحاً كلّه، والذي كان يعيش أخلاق النبوّة من قبل أن يكون نبيّاً، وكان يمنع نفسه عن كل شيء حرّمه الله قبل أن ينزل تحريمه، رسول الله هذا هو الذي صاغ عليّاً بحيث كان هو الحق، فكيف يمكن لتلميذ رسول الله بقطع النظر عمّا نعتقده من عصمة عليّ وروحانيته في ذاته، فكيف يمكن أن ننسب إليه ذلك؟!
وهنالك نقطة ثالثة: إنّ جعفر بن أبي طالب هو أخو الإمام عليّ وإنّه يقول: "إنّي ما شربت الخمر قط منذ أن عرفت أنّها تذهب بعقل الإنسان" فإذا كان جعفر الذي ليس عنده ملكات الإمام وروحية الإمام وليس لديه تربية الإمام، لا يشرب الخمر فهل يمكن للإمام عليّ أن يفعل ذلك؟ فلذلك (حدّث العاقل بما لا يليق فإن لاق له فلا عقل له) فهل يمكن لشخص أن يفكّر بأنّ قطرةً من الخمر خالطت لحم عليّ أو دمه؟ وهو القائل: "إذا سقطت نقطة خمر في بئر وشربت منه الغنم لم آكل لحمها". وكما قلنا فإنّ المسألة هي أنّ شخصية عليّ كانت شخصية روحية منفتحة على كل ما انفتح عليه رسول الله، وإذا أردنا أن نتصوّر ذلك في عليّ فهل يمكن أن نتصوّره في أستاذ عليّ؟! إنّ الروايات المذكورة غير صحيحة فلا بدّ أن نناقش في مضمونها كما نناقشها في سندها، وقلنا أنّ الروايات متعارضة بهذا الصدد، لذا تتساقط بأجمعها بحسب المنهج المتّبع في دراسة الروايات.
أهل الكتاب والشرك:
يقول تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}(1) هل نفهم أنّ أهل الكتاب ليسوا مشركين؟
إنّ أهل الكتاب في القرآن شيء والمشركين شيء آخر، ولهذا فإنّ القرآن لا يعامل أهل الكتاب معاملة المشركين والدليل هو هذا وآيات أخرى.
أجرة الخطيب:
لقد أكّد القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أنه لا يجوز أخذ الأجرة على العمل في سبيل الله كأجرة الخطيب الحسيني، وهذه ظاهرة ينبغي توضيحها فمن آيات القرآن {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ}(2) وقال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "شرار أُمّتي المستأكل بعلمه"؟
إنّ للمسألة بعدين، الأول: هو أن يطلب الإنسان أجراً على الرسالة بحيث لا يبذل رسالته إلا بمقابل أجر ولا يعظ إلاّ بأجر ولا يعلّم إلاّ بأجر وما إلى ذلك، وهذا هو معنى (المستأكل بعلمه). وكما هو معلوم فإنّ الرسالة مفروضة على الإنسان، أمّا مسألة التفاصيل كما بالنسبة إلى قضية التعزية باعتبار أنّها تمثّل المجالس التي نحتاج فيها إلى إنسان يعرّف الناس بمسيرة الإمام الحسين (عليه السلام) ويعظهم من خلال ذلك ويرشدهم فالقضية هنا لا تمثّل الأجرة بالمعنى الذاتي، أيّ أنّ الخطيب عندما يدخل في اتفاقية مع أصحاب المآتم حول المجلس الحسيني فليس معنى ذلك أنّه يقتصر على العزاء والسيرة ولا يتحدّث ولا يعظ ولا يتكلّم إلاّ من خلال ذلك، فالخطباء يتناولون مواضيع شتى إلى جانب المصيبة والبعد العزائي في مقتل الحسين (عليه السلام).
البعد الثاني: أنّ الخطيب إنسان يفرّغ نفسه طيلة السنة من دون أي عمل ماديّ من أجل أن يلبّي حاجات الناس في مجالسهم الحسينية، ولذلك فإنّ القضية تنطلق من أنّه يبذل للمجتمع طاقته التي عاشها وحرّكها طوال العام، وعلى المجتمع أن يبادله بما يحمل هذه الطاقة، وما يلبّي حاجاتها. ثمّ إنّ الخطيب قد يأخذ أجراً عما يقرأ لكنّه يختار ما يقرأ، فلربّما لو قرأ مجلس تعزية كيفما كان فقد يقبل الناس منه ذلك، لكنه يختار الأشياء التي هي أكثر فائدة وقربة إلى الله تعالى. ذلك أنّ الخطيب عندما يكون رسالياً فإنّه يحاول أن يجعل تفاصيل خطاباته متحرّكة في خطّ الرسالة، فهو قد يكون أخذ أجراً على أصل القراءة، ولكنّه لم يأخذ أجراً على حركة الرسالة في قراءته، ونحن نعتقد أنّ المجتمع مسؤول في هذا المجال عن تلبية حاجات كل من يجعل نفسه وقفاً على المجتمع ليتفرّغ للمجتمع في علمه وفي كثير من طاقاته العامّة.
تفسير القرآن:
في "حديث الثقلين" أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ترك شيئين هامّين وهما القرآن والعترة الطاهرة فوظيفة الأئمة أو العترة في البيان والإرشاد، والسؤال: أليس العترة قد فسّروا وبيّنوا القرآن بأكمله، فلماذا هناك مفسّرون يفسّرون القرآن سواء كان تفسيراً فلسفياً أو نقلياً؟
لم ينقل التفسير كلّه، ثم تبقى هناك أسئلة تنطلق من خلال تطوّر الزمن والشبهات التي تحدث ممّا نحتاج أن نستوحي معه كلمات المعصومين لذلك علينا أن نحاول التفكير في ذلك كلّه.
التفسير بالرأي:
هل وضع الاحتمال لتفسير آية كريمة بانّها تحتمل هذا الوجه أو ذاك ينطبق على التفسير بالرأي؟
التفسير بالرأي هو بأن تقول أنّ الآية تدلّ على ذلك من دون ظهور، فالتفسير عندنا من خلال ظهور القرآن المعتمد على قواعد اللغة العربية وليس من خلال التفسير بالرأي. فالتفسير بالرأي هو أن تنطلق لتفسير القرآن بغير ما هو ظاهر فيه اعتماداً على رأيك لا على القرينة وهناك ظهور لا يمكن الأخذ به بل تأويله بحكم العقل باستحالة إرادة الظاهر كالآيات التي ظاهرها جسمية الله ممّا يجعل المسألة التأويلية خاضعة للدليل وللمناسبات المحيطة بالموضوع.
علم الكتاب:
{قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(1)، فمن هو الذي عنده علم الكتاب؟
هناك رواية تقول إنّه عليّ (عليه السلام) وهناك روايات تنطلق من سياق الآية أي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يستشهد بالأشخاص الذين يملكون علم الكتاب حتى يعرّفوا المسلمين بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مذكور في التوراة والإنجيل ولعلّه هو الأقرب لأنّ الإمام (عليه السلام) كان مع النبيّ فكيف يستشهد به وهم لا يقرّون علمه.
ثانياً: مسائل قرآنية:
كيف نستنطق القرآن؟
القرآن الكريم دستور المسلمين وكتابهم المقدّس.. كيف نستوحي منه دروس الحياة، وكيف نستنطقه ونجعله حلاًّ لمشاكلناً؟
قصّة القرآن ـــ أيّها الأحبّة ـــ هي قصّة الكتاب الذي ينزل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليتابع حركته في الدعوة، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي العلاقات ويحيط حركته بالضوابط التي تحميها من الاهتزاز ومن السقوط، ولذلك كان القرآن كتاب الحركة الإسلامية في خطّ الحركة والجهاد، فالقرآن لم ينزل جملة واحدة وإنّما نزل نجوماً. وبقي في مدى (23) سنة وهو ينزل آيات آيات والنبيّ يجمعه وينظّمه في سور {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}(2)، لنفتح قلبك ولنركّز خطواتك حتى إذا واجهت المشكلة تطلّعت إلى الله ليوحي إليك بحلّ المشكلة.
لذلك ـــ أيّها الأحبّة ـــ لا تدرسوا القرآن من خلال كلماته في القاموس، بل ادرسوا القرآن في حركة الحياة.
التبيّن الخبري:
ففي القرآن الكريم يقول الله تعالى أنّ شخصاً أخبر النبيّ بارتداد قومه (بني المصطلق)، وثار الجوّ الإسلامي من أجل يهجموا عليهم، وكانت كلّ الدلائل تفرض أن يتحرّك الهجوم، وكان هذا الشخص ذا عقدة ضدّ هؤلاء ولم تكن مكشوفة، ونزلت الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(1). فالقرآن هنا يصنع قاعدة عامّة تنطلق من هذه الحادثة ليعيش الإنسان واقعية القاعدة في كل خبر يسمعه، أو يقرأه سواءً في صحيفة أو في إذاعة أو في تلفزيون، فقبل أن تتحرّك أدرس شخصية المُخبِر، هل هو ثقة في القول أو ليس بثقة، وتعمّق في الدراسة، ذلك أنّك تتّصل القضية بالآخرين بلحاظ ما تثيره من انطباعات تقويمية ذاتية فمن الممكن أن لا تتعمّق في دراستها، لكن عندما تريد أن تطلق حرباً أو تتّخذ موقفاً، أو تثير مشكلة في المجتمع أو تقود صراعاً من خلال هذا الخبر، عليك أن تتثبّت حتى تستطيع أن تنطلق من قلب الحقيقة ما استطعت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ...} وهو الذي لا يخاف الله في كلامه ولا يخاف الله في عباده ويتحرّك من موقع فسقه على حسب هواه {فَتَبَيَّنُوا}، أي اتركوا قوله وحاولوا أن تتبيّنوا الحقيقة بوسائلكم الخاصة. {أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ...} لأنّكم إذا اندفعتم وتسرّعتم ولم تنطلقوا من قاعدة متينة فقد تصيبون قوماً بغير وسيلة موثوقة، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} حيث لا ينفع الندم.
صناعة الأخبار:
هذا فيما إذا كانت المسألة مسألة أشخاص يتحدّثون بالخبر، أما الآن فقد أصبحت الأجهزة المخابراتية تصنع الأخبار بطريقة علمية دقيقة بحيث أنّها تدرس الناس في نقاط ضعفهم سواء أكانت عائلية أو حزبية أو طائفية أو ما إلى ذلك، لتحرّكها وتدخلها في عناصر الخبر حيث تكون مقبولة عند الناس فينطلقون من دون وعي لأنّ الخبر صادفَ هوى في نفوسهم، أو لأنّه أثار حسّاً شعورياً في داخلهم، ويندمون حيث لا ينفع الندم. وهذه مسألة لم تعد متّصلة بالجهة التي جاء الخبر ليدينها، بل أصبحت متّصلة بتركيبة الواقع الاجتماعي والسياسي والأمني، خصوصاً وأنّ بعض الأمور تربك المجتمع، وتشغله بقضايا هامشية بحيث يستطيع المجتمع إذا وضعها في دائرتها الخاصة أن يحلّها وأن يفهمها، ولكنها تنطلق في الحالات التي تمثّل مرحلة دقيقة من مراحل الاستكبار.
الإنشغال بالهامش:
من هنا فإنّ المسألة تتّصل بالإشاعات، وحركة الجدل في الأمور الهامشية، وحركة الحقد المتبادل لإثارة الأحقاد، وهذه كلّها تشغل المجتمع بحيث ينسى القضايا الكبيرة في قبال القضايا الصغيرة، وقد عشنا في تاريخنا في كل هذه السنين تجارب كبيرة في هذه الحياة، ومنها أنّ مشكلة الجريدة الفاسقة هي مشكلة الذي يصنع الخبر، وكذلك الإذاعة أو الأجهزة الفاسقة التي تنطلق لتحرّك كثيراً من الأوضاع وتثير الكثير من الإشاعات حول كثير من القضايا لإلهاء الناس.
فأنا أذكر في أيام (حلف بغداد) حيث كنّا في العراق، وكان الحلف يمثّل صيغة لترتيب وضع المنطقة بين (بغداد ـــ إيران ـــ تركيا ـــ باكستان)، وذلك في دائرة المخطّطات الغربية، حتى تدخل هذه الدول في الحلف الذي يواجه القوى الأخرى التي تقف ضدّ الغرب كالاتحاد السوفياتي، وفي الواقع العربي ضدّ الحركة القومية العربية التي كان يقودها (جمال عبد الناصر).
كانت حركة (حلف بغداد) تنطلق من دائرة الصراع السياسي في المنطقة والصراع الدولي في ذلك الوقت. وكانت تثار في العراق ـــ حينذاك ـــ قضايا صغيرة جداً لكنّها هزّت العراق من أقصاه إلى أقصاه، فلقد أثيرت قضايا جزئية وثانوية شغل الناس بها، ومر (حلف بغداد) دون أن ينتبه إليه أحد لأنّ الناس كانوا مشغولين بالهوامش.
إنّ المرحلة الآن ــــ أيها الأحبّة ـــ تتطلّب أن نتعلّم من القرآن {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(1)، فلقد جاء شخص إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال له: "علامَ أشهد يا رسول الله، فالتفت إلى الشمس في رابعة النهار وقال على مثل هذا فاشهد أو دع!!"، "ضع أمرَ أخيك على أحسنه حتى يأتيكَ منهُ ما يغلبك ولا تظنّنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيكَ سوءاً وأنتَ تجدُ لها في الخير محملاً"(1).
إنّ المرحلة الآن هي مرحلة المتغيّرات في الساحة، فهناك الآن متغيّرات كالتي حدثت في الواقع الصهيوني في الموقف الجديد الذي راح يحاول، بفعل التحالف الاستراتيجي الأميركي ـــ الصهيوني، أن يثير الضباب حول (سوريا) التي تمثّل قاعدة الصمود أمام الصهيونية في هذه المرحلة أمام كل عملية الانهيار العربي.
ولذلك فإنّ عناوين الأخبار تدور حول عدم الاستقرار في سوريا، ودعم سوريا للارهاب، وموضوع تحريك العنصر التركي، والتحالف التركي ـــ الاسرائيلي، كل ذلك من أجل الضغط على الواقع العربي من خلال الضغط على سوريا كهدف.
وتبعاً لذلك فالمطلوب استكبارياً الآن أن ينشغل الناس بأشياء تجعلهم يقفون بعيداً عن كل حركة الصراع التي تهدّد المصير العربي كلّه.
فالتحالف التركي الاسرائيلي أصبح يهدّد العراق وسوريا وإيران، حتى تصير سوريا بين كمّاشتين: تركيا والكيان الصهيوني.
إنّ إيران بدورها تواجه حملة أميركية على مستوى الضغوط الاقتصادية، حتى أنّ أميركا الآن وبعد أن فشل الحصار الاقتصادي على إيران في منع الشركات الأميركية من مساعدة إيران أو التعامل معها، تريد أن تصدر قانوناً تعاقب به الشركات الأوروبية وغير الأوروبية التي تتعاون مع إيران.
المناقشة العقلية للمسائل:
وبناءً على كلّ ذلك، فلنتعلّم من القرآن كيف نكون واعين في هذه المرحلة، ذلك أنّ كل قضية يجب أن تناقش، ولكنّ هناك فرقاً بين أن تناقش القضايا بغريزتك وبين أن تناقشها بعقلك، فعندما يتحرّك العقل لا تبقى ثمّة مشكلة حتى في المسائل الحساسة جداً، ولكن عندما تتحرّك الغريزة فهناك الانهيار لا المشكلة.
أيّها الأحبّة، إقرأوا القرآن بعقولكم ولا تقرأوه بعيداً عن عقلكم، ففي القرآن نورٌ وهدى يتحرّك معكم في الواقع. فأنا أقول دائماً ادرسوا القرآن في حركة الواقع فسترونه ماثلاً في كل موقع تتحرّكون فيه.
القرآن والعقل:
مع اعتماد المسلمين المؤمنين على القرآن الكريم البعيد عن كل ماهو مخالف للعقل، لماذا نجد الغالبية منهم يقبل كل ما يطرح، هل يمكن علاج هذا المشكل؟
ــــ إنّ مشكلة بعض الناس أنّهم يعطون عقولهم إجازة عندما تتحرّك غرائزهم الاجتماعية والتأريخية، ألم يحدّثنا الله تعالى في القرآن بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}(1).
ألم يحدّثنا الله عن مخاطبة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(2)، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ}(3).
فلقد فتح القرآن باب الحوار، وفتح باب العقل {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(1) فالعقل هو الأساس، ففي الحديث القدسي: "إنّ الله لما خلق العقل قال له أقبِل فأقبَل، ثم قال له أدبِر فأدبَر، ثم قال فبعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً أعزّ عليّ منك، أيّاك آمر وأيّاك أنهى وبكَ أُثيب وبكَ أُعاقِب"(2).
فالله يثيب المرء على قدر عقله ويعاقبه على قدر عقله. وقد جاء في بعض الأحاديث "العقل رسول من داخل والرسول عقل من خارج".
لذلك ـــ أيّها الأحبّة ــ قبل أن ننطق علينا أن نشغّل عقولنا لا أن نعطيها إجازة، وعندما يأتينا أمر من الآخرين، سواء من آبائنا ومن أجدادنا أو من تراثنا وفيه الغث والسمين، فإنّ علينا أن نستمع بآذان واعية {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}(3)، والأذن الواعية هي المنفتحة التي تدرس الأمور وتفكّر فيها وتسمع وجهة النظر المخالفة وتتأمّل فيها وتناقش عن علم.
إنّ مشكلتنا في المسألة السياسية والاجتماعية والدينية هي أنّنا قوم تحرِّكنا غرائزنا وعصبيّاتنا وتخلفنا ولا تحرِّكنا عقولنا، ولقد سبق أن قلت إنّك عندما تنطلق بالعقل ليكون الحوار حوار العقل للعقل فلن تكون هناك ذات.
ومشكلتنا أنّنا لا نقرأ القرآن بوعي، فنحن الآن نختلف على أشياء كثيرة، فهل إنّ الخلافات التي تحدث بين الناس سياسية واجتماعية وتاريخية وعقائدية هي بالمعنى التفصيلي كالخلاف بين الكفّار والمسلمين؟ فقمّة الخلاف هي أنّ كافراً يقول (لا إله) وآخر يقول (إلاّ الله).
فهناك سلب مطلق وهنا إيجاب مطلق، فكيف علمنا الله وعلّم رسوله أنْ نتكلّم مع بعضنا إذا اختلفنا، إقرأوا القرآن جيداً لتحصلوا على الجواب.
مجالات الاستفادة من القرآن:
هل يمكن لغير المسلمين أن يستفيدوا من القرآن الكريم وفي أي المجالات يمكن ذلك؟
ــــ لقد قال القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فخاطب الناس كلّهم، وقد نزل للناس كافة، وعندما تحدّث مع الذين آمنوا فإنّما تحدّث مع الذين دخلوا الإيمان ليحدّثهم عن حركة المسؤولية في حياتهم.
فالناس الذين يتطلّعون إلى خطّ الإيمان وحركته بالحق وبالعدل ينطلقون على أساس أن يجدوا في القرآن الكثير ممّا يشجّعهم على الإيمان به، فنحن نقرأ مثلاً في قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(1)، إنّه يقول للناس إنّ كل الأديان وكل الكتب وكل البيّنات جاءت من أجل أن تعيشوا العدل في العالم، العدل مع ربّكم، ومع أنفسكم ومع الناس ومع الحياة.
وهكذا نجد أنّ في القرآن القِيَم التي لو أخذ الناس بها لرأوا فيها العدل والحرية والعزّة وإنسانية الإنسان وكلّ القيم الأخلاقية التي تجعل الإنسان الآخذ بها يعيش جنّة الله على الأرض كمرحلة للانفتاح على جنّة الله في السماء.
تربية القرآن للمسلمين:
كيف ربّى القرآن الكريم المسلمين، وكيف استفاد المسلمون في زمن الرسول من القرآن، بكلمة أخرى، ما هي الأسباب التربوية المستخدمة قرآنياً في مجالات التربية وكيف أثّرت في المسلمين؟
ـــ في البداية وجّه القرآن المسلمين إلى أن يفكّروا، حيث أراد أن يخرجهم من الجمود الذي عاشوه في تقديس الماضي وتقديس عقائد الآباء والأجداد.
أراد أن يحطّم هذه الصخور الفكرية التي حجّرت عقولهم وقلوبهم، فعندما كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيما حدّثنا الله تعالى في كتابه، يناقشهم ويدعوهم، كانوا يقولون {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}(1).
وقال الله لهم {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ}(2)، {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(3)؟
فللماضي جهله وعلمه وللماضي أخطاؤه وصواباته، فهو ليس مقدّساً بكلّه، والذين عاشوا في الماضي هم كغيرهم يتقاتلون على الأطماع، وقد يخطئون وقد يصيبون، وقد يتّقون وقد يفسقون، فمجرّد أن يعيش إنسان في الماضي ليس معنى ذلك أن يكون مقدّساً، فلا تقدّسوا الأخطاء ولا تقدّسوا الضلال. فكم ترك الأول من آثار للآخر. فالذين فكّروا، فكّروا بعقولهم، وعقولهم هي نتاج ثقافتهم وبيئتهم والظروف الموضوعية التي أنتجت تلك العقول التي ربّما عاشت في أُفق ضيّق، أمّا الآن فقد تكون الآفاق أوسع وقد يكون فهمنا للغة أفضل وفهمنا لروح الإسلام ولروح القرآن أكثر، ولذلك نقول إنّه عندما يأتينا فكر جديد علينا أن لا نستعمله مباشرة، ولكن إذا كنّا نملك العلم علينا أن نناقشه وأن نفهم النظرية ونناقشها حتى نكتشف فيها نقطة ضعف أو نقطة قوّة لنعرف كيف نحدّد موقعنا لا أن ننطلق على أساس الغوغاء، فمن ينطلق من عقل الغوغاء يعيش ظلام الجهل والتخلّف لمجرّد أن المسألة أصبحت خارجة عن المألوف، فثمّة فرق بين أن يكون الشيء مألوفاً لك وبين أن يكون معقولاً، ومشكلتنا هي الفرق بين المعقول وبين المألوف، فالناس عادة يتّبعون المألوف وبعضهم يشعر بالغربة إذا أراد أن يترك أفكاره، وقد تكون أفكاره نتيجة بيئة متخلّفة. القرآن أراد للناس أن يتفكّروا في خلق السموات والأرض {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(4).
إنّ القرآن أراد أن يربّي المسلمين على أنّ العلم وليس المال قيمة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1) وأن العقل قيمة {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(2)، وأنّ كل من انطلق من عقل يفكّر ومن علم يتحرّك ومن شعور ينفتح فإنّه لا بدّ أن يلتقي بالحقيقة من قريب أو من بعيد، ثم انطلق القرآن بعد ذلك ليتّبع الأسلوب العاطفي الانفعالي لأنّ بعض القضايا تحتاج إلى أسلوب ينطلق من القلب، وهناك أيضاً أساليب تنطلق من العقل {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(3) فهذا هو الأسلوب العقلي وهناك أساليب عاطفية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*َلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(4).
ولذلك زاوج القرآن بين الأسلوب العقلي والأسلوب العاطفي في هذا المجال، لأنّ الإنسان مركّب من عقل ومن عاطفة، وهكذا انطلق إلى الناس من أجل أن يحرّك فيهم القيم الأخلاقية ليرغّبهم فيها لأنّ الإنسان مفطور على الترغيب والترهيب، فعندما نقرأ القرآن فإنّنا نجد أنّ هناك أعلى وسائل التربية ولا سيّما التربية في أسلوب الحوار حيث أنّ القرآن الكريم انطلق ليحرّر الحوار من كل ذات.
فعندما تريد أن تحاور ابحث عن مواقع اللقاء التي تربطك بالآخر قبل أن تبدأ بالحوار لتقول له إنّ هناك أرضاً مشتركة بيننا فلعلّنا نتابع الحوار لنوسّع هذه الأرض المشتركة.
مقاومة الإعلام المضاد:
كيف قاوم القرآن الكريم الإعلام المضاد؟
ــــ قاومه بالتثبّت، لأنّ مشكلة الإعلام المضادّ أنه يلعب على عواطفنا وعلى نقاط ضعفنا، وأنّ مشكلة الإعلام المضاد أنّه يعتمد على تسرّعك في قبول ما تسمع. لذلك أعطانا الله قاعدة وقائية {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(5)، فلا تتّبع في عقيدتك وفي انطباعاتك وفي أحكامك وفي كل حركة حياتك شيئاً لا تملك معرفته ولا تملك علمه {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لأنّ الله سيحمّلك مسؤولية ذلك وسيسألك عن كل شيء كلّفك به وعن كل شيء مارسته {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} "السمع وما سمع والبصر وما رأى والعقل وما وعى" فالمسألة هي ممّن سمعت وكيف سمعت، فلقد قال عليّ (عليه السلام): "ليس بين الحق والباطل إلاّ أربعُ أصابع فسئل (عليه السلام) عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: الباطلُ أنْ تقولَ سمعتُ، والحقُ أن تقول رأيتُ"(1).
فالسمع يعطي العقل مادة خاماً من المسموعات، والبصر يعطي العقل مادة خاماً من المبصرات والعقل هو المصنع وفي المصنع آلة تعزل العناصر الخبيثة الرديئة من العناصر الطيّبة الجيدة، ثم بعد ذلك تعرف كيف ترتّب المسموعات وكيف ترتّب المبصرات وكيف تقارن بين هذا وذاك، حيث سيسألك الله كيف فكّرت وكيف لاحظت، هذا هو المنهج، لذلك فالمؤمنون لا يعيشون إذا استحضروا إيمانهم تحت رهبة الإشاعة، لأنّ الإشاعة عندما تنطلق فإنّ المسؤولية العقلية تواجه الإشاعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(2) فعندما تسمع خبراً فكّر هل أنّ المخبر فاسق لا يخاف الله أو أنّه ثقة عادل يخاف الله، وهكذا عندما يتحدّث الناس وعندما يخطب الخطباء، وعندما يعظ الواعظون حاول أن تعرف مَنْ هم هؤلاء، فلعلّ مثل هؤلاء يعيشون الفسق في عقولهم والفسق في قلوبهم بحيث يتحوّل هذا الفسق العقلي والفسق القلبي إلى كلمات تجعل الفسق والفتنة والحقد يعيش في الناس.
وهذا هو الذي يتحرّك من خلال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(3)، وقوله عزّ من قائل {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(4). وهكذا عليك أن تدقّق فيما سمعت وأن تفكّر فيه، وإذا كنت الإنسان الذي يفكّر بعقل وهدوء ومسؤولية فلن يستطيع الإعلام المضادّ أن يهزم عقلك أو يهزم قناعتك.
علم القرآن:
في الحديث "لولا آية في كتاب الله لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة"(1)، فما معنى ذلك؟
ــــ الظاهر أنّ المراد بها قوله تعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(2) الذي يوحي بأنّ المعلومات التي يملكها الناس حتى الأنبياء في قضايا الحياة والناس في حركة الوجود لا ثبات لها لأنّ من الممكن أن تكون معلّقة على بعض الشروط والأمور التي لا يعلمونها لأنّ الله يملك المحو والإثبات في حركة الأشياء.
الطريقة القرآنية في الإقناع:
يقول تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(3) فمن المتكلّم، إنّه النبيّ الذي جاء بالصدق وصدّق به، فهل كان النبيّ شاكّاً حتى يقول إمّا أنا على هدى وأنتم على ضلال أو أنا على ضلال وأنتم على هدى، هل يمكن هذا؟
ــــ إنّه رسول الحق، لكن هذا هو الأسلوب الإنساني الذي اتّبعه بوحيٍ من الله تعالى لتطويع المخالفين، فعندما تختلف مع إنسان في شيء احترم قناعته وعليه في المقابل أن يحترم قناعتك، فلماذا تكون لك الحرية في التفكير بطريقتك وتمنع الآخر من أن يفكّر بطريقته، إنّ هذا عملٌ غير إنساني.
فإذا ما فكّرتُ فلي الحقّ بأن أفرض فكرتي على الناس، وعليهم أن يسمعوني، لكن غيري إذا فكّر فلا يجوز لأحد أن يسمعه، فلماذا هذا، أنتَ لديك عقل يفكّر.. يخطئ ويصيب، فإذا أردت إقناع الآخر فعليك أن تحترم إنسانيته، وتحترم عقله، لا أن تقول له: إنّك كافر.. أنت زنديق.. أنت كذا.. إنّما ينبغي أن تقول له: تعال نتفاهم فهناك حقيقة نحن مختلفان عليها، وربّما لم أصل إليها لوحدي وربّما لم تصل أنتَ إليها لوحدك، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(4).
لقد قلت لبعض المفكّرين الغربيين إنّ أسلوب الحوار في الإسلام لم تستطع كل أساليب الحوار المتطورة في العالم أن تقترب منه فضلاً عن أنْ تتقدّم عليه، فمعنى قوله تعالى في الآية السابقة إنّه ليس هناك (ذات) وليس هناك (أنا وأنت) بل هناك قضية ضائعة بيننا وعلينا أن نتعاون للوصول إليها، حيث يمكن أن أكون ضالاً وأنت مهتد، وبالعكس فقد تكون ضالاً وأنا مهتد، ومشكلتنا أنّنا نقرأ القرآن ولا نقف عند {لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(1)، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(2)، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(3). والقلب هو العقل في القرآن {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(4) فإذا لم تُعمل عقلك فأنتَ في النار، فالقرآن يعلّمنا أن نحترم العقل، وعلينا أن نحترم عقولنا في كل قضايانا التي نثيرها أو نتحرّك فيها أو ننتجها أو نختلف فيها.
القرآن والفكر الإسلامي:
ما هو دور القرآن في الفكر الإسلامي:
ــــ القرآن هو الأساس في الفكر الإسلامي لأنّه الكتاب المعصوم الذي تكفل الله بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(5)، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(6) لذلك فكل فكر يخالف القرآن وكل خطّ يخالف خطّ القرآن زخرف اضربوا به عرض الجدار كما يقول أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
القرآن والفقه الإسلامي:
ما هو دور القرآن في الفقه الإسلامي؟
ــــ إنّ القرآن يملك قاعدة الأصالة في الفقه الإسلامي، وهو الذي أعطى للفقه الإسلامي عناوينه وخطوطه العامة ولذلك لا بدّ للمجتهد أن يبدأ بالقرآن ثمّ ينطلق إلى الحديث.
القرآن والتربية:
ما هو دور القرآن في التربية والهداية؟
ــــ دور القرآن في التربية هو دور القاعدة والأساس الذي ترتكز عليه الهداية لأنّ أساليبه هي أساليب العقل والعاطفة، وهي الأساليب التي تنفذ إلى عقل الإنسان وإلى قلبه.
أهل البيت (عليهم السلام) والقرآن:
كيف كان ينظر أهل البيت إلى القرآن؟
ــــ كانوا يعتبرونه الأساس في تقويم كل فكر وكانوا يقولون: "إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالَف كتاب الله فذروه فإنْ لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارَهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه"(1).
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن:
ما هي الصورة التي يمكن أن نكوِّنها عن الرسول الأعظم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلال القرآن؟
ــــ هي هذه الصورة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}(2) وهذه {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(3) فهذا هو الرسول الأكرم المُبشِّر وهو الحاكم الذي يملك من الناس ما لا يملكونه من أنفسهم.
كمّ القرآن وكيفه:
هل الأفضل في قراءة القرآن هو الاهتمام بالكميّة أم بالكيفية؟
ــــ يقول تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(1)، ويقول سبحانه {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(2)، إنّ القرآن ليس كتاباً للبركة فحسب ولكنه كتاب للوعي، ويروى عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) ونحن نعيش أجواء ذكرى وفاته على الرواية الأشهر في 17 من شهر صفر إنّه كان يختم القرآن في كل ثلاثة أيام مرة. وكان يقول: "لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمته ولكني ما مررت بآية قطُّ إلاّ فكرتُ فيها وفي أيّ شيء أُنزلت وفي أي وقت فلذلك صرتُ أختمُ في كلّ ثلاثة أيام"(3).
القرآن هو الحقيقة:
قلتم كما هو منشورٌ في نشرة هذه الندوة المباركة (فكر وثقافة): "القرآن هو الحقيقة وكلُّ ما عدا القرآن باطل" فماذا تعنون بالتحديد بهذا الكلام علماً بأنّ كل ماعدا القرآن يشمل (نهج البلاغة) و(الصحيفة السجّادية) و(أحاديث الرسول) الأكرم والأئمة الأطهار؟
ــــ عندما أتحدّث عن القرآن إنّما أتحدّث عن حقائقه وعن مفاهيمه في العقيدة والتشريع، وقيمة (الصحيفة السجادية) تتمثّل في أنّها استوحت القرآن، وقيمة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في أنّه تلميذ القرآن، وعظمة رسول الله في أنّه جسد القرآن في كل حياته، فكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو القرآن الواقع المتحرّك، وكان الناس يسمعون الآية من رسول الله بآذانهم ويرون الآية مجسّدة فيه بأعينهم، والأئمة أيضاً مع رسول الله في ذلك... إنّ عظمتهم هي في أنّهم كانوا مع القرآن، ولقد ذكرت لكم في محاضرة سابقة أنّ آخر المواقف التي وقفها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خطيباً في المسلمين وهو يتكّئ على عصاه من المرض قال: "أيها الناس إنّكم لا تُمَسّكون عليَّ بشيء، إنّي ما أحللت إلاّ ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلاّ ما حرَّم القرآن" فعندما أقول بأنّ القرآن هو الحقيقة وكل ما عدا القرآن باطل، أي ما عدا عقيدة القرآن وما عدا شريعته هو الباطل، وكل كتاب يصطدم مع القرآن فإنّما هو باطل وكل كتاب يستوحي القرآن ويستهديه فهو يتحرّك في عمق القرآن.
يوسف والسجن:
في قصّة (يوسف الصدّيق) عندما كان في السجن أراد من السجين الذي معه أن يذكره عند ربّه أو يذكره عند السلطان، لماذا لم يدعُ ربّه ليخلّصه من السجن؟
ــــ إنّ الله سبحانه وتعالى أراد منه أن يستعمل الأسباب العادية، فالله تعالى يريد للأنبياء أن يمشوا على طريقة الناس بأن يجعل أخوته يرموه في البئر ويبتليه بامرأة العزيز ثم بالنساء اللواتي يجتمعن حوله إلى أنْ: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}(1) لماذا هذا؟ إنّ الله سبحانه وتعالى يريد للأنبياء أن يسيروا كبشر ويتحرّكوا كما يتحرّك البشر لأنّهم مكلّفون بالعيش كما يعيش الناس، فالله سبحانه وتعالى يبقي النبي ثلاثاً وعشرين سنة ليقنع هذا وذاك ويدخل هذه الحرب وتلك ويحاصرونه ويضربونه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}(2)، لكنه سبحانه أراد للحياة أن تعيش حركية الصراع وأن يدخل النبي ساحة الصراع فيستعمل نفس أدوات الصراع. ونحن نريد أن نختصر كل هذه الأشياء كمثل بعض الناس إذا مرض ابنه فإنّه يحاول أن يأتي له بحرز فقط، فيما يتعيّن عليه أن يأخذه للطبيب ويجعل له حرزاً، خذه للطبيب وادعُ الله سبحانه وتعالى، لأنّ الله يريد أن نأخذ بسنّته الكونية في الحياة كمن قال: "تركتُ راحلتي في البيداء وتوكّلت على الله فجئت ولم أجدها قال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "اعقلها وتوكّل". فاستعمل من جانبك الأسباب التي عندك وإذا وصلت للأسباب التي ليست بيدك فقل (هذا ما أستطيع وأنا أتوكّل عليك يا ربّ فيما لا أستطيع).
سبب سجن يوسف (عليه السلام):
يقول بعضهم أن يوسف سُجن لأنّه فضّل السجن على ما دعته النسوة إليه بدل أن يسأل الخلاص فهل هذا صحيح؟
ــــ إنّ يوسف (عليه السلام) سُجن باعتبار الإحراج الذي عاشوه من خلال وضع يوسف وصلابته الأمر الذي يؤدّي إلى نتائج سلبية بالنسبة إلى امرأة العزيز، كما يحرج أيضاً جماعة العزيز ولكنه (عليه السلام) لما كان يعيش في الجوّ الضاغط فإنّه طلب من الله سبحانه وتعالى أن ينجيه من الظالمين وأجواء الظالمين {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}(1).
فلقد سأل الله الخلاص بالسجن إذ لم يكن يوجد طريق عملي للتخلّص من هذا الضغط الخارجي غير هذا.
القرآن قاعدة الهداية:
قاعدة الهداية عندكم هي القرآن الكريم، لماذا، وكيف نفهم القرآن؟
ــــ القرآن هو كتاب الله، والله تعالى هو الهادي، ومن الطبيعي أن يكون كتاب الله هو الذي يمثّل قاعدة الهداية وأسلوبها ومفرداتها، لأنّ الله أنزله ليكون نوراً {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(2)، فإذن دور القرآن أن يكون نوراً يفتح عقل الإنسان على خطّ الهدى وقلبه على الإحساس بالهدى، وحياته على السير في طريق الهدى، وكان القرآن هدىً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّ الله أنزل عليه الكتاب ليفصّل له آياته وليعيش النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كل وحي الله، وعلى ضوء هذا فإنّ هدى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من هدى القرآن، لأنّ الرسول كان يتأدّب بآداب القرآن، بل كان يتحدّث بتفاصيل ما أجمله القرآن، وكان يتحدّث بالقرآن كلّه، ولذلك فالقرآن هو الأساس في الهداية لأنّ الله أراده أن يكون قاعدة الهدى، فعندما ننطلق مع النبيّ فعلى أساس {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1)، وعلى أساس {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(2).
أما كيف نفهم القرآن، فإنّ علينا أن نفهمه من خلال وعي معانيه على أساس القواعد العربية التي ركّزت على منهج فهم الكلام العربي، ولا سيّما القرآن الذي يمثّل قمّة هذا الكلام في البلاغة.
وأمّا كيف نعي القرآن في حركة الواقع، فعلينا أن نحرّك القرآن في واقعنا لندخله إلى بيوتنا ليحدّثنا عمّا نفعله هناك، وأن ننطلق معه في كل ساحات الصراع، وفي كل ساحات الواقع، لأنّ القرآن كما قلنا هو الكتاب الحركيّ الذي كان يرافق الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، ولهذا قلنا "لا يفهمه إلاّ الحركيّون" ولا أقصد بالحركيين الحزبيين، وإنّما أقصد بهم الذين يعيشون الحياة حركة لا الذين يعيشون الحياة جموداً وزوايا مغلقة.
القراءة العينية للقرآن:
هل يجوز قراءة القرآن قراءة عينية دون التلفّظ، ليحصل المقرئ على نفس الأجر فيما إذا قرأ قراءة (التجويد) أو (التلاوة)؟
ــــ هذه ليست تلاوة وإنّما هي مطالعة، فهناك فرق بين المعنى الصوتي وبين المطالعة، فالله يريد للإنسان أن يعيش حركية القرآن في طريقته للقراءة وخاصة التلاوة، وكلّما كانت القراءة فنّية، كلّما كانت أكثر عمقاً في النفس.
الحجاب عند التلاوة:
هل يشترط تحجّب المرأة عند تلاوة القرآن؟
ــــ لا يشترط الحجاب عند التلاوة ذلك أنّ قراءة القرآن ليس لها تقليد خاص فذكر الله في كل وقت وعلى كلّ حال، والوقوف أمام الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى حجاب وإنّما نتحجّب من بعضنا البعض، والمهم في ذلك أن لا يكون هناك حجاب على عقلك وأن لا يكون هناك حجاب على قلبك، وأن لا يكون ثمّة غشاء على عينيك.
وقد تكون الطهارة من الحدث للتلاوة كمظهر من مظاهر الاحترام لله سبحانه كما هي الحالة الصلاتية التي يوحي الوضوء قبلها بالحالة الطهورية الجسدية كرمز الطهورية الروحية.
الإسراء دون المعراج:
ذكر الإسراء في الكتاب الكريم ولم يذكر المعراج فما هو السبب؟
ــــ ربّما يفسّر بعض المفسّرين قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}(1)، بأنّها تتحدّث عن المعراج.
معنى الروح:
ما معنى قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}(2) وهل هذا كلام إسكاتي؟
ــــ ليس إسكاتياً بمعنى أنّ الله لا يريد أن يجيب عن المسألة، فهو قد أجاب بأنّ هناك أشياء لا يمكن أن تدخل تحت التجربة، فالله تعالى عندما يحدّثنا عن أشياء لا يمكن أن تدخل تحت التجربة فإنّه يقرّبها لنا بوسائل الإيضاح، فالجنة مثلاً قرّبها لنا بأنّ فيها حوراً وأنّ فيها ولداناً مخلّدين وفيها فاكهة ونخل ورمان إلى آخر ما هناك، حتى أنّ بعض الناس يقولون بأنّ فاكهة الجنّة ليست من نوع فاكهة الدنيا فالجنّة فيها ما لا عين رأت ولا أُذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فكلّ جانب ماديّ يمكن أن يكون بصورة أكثر ضخامة إذا ما قرّبه الله لنا بوسائل الإيضاح التي عندنا حتى تسهل المقارنة ونملك أساساً للتصوّر.
أمّا في عالم الروح فلا يمكن أن يقرب لنا الأمور لا لأنّه لا يقدر (تعالى عن ذلك) ولكن لأنّنا لا نملك قابلية تصوّر الشيء الذي لا يدخل تحت الحس وليس له نموذج أبداً. يقال في ذات مرة رأى "البهلول" وهو أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) رأى شخصاً يقول: "إنّ الله لا يُرى" فكيف لا يُرى وهو موجود؟ فالتقط البهلول حجارة وضربه على رأسه فصاح آه يا رأسي إنّي أتألّم فقال البهلول: أرني ألمك؟! فقال: كيف تريد أن تراه وهو لا يرى. فقال البهلول: ألَم تقل أنّ الموجود لا بدّ أن يرى، قال: نعم! فقال له: وكذاك ألمك موجود ولا نراه وإنما نرى مظاهره. فبعض القضايا هكذا لا تقدر أن تعيشها أنت ولا يعيشها غيرك فهي فوق التصوّر لأنّ هناك عالماً آخر {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(1)، فالروح تمثّل الموجود الذي يمكن أن تعرف آثاره من خلال الحياة نفسها، ولكنّك لا تستطيع أن تعرف طبيعته لأنّ طبيعته من الأشياء التي لا تملك نموذجاً ولا تعيش التجربة، والله العالم.
مسّ كتابة القرآن:
يقول تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}(2) فهل هذه "لا الناهية" وإذا لم تكن فإنّ بعض الناس يمسّونه؟
ــــ إذا كانت ناهية أو كانت نافية فلا فرق، فالنهي يدلُّ على الحرمة والجملة الخبرية في مقام الإنشاء أيضاً، فهي تدلّ على الوجوب إنْ كانت إيجاباً وعلى الحرمة إنْ كانت نهياً.
قيمة الزمن في القرآن:
هل يعطي القرآن قيمة للزمن؟
ــــ إنّ الزمن هو عمرنا، وإذا كان الزمن هو عمرنا فإنّ الله سبحانه وتعالى قد تحدّث في أكثر من آية ليلفت نظر الإنسان إلى دراسة عمره، وأنه سيموت وأنّه مسؤول وأنّ عليه أن يستفيد من عمره في ممارسة مسؤولياته.
النور الإلهي:
ما معنى النور في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(1)؟
ــــ معنى ذلك أنّ الله أعطانا النور ولكن بعض الناس يرفض الإفادة من بركة النور {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ}(2) والعقل أيضاً ينتج النور للإنسان وكذلك الفطرة، فالله سبحانه وتعالى أعطانا النور ولكنّنا رفضناه واستبدلناه بالظلمات الآتية من الشيطان، فالإنسان إذا أخذ بالقرآن شعّ النورُ في قلبه، وإذا رفض القرآن، أي رفض السبب والمسبّب فالله يتركه لنفسه، فإذا أخذ بالنور الإلهي في كل مواقع الهداية فالله يجعل له نوراً لأنّ الله تعالى ربط بين النور العقلي وبين الأسباب التي تنتج النور ولأنّ بعض الناس إذا ترك السبب تركه الله للظلمات {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ}(3).
يأس الرسل:
في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}(4) ألا يتناقض هذا اليأس مع مفهوم اليأس الذي هو خُلُق الضعفاء؟
ــــ ليس المقصود باليأس أنّهم لا ينتظرون نصر الله ولكنّهم جرّبوا عدّة تجارب فنوح (عليه السلام) عاش (950) سنة وهو يجرّب، لذلك في آخر الأمر يقول بما أصطلح عليه "تقرير نهاية الخدمة" {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً*فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً*وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً}(1) إلى أن يقول {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً*إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}(2) فهذا يأس ينطلق من استنفاد كل التجارب وذاك يأس ينطلق من عدم الثقة بالله فالذي ينطلق منه الرسل كما في قوله تعالى {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ}(3)، يعني أنّهم يطلبون من الله أن ينصرهم وأن يفرج عنهم فليس هو اليأس الروحي بل اليأس الواقعي تماماً كمن يقول جرّبت عشرين سنة تجربة ولم أجد فائدة.
الإعجاز في القرآن:
ما هي أهم ملامح الإعجاز في القرآن الكريم:
ــــ عند دراسة القرآن الكريم فإنّنا نجد أنّه يؤكّد على الإعجاز البياني، ولكن ليس معنى ذلك أنّ القرآن لا يختزن أسراراً علمية وفكرية يمكن أن تكون حركة في الإعجاز، ولكن هناك فرقاً بين ما أثاره القرآن في مرحلته بحيث كان معجزة آنذاك في حدود المعرفة القائمة من "قانون الزوجية" في الكون، في الوقت الذي لم تكن هناك أيّة وسائل يمكن أن تطلّ على اكتشاف هذا القانون في كل مظاهر الكون. وفي مرحلة لاحقة اكتشف الإنسان الزوجية، واكتشاف الزوجية ليس معجزة، أمّا إطلاق فكرة الزوجية في تلك المرحلة بدون وسائل التحقيق والبرهنة في المعجزة.
والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان معجزة لأنّه عاش (40) سنة لم يقرأ كتاباً ولم يتعلّم عند أحد وجاء بقرآن وبدين فريد فكان الله يوكل إليه أن يشرّع بعض التشريعات ولذلك ربط الله سبحانه وتعالى بين القرآن وبين النبيّ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(4) وإلاّ ما معنى {أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ}(5) فهناك أشياء أمر الله بها في كتابه، وهناك أشياء أخرى أراد للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يحرّكها في سنّته، ونحن نعتبر النبيّ هو المعجزة لأنّه لم يتعلّم، والدليل على ذلك مستنبط من القرآن مع الملاحظة التاريخية {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(1) لو كان الوضع التاريخي للنبيّ أنّه كان يكتب ويقرأ لارتفعت الأصوات مطالبة أنْ تتحدّاه ولقالوا إنّنا رأيناك تكتب وتقرأ والله سبحانه يقول على لسان النبيّ {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(2)، ويقول: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(3).
نور السموات والأرض:
نرجو شرح الآية {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، إلى قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ}(4).
ــــ يريد الله سبحانه وتعالى أن يعطي للناس صورة توضيحية كما في وسائل الإيضاح التي تقدّمها للأطفال من أجل تقريب الفكرة إليهم فالله سبحانه استعمل وسائل الإيضاح حتى ناخذ نموذجاً لتصوّر نور الله، فـــ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء}، إنّه يركّز فكرة النور في صورة الإشراق الذي يبلغ النموذج الأعلى فيما يمكن أن يبلغه وذلك بالمصباح الكامل في مصباحيته الكاملة في لمعانها بحيث يمنح الضوء الموجود في داخلها إشراقاً عظيماً ثم يدخل الهداية في نور الله، أي أنّ هناك نور الله الذي لا يستطيع الإنسان أن يعرفه فهو الذي يشرق في عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك ليهديك سواء السبيل.
في قوم موسى:
هل الآية الكريمة {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(1) هي خاصة بأمة موسى؟
ــــ لنا من القرآن ظاهره وظاهر القرآن يحدّثنا عن الذين عاشوا مع موسى (عليه السلام) أو الذين عاشوا في أجواء رسالة موسى، وعلى كل حال فحسب الظاهر القرآني أنّهم هم الذين عاشوا هناك وليسوا في عصر آخر أو في أمّة أخرى.
الفرق بين تفسيرين:
ما هو الفرق بين أسلوبكم في التفسير الذي سمّيتموه بالإيحاءات وبين التفسير الباطني وهل يعتمد على دليل؟
ـــ التفسير الذي يعتمد الإستيحاء يعني أنّنا نستوحي الفكرة التفسيرية بما يتناسب معها من الأجواء العامة ولهذا اعتمدنا فيه على حديث الإمام الباقر (عليه السلام) عندما يقول في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ}(2) قال تأويلها الأعظم: من نقلها من ضلال إلى هدى وهو أكثر من الإحياء المادي. وفي آية أخرى {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}(3) أي إلى علمه مع أنّ الآية {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً*ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً*فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً*وَعِنَباً وَقَضْباً}(4)، وكلّها تتحدّث عن الشيء المادي، لكنّه استوحى أنّ الله إذا كان ممتناً على عباده بالطعام الذي يغذي الجسم مادياً فالامتنان بالنسبة إلى العلم الذي يغذّي العقل هو أكبر وأكثر. فهو يمكن أن يستوحي من الجانب المادي الجانب المعنوي.
أمّا "التفسير الباطني" فهو يحمّل اللفظ ما لا يتحمّل من خلال معناه فيما قد يكون للفظ معنى واحد، ولكنّنا نستوحي من هذا المعنى الانتقال من فكرة إلى فكرة، ومن المعنى اللفظي إلى المعنى الكنائي فيما يوجد من تلازم بينهما.
فرض عليك القرآن:
ألاَ يفهم من قول تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}(1)، معنى الجبر؟
ــــ ما علاقة ذلك بالجبر؟ فحسب بعض التفاسير أنّ الله يعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه جرّاء ما تحمّل في سبيل إبلاغ القرآن سيردّه إلى وطنه الأول بالوسائل التي يختارها الله سبحانه وتعالى.
مناسك الأمم:
قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً}(2) هذه الآية تعني أنّ لكلّ أمة منسكاً نقصده في موسم معيّن فمنسك المسلمين "الكعبة الشريفة" ومنسك اليهود والنصارى "القدس" فهل يا ترى إذا قلنا بصحة المنسك الإسلامي نقول بأهمية المناسك الأخرى؟
ــــ ليس معنى الآية هو هذا والله العالم، ولكنّها تتحدّث عن الأمم في تطوّرها فالله سبحانه وتعالى جعل المنسك في خطّ العبادة هو الشعائر.
فلقد جعل لليهود في زمنهم شعائر وانتهت بمجيء عيسى (عليه السلام) والذي جعل للنصارى شعائر خاصة بهم، ثم جعل الله تعالى للمسلمين الشعائر التي تجمع ذلك كلّه. فليست هناك مناسك جامدة بل إنّ المسألة تتحرّك في خطى الزمن. فلكلّ أمة في التاريخ منسك {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} فلا تعطي الآية النتيجة التي ذكرها السؤال.
من وراء حجاب:
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}(3)، هل يجب وضع غطاء على وجه المرأة؟
ــــ لا علاقة لذاك بهذا، فلقد كان هذا بالنسبة إلى نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ تعيّن على مَن يريد حاجة منهنّ أن يطلبها من وراء حجاب.
الغني الحميد:
يقول القرآن {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}(1) فإذا كان الله غنياً حميداً، وهو غني عن عباده فلماذا عندما يموت الإنسان يرجع إلى الله ولماذا يقول القرآن {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)؟
ــــ هل معنى سؤالك أنّ الناس عندما يرجعون في القيامة فإنّ الله محتاج لعقد سهرة معهم حتى يستأنس بهم؟! إنّ الله غني في نفسه وغني عن خلقه، وإنّما يرجع الخلق في المعاد إليه لينعّمهم ويسعدهم وليجزيهم بأعمالهم إنْ خيراً فخير وإنْ شرّاً فشرّ، وهو ليس بحاجة إليهم لأنّه هو الذي خلقهم بكلمته الإرادية ويستطيع أن يزيلهم كما أزالهم عن الأرض بكلمته الإرادية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(3)، {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(4).
أما قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(5) فليست العبادة هنا منطلقة من خلال الحاجة، بل باعتبار أنّ دورهم في الخلق أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى وإلاّ فإنّه لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه.
خلق الإنسان من طين:
هل هناك دليل عدا نصوص القرآن على خلق الإنسان من طين؟
ــــ إذا كان الدليل المطلوب من جهة آدم فليس عندنا غير القرآن. أمّا الإنسان فإنّنا نعرف إنّه خلق من طين وكلّنا خلقنا من طين وليس آدم فقط، فلو سألنا من أين يخلق الإنسان؟ لعرفنا أنّه يخلق من نطفة. فما هي النطفة؟ إنّها دم، من أين يتكوّن الدم؟ من الغذاء، ما هو الغذاء؟ قد يكون حنطة أو رزاً أو لحماً فالحيوانات التي نأكلها تكوّنت كذلك من نطفة وهكذا في آخر الأمر نصل إلى الخبز وإلى النبات وكل ذلك أصله التراب، فنحن خلقنا من تراب، وكذلك نعود إلى التراب، والإنسان كما شاء الله ــــ يسير في التحليل الدقيق في عملية تراجعية إلى أن يصل إلى النقطة الأولى في خلقه فيجد أنّ خلقه من التراب لأنّ أصل البذرة تراب، ولذلك فإنّ الإنسان خلق من طين، فإذا كان هذا يصلح دليلاً عملياً فيمكن أن نعتبره كذلك.
معنى "اللّمم":
في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}(1) ما هو تفسير كلمة "اللّمم"؟
ــــ الظاهر، والله العالم أنّ المراد من اللّمم هي الذنوب الصغيرة التي يلمّ بها الإنسان في طبيعة حياته اليومية من نظرة هنا أو من كلمة طائشة هناك وما إلى ذلك، وهي الصغائر.
أسرار الأرقام القرآنية:
ورد في القرآن الكريم تكرار الرقم (40) والرقم (12) فهل توجد هناك أسرار لهذا التكرار؟
ــــ لقد تحدّث الله عن الأربعين في قوله {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}(2).
وتحدّث عن الرقم (12) في قوله: {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً}(3). لأنّهم كانوا اثني عشر شخصاً من أولاد يعقوب وكل واحد اختصّ بعين وليس من الضروري أنْ يكون للأرقام خصائص تتمثّل في داخلها.
عربية القرآن:
ما رأيكم في القول بأنّ في القرآن الكريم كلمات غير عربية نحو "الفردوس" و"السندس" وغيرها، ثم ألاَ يتناقض ذلك مع قوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}(1)؟
ــــ كل ما في القرآن عربي حتى الكلمات غير العربية لأنّ كل لغة تقتبس من اللغات الأخرى فليس لدينا لغة صافية خالصة، لماذا؟ لأنّ اللغات تنطلق في البداية صافية نقية، لكن تؤثّر عليها عمليات التفاعل الحضاري وعملية لقاء المجتمعات وغلبة مجتمع على مجتمع بحيث تفرض لغة الغالب على لغة المغلوب، أمّا الكلمات غير العربية فعندما تحتضنها اللغة العربية فإنّها تعرّبها، أي تعطيها اللهجة وتعطيها طريقة الكلام، ولهذا فليس عندنا ذاتيات في اللغة وما يقال إنّه معرّب فإنّ العربية أعطته خصائصها فأصبح جزءاً منها. هذا هو الجواب الذي نرتأيه، أمّا الجواب الذي كان يقول به علماء المعاني والبيان فهو أنّ القرآن عربي، أي أنّه عربي في الغالب من كلماته وفي أسلوبه وفي نهجه. ويمكن أن نقول بأنّه عربيّ ولو بلحاظ الغلبة.
حز//ب الله خلاصة المؤمنين:
أشار القرآن إلى مستويات ثلاثة: المسلمين، المؤمنين و"حز//ب الله" وقد ميّز كل فئة بمميّزات ويبدو أنّ حز//ب الله هم خلاصة الأمة في الولاية والنصرة والجهاد والوعي، فهل هذا التقسيم صحيح؟
ــــ هناك مسلمون بالمعنى الرسمي للإسلام، وهم الذين يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله رغبة أو رهبة أو إيماناً، {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(2)، فكلمة (المسلم) أعمّ من كلمة (المؤمن) والمؤمن هو الذي اعتقد بالإسلام عن اقتناع ولكنّه يبقى ينحرف هنا وهناك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(3)، فالمؤمن قد يعصي الله، وقد ينسى الله، وقد يسقط تحت تأثير نقاط الضعف، أمّا (حز//ب الله) فهم الذين حدّثنا الله عنهم بأنّهم يعيشون الإسلام والإيمان في عمق عقولهم، وانفتاح قلوبهم وفي حركتهم في طاعة الله، هؤلاء هم الذين ينفتحون على الله بالفكر والعاطفة والعمل، وبذلك فهم خلاصة المؤمنين الذين جعلهم الله حزبه بأنْ نسبهم إلى نفسه تعظيماً منه لمقامهم عنده.
مخاطبة الجاهلين:
كيف تفهمون قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}(1)، هل الإهمال، أم هو القول الحسن؟
ــــ أي ــــ أيها الجاهل ــــ لا يأتيك منّا غير السلام، ويقال إنّ (الخليل بن أحمد الفراهيدي) مخترع علم العروض كان يقطّع الأوزان فيضع رأسه في فتحة البئر ويقول (مستفعلن فاعلن فعولن) فجاء ابنه وتعجّب من فعل أبيه، فذهب إلى أمّه وقال: أمّاه إنّ أبي قد جُنّ! فلمّا نقلت إليه رأي ابنه أنشأ بيتين، وأنا أقولهما للكثير من الناس:
لو كنتَ تعلمُ ما أقولُ عذرتني أو كنتَ تعلمُ ما تقولُ عذلتك
لكن جهلتَ مقالتي فعذلتني وعلمتُ أنّك جاهل فعذرتك
فهذا نظير {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(2)، فلقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) سائراً في الطريق فشتمه شخص فلم يلتفت الإمام فقال الشاتم (إيّاك أعني) فردّ الإمام (وعنكَ أُعرِض)!
فعليك أن لا تشجّع الجاهل في أن يخلق معك معركة، قل كلمة طيّبة وأهمله.
إيمان المؤمنين:
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ}(1)، فما معنى ذلك؟
ــــ الذين آمنوا أي أسلموا وانطلقوا بالإيمان. {آمِنُواْ} أي حرّكوا إيمانكم في عمق وعيكم وفي حركتكم في الواقع كلّه فـــ {الَّذِينَ آمَنُواْ} تعني المسلمين الذين اعتقدوا بالإسلام، ولكنّ الذين آمنوا قد (يقولون ما لا يفعلون)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(2).
وإذاً "آمنوا" أي حركوا الإيمان في واقعكم وفي حياتكم لأنّه هو الهدف الذي يغمر شخصية الإنسان ليجعلها نموذجاً لما يحبّه الله وهو وسيلة من أجل دفع الإنسان للالتزام بما يحبّه الله، وخلاصة الفكرة أنّ الله يريد للمسلمين الذين دخلوا في الإسلام واعتقدوه أن يتحرّكوا في الخطّ العملي للإيمان والالتزام بالله عبادة وطاعة وإخلاصاً، والالتزام بالرسول منهجاً وسيرة ودعوة وجهاداً حتى لا يبقى الإيمان مجرّد فكرة خفيّة في عقولهم وفي قلوبهم.
السنة والعام:
ورد في القرآن عن نوح (عليه السلام) {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً}(3)، ما الفرق بين السنة والعام؟
ــــ لا فرق.
شروط التغيير:
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(1). هل هو تغيير العقول أم النفوس؟
ــــ ما في النفس هو العقلُ والإحساس والشعور، ولذلك فإنّ الله لا يغيّرُ ما بقوم حتى يغيّروا فهمهم للأشياء، وحتى يغيّروا أخلاقهم السلبية إلى أخلاقٍ إيجابية، وأن يغيّروا نفسياتهم المعقّدة إلى نفسيات بسيطة طيّبة، أما السبيل الحقيقي إلى التغيير فهو جهاد النفس.
نصيب الدنيا:
قال تعالى: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(2). ما مقدار النصيب من الدنيا، بحيث للإنسان أن يحافظ على هذا المعدّل؟
ــــ إنّ الآية هنا تريد أن تؤكّد أنّ لكَ جسداً، وأنّ جسدك يتطلّب ما يحقّق له استمراره في الحياة، وأنّ لك مسؤوليات دنيوية فيما يحتاجه وضعك الذاتي، كما إنّ عليك أن تعيش في الدنيا وتأخذ منها، ولكن عندما تريد أن تأخذ نصيبك من الدنيا خذه على أساس أن تربطه بالآخرة، باعتبار أنّك تعيش الحياة بالحلال لتطيع الله في مفردات حياتك، وأن تقصد بالكثير من نشاطاتك الدنيوية تحقيق الأهداف التي يريد الله لك أن تحقّقها، فاجعل دنياك آخرة من خلال أن تكون الآخرة هدف الدنيا، وابتغ فيما آتاك الله من قوّة وعلم ومال وولد وكل ما تعيشه من النِعَم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ} وظّف ما في دنياك لخدمة مسؤولياتك التي أراد الله لك أن تحقّقها في الدنيا لتحصل على رضوان الله في الآخرة. لتكن حياتك من أجل رضوانه ومن أجل ما تحصل عليه من نعم الله سبحانه وتعالى هناك.
شرّ الحاسد:
يقول تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}(1) البعض يفسّر هذه الآية على أنّ بعض الناس من طبعهم الحسد، أي عندما يشاهد شخص شخصاً آخر غنياً أو مفضلاً عليه بنعمة ما فيحسده فتنزل على المحسود مصيبة، فهل هذا التفسير صحيح؟
ــــ قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} يعني من شرّ بغيه ومن شرّ عدوانه، فإنّ الحسد يولّد الحقد، والحقد يدفع إلى البغي، والدليل على هذا ما ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "ثلاث لم يعرُ منهن أحد الطيرة والظنّ والحسد، فإذا تطيّرت فامضِ، وإذا ظنّنت فلا تحقّق وإذا حسدت فلا تبغِ" والله العالم.
ضرب المثل بالبعوضة:
لماذا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}(2)؟
ــــ ورد في أسباب النزول أنّه عندما نزلت هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}(3) أنّ المشركين، على تقدير صحّة الرواية، قالوا كيف ذلك، هل أنّ شأن الله العظيم أن يضرب مثلاً بالبعوضة الصغيرة أو الذبابة الحقيرة؟ فأجابهم الله سبحانه وتعالى بأنّ قضية المثل ليست مربوطة بعظمة الذي يضرب الأمثال، فغاية المثل أن يقرّب الفكرة وليس من الضروري أن يكون المثل في حجم الذي يطلقه بل لا بدّ أن يكون معبّراً عن الفكرة.
بين نفاق المنافق وإيمانه:
يقول تعالى عن المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}(1) فكيف يمكن الجمع بين نفاق المنافق وبين إيمانه؟
ــــ المقصود من الإيمان هنا أنّهم دخلوا في الإسلام ثم بعد ذلك تردّدوا وانحرفوا عن الإسلام فصاروا منافقين.
الغلّ في الصدور:
في الحديث عن الآخرة وعن الجنّة تأتي آية قرآنية لتحدّثنا عن المؤمنين {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}(2) فكيف نتصوّر وجود الغلّ في علاقة المؤمن بالمؤمنين؟
ــــ ليس معنى ذلك أنّهم كانوا يحملون الغلّ والله نزعه، بل إنّ هذا شبيه بقولنا "ضيّق فم البئر" يعني اجعله ضيّقاً، وكذلك نزعنا ما في صدورهم من غلّ يعني جعلناها خالية من الغلّ بحيث لم نجعل فيها شيئاً منه.
ثواب المؤمنات:
لقد ذكر في ثواب المؤمنين في القرآن بأنّ لهم جنّات النعيم وحور عين، فما هو ثواب المؤمنات الصالحات؟
ــــ إنّ عطاء الله سبحانه للجميع، للمؤمنين وللمؤمنات على حدٍّ سواء: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ*نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}(3) هذا خطاب مشترك للرجال والنساء معاً، ولذلك فلا تبتئسوا ففي الجنّة لا يمكن للإنسان أن يعيش أيّة حالة من حالات الألم أو أي حالة من حالات الفراغ أو الحرمان أو الفوارق الجنسية من ذكر أو أنثى، أي أنّ الجنة سرور كلّها والفرح الحقيقي هناك كما أنّ السعادة الكاملة هناك أيضاً.
الذكر ليس كالأنثى:
قال الله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}(1)، هل هو تفضيلُ للذكر على الأنثى؟
ــــ يعني أنّ الذكر الذي نذرت امرأة عمران أن يكون محرّراً ليخدم في بيت المقدس لم ترزق به وإنّما رزقت بأنثى، وفي ذلك الوقت كان محرَّماً على الإناث أن يخدمن في الهيكل في بيت المقدس، فهي أرادت ذكراً ليخدم وليس الذكر الذي أرادته امرأة عمران كالأنثى في مسألة الخدمة. لأنّ الذكر يمكن أن يقوم بالمهمة بينما الأنثى لا تقدر على القيام بها. وليس المراد تفضيل الذكر على الأنثى في طبيعة المسألة.
محرّفوا الكتاب:
إنّنا لا نقول بالتحريف بأي وجه كان ولكن توجد هناك أقوال تفيد وقوع التحريف، فقد قال الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء "إنّما أنتم من طواغيت الأمّة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومحرّفي الكتاب" فكيف نفسّر قوله محرّفي الكتاب؟
ــــ ليس المراد بالتحريف هنا التحريف اللفظي والله العالم، بل المراد تحريفه عن مواضعه بحيث يحرّكون الكلمة في غير الاتجاه الذي يراد لها أن تتحرّك فيه بل حسب أهوائهم، وهذا نوع من التحريف العملي لا اللفظي، أي تحريف حركة المعنى بغير الاتجاه الذي أراد الله له.
علم ما في الأرحام:
اختصّ الله بعلم ما في الأرحام، والطبّ الحديث اليوم يدّعي أنّه يعرف جنس الجنين في الرحم فكيف التفريق؟
ــــ يختص الله تعالى بعلم الأرحام بدون أيّة وسيلة، وهؤلاء تعلّموا ممّا جعله الله في أيديهم من وسائل العلم فعلموا ذلك. فثمّة فرق، فالله يعلم ما في الأرحام أي يعلمه من حيث أنه هو الذي خلقه من دون أيّة وسيلة. أمّا الذين يعلمون ذلك فإنّهم يعلمونه من خلال الوسائل التي ألهمهم الله إيّاها، فلا تنافي بين الآية وبين ما هو عليه العلم، إضافة إلى أنّ هؤلاء يعرفون جنس ما في الأرحام لا كلّ التفاصيل المتعلّقة بمستقبله وحاضره.
التوجّه للقبلة ولله:
إنّ الله تبارك وتعالى يأمرنا في الآية أن نحوّل وجوهنا نحو المسجد الحرام وفي آية ثانية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ}(1) فما المقصود بهما؟
ــــ المقصود بالأولى القبلة، وهذه يقصد بها معنى آخر أي أنّكم أينما تذهبون وأينما تتحرّكون وتتّجهون بنياتكم وأفكاركم وأعمالكم وقضاياكم فالله موجود، وهو يراكم ويشهد ما تعلمون.. إنّه في كل مكان وليس موجوداً في مكان.
الخروج من النور:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}(2) ما هو النور المذكور في الآية؟
ــــ يقول تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(1) فالله هو النور والقرآن نوره {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ}(2) والإسلام هو النور كلّه، إنّه نورُ المعرفة والانفتاح على المسؤولية أمام الله، والتقوى في خطّ الله الذي يخرج الإنسان به من ظلمات الجهل والانغلاق على الذات وعلى العصبية والمعصية لله.
الدخول في السلم:
ما معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}(3)؟
ــــ بعض المفسّرين يفسّرها بأن يكون في أمن مع الله وفي أمن مع الناس وهو الإسلام، وبعضهم يفسّرها على أنّ المراد هو السلم في مقابل الحرب، أي عندما يدعى المسلمون إلى السلم ضمن الشروط التي تتّفق مع المصلحة الإسلامية العليا، فليستجيبوا له.
المغفرة للمشرك:
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(4) {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}(5) فهل أنّ الله لا يقبل التوبة ممّن أشرك به؟
ــــ المقصود بعدم القبول أثناء الوقوف بين يدي الله في يوم القيامة أي من يأتيه ولا يزال مشركاً.
أما التوبة في الحياة الدنيا فإنّ الله يتوب على كل من يتوب سواءً عن الشرك أو عن غيره وإلاّ فكيف قبل تعالى المسلمين الذين دخلوا في الإسلام وكان أكثرهم مشركين؟!
الطيّبون للطيّبات:
هل يمكن أن نفهم من قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}(1)، {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}(2)، أنّ أحد طرفي الزواج إذا كان سيّئاً فيجب أن يكون الطرف الآخر سيّئاً؟
ــــ ليست الآية في مقام التشريع، وإنّما هي في بيان واقع الحال على طريقة (كل شكل لشكله ألِفُ) أي مقام بيان السلوك العام للناس على أساس أنّ الإنسان يألف مثله وإلاّ فلو تزوّج طيب إمرأةً سيّئة ليصلحها أو بالعكس فلا إشكال.
القرآن المهجور:
قال الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}(3)، فمن هو الرسول؟
ــــ هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باعتبار ذكر القرآن.
والكلام هنا بالنسبة لقريش وكل من وقف ضدّه حيث هجروا القرآن ولم ينفتحوا عليه ولم يؤمنوا به.
مجيء الله!
ما المقصود بقول الله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}(4)؟
ــــ جاء الله تعالى لا بشخصه ولكن بعظمته وإطلالته على المحشر برحمته ولطفه وقوّته، بحيث يشعر الجميع بحضوره كما لو كانوا يرونه رأي العين، من حيث الإحساس العميق به في رؤية قلبية عقلية روحية.
حياة الشهداء:
قال الله في محكم كتابه {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء}(1) ما هي الحياة التي يتكلّم عنها القرآن الكريم، فهناك روايات كثيرة على أنّ الروح تزور أهلها، فهل المقصود من الآية هو هذه الحياة؟
ــــ هي حياة يعلمها الله، حياة فيها نعيم، وبعضهم يقول إنّها حياة البرزخ، ويقول آخرون إنها حياة خاصة {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ}(2) فالمعنى أنّهم يعيشون الفرح والإحساس بالغبطة ممّا يمنحهم الله من فضله وينفتحون على الآخرين العاملين المجاهدين عندما يستقبلونهم في ساحات الرضوان والنعيم، أمّا ما هي تفاصيلها وفي أي مكان وكيف هي، فهو أمر استأثر الله بعلمه.
الماشي مكبّاً:
يقول تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(3) هل يعني ذلك غضّ البصر؟
ــــ الآية تقارن بين الإنسان المستقيم في دينه وفي مسيرته الذي يعرف الطريق وينطلق مفتوح العينين: عين قلبه وعين عقله على الخطّ المستقيم وبين الذي لا يفكّر في الآفاق التي يجب أن ينطلق إليها فهو كمن يمشي وهو مكبٌّ على وجهه لا يرى شيئاً ولا يعي شيئاً. فليس للآية علاقة بمسألة غضّ البصر.
الفصل الثاني
نظرات عقيدية
"القرآن هو مصدرُ عقيدة المسلمين وهو المصدرُ المعصوم الذي تكفَّل الله بحفظه.. وفهمُه يحتاج إلى أهلِ الذكر الذين يفقّهون الناسَ في دينهم".
أولاً: في المنهج
القرآن مصدر العقيدة الإسلامية:
هل يمكن أن نعتبر القرآن مصدر عقيدة المسلمين كما هو مصدر تشريعهم؟ وكيف يتمّ ذلك؟ وهل يمكن أن يوكل الأمر في ذلك لعوام الناس؟
ــــ القرآن هو مصدر عقيدة المسلمين، وهو المصدر المعصوم لأنّه الكتاب الذي تكفّل الله بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1)، فلا تحريف ولا زيادة ولا نقصان، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حتى إنّ الله هدّد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "وهو فوق ذلك وإنّما أراد أن يعطي الناس درساً من خلال النبيّ"، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ}(2) زاد حرفاً أو كلمة أو أنقص كلمة {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}(3)، ليس هناك أحد يدافع عنه إن هو تقوَّل على الله تعالى، إنّه أحبّ الخلق إلى الله، ومع ذلك فإنّ الله يقول إنّ هذه القضايا لا مزاح فيها.
فكلام الله لا يمكن أن يزيد فيه أحد شيئاً، ولذلك فإنّ الله لم يتكفّل بحفظ كتاب كالقرآن، ولكن فهم القرآن يحتاج إلى أهل الذكر، فهناك ظواهر يمكن أن يفهمها الناس، ولكن في غير ذلك {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(4) وهم الذين أشارت إليهم الآية الكريمة {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} (إلى الجهاد) {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(5) حتى ينطلق الفقهاء المذكورون في الآية ليفقّهوا الناس في دينهم، والفقهاء ليسوا طبقة يطلُّون على الناس من فوق ولكنّهم طليعة المسلمين الذين يملكون ثقافة الإسلام ويملكون تقوى الإسلام في خطّ العدالة.
صورة عن العقيدة:
كيف يمكننا أن نكوِّن أو نطرح صورة ثابتة عن العقيدة الإسلامية الإمامية مع اختلاف اجتهادات العلماء في فهم النصوص والقواعد العقائدية والتي يحفل بها التراث الإسلامي لبيان العقائد الأساسية؟
ــــ إنّ مشكلتنا هي عندما تكون لدينا نصوص معينة وتختلف ثقافة الباحث وثقافة المجتهد من حيث الذوق اللغوي أو الأدبي. فمن الطبيعي أن يكون الفهم متعدّداً ومختلفاً.
فمن الطبيعي ـــ والحال هذه ـــ أن تختلف الاجتهادات، وعلى الإنسان أن يعتمد على مَن يثق بثقافته وبوعيه وبأصالة فهمه للنصوص حتى يرتبط به وإلاّ فإنّ الخلاف ليس فقط في داخل الواقع الشيعي، بل في داخل الواقع الإسلامي بشكل عام وفي داخل الواقع العالمي أيضاً.
التقليد في الأصول:
لماذا لا يجوز أن يقلّد الإنسان في الأصول، فالناس غير قادرين على التفريق بينها وبين الفروع؟
ــــ الأصول هي أصول العقيدة، وهي أن تعتقد بوجود الله وبتوحيده وبنبوّة النبيّ واليوم الآخر، وهذه أمور تمثّل أساس الدين ولا يمكن لك أن تقلّد في الأساس غيرك، وإلاّ فإنّ من الممكن جداً بالنسبة للناس أن يجمّدوا أفكارهم وذلك بتقليد الآخرين، فيضلّهم الآخرون الذين ارتكزوا على أساس الكفر والضلال من دون أن تكون هناك أيّة فرصة لمعرفة ذلك، طالما أنّ أفكار الآخرين لا تنطلق من فكر مستقلّ ويحكم عليها بأصالة وعمق، فلا بدّ لك عندما تريد أن تؤسّس فكرك وعقيدتك وإيمانك من أن تفكّر وأن تستعين بفكر الآخرين ليساعدوا فكرك ليصل إلى الحقيقة، ذلك أنّ هناك فرقاً بين أن تقول للناس فكّروا لي وبين أن تقول فكّروا معي، إنّ الإنسان الذي لا يستطيع أن يصل إلى الحقيقة العقيدية بنفسه من الممكن أن يستعين بغيره لا ليقلّده ولكن ليفهمه وليحاوره وليوجّهه إلى الخطّ المستقيم في الوصول إلى النتائج الحاسمة، إنّ الله يريد للإنسان أن يبني فكره في قناعاته العقيدية على قاعدة عقله المستقلّ أو المنفتح على عقل الآخر لينطلق في حياته على أساس ممارسته لوجوده في أصالته الذاتية.. أمّا الفروع فإنها تمثّل التفاصيل الفرعية التي تنطلق من الاعتماد على أهل الخبرة الذين يلتقي فكره بفكرهم ويتميّزون عنه أنّهم يملكون الاختصاص في معرفة التفاصيل، ممّا لا يترتّب عليه أيّة سلبية فكرية بل إيجابية المعرفة من موقع الثقة بالآخر.
هدف بحث "الأصالة والتجديد":
ما هو الهدف الذي توخّيتموه من بحث "الأصالة... والتجديد"؟
ــــ الواقع أنّنا أردنا أن نضع خطاً للباحثين في هذا المجال حيث أنّ علينا أن نتّفق أو نلتقي على ما اتّفقنا عليه، وأن يحاور بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
وأن لا نتجمّد في الأمور النظرية التي وقف عندها القدماء، فللقدماء فكر ولنا فكر، والقدماء غير معصومين، ولهم وجهة نظر ولنا وجهة نظر، والمهم "كم ترك الأول للآخر" لأنّ القدماء سواءً كانوا فقهاء أو متكلّمين يختلفون مع بعضهم فلماذا لا يكون لنا حرية أن نختلف معهم.
نحن لا نعتبر أنّ مجرّد وجود الإنسان في الماضي يجعله مقدّساً، بل نقول إنّ المقدّس عندنا هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) والقرآن والسنّة النبوية الشريفة. المقدّس هو الشيء الذي يمثّل أصالة الحقيقة في نفسه وأصالة الحقيقة في وعي الناس بحيث يلتقي عليه الناس، وكل ماعدا ذلك، أي كلّ ما لا يمثّل أصالة الحقيقة فهو غير مقدّس عند الجميع. نعم قد يكون المقدّس نسبياً، فما هو مقدّس عندي قد لا يكون مقدّساً عندك، وما هو مقدّس عندك قد لا يكون مقدّساً عندي. هذا واقع الحياة، نعم، أنتَ تستطيع أن تحاورني وتقول لي أنّ المقدّس عندي يجب أن يكون مقدّساً عندك، والدليل كذا وكذا. وأنا أقول لك أنّ الدليل كذا وكذا، ونصل في نتيجة الحوار إلى الحقيقة التي هي غاية كل حوار، والله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(1).
الدليل العقلي والغيب:
يقول البعض أنّ استخدام الدليل العقلي يتنافى مع غيبيّة الدين والتعبديّة فيه، فما هو رأيكم؟
ــــ هذا البعض يعترض على الله إذا كان يقصد هذا المعنى، لأنّ الله سبحانه وتعالى استدلّ على توحيده بدليل العقل{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(2)، وهذا يعتبر من الأدلة العقلية القرآنية التي توسّع فيها المفسّرون والمتكلّمون. {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(3) وهذا دليل عقلي آخر {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}(4)، فالقادر على الإبداع وعلى الخلق في البداية قادر على الإعادة في النهاية كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) "قال عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى، وعجبت لعامر دار الفناء وتارك دار البقاء"(5).
ذلك أنّ الإعادة عند غير الله أسهل من الخلق لأنّ الخلق إبداع ولا مثال بينما الإعادة تأتي وفق المثال والصورة.
واستدلّ أيضاً بالدليل العقلي على إمكانية المعاد. كما يرى كل المتكلّمين بأنه لا بدّ للنبوّة من استدلال عقلي بأن ندرس النبيّ أو المعجزة التي هي إحدى الوسائل التي تقدم إلى الإنسان ليقارن بين قدرته الطبيعية وما حصل عليه النبيّ من قدرات غير عادية ليعرف أنّه مرتبط بجهة غير عادية وهي الله، إذن نحن نستدلّ على الغيب بالعقل ولكنّنا ندرك الغيب بالنقل، فندرك وجود الله بالعقل، كما ندرك توحيده بالعقل، ولكن ما هي ذات الله؟ لا ندري! ما هي صفات الله الحقيقية؟ لا بدّ أن نأخذها من القرآن بالنقل، ونأخذها من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). إذن العقل هو الذي يكشف لنا نوافذ الغيب وتبقى تفاصيل الغيب بحاجة إلى النقل، وكذلك الأحكام الشرعية، فلا يجوز لنا أن نحكم بأي شيء {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ}(1)، أمّا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكيف نفهمه فهذا الأمر يدخل بتوثيق النصّ النبوي.
ففي الدين أشياء تعتمد على العقل ويقول العلماء بأجمعهم أنّ بعض العقائد لا بدّ أن تؤخذ بالعقل، إذ لا تقليد في العقائد ولكن التقليد إنّما يكون في الأحكام الشرعية وفي بعض تفاصيل العقائد، لذلك يجب أن نفرّق بين حالة وأخرى.
نعم إذا أردنا أن نعتمد على العقل في مسألة الأحكام الشرعية فقد يكشف العقل عن الحكم الشرعي ولكن ليس دائماً، فالحكم الشرعي يجب أن يؤخذ من الكتاب والسنّة وقد نحتاج إلى إعمال العقل لتحليل بعض المسائل في القضايا التاريخية، وهل تتّفق مع طبيعة الأشياء أو لا، فإذا رأينا أنّها تتّفق أو لا تتّفق بمقارنتها نقول هذه ثابتة أو ليست ثابتة.
من هنا قال العلماء أنّ علينا أن نناقش في السند وفي المتن. والمناقشة في السند هي الفرز بين الموثوق وغير الموثوق، والمناقشة في المتن هي الفصل، فمثلاً عندما نقرأ في القرآن {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}(2) فيجب أن نرجع إلى العقل لنقول: هل يمكن أن يجبرني الله على المعصية ثم يدخلني النار بسببها؟ هنا يقول العقل أنّ ذلك غير ممكن وكذا لا يمكن أن يكلّفني بالطاعة وأنا غير قادر عليها فهو تكليف بما لا يطاق. وللعقل ـــ بعد ذلك ـــ مجال في عملية المقارنة والتحليل التاريخي والتحليل بين آية وأخرى وبين حديث وآخر وما إلى ذلك، ولهذا فإنّ الذي تحدّث بهذا الحديث لا يعتقد بدور العقل الكبير في المسائل الإسلامية وخصوصاً العقيدية، ونحن نعرف أنّ فقهاءنا قالوا أنّ الأدلة الموجودة عندنا أربعة (الكتاب والسنّة والعقل والإجماع) ولذا فإنّ من الأحكام الشرعية ما يثبت بالعقل، فالملازمة بين الواجب وبين مقدّمته، وبين الأمر بالشيء وحرمة ضدّه، وبين النهي عن الشيء وبين الفساد هي من الملازمات العقلية التي تنطلق بالعقل.
المنهج العلمي عند الصدر:
استخدم السيد الشهيد الصدر المنهج العلمي "حساب الاحتمال" لإثبات المعتقدات إجمالاً وتفصيلاً وكذلك في الفقه، فهل توافقون السيّد الشهيد على ذلك؟
ــــ أنا أوافق السيد الشهيد على المنهج العلمي وأرى أنّ نظريته في كتابه (الأُسس المنطقية للاستقراء) تعتبر فتحاً في المنهج الفلسفي، ولكن قد نختلف في الصغريات، يعني عند تطبيق هذا الموضوع على مسألة الإجماع وما إلى ذلك، ولكنّ المنهج من حيث الأساس صحيح.
ثانياً: في التوحيد والعدل
أين الله؟!:
هل أنّ لله مكاناً معيّناً؟
ــــ إنّ الله ليس جسداً وليس مادة حتى يحويه المكان فهو الذي خلق الزمان والمكان ولا يحويه مكان ولا زمان وإذا كنّا لا نتصوّر ذلك فلأننا لا نملك السبيل إلى معرفة ما هو خارج الزمان والمكان لأنّنا مشدودون للزمان والمكان. إنه هو المطلق الذي لا يحدّه زمان ولا مكان ونحن لا نملك أيّة وسيلة لنتصوّر ذلك تصوّراً مباشراً. يقول الإمام عليّ (عليه السلام) في "نهج البلاغة" (ومن أشار إليه فقد حدّه.. ومَن حدَّه فقد عدّه ومن قال فيم؟ فقد ضمّنه ومَن قال على مَ فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا بمزايلة)(1).
الحكمة من الخلق:
في الحديث: "إنّما خلق الله الخلق ليعرف" والحديث القدسيّ "كنت كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أعرف" فالله لم يخلقنا عبثاً، فما هي الحكمة من الخلق، وهل كان الله سبحانه وتعالى في مرحلة لم يكن معه خلق؟
ــــ إنّ اللّام في الحديث القدسي "ليعرف" ليس المراد بها أنّ الله يعيش حاجة المعرفة ليعرفه الناس كما يعي بعضنا هذه الحاجة فيحاول أن يظهرها بطريقة وبأخرى. لأنّ الله غنيٌّ عن ذلك وعن غير ذلك. إنّ الإنسان الذي يحب أن يُعرفْ يعيش نقطة ضعف، ويعيش وحشة في نفسه، ويعيش إحساساً بالسقوط وبالإحباط إذا لم يعرفه الناس تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. لكنّ الله يريد أن يقول أنّ من مهمّات الخلق هو أن يعرفوا الله. أي أيّها المخلوق، لقد خلقتك وأعطيتك عقلاً فدورك في خلقك هو أن تعرف الله، كما إنّ دورك أن تعبد الله، فاللاّم للعاقبة وللنتيجة وليست للغاية. فالمقصود إذن أنّ الخلق إذا عرفوا الله عرفوا أنفسهم وإذا عرفوه استقامت أمورهم، وإذا عرفوه انفتحوا عليه وعرفوا كيف يتحرّكون معه. ولهذا قال سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1)، إذ ليس معنى ذلك أنّ الله في حاجة إلى عبادتنا، فالله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة مَن أطاعه ولا تضرّه معصية مَن عصاه، ولكن العبادة هي ممّا يستفيد منها الإنسان فهي ليست غاية للخلق، ولكنّها نتيجة للخلق في عبادة الله، أمّا الحكمة في الخلق في سرّها العميق فهي عن الأمور التي لا وسيلة لنا لمعرفتها لأنّ الله وحده هو الذي يعرف سرّ فعله، أمّا أنّ الله كان ولم يكن معه خلق فهو الحقيقة التي تنطلق من حدوث الموجودات التي كانت عدماً فأوجدها الله، فالله هو القيوم بذاته فقط كان ولم يكن أحد.
الاستدلال على الخالق:
استدلّ المتكلّمون عندما أثبتوا وجود الصانع لهذا الكون بدليل "الأثر يدلّ على المؤثّر" ولكن هناك في "دعاء الصباح" للإمام عليّ (عليه السلام) (يا مَن دلّ على ذاته بذاته) فأي الرأيين أصحّ؟
ــــ إنّ هذه الكلمة لا تنافي تلك، فهناك حالة يمكن للإنسان أن يعيش فيها الإحساس بوجود الله من دون أيّة حاجة لشيء لأنّه ينطلق من خلال طبيعة الفطرة التي جبل الإنسان عليها، ولهذا فإنّ ما تحدّث به الإمام الصادق (عليه السلام) مع شخص أراد له أن يستدلّ على وجود الله يعطينا مثلاً حيّاً على ذلك، إذ قال له: هل حدث أن تنكسر بك السفينة وتنجو على خشبة وليس هناك أرض تأوي إليها وليس هناك أي شيء يمكن أن يحميك، هل تعلّق قلبك بشيء في تلك الحالة، قال بلى، قال الإمام: هذا هو الله. فمن الممكن أن يدلّ الله سبحانه وتعالى الإنسان على ذاته بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر يستدلّ به على وجوده تعالى، ولعلّنا نعيش هذا الإحساس ونشعر به في كلّ الحالات التي يعيش فيها الإنسان من دون أيّة بارقة أمل فإنّه يجد نفسه متعلّقاً بالله، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّنا نقول إنّه دلّ على ذاته بذاته فلم يحتج إلى غيره ليدلّ عليه لأنّ الآثار التي خلقها الله، والتي تدلّ عليه هي من خلقه سبحانه وتعالى كما أنّك عندما تستدلّ على المؤثّر بواسطة الأثر فإنّ الأثر هو صنع المؤثّر ولذلك فقد دلّ الله على نفسه بنفسه لأنّه خلق ما يدلّ عليه، ولذلك ما يدلّ عليه ليس بعيداً عنه، والله العالم.
الشعور بالله المطلق:
الله سبحانه وتعالى هو القدرة المطلقة والنور المطلق والعلم المطلق، ولكن كيف يمكننا أن نشعر بالله المطلق في كلّ شيء؟
ــــ يقول الشاعر: (وفي كل شيء له آية... تدل على أنّه واحد) لذلك لا يستطيع الإنسان إلاّ أن يعرف الله سبحانه وتعالى معرفة واعية، فعندما يحسّ الإنسان بوجوده فإنّه يحسّ بالله من خلال الفطرة التي تجعل الإنسان يتعلّق بربّه من دون أيّ مسبّقات فكرية أو ثقافية أو ما إلى ذلك، فمسألة الشعور بالله هي مسألة تتعلّق بالفطرة ولا تتعلّق بالثقافة، نعم قد نحتاج إلى الثقافة من أجل أن نعرف ما هي صفات الله لكي نزداد معرفة بالله سبحانه وتعالى، وهكذا نزداد معرفة بالله في قدرته المطلقة من حيث الأسرار الكونية التي أودعها سبحانه وتعالى في الظواهر الكونية، ومن حيث الأسرار الإنسانية التي أودعها الله في الإنسان وفي السنن التاريخية التي أودعها الله في حركة الإنسان في الحياة، وفي النعم التي يسبغها على عباده بالشمولية التي تصل إلى كل مخلوق مهما كان صغيراً ويلبّي حاجاته التي يستمر بها نموّه وتمتدّ بها حياته.
النظر إلى الله:
أحد إخواننا من أهل السنة قرأ أحد أدعية (الصحيفة السجّادية) للإمام زين العابدين (عليه السلام) وهي المناجاة الخامسة عشرة وفهم منها إمكان رؤية الله لأنّ فيها فقرة توحي أنّه متعيّن بالنظر، فما هو تفسيركم؟
ــــ ذلك في القرآن أيضاً {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(1)، {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}(2)، فهي واردة على نحو الكتابة بمعنى أنّ مجيء الله كناية عن أنّ الله موجود في ساحة القيامة بعظمته، وكذلك فإنّ النظر إلى الله يعني النظر إلى مظاهر عظمة الله وما إلى ذلك، وإلاّ فإنّ الله تعالى يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}(3) ويقول أيضاً {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(4).
العدل الإلهي:
ما هو المقصود بالعدل الإلهي؟
ــــ يعني أنّ الله سبحانه وتعالى يعامل عباده بالعدل فيعطي المحسن جزاء إحسانه ويعاقب المسيء بإساءته ولا يظلم الناس شيئاً ممّا جعل لهم من حقّ لأنّه ليس بحاجة إلى ظلمهم وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف.
فرضية القدرة على الظلم:
هل يصحّ أن ننسب إلى الله القدرة على الظلم، فإنّ البعض يقول إنّ ذلك ممكن ولكن لا يقع منه تعالى؟
ــــ هذه مسألة ربما يختلط فيها الأمر على بعض الناس، فقد يقولون إنّ الله على كلّ شيء قدير، فإذا قلتم أنّ الله لا يقدر على الظلم فمعنى ذلك أنّكم تقولون أنّ هناك عجزاً في الله. ولهذا نقول كما يقولون إنّ الله قادر على الظلم في ذاته كما هو قادر على كلّ شيء ولكن لا يقع منه الظلم بل يمتنع عليه باعتبار قبح الظلم، ولكنّنا نقول إنّ هناك بعض التعابير لا يمكن أن تنسب إلى الله لأنّها تتنافى في الأصل مع طبيعة العناصر الأساسية في الربوبية، فنحن مثلاً نسأل هل يمكن لشخص أن يقول أنّ الله قادر على الجهل، بالطبع لا يصحّ ذلك، فلا معنى لإله لا علم له، وهنا نقول بأنّ هذه الفرضية خطأ، لا عجزاً في الله ولكن لأنّ هذا لا يتناسب مع طبيعة الألوهية لله، كما لا يمكن مثلاً أن تقول أنّ الله قادر على أن يلغي نفسه، فتلك فرضية خاطئة أيضاً، لأنّ القدرة إنّما تكون في الممكن أمّا المستحيل فلا يمكن أن يكون.
القدر والأمر بين أمرين:
ما هو الفرق بين القدر وبين المسائل المادية التي نفهمها من قول الإمام الصادق (عليه السلام)"لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين"؟
ــــ يعني أنّ الله سبحانه وتعالى لم يجبر الإنسان بمعنى أن يجعله مشلولاً لا يملك حركته، ولا تركه بحيث رفع قدرته ورعايته عنه. لقد أعطاك الله الاختيار {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}(1)، فلقد أعطاك على ذلك الاختيار، ولكنه قادر في أي وقت أن يمنعك، فأنتَ لست مجبوراً ولست مفوَّضاً بحيث لا علاقة لله بك. فعلاقة الله ورعايته وهيمنته على الكون كلّه قائمة نافذة، وإنّما يتدخّل الله بحسبان، وأنتَ تختار ما يريده الله سبحانه وتعالى في تلك الدائرة فلستَ مفوّضاً حرّاً لا سلطة لله عليك، ولكنّك تتحرّك باختيارك في دائرة النظام الكوني الذي أمره بيد الله سبحانه وتعالى وهذا لا ينافي الاختيار.
ثالثاً: في السيرة النبوية
النبوّة.. الرئاسة.. القضاء:
سمعنا من أحد العلماء قوله بأنّه ليس كل ما يصدر من النبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعتبر من السنّة النبوية، وأنّه يجب أن نميّز بين ثلاث شخصيات وهي (محمّد) النبيّ ورئيس الدولة والقاضي وهي جميعاً صفات محمد الإنسان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنرجو توضيح ذلك؟
ــــ هناك فرق، فمحمد رسول الله في كلّ ما قاله وما فعله، ولكنّ قوله يتنوّع: هناك قول في التشريع وفي رسم الخطّ، فهو يخطِّط لنا ما هي الشريعة وما هو الخطّ المستقيم وهذا ما يعبّر عنه بالكتاب والسنّة، وهناك أقواله في التطبيق وذلك ما يتعلّق بالقضاء وما يتعلّق بالحكم، وإذا تحدّث النبيّ في التشريع فهو التشريع الحق، وإذا تحدّث في التطبيق فهو التطبيق الحقّ لأنّ النبيّ معصوم في تشريعه ومعصوم في تطبيقه.
غاية ما هناك أنّ الفرق بين حركة التشريع في حياة النبيّ وحركة التطبيق أنّ حركة التشريع تنطلق في الخطوط العامة التي لا يمكن أن يحدّها زمان أو مكان، بينما حركة التطبيق تخضع للواقع الذي يعطي النبيّ حكمه فيه أو الذي يحرّك ولايته فيه، فعندما يتنازع اثنان أمام النبيّ وهو يحكم لهذا أو ذاك، فهذه قضايا تعيش في نطاق الحالات الخاصة. نعم، يمكن أن نأخذ منها الخطّ المنهجي للأساس الذي حكم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) به.
فإذن للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شخصية واحدة ولكن له مهمّات عديدة، وهو ليس مزدوج الشخصية ـــ فهو قاضٍ من حيث أنّه مشرّع، وحاكم من حيث أنّه مشرّع، لأنّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(1) لكن هناك أدواراً في العمل النبوي تتحرّك في الخطّ ولا يمكن أن نقول كما في بعض الآراء الموجودة عند بعض المسلمين، أنّ النبيّ معصوم بالتبليغ فقط أمّا في الأمور الحياتية فهو ليس بمعصوم، كما في رواية "تأبير النخل" فلقد أراد الله أن يجعل النبيّ بكلّه قدوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(1) وبالتالي فهو بكلّه يمثّل العصمة في عقله وكلّ تطلّعاته وأوضاعه.
الاستهداء بشريعة الرسول السمحاء:
قد يتصوّر البعض أنكم كمجتهدين وفقهاء معاصرين تركّزون على جانب الترخيص في الشريعة مع أنّ المعروف أنّكم توجبون المواجهة مع إسرائيل وأعداء الإسلام وإنّكم من فقهاء المقاومة، فلماذا هذا التصوُّر؟
ــــ في الواقع أنّني أستهدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك، فرسول الله أعطاني درساً حينما قال: "أتيتكم بالشريعة السهلة السمحاء" والله سبحانه يقول: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}(2)، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(3) إنّ معنى ذلك أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاءنا بالرخص في كثير من الأشياء ــــ والنقطة الثانية هي أنّ هذه القضايا لا تعالج هكذا فكلّ العلماء أباحوا ما أباح الله وحرّموا ما حرّم الله وقد يبيح مجتهد ما يرى مجتهدٌ آخر أنّه حرام، وقد يحرّم مجتهد ما يرى مجتهد ثانٍ أنّه مباح وهذا ما نعرفه من تنوّع الاجتهاد ومن تنوّع فتاوى المجتهدين.
والسؤال الذي يجب أن يطرح على مَن يرخّص في فعل، كيف رخّصت؟ وما هو دليلك وحجّتك؟ ولمن يحرّم، كيف حرّمت؟ فإنّ على المجتهد أن يقدّم الحجّة على ما يفتي بحلِّيته والحجّة على ما يفتي بحرمته.
إنّ الفرق بيني وبين العلماء السابقين الذين تعلّمنا منهم وأكلنا من فتات موائدهم هي كمْ ترك الأول للآخر، وأنّ مشكلة علمائنا هي أنّه ما إنْ يرى شبهة على الموضوع حتى يقول (بالأحوط) و(الأحوط منه)، فالحكم الشرعي قد يكون موجوداً ولكن ثمّة حرجاً لديه في طرحه أو يخاف ـــ لسببٍ ما ـــ أن يفتي بالمسألة أمّا على عهد علمائنا السابقين كالسيد "المرتضى" والسيد "الطوسي" والسيد "المفيد" فلا تجد (الأحوط) في مسائلهم.
أمّا في بعض رسائل علمائنا فإنّك تجد الأحوط أكثر من الفتاوى ومنذ بداية الرسالة، فهناك مثلاً بعض الفضلاء من العلماء الكبار كـــ "السيد مرتضى الخلخالي" فرّج الله عنه حيث اعتقل في الانتفاضة وهو ابن التسعين وكان ظريفاً، ففي ذات مرة كان السيّد الخوئي (رض) جالساً في قبو داره يكتب مناسك الحجّ، فوصل إلى فتوى أراد أن يكتب فيها "والأحوط إعادة الحجّ في السنة القادمة" فقال له الخلخالي على سبيل الظرافة: وما خسارتك أنتَ يا سيدنا؟ إنّ هذا المسكين قد هيّأ بالمشقّة نفقة الحج وأدى مناسكه في هذا الحرّ القائظ ثم تأتي لتقول له (الأحوط إعادة الحجّ)؟! وعلى هذا أقول إذا كان لدينا حجّة شرعية على فتوى معينة يعيش الناس مشاكلها، فكلّ ما نستطيع أن نجيب الله تعالى فيه يجب أن لا نتردّد فيه، فمن وضع نفسه فقيهاً للناس ومرجعاً لهم فعليه أنْ يتحمّل مسؤولية الناس.
وكما قلت مراراً في كلّ الفتاوى التي أصدرتها، أنا مستعدّ للدفاع عنها بقوة فلستُ كما يظنّ البعض أُريد أنْ أُسهِّل على الناس لأصعّب على نفسي، فكلّ فتوى سواءً في الرخص أو التحريم ـــ فلديّ الحجّة فيها أمام الله، وإنّني من الناس الذين يدعون إلى أن ينتقدهم الناس فحياة المسؤول ليست ملكاً له ـــ في أي موقع للمسؤولية كان ـــ فمن حقّ الناس عليه أن يستمع لانتقاداتهم، فالإمام عليّ (عليه السلام) يقول "رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي"(1) ويقول: "فلا تكفُّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإنّي لستُ في نفسي بفوق أن أخطئ"(2) وهو فوق أنْ يُخطئ.
لكن هناك فرقاً بين (النقد) وبين (الشتائم) والكلام الانفعالي والكلام الهادي فهناك أفكار لدينا يقبلها أناس ولا يقبلها آخرون، كما إنّنا نقبل أفكار أُناس ولا نقبل أفكار آخرين، لكنّ الأساس في المناقشة هو ما تعلّمناه من كتاب الله {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ}(3)، فالشيء الذي ليس لديك اختصاص فيه لا تتدخّل فيه ما لم تملك اجتهاداً، حتى في القضايا الأخرى التي تتّصل بالمفاهيم، وإذن فعلينا أن لا نعيش العقلية الجاهلية، فمن الضروري أن تنتقد الأمة قياداتها، كما ندعو إلى الحوار بين العلماء وممارسة النقد فيما بينهم، وعلينا أن لا نعتبر النقد عداوة، فمن ينتقدك بفكر يعاونك على فهم الحقيقة، إذ يجعل فكرتك موضعاً للأخذ والردّ، لكنّنا لا نزال متخلّفين في اعتبار النقد عداوة.
ولقد سبق أن أوضحت لكم إنّنا عشنا منذ الخمسينات ونحن نعتبر أنفسنا مسؤولين عن حماية الشريعة وحماية الإسلام ومفاهيمه وواقع الإسلام وحماية المسلمين، فأنا (كدعبل الخزاعي) حملت خشبتي على ظهري أربعين سنة أبحث عمّن يصلبني عليها، ولا أزال في الساحة، لكن مهمة البعض هي أن يخلق لك مشكلة بين الحين والآخر في جدل بيزنطي لا طائل وراءه.
الفرق بين (السنّة) و(السيرة):
ما الفرق بين السنّة والسيرة وأيّهما تشارك في تفسير القرآن؟
ــــ السيرة هي السنّة، لأنّ السنّة هي قول المعصوم وفعله وتقريره، والسنّة فيها شيء من السيرة، ففيها الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن جهاده وعن عمله وما إلى ذلك، فهما يلتقيان في أكثر الأشياء وكلاهما ممّا جاء به القرآن، أمّا السنّة فحسب قوله عزّ وجلّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1)، وأمّا السيرة فوفقاً لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(2).
الاستنارة بسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
تعتبر سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مناراً لكلّ المسلمين فكيف يستضيء المسلمون بسيرة الرسول الأعظم في ليل حياتهم؟
ــــ لقد عرّفنا الله سبحانه كيف نستضيء بسيرته، بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}، ومعنى أنّ رسول الله قدوة حسنة أي اعملوا كما عمل وقولوا كما قال وتحرّكوا في خطّ العلاقات كما تحرّك، ثمّ أراد الله أن يبيّن أنّه إذا فعلتم ذلك فإنّه الدليل على أنّكم ترجون الله واليوم الآخر، فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فعليه أن يقتدي برسوله، ومَن ذكَرَ الله كثيراً فعليه أن يذكر رسوله.
ــــ أيّها الأحبّة ـــ لتكن كلّ مجالسنا احتفالاً بالرسول وكل السنة احتفالاً بالرسول: نحتفل به بأذاننا وإقامتنا وتشهُّدنا، فأنْ نتعلّم حياته هو أن نتعلّم سيرته وأخلاقه ونتعلّم كيف هو مع عياله، كيف هو مع أصحابه، كيف هو مع أعدائه، كيف هو أسلوبه في الحياة، كيف هي رقّة قلبه، وكيف هي رقّة لسانه، فمثلاً عندما نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1)، نتعلّم من ذلك كيف نكون رحماء بالآخرين.
هذه هي سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من منظور القرآن، فعلينا أن ندرس الرسول من خلال القرآن أولاً، ثم نأتي إلى السنّة بعد ذلك، فالقرآن هو مسيرة إيحائية للنبيّ من أروع أنواع السيرة.
فمثلاً عندما يحدّثنا الله تعالى عن النبيّ أنّه لم يكن غليظ القلب ولم يكن غليظ اللسان، فليفكّر كل منكم مع نفسه هل أنّ قلبه غليظ تجاه الناس الآخرين أو أنّ قلبه ليِّن.. فكّر.. وتساءل: هل أنّ لسانك هو لسانٌ قاسٍ غليظ مع عيالك ومع أولادك ومع جيرانك ومع الناس من حولك ومع من تأتلف، هل أنتَ تسبّ؟ هل أنتَ تشتم؟ هل أنت تتهّم بغير حقّ؟ كان رسول الله غير ذلك فكيف تكون أنت؟ كيف تكون مع عيالك، فلقد أنزل الله سورة تريح النبيّ من ضغط أخلاقه العظيمة على نفسه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}(2) وليس معنى {لِمَ تُحَرِّمُ} أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يرى هذا الحلال حراماً فذلك ليس معقولاً لأنّه لا ينطق عن الهوى، فيحرّم يعني يمنع نفسه، فمن أخلاقه العالية أنّه كان يقدّم شهوة أهله في طعامهم على شهوته، كان يضغط على نفسه مرضاة لعياله، صحيح. أنّ الله أنزل في القرآن قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(1) لكنّه أوحى إليه أنّه بشر فلا يضغط على أعصابه، وقد ورثنا عن آل بيتي العصمة (عليهم السلام) من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قولهم: "المؤمن يأكل بشهوة أهله والمنافق يأكل أهله بشهوته"(2)، فالفرق بين المؤمن والمنافق هو أن لا يكون المؤمن أنانياً في بيته، ففي الحديث: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي، فأن تعيش مع رسول الله هو أن تعرف كيف تهتدي وأنْ تستضيء بنوره.
أيّها الأحبّة، علينا أن نعلم أنّ الله لم يحدّثنا عن جمال النبيّ فنحن لا نعرف ـــ من خلال القرآن ــــ لون عيونه ولون وجهه هل هو أبيض أو أسمر، نحن لا نعرف هذا الشيء لكنّنا نتغزّل به الآن من خلال تفصيلات ذاته الجسدية حتى صرنا نرتبط بالنبيّ عاطفياً وهذا وحده لا يكفي، فلا بدّ لنا من تجديد أساليبنا وإنّي لأرجو من كل إخواني من خطباء وعلماء ومثقّفين عندما يقدّمون النبيّ والأئمة لكلّ جيل، عليهم أن يقدّموهم من خلال ما يتمثّل في سيرتهم من المبادئ والخطوط لعامة والحركية وما إلى ذلك.
تدوين سيرة المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
هل دوّنت السيرة النبوية في عهد قريب لعهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، خاصة وأنّ هناك إشكالية كبيرة في مدى مصداقية سيرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا كان التدوين متأخّراً بسبب التحريف والوضع؟
ــــ لم تدوّن سيرة النبيّ في العهود الأولى لكنّ الناس كانوا يحفظونها وكانوا يتمثّلونها وكانوا يتحدّثون بها، ونحن لا نقول أنّ كلّ ما جاءنا من أحاديث السيرة صحيح، أو أن كل ما جاءنا من الأحاديث التي نقلت السنّة صحيح، لكن هناك أسساً وقواعد في علم الحديث وفي علم الرجال، وهناك أيضاً أساليب نقدية تحليلية للحديث بحيث تحاكمه، على أساس العقل وطبيعة الظروف الموضوعية الموجودة في زمن الحديث، وعلى أساس مقارنة الحديث بالقرآن وما إلى ذلك، لهذا نعتقد أنّ الكثير من سيرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخذه المسلمون يداً بيد ولم تكن هناك ضرورة للكذب في بعض الحالات، فيمكن أن يقع التحريف في بعض ما يتعلّق بالخلافة ولكنّ الأحاديث التي تتحدّث عن أخلاقه لا ضرورة للكذب فيها، وكان هناك اهتمام كبير من قِبَل الصحابة لملاحقة كلّ أوضاعه: كيف يأكل وكيف يلبس وكيف كان كذا وكذا فهناك حالة ارتباط عضوي رائع، ولذلك فقضية نقل سيرة النبيّ كان أمراً طبيعياً بحيث يتناقله الناس جيلاً إثر جيل، لأنّها كانت محل اهتمامهم. كما نلاحظ أنّه ليس هناك في التاريخ شخصية اتّفق عليها المسلمون كشخصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولما اختلطنا بالآخرين ودخلت الأوضاع العلمانية صار الإنسان يشكّك بالأمور وإلاّ فقد كان لقضية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جانب مهم بحيث كان يعيش في عقول المسلمين وفي قلوبهم وفي كل حياتهم، ومن هنا فإنّ الدواعي تتوفّر على امتداد المعرفة في هذا المجال.
تدوين السيرة:
يتراءى لأول وهلة قلّة الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) في التأسيس لتدوين السيرة النبوية الشريفة؟
ــــ ليست القضية بهذا الشكل، فهناك أحاديث كثيرة لو جمعت شكّلت السيرة النبوية الشريفة الناطقة عن أهل البيت، فلدينا تفسير لـــ (علي بن إبراهيم) والكثير من التفاسير الأخرى حتى أنّ (الطبري) يروي الكثير من الأحاديث التاريخية عن الإمام (محمد الباقر) فهو أحد مصادره، ولم يتسنَّ لأحد أن يجمع هذا الموضوع جمعاً كاملاً.
دراسة السيرة:
كيف ندرس سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشكل تحليلي، وما هي أولويات هذه الدراسة، وما هي آلياتها؟
ــــ علينا أن نضع كل عمل من أعمال الرسول وكل خلق من أخلاقه وكل أسلوب من أساليبه في هيكلية إسلامية أو ضمن النظرية الأخلاقية أو الاجتماعية، بمعنى أن لا ندرس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بطريقة تجزيئيّة بحيث نأخذ مسألة من هنا ومسألة من هناك، ونحاول أن نجمع كلّ الأعمال التي تلتقي في الجانب الأخلاقي وكل الأعمال التي تلتقي في الجانب السياسي أو الاجتماعي ونخرج من هذه الدراسة باستنباط قواعد عامة، فإذا تحدّث النبي مع شخص فلا نقصر القضية في حديثه معه، وإنّما ندرس النماذج التي تلتقي مع هذا الشخص حتى القضية في حديثه معه، وإنّما ندرس النماذج التي تلتقي مع هذا الشخص حتى نأخذ منه نموذجاً لكلّ إنسان يشبهه وندرس الظروف المحيطة بالنبي، فمثلاً عندما تحدّث بهذا الحديث أو ذاك، هل كان حديثه في المطلق أو كان خاضعاً للظروف المحيطة بهذا الموضوع؟ فلربّما كان الحديث مرتبطاً بظرف معيّن فلا بدّ من دراسته، من هنا فلا بدّ من أن ندرس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما ندرس القرآن على أساس جمع الآيات المتّصلة بالجانب الأخلاقي أو بالجانب الاجتماعي أو الجهادي، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قرآن يتجسّد ويتحرّك وعلينا أن نجمع صفاته وأن نجمّع المفردات الأخرى لندخلها في هيكل عام بحيث تعطينا طبيعة النظرية، وعلينا أن ندرس أسلوب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الدعوة ولا نأخذها فقط كخطوط عامة بل في التفاصيل التي ذكرت في القرآن وفي سيرته، ولا بدّ أن نأخذ من النبيّ المسألة الاجتماعية والروحانية والسياسية لأنّها من المسائل التي تتّصل بحياتنا، كما نحتاج أن ندعو النبيّ لزيارتنا بمعنى أن تزورنا سيرته وأخلاقه وكل تعاليمه حتى نشعر أنّه بيننا وهو ينظّم لنا كلّ حركتنا وكل واقعنا.
القدرة على الاقتداء بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
نتصوّر دائماً أنّ الاقتداء بالرسول أمرٌ بالغ الصعوبة باعتبار أنّه إنسان معصوم له مميّزات لا توجد في البشر العادي كالعصمة والاتصال بالله وغيرها، فكيف يصبح الاقتداء بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمراً قريباً من الأذهان في نطاق التطبيق العملي لدينا كأفراد عاديين؟
ــــ كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الدرجة العليا من معرفة الله وكما كان في الدرجة العليا من القرب لله، وكان في الدرجة العليا من الانفتاح على الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولكنه كان في كل سلوكه مسلماً: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}(1)، {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(1)، فالنبيّ يريد أن يقول إنّني قريب من الله ولكن قربي من الله ناتج عن طاعتي لله فلم أعصه، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(2)، فعلينا إذاً أن نفهم أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر الأنبياء وكل الأئمة كانوا في حياتهم مسلمين بمعنى أنّهم مكلّفون بما يكلّف به الإنسان المسلم، وقد تحرّكوا في كل طاعتهم لله وفي كلّ ابتعادهم عن معصية الله من خلال الإرادة الإسلامية. لذلك إذا كنّا لا نستطيع أن نقتدي به فكيف يقول الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(3) إنّه يدعونا للاقتداء في القول والعمل والحركة وأن نصلّي مثل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لكن آفاق الصلاة عندنا تختلف عمّا عند النبيّ وهذا أمر طبيعي فليس معنى أن نقتدي به أن يكون وعينا للطاعة كوعيه، لكن أن نقتدي به في الطاعة بأن يكون وعينا للقيمة الأخلاقية في المستوى المطلوب منّا.
وهكذا نستطيع أن نقتدي به، ونحن مدعوون إلى الاقتداء به، ولو لم يكن ذلك ممكناً لما طلبه الله تعالى منّا وهو الذي لا يحمّل الإنسان ولا يكلّفه ما لا طاقة له به.
قصّة شقّ بطن النبيّ:
هل القصة التي تقول إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما أخذته (حليمة السعدية) حدثت له حادثة وهي أنه عندما كان في الوادي أخذه رجلان وشقّا بطنه وغسلا قلبه من نقطة سوداء كما يرويها صاحب كتاب (الكامل في التاريخ)، هل هذه القصة صحيحة؟
ــــ هناك الكثير من الباحثين يشكّكون في ذلك، لأنّ قصة النبوّة ليست نقطة سوداء موجودة في القلب ونقطة دم موجودة فيه، فلقد خلقها الله سبحانه وتعالى نفساً رفيعة منفتحة عليه لذلك لا بدّ من التأمُّل في هذه الرواية من ناحية التحليل وربّما من ناحية السند أيضاً.
متى تبدأ العظمة؟
هل نفهم من كلامكم عندما تحدّثتم عن أنّ عظمة الإنسان تتجلّى عند بداية حركته، هل نفهم أنّ صفة العظمة غير موجودة في الخاتم (عليه السلام) قبل بعثته يوم بدأ الحركة النبوية؟
ــــ أظنّ أنّ السائل أو السائلة لم يكونا دقيقين في فهم كلامي فلقد قلت وإن كان عظيماً في صفاته الذاتية، لكنّ المسألة هي دوره الحركي وقد نحتاج إلى دراسة حياته فيما قبل الرسالة لنجد المؤثّرات الذاتية بما يملك من صفات العظمة في حركته بعد الرسالة. لقد كنت أتكلّم عن الصفات العظيمة في الذات، ولكن حركية القيمة الإسلامية، فيما يحدّثنا الله عن الأنبياء، تتحرّك من خلال التوحيد: فهناك فرق بين أن نقول أنّ النبي لم يكن عظيماً في صفاته قبل أن يبعث وبين أن نقول، كان عظيماً، ولكن لم يتجلّ دوره المرموق ــــ كما أراده الله له ــــ في مجتمعه إلاّ بعد الرسالة، ولذا فالله سبحانه عندما يحدّثنا عن دور النبيّ الرسالي يقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ}، {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(1)، أو يقول على لسان نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ}(2) والله يريد أن يقدّم النبيّ وكل الأنبياء الآخرين في دورهم الرساليّ لا في ذاتهم، وإنْ كانت ذاتهم تختزن في داخلها دورهم.
القرآن مصدر السيرة:
لماذا تعتبرون القرآن الكريم أهمّ مصدر للسيرة النبوية؟
ــــ أولاً: لأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو القرآن الناطق، ولأنّ كل آية في القرآن قد عاشها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عقله فراحت تتحرّك في خطّ الفكر والعقل، ولأنّ كل آية عاشها رسول الله في قلبه كانت تتحرّك في أجواء العواطف والمشاعر والأحاسيس، ولأنّ كل آية عاشها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أخلاقه كانت تتحرّك في نهجه وفي سلوكه، لذلك فإنّ القرآن يفصّل لنا شخصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فعندما نريد أن ندرس الشخصية فلا بدّ من أن ندرس عقل الإنسان وقلبه وأحاسيسه ومشاعره وسلوكه وعلاقاته ومواقفه.
فإذا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد عمل بالقرآن كلّه وعاش القرآن كلّه، فكل آية تمثّل جزءاً من سيرته، وهذا هو الكلام في الخطّ العام.
أمّا في الخطّ التفصيلي، فقد كان القرآن كتاب الحركة الإسلامية، أي الكتاب الحركي الذي أنزله الله تعالى نجوماً (أي لم ينزله دفعة واحدة وإنّما بالتدريج) لماذا؟ لأنّ القرآن كان يرافق حركة المسلمين في حربهم وسلمهم ونقاط ضعفهم ونقاط قوّتهم، وكان يلاحق حركة قيادة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمسلمين.. وكان يدخل في حروب المسلمين ليركّز على نقاط القوة والضعف كما حدّثنا عن موقعة (أُحُد) في سورة آل عمران ومعركة (بدر) التي عاش المسلمون في بدايتها نقاط ضعف تحوّلت ـــ فيما بعد ــــ إلى نقاط قوة، وكان أيضاً يواجه المسلمين في حياتهم الخاصة ويتحرّك بهم تدريجياً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}(1).
لقد أعطي النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قوّة الفؤاد وقوّة العقل ما لا يحتاج معه إلى تثبيت، ولكن تثبيت الفؤاد من حيث {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}(2)، فنحن نجد في القرآن أنّ قريشاً تقدّم للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مختلف الإغراءات من أجل أن يتنازل عن بعض الدعوة كما نعرف ذلك من سورة وآية، فأمّا السورة فهي: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ*لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}(3) فلقد عرفنا أنّهم عرضوا عليه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة.. فالصلح ـــ كما يقال ــــ سيّد الأحكام، أي تعال نعمل تسوية، والتسوية هنا غير ممكنة، قد تكون في الأمور المالية والاجتماعية، فيمكن أن أسامحك وتسامحني، أما التسوية في العبادة بأن أعبد ما لا شرعية لعبادته، فلا يمكن أن يكون ذلك؟!.
لقد أرادوا أن يحصلوا من النبيّ على اعتراف بآلهتهم، وهذا هو جزء من سيرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يشرح لنا كيف كان يقف بوجه الطروحات التي تحاول أن تنحرف به عن الخط.
ونقرأ في الآية: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً*وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً*إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}(1)، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن ليضعفَ لكنّ الله سبحانه يريد أن يصوّر لنا قوّة الإغراء، بحيث أنّ إغراءهم وصل إلى مستوى لولا أنّ الله ثبّته بإيمانه ووعيه وعصمته، لا تثبيتاً خارجياً.. لولا هذا لكان يمكن لقوّة الإغراء أن تتحوّل إلى عنصر قد يسقط موقفه.
فنحن نعرف أنّهم كانوا يعرضون عليه كلّ شيء، مثلما يقول لك شخص لماذا تحمل السلّم بالعرض... لماذا تعارض؟.. (طرّيها)... حاول بهذه الطريقة أو تلك لتحصل على محبّة الناس وصداقة الناس... لماذا تتكلّم بحيث ينزعج هذا منك ويغضب ذاك... ألستم تواجهون في حياتكم الاجتماعية والسياسية والأمنية مثل هذا... وفي السيرة النبوية الشريفة عندما جاء أبو طالب (رضي الله عنه) وقال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما طرحته قريش عليه: إنْ كنت تريد مالاً أو ملكاً.. قال له: "والله لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في شمالي على أن أترك هذا الأمر أو أهلكَ دونه ما تركته".
فالآية تشير إلى هذا المعنى، ولذا فإنّنا نستطيع أن نرصد في خطاب الله للنبيّ الكثير من القضايا التي تمثّل المبادئ العامة، ولكنّها تتحدّث عن أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يعيش الكثير من المشاكل التي يراد منها الضغط عليه، لذلك نقول إن القرآن هو الكتاب المعصوم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(2) أما السيرة النبوية المذكورة في الكتب فيمكن أن يحتجّ عليها البعض بأنّ هذا الراوي غير موثوق وذاك وضّاع للحديث وهكذا.
فالسيرة التي نستطيع أن نفهم بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشكل جيد هي سيرة القرآن، فعلينا أن نستوحي القرآن، وليس معنى ذلك أن نهمل السيرة التي جاءت من خلال الأحاديث وكتب السيرة، ولكن إذا رأينا شيئاً من السيرة يختلف عمّا في القرآن، فعلينا أن نأخذ صورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من القرآن ونترك ما تتحدّث به السيرة ممّا يخالف القرآن لأنّ (ما خالف كتاب الله فهو زخرف).
ارتجاف النبيّ من جبرائيل:
بما أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبيّ من يوم مولده، أو قبل ذلك، بماذا نفسّر رواية خوفه وارتجافه من نزول جبرائيل (عليه السلام) وكذلك رواية السيدة خديجة لورقة بن نوفل؟
أولاً لم نقل أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبيٌّ قبل مولده، لأنّ النبوّة تأتي من خلال أنّ الله يرسله نبيّاً، ولذلك يقول القرآن: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(1)، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يعيش روحية النبوّة قبل أن يكون نبيّاً. فلا بدّ من ملاحظة الفرق... فالنبوّة الفعلية لا بدّ لها من الوحي ومن التكليف الإلهي، ولم يكلّفه الله بالنبوّة إلاّ بعد أربعين سنة، ولكنّه كان يعيش روحية النبيّ في روحه، فاصطفاه الله لأنّه كان في كل ملكاته وكل عناصر شخصيته المؤهّل وحده دون غيره ليكون نبيّاً.
وأمّا بالنسبة للرواية فلقد سبق أن ناقشتها حيث يظهر منها أنّ خديجة أقوى من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حينما قالت له "إنّك تصل الرحم وإنّ الله لن يظلمك" ثم بعثته إلى (ورقة بن نوفل) وكان نصرانياً، الأمر الذي جعل البعض يقول إنّ الإسلام بدعة نصرانية، ويزعمون أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان نصرانياً ثمّ انحرف عن النصرانية.
لقد ناقشت ذلك قبل (36) سنة، أي في السنة الثانية من مجلة (الأضواء) التي كانت تصدر في النجف، ولاحظت أنّ الرواية غير صحيحة السند، كما أنّه لا يمكن أن يرسل الله رسولاً لا يعي رسالته، ولا يمكن أن يضغط الله على رسوله بهذه الحالة التي ترهق روحه فتجعله يخاف. إنّ هذه الرواية تمثّل تشويهاً لصورة حركة الرسالة الأولى، وهي غير صحيحة، ولذلك نحن نرفضها جملة وتفصيلا.
تقديس أصحاب الرسالات:
يندكُّ رجال المبادئ والرسالات بالمبادئ والرسالات المقدّسة ليكونوا مبادئ مجسّدة كما ذكرتم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (كان خلقه القرآن)، والسؤال هو: لماذا لا نقدّس أمثال هؤلاء كتقديسنا لرسالتهم؟
ــــ نحن نقدّسهم باعتبار أنّهم يجسّدون الرسالة، فتقديسهم ينطلق من خلال تجسيدهم للرسالة، وقد قلنا إنّه ليس هناك أي فاصل بينهم وبين رسالتهم، والأمر يختلف إذا أخلصت للرسول بعيداً عن رسالته، كما يواجه بعض الناس قضية النبيّ وأهل البيت (عليهم السلام) على أساس أنّهم من (بني هاشم) والحال أن لا علاقة لنا ببني هاشم وإنّما علاقتنا بالنبيّ وآل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فنحن لا ننطلق معهم من خلال نسبهم وإنّما ننطلق من خلال رسالتهم ومن خلال تجسيدهم للرسالة، وقد قال عليّ (عليه السلام) كما في نهج البلاغة "إنّ وليَّ محمد من أطاع الله، وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته"(1) وكما يقول الشاعر:
كانت مودةُ سلمانٍ لهم رحماً ولم يكن بين نوحٍ وابنهِ رحمُ
أميّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
هل كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعلاً أميّاً لا يعرف القراءة والكتابة، أم أنّه من جاء من (أم القرى) وهي مكّة المكرّمة، فلقد قرأت في كتاب (سلوني قبل أن تفقدوني) أنّه ليس أميّاً، ولكنه جاء من (أم القرى) فنسب إليها، فما رأيكم بذلك؟
ــــ إذا كنت قرأت ذلك في كتاب (سلوني قبل أن تفقدوني) فقد قرأنا في كتاب الله {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(2).
هذه نقطة، أمّا النقطة الثانية، فإنّ كلمة الأميّين التي كانت تطلق على العرب من قبل اليهود وأهل الكتاب منطلقة من غلبة الأميّة على العرب في ذلك الوقت، ونحن لا نمانع أن تكون كلمة (الأميّ) نسبة إلى (أمّ القرى) على أنّ مكة لم تكن تسمّى بـــ (أمّ القرى) وإنّما كانت تلك صفتها، وإلاّ فمكّة كان اسمها (مكّة) أو (بكّة).
فسواء انطلقت التسمية من انتسابه إلى العرب باعتبار أنّهم الأميون، أو بانتسابه إلى (أمّ القرى) فإنّ القرآن يؤكّد أنّه لم يكن يمارس القراءة ولا الكتابة، ولكنّه لو أراد أن يعلمها لعلمها، فالله تعالى يقول: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}، لأنّك ــــ يا محمد ــــ إذا كنت تقرأ وتكتب فإنّهم سيقولون أنّه قرأ (التوراة) و(الإنجيل) وكان يكتب ويتعلّم فألّف القرآن خلال أربعين سنة، ولما لم يروه خلال الأربعين سنة قارئاً ولا كاتباً، ولم يتتلمذ على أحد، وجاء بما أعجز الفصحاء والبلغاء والمفكّرين، فهذا دليل قاطع على نبوّته، فليس شيئاً عادياً أن يأتي بكلّ هذه التشريعات والمفاهيم مع أنّه لم يكن قارئاً ولا كاتباً، والدليل على ذلك أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما تلا هذه الآية عليهم لم يقولوا له: هذا غير صحيح، كنا نراك تقرأ وتكتب، من هنا فالجانب التاريخي يؤكّد حركة الآية في الواقع.
الصلاة على الرسول:
ما هو اللفظ المطلوب بالصلاة على الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
ــــ اللهم صلّ على محمد وآل محمد، أو (اللهم صلِّ وسلّم على محمد وآل محمد) كلاهما جيد، والثانية أفضل باعتبار قوله تعالى {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(1)، فزيادة الخير خير.
إشكالية عصمة الأنبياء:
لقد قلتم بأنّ من يرى بأنّ العصمة مختصة في بيان الأحكام والتشريعات فإنّه لم يفهم العصمة، فما هو قصدكم في اختصاص العصمة في بيان الأحكام؟
ــــ هناك منَ الناس من يقول بأنّ الأنبياء معصومون فقط في تبليغ الرسالة فقط، فهذه الأحكام الشرعية التي أنزلها الله عليهم لا يخطئون في تبليغها، أمّا خارج هذه الدائرة فيمكن أن يخطئ النبيّ في أمور كثيرة، كل ذلك وهو معصوم في التبليغ، فالذي يقول بهذا لا يفهم معنى النبوّة. أما دليلنا على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) بالدائرة الأوسع فهو أنّ الله أرسل النبيّ ليغيّر العالم على أساس الحقّ فلا يمكن أن يرسله وفي عقله شيء من الباطل، وفي كلامه شيء من الباطل، وفي عمله شيء من الباطل، لذلك لا بدّ أن يكون نوراً كلّه لا ظلمة فيه، وحقّاً كلّه لا باطل فيه.
المعاجز والكرامة:
وهل كثرة المعاجز دليل على كرامة الله للرسول؟
ــــ ليس من الضروري أن تكون كثرة المعاجز دليل كرامته فرسالته هي الكرامة له، وموقعه عند الله سبحانه وتعالى هو الكرامة وإلاّ فبعض الأنبياء ليس عندهم معاجز كثيرة مثل إبراهيم (عليه السلام) {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(1) فلا توجد معاجز أخرى بالنسبة إلى إبراهيم. والنبيّ نوح (عليه السلام) عاش (950) سنة ولم يحدّثنا القرآن عن معاجزه ما عدا "الطوفان" وهناك من العلماء من يقول بأنّه لا بدّ لكلّ نبيّ من معجزة لتثبت صدقه، وأنا أزعم أنّ الأنبياء جاءوا منذ البداية بالعقل وخاطبوا عقل الإنسان، أمّا المعجزة فتأتي طارئة وعندما يشتدُّ التحدي بحيث يخفق النبيّ إذا لم يأتِ بمعجزة فإنّ الله يؤيّد رسالته بالمعجزة.
ولذلك نقول بأنّ الأنبياء كما جاء في القرآن، كانوا يخاطبون أقوامهم.. لنقرأ مثلاً كيف كان "نوح" يخاطب قومه وكيف كان "هود" يخاطب قومه و"صالح" و"إبراهيم" وسائر الأنبياء والمرسلين، فلقد خاطبوا الناس بالعقل، ولقد انطلق الدين من أجل أن يخاطب عقل الإنسان، أما قضية المعاجز فليست هي الدليل وليست الأساس للنبوّات وإنّما هي حركة للتحدّي.
سلمان منّا:
ما معنى قول الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "سلمانٌ منّا أهل البيت"؟
ــــ إنّ سلمان عاش الخطّ المحمّدي وانطلق مع الله، ومع منهج أهل البيت (عليهم السلام) الذي هو منهج رسالته من خلال قربه من رسوله ومن رسالته ممّا جعله من أهل البيت بالمعنى الرسالي في حركة المودّة الخالصة لله سبحانه وتعالى ولهذا كان سلمان قريباً من الله، وفيه يقول الشاعر:
كانت مودةٌ سلمان لهم رحماً ولم يكن بين نوحٍ وابنه رحمٌ
فلقد قال نوح (عليه السلام) كما يحدّثنا القرآن الكريم {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ*قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}(1) فأهل الأنبياء والأئمة والمصلحين هم أهل الخطّ وأهل الإسلام والإيمان، وقد ورد في حديث عليّ (عليه السلام) في "نهج البلاغة" قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به ثمَّ تلا هذه الآية وقال: إنَّ وليَّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أطاع الله، وإن بعدت لحمته، وإن عدوَّ محمد مَن عصى الله، وإن قربت قرابته"، والله وليُّ المؤمنين(2).
براءة حجر وعمّار:
لماذا لم يتبرأ "حجر بن عدي الكندي" من الإمام عليّ (عليه السلام) كما تبرّأ "عمار بن ياسر" من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
ــــ "عمار بن ياسر" قال كلمة الكفر باعتبار أنّه يجوز له ذلك نتيجة العذاب الشديد، وكان يمكن لحجر أن يقول ذلك ولكنّه فضّل الالتزام بإيمانه بالرغم من كلّ الضغوط عليه، فهو اختار الطريق الأصعب والطريق الذي يجسّد إخلاصه وإيمانه وفي ذلك بلاء عظيم وأجر عظيم، وإذن فلقد كان يجوز له ولكن لا يجب عليه.
المقصود بالبراءة:
ذكرتم جواز البراءة عند الضرورة فهل تقصدون البراءة الحقيقية أم لفظ البراءة؟
ــــ البراءة كما هي براءة عمّار بن ياسر {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}(1). فمن الطبيعي أن صاحبَ العقيدة لا يمكنه أن يتبرّأ من معتقداته، لأنّ قضية العقيدة راسخة في كل وجدانه، وإذن فهي البراءة بالكلمة لا البراءة من خلال الوجدان العقيدي للإنسان.
سبب تغيير النبوات:
لماذا تتغيّر النبوات ولماذا ختمت بالإسلام بالمعنى الإصطلاحيّ؟
ــــ انطلقت النبوّات من خلال حاجات الناس إلى خطوطها ومفرداتها العامة، ثم تطوّرت تلك الحاجات فانطلقت نبوات جديدة حتى كان الإسلام الذي ربط الناس بالعقل وبالخطوط العامة ليستطيعوا من خلاله أن يطوِّروا حياتهم بحيث لا حاجة بعد ذلك إلى نبوّة جديدة.
رابعاً: في العصمة والإمامة
1 ــــ أسئلة عامة:
مَن هم المعصومون؟
هل العصمة عندكم مقصورة على أصحاب الكساء أم هي أعمّ؟
ــــ أنا أعتبر أنّ مسألة العصمة منطلقة من طبيعة النبوّة ومن طبيعة الإمامة، فلا يمكن أن يكون شخص نبيّاً غير معصوم أو إماماً غير معصوم، فالإمامة هي امتداد للنبوّة من دون نبوّة، وكما أنّ على النبيّ أن يجسّد الحق في عقله وعمله وحياته فلا بدّ للأئمة أوّلهم وآخرهم، أن يجسّدوا ذلك في عصمتهم الفكرية والأخلاقية والعملية.
وإذا كان القرآن قد جاء بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}(1)، والمقصود بهم أصحاب الكساء كما أجمع المفسّرون على ذلك. فمعنى ذلك أنّنا لا نقتصر عليهم في العصمة ولكنّنا نشمل بذلك جميع الأئمة من خلال التسالم ومن دراسة كل حياة الأئمة (عليهم السلام).
منهج دراسة أهل لبيت (عليهم السلام):
هناك أكثر من منهج لدراسة أهل البيت، ما هو المنهج الذي ترونه أكثر مناسبة لفهم حياة أهل البيت (عليهم السلام)؟
ــــ المنهجية المناسبة لدراسة حياتهم هي أن ندرس أهل البيت (سلام الله عليهم) في العلم الذي تركوه، وفي المفاهيم التي أصّلوها وفي السيرة الرائعة التي انطلقوا بها.
وأن نقدّم الإسلام من خلال أهل البيت (عليهم السلام) وأن نقدّمهم كتجسيد للإسلام، كما ينبغي أن نعيشهم وأن نعيش فكرهم وأساليبهم في كل الواقع الذي استطاعوا أن يؤصّلوه في خطّ الإسلام.
الدراسات التجزيئيّة:
إلى جانب الدراسات التجزيئية لحياة الأئمة، هناك دراسة تجزيئية لحياة الإمام الواحد، فنأخذ الحسين (عليه السلام) ثائراً والحسن (عليه السلام) سياسياً، والباقر أو الصادق مفكّراً وفقيهاً، ألسنا نحجّم بذلك حياة الإمام ونحصرها في زاوية محدّدة فيما حياته عطاءٌ كلّها؟
ــــ هذا صحيح، إذ لا يجوز التجزيئية في هذا المجال لأنّهم يتكاملون في الخطّ، ولذلك فإنّ كل واحد منهم يتحرّك في مرحلته بحسب ظروف مرحلته ويكمل ما بدأه الآخر.
وهكذا فيما يقال إنّ هناك أسلوباً حسنياً وأسلوباً حسينياً، ففي الواقع يصبح الأسلوب الحسنيّ حسينياً في مرحلة الحسن والأسلوب الحسينيّ حسنيّاً في مرحلة الحسين.
فهناك ظروف موضوعية تختلف فيها الأساليب، وعلى ذلك فالأئمة (سلام الله عليهم) حسينيون حسنيّون ولكنّ ظروفهم كانت تختلف عن ظروف الإمام الحسن أو الحسين ولهذا اتّجهوا بحركتهم اتجاهاً آخر. فالمسألة ليست أنّهم يختلفون في طبيعة الملكات، لكنهم يختلفون في الطابع العام لحركتهم من خلال الدور الذي تفرضه ظروفهم.
النص أم اللياقة؟
ما هي علّتكم أنتم الشيعة في وجوب اتباع أئمّتكم في الإمامة، هل تعتقدون بالنص من القران أم اللياقة؟
ــــ اللياقات لا دور لها في المسؤولية القيادية في الإسلام، والقرابة لا دور لها في هذا الشأن، فلقد قال عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة "إنّ ولي محمد مَن أطاع الله وإن بعدت لحمته وإنّ عدوّ محمد مَن عصى الله وإنْ قرُبت قرابته"(1) هكذا كانت كلمة الإمام زين العابدين (عليه السلام) "خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً"(2).
إنّ كفاءتهم (عليهم السلام) هي التي جعلتهم في هذا الموقع لا قرابتهم، وإن كان للقرابة دورها في إعطاء المسألة بعدها الوراثي فيما يمكن أن ينتقل من قريب إلى قريب بالإضافة إلى اللطف الإلهي، وبالتالي فإنّ النصّ هو الأساس عندنا.
الدور الموكل لأهل البيت (عليهم السلام):
ما هو الدور الموكل إلى أهل البيت (عليهم السلام) في مجالات الهداية والقيادة والإمامة الفكرية والسياسية؟
ــــ دورهم هو حراسة المفاهيم الإسلامية من الانحراف، وحراسة الواقع الإسلامي من الانحراف، وقيادة الواقع الإسلامي لتحقيق الأهداف الكبرى، وهذا ما عبَّر عنه الإمام عليّ (عليه السلام) في عدّة نصوص في (نهج البلاغة) ومن بين هذه النصوص: "اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسةَ في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرِدَ المعالِم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمنَ المظلومون من عبادك وتقامَ المعطّلة من حدودك"(1).
هذا هو الحق الذي يعبّر عنه عليّ (عليه السلام) في موضع آخر فيقول: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"(2) وقالها عليّ (عليه السلام) أيضاً في كلمة أخرى "أيّها الناس! ليس أمري وأمركم واحداً، إنّي أُريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"(3) "والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة"(4).
إنّهم هم أئمة الإسلام، ولذلك لا يريدون للناس أن يتشيّعوا لهم من خلال الحب الذاتي، فقد قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) فيما روي عنه "أحبّونا حبّ الإسلام" وقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) كما ورد في (الكافي): "فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء، قال جابر، فقلت يا ابن رسول الله ما نعرفُ اليومَ أحداً بهذه الصفة، فقال يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب حسبُ الرجل أن يقولَ أحبُّ علياً وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً، فلو قال إنّي أحبُّ رسول الله فرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خيرٌ من عليّ (عليه السلام) ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعَهُ حبّهُ إيّاه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبُّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمُهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر، والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة، مَن كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع"(1).
هذا هو خطّ أهل البيت (عليهم السلام) "رضا الله رضانا أهل البيت"(2) يرضون بما يرضي الله ويغضبون بما يغضب الله، وتأسيساً عن ذلك فليس التشيّع خطاً مزيداً على الإسلام، بل هو طول خطّ الإسلام يتحرّك الأئمة فيه من خلال رسول الله في أقوالهم وأفعالهم وكل مواقعهم وينطلقون على أساس الإسلام كلّه لا يزيدون فيه حرفاً ولا ينقصون فيه حرفاً لأنّهم مؤتمنون عليه في كل مجالات العامة والخاصة.
الحاكمية السياسية:
يرى البعض أنّ الحاكمية السياسية هي شأن من شؤون الأمّة، وأنّها لم ترد بنص مباشر: فما هو رأيكم؟
ــــ إنّ (الغدير) نصٌ مباشر وصاحب الغدير أعطى الضوء الأخضر لمن بعده وهكذا تكامل الأول مع الآخر.
هل للأئمة معلّمون؟
هل يتعلّم الأئمة عند معلّمين معروفين، وهل لهم شيوخ ومدرّسون؟
ــــ لا نجد في تاريخهم من يشير إلى معلّمين ومدرّسين، فلو كان هذا موجوداً لكان بادياً للناس في أكثر من موقع، فعليّ (عليه السلام) تتلمذ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث يقول: (علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي كلّ باب ألف باب)(1).
وهكذا كانوا يتعلّمون من بعضهم، وكان إلى جانب ذلك لطفٌ من الله في ذلك كلّه.
الولاء لأهل البيت (عليهم السلام):
ما هي ملاكات وأسباب تشريع الولاء لأهل البيت (عليهم السلام)؟ ولماذا عصمهم الله سبحانه؟ ولماذا تعتبرون خطّهم هو الخطّ الموصل إلى الله تعالى؟
ــــ إنّ مسألة أهل البيت (عليهم السلام) ليست مسألة نسبية ولكنّها مسألة ما يتميّزون به من علم ومن ملكات ربانية وضعها الله فيهم ومن كمال إنساني وألطاف إلهية، أمّا لماذا عصمهم فلجهة أنّهم يمثّلون خطّ الامتداد لحراسة الإسلام من الباطل ومن كان الباطل يعيش في عقله كيف يمكن أن يكون إماماً للحقّ، ومن كان الباطل يعيش في سلوكه كيف يكون إماماً للحقّ؟!
لذلك فالعصمة تنطلق من عمق معنى الإمامة ولا تنطلق من خارجها، وأمّا أنّ خطّهم هو الخطّ الموصل إلى الله فلأنهم أخذوا من النبع الصافي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله وحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قول الله عزّ وجلّ" (1) ويقول تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(2).
بين المحبّة والولاء:
المسلمون جميعاً يحبّون أهل البيت (عليهم السلام) ويقدرون منزلتهم ولكنّهم لا يعتقدون بوجوب تقديمهم على غيرهم، فكيف تستدلون على أنّ الولاء أعمق معنىً من المحبّة؟
ــــ هناك فرق بين الحبّ وبين الولاء فالحبّ هو عاطفة والولاء هو موقف والحبّ نبضة قلب، والولاء حركة عقل وحركة واقع.
لذلك نحن نفهم أنّ المولاة تعني الإتباع، وهذا هو حبّ الله وحبّ رسول الله وحبّ أوليائه {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(3).
إنّ الإتباع هو الحبّ لأنّ العلاقة معهم ليست علاقة ذاتية فعلاقتنا برسول الله ـــ مثلاً ــــ لا لكونه عبد الله بل لأنه رسول الله في خطّ الرسالة، فهو الرسول في رسالته وفي كيانه وفي القرآن الناطق، فلقد تجسّد القرآن فيه كما تجسّد في المعصومين من أهل بيته (عليهم السلام).
فمن أجل هذا يحبُّ المسلمون أهل البيت ويعظّمونهم، أمّا الخلاف فهو على الخلافة وعلى المرجعية الفكرية، ونحن فإنّنا نريد لمن نختلف معهم أن ندخل في حوار يعقد على العلم وعلى الموضوعية وعلى ما قاله الله ورسوله بشأنها لأنّ ذلك هو الذي يمكن أن يوصلنا إلى القناعة {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(4)، فإذا تنازعنا في الواقع الإسلامي فعلينا أن نلتقي على كتاب الله لنعرف ماذا قال الله وأن نلتقي على ما ثبت عن رسول الله لنعرف ماذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لنأخذ بهذا العمل ولنعمل بذاك.
إقصاء الأئمّة (عليهم السلام) عن القيادة:
ما هو دور الأئمة في الحياة والمجتمع في حالة إقصائهم عن القيادة السياسية؟ وهل ينقص هذا الإقصاء من منزلتهم أو يلغي إمامتهم؟
ــــ إنّ الأئمة (عليهم السلام) في عقيدتنا هم خلفاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصياؤه وأمناء الله تعالى على خلقه، ففي الزيارة: "السلام عليك يا أمين الله في أرضه وحجّته على عباده" وهذا ما يزار به عليّ (عليه السلام) وكل إمام.
أما دورهم في الحياة والمجتمع فهو دور الإسلام الذين يتحمّلون مسؤوليته ويمثّلون دور القيادة فيه، فالإسلام جاء من أجل أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن أجل أن يهديهم إلى صراط العزيز الحميد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1)، ولذلك فإنّ دور الأئمة (عليهم السلام) أن يقدّموا للناس الإسلام الأصيل إسلام العقيدة والشريعة والمنهج، وإذا لم يستطيعوا أن يتسلّموا الحكم والمسؤولية فإنّ ذلك لم ينقص من مقامهم.
إنّ أي عالِم مفكّر يحمل للناس ما يمكن أن يرتفع بمستواهم إذا رفضه الناس أو لم يستجيبوا له فإنّ ذلك لا ينقص من مكانته شيئاً، لأنّ مكانته تنطلق من طبيعة العناصر الذاتية الموجودة فيه، وقد يوحي بذلك الحديث الوارد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحسنين (عليهم السلام) "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"(2)، لأنّ الإمامة لا تأتي من الخارج من خلال انتخاب الناس له أو من خلال بيعة الناس له، وإنّما تأتي من الداخل فهو ـــ أي الإمام المعصوم ـــ يملك الشرعية في عناصر شخصيته ممّا أولاه الله سبحانه وتعالى من ذلك كلّه.
لذلك فنحن نقول إنّ دور الأئمة (عليهم السلام) هو دور القيادة الثقافية ودور القيادة الروحية ودور القيادة السياسية ودور القيادة الاجتماعية، وعندما أبعدوا عن مواقعهم الشرعية وانفتحوا على الناس وعرّفوهم ماذا يأخذوا وماذا يدعون وعرّفوهم كذلك الخطّ الصحيح من الخطّ المنحرف، واستطاعوا أن يحرسوا المفاهيم الإسلامية من كلّ انحراف، وكان دورهم رائعاً وعظيماً في ذلك كلّه لا سيّما عندما نقرأ إشراقة الإسلام في كلماتهم ونقرأ انطلاقة الإسلام وعمق الإسلام وحركية الإسلام ومنهجية الإسلام في عليّ (عليه السلام) والأئمة الآخرين.
إنّ مشكلة عليّ عند شيعته قبل غيرهم أنّه مظلوم من قبلهم أشدّ الظلم، فلقد كان يقول "سلوني قبل أن تفقدوني فإنّي بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض"(1) ويأتيه شخص ليسأله (كم شعرة في رأسي)؟ ونحن لا نعرف من عليّ إلاّ أنّه قتل (عمرو بن ودّ العامري) ولا نعرف منه إلاّ أنّه قتل (مرحب) ولكن هل نعرف إضافة إلى ذلك كلماته وقيمة وخطّه الفكري وخطّه الروحي وآفاقه العالية والتحليق في عالم المعرفة كما في قوله (عليه السلام): "لو كشف الغطاء ما ازددتُ يقيناً"(2) مَن منكم يعيش معنى فكر عليّ وقِيَم عليّ؟ مَن منكم يقارن بين الفكر الذي يتمثّله بقضايا الحياة والسياسة والاجتماع والحرب والسلم؟ مَن منكم يقارن بين ما عنده من فكر وبين ما عند عليّ من فكر؟ نحن الآن شيعة لعليّ، ولكنّنا لا نفهم عليّاً، ولا نسأل عليّاً، ولا نحاول أن نتفهّم عليّاً، وعليّ كما يقول بعض الغربيين "لو كان عليّ موجوداً الآن لرأيت مسجد الكوفة مملوءاً بالقبّعات الغربية" فنحن لا نقرأ ولا نسمع ولا نتحاور إنّما نعرف كيف نشتم، ونعرف اللّعنات وكيف نسبّ وكيف نتراشق بالاتهامات. وكان يقول عليّ (عليه السلام) "إن هاهنا لَعِلْمَاً جَمّاً وأشار إلى صدره (عليه السلام) لو أصبتُ له حَمَلَة"(3)، إنّ أئمّتنا (عليهم السلام) ملؤوا الدنيا علماً في المسائل الفكرية والسياسية، ونحن نريد الارتباط بخطّ أهل البيت (عليهم السلام) لا بأشخاصهم، وإلاّ فما فائدة بكائنا عليهم وحبّنا لهم وتقبيلنا أضرحتهم ثم نرجع وكأنّنا وفّينا قسطنا للعلى، ونحن شيعة أهل البيت لكنّنا نحفظهم بالشكل ونخذلهم في الموقف وفي الخطّ وفي الرأي (حسبُ الرجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولاّه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال إنّي أحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرسول الله خير من عليّ (عليه السلام) إنّ أهل البيت خطّ وليس أهل البيت جسداً (ثمّ لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً)(4).
مواقف أهل البيت (عليهم السلام) السياسية:
يتساءل البعض عن أنّ المواقف السياسية لأهل البيت (عليهم السلام) لم تكن واضحة كأساليب سياسة تواجه الحكومات غير الشرعية ما عدا مواقف الإمام علي والحسن والحسين (عليهم السلام)؟
ــــ الذين يتساءلون في الحقيقة لم يقرأوا الأئمة جيداً، فعندما نقرأ سيرة الأئمة (عليهم السلام) نجد أنّهم هم الذين خلقوا العقدة السياسية في ذهن كل سائر على خطّ أهل البيت ضدّ كلّ حاكم غير شرعي.
ولو تأملنا لرأينا أنّ الواقع الشيعي وعلى مدى الزمن كان يحمل في عقله عقدة ضدّ أي حاكم غير شرعي فمن أين أتى هذا؟ فمثلاً عندما يأتي صفوان الجمّال إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) "قال دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام) فقال لي يا صفوان كلُّ شيء منك حسنٌ جميل ما خلا شيئاً واحداً قلتُ جُعلت فداكَ أيَّ شيء؟ قال إكراءك جمالك من هذا الرجل (يعني هارون) قلتُ والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا أبعث معه غلماني، فقال لي صفوان أيقعُ كراؤك عليهم؟ قلتُ: نعم، جُعلت فداكَ، قال: من أحبّ بقاءهم فهو منهم ومن كان منهم فهو وردُ النار، قال صفوان: فذهبتُ وبعتُ جمالي عن آخرها فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني، فقال لي يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك، قلت: نعم، فقال: ولمَ، فقلتُ: أنا شيخ كبير وأنّ الغلمان لا يقوون بالأعمال فقال: هيهات هيهات، إنّي لأعلمُ من أشار عليك بهذا، وأشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلتُ ما لي ولموسى بن جعفر، فقال: دع هذا عنك فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك(1).
فالأئمة كانوا حاسمين في المسألة السياسية وعندما كانوا يطلبون من شيعتهم الأخذ بالتقية أو المجاملة أو المداراة فلكي يحفظوا الخطّ ويحموه لا من أجل الاعتراف بالشرعية، ولذلك أقول قبل أن تتساءلوا عن مواقف الأئمة وأفكار الأئمة اقرأوا الأئمّة جيداً.
قيمة العقل عند أهل البيت (عليهم السلام):
ما هي قيمة العقل عند أهل البيت (عليهم السلام) هل هو مصدر استنباط واكتشاف للشريعة؟ وكيف نفسّر ردّ الإمام الصادق (عليه السلام) على (أبان بن تغلب) "إنّ السنّة إذا قيست محق الدين" (عليه السلام)؟
ــــ العقل كما ورد في الأحاديث المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) "هو الرسول الباطن والرسول عقلٌ من خارج" وروى لنا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الله أنّه "لما خلق الله العقل قال له أدبرْ فأدبرْ، ثم قالَ له أقبِل فأقبَل، فقال وعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً أحسنَ منك، إيّاك آمر وإيّاكَ أنهى وإيّاك أُثيب وإيّاك أعاقب"(1). وقد تحدّث الأئمة (عليهم السلام) عن العقل بما لا مزيد عليه، ولكنّ المراد من العقل القطعي أي العقل الذي ينطلق من الحكم الحاسم الذي لا مجال فيه لأي توقّف.
أمّا مسألة القياس التي بدأها (أبو حنيفة) إمام المذهب الحنفي واعتبرها دليلاً من أدلة استنباط الحكم الشرعي فعلى أي شيء تعتمد؟ إنّ القياس يستند إلى حكم وارد في الشريعة ليطبقه الفقيه على موضوع لا نصّ في الشريعة عليه لمجرّد التشابه بنسبة 50% أو 60% في حين ينبغي أن يكون حكم هذا الموضوع الذي ليس فيه نصّ مثل حكم الموضوع الذي فيه نص، لماذا؟ لأنّهما يشبهان بعضهما البعض في بعض الخصائص وعلى هذا الأساس نقيس بعض الأحكام في بعض الموضوعات على أحكام أخرى في موضوعات أخرى وهذه هي فكرة القياس.
أمّا الأئمة (عليهم السلام) فيقولون بأنّ الإنسان الذي يريد أن يقيس شيئاً على شيء فلا بدّ أن يعرف عمق الأساس الشرعي، بمعنى أنّ الأحكام الشرعية تابعة لمصالح ومفاسد في متعلّقاتها، ولا بدّ أن تعرف أنّ هذا الحكم قد انطلق من هذه المصلحة بنسبة 100% حتى تقدر أن تنقل الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، أما إذا كانت النسبة 50% أو 60% فهذا ظنٌّ {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}(1)، وعند الفقهاء مصطلح (منصوص العلّة) فطالما عرفنا أنّ حرمة الخمر لإسكارها فلو فرضنا أنّ شيئاً ليس اسمه خمراً ولكنّه مسكر فلا بدّ أن نحكم أنّه حرام، لماذا؟ لأنّ الخمر حرمت للإسكار والإسكار موجود في هذا فإذن يكون هذا حراماً أيضاً، فقضية القياس عمل (بالعقل الظنّي) والعقل الذي هو حجّة إنّما هو (العقل القطعي) وهو العقل الذي ينطلق بنسبة مائة بالمائة أو ما يقارب المائة بالمائة وهو ما يسمى بـــ (الاطمئنان).
أحاديث الأئمة (عليهم السلام):
قرأت في أحد الكتب الإسلامية أنّ أقوال الأئمة (عليهم السلام) من أهل البيت هي على طبق الكتاب والسنّة وليست أدلة شرعية في مقابلها؟
ــــ أقوالهم (عليهم السلام) هي السنّة لأنّ أهل البيت ليسوا رواة وإن كان كل ما قالوه هو قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لذلك قولهم سنّة لأنّ قولهم هو قول رسول الله ولأنّ فعلهم فعل رسول الله، ولأنّ تقريرهم لما شاهدوه هو تقرير رسول الله.
فلذلك يقولون للناس ما يقوله الكتاب، ويقولون لهم ما تقوله السنّة، أي ما يقوله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
رفض التعايش مع الظلم:
طهارة أهل البيت (عليهم السلام) تكمن في عدم مساومتهم واستسلامهم لقوى الباطل مهما كلّفتهم التضحيات، وعلى أساس ذلك كيف تنظرون إلى مسألة التكيّف والمعايشة في ظلّ سياسات معينة؟
ــــ إنّ على المؤمن أن يعيش الرفض للباطل كلّه وللظلم كلّه وللاستكبار كلّه في قلبه "مَن رأى منكراً فلينكره بيده إنْ استطاع فإنْ لم يستطع فبلسانه فإنْ لم يستطع فبقلبه فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنّه لذلك كاره"(1).
المهم أن تكون الإنسان الرافض للواقع الفاسد من حولك ثمّ تحرّك رفضك في خطّ إمكاناتك، فإذا كنت تستطيع أن تحوّل الرفض إلى ثورة، فالثورة واجبة عليك، وإذا استطعت أن تحول الرفض إلى احتجاج في الكلمة فالاحتجاج بالكلمة واجبٌ عليك، وإذا لم تستطع ذلك فابقِ الرفض في قلبك وأبقِ العبوس في وجهك أمام الظالمين ما أمكنك ذلك حتى تنمو شجرة الرفض للباطل كلّه في قلبك، ولتسقيها بإيمانك وبإحساسك بالواقع ووعيك بكلّ النتائج السلبية، حتى إذا رأيت الأرض صالحة بعد ذلك فانقل تلك الشجرة من قلبك إلى أرض الواقع.
استنطاق سيرة المعصومين (عليهم السلام):
ما هي أفضل طريقة في استنطاق سيرة المعصومين (عليهم السلام) بحيث يمكن أن نعيشها ونستمتع بها؟
ــــ في دائرة المعصومين هناك جانب يتّصل بالغيب في شخصيتهم من خلال كراماتهم التي أكرمهم الله بها والتي تعطيك معنى انفتاحهم على الله، وهناك دائرة أخرى وهي دائرة سيرتهم، فيما قالوا للإنسان من كلمات الحقّ التي يريدون له أن ينطلق فيها.
فلا بدّ أن تكون لنا ثقافة سيرتيّة من خلال كلمات المعصومين (عليهم السلام) ونحن نؤمن بنبوّة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونعرف شيئاً من بعض سيرته، لكن كم نحفظ من كلمات رسول الله في حياتنا؟ ففي البيت والأسرة له كلمات "خيركم خيركم لعياله وأنا خيركم لعيالي" ولا بدّ أن نعرف كيف هي حياته مع الناس؟ ما هو أسلوبه في العلاقات الإنسانية؟ ما هي تطلّعاته؟ وكيف هو في حربه وفي سلمه؟ كيف هو مع أعدائه ومع أتباعه؟ نحن نحتاج، أن نعرفه من خلال قوله وفعله، وأن تكون لنا ثقافة حياته.
وهكذا عندما نقف عند عليّ (عليه السلام) فماذا نعرف عن عليّ (عليه السلام) إنّنا نعرف كيف ضرب (مرحب) وكيف ضرب (عمرو بن عبد ود) ولكن هل نعرف عن عليّ تلك القمّة الفكرية الرائعة التي أطلّت على واقع الإنسان كلّه فاستطاعت أن تخطّط له منهجاً، وأطلّت على الحياة كلّها فاستطاعت أن تحقّق الصورة الكبيرة؟ ما هي كلمات علي في واقع النفس وفي واقع المجتمع وفي واقع الحرب والسلم؟ ما هو سرُّ عليّ في ذلك كلّه؟ مَن منّا يحفظ كلمات عليّ (عليه السلام)؟ وهكذا عندما نتحدّث عن أي إمام فإنّك تشعر أنّ هناك غنىً في الجانب الثقافي في حياتهم ولكن المشكلة هي في فقرنا فيما الثروة موجودة عندنا لكنّنا لا نحرّكها، ولا نوظّفها تماماً كما يقول ذلك الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمولُ
هذه هي المشكلة، ولذلك ما أريد أن أقوله هنا هو أنّكم عندما تكونون أتباع هؤلاء الكبار العظماء لا بدّ أن تكون حياتكم صورةً لما قالوه، وصورةً لما فعلوه، وعندما نحدّق بهم فإنّنا نجد أنّ صورتهم هي صورة القرآن وحديثهم حديث القرآن، ومن هنا فإنّ علينا أن نستهدي القرآن في هداهم، وأن نستهدي هداهم فيما فسّروا به القرآن، وفيما استوحوه من القرآن.
وإنّني أتساءل: هل أنّ أغلب أتباع أهل البيت (عليهم السلام) يعرفون أهل البيت؟ نعم، إنّكم تعرفون مواليدهم وتصفّقون جيداً في تلك المواليد، وتعرفون مآسيهم وتبكون جيداً في مآتمهم كما تأخذون بكل وسائل الفرح في مواليدهم، لكن أين أنتم من وسائل الفكر والقلب والروح والحركة والحياة والجهاد؟ ادخلوا إلى حياتهم يُدخلوكم إلى آفاقهم، فآفاقهم رحبة رحابة الإسلام وواسعة سعة الإسلام.
المرحلية في عمل الأئمة:
سمعنا أنّ لكم رأياً حول نظرية السيّد الشهيد (الصدر) في المرحلية في عمل الأئمة وأدوارهم، هل يمكن إيضاحه؟
ــــ كما يظهر من رأي السيّد الشهيد الصدر (رض) أنّه يقسّم حياة الأئمّة (عليهم السلام) إلى أدوار بمعنى أنّ هناك دوراً لعليّ (عليه السلام) ودوراً للحسن والحسين، وإنّ هناك دوراً لكلّ إمام أو أكثر من إمام بحيث يعملون ضمن برنامج خاص يتحرّكون فيه من خلال المرحلة التي يعيشون فيها، وبمعنى آخر فإنّ هناك دوراً معيناً ومرحلة معينة تفرض نفسها عليهم فيطبّقونها.
لكنّني أتصوّر أنّ قضية الأدوار تتركّز بالنسبة لكلّ المصلحين ولكلّ العظماء عندما تكون الظروف بأيديهم، فعندما يمكنك أن تصنع الظروف يمكنك أن تخطّط لهذه المرحلة التي لا بدّ فيها من الدعوة والتبليغ والتوعية، وفي المرحلة الثانية لا بدّ لك من العمل السياسي، وفي المرحلة الثالثة لا بدّ من العمل الثقافي، وفي المرحلة الرابعة لا بدّ من العمل الجهادي، وهكذا.
فعندما تكون الظروف طوع يديك وتستطيع أن تسيطر على الظروف فبإمكانك ـــ حينذاك ــــ أن ترسم لها الخطة، أمّا عندما لا تكون الظروف كذلك، وعندما تتحرّك هذه الظروف خارج إرادتك، فعليك أن تعطي الظروف ما تحتاجه. وثمّة فرق بين أن ترسم للمستقبل دوره وبين أن تقف بانتظار المستقبل بحيث يقدم لك حاجاته وتعطيه حاجاتك التي ربّما تكون في بعض الحالات حاجات مرحلة سابقة، وقد تكون حاجات مرحلة متأخرة، ولذلك ففي دراساتي لحياة الأئمة (عليهم السلام) لم أجد هذا النوع من التنظيم المرحلي في مسألة الأدوار، وإنّما أُلاحظ أنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا كالأنبياء يواجهون ظروفاً صعبة واسعة أو ضيّقة فيتحركون في حجم هذه الظروف ويحاولون أن يتغلّبوا على ضغوطها فيوّسعون الظرف أو يضيّقونه لا ضمن خطط مسبقة وإنّما في خطط فرضتها طبيعة الواقع وأوضاعه.
في رحاب المعصومين (عليهم السلام):
كيف يتسنى لنا أن نعيش في رحاب المعصومين (عليهم السلام) الذين غابوا عنّا أجساداً وأنتم تؤكّدون حضورهم بيننا؟
ــــ من عاش فكرهم لم يشعر أنّهم غائبون، أنا لم أستطع، وأحدّثكم عن تجربة، أنا لم أستطع أن أتصوّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غائباً، لأنّني أعيش يومياً في كلّ آفاقه وأساليبه وكلماته ولا أستطيع أن أتصوّره ميتاً لا من خلال حياته عند الله، لكنّني أتصوّر أنّ حضوره هو أكبر من حضور كلّ الذين يعيشون بيننا، لأنّ حضور النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآل بيته (عليهم السلام) ليس حضور الجسد ولكنه حضور العقل، والقلب والروح والحياة. وهكذا لا أتصوّر عليّاً غائباً، حتى عندما أزوره، فلا أتصوّره جسداً ميتاً أمامي، ولكنّني أتصوّره قمّة روحية وفكرية تطل علينا، بل تفرض وجودها فلا نملك إلاّ أن نعيش معها.
هل الحسين (عليه السلام) غائب عنّا؟ هل يتصوّر أحدنا أنّ الإمام الحسين ميّت لا حراك فيه وهو يعطينا كل هذه الحركة وكل هذا الامتداد وكل هذا الفكر؟!
لقد قالها عليّ (عليه السلام) وهو يصوّر الفرق بين المال والحياة والعلم "هلك خزّان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة"(1).
فكيف إذا كان الغائبون هم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة من أهل بيته؟ إنّنا نعيش حضورهم بحضور فكرهم وسيرتهم وكل روحانيّتهم وكل جهادهم وكل عطائهم لنجعلهم يعيشون حياتنا.
ونحن وإن كنّا نريد زيارة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكنّنا نريده أن يزورنا، أن نشعر أنّه معنا، ولا نريد فقط أن نذهب إلى السنة الأولى من الهجرة أو السنة العاشرة من الهجرة، بل نريد من رسول الله أن يزورنا في حربنا وسلمنا وفي كل مشاكلنا وقضايانا ليقول لنا كما كان يقول لأولئك السلف الصالح: حلّوا هذه المشكلة، وانطلقوا لهذه الحرب، وسالموا هنا وانفتحوا هناك، حتى نشعر أنّه يوجّهنا في كل حركة نقوم بها، ولهذا كنتُ أتصوّر أنّنا نعقد مع عليّ حديثاً صحفياً بحيث نقدّم له بعض المشاكل الموجودة عندنا ونقول له يا أبا الحسن: ما حلّ هذه المشكلة؟ ونلتقط الحلّ من (نهج البلاغة) فلا تستنطقوه في التأريخ، وإنّما في حركة الحاضر التي عالجها بكلّ فكره، وهذا هو الذي يجعلنا نعيش أهل البيت (عليهم السلام) ونعيش كل المجاهدين وكل العظماء، بعيداً عن الجانب الشخصي ــــ المحض ــــ في حياتهم، وإن كان الجانب الشخصي مهماً، لكن أن نعيشهم في الجانب الذي جسّدوه إسلاماً وروحانية وانفتاحاً على الله وقربة له.
فمشكلتنا ـــ هي ــــ أنّنا نجسّد الأشخاص العظماء فنرتبط بهم ارتباط الذات بالذات لكنّنا لا نحاول أن ننطلق إلى مواطن عظمتهم.
ذريّة بعضها من بعض:
كيف أصبحت سلسلة أهل البيت (عليهم السلام) المعصومين من نسل واحد بالتواتر، فهل للإرادة الإلهية في هذا الموضوع يد؟
ــــ إنّ الله سبحانه وتعالى يصطفي أنبياءه وأولياءه ويعصمهم من خلال ما يحتاجونه في كل مواقع مسؤولياتهم في الحياة إنْ في النبوّة وإنْ في الإمامة، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ*ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}(1).
طب أهل البيت (عليهم السلام):
من المعروف أنّ هناك كتباً في طب أهل البيت مثل طب الإمام الكاظم وطب الرضا، ولكن من الناس مَن يحسب نفسه موالياً عندما يأخذ الكتاب ولا يؤمن به، قائلاً ما دخل الإمام في الطب فهل ذلك يستلزم الهتك؟
ــــ عندما نأخذ طبّ الإمام الرضا (عليه السلام) أو طبّ الإمام الكاظم (عليه السلام) وما نقل عنهم فلا بد أن نتوثّق، ولذلك فقبل أن نطبع كتاباً أو ننسبه إلى إمام من الأئمة لا بدّ من التثبّت والتدقيق فإذا ثبت للإمام فلا يجوز هتكه.
الإمامة مقدّس بذاته:
ماذا يترتّب على قولنا إنّ الإمامة وما هو قابل للتحوّل ليس بمقدّس؟
ــــ تارة نقول ليس بمقدّس في ذاته، وتارة نقول ليس بمقدّس عند جميع المسلمين، فالإمامة هي مقدّس في ذاته، لأنّنا نعترف بأنّها حقيقة إيمانية لا يشكّ فيها، وكلّ حقيقة مقدّسة، وهي أمر ثابت عندنا من خلال الأدلة الصحيحة القطعية وليست قابلة للتحوّل، ولكنّها غير مقدّسة عند مَنْ لا يؤمنون بالإمامة، وهي قابلة للتحوّل عندهم، كأي شيء يختلف فيه الناس.
غير أنّ مشكلة بعض الناس هي أنّهم لا يفهمون اللغة العربية ولا يفهمون المصطلحات، وعلى مَن يريد أن يفهم الكلام أن يفهم أولاً كيف ينبغي أن تُقرأ اللغة العربية ولا سيّما في الأساليب الحديثة.
رأي الشهيد الصدر بالإمامة:
يرى الشهيد الصدر (رض) بأنّ الإمامة ليست من البديهيات التي لا تحتاج إلى برهان، وكذلك اختيار الإنسان مقابل القول بالجبر، فما هو رأيكم؟
ــــ إنّ السيّد الشهيد الصدر (رض) هو إنسان مفكّر ويعرف جيداً الفرق بين البديهي والنظري، فكلّ مسألة نحتاج فيها إلى الاستدلال على ما نراه حقّاً تجاه الآخرين فهي مسألة نظرية، وكل مسألة لا نحتاج فيها إلى الاستدلال فهي جليّة مثل الشمس. فقضية الإمامة وقعت مجالاً للجدل بين المسلمين، وقد ألّفت المئات من الكتب في الإمامة من قبل السنّة والشيعة، فكيف تكون بديهية، نعم قد يحصل للإنسان مثلاً القطع من خلال الأدلة الموجودة عنده لكن حصول القطع عندك لا يكفي حصوله لدى الآخر، إذ ليس من الضروري أن كل الناس الآخرين الذين يخالفونك بالرأي الذي تراه صواباً يكونون معاندين، بل قد تتشابه الأمور وتلتبس عليهم.
أمّا قضية الجبر والاختيار فهي من المسائل الكلامية التي وقعت بين "الأشاعرة" و"المعتزلة" و"الإمامية"، وكذلك ألّفت فيها الكتب وهي قضية نظرية وليست قضية بديهية، وقد يذهب بعض الناس إلى الاختيار على أساس الدليل، ولنفرض بأنّ هذا وذاك مقتنع أيضاً، لكنّ المسألة بحسب طبيعتها ذات وجهتي نظر.
قادة المسلمين:
هل الأئمة قادة لكلّ المسلمين أم للشيعة فقط؟
ــــ إمامتهم ثابتة عندنا فهم قادة لكلّ المسلمين وأئمّة لكل المسلمين.
إحتكار شيعي:
إذا كان الأئمة (عليهم السلام) لكلّ المسلمين فلماذا نجد الشيعة يقصرونهم على مذهبهم دون بقية المذاهب؟
ــــ نحن نعتبرهم ينفتحون من خلال رسالة الإسلام كلّها، لذلك قال الإمام زين العابدين (أحبّونا حبّ الإسلام) أي لا تضيّقوا القضية وتحبوننا حبّا شخصياً.
إيصال الأئمة إلى العالم:
ما هي الخطوات التي يجب اتّباعها برأيكم لإيصال الأئمة إلى جميع المسلمين؟
ــــ بنشر فضائلهم ونشر تعاليمهم وكلماتهم وكل الخطوط الفكرية والخطوط العملية التي انطلقوا فيها من خلال الخطّ الإسلامي الأصيل.
دور الأئمة السياسيّ:
بعد أنْ تمّ إبعاد أهل البيت (عليهم السام) عن موقعهم السياسي هل جمّد الأئمة دورهم في العمل السياسي؟
ــــ لم يجمّدوا دورهم ولكنهم كانوا يتحرّكون فيه بحسب الثغرات والفرص الموجودة أمامهم، وبحسب الظروف التي كانوا يتحرّكون فيها سياسياً ولكن بشكل غير مباشر، وهذا ما نلاحظه في دراسة نشاطهم الثقافي والروحي والسياسي والجهادي في الظروف المتنوعة التي كانت تحكم نوعية الحركة في هذا الجانب أو ذاك، وإنّنا نعتقد أنّ الأئمة (عليهم السلام) قد ساهموا مساهمة فعّالة في إبقاء خطّ المعارضة متحرّكاً للواقع المنحرف في كل أدوارهم العملية.
بيت في مقابل بيت
ورد في بعض أحاديث أهل البيت "مَن قال فينا بيتاً من الشعر بنى الله له بيتاً في الجنّة" فهل يشمل ذلك الشعر الشعبي؟
ـــ إذا صحّ ذلك، فبشرطها وشروطها، فلا بدّ للشاعر أن يكون متحرّكاً في خطّهم وفي ولايتهم وسائراً بموجب طاعة الله سبحانه وتعالى تماماً كما في حديث "سلسلة الذهب" عن الإمام الرضا (عليه السلام) عندما قال حدّثني أبي موسى بن جعفر عن أبي إلى أنْ قال عن الله سبحانه وتعالى "كلمة لا إله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمِنَ من عذابي" ففرح الجميع بذلك لأنّهم جميعاً يقولون "لا إله إلاّ الله" ثم أنّه أطل برأسه وقال "بشرطها وشروطها وأنا من شروطها". صحيح أن في الشعر الذي يقال في أهل البيت (عليهم السلام) ثواباً ولكن بشرطها وشروطها، ولا فرق بعد ذلك بين الشعر الشعبي وشعر القريض.
هل الإمامة حاجة؟
هل الإمامة حاجة أساسية بالنسبة للأمة لا يمكن الاستغناء عنها، وإذا كانت كذلك فما هي الخسائر المترتبة على إقصاء الأئمة من حاضر الأمة؟
ــــ إنّ الإمامة تعني امتداد الخطّ النبوي في الإمام، وامتداد القيادة الرسالية في موقعه، وعلى ضوء هذا فإنّ الخسارة التي تلحق الأمة بغياب الإمامة أو بإقصاء الأئمة عن واقع الحياة هي خسارتها للقيادة الصالحة الرشيدة وللخطّ الإسلاميّ الأصيل.
إسكات أصوات التفريق:
إنّي أرى أنّ السنّة والشيعة لا يحتاجون إلى جماعة تقريب بقدر ما هم بحاجة إلى الإخلاص لله وإسكات أصوات التفريق، فما هو رأيكم؟
ــــ إنّ جماعة التقريب، ودعاة الوحدة، والمخلصين للإسلام يتحرّكون من أجل أن يعمّقوا هذا الإخلاص في نفوس المسلمين وأن يقودوهم لكي يتحرّكوا في مذاهبهم من موقع إسلامهم لا من موقع عصبيّاتهم.
تقديم الأئمة على النبيّ:
نرى الكثير من أتباع خطّ أهل البيت لا يكترث عندما نحدّثه بحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حين أنّه لا يرضى إلاّ بأقوال الأئمة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) فما هو سبب هذا التصرُّف؟
ــــ هذا تصرّف خاطئ، إذ علينا أولاً أن نلتزم بكتاب الله، وأن نلتزم بعد ذلك بما صحّ عن رسول الله، وعن الأئمة (عليهم السلام) فعندما يتحدّث أهل البيت يقولون (لا تقبلوا علينا إلاّ ما وافق كتاب ربّنا وسنّة نبينا) فهم يؤكّدون الكتاب والسنّة، ونحن في الوقت الذي نؤكّد فيه القاعدة الإسلامية في اعتبار الكتاب والسنّة الأساسين للحقيقة الإسلامية، لا نعتقد أنّ الشيعة يقلّلون من قيمة الأحاديث الواردة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ معاذ الله ـــ بل إنّهم يرون أنّ عظمة الأئمة (عليهم السلام) أنّهم ينطلقون من النبيّ في كل تعاليمهم وأحاديثهم، فربّما كانت ملاحظة السائل ناشئة من رفض بعض علماء الشيعة في أبحاثهم الفقهية أو التاريخية بعض الروايات الواردة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعدم وثاقتها لديهم من حيث السند.
2 ــــ فاطمة الزهراء (عليها السلام)
الاقتداء بالزهراء (عليها السلام):
ما هي الأمور التي يمكن أن تقتدي بها المرأة المسلمة بالسيدة الزهراء (عليها السلام)؟
ــــ أن تخلص لبيتها كما أخلصت السيدة الزهراء (عليها السلام) لبيتها في مسؤوليتها في البيت بالرغم من ضعفها الجسدي، وفي إخلاصها لزوجها ولأولادها وفي إخلاصها قبل أن تتزوّج لبيتها الأبويّ ولقد كانت تخدم رسول الله وترعاه بعطفها وحنانها حتى قال عنها (أمّ أبيها).
وأن تقتدي المرأة بالسيدة الزهراء فذلك يعني أن تكون لها شجاعة الوقوف مع الحق مهما كانت النتائج والظروف بحجم طاقاتها وقدراتها مع المحافظة على الحدود الإسلامية في حياتها، وأن تقتدي بالزهراء يعني أن تتثقّف (عليها السلام) وتتعلّم لتعلِّم النساء، كما الزهراء ـــ وهي العالمة غير المعلَّمة ـــ فقد كانت الزهراء (عليها السلام) كما يروى في سيرتها، تعلّم النساء اللاتي يأتينها بين وقتٍ وآخر.
موقف النبيّ من فاطمة:
كيف كان نظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى فاطمة (عليها السلام) وهل كانت تمثّل طموحه في عبادتها وخلقها؟
ــــ كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) بالنسبة لرسول الله تمثّل منتهى الطموح لأنّها "أمّ أبيها" ولأنها بضعة منه، والنبيّ لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى فعندما يقول "يرضيني ما يرضيها ويغضبني ما يغضبها" وما يرضيه يرضي الله وما يغضبه يغضب الله، وفاطمة (عليها السلام) ترضي الله بكلّ أفعالها، وتطيعه بكلّ أفعالها ولا تغضب إلاّ لغضب الله فيما لا يريده الله، لذلك فإنّ فاطمة كانت إسلاماً كلّها، وإسلاماً في عقلها وإسلاماً في قلبها وحياتها وكانت الطهارة كلّها والنقاء كلّه. من هنا كانت العلاقة بينها وبين رسول الله علاقة حبّ لا حدود له، يمتزج فيه الجانب العاطفي بالجانب الروحي والرسالي وكدليل على حبّ فاطمة لأبيها ما نقله الرواة جميعاً أنّه عندما دنت منه الوفاة ضمّها إليه فبكت ثم ضمّها إليه فضحكت وسئلت ـــ بعد ذلك ـــ فقالت ما كنت لأفشي سرّ رسول الله في حياته، وتحدّثت بعد وفاته أنّه أخبرها أنه سيرتفع إلى الرفيق الأعلى فبكت وحدّثها، كما تقول الرواية، أنّها أول أهل بيته لحوقاً به فضحكت. تصوّر أنّ إنسانة في مقتبل شبابها وهي زوجة وأم، تفرح لأنّها سوف لن تفارق أباها كثيراً. إنّ هذا يدلّ على عمق المحبّة محبّة الزهراء (عليها السلام) لأبيها وهذا ما يفسّر عظمة حزنها عليه. فلقد كانت تعيش الحزن كلّه ولكنه حزن الصابرين وليس حزن الجازعين لأنّ الزهراء كانت مشغولة بالكثير من مهمّاتها في تلك المرحلة. ولقد أجاد أمير الشعراء "شوقي" عندما قال عنها:
ما تمنّى غيرها نسلاً ومنْ يلد الزهراءَ يزهد في سواها
طريق الاقتداء بالزهراء:
هل يمكن أن تذكروا لنا أهم صفات الزهراء (عليها السلام) التي يمكن لنسائنا أن يقتدين بها؟
ــــ لعلّ من أولى الصفات التي تتّصل بالحياة العملية العائلية للمرأة هي أن على الفتاة التي يعيش أبوها رسالةً في الحياة أن تعيش معه لتعطيه من روحها روحاً ومن حنانها حناناً ولتنفتح عليه. وأن تعيش مع أمّها وأبيها إخلاص البنت في كل الطهر الذي تعيشه والعاطفة التي تغدقها كما كانت فاطمة (عليها السلام) تعيشها لأبيها عندما كانت مع أبيها بعد أن فقد زوجته، أمّها "خديجة الكبرى" حتى إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال عنها أنّها "أمّ أبيها" ويمكن الاقتداء بها في إخلاصها لبيت الزوجية واعتبار حركة المرأة في البيت رسالة لا تمثّل نقصاً في شخصيتها أو في واقعها.
فلقد كانت الزهراء (عليها السلام) تقوم بأعباء وشؤون البيت من صنع الغذاء والرعاية ولذلك كانت زوجة كأفضل ما تكون الزوجات، وكانت أمّاً كأتمّ ما تكون الأمهات. فلقد كانت تعيش البيت رسالة ولم تكن لتعيش البيت مجرّد روتين تقليدي كما تعيشه الزوجات أو الأمهات في البيت، وعلى المرأة المسلمة التي بدأت تكثر الكلمات حولها من أنّ البيت لا يمثّل إنسانية المرأة وما إلى ذلك، عليها أن تعتبر أنّ عطاءها في البيت في رعاية زوجها وأولادها يمثّل حركة إنسانية في العطاء، ويمثّل حركة من أجل إيجاد الجيل الصالح للمستقبل بحسب ما يحبّه الله ورسوله.
على المرأة أن تفكّر بهذه الطريقة، ثمّ عليها أن تقتدي بالزهراء (عليها السلام) في حركتها في الواقع العام، فنحن نعرف أنّ وقتها في الأيام التي عاشتها بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان موظّفاً في الدفاع عن حق عليّ (عليه السلام) سواء في خطبتها في المسجد أو في حديثها مع النساء أو في حديثها مع رجالهن عندما جاءوا إليها، أو في حديثها مع المهاجرين والأنصار عندما كانت تطوف عليهم كما تقول بعض الأخبار عن سيرتها. كانت قضيتها أنّها وقفت لتتحدّث ولتخطب ولتحتجّ ولتثير الكثير من علامات الاستفهام، لذلك تقول أنّها كانت تمثّل المرأة التي تتحمّل مسؤوليتها في كل قضايا الحقّ لا في كلام خفي تتحدّث به ولكن بصوت قوي صارخ ينطلق بكلّ قوّة وبكلّ صفاء وبكلّ إخلاص.
لذلك، علينا أن نعرف أنّ عظمة الزهراء (عليها السلام) أنّها عاشت، منذ انتقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الرفيق الأعلى حتى جاءتها الوفاة، لهمّ الحقّ الذي تؤمن به، كانت تتحرّك في نشاط دائم من أجل أن تركّز الحقّ كما يريد الله سبحانه وتعالى. ومن خلال هذا نعرف أنّ مسؤولية المرأة أن تواجه واقعها وأن لا تكون معزولة عن الواقع وأن لا تبتعد عن القضايا الحيوية إذا كانت تملك طاقة وقوّة في الحركة وظروفاً مناسبة فإنّ عليها أن تواجه حاجة الواقع إلى نشاط المرأة كما هي حاجة الواقع إلى نشاط الرجل لتأمر بالمعروف ولتنهى عن المنكر هناك، ولتقف بوجه التحديات حيثما نشبت، غير أنّ المسلمين لم يعيشوا هذا المستوى من الخطّ القرآني الذي يفتح للمرأة أبواب الحركة الاعتراضية وأبواب الحركة التوجيهية في المجتمع كما يفتحه للرجل في حين يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(1). وكان للزهراء (عليها السلام) كما ينقل بعض كتّاب سيرتها حلقة ممتدة في نساء المهاجرين والأنصار، حيث كانت تلقي عليهم الدروس وكانت الزهراء (عليها السلام) كما تقول عنها عاشئة (أم المؤمنين) "ما رأيت أصدق منها إلاّ أباها".
وهكذا كانت الصادقة الأصدق، وكانت العابدة الأعبد، وكانت الإنسانة التي تفكّر بالناس قبل أن تفكّر بنفسها. وعلى المرأة والرجل أن يتحرّكا في هذا الخطّ لتكون فاطمة قدوة لهما في العطاء وفي الحركة وفي العلم وفي العبادة.
مناقشة رواية عن الزهراء (عليها السلام):
كيف نوفّق بين قول الزهراء (عليها السلام) بأفضلية المرأة التي لا ترى الأجنبي ولا يراهاالأجنبي، وبين عملها خارج البيت ومخالطتها الرجال الأجانب؟
ــــ يقول السيّد الخوئي (رحمه الله) بأنّ هذه الرواية ضعيفة وأنّها رواية مرسلة فهي ضعيفة السند، وحتى لو أخذنا بها فالمقصود فيها المبالغة كما لو كنّا نقول بأنّ أفضل وأكثر الأشياء التي تحمي المرأة من أي انحراف هو الابتعاد عن الرجال.
3 ــــ الإمام علي (عليه السلام):
تنصيب عليّ (عليه السلام):
كيف نصّب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً خليفة له هل هو مجرّد ترشيح ــــ كما يقول بعض الكتاب ــــ أم أنّه عين عليّاً للخلافة بأمر من الله سبحانه؟
ــــ عقيدتنا في هذا المجال أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عيّن علياً للخلافة في (عيد الغدير) بأمر من الله سبحانه وتعالى باعتبار الآية التي نزلت {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1) فهذه الآية بحسب التفاسير الواردة نزلت في يوم الغدير، فالإسلام الذي بناه رسول الله لا بدّ أن يكون هناك من يقوم مقامه في حفظه وحياطته.
هذا أمر والأمر الثاني، إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لهم "أَلَسْتُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم" أي أنّني أملك من السلطة على المؤمنين أكثر ممّا يملكونه على أنفسهم، قالوا: (اللّهم بلى) قال (اللهم أشهد) ثمّ قال (مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه) وهذا هو أحد عناصر حاكمية الحاكم، فالله قد جعل له هذا الأمر، أي أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، جعله لعليّ (عليه السلام) وقال (مَن كنتُ مولاه) أي مَن كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه، (اللهم وال مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه)(1) فهل هذا ترشيح أو هو تعيين؟! ثمّ نزلت الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(2) والمروي أنّه نصب لعليّ خيمة وطلب من المسلمين أن يحيّوه بصفته أميراً للمؤمنين، وقد نقل عن الخليفة الثاني أنّه قال: "بخٍ بخٍ لكَ يا عليّ أصبحتَ مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة"(3) فقضية الولاية كانت بتعيين من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبأمرٍ من الله.
الإمامة الفكرية والسياسية:
يحاول بعض الباحثين فهم النصوص الواردة حول إمامة عليّ (عليه السلام) بأنّها لا تعني الإمامة السياسية وإنّما تعني الإمامة الفكرية، فماهو تعليقكم على ذلك؟
ــــ إنّ الإمامة الفكرية تعني أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) هو مجرّد مفكّر، ومجرّد عالم، في الوقت الذي نعرف أنّ إمامته إماة سياسية، والدليل على ذلك هو (حديث الغدير)، الذي بدأه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"(4) وهذه الكلمة هي دليل حاكمية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فباعتباره أولى بالمؤمنين من أنفسهم فإنّه يستطيع أن يتصرّف في أنفسهم بما لا يملكونه هم.
فهذا دليل على أنّ للنبي في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ*لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(5)، شخصية الداعية وشخصية الرسول وشخصية المبشّر {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}(1)، وهي شخصية الإضاءة الفكرية والإضاءة الروحية {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(2) وهناك شخصية الحاكمية وهذه هي الشخصية السياسية للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتي تتجلّى في قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(3) في كل المجالات، ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "أَوَلَسْتُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: "اللهم أشهد" ثمّ قال "مَنْ كنتُ مولاه" أي مَن كنتُ أولى به من نفسه فعليٌّ أولى به من نفسه "اللهم والِ مَنْ والاه" وهذه الكلمات وردت في روايات نقلها الخاصة والعامة ومن طرق عديدة كثيرة. وللآخرين أن يناقشوا في ذلك لكنّ هذا هو ما نعتقده، ولقد جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(4) حيث جاء التفسير أنّها منطلقة من ولاية عليّ (عليه السلام) وبعد أن عيّن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً إماماً بأمرٍ من الله نزلت الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(5).
فإذاً الإمامة التي نعتقد بها هي إمامة فكرية وروحية وسياسية في كل المجالات، لأنّ عصمته (عليه السلام) تعني أنّ فكره حق، وأنّ حكمه هو الحق وهو القائل "ما ترك الحق لي من صديق"(6) وقال فيه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (عليٌّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار)(7).
معارك عليّ (عليه السلام) ضدّ المشركين:
لماذا لم ينقل الإمام عليّ (عليه السلام) المعركة إلى خارج دولته مع الكفار والمشركين الذين يحيطون بدولة الإسلام حتى يستطيع جمع الطاقات منهم؟
ــــ لم يمكّنوه من ذلك فهو يقول: (فلما نهضتُ بالأمر نكثت طائفةٌ ومرقت أخرى، وقسطَ آخرون كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1) بلى، والله لقد سمعوها ووعوها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها)(2).
فبمجرّد أن انطلق في الحكم خرج (طلحة) و(الزبير) و(عائشة) واستلموا الكوفة في البداية فأربكوها، وراحوا بعد ذلك إلى (البصرة) فكيف يستطيع أن يحارب ولديه خلفيّة فتنة في الداخل، وما أن انتهى من ذلك حتى انبرى (معاوية) فاقتطع (الشام) وبينما هو يحارب (معاوية) طلع له (الخوارج) فهذه هي مشكلة الإمام عليّ (عليه السلام) وإلاّ فهو قد قاتل المشركين قبل ذلك، ولم يكن ليريد القتال وإنّما أراد تركيز حكمه.
موقف عليّ (عليه السلام) من أهل العراق:
هل أفلحت جهود الإمام عليّ (عليه السلام) في بناء قاعدة قوية له في العراق (الكوفة)؟ ولماذا ورد الذمّ الكثير لأهل العراق؟ ــــ يومذاك ــــ هل يقصد الإمام بذلك رفع معنوياتهم؟
ــــ إنّ مشكلة الإمام عليّ (عليه السلام) منذ أن تسلّم الخلافة هي التركة الثقيلة المتنوّعة في سلبياتها وفي إيجابياتها وفي مشاكلها وفي الألغام المزروعة التي كانت تنفجر بين وقت وآخر، ولذلك فإنّه تحدّث عن تجربته في الخطبة (الشقشقية) قائلاً: "فلما نهضتُ بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسطَ آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(3)، بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"(4)، ثم قال: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"(5).
كانت القاعدة مهتزّة وبعيدة عن أهدافه، إلا القليل منها.. حتى كان يقول "سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض"(1). فيقف شخص ويقول: "فكم في رأسي طاقة شعر"(2) وكان يخاطبهم ليستنطقوه "إنّ ها هنا لعلماً جمّاً ـــ وأشار إلى صدره ـــ لو أصبت له حملة"(3) ومعنى ذلك أنّ علياّ (عليه السلام) كان يريد أن يعطي القاعدة كل ما عنده حيث يقول: "علّمني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألف باب يفتح من كل باب ألف باب"(4). ولذلك أراد أن يعطي بعض الناس كل علمه كما أراد أن يرفع مستواهم وأن ينطلق بهم إلى الآفاق الواسعة ولكنهم كانوا يعيشون في آفاق ضيقة من خلال الرواسب الكثيرة، وكان يقول لهم "ليس أمري وأمركم واحد إنّي أُريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"(5). كانوا يريدونه أن يلعب على الحبال وأن يلف ويدور وأن يعمل بالغدر وكان يقول لهم "والله ما معاوية بأدهى منّي ولكنّه يغدرُ ويفجرُ ولولا كراهيةُ الغدر لكنتُ من أدهى الناسِ ولكنّ كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة ولكلّ غادر لواء يعرف به يومَ القيامة والله ما استغفل بالمكيدة ولا أستغمَزَ بالشديدة"(6). كان يريد أن يرتفع بمجتمعه ولكنّ مجتمعه كان يريده أن ينزل إلى الوحل الذي يعيش فيه ذلك المجتمع.
أمّا قضية ذمّه لبعضهم فلأنّهم خرّبوا كلّ خططه، فلقد كان يريد لهم أن يكملوا عملية الحسم في تركيز قواعد الدولة التي يحكمها ولكنّهم كانوا في وقت الشتاء يقولون إنّها (صبّارة القر) وفي وقت الصيف أنّها (حمّارة القيظ) ولذلك عطّلوا عليه خطّته وعطّلوا عليه حركته فلم ينجح النجاح المنشود لأنّ الواقع الذي يعيش فيه كان واقعاً دون المستوى الذي يعيش فيه، ولم يكن هذا الواقع يريد أن يرتفع إلى مستواه، وتلك هي مشكلة الأنبياء والعظماء والمفكّرين في كل عصر، فبعض الناس يتّبعون المتخلّفين أمّا المنفتحون الواعون فلا يراد لهم أن يعيشوا مع الناس أو ينطلقوا معهم، لكن المؤسف أنّ هؤلاء لا يعرفون إلاّ بعد فوات الأوان فلم يعرف الناس عليّاً في حياته، أمّا الآن فقد عرف العالَم عليّاً (عليه السلام) في كلّ فكره وأصبح غير المسلمين يعرفونه أكثر ممّا يعرفه المسلمون أنفسهم.
بناتنا لبنينا:
ما هي الحادثة التأريخية حول حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) "بناتنا لبنينا" وهل يحقّ لسادتنا الأفاضل التمسّك بهذا الحديث عند تزويج بناتهم؟
ــــ إنّ عليّاً (عليه السلام) هو إمام الإسلام وإمام الإسلام لا يمكن أن يتحدّث بحديث على خلاف القيمة الإسلامية في مسألة الزواج وهي: "المؤمن كفؤ المؤمنة" ولذلك فلقد زوّج أهل البيت أناساً آخرين كما تزوّجوا من أناس أخرين، وقد كان القمّة في ذلك الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي كانت له أَمَة فأعتقها وتزوّجها واستنكر عليه ذلك (عبد الملك بن مروان) لأنّه أساء إلى شرف نسبه ولكنه تحدّث له بحديث من خلال القيمة الإسلامية فأسكته. لذلك فنحن لا نستطيع أن نوافق على ظاهر هذا الحديث ــــ لو ثبتت صحّته ــــ.
معنى الحوض:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنّهما لن يفترقا حتى يَرِدا عليّ الحوض" ما معنى الحوض؟ وماذا عن زمن الغيبة الكبرى؟
ــــ إما أن نفهم الحوض بمعناه المادي وهو النهر الذي يسقي منه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العطاشى في يوم القيامة، وإمّا أن نفهم منه الجانب المعنوي، وهو حوض الرحمة وحوض الكرامة. وأمّا ماذا عن زمن الغيبة الكبرى؟ فإنّ الحديث يقول بما مضمونه، ما دام الكتاب موجوداً فهناك شخص من العترة موجود، وإمام الزمان هو الذي يتحرّك مع الكتاب حتى في غيبته لأنّه حاضر في غيبته من خلال خطّ أهل البيت (عليهم السلام) الذي يحمله ويتحرّك فيه نوّابه والسائرون في خطّه، وهي ـــ في كلّ حال ــــ أمر اختصّ الله بعلمه في نهاياته كما في بدايته.
الخلافة ثابتة:
هل أنّ تعيين الإمام عليّ (عليه السلام) للخلافة من قبل النبيّ في "غدير خم" كان أمراً متغيّراً أو ثابتاً، أي هل أنّ تعيين الإمام قام على أمر ثابت أو كان يمكن أن تكون الخلافة لأي شخصٍ آخر كأمر متغيّر؟
ــــ عندما يثبت لدينا أنّ عليّاً (عليه السلام) نصّبه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمر من الله في قوله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}(1) وهو أمر ثابت فليس هناك أيّ متغيّر، لأنّ القضية ليست قضية اختيار النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنّما هي بحسب ما عندنا من أدلّة اختيار الله له.
وليس ذلك إلاّ من جهة أنّ الله قد رأى فيه الكفاءة لذلك، وأراد للنبيّ أن يؤكّد ذلك. فالمسألة هي من المسائل الثابتة بحسب طبيعتها وفي الدليل عليها. لكنّ المسلمين عندما اختلفوا في ذلك أصبحت المسألة مثار جدل. ولكنّها عندنا ثابتة بثبات الحقّ.
حديث مكذوب:
جاء في الحديث في بعض كتب إخواننا أبناء العامة أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) كان يحب بنت أبي لهب حتى عرفت السيدة فاطمة (عليها السلام) وبكت وشكت إلى رسول الله حتى غضب (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على عليّ؟
بعض الناس لا يعرف كيف ينسب إلى الإمام عليّ ما يشوّه بعض ملامح صورته. فنحن نعلم أنّ علاقة عليّ (عليه السلام) بالزهراء وعلاقة الزهراء بعليّ وعلاقة عليّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد بلغت من العمق العقلي والصفاء الروحي والاستقامة الإنسانية أعلى درجات العلاقات، فقد كان عليٌّ (عليه السلام) يجد في الزهراء الإنسانة النموذج في العصمة والمعرفة والوعي والتضحية الخالصة كزوجة وأم بحيث كان بيته معها بيت الرسالة، ونعرف أيضاً أن شغل عليّ بجهاده وبربّه يمنعه من ذلك كلّه ولم ينقل في تاريخه أنّ لديه اهتماماً كبيراً في الجانب النسائي في اهتماماته الذاتية وانطلاقاته العاطفية ولذلك "حدّث العاقل بما لا يليق فإنْ لاق له لا عقل له".
إسلام عليّ (عليه السلام):
يقول أحد العلماء حول أنّ علياً أوّل من أسلم أنّه لم يكن مشركاً ليسلم فما هو رأيكم؟
كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوّل من أسلم {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}(1) فليس من الضروري أن تكون مشركاً ليكون إسلامك إسلاماً، فالقضية هي أنّك لست مسلماً لعدم وجود الدعوة الإسلامية وحينما تأتي الدعوة تصبح مسلماً، ولذلك كان عليّ أوّل مَن أسلم لأنّ هناك خصوصية يجب أن تُعرَف وهي أنّه عاش مع رسول الله منذ طفولته الأولى وهو ابن سنة أو سنتين حيث ربّاه رسول الله، وكان عليّ نفسه يقول عن ذلك، "كان يشمّني عرفه وكان يلقي عليّ في كل يوم من أخلاقه علماً وكنت أتبعه اتّباعَ الفصيل أثر أُمّه"، لذلك كان إسلام عليّ إسلاماً ناضجاً، غير أنّ بعض الناس يقول بأنّه إسلام صبيان، في حين أنّ عليّاً حصل على الكثير من رسول الله ومن ألطاف الله تعالى في تلك السنين العشر التي عاشها مع رسول الله قبل أن يبعثه الله نبيّاً ممّا ترك بصمات النبيّ واضحة على تربيته وشخصيته الإسلامية بحيث ربّى رسول الله له عقله ولم يكن له رفيق من الصبيان يلعب معه، كان يخرج مع النبي إلى "غار حراء" ليتأمّل معه بحجم ما كان يملكه من التأمّل حتى كان يقول "كنت أسمع رنين الوحي" وقال له النبيّ "إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى". ولقد جاء في بعض سيرته، ولم أوثّق هذه الرواية، لكنّها مشهورة، قيل له لِمَ لمْ تستشر أباك عندما دخلت في الإسلام؟ والأطفال عادة يستشيرون آباءهم في ذلك كلّه، قال لهم "إنّ الله عندما خلقني لم يستشر أبي فكيف أستشير أبي عندما أريد أن أؤمن بربّي"!! هل هذا إسلام صبيان؟! أو إنّه إسلام إنسانٍ يعيش العقل.
لم يشرك عليٌّ بالله ولذلك يقال عنه "كرّم الله وجهه" أي عن السجود لصنم، لأنّه كان مسلماً بالمعنى الإسلامي العام كما كان رسول الله مسلماً في معنى إسلام إبراهيم، ثم كان مسلماً بإسلام محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
التنصّل عن نصرة عليّ:
ما تفضّلتم به هو بعض من مزايا أمير المؤمنين (عليه السلام) فما هي أسباب تنكّر أو تنصّل الناس عن نصرته واندفاعهم لنصرة مناوئيه؟
ــــ لقد تحدّث عن ذلك عندما قال: فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه وتعالى حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1) "بلى لقد سمعوها ووعوها ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"(2) وقال أيضاً "لم تكن بيعتكم إيّاي فلتةً ليس أمري وأمركم واحداً إنّني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"(3) وتلك هي مشكلة بل مأساة عليّ (عليه السلام).
العمل للدنيا والآخرة:
"إعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً" هل هذا القول منسوب إلى الإمام عليّ (عليه السلام)؟
ــــ المعروف أنّها كلمات عليّ (عليه السلام) وهو يعلّمنا أن نوازن بين الدنيا والآخرة، فإذا كانت لك مشاريع في الدنيا إعمل كما لو كنت دائم البقاء، ولكن وأنتَ تعمل فكّر في الآخرة حتى ينطلق طموحك في الامتداد وحتى تنطلق تقواك في أن تركّز طموحك على ما يرضي الله ويحبّه.
لو كان الفقر رجلاً:
ما هي المناسبة التي قال فيها سيّدنا عليّ (كرَّم الله وجهه) "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"؟
ــــ ليس من الضروري أن تكون هناك مناسبة بل يكفي أن يؤكّد فظاعة الفقر وتأثيره السلبي على الواقع الإيماني والتلازم بين الفقر والكفر فإذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك!.
احتجاج عليّ بالنص:
نرجو أن تجيبوا بالتفصيل لماذا لم يحتج عليٌّ على مَن نازعه الخلافة بالنص كما تدّعي الشيعة لا قبل خلافته ولا بعدها الأمر الذي يدلّ على عدم وجود النص عليه؟
ــــ هناك أحاديث كثيرة تحدّث بها عليّ (عليه السلام) قبل الخلافة وحتى في خلافته حتى أنه طلب من أشخاص كانوا حاضرين في يوم الغدير أن يدلوا بشهادتهم، وعندما لم يدل أحدهم بشهادته خوفاً أو مجاملة دعا عليه عليّ (عليه السلام) فأصيب بالبرص، وكان يقول "أدركتني دعوة العبد الصالح"(1) فنحن نروي أنّه تحدّث عن ذلك قبل خلافته وبعد خلافته، وعندما نقرأ خطبة (الشقشقية) نعرف كيف يؤكّد عليٌّ حقّه بطريقة غير مباشرة على أساس أنّه هو صاحب الكفاءة العليا ومن الطبيعي أن يكون صاحب الموقف.
4 ــــ الإمام الحسن (عليه السلام)
الخيانات في جيش الحسن (عليه السالم):
حينما يرد الحديث عن الإمام الحسن (عليه السلام) فإنّ البعض يشير إلى الخيانات الكثيرة التي وقعت في قيادات جيشه بما يوحي بأنّ الحسن (عليه السلام) شخصية عسكرية ضعيفة لا تحسن تقدير الأمور، فما هو ردّكم على ذلك؟
ــــ هل أنّ خذلان الجيش للقائد يدلّ على أنّ القائد شخصية ضعيفة؟ فلو صحّ أنّ الخذلان ناتجٌ عن طبيعة شخصية القائد فما هو القول في شخصية الإمام عليّ (عليه السلام)؟ صحيح أنّه كان في بداية معاركه يقود جيشاً قوياً ولكن في (صفّين) انقلب عليه جيشه وخذله وكان يريد لهم أن يواصلوا قتال (معاوية) وكانوا يقولون في الشتاء إنّه البرد وفي الصيف إنّه الحرّ حتى قال لهم ما مضمونه، لقد أفسدتم عليّ رأيي لو صارفني معاوية فيكم مصارفة الدينار بالدرهم لأعطيته عشرة وأخذت منه واحداً لاجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم.
إنّ القضية ليست ضعف القيادة ولكنها الظروف القلقة المعقّدة التي كانت تحيط بالإمام الحسن (عليه السلام) وتحيط بتلك المرحلة التي تعب فيها الناس من الحرب وضاعت عليهم خطوط الأشياء وتحرّكت الكثير من التعقيدات الجاهلية وغير الجاهلية.
5 ــــ الإمام الحسين (عليه السلام):
تحليل ثورة الحسين (عليه السلام):
اختلفت تحليلات علماء الشيعة لثورة الحسين (عليه السلام) فما هو سبب اختلافهم؟ وما هو تحليلكم لهذه الثورة؟
بعض الناس لا يطيقون أن يتحدّث أحد عن الجهاد الاستشهادي، والبعض لا يحبّون أن يتحدّثوا عن الثورة حتى في المواقع التي لا يملك الإنسان أن يربح فيها على مستوى الحاضر، وبعض الناس يخضعون الحسين (عليه السلام) لآرائهم الفقهية، فلقد سمعنا من بعض الفضلاء أنّه يقول بأنّ حركة الإمام الحسين لا تنسجم مع الأصول الفقهية الشرعية، لأنّ الحسين ألقى بنفسه في التهلكة وعندنا إلقاء الناس بالتهلكة حرام.
لهذا إذا أردنا أن نطبّق قصة الحسين على الموازين الفقهية، نقول إنّ للحسين تكليفاً خاصاً لا نفهمه، فما معنى أن يكون للحسين تكليف خاص غامض خفي ولا علاقة له بالخطّ العام، فحتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت له خصائص محدّدة ولكنه كان يتحرّك كمسلم في أصغر حكم شرعي، ولذلك نعتبر أنّ كل ما فعله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو شريعة، وأنّ السنّة عندنا هي قول المعصوم وفعله وتقريره. فإذا كان للحسين (عليه السلام) تكليف خفي ولم يكن سائراً على خطّ الإسلام الذي يسير عليه كل المسلمين، لا نستطيع ـــ حسب هذا الرأي ــــ أن نقتدي بالحسين (عليه السلام) لأنّنا نقول إنّ للحسين تكليفه ولنا تكليفنا الخاص تماماً كما نقول أنّ للنبيّ تكليفه ولنا تكليفنا الخاص.
لقد كان الحسين واضحاً جداً في شعاراته التي طرحها: "إنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدي"(1) حيث استخدم كلمات قرآنية، ففي القرآن {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}(2) وفي القرآن {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3) يقول (عليه السلام) "خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"(4) هذا أمر، والأمر الآخر قوله (عليه السلام) "أمّا بعد فقد علمتم أنّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد قال في حياته مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لِحُرَمِ الله ناكثاً لعهد الله مخالِفاً لسنّة رسول الله يعملُ في عبادِ الله بالإثم والعدوان ثم لم يُغيّر بقول ولا فعل كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولّوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد بهذا الأمر"(5).
فثورته تغييرية وإصلاحية لا بالمعنى الإصلاحي الذي نفهمه وإنّما إصلاح الواقع الفاسد على أساس التغيير، إصلاح على أساس أنّ الحسين كان ينطلق للإسلام وكان يقف أمامهم صباحاً ومساءً يرشدهم ويعظهم ويفسّر لهم أحكام الإسلام، كان الحسين داعية، وكان ثائراً وكان مصلحاً.
وليس للثورة الحسينية مميّزات ذاتية ــــ بمعنى أنّها تكليف خاص وذاتي للحسين ــــ فكل عناصرها إسلامية وهي تتحرّك في خطّ الإسلام سواء إسلام الدعوة أو إسلام الثورة أو إسلام الحركة والمنهج والوعظ والحوار، ومشكلتنا هي أنّ الكثير من الناس يريدون أن يخضعوا الحسين لظروفهم ويخافون إنْ هم أرادوا أن ينطلقوا بالحسين في الآفاق الواسعة أن يكلّفهم ذلك مشاكل ويتعبهم ويغيّر أوضاعهم.
بطلة كربلاء: الإنسانة المجاهدة
لقد شاركت المرأة المسلمة مشاركة فعّالة في أحداث واقعة كربلاء وكان الدور الريّاديّ في ذلك للحوراء زينب، فهل تتفضّلون بتسليط الأضواء على دورها وموقعها في حركة الثورة الحسينية المباركة؟
ــــ لا بدّ لنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نتعمّق في شخصية السيدة زينب (عليها السلام) من خلال دلالات كلماتها ومواقفها وعناصر شخصيتها الروحية والإنسانية، لأنّ الصورة عندنا هي أنّ السيدة زينب (عليها السلام) إنسانة نائحة يثقلها الحزن فتبكي بشكل متتابع وتنطح رأسها بمقدم المحمل وتشقّ ثيابها وتلطم وجهها، هذه هي الصورة العامة، ولكنّنا عندما ندرس زينب (عليها السلام) من الداخل، ومن خلال ما تحرّكت به في الخارج، نجد أنّها الإنسانة الرسالية التي ترفض كلّ شيء من أجل حركة الرسالة في ساحة الصراع، ونرى أنّ زينب (عليها السلام) هي الإنسانة القوية قوّة الإنسان الذي يؤمن بالله ويثق ويصبر على قضائه.
ونرى في زينب الإنسانة الصلبة الشجاعة التي تقول كلمة الحقّ أمام السلطان الجائر الذي يملك أن يقتلها كما سلّط الجيوش حتى قتل أهل بيتها، ونرى قمّة موقف زينب (عليها السلام) عندما وقفت أمام يزيد لتعطي الموقف الإسلامي الذي يتحدّى الظالم ويتحدّى الظلم ويشمخ بالرسالة ويعيش عنفوان الحقّ. إنّنا عندما نتصوّر زينب في ذلك كلّه نرى أنّ دموعها التي سالت في كربلاء كانت دموعاً حارّة من القلب ولكنّ دموعها لم تغلب عنفوانها. أمّا أحزانها التي عاشتها في كربلاء فقد كانت أحزاناً إنسانية تنفتح على عناصر الحزن في الواقع من موقع القلب الرقيق ومن قلب الإنسان الذي يعيش عمق آلام الإنسان الآخر قريباً أو حبيباً أو أخاً أو مؤمناً.
ولكنّ حزنها لم يغلق عنها فرحها بالرسالة وتلك قيمة عاشوراء، فالحسين الذي كان مثقلاً بآلامه وأحزانه كان يعيش الفرح العميق عندما قال: (هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله)!!
فتعالوا نستعرض حركة زينب منذ المدينة حتى الشام، فكيف هي زينب؟ لأنّنا نحتاج أن نجعل من زينب البطلة الرسالية القوية المصارعة المجاهدة قدوةً لكلّ امرأة حتى تشعر المرأة بالشرعية في ساحة الصراع السياسية حركةً وجهاداً وتحدّياً. فزينب ابنة عليّ وابنة فاطمة كانت على خطى أمها في الانطلاق في ساحة الصراع لتؤكّد موقف الحق بكلّ صلابته، لذلك قال بعض الشعراء عنها:
بأبي التي ورثت مصائب أمها فغدت تقابلها بصبر أبيها
أمّا نحن فنقول أنّها ورثت مواقف أمّها وورثت قوّة أمها وورثت رسالية أمّها وورثت حركيّة أمّها وكان صبر أمها صبرها وهو صبر الرسالة وصبر الحق.
المتمرّدة على الذات:
في البداية ينقل تاريخ السيرة الحسينيّة أنّ ابن عباس جاء إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ليقترح عليه أن لا يخرج النساء معه فاندفعت زينب لابن عباس بكلّ قوة وهي الزوجة وهي الأم، والزوجة عادة تحبّ أن تجد لها مبرّراً أمام مسؤولياتها حتى لا تبتعد عن زوجها، والأم تحبُّ أن تبقى مع أولادها تحضنهم وتحميهم حتى تمتد بهم الحياة.
ولكن كان لزينب شأن آخر، فلقد كانت تفكّر في الحسين لا على أساس أنّه أخ ولكن على أساس أنّه الإمام وحركة الإمام حركة الرسالة، وكانت تعرف أنّ الحسين خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه، وأنّه خرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك قالت ــــ كما قيل ــــ: "يا ابن عباس أتشير على سيّدنا وشيخنا أن يتركنا هنا، لا والله لا نستطيع مفارقته حتى ينالنا ما ناله، لأنّ القضية هي أنّه سائر في طريق الأذى في الله والألم في سبيل الله وفي طريق أن يعيش كلّ المشقّة والجهد في سبيل الله. فهي تريد أن ينالها ما يناله حتى تقترب من الله وتعذر إليه كما يقترب هو إلى الله ويعذر إليه.
هذه زينب التي تمرّدت على كلّ عناصر الذات في حبّ الراحة مع الزوج ومع الأولاد لتنطلق في خطّ الجهاد ولو بطريقة أخرى.
الصامدة بوجه المصائب:
وفي مواقفها في كربلاء بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) عندما خرجت إلى مصرعه بكامل حشمتها ووقارها ووضعت يديها تحت الجسد الطاهر ورفعته قليلاً نحو السماء وهي تقول كما تروي أحاديث السيرة النبوية "اللّهم تقبّل منّا هذا القليل من القربان" فكأني بزينب تقول إنّ كلّ ما نقدّمه في سبيلك يا ربّ قليل، فلو قدّمنا أنفسنا وإخوتنا وأولادنا وأحبابنا فإنّنا لا نستطيع أن نفي حقّك يا ربنّا، إنّك خلقتنا وحمّلتنا مسؤولية دينك وحمّلتنا مسؤولية سبيلك فيا ربّ هؤلاء الحسين وأولاده وإخوانه وأهل بيته وأصحابه قربانٌ قليل فتقبّله، وكأنّها تتحسّسُ ذلك فتقول يا ربِّ أقدّم لك كل هذا القربان من خلال حزني العميق وألمي وجهدي وما أتحرّك به من السبّي فتقبّله بأحسن القبول.
هل هذه شخصية امرأة يهزمها الحزن؟! وهل هذا هو كلام امرأة يسقطها الألم! إنّها كلمة إنسانة مسلمة مؤمنة تصلّي لله صلاةً من نوع آخر وتبتهل إلى الله ابتهالاً من نوعٍ آخر. إنّ الحسين صريع بين يديها وهو حبيبها وعزيزها وأخوها ولو عرفنا العلاقة بين زينب وبين الحسين (عليه السلام) لعرفنا أنّها علاقة الروح بالروح والعمق بالعمق، ومن هنا نعرف معنى هذه الكلمة، إنّها تنطلق من عمق هذه الإنسانة، ومن هنا أيضاً نعظّم زينب (ع) في عناصرها الروحية الإيمانية لا من خلال نسبها فحسب.
الرسالية التي تتحدّى:
وفي الكوفة، في مجلس بن زياد لمّا عرفها ابن زياد وقال لها شامتاً! كيف رأيتِ صنعَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ أراد من ذلك أن يعذّبها وأن يؤلمها ممّا يمثّل عمق الخبث في شخصيته وعمق الرعونة وعمق الوحشية بعدما جاء جلاوزته بها إلى مجلسه وهي ربّة الصون والخدر والعفاف، جاءت وهي ثكلى بأخيها وأولادها وبكلّ أهل بيتها وأصحابها فلو كان في هذا الإنسان ذرة من الإنسانية لتحدث بطريقة فيها شيء من اللين إذا لم يكن فيها شيء من العزاء، لكنّه قال كيف رأيت صنع الله بأخيك والعتاة المردة من أهل بيته؟ إنّه يحمّل الله المسؤولية فكأنّ الله أراد ذلك وكأنّهم انحرفوا عن خطّه، فبماذا أجابته: "والله ما رأيت إلاّ جميلاً" أفتعتقد أنّني أسقط أمام هذا أنا التي تعيش الفرح الرساليّ لأنّ فرحنا إنّما هو فيما يقرّبنا من الله وحزننا هو فيما يبعدنا عن الله.
لذلك ربّما رأيت ــــ وهذا بلسان الحال ــــ صوراً محزنة مؤلمة ورأيت أجساداً فصلت عنها رؤوسها ورأيت أجساداً مزّقت بالسهام، ورأيت الطفل كيف يذبح من الوريد إلى الوريد، ورأيت البطل العبّاس كيف تقطع يداه، ورأيت ورأيت، لكنّ ذلك عندما أطرحه في رحاب الله فإنّه يمثّل شيئاً جميلاً أفرح به ويمثّل شيئاً عزيزاً أعتزّ له "والله ما رأيتُ إلاّ جميلاً هؤلاء قومٌ كتب اللهُ عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم" أنت الآن في سلطانك وعزّك تشتم وتأمر، وتنهى، ولكن ماذا يوم يقوم الناس لربّ العالمين؟ ماذا عندما تأتي كل نفس تجادل عن نفسها؟ "وسيجمع الله بينك وبينهم يوم القيامة فتحاجّ وتخاصم فانظر لمن الفلج" مَن الذي يسكت ومَن الذي ينطق بالحق (ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة) إنّها تمثّل عمق القوّة هذه الإنسانة الثكّلى حتى أنّها تتحوّل إلى قوّة تجابه السلطان الذي يعيش خيلاء النصر.. وليس فيها شيء من الضعف، فلم يضعفها حزنها ولم يضعفها سبيها ولم يضعفها وقوفها بين يديّ هذا الظالم، ولم يضعفها ما تُقبِل عليه من إذلال ومن إهانة لأنّ قوة الحق كانت في عقلها وفي قلبها وفي روحها، لذلك فكما تحدّاها تحدّته (ثكلتك أمّك) تدعو عليه بأنْ تثكل به أمّه فاشتد غضبه فعزم أن يقتلها لولا أنْ تدخّل بعض أصحابه.
ووقفت مع أهل الكوفة الذين كانوا يتصدّقون على الأيتام فأخذت ما في أفواههم لأنّها تعتبر ذلك مظهَر ذلّ ومسكنة وهي لا تريد لأيتام الحسين (عليه السلام) وأيتام إخوته وأصحابه أن يعيشوا تحت تأثير الشفقة والمسكنة، ولذلك انتزعتها من أفواههم وقالت "الصدقة علينا حرام"، وتأمّل في وقفتها الأبيّة وعندما خطبت خطبتها التي قرّعت بها أهل الكوفة الذين كانت قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه، والتي استطاعت أن تعرِّفهم من خلال مواقفهم كيف يعيشون الحقارة النفسية أمام ما قاموا به، كما تحدّث ابن زياد، ولذلك لا أفهم ما يقال من أنّها نطحت جبينها بمقدّم المحمّل لأنّ زينب كانت لا تقبل أن يشمت بها الشامتون، وكانت لا تقبل أن تسيل منها دمعة لا لأنّها لم تعش عمق الحزن ولكن لأنّها كانت تريد أن تقدّم صورة الذين يعيشون حركة الشهادة في سبيل الله، الذين لا يمكن أن يضعفوا ولا يمكن أن يظهروا بمظهر الضعفاء أمام الذين تسبّبوا في المأساة.
صاعقة في مجلس يزيد:
وفي نهاية المطاف، في مجلس يزيد الذي أراد إذلال أهل البيت كما في استعراض عضلات سلطانه، ماذا قالت له وهو الخليفة الرسمي آنذاك، وهو السلطان الذي كنّ هي وأخواتها أسارى لديه ولا يعرفن ماذا يُفعَل بهنّ، ومع ذلك يبقى القوي قوياً ويبقى صاحب الحقّ ثابتاً في موقف الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، ويبقى الإنسان المسلم في شخص السيدة زينب (عليها السلام) يقول كلمة الحقّ عند سلطان جائر فضلاً عن أنّها أرادت أن تهدم نفسية يزيد، وأن تحقّره عند نفسه وعند مَن حوله وأن تضعف كل عنفوانه بأن تعتبره كمية مهملة لا قيمة لها ولا قوّة لها ولا تستطيع أن تحقّق شيئاً، فماذا قالت؟ (فكد كيدك) استخرج ما عندك من الكيد ومن التآمر ومن الحيل وافعل ما تشاء (واسعَ سعيك) وخطّط ما تشاء (وناصب جهدك) حاول أن تحرّك جهدك في كل سبيل (فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا) نحن باقون في الشهادة الثانية "أشهد أنّ محمداً رسول الله" ونحن أبناؤه إذا ذكر ذكرنا ما دمنا سائرين في خطّه {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1) هل تستطيع أن تحذف هذه الآية من القرآن؟! ومَن هم أهل البيت إنّهم أخي الحسن والحسين وأمي وأبي وجدّي فهل تستطيع أن تمحو ذكرهم (فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا) لا بصفة أنّنا عائلة رسول الله ولكن بصفة أنا الطليعة المؤمنة المسلمة المجاهدة في سبيل الله (وهل رأيك إلاّ فَنَد) يزول مهما امتدّ بك العيش بعد ذلك، ولم يعمّر بعد ذلك إلاّ قليلاً (وأيّامك إلاّ عدد وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي ألاّ لعنةُ الله على الظالمين) ثمّ وبّخته (أَمِنَ العدل يا ابن الطلقاء) إنّها تذكّرهُ أنّ جدّه وأنّ كل الذين كانوا معه عندما وقفوا بين يديّ جدّها وقال لهم ماذا ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، قال اذهبوا فأنتم الطلقاء، (أَمِنَ العدل يا ابن الطلقاء) هل يجازى الجميل إلاّ بالجميل فكيف جازيت جميل رسول الله بأجدادك (تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا) وكانت تعنّفه وتحقّره وتضعفه. إنّها قصة المرأة المجاهدة عندما تستنفر كل إيمانها وكل عقلها وكل روحها وكل رساليّتها في موقفها وتقرّعه في كل كلمة من كلماتها، الذي كان قوّه كلّه، فلقد كانت زينب كما سمّتها "بنت الشاطئ" بطلة كربلاء في الوعي وبطلتها في الروح وفي الإيمان وفي الموقف وفي التحدّي وفي ردّ التحدّي وكأنّ ذلك القائل كان ينطق عن لسانها عندما قال:
ملكنا فكان العفوُ منّا سجيبةً فلما ملكتم سالَ بالدّم أبطحُ
وحلّلتم قتلَ الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيهِ ينضحُ
دور التعبئة الثورية:
وهكذا ينقل في سيرتها أنّها عندما رجعت إلى المدينة تحرّكت وانفتحت وعبّأت الناس حتى كتب والي المدينة إلى يزيد (إذا كان لك شغل في المدينة فأخرج زينب بنت عليّ منها)!! لأنّ زينب كانت رمز الثورة وكانت قوّة المعارضة وكانت الإنسانة التي أكملت ثورة الحسين في الموقف وفي الكلمة وفي التحدّي الكبير.
ترسّم خطى الحوراء:
كيف يمكن للمرأة المسلمة أن تترسّم خطط وخطى الحوراء زينب في بناء شخصيتها الإسلامية وأداء مسؤوليتها في الحياة الاجتماعية؟
ــــ أن تخرج المرأة المسلمة من كل هذه القوقعة التي حبست فيها ومن كل الزاوية التي حشرت فيها لتكون المرأة أماً كأعظم الأمهات كما كانت فاطمة وزينب (عليهما السلام) ولتكن المرأة زوجة كأفضل الزوجات كما كانت فاطمة وزينب (عليهما السلام) ولتكن مسلمة كأفضل المسلمات كما كانت فاطمة وزينب (عليهما السلام) ولتكن مجاهدة كأفضل ما تكون المجاهدات كما كانت فاطمة وزينب (عليهما السلام) ولتكن الداعية إلى الله والعاملة في سبيله كما كانت فاطمة وزينب (عليهما السلام) في الشخصية الإسلامية التي لم تنحرف في قول ولا في عمل، يعطيان المرأة عندما تعيش حركة الصراع وحركة الجهاد وحركة الموقف وحركة التحدي وحركة المشاركة وفي كل ما ينطلق به المسلمون في حياتهم العامة والخاصة يعطيانها شرعية أن تخطب عندما يحتاج الإسلام إلى أن تخطب حتى في مجتمع الرجال وأن تتحرّك في ساحة الصراع حتى الدامية عندما يفرض عليها الموقف ذلك، وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخرج النساء معه في الحرب ليضمّدن الجرحى وليسقين العطشى وقبل ذلك وبعد ذلك قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}(1) وإذا كانت ثورة الحسين (عليه السلام) أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر فكم يتّسع الأمر بالمعروف وكم يتّسع النهي عن المنكر في ساحة الصراع، إنّ المؤمنين مدعوون إلى أن يتكاملوا مع المؤمنات، والمؤمنات مدعوات أن يتكاملن مع المؤمنين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
وذلك ــــ أيّها الأحبة ــــ هو درس زينب فإذا ذهبتم لزيارتها فلا تستغرقوا في ذاتها ولا تحدّقوا بالجسد الراقد في القبر ولكن استغرقوا في كل هذا التاريخ وفي كلّ هذه العبر والدروس، لتكن كلّ زيارة حركة ثقافية تعرفون فيها كيف انطلقت زينب بطلة في كربلاء للإسلام كلّه، فذلك هو الذي يعطي للزيارة معنى وذلك هو الذي يجعل من قبور الأولياء مدارس تثقيفية تنطلق بنا إلى التاريخ لندعو التاريخ إلى زيارتنا ليزورنا من خلال تاريخهم أكثر ممّا نزورهم في ذلك التاريخ.
6 ــــ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
فقه الإمام الصادق:
هل كان الإمام الصادق (عليه السلام) يمثّل الرمز الوحيد لمدرسة أهل البيت الفقهية؟ وإذن لماذا لا نعرف الكثير عن الآخرين؟
ــــ الإمام الصادق هو إمام من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهم لا يختلفون في كلماتهم، ولكنّ الفرصة التي كان يملكها في الصراع بين الأمويين والعباسيين أعطته حرية الانفتاح بكلّ علمه أكثر ممّا أعطت الأئمة الآخرين.
المذهب الجعفري:
في مناسبة مولد الإمام الصادق (عليه السلام) يثار سؤال مفاده: لماذا ينسب المذهب الجعفري إلى الإمام الصادق تحديداً، ومتى نشأت هذه التسمية؟
ــــ إنّ الكلمة الحق هي مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ولا يختصّ أيّ إمام من أئمة أهل البيت بأيّ مذهب يختلف عن الآخر، حتى إنّنا نقول إنّ نسبة المذهب إلى أهل البيت (عليهم السلام) ليست كنسبة المذهب إلى بقية أئمة المذاهب، فأئمّة المذاهب ينطلقون من اجتهادهم الذي قد يخطئون فيه وقد يصيبون، ولكنّ الأئمة (عليهم السلام) انطلقوا من خلال عمق الإشراق فيما عرفوه ورووه وحدّثوا به ووعوه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكانوا يحدّثون عنه كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) نفسه "حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي... ـــ إلى أن يصل ــــ وحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث رسول الله وحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قول الله عزّ وجلّ".
وأمّا نسبة المذهب إليه فباعتبار أنّه كان أكثر الأئمة حرية في نشر تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) التي هي تعاليم الإسلام الأصيل، خاصة وأنّ المرحلة التي عاشها كانت مرحلة الصراع بين الأمويين والعباسيين، فكان هؤلاء وأولئك مشغولين بصراعهم عن الضغط عليه ممّا جعله يملك أن يتحدّث بكل رحابة، ولهذا كانت مدرسته ممتدة، وكان ممّن تتلمذ عليه (أبو حنيفة) إمام المذهب الحنفي و(مالك بن أنس) إمام المذهب المالكي، وقد ورد عن البعض أنه دخل مسجد الكوفة فرأى فيه (900) شيخاً وأستاذاً كل يقول (حدّثني جعفر بن محمد الصادق) ولقد أحصى الرواة الذين رووا عنه الحديث من السنّة والشيعة وغيرهم فبلغوا أربعة آلاف راوٍ، وربّما لا يمثّل هذا إحصاءً نهائياً.
أما متى أطلق اسم المذهب الجعفري، فالظاهر أنّه متأخر، لأنّ كلمة المذهب لم يكن مصطلحاً عليها، ولعلّها جاءت متأخرة جداً، فعندما حصرت المذاهب الأربعة بدأ الحديث عن ذلك.
اعتزال الصادق للسياسة:
في الوقت الذي كان يمكن للإمام الصادق (عليه السلام) أن يعمل سياسياً اعتزل عن عالم السياسة، فما هو السبب في ذلك؟
ــــ هذا إن كان ما تقول صحيحاً، فالإمام الصادق (عليه السلام) تحدّث في السياسة، كما لم يتحدّث أحد في ذلك العصر، ولكنه (عليه السلام) كان لا يجد الفرصة بحسب الظروف الخانقة يومذاك، حيث لم يعطَ الفرصة المناسبة، فلم يجد القاعدة الواسعة التي يستطيع أن ينطلق منها للعمل السياسي الذي يراد من خلاله الوصول إلى الأهداف الحاسمة في استلام الحكم من أجل تطبيق شرع الله تعالى.
كيف نحيا الإمام الصادق؟
نحتفي الأيام الصادقية، فكيف نحييها؟ ولماذا اشتهر الإمام الصادق بالفقه مع أنّه كان يحيط بجميع العلوم؟
ــــ نحن نحيا الإمام الصادق (عليه السلام) في فكره وفي سيرته وآفاقه وانفتاحه على العلم بأوسع ما يكون، وعندما نقرأ سيرة الإمام الصادق (عليه السلام) وتراثه فإنّنا نقرأ تراثاً موسوعياً لا يختصّ بجانب دون جانبٍ آخر ممّا كان يتحرّك في ذلك العصر.
7 ــــ الإمام عليّ الرضا (عليه السلام):
قبول الرضا (عليه السلام) بولاية العهد:
ما هو السبب الذي دفع الإمام الرضا (عليه السلام) للقبول بولاية العهد للمأمون؟
ــــ هناك أكثر من رأي يقول بأنّ المسألة انطلقت من ضغوط واجهها الإمام وأنّها كانت ضغوطاً فوق العادة، ولكنّني أرجّح ولا أعتبر ذلك رأياً حاسماً، إن الإمام يمثّل الشرعية ولربّما رأى أنّ هذه فرصة لكي يوسّع مجال دعوته، ولأجل أن يملك الموقع المتقدّم الرسمي الذي يستطيع من خلاله أن يحمي مواقع الحق وأن يبشّر بالحق وأن يبلّغ علمه فهو يعرف أنّ الأمر لا يتم إلاّ إذا قامت الحجّة.
لماذا لم يوطّد الرضا (عليه السلام) ولاية العهد؟
كان الأئمة المعصومون على درجة عالية من الفكر والمعرفة، فقد تسنّى للإمام الرضا (عليه السلام) الوصول إلى زعامة الدولة الإسلامية، فلماذا لم يستطع تركيز نفسه في قيادة الدولة وتصحيح أمورها وإرساء الحكم من بعده لابنه الجواد (عليه السلام)؟
ــــ لم يمكّن من ذلك، فتولية المأمون العهد للرضا (عليه السلام) قد تكون منطلقة من عقدة ضدّ العباسيين الذين أرادوا أن يعزلوه ليجعلوا أخاه (الأمين) من بعده، فالقضية لم تكن عميقة الجذور عند (المأمون) ولذلك عندما استتب له الأمر ضيّق على الإمام الرضا الذي كان يعرف طبيعة الموقف تماماً، وحتى لو أراد ذلك فليس لديه الآلية التي يتمكّن بها من أن يصل إلى ما يريد.
8 ــــ الإمام محمد الجواد (عليه السلام):
إمامة الجواد (عليه السلام):
دراسة حياة الإمام الجواد (عليه السلام) كما يقول السيد الصدر (رض) من أهم الأدلة على صحّة رؤية الشيعة في الإمامة فكيف نفهم ذلك؟
ــــ ذلك لأنّ الإمام الجواد (عليه السلام) كان في سنٍ صغيرة جداً بحيث لو أردنا أن ننظر إليها فلعلّنا نحتاج إلى دراسة أوّليّاتها، ومع ذلك فعندما جمعه (المأمون) مع علماء عصره استطاع أنْ يربكهم واستطاع أن يلقي علماً دهش منه الجميع، ولو كانت المسألة شخصية لما كان له طريق إلى ذلك لا من خلال سنّه وعمره ولا من خلال الواقع الذي كان يعيش فيه فلا بدّ أن يكون هناك لطفٌ إلهي فوق ذلك.
9 ــــ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):
تسمية العسكري:
لماذا سمّي الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بالعسكري؟
ــــ نسبة إلى بلدة سامراء التي كانت تسمى بالعسكر باعتبار أنّها كانت منطقة العسكر ثم صارت مدينة بعد ذلك.
10 ــــ الإمام الحجّة المنتظر (عج):
حضور الإمام في غيبته:
كيف يتسنّى لنا أن نجعل من غيبة الإمام صاحب الأمر (عج) حضوراً؟
ــــ بأن نكون الحاضرين معه، وأن نجسّد حضورنا في الساحة، في الدعوة إلى الإسلام، وفي مواجهة الاستكبار والمستكبرين، وفي مسؤولياتنا الخاصة والعامة، نسجّل حضورنا الإسلامي في كل موقع فيه للإسلام قضية ومعركة، فعندما نحضر من خلال فكره وفكر آبائه وفكر الإسلام وفكر القرآن فإنّه يكون حاضراً بحضورنا وسنكون الجنود العاملين في خطّ الرسالة فكأنّنا معه وكأنّه معنا.
نحن الآن مثلاً نعيش في غيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكنّنا لا نشعر بحضور أحد عندنا كحضور رسول الله، فأنا لا أتصوّره غائباً ولا أستطيع أن أتصوّره ميتاً لأنني في الصباح وفي المساء وفي كل حكم شرعيّ وفي كل آية قرآنية وفي كل حديث نبوي وفي كل صلاة وفي كل صوم أجد هناك رسول الله، فكيف يكون حضور أقوى من حضوره، إنّ الحضور في العقل والروح والقلب والمذهب والحركة، هو الحضور الحقّ. وقد يكون حضور كثير من الناس غياباً فيما غياب بعض الناس هو الحضور.
النصر قبل الظهور:
هل يأتي النصر قبل خروج الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، وهل ينبغي أن نبقى هكذا إلى حين الظهور؟
ـــ نستطيع أن نحقّق النصر ولو بطريقة موضوعية كما حقّق الإمام الخميني (رضوان الله عليه) النصر في إيران بشكل باهر، وإذا كان الناس يتعلّلون ببعض السلبيات في (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) فإنّنا نعتقد أنّ الإيجابيات أكثر وأكبر من ذلك كلّه.
المهدي (عليه السلام) والحكومة الإسلامية:
هل صحيح أنّ الحجّة (عليه السلام) لا يخرج إلاّ إذا ملئت الأرض ظلماً وجوراً، أي لا توجد هناك حكومة إسلامية عندما يخرج؟
ــــ لقد جاء الحديث أنّه يخرج إذا ملئت الأرض ظلماً وجوراً ليملأها قسطاً وعدلاً، ولكن أن لا تكون هناك حكومة إسلامية قبل قيامه أو عند قيامه، أو لا يكون هناك مجتمع إسلامي منفتح على الحق والعدل فهذا ممّا لا يفيده الحديث فإنّ امتلاء الأرض ظلماً وجوراً لا يمنع من وجود حكومة إسلامية هنا وحكومة إسلامية هناك يحاربها أهل الجور هنا وهناك، فلا مشكلة إطلاقاً حيث أنّ امتلاء الأرض بالظلم والجور لا يعني شمول الظلم والجور للأرض كلّها ولكنّه يمثّل وجود مواقع صغيرة جداً لا تمثّل الطابع العام للأرض.
أدعية الفرج:
هل سيكون ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في ساعة محدّدة؟ وإذا كان الجواب إيجابياً فما فائدة "دعاء الفرج"؟
ــــ إنّ الأدعية كلّها تعبير عمّا نحمله من شوق ومن انتظار ومن إخلاص للإمام، وإلاّ فإنّ قضية ظهوره غيب من غيب الله، كما إنّ غيبته غيب من غيب الله وربّما يكون لدعاء المؤمنين بعض الأثر في تقدير الله الظهور وفي زمن معيّن فقد ورد في الحديث إنّ الدعاء من القدر.
انتظار الفرج:
ما معنى الحديث الوارد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: "أفضلُ أعمال أمّتي انتظار الفرج"؟
ــــ المقصود انتظاره في تحقيق الهدف الذي يريده، فنحن ننتظره ونحن نجاهد، وننتظره ونحن ندعو إلى الله، وننتظره ونحن نعمل في سبيل الله وننتظره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملأت ظلماً وجوراً ولسنا ننتظره ونحن في حالة استرخاء، نغتاب بعضنا بعضاً، وندخل في قضايا هامشية فهذا ليس انتظاراً بل هو تراجع وابتعاد وتقاعس وتكاسل وتواكل.
التحقيق في روايات المهدي (عليه السلام):
لماذا لم يحقّق الشيعة وعلماؤهم في أسانيد الروايات التي تتحدّث عن تفاصيل الظهور "ظهور المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)" وجزئيات حياته الشخصية المقدّسة كزواجه وأولاده وغير ذلك؟
ــــ لقد قلنا إنّ قضيّتنا معه ليست قضيّته الشخصية، هل تزوّج أو لم يتزوّج، وهل له أولاد أو ليس له أولاد؟ فهذه قضايا شخصية لم نكلّف بمعرفتها حتى بالنسبة إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّها من شؤونه الشخصية، ونحن نتّصل بالنبيّ أو بالإمام من خلال شؤونه الرسالية التي هي شؤوننا.
أمّا علامات الظهور فهناك أحاديث كثيرة بشأنها، وأعتقد أنّ الجهد في تحقيقها هو جهد باهظ، لأنّنا لا نملك التفاصيل التي يمكن أن تعطينا خطاً محدّداً في ذلك، الأمر الذي يدعها في ضبابية الغموض. فعندما يحدّثونك عن (السفياني) أو عن (الدجّال) فكيف يمكن أن تحدّد شخصيته، وحتى لو حقّقنا في صحّة هذه الروايات فإنّنا نبقى في ضباب من حيث التوقيت ومن حيث التحديد وما إلى ذلك.
لذلك فإنّ علينا أن نحقّق في مسؤولياتنا في هذه الفترة، أما قضية الظهور فكما كانت الغيبة غيباً من الله سيكون الظهور غيباً من غيب الله. فلنترك الأمر لله الذي احتفظ بغيبته ولم يطلعنا على غيبه لا في هذا ولا في غيره من أسرار الكون، ولننطلق فيما أوكل الله أمرنا إلينا وفيما حمّلنا مسؤوليته.
قيمة علامات الظهور:
ما هي قيمة علامات الظهور وهل سيؤمن الناس بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) وتشخيصه من خلال المعاجز، أم العلامات المذكورة في النصوص؟
ــــ إنّ الظهور أمر غير عادي ولن يخضع للأوضاع العادية المألوفة لدى الناس، ولا بدّ أن الله يعلّمه الناس بنحو تقوم الحجّة به عليهم، وله في ذلك الحكمة البالغة وله وسائله الخاصة التي لا تبقي المسألة غامضة أو معميّة على الذين يعيشون عصر الظهور.
الاعتقاد بالأمل قضية نظرية:
يدّعي المفكّر الإسلامي المرجع الشهيد الصدر (رض) أنّ قضية الاعتقاد بالأمل والفرج والانتصار للحقّ قضية نظرية يعتقد بها حتى الديالكتيكيون، فهل تقفون عند هذه النقطة؟
ــــ هناك فرق بيننا وبين الآخرين، فالآخرون يتحرّكون في ضباب واضطرابات النظرية، فيما نتحرّك نحن في المسألة من خلال حقيقة إسلامية. والفرق واضح بين من ينطلق نحو قضية الفرج والأمل من موقع إسلامي على أساس قاعدة إسلامية فكرية وإيمانية وبين من ينطلق من خلال افتراضات نظرية قد لا تكون أصولها الفكرية تامة من ناحية علمية.
تجربة المهدي:
هل أنّ التجربة التي يحصل عليها الإمام المهدي (عليه السلام) من خلال العمل الطويل تعتبر من مصادر علمه؟
ــــ أنا لا أوافق على هذا الافتراض فأنا أعتبر قضية الإمام المهدي ليست قضية أنّه يختزن التجربة من خلال تتابع الحضارات في جهد شخصيّ، ولقد قلت إنّه شخص غير عادي ولذلك فإنّ كلّ ما يتّصل به هو أمر غير عادي. وقد تكون هذه الفرضيات معقولة، وقد ترضي تفكير بعض الناس الذين يبحثون عن أي سرّ، ولكن ليس هناك دليل وحجّة على ذلك.
كيفية انتصار المهدي:
كيف ينتصر المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) على أعدائه وهم يملكون هذه الأسلحة الفتّاكة المدمّرة من القنابل النووية والصواريخ عابرة القارات؟ هل بالرعب أم بتعطيل هذه الأجهزة أم بإشغال بعضهم ببعض أم أنّ أنصاره سيملكون مثلها؟
ــــ هذا علم لا سبيل لنا إلى معرفته، ولا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه، وعندما نصل إلى عصره ونوفَّق لأن نعيش المرحلة التي يأذن الله فيها بالنصر سيكون كل شيء واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، وكما قلنا فإنّ لله وسائله الخاصة التي يعرّفنا بها وليّه (عجَّل الله فرجه الشريف).
تصوير الشعراء المهدي:
مشكلة بعض شعرائنا انّهم يصوّرون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) قاعداً من القاعدين بل أكثرهم تقاعساً، فهم يندبونه للظهور للثأر من الظالمين والدفاع عن المستضعفين وهو لا يتحرّك حسب نظرتهم، ناسين أنّ مسألة ظهوره غيب في علم الله وليس الأمر بيده وأنّه أكثر منهم تحسّساً للواقع المليء بالظلم والجور. هل من كلمة لتصحيح هذا الفهم الخاطئ للغيبة وللإمام؟
ــــ في الواقع إنّ الكثير من التجارب الأدبية والخطابية قد تعبّر عن القلق الروحي الذي يعيشه هؤلاء المنتظرون، وقد تعبّر عن الرغبة وعن المحبة. ولكن أجواءها السلبية قد تجعل من حالة الارتباط بالإمام المهدي (عليه السلام) حالة شخصية، تماماً كما لو كان إنساناً يشتاق إلى معشوقه ويندب حظّه في عدم رؤيته وفي عدم لقائه، وما إلى ذلك. وقد تكون تلك العاطفة جيدة في الارتباط بالرموز المقدّسة ولكن على العاطفة أن تبقى في الخطّ المستقيم الذي يلتقي مع الفكرة التي يتمثّلها هذا الرمز المقدّس.
إنّني أعتقد أنّ الكثير ممّا يقال يبعد مسألة الإمام المهدي عن مضمونها وعن روحيتها وعن حركيّتها. إنّ علينا أن نفرح به، وأن نفرح بالأمل الكبير المعقود على ظهوره، وأنْ نقول له نحن جنودك من الآن، ونحن نعيش فرح الدخول في ساحة الصراع من أجل الإسلام والحرية ومن أجل العدالة. وعندما نتصوّر انتصارك الكبير نشعر كأنّنا نحصل على الانتصار الصغير في طريق أهدافك الكبيرة، ولا بدّ أن يكون حديثنا معه ونداؤنا له نداء الناس الذين يجاهدون ويدعون ويتحدّون ويواجهون التحدّي ويجدون فيه الكثير من العناصر التي تقوّي المسيرة.
فأنْ نكون مستضعفين في مرحلة من المراحل لا يعني بحال أن نستضعف وجداننا، ولا يعني أن نستضعف روحيّتنا، ولا يعني أن نستضعف أمّتنا. وقد يفرض الآخرون الاستضعاف علينا وقد نعيش بعض نقاط الضعف، ولكن علينا أن نشعر بالقوّة دائماً حيث يقول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(1) وقد كان في أشدّ حالات الضعف من الناحية المادية، يقول سبحانه وتعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وهم قلّة {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(2) فلقد كانوا قليلين، وكانوا يعيشون أكثر من مشكلة وأكثر من حصار، ولكن عندما أراد الناس أن يستضعفوهم ويضعفوهم التفتوا إلى الله العزيز القدير {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
ــــ أيّها الأحبّة ــــ إنّ الضعف الذي نعيشه ليس مبرّراً لأن نختزنه في وجداننا بل إنّ علينا أن ننظر إلى نقاط ضعفنا من خلال قوّتنا عندما تتمثّل لنا نقاط ضعفنا في ذلك كلّه.
فائدة الغيبة تربوياً:
هل هناك علاقة بين مسألة غياب الإمام وبين تربيتنا لنفوسنا، أو ما هي فائدة الغيبة بالنسبة لنا؟
ــــ علينا أن نشعر بالمسؤولية في أن نكون على صورة الإسلام وصورة العدل الذي يبشّر به الإمام لنكون من جنوده وذلك من خلال المواصفات التي تتمثّل فيهم وهي المواصفات الإسلامية في كل ما يريده الله للمسلمين من الالتزام بقيم الإسلام.
انتظار نبيّ جديد!!
أنا كمسيحي أتساءل: أليس من حقّنا أن ننتظر نبيّاً غير نبيّكم، فالمشاكل اليوم لا يمكن أن تحلّ إلاّ من قِبَل شخص غير عادي يعيش معنا ومطّلع على تاريخنا بكلّ تفاصيله؟
ــــ نحن لا ننتظر نبيّاً جديداً فقد ختم الله الأنبياء بالنبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل ننتظر إماماً وقائداً، ونملك الكثير ممّا تركه لنا النبيّ والأئمة (عليهم السلام) من تراث إذا أخذنا به وإذا عشنا له فسوف نستطيع أن نحلّ الكثير من مشاكلنا.
علينا أن لا نعيش روح الغيبيّة فيما يريد الله لنا أن نحرّكه من خلال الحسّ ومن خلال الشهود ومن خلال التجربة.
الفصل الثالث
تأمّلات فكرية
"إنّ ما نقدّسهُ من التراثِ هو ما يَثبتُ عندنا بالحجّة القطعيّة المعتبرة فهو الحقيقة، وأمّا ما لم يثبت بحجّة معتبرةٍ فهو محل نظر".
بين الشريعة والقانون الوضعي:
من أين نبدأ العمل من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، وهل هناك إمكانية للتوفيق بين الشريعة والقانون الوضعي؟
ــــ كيف يمكن أن يكون التوفيق؟ إنّه يكون عندما يتصالحان (الشريعة والقانون) كما في مسألة المرأة التي تنازعت مع أخرى على ولد لإحداهنّ عند (سليمان)، فقال نقسّمه بالنصف فقالت (أم الولد) دعه لها حفاظاً على حياته، وكذلك عندما نعيش مع الشريعة فلا نستطيع أن نقسّم بينها وبين القانون إذا كان الأخير على خلاف الشريعة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(1).
الثقة بالقاعدة:
لماذا لا تطرح بعض المسائل التي يكثر حولها الجدل في مؤتمرات علمية بدلاً من طرحها على الناس وفي أجواء غير صافية؟
ــــ أعتقد أنّ هذه المسائل يجب أن تطرح على الناس، فنحن نؤمن بالناس وقد يقول البعض أنّهم عوام لا يفهمون، لكنّني لا أقرّ ذلك، فللناس فكرهم وليس فقط لدى طلاّب العلم، فهناك أناس مثقّفون وهناك أناس غير متعلّمين ولكن لديهم تجارب وبإمكانهم مناقشة القضايا بعقلهم.
فالفرق بيننا وبين الآخرين أنّنا نؤمن بالناس وبالأمة، وأنّه لا بد من طرح بعض القضايا التي تملك الأمة أن تعطي وجهة نظر بالنسبة لها أو تعمل على السؤال عنها لتبدأ السير في حركة الوعي للمفاهيم المتّصلة بالعقيدة أو بالشريعة أو بالمنهج أو بالواقع لأنّه لا كهنوت في الإسلام بل هو للجميع ليفهمه الجميع وليعمل به الجميع، ولكن ــــ مع ذلك ــــ قد يكون من الضروري أن تُعقد مؤتمرات علمية لبحث المسائل القلقة في العقيدة أو في الشريعة ممّا يدور الخلاف حوله من أجل دراستها بطريقة أعمق وأوسع.
دراسة ردود الأفعال:
هل على المفكّرين العظام أن ينظروا إلى ردود الفعل الآتية حول كلماتهم أم أنّ لهم نظرة أخرى؟
ــــ لا بدّ لهم أن ينظروا إلى ردود الفعل لا أن يتعقّدوا منها، ولكن عليهم أن يبحثوا في الأمر جيداً فقد يكون فيها شيء من الحقيقة، فليس معنى هذا أن من يردّ عليك هو عدو، فنحن نقول كما علّمنا أئمّتنا (رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي) فقد يكون الشخص الذي ينقدك أو ينقد فكرك يحبّك أكثر ممّا يحبّك الشخص الذي يمدحك.
لذلك فنحن سعداء أن ينتقدنا الناس، ونحن نسمع ردود الفعل ونقرأها ونفكّر فيها، فإنْ كان فيها خيرٌ أخذنا بها، وإن لم يكن فيها خير دعونا لصاحبها بالهداية. وتبقى النظرة المستقبلية تتحرّك على أساس متابعة الواقع.
المنهج التجزيئي:
في بحث في مجلة (الثقافة الإسلامية) حول مخاطر المنهج التجزيئي قلتم (إنّ المنهج الأمثل في دراسة الإسلام وككلّ نظام يرتكز على فكرة موحدة وهو أن تلاحظ جوانبه مجتمعة) هذا الكلام ينطبق على القرآن الكريم الثقل الأول المحفوظ من التحريف والنسخ، ولكن كيف ينطبق على ما وصلنا من الثقل الثاني، فكيف ننظر إلى جوانب سيرتهم مع أنّه ربمّا لم يصلنا سوى جانب واحد؟
ــــ إذا لم نستطع أن نبحث كلّ الجوانب فعلى الأقل لنبحث ما وصلنا، ونحاول أن نستوحي ممّا وصلنا ما لم يصلنا، لأنّ بعض الدراسات قد تكون استيحائية.
الانفتاح على قضايا المرأة:
من المعروف عندكم أنتم المتشيّعة أنّكم منفتحون بشكل واضح على قضايا المرأة المسلمة، فما هي ملامح هذا الانفتاح؟
ــــ إنّني أعتقد أنّ العلم قيمة للرجل والمرأة على السواء، يقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1) والوعي قيمة للرجل وللمرأة سواءً الوعي السياسي أو الاجتماعي أو الوعي الإسلامي، فالله لا يرضى أن يكون هناك مسلم جاهل في الأمة الإسلامية سواءً كان رجلاً أو امرأة، وإنّ الله لا يرضى أن يكون هناك مسلم متخلِّف في الأمة الإسلامية سواءً كان رجلاً أو امرأة، إنّ الله يريد العقل الكبير عند المرأة كما يريد الله العقل الكبير عند الرجل لا سيّما أنّ المرأة هي التي تعطي العناصر الأولى لحركة العقل عند الطفل حيث ينمو بطريقة عاقلة، لهذا فلا بدّ للمرأة أن تكون مسلمة بكلّ الإسلام وبكلّ ما يريده من الإنسان فيما يرتفع بعقله وبروحه وفيما يرتفع بحياته.
المستضعفون من المؤمنين:
لماذا المؤمنون مستضعفون في الأرض؟
ــــ هناك مؤمنون ليسوا بمستضعفين فهم يواجهون القوة بالقوة والموقف بالموقف، وأعتقد أنّ الكثيرين منّا يستضعفون أنفسهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}(1) فالكثيرون من الناس يغلب عليهم الخوف واليأس ولذلك يتراجعون ويسقطون، لكنّنا نعتقد بأنّنا عندما نأخذ بأسباب القوة فإنّنا نستطيع أن نحصل على القوة. ونحن دائماً نكرّر هذه المعادلة (للضعيف عنصر قوّة وللقوي عنصر ضعف، وعلينا أن نقاتل القوي في نقاط ضعفه بنقاط قوّتنا)، ونعتقد أنّ التجربة دلّلت على أنّنا يمكن أن ننتصر بهذه الطريقة.
التباس الحقّ بالباطل:
ما هو البعد الشرعي في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خصوصاً عندما يلتبس الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ بسبب التضليل والتمويه والخداع، أمّا في ذلك خطر حقيقي على مَن يريد الإصلاح؟
ــــ في الحديث الشريف: "إذا ظهرت البِدَعُ في أمّتي، فليُظهِر العالمُ علمَه وإلاَ فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين"(2) وفي الحديث أيضاً: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلطَنّ الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم"(3).
المثقّف والواعي:
من هو المثقّف؟ ومَن هو الواعي؟ وما الفرق بين الإنسان الواعي والمثقّف؟
ــــ المثقّف هو الذي يملك أفكاراً وثقافة في عقله ولكنّها لم تنطلق إلى حياته. والواعي هو الذي ينطلق ليعيش الإحساس بالواقع في الحياة.
أزمة وعي ديني:
نعيش أزمة وعي ديني، فما هو الحلّ؟
ــــ الحلّ أن نأخذ بأسباب الوعي ولا نبقى واقفين عند السؤال وحده.
تجربة في الوحدة:
هل نستطيع أن نقول إنّه إذا تحاور العقل مع العقل بعيداً عن الغريزة فعند ذاك يمكن أن نشكّل جبهة موحّدة قوية ومتينة بحيث نغيّر الواقع من الداخل والخارج؟
ــــ إنّها تجربة وليس من الضروري دائماً أن تنجح التجربة لكنها تقرّب الإنسان من التفاهم إذا لم تقرّبه من الوحدة.
تأثير الواقع على الدين:
هل يؤثّر الواقع على فهم الإنسان لدينه؟
ــــ قد يؤثّر عليه إذا لم يكن واعياً للمعرفة في دينه، وقد يزيده من خلال الآفاق الواسعة التي تفتحها التجربة الواعية زيادة معرفة بدينه باعتبار أنّ سعة الأُفق وضيقه قد يؤثّران إيجاباً وسلباً على وعي الإنسان لقضاياه الفكرية والعملية.
مقوّمات الشخصية الإسلامية:
ما هي مقوّمات الشخصية الإسلامية وعناصرها الأساسية على ضوء آيات الكتاب الكريم وأحاديث السنّة الشريفة خصوصاً بعد تطوّرات العصر وما أفرزه من المحن الداخلية والتي هي أخطر من الخارجية؟
ــــ إنّ هذا الحديث يحتاج إلى محاضرات ولكن الإنسان المؤمن لا بدّ أن يتوافر على عناصر الشخصية الإسلامية بأن يكون موضوعياً فيما يثير من فكر وفيما يتحرّك به من أحكام، وأن يكون عقلانياً مسؤولاً في كلّ ما يتحرّك به على أساس الخطوط التي جعلها الله له، فعندما ينطلق الإنسان مع الله تعالى ويكون الله هو الأساس في كل ما يقول ويفعل، ويكون خطّ الله هو خطّه، فحينذاك تجتمع فيه عناصر شخصية المسلم {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(1)، {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}(2).
مقياس الكلمات:
بناءاً على ما ذكرتموه من معنى الكلمة الطيّبة هل نستطيع أن نشخّص مقياساً عاماً لكلّ كلام خيّر وكل كلام ضار؟
ــــ المقياس هو ما ذكره الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}(3)، فكلّ ما فيه منفعة للناس في دنياهم وأخراهم، وكل ما هو حقّ وكل كلمة عدل تعطي فيها للإنسان حقّه، وكل كلمة حقّ تمنح فيها للحياة قيمتها فهي من الكلم الطيّب. وكل كلمة باطل، وكل كلمة ظلم تعتبر كلمة خبيثة. اقرأوا القرآن جيداً لتعرفوا أين هي كلمات الله، وأين هي كلمات الشيطان، ولتعرفوا الخير من الشرّ.
صناعة التاريخ المشرق:
ذكرتم في إحدى محاضراتكم: "إنّ أُمّة لها مثل هذا التاريخ لا تقف عنده ولا ترجع إليه وإنّما تصنع مثله" فما الضير في الرجوع إليه إذا كان فيه ما يغني الحاضر، فالأُمة تصنع تاريخاً جديداً وترجع إلى تاريخها المشرق في محاولاتها لصناعة حاضرها المشرق؟
ــــ كنت أقول لا ترجعوا إليه كما قال الشاعر:
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى مَن يقول كان أبي
ـــــ لقد فتح آباؤنا العالم وانتصروا على كل الطغاة وأعطوا العالم علماً وثقافة، وأخلاقاً.
نعم لقد فتحوا القلوب والبلدان، ولكن ماذا فتحنا نحن؟ ماذا أعطينا؟ ماذا أبدعنا؟ لذا أقول علينا أن لا نرجع إلى التاريخ، أي أن لا نعيش فيه لنتجمّد عنده، ولكن علينا أن نأخذ من التاريخ خلاصته لنعطيها ممّا عندنا وليتفاعل ما يبقى من التاريخ مع ما نصنع في الحاضر. إنّ مشكلتنا في الشرق أنّنا نتحدّث في التاريخ كثيراً كمجد في الوقت الذي تهزّ الهزائم كل كياننا، إنّ التأريخ يمثّل سباباً للحاضر عندما يكون في مواقع المجد ونكون في مواقع السقوط.
لهذا فإنّ علينا على الأقل، أن نكون كما قال ذلك الشاعر:
نبني كما كانت أوائلنا تبني، ونفعل مثلما فعلوا
نحن لا نقبل بذلك بل يجب أن نكون أفضل من ذلك، وكما يُرادُ لنا من خلال ما توحي به كلمات الدعاء (اللّهم اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه وخير أعمالي خواتيمها، وخير أيامي يوم ألقاك فيه). أي نظلّ في الخطّ التصاعدي، فإذا وصل آباؤنا إلى خمس درجات فلا يصحّ أن نقف عند الدرجة الخامسة فقط، بل لا بدّ أن نصل إلى الدرجة العاشرة، وأن يصل أولادنا إلى الدرجة العشرين، علينا أن نعيش حالة قلق التقدّم، وحالة قلق الطموح وحالة قلق الارتفاع، أي أن نعيش دائماً مع أفعل التفضيل في العطاء وفي الانتاج وفي الحرية وفي العدالة، وعندنا في الآذان دعوة للأفضل (حي على خير العمل)، وهناك برنامج يومي منذ أوّل الصباح يقول لك أيها الإنسان فكّر في كلّ الأعمال التي ستعملها في يومك وأقبل على العمل الأفضل في العدالة وفي الثقافة وكلّ شؤونك الأخرى، صحيح أنّ الصلاة هي خير العمل، ولكنّها توحي لك بالعمل وهي جزء، بل مفردة من مفردات (خير العمل).
الموقف من المظاهر الاحتفالية:
هل ترفضون مظاهر الاحتفالات من الزينة وما شابه مع توفّر جميع المفاهيم الإسلامية التي ذكرتموها في الشخصية الإسلامية؟
ــــ لا بأس أن نفرح برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأن نعيش الفرح، الذي لا يشغلنا عن معنى رسول الله ولا يشغلنا عن سرّه وعن حركته فحركتنا هي في حركته، لكن المسلمين اعتبروا أنّهم وفّوا قسطهم للعلى بعمل الزينات، فالتفتوا إلى الدف واللحن أكثر ممّا التفتوا إلى معاني الكلمات وفهم القضية، فنحن نقول لا بأس بأن نستعمل المظاهر الاحتفالية، ولكن علينا أن نعتبر احتفالنا برسول الله هو احتفال برسالته لا احتفالاً بجماله فقط.
الاحتفال بمواليد الناس العاديين:
ذكرتم أنه ليس هناك في الإسلام احتفال منصوص عليه بمولد أحد والسؤال هل هناك حرمة أو كراهية للاحتفال في مواليد أولادنا؟
ــــ قلنا إنّ الإسلام لم يعتبر مناسبة الميلاد قيمة يمكن أن يُحتفَل بها، لكن هذه التقاليد ليست تقاليدنا، أما قضية الاحتفال بميلاد أولادنا فيمكن أن نطوّره، بطريقة إسلامية، لا بجلب الشمع ومظاهر الزينة والمغنين والمغنيّات، بل نجلس في عيد الميلاد لنحمد الله ونشكره على النعمة التي أنعمها علينا بهذا المولود، وندعو الله بأن يجعله صالحاً كما نبيّن له كيف يكون دوره وكيف يستفيد من عمره الذي هو مسؤوليته، نعم إذا كنت تحتفل لتنمّي عوامل الخير في هذا الولد، وتنمّي أجواء الشكر لله على نعمة الوجود وعلى نعمة الحياة فلا بأس، وإلاّ فعلينا أن نعمل حفل عزاء في ذكرى مواليدنا لأنّ ذلك يعني أنّ سنة ماتت من عمرنا فلا نعرف كيف يحاسبنا الله عليها، وهذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء يوم الأربعاء يقول: "لك الحمد أن بعثتني من مرقدي، ولو شئت جعلته سرمداً"(1).
فينبغي في أول السنة التي ولدتُ فيها أنْ أحمد الله على أنّ هناك أُناساً ماتوا في هذه السنة وأنني ما زلت موجوداً، لكن عليك أيضاً أن تفكّر في السنة الماضية ماذا فعلت، وكيف إذا كنت قد أذنبت، أن تستغفر لذنوبك، وإذا كنت قد أحسنت فعليك أن تزيد في إحسانك، وبهذا فيوم رأس السنة لا بدّ أن يكون يوم تأمُّل تماماً كما في المصارف فإنّهم لا يعملون حفلة داخل المصرف عند رأس السنة، بل تراهم مشغولين صباحاً ومساءً بالحسابات الدقيقة وبأحدث الوسائل لأنّ المسألة مسألة حسابات فإذا غلّطوا بصفر يمكن أن يهدر مليوناً أو ملايين، ونحن أيضاً عندنا "حساب مصرفي" عند الله تعالى فإذا غلّطنا بذنب من الذنوب، أو غلّطنا بعمل من الأعمال فلم نعمل على تصحيحه فقد يؤدي بنا إلى الهلاك فلا بدّ أن تكون عندنا دقّة في هذا الموضوع، وعلينا أن نستفيد من الأدعية لأنّها حساب مع النفس، فعندما تقول مثلاً: "اللّهم إنّي كلّما قلت قد تهيأت وتعبّأت وقمتُ للصلاة بين يديك وناجيتُك ألقيتَ عليّ نعاساً إذا أنا صلّيت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ومالي كلّما قلتُ قد صَلُحَتْ سريرتي وقَرُبَ من مجالِسِ التوّابين مجلسي عَرَضَتْ لي بلية أزالت قدمي وحالَت بيني وبين خدمتك، لعلّك عن بابك طردتني وعن خدمتك نحّيتني ولعلّك رأيتني مُسْتَخِفّاً بحقِّك فأقصيتني.. أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني"(1) هذه عملية نقد ذاتي فعندما تصلي ولم يكن لديك توجّه في الصلاة بأن تتوب وترجع لماذا لا تقعد وتعمل عملية إحصائية لكلّ الأشياء التي تبعدك عن القرب من الله، وهكذا مثلاً "أنا الصغير الذي ربّيته، وأنا الجاهل الذي علّمته" فهنا عملية نقد ذاتي وعملية تحليل لكلّ النفس ومحاولة استقراء لكل نِعَم الله علينا، فنحن عندما نقرأ الأدعية نستطيع أن نعيش عملية ثقافية روحية ونفسية واجتماعية، لكنّنا نقرأ الدعاء ونقول ليست هناك كراهية ولا حرمة في احتفال أولادنا، فعلينا أن ندخل الإسلام في معنى هذه الاحتفالات حتى لا نأخذ بتقاليد الآخرين، وعلينا أن ندخل روحيّتنا فيما نأخذه من تقاليد حتى لا ندخل جوّهم في جوِّنا بل نحاول أن ندخل أجواءنا في هذه التقاليد.
عيد ميلاد إسلاميّ:
إذا اقتصر عيد الميلاد في المنزل على أطفال البيت فقط دون موسيقى أو زينة من أجل فرحة الأطفال هل في ذلك حرمة؟
ــــ نحن لم نقل إنّه محرّم في الأصل لكن قلنا (طعّموه) كمن يريد أن يطبخ أكلة معيّنة فإنّه يضع بعض البهارات وأشياء أخرى حتى تكون الطبخة لذيذة، وعيد الميلاد كذلك إذا أُضيفت له بعض البهارات الإسلامية والروحية بحيث تغدو له نكهة إسلامية عندئذٍ يصير الفرح إسلامياً.
المقدّس من التراث:
هل المقدّس من التراث هو التراث عموماً أو القطعي منه فقط؟ وما هو مقصودكم بالمقدّس؟
ــــ المقدّس هو الحقيقة، بمعنى أنّ ما نقدّسه من التراث هو ما ثبت عندنا بالحجّة القطعية والمعتبرة فهو الحقيقة، وأما ما لم يثبت عندنا بحجّة معتبرة فهو محلّ نظر وتأمّل ودراسة، نعم هناك فرق بين تراث بديهي وتراث نظري كالصلاة فإنّ وجوبها بديهي، ولكن جواز التكتّف في الصلاة أو عدم جوازه مسألة نظرية، أمّا المقصود بالمقدّس فإنّه الذي لا مجال للنقاش فيه، أما غير المقدّس فالذي يمكن للإنسان أن يناقش فيه، وإذا ثبت أنّه من الحقيقة فهو من المقدّسات.
المسلم وسط التحدّيات:
كيف تحدّد وجهة المسلم في وسط التحديات التي يواجهها الإسلام والمسلمون وما هي الواجبات التي يقتضي تنفيذها في هذه المرحلة؟
ــــ الواقع أنّ على المسلم أن لا يعيش فرديّته فلا يحصر تفكيره في دائرة ذاته، ويقول: طالما أنّ عيالي معي فلا شأن لي سواءً عمرت الدنيا أو خربت، يسقط المسلمون أو لا يسقطون وإنّما عليك أن تعتبر نفسك جزءاً من أُمّة، وعليك أن تدرس التحدّيات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية والاقتصادية ثمّ تدرس إمكاناتك في الوقوف بوجه هذه التحديات، وما مدى انضمام إمكاناتك إلى إمكانات الآخرين.
عليك أن تفكّر في كيفية تنمية إمكاناتك لتتحمّل مسؤولية عائلتك، حاول أن تنمّي إمكاناتك لتتحمّل مسؤولية عائلتك الإسلامية "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته"، ولذلك أيّها الأحبّة، علينا أن نعيش كجزء من الأمة، وعلينا أن نخطِّط مع الذين يخطِّطون، فأنا لا أتحدّث عن فوضى في الحركة أو عن انفعال في الموقف، ولكنّي أتحدّث عن عقل يخطِّط، وعن إرادة تتركّز، وعن موقف يثبت ويتحدّى ويواجه.
المزاوجة بين الإسلام والماركسية:
هل يجوز شرعاً المزاوجة بين الإسلام والماركسية، أي أن يكون الماركسيّ مؤمناً؟
ــــ الماركسية تنطلق من فلسفة مادية لا تؤمن بما وراء الطبيعة وتعتبره أمراً خرافياً لا معنى له، ولذلك فإنّ الماركسية في قاعدتها الفكرية والفلسفية هي مضادّة للإسلام في قاعدته الفكرية التي تنطلق من الإيمان بالله وبالغيب وبالرسول وباليوم الآخر، فلا يمكن لإنسان أن يكون ماركسياً ومسلماً في آنٍ واحد.
ثمّ هناك الكثير من الأفكار التي يختلف فيها الإسلام عن الماركسية في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية. فمن الممكن جداً أن يلتقي الماركسيون والمسلمون في بعض المراحل السياسية المشتركة بحيث يكون هناك لقاء مشترك، كما لو أنّ الماركسيين وقفوا معنا في مواجهة إسرائيل أو وقفوا معنا في مواجهة الاستكبار الأميركي أو في مواجهة الظلم الاجتماعي أو الظلم السياسي.
إنّنا لا نبعدهم عندما يكونون معنا وإنّما نسير معهم ويسيرون معنا كلٌّ بحسب ما لديه من ايديولوجية ولكن إذا وصلنا إلى مفترق الطرق ذهب كل منّا إلى سبيله، فهناك فرق بين ألاّ نلتقي معهم سياسياً وبين أن نتزاوج أو نتحالف فكرياً.
دورنا الرسالي:
ما هو الدور الرسالي في الوقت الحاضر تجاه إخواننا ومجتمعنا؟
ــــ يقول تبارك وتعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(2)، وهكذا نجد أنّ الإنسان معنيٌّ بأنْ يدعو أهله إلى الإسلام {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(3) {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(4) وهكذا فإنّ على الإنسان الرسالي أن يحرّك طاقاته تجاه محيطه الاجتماعي من أجل أن يدعوه إلى الخير وأن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، والمهم هو أن لا يوحي الإنسان لنفسه بالعجز بل عليه أن يستنفر طاقاته ويعتبر نفسه مسؤولاً بحجم قدراته الثقافية والاجتماعية والمالية، وسيسأله الله عن علمه أين بذله؟ وسيسأله عن قوّته هل قدّمها لأُمّته؟ وسيسأله الله عن كل شيء كان يملك أن يعمله ممّا يتّصل بمسؤوليته عن أُمّته لماذا أهمله ولم يعمله؟
الأمر بالمعروف والعزّة:
هل هناك علاقة بين الأمر بالمعروف والعزّة؟
ــــ إنّ الأمر بالمعروف يؤكّد على الحقّ وعندما تتأكّد قوّة الحق في المجتمع فإنّ المجتمع يكون عزيزاً.
مراتب العزّة:
هل العزّة مراتب أو درجات؟ وإذا كانت كذلك فما هي أبسط أو أقلّ مراتبها؟
ــــ لما كانت القوّة مراتب ودرجات فإنّ العزّة كذلك، وأقل مراتبها أن ترفض بقلبك وذلك أضعف الإيمان، وأن تبقى إذا أطبقت الدنيا عليك عزيزاً في إرادتك وفي قرارك حتى لا يضغط الآخرون على قرارك وإرادتك.
تدريس التأريخ:
ما حكم التخصّص في مادة التاريخ في الجامعة لتدريسه في المدارس العامّة؟
ــــ لا مانع من ذلك إذا لم يؤدِ إلى أن يربّي المدرّس التلاميذ على الأفكار الخاطئة من دون أن يستطيع أن ينبّههم إلى ما في هذا الكتاب أو ذاك الكتاب من أخطاء وتزويرات.
التعامل مع المحرّفين:
ما هي أفضل طريقة للتعامل مع الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه؟
ــــ أفضل طريقة أن نعيد الكلمة إلى موضعها لتعطي إشراقها، ولتعطي الحقيقة، ولتفضح تحريفهم، ولتفضح العقدة النفسية التي تعيش في داخلهم، لذلك عندما يحرّف إنسان كلمتك فلا تدخل معه في معركة ولكن إعطِ كلمتك وضوحها وإشراقها، فإنّ إشراقة الكلمة تصرع كلّ الظلمات التي يثيرها الآخرون في داخل هذه الكلمة.
في الفتنة كابن اللبون:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) "كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهرٌ فيركب ولا ضرعٌ فيحلب"(1)، فما هو تعريف الفتنة وما هو قصد الإمام (عليه السلام)؟
ــــ تعريف الفتنة على الظاهر هي التي يتشابه فيها الأمر على الإنسان فلا يعرف الحق من الباطل، أو الفتنة التي يتحرّك فيها أهل الباطل دون أن يكون للحقّ فيها أي دور، فالإمام هنا يقول إذا كانت هناك فتنة لا صراع بين الحق والباطل وإنّما صراع بين باطلين أو كانت موضع شبهة: أين الحق وأين الباطل من دون أن تكون لنا وسيلة أن نتعرّف بها على الحق من الباطل، هنا يقول (عليه السلام) كن كابن اللبون وابن اللبون هو ولد الناقة الذكر الذي دخل في عامه الثاني الذي لا يزال ظهره طرياً فلا تستطيع أن تركب عليه (ولا ضرع فيحلب) لأنّه ذكر وليس أنثى فلا تقبل ــــ وأنتَ تعيش الفتنة ــــ أن يركب شخص أو جهة موقعك وتأييدك ونصرتك وكلمتك وصولاً إلى مقاصده في الفتنة، ولا تجعل نفسك بقرة حلوباً يحلبها الطامعون.. يحلبون طاقاتك من أجل الفتنة، فكن حيادياً لا تعطِ من نفسك شيئاً، لكن عندما يكون الموقف موقف حقّ وباطل فكن مع الحق ضد الباطل كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"(1) ولقد قالها الإمام الكاظم (عليه السلام) "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة، قلت وما الإمّعة؟ قال: أن تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال يا أيها الناس إنّما هما نجدان نجدٌ خير ونجدٌ شرّ فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"(2).
الموقف من سياسة الإلهاء:
سياسة الإلهاء التي يمارسها البعض من أجل إشغال الأمة بأمور هامشية، أو بما يسمّى بـــ (الترف الفكري) فيما لا يجدي نفعاً عملياً، كيف نحاذر الانخراط فيها، وكيف نوعّي الأمة على مخاطرها؟
ــــ علينا نحن قيادات المجتمع أن ندرس حجم المرحلة التي نعيشها الآن، لأني أُلاحظ بأنّ الكثير من الناس يعيشون حالة الاسترخاء كما لو أنّ الأمور على ما يرام، وفي الواقع فإنّني لا أجد في كل تاريخ الإسلام مرحلة يعيش فيها الإسلام، في عقائده ووجوده السياسيّ والاقتصادي والأمني والاجتماعي، في خطر فوق العادة كهذه المرحلة، فالعالم المستكبر متحالفاً مع العالم الكافر يشنّ حرباً عالمية على الإسلام.
إنّ الإسلام ــــ يا أبناء الإسلام ــــ في خطر، سواءً الإسلام العام أو الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) فنحن نشعر بأنّ شغلنا الحقيقي في الساحات العامة هو كيف يجب أن نواجه الاستكبار العالمي، وكيف نواجه الكفر العالمي، والخلافات المذهبية الموجودة في الساحة بين السنّة والشيعة وبين الشيعة أنفسهم وبين السنّة أنفسهم، إنّ هذه الخلافات لا بدّ أن تثار بطريقة علمية في المواقع العلمية المسؤولة، أمّا أن تصبح الخلافات مادة للغوغاء وللإثارة هنا وهناك فإنّ هذه سوف تشغلنا عن القضية.
وأنا من خلال خبرتي الطويلة بحركة المخابرات الدولية في الساحات الإسلامية أحتمل احتمالاً عقلائياً ولا أتّهم أحداً بأنّ هذا الجو الذي يثار في كثير من ساحاتنا العربية والإسلامية هو من شغل المخابرات الدولية ولا سيّما الأميركية، فقد يكون الشخص عميل مخابرات من حيث لا يدري، أي أنّك تنفذ ما يريدون مجاناً، فهناك أُناس يقبضون وأنتَ تنفّذ مجاناً! لأنك تنطلق مع غرائزك.
ولذلك فإذا كان لكم شغل بأوطانكم، وإذا كان لكم شغل بإسلامكم، وإذا كان لكم اهتمام بأمّتكم فعليكم أن تجمّدوا الكثير من خلافاتكم ومن نزاعاتكم ومن الأمور التي تتحرّك بدون أن يكون لها دور في حياتنا، يقول أحد شعراء فلسطين (إبراهيم طوقان) عندما كان الزعماء الفلسطينيون في عام 1936م يتنازعون واليهود يخطّطون كيف يدخلون إلى فلسطين، وكيف يحقّقون (وعد بلفور) من خلال بريطانيا يقول (طوقان) هازئاً بهم:
أنتم المخلصون للوطنيّة أنتم الحاملون عبءَ القضية
في يدينا بقيةٌ من بلاد فاستريحوا كي لا تضيع البقية!
وقد ضاعت البقيّة، وضاع ما بعد البقية! فيا إخوتنا في بلادنا بقية من إسلام، وفي يدينا بقية من حرية، وفي يدينا بقية من عزّة وكرامة وفي يدينا بقيّة من حالة الشعور بالذات وبالانتماء فاحرصوا أن لا تضيع هذه البقية، إنّ الفاتح قد دخل إلى غرف النوم وليس فقط إلى الصالونات، دخل إلى غرف نومنا ودخل إلى عقولنا، وإلى قلوبنا وإلى أفكارنا، ولم يقف عند الأبواب، إن "أعظم الخيانة خيانة الأمّة"(1).
الزواج قسمة ونصيب:
ما رأي الشرع في قول القائل "إنّ الزواج قسمة ونصيب" أي إنّ الله يجبر عبده بالزواج من هذه وبالعزوف عن تلك وكأن الأب يقول لطالب يد ابنته إذهب فابنتنا ليست من نصيبك.. هكذا جعلها الله؟
ــــ الزواج قسمة ونصيب، ولكن القسمة والنصيب بيدنا أيضاً، فالله جعل نصيبنا كما يقول {وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ}(2) فنحن الحظّ والنصيب في كثير من الحالات وهما تحت اختيارنا، فأنتَ تخطب وتتزوّج الفتاة التي هي قسمتك ونصيبك ولكن ذلك يحصل باختيارك أيضاً، وفي بعض الحالات قد يفرضون عليك، ضمن الوضع الاجتماعي، أو العائلي الزواج من ابنة عمّك أو خالك هنا تكون القسمة والنصيب بالضغط والإكراه فالحرية قسمة ونصيب، والذلّة قسمة ونصيب، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(3) وقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(4) فالله سبحانه جعل قضاءنا وقدرنا في كثير من الحالات بيدنا. ولذلك فالقسمة والنصيب لا تعني أنّ الله يجبرنا على ذلك، وإنّما جعل هذا الأمر باختيارك وجعله أيضاً باختيار الآخرين، فأحياناً تتعلّق بفلانة فتقتنع بها وتقتنع بك، وأحياناً تقتنع بها وهي ليست مقتنعة بك فلم يحصل النصيب لأنّها غير مقتنعة أو أنّ أباها غير مقتنع مثلاً، فالنصيب ــــ وفق هذا الفهم ــــ ينطلق من إرادتك ومن الشروط التي تجعل إرادتك تصل إلى مبتغاك.
مستوى الخطاب الإسلامي:
هل أنّ ما هو مطروح الآن من خطاب سياسي وإسلامي يستطيع ملئ أو اجتياز الخطاب العلماني ليكون قوّة التوازن مع الآلة الليبرالية الغربية؟
ــــ نحن نعتقد بأنّ الخطاب الإسلامي خطاب في مستوى الرشد السياسي، ولا نعتقد بأنّ الخطاب الآخر أكثر وعياً منه أو أكثر انفتاحاً على واقع الإنسان. ولكنّ المشكلة هي أنّ الخطاب الآخر يملك مواقع متقدّمة في العالَم، والخطاب الإسلامي لا يملك سوى واقع متخلّف من جهة، وواقع مضغوط تحت هيمنة الاستكبار العالمي من جهة. ولذلك فلكي ينطلق خطابك الواعي فلا بدّ لك من ظروف تحمي حركة الوعي في خطابك، أما إذا كانت الظروف تحاصر خطابك وتضغط على خطابك، وتشوّه خطابك، وتعزل خطابك عن المجتمع ولا تعطيك حريّة الخطاب، فمن الطبيعي أن ينكمش خطابك لا لأنّه يعيش هذا الانكماش بل لأنّه يواجه تحدّيات كبرى تفرض عليه ذلك.
مقام المرأة:
نرجو منكم توضيح قول أحد أئمّتنا بأنّ "المرأة عزيزة عند أهلها ذليلة عند زوجها" بالإضافة لقول آخر معناه (إنّ الله لو أمر أحداً أن يسجد لغير الله لأمَرَ الزوجة أن تسجد لزوجها) فإلى أيّ حدّ أو أي درجة يجب على الزوجة أن تطيع وأن تخضع لزوجها دون أن يمسّ إنسانيتها ودينها؟
ــــ إنّ هذه الأمور لم تطرح على أساس بيان الخطّ العريض للعلاقة الزوجية من الناحية الإلزامية الشرعية، فالناحية الشرعية هي {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(1) وقلنا بأنّ الدرجة ليست ناطحة سحاب، فمثل هذه الأحاديث تمثّل الجانب الأخلاقي للمسألة، أي أنّ المرأة عندما تعيش مع زوجها يجب أن لا تعيش العنفوان بل تعيش وحدة الحال {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}(2) فليست الذلّة هنا مقابل العزّة بحيث تسقط إنسانيتها وتسقط واقعها، إنّما المراد بالذلّة هو مثل {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}(1) أي أنّها تتصرّف بتواضع كما يتصرّف الإنسان الذليل مع العزيز، فالذلّ يعني أن يكون تعاملها إنسانياً مع زوجها وأن تتعامل من خلال التواضع مع زوجها والتضحية من أجل الحياة الزوجية التي يحبّها الله ويرضاها.
ذلك لأنّ الله عزّ وجلّ جعل الحياة الزوجية مبنية على الحقوق المتبادلة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(2)، فهي قائمة على المودة والرحمة، والمودة والرحمة ليس فيهما حواجز العنفوان. فعلى الرجل أن يتنازل لزوجته وعليها كذلك "خيركم خيركم لأهله"(3) لأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو سيّد ولد آدم وهو قدوتنا يخاطبه الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}(4)، وحسب بعض التفاسير فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يحرّم على نفسه بعض ما يشتهيه من الطعام أو من الروائح الطيّبة لأنّ زوجاته كنّ لا يتجاوبن معه في ذلك. فقال له الله لا تحرم نفسك من ذلك.
وعلى الزوج أن لا يشعر أمام زوجته كأنّه السيّد أمام العبد أو يشعرها بأنّها كمية مهملة، فالزوجة إنسان والزوج إنسان وعليهما أن يتعاملا من موقع المودّة والرحمة بأن يعيش إنسانيتها ويحترم إنسانيتها وأن تعيش إنسانيته وتحترم إنسانيته، فالله سبحانه يريد للزوجة أن تندمج مع زوجها وأن تحترمه لدرجة الخضوع لأجل أن تتوازن الحياة الزوجية وليس من جهة أنّ هذا الشيء مفروض عليها شرعاً.
الغاية تنظِّف الوسيلة:
ما هو المراد من قولكم الغاية تنظّف الوسيلة؟
ــــ إنّ الغاية تبرّر الوسيلة، مبدأ مرفوض من قبلنا لأنّ الغاية الشخصية التي تبرّر هدم كرامة هذا وهتك حرمة ذاك غير جائزة إطلاقاً. ولكن عندما يكون الهدف كبيراً وله أهمية عند الله كما لو فرضنا بأنّ حريقاً شبّ في بناية كبيرة وتوقّف إنقاذ حياة الناس في البناية أن نهدم كثيراً من البناء ونتلف الأثاث فهذا جائز لأنّ الغاية تبرّر الوسيلة، ولأنّ الغاية هي هنا إنقاذ حياة الناس الموجودين أو إنقاذ الجيران فذلك أهمّ من البناية.
نحن نقول إنّ (الغاية تنظِّف الوسيلة) والفقهاء يضربون في ذلك مثلاً فلو فرضنا أنّ شخصاً يغرق والطريق إلى النهر أرض مغصوبة وصاحبها لا يقبل أن نجتازها إلى النهر وعندنا حكم شرعي يقول بحرمة المرور في الأرض المغصوبة فهنا يجب عليك أن تنجّي الغريق من جهة، ويحرم عليك أن تمرّ بالأرض المغصوبة من جهة، والحكمان لا يمكن العمل بهما معاً. هنا يقول الفقهاء بأنّ إنقاذ الغريق أهم وأن الحرام يتجمّد عند ذلك لمصلحة الغاية الأهم.
ومن الأمور التي تمثّل ذلك: (الكذب) فهو ليس حلالاً ولكن لو توقّف إنقاذ أخيك المؤمن على أن تكذب حينما تعرف بأنّ هناك ظالماً يريد أن يقبض عليه ليقتله أو ليحبسه وأنتَ تعرف مكانه فهل تقول بسذاجة بأنّ الكذب حرام، والحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول "إحلف بالله كاذباً ونجّ أخاك من القتل"! ومن الأمور التي يذكرها فقهاء السنّة والشيعة هي إذا كانت هناك حرب كما هي الحرب بيننا وبين إسرائيل بحيث يترتّب عليها نتائج كبيرة، وقد اتّخذ العدو من أسرى المسلمين دروعاً بشرية، فهنا يجوز لك قتلهم من أجل القضية الكبرى إذا كان الانتصار يتوقّف على ذلك. من كلّ ذلك نخلص إلى أنّ الغاية الكبرى المهمة التي تتّصل بقضايا المصير تنظِّف الوسيلة.
خطأ في الفهم:
وفقاً لرأيكم "الغاية تنظِّف الوسيلة" لو أنّ شخصاً يعمل في تهريب المخدرات ويقدّم من الربح للعمل الإسلامي لرفع راية الحق فهل يجوز له ذلك؟
ــــ هذا غير ما قلناه. لقد تحدّثنا عن القضية التي تتوقّف عليها الحياة أمّا هذا المثل فإنّه يشبه قول الشاعر:
كمطعمة الأيتام من كدّ فرجها لك الويلُ لا تزني ولا تتصدّقي!!
لا تدعم العمل الإسلامي بهذه الطريقة، فالعمل الإسلامي الذي يتوقّف على تهريب المخدرات وعلى بيع الخمور هل تراه يكون عملاً إسلامياً؟!
الطروحات الجديدة بدع:
يرى البعض أنّ من حقّهم الافتراء والكذب حتى على بعض العلماء لأنّهم يطرحون أموراً جديدة على الذهنية العامة ويعتبرونها بدعاً ولا بدّ من مواجهة كلّ مبتدع بكل الوسائل حتى الافتراء عليه؟
ــــ يقسّم الشهيد الثاني في "اللمعة" البدع إلى خمسة أقسام ويقول بأنّ هناك (بدعة واجبة) وهناك (بدعة مستحبة) وهناك (بدعة مباحة) وهناك (بدعة محرّمة) وهناك (بدعة مكروهة).
والبدعة المحرّمة هي إدخال ما ليس في الدين بالدين، أو إدخال ما لم يعلم من الدين بالدين وإلاّ فالركوب بالسيارة بدعة، واستعمال كل جديد يعدّ بدعة. ونحن نقول بالنسبة إلى كلّ الأفكار سواءً كانت تتعلّق بالجانب الفلسفي أو بالتفسير القرآني أو بالجانب الفقهي أو بالجانب الاجتماعي أو السياسي، نقول ربّما كان لدى السابقين ظروف عرضت عليهم فهماً معيّناً، فيمكن أن يأتي بعض الناس فيسيئون الفهم وقد يحسّنونه وفي هذه الحالة ينبغي أن تكون الساحة ساحة حوار هادف وموضوعي وعقلاني، فقد تسمع شيئاً ولكنّه قد يكون غير صحيح كما يقول الشاعر "محمد رضا الشبيبي":
حكَمَ الناسُ على الناسِ بما سمعوا عنهم وغضّوا الأعينا
فاستحالت وأنا من بينهم أذني عينا وعيني أذنا
ولذلك فنحن نقول بأنّ ساحتنا لا تتحمّل هذا النوع من الكلمات والأحاديث فليست القضية مربوطة بشخص، فلا بدّ للساحة الإسلامية أن تحصّن بالعقلانية والتقوى، وأن يكون الحديث عقلانياً، وأقول لكم إنّ من الضروري أن نعمل على أن ننقد العلماء في أفكارهم وننقد المثقّفين في أفكارهم وننقد السياسيين ورجال الاجتماع وغيرهم ولكن نقداً موضوعياً ينطلق من خلال دراسة الأمور بالحوار الجادّ والهادف. والله يقول {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(1).
التهرّب من المسؤولية:
يتهرّب البعض من مسؤولياته الرسالية لأنّ من تبعاتها شبهات الناس وإشكالاتهم، ويرى هؤلاء بأنّ العمل في الظل أفضل، حسب تجربتكم الطويلة الغنية بالعمل الحركي هل إنّ موقف هؤلاء صحيح؟
ــــ قد يكون لهم عذر في أنفسهم، لكنّني أجد أنّه لا بدّ للعاملين أن يعملوا في الهواء الطلق وفي الساحات الواسعة، فالذين يواجهون التيار لا بدّ أن يكونوا مستعدين لتحمّل ضرباته، فإذا كنت تريد أن تسبح ضدّ التيار ولستَ مستعداً لتحمل ضرباته فهل يمكن لك أن تتعلّم السباحة جيداً؟ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ} ويأتي الجواب {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(2) ويقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(3).
وإلا فإذا فرضنا أنّ العامل إذا شتم فلا بدّ أن يهرب وإذا اتّهموه يتراجع، فكيف يمكن له أن يواصل مسيرته، فلا بدّ له من قدرة العمل وتحمّل أعبائه بحيث لا تؤثّر فيه اللكزات ولا الصدمات حتى يستطيع أن يثبت أمام الساحة، ولذا نحن بحاجة إلى رجال يقفون بصلابة وبقوّة وبعنفوان كما قال عليّ (عليه السلام) لولده محمد بن الحنفيّة "تزولُ الجبالُ ولا تزل، عضَّ على ناجذك، أعِر الله جمجمتك، تدْ في الأرض قدَمَك"(4) هذه هي المسألة، وإلاّ فإنّ الخوف من السباب والاتهام والانسحاب من الساحة يعني إبقاءها فارغة للآخرين، لقد تحمّل الأنبياء الكثير من ذلك، والنبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو إمامنا ونبيّنا وسيّدنا وحبيبنا وشفيعنا نال القسط الأوفر منها حيث يقول "ما أُوذي نبيّ مثلما أوذيت" وعندما رجع من الطائف وقد دميت رجلاه، قال مخاطباً الله عزّ وجلّ "إنْ لم يكن بكَ غضبٌ عليّ فلا أُبالي" فالمهم أنه لا يغضب الله، فحتى لو غضب الناس كلّهم عليك ورضي الله عنك فتلك هي السعادة كلّ السعادة، وإذا رضي الناس عنك وغضب الله عليك فأيّ سعادة تافهة هي؟ وفي الدعاء: "ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَك وماذا فَقَدَ مَنْ وَجَدَك" هذه هي المسالة..
السنن الكونية والاجتماعية:
هل أنّ ما تحدّثتم عنه هو السنن التي تحكم الكون والمجتمع؟ وهل أنّ السنن مذكورة جميعاً في مجموع النص الإسلامية أم أنّ بعضها مذكور والبعض الآخر متروك للدراسة والاستقراء، وكيف نميّز بين السنّة التاريخية وبين غيرها؟
ــــ إنّ السنن التي تحكم الكون والقوانين التي أودعها الله في الكون لتسيير نظامه في الظواهر الكونية بكل ما خلقه الله من ظواهر، لم يتحدّث عنها القرآن بالتفصيل وإنّما وجه الإنسان إلى أن يفكّر بها {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}(1). فلا بدّ أن يكون هناك سرّ وسبب لهذه الظاهرة أو تلك.
ففي السموات والأرض نظام كامل {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(2)، ومن السنن الكونية حركة الكواكب {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(3) ولكن كيف هي حركة الشمس وكيف هي حركة القمر وكيف حركة الليل وكيف هي حركة النهار وهكذا {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}(4)، وهكذا {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(5).
فالله يحدّثنا عن هذه الظاهرة ويثير تفكيرنا من أجل ملاحقتها ودراستها وفهمها، وقد انطلق الإنسان في حركته في البحث عن أسرار الكون، واستطاع ــــ جرّاء ذلك ــــ أن يصل إلى نتائج كبيرة في هذا المجال، ولقد هيّأ لنا الفرص في أن نفهم، وهيّأ لنا الوسائل في أن نعرف ذلك، وربط سبحانه وتعالى بين وعينا لأسرار الظواهر الكونية وبين الإيمان فكلّما فهمت الكون أكثر كلّما ازداد إحساسك بعظمة الله من خلال عظمته أكثر. الأمر الذي يجعل عقلك ممتلأً بالله من خلال المعلومات التي تملكها في أسرار خلق الله ومن خلال ما تعيشه في حركة هذه المعلومات في وجدانك وفي إحساسك وفي شعورك، ولقد تحدّث الله عن السنن التاريخية لأنّها السنن التي تحكم مسيرة الإنسان كما تحكم السنن الكونية مسيرة الكون.
إنّ قانون "السببيّة" هو أساس الكون فلقد جعل الله لكلّ شيء قدراً {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(1) ونحن نؤمن أنّ الله خلق الكون على أساس ما أودعه في داخله من قوانين وتحدّث عن هذه القوانين بشكل مجمل جداً كما في هذا القانون مثلاً {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}(2) إنّه (قانون الزوجية) في الكون فحتّى الذرة تخضع لقانون الزوجية، ففيها السالب والموجب، فليس هناك فوضى، وحتى غير المؤمنين من المكتشفين والمخترعين وهم يبحثون في أسرار الظواهر في دراساتهم وأبحاثهم للكون أثبتوا أنّه ليس هناك ظاهرة إلاّ وراءها سرّ، فالكون كلّه مبني على الحكمة لا الصدفة، ومن السنن التي تتحرّك في الكون قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}(3)، هذه المشاكل السياسية والاجتماعية التي تنشأ من الاختلال الاجتماعي والسياسي هي من عند الإنسان لأنّ الإنسان لا يأخذ بالأسباب التي تنظّم حياته.
وكذلك نلاحظ أنّ القرآن يحدّثنا عن حركة التاريخ الإنسانية كنتائج وحصيلة لأعمال الإنسان {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} في كلّ إنتاجها وفي كلّ علاقاتها وفي كلّ أوضاعها {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}(4) أيضاً فأنتم الآن تصنعون التاريخ من خلال كسبكم وهكذا (قانون التغيير)، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(5) فهذه سنّة: غيّر نفسك تغيّر الواقع وتغيّر التاريخ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1)، فالتقوى تنتج حياة طيّبة رخيّة وتنتج علاقات اجتماعية جيدة وعلاقات سياسية مستقيمة وما إلى ذلك.
ولعلّ أفضل من درس السنن التاريخية بشكل موضوعي وعلمي هو السيّد الشهيد محمد باقر الصدر (رض) في كتابه والسنن التاريخية في القرآن".
بين الديمقراطية والدين:
لا يزال الجدل يأخذ طريقه في موضوع الديمقراطية والدين، فبرأيكم ما هي نقاط الاختلاف بين الديمقراطية والدين، وما هي نقاط التوافق؟
ــــ الديمقراطية من خلال مفهومها الفكري شيء والدين شيء آخر، فهما لا يلتقيان، وأؤكّد هنا على المسألة الفكرية لأنّ الديمقراطية هي أن يحكم الشعب نفسه من خلال ممثليه على أساس أن يكون رأي الأكثرية هو أساس الشرعية، ذلك لأنّ الأكثرية قد تبنّته من خلال ممثّليه، فلو أنّ الأكثرية تبنّت الإسلام من وجهة نظر الديمقراطية وصوّتت له فسيكون الإسلام شرعياً، ولو أنّ الأكثرية انقلبت فصوّتت ضدّ الإسلام فلا يكون الإسلام شرعياً على أساس الديمقراطية. فالديمقراطية، على ضوء ذلك، تقول لك لست أيّها المسلم شرعياً في خطّ إسلامك لأنّ الشعب ينتخبك وهو بالتالي لم ينتخب الإسلام وإذا لم ينتخب الشعب الإسلام فإنّ الإسلام يفقد الشرعية.
أمّا الدين فيقول بأنّ الإسلام هو الشرعية حتى لو كفر كلّ الناس به ذلك أنّ شرعيته مستمدة من الله تعالى، هذا في الخلفيّة الفكرية وإلاّ فنحن إلى جانب الديمقراطية كوسيلة من وسائل الواقع السياسي والعمل السياسي.
أمّا الجانب التشريعي فلا مجال للديمقراطية فيه، فهل يمكن أن تستفتي الناس بأنْ تصلّي أو لا تصلّي؟! ولو فرضنا أنّ الناس قالوا لك: لا تصلّ فإنّك حينئذٍ ستقول لهم: لا دخل لكم بذلك فالله قال {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}(1).
ولكن هناك نقطة ثانية ينبغي الالتفات إليها وهي عندما تتحوّل الديمقراطية إلى وسيلة من وسائل الشورى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(2)، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(3)، بحيث تجتمع فيها عناصر الشورى، فيمكن عند ذلك أن لا نطلق عليها ديمقراطية بل "شورى" وفي هذه الحال فلا ضرورة لأن نستعير لخطوطنا الفكرية كلمات أخرى، فبدلاً من أن نقول ديمقراطية نقول أكثرية وقد يقول قائل: ما الفرق بينهما؟ وفي الجواب على ذلك نقول بأنّ كلمة الديمقراطية محمّلة بمضمون فكري معيّن.
وأتذكّر أيام "منظمة أنصار السلام" التي كانت تمثّل إحدى واجهات الحزب الشيوعي في العراق قيل لأحد السياسيين في لبنان ألاَ تحبّ السلم؟ فكتب أنا أكره الحرب، فقال أنصار السلام وما هو الفرق؟ قال إنّ قضية السلام صارت "كليشه" تعطي مدلولاً معيناً وانتماءاً معيناً.
فالكلمة لا تحمل المعنى اللغوي فحسب بل هي في مداها التاريخي تحمل إيحاءات وأحاسيس عديدة بحيث أنّ معناها اللغوي شيء وما تحمله من معان شيء آخر. لذلك يمكن أن نستفيد من لعبة الديمقراطية، ولكنّنا لن نعطيها شرعية فكرية، لأنّ الشرعية الفكرية تقوم على أساس أنّ الحق ينطلق من الله سبحانه وتعالى، وأنّ حركة الناس في الحقّ وحتى في اجتهاد المجتهدين لا بدّ أن تنطلق من الأصول التي تربط القضايا بالله سبحانه وتعالى. وكمثل على ذلك تجربة الجمهورية الإسلامية أي تجربة المزاوجة بين "ولاية الفقيه" وبين "الشورى" فيمكن أن تدرس هذه التجربة، كما نجد أنّ بعض تجارب المفكّرين الذين يحاولون أن يزاوجوا بين الشورى وبين ولاية الفقيه أو بين الشورى وبين الخطّ الإسلامي في العمل وما إلى ذلك.
الحداثة وما بعدها:
ما موقع مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة في الإسلام؟
ــــ الحداثة هي حركة ثقافية تحاول أن تنفتح على الجديد في الفن، أو الجديد في الذهنية، أو الجديد في الحركة، ونحن لسنا ضدّ الحداثة ولكن بشرط أن لا تكون الحداثة عقدةً نسقط تحت تأثيرها، ولا يصحّ أن نأخذ بالحداثة كيفما كان، ذلك أنّ قضية الحداثة وقضية التراث في البعد الفكري، هي قضية "المضمون" فمن الضروري أن تتطوّر الأساليب ووسائل الحياة، فلربّما نسير في خطّ اجتهادي بحيث نكتشف فيه شيئاً لم يكتشفه الأوّلون لكن على أساس أن نتّبع الأصول التي تركّز الفكرة على أسس سليمة.
أما أن نطلب الحداثة للحداثة فهذا غير صحيح، نعم علينا أن ننفتح على العصر ولكن علينا أن نبقى على الالتزام بالمضمون الفكري الإسلامي الذي نرى أنّه الحق. إنّنا مع الحداثة التي لا تمسّ الجوهر، ولا تمسّ المضمون. فلا بدّ للذي يعيش العصر أن يعيش روحية العصر وأن يعيش ذهنية العصر بشرط أن لا يستلبه العصر فيأخذ كل ما فيه جملةً وتفصيلاً. وقد يكون في الماضي شيء أحدث ممّا في الحاضر، وقد يكون في الحاضر شيء أكثر روحية ممّا في الماضي، ذلك أنّ قصة التقدميّة والرجعية هي قصّة الحداثة وعدم الحداثة وليست المسألة مربوطة بالزمن ولكنّها ذات علاقة بالإنسان كيف ينفتح، وكيف يبدع، وكيف ينطلق، وكيف يحافظ على مواقعه الفكرية؟!.
نظرية الأدب الإسلامي:
هل تعتقدون بوجود نظرية للأدب الإسلامي، وما هي ملامحها؟
ــــ عندما ننطلق في إيجاد أية قاعدة فنيّة لأي أدب إذا أردنا أن ننسبه إلى خطّ أو فكر فإنّ من المفترض أن نستوحي هذا الأدب من المفاهيم التي تتمثّل في هذا الفكر. فمثلاً عندما نقرأ أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان "يحبُّ الفأل الحسن، ويكره الطيرةَ" أي أنّه كان يحبّ التفاؤل ويكره التشاؤم وقد نفهم من ذلك إنّ الأدب التشاؤمي ليس إسلامياً لأنّ الخطّ الإسلامي في النظرة إلى الحياة هو خطّ التفاؤل والخطّ الذي يبقي الأمل منفتحاً في عقلك في شعورك بكلّ الحياة. وإذن فالأدب التشاؤمي ليس أدباً إسلامياً أي لا يحمل ملامح الأدب الإسلامي ولكنّ التفاؤل يملك الملامح الإسلامية.
وكذلك الأدب اليائس فالشاعر أو الكاتب الذي يحاول أن يصوّر أو يكتب قصّة يائسة مفعمة بالإحباط، أو شعراً ينطلق ليواجه قضايا الحياة بنظرة يائسة فهذا ليس أدباً إسلامياً لأنّ الله تعالى يقول: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(1) فهذه الآية تؤكّد على أنّ الإنسان يجب أن ينطلق في حياته على أساس أن لا يركّز اليأس في أيّة تجربة من تجارب حياته، لأنّك ما دمت منفتحاً على الله فلا معنى لليأس لأنّ {اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(2)، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}(3)، وهكذا عندما ننطلق في الخطوط الأخلاقية للإسلام {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}(4)، فهذا عنصر من عناصر حركة الأدب الإسلامي، فلا يمكن أن يكتب الأديب المسلم قصّة أو شعراً أو أيّة محاولة كتابية أخرى تشجّع الظلم مثلاً وتعطي الظلم عنواناً يبعث على الاحترام. أو أن يكتب الأديب قصّة أو رواية أو مسرحية أو قصيدة تحاول أن تجعل الظلم ينتصر على العدل أو الشرّ على الخير فهذا أدب غير إسلامي.
وإذن فكلّ أدبٍ منتمٍ لا بدّ أن يأخذ ملامحه من الخطّ الذي ينتمي إليه. أنا لا أقول بأنّ على الأديب أن يكون مصلحاً اجتماعياً على حساب التصوير الفنيّ بل لا بدّ للأديب أن يعيش الإبداع الفني في طريقة التعبير وفي الأخيلة وفي الصور. ولكن على الأديب أن يكون ملتزماً بالإسلام وملتزماً بالحياة وقبل ذلك أن يكون ملتزماً بالله خالق الإنسان وخالق الحياة. لذلك فإنّ ملامح الأدب الإسلامي تنطلق من خلال ملامح الخطّ الإسلامي في المسألة القيميّة والإنسانية وفي نظرة الإنسان إلى الحياة في كل جوانبها.
الأدب وتناقضات الواقع:
يحتاج الأديب المسلم أحياناً إلى التعامل مع الواقع بكلّ تناقضاته، فما هي الحدود التي يجب الوقوف عندها؟
ــــ يجب على الأديب المسلم أن يقف عند حدود الله، ففي الواقع ظلم وعليه أن يستنكره. وفي الواقع غياب للعدل فعليه أن يحرّكه، ويسدّد له حضوره وفي الواقع آلام يكابدها الإنسان فعليه أن يعمل على تخفيفها ولو إيحائياً. وفي الواقع مشاكل كثيرة فعليه أن يلامسها ويصوّرها ويبدع فيها حتى يمكن أن يقدّمها للناس لتفرض نفسها على الواقع من أجل تغييره، فلا يمكن للأديب المسلم أن لا يكون ملتزماً ولذلك فلا بدّ له من أن ينظر إلى الواقع بكل ما فيه من الإبداع من أجل أن يغيّر الواقع بطريقةٍ فنيّةٍ، شاعرة، مبدعة بحيث يمكن له أن يلامس خطّ التغيير إذا لم يستطع أن يدفعه.
تأمّلات حول المرأة:
هل ألّفت كتاباً بيّنت فيه مكانة المرأة في الإسلام ودورها في التاريخ الإسلامي وأهميتها في وقتنا الحاضر والمستقبل، وما عنوان الكتاب؟
ــــ الواقع أنّ هناك كتاباً بعنوان "تأمّلات إسلامية حول المرأة" وقد طبع عدّة طبعات وترجم إلى الفرنسية ويترجم الآن إلى الانكليزية وهناك "المرأة في دورها الرسالي" وكتاب "مدخل لقراءة فقه المرأة الحقوقي" وقد طبع الكتابان الأخيران في المستشارية الثقافية في بيروت، وأعتقد أنّ فيهما نقاطاً جيدة تحلّل مكانة المرأة في الإسلام وتحلّل دورها وتوجّه الناس إلى كيفية التعامل معها في الواقع.
التنمية إسلامياً:
مفهوم "التنمية" من المفاهيم التي تناولتها الدراسات الماركسية والقومية والرأسمالية حيث كتب فيها الكثير ومن مختلف أبعادها. هل لكم أن تعطونا الخطوط العريضة للتنمية في الإسلام، فيما يسمح به المقام؟
ــــ من الطبيعي أنّ للتنمية عدّة خطوط، أو عدّة مواقع: هناك التنمية الثقافية وهناك التنمية الاقتصادية بفروعها المتعدّدة: التنمية الصناعية والزراعية وغيرها. وهناك التنمية الروحية والنفسية وحتى السياسية والاجتماعية لأنّ كلّ شيء يمثّل حركية الإنسان في بناء نفسه وفي بناء حاجاته وفي بناء الحياة من حوله يعدُّ تنميةً من وجهة النظر الإسلامية فلا يقف عند حدٍّ معيّن بل يحاول أن يطوّر هذه الطاقات ويطوّر هذه الموارد، لأنّ الله أراد للإنسان أن يظلّ في خطّ تصاعدي في كلّ جوانب حياته وربّما نقرأ بعض الأدعية بطريقة مغلقة لا تتّسع للساحة الواسعة في الحياة "اللّهم اجعل مستقبل عمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها وخير أيامي يوم ألقاك فيه" ما معنى هذا؟ إنّ معناه أنّ الإنسان يطلب من ربّه أن يوفّقه ليبقى في خطّ تصاعدي وأن يتحرّك من الماضي لينطلق في المستقبل، لذلك عليك أن تنطلق كإنسان ينمّي طاقاته الثقافية والإنسانية من أجل أن تظلّ في خطّ التقدّم.
وهكذا فإنّ الإنسان لا يستطيع أن يتقدّم إلاّ بتقدّم موارده، ولا يستطيع أن يحلّ مشاكله الاجتماعية إلاّ من خلال تنمية طاقات المجتمع وتطوير وعيه وقضاياه على ضوء الإسلام، فطاقتك مثلاً مسؤوليّتك وليست امتيازاً تزهو به، إنّها مسؤولية عليك أن تقدّم حسابها.
وهناك حديث رائع للإمام الصادق (عليه السلام) وقلَّ منّا مَنْ يعيش فكر الإمام الصادق (عليه السلام) وفكر أئمة أهل البيت، يقول "إنّ الله لم ينعم على عبده بنعمة إلاّ وقد ألزمه فيها الحجّة من قبله فمن مَنَّ الله عليه فجعله موسعاً في مالِه فحجّته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بفرائضه ونوافله، ومَن منَّ عليه فجعله قوياً في بدنه فحجّته عليه القيام بما كلفه واحتمال من هو دونه ممّن هو أضعف منه، ومن منَّ الله عليه فجعله شريفاً في قومه جميلاً في صورته فحجّته عليه أن لا يغمط حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله".
إنّ طاقتك ــــ أيها المؤمن ــــ هي مسؤوليتك ولتعرف أنّ الإسلام يحرم عليك الإسراف حتى في أن تسكب الماء الفاضل في الكأس بعد أن تشرب نصفه لتسكب نصفه الآخر على الأرض، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) "إنّ القصد أمر يحبّه الله عزّ وجلّ وإنَّ السرف يبغضه حتى طرحك النواة، فإنّها تصلح لشيء وحتى صبّك فضل شرابك" فأنتَ تأكل التمرة وتطرح النواة في الأرض وتأكل حبّة الزيتون فتطرح النواة في الأرض، والإمام يقول لك فكّر في ذلك فقد تصلح لشيء فإنّ بإمكانك أن تصنّع النواة وأن تنتج منها شيئاً نافعاً.
وهكذا في الاقتصاد حتى جاء في الأدعية "ومتّعني بالاقتصاد واجعلني من أهل السداد" والاقتصاد هو تحريك الثروة بما يخدم حاجة المجتمع من دن أي تضييع بقليل أو كثير، والتبذير هو أن تصرف المال في غير موضعه {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}(1)، إنّ ثروة الأمة مسؤوليتها، ولذلك عليها أن تنمّي ثرواتها من أجل حاجاتها، فالتنمية قد تكون فريضة إسلامية بالمعنى العام للفريضة.
أمّا تفاصيل التنمية، كيف ننمّي الزراعة وكيف ننمّي الصناعة، وكيف ننمّي الثقافة، وكيف ننمّي الواقع الاجتماعي والسياسي فهذه قضية تدخل في حركة التجربة في الواقع ولا يتحدّث عنها في النظرية بل يتحدّث عنها عندما تمسك مقاليد المجتمع بيدك ويومها عليك أن تعرف كيف تنظّم للمجتمع طاقاته، إنّنا نتحدّث عن المفهوم في الخطّ العام كمنطلق للبحث والتفكير في انفتاح الإسلام على مسألة التنمية بطريقة شمولية واسعة، وكلّها تحتاج ــــ في تفاصيلها النوعية ــــ إلى الدراسات العلمية التحليلية على مستوى النظرية والتطبيق معاً.
سلبيات التشريع:
هل في التشريع سلبيات، وعلى فرض وجودها، أين نجدها، وما مقدار تأثيرها على حركة الإنسان الذي يريده الله؟
ـــــ من أين تأتي السلبيات؟ إنّها تأتي من فقدان المطلق، فمثلاً إنّ الله سبحانه وتعالى هو المطلق وهو الخير الذي لا شرَّ فيه، وقدرته لا تقف عند حدٍّ، ولا تحدّ علمه حدود، ورحمته وسعت كل شيء، فالله يمثّل الحقّ كلّه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}(2)، ويمثّل العلم كلّه، والعدل كلّه، والرحمة كلّها. أمّا الإنسان فهو محدود في جسده، وفي إمكاناته، وفي وعيه للأشياء لأنّه يأخذ العلم بعقله وطريق العقل إلى العلم هي الحواس أو الفطرة التي خلقها الله، ولهذا لا نستطيع أن نتصوّر ذات الله بعقلنا لأنّه لا سبيل لنا لمعرفة ذلك. ولا نستطيع كذلك أن نتصوّر الغيب بعقلنا، لأنّه لا طريق لنا لمعرفة الغيب إلاّ من خلال ما عرّفنا المطّلعون على الغيب.
لذلك، ففي الإنسان سلبٌ وإيجاب، لأنّ محدوديّته تقتضي ذلك، وأسوق لكم مثلاً، فلو كنّا في البرّ فإنّ الهواء الطلق غنيّ يحوطنا من كل الجهات، والشمس تشرق علينا كأغنى ما يكون الإشراق، ولكنّ الأمل قليل، ولو افترضنا أنّنا بنينا غرفة هناك فإنّها قد تقينا الحرَّ والبرد ولكن على حساب كمية الهواء والضوء التي تقلّصت، فأنتَ قد تحصل على شيء ولكنّك تفقد شيئاً آخر، وكذلك هو التشريع، فالله سبحانه وتعالى عندما يوجب شيئاً فلأنّ المصلحة فيه أكثر من المفسدة.
فليس لدينا ــــ كقاعدة عامّة ــــ واجب لا سلبيه فيه, وليس لدينا كذلك حرام لا منفعة فيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}(1).
لا من جهة أنّ الله ليس بقادر على أن يصنع واجباً لا مفسدة فيه، أو حراماً لا مصلحة فيه، لكنّ الأفعال لا قابليةً لها أن تكون كذلك، فالله قادر قديرٌ على كل شيء، لكنّ الأفعال لا تمتلك القدرة على أن تكون مطلقة! أي خيراً لا شرّ فيه أو شرّاً لا خير فيه، لذلك اقتضى التشريع اعتبار أنّ المصلحة إذا طغت على المفسدة فإنّ الرخصة أو الوجوب هي الحكم، وبالعكس إذا كانت المفسدة أكثر من المصلحة يكون الحكم بالحرمة.
الاهتمام بعلم النفس:
هل تعتقدون بأنّ على طلاب العلم الإلمام بعلم النفس كي يمتلكوا التأثير في الناس لأنّ ذلك من صلب اختصاصهم ومسؤوليتهم؟
ــــ لا بدّ للداعية إلى الله، طالبَ علمٍ أو عالِماً أو مثقّفاً، لا بدّ له أن يملك معرفة النفس الإنسانية، وليس من الضروري أن يعرف علم النفس من خلال (فرويد) الذي أخطأ في كثير من تفسيره للنفس الإنسانية، حيث أنّه ربط المسألة في أكثر مظاهرها بالجنس واعتبر الجنس البعد الأوحد الذي تنطلق منه النشاطات الإنسانية.. فلا بدّ لنا ــــ والحال هذه ـــ أن ندرس علم النفس المطروح دراسة نقدية حتى لا نستغرق في الخطوط الفكرية التي قد تكون انطلقت من قواعد غير إسلامية.
ولا بدّ أن نعيش مع الناس لنفهمهم من خلال علم التجربة، فأنتَ عندما تعيش مع الناس يومياً حاول أن تدرسهم لا أن تعيش معهم كما لو كنت تمرّ بهم مرور الكرام. وعندما تجلس مع أي إنسان أدرس طريقته في التفكير، وادرس أسلوبه في الكلام، بل وادرس أيضاً خلفياته السياسية وأجواءه العاطفية التي تؤثّر فيه، فإنّك إذا جلست جلسة اجتماعية مع إنسان فكأنّك تقرأ في كتابه. هذا مع العلم أنّ الكتب التي كتبها الناس في الأخلاق تمثّل تجربتهم التي عاشوها، لذلك فإنّ من أول شروط النجاح وأعمقها للداعي إلى الله وللعامل في الحقل الاجتماعي والحقل السياسي والحقل التبليغي هو أن يكون ممّن يفهم مجتمعه وأن يفهم عصره وأن يفهم أسلوب عصره، لأنّك لا تستطيع أن تكلّم الناس بالتي هي أحسن، وأن تجادلهم بالتي هي أحسن وأن تدفع بالتي هي أحسن، إذا لم تفهم الإنسان في كل خلفياته وفي كلّ أوضاعه وفي كلّ ثقافته لتعرف أين السيء وأين الحسن وأين الأحسن من ذلك كلّه.
إنّ مَن يتحرّك في العمل الاجتماعي أو العمل التبليغي أو العمل السياسي وهو لا يعرف الناس لا بدّ أن يفشل من الخطوة الأولى ويتحوّل إلى عبء على المجتمع بدلاً من أن يتحوّل إلى خير فيه.
تعدُّد الزوجات:
هل يجوز تعدّد الزوجات بغير سبب عقلائي؟
ــــ لقد أباح الله ذلك من دون شرط، وأراد للرجل أن يعدل فيما بين الزوجات، وأعتقد أنّ تعدّد الزوجات ينطلق من حاجة قد تكون عميقة أو قد تكون سطحية. ونحن نقول للنساء إنّ هذا الإنسان الذي يعيش هذه الحاجة، والقليل من الناس يصبرون على حاجاتهم، من الخير له أن يتزوّج، وهو أفضل من الانحراف عندما يطلب حاجته خارج البيت الزوجي، فإذا كان التعدّد مشكلة فهو حتماً أفضل من المشكلة الأكبر (الانحراف).
أهمية القراءة الأدبية:
ما هي أهمية القراءة الأدبية للطالب؟
ــــ عندما يملك الإنسان الثقافة الأدبية في فهم النصوص فإنّه يستطيع أن يفهم النصوص الدينية وغير الدينية أكثر.
الحصول على الثقافة الإسلامية:
كيف نحصل على الثقافة الإسلامية، هل يمكن أن توضح لنا برنامجاً يساعدنا على تحصيلها؟
ــــ إنّ الثقافة الإسلامية في البداية تنطلق من القرآن، والقرآن هو الكتاب الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}(1)، وهو الكتاب الوحيد الذي تكفل الله بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(2) ولذلك نحن نرفض كل الكلمات التي تقول إنّ القرآن قد حرّف أو زيد أو أنقص منه، فهذه كلمات لا يمكن أن يقولها أيّ إنسان يفهم الآيات القرآنية.
لذلك نقول بأنّ القرآن هو الكتاب المعصوم، وعلى ضوء هذا فإنّ على الإنسان الذي يريد أن يتثقّف إسلامياً أن ينطلق من القرآن أولاً ومن السنّة الموثوق صدورها عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثانياً، ثم ينطلق في قراءة كتب العلماء الذين حلّلوا ووسّعوا ونقدوا وناقشوا، فإنّ ذلك هو السبيل لتعميق الثقافة الإسلامية.
التعايش السلمي:
سيعقد في فرنسا في كانون الثاني المقبل مؤتمر عالمي للتعايش السلمي بين الإسلام والغرب، ما هي ممكنات هذا التعايش؟
ــــ إنّ الشرط الوحيد للتعايش بين الإسلام وبين الغرب هو أن يكفَّ الغربُ عن محاربة الإسلام في فكره، وأن يكفَّ عن محاربة الإسلام في أهله، فلا يسيطر على مقدّراته وثرواته، ولا يسيطر على مواقعه الإستراتيجية، ولا يضغط على قراراته السياسية وعلى أوضاعه الاقتصادية.
وعندما يتعامل الغرب مع الإسلام والمسلمين على أساس المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل، يبقى الخلاف بين المفاهيم الغربية والإسلامية خلافاً يمكن إدارة الحوار حوله، ليكون الحوار هو الذي يحدِّد المفهوم الحق من المفهوم الباطل.
الإسلام "الإرهابي":
هل هو الخوف من الإسلام الإرهابي ــــ كما يصطلحون عليه ــــ لتدجينه أو تطبيعه ما يحمل الغرب على الدعوة لمثل هذا التعايش؟
ــــ الواقع ليس هناك إسلام إرهابي، فالإسلام يرفض إرهاب المدنيين، ويرفض قتل الأبرياء ويرفض الاعتداء على الناس {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}(1) ولكنّ المشكلة مع الغرب في إدارته السياسية أنّهم يعتبرون طالب الحرية إرهابياً، فيعتبرون مثلاً المجاهدين اللبنانيين ضدّ الاحتلال الصهيوني إرهابيين، ويعتبرون المجاهدين في فلسطين ضدّ الصهاينة الذين شرّدوا الفلسطينيين واحتلوا أرضهم إرهابيين، ويعتبرون الذين يدافعون عن أنفسهم ضدّ عنف الظالمين والمستكبرين إرهابيين.
إنّ القضية هي أن نحدّد مفهوم الإرهاب: ما هو الإرهاب، هل يشمل حركة الإنسان في المطالبة بحريته، وفي الدفاع عن حريّته؟ أو أنّ الإرهاب يختصُّ بالاعتداء على المدنيين وعلى الأبرياء بغير حقّ؟
نحن ضدّ الإرهاب بمعنى الاعتداء على المدنيين والاعتداء على الناس بغير حقّ في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنّنا مع حرية الحركة في مواجهة العنف الذي يفرض علينا، وفي مواجهة الاستكبار الذي يُطبّق علينا وفي مواجهة الاعتداء الذي يوجَّه إلينا. نحن أحرار نطلب الحرّية ولسنا إرهابيين، قال الله في كتابه {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}(1). فليس معنى ترهبونهم أي تتعاملون معهم بطريقة الإرهاب، ولكن أن تكون لكم القوّة الكبيرة المسلّحة التي إذا عرف العدو بها كفَّ عن الاعتداء عليكم وعن مواجهتكم بالعنف الذي يتحرّك فيه.
مؤهّلات الشخصية الإسلامية:
ما هي الشروط اللازمة للشخصية الإسلامية التي تمكّنها من مواكبة الأحداث والمؤامرات العالمية ضدّ الإسلام والمسلمين؟
ــــ أن يكون الإنسان واعياً للخطوط العامة الإسلامية التي تتحرّك في حياة الناس، ثم أن يكون له وعيٌ سياسيٌ واقعيٌ بحيث يفهم الخطوط السياسية ويفهم خلفيات المخابرات، ويفهم خطوط الواقع الدولي والإقليمي والمحلي، بحيث يكون عنده وعي سياسي وخبرة بالواقع كلّه، لأنّه إذا كان واعياً سياسياً فإنّه يعرف كيف تتحرّك الأمور، وكيف تتشابك الخطوط، وكيف تنحرف هذه الخطوط، ولعلّ مشكلتنا في الكثيرين من الناس الذين يملكون علماً وإخلاصاً أنّهم لا يملكون وعياً سياسياً متحرّكاً ووعياً إسلامياً لحركة الإسلام في واقع الحياة.
شروط التغيير:
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(1). هل هو تغيير العقول أم النفوس؟
ــــ ما في النفس هو العقلُ والإحساس والشعور، ولذلك فإنّ الله لا يغيّرُ ما بقوم حتى يغيّروا فهمهم للأشياء، وحتى يغيّروا أخلاقهم السلبية إلى أخلاقٍ إيجابية، وأن يغيّروا نفسياتهم المعقدة إلى نفسيات بسيطة طيّبة، أما السبيل الحقيقي إلى التغيير فهو جهاد النفس.
الملل من الدراسة:
الملل من الدراسة ما هي أسبابه وعلاجه؟
ـــــ الملل من الدراسة يحصل كلّما ابتعد الإنسان عن التفكير بالهدف من الدراسة وعندما تفكّر في الأهداف المستقبلية التي تمنحك الدراسة فرصة كبيرة لبلوغها وتحقيق الشروط الفضلى لحياتك، فإنّك تزداد ولعاً بالدراسة.
لهذا فإنّ علاج هذا المرض هو التفكير بالنتائج الإيجابية التي تحصل عليها من الدراسة مقارنةً بالنتائج السلبية التي تصيبك من خلال ابتعادك عن الدراسة، وقد يكون السبب في هذا الملل أنّ الإنسان قد يختار اختصاصاً لا ينسجم مع قابليّاته الذهنيّة أو تطلُّعاته المستقبلية، الأمر الذي يجعله لا يقبل على المادة الدراسية بنشاط وحيوية، وعليه في هذه الحال أن ينتقل إلى الاختصاص الذي ينسجم مع فكره وطموحه إذا لم يستطع إقناع نفسه بدراسته الحالية.
ترك المذاهب كلّها:
ما قولك في الرأي الذي يذهب إلى عدم التزام أي مذهب، والاعتماد على القرآن وأحاديث الرسول والعقل فقط، وهل باتخاذ هذا الموقف ما يتعارض مع الدين أو العبودية المطلقة لله؟
ــــ لا بدّ لمن يقول ذلك أن يكون مجتهداً يستطيع أن يفهم كلام الله وكلام رسوله، وأن يفهم مواقع العقل التي يمكن أن تلازم أحكام الشرع، وإذا كان كذلك فقد يكون صاحب مذهب جديد لأنّ كلّ صاحب مذهب يقول أنا أعتمد على كتاب الله وعلى رسوله وحكم العقل فيما يمكن أن يكون مصدراً للحكم الشرعي، ومثل هذا كمثل الذي يقول بإسلام بلا مذاهب أي أنّه يريد مذهباً جديداً، فلكي تخالف هذه المذاهب كلّها لا بدّ أن تعتمد على رأيك، وهذا يعني أنّك شكّلت مذهباً جديداً.
إنّ علينا أن ندرس المذاهب وندرس الأُسس الموجودة فيها لنختار ما هو أقرب إلى الحق من الآخر وإلاّ يصبح إسلامنا بلا طعم وبلا رائحة ولا لون، والمذاهب ليست شيئاً جديداً فوق الإسلام، إنّما هي منهج في فهم الإسلام، وقد يخطئ بعض الناس في المنهج وقد يصيبون، فعلينا أن نتعرّف طبيعة هذا المنهج الذي نفهم فيه إسلامنا.
تنازلات الوحدة الإسلامية:
على فرض تحقّق الوحدة بين المسلمين مع ما بينهم من اتّجاهات، ما مقدار التنازلات التي سيقدّمها كل طرف، وما مدى تأثيرها على الواقع الديني والمذهبي؟
ــــ ليست الوحدة أن يقدم هذا الفرق الإسلامي تنازلاً من عقيدته للفريق الثاني أو بالعكس، بل أن يلتقي المسلمون على ما اتّفقوا عليه وأن يرجعوا إلى الله وإلى الرسول فيما تنازعوا فيه، أي أن نتّفق على التوحيد وعلى النبوّة وعلى المعاد وعلى الصلاة وعلى الصوم والحجّ والزكاة والجهاد ثم نتّفق على رعاية مصالحنا الإسلامية ونتّفق على الاهتمام بأمور المسلمين بعد ذلك.
أمّا أن يسبل أحدنا في صلاته والآخر يتكتّف وهذا يمسح رجليه وذاك يغسلهما، فيمكن الرجوع في ذلك إلى الكتاب والسنّة. لذلك قد يقف البعض ضدّ الوحدة الإسلامية لأنّهم يريدون تحويل السنّة إلى شيعة والشيعة إلى سنّة، ولكنّ الوحدة هي أن نتعاون على ما اتّفقنا عليه وأن يحاور بعضنا البعض الآخر بالطرق الإسلامية فيما اختلفنا فيه، وهذا هو الذي يعطي القضايا الإسلامية الحيوية الأساسية قوّة في مقابل الكافرين، كما يعطي المسلمين قوّة في مقابل المستكبرين، هذا هو المراد من الوحدة الإسلامية.
تسهيل المنهج الإلهيّ:
إذا كان الله سبحانه يعلم بأنّ أكثر الناس لا يؤمنون كما جاءت الآيات تخبر بذلك، فلماذا لم يسهّل الله سبحانه وتعالى منهجه حتى تكون النتيجة بأن يؤمن أكثر الناس، أليس الله قد كتب على نفسه الرحمة؟
ــــ لأنّه جلّ وعلا كتب على نفسه الرحمة أعطاهم العقل والإرادة والاختيار، وأراد للإنسان أن يعطي الإنسان الآخر الإحساس بإنسانيته، أي أنّك لست حجراً بل لك أن تعيش إنسانيتك وأن تحرّك إيمانك من خلال عناصر إنسانيّتك: عقلك إرادتك، ولقد أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يحصل على النتائج الطيّبة في الإيمان والعمل الصالح من خلال إرادته، وقد أعطاه حرية الاختيار وهيّأ له كلّ الظروف التي تقوده إلى الإيمان والطاعة ولكنّه ظلم نفسه، فالمصالح التي تحصل من خلال اختيار الإنسان أكثر من المصالح التي تحصل من خلال إبعاد الإنسان عن الخيار، وتلك حكمة الله {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}(1).
تطويع المصطلحات:
هل يمكن تطويع بعض المصطلحات كالديمقراطية وجعلها تتكيّف مع الفكر الإسلامي؟
ــــ لقد ذكرنا أكثر من مرة أنّ للديمقراطية خلفية فكرية وآلية عملية، فخلفيّتها الفكرية هي أنّ الأكثرية أساس الشرعية، فلا يمكن أن يلتقي الإسلام مع الديمقراطية في خلفيّتها الفكرية، لأنّ الإسلام هو الحقّ وهو وحيُ الله سبحانه وتعالى فلا يتغيّر سواءً قَبِلَهُ أكثر الناس أو رفضوه، على أنّ الله سبحانه وتعالى ليس دوماً مع الأكثرية {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}(2)، {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(3)، {وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(1)، وإذن لا يمكن التطويع، فللإسلام منهج فكري وللديمقراطية منهج فكري مغاير. وهنك بعض الخطوط الإسلامية التي تجد مصلحة في الأخذ برأي الأكثرية باعتباره الخيار الأقل سوءاً، كما أخذت الجمهورية الإسلامية بها على أساس أنّ الولي الفقيه يرى أنّ المصلحة في استنطاق الناس بالمعنى الآلي للشورى.
فعلينا أن نفرّق بين الديمقراطية كوسيلة لمعرفة آراء الناس عندما تكون هناك مصلحة في ذلك، وبين أن تكون الديمقراطية أساس الشرعية.
ونحن نقول إنّ الإسلام لا يحتاج إلى الديمقراطية ولا إلى أي منهج آخر لأجل إثبات شرعيته، كما نقول أنّ الإسلام إسلام فقط، لا ديمقراطية ولا اشتراكية ولا وجودية ولا غير ذلك.
ولكنّني أتساءل: لماذا هذا الضعف، لماذا نعيش السقوط أمام الغرب وإلاّ هل سمعتم بغربيّ يقول لنوفِّق بين الديمقراطية والإسلام، أو يطالب بتطويع الديمقراطية للإسلام أو يستبدل كلمة أو مصطلحاً بآخر، فلماذا نستعير كلمات الآخرين؟!.
إنّ لدينا أصالة، فالإسلام يمثّل أصالتنا الفكرية وهو وحي الله وهو خطّ رسول الله، فلا نحتاج أن نأخذ من غيرنا، ولذا فأنا ضدّ أن نستعمل أي مصطلح من المصطلحات التي جاء بها الناس ومحاولة تطبيقها على الإسلام بحجّة أنّ فيها شيئاً من الإسلام، في حين أنّ لدينا كلّ الإسلام، فلماذا نأخذ بشيء فيه 10% من الإسلام وندعو الناس إليه. فلنُخلِص لإسلامنا ولنؤصّل إسلامنا، فالله سبحانه يريدنا أن نحافظ حتّى على دقّة اللفظة {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا}(2) فتلك كلمة تحتمل معنى وهذه واضحة.
روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}(3) قال: "هو قول الرّجل: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لما أصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي، ألاَ ترى أنّه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟ قلت: فنقول لولا أنَّ الله من عليَّ بفلان لهلكت، قال: نعم لا بأس بهذا ونحوه"(1).
فالمهم هو أن تربط كلّ شيء بالله، فكما أنّ لدينا توحيداً في العقيدة لا بدّ أن يكون لدينا كذلك توحيد في اللفظ، أي أن لا تتوجه بقولك إلاّ إلى الله وأن تربط كل الأمور به، فهذا هو التوحيد الحقيقي.
بغض أميركا وإسرائيل:
لماذا أنتم علماء الشيعة تكرهون أميركا وإسرائيل رغم أنّ شعار دينكم المحبّة؟
ــــ ليس علماء الشيعة أو المسلمون فقط بل حتى المسيحيون وكل الناس يكرهون الاستكبار، فلقد أمرنا الله أن نحارب الاستكبار ونكره المستكبرين وأن نقف ضدّهم، فأي استكبار أشرس من الاستكبار الأميركي الذي يريد أن يسيطر على كل ثروات العالم الثالث بما فيه العالَم الإسلامي، ويريد أن يفرض سياسته واقتصاده عليهما، وأيّ استكبار أشدّ وحشية من استكبار إسرائيل التي احتلت فلسطين وأخرجت أهلها ومنعتهم من العودة إليها وهي تتعسّف وتحتلّ أيضاً أراضٍ غير فلسطينية.
الحجاب في الشرائع السماوية:
هل فُرض الحجاب في الشرائع السماوية السابقة؟
ــــ الظاهر أنّه مفروض في كل الرسالات، ولهذا عندما نرى صورة السيّدة مريم (عليها السلام) التي يتوارثها المسيحيون نرى أنّها كانت محجّبة حجاباً أخلاقياً وروحياً، وإنّما نقول ذلك باعتبار أنّ الحجاب وسيلة من وسائل إعانة المجتمع لأن يأخذ بأسباب العفّة ولو من هذا الجانب ليكمل أسباب العفّة من جانب آخر، ومن الطبيعي فإنّ السفور يبتعد بالمجتمع عن الانسجام مع خطّ العفّة، ولا يمكن لله سبحانه وتعالى أن يطلب من الناس العفّة وأن يبعدهم عن التشريع المساعد عليها.
ثبات الأحكام وتغيّرها:
هل الأحكام الشرعية جميعاً ثابتة ودائمة ولا تملك المرونة والتغيير، علماً أنّ الحديث المشهور "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة" يشير إلى هذا المعنى؟
ــــ نستطيع أن نقول بأنّ الأحكام الشرعية ثابتة ومتغيّرة. أمّا أنّها ثابتة فإنّ ما شرّعه الله لا يمكن أن يغيّره أحد ولا يمكن أن يأتي تشريع آخر من أي بشر ينسخه.
أمّا أنّها يمكن أن تكون متغيّرة فبحسب قواعد الإسلام الشرعية، فمثلاً المِيتة حرام لكن إذا اضطررت إلى أكل الميتة ــــ كما لو توقّفت عليها حياتك ــــ فما من شيء إلاّ وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه.
فهذا لا يعني أنّ المِيتة في الأساس محلّلة، فالحلال حلال إلى يوم القيامة والحرام حرام إلى يوم القيامة. ومن القواعد الأخرى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1)، فكل حكم يلزم العسر والحرج قد رفعه الله سواءً في مقام امتثال الواجبات أو المحرّمات، فإذا ثبت الحرج بشروطه وبعناصره يرتفع الحكم الشرعي، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: "رفع عن أُمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق مالم ينطق بشفة"(2)، فهذه كلّها عناوين ثانوية ترفع الحكم الشرعي.
وكذلك عندما تكون المصلحة أقوى فإنّ الأحكام تتغيّر، فالكذب مثلاً حرام ولكن إذا توقّف إنقاذ المؤمن على الكذب يصبح واجباً، والصدق حلال وواجب ولكن إذا لزم من الصدق قتل إنسان أو فضح الأسرار العسكرية والأسرار الاقتصادية والسياسية للأُمّة فإنّه يصبح حراماً. وهكذا فإنّ هناك الكثير من العناوين الثانوية التي قد تجعل الحرام في ذاته حلالاً والعكس صحيح.
فهناك داخل الشريعة الإسلامية مرونة من خلال العناوين الثانوية وتبدّل الموضوعات من خلال تزاحم الأحكام في المصالح والمفاسد ومن خلال قاعدة (لا ضرر) وقاعدة (لا حرج) وما إلى ذلك، فهي ثابتة كما صدرت عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالعناوين الأولية، والأحكام في العناوين الثانوية كذلك فهي ثابتة في مواضع الحرج والضرر، كما شرّعها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعناوينها الأولية والثانوية وهي متحرّكة بسبب طبيعة واقع الإنسان الذي قد يلتقي بشيء ضار في موقع ونافع في موقع آخر.
أسلمة العلوم:
هل أنّ مفهوم أسلمة العلوم، بمعنى طرح مفاهيم إسلامية لعلوم الاقتصاد والسياسة والتربية وغيرها، هو مفهوم صحيح وأصيل؟
ــــ هناك جانب من العلوم متعلّق بالأمور الفنيّة وهناك جانب المفردات العلمية، ولكن لا بدّ من طرح وجهة النظر الإسلامية في بعض تفاصيل الاقتصاد أو خطوط الاقتصاد. فليس معنى أسلمة الاقتصاد يعني تحوّله إلى علم إسلامي، فثمّة فرق بين علم الاقتصاد ومذهب الاقتصاد، نعم علينا أن نؤكّد ونحن ندرس الاقتصاد وفقاً للمذهب الإسلامي في الاقتصاد على بعض النقاط الإسلامية التي قد تختلف في بعض مفرداتها عن الواقع الاقتصادي أو النظريات الاقتصادية السائدة، وهكذا بالنسبة إلى السياسة والتربية.
الفوارق بين الجنسين:
ممّا لا شكّ فيه أنّ المرأة أقلُّ قدرة من الناحية البدنية والعقلية لذلك شرّع الله سبحانه وتعالى للمرأة نصف ميراث الرجل وكذلك في الشهادة، إلاّ أن العقوبة هي نفس عقوبة الرجل في حالة الزنا والسرقة، وشرب الخمر؟
ــــ صحيح أنّ المرأة أضعف من الرجل بدنياً لكن مع التدريب الرياضي كالكاراتيه وغيره قد تتغيّر المعادلة، وحتى لو كان جسد الرجل أضخم فقد يكون فن المرأة المتعلّمة أكبر، فلم تعد القوى البدنية إلاّ أمراً نسبياً، ففي السابق كانت القوّة تتمثّل بضخامة الجسد أما الآن فقد أصبحت للقوّة قوانين أخرى.
ثمّ مَن قال إنّ المرأة أقل عقلاً من الرجل وهذا القرآن يطرح نموذج المرأة العاقلة (بلقيس) ــــ ملكة سبأ ـــ التي طلبت أن يحرّك الرجال عضلات عقولهم فحرّكوا عضلات أيديهم، واستطاعت أن تعطي الرأي وأن تسير في خطّتها حتى وصلت إلى الحقيقة مع (سليمان) وآمنت بالله بعد ذلك.
أمّا مسألة الميراث فليس من جهة أنّ عقلها أو أنّ بدنها ضعيف، بل إنّ الله سبحانه وتعالى أعطى المرأة أكثر من الرجل لأنّ الرجل عندما يريد أن يتزوج يدفع مهراً ويؤثّث بيتاً وينفق على المرأة وعلى الأولاد، أمّا المرأة التي أخذت حصّة واحدة فلا تدفع مهراً ولا تنفق على البيت ولا على الأولاد، فيفترض للرجال أن يطالبوا بالمساواة لا النساء.
وبالنسبة للشهادة فلا علاقة لها بالعقل، فلقد قال الله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}(1)، فليست المسألة في نقصان العقل وإنّما هي احتياط للعدالة.
وأمّا قضية الزنا والسرقة وكذا كل العقوبات فالرجل والمرأة فيها على حدٍّ سواء، وفيما يخصُّ الديّة فباعتبار أنّ دور الرجل في الانتاج أكبر فتصبح الديّة جانباً تعويضياً أي أنّ العائلة تخسر من فقدان الرجل أكثر بحسب طبيعة الواقع ولهذا كانت ديّة الرجل أكثر، والله العالِم بأسرار أحكامه.
عمر الثورات:
من وجهة نظر إسلامية هل أنّ للثورات عمراً معيناً بحيث تموت بعده، ومتى يكون ذلك، ولماذا نلاحظ أنّ جيل الثورة الأول أو القائمين بها هم أكثر تمسّكاً بأهدافها ومبادئها من الذين يأتون بعدهم؟
ــــ من الطبيعي أنّ الثورات والحضارات لها أجلٌ معيّن بحسب عناصرها في الأشخاص وفي الظروف والأوضاع التي تتحرّك في داخلها، فربّما تتعقّد الظروف أمام الثورة، وربما يذهب الأشخاص الذين يمثّلون القيادة المخلصة للثورة، وربّما تتغيّر الأوضاع التي كانت مهيّئة لحركة الثورة.
وأمّا بالنسبة لمقولة أنّ الأشخاص الذين انطلقوا في بداية الثورة هم أشدُّ إخلاصاً من الذين يأتون بعدهم، فهذا ليس بالضرورة، صحيح أنّهم يخلصون لما عاشوه في عمق وجدانهم ولكن قد يتعب الروّاد وقد يدركهم الضعف البشري، وربّما يأتي بعد القيادات الثورية من ينطلق بالثورة انطلاقة قوّة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1).
إشكالية العمليات الجهادية:
يجابه المجاهدون مشكلة بعض الناس الذين يرون في العمليات الجهادية التي يقومون بها السبب في تحريك نزعة العدوان لدى الأنظمة الظالمة لتبطش أكثر، ففي رأيكم كيف يمكن مواجهة هذه المشكلة؟
ــــ على هؤلاء أن يقرأوا قصّة موسى (عليه السلام) عندما قال له قومه إنّنا عشنا المشاكل قبل أن تأتينا وبعدما أتيتنا {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}(2) وعليهم أن يناقشوا هؤلاء بمنطق الانفتاح على حقائق المسألة، وأنّ الثورة ليست نزعة ذاتية لدى الثوار، وإنّما هي محاولة تصحيح الواقع وتغييره لمصلحة هؤلاء الناس ومصلحة المستضعفين.
تاريخ ميلاد المسيح:
لقد تحدّثتم مفصّلاً عن تاريخ ميلاد المسيح (عليه السلام) في محاضرتكم الماضية ولكن لم تذكروا شيئاً عن تاريخ ميلاده بالضبط فهل توافقون بأنّ ميلاده في 25 كانون الأول؟
ــــ إنّنا لم نحقّق في ذلك ولا نريد أن نحقّق فيه، لأنّه لا فائدة لنا في تاريخ الميلاد، بل فائدتنا في المولود بما تنطوي وتدلّ عليه ولادته التي هي مظهر لقدرة الله تعالى من دلائل، ومن حيث ما تتحرّك به رسالته غير المحرّفة التي هي رسالة الله عزّ وجلّ.
مناقشة النص:
طرح بعض المفكّرين الإسلاميين فكرة مناقشة النص، فما هو رأيكم؟
ــــ نحن نطرح بدلاً عن ذلك بما لا يبتعد عن فكرة فهم النص نطرح فكرة توثيق النص أولاً، بمعنى: هل أنّ النص الذي بين أيدينا هو نص إسلامي أو ليس نصّاً إسلامياً، وندعو كذلك إلى فهم النص من حيث القواعد العلمية التي لا بدّ من توفّر عناصرها في مسألة فهم النص. ثمّ علينا أن ندرس هذا النص من جهة موافقته أو مخالفته للعقل؟ وهل هو مخالف أو موافق لطبيعة الأشياء؟ فإذا عرفنا أنّه مخالف للعقل في ظاهره أو مخالف لطبيعة الأشياء أوّلناه بالطريقة التي تؤوّل الكثير من النصوص إذا قامت القرائن العقلية أو المقامية أو اللفظية عليها.
مواجهة الحداثة وتطبيق الأصالة:
كيف نواجه الحداثة القادمة من الغرب، وكيف نطبّق الأصالة في حياتنا، خاصةً وأنّ كل شيء ينادي بحداثة الغرب وإنّ كثيراً من العلمانيين هم أصدقاء لنا وهم يصلّون ويصومون فكيف نتعامل معهم؟
ــــ أمّا عن الحداثة القادمة من الغرب، فهي على قسمين: هناك حداثة على مستوى الاكتشافات العلمية، حداثة التقنية الموجودة عند الغرب، أي حداثة وسائل الحياة التي ابتكرها الغرب، فهذه حداثة لا مشكلة عندنا حيالها لأنّنا لا نريد أن نركب الجمل أو نركب الفرس بل نحن نركب في أحدث ما استحضره الغرب من وسائل النقل، وهكذا بالنسبة إلى ما يلبّي حاجاتنا من مكتشفاته.
وهناك حداثة بالمعنى الثقافي للحداثة فعندما نواجه حداثة الغرب المنطلقة من خلال تفكير بعض المفكّرين الذين حصلوا على تقدير الغرب لهم، فأصبحت أفكارهم تمثّل تيّاراً ثقافياً، علينا حينئذٍ أن نناقش أفكارهم مقارنة بأفكارنا، لنرى كيف يمكن أن نتعامل معها من الناحية الفكرية، وهذا هو الذي يركّز الأصالة، لأنّ قضية الأصالة هي أن تعتبر نفسك صاحب فكرة وصاحب قاعدة فكرية تواجه فيها الأفكار الأخرى لتناقشها من خلال فكرك، لأنّ هناك فرقاً بين الناس الذين لا يملكون قاعدة فكرية والذين يميلون مع الريح حيث تميلُ.
ولذلك قد يصير البعض يمينيّاً إذا كان الجوّ مع اليمين، أو يسارياً إذا كان الجوّ مع اليسار، ولكن صاحب الفكر يحاول أن يعرض فكره على أفكار الآخرين فقد يرى خطأ فكره أو خطأ فهمه لفكره، وقد يرى صحّة ذلك وخطأ فكر الآخر، وعلينا أن لا نرفض الآخرين جملةً وتفصيلا، بل علينا أن ندرس الآخرين وندرس ما عندنا ونحاول أن نفهم ما عندنا وأن نفكّر فيما عندنا فلعلّنا لم نفهمه فهماً صحيحاً، وعلينا أن نفكّر بما عند الآخرين فلعلّنا لم نفهمه فهماً صحيحاً.
الفصل الرابع
آفاق تربوية
"إنّ الشخصية الإسلامية تمثّل الإسلام كلّه، والالتزام بالإسلام كلّه، وفي الإسلام واجباتٌ ومستحبّاتٌ ومحرّماتٌ ومكروهاتٌ والشخصيةُ المتكاملةُ هي التي تجمع ذلك كلّه في السلبِ والإيجاب".
أولاً: الأسرة والمدرسة
إنسانية العلاقة الزوجية:
تزوّجت أختي من شاب سنّي، وهو الآن يطلب منها أن تصلّي على مذهبه، علماً أنّه كان في فترة الخطوبة وما قبلها على غير ذلك تماماً، بل كان مقتنعاً بالمذهب الجعفري، أما الآن وبعد الزواج فقد تغيّر كلياً ويطلب من أختي أن تصلّي كما يريد أو لا تصلّي مطلقاً، وإذا رآها تصلّي على مذهبها فسوف يطلّقها؟
ــــ هذا إنسان لا يعيش المسؤولية الإنسانية لأنّه إذا أراد لها أن تصلّي على مذهبه فعليه أن يقنعها بالحكمة والموعظة الحسنة، أما إذا لم تقتنع فعليه أن يعامل الناس بما يحبّ أن يعاملوه به، فما هو رأيه لو تزوّجت أخته ــــ مثلاً ــــ من شاب شيعي وأراد أن يجبرها على أن تصلّي على مذهبه بدون قناعة، هل كان يقبل ذلك؟ وما رأيه لو كان أهل زوجته يملكون قوّة قاهرة وأرادوا أن يجبروه على أن يصلّي على مذهبهم، فهل كان يقبل ذلك؟ هذا إنسان لا يعيش إنسانية العلاقة الزوجية ولذلك لا بدّ من دراسة الأمر بينه وبينها بالطريقة التي تحفظ إنسانيّتها، ونحن لا نريد لها أن تضطهد إنسانيّته.
مشكلة زوجية:
فتاة تزوّجت من شاب يتعاطى المخدرات، هل تطلق شرعاً بعد علمها بذلك وإنجابها طفلاً منه؟
ــــ لا بدّ من معالجة الأمر بغير هذه الطريقة، نعم إذا كان قد دلس الأمر عليها وكان قد بدا أمامها على أساس أنّه رجل مؤمن وطبيعي وكان العقد قائماً على أساس هذه المواصفات فإنّ ذلك يكون تدليساً منه، وإذا دلس الرجل نفسه على الزوجة بحيث قام العقد على أساس المواصفات التي أعطاها عن نفسه ولم تكن الزوجة عالمة بذلك فإن علمت فلها أن تفسخ عقد الزوجية بينها وبينه، وبعد العدّة تستطيع أن تتزوّج من تشاء.
المرأة المسلمة النموذجية:
هل يمكن أن تعطونا صورة عن أوضاع المرأة المسلمة التي يطمح إلى تحقيقها الإسلام العظيم؟
ــــ المرأة المسلمة إنسان مسلم مسؤول عن البيت ومسؤول عن المجتمع لأنّ الله حمّل المرأة من التكاليف ما حمّل الرجل إلاّ في مواضع معيّنة تقتضيها طبيعة الدور الأمومي للمرأة والدور الأبوي للرجل وفيما عدا ذلك {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(1) والأمر بالمعروف هو الدعوة إلى الخير وإلى الحقّ وإلى العدل في العالَم كلّه ولأنّ أعلى مواقع المعروف هو الحقّ، والمنكر أيضاً يتّسع إلى العالم كلّه فيشمل الباطل والكفر والظلم والانحراف كلّه، ولعلّ سيرة الزهراء (عليها السلام) في مواجهتها للمنكر وفي دعوتها إلى المعروف هي الدليل على ذلك وهكذا سيرة ابنتها السيدة زينب (عليها السلام).
إنّ المسألة لم تكن استثناء في الزهراء ولم تكن استثناء في زينب (عليهما السلام). إنّما كانت سائرة على الخطّ القرآني {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}.
الزواج المتكرّر:
لماذا يقال أنّ الزواج المتكرّر مستحبّ، وهذا القول هو عند أكثر العلماء، بينما أرى إنّ الزواج المتكرّر هو تدمير للعائلة، وإنّ الشارع شاهد على ذلك؟
ــــ في هذه الأمور هناك عنوان أولي، فقد يكون مستحبّاً باعتبار أنّ الإنسان يعصم نفسه، ولكن بالعنوان الثانوي قد تطرأ عليها سلبيات ومشاكل بالنسبة للأولاد وبالنسبة للمجتمع، ولذلك قد يكون الشيء مستحباً بالعنوان الأولي محرّماً بالعنوان الثانوي، فلا بدّ أن تدرس القضايا في واقعها الذاتي وفي واقعها المتحرّك في الحياة.
المدارس أولاً:
سئل بعض الشخصيات الدينية غير الإسلامية السؤال التالي: إنّ الهجرة المتزايدة من الشرق تشكّل خطراً على أوروبا وذلك بنقل الإرهاب الأصولي إلى دول المهجر فأجاب: (ما دام أولادهم في مدارسنا فلا خوف منهم)، فما هو ردّ فعل العلماء المسلمين على ذلك؟
علينا أن نؤسّس المدارس في أوروبا وفي أميركا لأولادنا ليدخل الأوروبيون فيها، ولقد طرحت شعاراً في كل أحاديثي مع شبابنا في أوروبا وأميركا وقلت لهم (المدرسة قبل المسجد) فإذا كان عندنا مال فهل نؤسّس مسجداً أم مدرسة؟ أنا أقول لكم إنّ تأسيس المدرسة أفضل من تأسيس المسجد لأنّنا نستطيع أن نصلّي في قاعد المدرسة ونعلّم أولادنا ونحفظ لهم إيمانهم، ويمكن أن نؤسّس المساجد بعد ذلك، ذلك أنّ مبرّر الهجرة إلى بلاد الكفر هو أن يعمل القادرون من المؤمنين ومن المسلمين على تأسيس مدارس في مهاجرهم.
وأقول لكلّ أخواننا سواءً القادرين منهم أو الذين يعرفون القادرين أنّ تأسيس مدارس إسلامية في أوروبا وفي أميركا قد يكون أفضل من تأسيس مساجد وحسينيّات، لأنّ الهجرة بفعل الاضطهاد الذي تعانيه الكثير من الشعوب الإسلامية وبفعل الأوضاع القلقة أصبحت طبيعية وأساسية، وأصبح لنا وجود هناك وإذا لم نحافظ على أولادنا سيصبح أولادنا كفّاراً وسنفقدهم كما سنفقد أنفسنا بعد ذلك، لذا أعتقد أنّ المسألة يجب أن تطرح كحالة طوارئ في هذا المجال حتى نستطيع أن نردّ على مَن يقول ذلك بأنّ أولادنا في مدارسنا وربّما ندعو أولادهم ليكونوا في مدارسنا أيضاً.
ضرب التلاميذ:
أنا مدرّس ابتدائي أقوم أحياناً بضرب غير مبرح للتلميذ غضباً وبدون إذن ولي أمره وأحياناً بإذنه فهل هذا جائز؟
لا يجوز لك ذلك بدون إذنه وحتى إذا أذن لك أبوه فهو ليس ولياً على الطفل يضربه كما يحلو له، إلاّ إذا كان الضرب ضرورة تأديبية بحيث أنّك لو لم تضربه لوقع في مفسدة كبيرة، فلا ينبغي أن يتصوّر الأب أن عنده ولاية مطلقة على ولده بحيث يقول للمعلم اضرب ابني كما تشاء، فلا سلطة له أن يضرب ولده وكما لا سلطة للأم أن تضرب ولدها إلاّ في حالات الضرورة بحيث إذا دار الأمر بين تفادي مفسدة في حياته العامة والخاصة وبين ألاّ نضربه بحيث يبقى في المفسدة يكون لك ذلك، أمّا أن نضرب غضباً أو نضرب نتيجة أمر يمكن أن نتفاداه فلا يجوز، حيث يمكن للمعلم أن يؤنّب الطالب الذي يخطئ بأن يقول له اكتب عشر صفحات أو بواسطة العبوس في وجهه أو أن يخرجه من الصفّ بما لا يضرّ دراسته، أي استخدام أي وسيلة غير الضرب، فالضرب محرّم سواءً حصل من الأب أو المعلم.
إنّ التربية الحديثة تعتبر مسألة الضرب مثل العمليات الجراحية التي لا يجوز لنا أن نلجأ إليها إلاّ عندما نقترب من درجة الخطر، وعليك أن تفهم أنّ الله قد وضع الطفل أمانة بين يديك فهو ليس قطعة أثاث، وقد يقول بعض الآباء أنا أضرب ابني فما دخلك أنت؟ إنّه ابنك نعم، لكنه مخلوق الله، وهو ليس الخزانة أو الصحن أو أي شيء آخر من الأثاث.. ابنك ليس ملكك، ابنك هو وديعة الله عندك ولا يجوز لك أن تتصرّف بأي شأن من شؤونه إلاّ بما فيه مصلحة له وإذا رآك الناس تضرب ابنك فلهم أن يأخذوه ويخلّصوه من أذاك.
ونفس الشيء يقال بالنسبة إلى الزوجة، فبعض الناس يتصوّر أنه دفع مهر زوجته كما يدفع ثمن أَمَة في الوقت الذي ليس لك على زوجتك إلاّ ما جعل الله لك من حقّ فلا يجوز لك أن تشتمها ولا يجوز لك أن تضربها ولا يجوز لك أن تطردها إلى أهلها كما لا يجوز لك الإساءة إليها {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1) وحتى الأَمَة لا يجوز لك أن تضربها فالإنسان يبقى إنساناً حتى لو فرضنا أنّ هناك إماءً وعبيداً.
ديّة الضرب:
قلتم أن ضرب الطفل الذي يؤدّي إلى الاحمرار شرعاً تترتّب عليه ديّة فما هو المترتّب على الوالدين، وعلى الأخص الوالد الذي يحطّم نفسية أبنائه فضلاً عن الجانب الجسدي من خلال معاملاته وتصرّفاته معهم فيجعلهم ضعيفي الشخصية، هل لهذا ديّة في الإسلام؟
ــــ هذا ليس له ديّة، فالجانب المعنوي ليس عليه ديّة، ولكن الجانب المادي الجسدي عليه ديّة. غير أنّ الإنسان الذي يسيء تربية أولاده سوف يحاسبه الله على ذلك.
رضا الوالدين:
أسلك طريق العلم وأنا في إصرار على ذلك، ولكن بدون رضا والدي وخصوصاً والدتي وأخوتي، وهذا هو سبب انقطاعهم عني مادياً ومعنوياً وأتذكّر قول والدتي "سأغضب عليك إن تابعت الدراسة" وقال والدي "إن تابعت دراستك فلا تعرفنا ولا نعرفك" فما تقول بذلك؟
ــــ يقول تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}(1)، ولقد قلنا فيما سبق لا تجب إطاعة الوالدين ولكن ينبغي الإحسان إليهما، فالوالد غير مشرّع. فإذا أرادك أن تشتري وتتاجر بالقماش وأنت تحبّ أن تتاجر بأدوات الكهرباء، أو كان يريدك أن تتزوّج من بنت عمّك وأنتَ لا تريد أن تتزوجها فلا يجب عليك ذلك، فليس لدينا عنوان إطاعة الوالدين وإنّما يجب الإحسان إليهما، نعم قد تجب إطاعة الوالدين في الأمور الإشفاقية، إذا لم تتعارض مع واجباته ومصالحه الحيوية أمّا إذا كان هذا الرجل يطلب العلم وخصوصاً إذا كان يريد أن يقوم بتبليغ الرسالة، ليسدّ حاجة في المجتمع فإذا كانا يدعوان عليك، في مثل هذه الحالات، فإنّ دعاءه غير مستجاب، فصاحبهما معروفاً ولا تطعهما فيما لا ترى مصلحة لك فيه، أو ترى أنّ هناك مفسدة عليك، لا تطعهما ولكن بطريقة لبقة ولطيفة، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}(2).
غيرة الرجل:
هل أنّ غيرة الرجل على المرأة حلال أم حرام؟
ــــ الغيرة على نوعين: غيرة تنطلق من عقدة ومن وهم، أو وسواس، فهذه يحرم على الرجل أن يمارسها لأنّه سوف يؤذي إنسانة مؤمنة بتعقيد حياتها وتحطيم نفسيتها وإضعاف ثقتها بنفسها في الإيحاء الدائم والملاحقة المستمرة بإثارة الشكوك كما لو كانت إنسانة لا تؤتمن على نفسها فهي غيرة غير طبيعية تنطلق من الواقع السلبي في حياة المرأة ممّا قد يوقعها في الحرام.
أمّا الغيرة الطبيعية التي تنطلق من محاولة تحصين المرأة ممّا يسيء إلى عفّتها وكرامتها، فلا بأس بها، أمّا أن ينغّص حياة زوجته وحياته من خلال غيرته في حالة وسواس، كما لو كان في المدرسة أو في محل عمله وهو يفكّر في أنّ شخصاً قد يدقّ الباب على زوجته ويمكن أن تفتح له ويمكن أن يراها ابن عمّها ويمكن كذا وكذا، فإذا لم تثق بها فلماذا تزوّجتها إذاً؟
ولذلك فإنّ إعطاء المرأة الثقة بنفسها بحيث توحي لها أنّك تثق بها وأنّها امرأة أصيلة وأنّها امرأة عفيفة فإنّ هذا يحميها أكثر ممّا إذا كنت تتجسّس عليها. وعلى المرء أن يتزوج من امرأة يعتبرها إنساناً لا قطعة أثاث في البيت وأن لا يعتبرها ملكاً، فالله لم يسلّطك عليها إلاّ بما لك من حقّ فقط، ذلك أنّ المرأة مستقلة 100% وأنتَ مستقلّ 100%، نعم عليك حقّ وعليها حقّ ولها حقّ ولكَ حق {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(1) وليس الدرجة ــــ كما قلنا ــــ بحجم ناطحة سحاب وإنّما هي بحدود حقّ الطلاق الذي جعله الله بيد الرجل، حتى أنّ بعض العلماء يُجوِّز خروج المرأة من بيتها كالسيّد الخوئي (رحمه الله) إنّما يحرم ذلك إذا كان ينافي حقّ الاستمتاع، وهذا رأي نتبنّاه، لذلك فعلى الإنسان أن ينظر إلى المرأة بأنّها إنسان وأنّ هناك ميثاقاً معها {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}(2) فالزواج ميثاق غليظ، لها من خلاله حقّ وعليها بموجبه حقّ ولك وعليك مثل ذلك، والإمام عليّ (عليه السلام) يقول: "إيّاك والتغاير في غير موضع غيرة فإنّ ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم" فالتغاير في غير موضع الغيرة من الوسواس الخنّاس.
غيرة المرأة:
غيرة المرأة على الرجل أهي حرام أم حلال؟
ــــ ما نقوله للرجل نقوله للمرأة أيضاً، فعندما تصاب المرأة بالوساوس التي تثير الهواجس المرضية فإنّها تدمّر البيت الزوجي بإثارة المشاكل اليومية في داخله، فالتي لا تثق بزوجها لماذا تزوّجته؟ ثمّ عليها أن لا تغار ممّا أحلّه الله سبحانه وتعالى بشرط أن يكون الرجل إنسانياً ومعقولاً بحيث يعدل بين نسائه عند أخذه بالتعدّد في الزوجات.
مدرسة شيعية في استراليا:
بعض أولياء الطلبة يتقدّمون بتسجيل أبنائهم في مدرستنا الواقعة في استراليا، وبعد أن يعلموا أنّ المدرسة شيعية ينقطعون، علماّ أنّ المدرسة تحمل اسم مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام) الإسلامية فما هو رأيكم تجاه هذه المشكلة، مع العلم أنّه يوجد الكثير من أبناء السنّة في الولاية التي يقطنها المسلمون؟
ــــ هذا يحتاج إلى توعية، وهذه عقدة بين المسلمين نتيجة الذهنية الطائفية المتخلِّفة المتعصِّبة، ولذلك فإنّ هذا يحتاج إلى توعية، وثانياً فإنّه لا بدّ لصاحب هذه المدرسة أن يجعلها مدرسة نموذجية بحيث يرغب فيها الكافر قبل المسلم، وليس السنّي والشيعي فقط، فإذا جعلت المدرسة بمستوى جيد ومنفتح ومعقول يتّسع لكلّ المسلمين ولكلّ الناس فعند ذلك يقبل الناس عليها.
مدارس المسلمين في المهجر:
بعدما أدركنا شدّة الخطر الكبير تجاه أبناء الجالية الإسلامية من التحلّل الفكري والأخلاقي في مدينة (بلبورد) قمنا بالتصدي لهذه المشكلة بإنشاء مدارس إسلامية، وكان الإقبال عليها كبيراً وبعد مدّة وجدنا الكثير من المسلمين غير مهتمين بإلحاق أبنائهم بهذه المدرسة، فما هو قولكم لهؤلاء؟
ــــ إنّني أرى أنه يجب وجوباً عينياً على كلّ مسلم في دار الاغتراب أن يضع ولده في مدرسة الإسلام ولا يجوز له أن يضعه في مدرسة غير إسلامية حتى لو تحمّل عبئاً مالياً.
البرّ بالأب الملحد:
ما رأيكم فيما إذا كانت أفكار الأب إلحادية، فهل يجب على الأبناء البرّ به وكسب رضاه؟
ــــ نعم، فالله يقول: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} فلو طلبا منك الشرك فلا تشرك {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}(1) فإذن لا بدّ من المصاحبة بالمعروف والإحسان إلى الوالدين حتى لو كانا كافرين ولكن من دون اتباعهما في خطّهما الذي يؤدي إلى الإشراك بالله أو إلى معصية الله فـــ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وقد قلنا مراراً إنّ المطلوب في الشريعة الإسلامية هو الإحسان إلى الوالدين لا طاعة الوالدين، فالوالد ليس مشرّعاً وهذا ما أفتى به السيّد "الخوئي" (رحمه الله).
مزاج الزوج العصبي:
تقول إحدى الأخوات بأنّ لي زوجاً مريضاً ومرضه يجعله عصبياً حادّ المزاج إلى درجة الضرب والشتم ومن أجل عصبيّته أتخلى بعض الأحيان عن مسؤولياته المطلوبة مني، فما حكم ذلك؟
إذا كان عصبياً فلا تكوني عصبية مثله، وإذا عصى الله في تعامله معك فلا تعصي الله في تعاملك معه، لأنّ المسألة هي أنّ الله يريد من الزوجة أن تؤدي لزوجها حقّه كما يريد للزوج أن يؤدي لزوجته حقّها. وما يدريك فلعلّ رفضك للقيام بالمسؤوليات المطلوبة ممّا يزيد من عصبيّته، وربّما كان العكس أدعى إلى تليين موقفه.
ديّة ضرب الطفل:
هل يجوز ضرب الطفل إذا كان عمره أقل من ستّ سنوات؟ وإذا أحمّر جسمه فهل تجب الكفارة؟ وما هي الآثار المترتّبة على ذلك؟
ــــ لا يجوز الضرب قبل الست سنوات ولا بعدها إلاّ على أساس التأديب عندما يكون التأديب ضرورياً وعليه أن يضربه ضرباً خفيفاً بحيث لا يوجب الاحمرار ولا الازرقاق ولا الاسوداد، وإلاّ كان ظالماً لولده وفي الحديث "إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله" وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال (قضى أمير المؤمنين في اللطمة يسوّد معا أثرها في الوجه أن إرشها ستة دنانير فإن لم تسود واخضرّت فإنّ إرشها ثلاثة دنانير فإنْ احمرت ولم تخضر فإن إرشها دينار ونصف وإنْ كانت الآثار في البدن فديّتها نصف ما كانت في الوجه).
مسؤولية المرأة في الغربة:
ما هو دور المرأة المسلمة في دار الغربة؟
ــــ أن تكون مسلمة وأن تبقى مسلمة في حجابها، وفي حركتها في الواقع، وفي الأماكن التي تذهب إليها، ومسلمة في العلاقات التي تعقدها، ومسلمة فيما تأكل وتشرب وتلبس وما إلى ذلك.
"لغة العنف":
هناك رجل لا يعرف لغة للتفاهم مع زوجته إلاّ بالضرب، حيث يضربها ضرباً مبرحاً فكيف يمكن إيقاف هذا الرجل عند حدّه؟
ــــ في هذه الحال نقول لزوجته إنّ من حقّها أن تدافع عن نفسها، فحق الدفاع عن النفس للزوج والزوجة معاً، فليس لها أن تسلّم على أساس أن تتبعّل جيداً بحيث يكسر رأسها وتصبر ويدميها وتصبر.. ثم نقول لهذا الرجل الذي لا يعرف لغة للتفاهم غير العنف، غداً في يوم القيامة عندما تدخل النار لأنّك تضرب زوجتك وتظلمها فإنّ زبانية النار لا يعرفون معنى للتفاهم {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ}(1)، وعلى الناس أن يمنعوه بكلّ ما عندهم من طاقة، وكما قلنا فإنّ من حقّ زوجته إذا كانت قادرة على أن تدافع عن نفسها فلتفعل.
إجبار الفتاة على الزواج:
هل يغفر الله للوالدين إذا أجبرا ابنتهما على الزواج؟
ــــ إنّ من يكره ابنته على الزواج بأن يزوّجها لمن لا تريده فإنّه يسلّم ابنته إلى مَن يزني بها مختاراً ولكن بالزواج، لأنّ التي تتزوّج بدون رضاها فزواجها باطل، وبإمكانها أن تتزوّج بمن تشاء وبدون طلاق، لأنّ العقد غير شرعي.
ضرب الأطفال المشاكسين:
ذكرتم في الأسابيع الماضية حرمة ضرب الأطفال، فما العمل بطفل يعبث في البيت مع إخوته ويصرخ حيث لا يطاق إطلاقاً، فما هو رأيكم بضربه وهل الضرب في حدود المعقول يعدّ من تربية الأطفال؟
ــــ إنّ المشكلة ــــ أحياناً ــــ هي ليست مشكلة الطفل الذي لا ينفع معه إلاّ الضرب، وإنّما هو نفاد صبر الأهل أو الأب الذي عليه أن يدرس طفله والأسباب التي أدّت به إلى أن يختلف عن إخوانه، فنحن نعتبر أولادنا صندوقاً مغلقاً في الوقت الذي يتعيّن عليك عندما تواجه ظاهرة سلبية أن تدرس أسبابها وقد تستطيع من خلال اكتشافك لسرّ المشكلة التي يعيشها ابنك أن تداويه؟ بشكل أفضل بحيث لا تحتاج فيه حتى إلى الكلمة القاسية.
والنقطة الثانية هي أنّنا ندرس الأساليب السلبية التي نستعملها في التربية مع أطفالنا فنحن نبحث عن أقرب مسافة للخروج من المشكلة بالضرب في حين يمكن أن تعاقبه بأن تمنع عنه المصروف اليومي، ويكن أن تمنع عنه أكلة معينة أو أن تميّز أخوته عنه وهناك أساليب كثرة، ولذا فعلينا أن نخطّط لتربية أطفالنا وأن نعرف أنّهم أمانة الله عندنا، وأنّ الطفل له كرامة. فحينما تضرب الطفل أمام أخيه فإنّك تسحق نفسيّته، فلا بدّ أن تدرس السلبيات والإيجابيات في ذلك، فإنّ بعض الآباء الذين يضربون أبناءهم بشكل جنوني لا يعرفون أنّهم يخلقون عقدة وحقداً في نفس الطفل بل يخلقون منه حالة ضعف فيما يتوجّب علينا أن ننمّي فيهم إحساسهم بالقوة وبالاحترام لأنفسهم وقد يكون (آخر الدواء الكيّ) كما في بعض القضايا التي تحتاج إلى العملية الجراحية بعد استنفاذ كل الوسائل، وعند ذلك ينبغي أن لا يكون الضرب مبرحاً، فالله لم يسلّطك عليه إلاّ بالمقدار الذي يربّيه.
ممنوع من الدخول:
أخي الأصغر منعني من دخول منزله بتحريض من زوجته فبماذا تنصحنا كحلّ للمشكلة علماً أنه توجد بيننا شركة عمل؟
ــــ عليك أن تعالج المسألة مع زوجته حتى ترفع ضغطها عليه، وإلاّ فإنّه إذا منعك من الدخول إلى البيت فلا يجوز لك أن تدخله، لأنّه لا يجوز التصرّف في مال إمرءٍ مسلم إلاّ بإذنه حتى لو كان أخاً لك، وطبعاً فإنّ حلّ هذه القضايا يرجع إلى علاج أخوي وعلاج معقول وواقعي حتى يمكن إيجاد حلّ للمشكلة.
ابنة التاسعة:
عندي بنت عمرها تسع سنوات وهي لا تحبّ لبس الحجاب وأريد أن أعرف في أي سنّ لا بدّ لها أن تتحجّب، هل عندما تحيض أم في سن التاسعة، فهي تقول لي أنا صغيرة ولا أحبّ أن أجبرها على شيء لا تفتنع به؟
ــــ الرأي عندنا الإفتاء بالاحتياط الوجوبي، أي أنّنا لا نفتي بالتسع ولكنّنا نحتاط احتياطاً وجوبياً، ولم نفتِ بالرأي الآخر، ولا بدّ من تمرين الفتاة على ارتداء الحجاب قبل البلوغ.
التحجّب من أخ الزوج:
أحد العلماء، أيّده الله، يقول إنّ قيمومة الرجل إنّما هي بسبب الإنفاق الذي يقدّمه الرجل فلو لم ينفق فلا قيمومة له فما هو رأيكم؟
ــــ يقول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}(1) وهذا يعني أنّ الرجل قائم على المرأة من جهة بعض العناصر التي يفضّل بها على المرأة، بحيث يكون أقدر على إدارة البيت الزوجي منها، ومن جهة أنّه يتحمّل مسؤولية البيت الزوجي.
وعلى هذا الأساس فلو أنّ الرجل لم ينفق على زوجته فإنّ هناك رأياً ذهب إليه كثير من العلماء ومنهم السيّد الحكيم (رحمه الله) والسيد الشهيد الصدر (رض) ونحن نوافقهما في هذا الرأي، وهو أنّه إذا منع الرجل زوجته من حقّها فلها أن تمنعه من حقّه، باعتبار أنّ القيمومة بسبب الإنفاق فمع التخلّف عنه لا قيمومة، ثم إذا لم ينفق الرجل على زوجته فللحاكم الشرعي أن يطلّقها بدون رضاه بعد انتهاء الحوار معه إلى طريق مسدود.
حدود الانفتاح على النساء:
عندي صديق يبيع لوازم خياطة وأكثر زبائنه من النساء، وهو يقوم بالتحدّث معهن وينظر إليهن ويبتسم لهن، وإذا ما رآهن في الشارع فإنّه يلقي عليهن التحيّة مقرونة بابتسامة، فهل هذا جائز شرعاً؟ وكيف نعالج هذه الظاهرة؟
ــــ العمل ليس محرّماً ولكن لا ينبغي للإنسان أن يدفع بعلاقته بزبائنه من النساء إلى الانحراف عن الخطّ الشرعي بالطريقة المذكورة أو بأمثالها ممّا قد يؤدي به إلى الحرام ولا بدّ من معالجة ذلك بالتقوى.
الزواج المبكر ومقدّماته:
هل تنصحون الشباب بالزواج المبكر، وما هي الأمور التي يجب على الشاب أن يستحضرها قبل الزواج؟
ــــ الزواج المبكر هو الذي يحمي الإنسان من الانحراف، وفي الإسلام أحاديث كثيرة تشجّع على الزواج المبكر للفتاة وللشاب معاً من أجل تحصينهما عن الانحراف باعتبار أنّ الغريزة تمثّل جوعاً، والجائع إذا لم يجد ما يشبع جوعه فإنّه قد يكون مرتعاً للشيطان.
ومن الطبيعي فإنّ هناك موانع ومشاكل قد تتعقّد حسب تعقيدات وتطوّرات واقع الإنسان في الحياة. وعليه قبل أن يتزوّج أن يعدّ نفسه لأن يكون اثنين بعد أن كان واحداً، ذلك إنّ مشكلة الذين يتزوّجون من النساء ومن الرجال أن الواحد يفكّر أن يبقى وحده في داخل البيت الزوجي بحيث يفكّر أنّه هو السيد وهو الحاكم وهو القاهر.
فعليك أن لا تفكّر أنّك كما كنت في أيام العزوبية تسهر حيث تشاء وتغيب عن البيت حيث تشاء وتعطي مزاجك كيف تشاء وتأكل كما تشتهي بعيداً عما يشتهي مَن معك، وهكذا عليك أن لا تشعر أنّك لا زلت وحدك وأنّ الآخر مجرّد ظلّك، عليك أن تشعر أنّ كلمة زوج تعني اثنين وهي تطلق في اللغة العربية على الرجل والمرأة معاً فالرجل زوج المرأة والمرأة زوج الرجل، ولذلك عليك أن تعيش شخصية الزوج، فلقد كنت قبل الزواج واحداً فأصبحت اثنين كما أنتَ مع ثيابك {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} هذا الاندماج الروحي والجسدي والاندماج في حركة الحياة من خلال كل ما يمثّل من تداخل قضاياهما في حياتهما الفردية والعامة.
ومن الطبيعي فإنّ على الإنسان المؤمن أن يختار الإنسانة المؤمنة والعكس صحيح، ففي الحديث "إذا جاءكم مَن ترضون خلقه ودينه فزوّجوه إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" وقال بعض الناس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "مَن تزوّج امرأةً لا يتزوّجها إلاّ لجمالها لم ير فيها ما يحبّ إلاّ وكله الله إليه، فعليكم بذات الدين".
أمّا ماذا يحضّر للزواج في استعداداته المادية فهذه قضايا ترجع إليه ولا دخل لنا فيما تسمح به إمكاناته ولكن هناك ملاحظة وهي ضرورة العمل الاجتماعي على تسهيل أمور الزواج وتقليل المهر واختصار شروط الزواج في تأثيث البيت الزوجي ونحو ذلك، لأنّ تعقيدات التقاليد والعادات الاجتماعية في الزواج جعل الزواج صعباً حتى في السنّ المتقدّمة للشاب أو الفتاة بلحاظ الصعوبات الاقتصادية للناس.
الحاجة إلى مروءة:
تزوّجت شخصاً قريباً في الغربة وكتب لي معجَّلاً ما ولم يعطني شيئاً من المال أو الذهب ولم يعلم بذلك أحداً، فماذا أفعل؟
ــــ عليك أن تخاطبي تقواه إنْ كان تقيّاً، وعليك أن تخاطبي مروءته إن كان صاحب مروءة!!
وإذا أردتِ الرجوع إلى الحاكم الشرعي لإثبات حقّك من المهر فيمكن للحاكم الشرعي تحليفه اليمين على أصل الحقّ إذا طلبت ذلك، أمّا إذا ادّعى أنّه سلّمك المال فبإمكانك الحلف على نفي ذلك.
زوجة السكّير:
ما حكم الزوجة المؤمنة وما تصرّفها مع زوجها الذي يتناول الخمر؟
ــــ يقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(1) فزوجك هذا "فرعون خمري" فعليكِ أن تدعي الله لهدايته، وعليك ما أمكن أن تمتنعي عن الجلوس معه أو عن مساعدته في شرب الخمر إلاّ أن يكون عليك حرج شديد لا يتحمّل عادة، كأن يؤدي إلى تدمير حياتك الزوجية والعائلية.
زواج المقايضة:
اثنان من الشباب اتّفقا أن يتزوّج كل منهما أخت الآخر، أي ما يعرف بالمقايضة، فقام أحدهما بالزواج أولاً وتراجع الآخر، لكن المتراجع لا يطلّق ولا يأخذ الزوجة التي عقد عليها، فما هو الحكم؟
ــــ هذه المقايضة غير معقولة في الزواج وغير مشروعة، فإذا تزوّج أحدهما بطريقة شرعية فليس للآخر أن يتزوّج في مقابل ذلك، بل لا بدّ من أن يتزوج بالطريقة الطبيعية الشرعية وليس لأحدهما إذا تزوّج من أخت الآخر أن يجبره على الزواج بأخته. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنّ الشخص الذي يعقد على امرأة ولا يعاشرها بالمعروف ويساكنها وينفق عليها ولا يطلّقها يمكن لزوجته أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي ليطلّقها منه.
مسؤولية مؤسسة العائلة:
من المسؤول عن مؤسسة العائلة الأم أو الأب، فإذا كان الجواب كليهما أفلا تنصحون الرجل بعدم منع امرأته عندما يتطلّب منها إسلامها الحركة في التغيير الاجتماعي خاصة، إنّ هذه المسألة هي من مهام المرأة اليوم؟
ــــ إنّ مشكلة الكثير من الأوضاع التي تعاني منها المرأة هي الرجل، لأنّ الرجل يفهم الحياة الزوجية على أنها سلطة وسيطرة وعنفوان، وموقع عبد وسيّد، ولكنّنا نجد أنّ الإسلام اعتبر الحياة الزوجية مودة ورحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} إنّ معنى ذلك أنّ الإسلام لم يميّز الرجل عن المرأة في معنى إنسانيّته ولا في معنى الحياة الزوجية.
فالعلاقة الزوجية هي علاقة مودّة ورحمة تنتج السكينة والطمأنينة في المسؤوليات المادية يقول تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}(1)، باعتبار أنّ القوامَة تمثّل الإدارة والمسؤولية عن البيت من خلال بعض الخصائص الموجودة لدى الرجال وغير الموجودة لدى النساء لأنّ الأبوّة لا تعطّل حركية الرجل بينما الأمومة في جسد المرأة، حملاً أو إرضاعاً أو حضانة، تعطّل دور المرأة {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.
لذلك يرى العلماء أنّ الرجل إذا لم ينفق على زوجته الإنفاق الشرعيّ فللحاكم الشرعي أن يطلّقها من دون رضاه. وعلى ضوء هذا نفهم أنّ الإسلام لا يجعل المرأة كميّة مهملة في الحياة الزوجية بل يعبّر عن الحياة الزوجية بقوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}(2)، وحتى مسألة شغل البيت فلعلّ الكثيرين من العلماء يقولون إنّها ليست ملزمة إلاّ إذا اشترط الزوج أو كان ثمّة شرط ضمنيّ. ولذلك فليست هناك سلطة للرجل على المرأة بحيث يلغي إنسانيتها، نعم هناك أمور استحبّها الإسلام للمرأة. وهناك أمور أراد الإسلام للمرأة أن تحترم زوجها من خلالها وأن تعيش نوعاً من أنواع الخضوع له بالمعنى الإنسانيّ للخضوع لا بالمعنى الذي يسحق الإنسانية.
فإذا كان الإسلام، يتحدّث عن المرأة بهذا النحو {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(3) فلنعقد مقارنة بين هذا وبين قوله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(4)، فيكون معنى ذلك أنّ الإسلام يقول أيّها الرجال والنساء، أيها الأزواج والزوجات، أنتم مسؤولون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كانت المسألة مسألة التغيير الاجتماعي من الجانب السلبي إلى الجانب الإيجابي فعلى المرأة زوجةً كانت أو غير زوجة أن تنطلق في هذا الاتجاه.
نحن نستوحي ذلك من القرآن ونقول إنّ على المرأة وعلى الرجل أن يتفاهما من خلال هذه الخطوط الربانية حتى يحفظا سلامة الحياة الزوجية واستقرارها وأن يتفاهما في كيفية ممارسة الرجل والمرأة لدورهما في استقرار البيت، وكيف يمارسان دورهما في استقرار المجتمع وحمايته، وهذا أمر قلّما يلتفت إليه الفقهاء وقلّما يلتفت إليه الباحثون.
المرأة والتجربة:
يقول الإمام عليّ (عليه السلام) "العقل غريزة ينمو بالعلم والتجربة" فلماذا يسدُّ الرجال أبواب التجربة أمام المرأة؟ خاصة إذا علمنا أنّ بيدهم الأموال وبيدهم المؤسّسات الثقافية والعلمية والاجتماعية؟
ــــ للمرأة حقّ في التجربة على خطّ الإسلام بشرط أن تبتعد عمّا حرّم الله تعالى وللرجال نفس الحق، وهناك نقطة يجب أن تفهم جيداً فعندما نقول إنّ المرأة لا بدّ أن تخضع لقوانين الإسلام وأن تتحرّك بأخلاق الإسلام في الجانب العملي والجانب الاجتماعي نغفل عن أنّ الرجل أيضاً بحاجة إلى ذلك، فكما أنّ على العاملة أن تسير وفقاً للأخلاق الإسلامية فلا بدّ للعامل أن يسير على هدي الأخلاق الإسلامية، ومثلما ينبغي للذي يعمل في الخطّ السياسي من الرجال أن يكون على خطّ الاستقامة لا بدّ للمرأة أن تكون على خطّ الاستقامة، لأنّ الأخلاق ليست ضريبة على المرأة دون الرجل، بل هي ضريبة على الرجل والمرأة معاً. والعفّة والاستقامة للرجل والمرأة أيضاً {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}(1)، والآيات الموجودة في (سورة الأحزاب) تجمع بين الاثنين معاً لأنّ المرأة العاقلة الواعية التي تملك تجربة حيّة وتملك انفتاحاً على الواقع تستطيع أن تربّي أولادها وتغني الحياة الزوجية أكثر من المرأة التي لا تملك ذلك.
ولكنّ هذه المسائل تحتاج إلى نوع من أنواع التغيير الاجتماعي في الذهنية الإسلامية الاجتماعية، فأنا أزعم أنّنا متأثّرون في ذهنيّتنا الاجتماعية الإسلامية من خلال ما عاشه آباؤنا الذين كانوا يخضعون لتقاليد خاصة قد يحسبونها هي الإسلام، ولكن قد يكون لها دور المرحلة ودور الظروف الموضوعية التي فرضتها هنا وهناك.
زواج المسيحي بالمسلمة:
هل يجوز للمسيحي أن يتزوّج امرأة مسلمة، وإذا لم يجز فما رأيكم في مدلول الآية {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}(1)؟
ــــ يجوز زواج المسلم من المسيحية وليس العكس، حيث يجوز للمسلم أن يتزوّج المسيحية أو اليهودية مع بقائها على دينها، وإن كانت بعض الفتاوى تتحفّظ في ذلك، ولكنّنا نرى ذلك، وكان السيّد الحكيم والسيّد الخوئي يريان ذلك، أمّا الآية فإنّها لا تدلّ على جواز زواج المسيحي من مسلمة، بل تدلّ على جواز زواج المسلم من الكتابية المحصنة.
زواج المسيحي بالمسلمة:
إذا كان الإسلام يعترف بالدين المسيحي فلماذا لا يجيز زواج المسيحي بالمسلمة، والله تعالى يقول: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}(2)؟
ــــ هناك فرق بين دين المسيح وبين عقيدة المسيحيين، لأنّ المسيحيين لا يعترفون بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا يعترفون بالإسلام، ولذلك فإنّهم لا يحترمون كتاب الإسلام ولا دين الإسلام من خلال عقيدتهم القائمة على إنكار الإسلام كدين والقرآن كوحي ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كنبيّ، فإذا تزوّج المسيحيّ امرأة مسلمة فإنّه لا يحترم دينها من خلال عقيدته، وإن كان يمكن أن يحترمها من خلال تهذيبه، ولذلك فهي لا تستطيع أن تأمن على دينها والتزامها معه، ذلك أنّ المسلم يؤمن بالكتاب ــــ كلّه بينما لا يؤمن الكتابيّ إلاّ بكتابه الخاص.
شخصية الطفل:
هناك نظريتان في علم النفس حول شخصية الطفل: النظرية الأولى تقول إنّ الإنسان يولَد فرداً وليس شخصاً ثم تتكوّن شخصيّته بعد ذلك من خلال مجموعة عناصر الوراثة التي يحملها والتربية والثقافة التي يتلقّاها، والنظرية الثانية تقول إنّ الإنسان يولَد شخصاً (مزوّداً بعناصر ذاتية) لا فرداً، وأن دور التربية هو عملية إبراز وإظهار لتلك الشخصية، فما هو رأيكم بذلك على ضوء القرآن الكريم والسنّة الشريفة؟
ــــ إنّ النظرية التي تقول أنّ الإنسان يولَد مجرّد رقمٍ من الأرقام ليس عنده أي شيء في ذاته مثل الأرض الخالية التي كلّما ألقي فيها شيء قبلته، ليس صحيحاً، فالقرآن الكريم يؤكّد أنّ لدى الإنسان فطرة الهداية {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}(1) {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(2) ممّا يدلّ على أنّ هناك شيئاً موجوداً في داخل الإنسان وهو عنصر الهداية الفطرية، بحيث إذا انطلق الإنسان فإنه يتحرّك على أساس وجود خيارين. الأمر الذي يدلّ على وجود شيء عميق في ذاته {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(3).
فهناك ــــ بشأن هذه الآية ــــ تفسيران: تفسير يقول إنّ هذا هو (عالم الذر) أي عندما خلق الله آدم وأخرج ذريّته من ظهره كمثل الذر شافههم بأن أشهدَ الذريّة على أنفسها! ألستُ بربّكم؟ وأخذ منهم الميثاق. وهناك روايات تتحدّث عن الميثاق.
لكنّ علماءنا يثيرون إشكالين على ذلك: الإشكال الأول هو إخراج الذرية والآية تقول {أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} أي ليس من آدم، بل أخرج الله ذرية كلّ إنسان من ظهره، والإشكال الثاني: إنّنا لا نتذكّر الميثاق، فكيف يكون حجّة علينا؟
وأمّا التفسير الثاني فهو أنّ الله أشهدهم على أنفسهم لا إشهاداً فعلياً وإنّما ركّب فيهم من العناصر التي لو سألهم لأجابوا، وهو إشارة إلى عنصر الفطرة وما يتعلّق بها بحيث لو سئلت عن ربّها لصرخت "الله ربّي" وهذا المعنى يؤكّده الحديث الشريف الوارد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "كلّ مولود يولد على الفطرة إلاّ أنّ أبويه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجّسانه" فلو ترك ونفسه لتحرّك على أساس الفطرة وهي فطرة التوحيد {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(1).
وعلى هذا الأساس نقول إنّ الإنسان خلق شخصاً من خلال العنصر الذي يفتح أمامه باب الهدى، كما أنّ عناصر الوراثة أيضاً تترك تأثيرها في قابليات الإنسان، لكن هذا الموضوع يمثّل القابلية، وأمّا الفاعلية فتحتاج إلى التعليم، ولعلّ هذا هو الذي قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) "وإنّما قلبُ الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته" والمقصود من ذلك هو الجانب الفعلي وليس جانب القابلية، فالقابلية موجودة في الطفل كما في الأرض التي فيها عناصر تنمّي ما يلقى فيها.
الاستهانة بالطفولة:
تأكيداً على جواب السؤال السابق ما حكم الكذب والسخرية والاستهزاء والغيبة والانتقاص من الطفل عندما يكون دون سنّ التمييز؟
ـــ أمّا الكذب فهو حرام بالنسبة لنفس الكاذب، بغض النظر عن المكذوب عليه، فليس هناك فرق في أن تكذب على طفلك أو أن تكذب على إنسان كبير، لأنّ حرمة الكذب تتعلّق بك. والسخرية كذلك أي {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ} أي أنّ الله ينهى عن السخرية من الآخر حتى لو كان طفلاً، ثمّ إنّ السخرية هي إرهاقٌ لروح الطفل لأنّك عندما تسخر من الطفل الصغير فمعنى ذلك أنّك تسقط نفسه عند نفسه وتجعله يشعر بالإحباط وبأنّه ليس شيئاً ذا بال، وأنّه موضع سخرية للكبار، ولذلك قد تكون السخرية من الطفل جريمة أكبر من جريمة السخرية بالنسبة إلى غير الطفل، وهكذا الاستهزاء.
وأمّا الغيبة فيرى الفقهاء أنّها مختصة بالكبار {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً}(1) ولكن قد تصدق على غير البالغ أيضاً، فالطفل يتأذّى لذكر عيوبه حتى ولو كان صغيراً، والله لا يريد أن نثقل روحه، هذا أولاً من حيث ملاك الحكم. وثانياً فقد نفهم المسألة من زاوية إيذاء الإنسان في الكشف عن عيوبه وأسراره التي هي من المناطق الخفيّة عند كل إنسان والتي جعلها الله مناطق محرّمة، وإذن فلا فرق في ذلك بين الطفل المميّز أو الطفل الذي يشعر بهذه الأمور، وبين الكبار.
اتركه سبعاً:
جاء في الحديث الشريف الخاص بتربية الطفل "اتركه خمساً، وفي رواية سبعاً، فما معنى ذلك؟
ــــ ليس المقصود إهمال الطفل، فاتركه سبعاً يعني لا تفرض عليه القيود التأديبية بالطريقة التي تجعله يفقد فيها طفولته، لأنّ المرحلة من السنة الأولى إلى السنة السابعة هي سنّ اللهو والعبث، ولكن إذا كانت هناك بعض الأخلاق الحميدة وبعض العادات الطيبة التي يحتاج أن نربّيه عليها منذ ذلك الوقت فليكن بحيث إذا ما ربّيته عليها تكون قد بذرت في نفسه بذور الخير.
مدرسة للأطفال في الغرب:
أنشئت مدرسة إسلامية للأطفال في أجواء عربية تعطي دروساً في القرآن والتربية الإسلامية واللغة العربية، علماً أنّ دوام المدرسة يومان في الأسبوع فقط، فما رأيكم في هذه المدرسة البسيطة؟
ــــ هذه مدرسة مهمة جداً وهي من أفضل الأعمال إلى الله، وأنا أدعو لأن يُنشئ المهاجرون في بلاد الاغتراب مدارس كاملة يربّون فيها أولادهم على المناهج العملية والمناهج الدينية لأنّ هذا يخلّصهم من أجواء المدارس الأخرى.
حدود خروج الزوجة:
هل يجوز للزوج أن يمنع زوجته من رؤية وزيارة أهلها، وهل يجب على الزوجة طاعته في هذا الأمر؟
ــــ هناك رأيان في أمر خروج المرأة من بيت زوجها إلاّ بإذنه. هناك رأي يقول بأنّه لا يجوز للمرأة أن تخرج بغير إذنه حتى لو كان ذلك على نحو المزاج، فلو فرضنا أنّ هناك زوجاً معقّداً يرفض لزوجته أن تزول أهلها، فالمشهور عند الشيعة وعند السنّة التحفّظ من حيث الخروج إلى بيت أهلها وصلة رحمها.
وهناك رأي آخر يتبنّاه السيّد "الخوئي" ونحن نوافقه عليه وهو أنّ المرأة لا يجوز لها أن تخرج من بيت زوجها إذا نافى ذلك حق الاستمتاع الكامل أو غيره، أمّا إذا كان أثناء عمله في الخارج فلها حريّتها في ذلك وإن كان يستحبّ لها أن تطيعه فالمحرّم هو الخروج التمرّدي الذي يتنافى مع حقوق الحياة الزوجية لا الخروج الطبيعي لحاجة هنا أو قضية هناك ممّا يدخل في أوضاعها الإنسانية.
تعويد الأطفال على التفكير:
تنصحوننا بتعويد أطفالنا على التفكير وعلى أن يختاروا قراراتهم بأنفسهم فبأي مرحلة من العمر يكون ذلك وكيف يتسنّى للطفل أن يفكّر؟
ـــ إنّ تجربة الفكر مثل تجربة الجسد فكما تمرّن جسدك ليقوى أكثر، مرّن فكرك ليقوى أكثر فتمرين الفكر باستعماله، ويمكنك في هذا المجال أن تساعدهم جميعاً: زوجتك وابنك وابنتك على التفكير، ناقشهم.. حاورهم.. استنطقهم.. فنحن نريد مجتمعاً يفكّر ولديه نوع من أنواع الاستقلالية في شخصيّته ذلك أنّ المجتمع الإتكالي الذي يخضع دائماً لأفكار الآخرين من الصعب أن يكون مجتمعاً حرّاً أو مستقلاً.
صحيح أنّ هناك سلبيات في التفكير الحرّ، لكن الإيجابيات أكثر فلا يستدعي ذلك أن نتركه، إنّ بإمكاننا أن نجعل الطفل يفكّر ونرافقه بالتفكير، وبهذا نستطيع أن نجعل أطفالنا يعتمدون على أنفسهم منذ طفولتهم.
لاحظوا أنّ كثيراً من الحيوانات والطيور لديها ثقافة تربوية فمثلاً فرخ الطير تعلّمه أمّه على الطيران فيقع في البداية ثم بعد ذلك يتعلّم الطيران. غير أنّنا مجتمع "إتكالي" ولذلك نقول للآخرين فكّروا لنا ولا نقول لهم فكّروا معنا، ولهذا فمن السهل أن يستعمرنا الآخرون ويسيطروا علينا لأنّ المجتمع لا يحاول أن يتعب نفسه بالتفكير، صحيح أنّ الفكر يُتعب ولكنّه يُنتِج، فنحن نحتاج أن نقوّي عضلات فكرنا أكثر ممّا نقوّي عضلات أيدينا وأجسادنا.
حدود التفكير الحرّ:
قد يفهم من كلامكم حول التفكير الحرّ أنّكم تدعون إليه بلا ضوابط، فهل توضّحون لنا هذه الحدود؟
ــــ كنتُ أتحدّث عن ضرورة أن نجعل الآخرين يفكّرون، وأن نعيش في رعاية تفكيرهم بأن نناقشهم ونوجّههم ونعطيهم من فكرنا، وأنا أتكلّم عن التفكير الحرّ في مقابل الذين لا يفكّرون أو لا يريدون للآخرين أن يفكّروا، ومن الطبيعي فإنّ التفكير لا بدّ له من حدود وضوابط ولا بدّ للإنسان أن يفكّر على أساس قاعدة ينطلق منها، ففي الحديث "مَن شاور الرجال شاركها في عقولها" والله تعالى يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(1)، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(2) فلم أكن أقصد حرية التفكير بلا ضوابط لأنّ أي شيء بلا ضابط سوف يحوّل المجتمع إلى فوضى وهذا ما نرفضه.
التربية في الطفولة:
كيف نفهم الروايات التي تأمر بالإشراف على تربية الأطفال منذ الصغر؟
ــــ نفهمها بأنْ نجعل أولادنا مسؤوليتنا، وأن نفكّر بأنْ نجعل من أولادنا مسلمين ومؤمنين صالحين يعيشون مع الناس وينفتحون على كل مواقع الحقّ والخير، وذلك بأنْ نعمل على إلقاء البذور الصالحة في أفكارهم ومشاعرهم لتنمو في داخلهم نموّاً طبيعياً يحقّق لهم النتائج الطيّبة في المستقبل.
الاقتصار على شؤون البيت:
ما هو رأيكم بالنساء اللاتي يقصرُن اهتمامهن على البيت والأولاد بحيث يشعر بعض الأزواج بأنّ نساءهم لا يلتقين معهم في اهتماماتهم خارج البيت؟
ــــ ربّما يكون السبب في ذلك هو الرجل الذي لم يثر هذه الاهتمامات منذ البداية، فلم يُشعر زوجته بمسؤولياتها الأخرى بل إنّه أثقلها بالأعمال البيتيّة ممّا لا تستطيع معه أن تقوم بدورها خارج المنزل، وكذلك فقد يكون من واجب الرجل أن يعمل على التخفيف من مسؤوليات زوجته ويقوم بتنمية شخصيتها الرسالية ويهيّئ لها الظروف الموضوعية للانفتاح على الاهتمامات العامة في المجتمع.
دائمة القلق على الأولاد:
أنا دائمة القلق على أطفالي وأتصوّر أنّ مكروهاً سيقع لهم وخاصة ابني الذي يذهب وحده إلى المدرسة، فكيف لي أن أطمئن ويرتاح فكري؟
ــــ فكّري في أنّ هذا القلق ليس واقعياً، لأنّ ولدك عندما يذهب إلى المدرسة فهو كبقية أولاد الناس، واجعليه في عهدة الله سبحانه وتعالى وفي رعايته حتى تحصلي على الثقة والاطمئنان من خلال الله سبحانه وتعالى، بعد تهيئة كل الظروف الملائمة في أمور حمايته في ذهابه وإيابه.
ثانياً ــــ الأخلاق:
الغضب لله:
تحدّثتم عن الغضب وكظم الغيظ في جوانب الذات والفرد، فما هو موقف الإسلام من الغضب من أجل الله؟
ــــ تحدّثنا عن (الغضب اللاعقلاني) الذي يجعلك غير واقعي، ولكنّ الغضب للحقّ هو غضب عقلاني، فما معنى أن تغضب للحق؟ هو أن تدرس المسألة في أنّ هناك عدواناً على الحقّ، وأنّك لا تستطيع أن تقنع هذا الإنسان أو تردّ عدوانه على الحقّ بالكلمة الطيبة، عند ذلك تغضب، وعلى هذا الأساس فإنّ هناك غضباً يكون جزءاً من الخطّة في مواجهة الآخر العدواني الذي يريد أن يسيطر على الجوّ بطريقة انفعالية استعراضية ليهزم روح الحقّ في مجتمعه لترد انفعاله بأسلوب انفعالي عنيف يُسقط انفعاله، وثمّة فرق بين أن يكون الغضب هو الخطّة بحيث يتحرّك من دون تفكير، وبين أن يكون الغضب للحقّ وللرسالة وللأمّة من موقع وعيك للواقع في عناصره الإيجابية والسلبية، فهذا غضب عقلاني ينطلق من دراسة الواقع والتحديات.
مخافة الغيبة:
هل عدم أداء المستحبات إذا خالفت العرف كما في (زواج المتعة) يكون أفضل من أدائها من باب قول المعصوم "رحم الله امرءاً جبَّ الغيبة عن نفسه" خاصة إذا أدّى ذلك إلى أن يغتابه الآخرون؟
ــــ ليست القضية أن يغتابه الآخرون، بل القضية أن تكون هناك عناوين أو مشاكل تحدث من خلال ذلك تجعله مرجوحاً.
الخوف من الرياء:
غالباً ما يتداخل الرياء في عملي ويزداد الشكّ في أنّ أعمالي يداخلها الرياء حتى بقيت أتردّد في تنفيذ أعمالي خوفاً من أن يكون فيها شيء من رياء؟
ــــ الرياء ليس غامضاً حتى يتردّد الإنسان فيه أو يستشكل منه، فالرياء هو أن تعمل العمل لغير الله، حتى يراك الناس، فأنتَ تقدر أن تعرف نفسك، والإنسان الذي يخاف أن يداخل الرياء عمله إنسان يخلص في عمله لله سبحانه وتعالى، ولقد بلغ من إخلاصه لله سبحانه وتعالى أنّه يشكّ حتى في العمل المخلص على أنّه رياء فأي إخلاص أعظم من هذا الإخلاص؟!
روايات تقابل روايات:
هناك روايات تقابل روايات أخرى، ففي الوقت الذي تنهى فيه روايات عن التكبّر تدعو أخرى إليه "التكبّر على المتكبّر عبادة" أليس خطّ أهل البيت (عليهم السلام) هو مقابلة الإساءة بالإحسان؟
ــــ لا أعتقد أنّ هناك أي تعارض بين النهي عن التكبّر وبين الحديث عن أنّ التكبّر على المتكبّر عبادة فالنهي عن التكبّر هو النهي عن أن يعيش الإنسان شخصية الاستعلاء على الآخرين وأن يعيش الذهنية التي يفكّر فيها بضخامة شخصيّته مقارنةً بشخصية الآخرين بطريقة {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}(1) أنا خيرٌ منه لأنّه عربي وهو أعجمي، أنا خير منه لأنّي من هذا البلد أو من ذاك البلد، أنا خير منه لأنّي هاشمي والآخر غير هاشمي، ثم تتحرّك استعلاءً في ممارستك لعلاقتك معه.
إنّ الله ينهى عن أن تكون المتكبّر في عقلك وفي قلبك، والمتكبّر في شعورك وفي عملك مع الآخرين، أمّا حديث، إذا صحّ هذا الحديث، "التكبّر على المتكبّر عبادة" فإنّه يعطي الشكل وليس العمق، فإذا رأيت متكبّراً فأهن كبرياءه، أفقده تكبّره، تصرّف معه كما يتصرّف مع الناس الآخرين لتشعره بضآلة حجمه ليكون ذلك إنكاراً لتكبرّه. وليس معناه أن تكون متكبّراً في شخصيتك، فلا يجوز لنا أن نعيش ولو ذرةً من كبريائنا على أي إنسان آخر.
وكذلك نجد مقابلة الإساءة بالإحسان، لأنّ الأخلاق ليست سوقية فالسوق عادةً يتكلّم بمنطق أعطني أعطك والأخلاق الإسلامية ليست كذلك، أي ليس فيها حسابات، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: "من مكارم الأخلاق: ثلاث خصال تعطي مَن حرمَك، وتصل مَن قطعك، وتعفو عمّن ظلمك"(1)، والإمام زين العابدين (عليه السلام) يحوّل هذه الفكرة الأخلاقية الإسلامية إلى دعاء في (مكارم الأخلاق) "اللّهم وسدّدني لأن أُعارِض مَنْ غشّني بالنصح وأجزيَ مَن هجرني بالبرِّ، وأُثيب مَن حرمني بالبذل، وأُكافي مَن قطعني بالصِّلة، وأُخالِف مَن اغتابني إلى حسن الذكر وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيّئة"(2). فالله يريد أن تكون أخلاقك جزءاً من شخصيتك من خلال إيمانك بالقيمة الأخلاقية بقطع النظر عن ردّ الفعل عند الآخرين، لتكون تماماً كما الشمس تشرق على البرّ والفاجر، وكما هو الينبوع يتدفّق على الأرض الخصبة وعلى الأرض المالحة، لأنّ النبع يعيش طبيعة العطاء، ولأنّ الشمس تعيش طبيعة العطاء.
ولقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في بعض وصاياه لولده الإمام الباقر (عليه السلام) "يا بني إصنع الخير مع أهله ومع غير أهله فإن لم يكن من أهله فأنتَ مِن أهله" وهذا المعنى استوحاه الإمام من دعائه لله سبحانه وتعالى "فإنْ لم أكن أهلاً أن أبلُغ رحمتك فرحمتك أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء" فأخلاقيّتنا تسع كل الناس وإنْ لم يسعنا الناس بأخلاقيّتهم، وأن تكون الأخلاق طبيعية فينا لا أن تكون عُملةً نحرّكها بحسب ريح السوق، فإذا أكرمتني فلأنني أكرمتك، وإذا أعطيتني فلأنني أعطيتك، فأين هي القيمة الأخلاقية؟.. إنّ الأخلاق الإسلامية لا تخضع للبيع والشراء!
العفو عن الظالم:
ما هو الحكم على ظالم ظلمنا حقّنا في الدنيا ثمّ عفا المظلوم عنه في داخله ولكنّه بقي خصماً له. هل يعفو الله عنه في الآخرة وهو ظالم جبّار ولم يستسمح من الذين ظلمهم؟
ــــ إذا كانوا سامحوه في قلوبهم، والله ينظر إلى قلوبكم، فإنّ الله يسامحه من خلال الحقّ الخاص، أمّا الحقّ العام فالله أولى به {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ}(3).
عدم جواز الكذب:
هل يجوز الكذب على الأجانب لمصلحة خاصة؟
ــــ لا يجوز الكذب على المسلم وعلى الكافر لأنّ مسألة الكذب تتّصل بالكاذب وليس بالمكذوب عليه من غير أن ندخل في تفصيلات القضايا التي يكذب فيها.
كفارة الاغتياب:
إذا اغتبت أخي المؤمن هل أكتفي بالاستغفار له، لأنّني إذا أخبرته بذلك فسوف تحصل مشاكل بيني وبينه، فما هو العمل؟
ــــ إنّ كفّارة الاغتياب هي أن تستغفر لمن اغتبته إذا كنت لا تستطيع أن تطلب السماح منه. وفي دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) المرويّ عنه "دعاء يوم الاثنين" يتحدّث عن حقوق الناس التي عليه ولا يستطيع هو أن يؤدّيها، فالطريق إلى التخلّص من ضغط الحق عليه هو "اللّهم أيّما عبدٍ من عبيدك أو أمةٍ من إمامك، كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله أو في ولده أو غيبة اغتبتها إيّاه أو تحامل عليه بميلٍ أو هوىً أو أنفةٍ أو حميَّةٍ أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، حياً كان أو ميّتا، فقصرت يدي وضاق وسعي عن ردِّها إليه والتحلُّل منه فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيّته ومُسرعة إلى إرادته أن ترضيه عني بما شئت"(1).
فالإنسان يجب أن يفكّر في أنّ قضية حقوق الناس ليست بهذه السهولة المتصوّرة فلا بدّ له أن يستسمح ممّن اغتابهم ويستغفر لهم ويطلب من الله أن يتدخّل بالموضوع.
إجازة!
أقيم في بلاد المهجر وهناك مؤسسات إسلامية أحاضر فيها وخلال بعض محاضراتي أقتبس بعض أفكاركم حيث أنّني من المؤيدين للحركية الفكرية لديكم، ولكنّني خلال المحاضرة لم أذكر أنّ هذا القول لكم لأنّه كلام عام أي ليس فتوى، وليس ذلك تجاهلاً مني لأنّي أعتبر نفسي تلميذاً من تلامذتكم فهل تجيزون لي ذلك؟
ــــ بكلّ محبّة وبكلّ إخلاص وبكلّ شكر.
نقل الأحاديث:
إذا حدّثني شخص بحديث دون أن يقول لي لا تنقل كلامي ونقلت حديثه لشخص آخر فهل أكون قد خنته؟
ــــ عليك أن تدرس نوعية الكلام فإذا كان ممّا يسيء إليه أو ممّا يمكن أن يزعجه أو يخلق له مشاكل فعليك أن تحاذر من نقله، ولكن إذا كان الكلام عادياً ولم تكن هناك أيّة قرينة على إرادة الكتمان له من خلال بعض ظروفه فلا مشكلة.
التصرّف بالمال الوديعة:
لو أودع شخص عندي مالاً فهل يحقّ لي أن أتصرف بالمال لحين مطالبته به؟
ــــ الوديعة تعني أن تبقي المال عندك بحيث لا حريّة لك فيه إلاّ أن تحفظه. اللّهم إلاّ إذا أذن لك صاحب المال في أن تتصرّف به، بل إنّ الفقهاء يقولون لو أحرزت رضا صاحب المال، بحيث تعرف أنّه يرضى التصرّف به، ولكنّه لم يأذن لك فلا يجوز لك التصرّف، والمعاملات التي تشتريها باطلة لأنّها تحتاج إلى إذن، ولا يكفي فيها الرضا، نعم لو وضع عندك صحوناً أو كؤوساً أو ما شاكل من مواد عينيّة وأنتَ تحرز رضاه فإنّك تستطيع أن تتصرّف بها.
هدية مشروطة:
قمت بمراسلة إحدى المؤسسات لإرسال كتاب معيّن فقامت المؤسسة بإرساله وأرسلت معه نسخة من القرآن ولكن كتبت ورقة مرفقة: "نهدي إليك هذه النسخة ولنا ثقة فيك أن تقرأ يومياً خمس صفحات" فما الحكم لو لم أستطع القراءة؟
ــــ لم يشترطوا عليك ذلك، لكنّهم وثقوا بك أنّك تحب قراءة القرآن فكن عند ثقتهم في ذلك لأنّك سوف تحصل على تأكيد الثقة من جهة وعلى رضا الله وعلى وعي القرآن من جهةٍ ثانية.
الظالم والمثلة به:
قلتم إنَّ المثلة حرام، فما حكم الظالم الذي قتل ومثَّل بالكثير من الناس، فهل يجوز المثلة به؟
ــــ قلنا إنّ المثلة بعد الموت، وما يجري من عملية تمثيل بعد الموت فهو عملية تنفيس عن عقدة أو حالة نفسية، أمّا بالنسبة إلى قطع أيديهم وأرجلهم ــــ قبل موتهم كعقوبة ــــ فباعتبار أنّهم من المفسدين في الأرض، وعند ذلك يمكن للحاكم الشرعي أن يختار لهم ذلك.
المثلة والموقف منها:
من المعلوم أنّ الإسلام لا يقرّ المثلة، مثل قطع الرؤوس أثناء الحرب سواءً مع الكفار أو مع المسلمين، ولكنّنا نقرأ في الروايات أن هذا النوع من الأعمال مورس في الحروب الإسلامية سواءً في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث قطع رأس "عمر بن عبد ودّ العامري" من قبل عليّ (عليه السلام) وكذلك مورس في ثورة الطفّ وبقية الثورات؟
ــــ الواقع أنّ هناك فرقاً بين المثلة وبين طريقة القتل، فقطع الرأس كان طريقة القتل يومذاك، كذلك نقرأ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم}(1) فهذه عقوبة وكذلك قطع اليد {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}(1)، وهذه عقوبة أيضاً، كما أنّ وسيلة القتل ــــ في عصرنا ــــ هي الآن بالرصاص، فهل تقول أنّ القتل بالرصاصة مثلة، وهي ربّما تفجّر رأسه أو صدره؟ لكنّه القتل إمّا بهذه الطريقة أو بتلك.
لكنّ الكلام في المثلة هو في أن تقتله بأن تقطّع أطرافه، فهذا لا يجوز كافراً كان القتيل أو مسلماً.
ولقد حدّثتكم قبل مدة عن الإمام عليّ (عليه السلام) عندما ضربه "ابن ملجم" حيث أوصى بني عبد المطلّب بقوله "لا أراكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنّ بي إلاّ قاتلي، فانظروا إذا أنا مُتُّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربةً بضربة" والله يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ولا تمثّلوا بالرجل فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول "إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور".
إذن معنى النهي عن المثلة هو أن لا تقتلوا إنساناً بأن تقطعوا يديه ورجليه قبل أن يموت، وذلك كما في الحرب من دون أن تكون طبيعة القتل لغرض التمثيل به بعد أن يموت، ولذلك فالمثلة بهذا المعنى محرّمة إسلامياً.
معنى التواضع:
هل التواضع هو أن ترى نفسك أقلّ من الناس، أم هو أن ترى الناس أفضل منك؟
ــــ التواضع هو أن تعيش مع الناس من دون أن تشعر بأنّك فوقهم، وقد تمثّل هذه الحالة التربوية الإمام زين العابدين في دعاء "مكارم الأخلاق" حيث يقول: "اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلةً باطنة عند نفسي بقدرها" بحيث تدرس نقاط الضعف في نفسك مقارنة بنقاط القوة في الآخرين، وتتعرّف نقاط الضعف عندك مقارنة بنقاط القوة فيها لتتوازن في نظرتك إلى نفسك،وعند ذلك ينطلق التواضع من خلال وعيك لنفسك ووعيك للآخرين، وكلّما كنتَ كبيراً أكثر كلّما كنتَ متواضعاً أكثر، لأنّ الإنسان الذي يتكبّر ينطلق من عقدة ضعف، وهناك حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: "ما من امرء يتيه إلاّ لذلةٍ يجدها في نفسه".
أخلاق الشباب والكهول:
جاء في الحديث "خير شبابكم من تشبّه بكهولكم وشرّ كهولكم مَن تشبّه بشبابكم" فما هو المعنى؟
ــــ يعني أنّ خير الشباب من تشبَّه بالكهول في عقلهم وفي تجربتهم، وشرّ كهولكم مَن تشبَّه بشبابكم أي في انفعاله وفي شهواته وملذّاته.
مفهوم التواضع:
نرجو أن تبيّنوا لنا مفهوم التواضع في الإسلام، وكيف يريد الإسلام للمسلم أن يكون متواضعاً؟
ــــ التواضع هو أن لا تشعر في خصائصك التي تتميّز فيها سواءً كانت خصائص إيجابية خيّرة أو كانت خصائص خلقية جمالية أخرى يخيّل إليك أنّها خصائص مميّزة، أن لا تجعل خصائصك هذه مزايا تمتاز بها على الناس، بل أن تشعر إذا كانت لك ميزة في جانب أنّ للآخرين ميزة في جوانب أخرى لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يجعل الكمال كلّه للناس العاديين بل إنّك قد تجد كمالاً في نفسك وترى نقصاً من جهةٍ أخرى، وإذا وجدت نقصاً في الآخرين فإنّك قد تجد كمالاً فيهم، ولهذا ورد في دعاء "مكارم الأخلاق" أنّ على الإنسان أن يستحضر الجوانب السلبية في شخصيته إذا قفزت إلى ذهنه الجوانب الإيجابية، وإذا عاش حالة ضخامة الشخصية في المجتمع فعليه أن ينظر إلى حالة تضاؤل الشخصية في واقعه "اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي درجة ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلةً باطنة عند نفسي بقدرها".
وعلى هذا الأساس فإنّك عندما تتصوّر في الطرف الآخر عناصر الإنسانية فيه وما فيه من نقاط القوّة، وتتصوّر ما عندك من نقاط الضعف، فإنّ ذلك يدفعك إلى أن تتواضع. وثمّة فرق بين أن تتواضع وأن تذلّ.
ولقد جاء في "دعاء كميل" (وفي جميع الأحوال متواضعاً) أن تكون متواضعاً في كلّ أحوالك من خلال احترامك لإنسانية الآخر، وقد ورد في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّ على الإنسان إذا جالت في نفسه الأحاسيس والمشاعر التي تضخّم شخصيته أن يتواضع لله سبحانه وتعالى فلا يتكبّر ولا يعيش انتفاخ الشخصية، على أساس أن يعرف موقعه من ربّه لينعكس ذلك على علاقته بعباد ربّه من الناس إيجابياً.
إرجاع الأموال المسروقة:
رجل كان يسرق ومن ثمّ تاب، فهل يجوز له أن يرجع الأموال التي سرقها ولكن بعنوان غير السرقة لما يسبّبه ذلك من حرج؟
ــــ يجب عليه ذلك، وله أن يختار الطريقة التي يوصل بها المال إلى أصحابه من غير حرج ويستغفر الله لما فعله.
ندم على السرقة:
أعلم أني قبل البلوغ سرقت بعض الحاجات وربّما بعده بسنة كذلك والآن أنا نادم جداً والحمد لله وأحبّ أن أردّ ذلك المسروق ولا أدري مقدار قيمته فهل يحسب بقيمة ذلك الوقت أم بقيمة الوقت الحاضر؟
ــــ بقيمة الوقت الحاضر.
الخلاص من المعاصي:
أنا شاب أحب الله ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام) وأُقيم الصلاة وأطيع الله في كثير من الأمور ولكنّ مشكلتي هي وقوعي في بعض المعاصي بغير إرادتي ولا أستطيع التخلّص منها، فنرجو منكم إرشادنا إلى سبيل الخلاص؟
ــــ أنا أناقشك في كلمة (لا أستطيع) فلو عبّرت وقلت من الصّعب عليّ ذلك فهذا صحيح، ولكنّ الرجل الرجل هو الذي يقتحم الصعوبة، والرجل الرجل هو الذي يحرّك إرادته أمام كلّ الأشياء التي يشعر أنّها تسقط إنسانيّته ومصيره، ولذلك فالحلّ هو أن تكون لك إرادة فيما تواجهه، وحاول أن تقوّي معرفتك بالله وأن تزداد حبّاً له، وعندما تزداد معرفة بالله في مواقع عظمته ونعمته، وعندما تزداد حبّاً لله في مواقع رحمته ولطفه عند ذلك تشعر بأنّ عليك أن تقدّم الحب لله بأن تحرّك إرادتك ضدّ كل ما لا يحبّه الله سبحانه وتعالى فالإنسان إذا أحبّ الله فإنّه لا يمكن أن يحبّ ما يكرهه الله.
نصيحة لترك المعصية:
ماذا تنصحون الشاب الذي يريد أن يترك معصية الله علماً أنّه محبوب لدى أهل السوء والفحشاء؟
ــــ عليه أن يقارن بين الله سبحانه وبين أصحابه من أهل السوء والفحشاء، ليتعرّف عظمة الله وقوّته، وأنّه هو يحي ويميت، وأنّه الذي يملك له الضرّ والنفع، وأنّ الله هو الذي يرعاه، وهو الذي أعطاه كلّ نعمه وهو وحده الذي يملك حياته وموته ليدرك أنّ هؤلاء لا يمثّلون شيئاً ولكنّهم يضرّونه في ذلك.
فعندما يفكّر بعظمة الله تعالى في خلقه ونعمة الله في حياته، ويفكّر فيما يقبل عليه من اليوم الآخر، فعليه أن يقوِّي إرادته حتى يستطيع أن يسترجع إنسانيته في معنى وعيه وإرادته ليقف مع نفسه وقفة الإنسان الذي يريد أن ينقذ نفسه من معصية الله حتى يحصل على رضا الله سبحانه وتعالى.
الزوجة الكذوب:
كيف يتصرّف الزوج مع الزوجة التي تكذب عليه باستمرار وقد ربّيت على الكذب واعتادت عليه، وهل يجوز ذلك شرعاً؟
ــــ لا يجوز الكذب لا على الزوج ولا على غيره، لأنّ حرمة الكذب تنشأ من خلال الكاذب لا من خلال من يكذب عليه، وعلى الزوج أن يعمل على ترويض زوجته على الصدق في مختلف الوسائل حتى لو كانت وسائل ضغط على اعتبار أنّ الكذب لا يؤثّر على الحياة الزوجية فحسب وإنّما يؤثّر على نفس الزوجة في تعاملها الاجتماعي وعلى أولادها في مستقبلهم الأخلاقي والتربوي.
القَسَم كذباً:
هل يجوز القسم كذباً لتخرج أخاً مؤمناً من ظلم قد اقتُرف بحقّه، وما هي شروط القسم كي يعتبر صحيحاً؟
ــــ يجوز لك ذلك إذا توقّف إنقاذه على القسم، ففي الحديث "إحلف بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل" وهكذا إذا فرضنا أنّ هذا الأخ كان مظلوماً ظلماً لا مجال لإخراجه منه إلاّ بالقسم الكاذب فالله هنا يبيح لك أن تحلف باسمه كاذباً وتنقذ أخاك. لأنّ أهمية نجاة أخيك أعظم من مفسدة الحلف كاذباً، ويمكن للإنسان أن يجمع بين الحقّين كأن تقول: والله ما عمل ما يتّهم به وتشير إلى شيء آخر، فأنت لا تكذب على الله في هذه الحال.
ثالثاً ــــ السلوك:
معرفة الإنسان قدر نفسه:
هل يصحّ لكلّ من انتسب إلى الحوزة العلمية أو إحدى مؤسّساتها كالخطابة أن يخوض في كل مسألة أو يعطي آراءه فيها ليكفّر أو يجرح من يشاء؟
ــــ إنّ الشخص المؤمن الواعي، والشخص المسؤول هو الذي يقف عند حدوده بحيث يعرف حجمه وإمكاناته وثقافته، ويعرف حجم الآخرين وإمكاناتهم، ويتحرّك بمستوى حجمه، فلقد رأى أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) شخصاً يفاضل بين المهاجرين والأنصار وهو رجل ذو إمكانيات ضعيفة، فقال له:
"ما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم هيهات لقد حنّ قدح ليس منها وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها أَلا تربع أيها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك وتأخّر حيث أخّرك القدر"(1).
فمن يرى أنّ إمكاناته ضعيفة وتُسنح له الفرصة لأن يخطب في الناس ويتحدّث إليهم فلا ينبغي أن يعتبر هذا امتيازاً، ولكن عليه أن يشعر بالمسؤولية وعليه أن يعيش حالة طوارئ قبل أن يتكلّم، أي يسأل نفسه: هل أتكلّم بالحق أم بالباطل؟ فربّما يدخل كلامي في عقول الناس، وعليه أن يقرأ القرآن جيداً {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(2)، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(3).
معاملة تارك الصلاة:
كيف نتعامل مع تارك الصلاة خصوصاً إذا كان هذا التارك من الأقرباء؟
ــــ إذا كان من الأقرباء مثل الزوج أو الزوجة أو الأخ أو الأخت أو من غيرهم فبطريقة {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(1) و {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(2) و {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3)؟
إذاً اتّبعنا ذلك وكنّا جادّين ونملك عقلاً وصدراً واسعاً فإنّنا نستطيع الصبر على من عاشوا في تربية سيّئة أو بيئة سيّئة أو ضالة لنحاول إقناعهم بالحقّ في نهاية المطاف.
نصائح لهداية المسلم الجاهل:
ما هي النصائح التي تقدّمونها لهداية المسلم الذي يجهل الإسلام تماماً، وما هي الخطوات الأولى في هذا المجال؟
ــــ ليفكّر في عمله وفي نفسه، وليفكّر في خلق السموات والأرض ليتسنّى له أن يعرف ربّه من خلال مواقع العظمة ومن خلال مواقع النعمة، وبأن يعرفه من خلال أسرار عظمته ومواقع نقمته، ثم بعد ذلك يعرفه في مواقع رسالات رسله، وأن ينطلق ليعرف مقام ربّه وموقعه من ربّه، وأن يقرأ القرآن ويتعلّمه، وأن يتعلّم العقائد الإسلامية، وأن يتعلّم الخطوط الإسلامية والمفاهيم الإسلامية بشكلٍ تدريجي عند من يدرك الفكرة ويملك الأسلوب.
تشبّه الرجال بالنساء:
في كتابكم (المسائل الفقهية) هناك مسألة عن تشبّه الرجال بالنساء وبالعكس، وقد ذكرتم أنّ هناك لباساً يرتديه الرجل والمرأة كالبنطال فهذا لا يعتبر تشبّهاً، ولذلك فإنّ الكثير من الناس فسّروا ذلك بأنّه ليس هناك مانع من ارتداء البنطال والقميص بالنسبة للمرأة، فما هو رأيكم؟
ــــ هناك نقطتان: الأولى هي هل يجوز للمرأة أن تخرج بالبنطال كلباس معيّن وتلبس العباءة فوقه، أو تلبس الحجاب اللباس الشرعي المحتشم فوقه فذاك شيء وهذا شيء آخر.
وكلامنا هنا بغضِّ النظر عن الخروج من البيت، إذ هل نعتبر لبس المرأة للبنطال تشبّهاً بالرجال، نعم؟ في السابق كان تشبّهاً بالرجال لأنّه كان من الملابس الخاصة بالرجل، لكنّه الآن أصبح من الملابس المشتركة بين الرجل والمرأة، أمّا أن يرتدي رجل فستاناً فهذا هو تشبّه بالنساء، وذلك بأن يرتدي الرجل ما تختصّ به النساء وكذلك ارتداء النساء ما يختصّ به الرجال. وأمّا إذا كانت الملابس مختصّة وصارت شاملة فيجوز أن يلبسوها معاً ولكن ضمن حدود الله.
فمثلاً كانت السترة والبنطال لباس الكفّار في السابق وكان بعض علمائنا يرى في ذلك إشكالاً لأنّه تشبّه المسلم بالكفّار، والآن أصبح لباساً عالمياً فليس ممّا يقع تحت التشبّه.
النقطة الثانية: أن تخرج المرأة بالبنطال والقميص أمام الرجال فهذا قد يكون من عناوين التبرّج؟ ولكي يتحقّق الحجاب الإسلامي يلزم مراعاة أولاً: ستر الجسد، وثانياً: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}(1) فكلّ الأشياء التي تثير الإغراء وتعطي جوّاً شهوانيا، محرّمة لأنّها قد تنطلق من عنوان الزينة، وقد تنطلق من عنوان التبرّج بالزينة.
لذلك فلا بدّ أن تلاحظ الأمور بدقّة فقد تختلف بين جانب وجانب آخر.
المجبرة على خلع حجابها:
إذا أُجبرت المرأة المسلمة في وظيفة عمومية ضرورية على خلع حجابها فماذا يجب عليها أن تفعل؟ وإذا خلعت حجابها تحت ظرف الضرورة في بعض المجتمعات فما هو موقف زوجها المسلم؟
ــــ ليس لها أن تعمل عملاً تضطر فيه إلى معصية الله سبحانه وتعالى سواءً بالنسبة إلى الحجاب أو غير الحجاب، وليس على زوجها أن يطلّقها، وإلاّ طلّق الكثير من الرجال زوجاتهم، فبعضهم مثلاً تخرج زوجته سافرة ومتبرّجة، فهذه معصية، لكن إذا كانت زوجته تغتاب الناس فهذه معصية كبيرة، أو إذا كانت تفتن الناس فهذه معصية كبيرة أيضاً، فالله سبحانه لم يكلّف الإنسان أن يطلّق زوجته إذا عصت الله وإلاّ كان النبي يطلّق بعض زوجاته بلحاظ بعض الأمور التي حدّثنا القرآن عنها وتدخل الله سبحانه وتعالى لحلّ مشاكل النبيّ في بيته، كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك.
فعليه إذن أن يدعوها بالحكمة والموعظة الحسنة وأن يدرس ظروفها والمفاسد التي قد تحدث تجاه أولاده وتجاه نفسه وتجاه واقعه ويحاول أن يعطي لكلّ وضع ما يحتاجه.
ضغوط المجتمع:
في بعض المجتمعات يعتبر الحجاب شعاراً أساسياً وهو يؤثّر على المرأة المسلمة وأحياناً يعرّضها لبعض المخاطر، فهل هذا مبرّر بحدّ ذاته لخلع حجابها والاحتفاظ بنوع من اللّباس المحترم في مجتمعها؟
ــــ لا يجوز ذلك فنحن نعتقد أنّ على النساء المسلمات والرجال المسلمين أن لا يهربوا أمام أيّة حالة تخويف، وعلينا أن نؤكّد تقاليدنا الإسلامية الملزمة، وأن نؤكّد التزامنا، وأن يكون هذا على الأقل مظهراً من مظاهر الصمود أمام الظالمين. وأعتقد أنّهم لن يستطيعوا أن يحاربوا كلّ المجتمع المسلم أو النساء المسلمات المحجّبات {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(1).
الاختلاط في المقامات:
ما هو حكم اختلاط النساء بالرجال الذي يحدث دون القصد في بعض الأماكن المزدحمة وقد يكون في المساجد والمقامات، وهل هناك حرمة فيه وإذا كان ثمّة حرمة فما هو الحل؟
ــــ الاختلاط ليس حراماً في نفسه، بل هو محرّم إذا أدى إلى محرم، ولكنّ الراجح في الإسلام عدم الاختلاط، ولكن إذا كانت هناك ظروف أو أوضاع تفرض الاختلاط فإنّ ذلك لا بدّ أن يقف عند حدود الحلال والحرام.
الحرج من الحجاب:
ما حكم المرأة المحجّبة التي تسكن في بيت يضمّ عائلة زوجها وتحسّ بالحرج عندما تمارس حجابها في ذلك البيت فما حكم حرجها؟
ــــ أعتقد أنّ هذا لا يصل إلى درجة الحرج الذي يجوز لها فيه أن تتساهل في حجابها.
الاحتياط في بيت المسيحي:
في أحد الأسئلة التي أجبتم عليها قلتم بضرورة تطهير الفم واليدين على الأقل في بيت المسيحي بالتحديد؟
ــــ لم أقل ذلك. أنا أقول لا يجب التطهير إذا لم نعرف بوجود نجاسة عندهم فإذا رأينا النجاسة فلا يجوز أن نأكل، نحن نقول بطهارة الإنسان كلّه ولا أقول بنجاسة أحد لا المسيحي ولا اليهودي ولا البوذي ولا المجوسي ولا الهندوسي ولا المشرك وأمّا الآية الكريمة {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}(1) فليس فيها دلالة بالمعنى المعروف.
ولهذا نستطيع أن نأكل عند كل من اليهودي والمسيحي والبوذي، أمّا اللحم فله حكم آخر حيث يقول تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ}(2).
المشاريع الخيرية:
سمعنا أنّ لديكم مشاريع خيرية لليتامى، فهل يمكن تبنّي أحد هؤلاء الأطفال عن طريق مساعدتكم؟
ــــ نعم هناك خمس مؤسسات للأيتام في لبنان، وهناك نظام تكفّل، ويمكن للأخوة أن يراجعوا الإدارات التابعة لإشرافنا في سوريا ولبنان أو وكلائنا المباشرين.
التشبّه بالغرب:
هل في تسريحة الشعر ولبس البنطلون للرجل إشكال بصفته تشبّهاً بالغرب؟
ــــ في البداية كان تشبّهاً بالغرب أمّا الآن فقد أصبح لباساً عاماً عالمياً، ولذلك فلا يعدُّ تشبُّهاً بالغرب.
التوبة من الزنا:
فتاة تعرّضت لفاحشة الزنا لمدة شهر تقريباً ثمّ تابت وترجو أن توضّح لها كيف تكون التوبة، وهل يتوب الله عليها فهي نادمة أشدّ الندم تفكّر وتتضرّع إلى الله؟
ــــ لقد أجاب الله تعالى عن هذه المسألة في قوله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي تجاوزوا الحدّ في المعصية {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(1)، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(2) وفي آيةٍ أخرى {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}(3) ولذلك فعلى هذه الأخت أن تعرف أنّها إذا أخلصت النيّة، وندمت ندماً حقيقياً خالصاً على ما مضى، وعزمت عزيمة ثابتة على أن لا تفعل فإنّ الله إذا اطّلع على صدقها في النية، وأنّها تابت توبة نصوحاً فإنّه يتوب عليها.
توبة الخائن:
إذا خان الإنسان فهل يستطيع أن يرجع للإيمان مرة أخرى؟
ــــ طبعاً، فإنّ الله فتح باب التوبة لعباده، وعندما يقع الإنسان في الخيانة فإنّه يخرج من الإيمان، وكذلك عندما يكذب فإنّه يخرج من الإيمان على حسب بعض الروايات. وإذا فرضنا أنّه رجع وتاب إلى الله فإنّ الله يتوب عليه.
تقليد الحلاقة الغربية:
حلاقة الموضة الفرنسية والتقاليد الغربية كثيراً ما نجدها في بلادنا الإسلامية منهم فماذا تنصحون الأخوة في هذا المجال؟
ــــ أنا أعتقد بأنّ هذا أمر عام وليس خاصاً بمسيحيّ أو مسلم أو شيعي أو سنّي، فالمسألة هي أنّ هناك أناساً عاشوا الانبهار بالواقع الغربي، وهذه الأمثلة وغيرها إنّما تتحرّك في إطار السقوط النفسي أمام الغرب، وهذا هو الذي جعل الموضة سواءً موضة الملابس أو قصّ الشعر أو ما إلى ذلك تنتشر من خلال المجلات الفنية والنسائية والمجلات الاجتماعية التي تتحدّث عن آخر الصرعات.
وفي الواقع فإنّ الآخرين انطلقوا من قاعدة يفلسفون بها حياتهم وهي أنّ المادة أساس وأنّ حرية الإنسان المطلقة أساس. أمّا نحن فلدينا مادة وروح، وعندنا دنيا وآخرة. أمّا حرّيتنا فهي حرية مسؤولة لهذا فإنّ هناك فرقاً بين نمط حياتنا ونمط حياتهم وبين القاعدة التي ترتكز عليها الحضارة الغربية، وبين القاعدة التي ترتكز عليها الحضارة الإسلامية.
ولذلك فعندما نريد أن نفكّر بالزيّ فإنّه يمثّل فكرة وكذلك طريقة التزيّن تمثّل فكرة، وطريقة المشي تمثّل فكرة معينة، لذلك فإنّ من يقلِّد الغربين في أزيائهم وطرق تزيّنهم وما شاكل كمن يعيش الازدواجية بأن تكون له شخصيتان. ألاَ ترون بأنّ الكثير من الناس يترك زوجته تخرج سافرة ومتبرّجة وبمجرّد أن تنحرف قليلاً يقول:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدمُ
أيريد أن يغسل العار، فمن الذي أوقعها في العار يا ترى؟ فأنت حينما تركتها تذهب وتختلط بالشباب في أجواء الانحراف تكون قد فعلت كما قال ذاك الشاعر:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له إيّاك إيّاك أن تبتلَ بالماء
ولذلك فإنّني أقول دائماً لكي نفهم مشاكل السفور والحجاب علينا أن نوجّه لأنفسنا سؤالاً: هل نحن نؤمن بحرية الإنسان كيفما كان، أم أنّنا نتعامل مع مسائل الحلال والحرام ونعتبر أنّ هناك ضوابط للحرية. ونؤكّد هنا بأنّه حتى تكون المرأة عفيفة والشاب عفيفاً فلا بدّ من أجواء وأرضية للعفّة تماماً كما هو الحال بالنسبة لفاكهة الصيف التي لا يمكن أن تزرع في أيام الشتاء إلاّ إذا وفّرت لها خيمة وأجواء مناسبة، وكذلك العفّة يراد لها أن تعيش في جوّ ملائم، تماماً كما أنّ عدم العفّة يراد له جوّ آخر، فكيف نعيش في أجواء انعدام العفّة ونطالب أولادنا بالعفّة؟ فلا بدّ إذاً أن نعيش عقلانية تقاليدنا وعقلانية عاداتنا وأن ندرس القضايا على أساس الانطلاق من قاعدة فكرية خاصة بنا، كما أنّ الآخرين ينطلقون من قاعدة فكرية خاصة بهم، وعلى كلّ إنسان أن يتحرّك من قاعدته وأن لا يكون مزدوج الشخصية.
الاستفادة من التجارب:
كيف يمكن للإنسان الاستفادة من تجاربه السابقة؟
ــــ أن يدرسها وأن يفهمها وأن يفهم طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة بها، فقد يكون لديه تجربة سابقة لها خصوصيّتها بمرحلتها فهي لا تفيده الآن. وعليه، ادرس تجربتك في كلّ عناصرها وفي كلّ خصوصياتها وخذ الدرس، فإذا لدغت من جحر فلا تضع يدك في داخل ذلك الجحر، وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وهو يصف لنا المؤمن الذي قد يتصوّره بعض الناس أنّه ساذج بسيط "المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤنة، جيّد التدبير لمعيشته، لا يُلدغُ من جحر مرّتين" فهو يستفيد من تجاربه فإذا لدغ من جحر فإنّه لا يضع يده في ذلك الجحر مستقبلاً، وفي المحصّلة فإنّ الإمام عليّ (عليه السلام) يقول في "نهج البلاغة": "في التجارب علم مستفاد".
دور المغتربين:
ما هو الدور الذي يجب على المغتربين القيام به تجاه قضية الإسلام في وطنهم خصوصاً إذا كان في بلد المغترب عدّة محاور لمحاربة النظام الفاسد ولا يعلم أيّها المخلص وأيها غير المخلص؟
ــــ على الإنسان أن يرجع إلى أهل الذكر ويستشير أهل الخبرة، ويدرس الأمور دراسة موضوعية ليعرف مَن هو سائر على الخطّ المستقيم ومَن هو السائر على الخطّ المنحرف، وأنّ عليه أن لا يعيش عقدته في داخل نفسه، بل أن يحلّ عقدته من خلال الوعي ومن خلال السؤال.
عقول الغربيين وغرائزهم:
إنّ العالم اليوم يتطوّر لا سيّما في الغرب الذي يتأثر ويتربّى بما تبثه شبكات التلفزيون العالمية بحيث أنّها لا تخاطب عقولهم بل تخاطب أهواءهم وغرائزهم فكيف سينتشر الإسلام في هذه البلاد وهو يعتمد على مخاطبة العقل غالباً؟
ــــ ربّما يعيش الناس وهم مستغرقون في كلّ هذا الاتجاه الإعلامي الغرائزي، ليشعروا بالقرف في نهاية المطاف وليتحسّسوا بعمق أنّهم مهما أخذوا منه فإنّه لا يستطيع أن يرضي نفوسهم، فلهذا نجد أنّ هناك فراغاً يعيشه الإنسان الغربي في أميركا بحيث تكثر المواقع التي يتحرّك فيها هنود يملكون بعض الأجواء العرفانية أو الصوفية أو الألاعيب ليتحدّثوا للناس عن روحانية ليس فيها عمق، فنجد أنّ هناك مَنْ يبني مدينة فيها عشرات الألوف ممّن يؤمنون به ويلتفون حوله، ونجد أنّ الدعوة الإسلامية تنتشر في أميركا وفي أوروبا بل نجد أشخاصاً في المستوى العالي من الثقافة يدخلون في الإسلام، فليس من الضروري أن يشعر الإنسان الذي يعيش في أجواء الشهوات بالامتلاء من خلالها بل على العكس من ذلك فإنّ من يعيشون ذلك يشعرون بالغربة وبالوحشة من ذلك كلّه.
إلا إنّ الإسلام لا يملك الدعاة المخلصين الذين يعيشون همّ الإسلام وروحية الإسلام، لأنّنا لو انطلقنا في العالم انطلاقة الدعوة إلى الله لرأيت العالم يقبل على الإسلام ولرأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ولكن شغلتنا أموالنا وأهلونا وأطماعنا فأصبح الإسلام غريباً بنا لا غريباً بالآخرين.
مجاملات المرأة الموظّفة:
إنّ عمل المرأة في بعض المجتمعات يفرض عليها نوعاً من المجاملات كالابتسامة الرسمية التي تقتضيها آداب الوظيفة، فهل هذا يعتبر حراماً في الشرع؟
ــــ عندنا في الشرع نقطة مهمة في علاقة المرأة بالمجتمع الرجولي تلخّصها الآية الكريمة {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}(1) وقل نفس الشيء عن الكلام والابتسام والنظرة فإنّ كل عمل يوجب شعور الآخر بأنّ هذه المرأة تدعوه إلى نفسها، أو أنّها سهلة المنال وما إلى ذلك بحيث يستوحي من حركاتها ومن ابتسامتها ذلك فليس جائزاً.
التشبّه بالغرب:
ما حكم أن تلبس المرأة لباساً غربياً بدون حضور الأجنبي، أليس في ذلك تشبُّهاً بالغرب؟
ــــ للمرأة الحقّ أن تلبس ما تشاء على أن لا تعيش الانبهار فهناك فرق بين مَن يلبس بعقله ثوباً غربياً وبين آخر يلبس بجسده فهذا لا اعتراض عليه، والمشكلة هي أن يدخل الغربيون إلى عقولنا، إذ المهم أن لا تكون لدينا موضة غربيّة فكرية أو أخلاقية، أمّا قضية الملابس فحسب حركة الحضارات فإنّ الشعوب تبدّل في العادة ملابسها، وهذا شيء طبيعي جداً، فليس هناك شعب بقي على ملابسه التاريخية.
الخروج بدون جوارب:
هل يجوز في الغرب الخروج إلى الحديقة دون جوارب، لأنّ الناس هناك لا ينظرون إلينا؟
ــــ على المرأة أن تستر ساقيها من الناظر، ولا أعتقد أنّ هناك شيئاً من الأمن في هذا الجانب، فكيف يمكنها أن تقطع 100% أنّها لا ينظر إليها أحد في الشارع كما لو كانت في البيت؟! ولذا يجب عليها الستر.
الأبراج:
ما رأيكم بعلم الفلك، وهل للأبراج تأثير على الإنسان؟
ــــ هناك عدّة اتجاهات في هذا العلم قد تخرج الإنسان عن الخطّ المستقيم في فهم علاقة الكون بالله، لأنّها قد تجعل بعض الكواكب مؤثّرة في الأحداث بعيداً عن الله تعالى في وعي بعض الناس، وقد تحوّلت بالفعل إلى مجرّد حالة يلهو بها البعض: فهذا من برج "الحمل" وهذا من برج "الجوزاء" فما الذي جعل برج الحمل يختزن هذه التأثيرات على الإنسان في أخلاقه وفي عاطفته وفي أوضاعه وفي حظوظه في الحياة؟ إنّها كواكب خلقها الله كما خلق الأرض والشمس والقمر، وليس ثمّة دليل بأنّها تترك تأثيرها في الإنسان حتى لو وافقت تاريخ مولده.
توظيف المهنة في الباطل:
مجال عمل شخص ومهنته هو الخطّ العربي، فما قولكم إنّ وظّف مهنته في كتابة الشعارات والعبارات التي تؤيّد الباطل وتُمكّن لإحكام القبضة على مواقع الحقّ، وذلك في حال كون هذه المهنة هي مصدر رزقه؟
ــــ لم يجعل الله رزقه في الحرام بل إنّ الله سبحانه يقول {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}(1)، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(2)، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(3)، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}(4) والله إذا وعد فهو أصدق الواعدين، فعليه أن يتابع بحثه عن الرزق الحلال في اختصاصه المهني وغيره.
الترويض على تقبّل النقد:
كيف يمكن أن نرتقي بمستوانا الروحي والنفسي حتى نصبح قادرين على التعامل مع النقد كظاهرة صحية تعمل على تعميق المراجعة والإصلاح في مفردات الواقع كلّه ولا نتحسّس من مبادرات النقد فلا ننظر إليها من زاوية شخصية؟
ــــ إذا أراد الإنسان أن يكون ناقداً موضوعياً فلا بدّ له من أن يبدأ من نقطة أنّ الأفكار التي أحملها لم تخلق معي، فالله لم يخلق أفكارنا الدينية ولا أفكارنا السياسية ولا أفكارنا الاجتماعية يوم ولدنا وإنّما اكتسبناها إمّا بتقليد الآخرين أو بالتأثّر بالبيئة أو بالدراسة أو بالتأمّل والتفكير. فإنّ أفكارنا ليست جزءاً من شخصيّتنا، بل أخذنا بهذه الأفكار لأنّنا اعتبرنا أنّها الحقيقة، فإذن نحن نريد أن نصل إلى الحقيقة، فإذا جاءنا إنسان وانتقدنا، انتقد فكرنا، وانتقد انتماءنا، وانتقد عقيدتنا، فعلينا أن لا نتعقّد منه لأنّه وجّه انتقاداً إلى ما نلتزم به وإلى ما ننتمي إليه، بل لا بدّ لنا أن نفتح عقولنا له حتى نستطيع أن نواجه الفكرة بالفكرة وأن نواجه النقد بالنقد، فلعلّنا نطلع على ضوء للحقيقة عنده كنّا قد افتقدناه، ولعلّنا نستطيع أن نعطيه ممّا عندنا من الحقيقة.
لذلك على الإنسان أن يكون حيادياً أمام الفكرة بمعنى أن لا تشعر أنّ فكرك جزء من ذاتك، ففكرك هو عقيدة اعتقدتها وفكرك التزام التزمته ولكنّ من الممكن أن تخطأ في التزامك وفي فكرك، ومن هنا فإنّ عليك أن تتقبّل الآخرين في ذلك ولا تتعقّد منهم عندما تعيش هذا الجوّ فلربّما منحك ذلك أن تجذب الآخرين إليك، وهذا ما علّمنا إيّاه القرآن.
وأحبّ أن لا تنسوا هذه الآية في القرآن الكريم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(1) لقد علّم الله رسوله أنّه إذا أراد أن يتحدّث مع الكفّار أن يتحدّث معهم كما لو كان حيادياً أمام الفكرة التي يلتزمها الآخر، ولذلك قال لهم تعالوا لنتفاهم فقد أكون على هدى وأنتم على ضلال، وقد أكون على ضلال وأنتم على هدى وليس معنى ذلك أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي جاء بالصدق وصدّق به يشكّ في أنّه على هدى وأنّهم على ضلال، ولكنّه أسلوب الحوار الذي لا بدّ أن ينطلق من ذهنية موضوعية بحيث تكون مستعدة لتقبّل ما يعطيه الآخر إذا اقتنع به وليكن الأسلوب أسلوباً موضوعياً.
لهذا لا بدّ لنا ـــ أيّها الأحبّة ــــ أن نعرف أنّ الحقّ هو ملك الله، الله هو الحق وهو الذي أنزل الحق وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويريدنا أن نلتزم الحقّ، وقد نخطأ فلماذا نتعقّد ممّن يأتينا ليحاورنا وليعرّفنا ما هو الحق وما هو الباطل أو ليعرف منّا ما هو الحق وما هو الباطل؟!.
شرب الدخان الأميركي:
ما هو حكم الدخان الأميركي الذي يصنع في مصانع إسرائيل هل يجوز شربه؟
ــــ لا يجوز في رأينا شرب الدخان مطلقاً سواء كان من منتجات البلاد الإسلامية أو غيرها وتكون حرمته أشدّ إذا كان من منتجات الكيان الصهيوني بلحاظ العناوين الثانوية.
موانع الالتزام:
أنا شاب جامعي أشعر أنّني مقتنع بمسألة الالتزام بخطّ التشريع، ولكن كلّما حاولت ذلك أشعر بأمور كثيرة تمنعني، فما هو الحل برأيكم؟
ــــ عليك أن تنطلق في الالتزام بالتشريع من الله، عظِّم الله في نفسك، فكِّر في الله، ربِّ عظمة الله في نفسك خصوصاً وأنك طالب جامعي مثقّف تستطيع أن تتعرّف عظمة الله من خلال أسرار العلوم التي درستها في الثانوية أو ربّما تدرسها في الجامعة فإنّ معرفة الله تنطلق من خلال العلم فكلّما أتقنت الفيزياء أكثر، والكيمياء وعلوم الحيوان والنبات أكثر كلّما عرفت الله أكثر وإذا عرفت الله أكثر فإنّك بذلك تستطيع أن تشعر بحاجتك إلى أن تطيع الله أكثر وإلى أن تتقرّب من الله أكثر، كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) في حديث عن المتّقين "عظُم الخالق في أنفسهم فصغُر ما دونه في أعيُنهم"(1) لذلك إذا أردت أن يقوى التزامك فحاول أن تقوّي إيمانك بالله سبحانه وتعالى.
لباس بنت العاشرة:
ما هو رأيكم بلبس الشورت للطفلة عمرها 10 سنين؟
ــــ عليها أن تلتزم الحجاب على الأحوط وجوباً.
نزق القوم:
ما معنى قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء الصباح "فأدِّب اللّهم نَزَقَ الخرق منّي"؟
ــــ يريد الإمام (عليه السلام) أن يقول ذلك بلسان الإنسان لا بلسانه الشخصي فهناك فرق بين حالات الغضب وحالات النزق التي هي حالات الخلل فهو يطلب من الله أن يؤدّبه من ذلك حتى لا يقع فيه.
نعفو أم نواجه:
في محاضرة سابقة لم تسمحوا بإثارة المشاكل الفكرية وإشاعة الحقائق الضارة بالساحة الإسلامية التي تمسّ الرموز التي تحرّك الأوضاع بشكلٍ سلبي، فهل ما زلتم عند رأيكم، علماً أنّ مثيري الضوضاء لم يسكتوا ما لم يردعوا بروادع قويّة تكشفهم وتفضح زيفهم أمام الناس؟
ــــ لقد علّمنا الله أن نقول كما {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(2)، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}(3)، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(4).
أيّها الأحبّة، إنّ ساحتنا لا تتحمّل صراعاً منطلقهُ القضايا الجزئية والهامشية، دعوا الحقائق تعبّر عن نفسها ودعوا الحقّ ينطلق في صفاء عناصره أمّا الباطل والكلام غير المسؤول فسوف يذوب لأنّه لا ثبات له في عمق الواقع.
ففي سنة 1380 هـــ أذكر أنّني كتبت قصيدة في مجلة "الأضواء" اسمها "الأساليب القديمة" ختمتها ببيتين من الشعر هما:
غيرَ أنّا سوف ندعو للأساليب الكريمة وستنّدكُ مع الفجر الأساليب القديمة
ولا يزال الموقف نفس الموقف والرأي هو الرأي.
طعام المستشفى:
في المستشفيات العامة تقدّم للمريض الوجبات اليومية، فهل يجوز أكل أو أخذ ما زاد عن حاجة المريض علماً بأنّ مصيره إلى سلة القمامة؟
ــــ إذا كانت المستشفى قد أعرضت عنه فمعناه أنها لا تطالب به، ومع الإعراض يجوز ذلك.
حالة شاذّة:
كانت هناك علاقة جنسية شاذّة بين اثنين من الأقرباء ثم أنّ أحدهما تزوّج من إحدى أخوات الثاني وهو الآن يعاني من حالة نفسية حادّة، فما هو الحلّ؟
ــــ إذا كانت الحالة الشاذّة كاملة فحسب الفتوى أنّها تحرم عليه.
احتيال لاجئ:
أنا مواطن عربي مسلم وأسكن في بلد أوروبي يمنحني راتباً كمساعدة، فهل يجوز أن أحتال عليهم لغرض كسب مال أكثر كسرقة أو دعوى باطلة؟
ــــ لا يجوز ذلك مع الكافر ومع المسلم، والإمام الصادق (عليه السلام) يقول: "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاح والخير، فإنّ ذلك داعية"(1)، فنحن نشوّه بذلك صورة الإسلام إذا كذبنا، كما أنّي أرى أنّه لا يجوز أخذ مال الكافر ولا المسلم ما لم يكن حربياً بمعنى كونه محارباً فعلاً.
ماكياج خارج البيت:
إذا كانت الزوجة تخرج مع زوجها وهي تضع قليلاً من الماكياج وبرضا الزوج، فهل هذا حرام؟
ــــ يقول تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}(2) رضي الزوج أو لم يرضى.
ممنوعات الإسلام:
النساء السافرات والمتبرّجات يعتقدن أنّ السفور يعني الحرية وأنّ الحجاب يعني التقييد وأنّ الإسلام ما هو إلاّ مجموعة ممنوعات ومجموعة تعقيدات؟
ــــ ليس الإسلام وحده الذي يقول ذلك فنحن نقول بأنّ الفرق بيننا وبين دُعاة السفور هو بضع قطع من الثياب وإلاّ لماذا تستر السافرة بعض المناطق الحسّاسة من جسدها؟ فإذا كانت المسألة هي مسألة حرية فليخرج الإنسان كما خلقه الله إذ ما هذا التحفُّظ في ستر بعض مناطق الجسد عند السافرات؟
إنّ الحرية المسؤولة تنطلق من قاعدة أخلاقية، والإسلام لم يحرّم السفور على المرأة لأجل أن يمنع أو يضيّق عليها حريتها، وإنّما من جهة حمايتها وحماية الرجل من الانحراف. وهناك نقطتان في هذا المجال لا بدّ من الالتفات إليهما، فتارة نريد أن نساير الحرية الغربية التي تقول بأنّ الإنسان حرّ في أن يفعل ما يشاء فينبغي أن يكون عندنا حريّة العريّ وحريّة الجنس وحريّة كل شيء، وتارة نتحدّث عن حريّة مسؤولة فلا بدّ أن تنطلق هذه الحرية من القاعدة الأخلاقية فيما هي المفسدة وفيما هي المصلحة.
ازدواجية الشخصية:
هل الشخصية الازدواجية منحصرة فقط في المنافق أو تتعدّاه إلى غيره؟
ــــ تتمثّل الشخصية الازدواجية في المنافق بقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}(1) وهذا هو الفرق بين الظاهر وبين الباطن وهناك أنواع من الشخصية الازدواجية فالإنسان قد يعيش في بعض الحالات قلق الشخصية بين حالته الفردية كإنسان وبين حالته العائلية أو حالته الاجتماعية بحيث يحاول دائماً أن يوفّق بين الحالتين بطريقة معيّنة وربّما يتمثّل هذا ببعض المواقف السياسية، فقد يكون الإنسان ازدواجياً في الواقع السياسي وفي الموقف السياسي، وقد يلتقي بالنفاق العام ولكنّه قد يختلف في بعض خصوصياته.
إنّ ازدواج الشخصية يعني بأن تعيش في حياتك على أساس أنّ هناك شيئاً يمكن أن يجرّك إلى الموقع في موقف معيّن لا من خلال النفاق بل من خلال بعض ظروفك الاجتماعية وبعض ظروفك الاقتصادية، لذلك فإنّ الازدواجية الشخصية قد تتمثّل في المواقف السياسية، وفي بعض المواقف الاجتماعية عندما تفرض بعض الظروف موقفين مختلفين.
التحذير من المنافق:
إذا كنت أعلم بشخص أنّه منافق فهل يجب عليّ تحذير المؤمنين منه؟
ــــ إذا كان ذلك من قبيل النصح للمؤمنين بأن لا يتأثّروا بنفاقه، وأن لا يتحرّك ببعض الحركات النفاقية التي تؤدي إلى تدمير الواقع الإسلامي، فنعم.
قيادة المرأة السيارة:
ما رأيكم في قيادة المرأة السيارة؟
ــــ ليس محرّماً إذا كانت ملتزمة بالحجاب الشرعي، لكن هذا يختلف بحسب طبيعته وحسب اختلاف العرف الاجتماعي بين منطقة وأخرى.
انتحار الأطفال:
من الظواهر الغريبة هو أن ينتحر طفل في عمر (11) سنة كما حصل في فرنسا منذ أيام، كما يلاحظ كثرة الحوادث المماثلة في البلدان الغربية فما هو تعليقكم على ذلك؟
ــــ ليس غريباً جداً، لأنّ قضية الانتحار تنطلق من خلال اليأس الذي يعيشه الإنسان، ولكلّ إنسان يأسه ومشاكله التي تدفعه إلى اليأس، وربّما تأثّر هؤلاء الأطفال بالأفلام البوليسية أو التي يشاهدون فيها إنساناً ينتحر، أو إنساناً يقتل إنساناً، ونحن نعرف أنّ أجهزة التلفزيون والسينما قد ساهمتا مساهمة كبيرة في تحطيم إنسان العالم الغربي الفارغ من الإيمان، وذلك في إنتاج وسائل حركة الرعب لدى الأطفال والمراهقين.
لذلك قد ينجم انتحار الأطفال من أوضاع ذاتية خانقة من جرّاء الضغوط التي يمارسها أهلهم عليهم، وقد ينطلقون من أفلام الرعب والانتحار والجريمة، ولهذا ينبغي أن نعيش مع أطفالنا لندرس مشاكلهم وآمالهم وأحلامهم والضغوط النفسية التي تضغط عليهم، ويجب أن ننقذ أطفالنا من العقد المدمّرة التي قد تنتهي إلى مثل هذه النتائج المؤسفة.
أوقات الشباب الضائعة:
كيف تتصوّرون مصير إنسان يقضي شبابه في السهرات مع الأصدقاء الذين لا يعرفون غير المزاح والضحك ولا يجلس لحظة مع نفسه ولا يضع برنامجاً لوقته؟
ــــ هذا إنسان يعيش حياته من دون أن يمارس إنسانيته، لأنّ عليه أن يواجه الحياة من موقع الجدّ لا من موقع الهزل، ومن موقع المسؤولية عن عمره لا من خلال اللامبالاة، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وشبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين كسبه وفيمَ أنفقه؟ وعن حبّنا أهل البيت؟"(1) فالإنسان سوف يسئل عن كل لحظة من لحظات حياته هل صرفها في خير أو في شرّ، فعمرنا هو رأسمالنا الذي أراد الله لنا أن ندخل في تجارة معه من خلاله، فمن أضاع رأسماله وصل إلى الله وليس معه شيء بل ربّما يصل ومعه الأثقال والأوزار التي تجعله إنساناً يخسر الدنيا والآخرة.
مشكول الذمّة:
إذا قال لي شخص أنّني مشكولة الذمّة ـــ حسب اللهجة الدارجة ــــ إذا عصيته وقمت بعمل لا يريده، ولقد كنت آنذاك غير مؤمنة، وأنا الآن نادمة وأصبحت مؤمنة، فماذا أفعل؟
ــــ ما سلطة هذا الشخص عليك لكي يقول لكِ ذلك، فلا أحد يقدر أن يشكل ذمة أحد أو يشغلها إلاّ من خلال الحقوق التي له على الآخر، أما أن يقول إنسان لإنسان آخر أنتَ مشغول الذمّة إذا لم تعمل هذا العمل فليس له حقّ ولا تشغل ذمّته بل يبقى بريء الذمة من ذلك، ولذلك فلا تتعقّدي من الموضوع من هذه الناحية.
رابعاً ــــ تربية روحية:
استعمال الله للعبد:
ورد في دعاء الإمام زبن العابدين (عليه السلام) "واستعملني بما تسألني غداً عنه" ماذا نستوحي من هذه الفقرة؟
ــــ معنى ذلك أنّه، في مجالات العمل، على الإنسان أن يفكّر بما يتحمّل مسؤوليته أمام الله لأنّ الله سبحانه وتعالى قد حمّلنا مسؤوليات كثيرة في الحياة بالنسبة إلى أنفسنا وبالنسبة للناس وبالنسبة إلى الحياة والبيئة من حولنا {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}(2)، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(3)، إذاً عليّ أن أطلب من الله، كما يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام)، أن يستعملني في الأعمال التي تتّصل بمسؤوليتي عن نفسي وعن الناس من حولي وعن الحياة، ولا يستعملني في الفراغ وفي الأشياء التي لا تتّصل بمسؤولياتي، والأشياء التي لا تضرّ من جهلها ولا تنفع من علمها، بل أن تتحرّك في حياتك بما يمثّل مسؤوليتك عن حياتك وبما يسألك الله غداً عنه {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(1).
الروحانية في الصلاة:
تحدّثتم عن الروحانية المفقودة في الصلاة، فكيف يمكن أن ننمّي هذه الروحانية؟ وإذا لم يكن هناك اطمئنان في القراءة فهل تتمّ الصلاة؟
ــــ الروحانية في الصلاة تتطلّب أن يعيش الإنسان جوّ الصلاة، فالأذان والإقامة مقدّمتان للصلاة وهما يهيّئان الجوّ النفسي لكي يعيش مع الله، ولكي يعرف قيمة الصلاة بأنّها (طريق الفلاح) و(أنّها خير العمل). وعليه أن يركّز في الكلمات التي يقولها والحركات التي يتحرّك بها ليعيش معانيها.
أمّا الاطمئنان بصحّة الصلاة أو عدمها فلا تجب فيه الإعادة، أمّا إذا أحبّ أن يحتاط في الإعادة فلا بأس بذلك إلاّ أن يصل به الأمر إلى حدّ الوسوسة.
برنامج الموسم الصيفي:
في هذا الوقت المعروف بالموسم الصيفي والعطلة الصيفية حيث يقبل شيعة أهل البيت على الزيارة والسياحة، كيف نجعل زيارتنا وسياحتنا كما أراد أهل البيت (عليهم السلام) خاصة وأنّ الإسلام يدين المظاهر السلبية من قتل الوقت وهدر المال في أمور الترف؟
ــــ لينطلق كل فريق يأتي للزيارة من أماكن نائية إلى الموقع الذي يجتمع فيه بالعلماء وبالمفكّرين وبالمثقّفين وبالمجالس النافعة، مجالس الوعظ والإرشاد وبمن تذكركم الله رؤيته ويزيد في منطقكم منطقه. فكما أنّ على الإنسان أن يبحث عن أماكن السياحة فعليه أن يبحث عن أماكن الثقافة وعن أماكن الفكر وعن أماكن الروح، وحاولوا أن تستفيدوا من هذه الزيارات والالتقاء بشخصيات لا تلتقون فيها ببلادكم.
التهاون في الصلاة:
ما هو واجبي إزاء مَن تهاون في الصلاة؟
ــــ عليك أن تعظه وترشده بالحكمة والموعظة الحسنة.
(الخطايا) في الأدعية:
يذكر الإمام زين العابدين (عليه السلام) في (الصحيفة السجادية) ومن ضمن مناجاته "إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي"(1) وهو المعصوم عن الخطأ فهل يقصد الخطايا بالمعنى الحرفي؟
ــــ هذا في كلّ الأدعية سواءً بالنسبة إلى أدعية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو في أدعية الإمام عليّ (عليه السلام) كما في دعاء كميل: "اللّهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العِصَم.. تنزل النِقَم.. تُغيِّر النِعَم.. تحبسُ الدعاء.."(2)، إلى آخره، وأكثر من هذا فإنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي يتحدّث عن الجرائم: "أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرشا، أنا الذي حين بُشِّرْتُ بها خرجتُ إليها أسعى، أنا الذي أمهلتني فما ارعويت وسترتَ عليّ فما استحييت وعملتُ بالمعاصي فتعدَّيت"(3) هل يمكن أن يكون الإمام مجرماً؟! إنّنا عندما نقرأ الدعاء نفهم منه "أنا الإنسان" فهذه الأدعية كلّها تعبّر عن الإنسان بكلّ ما يتحرّك فيه من خطاياه، فالإمام لا يدعو الله بصفة الإمامية الخاصة وكذلك النبيّ لا يدعو مستغفراً أو معترفاً بالخطايا بصفته النبويّة الخاصة وهذا هو الذي نلاحظه في الصورة التي تمثّل النموذج الإنساني في الدرجة السفلى كما نتمثّل النموذج الأعلى فهو يتحدّث من خلال معنى الإنسانية فيه بقطع النظر عن الخصوصية، لذا نجده يقول: "أنا الصغير الذي ربّيته، أنا الجاهل الذي علمته، أنا الضال الذي هديته" فهذا معناه أنا الإنسان الذي أعطيته الهدى، وأنا الإنسان المذنب، وأنا الإنسان الخاطئ، وهكذا.
ولعلّ هذا هو الجواب الأوفق لطبيعة كلّ الأدعية، فالإمام لا يدعو بصفته الشخصية وإنّما يدعو بصفته الإنسانية كما لو كان يعيش كل هذه الخطايا ويطلب من ربّه المغفرة. والدليل على هذا أنّ ما يذكر من الخطايا في الأدعية يمثّل مختلف أنواع خطايا الإنسان وهي لا تجتمع بشخصٍ واحد.
دعاء إطالة العمر:
هل يجوز الدعاء بمثل (اللّهم خذْ من عمري لتزيد في عمر فلان)؟
ــــ هذا ممكن، ولكن هل الله يستجيب دعاءك أم لا؟ قد لا تكون هناك مصلحة في ذلك، ولكنّه تعبير جيد من إنسان لإنسان يحبّه، خصوصاً إذا كان هذا رجلاً مفيداً للأمّة، فالله يعطي الداعي أجراً على هذه الروحية الطيّبة تجاه الناس العاملين.
"التفويض" و"التوكّل":
نرجو أن تبيّنوا الفرق بين التفويض لله وبين التوكّل عليه؟
ــــ إنّهما يلتقيان في مفهومٍ واحد، لأنّك عندما تفوّض الأمر إلى الله فإنّ ذلك يعني أن تتوكّل عليه وتتركه له، والتوكّل على الله يحصل عندما تستفرغ كلّ الأسباب الطبيعية التي تستطيع أن تقوم بها بحيث تستنزف كلّ الأسباب ثمّ تقول: اللّهم هذا ما أستطيع فأعنّي وأنا أتوكّل عليك فيما لا أستطيع. ولدينا حديث يقول "المتوكّلون هم الزرّاعون" فالفلاح مصداق التوكّل حيث أنه لا يقف أمام الأرض ويقول: اللّهم إنّي أتوكّل عليك فاملأها حبّاً واملأها حنطة، بل يأتي إلى الأرض يحرثها ويبذر فيها البذور ويسقيها الماء ويتعهّدها إلى أن يستنفد كلّ الوسائل الموجودة ومن ثم يقول يا ربِّ هذا ما أستطيع.
المكوث في المراقد المقدّسة:
يقال بأنّ من آداب الزيارة للأماكن المقدّسة أن نزور ونخرج ولا نطيل المكوث في الحضرة المشرّفة فما رأيكم بذلك؟
ــــ لعلّ هذه الآداب تتحدّث عن إفساح المجال للآخرين، وإلاّ فإذا كان الإنسان يعيش جوّاً روحانياً في التوجّه والتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى ليستعيد في وعيه وفي ذهنه قدسية هذا الإنسان وعظمته وحياته بما يملأ عقله وقلبه وبما يهديه إلى الصراط المستقيم فالمكوث أفضل.
إطالة المكوث عند القبور:
ما هو الحكم في زيارة القبور وإطالة المكوث هناك؟
ــــ إنّ الله لا يريد للإنسان عندما يموت أحد أقربائه أن يستعيد جزعه وحزنه، لأنّ الميت قد مات وانتهى. هذه التقاليد (الأسبوعية والأربعينية والسنوية) تقاليد غير منصوص عليها "مَن عزّى بعد ثلاث فقد جدّد المصيبة" أي أنّ لك أن تعزّي ثلاثة أيام ثم تغلق الباب في اليوم الرابع، لأنّ الله يريد للحزن على الميت أن يختصر، فالميت قد رحل ولا بدّ للحياة أن تستمر، نعم، إذا كان الميت من الشخصيات العلمية والمهمة الذين إذا ذكرناهم وتحدّثنا عنهم يمكن أن نعطي للناس الكثير من الدروس والوعظ، فالمسألة هنا ليست تعزية ميت وإنّما استعادة فكرهِ وجهاده وسيرته، وعلى ضوء ذلك فإذا كانت زيارة القبر والمكث عنده من أجل الدعاء وقراءة القرآن له أو لتذكّر فضائله أو للاعتبار كان ذلك راجحاً.
التعبُّد بطريقة صوفية:
هل يجوز التعبّد والتقرّب إلى الله من خلال طريقة أحد رجال الصوفية العارفين بالله رغم ما يقال عنه أنّه ناصبيّ؟
ــــ لا بدّ أن تدرس طبيعة هذه الطريقة إذ كيف يكون عارفاً بالله وينصب العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) إنّ نصبه دليل على أنّه لا يلتقي بالعرفان من قريب أو بعيد، لأنّ من أحبّ الله أحبّ أولياءه، ومن عرف الله عرف موقع أوليائه منه، وأهل البيت هم العارفون بالله المخلصون له المجاهدون في سبيله الدعاة إلى رسالته، فكيف لا يحبّهم العارفون؟ وكيف يبغضهم المريدون؟
مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء:
إذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فبعض الناس يُصلّون لكن لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر فما هو حكمهم. هل هم كذاك الذي لا يصلّي؟
ــــ مثل هؤلاء كمثل الذي يدخل المدرسة، فالصلاة مدرسة، فكم من الطلاب من يدخل المدرسة ويسقط في آخر السنة لأنّه لم يدرس جيداً، وكذلك الصلاة، فمن لم يتأمّل فيها ولم يعش روحانيتها ويعرف موقفه أمام الله فحكمه كما في الحديث الوارد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يَزْدَدْ مِنَ الله إلاّ بُعداً"(1) فمثل هذه الصلاة تبعده بدلاً من أن تقرّبه.
تفسير دعاء:
ما معنى قول الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "اللّهم لكَ العُتْبى حتى ترضى"(2)؟
ــــ النبيّ معصوم لا يصدر منه خطأ أو معصية ولكنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتكلّم بلسان الإنسان الذي يخطئ أمام ربّه ويذنب، ومعنى الدعاء أي لكَ الحق عليَّ يا ربّ ولك العتبى عليَّ أن تعاتبني بكلّ شيء وبكلّ ذنب وبكلّ خطيئة إلى أن ترضى عني وأنا أقف بين يديك موقف الخضوع والاستغفار حتى ترضى يا ربّ.
نيّة ارتكاب المنكر:
إذا كانت لديّ نيّة لعمل المنكر ولم أقم بهذا العمل بسبب بعض الظروف فهل آثم على هذه النيّة؟
ــــ إنّ الله لا يعاقب الناس على نيّاتهم، ولكن عليك أن تعالج نفسك فأنتَ لديك "ميكروب" شرعي أو فكري أو أخلاقي وعليك أن تعالجه، لأنّ الميكروب إذا ترك وكانت الظروف مهيّأة للنموّ السلبي فسينمو ليقضي على حياتك الروحية والأخلاقية. ولهذا فأنت إنسان غير شرير من الناحية العملية لأنّك لم تعمل شرّاً، ولكنّك تعيش شخصية الشرير في نفسك.
عبدي أطعني تكن مثلي:
في الحديث القدسي "عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون" فما معنى هذا الحديث؟
ــــ إن صحّ الحديث فليس معناه أنَّ مَن أطاع الله يكون مثل الله إذ ليس ذلك ممكناً. لكن معناه إذا أطاع الله عبدٌ وقرب من الله ورضي الله عنه فإنّ الله قد يعطيه بعض القدرات التي يستطيع من خلالها أن يقوم بها كما أعطى الله عيسى (عليه السلام) ذلك {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}(1) وكما أعطى الله "آصف بن برخيا" القدرة وهو الذي عنده علم من الكتاب حيث قال لسليمان {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(2) وكما أعطى بعض أنبيائه وأوليائه القدرات والإكرامات التي ملكوا بها الكثير من أعمال الغيب فمعنى ذلك أنّ الله يريد أن يقول للإنسان إذا أطعتني مرضياً عندي وصرت قريباً إليّ فإنّني أعطيك بعض القدرات التي تستطيع من خلالها أن تقول للشيء كن فيكون وليس ذلك في كلّ شيء بل أن تقول لبعض الأشياء بحسب ما يعطي الله من قدرته.
حبّ الله وحبّ الآخرين:
نجد أنّ حبّ الله عزّ وجلّ واجب ونجد كذلك أنّ الناس يحبّون أولياء الله وهناك آخرون يحبّون أهلهم وأصدقاءهم أكثر ممّا يحبّون الله فما هو رأيكم؟
ــــ حبّ الله يجعلنا نحبّ أولياءه وأنبياءه ونحبّ الناس الذين هم مخلوقات الله، لأنّ حبّك لله يجعلك تحبّ أنبياءه ورسله، فكما أنّك عندما تحبّ شخصاً فإنّك تحبّ مَن تحبّه، وهكذا فإنّك تحبّ أهلك ورحمك لأنّ الله أراد منك أن تحبّهم، وفي المحصلة فإنّ حبّ الله يمتد في حبّ أوليائه، فنحن نحبّهم لأنّهم أولياء الله لا لذواتهم، ونحبّ أهلنا لأنّ الله أراد لنا أن نحبّهم، وأن نعيش هذه العاطفة الإنسانية في مسألة الرحم، ولذلك ورد عندنا في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) "هل الدين إلاّ الحبّ" أيّ أنّ حركة حبّك هي التي تركّز لك اتجاه حركة دينك.
وقد ورد في الحديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) "إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحبّ أهل طاعة الله عزّ وجلّ ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحبُّ معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع مَن أحبّ"(1).
وبالتالي فإنّ الحبّ هو الذي يجمع الناس يوم القيامة ولكن على الإنسان أن يكون واعياً لحبّه حتى لا يغلو فيه، وحتى لا يستغرق في ذات مَن يحبّ بحيث ينسى الله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّه}(2)، أي أن تحبّ الله فلا تجعل مع الله شريكاً في حبّك فلا تحبّ أحداً مع الله بل أن تحبّ من خلال الله، فقلبك عرش الله ولا ينبغي أن تدخل في قلبك إلاّ مَن أحبّ الله. لهذا عندما نحبّ الله نحبّ أنبياءه ونحبّ أولياءه ونحبّ الصالحين من عباده. إذ لا بدّ من وجدانية الحبّ، فكما لا شرك في العقيدة ولا شرك في العبادة، لا شرك في الحبّ أيضاً، وإذن فعليك أن تحبّ الآخرين من خلال الله، أفلست تقول في التشهُّد "أشهد أنّ محمداً عبده ورسوله" ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو سيّد ولد آدم، فلا بدّ أن تذكرهم بالعبودية وإذا ذكرتهم بالعبودية فلا تستطيع أن تجعلهم معه، هم خلقه وعباده المكرمون والمقرّبون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
أهل الجنّة:
هل نستطيع أن نجزم أنّ فلاناً من أهل الجنّة؟
ــــ في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "ما كان في وصيّة لقمان، قال: كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عزّ وجلّ خيفة لو جئته ببرِّ الثقلين لعذّبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك"(1)، فالإنسان المؤمن نفسه بين خوف ورجاء، وعلينا أن نشغل أنفسنا بما يمثّل مسؤوليتنا في عقائدنا وبما يمثّل مسؤوليتنا في خطّنا الشرعي أمام الله، وأمّا عملية توزيع النتائج والدرجات فنتركها لربّ العالمين.
مكافحة وساوس النفس:
ما هي برأيك أفضل الطرق للابتعاد عن نجوى النفس ووساوسها، وما هي طريق نمو الإيمان في الإنسان والمحافظة على الجوّ الروحي الملتزم؟
ــــ إنّ أفضل الطرق للابتعاد عن وساوس النفس هو الحديث مع النفس.. حاول أن تجلس مع نفسك حتى تفهمها وتنقدها، اجلس مع نفسك حتى تحاكمها وتوجّهها، اجلس مع نفسك حتى تنزل إلى أعماقها فتدرس المؤثّرات التي دخلت عليها من خلال بيئتك بطريقة عفوية، أو دخلت إلى حياتك من خلال إرثٍ من أبيك أو أمّك وليس من الضروري أن يكون الإرث جيداً.
لذلك ــــ أيّها الأحبّة ــــ {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2)، عندما تغفل عنها، والنفس تقودك إلى المهالك عندما تعيش اللامبالاة أمامها، عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا وزِنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر" أي إعرف ما هو حجم نفسك العلمي حتى لا تظهر بأكبر من حجمك، وإعرف ما هو حجم نفسك الروحي "مَن عرَفَ نفسه عرَفَ ربّه" لأنّ معرفة النفس تطلّ على كل ما في النفس من أسرار وكل ما فيها من آيات الله، وعندما تحيط بذلك فهل يمكن أن تغفل عن الله {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(1)، فلقد جعل الله في أنفسنا سرَّ معرفته، كما جعل في آيات الكون سرّ معرفته.
لذلك ــــ أيّها الأحبّة ــــ فإنّ مشكلتنا هي أننا نعيش مع الناس أكثر ممّا نعيش مع أنفسنا، فلنعش مع أنفسنا أكثر لنقومها جيداً ولنصلحها جيداً ولنثبّتها جيداً ولنغرس فيها غراس الحق والخير والعدل جيداً. أمّا كيف تنمّي إيمانك؟ فبأن تقرأ في كتاب الكون آيات ربّك، وأن تفكّر في ربّك ماذا صنع بك ثم تمارس ذلك بالتأمّل لتمتلئ نفسك بعظمة الله عزّ وجلّ، وإذا كان ربّك عظيماً في نفسك فإنّ الإنسان سوف يصغر فيها "عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم".
فكّر كذلك في نِعَم ربّك وأوّلها نعمة وجودك لتشعر بارتباط وجودك بربّك وأنّك لا تستطيع أن تنفكّ عنه لا في أصل الوجود ولا في تفاصيل الوجود فيما تأكل وفيما تشرب وتشتهي وتتحرّك وتمرض وتشفى، وما إلى ذلك.
مارس علاقتك بربّك الذي يقول {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(2) اجلس مع ربّك وناجه بكل آلامك وأحلامك فإنّه قريب منك {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(3). صلِّ لربّك واقرأ القرآن حيث يقول تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}(4)، ثمّ جاهد نفسك بأن تحاسبها وتحاكمها، فذلك هو الطريق الذي يمكن لك من خلاله أن تحافظ على الجوّ الروحي وعلى الالتزام الشرعي.
الكمال الإنسانيّ:
ماذا يعني مصطلح الكمال الإنساني:
ــــ معناه أن يأخذ الإنسان بالأخلاقية التي تعمّق إنسانية الإنسان، ويتحلّى بالأخلاق الفاضلة الحسنة، وكلّ القِيَم الروحية والإنسانية بحيث يكون نموذجاً لها لا يعيش النقصان في قيمة ولا يعيش الضعف في خلق.
تعريف التقوى:
ما هو تعريف التقوى، وكيف نحصل عليها؟
ــــ التقوى هي أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، بمعنى أن تلتزم أوامر الله ونواهيه في كلّ أمورك. ومن الطبيعي أنّ هذا يحتاج إلى وعي لأوامر الله ونواهيه أولاً بأن تعرف ما أراد الله منك فتفعله وما نهاك عنه فترتدع عنه، ثمّ بعد ذلك أن تجاهد نفسك.
عقاب الدنيا والآخرة:
إذا قتلتُ نفساً متعمِّداً ونلتُ جزائي بالإعدام فهل يا ترى أنال عقابي في الآخرة؟
ـــ إنّ الله أرحم من أن يجمع على الإنسان عقاب الدنيا والآخرة، كما ورد في بعض الأحاديث وربّما نستفيد من بعض الآيات إنّ هناك حقاً عاماً لله لا يسقط بالقصاص.
علاج قساوة القلب:
قساوة القلب ما علاجها؟
ــــ تنطلق قساوة القلب من حالة الاستغراق في الذات والابتعاد عن الإحساس بالآخرين والتفكير بالآخرين، لذلك على الإنسان أن يدرس أسباب هذه القساوة وهذا التحجُّر، وأن يعرف أنّ ذلك يعني مرضاً إنسانياً في شخصيته، وعليه أن يفكّر بآلام الآخرين وبمشاكلهم وبأوضاعهم مقارنةً بآلامه ومشاكله وأوضاعه التي يجب على الناس أن يتفاعلوا معه فيها ممّا يجعله يتفاعل مع الآخرين فيما يعيشونه، فكلّما فكّرت بالناس أكثر كلّما رقَّ قلبك لهم أكثر وتفاعلت معهم أكثر. وكلّما اختنقت في سجن ذاتك وعشت في داخل أنانيّتك ابتعدت عن الإحساس بالآخرين، وهذه هي صفة الناس الذين يتصوّرون أنّ العالم اختصر في ذاتهم فلا يفكّرون بالآخرين، وهكذا نجد قساوة القلب في التحجُّر الفكري الذي يتجمّد فيه الإنسان فكرياً فلا ينفتح على الحقّ في حركته في الوعي وفي انطلاقته في الروح ولا يبادر إلى الاستماع إلى الفكر الآخر في رسالة الأنبياء في وحي الله، وهذا ما قد نستوحيه في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أمّا علاج هذا فهو أن يعيش الإنسان مسؤولية فكره ومصيره ومسؤوليته تجاه الناس من حوله ليبقى في حالة تفكير دائم وحوار مستمر.
إغتنام رجب الأصبّ:
نحن في شهر رجب، وهو من الأشهر العظيمة عند الله، فما هي نصيحتكم لأبنائكم في هذا الشهر في المجال العبادي والروحي؟
ــــ ميزة هذا الشهر أولاً هي أنّه من الأشهر الحُرُم، التي اعتبرها الله أشهر سلام، وهي: (ذي القعدة وذي الحجّة ومحرم ورجب) ولمّا كان رجب منفصلاً عن هذه الأشهر سمّي "رجب الفرد" والأشهر الحُرُم هي واحة السلام الزمنية، فلقد جعل الله تعالى واحة سلام مكانية وهي (حرم مكّة) وما حولها حيث جعلها حرماً آمناً ومثابة للناس، فليس لأحد أن يعتدي على أحد فيه أو يأخذ بثأره حتى لو كان قاتل أبيه. وكذلك جعل الله واحة سلام في الزمن وهي الأشهر الحرم التي أراد للناس أن يتحفظّوا فيها من القتال حتى لو كانت هناك ظروف توحي بالقتال، لأنّ الإنسان عندما يعيش روح السلام وفكر السلام بعد قتال طويل أو بعد مشاكل تفتح الإنسان على القتال فإنّه يمكن أن يعود إلى السلام ليتفادى الحرب بعد ذلك.
لهذا نقول إنّ الله أراد هذه الأشهر أن تكون أشهر سلام، ولكن إذا اعتدي على الناس فيها {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}(1) فعليهم عند ذاك أن يدافعوا عن أنفسهم.
ونحن نستوحي من هذا الشهر الحرام روح السلام فيما بيننا، وننطلق لنفرغ قلوبنا في هذا الشهر من الأحقاد ومن العداوات ومن البغضاء ومن التعقيدات الذاتية أو التعقيدات الحزبية أو التعقيدات المذهبية والطائفية، أو التعقيدات الإقليمية والقومية، وأن نتّجه بقلوبنا لله ربّ السلام الذي يدعونا إلى دار السلام لنعيش روح السلام في الدنيا.
وثمّة نقطة أحبّ أن أُنبِّه إليها فأنا أرى أنّ قلوبنا إذا كانت مملوءة بالحقد فكيف يمكن أن ندخل الجنّة؟! والله سبحانه يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}(2) أي يأتون إلى الجنة وليس في صدورهم غلّ أو حقد. ولهذا عندما أراد لنا الله، أن نبتعد عن العداوات والبغضاء والأحقاد، فإنّه أرادنا أن نعيش دورة تدريبية في الدنيا حتى نتعلّم حياة الجنّة بأن نحوّل الدنيا إلى حياة جنّتية مصغّرة نتعلّم فيها كيف نعيش الجنّة الكبيرة {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}(3).
لذلك علينا أن نفكّر في أسباب الحقد وسنكتشف أنّها أسباب لا عمق لها في العقل وفيما يريده الله، وعندما نفكّر في الخلافات فيما بيننا نشعر أنّ هذه الخلافات بسيطة وهامشية لا تجعل من هذا فريقاً ومن ذاك فريقاً آخر. وعندما ندرس الحساسيات الموجودة نشعر أنّها حساسيات تلتهب ولكنّها تنقطع بعد ذلك.
إنّ في حياتنا تعباً كثيراً، فالواقع الاقتصادي مؤلم والواقع الاجتماعي مؤلم وكذلك الواقع الأمني، فلماذا نحن مولعون بأن نتعب أنفسنا أكثر، لماذا نفتّش عن المتاعب، لماذا نحرص على أن نختلف دائماً ولا نفتّش عن أن نتّفق؟! لنفكّر إذا لم يكن بعقل الآخرة فعلى ما قال الإمام الحسين (عليه السلام) "ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعراباً؟!"(1).
نحن نشتغل ونشقى ونعمل ونكد ونهاجر حتى نرتاح ونقلّل أعداءنا، كان عليّ (عليه السلام) يقول "أعجزُ الناس من عجز عن اكتساب الأخوان" أي الذي لا يقدر أن يكتسب أصدقاء "وأعجز منه مَن ضيّع مَن ظفر به منهم" ويقول أيضاً "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(2) ففرّغ قلبك من الشرّ اتّجاه الآخر ينعكس ذلك على سلوكك وعلى موقفه منك.
ولذلك ففي مناسبة شهر السلام، في رجب الشهر الحرام، علينا أن نتعبّد إلى الله بأن نفرّغ قلوبنا من الحقد على المؤمنين وأن نفرغ قلوبنا من كلّ الحساسيات وكل التعقيدات حتى ننطلق بقلوب مفتوحة يمكن أن تعطي لبعضها البعض روحاً من السلام ومن المحبّة.
ثمّ إنّ رجب هو شهر العبادة، وشهر الأعمال، وشهر الرجوع إلى الله، والله يريد لنا قبل أن ندخل في شهر رمضان الذي هو شهر المغفرة والرحمة وشهر العتق من النار والفوز بالجنّة، كما يقول زين العابدين (عليه السلام) "شهر الإسلام وشهر الطهور" فإنّه يريد لنا أن نعيش بشكل تدريجي أجواء (رجب) ثم نأتي إلى (شعبان) الذي كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يدأب في صيامه وقيامه، ثم ننطلق لندخل شهر رمضان طاهرين، فهناك أعمال، وهناك تسبيحات وهناك استغفار وهناك دعاء وعلينا أن لا نحرم أنفسنا من ذلك الزاد الطيّب، وكل هذا يجعل الإنسان يعيش مع الله في بحبوحة من الصفاء والسلام والسعادة، كما إنّ علينا أن نعيش مع الله على مدى السنة، ولكن هناك مواسم نفزع فيها إلى الله ليفرّج همومنا وكروبنا التي لا يكشفها إلاّ الله وعندنا مشاكل تحتاج إلى أن نجلس إلى الله بشكل تلقائي، وقد يقول البعض البس ثيابك واقعد بمصلاّك واجلس كما يجلس العبد أمام السيّد السلطان، وأنا أقول لك أدعُ الله على كل حال وفي كل زمان ومكان، فليس هناك رسميّات بيننا وبين الله سبحانه وتعالى فهذه الرسميّات هي بيننا نحن البشر. وإن كان الأفضل مراعاة المسنون من الآداب.
تكلّم مع الله كما تحبّ وبأي لسان تشاء فقد تقرأ الدعاء في الكتاب وأنت لا تفهم منه شيئاً.. حاول أن تجعل الكلمة تخرج من قلبك بطريقتك الخاصة. قل له: يا ربِّ أنا فقير وأُريد منك كذا وكذا، ولتكن لديك دالّة على الله سبحانه وتعالى ففي دعاء الافتتاح: "مدلاًّ عليكَ فيما قصدتُ فيه إليك، فإنْ أبطأ عنّي عتبتُ بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ لي لعلمكَ بعاقبة الأمور، فلم أرَ مولىً كريماً أصبرَ على عبدٍ لئيمٍ منكَ عَلَيَّ يا ربّ، إنّك تدعوني فأُوليّ عنك وتتحبَّب إليّ فأتبغّض إليك، وتتودّد إلي فلا أقبلُ منك، كأنَّ ليَ التطوُّلَ عليك، ثم لم يمنعك ذلك من الرحمة بي والإحسان إليّ"(1) إنّ العلاقة الرسمية مع الله يمكن أن تشغلك بكلمات الدعاء كيف تتلوها، وكيف تتهجّاها، فتتلاشى بذلك الروحانية {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(2) بلغتكم وبمشاعركم وبأحاسيسكم. وهكذا فإنّ رجب هو موسم من مواسم المغفرة والقرب إلى الله سبحانه وتعالى وعلينا أن نغتنمه.
شروط الدعاء وآدابه:
هل يتفضّل السيّد ويعطينا أساسيات في الدعاء وآدابه وشروطه وأسباب عدم استجابته؟
ــــ إنّ روح الدعاء هو التوجُّه، بمعنى أن تفرغ قلبك إلى الله وأن تدعو الله من قلبك لا من لسانك بحيث تفهم الدعاء، وتعتبر أن ما تدعو به هو أمر تريد أن تطلبه من الله تماماً كما تطلب أي شيء من شخص، فهل يمكن أن تطلب من شخص أمراً وأنتَ تحدّثه عن شيء لا تفهمه؟!
فأبسط شروط الدعاء هو أن تتحدّث مع الله بعقلك وبقلبك، بما تفهمه ولا بدّ أيضاً أن تدعو الله وأنت تنتظر الإجابة فلا تدعوه يائساً من الرحمة، ولا بدّ أن تستخدم في الدعاء كلّ أساليب الاستعطاف وكل أساليب المحبة في تضرّعك إلى الله سبحانه وتعالى. ومن الطبيعي أن تدعو الله بما لا يغضبه فليس لك أن تدعو على المؤمنين، وليس لك أن تدعو بالأشياء المحرّمة، بل لا بدّ لك أن تدعو الله بما يحبّه منك أو بما يبيحه لك ممّا تحتاجه، وأن تدعو ربّك ليقوّي إيمانك والتزامك، وأن يهديك سواء السبيل ويعينك على نفسك بما يعين به الصالحين على أنفسهم.
ومن المستحبّات في الدعاء أن يدعو الإنسان للمؤمنين والمؤمنات، وقد ورد أن بعض أصحاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كان يدعو يوم "عرفة" وكان قد فقد إحدى عينيه، فيذكر عنه أحد أصحابه، يقول رأيت عينه الثانية أثناء الدعاء وكأنّها علقة حمراء من البكاء فتركته حتى يفرغ، فقلت له رأيتك على حال حسنة وأنتَ تدعو، قال والله ما دعوت إلاّ للمؤمنين والمؤمنات، فقلت له كيف؟ قال! حدّثني جعفر بن محمد عن آبائه أنه "إذا دعا المؤمن لأخيه بظهر الغيب قالت له الملائكة ولك مثل ذلك" فخشيتُ إنْ أنا دعوتُ لنفسي أن لا يستجيبَ الله دعائي فدعوتُ لإخواني، لأنّ الملائكة سوف تدعو لي فأحببت أن لا أتركَ دعوةً مستجابةً في قبالِ دعوةٍ لا أعلمُ هل تستجاب أو لا.
أمّا ما لا يستجابُ فيه الدعاء أو موانع الدعاء، فلا إشكال في أنّها المعاصي التي تحيط بالإنسان، وقد تكون بذاءات اللّسان من موانع استجابة الدعاء، فلقد ورد في كتاب (الكافي) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان في بني إسرائيل رجل فدعا الله أن يرزقه غلاماً سنين فلما رأى أنّ الله لا يجيبه قال يا ربّ أبعيدٌ أنا منك فلا تسمعني أم قريب أنتَ مني فلا تجيبني قال: فأتاه في منامه فقال: إنك تدعو الله عزّ وجلّ ثلاث سنين بلسان بذيء وقلب عات غير تقي ونيّة غير صادقة فاقلع بذائك وليتق قلبك ولتحسن نيّتك قال: فعل ذلك ثمّ دعا الله فولد له غلام"(1) فقد يكون اللّسان البذيء الفاحش الوسخ الذي يؤذي الناس مانعاً من استجابة الدعاء، فلو فرضنا أنّك تريد أن تقدّم لجارك هدية ــــ مثلاً ــــ أكلةً يحبّها، فلو أتيته بها وجعلتها بصحن مملوء بالأوساخ والقاذورات وقدّمتها له فهل ستكون هدية معقولة ومقبولة؟ فهذا هو حالُ اللّسان الذي يرفع أدعيتنا إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا كان قلبك بلا نقاء ولسانك وسخاً ونيّتك غير صافية فالدعاء لا يصعد إلى السقف وليس إلى السماء!.
وهناك أيضاً أربعة لا يستجاب لهم دعاء: رجل جالس في بيته يقول يا ربّ ارزقني فيقول له: ألَم آمرك بالطلب؟ ورجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقول ألم أجعل أمرها بيدك؟ ورجل كان له مال فأفسده فيقول: يا ربّ ارزقني: فيقول له: ألَم آمرك بالإصلاح؟ ثم قرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة فيقول ألَم آمرك بالشهادة"(1).
لذلك فعلى الإنسان أن يدعو بالأشياء التي لا يقدر على فعلها، أمّا الشيء الذي تقدر عليه وتقدر أن تمارسه فإنّ الله قد أعطاك برنامجاً للأسباب ويريدك أن تأخذ بهذه الأسباب وبعد استفراغ الوسع تتّجه إلى الله بالدعاء والتضرّع.
مكافحة الغضب:
أنا شاب من طلبة العلوم الدينية أعاني من سرعة الغضب ولكن قد أسيطر على نفسي أحياناً وأحياناً أخرى لا أقدر على ذلك، فما هي نصيحتكم؟
ــــ جاء في الحديث الشريف: "أوحى الله عزّ وجلّ إلى بعض أنبيائه: يا ابن آدم اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي لا أمحقك فيمن أمحق، وأرض بي منتصراً فإنَّ انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك"(2) اذكر الله سبحانه وتعالى في غضبك، واذكر قدرته عليك أكثر من قدرتك على ذلك الشخص، وبإمكان الإنسان إذا غضب وهو واقف أن يجلس، أي أن تغيّر جوّك الذي أنتَ فيه، فإذا كنت في بيتك وغضبت على زوجتك فاخرج من البيت أو ادخل إلى غرفة ثانية، وبالنتيجة على الإنسان أن يعالج غضبه لا أن يستسلم له، وهناك حديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يقول "سمعت أبي (عليه السلام) يقول: أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجل بدويّ فقال: إنّي أسكن البادية فعلّمني جوامع الكلام فقال: آمرك أن لا تغضب فأعاد عليه الإعرابي المسألة ثلاث مرات حتى رجع الرجل إلى نفسه فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ بالخير قال: وكان أبي يقول: أيُّ شيء أشدُّ من الغضب؟ إنّ الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرّم الله ويقذف المحصنة"(3).
نيّة العمل:
إذا أتى الإنسان بالواجبات انطلاقاً من أنّها تصلح الحياة وتعمّم الخير بعيداً عن الثواب والعقاب فهل هذا يضرّ بصحّة إيمانه بالله واليوم الآخر؟
ــــ لا يضرّ ذلك بصحّة إيمانه بالله واليوم الآخر، ولكن إذا كانت هذه الواجبات ممّا يشترط فيها القربة فهي باطلة لأنّه لم يأت بها تقرّباً إلى الله، وإذا لم يشترط فيها القربة فيكون قد فقد فيها الثواب، وإنّما يستحقّ الإنسان الثواب على عمل الخير إذا كان لله وفي الحديث "لا عمل بلا نيّة، وإنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرء ما نوى".
الشكّ في استجابة الله:
ماذا تنصحون الطالب الداعي الذي يدعو الله ولكنّه يظنّ أنّ الله لا يجيب دعوته؟
ــــ علينا أن ندعو الله تعالى القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(1)، ولكن ربما يكون بعض الموانع التي لا يستجاب فيها الدعاء فلا ييأس الداعي من روح الله، فلربّما يدعو بشيء ليس في مصلحته والله رحيم لا يستجيب لمن يدعو بشيء فيه ضررٌ عليه بحيث يقع في الضدّ من مصلحته.
تطبيق الذكر الكثير:
كيف نطبّق الآية التي يقول فيها الله {يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}(2) أو الآية {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}(3) فقد تأتي الوسوسة والكلام مع الناس لتصرف الإنسان عن ذلك؟
ــــ الذكر الكثير ليس المقصود فيه ذكر اللسان فقط، ولكن ذكر العقل وذكر القلب وأن تذكر ما حرّم الله عليك لتترك، وأن تذكر الله فيما أوجبه عليك لتفعل. وعلى هذا الأساس يمكن للإنسان أن يذكر الله ويعيش مع الناس ويتحدّث معهم ويبقى الله نابضاً في قلبه.
الإدبار عن الصلاة:
إنّني في حالة إدبار عن الصلاة بشكل غريب وأقنع نفسي بأعذار واهية، فما هي الوسيلة أو الطريقة للتخلص من هذا الإدبار، علماً أنّ قلبي ينبض بحبّ الله ورسوله وآله؟
ــــ زدّ نبضات قلبك بحبّ الله ورسوله، وفكّر بالله وبعظمته وبنعمته، وفكّر بالله وباليوم الآخر، وفكّر إنّ الصلاة هي دليل محبّتك لله، لأنّ دليل المحبّة هو الشكر، وكما يروى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قيل له: لمَ ترهق نفسك بالصلاة وقد ضمن الله لكَ الجنّة، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟! إنّ الصلاة هي تعبير عن الشكر لله وإذا كنّا نحبُّ الله فعلينا أن نأنس عند اللقاء بالله، تماماً كما يفعل المحبّون الذين يأنسون بلقاء المحبوب بل ويعدّون الساعات والدقائق حين يحين موعد اللقاء، فإذا كنّا نحبّ الله ورسوله وأهل بيته فعلينا أن نحبّ اللقاء به، والصلاة هي فرصة اللقاء بالله وهي "معراج روح المؤمن إلى ربّه" و"الصلاة عمود الدين وأنّها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من الأعمال وأوّل ما يُسئل عنه العبد بعد المعرفة قُبِلَتْ قُبِلَ ما سواها وإنْ رُدَّت رُدَّ ما سواها"(1) وقد شبّهها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعين ماء تكون على باب الإنسان فيغتسل منها خمس مرات في اليوم فهل يبقى على جسده شيء من الوسخ أو الدرن؟! والحسنات في الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ}(2) تعني الصلوات فكلّ صلاة تذهب سيئات ما قبلها، ومعنى ذلك أنّ الإنسان يبقى في حالة غفران دائم.
التوجّه للقبلة ولله:
إنّ الله تبارك وتعالى يأمرنا في الآية أن نحوّل وجوهنا نحو المسجد الحرام وفي آيةٍ ثانية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ}(3) فما المقصود بهما؟
ــــ المقصود بالأولى القبلة، وهذه يقصد بها معنى آخر أي أنّكم أينما تذهبون وأينما تتحرّكون وتتّجهون بنيّاتكم وأفكاركم وأعمالهم وقضاياكم فالله موجود، وهو يراكم ويشهد ما تعملون.. إنّه في كل مكان وليس موجوداً في مكان.
إتهام المتّقين لأنفسهم:
ورد في خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه المتّقين (فهم لأنفسهم متّهمون) فكيف يكون اتّهام المتّقي لنفسه؟
ــــ إنّ الإنسان المؤمن يحاول دائماً أن يحاسب نفسه ويحاكمها بحيث يحاول أن يتّهمها، فإذا عمل لغير الله يراجع دوافعه التي دفعته لهذا العمل لتخرج نفسه بعد جلسة محاسبة، بريئةً من التهمة أو لتتركّز التهمة فيها، ولذلك ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين "المؤمن نفسه ضنون عنده" أي أنّ نفسه متّهمة عنده، فلا تخرج نفسك من حدّ التقصير بل أشعرها أنّك مقصّر مع الله سبحانه وتعالى.
هل تعيد التوبة الصفاء:
إذا تاب المذنب بعد وقوعه في المعصية فهل يرجع كما كان تماماً بنفس الصفاء الروحي والفكري، أم تلاحقه آثار الذنب في روحه وفكره، وعلى فرض الأمر الثاني ألا يعتبر ذلك حجاباً للتائب عن كماله ممّا يشكّل له حالة اليأس التي قد تدفعه إلى الوراء بدلاً من السير إلى الأمام؟
ــــ إنّ التوبة الصحيحة لا تنفصل في بدايتها عن الصفاء الروحي لأنّها مؤلّفة من عنصرين: الندم الحقيقي على ما مضى والعزم على أن لا يفعل بعد ذلك. ومن الطبيعي فإنّ الإنسان الذي يعيش الندم في عقله وفي قلبه وفي روحه على المعصية ويركّز إرادته في أن لا يفعل ذلك، وأن يهيّء كل أجوائه هو إنسان يعيش الصفاء الروحي، لكن هذا الصفاء يحتاج إلى نوع من أنواع الرعاية والعناية والاهتمام والإحاطة، فالتائب مثل المريض في دور النقاهة يحتاج إلى رعاية خاصة حتى لا تصيبه الميكروبات من جديد فلا يقع تحت تأثير أيّة حالة من الحالات التي سبّبت المرض. إنّ الإنسان الخارج للتوّ من المعصية، الذي أسرف على نفسه يحتاج إلى أن يبتعد عن الأجواء التي كانت تشجّعه على المعصية، وأن يبتعد عن المشاعر والأحاسيس التي كانت تدفعه إلى المعصية، وأن يمتنع عن الأفكار التي كانت تزيّن له المعصية.
أمّا أن يلاحقه الذنب دائماً ويبقى حاجزاً فهذا لا دليل عليه، ففي الحديث "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" والله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(1) وفي آيةٍ أخرى {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}(2)، ومن الطبيعي فإنّ الله لا يريد أن يثقلهم بأن يجعل من الذنب عقدة في داخل نفوسهم تمنعهم من الانفتاح على الطاعة بطريقة وبأخرى.
الوسوسة:
شابة جامعية ومثقّفة اجتماعياً وواعية لكنّها لا تصلّي إلاّ بعد غسل وتغيير ملابسها عند كل فريضة لعقيدتها بنجاسة كلّ شيء، فما هو موقف الأهل نحوها؟
ــــ كيف يقال إنّها مثقّفة اجتماعياً وواعية وهي تعيش الوسوسة التي تمثّل عبادة الشيطان وطاعته، إنّها تقول بأنّ كل شيء نجس، والإسلام يقول كلّ شيء طاهر، فكيف يمكن أن تكون مؤمنة وهي تعمل بحسب سلوكها ضدّ الخطّ الإسلامي في الحكم بطهارة كلّ شيء يشكّ فيه، وضدّ حكمه بعدم خضوع الوسواسي للوسوسة.
نصائح رمضانية:
مع قدوم شهر رمضان المبارك نرجو تقديم بعض النصائح للشباب المسلم في هذا الشهر المبارك حتى نكون المستفيدين منه؟
ــــ عندما ندرس النصّ القرآني في مسألة الصيام نجد أنّ الله يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1) إنّ هدف الصوم هو تعميق التقوى وتجذيرها في عقل الإنسان وفي قلبه وحركته في الواقع.
فمن لم يحصل على ملكة التقوى وفعليتها في شهر رمضان فإنّه لم يكن قد حقّق هدف هذا الشهر، وينطبق عليه الحديث الشريف "ربّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش"(2) لذلك علينا أن ندخل في شهر رمضان دخولاً واعياً، تماماً كما لو كان للإنسان غاية يريد أن يحصل عليها، ولذلك لا بدّ للإنسان أن يراقب نفسه في كل يوم من أيام الصوم ليعرف ما إذا قد تقدّم في التقوى أو أنّه تقهقر، حتى ينتهي الشهر ليكون في القمة من التقوى.
ثمّ إنّ هذا الشهر الذي أراده الله سبحانه وتعالى حركة من أجل التقوى قد تضمّن في مستحبّاته عدّة مفردات عبادية وثقافية، فيستحبّ للإنسان في هذا الشهر أن يقرأ القرآن ليتحرّك من خلال آياته في التقوى العقلية، وحتى يتثقّف بالقرآن وتكون الممارسة العملية للصوم عنده ممارسة نابعة من قاعدة ثقافية هي ما يقرأه في القرآن من آيات العقيدة والشريعة والموعظة والمنهج والحركة في الحياة. ولقد أكّد الله سبحانه أنّ شهر رمضان هو شهرُ القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى}(3) فانفتحوا على القرآن كما لو كان ينزل عليكم الآن لتستقبلوه بعقولكم وألسنتكم وحياتكم.
ثمّ أرادنا الله في ليالي ونهارات هذا الشهر أن ندعوه في ابتهالاتنا {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} واعتبر الذين يتركون الدعاء مستكبرين {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(4) وهكذا يقول {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(5) وقد ترك لنا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) تراثاً من الأدعية المتنوّعة المتحرّكة التي ندعو الله بها في النهار وفي المساء وفي السحر وفي كل يوم، ممّا يمثّل ثروة روحية ثقافية تعمق الروحانية في نفس الإنسان وتقرّب الإنسان إلى الله لأنّها توصله إليه.
إنّ شهر رمضان هو موسم من مواسم الروح والتقوى والاستقامة، وهو كما وُصفَ في الخطبة التي استقبل بها النبيّ شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان (أيّها الناس قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، قد دعيتم به إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله بنيّات صادقة وقلوب طاهرة) اخلصوا فيه نيّاتكم وطهّروا قلوبكم قبل أن تدخلوه، "واسألوا الله أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه فإنّ الشقيّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم"(1) فعلينا أن لا نكون من الأشقياء بل من الأتقياء، فإنّنا نحتاج إلى أن نحضّر أنفسنا وأرواحنا وعقولنا وأجسادنا للدخول إلى شهر رمضان، ولكنّ الناس ــــ للأسف ــــ يحضّرون حلويّاتهم وكل ما يشبع بطونهم ثأراً من الصيام ومن جوع هذه الساعات وبذلك نُتخم الصيام بشهواتنا وملذّاتنا، وإذا أتخمناهُ بكلّ ذلك فإنّ التخمة قد تجلب الموت وقد يموت الصيام في حياتنا ونموت روحياً.. أعاذنا الله من ذلك.
الصلاة في المسجد:
لخدمة مصلحة الإسلام العليا ماذا ترون في صلاة المسجد حالياً، وما هي أهميّتها، وإذا كان الإمام لا يولّد اطمئناناً فما هو الحكم الشرعي للمكلّف في ذلك؟
ــــ إنّ للصلاة في المسجد فضلاً يختلف عن الصلاة في البيت، والله أراد لنا أن نعمّر مساجدنا بالعبادة، وإذا كان الإمام ليس في موضع الثقة فعلى الإنسان أن يصلي في المسجد خارج الجماعة، ولكن عليه أن لا ينفرد والجماعة قائمة.
الاستعجال في الصلاة:
ما حكمُ من يستعجل في صلاته لا سيما في ركوعه وسجوده؟ وكيف يمكن لصلاته أن تحقّق النتائج المطلوبة منها؟
ــــ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "دخل رجل مسجداً فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فخفّف سجوده دون ما ينبغي، ودون ما يكون من السجود، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): نقر كنقر الغراب، لو مات على هذا مات على غير دين محمّد" كما إنّ عليه أن يفهم بأنّ الصلاة ليست مجرّد عملية رياضية تنطلق من خلال حركة الإنسان، ولكنّها مدرسة تنهى عن الفحشاء والمنكر، من خلال حركة الإنسان، وهي معراج روح المؤمن إلى الله، والعمل الذي يتطهّر فيه الإنسان ويحصل على الصفاء الروحي بين يديّ الله.. وقد ورد في الحديث: "أنّه مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعداً".
علاج الكفر بالله:
كيف يمكن علاج الرجل الذي يغضب غضباً شديداً يصل إلى حدّ الكفر بالله تعالى، وما عقوبة هذا الفعل وأثره على حياته؟
ــــ لا بدّ من تذكيره بالنتائج الروحية والدينية التي تترتّب على ذلك وبتذكيره بالله سبحانه وتعالى وبغضبه على من يفعل ذلك. ومن الطبيعي أنّ هذا الرجل لا يتكلّم في حالة الانفعال والغضب الشديد بقصد وإلاّ كان كفراً وارتداداً، ولكنّ عليه أن يحتاط لنفسه فيحاول أن يعالج غضبه ويعظّم الله في نفسه حتى لا تصدر منه هذه التعابير ولو بشكل لا شعوري، فالذين يسبّون الدين أو الله أو المقدّسات غضباً، ينطلقون من عدم تقدير عظمة الله والمقدّسات في نفوسهم، وعليهم أن يربّوا عظمة الله والدين والمقدّسات في نفوسهم حتى يعيشوا التعظيم حتى في منطقة اللاشعور.
صفة المؤمن قديماً وحديثاً:
وصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المؤمن لهمّام في ذلك الزمان، والآن نريد أن تصف لنا المؤمن، وهل هناك فرق بين مؤمن الأمس ومؤمن اليوم؟
ــــ أصفه بما وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) في العناصر الأساسية التي يعيش فيها الإنسان المؤمن إيمانه بربّه بحيث يتمثّل ربّه بأنّه كل شيء في علاقته بنفسه وبالناس بالحياة وبالحاضر وبالمستقبل، إنّ كلمة الإيمان بالله تختصر أن يعيش الإنسان مع الله في علاقته بأي شيء من حوله وبذلك يستطيع أن يضمن لنفسه هذا العمق من صفة الإيمان لقراءة خطبة الإمام عليّ (عليه السلام) في صفة المتّقين لرأينا أنّ الإمام (عليه السلام) لم يصفه وصفاً مرحلياً، أي لم تتغيّر صفة المتّقين مهما امتدّ الزمن، فالمتّقي هو المتّقي في كل ما وصفه به إمام المتّقين (عليه السلام).
الفصل الخامس
المرجعية الدينيّة
"لمْ يعد المرجعُ إنساناً يستنبطُ أحكاماً فحسب، بل أصبح مرجعاً للناس في قضاياهم السياسية والاجتماعية، تماماً كما هو في القضايا الفتوائية".
المرجعية الدينيّة
العلماء ومشاكل المجتمع:
ما هي العوامل التي جعلت العلماء ومراجع الدين لا يدخلون في عمق المجتمع ليعالجوا مشكلاته الفقهية والسلوكية، فيما يقول بعضهم: اسألوا غيري؟
ــــ ربّما كانت لبعضهم ظروف نفسية أو اجتماعية يخيّل إليه أنّه لا يملك أن يتحرّك خارج نطاق الدائرة التي يعيش فيها، ولا يجد مبرّراً شرعياً لغير ذلك، ولكن هناك الكثيرون من المراجع وعلماء الدين من الذين انفتحوا على الحياة والواقع وقدّموا دماءهم في سبيل أمّتهم وفي سبيل الإسلام والمسلمين، وفي مقدّمتهم الشهيد (السيد محمد باقر الصدر)، والكثير من طلاّب العلم والعلماء في العراق، والشهيد (مطهّري) وغيره من الشهداء الذين لاقوا وجه ربّهم، عاشوا مشاكل أُمّتهم الفقهية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
فنحن لا نريد أن نقلِّل من قيمة هؤلاء العلماء ولكن قد يكون لبعضهم ظروف معينة تضغط عليه، وقد يكون لبعضهم فهم معيّن للظروف يتحرّك من خلاله "فمن اجتهد له أجران إنْ أصاب وأجر واحد إنْ أخطأ".
المرجعية وشؤون الحياة
هل تشترطون في المرجع الإحاطة بشؤون الحياة والإطلاع عليها؟
ــــ في المسائل الفقهية قد تتّصل بعض مسائل الاجتهاد بمعرفة الواقع، هذا أولاً، وثانياً فإنّ المرجع لم يعد مجرّد إنسان يستنبط أحكاماً وحسب، بل أصبح مرجعاً للناس في قضاياهم السياسية والاجتماعية تماماً كما هو في القضايا الفتوائية. ولذلك فمن يكون في مستوى المرجعية الكبرى فلا بدّ من أن يكون منفتحاً على كل الساحة التي تتحرّك فيها مرجعيته بحيث يكون خبيراً في الواقع وخبيراً بالناس ليعرف كيف يوجّههم وكيف يعطيهم ما ينطلقون به.
دور العلماء في إصلاح المجتمع:
تكلّمتم عن العزّة والذلّة، وقلتم إنّما هي من الله، ونحن نرى في وقتنا الحاضر هذه الصراعات والنزاعات التي تنشب بين المسلمين أنفسهم، فإن كان هذا من الله تعالى فأين هو دور العلماء والمراجع في إصلاح هذا المجتمع وتصحيح مسيرته؟
ــــ معنى أنّ العزة من الله يعني أنّه أراد لك أن تكون عزيزاً، فهو الذي أعطاك وسائل العزّة وأراد لك أن تأخذ بها باختيارك، وجعل الذلّة باختيارك أيضاً، ومكّنك من أسباب هذا وذاك وقال لك لتكن إرادتك في خطّ العزّة لكنّك أسأت الإرادة وأسأت الاختيار، إنّ هذه المسؤولية ليست هي مسؤولية العلماء والمراجع فحسب بل هي مسؤولية كل الطاقات الاجتماعية التي تستطيع أن تتحرّك في سبيل إصلاح ذات البين وفي سبيل تعزيز واقع المسلمين.
مجلس علمائي شيعي أعلى:
لماذا لا يكون لعلماء الشيعة بمختلف مرجعياتهم مجلس أعلى يقرّر ما هي الأمور التي لا يسمح أبداً للعوام الدخول فيها، ذلك أنّ مآسي كثيرة قد حصلت بسبب دخول العوام في هذه الميادين، وكذلك يقوم هذا المجلس بطرح معتقدات الشيعة وأهمّ مبانيهم الفكرية، وكذلك يتبنى رسالة عمليّة موحدة؟
ــــ يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ*إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}(1).
هناك تعقيدات وظروف تمنع من ذلك حتى الآن وهو طموحنا على أساس قول الله {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(2) ولكن هناك فرقاً كبيراً بين طموحاتك وبين عناصر الواقع التي تقف أمام تلك الطموحات.
لذلك نقول إنّه من غير الصحيح أن ينطلق العوام من أجل أن يعطوا أفكارهم وآراءهم، وأن يعترضوا على العلماء وأن يدخلوا بين رأي عالم وعالم ليتبنّوا هذا الرأي ضدّ ذاك الرأي لمجرد أنّ واقعهم يألف هذا الرأي ويرفض الرأي الآخر، إنّنا نقول ما قاله الله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ}(1)، فمن لا يملك علم الفقه وعلم الشريعة وعلم العقيدة فليس له أن يتبنّى أو يناقش من دون علم.
طبقة رجال الدين:
قلتم في محاضرة سابقة إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يعيش مع أصحابه كواحدٍ منهم، وذكرتم أنّ المبلّغ والداعي يجب أن يكون في عمله كواحد من الناس، ولكنّنا نرى في هذه الأيام كأنّ رجال الدين من طبقة والناس من طبقة أخرى، وقد فصلت بينهم الحواجز، فماذا تقولون في هذا المجال؟
ــــ لقد قلت كلمتي وهي أنّ على علماء الدين أن يعيشوا مع الناس من دون حواجز ومن دون تقاليد تجعلهم طبقة مميزة، لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو سيّدُ ولد آدم كان يتحرّك فيمن معه "كان فينا كأحدنا" وقد قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}(2).
تعدّدية مراجع الشيعة:
هنالك إشكالية تطرح في كثير من الأوساط الإسلامية بالنسبة للمذهب الشيعي وهي أنّ الموقف الشيعي لا يمكن أن يكون واحداً باعتبار أنّ الناس لا يرجعون في مسائلهم وأحكامهم إلى مرجعٍ واحد، فضلاً عمّن يفتي بالجهاد في مورد معيّن يخالف المرجع الآخر الذي يفتي بعدم وجوبه، فهذا سوف يسبّب تفكّك الأمة وتزعزع موقفها السياسي؟
ــــ هذا ليس موقفاً شيعياً أو سنيّاً، لأنّ الاختلاف في الاجتهاد موجود عند السنّة كما هو موجود عند الشيعة ولا بدّ للأُمّة من أن تكتشف الشخص الذي يمكن أن يسير بها إلى الصراط المستقيم، وأن لا تخضع في مثل هذه الأمور إلى جوانب هامشية أو عرضية أو عاطفية، صحيح أنّها مشكلة ولكن طبيعتها تنبع من أنّ معرفة المفاهيم الإسلامية والأحكام الشرعية لا تتيسَّر بشكلٍ قاطع بحيث يجمع عليها كل الناس، وذلك لأنّها مسألة فكرية نظرية ومن عادة الناس أن يختلفوا في كل القضايا الفكرية والنظرية، كما أنّهم لا يركّزون عندما ينطلقون في الرجوع إلى أي شخص، ولا يدرسون القضايا من جميع الجهات بل يستغرقون في جانبٍ واحد.
هل الاجتهاد عامل فرقة؟
تختلف الشيعة الإمامية عن باقي المذاهب الإسلامية في انفتاح باب الاجتهاد وبقائه إلى عصر الظهور، فهل أنّ الاجتهاد هو السبب الكبير بعدم تجمّع العلماء، أي هو السبب في فرقتهم في حين أنّ الإسلام هو دين الجماعة؟
ــــ هم مجتمعون على الإسلام وعلى خطّ أهل البيت، ولكنّهم مختلفون في استنباط بعض الأحكام وهذا ليس عند الشيعة فقط بل حتى عند السنة أيضاً. فالسنّة مختلفون في مذاهبهم التي هي ليست أربعة فقط، وإنّما هذه هي الصيغة الرسمية للمذاهب، بل هناك مذهب "الأوزاعي" ومذهب "ابن حزم الظاهري" ومذاهب أخرى، والآن بدأ الكثير من علماء السنة يدعون إلى فتح باب الاجتهاد، وقد فتح باب الاجتهاد عند بعضهم من خلال المسائل المستحدثة الجديدة التي لم يصدر فيها حكم من أئمّة المذاهب الأربعة.
دعوة تقارب:
سمعنا منكم أنّ الفترة التي نمرّ بها الآن من أصعب ما مرّ على التاريخ الإسلامي، وهذا يحتاج إلى تجميع قوانا ومواجهة التحديات، ولقد طرحنا على الشيخ (محمد سعيد رمضان البوطي) فكرة اجتماع بين أئمّة أهل السنّة وأهل الشيعة لجمع العمل الإسلامي، والتقريب بين وجهات النظر، فما هو رأيكم؟
ــــ نحن مستعدون، ونحن نجتمع دائماً في لبنان مع علماء السنة بصداقة ومحبّة، كما أنّ لي صداقات هنا في الشام خصوصاً مع الشيخ (كفتارو) وآخرين من أئمّة المساجد الكبار، وهذا موضوع نشجّعه، ونحن على استعداد للقيام به.
الحاكم الشرعي:
هل الحاكم الشرعي هو المجتهد الذي أقلّده أو أنّه مصطلح يشمل جميع المجتهدين؟
ــــ الحاكم الشرعي مصطلح يدلّ على كل مجتهد عدل.
الفتوى بغير علم:
هل يجوز نقل الفتوى بغير الصحيح إذا كان هناك تأثير إيجابي كما لو كان المنقول إليه كثير الشكّ مثلاً، فما هو رأيكم؟
ــــ لا يجوز الفتوى بغير علم ويمكن التعامل معه بطريقة غير طريقة نقل الفتوى كأن تحاول أن توحي له بأسلوب كما لو كان هناك فتوى إذا توقّفت هدايته على ذلك.
منطقة الفراغ في التشريع:
ما هي منطقة الفراغ في التشريع؟ وهل هذه الفكرة موجودة في كل المذاهب الإسلامية؟ وهل يوجد تنافي بينها وبين المقولة "إنّ لله في كل واقعة حكماً"؟
ــــ إنّ منطقة الفراغ التي نظَّر لها السيد الشهيد الصدر "رحمه الله" تتمثّل في القضايا التفصيلية التي تتّصل بالواقع التنظيمي وفي القضايا الإدارية التي يمكن أن يستأنفها الزمن، فمثلاً هناك في الوقت الحاضر "نظام بلديات" وفي الإسلام ليس ثمّة نظام بلديات بل عندنا أنظمة إدارية يحتاجها المجتمع لحفظ النظام وقد يحتاج إلى أشياء أخرى ليست موجودة، وهنا يقوم المجتهد بالاجتهاد في هذه المسائل، وبالطبع فإنّه لا يجتهد حسب مزاجه بل من خلال القواعد الموجودة لديه. وهذا لا ينافي "أنّ لله في كل واقعة حكماً" لأنّ المقصود بالحكم هو الخطوط العامة التي تبينّ الحكم بشكل مباشر أو التي تطلّ على الحكم بطريق غير مباشر.
العناصر المرنة والثابتة:
هل من معيار أو ضابط دقيق بين العناصر المرنة في الشريعة والتي سمّاها السيّد الشهيد الصدر (رض) منطقة الفراغ وبين العناصر الثابتة؟
ــــ العناصر الثابتة هي العناصر التي جاء فيها نص لا مجال للاجتهاد فيه، أمّا العناصر المرنة فهي العناصر التي وردت في نصوص يمكن أن يجتهد فيها الإنسان أو في منطقة الفراغ التي تتّصل بحياة الإنسان ممّا لا تشريع فيه، ممّا يمكن للفقيه أن يستوحيه من النصوص الإسلامية وممّا يمكن أن ينظّم حياة الإنسان كما في نظام البلديات أو النظام الإداري أو أنظمة الحرب وما شاكل. فيحاول ولي الأمر أن يستنبط من الأجواء الإسلامية والقواعد العامة ما يمكن أن يشرّع به ذلك.
أطروحة الأصالة والتجديد:
في ظلّ الظروف الراهنة التي تمرّ بها المرجعية والدعوة المطالبة بالأصالة والتجديد، هل لقيت هذه الدعوة ترحيباً من الحوزات العلمية والمراجع العظام؟
ــــ هنا بعض الدعوات التي قد تحتاج إلى خمسين سنة حتى تؤتي ثمارها، لأنّها تحتاج إلى قناعة الناس وتحمّسهم أولاً، ثم يتحرّك بها الواقع، ولذلك ترى أنّ الكثير من أصحاب الدعوات لم يستطيعوا أن يحقّقوا ما يريدون إلاّ بعد أن فارقوا الدنيا بعشرات السنين.
ولكن على الإنسان أن يقول كلمته، وإذا لم يجد آذاناً تصغي في حياته فسوف يجد آذاناً تصغي إليه بعد ذلك.
وفي ديواني "رباعيات في ظلال الإسلام" هناك رباعية أقول فيها:
دورنا أن نحرّك الصوت في الأفق ليبقى معلّقاً في الفضاء باحثاً في المدى عن الأذن الظمأى إليه في لهفة الإصغاء عن كيان يعيش في قلق الحيرة بحثاً عن فكرةٍ بيضاء عن غدٍ يحضنُ الهوى إن تخلّى الجيل عن نداء السماء!!
الأعلمية بين مجتَهدين:
لو كان هناك مجتهدان يعيشان في زمن واحد وكلاهما يرى وجوب تقليد الأعلم فهل يجوز لأقلّهما علماً تقليده لعامة المسلمين؟
ــــ إذا كان لا يرى نفسه الأعلم وكان يرى وجوب تقليد الأعلم فليس له ذلك، لأنّ معناه إغراء الناس بالجهل، أمّا إذا كان لا يرى وجوب تقليد الأعلم أو كان مثلاً لا يرى وجود أعلم في زمانه فلا مشكلة في هذا الموضوع.
امتناع المراجع عن بعض الإجابات:
ما هي مسؤولية المراجع العظام اتجاه الموضوعات التي يُسألون عنها مثل المادة الغذائية الفلانية أو السائل الفلاني، وهكذا عن الشخصية الفلانية أو الحركة الإسلامية الكذائية فهل تجب الإجابة؟ وإذا لم تجب فإلى من تلجأ الأمة في ذلك وهي تبتلى يومياً بموضوعٍ ما؟
ــــ إذا لم يكن هناك موانع وظروف ومفاسد تترتّب على الجواب فإنّنا نجد ولو بلحاظ العناوين الثانوية أنه يجب تعريف الأمة بتطبيق الأحكام على الموضوعات، كما يجب تعريف الأمة الأحكام الكلية.
الاهتمام بمجالات أخرى:
لقد اهتم العلماء المجتهدون بشكل مكثّف بالمسائل الفقهية ودرسوها بعمق ودقّة وأسّسوا طريقة علمية راقية لدراسة الفقه من خلال دروس "بحث الخارج" لماذا لم يهتم العلماء بمواضيع العقائد والتفسير والتاريخ بنفس المستوى الذي عليه درس الفقه، حتى نحصل على الآراء الدقيقة؟
ــــ هناك علماء كتبوا في ذلك كما في "الميزان" للعلامة الطباطبائي (رحمه الله) الذي يشتمل على التفسير وعلى العقيدة وعلى معارف أخرى كما أنّ المرحوم الشيخ "محمد جواد مغنية" كتب "تفسير الكاشف" و"في ظلال نهج البلاغة" و"في ظلال الصحيفة السجادية". فهناك علماء كتبوا في التفسير كتباً جيدة.
الذوق في فهم النص:
عرفت منكم، حول فهم المسائل الفقهية والاعتقادية، بأنّ علينا أن نسلك طريق الذي يفهم النص ذوقاً وعلماً ولا بدّ لنا على ضوء ذلك أن نفضّل الفقهاء العرب على العجم؟
ــــ ليس من الضروري أن يملك كل عربي ذوقاً عربياً، وأن لا يملك الأعجمي ذوقاً عربياً. نحن نعرف أنّ الكثيرين ممّن كتبوا في اللغة العربية وألّفوا القواميس ليسوا بعرب فــ "تاج العروس" مثلاً مؤلّفه ليس عربياً، وهكذا نجد أن "سيبويه" ليس عربياً، فليست المسألة هي مسألة أن يكون انتماء الإنسان إلى العرب ليكون ذوقه عربياً، فقد يكون عربياً ولكنه متأثّر بالعجمة، أليس عندنا الآن عرب يعيشون في أوروبا أو في مكان آخر يجيدون اللغة الأجنبية كما لو كانوا من الناطقين بها، فالذوق ليس مجرّد حالة سطحية ولكنه ينطلق من فهم عناصر اللغة العربية، ولذلك يمكن أن يكون هناك عالم عربي لا ذوق له من ناحية فهم اللغة أو فهم أساليبها وقد يكون هناك بعض العلماء غير العرب الذين يملكون ذوقاً عربياً مميّزاً.
روح الدليل والاستحسان:
ما الفرق بين روح الدليل التي سمعنا أنّكم تقولون بها وبين الاستحسان الذي يعتمده أهل السنّة كمصدر من مصادر التشريع، وهل روح الدليل أمر تستقلون به بين الفقهاء أم له جذوره الشرعية؟
ــــ نحن نعرف أنّه من غير الممكن أن تعيش الروح بعيداً عن الجسم أو في عالم البرزخ، حتى أنّ هناك من يقول بأنّ روح الإنسان قد تتمثّل بجسم مثالي يعني نفس الصورة ولكن بشكل آخر، وإن كنّا نؤمن بالمعاد الجسماني، فليس عندنا شيء اسمه روح الدليل بعيداً عن جسم الدليل، ولكن الإنسان قد يستوحي من بعض الأدلة فكرة أو مفهوماً إسلامياً عاماً، وكمثل على ذلك المسألة التي نتّفق فيها أنا والسيد الشهيد في الفكرة التي كانت من قبيل توارد خواطر عندما نقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(1) فنحن نريد أن نستنبط من هذه الآية حكماً شرعياً فنرى أنّ لدينا حديثاً يقول: "يكره التزويج من الأكراد ويكره مبايعتهم ومشاراتهم" وحديث آخر يقول: "يكره التزويج من الزنج، من أهل الهند والسند". فمعنى ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى يريد للمجتمع أن يقاطع هؤلاء وأن يحتقرهم وأن ينظر إليهم نظرة دونية من دون ان يكون هناك أي دخل لأعمالهم، وإنّما لمجرّد انتماءهم القومي أو العرقي، في حين أنّ هذا أو ذاك من بني آدم وليس له أي ذنب إلاّ أنّ الله خلقه على صورة معينة كما خلق الآخرين من بني آدم على صور أخرى، فحينما نقارن بين هذه الأحاديث وبين المفهوم الإسلامي الذي أخذناه من قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} فلا بدّ أن نرفض هذه الأحاديث لأنّها مخالفة لكتاب الله ومخالفة لروح كتاب الله، فليست الروح معلّقة في الهواء.
وكمثل آخر على روح الإسلام (الزواج)، فلقد رغّب الإسلام بالزواج ليحصن الرجل والمرأة أخلاقياً، ولدينا أحاديث تقول ما مضمونه أنّ الذي يتزوّج من النساء ما لا يحقّق اكتفاءهن، أو جمع من النساء ما لا ينكح، أي يلبيهن جنسياً، فزنت واحدة منهنّ فالإثم عليه. فعندما نقرأ هذه الأخبار نفهم أنّ الله أراد أن يحصّن النساء ويحصّن الرجال بواسطة الزواج، فيما نقرأ في المقابل أحاديث تقول أنّه ليس من حقّ الزوجة على زوجها في المسألة الجنسية إلاّ كل أربعة أشهر مرة ولو بشكل سريع جداً، وبعض الفقهاء يقول إذا سافر الرجل فليس لها حقّ جنسي إطلاقاً.
ونحن نقول بأنّ روح الإسلام التي استفدناها من جسم الإسلام تتلخّص في إنّ الزواج إنّما شرّع من أجل تحصين الرجل والمرأة، في حين أنّ هذه الفتاوى لا تخلق تحصيناً بل بالعكس فقد تؤدّي إلى الانحراف فعندما تكون المرأة عزباء فلا مشكلة لديها، أما التي عاشرت الرجل وهو لا يلبّي رغبتها إلاّ كل أربعة أشهر مرة، كما لو كان مسافراً فليس لها حقّ جنسي، فكيف نجمع بين الاثنين؟ هنا نقول إنّ روح الإسلام وليس التي أخذناها بالاستحسان وإنّما استفدناها من نفس الروايات والآيات التي دلّت على هذا المعنى تقول {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1) {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}(2)، فنقارن بينها وبين الرواية التي تقول لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت زوجها بغير إذنه، فكيف إذا كان ذا عقدة فلا يحبّ لزوجته أن تخرج من البيت في كلّ الأحوال بل يمنعها منعاً باتاً فكأنّه يضعها في سجن مؤبّد ولأغراض مزاجية، وشعاره "من جلسة الزفاف إلى القبر" هل هذه الأخلاقية تنسجم مع المعاشرة بالمعروف والإمساك بالمعروف؟!، فلا بدّ إذاً ثمّة خلل في الفتوى، ولقد كان رأي السيد الخوئي رائعاً في هذا الموضوع فهو يرى أنّ الخروج من البيت محرّم إذا نافى حقّ الزوج في الاستمتاع، أما إذا كان الزوج في الوظيفة أو كان مسافراً فإنّها تقدر أن تخرج بالمعروف، ونحن نتّفق مع السيد الخوئي في ذلك، ونفهم من الأحاديث التي دلّت على أنّه "إذا خرجت من بيتها لعنتها ملائكة السماء والأرض" الخروج التمردّي وليس الخروج الاعتيادي لشراء حاجيات أو زيارة الأهل والجيران والاستماع إلى درس أو موعظة ينافي الانسجام مع روحية الزواج وحقوقه، فالمقصود من روح الإسلام هو ما نستفيده من الأدلّة الشرعية في الكتاب والسنّة من المفاهيم الإسلامية التي تحكم على ما ينافيها إذا نافى المفاهيم الإسلامية الحقيقية.
سرّ الإسلام:
يقول أحد ساسة الغرب إنّ من أخطر رجال الدين على سياستنا وعلى مرّ التاريخ هم رجال الدين الإسلامي في الشرق الأوسط وخاصة أولئك الذين يرتدون العمائم السوداء، ولقد فشلنا في القضاء عليهم ولا نعرف السرّ الذي يخفونه تحت هذا القماش الأسود فهل تبيّنوا لنا ما هو ذلك السرّ؟
ــــ أنا لا أعتقد أنّ هناك سرّاً غير سرّ الإسلام وسرّ الإخلاص لله الذي يستوي فيه المؤمنون جميعاً من لابسي العمائم السوداء أو البيضاء أو ممّن لم يلبسوا العمائم. فالمهم أنّ الإنسان الذي يعيش مع الله يعيش الإسلام في عقله وفي روحه وهذا بحدّ ذاته يشكّل خطراً على الباطل الذي يريد أن يجيّر الناس إلى صفّه.
تتبّع سيرة العالم:
هل من حقّ الإنسان أن يتتبّع سيرة رجل دين حتى يتأكد من صدق تعامله، خاصة إذا كان رجل الدين في موقع المسؤولية؟
ــــ لا يجوز أن يتجسّس عليه، أمّا أن يراقبه في ظواهره وفي أعماله حتى يستطيع أن يتعرّف عليه فيجوز ذلك.
شتم العلماء:
لماذا لا يشتم علماؤنا لأنّهم تبنّوا بعض الآراء في الماضي بينما يشتم العلماء المعاصرون لأنّهم يطرحون نفس الأفكار السابقة؟
ــــ ربما لأنّ السابقين قد رحلوا، فلا توجد هناك عقد تجاههم، والأمر مختلف بالنسبة للاحقين، غير أنّ بعض الناس ــــ للأسف ــــ يفهمون القضايا من خلال العقد النفسية.
رواية مفاتيح الجنان:
حديث الكساء معروف عند المسلمين، ولكن ما هو مدى صحّة رواية "مفاتيح الجنان" في شأنه؟ فهناك من ينسب إلى سماحتكم أنّكم تنفون "حديث الكساء" فهل تقولون بنفيه فعلاً؟
ــــ "حديث الكساء" متواتر عند السنّة والشيعة، وهو في ملخّصه أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان في بيت "أم سلمة" ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ودعا الله سبحانه وتعالى لمن تحت الكساء، ونزلت الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1)، وقالت "أم سلمة" هل أنا منهم؟ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّك على خير، ولكن أهل البيت هم هؤلاء!
أما رواية "القميّ" في "مفاتيح الجنان" فقد ثار حولها جدل بين العلماء لجهة أنّها من روايات صاحب كتاب "عوالم العوالم" وفي الكتاب والمؤلف كلام.
الإذن باستلام الرواتب:
نريد منكم الإذن الشرعي باستلام الرواتب والتصرّف بها؟
ــــ لا مانع من ذلك بشرط أن لا تبذل في حرام، فأنا أختلف مع الذين يقولون إنّ مال الدولة مجهول المالك، واعتبره معلوم المالك فمن يقلّد من يقول بأنّه مجهول المالك فأنا أرخّصه، ومن يرجع إلى مَن يقول بأنّه معلوم المالك فلا حاجة إلى الإذن.
الحقوق في الدولة الإسلامية:
في حال تأسيس الدولة الإسلامية هل الحقوق الإسلامية تعطى للدولة الإسلامية أم إلى المراجع أم إلى الاثنين معاً؟
ــــ عندما تكون هناك دولة إسلامية شرعية شاملة للمسلمين كلّهم فمن الطبيعي أن تدفع الحقوق إليها لأنّها هي المسؤولة عن المسلمين، وعلى المسلمين أن يقدّموا أموالهم إليها إلا الأموال التي فرض على المسلم أن يعطيها للفقراء والمساكين بشكل شخصي.
الجمع بين الحوزة والجامعة:
تعطي إحدى مكاتب المراجع راتباً شهرياً أو مساعدة لبعض الطلاب بشرط أن يكونوا منشغلين بأيّة دراسة في أية جامعة ولا يشتغلون خارج الحوزة. والسؤال ما هو حكم طالب الحوزة الذي يدرس في الجامعة ويأخذ الراتب كلّ شهر؟
ــــ "المؤمنون عند شروطهم" أي إذا اشترط المكتب عليك هذا الشيء فعليك أن تلتزم بشرطه.
شروط لبس العمامة؟
هل توجد هناك شروط للبس العمامة؟
ــــ شروطها أن يحفظ العمامة علماً وتقوى، فالعمامة هي رمز علم ورمز تقوى ورمز رسالة فإذا كان المعمّم لا علم له ولا تقوى له ولا رسالية عنده فهو يمثّل مشكلة للعمامة بدل أن تمثّل العمامةُ امتيازاً له.
مصداقية طالب العلم:
هل يجب على طالب العلم الذي يأخذ الراتب الشهري أن يمارس يومياً الدرس والتدريس وكل ما يصدق عليه كونه طالباً، أم يكفي ذلك بشكل إجمالي؟
ــــ إنّ مسؤوليته الأولى هي أن يختزن العلم الذي يتعلّمه، وأن يتقنه وأن يعمّقه في نفسه ثم بعد ذلك إذا كان له وقت يستطيع أن يحرّك علمه في عقل الإنسان الآخر فقد تكون تلك مسؤوليته على أن لا يؤثّر ذلك على مهمّته في طلب العلم.
الفصل السادس
المسائل الفقهية
"إنّ القرآن يملك قاعدة الأصالة في الفقه الإسلامي، وهو الذي أعطاه عناوينه وخطوطه العامّة، فلا بدّ للمجتهد أن يبدأ بالقرآن ثمّ ينطلق إلى الحديث".
أولاً ــــ في التقليد:
ثقافة الأحكام الشرعية:
ما حكم الأعمال التي لا تستند لأي مرجعية دينية إذا كان المكلّف مثقفاً وذا دراية؟
ــــ قد يكون مثقّفاً بالهندسة أو بالأدب، إلاّ أنّ المهم هو أن تكون لدية ثقافة الأحكام الشرعية التي هي موضع ابتلاء، فإذا كان الإنسان مجتهداً فإنّه يعمل باجتهاد، وإذا لم يكن مجتهداً فلا بدّ من الرجوع إلى مرجعية دينية كمثل الذي ليس عنده ثقافة الهندسة فلا بدّ أن يرجع إلى الهندسة حتى يتثقّف بها.
التقليد المبرئ:
متى يكون التقليد مبرءاً للذمّة؟
ــــ إذا كان المقلّد ممّن تجتمع فيه الشروط الشرعية للتقليد.
القطع اليقيني:
حسب معرفتنا أنّه عندما لا تكون معرفة اجتهاد المجتهد متيسّرة عن طريق الشهرة والشياع فهناك طريق آخر هو القطع، فما هو قولكم بالقطع؟
ــــ المقصود بالقطع هو اليقين، وعادة يحصل اليقين للإنسان إمّا عن طريق خبرة ذاتية، أو من خلال الشياع المفيد للعلم، وهذا لا يحصل إلاّ للأشخاص الذين يملكون خبرة عالية. وإلى جانب اليقين هناك الاطمئنان وهو استقرار النفس بالنسبة للشخص. فلو فرضنا أنّ شخصاً حاز على الثقة والاطمئنان أو أنّ آراءه صالحة للتقليد،أو أنّه عادل بحيث يمكن أن تصلّي خلفه جماعة بنسبة 80% فهذا يسمى بالاطمئنان الذي هو حجّة عقلائية، والظاهر أنّ قضية التقليد تنطلق من قضية الاطمئنان حتى مع شهادة أهل الخبرة، والسبب في ذلك هو أنّ شهادات أهل الخبرة إذا تعارضت بحيث يشهد البعض لفلان وآخرون لغيره وجماعة ثالثة تشهد لثالث، فإذا تعارضت الشهادات حسب الأصول تساقطت إلاّ إذا اطمأنَّ الإنسان بالبعض دون البعض الآخر فعند ذلك يعمل باطمئنانه لا بشهادة أهل الخبرة، فشهادتهم إنّما تكون حجّة عندما لا يكون هناك تعارض. وأمّا إذا كان ثمّة تعارض فليست الشهادة حجّة في نفسها، إلاّ إذا أوجبت الاطمئنان فعند ذلك يكون الاطمئنان حجّة وباستطاعته أن يعمل به ولا يعمل بالشهادة.
الجهل بالحكم الشرعي:
هل من الواجب الشرعي أن أخبر أخي المؤمن بخطأ عمله التكليفي؟
ــــ إنْ كان جاهلاً بالحكم الشرعي فيجب عليك أن تعلمه الحكم لأنّ تعليم الأحكام للجاهل واجب.
مساحة الاحتياط:
ما هي مساحة الاحتياط لفقه العبادات والمعاملات، لأنّ كثيراً ما يشكّل الاحتياط قاعدة الفقه الأكبر مساحةً وخاصة في مجال العبادات؟
ــــ قد يحصل الاحتياط من خلال غموض دليل الفتوى عند المجتهد، بحيث تكون الحجج أمامه على الحكم الشرعي متشابهة فلا يطمئن بهذا ولا يطمئن بذاك، ومن هنا فإنه يحتاط بالفتوى باعتبار أنّه لا فتوى له. وعلى المقلّد إذا لم يكن للمجتهد فتوى أن يحتاط إلاّ إذا رجع إلى مجتهد آخر، هكذا في العبادات أو في المعاملات، والأساس في الاحتياط هو أنّ الإنسان كلّما احتاط أكثر استطاع أن يحرز واقع الحكم الشرعي أكثر، وهو أمر حسن ولكنّنا نقول إنّ الله لم يكلّفنا بالاحتياط إلاّ في حدود معينة، ومن هنا فنحن لسنا مع المنهج الذي يجعل للاحتياط مساحة كبيرة في الفقه سواءً في العبادات أو المعاملات لأنّه إذا كانت له بعض الآثار الإيجابية فهناك آثار سلبية أكثر تترتّب عليه.
مقلّد بلا مرجع:
لم أكن أعلم أنّ تقليد المرجع واجب على المسلم لكنّني كنت أقرأ (المسائل المنتخبة) للسيد الخوئي وأنا الآن متحيّر على أي مرجع أستند؟
ــــ عليك أن ترجع لمن يحدّد لك ذلك، لأنّ البقاء على تقليد الميّت لا بدّ فيه من الرجوع إلى المجتهد الحيّ.
تعليم الأميّ التقليد:
والدتي امرأة كبيرة لا تعرف القراءة والكتابة وبالتالي فهي لا تعرف التقليد ومهما كنت أشرح لها المسألة فإنّها لم تفهم ما أقول لها فما هو تكليفها في هذا الموضوع؟
ــــ بيّن لها المسألة ببساطة، قل لها، بأنّ التقليد أشبه شيء بالذهاب إلى الطبيب فعندما نمرض نحتاج إلى أن نذهب إلى الطبيب، وهكذا عندما تعترضنا مسألة فقهية وليس من الضروري أن تستشهد لها بآيات وروايات فبعض الناس عندما يتكلّمون في هذا الموضوع يعقدّونه أكثر، لذلك بسّطوا الكلمات خصوصاً عندما تعلّمون الأميين أحكام دينهم.
ثانياً ــــ في الطهارة والوضوء:
طاهر أم نجس؟
إذا سقط منيّ على بشرة أو ملابس رجل يعمل في التحاليل الطبيّة فهل يطهّره وينتهي الأمر أم يغتسل غسل الجنابة؟
ــــ الجنابة تجب لو خرج المنيّ منك أما لو سقط عليك فيكفي التطهير.
الحناء والوضوء:
إذا وضعت المرأة الحنّاء وبعد أيام ظهرت قشرة سوداء، ما حكم ذلك في الوضوء؟
ــــ إذا لم تمنع هذه القشرة من وصول الماء للبشرة فلا إشكال.
تطهير أرضية المنزل:
كيف تتم عملية تطهير أرض البيت بالماء غير الجاري، هل تكون بالمسح ثلاث مرات؟
ــــ لا، وإنما يمكن ذلك بالماء القليل في الغسلة الأولى، ثم تستغرق بعملية التطهير الثانية إذا أُزيلت العين بالماء فالغسلة الثانية تطهر. ففي الماضي كان التطهير بالماء القليل حيث لم تكن هناك حنفيات.
الجلد الطبيعي والصناعي:
ما حكم حمل محفظة النقود أثناء الصلاة على رأي السيد الخوئي (رض) ورأيكم إذا كانت المحفظة غير معروفة هل هي جلد طبيعي أو صناعي؟
ــــ إذا كان الجلد طبيعياً، ولكن غير معروف المصدر، كأن تكون مأخوذة من جلد مما يؤكل لحمه ومن مسلم فهي مذكّاة، ويجوز الصلاة فيه محمولاً وملبوساً وإذا كانت من جلد طبيعي واشتراها من دول أوروبا ولم تكن مذكاه فهناك رأي يقول إنّ المحمول إذا كان غير مذكّى فلا يجوز الصلاة فيه. وهناك رأي يقول أنّ الملبوس لا يجوز الصلاة فيه لأنّه ميتة ولكن المحمول يجوز، أمّا رأينا فهو جواز حملها في الصلاة، أمّا إذا شكّ في أنّ الجلد الطبيعي أو صناعي فلا إشكال في جواز الصلاة فيه محمولاً وملبوساً.
شعر الإبطين:
ما الحكم في شعر الإبطين وما إلى ذلك هل الإزالة هنا من مستلزمات الطهارة؟ وهل يكفي الحفّ بالمقص؟
ــــ ما دخل ذلك بالطهارة فشعر الرأس كشعر اللحية وشعر الجسد كلّه كبعضه، فحكمه حكم أيّ نوع من أنواع الشعر في الطهارة الخبثيّة أو الحدثيّة.
مقاربة الطاهرة من الحيض:
هل يجوز مقاربة الزوجة الطاهرة من الحيض قبل الغسل؟
ــــ الظاهر أنه يجوز ذلك، وإن كان الاحتياط انتظار الغسل.
الوضوء لقراءة القرآن:
هل يشترط الوضوء عند قراءة القرآن؟
ليس شرطاً واجباً ولكنه يستحبّ أن يقرأ القرآن على طهارة، لكن إذا أراد أن يلمس كتابة القرآن فـــ {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}(1).
الأجبان المصنّعة:
ما الحكم في الأجبان المستوردة والمعلّبة كـــ (الكرافت) على سبيل المثال؟
ــــ الواقع أنّ هذه الأمور لا يرجع فيها إلى الفقهاء ولكن يرجع فيها إلى أهل الخبرة فعندما تسأل الفقيه يقول لك كل جبن ليس فيه شحم حيوان غير مذكّى وليس فيه محرم آخر فهو حلال، وإذا شككت بأنّ هذا الشيء موجود أو ليس موجوداً، فكل شيء لك حلال حتى تعلم الحرمة. وإذا عرفت بأنّ هذا مشتمل على الشحم والمادة المحرّمة فإنّه يحرم تناوله، وبالنسبة إلى الأجبان المصنوعة فإنّ هناك شركات وجمعيات تصنع بعض أنواع الأجبان وتضع فيه المواد الدهنية المحرّمة، فإذا اقتنعنا بهذا فالحكم الحرمة وإلاّ فالحكم الظاهري هو الحليّة.
لقد كان السيّد الشهيد الصدر (رحمه الله) يحكم بالنسبة إلى (الكرافت) بأنّه محرّم بحسب شهادة أهل الخبرة بذلك، والخلاصة هي إذا علمنا بوجود محرم في داخل الأجبان أو في داخل أي مستحضرات أخرى فلا يجوز لنا تناولها، وإذا شككنا في ذلك فهي حلال، هذه هي القاعدة العامة ولا يجب على الإنسان أن يبحث عن الموضوع بدقّة.
في التيمّم:
متى يجب التيمّم بدلاً من الغسل للصلاة الواجبة؟
ــــ إذا كان الإنسان لا يستطيع استعمال الماء إمّا لضيق الوقت أو لحرج شديد أو مرض أو ما إلى ذلك فيمكنه التيمّم، ولا بدّ من طهارة البدن والثياب لأنّ هذه ليست مربوطة بالغسل.
مسح البول:
إذا كان هناك بول في مصعد ولا يمكن غسل ذلك لأنّ البيوت خشبية في الغرب فهل إن مسح المكان بواسطة الشغّالين يجزي الطهارة؟
ــــ إنّه يزيد النجاسة.
غسل الجمعة:
هل يجزي غسل الجمعة عن الوضوء والجنابة؟ حيث يقال بأنّ السيد الخوئي قد غيّر رأيه في ذلك فهل هذا صحيح؟
ــــ لم يغيّر السيد رأيه، فغسل الجمعة يجزي عن الوضوء كما أنّ غسل الجنابة يجزي عن الوضوء وكل غسل واجب ومستحبّ ثبت استحبابه يجزي عن الوضوء، أمّا الشيء الذي عدل عنه السيد الخوئي هو أنّه كان يرى أنّ غسل زيارة الحسين من البُعد يجزي عن الوضوء على أساس استحبابه واكتشف بعد ذلك أنّ الغسل المستحبّ في الزيارة هو غسل الزيارة عن قرب أما الزيارة عن بُعد فليس الغسل فيها مستحبّاً ولذلك لا يجزي عن الوضوء.
تنجّس عصير البندورة:
إذا سقطت حرباء في عصير البندورة وكانت حيّة ثم ماتت فيه فما حكم عصير البندورة؟
ــــ إذا لم تكن لها نفس سائلة ــــ كما هو الظاهر ــــ فميتتها طاهرة فلا يتنجّس العصير بها ـــ حيّة أو ميّتة.
إطعام الحيوانات الدم:
يتم تحويل الدم في عملية تصنيع الابوتينات المغذّية للحيوانات، وكذلك العظام فما هو الحكم الشرعي؟
ــــ ليست هناك مشكلة فيما لو أنّ الحيوانات أكلت من هذه المواد، ولا تحرم بسبب ذلك.
الخضروات المسقية بمياه المجاري:
ما هو حكم الأشجار والخضروات التي تسقى بماء السواقي والمجاري النجسة؟
ــــ حكمها الطهارة يعني يجوز الأكل من ثمارها، إلاّ إذا عرفنا أنّها تفاعلت معها وحصل نتيجة ذلك ضرر ما فهذا أمر آخر لا علاقة به بالنجاسة بل بالضرر الصحّي.
بقايا الطعام في المجاري:
في بعض البيوت مجاري مشتركة بين المطبخ والتواليت وعند غسل اليدين من الطعام لا بدّ أن تذهب بقايا الطعام إلى المجاري، فهل هناك حرمة في ذلك؟
ــــ إذا أمكن للإنسان أن ينظّف الطعام قبل ذلك، فهو الأولى، وإلاّ فلا يمثّل هذا هتكاً للطعام ليكون محرّماً.
الأغسال التي تغني عن الوضوء:
ما هي الأغسال المستحبة التي تغني عن الوضوء، أي عندما أريد الاستحمام وأنوي الغسل هل يسقط عني الوضوء بحسب رأيكم؟
ــــ نحن نلتقي مع السيد الخوئي (رحمه الله) في أنّ الغسل إذا كان واجباً أو مستحباً فإنّه يغني عن الوضوء، والمقصود بالغسل المستحبّ الذي ثبت استحبابه شرعاً مثل الأغسال الثابتة في ليالي رمضان 1ــــ17ــــ19ــــ21ــــ23 وغسل الجمعة وغسل زيارة الحسين (عليه السلام) عن قرب وغسل العيدين وللإحرام ولدخول مكّة والمدينة، ولدخول الكعبة وللاستخارة وللاستسقاء، وفي يوم عرفة.
السترة الجلدية:
"الجاكيت" المصنوعة من الجلد هل يجوز الصلاة فيها ولبسها في حال الرطوبة، علماً أنّه غير معروف بلد صناعتها إن كان إسلامياً أو غير إسلامي؟
ــــ إذا فرضنا أنّها كانت مأخوذة من سوق المسلمين فهي طاهرة ويجوز الصلاة فيها بلا إشكال، إلاّ إذا علمنا أنّها مأخوذة من بلاد كافرة، فإذا علمنا أنّها مأخوذة من حيوان غير مذكّى فهي قطعاً نجسة ولا يجوز الصلاة فيها، وإذا شككنا في التذكية فهنا يحكم العلماء ومنهم السيد الخوئي بالطهارة وعدم جواز الصلاة فيها، وهناك علماء يحكمون بنجاستها وعدم جواز الصلاة فيها، وهناك من يحكم بطهارتها وجواز الصلاة فيها وهو ما نرتأيه.
شرب مرارة الدجاج:
أنا مريض بالسكريّ وقد وصف لي طبيب الأعشاب أن آخذ مرارة الدجاج لمدة شهر فهل شرب المرارة حلال أم حرام؟
ــــ إذا كان شفاؤك متوقّفاً على ذلك فلا مانع منه وإلاّ فلا يجوز ذلك.
ملابس الجرّاح:
أنا أعمل في صالة العمليات الجراحية وأرتدي ملابس خاصة معقّمة وتحلّ فريضة الصلاة ولا بدّ لي أن أُصلّي ولا أعلم بطهارة هذه الملابس هل أنّها غسلت على الوجه الشرعي أم لا؟
ــــ صلِّ بها بلا حرج فـــ (كل شيء لك طاهر حتى تعلم نجاسته) وإذا غسل الثوب وشكّ الإنسان في أنّ تطهيره كان صحيحاً أم لا فيحكم بالصحّة.
في الوضوء:
تفضلتم بأنّ الذي يضرّ بمسحات الوضوء هو الماء الجديد، ولكن في المسألة الثامنة من الجزء الأول من "المسائل الفقهية" قلتم أنّه يجب تجفيف أعضاء المسح من الماء الجديد وغير الجديد؟
ــــ إنّ الذي يضرّ بالمسح هو أن يأخذ الإنسان ماءاً جديداً بيده التي يريد أن يمسح بها، أما أن يمسح على رأسه وهو جاف أو فيه رطوبة لا تتعدّاه أو يمسح على رجله فهذا مورد وذاك مورد آخر، حيث لا يجوز المسح بالماء الجديد، فعندما ينشف الإنسان يده فلا يجوز له أن يأتي بماء آخر بل يمسح ببلة يمينه، أما إذا أراد أن يمسح رأسه فلا بدّ أن يجفّفه، والمسألة تتعلّق بالمحل الممسوح.
ما هو حكم من كان يغسل يديه في الوضوء إلى المعصم جهلاً منه بأنّ الغسل إلى أطراف الأصابع؟
ــــ عليه أن يعيد صلاته لبطلان وضوئه ولا صلاة إلاّ بطهور.
دخول الجنب إلى المسجد:
سلّمنا بأصالة وطهارة الإنسان على الإطلاق على أساس دخول الكافرين وأهل الكتاب إلى المسجد على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلماذا لا يدخل المسلمون إلى المسجد وهم على جنابة مع أنّ المسلم أولى بذلك لأنّ الكافر يفترض فيه عدم الاغتسال؟
ــــ هذا حكم شرعيّ يريد أن ينظّم للمسلمين أن يدخلوا المسجد طاهرين، وهناك سؤال مطروح بين الفقهاء وهو: هل الكفّار مكلّفون بالفروع أم أنّهم مكلّفون بالأصول؟ فالعديد من العلماء يقولون بأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع ولكن رأي السيد الخوئي (رحمه الله) ونحن نرى رأيه أنّ الكفّار ليسوا مكلّفين بالفروع بل بالأصول فقط لذلك فلا إشكال.
وأمّا لماذا لا يدخل المسلمون المسجد على جنابة فباعتبار احترام المسجد عندهم وطبيعة إرادة الطهارة في المسجد، فالله شرّعه لهم ولم يشرّعه للكافرين. لقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستقبل المشركين وأهل الكتاب في المسجد وحتى الخلفاء من بعده كانوا يستقبلون الناس في المسجد، وعندما جاء أسرى فارس استقبلوا في المسجد بما فيهم النساء والسبايا، ولم ينكر عليهم أحد من المسلمين ذلك ممّا يوحي بأنّ المسألة لم تكن واردة عندهم في حساب المنع التحريمي، ولذلك نقول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1).
غسل الجنابة:
من استيقظ قبل طلوع الشمس بوقت قصير لا يتّسع معه للغسل فتيمَّم للصلاة وصلّى هل يبقى الغسل واجباً عليه؟
ــــ نعم يجب عليه الغسل للصلوات القادمة، ولكلّ ما يشترط فيه الطهارة.
الحيض في سن اليأس:
سيدة عمرها ستون سنة بلغت سنّ اليأس تستعمل هرمونات بهدف علاجي وبسبب ذلك تأتيها دورة في آخر الشهر تسمى طبيّاً "دورة اصطناعية" فما حكم صلاتها وطهارتها؟
ــــ هي مستحاضة تعمل أعمال المستحاضة، فتصلّي وتصوم وتمارس حياتها بشكل طبيعي في كل أمورها.
الصلاة بوضوء واحد:
هل يجوز أن أُصلّي فريضة الصبح والظهر والعصر في وضوء واحد علماً أنّني حافظٌ للوضوء؟
ــــ تستطيع أن تصلّي الأيام بوضوءٍ واحد إذا لم يكن هناك حدث، وأمكن ذلك.
الغسل الترتيبي:
أنا من مقلّدي السيد الخوئي وقد بقيت فترة طويلة أغتسل غسل الجنابة غسلاً ترتيبياً ولكنّني أغسل الشقّ الأيسر قبل الأيمن، فما هو حكمي علماً أنّني كنت مشتبهاً؟
ــــ الغسل صحيح على رأي السيد الخوئي، فالسيد الخوئي لا يرى الترتيب بين الأيسر والأيمن، ولو غسل جسده كلّه بعد غسل الرأس فإنّ غسله صحيح وهذا هو رأينا الفقهي.
ثالثاً ــــ في الصلاة والإقامة:
الشمس في الليل:
أنا أحد العراقيين أعيش في السويد وهناك حالة خاصة في ظهور الشمس في الليل وهو يوم واحد في السنة فما حكم الصلاة والصوم في هذه الحالة؟
ــــ ما نرجّحه من فتوى هو أن يصلّي الإنسان الصلوات الخمس في ذلك اليوم أمّا بأوقات الأيام التي قبل هذا اليوم كما في البلدان التي فيها ستة أشهر ليل وستة أشهر نهار، أو بأقرب البلدان إليهم لأنّ الصلاة لا تسقط بحال، أما الصوم فلا حكم له إذا كان شهر رمضان غير متحقّق بحسب طبيعته، وليس حكمه حكم الصلاة بل هو مختص بزمنه.
القضاء في السفر:
هل يجوز أداء صلاة القضاء تماماً في السفر؟
مَن فاتته فريضة فليقضها كما فاتته، فيمكن أن تقضي صلاة الحضر (التامّة) في السفر ويمكن أن تقضي صلاة السفر (القصر) في الحضر.
الإقامة:
عندي سكن في الشام أُقيم فيه شهراً واحداً في السنة وبقية السنة أعمل في الخارج فما هو حكم صلاتي في سوريا باعتبار ملكي للسكن؟
لا يكفي ذلك في صدق الوطن فلا بدّ لك أن تصلّي قصراً إذا لم تنوِ الإقامة عشرة أيام أما إذا كانت المدة أكثر من ذلك كما إذا كانت الشام وطناً صيفياً لك بحيث تقيم فيه مدّة ثلاثة أشهر، فيمكنك الإتمام فيه لأنّه بحكم الوطن. وهناك رأي لبعض الفقهاء ومنهم السيد الخوئي (قدّس سرّه) إنّ الإنسان إذا ملك بيتاً في بلد واستوطنه ستة أشهر كان بحكم الوطن ما دام مالكاً للبيت حتى لو أعرض عن السكن فيه مطلقاً ونحن لا نرى ذلك.
قطع السورة في الصلاة:
إذا كان الشخص يقرأ السورة في الصلاة وفاجأه أحد فاضطر إلى التوقّف فما حكم ذلك؟
ــــ عليه أن يكمل السورة إذا لم تفت الموالاة.
قضاء الصلاة:
هل يجوز لنا أن نقضي صلاة الفجر في اليوم الذي فاتتنا الصلاة فيه، عند طلوع الشمس، ولو كان ذلك جائزاً فهل هو على كراهة؟
ــــ إذا ثبتت الكراهة ففي النوافل المبتدئة، أما بالنسبة إلى القضاء فليست هناك كراهة في أي وقت من الأوقات.
الخاتم في القنوت:
سمعنا من بعض الأخوة أنّ لبس الخاتم مقلوباً في القنوت فيه شيء من الإشكال، فهل أنّ هذا صحيح أو لا؟
ــــ بالنسبة إلى طريقة لبس الخاتم في الصلاة إذا اعتقدنا أنّه مؤثّر في نفسه فهو مشكل، أما إذا كان الإنسان يعمل ذلك من جهة ما ورد في بعض الأخبار لاحتمال المطلوبية فلا بأس بذلك، وعلى كل حال فلا إشكال في لبسه مقلوباً حال القنوت بل هو مخيّر في لبسه بأي شكلٍ كان.
المتابعة في الصلاة:
ما هو الوضع الشرعي لصلاة المتابعة أي إذا صلى وراء شخص جماعة بنيّة إفرادية لسبب ما ويريد متابعة حركاته في الصلاة فهل يجوز ذلك؟ ولو أنهى المصلّي القراءة قبل الإمام مثلاً فإنّه ينتظر حتى يركع ساكتاً، فهل يجوز ذلك؟
ــــ له أن يذكر الله في أثناء ذلك، فالمهم أن يصلّي صلاته بحسب ما يجب عليه فإذا صلّى على أساس المتابعة فصلاته صحيحة. وبإمكانه أن يذكر الله في أي وقت من أوقات الصلاة، في الركوع والقيام والسجود اختياراً.
السجود على الورق:
هل يجوز السجود على ورق (الكلينكس) أي ورق المحارم باعتبار أنّها من الورق؟ وهل يجوز السجود على الكرتون والجرائد باللغة العربية والإفرنجية؟
ــــ يجوز السجود على الورق مطلقاً حتى لو كان مكتوباً أو مطبوعاً.
السجود على المرمر:
هل يجوز السجود على المرمر وبلاط الموزاييك والاسمنت؟
ــــ لا إشكال في جواز السجود على المرمر الطبيعي أما الموزاييك والاسمنت فهناك وجهة نظر نستقربها وهي أنّه يجوز ذلك، وهناك من يتحفّظ لا سيما بالنسبة إلى الاسمنت والأقوى جواز ذلك، وإن كان الاحتياط بالترك في الاسمنت وفي بلاط الموازاييك لا بأس به.
المدود في القراءة:
هل مراعاة المدود الواجبة في القراءة (قراءة السور القرآنية)، شرط في صحّة الصلاة؟
ــــ ينبغي المدّ الطبيعي بحيث يقرأ كما يقرأ الناس، أما القراءة حسب قواعد التجويد فليست واجبة.
الصلاة بالملابس الداخلية:
هل يجوز الصلاة بالملابس الداخلية للرجل؟ وما الحكم أخلاقياً وأدبياً؟
ــــ يجوز ذلك إذا كانت العورة مستورة، فباستطاعة الشخص أن يدعو الله بأي حال حتى ولو كان عرياناً، لكن روحانية الصلاة لا تحصل عادة للإنسان وهو عارٍ ولا يعيشها كما هو محتشم.
في قضاء الصلاة:
كنت من أهل السنّة فتشيّعت منذ ثلاث سنوات، فحسبت ما انقضى من عمري من ذاك المذهب وحكمت على نفسي 20 سنة ولقد كنت أُصلّي وأقطع لأسباب هي التي جعلتني أتشيَّع؟
ــــ لا يجب عليك قضاء صلاتك فيما صلّيت إذا كانت صحيحة بحسب مذهبك ولكن إذا كنت قد تركت الصلاة فعليك أن تقضيها.
كثير الشكّ:
أنا شاب في مقتبل العمر أُعاني من السهو في الصلاة وهذا أمر يزعجني بشكل كبير، فأرجو أن ترشدني ببعض النصائح والأعمال التي تساعدني لتلافي هذا النقص ولتكون الصلاة جزءاً لا يتجزأ من حياتي؟
ــــ المقصود بالسهو في سؤال الأخ هو الشكّ، وعندنا (لا شكّ لكثير الشكّ) فلا تكن عندك غيرة أكثر من الله سبحانه وتعالى على الصلاة، فالله يقول لك إذا كنت كثير الشكّ وكثير السهو فلا تعتنِ بذلك وأنا أتقبَّل منك. فعلينا أن نأخذ ما أعطانا الله من رخص كما أنّ علينا أن نأخذ ما أعطانا من التزامات.
صلاة الجماعة:
هل أنّ صلاة الجمعة واجب حسب رأيكم؟
ــــ هي حتى الآن واجبة بالوجوب التخيّيري عندنا، ولكنّ هناك اتجاهاً في دراستنا الجديدة للموضوع قد ينتهي بنا إلى القول بالوجوب التعييني وعلى كلّ حال فيجب الحضور والسعي إليها إذا أقيمت بشروطها الشرعية.
صلاة الجمعة في جوامع السنّة:
ما حكم مَن يصلّي صلاة الجمعة في يوم الجمعة في جامع السنّة وخلف شيخ سنّي، هل يجب عليه إعادة الصلاة أم أنّ صلاته صحيحة؟
ــــ إذا كانت صلاته جامعة لشروط صحّة الصلاة فلا يجب عليه الإعادة. ولكنّ الأجدر به احتياطاً أن يعيدها ظهراً.
صلاتا الجمعة والظهر:
إنّ صلاة الجمعة تغني عن صلاة الظهر، ولكن بعض العلماء يصلّون بعد صلاة الجمعة صلاة الظهر احتياطاً فهل يجوز أن نكتفي بصلاة الجمعة فقط إذا صلّينا وراءهم؟
ــــ إذا صلّوا الجمعة لوجوبها واحتاطوا بصلاة الظهر فلا مانع، أما إذا كانوا قد صلّوا الجمعة احتياطاً فلا يجوز الائتمام بهم ولا يكتفي عن صلاة الظهر.
الشمس الروسية:
لي صديق يدرس في روسيا وهو يقول لي إنّ الشمس في هذه المنطقة لا تغيب إلاّ لمدة نصف ساعة في اليوم، وهو يسأل عن كيفية صيامه وصلاته هناك؟
ــــ عليه أن يصلي الصلوات الخمس، فإن كان هناك في المنطقة التي يعيش فيها أوقات اعتيادية منظّمة فعليه أن يصلّي وفقها، أما إذا لم تكن كذلك فهو يصلّي وفقاً لأقرب البلدان المعتدلة. أما بالنسبة للصوم فربّما يكون صعباً باعتبار أنّه يتعيّن عليه صيام (5،23) ساعة إلاّ إذا سبّب له ذلك حرجاً شديداً لا يتحمّل عادة والله تعالى يقول ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﯴ ﭼ(1) فيفطر ثم يقضي في مكان آخر.
متمّ ومقصّرون:
ما حكم المأموم الذي يصلي تماماً ويرى أثناء الصلاة أنّ المصلّين الذين أمامه والذين عن يمينه وشماله قد قصّروا في الصلاة بحيث يحدث قطع كبير بالنسبة للذين يتمّون من المصلّين؟
ــــ إذا التحق هؤلاء المقصّرون في الصلاة ونووا الصلاة الثانية فهذه الفترة ليست مشكلة. أما إذا انفردوا فعلى المأمومين أن ينووا نيّة الانفراد عندما يفقدون الاتصال بالإمام.
السجدة في السيارة:
ما هو حكم من سمع آية السجدة من شريط الكاسيت وهو يقود السيارة؟
ــــ على رأي الفقهاء لا تجب عليه إلاّ إذا سمعها من قارئ. لكن رأينا الوجوب مطلقاً إلاّ إذا كان السجود حرجاً عليه ولو أن يسجد على مقود السيارة إذا تمكّن وإلاّ فيسجد بعد ذلك.
صلاة بصلاة:
أتيت لكي أصلّي الصبح والتحقت بالجماعة ونويت صلاة الصبح فإذا بها "صلاة آيات"، فهل صلاتي صحيحة علماً أنّني صلّيت بعدها احتياطاً؟
عندما عدلت إلى صلاة الآيات فليست الصلاة عندئذٍ صلاة صبح، والأحوط أن تعيد أيضاً صلاة الآيات لأنّه ليس عندنا دليل على أنّ للإنسان أن يعدل في نيّته من صلاة الصبح إلى صلاة الآيات إلاّ إذا كبّر من جديد لصلاة الآيات.
القبلة في الطائرة:
كيف يتسنى لي معرفة القبلة في الطائرة؟ وكيف لي أن أعرف أوقات الصلاة؟
ــــ يمكن أن تسأل المضيف أو قائد الطائرة عن اتجاه مكة، ويمكن لك أن تصلّي إذا أمكنك ذلك واقفاً إلى جانب بعض الأماكن الواسعة في الطائرة، أو تصلّي جالساً، إذا لم تتمكّن، على أن تتوجّه إلى القبلة.
ويمكنك أن تعرف أوقات الصلاة كذلك من خلال الأشخاص الموجودين هناك أو من خلال الجوّ.
النظّارات في السجود:
هل النظّارتان تمنعان من وصول الجبهة إلى السجدة؟
ــــ لا بدّ أن يجرّب حيث يمكن لبعض النظارات أن تمنع وبعضها لا يمنع.
الصلاة حين الأداء:
ما حكم الصلاة في السفر، علماً أنّني في وقت الأذان كنت في مكان إقامتي وسافرتُ بدون صلاة؟
ــــ عليك أن تصلّي قصراً لأن حكم الصلاة في القصر والتمام هو حين الأداء لا حين دخول الوقت، فلو كنت مسافراً ودخل الوقت عليك ووصلت إلى بلدك فعليك أن تصلّي تماماً.
إقامة ناقصة:
إذا وصل شخص إلى بلد غير بلد إقامته ونوى الإقامة حين وصوله لكنه سافر في اليوم التاسع فما حكم صلاته؟
ــــ صلاته صحيحة إذا كان جازماً منذ البداية أنّه سيقيم عشرة أيام ثم بدا له غير ذلك.
الكسوف الجزئي:
هل تقضي صلاة الكسوف الجزئي بعد انتهائه، أم المسألة متعلقة بالكسوف الكلي فقط؟
ــــ إذا لم يعلم الإنسان بالكسوف الجزئي إلاّ بعد انتهائه فلا يجب فيه القضاء.
القصرُ عزيمة:
لماذا كان القصرُ في الصلاة عزيمة، مع أنّ الآية تقول {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ}(1)؟
ــــ يقول أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عن الإنسان الذي يتم في موضع القصر "من قرأت عليه آية القصر وفسّرت له" وقصد بكلمة "وفسرّت له" إنّ كلمة (لا جناح) ليست واردة في مقام الرخصة وإنّما في مقام رفع توهّم الحرمة تماماً مثل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(2) فالسعي بين الصفا والمروة واجب ولكن كان المسلمون يتوهّمون أنّ السعي بينهما محرّم لأنّ الأصنام كانت موجودة على (الصفا) وعلى (المروة) ولهذا كانوا يخشون أن يكون سعيهم، ولو من الناحية الشكلية، عبادة للأصنام، ولكنّ الله قال لهم {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فهي قد تأتي في مقام الرخصة، وقد تأتي في مقام توهّم الحرمة.
فالواجب على الإنسان هو الإتمام في الصلاة، وقد يتوهّم أنّ القصر في الصلاة محرّم في السفر، ولذلك قال الله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي ليس محرّماً بل جائز ولا ينافي جوازه وجوبه.
صلاة الفجر:
ما المدّة التي يمكن إجراء الصلاة فيها بعد أذان الفجر؟
ــــ عند أذان الفجر، فليس لدينا وقتان، وقد يستشكل البعض في طلوع الفجر لعدم إحراز طلوعه بلحاظ بعض العوائق الخارجية المانعة للرؤية، فإذا تأكّدنا من طلوعه فليس لدينا وقتان كما ليس لدينا وقتان للزوال.
نيّة الإقامة:
لقد كنت مسافراً إلى "لندن" ونويت إقامة عشرة أيام ثمّ صلّيت تماماً ثم جاءني طارئ فقطعت الإقامة، فما حكم صلاتي؟
ــــ صلاتك صحيحة، بشرط أن لا تكون فكّرت منذ نويت الإقامة في قطعها، وإنّما كانت المسألة طارئة.
الترتيب في القضاء:
هل يجب الترتيب في الصلاة القضائية؟
لا يجب الترتيب، بمعنى أنّ بإمكان الإنسان الذي يريد القضاء أن يصلّي الظهر قبل الصبح ولكن عليه أن لا يصلّي العصر قبل الظهر والعشاء قبل المغرب، بمعنى آخر أنّه يمكن للإنسان أن يقضي كل ما عليه من الصبح، ثم يقضي كل ما عليه من الظهر، وهكذا، أو يقضي صلاة المغرب والعشاء قبل صلاة الظهر والعصر.
السجود على الفراش:
تجوّزون السجود على السجدة التربة ولا تجوّزون السجود على الفراش مع أنكم تسجدون على المحارم "ورق الكلينكس" فما هو الدليل على ذلك؟
ــــ أمّا السجود على السجدة فلأنها تراب ولأنّها جزء من الأرض، وفي الحديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" وأمّا عدم سجودنا على الفراش فقد ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ممّا أخذوه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه لا يجوز السجود على ما يستعمل للأكل واللّبس ولهذا لا نستطيع السجود على ورق العنب، ولكن يمكن أن تسجد على الخشب. أما بالنسبة إلى محارم الورق فباعتبار أنّها جزء من الورق، وهي ليست ممّا يلبس وليست ممّا يؤكل فيمكن السجود عليها وقد تندرج في موضوع القرطاس وما إلى ذلك.
إخفات المرأة وجهرها:
من المعلوم أنّ على المرأة أن تصلّي بصوت خافت وأن لا تجهر بصوتها، ولقد قرأت أنّكم تجيزون للمرأة قراءة المجالس الحسينية؟
ــــ الإسلام لا يجبرها أن تخفت في الصلاة فهي مخيّرة بين الجهر وبين الإخفات في الصلاة الجهرية، وصوت المرأة ليس عورة، فالنص الوحيد الموجود في القرآن لدينا هو {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}(1) وذلك يعني الصوت المتكلّف الذي فيه ترقيق وتغنيج بحيث يوحي بالإثارة فيطمع الرجل بالمرأة، وأما الصوت الطبيعي فلا دليل على أنّه عورة.
قضاء ما فات:
أنا شاب كنت لا أصلي وبدأت الصلاة قبل ثلاثة أشهر وعمري الآن 25 سنة فكيف لي أن أقضي الصلاة الفائتة؟
ــــ تستطيع أن تقضيها بطريقتك الخاصة، يعني أنّه ليس هناك شروط سوى أنّك لا تأتي بالعشاء قبل المغرب أو بالعصر قبل الظهر، وإلاّ فيمكن أن تصلّي صلاة الصبح كلّها ثم تصلّي الظهر كلّها ثم العصر وهكذا.
العدول في النيّة:
لو أنّ شخصاً نوى صلاة الظهر وفي الأثناء تذكّر أنّه قد صلّى الظهر، فهل يجوز له العدول بنيّته إلى صلاة العصر بحيث يتمّها ويجتزأ بها؟
ــــ نعم يجوز له ذلك.
انتظار الإمام حتى يسلّم:
في صلاة الجماعة غالباً ما نسبق الإمام في التشهُّد وننتظره قبل التسليم، وهل هذا الانتظار يخلُّ بالصلاة أم لا؟
ــــ إنّ هذا الانتظار البسيط الذي يستغرق بضع ثوان ليس مخلاً بالصلاة.
التفريق أم الجمع:
أيّهما أفضل أن نجمع بين الصلاتين أو أن نفرّق؟
ــــ التفريق أفضل من الجمع وذلك بلحاظ وقت الفضيلة.
البكاء أثناء الصلاة:
ورد في "المسائل المنتخبة" الجزء الثاني سؤال حول البكاء أثناء الصلاة مع وجود الصوت أو عدمه، وقد كان رأيكم بأنّ نزول الدمعة أثناء الصلاة تبطل الصلاة مع وجود الصوت أو عدمه، والسؤال هل تبطل الصلاة إذا كان البكاء من خشية الله؟
ــــ يبدو أنّك لم تقرأ المسألة جيداً، فالبكاء المذكور هو البكاء حزناً على الدنيا، أما بالنسبة للبكاء على الصلاة من خشية الله فأمر محبوب ومرغوب فيه.
حالات قطع الصلاة:
هل يجوز قطع صلاة الفريضة في حال طُرق الباب أو رنّ الهاتف أم لا؟ وفي أي الحالات يجوز قطع الصلاة؟
ــــ الأحوط أن لا يقطع الإنسان صلاته إلاّ لضرورة أو لحرج شديد، إذا كان هناك عقرب أو ولد يصاب بخطر مثلاً وما أشبه ذلك من الأمور التي تعتبر ملحّة، فمثل إذا كان يخشى أن يكون للطارق ضرورة تتعلّق به، أو للتلفون مسألة تتطلّب الاستعجال وغير ذلك.
الشك في المغرب:
من شكّ في صلاة المغرب وأتمّها ولم يعدها وصلّى العشاء بعدها، ثم أراد القضاء خارج الوقت، هل يعيد صلاة العشاء أيضاً أم لا؟
ــــ إنّ كان جاهلاً بالحكم فعليه إعادة صلاة المغرب ولا يجب عليه إعادة العشاء، أما إذا كان ملتفتاً إلى بطلان صلاة المغرب في الوقت فعليه إعادة الصلاتين معاً.
السهو في الصلاة:
ما حكم من سها في صلاته في التشهُد الأوسط وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟
يأتي بسجدتي السهو ويتم صلاته.
الموت أثناء القضاء:
لو أنّ الإنسان قد بدأ صلاة القضاء وأدركه الموت وبقي مطلوباً فهل تسقط بوفاته أم يبقى مطلوباً ما بقي منها، وأنّ على أهله الصلاة بالنيابة عنه؟
ــــ إنّ دَيْنَ الله أحق أن يُقضى كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبعض الناس وقد سأله قائلاً (أريد أن أحجّ عن أبي أفينفعه ذلك؟ قال "أرأيت لو على أبيك دين أينفعه ذلك لو قضيته، قال بلى، قال دين الله أحق أن يُقضى) لكنّ الله سبحانه وتعالى يقدّر ظروف عباده، فيجب عليه أن يوصي بذلك إذا خاف دنوّ الموت، ولا بدّ من تنفيذ وصيّته مع توفّر الشروط لتنفيذها. أمّا إذا كان غير قادر على ما كتب الله عليه فالله أولى بالعذر.
الغفيلة أم إتمام النافلة؟:
أيّهما أفضل (صلاة النافلة) أم أربع ركعات نافلة المغرب؟
ــــ يمكن أن يجعل صلاة الغفيلة من نافلة المغرب.
قصراً أم تماماً:
أنا متزوّج وأسكن بعيداً عن أهلي فعند زيارة أهلي لمدة يومين فهل أصلّي تماماً أم قصراً عندما أقوم بزيارة إليهم؟
ــــ عليك أن تصلّي قصراً إذا كنت قد أعرضت عن بلد أهلك واستقلّيت في بلدك الجديد.
رابعاً ــــ في الصوم:
الغبار ليس مفطراً:
هل يجوز للصائم أن يبلع ريقه إذا كان يعمل في منجرة أو منشرة أو في مكان مترب؟
ــــ لا يفطر الصائم إذا بلع ريقه، أمّا الغبار فليس مفطراً عندنا.
المكياج والصوم:
هل يجوز وضع كريم مرطّب للبشرة والعطر وأنا صائمة؟
لا يضرّ ذلك بالصوم.
صوم الكفّارة:
من أراد أن يصوم كفّارة عهد الله هل يصوم (31) يوماً متواصلة ثم يفرّق بين الباقي ويصوم (60) يوماً متواصلة؟
ــــ يجوز له أن يربط الشهر الثاني بالشهر الأول ثم يجوز له التفريق لأنّ التتابع يتحقّق بذلك.
إذا كان يصوم 60 يوماً متواصلة ووقع شهر رمضان في الأيام الأخيرة من الصوم فماذا يفعل؟
ــــ إذا كان يجوز له التفريق إن كان قد مضى عليه واحدٌ وثلاثون يوماً فيمكن له التفريق بعد ذلك، وأمّا إذا كان يعلم بأنّه سوف يلتقي بشهر رمضان قبل ذلك فلا يجزيه ما أتى به من الصوم، بل لا بدّ له من الاستئناف لأنّه لا يجوز له البدء في صوم التتابع إذا كان يعرف بأنّه سوف يضطر إلى صوم واجب آخر أو إلى الإفطار.
صوم النيابة:
أنا الآن أصوم عن والدتي ولكن لا علم لي هل هي مطلوبة أم لا، فماذا أفعل هل أستمر؟
ــــ لا إشكال في الاستمرار ولا إشكال في القطع.
إفطار الصوم الاستحبابي:
إذا كان شخص صائماً ودعاه أحد أصدقائه لتناول طعام الغداء عنده ذلك بعد الزوال فهل يستطيع الإفطار علماً أنّ صومه استحبابي؟
ــــ في صوم الاستحباب يجوز له أن يفطر في سائر النهار، وإذا أفطر استجابةً لدعوة أخيه فإنّه يحصل على ثواب الصوم.
تأخير كفّارة رمضان:
على شخص كفّارة شهر رمضان منذ أربع سنوات ولم يكن يعلم بوجوب أدائها بنفس السنة وكان يتصوّر بأنّ أداء الكفّار في أي وقت يشاء فماذا عليه من الفدية؟
إنّه يستطيع أداء الكفّارة متى شاء. وأما الفدية فإذا كان يستطيع الصيام ما بين رمضانين وتركه فإنّ عليه في هذه الحال أن يدفع فدية.
كفّارة الصيام:
من أراد أن يكفّر عن يوم في شهر رمضان فهل عليه أن يكفّر في نفس السنة أو يمكن أن يؤجّل علماً أنّه يريد أن يكفّر بإطعام (60) مسكيناً لا بالصيام؟
ــــ إذا كان قادراً على ذلك فعليه أن يعجّل.
حشوة السنّ غير مفطرة:
هل الحشوة التي يضعها أطباء الأسان والتي يصدر عنها طعم الدواء من المفطرات بالنسبة للصائم؟
كل شيء لا يدخل في الجوف فليس مفطراً، حتى لو ذاق الإنسان طعمه.
خامساً ــــ في الحج:
متعة الحجّ:
ماذا تعني متعة الحج؟
ــــ تعني حجّ التمتُّع، فهناك "حجّ" وهناك "عمرة" وهما مرتبطان ببعضهما فلا بدّ للناس من الإتيان بهما في عام واحد فإذا انتهى الإنسان من عمرة التمتّع يجوز له أن يستمتع بما كان حراماً عليه في وقت إحرام العمرة، فإنّ الإنسان إذا استمتع بعد العمرة وقبل الحجّ فكأنّه استمتع في داخل الحجّ تنزيلاً.
التظليل في العمرة:
ما حكم تغطية السيارة على المحرم المتّجه إلى العمرة في الليل أو النهار؟
ــــ على رأي السيد الخوئي وجماعة ممّن يحرّمون التظليل في الليل والنهار لا يجوز ذلك، لكن على رأينا أنّه لا يحرم التظليل في الليل إلاّ إذا كان هناك مطر فلا يجوز التظليل على الأحوط.
سادساً ــــ في الخمس:
حقّ السادة:
أفتى سماحتكم بإعطاء حقّ الإمام للمحتاجين في داخل العراق من غير السادة فهل يجوز توزيع حقّ السادة على السادة مباشرة دون الرجوع إلى مجتهد؟
ــــ كنت أتحدّث عن رأيي بالنسبة إلى المشكلة، فلقد رخّصت بصرف سهم الإمام على المحتاجين في العراق للمتدينين وسهم السادة على السادة المحتاجين أيضاً.
الخمس وتقليد الميّت:
لو بقي المقلّد على تقليد العالم الميّت فلمن يدفع الخمس؟
ــــ يدفعه لمن يرجع إليه في بقائه على تقليد الميّت.
التصرّف في الخمس:
هل يجوز لي شخصياً التصرّف بالمال المخمّس والعائد لي وهو حقّ الإمام بحيث أبعثه إلى أيتام أو فقراء أعرفهم، علماً أنّي من مقلّدي السيّد الخوئي؟
ــــ لا بدّ من الرجوع إلى الحاكم الشرعي في هذا المجال، باعتبار أنّ هناك احتمالاً كبيراً بأنّ الإذن بصرفها منوط بالحاكم الشرعي.
تأجيل الخمس:
بنيتُ بيتاً وقد استحقّ عليه الخمس، فهل يجوز تأجيل الخمس إلى سنة أخرى؟
ــــ لا بدّ من سؤال الحاكم الشرعي في مسألة التأجيل.
مَن لا يخمِّس:
ما حكم أن يدعو أحدنا الناس إلى بيته لإطعام الطعام في المناسبات وبغيرها وهو لا يخمّس؟
ــــ فاته من الأجر والامتثال والطاعة في ترك الخمس أكثر ممّا يحصل عليه من محبّة الناس، "ومن أصلح فيما بينه وبين الله عزّ وجلّ أصلح الله له فيما بينه وبين الناس"(1).
تخميس منزل:
عندي منزل اشتريته بالأقساط البنكية لمدة (14) سنة تُحوَّل من الراتب الشهري وقد قاربت على الانتهاء، وقد أجّرت هذا المنزل، فأُريد أن أعرف كيف قيمة هذا المنزل، هل هي على جميع الأقساط مع الفوائد أو على حساب قيمة شراء المنزل، أو على حسب القيمة التي وصل إليها المنزل حالياً عند انتهاء الأقساط؟
ــــ يجب أن تخمّسه على حسب الأقساط التي دفعتها من دون لحاظ الفائدة، أما رأينا فهو أنّه لا يجب الخمس في هذا البيت إذا كنت محتاجاً إليه ولم تكن قادراً على شرائه دفعة واحدة حتى لو لم تسكنه في نفس السنة.
شراء بيت من الخمس:
لدي عائلة وأطفال وأسكن في بيت مستأجر فهل يحق لي أن أشتري بيتاً أو أساعد في شرائه من حقوق الخمس والزكاة؟
ــــ إذا كنتَ محتاجاً إلى هذا البيت بحسب وضعك وبحسب مكانتك وموقعك وبحسب ما يمكن أن تفكّر فيه من الضغوط لمستقبلك فيمكن لك ذلك.
سرقة خمس مؤمّن:
أعطاني شخص مبلغاً من المال عبارة عن خمس أمواله لتلك السنة لكي أنقله من بلد إلى بلد آخر وفي المطار سرق المبلغ كاملاً، فما الحكم الشرعي في ذلك، هل أنا مكلّف بدفع المال بدل المسروق؟
ــــ أنتَ أمين، فإذا لم تكن قد فرّطت في حفظ المال فليس عليك شيء ولكن ذمّة ذلك الإنسان لا تزال مشغولة بالخمس.
تخميس المبلغ المودع للسفر:
إذا كان لدي مبلغ من المال قد خصّصته للسفر وجاء رأس السنة ولم أُسافر هل يجب أن أُخمّس ذلك علماً أنّ السفر بعد رأس السنة؟
ــــ الظاهر أنّه لا بدّ من تخميسه.
التبرّع ليس حقّاً شرعياً:
نحن بحالة مادية جيدة ونساعد أهلنا في العراق فهل هذا يعتبر حقّاً شرعياً؟
ــــ إذا كنتم تساعدونهم على نحو التبرُّع فلا يعتبر من الحقوق الشرعية، أمّا إذا أردتم أن تساعدوهم من الحقوق الشرعية فعليكم مراجعة الحاكم الشرعي في هذا الموضوع.
حقوق الفقراء:
أنا موظف أتقاضي راتباً قدره (3500) ليرة سورية ومتزوّج ولديّ طفل وبيتي بحاجة إلى أثاث فما هي حقوق الخمس عليّ علماً أنّ راتبي لا يكفي؟
ــــ إذا لم يبقَ معك شيء وكان معاشك لا يكفي حاجاتك المعيشية في السنة فلك حقّ أن تأخذ شيئاً من الحقوق ولا تدفع الحقوق، فالحقوق إنّما هي فيما يفضل عن مؤونة السنة.
كيفية حساب خمس متأخّر:
أنا شاب خليجي أقطن في الخليج منذ زواجي قبل عشرين سنة ولم أخمّس وكان وضعي لا يسمح لي بذلك، وفي العام الماضي قمت بأداء فريضة العمرة فما حكم السنوات الماضية وما يتوجّب عليّ الآن كوني أصبحتُ قادراً على أداء فريضة الخمس؟
ــــ عليك أن تحسب حسابك مع شخص خبير بجلسات الخمس أي من أهل العلم لأنّه ربّما في السنوات الماضية لم يكن يفضل عندك شيء، ولذلك فليس من الضروري أن تكون تلك السنين الماضية متعلّقة للخمس. وربّما تكتشف أنّه لم يكن عليك شيء فالقضية تحتاج إلى دراسة وإلى حساب.
إجازة حقوق:
أنا من مقلديكم ومقيم في كندا وأُريد تخميس مالي ولي أهل ليس لديهم قوت سنة، فهل يجوز أن أعطي جزءاً من الخمس لهم أو كلّه وما هو نصيب حقّ السادة والإمام؟
ــــ إذا كان أهلك في ضرورة لا سيّما أنّ الأخوة العراقيين في محنة، فلقد رخّصت لهم أن ينفقوا حقوقهم الشرعية على أهلهم وأقاربهم مطلقاً، على أن يعطى سهم السادة للسادة وسهم الإمام لمن ينطبق عليه مصرف سهم الإمام ولكن بشرط أن لا يكون القريب أباً أو أمّاً أو ولداً.
تخميس البيت الموهوب:
وهب أب لابنه بيتاً ليتزوّج فيه علماً أنّ البيت لم يخمّس ثم أصبح البيت للابن، وهو لا يملك شيئاً غيره فهل يجب فيه الخمس؟
ــــ على رأينا ورأي السيد الخوئي يتحمّل الأب مسؤوليته، وليس على الابن تخميسه.
تخميس رأس المال:
هل يجب تخميس العيادة بالنسبة للطبيب أو المكتب الهندسي بالنسبة للمهندس علماً أنّه مصدر رزقه الوحيد؟
ــــ هذا يعتبر من رأس المال ويجب فيه الخمس.
مسألة في الخمس:
شخص لديه (150) ديناراً دفع الخمس وقدره (30) ديناراً فبقي المبلغ المخمّس لديه (120) ديناراً فجعله رأس المال لسنته الأولى، وفي أثناء السنة صرف (120) ديناراً وبعدها دارت السنة وحصل على ربح قدره (120) ديناراً ولكنه مال جديد وليس عين المال المخمّس بل بقدره هل يجب تخميسها أم لا؟ علماً أنّي من مقلّدي السيد الخوئي؟
ــــ السيد الخوئي يرى أنّ الربح المتأخّر لا يجبر الخسارة المتقدّمة، فأنت إذا صرفت المال المخمّس ثم ربحت أثناء السنة مالاً آخر وجاء رأس السنة الجديدة وعندك (120) ديناراً فإنّ عليك أن تخمّسها في السنة القادمة لأنّ المال المخمّس قد ذهب تماماً ولا يعوّض بالمال الجديد، لكن هناك رأياً آخر للسيد الخميني وهو ما نرتأيه، وهو أنّ الربح المتأخّر يجبر الخسارة المتقدّمة، لأنّ السنة المالية تحسب في خسارتها وربحها أي تحسب بلحاظ مقارنة الربح والخسارة.
الخمس والزكاة:
هل دفع الخمس يعفي عن فع الزكاة؟
يجب دفع الخمس ودفع الزكاة فلا ذاك يعفي عن هذه ولا هذه تعفي عن ذاك.
رأس السنة:
إذا لم يكن لي رأس سنة فهل أنّ صلاتي غير جائزة بالملابس التي أرتديها؟ وهل وضع رأس سنة واجب على المؤمن أم لا؟
ــــ إذا لم تكن الثياب قد مرّت عليها سنة قبل أن تلبسها فصلاتك صحيحة فيها، ولا يجب عليك أن تعمل رأس سنة إلاّ إذا عرفت أنّه سيفضل مال عن مؤنة السنة.
رأس السنة.. أيضاً:
إنّي صاحب محل ولي رأس سنة من قريب، وأملك مائة ألف ليرة لبنانية وأطلب ديناً غير مأمون، وهو متفرّق لدى عدد من الأشخاص ومقداره (40) ألفاً ومدين بحوالي (95) ألفاً فهل أخمّس المبلغ الموجود فقط أم أوفي ديني الذي لي والذي عليّ؟
ــــ بالنسبة للدّين الذي له عليه أن يحسب حسابه ويؤخّر خُمسه إلى حين استلامه، أمّا الدّين الذي عليه فإذا كان ديناً من السنين السابقة غير السنة التي مرّت فعليه أن لا يخصمه من أرباحه في رأس السنة، بل يخمّس جميع ربحه في فاضل السنة بما يزيد عن رأس ماله السابق، وأمّا إذا كان من ديون السنة الحالية وكان الدين دين المؤنة فله أن يخصم ذلك من رأس المال ويخمّس الباقي.
حساب الخمس:
إذا كنتُ لا أستطيع حساب ما يلزم عليّ من جهة الخمس فدفعت القليل فماذا أعمل، وهل الذي دفعته مقبول؟
ــــ ما دفعته مقبول منك إنْ شاء الله وعليك إذا لم تستطع أن تحسب الحساب بشكل دقيق أن تراجع الحاكم الشرعي أو وكيله ليعمل على ترتيب أمرك بطريقة أو بأخرى.
سابعاً ــــ في الجهاد:
المشاركة في الجهاد:
كلّنا نعلم أنّ الجهاد فرض علينا بأدلة صريحة وهذا يعني أنّه من حقي أن أُجاهد مع أيٍّ كان ولكن كيف؟
ــــ عندما يكون هناك جهاد شرعي للمشاركة فيه من ناحية شرعية وضمن شروط حياتك في مفردات الرخصة، والإلزام فلك أن تجاهد.
حبّ المجاهدين:
أحبّ المجاهدين وأحب أن أكون معهم فهل لي الثواب والأجر على نيّتي؟
ــــ إذا كنتَ ناوياً نيّة يمكن أن تتحوّل إلى عزيمة، كما يمكن للعزيمة أن تتحوّل إلى واقع ولكنّ الظروف منعتك فإنّ الله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على نيّته الحسنة كما يجزيه على الحسنة.
ثامناً ــــ في الزواج والطلاق:
الخيرة في الزواج:
ما علاقة الخيرة بالزواج لو كانت البنت وخطيبها مقتنعين، وهل تجوز مخالفة الخيرة؟
ــــ لقد خلق الله للإنسان عقلاً فعليه أن يفكّر فيه، وخلق له عينين وأُذنين فعليه أن ينظر بهذين ويسمع بهاتين، وعليه أن يستشير أهل الخبرة، فإذا وصل إلى نتيجة معقولة فما معنى الخيرة؟ فالخيرة ليست بديلاً عن الاستشارة، فالله أراد لنا أن نأخذ بالأسباب التي وضعها بين أيدينا في معرفة الأشياء.
ولذلك فليس في القرآن خيرة بهذا المعنى، ولقد بحثنا في أبحاثنا الفقهية أنّ الأحاديث الموجودة بشأن الخيرة ليست أحاديث تامة في دلالاتها.
حتّى أنّ السيّد الخوئي (رحمه الله) يقول: إنّ الإنسان يأتي بالخيرة بعنوان الرجاء، أي رجاء وجودها، لا على أساس أنّها واردة حقيقية، فدور الخيرة ــــ كما نرى ــــ شبيه بدور الدعاء، فعندما نفكّر ولا تصل إلى النتيجة، وعندما تستشير ولا تصل إلى النتيجة، وعندما تصبح المسألة 50% هنا و50% هناك يمكن اللجوء إلى الخيرة بالدعاء إلى الله أن يختار له، ولعلّ أوثق أحاديث الخيرة ليس هو الإمساك بالمسبحة وإنّما الصلاة ركعتين. وتقول: (اللهم إنّي أستخيرك برحمتك خيرة في عافية، وتمضي في العمل، فإن كان خيراً سهّله الله، وإن كان شرّاً عقّده الله، أي أنّك تعرف المسألة من النتائج لا من البداية.
لكنّ الملاحظ أنّ الخيرة وصلت عند بعض الناس إلى درجة المرض، فالبعض راح يستخير فيما يفطر في الصباح وقد يخرج في بعض الحالات والخيرة لا تنصحه بأكل شيء.. فهذا لعب لا استخارة فإذا كانت صحّتك جيدة فالخبز والجبن واللبن وسواهما من أطعمة الإفطار لا ضرر فيها. ووصل الأمر ببعض الناس إلى الاستخارة في الاستخارة: هل يستخير أو لا؟ وهذا مرض ووسوسة.
لقد قال الله لنبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}(1).
الشهوة الجنسية:
أنا شاب في مقتبل العمر، والشهوة الجنسية لديّ في أوجّها ولا أجد زواجاً سواء كان منقطعاً أو دائماً، فهل يجوز لي العمل بالعادة السريّة؟
ــــ لا يجوز. وعليك أن تستمع إلى قول الله {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(1).
الزواج من الباكر:
هل يجوز الزواج من الباكر الرشيدة زواجاً منقطعاً دون دخول وهي غير متديّنة، الرجاء بيان الحكم وفقاً لفتاوي السيد الخوئي (رض)؟
ــــ السيد الخوئي (رض) لا يجوّز ذلك على الأحوط وجوباً، إلاّ إذا كانت هذه البكر البالغة ممّن قد أعطاها أبوها حريّتها كما هو في الغرب، حيث يعطي الأب لابنته الحرية في أن تملك أمرها.
بعد هجران (25) عاماً:
رجل ترك امرأته (25) عاماً ولم يطلّقها فهل يجوز له الرجوع إليها بدون عقد؟
ــــ لا تبين المرأة عن زوجها إلاّ بالطلاق أو الموت فمجرّد الهجران لا يوجب بينونتها عن زوجها.
وضع اللولب:
هل يجوز استعمل ما يسمّى (لولب) كأداة لمنع الحمل، علماً بأنّ وجوده يسبّب عدم زرع البيضة المخصّبة في جدار الرحم؟
ــــ هناك خلاف في قضية وضع اللولب، فهناك جانبان من الناحية الفقهية: الجانب الأول: إنّ الأطباء يقولون أنّ اللولب يسبّب الإجهاض باعتبار أنّ النطفة بعد أن تلقّح وتأتي إلى الرحم لتلتصق به لتبدأ عملية النمو يقف اللولب ليمنع التصاقها بجدار الرحم، وعند ذلك تسقط وتخرج إلى الخارج، ولهذا يعتبرون اللولب وسيلة من وسائل الإجهاض. ولذلك يستشكل فيه البعض، ولكنّنا نرى، كما يرى أيضاً بعض الفقهاء، أنّ هذا لا يثبت لأنّ المحرّم هو إلقاء النطفة بعد أن تستقر في جدار الرحم، ذلك أنّ مجرّد التلقيح لا يكفي في الحرمة، بل لا بدّ في ثبوت الحرمة في استقرارها في الرحم. أما قبل استقرارها في الرحم فلا دليل على حرمتها.
وأما الجانب الثاني: وهو أنّ وضع اللولب في محلّه يستوجب كشف العورة، فالمشهور بين الفقهاء أنه لا يجوز الكشف إلاّ في حالات الضرر والحرج، وعلى ضوء ذلك فإنّ السيد الخوئي (رض) كان يشترط في جواز وضع اللولب شرطين: الشرط الأول: أن يكون الحمل ضرَرِيّاً على المرأة، ولا يكفي في هذا المجال وجود عذر لدى الرجل لأنّه لا يريد الصرف على الأولاد، ولا يريد أن يتعب في تربيتهم وما شاكل، أو وجود عذر خارجي لدى المرأة لأنّها مثلاً ليس لها مزاجية خاصة لأنّ تربّي طفلها، فلا بدّ أن يشكّل الحمل ضرراً صحياً على المرأة بحيث يخلق لها مشكلة صحيّة في جسدها.
والشرط الثاني: أن تكون وسائل منع الحمل، غير مفيدة أو تكون ضارة كما يقال عن حبوب منع الحمل، وبدون هذين الشرطين يرى السيد الخوئي (رحمه الله) عدم ـــ المناسب للسياق هو: عدم جواز وضع اللولب ـــ جواز وضع اللولب حتى من قبل الطبيبة.
وأمّا رأينا في هذه المسألة فهي أنّه يجوز ذلك من خلال الطبيبة أو الممرضة فنحن نرى أنّ المحرّم هو كشف المرأة عورتها على المرأة الأخرى في الحالات الطبيعية، أما في حالات الحاجة كالحاجة للفحص النسائي، والحاجة لوضع اللولب حتى لو لم تكن اضطرارية فإنّه يجوز للمرأة الكشف على المرأة، لأنّنا نستفيد ذلك من الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ولذلك نفتي بأنّه يجوز وضع اللولب من قبل المرأة سواءً أكان الحمل ضررياً عليها أو لم يكن ضررياً.
كشف العورة.. توضيح:
ماذا تعنون بالحاجة بجواز كشف المرأة العورة، هل تعنون الحاجة الطبيّة؟ نرجو الإيضاح؟
ــــ قلت إنّ هناك حالتين: في الأولى امرأة تنظر إلى عورة امرأة أخرى كما في الحمّام، فهذا حرام أو امرأة جالسة وقد بدت عورتها فلا يجوز لامرأة أخرى أن تنظر إليها، لكن إذا احتاجت المرأة النظر إلى المرأة كمن تزوّج امرأة وهو يقول وجدتها ثيباً وهي تقول أنا بكر فينظر من يوثق بها من النساء لحلّ هذا الخلاف، أو كانت هناك حاجة لفحص نسائي اعتيادي فقد جرت العادة أو التقاليد بأن تفحص المرأة كل شهر أو شهرين مخافة أن تكون مصابة بمرض، وكذلك المرأة الحامل يمكن لها أن تفحص من دون ضرورة ملحة بل للحذر من خفايا المستقبل، فهذه لا تعتبر حاجات اضطرارية، إذ المقصود بالحاجة الطبّية أو ما يشبهها من حالات الاختلاف في البكارة والثيبوبة والعيوب المتعلّقة بالعضو الجنسي للمرأة أو حالات الفحص الطبّي أو وضع اللولب، وغير ذلك.
المولود من مقاربة محرم:
تحدث في هذه الحياة ابتلاءات كثيرة فلو حدث ابتلاء للإنسان واتصل جنسياً بإحدى محارمه قصداً وحملت وولدت منه، فما هو حكم الطفل في هذه الحال؟
ــــ هو ولد زنا، من أفحش الزنا، ولكنّه لا ذنب له فإذا بلغ كما ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) "إنّ ولد الزنا يستعمل، إن عمل خيراً جزي به، وإن عمل شرّاً جزي به"(1).
تحديد المهر:
هل عدم ذكر أو تحديد المهر أثناء عقد الزواج يفسد العقد؟
ــــ لا يفسد العقد، ولكنّها تستحق مهر المثل بعد ذلك.
غيبة الزوج:
امرأة سنيّة تزوجت من رجل سنّي وبعد الزواج بسنتين تعرّض محل عمله لحريق واختفى الزوج وحكموا أنّ الزوج قد احترق، وبعد هذا الحادث بخمس سنوات تزوّجت المرأة برجل آخر وبعد زواجها بثلاث سنوات ظهر الزوج الأول ليطالب بزوجته علماً أنّها أنجبت من الزوج الثاني طفلاً وطفلة ولقد رجع الزوجان إلى فقه مذاهب السنّة الأربعة فاكتشفوا أنّهم بلا مقلّد وقد كانوا خلال حياتهم يأخذون ما يوافقهم من أي فقيه لذلك قرّر الثلاثة أن يتشيّعوا ويأخذوا الرأي الشيعي في هذا الموضوع، فما هو حكمكم؟
ــــ في هذه المسألة رأيان عند الشيعة وعند السنة، هناك رأي يقول بأنّ الزوج إذا غاب غيبة منقطعة لمدة أربع سنين على الأقل وبحث عنه، أو أنّ المرأة اطمأنّت أنّه توفي فيمكن لها أن تتزوّج، ولكن إذا جاء زوجها الأول فإنّ عليها أن تنفصل عن الزوج الثاني لأنّه تبيّن أنّ الزواج باطل ولكنّ العلاقة علاقة شبهة والولد من الثاني يكون شرعياً.
وهناك رأي آخر عند فقهاء الشيعة وهو أنّه إذا غاب الزوج مدة أربع سنوات وبحثت عنه ولم تجده فإنّها ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي والذي بدوره يبحث فإذا لم يعثر له على أثر ولم يكن هناك من يتولّى أمرها وينفق عليها من أوليائه فإنّ الحاكم الشرعي يطلّقها تماماً كما لو طلّقها الزوج، وفي هذه الحالة إذا جاء زوجها الأول فليس له أن يرجع إليها لأنّ طلاق الحاكم الشرعي بمثابة طلاقه هو لها، وعلى ضوء هذا الرأي فإنّ زواجها الثاني ليس بشرعي لعدم الطلاق أما إذا كانت قد اعتقدت أنّه ميّت فلا إثم عليها ولا بدّ لها من الرجوع إلى زوجها الأول.
صيغة الطلاق:
هل يقع الطلاق إذا لم يلفظ الإنسان لفظ الطلاق بل قال في المحكمة المدنية (خلعتك من ذمّتي)؟
ــــ لا بدّ أن يقول لها أنتِ طالق أو زوجتي طالق أو خالعتك على ما بذلت إذا كان الطلاق خلعياً.
الزواج من متزوجة:
رجل تزوّج فتاة بكراً ولكنّها بذمة زوج آخر سافر عنها منذ سنتين ونصف على أن يعود ولم يعد، والزوج الثاني لم يعلم بذلك، وقد دخل بها وعلم بعد الدخول أنّ أهلها يعلمون بالعقد وهي كذلك، فماذا يترتّب على الزوج الثاني من الحرمة والمهر؟
ــــ بالنسبة إلى الحرمة فإنّ الفتوى المعروفة هي أنّ الإنسان إذا عقد على ذات بعل ودخل بها فإنّه تحرم عليه مؤبداً حتى لو كان جاهلاً، ولذلك عليه أن ينفصل عنها ولا مهر لها إذا كانت هي التي دلّست نفسها، ولكن إذا كانت جاهلة بالحكم فلها مهر المثل لأنّ العقد باطل.
الزواج بثيّب:
من تزوّج امرأة ووجدها ثيّباً فهل يعتبر عقد الزواج باطلاً؟
ــــ عقد الزواج صحيح ولكن عليه أن يدفع مهر الثيّب لا مهر البكر.
خروج المعتدّة:
هل يجوز للمرأة التي مات زوجها الخروج من البيت أثناء عدّتها البالغة أربعة أشهر وعشرة أيام وما هي حدود الخروج؟
ــــ هناك بعض الفقهاء يجوز لها أن تخرج في الليل، وهناك من الفقهاء مَن يجوز لها أن تخرج في الليل والنهار بشرط أن لا تكون متبرّجة بالزينة.
خاتم الزواج:
لبس (خاتم الزواج) هل حرّمه السيد الخوئي (رض) وما هي طريقة لبسه المسموحة؟
ــــ السيد الخوئي لم يحرّم لبس الخاتم، بل لديه احتياط في أصل إظهار الوجه والكفّين، ولذلك سئل لو فرضنا أنّ شخصاً يلبس الخاتم والمسألة عندك احتياطية وقلّدت من يقول بجواز كشف الوجه فهل يحرم إظهار الخاتم، قال: لا يحرم، فحرمة إظهار الخاتم عند السيد الخوئي مربوطة بحرمة إظهار الكفّ، وعنده المسألة احتياطية وإذا فرضنا أنّه قلّده فيجوز له ذلك.
فحص المريضة:
أنا طبيب وبحكم مهنتي يتطلّب الكشف عن المريضة ملامسة جسمها لمعاينة الألم، فهل يجب عليّ لبس قفّاز عند الكشف، علماً أنّ القفاز لا يضرّ بالفحص؟
ــــ في هذه الحال يجب لبس القفاز، وإنّما يجوز للطبيب أن يلامس جسد المرأة بشكل مباشر مع حاجتها إلى أن تتطبَّب عند طبيب إذا لم يمكن الفحص والعلاج إلاّ بهذه الطريقة. أما إذا أمكن لبس القفاز فيجب ذلك.
تصوير الزوجة:
هل يجوز تصوير الزوجة بدون حجاب مع الماكياج؟
ــــ إذا كان المصوّر زوجها وتحتفظ بالصورة في البيت فليس حراماً، ولكن إظهارها للأجانب حرام إذا أوجبت هتكاً لحرمتها أو أدّت إلى بعض السلبيات الشرعية.
عقد الأنابيب:
عندي أربع أطفال وأريد أن أعمل عملية عقد الأنابيب فهل هذا جائز؟
ــــ برأينا يجوز هذا، باعتبار أنّنا سألنا بعض الأطباء وقالوا أنّ ربط الأنابيب يمكن فكّه بعد ذلك فهو ليس إعقاماً. وعلى هذا الأساس لا مانع من ذلك ولكن لا بدّ أن تقوم بالعملية امرأة.
فاقدة لجزء من أنوثتها:
فتاة فاقدة لجزء من أنوثتها، هل يجوز أن تعمل عملية وتصبح فتاة كاملة، علماً أنّه لا توجد امرأة تعمل هذه العملية، فهل يجوز عملها من قبل رجل وهي تعيش حالة نفسية صعبة بسبب ذلك؟
ــــ إذا كانت تمرّ في حالة حرج شديد ومن النوع الذي لا يحتمل بحسب وضعها الاجتماعي والنفسي فيجوز ذلك.
مولود بعد الطلاق:
امرأة أجبرها أخوها على الطلاق من زوجها لأمور رأى أنّها لمصلحة أخته وبعد فترة تبيّنت المرأة أنّها حامل فأنجبت الطفل، وبعد مرور سنة تزوّجت من شخص آخر فهل الزواج الثاني باطل؟
ــــ إذا فرضنا بأنّ الزوج قد طلّق برضاه من دون ضغط ومن دون إكراه فالطلاق صحيح. نعم إذا كان قد أجبر على الطلاق فالطلاق باطل. وعلى هذا الأساس تبقى المرأة على ذمّة زوجها الأول وزواجها الثاني باطل، وإذا كان هناك دخول فتحرم عليه مؤبّداً على حسب المشهور في المذهب الجعفري. ولذلك فلا بدّ من دراسة القضية.
مشكلة في عقد منقطع:
عقد رجل على امرأة بكر بالعقد المنقطع بدون إذن أبيها وحصل في الأثناء دخول، وهو يقلّد مَن لا يرى إذن الولي في ذلك وهي كذلك فهل يناله إثم في ذلك؟ وهل يجبر على الزواج الدائم منها؟
ــــ إذا كان يقلّد من يفتي باشتراط إذن الولي فبحسب تقليده يكون قد زنى لأنّ العقد باطل، إذا كان عالماً بالحكم، وأمّا إذا كان جاهلاً بذلك فالعقد باطل بحسب تقليده ولكنه معذور في دخوله بها لأنّه يكون من وطئ الشبهة. وإذا قلَّد مَن يقول على الأحوط فهو مأثوم على الأحوط، وكان عليه ــــ بمقتضى الاحتياط إلى أن يستأذن أباها وعليه بمقتضى الاحتياط أن يجتنب عنها وعليها أن لا تتزوّج لغيره إلاّ بعد طلاقها منه. وإنْ قلَّد مَن لا يشترط إذن الولي فلا إثم عليه بتحقيق الشرط الشرعي ويصحّ زواجه المنقطع. وينبغي لمن قلَّد مَن يشترط إذن الولي أن يتزوّج هذه المرأة لأنّه ورَّط هذه الإنسانة والمجتمع لا يغفر لها، وإذا كان إنساناً فعليه أن يحلّ لها مشكلتها.
طلاق رجعي:
طلّق رجل زوجته طلاقاً رجعياً وبعد فترة تلفّظ بكلمات تدلّ على الرجوع بالزوجة من غير أن يقصد ذلك، فهل يعتبر ذلك رجوعاً؟
ــــ لا بدّ في الرجوع من قصد، فإذا لم يقصد فلا رجوع، كما لو كان الأمر لقلقة لسان، أو في موضع المزح كأن يقول كلاماً دون أن يقصده.
ألفاظُ النكاح:
هل تجزي ألفاظ النكاح لدى أهل السنّة في الزواج الذي يجرونه لنا؟
ــــ لا فرق بين السنّة والشيعة في العقد الزوجي، فالألفاظ هي الألفاظ والأحكام في إنشاء العقد هي ذاتها عند كلا الفريقين.
طلاق الإكراه:
قامت الحكومة العراقية بتسفيري إلى إيران لأنّني إيراني ومتزوّج من امرأة عراقية، وفي الحدود أجبرت على طلاقها من قبل الحكومة، وتمّ الطلاق على غير الطريقة الشيعية، فما هو رأيك في زواجها؟
ــــ زواجها ليس شرعياً، لأنّها لا تزال على ذمّتك وعليك إذا أردت أن تخفّف عنها أن تطلّقها طلاقاً شرعياً.
تاسعاً ــــ في النظر والستر:
الحجاب في حضرة المحارم:
هل يجوز للنساء أن يكشفن الحجاب أمام أزواج اخواتهن مع أنّهم أصبحوا من المحارم؟
ــــ هؤلاء ليسوا بمحارم، فالمحرم هو الذي لا تستطيع المرأة أن تتزوّج به مطلقاً، وأخت الزوجة لا تستطيع أن تتزوّج به عندما يكون زوجاً لأختها، لكن إذا طلَّق أختها فيجوز لها أن تتزوّج به بعد ذلك، وإذا ماتت أختها فيجوز أن تتزوّجه فهو ليس بمحرم، والمحرم هو الرجل الذي لا يمكن للمرأة شرعاً أن تتزوّج به في جميع الأحوال، مثل الأب والأخ والابن والعم والخال وأبو الزوج، فلو فرضنا أنّ ابنه طلَّق زوجته أو لم يطلّقها فلا يجوز لأبيه أن يتزوّجها لأنّها زوجة ولده.
شكل الحجاب:
ابنتي مكلّفة وتلبس الحجاب على شكل بنطال واسع وقميص طويل مع ربطة بألوانها الهادئة، ولكنّها ترفض لبس العباءة، فماذا تنصحون بكيفية التعامل معها؟
ــــ ما تتحدّث به الأخت ليس حجاباً كما هو المعروف، فنحن نقول إنّ قضية الحجاب تقع في جانبين: الجانب الأول: ستر الجسد ويمكن أن تلبس أضيق لباس ويجوز لها أن تصلّي فيه، لأنّ المطلوب في الصلاة فقط ستر الجسد، الجانب الثاني عدم التبرّج وعدم إبداء الزينة {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}(1)، {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}(2)، {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}(3) ففي الجوّ المختلط على المرأة أن لا تخرج أنثى بمعنى أن لا يكون الحجاب الأنثوي بارزاً، وربّما كان هذا الحجاب الذي تذكره الأخت ساتراً للجسد ولكنّه غير منسجم مع الذهنية التي يريدها الإسلام في الحجاب الشرعي.
لبس النقاب:
هل يجب على المرأة لبس النقاب؟
ــــ بعض العلماء يرى الاحتياط الوجوبي في لبس النقاب، وهناك من يفتي بجواز كشف الوجه والكفّين، ونحن نفتي بجواز كشف الوجه والكفّين والقدمين من دون زينة كما هو رأي كثير من الفقهاء.
البنطال المستور بالعباءة:
هل يجوز للمرأة أن تخرج من منزلها بالبنطال وتلبس فوقه عباءة تستر البنطال؟
ــــ المهم الستر، فإذا فرضنا بأنّ البنطال كان مستوراً بالعباءة فلا إشكال.
ملابس السباحة:
ما رأيك برؤية النساء للرجال في ملابس السباحة وكذلك رأي السيد الخوئي والسيد الخميني؟
ــــ السيد الخوئي والسيد الخميني (رحمهما الله) لا يجوّزان ذلك، ونحن لا نجوّز ذلك لا سيما مع ملازمة ذلك للإغراء.
المسموح من الرؤية:
ما هي الأعضاء التي يحق للرجل أن يراها في المرأة إذا أراد أن يتزوّجها وكانت النيّة صادقة، ومن دون تلذّذ ولا ريبة؟
ــــ أن يراها بالطريقة التي يحتاج الناس فيها إلى رؤية المرأة بحسب المتعارف، لا أن تظهر أمامه عارية، فعادة ما يطلب الإنسان جماليات طبيعية بالمرأة مثل شعرها ووجهها ويديها أمّا ما عدا ذلك فالظاهر أنّ الأحاديث الواردة منصرفة عنه.
خياطة ملابس السافرة:
هل يجوز للخيّاط أو للخيّاطة خياطة ملابس المرأة السافرة؟
ــــ ليس ذلك محرَّماً بالعنوان الأولي والثانوي لأنّ المرأة قد تلبس ما يخيطه لها الخيّاط أو الخيّاطة في البيت، فهو ليس لباساً محرّماً في ذاته، وإنّما المرأة ترتكب الحرام عندما تخرج به من دون أن تحجب جسدها على الناس. إلاّ إذا طرأت عناوين ثانوية أخرى يختلف الحكم باختلافها، ولكن لا بدّ من ملاحظة الجوانب الشرعية في النظر واللمس إذا كان الخيّاط هو الذي يتولّى الخياطة ونحن لا نشجّع ذلك لما يحيط به من السلبيات الشرعية والاجتماعية.
حكم الفترة الخالية من الحجاب:
كنتُ فيما مضى أصوم دون ان أرتدي الحجاب ثمّ مَنَّ الله عليّ بالحجاب، فما حكم تلك الفترة؟
ــــ صومُكِ صحيح إن شاء الله.
النظر إلى الزميلات:
أنا موظّف ومعي موظّفات لا يلتزمن بحجابهن بشكل شرعي، فما حكم النظر إليهن بحكم إنّنا مجبورون على العمل معاً؟
ــــ يقول الحديث "يجوز النظر إلى اللائي لا ينتهين إذا نهين" وليست هناك مشكلة في ذلك شريطة أن ينظر الإنسان نظراً طبيعياً بدون ريبة وبدون شهوة.
العدسة الملوّنة:
نرجو أن تعطونا رأيكم في العدسة الملوّنة للعين، هل فيها إشكال؟
ــــ إذا كانت تثير زينة غير طبيعية بحيث تخلق حالة إثارة فغير جائزة، وأمّا إذا كانت طبيعية ولا تخلق حالة إثارة فوق العادة فلا إشكال فالقضية تتبع طبيعة العدسة.
عاشراً ــــ في الأموال والربا والبنوك:
الأقساط المريحة:
في أوروبا هناك طريقة البيع بالأقساط المريحة مضافاً إليها فوائد تناسب ذوي الدخل المحدود مع العلم أنّ هناك مؤسسة أخرى وهي مؤسسة الضرائب الرئيسية تعيد المبالغ المستوفاة بصفة الفوائد التي دفعت إلى المؤسسة البائعة، فما هو رأيكم؟
ــــ لا يجوز للإنسان أن يستدين ملتزماً بالربا، أمّا إذا فرضنا أنّه لم يلتزم بالالتزام العقدي فيما بينه وبين الله وكان يدفع على أساس اضطراره فلا مشكلة.
حكم اللقطة:
ما هو حكم مَن وجد مالاً في مكان مزدحم مثل السوق وكان بحاجة ماسة جداً لهذا المال؟
ــــ إذا كان للمال علامة، وكان يمكن الاستعلام عنها بإعلان أو بأي واسطة فيجب عليه أن ينتظر سنة، أن يُعرّف بها، وبعد ذلك يمكن أن يمتلكها أو يتصدّق بها، أما إذا كانت لا علامة لها أو لا يمكن التعريف بها فيتصدّق بها عن صاحبها، فإذا كان فقيراً تصدّق بها على نفسه، وإذا لم يكن فقيراً تصدّق بها على غيره.
سرقة الحكومة:
أنا أعمل في دائرة حكومية لكن الحكومة ليست إسلامية والبلد إسلامي فهل يجوز لي أخذ بعض الحاجيات أو المال من خلال عملي وبدون علم المشرف على موقع عملي؟
ــــ لا يجوز ذلك جملةً وتفصيلاً.
اللُعَبُ ذوات الأرواح:
ما تقولون في لعب الأطفال المصمّمة على هيئة ذوات الأرواح؟
الإشكال إنّما هو في صنعها، وهناك بعض العلماء يتحفَّظ على الحرمة في هذا المعنى ولكن اقتناءها وبيعها وشراءها لا مانع منه.
أمانة غاب صاحبها:
إئتمنني أحد الأخوان على ما تبقّى من بضاعته بعد انتهاء أحد المعارض التجارية في "البحرين" وذلك قبل حرب الخليج على أمل أن يأتي للبحرين في السنة التي تليها، ولكنّ اندلاع تلك الحرب وما ترتّب عليها حال دون ذلك. فماذا أعمل بهذه الأمانة وأنا لا أعرف عنه شيئاً؟
ــــ إذا يئست من معرفه صاحبها أو من إيصالها إليه فإنّ حكمها حكم مجهول المالك الذي لا بدّ فيه من الرجوع إلى الحاكم الشرعي ليرى فيه رأيه.
التعامل بتأجير البيوت:
هل يجوز التعامل بتأجير البيوت بأن تأخذ البيت من صاحبه وتؤجّره لآخر؟
ــــ إذا كان سمساراً فيمكنه أن يأخذ البيت من صاحبه ويؤجّره لأناس آخرين أو يأخذ عمولة من المستأجر وعمولة من المالك بشرط أن يكون أميناً على ذلك، وإلاّ فلا يجوز له أن يتّفق مع المستأجر بإيجار معيّن بحيث ينقص على المالك، فالوكيل لا بدّ أن يتعامل لمصلحة الموكّل.
أخذ المال الزائد:
عندما نذهب إلى (سوبر ماركت) نعطي البائع مبلغ (5) باونات فيرجع مبلغاً إضافياً تقديراً منه أنّنا أعطينا عشر باونات، فهل يجوز أخذها أم لا؟
ــــ في رأينا لا يجوز.
الرشوة الجائزة:
هل يعتبر دفع الإنسان المال إلى مَن يهمّه الأمر لتخليص وإنقاذ حقّه أو تيسير أموره من الرشوة؟
ــــ هذا من الرشوة الجائزة ـــ إذا صحّ التعبير ــــ وإن كان لا يجوز للمرتشي ذلك إذا كان يملك أن يفعل وكانت مهمّته هي أن يقضي حوائج الناس، كجزء من وظيفته. أمّا إذا كان الشخص غير مسؤول عن عملك من ناحية وظيفته ولكنّه يبذل جهداً ويذهب ليتوسّط لك فلا إشكال في المال الذي تقدّمه له لأنّه يقبض ثمن جهده.
الدولة معلومة المالك:
الجامعة التي تملكها الدولة مجهولة المالك فهل يجوز الصلاة فيها أو استخدام مرافقها؟
ــــ إنّ الدولة عندنا معلومة المالك، وحتى على تقدير الرأي الآخر فإنّني أجيز لكلّ الطلاب الذين يريدون الصلاة بها أو استخدامها في ما ينفعهم بأنْ يتصرّفوا بحسب القوانين المرعية.
أوراق يانصيب إسلامية:
هل للدولة الإسلامية أن تصدر أوراق اليانصيب حسب الشريعة الإسلامية، وما هي الفائدة منها؟
ــــ إذا قلنا بأنّ اليانصيب حلال، كما كان السيد الحكيم يقول بذلك، وهكذا السيد السبزواري ونحن نقول بذلك، فيمكن للدولة الإسلامية أن تصدر أوراق اليانصيب من أجل جمع المال اللازم لبناء المستشفيات، لأنّ الاعتبار في اليانصيب ــــ كما في بعض البلدان ــــ هو إنشاء المستشفيات، ففي كل سنة ــــ في لبنان مثلاً ــــ توزّع أرباح اليانصيب على الجمعيات الخيرية ولكلّ جمعية مقدار من المال. ويمكن استخدام ريع اليانصيب في أعمال الخير وما إلى ذلك.
الفائدة المصرفية:
ما هو رأيكم بالودائع المصرفية في البنوك الربوية، وما هو حكم أخذ الفائدة؟
ــــ كل وديعة يشترط فيها الفائدة فإنّها محرّمة لأنّها ربا، وإذا كانت الفائدة ربا فالربا لا يجوز أخذه إلا إذا رضي صاحبه بإعطائه على كلّ حال. فإذا قال لك شخص أنّ الربا حرام وأنا أعطيك إيّاه ــــ بعنوانٍ آخر كالهبة والهدية ــــ فليس في ذلك شيء لأنّه كان برضا صاحبه وليس مبنياً على الربا والقاعدة هي أن لا يعتبر المدين ملزماً بدفع الفائدة وأن لا يرى الدائن لنفسه حقاً في أخذها بمقتضى العقد.
الكفالة المالية:
هل يجوز أخذ الأجرة على الكفالة المالية؟
ــــ نعم يجوز، ذلك أنّ الكفالة هي تعهد على أنّك إذا لم تدفع فأنا أدفع عنك، وهذا عمل يمكن للإنسان أن يأخذ أجرة عليه.
الاتّجار في السوق السوداء:
هل يجوز العمل بالتجارة الحرة "بالأسود" غير المسموح بها قانوناً في البلاد الغربية حيث أنّنا نحصل على راتب من الدولة ولكن لدينا أهل ليس لهم مصدر معاش وهم محتاجون، علماً أنّ مواطني البلد يعملون بالأسود بدون علم الدولة كما أن بعض العمل بالأسود لا يضر بالشخص وبسمعته؟
ــــ إذا لم يكن العمل في خارج نطاق المسموح به من جهة، ولم يكن منافياً للواقع العام ولم يكن مضرّاً بسمعة الإسلام والمسلمين وكان الوضع الاجتماعي العام يجوّز ذلك من ناحية المبدأ فلا بأس، وإن كنّا لا نشجّع ذلك.
القرض الجامعي:
ما هو حكم القرض الذي نأخذه على الشهادة الجامعية من الحكومة؟
ــــ عند التخرُّج عليكم أن تكونوا أوفياء في تسديده.
رشوة لتخفيف الوزن:
هل يجوز إعطاء رشوة في المطار لتخفيف الوزن ولا سيما إذا كانت الخطوط تابعة إلى بلد مسلم؟
ــــ لا يجوز ذلك، فلا تجوز الزيادة في الوزن سواءً مع الرشوة أو بدونها باعتبار أنّك تركب طائرة مملوكة لجهة وليس لك أن تضع فيها شيئاً يستحقّ الأجرة إلاّ برضا هذه الجهة المالكة.
التصرّف بالصدقة:
إذا كنت قد نويت أن أعطي مالاً صدقةً لفقير لكنّني احتجت إليه في شراء حاجةٍ ما فتصرّفت به فهل يجوز؟
ــــ مجرّد النيّة لا تلزم الإنسان بأن ينفق فيما نواه. نعم، إذا نذر أو حلف أو ما إلى ذلك فعليه أن يلتزم بذلك.
شرط عدم تحمّل الخسارة:
إذا اشترط المضارب أن لا يتحمّل الخسارة مع مَن يعمل معه فهل يمضي هذا الشرط؟
ــــ يمكنه أن يقول بشرط أن تدفع لي الخسارة لا بشرط أن لا أخسر، بحيث يتضمّن الشرط تعويض صاحب رأس المال من مال العامل ولا يجوز له اشتراط أن تكون الخسارة عليه لأنّ هذا مخالف لمقتضى العقد.
التبرّع بأموال التبليغ:
إذا أخذ شخص أموالاً للتبليغ وكان في غنى عنها فأعطاها لمن يحتاجها فهل يجوز ذلك؟
ــــ إذا ذهب للتبليغ ورفض أن يقبض مالاً عليه، فعليه أن يرجعه إلى مَن أعطاه المال، أمّا إذا لم يرفض ذلك وأخذه في مقابل التبليغ جاز له إعطاؤه لمن يشاء، فإنّ المال قد أصبح ملكه ويمكنه أن يعطيه لشخص آخر أحوج منه.
مال لإصلاح الحال:
قدّم شخص مساعدة لصديقه على أساس أن يصلح حاله بها، ولكن حال الشخص صلح جزئياً علماً أنّ الشخص قدّم المال كهبة، فهل يردّ الباقي؟
ــــ لا يجب عليه أن يردّ الباقي، لأنّه عندما وهبه له ملّكه إيّاه ولم يشترط عليه شيئاً.
الربا بين الوالدين والأبناء:
هل يجوز تعاطي الربا بين الأم والأب من جهة والأبناء من جهة أخرى على قاعدة (الولد وما ملك لأبيه)؟
ــــ لا يجوز ذلك، أمّا القاعدة المذكورة فهي أقرب إلى القاعدة الأخلاقية منها إلى القاعدة القانونية الشرعية، فلا يجوز للأب أن يتصرّف في مال ولده بدون رضاه من حيث المبدأ.
مال الأب غير المؤمن:
هل يجوز أخذ شيء من دون علم الأب إذا كان لا يصلّي وليس مؤمناً؟
ــــ لا يجوز للابن أن يأخذ من مال أبيه بغير حقّ إلاّ إذا كان محتاجاً ولم ينفق عليه أبوه في حاجاته فعليه أن يستأذن الحاكم الشرعي في ذلك، وكذلك لا يجوز للأب أن يأخذ من مال ابنه شيئاً إلاّ إذا كان محتاجاً ولم ينفق عليه ابنه في حاجته.
إهداء الهدية:
أهداني صديقي كتاباً وأهديت هذا الكتاب إلى شخص آخر، ثم تبيّن أنّ صديقي لا يرضى بذلك وأمرني أن آخذه منه فهل هذا الأخذ مسموح وجائز؟
ــــ إذا لم يشترط عليك فليس له الحقّ في ذلك، نعم إذا اشترط عليك وقال: أنا أهديك الكتاب فلا تهده لأحد فله الحقّ، وإذا افترضنا أنّه لم يشترط عليك فأنت حرّ ويجوز لك استرجاع الهدية باعتبار أنّها هبة.
استغلال مخمور:
أنا سائق أعمل في دول الغرب، ركب معي رجل مخمور وأعطاني مبلغاً أكثر من المعتاد بكثير فهل يجوز لي أخذ هذا المبلغ؟
ـــــ عليك أن تكون أميناً معه حتى لو لم يكن أميناً على نفسه.
(120) بـــ (400):
اشتريت مسبحة بقيمة 120 ليرة وقد أعجبت شخصاً فبعتها بـــ 400 ليرة فهل يجوز ذلك؟
ــــ نعم يجوز ذلك، فالناس مسلّطون على أموالهم فكما هو مسلّط على ماله فكذلك أنتَ مسلّط على مالك أيضاً.
استرداد مال مغصوب بالمقاصة:
غصب مني مال من قبل أحد الأشخاص فلم أستطع أن أسترده إلاّ عن طريق المقاصة فهل يجوز أن آخذ المال في هذه الحال؟
ــــ نعم ولكن بإذن الحاكم الشرعي، وأن لا تأخذ أكثر من مالك، والقاعدة العامة إذا لم يكن هناك أي طريق رسمي أو شرعي تستطيع أن تصل به إلى مالك فبإمكانك أن تأخذ من باب المقاصة، ولكن بإذن الحاكم الشرعي.
الشروط غير المكتوبة:
إذا تمّ التوقيع على عقد بيع أو شراء أو صلح بين أشقاء وفق شروط معينة ودوّنت في العقد بعض هذه الشروط، وتمّ تجاهل كتابة الشروط الأخرى لوجود حسن النيّة، وأثناء التنفيذ للعقد برزت مشاكل معينة فأنكر أحد الأطراف الشروط غير المكتوبة في العقد والسؤال: هل تسقط الشروط غير المكتوبة في العقد، رغم إقرار الشهود عليها ورغم اعتراف الطرفين بوجودها إلاّ أنّها لم تكتب؟
ــــ هي شروط شرعية حقيقية ملزمة لكلّ الأطراف لأنّه يكفي في وجوب الوفاء بالشرط أن يكون شرطاً حال العقد ممّا اتّفق عليه المتعاقدان لفظاً وإن لم يسجّلوه كتابة، هذا كلّه بشرط عدم منافاة الشروط للشريعة الإسلامية.
مولود الشاة المسروقة:
إذا سرق شخص شاة وباعها لشخص آخر من دون رضى المالك ثمّ ولدت الشاة وبعدها رضي المالك بالبيع فما حكم الوليد؟
ــــ الوليد للمالك لأنّه ولد وهو في ملكه، فإذا رضي المالك بأن يكون الوليد تابعاً للشاة فلا بأس، وإلاّ فلا بدّ من إعطائه للمالك لأنّه مستقلّ عن الشاة.
بيع كتاب الله:
كيف يتم بيع المعاطاة لكتاب الله "القرآن"، ونحن نعلم أنّ القرآن لا يُباع ولا يُشترى؟
ــــ إنّه لا يباع ولا يشترى تأدّباً، فلا يقول اشتريت القرآن بل كما يقول بعضهم أشتري الجلد أو الورق من باب التأدُّب لا من باب حرمة الشيء في ذاته.
حادي عشر ــــ في النذر والقسم:
نذر:
كنتُ أقول كلمة "أف" عند أحد الأشخاص وكان يكره ذلك ولا أعرف لماذا، وقال لي ردِّد ما أقول لك ورددت خلفه وهو "لله نذر عليّ إذا قلتها أو كلّما قلتها وتلفّظتها أن أُصلّي لله ركعتين قربة إلى الله" والآن أحسّ أنّي نادم، فما الحلّ برأيك؟
ــــ إذا كان قال لك ردّد ولم تقصد فلا قيمة لترديدك، لأنّ النذر يحتاج إلى إرادة وإلى قصد وإلى نيّة فلا قيمة للنذر، أمّا إذا كان قاصداً للنذر فعليه الوفاء به.
صيغة النذر:
هل للنذر صيغة خاصة؟ وماذا إذا لم يُذكر لله؟
ــــ ليس للنذر صيغة خاصة إلاّ أن يأتي بكلمة (لله) فلو قال "عليّ لله نذر أن أفعل كذا" "أو نذرٌ عليّ لله) فنذره صحيح فالمهم أن قوام النذر أن تجعله لله سبحانه وتعالى بأي صيغة ذكرت. ولا يجب عليك الوفاء إذا لم يذكر (لله) وإن كان يستحب له ذلك.
التقيُّد بالنذر:
هل يجوز تغيير النذر، فمثلاً إذا كنت قد نذرت أن أُصلّي في مقام "رقيّة" كذا ركعة، فهل يجوز لي أن أُصلّيها في البيت؟
ــــ إذا كان النذر شرعياً، فلا يجوز تغييره.
القسم بغير الله:
هل يجوز القسم بغير الله تعالى؟
ـــــ ورد عندنا في بعض الأحاديث (إنّ الله يقسم بخلقه وليس لخلقه أن يقسموا إلاّ به) ولكن هناك بعض الآثار والنصوص التي تجوز ذلك وإنْ كان على كراهة.
ثاني عشر: في المعاملات والسلوك:
العدالة:
ما الفرق بين عدالة إمام الجماعة وبين عدالة المقلَّد؟
ــــ من حيث المبدأ لا فرق، فالعادل هو المستقيم على خطّ الدين الإسلامي، ولكن ربّما يتعرّض الإنسان المقلّد إلى الكثير من الأوضاع التي تحتاج إلى قوّة روحية أكثر من القوة العادية، لأنّ التحدّيات التي تواجهه والتي قد تنحرف به أكثر من التحدّيات التي يتعرّض لها إمام الجماعة، فلا فرق، لكن يجب أن تكون قوّة العدالة هنا أكثر.
المساواة في القضاء:
في القضاء هل يجب التسوية بين المسلمين فقط أم حتى بين المسلم والكافر؟
ــــ في القضاء لا بدّ أن ينظر إلى المتقاضين كمتقاضين بعيداً عن أيّة صفة أخرى حتى الصفة الدينية، لأنّ الله جعل العدل للناس كلّه من خلال عدل الإسلام. ولهذا نقول بأنّه لا بدّ أن يكون هناك مساواة بين المسلم والكافر، وقد وقف عليٌّ (عليه السلام) مع يهودي إدّعى عليه درعه أمام قاضيه (شريح) كما تقول الرواية وكان يوحي إلى قاضيه أن يساوي بينهما وأن ينطلق بعد ذلك ليتحرّك في البرنامج الشرعي للقضاء. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(1)، والعدل يمكن أن يتمثّل حتى في وقوف المتقاضيين أمام القاضي.
صبغ اللحية:
هل أنّ صبغ اللحية مستحبّ كما نسمع بعض الأحيان من الذين يقومون بهذا العمل؟
ــــ جاء شخص يسأل الإمام عليّ (عليه السلام) في (نهج البلاغة) قال له يروى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: "غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود"(2) فهل يجب علينا أن نغيّر الشيب أم لا؟ قال "كان ذلك والدين قُل" أي في ذلك الوقت كان المسلمون قليلين وأراد أن يميّزهم عن اليهود بشكلهم حتى تتمكّن أن تعرف من الشكل الظاهري ما إذا كان الشخص مسلماً أو يهودياً، قال: "فأمّا الآن والدين قد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار".
وعلى ضوء ذلك فالإنسان بالخيار بين الخضاب وغيره.
صبغ الشعر:
هل تعتبر الأصباغ المستعملة في صبغ الشعر سواء الرأس أو اللحية المستعملة من قبل النساء والرجال حاجباً وحاجزاً من الطهارة؟
ــــ مع الأسف لا أملك هذه الخبرة، فالأصباغ تختلف فبعضها له جرم (أي مادة) وبعضها يمثّل لوناً، وما كان لوناً فلس حاجباً، أما إذا كان يمثّل جرماً وحجماً معيناً وله كثافة فيمكن أن يكون حاجباً.
لحوم المعلّبات:
ما هو الحكم الشرعي في تناول لحوم المعلّبات مع العلم أنّه لا يعرف ما إذا ذكر اسم الله عليها أم لا؟ وما المقصود بطعام أهل الكتاب المذكور في القرآن الكريم؟
ــــ لا يجوز ذلك فلا بدّ من إحراز التذكية الشرعية. وأما طعام أهل الكتاب فهو طعام حلال كما قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ}(1)، أي لو قُدِّم لنا طعامُ أهل الكتاب فيما يحلّ لنا أكله ما عدا الميتة أو لحم الخنزير أو محرّمات الذبيحة وغيرها، فالله لا يحرّم علينا مؤاكلتهم، أي أن نأكل عندهم أو هم يأكلون عندنا، لكن مثلما علينا أن نقدّم لهم الطعام الذي يحلّ لهم، عليهم أن يقدّموا لنا الطعام الذي يحلّ لنا.
لحم الحيوانات التي تأكل أعلافاً أجنبية!
ما حكم لحوم الحيوانات التي تتغذّى على الأعلاف الأجنبية غير الطاهرة نتيجة خلطها بالمواد البروتينيّة والحيوانية غير المذكّاة؟
ــــ هذه اللحوم حلال بشرط التذكية وأن تكون ممّا يحلّ أكله كالأبقار.
كتب الضلال:
من المعروف أنّ نشر الكتب أصبح خاضعاً للمصالح التجارية التي تلحظ الربح محوراً لعملها تماماً كما هي مؤسّسات التلفزة، والسؤال هنا ما هو الحكم الشرعي لطبع وتوزيع الكتب التي توجب خللاً في الذهنية العقائدية والفكرية لدى الناس والتي توجب حالة انكماش بما تعطيه من فكر تخديري؟
ــــ إنّ كتب الضلال عندنا هي التي تشارك في إضلال الأمة وتمييع أخلاقها، فلا يجوز طبعها ولا يجوز نشرها ولا يجوز حفظها وأمّا إذا لم تصل إلى حدّ الخطورة ولم يصدق عليها أنّها كتب ضلال فلا مانع من نشرها.
التصفيق:
هل يجوز التصفيق أثناء الاحتفال بالعيد النبوي الشريف في المساجد والحسينيّات.. لماذا تمنعون الفرح على الناس؟
ــــ التصفيق تعبير عن استحسان فلا مشكلة فيه إذا كان متوازناً ومعقولاً ولم يتعنون بعنوان ثانوي محرَّم شرعاً.
طلاء الأظافر:
ما هو حكم "المناكير" الأظافر بالنسبة للوضوء، عازل أم لا؟
ــــ يبدو أنّه عازل لأنّ له سمكاً، فالمقصود بالحاجب أو العازل هو الذي يحجب عن البشرة بما لديه من سمك، ولذلك يبطل غسل المرأة "الحيض" أو "الجنابة" ويبطل وضوؤها إذا بقي الطلاء على أظافرها.
تربية الأظافر الطويلة:
هناك بعض الشباب والنساء يربّون أظافر طويلة غير طبيعية، هل هذا جائز، ولماذا الكراهة؟
ــــ ليس هذا محرّماً، ولكنها عادات ليست من عاداتنا وخاصة أن يستحبّ للإنسان أن يقلِّم أظافره، وفي هذا ابتعاد عن المستحب وربّما يكون مكروهاً، وعلى كل حال إنّنا ننصح أن لا نقلّد الآخرين فيما لا منفعة فيه، بل ربّما نجد فيه المضرّة على أنّ فيه ابتعاداً عن الخطوط الإسلامية في عملية تزيين الجسم.
قميص نصف كم:
ما هو رأيكم في لبس القمصان ذات النصف كم، وكذا ربطة العنق، هل هي محرّمة أو مكروهة؟
ــــ لا حرمة ولا كراهية، ذلك أنّها زيّ من الأزياء، أما في السابق فقد كانت زيّ الكفّار وأمّا الآن فقد أصبحت زيّ كل الناس.
وربّما يعتبر بعض الناس المسألة من ناحية أنّ المجتمع فيه رجال ونساء وإذا لبس الرجل قميصاً بنصف كم فقد يكون ذلك نوعاً من الإغراء، فإذا قلنا إنّه يجوز للمرأة أن تنظر إلى ذراع الرجل بدون تلذّذ فلا مشكلة في ذلك.
عمليات التجميل:
ما هو الحكم الشرعي لعمليات التجميل، أليس هذا تغييراً لخلق الله خصوصاً إذا كانت تلك العمليات لإزالة تجاعيد الوجه بالنسبة لكبار السنّ؟
ــــ إذا كانت تعتبر ذلك تغييراً لخلق الله فماذا عن قصّ الأظافر، ماذا عن حلق الشعر؟ فهذه كلّها تغييرات في خلق الله، فإذا كان السائل يستشهد بقوله تعالى: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ}(1). فإنّ التفسير الوارد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إنّ المراد بخلق الله الفطرة، وهي الدين، وذلك من جهة قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(2). وعليه فلا مانع من أن يزيل الإنسان تجاعيد وجهه، ويمكنه كذلك أن يصلح بعض الأشياء في أنفه أو ما إلى ذلك لا سيّما إذا كان ذلك يسبِّب حرجاً له.
موسيقى أفلام الكرتون:
إنّ برامج الأطفال ولا سيما أفلام الكارتون تسبقها أغاني الأطفال وموسيقى، فما حكم هذه الأغاني والموسيقى خصوصاً وأنّ الأطفال يحفظونها ويردِّدونها؟
ــــ إذا كانت الموسيقى لا تتناسب مع موسيقى أهل الفسوق (يعني الموسيقى المثيرة للغرائز) وكانت الكلمات ليست بكلمات باطل فلا مانع.
الاستماع إلى أغاني الأعراس:
أعراس هذه الأيام لا بدّ أن يكون فيها مسجّل يبث أغاني ماجنة فهل نأثم بجلوسنا في هذه الأعراس والمجالس ونحن مدعوّون إليها، وهل أنّ واجبنا هو الخروج منها؟
ــــ نعم، وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولدينا أحاديث تشير إلى أنّ الإنسان إذا عاش في أجواء المعصية ونزل العذاب عمّ، وفي المقابل إذا عاش في أجواء الرحمة والطاعة ونزل الثواب عمّ أيضاً، ولذلك فعلى الإنسان أن يخاف نزول العقاب الذي ينزل على هؤلاء العاصين.
رابع عشر ــــ في اللجوء
المسافرة إلى بلاد الغرب:
ما حكم المرأة المسلمة التي تذهب وحدها لبلاد الغرب لإكمال دراستها، هل يجوز لها الذهاب وحدها إلى هكذا بلاد؟
ــــ حكم المرأة المسلمة في ذلك كحكم الرجل المسلم إذا كانت تأمن على نفسها وعلى دينها، فإذا كان هناك ما يعصمها من الانحراف وما يحميها من العدوان فيجوز ذلك من حيث المبدأ.
عمل اللاجئ:
هل يجوز عمل اللاجئ في الدول الأجنبية المضيفة إذا كانت الدولة لا تسمح بذلك؟
ــــ أنا لا أنصح بذلك، لأنّ على الأخوة اللاجئين أن يكونوا صورة مشرّفة للإسلام وللمسلمين فإذا أعطوا على أنفسهم عهداً بمقتضى توقيع وثيقة اللجوء أن لا يعملوا فعليهم أن لا يعملوا، فإذا عملوا ففي عملهم إشكال.
العمل الاضطراري:
ما هو الحكم إذا كان هذا العمل (عمل اللاجئ) موضع اضطرار بحيث نضطر إلى التذكية ويأخذ المباشر لها مبلغاً من المال فهو يمتهن هذا العمل اضطراراً لغرض تأمين الذبائح الشرعية للمسلمين؟
ــــ لا بدّ هنا من دراسة العمل من حيث مستوى أهميّته، هل ترقى إلى مستوى أن يبتعد عن التزاماته أم لا؟ فلربّما تكون له في بعض الحالات أهمية أكثر وقد لا تكون، فلا بدّ من دراسة هذا الموضوع وفقاً للبلد.
(*) الأستاذ (محمد الحسيني) هو مدير ندوة السبت التي تقام في "حوزة المرتضى" بدمشق منذ عامين.
(1) سورة البقرة، الآية: 127.
(1) البحار، ج: 45، ص: 76، رواية: 1، باب: 39، دار إحياء التراث العربي.
(2) تأريخ ابن القثم ج5، ص242.
(1) سورة الشورى، الآية: 23.
(2) سورة الأنفال، الآية: 41.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(4) البحار، ج: 45، ص: 85، رواية: 1، باب: 39.
(5) تاريخ الطبري، ج5/485 طـ دار المعارف، مصر.
(1) البحار، ج46، ص94، طـ المكتبة الإسلامية 1385 طهران.
(2) سورة الأنعام، الآية: 124.
(3) سورة آل عمران، الآية: 134.
(4) الإرشاد للشيخ المفيد، ص 240.
(1) سورة البقرة، الآية: 237
(2) سورة فصّلت، الآية: 34.
(3) البحار، ج: 66، ص: 693، رواية: 13، باب: 38.
(1) مفتاح الجنات، دعاء مكارم الأخلاق، ص: 299.
(2) سورة الأعراف، الآية: 199.
(3) مفتاح الجنات، ج3ــ4 دعاء أبي حمزة الثمالي، للإمام زين العابدين، ص:190.
(2) البحار، المجلسي، ج: 46، باب: 705 رواية: 58.
(1) سورة آل عمران، الآيات: 133ــ136.
(2) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 8، باب: 129، ص: 244.
(1) سورة آل عمران، الآية: 134.
(2) سورة الحشر، الآية: 9.
(3) سورة الأعراف، الآية: 43.
(4) البحار، المجلسي، ج: 46، باب: 5، ص: 328، رواية: 91.
(1) البحار، ج: 74، باب: 7، ص: 97.
(2) سورة البقرة، الآية: 237.
(1) سورة آل عمران، الآية: 135.
(2) البحار، المجلسي، ج: 85، باب: 84، ص: 449، رواية: 1.
(3) سورة ق، الآية: 23.
(4) سورة التحريم، الآية: 8.
(1) سورة الحجرات، الآية: 12.
(2) سورة الصف، الآية: 2ــ3.
(1) سورة الأنعام، الآية: 116.
(2) سورة الحجرات، الآية: 12.
(3) سورة النجم، الآية: 28.
(4) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 18، باب: 110، ص: 278.
(5) سورة الإسراء، الآية: 36.
(1) سورة الانفطار، الآية: 19.
(2) سورة النحل، الآية: 111.
(1) سورة الحجرات، الآية: 12.
(2) سورة الحجرات، الآية: 10.
(1) البحار، ج: 72، ص: 304، رواية: 1، باب: 66.
(2) سورة الحجرات، الآية: 12.
(3) سورة النساء، الآية: 148.
(*) ألقيت هذه المحاضرة في جمع نسويّ حافل في حسينية السبطين بدمشق.
(1) سورة الأعراف، الآية: 164.
(2) البحار، ج: 44، ص: 676، رواية: 2، باب: 37.
(1) سورة هود، الآية: 118ــ 119.
(2) سورة البقرة، الآية: 111.
(3) البحار، المجلسي، ج: 45، باب: 37، ص: 9.
(1) سورة المطفّفين، الآية: 26.
(1) سورة سبأ، الآية: 28.
(2) سورة الأنبياء، الآية: 107.
(3) سورة التوبة، الآية: 128.
(4) سورة آل عمران، الآية: 144.
(1) سورة التحريم، الآية: 6.
(2) سورة التوبة، الآية: 111.
(1) سورة آل عمران، الآية: 139.
(2) سورة التوبة، الآية: 40.
(3) سورة آل عمران، الآية: 140.
(4) سورة آل عمران، الآية: 26.
(5) سورة المطفّفين، الآية: 26.
(1) سورة إبراهيم، الآيات: 24 ـ 26.
(2) سورة يس، الآية: 82.
(1) سورة إبراهيم، الآية: 24.
(1) سورة إبراهيم، الآيتان: 24 ـ 25.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 25.
(3) سورة إبراهيم، الآية: 26.
(4) سورة فاطر، الآية: 10.
(1) سورة الكهف، الآية: 46.
(1) سورة التوبة، الآية: 47.
(2) البحار، المجلسي، ج: 17، باب: 15، ص: 582.
(3) سورة الزمر، الآية: 65.
(4) سورة الحاقة، الآيات: 44 ـ 46.
(5) البحار، ج: 10، ص: 305، رواية: 1، باب: 10.
(1) الكافي، ج: 1، ص: 239، رواية: 1.
(2) سورة النجم، الآية: 3.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(1) سورة الجمعة، الآية: 2.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 45.
(1) سورة الشورى، الآية: 52.
(1) سورة الأعراف، الآية: 157.
(2) سورة العنكبوت، الآية: 48.
(3) سورة الشورى، الآية: 52.
(4) سورة الملك، الآية: 14.
(5) سورة الأعراف، الآية: 156.
(6) سورة الجاثية، الآية: 18.
(1) سورة الجاثية، الآية: 19.
(2) سورة الحج، الآية: 73.
(3) سورة الجاثية، الآية: 19.
(1) سورة الأعراف، الآية: 194.
(2) سورة البقرة، الآية: 257.
(3) سورة الجاثية، الآية: 20.
(4) سورة الجاثية، الآية: 20.
(5) سورة الجاثية، الآية: 21.
(6) سورة الجاثية، الآية: 22.
(1) سورة الجاثية، الآية: 22.
(2) سورة التوبة، الآية: 128.
(3) سورة التحريم، الآية: 6.
(4) سورة الرعد، الآيتان: 23 ـ 24.
(5) سورة الزخرف، الآية: 67.
(1) سورة النساء، الآية: 123.
(2) سورة البقرة، الآية: 111.
(3) سورة النساء، الآية: 123.
(4) سورة العصر، الآيتان: 1- 2.
(5) سورة العصر، الآية: 3.
(6) سورة البلد، الآية: 17.
(7) سورة الأنبياء، الآية: 107.
(8) سورة القلم، الآية: 4.
(1) سورة فاطر، الآية: 10.
(2) سورة النساء، الآيتان: 138 ـ 139.
(3) سورة البقرة، الآية: 165.
(4) سورة آل عمران، الآية: 26.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 14، باب: 9، ص: 54.
(2) البحار، ج: 19، ص: 309، رواية: 11، باب: 5.
(3) سورة التوبة، الآية: 40.
(4) سورة المنافقون، الآية: 8.
(5) سورة آل عمران، الآية: 173.
(1) سورة فاطر، الآيات: 15ـ 17.
(2) سورة آل عمران، الآيات: 173 ـ 175.
(3) سورة آل عمران، الآية: 175.
(4) البحار، ج: 64، ص: 50، رواية: 42، باب: 1.
(1) البحار، ج: 64، ص: 50، رواية: 42، باب: 1.
(1) البحار، ج: 68، ص: 345، رواية: 26، باب: 64.
(1) البحار، ج: 75، ص: 388 ـ 389، رواية: 37، باب: 23.
(2) سورة الأنفال، الآية: 27.
(3) سورة البقرة، الآية: 40.
(4) سورة الأنفال، الآية: 27.
(1) سورة المائدة، الآية: 1.
(2) سورة النحل، الآية: 91.
(1) البحار، ج: 75، ص: 421، رواية: 144، باب: 23.
(2) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 3، باب: 44، ص: 145.
(1) سورة الأعراف، الآية: 16.
(1) سورة النساء، الآية: 105.
(2) سورة النساء، الآية: 107.
(3) سورة الحج، الآية: 38.
(1) البحار، ج: 79، ص: 573، باب: 1.
(2) سورة البقرة، الآية: 183.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 72.
(4) سورة الأنفال، الآية: 27.
(1) سورة الانفطار، الآيتان: 7ـ 8.
(1) سورة النحل، الآية: 56.
(2) سورة النحل، الآية: 93.
(3) سورة الأعراف، الآية: 6.
(4) سورة العنكبوت، الآية: 12.
(5) سورة العنكبوت، الآية: 12.
(6) سورة الأنعام، الآية: 164.
(1) سورة العنكبوت، الآية: 13.
(2) سورة الإسراء، الآية: 34.
(3) سورة الإسراء: الآية: 36.
(4) سورة النحل، الآية: 111.
(5) سورة الصافات، الآية: 24.
(6) سورة الزلزلة، الآيتان: 7 ـ 8.
(1) سورة التوبة، الآية: 102.
(2) البحار، ج: 74، ص: 135، رواية: 2، باب: 8.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(2) البحار، ج: 19، ص: 309، رواية: 11، باب: 5.
(1) سورة هود، الآية: 44.
(2) سورة الحديد، الآية: 25.
(1) سورة لقمان، الآية: 13.
(2) نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب، الخطبة: 176، ص: 184.
(3) سورة النساء، الآية: 48.
(1) نج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب، قصار الحكم: 350، ص: 404.
(1) سورة الإسراء، الآية: 36.
(1) سورة الحجرات، الآية: 10.
(2) سورة الحجرات، الآية: 13.
(3) سورة البقرة، الآية: 228.
(1) سورة هود، الآية: 113.
(2) سورة النحل، الآية: 118.
(3) سورة يس، الآية: 65.
(1) سورة النساء، الآية: 56.
(2) سورة فصلت، الآية: 21ـ22.
(3) سورة التوبة، الآية: 105.
(1) سورة البقرة، الآيات: 155 ـ 157.
(2) سورة محمد، الآية: 31.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 35.
(4) سورة الملك، الآية: 2.
(5) سورة الفجر، الآيات: 15 ـ 17.
(1) سورة البقرة، الآية: 155.
(2) سورة محمد، الآية: 31.
(3) سورة الملك، الآية: 2.
(1) سورة النحل، الآية: 112.
(2) سورة الروم، الآية: 41.
(3) سورة العنكبوت، الآيتان: 1- 2.
(4) سورة العنكبوت، الآية: 3.
(5) سورة الملك، الآية: 2.
(1) سورة الأنبياء، الآية: 35.
(2) سورة النمل، الآية: 40.
(1) سورة الأحزاب، الآيات: 10 ـ 12.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 22.
(3) سورة البقرة، الآية: 214.
(1) سورة يوسف، الآية: 87.
(2) سورة التوبة، الآية: 40.
(3) سورة آل عمران، الآية: 173.
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 174 ـ 175.
(2) سورة النساء، الآيتان: 97 ـ 98.
(1) سورة النساء، الآية: 76.
(2) سورة البقرة، الآيات: 155 ـ 157.
(3) سورة آل عمران، الآية: 186.
(4) سورة لقمان، الآية: 17.
(1) سورة الحشر، الآية: 18.
(1) سورة البقرة، الآية: 110.
(2) سورة البقرة، الآية: 197.
(3) سورة يوسف، الآية: 53.
(4) البحار، ج: 67، باب: 46، ص: 46.
(1) سورة النجم، الآية: 32.
(2) سورة التكوير، الآية: 28.
(1) البحار، ج: 72، باب: 65، ص: 398.
(2) البحار، ج: 72، باب: 40، ص: 295.
(3) سورة الحجرات، الآية: 12.
(4) سورة الحجرات، الآية: 12.
(5) سورة الإسراء، الآية: 53.
(1) البحار، ج: 71، باب: 10، ص: 105.
(2) البحار، ج: 71، باب: 15، ص: 146.
(3) البحار، ج: 71، باب: 20، ص: 175.
(4) سورة المائدة، الآية: 78.
(5) سورة المائدة، الآية: 79.
(1) سورة فصلت، الآية: 34.
(1) سورة المطففين، الآية: 6.
(2) سورة النحل، الآية: 111.
(3) سورة الانفطار، الآية: 19.
(4) سورة الصافات، الآية: 24.
(5) سورة غافر، الآية: 17.
(6) سورة الزلزلة، الآيتان: 7 ـ 8.
(1) سورة النور، الآية: 47.
(1) سورة النور، الآية: 48.
(2) سورة النساء، الآية: 59.
(3) سورة النور، الآية: 48.
(4) سورة النور، الآية: 49.
(5) سورة النور، الآية: 49.
(6) سورة البقرة، الآية: 10.
(7) سورة النور، الآية: 50.
(1) سورة النور، الآية: 51.
(1) سورة النور، الآية: 52.
(2) سورة الحشر، الآية: 20.
(1) سورة البقرة، الآية: 115.
(1) سورة النساء، الآية: 105.
(1) الكافي، ج: 7، ص: 414، رواية: 1.
(1) الحديث ورد بألفاظ مختلفة وقد أخرجه حفّاظ أهل السنة ومنهم البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل والبزار والبيهقي وغيرهم، للتوسع انظر (خصائص أمير المؤمنين عليّ ..) للنسائي طــ دار الكتاب العربي طــ 1987، تحقيق أبي إسحاق الأثري من الحديث رقم (11) إلى الحديث رقم (22).
(1) سورة آل عمران، الآية: 31.
(2) سورة آل عمران، الآية: 7.
(3) سورة غافر، الآية: 19.
(1) سورة النساء، الآية: 123.
(2) سورة الأنعام، الآية: 164.
(3) سورة مريم، الآيةك 95.
(4) سورة لقمان، الآية: 33.
(5) سورة الزلزلة، الآيتان: 7ــ 8.
(1) سورة الحجر، الآية: 47.
(1) سورة المجادلة، الآية: 9.
(1) سورة المجادلة، الآية: 9.
(2) سورة المجادلة، الآية: 9.
(3) سورة الغاشية، الآية: 25ـ 26.
(1) سورة المجادلة، الآية: 10.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 11.
(3) سورة الطلاق، الآية: 3.
(4) سورة الزمر، الآية: 36.
(1) سورة المطففين، الآية: 26.
(2) سورة النساء، الآية: 114.
(3) سورة التوبة، الآية: 105.
(1) سورة المائدة، الآيات: 54 ـ 56.
(1) سورة الحجرات، الآية: 17.
(2) سورة الأنعام، الآية: 33.
(3) سورة الغاشية، الآية: 21.
(4) سورة الشورى، الآية: 48.
(1) سورة طه، الآيتان: 125 ـ 126.
(1) سورة آل عمران، الآية: 31.
(1) نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب، الخطبة 184، ص 226.
(1) سورة آل عمران، الآية: 139.
(1) سورة البقرة، الآية: 257.
(2) سورة الأنفال، الآية: 24.
(1) سورة محمد، الآية: 7.
(2) سورة المجادلة، الآية: 22.
(3) البحار، ج64، باب 11، ص 123.
(1) سورة المجادلة، الآية: 22.
(2) سورة المجادلة، الآية: 22.
(3) سورة المجادلة، الآية: 19.
(4) سورة الحشر، الآية: 19.
(1) سورة فاطر، الآية: 6.
(2) سورة الأعراف، الآية: 15.
(3) سورة الأعراف، الآية: 16.
(4) سورة الأعراف، الآية: 17.
(5) سورة الإسراء، الآية: 65.
(6) سورة الحشر، الآية: 16.
(7) سورة إبراهيم، الآية: 22.
(8) سورة الزلزلة، الآيتان: 7 ـ 8.
(9) سورة إبراهيم، الآية: 22.
(1) سورة الأعراف، الآية: 21.
(2) سورة الأعراف، الآية: 20.
(3) سورة إبراهيم، الآية: 22.
(1) سورة البقرة، الآية: 194.
(2) سورة النحل، الآية: 126.
(3) سورة الشورى، الآية: 40.
(4) سورة الإسراء، الآية: 33.
(1) نهج البلاغة، الكتب والوصايا، ص: 362.
(2) نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب، قصار الحكم، ص: 414.
(1) سورة البقرة، الآية: 194.
(2) سورة البقرة، الآية: 237.
(3) سورة النحل، الآية: 126.
(4) سورة الشورى، الآية: 40.
(5) سورة النساء، الآية: 100.
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 133 ـ 134.
(2) سورة النساء، الآية: 149.
(3) البحار، ج: 66، باب: 38، ص 707، رواية: 84.
(1) سورة آل عمران، الآية: 26.
(2) البحار، ج: 68، باب: 64، ص: 345، رواية: 26.
(3) نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب، الكتاب: 53، ص: 321.
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) البحار، ج: 66، باب: 38، ص: 707، رواية: 84.
(3) سورة النساء، الآية: 149.
(1) سورة التحريم، الآية: 10.
(2) سورة الرعد، الآية: 23.
(3) سورة التحريم، الآية: 11.
(4) سورة التحريم، الآية: 11.
(1) سورة التحريم، الآية: 12.
(2) سورة آل عمران، الآية: 37.
(1) البحار، ج43، باب: 4، ص 253، رواية: 3.
(1) سورة الإنسان، الآية: 9.
(2) سورة الإنسان، الآية: 10.
(3) سورة الإنسان، الآيتان: 11ـ 12.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(1) سورة التوبة، الآية: 71.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(1) سورة آل عمران، الآية: 102.
(2) سورة الأنفال، الآية: 2.
(3) سورة البقرة، الآية: 165.
(1) سورة آل عمران، الآية: 102.
(2) سورة يوسف، الآية: 101.
(1) سورة فصلت، الآيات: 30 ـ 32.
(2) سورة آل عمران، الآية: 103.
(3) سورة الحجرات، الآية: 13.
(1) سورة آل عمران، الآية: 103.
(2) سورة آل عمران، الآية: 103.
(3) سورة الحجرات، الآية: 10.
(4) سورة آل عمران، الآية: 103.
(1) سورة آل عمران، الآية: 104.
(2) سورة آل عمران، الآية: 105.
(3) سورة آل عمران، الآية: 106.
(4) سورة التحريم، الآية: 8.
(5) سورة يونس، الآية: 27.
(6) سورة آل عمران، الآية: 107.
(1) سورة آل عمران، الآية: 108.
(2) سورة النحل، الآية: 118.
(3) سورة آل عمران، الآية: 109.
(1) سورة الشورى، الآية: 36.
(1) سورة السجدة، الآية: 17.
(1) سورة الشورى، الآية: 36.
(1) سورة الشورى، الآية: 37.
(2) سورة الشورى، الآيتان: 37 ـ 38.
(3) سورة الحج، الآيتان: 1 ـ 2.
(4) سورة التحريم، الآية: 6.
(1) سورة الحشر، الآيتان: 18 ـ 19.
(2) سورة الأنفال، الآية: 24.
(3) سورة الشورى، الآية: 38.
(4) سورة غافر، الآية: 60.
(5) سورة البقرة،الآية: 186.
(1) سورة العنكبوت، الآية: 45.
(2) سورة الشورى، الآية: 38.
(1) سورة الفتح، الآية: 29.
(1) سورة الشورى، الآية: 38.
(2) سورة الحديد، الآية: 7.
(3) سورة المعارج، الآية: 24 ـ 25.
(4) سورة الشورى، الآية: 39.
(5) سورة الشورى، الآية: 40.
(6) سورة النساء، الآية: 100.
(7) سورة الزمر، الآية: 10.
(1) سورة الشورى، الآية: 41.
(2) سورة الشورى، الآية: 42.
(3) سورة الشورى، الآية: 43.
(1) سورة البقرة، الآية: 207.
(1) سورة القصص، الآية: 83.
(1) نهج البلاغة، الإمام عليّ، الخطبة 131، ص: 134.
(2) الخطبة 234 من نهج البلاغة.
(1) البحار، ج: 75، باب: 25، ص 458.
(2) نهج البلاغة، الإمام عليّ، الوصية (47) ص 316.
(1) نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب، الكتاب: 45 ــ ص 312.
(2) نهج البلاغة، الإمام عليّ، الخطبة: 41، ص 44.
(2) المصدر السابق نفسه، باب الحكم، ص 434 طبعة المستشارية الثقافية الإيرانية ــ بدمشق.
(1) سورة النجم، الآية: 3.
(2) نهج البلاغة، الإمام عليّ، الخطبة 175، ص: 210 طبعة المستشارية الإيرانية، دمشق.
(1) سورة الأنفال، الآية: 24.
(1) سورة البقرة، الآية: 111.
(2) سورة الرعد، الآية: 11.
(3) سورة الأنفال، الآية: 53.
(1) سورة سبأ، الآية: 24.
(2) سورة الحشر، الآية: 2.
(3) سورة الفجر، الآيتان: 6 ــ 7.
(1) نهج البلاغة، الإمام علي، الخطبة 175، ص 210 طبعة المستشارية ـ دمشق.
(2) المصدر السابق نفسه والخطبة نفسها.
(1) نهج البلاغة، الإمام عليّ، الخطبة: 175، ص: 210 ـ 211، طبعة المستشارية، دمشق.
(2) المصدر السابق نفسه والخطبة نفسها.
(3) سورة الشورى، الآية: 15.
(1) سورة الحجرات، الآية: 10.
(2) نهج البلاغة، الإمام عليّ: الخطبة: 175، والنصوص اللاحقة من الخطبة نفسها.
(1) سورة الجمعة، الآيات: 2ـ4.
(2) سورة الإسراء، الآية: 1.
(1) سورة الفتح، الآية: 29.
(2) سورة التوبة، الآية: 128.
(1) نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب، الخطبة: 216، ص 244.
(1) سورة البقرة، الآية: 285.
(2) سورة آل عمران، الآية: 119.
(3) سورة العنكبوت، الآية: 46.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(1) البحار، ج 47، باب: 8، ص: 142.
(2) سورة العنكبوت، الآية: 69.
(3) سورة فصلت، الآية: 53.
(1) سورة الملك، الآية: 10.
(1) سورة الأعراف، الآية: 157.
(2) البحار، ج: 71، باب: 20، ص: 109.
(3) البحار، ج: 70، باب: 19، ص: 170.
(1) سورة آل عمران، الآية: 104.
(1) سورة يوسف، الآية: 111.
(1) نهج البلاغة، الإمام عليّ، الخطبة: 41، ص: 44.
(2) نهج البلاغة، الإمام عليّ، الخطبة: 3، ص 16.
(3) مقتل الحسين، محمد تقي بحر العلوم، ص 138، طـ بيروت، دار الزهراء، الثالثة/1992.
(1) مقتل الحسين، بحر العلوم، ص: 139.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 23.
(1) سورة المطففين: 26.
(1) سورة المؤمنون، الآية: 101.
(2) البحار، ج: 46، باب: 5، ص 316.
(3) سورة الحجرات، الآية: 13.
(1) البحار، ج: 7، باب: 133، ص 377.
(2) بحار، ج: 46، ص 73.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(2) سورة المطففين، الآية: 26.
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 33 ـ 34.
(1) سورة آل عمران، الآية: 35.
(2) سورة آل عمران، الآية: 36.
(1) سورة آل عمران، الآية: 36 ـ 37.
(2) سورة نوح، الآية: 17.
(3) سورة آل عمران، الآية: 37.
(4) سورة آل عمران، الآية: 38.
(1) سورة آل عمران، الآية: 42.
(2) سورة آل عمران، الآية: 43.
(3) سورة آل عمران، الآية: 44.
(4) سورة آل عمران، الآية: 45.
(1) سورة آل عمران، الآية: 46.
(2) سورة آل عمران، الآية: 47.
(3) سورة مريم، الآية: 16.
(1) سورة مريم، الآية: 17.
(2) سورة مريم، الآية: 18.
(3) سورة مريم، الآية: 19.
(4) سورة مريم، الآية 20.
(5) سورة يس، الآية: 82.
(6) سورة مريم، الآية: 21.
(1) سورة مريم، الآية: 23.
(2) سورة النساء، الآية: 28.
(3) سورة مريم، الآية: 24.
(4) سورة مريم، الآية 25ـ 26.
(5) سورة مريم، الآية: 26.
(6) سورة مريم، الآية: 27.
(7) سورة مريم، الآية: 28.
(8) سورة مريم، الآية: 29.
(1) سورة مريم، الآية: 30.
(2) سورة مريم، الآية: 31.
(3) سورة مريم، الآية: 32.
(4) سورة مريم، الآية: 33.
(5) سورة مريم، الآية: 34.
(6) سورة مريم، الآية: 35.
(7) سورة مريم، الآية: 36.
(1) سورة آل عمران، الآية: 48.
(2) سورة آل عمران، الآية: 49.
(3) سورة آل عمران، الآية: 49.
(4) سورة آل عمران، الآية: 50.
(5) سورة آل عمران، الآية: 51 ـ 52.
(1) سورة آل عمران، الآية: 52.
(2) سورة آل عمران، الآية: 53.
(3) سورة آل عمران، الآية: 54.
(4) سورة آل عمران، الآية: 59.
(5) سورة ص، الآية: 17ـ 72.
(6) سورة النساء، الآية: 171.
(7) سورة المائدة، الآية: 75.
(8) سورة النساء، الآية: 157.
(9) سورة النساء، الآيتان: 157 ـ 158.
(1) سورة المائدة، الآية: 116.
(2) سورة المائدة، الآية: 116 ـ 117.
(3) سورة المائدة، الآية: 118.
(4) سورة الصف، الآية: 6.
(5) سورة الصف، الآية: 14.
(1) البحار، ج: 36، باب: 41، ص 174.
(2) البحار، ج: 37، باب: 49، ص 275.
(1) سورة المائدة، الآية: 8.
(2) سورة النحل، الآية: 90.
(3) سورة الأنعام، الآية: 152.
(4) سورة النساء، الآية: 135.
(5) سورة الحديد، الآية: 25.
(1) سورة الحشر، الآية: 18.
(1) سورة الزمر، الآية: 15.
(2) سورة التوبة، الآية: 105.
(1) سورة المائدة، الآية: 15.
(2) سورة النساء، الآية: 82.
(1) سورة فصّلت، الآية: 42.
(2) سورة الحجر، الآية: 9.
(3) سورة الإسراء، الآية: 82.
(1) سورة البقرة، الآية: 70.
(2) البحار، ج: 22، ص: 31، باب: 37.
(1) سورة البقرة، الآية: 30.
(2) البحار، ج: 8، ص: 374، رواية: 2، باب: 28.
(1) سورة العنكبوت، الآية: 56.
(2) سورة النساء، الآية: 97.
(3) سورة النساء، الآية: 100.
(4) سورة البقرة، الآية: 141.
(5) سورة البقرة، الآية: 134.
(6) سورة يوسف، الآية: 111.
(1) سورة البقرة، الآية: 229.
(2) سورة البقرة، الآية: 230.
(1) سورة الكهف، الآية: 29.
(2) شرح نهج البلاغة، ابن رأبي الحديد، ج: 19، باب: 388، ص: 323.
(3) سورة النور، الآية: 54.
(4) سورة يونس، الآية: 99.
(5) سورة البقرة، الآية: 272.
(6) سورة النمل، الآية: 40.
(1) سورة طه، الآية: 1-2.
(2) سورة فاطر، الآية 8.
(1) سورة النور، الآية: 45.
(2) سورة البقرة، الآية: 212.
(3) سورة الرعد، الآية: 11.
(1) سورة الصافات، الآية: 102.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 36
(3) سورة التوبة، الآية: 16.
(1) سورة النساء، الآية: 165.
(2) سورة الكهف، الآية: 86.
(3) سورة الصافات، الآية: 96.
(1) سورة الأنعام، الآية: 52.
(2) البحار، ج: 7، باب: 12، ص 39.
(3) سورة الأنعام، الآية: 52.
(1) سورة الأنبياء، الآية: 107.
(2) سورة الأنفال، الآية: 33.
(1) سورة طه، الآية: 66.
(2) سورة الأنعام، الآية: 65.
(1) سورة التكوير، الآية: 29.
(2) سورة الرعد، الآية: 11.
(3) سورة الروم، الآية: 41.
(1) سورة المائدة، الآية: 35.
(2) سورة الشورى، الآية: 23.
(3) سورة الشعراء، الآية: 109.
(4) سورة سبأ، الآية: 47.
(5) سورة الأنعام، الآية: 90.
(1) البحار، ج: 44، باب: 20، ص: 483.
(2) سورة المسد، الآية: 1.
(3) سورة النساء، الآية: 43.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج13، باب: 38، ص: 197.
(1) سورة البيّنة، الآية: 1.
(2) سورة هود، الآية: 29.
(1) سورة الرعد، الآية: 43.
(2) سورة الفرقان، الآية: 32.
(1) سورة الحجرات، الآية: 6.
(1) سورة الإسراء، الآية: 36.
(1) البحار، ج: 71، ص: 186، رواية: 7، باب: 13.
(1) سورة الزخرف، الآية: 23.
(2) سورة البقرة، الآية: 170.
(3) سورة الزخرف، الآية: 24.
(1) سورة الزمر، الآية: 9.
(2) البحار، ج: 1، باب: 1، ص: 92.
(3) سورة الحاقة، الآية: 21.
(1) سورة الحديد، الآية: 25.
(1) سورة الزخرف، الآية: 23.
(2) سورة الزخرف، الآية: 24.
(3) سورة البقرة، الآية: 170.
(4) سورة آل عمران، الآية: 191.
(1) سورة الزمر، الآية: 9.
(2) سورة الرعد، الآية: 19.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 22.
(4) سورة الحشر، الآيتان: 18 ـ 19.
(5) سورة الإسراء، الآية: 36.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 9، باب: 141، ص: 72.
(2) سورة الحجرات، الآية: 6.
(3) سورة الحجرات، الآية: 12.
(4) سورة النساء، الآية: 83.
(1) البحار، ج: 4، ص: 118، رواية: 52، باب: 3.
(2) سورة الرعد، الآية: 39.
(3) سورة سبأ، الآية: 24.
(4) سورة سبأ، الآية: 24.
(1) سورة النحل، الآية: 12.
(2) سورة الزمر، الآية: 9.
(3) سورة ق، الآية: 37.
(4) سورة الملك، الآية: 10.
(5) سورة الحجر، الآية: 9.
(6) سورة فصلت، الآية: 42.
(1) البحار، ج: 2، ص: 235، رواية: 20، باب: 29.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 45 ـ 46.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 6.
(1) سورة محمد، الآية: 24.
(2) سورة النساء، الآية: 82.
(3) البحار، ج: 49، ص: 90، رواية 3، باب: 7.
(1) سورة يوسف، الآية: 33.
(2) سورة هود، الآية: 118.
(1) سورة يوسف، الآية: 33.
(2) سورة المائدة، الآية: 16.
(1) سورة الحشر، الآية: 7.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(1) سورة النجم، الآيتان: 8 ـ 9.
(2) سورة الإسراء، الآية: 85.
(1) سورة الإسراء، الآية: 85.
(2) سورة الواقعة، الآية: 79.
(1) سورة النور، الآية: 40.
(2) سورة المائدة، الآية: 15.
(3) سورة البقرة، الآية: 17.
(4) سورة يوسف، الآية: 110.
(1) سورة نوح، الآيات: 5 ـ 7.
(2) سورة نوح، الآيتان: 26 ـ 27.
(3) سورة البقرة، الآية: 214.
(4) سورة الحشر، الآية: 7.
(5) سورة آل عمران، الآية: 32.
(1) سورة العنكبوت، الآية: 48.
(2) سورة يونس، الآية: 16.
(3) سورة الشورى، الآية: 52.
(4) سورة النور، الآية: 35.
(1) سورة الأعراف، الآية: 159.
(2) سورة المائدة، الآية: 32.
(3) سورة عبس، الآية: 24.
(4) سورة عبس، الآيات: 25 ـ 28.
(1) سورة القصص، الآية: 85.
(2) سورة الحجّ، الآية: 67.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 53.
(1) سورة لقمان، الآية: 12.
(2) سورة الذاريات، الآية: 56.
(3) سورة فاطر، الآية: 15.
(4) سورة فاطر، الآية: 16 ـ 17.
(5) سورة الذاريات، الآية: 56.
(1) سورة النجم، الآية: 32.
(2) سورة الأعراف، الآية: 142.
(3) سورة البقرة، الآية: 60.
(1) سورة يوسف، الآية: 2.
(2) سورة الحجرات، الآية: 14.
(3) سورة الصف، الآيتان: 2 ـ 3.
(1) سورة الفرقان، الآية: 63.
(2) سورة الأعراف، الآية: 199.
(1) سورة النساء، الآية: 136
(2) سورة الصف، الآية: 2.
(3) سورة العنكبوت، الآية: 14.
(1) سورة الرعد، الآية: 11.
(2) سورة القصص، الآية: 77.
(1) سورة الفلق، الآية: 5.
(2) سورة البقرة، الآية: 26.
(3) سورة الحج، الآية: 73.
(1) سورة المنافقون، الآية: 3.
(2) سورة الأعراف، الآية: 43.
(3) سورة فصلت، الآيات: 30 ـ 32.
(1) سورة آل عمران، الآية: 36.
(1) سورة البقرة، الآية: 115.
(2) سورة البقرة، الآية: 257.
(1) سورة النور، الآية: 25.
(2) سورة المائدة، الآية: 15.
(3) سورة البقرة، الآية: 208.
(4) سورة النساء، الآية: 48.
(5) سورة النساء، الآية: 116.
(1) سورة النور، الآية: 26.
(2) سورة النور، الآية: 3.
(3) سورة الفرقان، الآية: 30.
(4) سورة الفجر، الآية: 21.
(1) سورة آل عمران، الآية: 169.
(2) سورة آل عمران، الآية: 170.
(3) سورة الملك، الآية: 22.
(1) سورة الحجر، الآية: 9.
(2) سورة الحاقة، الآية: 44.
(3) سورة الحاقة، الآيات: 45 ـ 47.
(4) سورة النحل، الآية: 43.
(5) سورة التوبة، الآية: 122.
(1) سورة النساء، الآية: 59.
(2) سورة الأنبياء، الآية:22.
(3) سورة المؤمنون، الآية: 91.
(4) سورة يس، الآية: 78.
(5) نهج البلاغة، الإمام علي، قصار الحكم: 126، ص: 371.
(1) سورة يونس، الآية: 59.
(2) سورة النحل، الآية: 93.
(1) نهج البلاغة، الإمام عليّ، الخطبة 1، ص: 7.
(1) سورة الذاريات، الآية: 56.
(1) سورة القيامة، الآية: 23.
(2) سورة الفجر، الآية: 22.
(3) سورة الأنعام، الآية: 103.
(4) سورة الشورى، الآية: 11.
(1) سورة الإنسان، الآية: 3.
(1) سورة النجم، الآيتان: 3 ـ 4.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(2) سورة الشرح، الآية: 6.
(3) سورة الحج، الآية: 78.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 2، باب: 42، ص: 319.
(2) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج:11، باب: 210، ص 102.
(3) سورة آل عمران، الآية: 66.
(1) سورة الحشر، الآية: 7.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(1) سورة آل عمران، الآية: 159.
(2) سورة التحريم، الآية: 1.
(1) سورة القلم، الآية: 4.
(2) البحار، ج: 59، ص: 291، رواية: 72، باب: 89.
(1) سورة الزمر، الآية: 12.
(1) سورة الأنعام، الآية: 15.
(2) سورة الحشر، الآية: 7.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(1) سورة الشورى، الآية: 52.
(2) سورة يونس، الآية: 16.
(1) سورة الفرقان، الآية: 32.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 27.
(3) سورة الكافرون، الآيات: 1 ـ 6.
(1) سورة الإسراء، الآيات: 73 ـ 75.
(2) سورة فصلت، الآية: 42.
(1) سورة الشورى، الآية: 52.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 18، باب: 92، ص: 252.
(2) سورة العنكبوت، الآية: 48.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 56.
(1) سورة الأنبياء، الآية: 69.
(1) سورة هود، الآية: 45 ـ 46.
(2) البحار، ج: 64، باب: 1، ص: 20.
(1) سورة النحل، الآية: 106.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 18، باب: 92، ص: 252.
(2) البحار، ج: 46، ص: 82، رواية: 75، باب: 5.
(1) شرح نهج البلاغة، ج: 1: باب: 3، ص: 202.
(2) نهج البلاغة، الإمام علي، الخطبة: 3، ص: 16.
(3) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 9، باب: 1306، ص: 31.
(4) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 6، باب: 73، ص: 166.
(1) الكافي، ج:2، ص: 74، رواية: 3.
(2) البحار، ج: 44، باب: 37، ص: 660.
(1) البحار، ج: 22، باب: 1، ص: 567.
(1) البحار، ج:2، باب: 23، ص: 178.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(3) سورة آل عمران، الآية: 31.
(4) سورة النساء، الآية: 59.
(1) سورة الأنفال، الآية: 24.
(2) البحار، ج: 43، ص: 291، رواية: 54، باب: 12.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 13، باب: 235، ص: 101.
(2) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 7، باب: 113، ص: 253.
(3) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 7، باب: 113، ص: 253.
(4) البحار، ج: 67، باب: 47، ص: 60.
(1) البحار، ج: 72، ص: 376، رواية: 34، باب: 82.
(1) البحار، ج: 1، ص: 96، رواية: 4، باب: 2.
(1) سورة النجم، الآية: 28.
(1) البحار، ج: 97، ص: 85، رواية: 57، باب: 1.
(1) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج: 18، باب: 143، ص: 346.
(1) سورة آل عمران، الآية: 33.
(1) سورة التوبة، الآية: 71.
(1) سورة المائدة، الآية: 67.
(1) البحار، ج:2، ص: 226، رواية: 3، باب: 29.
(2) سورة المائدة، الآية: 3.
(3) البحار، ج: 21، ص: 388، رواية: 10، باب: 36.
(4) البحار، ج: 33، ص: 266، رواية: 534، باب: 20.
(5) سورة الغاشية، الآية: 21 ـ 22.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 45 ـ 46.
(2) سورة الجمعة، الآية: 2.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 6.
(4) سورة المائدة، الآية: 67.
(5) سورة المائدة، الآية: 3.
(6) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 3، باب: 43، ص: 58.
(7) البحار، ج: 10، ص: 432، رواية: 12، باب: 26.
(1) سورة القصص، الآية: 83.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج1، باب: 3، ص: 200.
(3) سورة القصص، الآية: 83.
(4) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 1، باب: 3، ص: 200.
(5) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 1، باب: 3، ص: 202.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 13، باب: 235، ص: 101.
(2) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 10، باب: 176، : 13.
(3) شرح نهج البلاغة، ج: 18، باب: 143، ص: 346.
(4) الكافي، ج: 1، ص: 239، رواية: 1.
(5) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 10، باب: 193، ص: 211.
(6) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 10، باب: 193، ص: 211.
(1) سورة المائدة، الآية: 67.
(1) سورة الزمر، الآية: 12.
(1) سورة القصص، الآية: 83.
(2) نهج البلاغة، الإمام عليّ (عليه السلام)، الخطبة: 3، ص: 16.
(3) نهج البلاغة، الإمام عليّ (عليه السلام)، الخطبة: 136، ص: 138.
(1) لم نعثر على الحديث بلفظه في المتن ويمكن مراجعة ما أورده الاميني في كتاب الغدير عن الطبراني، ج1/ ص 181 وللتوسّع يراجع فصل المناشدة والاحتجاج بحديث الغدير.
(1) البحار، ج: 44، ص: 329، رواية: 2، باب: 37.
(2) سورة هود، الآية: 88.
(3) سورة آل عمران، الآية: 104.
(4) البحار، ج: 44، ص: 329، رواية: 2، باب: 37.
(5) البحار، ج: 44، ص: 381، رواية: 2، باب: 37.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(1) سورة التوبة، الآية: 71.
(1) سورة التوبة، الآية: 40.
(2) سورة آل عمران: 173.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(1) سورة الزمر، الآية: 9.
(1) سورة النساء، الآية: 97.
(2) البحار، ج: 54، ص: 234، رواية: 188، باب: 1.
(3) البحار، ج : 90، ص: 378، رواية: 21، باب: 24.
(1) سورة فصلت، الآية: 30.
(2) سورة الشورى، الآية: 15.
(3) سورة الرعد، الآية: 17.
(1) الصحيفة السجادية الكاملة، للإمام زين العابدين (عليه السلام)، دعاء يوم الأربعاء، ص: 371، دار الأضواء، بيروت.
(1) مفتاح الجنّات، الإمام السيد محسن الأمين، ج:3، دعاء زين العابدين (عليه السلام) في السحر، ص: 185، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ــ لبنان.
(1) سورة آل عمران، الآية: 104.
(2) سورة التحريم، الآية: 6.
(3) سورة الشعراء، الآية: 214.
(4) سورة طه، الآية: 132.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 9، باب: 151، ص: 146.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 17، باب: 47، ص: 5.
(2) البحار، ج: 75، ص: 325، رواية: 3، باب: 25.
(1) البحار، ج: 33، ص: 416، رواية: 628، باب: 24.
(2) سورة المائدة، الآية: 13.
(3) سورة الرعد، الآية: 11.
(4) سورة الروم، الآية: 41.
(1) سورة البقرة، الآية: 228.
(2) سورة البقرة، الآية: 187.
(1) سورة المائدة، الآية: 54.
(2) سورة الروم، الآية: 21.
(3) البحار، ج: 23، ص: 104، رواية: 1، باب: 7.
(4) سورة التحريم، الآية: 1.
(1) سورة النحل، الآية: 125.
(2) سورة البقرة، الآية: 214.
(3) سورة محمد، الآية: 31.
(4) نهج البلاغة، الخطبة 11، ص: 21.
(1) سورة آل عمران، الآية: 189.
(2) سورة يونس، الآية: 101.
(3) سورة يس، الآية: 40.
(4) سورة يس، الآية: 33.
(5) سورة الحج، الآية: 5.
(1) سورة القمر، الآية: 49.
(2) سورة الذاريات، الآية: 49.
(3) سورة الروم، الآية: 41.
(4) سورة البقرة، الآية: 134.
(5) سورة الرعد، الآية: 11.
(5) سورة الأنفال، الآية: 53.
(1) سورة البقرة، الآية: 43.
(2) سورة آل عمران، الآية: 159.
(3) سورة الشورى، الآية: 38.
(1) سورة يوسف، الآية: 87.
(2) سورة النور، الآية: 45.
(3) سورة الطلاق، الآية: 3.
(4) سورة النحل، الآية: 90.
(1) سورة الإسراء، الآية: 27.
(2) سورة الحج، الآية: 6.
(1) سورة البقرة، الآية: 219.
(1) سورة فصلت، الآية: 42.
(2) سورة الحجر، الآية: 9.
(1) سورة البقرة، الآية: 190.
(1) سورة الأنفال، الآية: 60.
(1) سورة الرعد، الآية: 11.
(1) سورة المائدة، الآية: 48.
(2) سورة يوسف، الآية: 103.
(3) سورة الحديد، الآية: 16.
(1) سورة النحل، الآية: 38.
(2) سورة البقرة، الآية: 104.
(3) سورة يوسف، الآية: 106.
(1) البحار، ج: 5، باب: 5، ص: 522.
(1) سورة الحج، الآية: 78.
(2) البحار، ج: 5، باب: 14، ص 621.
(1) سورة البقرة، الآية: 282.
(1) سورة الجمعة، الآية: 3.
(2) سورة الأعراف، الآية: 129.
(1) سورة التوبة، الآية: 71.
(1) سورة النساء، الآية: 19.
(1) سورة لقمان، الآية: 15.
(2) سورة لقمان، الآية: 15.
(1) سورة البقرة، الآية: 228.
(2) سورة النساء، الآية: 21.
(1) سورة لقمان، الآية: 15.
(1) سورة الزخرف، الآية: 77.
(1) سورة النساء، الآية: 34.
(1) سورة التحريم، الآية: 11.
(1) سورة النساء، الآية: 34.
(2) سورة النساء، الآية: 21.
(3) سورة البقرة، الآية: 228.
(4) سورة التوبة، الآية: 71.
(1) سورة النور، الآية: 2.
(1) سورة المائدة، الآية: 5.
(2) سورة البقرة، الآية: 285.
(1) سورة الإنسان، الآية: 3.
(2) سورة البلد، الآية: 10.
(3) سورة الأعراف، الآية: 172.
(1) سورة الروم، الآية: 30.
(1) سورة الحجرات، الآية: 12.
(1) سورة الشورى، الآية: 38.
(2) سورة آل عمران، الآية: 159.
(1) سورة الأعراف، الآية: 12.
(1) البحار، ج: 66، ص: 370، رواية: 13، باب: 38.
(2) مفتاح الجنات، السيد محسن الأمين، دعاء مكارم الأخلاق، ص: 299، دار المعارف للمطبوعات ــ بيروت.
(3) سورة البقرة، الآية: 284.
(1) دعاء الاثنين للإمام زين العابدين، مفاتيح الجنان، ص 54.
(1) سورة المائدة، الآية: 33.
(1) سورة المائدة، الآية: 38.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 15، باب: 28، ص: 181.
(2) سورة ق، الآيتان 17 ــ 18.
(3) سورة المائدة، الآية: 117.
(1) سورة النحل، الآية: 125.
(2) سورة آل عمران، الآية: 159.
(3) سورة الإسراء، الآية: 53.
(1) سورة النور، الآية: 60.
(1) سورة آل عمران، الآية: 175.
(1) سورة التوبة، الآية: 28.
(2) سورة الأنعام، الآية: 121.
(1) سورة الزمر، الآية: 53.
(2) سورة الشورى، الآية: 25.
(3) سورة البقرة، الآية: 222.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 32.
(1) سورة الطلاق، الآيتان: 2 ــ 3.
(2) سورة الزمر، الآية: 10.
(3) سورة لقمان، الآية: 17.
(4) سورة الطلاق، الآية: 7.
(1) سورة سبأ، الآية: 24.
(1) عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): نهج البلاغة، الخطبة 184، ص 224، مطبعة المستشارية الإيرانية ــ دمشق.
(2) سورة الأعراف، الآية: 199.
(3) سورة الفرقان، الآية: 63.
(4) سورة فصل، الآية: 34.
(1) البحار، ج: 67، ص: 116، باب: 57، ص 176.
(2) سورة النور، الآية: 31.
(1) سورة البقرة، الآية: 14.
(1) البحار، ج: 7، باب: 11، ص 376.
(2) سورة الصافات، الآية: 24.
(3) سورة النحل، الآية: 111.
(1) سورة القصص، الآية: 77.
(1) الصحيفة السجادية الكاملة، من أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام)، مناجاة التائبين، ص 382، دار الأضواء ــ بيروت.
(2) مفتاح الجنّات، السيد محسن الأمين، دعاء كميل، ص 137، دار التعارف للمطبوعات.
(3) دعاء أبي حمزة الثمالي.
(1) البحار، ج: 79، باب: 1، ص 573.
(2) البحار، ج: 79، باب: 1، ص 573.
(1) سورة آل عمران، الآية: 49.
(2) سورة النمل، الآية: 40.
(1) البحار، ج: 66، باب: 36، ص 622.
(2) سورة البقرة، الآية: 165.
(1) البحار، ج: 67، باب: 59، ص 204.
(2) سورة يوسف، الآية: 53.
(1) سورة الذاريات، الآية: 21.
(2) سورة غافر، الآية: 60.
(3) سورة البقرة، الآية: 186.
(4) سورة الأنفال، الآية: 2.
(1) سورة البقرة، الآية: 194.
(2) سورة الأعراف، الآية: 43.
(3) سورة الحجر، الآية: 47.
(1) البحار، ج: 45، باب: 37، ص 37.
(2) نهج البلاغة، علي بن أبي طالب: ص 406، المستشارية الثقافية الإيرانية ــ دمشق.
(1) مفاتيح الجنان، عباس القمّي، دعاء الافتتاح، ص 242، مؤسسة الأعلمي.
(2) سورة غافر، الآية: 60.
(1) الكافي، ج: 2، ص 324.
(1) البحار، ج: 86، باب: 86، ص 438.
(2) البحار، ج: 70، باب: 123، ص 370 ــ 371.
(3) البحار، ج: 70، باب: 132، ص 368.
(1) سورة غافر، الآية: 60.
(2) سورة آل عمران، الآية: 191.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 41.
(1) البحار، ج: 10، باب: 25، ص 461.
(2) سورة هود، الآية: 114.
(3) سورة البقرة، الآية: 115.
(1) سورة الشورى، الآية: 25.
(2) سورة البقرة، الآية: 222
(1) سورة البقرة، الآية: 183.
(2) البحار، ج: 84، باب: 81، ص 339.
(3) سورة البقرة، الآية: 185.
(4) سورة غافر، الآية: 60.
(5) سورة البقرة، الآية: 186.
(1) خطبة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في استقبال شهر رمضان، مفاتيح الجنان، عباس القمي، ص 235. مؤسسة الأعلمي.
(1) سورة هود، الآيتان: 118 ــ 119.
(2) سورة الشورى، الآية: 38.
(1) سورة آل عمران، الآية: 66.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(1) سورة الإسراء، الآية: 70.
(1) سورة النساء، الآية: 19.
(2) سورة البقرة، الآية: 229.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(1) سورة الواقعة، الآية: 79.
(1) سورة الحشر، الآية: 7.
(1) سورة الحج، الآية: 78.
(1) سورة النساء، الآية: 101.
(2) سورة البقرة، الآية: 158.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 32.
(1) البحار، العلامة المجلسي، ج: 68، ص 181، رواية: 36، باب: 64.
(1) سورة آل عمران، الآية: 159.
(1) سورة النور، الآية: 33.
(1) البحار، ج: 5، باب: 12، ص 611.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(2) سورة النور، الآية: 60.
(3) سورة النور، الآية: 31.
(1) سورة المائدة، الآية: 8.
(2) نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج: 18، باب: 18، ص 122.
(1) سورة المائدة، الآية: 5.
(1) سورة النساء، الآية: 119.
(2) سورة الروم، الآية: 30.