في رحاب
دعاء كميل
سماحة آية الله العظمى
السيّد محمّد حسين فضل الله (رضوان الله تعالى عليه)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
الدعاء مخ العبادة
يصرّح القرآن الكريم في سورة الذاريات أنّ غاية خلق الإنسان هي عبادة الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1). ولذا شكّلت عبادة الله تعالى محور الرّسالات السماوية على أنواعها، إذ الدِّين الحقّ ليس في جوهره إلاّ فعل إثبات وتأكيد لعبوديّة الإنسان لله تعالى، وكيفيّة تمثيل وتجسيد هذه العبودية في مختلف مناحي ودوائر ومفردات الحياة الشخصية والأُسريّة والاجتماعية، بل وحتى في الطبيعة والكون.
هذا التأكيد الجازم والمبرم مِن قِبَل الدّين على حصر العبودية بالله تعالى وحده، يضع الإنسان في مواجهة كلّ ما من شأنه أنّ يمسّ هذه الحصرية ولو بخدش بسيط، بل إنّ الدِّين الحقّ عندما يقطع بأن لا معبود إلاّ الله تعالى، يكون قد رسم معالِم العلاقة مع غير الله، هذه العلاقة جوهرها عدم الخضوع أو الاستسلام أو الانسحاق أو التضرّع لغيره، وبالتالي الاشتباك والتنابذ والتصارع مع أيّ لون من ألوان العبوديّات الأخرى. من هنا، كانت العبودية الصرف لله تعالى ثمرة الحريّة المطلقة إزاء كلّ ما هو غير الله حتى ولو كان هذا الغير نفس الذّات التي هي محور فاعلية العبودية نفسها، إذ إنّ واحداً من شروط العبوديّة الحقّة لله تعالى هو الخروج من بوتقة الذّات أو الأنا في اتّجاه تأكيد حقيقة الذّات الإلهية كحقيقة صرفة وحيدة. كما أنّ الحريّة الحقّة هي ثمرة العبوديّة المطلقة لله تعالى، فثمّة جدلية واضحة بين الحريّة والعبودية، فالحرّية هي ثمرة التقدّم على طريق العبودية لله تعالى، بحيث كلّما خطا الإنسان خطوة متقدّمة على هذا الطريق خطا خطوة مقابلة على طريق الحرّية، والعكس صحيح أيضاً.
هذا في جانب، وفي جانبٍ آخر؛ إذا كان الهدف يشكّل واقعاً خارجياً نسعى لإدراكه والاستحواذ عليه، فإنّ الباعث يشكّل معطىً داخلياً، فالشعور، مثلاً، بالجوع أو العطش هو معطى داخلي، وبالتالي باعث، يحضّنا على السعي في سبيل الطعام أو الماء، بينما نفس الطعام أو الماء هما الهدف الذي نرومه، ويكون سعينا ونشاطنا متوجّهاً إليه، فإنّ الله سبحانه وتعالى، عندما يجعل لخلقه هدفاً هو عبادته، فبالتأكيد لأنّ لهذا الهدف باعثه الداخلي في صميم الإنسان نفسه، حيث لا يمكن إشباعه إلاّ عن طريق العبادة نفسها، وإذا كانت العبادة هي عبادة الله تعالى لا مطلق عبادة، أي أنّ موضوع العبادة هو الله تعالى، فمنّ المؤكّد أنّ الباعث على العبادة هو جوع أو ظمأ وجودي عميق، لا يمكن أن يشبعه إلاّ الله تعالى. ولذا كانت العبادة فعل حنين وشوق وحبّ بل وعشق وجودي من المخلوق للخالق. وإذا كان الباعث هو علاقة نقص وفقر لدينا، تصبح عبادة الله تعالى هي الوسيلة الوحيدة بجبر هذا النقص، أو لرفع هذا الفقر، وبالتالي الوسيلة الوحيدة لاستكمال معالِم وجودنا برمّته.
ولا ريب في أنّ الإنسان كلّما ازداد وعياً وإدراكاً وشعوراً بفقره الذاتي، وجوعه الوجودي، أي كلّما ازداد معرفة بنفسه، استعرت في داخله نار الحنين والشوق والحبّ والعشق للهدف الذي يمكن أن يطفئ هذه النيران، لأنّ "مَنْ عرف نفسه عرفَ ربّه"، بينما كلّما افتتن الإنسان بما لديه وتوهّم أنّه غني وشبعان، انشغل بما في يديه عن حقيقة هدفه الذي ينبغي أن يرومه. فكما ليس كلّ طعامٍ بنافع، وليس كلّ شراب بسليم، فليس كلّ ما يقع بين أيدينا من أهداف يشكّل إصابة للواقع أو الحقّ. ولذا مَن ضيّع الله تعالى، وضيّع الطريق إليه، أضاع كلّ شيء حتى ولو فاز بكلّ شيء لأنّ ما فاز به ليس هو ما يحتاجه وجوده الحقّ، بينما مَنْ وجَدَ الله تعالى، وعرف الطريق إليه، والتزم هذا الطريق، فلا ريب في أنّه سيفوز بكلّ شيء، وإنْ لم يفز بشيء من بهاريج هذه الدنيا وزينتها.
وإذا كان للعبودية هذا الحضور المحوري في حياة الإنسان، فإنّ الحديث الشريف قد جعل لها عصباً مركزياً يمونها بمادّة الحياة الأساسية، هذا العصب هو الدعاء. فبحسب الحديث الشريف: "الدعاء مخّ العبادة"(1). ومخُّ الشيء خالصه. "والمخّ، أيضاً، هو الدماغ"(2). فبالاعتبار الأوّل، فإنّ عدَّ الدعاء مخّاً للعبادة قد يكون لأمرين: "أحدهما أنّه امتثال أمر الله تعالى حيث قال: {أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} هو محض العبادة وخالصها. والثاني أنّه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عن سواه ودعاه لحاجته وحده، وهذا هو أصل العبادة.."(3).
وأمّا الاعتبار الثاني، فإنّ عدَّ الدعاء بمثابة عقل ودماغ للعبادة، يُظهر وكأنّ الدعاء هو الذي يُمَوّن العبادة بالشرط الجوهري لكي تكون عبادة واعية، عبادة تملك أُفق عقلانيّتها أو كينونتها العقلانية في الحياة. ذلك أنّ اعتبار الدعاء مخَّاً للعبادة له جانبان: الأوّل، الإشارة إلى منزلة ومرتبة الدعاء بالقياس إلى سائر العبادات. والثاني، الإشارة إلى الدور الذي يجب أن يؤدّيه الدعاء في مسألة العبادة. هذا الدور الذي يماثل دور المخ أو الدماغ. ومن المعلوم أنّ المخ هو شرط الوعي والإدراك والتدبّر الذاتي، ومركز الانفعالات والأحاسيس والمشاعر. وإذا كان يفترض بالدعاء أنْ يشكّل مخّ العبادة أو دماغها، فهذا يعني أنّه يفترض به أن يمنح العبادة حضورها الواعي لذاتها ولموضوعها، ولجوهر مفهومها الحقّ، ولجذورها الأصلية. فالعبادة لا تستقيم مفهوماً ودوراً ما لم تصدر عن وعي الفقر الوجودي، بالظمأ الوجودي لله تعالى، وعن معرفة بالله تعالى كما عرّفنا هو نفسه وبالقدر المستطاع لنا. والدعاء في حقيقته يجسّد هذا الوعي، لأنّ جوهر الدعاء وسيلة مناجاة، ومناشدة، واستغاثة، وتضرّع، واستعانة.. وجهتها كلّها لله سبحانه وتعالى. وهذه في مجملها إنّما تعبّر أصدق تعبير عن عميق الحاجة إلى الله لأنَّ قاسمها المشترك الأكبر هو كونها تنطق بلسان الفقر والعوز الكلّي، وتبحث عن الغنى والكمال عند مَنْ يملك الغنى والكمال المطلقين أي الله تعالى.
ولأنّ الدعاء يجسّد في جوهره ـــ بوضوح ـــ هذا الفقر والارتباط بالمطلق، ولأنّ الوعي بهذا الفقر وبلزوم الارتباط بالمطلق يشكّل جوهر العبادة، بل وعصبها المركزي، كان الدعاء، ربّما، مخّ العبادة. فبدون هذا الوعي تفقد العبادة وجهتها وتضلّ طريقها وتأخذ لنفسها أشكالاً متنوّعة وأهدافا بعيدة كلّ البعد عن الهدف الحقّ.
ولعلّ في قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(1)، سياقها، والذي يؤكّده، أيضاً، الحديث الوارد عن زُرارة عن أبي جعفر عليه السلام) حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} قال: "هو الدعاء"(2).
فالاستكبار بما يجسّده من شعور بالانتفاخ والتضخّم والاستعلاء، وبالاكتفاء والاستقلال الذاتيين هو النقيض تماماً لما ينهض عليه الدعاء من شعور بالفقر والعوز والتواضع لله وعدم الاكتفاء أو الاستقلال بالذات أمام الله تعالى.
فالاستكبار يشكّل شعوراً مَرَضِيّاً، ووعياً ملتبساً وموهوماً، لأنّه يناقض حقيقة المعطي الوجودي للإنسان. فبمقدار ما يقطع الوضع الاستكبار أيّ صلة أو تواصل مع الله تعالى ومع المعاني الإلهية السامية، حيث يعيش المستكبر علاقة نرجسية انعكاسية مع نفسه، ويتّخذ من نفسه محوراً كونياً، فإنّ الداعي ـــ العابد يحفظ ويلزم "الخطّ المستمرّ الواصل بين الله وبين عباده، الذي يؤكّد وعي الإنسان معنى الألوهية في الله في علاقته بمعنى العبودية في الإنسان، في الإحساس بالفقر المطلق أمام الغنى المطلق، حيث يرتبط العبد بربّه من خلال ارتباط وجوده وكلّ حاجته به"(3).
من هنا كان الدعاء "يمثّل عمق العبادة، ومعنى الخضوع، ومضمون الشعور بالفقر المطلق والحاجة الكبيرة إلى الله. ممّا يجعل الداعي مشدوداً إلى الله بالحبّ والإيمان والإخلاص من موقع الطهارة الروحية والانفتاح الكلّي للعقل الباحث عن الله"(4).
ولأنّ الدعاء "مخّ العبادة"، فهو بالتأكيد "سلاح المؤمن، وعمود الدين, ونور السماوات والأرض"(1)، وهو بالتأكيد، أيضاً، "مقاليد الفلاح ومصابيح النجاح"(2)، ذلك أنّ الدعاء هو حبل السُّرّة الممدود بين الإنسان والله تعالى، هذا الحبل الذي يتغذّى بواسطته الإنسان بكلّ ما يلزمه من طاقات وقدرات معنوية تمكّنه من الخروج من ظلمات رحم التحدّيات، والمشاكل، والهموم، والمصاعب، والإخفاقات والإحباطات وما يمكن أن يترتّب عليها من يأس أو قنوط، إلى نور الوجود المشرق بالأمل والكمال المعنوي والوجوي. هذا الرفد المعنوي الإلهي الذي يمنحه الدعاء للإنسان المؤمن، وما يترتّب عليه من طهارة، بل وما يستلزمه من طهارة ذاتية وموضوعية، ويجعل منه نوراً إلهياً تتكشَّف به أعماق السماوات وآيات الأرض لأنّ الداعي الذي يغتسل بنار التوبة ولهيب الندم والحسرة، والذي يعجن قلبه في معجن الرحمة والنور الإلهيّين، والذي يزرع في ثناياه بذور خميرة الحبّ لله تعالى، ليخرج من هذا كلّه إنساناً آخر، إنساناً ينظر بنور الله تعالى، ولذا كان الدعاء "نور السَّماوات والأرض"، أي فعلاً تتكشّف به للداعي عوالِم الملكوت والناسوت معاً في وحدة متكاملة لا انفصام لعراها.
ولعلّه في هذا السياق يمكن إدراج وصيّة الإمام عليّ (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) حيث قال: "اعلم أنّ الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذِنَ لدعائك، وتكفّل لإجابتك، وأمرك أن تسأله فيعطيك، وهو رحيم كريم، لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى مَن يشفع لك إليه.. ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه، لِمَا أذِنَ فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه.."(3).
فالدعاء هو مفتاح خزائن الله. "خزائن ملكوت الدنيا والآخرة"، وهذا المفتاح يسَّره الله تعالى للإنسان، وجعله في متناول يده، من غير شفيعٍ أو وسيط.
من هنا، كان من يمتلك حقيقة الدعاء، يتمكّن من أن يمتلك مفتاح خزائن الله تعالى. كما أنّ الدعاء ليس فقط علاقة مع الله تعالى، وإنّما، أيضاً، علاقة مع كلّ مخلوقات الله تعالى، لأنّ خزائن الله، خزائن ملكوت الدنيا والآخرة، هي خزائن موجودات الله تعالى في كلّ صورها ومراتبها.
فالدعاء بقدر ما يفتح قلب الإنسان وعقله على علاقة عضوية بالله تعالى، فإنّه من خلال هذه العلاقة، يفتح قلب الإنسان وعقله، على علاقة اتصال وثيق بموجودات ومخلوقات الله تعالى، ما ظهر منها وما بطَن، ليغرف ويعبَّ من جواهرها وأسرارها بقدر استطاعته.
ولعلّه في هذا تحديداً يكمن المعنى الأعمق لكون الدعاء "سلاح المؤمن" ولكونه "مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح".
هذه القيمة السامية والمرموقة للدعاء هي التي تفسِّر الحضور الغني والكثيف الدلالات والمعاني العقلية والروحية في أدعية الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته من الأئمة المعصومين (عليهم السلام).. وهي أدعية لا تجسّد تجارب روحية خالصة فحسب، بل تجسّد، أيضاً، حاجات الإنسانية المتنوّعة القضايا والمشاكل والآلام، وتعكسها في فعل روحي ميتافيزقي غني بالمعارف الإلهيّة الحقّة. فهذه الأدعية، على تنوّعها، وتباين ظروفها وتجاربها، جسَّدت ملتقى فريداً وتميّزاً لعالم الناسوت بعالم الملكوت، وبنسيج توحيدي خالص، فكان أنْ تحوّلت إلى ينابيع فوّارة بالمعاني الإلهية ـــ الإنسانية السامية التي لا تنضب.
ومن جملة هذه الأدعية يبرز دعاء كميل كمثل بارز على هذا الصعيد. هذا الدعاء المشهور بنسبته للإمام عليّ (عليه السلام)، حيث لا يشكّ أحد بصدوره عنه (عليه السلام)، وبأنّه ألقاه على كميل بن زياد النخعي. وإذا كان الإمام (عليه السلام)، قد نسب هذا الدعاء إلى الخضر (عليه السلام)، فإنّ مضمون هذه النسبة يبقى متراوحاً بين احتمالين أساسيين: الأوّل، أن تكون النسبة هي فقط لمضمون الدعاء دون ألفاظه وتعابيره، أي أنْ تكون صياغة مضمونة هي للإمام عليّ (عليه السلام).
والثاني، أن تكون النسبة كاملة، أي باللّفظ والمعنى معاً، وفي مطلق الأحوال، يبقى المؤكّد في هذا كلّه، أنّ هذا الدعاء هو من إملاء الإمام عليّ (عليه السلام) على كميل بن زياد. أمّا مناسبة الإملاء، فبحسب ما يروي كميل، وتذكره الأحاديث المعتبرة، أنّ كميلاً كان جالساً مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد البصرة، ومعه جماعة من أصحابه، فقال بعضهم: ما معنى قوله (عزّ وجلّ): {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(1)؟.
قال (عليه السلام)، ليلة النصف من شعبان، والذي نفس عليّ بيده أنّه ما من عبدٍ إلاّ وجميع ما يجري عليه من خير وشرّ مقسوم له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة، في مثل تلك الليلة المقبلة، وما من عبدٍ يحييها، ويدعو بدعاء الخضر (عليه السلام)، إلاّ أُجيبَ له فلمّا انصرف طرقته ليلاً فقال (عليه السلام):
ـــ ما جاء بكَ يا كميل؟
ـــ قلت يا أمير المؤمنين دعاء الخضر.
فقال: اجلس يا كميل، إذا حفظت هذا الدعاء، فادعُ به كلّ ليلة جمعة، أو في الشهر مرّة، أو في السنة مرّة، أو في عمرك مرّة تُكْفَ وتنصر، وترزق، ولن تعدم المغفرة. يا كميل أوجب لك طول الحصبة أن نجود لك بما سألت، ثمّ قال: "الّلهم إنّي أسألك برحمتك التي وَسِعَتْ كلّ شيء.." إلى آخر الدعاء(2).
أمّا كميل هذا فقد تباينت مواقف المؤرّخين في التعبير عن نسبته إلى الإمام عليّ (عليه السلام). فالبعض منهم عدّه تلميذاً للإمام (عليه السلام)، والبعض الآخر وصفه بأنّه من شيعته وخاصّته". وثمّة من اعتبره "من المفرطين في عليّ (عليه السلام) وممّن يروي عنه المعضلات". كما عدّه آخرون أنّه "كان من كبار أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وولده الحسن (عليه السلام)".
وأمّا المترجمون لسيرته فقد أجمعوا على أنّه "كان رجلاً ركيناً، وكان له إدراك، وكان شريفاً مطاعاً في قومه، وكان من أجلّاء علماء وقته، وعقلاء زمانه، ونسّاك عصره، وفضلاء أوانه، وكان من رؤساء الشيعة، وذكر في جملة عبّاد أهل الكوفة.."(1).
ولعلّ هذا ما يفسّر سبب تعيينه والياً على "هيت"، وهي بلدة تقع على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار، مِنْ قِبَل الإمام عليّ (عليه السلام). حيث إنّ هذه البلدة كانت آنذاك تتمتّع بموقع استراتيجي، فهي تتّصل ببادية الشام، الأمر الذي يجعلها تقع على الحدود بين العراق وسوريا التي كانت مركز الثقل للأمويين المناوئين لعليّ (عليه السلام).
وقد كان لكميل هذا نهاية مأساوية، كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حدّثه عنها، وعلى يدِ مَنْ تكون. وبحسب المؤرّخين، فإنّ كميلاً قُتِلَ صابراً محتسباً على يد الحجّاج، وكان عمره حوالي سبعين عاماً. ولكميل اليوم قبر معروف يقع في أحد الأحياء الجديدة يطلق عليه اسم (حي الحنانة)، وهو بالقرب من (الحنانة) الجامع المعروف عند النجفيّين.
وبالإسناد إلى ما تقدّم، ونظراً للغنى الروحي الخاص الذي يمتاز به دعاء كميل، والأهمية الاستثنائية التي يتمتّع بها سواء في الاعتقاد الشيعي الخاص، أو بالنسبة لعموم المؤمنين، عمد المركز الإسلامي الثقافي إلى جمع التفسير الخاص الذي قام به سماحة العلاّمة المرجع آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، والذي سبق له أن قدّمه عبر حلقات عدّة كدروس في المسجد، نظراً لما في هذه الحلقات من بُعد نظر، وقدرة على تلمّس معاني الدعاء الدقيقة، بأسلوب عملي امتاز به السيّد، يجعل هذه المعاني في متناول الجمهور، من دون أن يؤثّر على دقّتها ورقّتها. هذا فضلاً عمّا تمتاز به من جدّة لعلّ مصدرها الأساسي هو قدرة العلاّمة فضل الله على تحويل المعاني المجرّدة إلى واقعٍ حيّ مَعيش، أي إعطاء الكلمات والمعاني الكبيرة قدمين تمشي بهما بين الناس، ولساناً سلس العبارة، واضح المراد يستطيع الاتصال بالآخرين والنفاذ إلى عقولهم وقلوبهم، هذا فضلاً عن قدرة العلاّمة فضل الله على إقامة حوار منتج وعملي بين مشاكل الواقع وتحدّياته وإشكالاته وبين مرجعيّاتنا العقيدية والفكرية والتي منها الدعاء.
وهذا التفسير، يشكّل في الحقيقة الحلقة الثانية من سلسلة تفسير لأدعية أخرى، ستصدر تباعاً إنْ شاء الله، تحت عنوان مشترك هو "في رحاب الدعاء".
وكلّ ما نرجوه من الله السميع المجيب أن يوفّقنا لأداء حقّه، وتحصيل رضاه، آملين أن يرى القرّاء الأعزّاء، في هذا السِّفر المتواضع، ثمرة تعينهم على دينهم ودنياهم.
والله من وراء القصد
المركز الإسلامي الثقافي
اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِقُوَّتِكَ الَّتِي قَهَرْتَ بِها كُلَّ شَيْءٍ، وَخَضَعَ لَها كُلُّ شَيْءٍ، وَذَلَّ لَها كُلُّ شَيْءٍ، وَبِجَبَرُوتِكَ الَّتِي غَلَبْتَ بِها كُلَّ شَيْءٍ، وَبِعِزَّتِكَ الَّتِي لا يَقُومُ لَها شَيْءٌ، وَبِعَظَمَتِكَ الَّتِي مَلأَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِسُلْطَانِكَ الَّذِي عَلا كُلَّ شَيْءٍ، وَبِوَجْهِكَ الْبَاقِي بَعْدَ فَناءِ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِأَسْمَائِكَ الَّتِي مَلأَتْ [غَلَبَتْ] أَرْكَانَ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِعِلْمِكَ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَبِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَضَاءَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، يا نُورُ يَا قُدُّوسُ، يا أَوَّلَ الأَوَّلِينَ، وَيا آخِرَ الآخِرِينَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ الْعِصَمْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْبِسُ الدُّعَاءْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ الْبَلاءَ، الَّلهُمَّ اغْفِرْ لِي كُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ خَطِيئَةٍ أَخْطَأْتُها، الَّلهُمَّ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِذِكْرِكَ، وَأَسْتَشْفِعُ بِكَ إلَى نَفْسِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ أَنْ تُدْنِيَنِي مِنْ قُرْبِكَ، وَأَنْ تُوزِعَنِي شُكْرَكْ، وَأَنْ تُلْهِمَنِي ذِكْرَك.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ سُؤالَ خَاضِعٍ مُتَذَلِّلٍ خاشِعٍ، أَنْ تُسامِحَنِي وَتَرْحَمَنِي، وَتَجْعَلَنِي بِقَسْمِكَ راضِياً قانِعاً، وَفِي جَمِيعِ الأَحْوالِ مُتَوَاضِعاً. اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ سُؤالَ مَنْ اشْتَدَّتْ فَاقَتُهُ، وَأَنْزَلَ بِكَ عِنْدَ الشَّدائِدِ حَاجَتَهُ، وَعَظُمَ فِيما عِنْدَكَ رَغْبَتُهُ، الَّلهُمَّ عَظُمَ سُلْطَانُكَ وَعَلا مَكانُكَ، وَخَفِيَ مَكْرُكَ وَظَهَرَ أَمْرُكَ، وَغَلَبَ قَهْرُكَ وَجَرَتْ قُدْرَتُكَ، وَلا يُمْكِنُ الْفِرَارُ مِنْ حُكُومَتِكَ، اللَّهُمَّ لا أَجِدُ لِذُنَوبِي غَافِراً وَلاَ لِقَبَائِحي ساتِراً، وَلا لِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِي الْقَبِيحِ بِالْحَسَنِ مُبَدِّلاً غَيْرَك، لا إلَهَ إلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَتَجَرَّأْتُ بِجَهْلِي، وَسَكَنْتُ إلَى قَدِيمِ ذِكْرِكَ لِي وَمَنِّكَ عَلَيَّ، الَّلهُمَّ مَوْلاَيَ كَمْ مِنْ قَبِيحٍ سَتَرْتَهُ، وَكَمْ مِنْ فادِحٍ مِنَ الْبَلاَءِ أَقَلْتَهُ، وَكَمْ مِنْ عِثارٍ وَقَيْتَهُ، وَكَمْ مِنْ مَكْرُوهٍ دَفَعْتَهُ، وَكَمْ مِنْ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ لَسْتُ أَهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ، اللَّهُمَّ عَظُمَ بَلائِي وَأَفْرَطَ بِي سُوءُ حالِي، وَقَصُرَتْ بِي أَعْمالِي، وَقَعَدَتْ بِي أَغْلالِي، وَحَبَسَنِي عَنْ نَفْعِي بُعْدُ آمَالِي وَخَدَعَتْنِي الدُّنْيَا بِغُرُورِها، وَنَفْسِي بِخِيَانَتِها، وَمِطالِي يَا سَيِّدي فَأَسْأَلُكَ بِعِزَّتِكَ أَنْ لاَ يَحْجُبَ عَنْكَ دُعائِي سُوءُ عَمَلِي وَفِعالِي، وَلاَ تَفْضَحْنِي بِخَفِيِّ مَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنْ سِرِّي، وَلاَ تُعاجِلْنِي بِالْعُقُوبَةِ عَلَى ما عَمِلْتُهُ فِي خَلَوَاتِي مِنْ سُوءِ فِعْلِي وَإِسَاءَتِي، وَدَوامِ تَفْرِيطِي وَجَهَالَتِي، وَكَثْرَةِ شَهَوَاتِي وَغَفْلَتِي، وَكُنِ اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لِي فِي الأَحْوَالِ رَؤُوفاً، وَعَلَيَّ فِي جَميعِ الأُمُورِ عَطُوفاً، إلهي وَرَبِّي مَنْ لِي غَيْرُكَ أَسْأَلُهُ كَشْفَ ضُرِّي وَالنَّظَرَ فِي أَمْرِي، إلهِي وَمَوْلاَيَ أَجْرَيْتَ عَلَيَّ حُكْماً اتَّبَعْتُ فِيْهِ هَوَى نَفْسِي وَلَمْ أَحْتَرِسْ فِيهِ مِنْ تَزْيِينِ عَدُوّي، فَغَرَّنِي بِما أَهْوَى وَأَسْعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَضَاءُ فَتَجاوَزْتُ بِما جَرَى عَلَيَّ مِنْ ذلِكَ بَعْضَ حُدُودِكَ، وخَالَفْتُ بَعْضَ أَوَامِرِكَ، فَلَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ، وَلاَ حُجَّةَ لِي فِيما جَرَى عَلَيَّ فِيهِ قَضاؤُكَ، وَأَلْزَمَنِي حُكْمُكَ وَبَلاؤُكَ، وَقَدْ أَتَيْتُكَ يَا إلهِي بَعْدَ تَقْصِيرِي وَإِسْرَافِي عَلَى نَفْسِي مُعْتَذِرَاً نَادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقِيلاً مُسْتَغْفِراً مُنِيباً مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاً، لا أَجِدُ مَفَرّاً مِمَّا كانَ مِنِّي وَلاَ مَفْزَعَاً أَتَوَجَّهُ إلَيْهِ فِي أَمْرِي، غَيْرَ قَبُولِكَ عُذْرِي وَإِدْخَالِكَ إيَّايَ فِي سَعَةٍ مِنْ رَحْمَتِك، اللَّهُمَّ فَاقْبَلْ عُذْرِي وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرِّي، وَفُكَّنِي مِنْ شَدِّ وَثاقِي، يَا رَبِّ ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَنِي وَرِقَّةَ جِلْدِي وَدِقَّةَ عَظْمِي، يَا مَنْ بَدَأَ خَلْقِي وَذِكْرِي وَتَرْبِيَتِي وَبِرِّي وَتَغْذِيَتِي، هَبْنِي لابْتِدَاءِ كَرَمِكَ وَسالِفِ بِرِّكَ بِي، يا إلهِي وَسَيِّدِي وَرَبِّي، أَتُراكَ مُعَذِّبِي بِنارِكَ بَعْدَ تَوْحِيدِكَ، وَبَعْدَما انْطَوَى عَلَيْهِ قَلْبِي مِنْ مَعْرِفَتِكَ، وَلَهِجَ بِهِ لِسَانِي مِنْ ذِكْرِكَ، وَاعْتَقَدَهُ ضَمِيرِي مِنْ حُبِّكَ، وَبَعْدَ صِدْقِ اعْتِرافِي وَدُعَائِي خَاضِعاً لِرُبُوبِيَّتِكَ، هَيْهَاتَ أَنْتَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تُضَيِّعَ مَنْ رَبَّيْتَهُ، أَوْ تُبَعِّدَ مَنْ أَدْنَيْتَهُ، أَوْ تُشَرِّدَ مَنْ آوَيْتَهُ، أَوْ تُسَلِّمَ إلَى الْبَلاَءِ مَنْ كَفَيْتَهُ وَرَحِمْتَهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي يا سَيِّدِي وَإلَهِي وَمَوْلايَ، أَتُسَلِّطُ النَّارَ عَلَى وُجُوهٍ خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَعَلَى أَلْسُنٍ نَطَقَتْ بِتَوْحِيدِكَ صادِقَةً، وَبِشُكْرِكَ مادِحَةً، وَعَلَى قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بِإلهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً، وَعَلَى ضَمائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتَّى صارَتْ خاشِعَةً، وَعَلَى جَوَارِحَ سَعَتْ إلَى أَوْطَانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً، وَأَشَارَتْ بِاسْتِغْفَاركَ مُذْعِنَةً، ما هَكَذا الظَّنُّ بِكَ وَلا أُخْبِرْنَا بِفَضْلِكَ عَنْكَ يا كَرِيمُ، يا رَبِّ وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاءِ الدُّنْيَا وَعُقُوباتِها، وَما يَجْرِي فِيها مِنَ الْمَكارِهِ عَلَى أَهْلِهَا، عَلَى أَنَّ ذلِكَ بَلاءٌ وَمَكْرُوهٌ، قَلِيلٌ مَكْثُهُ، يَسِيرٌ بَقَاؤُهُ، قَصِيرٌ مُدَّتُهُ، فَكَيْفَ احْتِمَالِي لِبَلاَءِ الآخِرَةِ وَجَلِيلِ وُقُوعِ الْمَكَارِهِ فِيها، وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ، وَيَدُومُ مُقامُهُ، وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْ أَهْلِهِ، لأَنَّهُ لا يَكُونُ إلاَّ عَنْ غَضَبِكَ وَانْتِقَامِكَ وَسَخَطِكَ، وَهَذَا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّمَاواتُ وَالأرْضُ، يا سَيِّدِي فَكَيْفَ بِي وَأَنَا عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ، الْحَقِيرُ الْمِسْكِينُ المُسْتَكِين، يا إلَهي وَرَبِّي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ، لأَيِّ الأُمُورِ إلَيْكَ أَشْكو، وَلِمَا مِنْهَا أَضِجُّ وَأَبْكِي، لِأَلِيمِ الْعَذَابِ وَشِدَّتِهِ أَمْ لِطُولِ الْبَلاءِ وَمُدَّتِهِ، فَلَئِنْ صَيَّرْتَنِي لِلْعُقُوبَاتِ مَعَ أَعْدَائِكَ، وَجَمَعْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِ بَلائِكَ، وَفَرَّقْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحِبَّائِكَ وَأَوْلِيائِكَ، فَهَبْنِي يا إلهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاَيَ وَرَبِّي صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ، وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلَى كَرامَتِكَ، أَمْ كَيْفَ أَسْكُنُ فِي النَّارِ وَرَجَائِي عَفْوُكَ، فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدِي وَمَوْلايَ أُقْسِمُ صادِقاً، لَئِنْ تَرَكْتَنِي ناطِقاً لأَضِجَّنَّ إلَيْكَ بَيْنَ أَهْلِها ضَجِيجَ الآمِلِينَ، وَلأَصْرُخَنَّ إِلَيْكَ صُرَاخَ الْمُسْتَصْرِخِينَ، وَلأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الْفَاقِدِينَ، وَلأُنَادِيَنَّكَ أَيْنَ كُنْتَ يَا وَلِيَّ الْمُؤْمِنِينَ، يا غَايَةَ آمَالِ الْعَارِفِينَ، يا غِيَاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ، يا حَبِيبَ قُلُوبِ الصَّادِقِينَ، وَيَا إلَهَ الْعالَمِينَ، أَفَتُراكَ سُبْحَانَكَ يا إلَهِي وَبِحَمْدِكَ تَسْمَعُ فِيْهَا صَوْتَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ سُجِنَ فِيها بِمُخَالَفَتِهِ، وَذَاقَ طَعْمَ عَذَابِهَا بِمَعْصِيَتِهِ، وَحُبِسَ بَيْنَ أَطْبَاقِها بِجُرْمِهِ وَجَرِيرَتِهِ، وَهُوَ يَضِجُّ إلَيْكَ ضَجِيجَ مُؤَمِّلٍ لِرَحْمَتِكَ، وَيُنادِيكَ بِلِسَانِ أَهْلِ تَوْحِيدِكَ، وَيَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِرُبُوبِيَتِّكَ، يَا مَوْلايَ فَكَيْفَ يَبْقَى فِي الْعَذَابِ وَهُوَ يَرْجُو ما سَلَفَ مِنْ حِلْمِكَ، أَمْ كَيْفَ تُؤْلِمُهُ النَّارُ وَهُوَ يَأْمُلُ فَضْلَكَ وَرَحْمَتَكَ، أَمْ كَيْفَ يُحْرِقُهُ لَهِيبُهَا وَأَنْتَ تَسْمَعُ صَوْتَهُ وَتَرَى مَكَانَهُ، أَمْ كَيْفَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ زَفِيرُها وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفَهُ، أَمْ كَيْفَ يَتَقَلْقَلُ بَيْنَ أَطْبَاقِها وَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَهُ، أَمْ كَيْفَ تَزْجُرُهُ زَبَانِيَتُهَا وَهُوَ يُنادِيكَ يا رَبَّه، أَمْ كَيْفَ يَرْجُو فَضْلَكَ فِي عِتْقِهِ مِنْهَا فَتَتْرُكَهُ فيها، هَيْهَاتَ ما ذَلِكَ الْظَّنُ بِكَ وَلاَ الْمَعْرُوفُ مِنْ فَضْلِكَ، وَلاَ مُشْبِهٌ لِمَا عَامَلْتَ بِهِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ بِرِّكَ وَإِحْسَانِكَ، فَبِالْيَقِينِ أَقْطَعُ، لَوْلا ما حَكَمْتَ بِهِ مِنْ تَعْذِيبِ جَاحِدِيكَ، وَقَضَيْتَ بِهِ مِنْ إِخْلادِ مُعَانِدِيكَ، لَجَعَلْتَ النَّارَ كُلَّهَا بَرْدَاً وَسَلاماً، وَما كانَتْ لِأَحَدٍ فِيها مَقَرّاً وَلاَ مُقَاماً، لَكِنَّكَ تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ أَقْسَمْتَ أَنْ تَمْلأَها مِنَ الْكَافِرِينَ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ تُخَلِّدَ فِيهَا الْمُعَانِدِينَ، وَأَنْتَ جَلَّ ثَناؤُكَ قُلْتَ مُبْتَدِئاً، وَتَطَوَّلْتَ بِالإِنْعَامِ مُتَكَرِّمَاً، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ. إلَهِي وَسَيِّدِي، فَأَسْأَلُكَ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي قَدَّرْتَها، وَبِالْقَضِيَّةِ الَّتِي حَتَمْتَها وَحَكَمْتَها، وَغَلَبْتَ مَنْ عَلَيْهِ أَجْرَيْتَهَا، أَنْ تَهَبَ لِي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ، كُلَّ جُرْمٍ أَجْرَمْتُهُ، وَكُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ قَبِيحٍ أَسْرَرْتُهُ، وَكُلَّ جَهْلٍ عَمِلْتُهُ، كَتَمْتُهُ أَوْ أَعْلَنْتُهُ، أَخْفَيْتُهُ أَوْ أَظْهَرْتُهُ، وَكُلَّ سَيِّئَةٍ أَمَرْتَ بِإثْباتِهَا الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ، الَّذِينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ مَا يَكُونُ مِنِّي، وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيَّ مَعَ جَوارِحِي، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشَّاهِدَ لِمَا خَفِيَ عَنْهُمْ وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ، وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ، وَأَنْ تُوَفِّرَ حَظِّي مِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَنْزَلْتَهُ أَوْ إِحْسانٍ تُفضِلُهُ أَوْ بِرٍّ تَنْشُرُهُ، أَوْ رِزْقٍ تَبْسُطُهُ، أَوْ ذَنْبٍ تَغْفِرُهُ، أَوْ خَطَأٍ تَسْتُرُهُ يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ، يا إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَمَالِكَ رِقِّي، يا مَنْ بِيَدِهِ ناصِيَتِي، يا عَلِيماً بِضُرِّي وَمَسْكَنَتِي، يا خَبِيراً بِفَقْرِي وَفَاقَتِي، يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ، أَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ وَقُدْسِكَ وَأَعْظَمِ صِفَاتِكَ وَأَسْمَائِكَ، أَنْ تَجْعَلَ أَوْقَاتِي في اللَّيْلِ وَالْنَّهَارِ بِذِكْرِكَ مَعْمُورَةً، وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً، وَأَعْمالِي عِنْدَكَ مَقْبُولَةً، حَتَّى تَكُونَ أَعْمَالِي وَأَوْرَادِي كُلُّها وِرْداً واحِداً، وَحَالِي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَداً، يَا سَيِّدِي يا مَنْ عَلَيْهِ مُعَوَّلِي، يا مَنْ إِلَيْهِ شَكَوْتُ أَحْوالِي، يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ، قَوِّ عَلَى خِدْمَتِكَ جَوَارِحِي، وَاشْدُدْ عَلَى الْعَزِيْمَةِ جَوَانِحِي، وَهَبْ لِيَ الْجِدَّ فِي خَشْيَتِكَ، وَالْدَّوَامَ فِي الاتِّصالِ بِخِدْمَتِكَ، حَتَّى أَسْرَحَ إلَيْكَ فِي مَيَادِينِ السَّابِقِينَ، وَأُسْرِعَ إِلَيْكَ فِي الْمُبَادِرِينَ وَأَشْتَاقَ إلَى قُرْبِكَ فِي الْمُشْتَاقِينَ، وَأَدْنُوَ مِنْكَ دُنُوَّ الْمُخْلِصِينَ، وَأَخَافَكَ مَخافَةَ الْمُوقِنِينَ، وَأَجْتَمِعَ فِي جِوارِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. أللَّهُمَّ وَمَنْ أَرَادَنِي بِسُوءٍ فَأَرِدْهُ، وَمَنْ كادَنِي فَكِدْهُ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَحْسَنِ عَبِيدِكَ نَصِيباً عِنْدَكَ، وَأَقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ، وَأَخَصِّهِمْ زُلْفَةً لَدَيْكَ، فَإِنَّهُ لا يُنالُ ذَلِكَ إلاَّ بِفَضْلِكَ، وَجُدْ لِي بِجُودِكَ، وَاعْطِفْ عَلَيَّ بِمَجْدِكَ، وَاحْفَظْنِي بِرَحْمَتِكَ، وَاجْعَلْ لِسَانِي بِذِكْرِكَ لَهِجَاً، وَقَلْبِي بِحُبِّكَ مَتَيَّمَاً، وَمُنَّ عَلَيَّ بِحُسْنِ إِجَابَتِكَ، وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي وَاغْفِرْ زَلَّتِي، فَإِنَّكَ قَضَيْتَ عَلَى عِبَادِكَ بِعِبادَتِكَ، وَأَمَرْتَهُمْ بِدُعَائِكَ، وَضَمِنْتَ لَهُمُ الإِجَابَةَ، فَإِلَيْكَ يا رَبِّ نَصَبْتُ وَجْهِي، وَإِلَيْكَ يا رَبِّ مَدَدْتُ يَدِي، فَبِعِزَّتِكَ اسْتَجِبْ لِي دُعَائِي وَبَلِّغْنِي مُنايَ، وَلاَ تَقْطَعْ مِنْ فَضْلِكَ رَجائِي، وَاكْفِنِي شَرَّ الْجِنِّ وَالإِنْسِ مِنْ أَعْدَائِي، يا سَرِيعَ الرِّضَا، اغْفِرْ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ إلاَّ الدُّعَاءَ، فَإِنَّكَ فَعَّالٌ لِمَا تَشاءُ، يا مَنْ اسْمُهُ دَواءٌ، وَذِكْرُهُ شِفاءٌ، وَطَاعَتُهُ غِنَىً، ارْحَمْ مَنْ رَأْسُ مالِهِ الرَّجَاءُ، وَسِلاحُهُ الْبُكَاءُ، يا سابِغَ النِّعَم، يا دَافِعَ النِّقَم، يا نُورَ الْمُسْتَوْحِشِينَ فِي الْظُّلَم، يا عالِماً لا يُعَلَّمُ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَافْعَلْ بِي ما أَنْتَ أَهْلَه، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَالأَئِمَّةِ الْمَيَامِين مِنْ آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كثيراً.
1 ـــ "أَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِقُوَّتِكَ الَّتِي قَهَرْتَ بِها كُلَّ شَيْءٍ، وَخَضَعَ لها كُلُّ شَيْءٍ، وَذَلَّ لَهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَبِجَبَرُوتِكَ الَّتِي غَلَبْتَ بِها كُلَّ شَيْءٍ، وَبِعِزَّتِكَ الَّتِي لا يَقُومُ لَها شَيْءٌ، وَبِعَظَمَتِكَ الَّتِي مَلأَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِسُلْطانِكَ الَّذِي عَلا كُلَّ شَيْءٍ، وَبِوَجْهِكَ الْبَاقِي بَعْدَ فَناءِ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِأَسْمَائِكَ الَّتِي مَلأَتْ [غَلَبَتْ] أَرْكَانَ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِعِلْمِكَ الَّذِي أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَبِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَضَاءَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، يا نُورُ يَا قُدُّوسُ، يا أَوَّلَ الأَوَّلِينَ، وَيَا آخِرَ الآخِرِينَ".
"أَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.."
"أَللَّهُمَّ"
ثمّة توافق عام عند علماء اللغة على أنّ الأصل في كلمة اللَّهم هو "يا الله"، وإنْ أظهروا تبايناً حول كيفية تركيبها الخارجي، وكيف أصبحت (اللَّهم)، بدلاً من (يا الله).
وما دامت هذه الاختلافات لا تغيّر المقصود من استهلال الدعاء بمناجاة الله سبحانه وتعالى بعبارة (يا الله)، فنحن نترك أمر مناقشة هذه الاختلافات إلى مظانّها وأماكنها.
ومن الواضح، أنّ عبارة (يا الله) تتضمّن منادىً هو الله سبحانه وتعالى، ومنادياً هو الإنسان. فثمّة نداء، إذاً، من تحت إلى فوق، ومن أسفل إلى أعلى. وفعل المناداة يضع الإنسان في مقام الحاجة، بمعزل عن طبيعة هذه الحاجة ونوعها أو حجمها. فنحن إنّما ننادي لحاجة لدينا عند المنادى. ولا ريب في أنّ طبيعة المنادى تكشف عن طبيعة الحاجة وحجمها فضلاً عن نوعها فإذا كانت لنا حاجة إلى الشفاء من أحد الأمراض، فنحن ننادي الطبيب، وإذا كانت لنا حاجة إلى تشييد بناء، فنحن ننادي المهندس، وإذا كانت لنا حاجة لنقل أمتعة أو سواها من أدوات الشغل، فنحن ننادي الحمّال.. إلخ.. إذاً، نحن ننادي مَن يستطيع أن يلبّيَ الدافع إلى النداء. ولا ريب في أنّ الله، سبحانهُ وتعالى، هو القادر على كلّ شيء، وإليه تنتهي حوائجنا في هذا الوجود، لذا كان التوجّه إلى الله سبحانه وتعالى معنوناً بالفقر المطلق، في الوقت الذي يكون نداؤنا لغير الله تعالى معنوناً بالفقر النسبي.
كما أنّ طبيعة الأدب في مقام الدعاء، أن لا نسأل الله تعالى أموراً تافهة أو بسيطة، أموراً لا وزن لها ولا قيمة، أموراً تلتصق بالتراب والجوائز الدنيوية الخالصة، بل مقتضى الأدب أنْ نسأل الله تعالى ما هو له من المقام. وعندما يكون الله تعالى هو المنادى، أو المُخاطَب، فهذا يعني، أيضاً، أنّه لا بدّ من أن تكون طريقة سؤالنا إيّاه، وطريقة تكلّمنا معه، في غاية الأدب وذروته، فلا نُلحِق بذات قدسه تعالى ما ليس له أو فيه، أو ننسب إليه تعالى ما يمسّ نزاهته، فلا بدّ من مراعاة أصول تنزيهه وتقديس ذاته تعالى.
فإذا كان من لياقات الإنسان، ومظاهر تأدّبه، وحسن أخلاقه، أن لا يخاطب أخاه الإنسان بما يسيء إليه، فإنّ هذا بحق الله تعالى أوجب.
وفي مطلق الأحوال، فإنّ الإنسان عندما يقف في موقف المنادي لله تعالى، فعليه أن يشحن نفسه بمشاعر التعظيم والإجلال لمن ينادي، وأنْ يتهيَّب موقف مَن يقرع بابه بيد السؤال والطلب. ولذا كان من أنسب الأحوال والصفات في هذا المقام، أنْ يتحلّى الإنسان بصفات العبودية والفقر والاحتياج، فيعبِّر بلسانه وجوارحه وجوانحه عن هذا المقام الذي هو له حقّاً.
فليدرك الواحد منّا، وهو يهمّ بمناداة الله تعالى، مَنْ ينادي، وليستشعر قلبه عظمة وجلال وجمال مَنْ يُنادي، فبدون هذا الإدراك، وبدون هذا الاستشعار، لا يمكن أن نقيم اتّصالاً حقيقيّاً مع الله تعالى. إنّ الاتصال بالله تعالى له أرقامه الخاصّة، وشفراته الخاصّة، التي بدونها لا يمكن أنْ يتمّ. هذا لا يعني أنّ الله تعالى لا يسمع كلّ كلمة نقولها أو نردِّدها، أو أنّه، تعالى، ليس محيطاً بشؤوننا وأحوالنا، وإنّما يعني أنّنا نحن ما زلنا نفتقد القابليّة والاستعداد لتلقّي عطاء الله تعالى ولاستقبال مِنَنه وإحسانه وفضله. يقول الله تعالى {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً}(1) وأنتَ أيّها الإنسان تسأل الله تعالى، أن يعطيك. والله يقول لكَ، إنّ عطائي غير محظور. إذاً، لماذا لا أصيب من عطاء الله نصيباً؟ أين المشكلة. أين الخلل؟. إنّ المشكلة والخلل فيك أيّها الإنسان والعجز والعيب فيك أنتَ. أنتَ العاجز والقاصر عن إدراك عطاء الله تعالى. تماماً كما يحدث عندما يتعطّل جهاز المذياع فيعجز عن استقبال موجات الإرسال الإذاعية. فالمشكلة في المذياع، في المتلقّي، وليست في المرسل. وكما أنتَ تحتاج إلى ضبط أرقام المحطة التي تريد أن تستمع إليها، فعليك أن تضبط أرقام لوحة نفسك وضميرك ووجدانك ومشاعرك وأعمالك وفق الرسالة الإلهية التي حملها إليك المرسل الإلهي. عندما تقوم بعملية الضبط هذه، عندها فقط تصبح مهيّئاً لتلقّي الفيوضات الإلهية بحسب استعدادك الخاص، وإمكاناتك التي أنتَ مؤهّل لها في الحاضر والمستقبل.
إذاً، قولنا (يا الله) لها ما قبلها، كما لها ما بعدها، فما قبلها أن يتلبّس الواحد منّا بلباس أهل المغفرة والندم والتوبة والانخراط في العمل الصالح، وأن يكتسيَ الواحد منّا بحلل أهل العبودية والفقر والاحتياج، وأن نعلم مقام الله تعالى، لتخرج منَّا كلمة (يا الله) عندها، وهي مشحونة بكلّ هذه المشاعر، وبكلّ هذا الوعي، اللّذين يأخذان بقلوبنا وبصائرنا، واللّذين يهزّان كياننا هزّاً رقيقاً فتجتاحه رعشات الحضور الإلهي، فإذا بنا محمولون على أجنحة الرّحمة الإلهية، مكتنفون بدفء الحنان الإلهي، ومغمورون بمننه وفضله. وما بعدها، أن نلتزم الاستقامة والصراط المستقيم، فلا ننسى أو نغفل أو نشطّ، فيبقى نداء (يا الله) يتردّد عالياً في أجواء ذواتنا، وتختلج به أفئدتنا.
ونحن، بذلك كلّه، إنّما نحكي عن حقيقة وجود نفسه. إذ أليس كلّ شيء فينا بأصل وجوده وباستمرار هذا الوجود يخاطب الله تعالى بلسان الفقر والاحتياج، ويصرخ من صميم حقيقة ارتباط وجوده وتعلّق هذا الوجود بالله تعالى بعبارة (يا الله).
فكلّ شيء إنّما هو قائم بالله، متعلّق في وجوده بالله تعالى، ولذلك لا بدّ من أن يكون هو المقصود حقّاً بالسؤال، لأنّه تعالى محض الغنى والكمال، ونحن محض الفقر والنقص.
ومن هنا، كان كلّ شيء ما خلا الله تعالى باطلاً، وكلّ شيء لا يتعلّق بالله تعالى هالكاً لا محالة، فمتعلّق الباقي باقٍ، ومتعلّق الزائل هالك.
جاء في الحديث عن الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ "كلّ أمرٍ ذي بال لم يُبدأ فيه باسم الله فهو أبتر.." والأبتر هو المنقطع الآخر، الذي لا تترتّب عليه أيّ استمرارية أو نتائج حقيقية. ولذا، كلّ شيء يهمّ به الإنسان يجب أن يكون متعلّقاً بالله تعالى إذا شاء له أن يبقى فلا يضلّ أو يهلك. من هنا، فافتتاحه (عليه السلام) الدعاء بعبارة (يا الله)، فضلاً عن كونها من سنن وآداب الدعاء، دليل على الانسجام مع مقام السؤال، باعتبار أنّه، تعالى، هو مبدأ كلّ شيء ومنتهاه، وبه يرتبط كلّ شيء، والسؤال لا يصحّ إلاّ لديه.
"إنّي أسألُكَ"
السؤال في اللّغة هو الطلب. والطلب على ثلاثة أنواع:
أ ـــ الطلب من العالي إلى الداني ويسمّى أمراً.
ب ـــ الطلب بين المتساويين ويسمّى التماساً.
ج ـــ الطلب من الداني إلى العالي ويسمّى سؤالاً.
ولذا استخدم عليّ (عليه السلام) كلمة السؤال، لما في هذه الكلمة من حفظ لمقام الذّات الإلهية، وتثبيت له في مقام العبودية والفقر والحاجة، وفي ذلك منتهى الأدب، من العبد لمولاه.
فالسؤال هنا يعني التوجّه بالطلب والمقصد ممّن هو أدنى، أيّ من الإنسان إلى الله تعالى إلى مَنْ هو في المقامات العُلى، وهو بذلك يتجلبب برداء التواضع والمسكنة، ويشهد على نفسه ولنفسه بأنّه هو "الحقير المسكين المستكين"، بينما يشهد الله تعالى بالعظمة والجلال والكمال والغنى.
ولذا، لم يقل (عليه السلام)، أطلب بصفة الأمر لما في ذلك من استعلاء وتكبّر على الذّات المقدّسة. كما لم يقل ألتمس عندك يا الله، حتّى لا يجعل نفسه في موقع متكافئ مع الله تعالى، بحيث يضع نفسه في نقطة موازية لله تعالى، وكأنّه هو والله تعالى كفّتا ميزان متعادلتان، لا يفصل بينهما فاصل، أو يميّز بينهم مائز. ولا يفوت لبيب ما في ذلك من معاني الاستعلاء والفخر، حيث يضع الإنسان نفسه في مصافّ الآلهة. بل قال، عليه السلام "أسألك"، أي أطلب إليك مقرّاً بما أنا عليه من الفقر والحاجة إليك في وجودي، وفي كلّ أسباب حياتي. فالسؤال ينضح، هنا، بمعاني الخضوع والخشوع، التي هي من المعاني المطلوبة في مقام الدعاء والتوبة إلى الله تعالى.
"برحمتك التي وَسِعَتْ كلّ شيء"
المخاطَب هنا هو الله تعالى. والمخاطِب هو الإنسان. ودافع المخاطِب هو التوجّه بالسؤال إلى المخاطَب، أيّ الله سبحانه وتعالى. والسؤال، كما تقدّم، هو الطلب. والطلب ينمّ عن حاجة ونقص وفقر. وهو، بالتالي، يكشف عن حالة فقر وعوز عند السائل، سواء أكان هذا الفقر فقراً علمياً ـــ معرفياً لجهلنا ببعض الأمور، أم فقراً وجوديّاً، لنقص في أسباب كمالنا الوجودي، أم لعوائق تعوق من كمال هذا الوجود في الطريق، أم لرفع نتائج وثمرات أفعال لنا ردّت إلينا، أم للاستعانة على ما ينغص حياتنا ووجودنا من همّ، أو كرب، أو سقم، ومرض، وفقر، وعدوّ.. إلخ وذلك كلّه في سبيل رفعه أو إصلاحه وتجاوزه.
ولكن، عندما يسأل الإنسان الله (سبحانه وتعالى) مسألة، فإنّه يتقرّب إليه ببعض الأشياء، التي من شأنها أن تفتح أبواب الإجابة. وأيّ شيء أقرب إلى ذات الله تعالى من بساط رحمته، هذه الرحمة الإلهية "التي وَسِعَتْ كلّ شيء". فما من شيء إلاّ هو مشمول برحمة الله تعالى. وما من شيء إلاّ هو مكتنف برداء رحمة الله، تعالى. فكلّ شيء يعيش على رحمة الله تعالى وبرحمته. والإقرار بالرحمة الإلهية إقرار بالعطف والحنان الإلهيين، إقرار بالفضل والمنّ الإلهيين... الخ.
هذا الإقرار الذي يفتح الطريق واسعة أمام علاقة مودّة ـــ حميميّة مع الله، سبحانه وتعالى. فكما مودّة الأم والأب.. وكما حنان وعطف.. ورحمة الأبوّة والأمومة تربط الأبناء بالآباء في علاقة مودّة حميمة.. علاقة جذب وترابط وإجلال واحترام، فإنّ انفضاض قلب الإنسان عن الشعور بالرحمة الإلهية، لهو الطريق لعلاقة انجذاب روحيّ ومعنويّ نحو الله تعالى، ومبعث إجلال وتعظيم واحترام له سبحانه وتعالى.
وفي جانبٍ آخر، إنّ شعور الواحد منّا بأنّه دائماً في قلب الرحمة الإلهية يوقد في فؤاده وعقله جذوة أمل لا تنطفئ. فإذا ما أحاطت به ظلمات الذنوب والمعاصي فلا يقنط ولا ييأس، لأنّ إشراقات الرّحمة الإلهية تبقى تلمع في سماء حياته المكفهّرة تدلّه على الطريق، تماماً كما يرشد ضوء المنارات السفن في اللّيالي الحالكة، فلا نضلّ الطريق عن بلوغ مرفأ الأمان والسلامة. فالرحمة الإلهي حبائل من نور نعتصم بها لكي نرتفع من أودية الظلمات، سواء أكانت هذه الظلمات ظلمات النفس المترتّبة على الذنوب والمعاصي، أم ظلمات القهر والغطرسة والاستكبار والطغيان السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ. فالرحمة الإلهية مفاتيح الأمل بِغَدٍ مشرق. فاستشعار الرحمة الإلهية يحيي القلب بالأمل، واستشعار الأمل يحرِّض العقل والإرادة على العمل في سبيل معالجة العقبات والمشاكل والأزمات والقضايا وتجاوزها نحو مستقبل مغمور بالصَّفاء والنقاء والأمن والسلامة. فالرّحمة الإلهية ليست مجرّد شعور عابر، ليست مجرّد ظاهرة عاطفية تسري في وجداننا. وإنّما هي فعل أمل ينبعث في الفكر والإرادة والعاطفة معاً، فيحيل واقعنا إلى واقع معشوشبٍ يانع أخضر، بدلاً من اشتعاله باليباس والموات. إنّ استشعار الرّحمة الإلهية يبعث فينا قدرة على مواجهة التحدّيات ومصارعتها حتّى الغلبة والنصر، سواء أكانت هذه التحدّيات على مستوى الذات، بما هي تحدّيات في الفكر والعمل، ممّا يمكن أن يصيب الفكر من عمى، والعمل من آفات، إذ كما يذنب الإنسان بعمله يذنب أيضاً بفكره، وكذلك بعاطفته، أم كانت تحدّيات موضوعية مصدرها الأعداء أو المجتمع.
إنّ الرحمة الإلهية هي يد الله، سبحانه وتعالى، الممدودة إلينا باستمرار واقعاً ومن وراء الغيب لتنشلنا ممّا نحن فيه أو عليه. هذه اليد التي تربَّت، دائماً، على أكتافنا بحنان، وتلامس كلّ كياننا بعطف ورأفة، وتغدق على كلّ وجودنا بأسباب الوجود والاستمرار، وتمنع عنّا كلّ مخوفٍ أو محذور.
لهذا، ولغيره من أسباب، كان تقديم الرّحمة بين يديّ الله، سبحانه وتعالى، في معرض السؤال، لأنّ رحمته تعالى "وَسِعَتْ كلّ شيء"، فلا ريب في أنّها ستسعنا الآن وبعد الآن.
"وبِقُوَّتِكَ التي قَهَرْتَ بَها كلَّ شيء وخَضَعَ لها كلّ شيء، وذَلَّ لها كلّ شيء.."
بعد أن جعل (عليه السلام) التوسّل بالرحمة الإلهية التي "وَسِعَتْ كلّ شيء" مدخلاً لأسئلته، جعل التوسّل بقوّة الله سبحانه وتعالى التي قهر "بها كلَّ شيء، وخَضَعَ لها كلّ شيء، وذَلَّ لها كلّ شيء.." أراد الإمام (عليه السلام) الاستعانة بقوّة الله سبحانه وتعالى لا مباشرة وإنّما من باب الرحمة. أي كأنّه (عليه السلام)، أراد التوسّل هنا بالقوّة من باب الرحمة، ذلك أنّ القوّة قد تستخدم في مجال النَّكال والانتقام، وتكون عندها تعبيراً عن غضب الله تعالى وسخطه، كما قد تكون تعبيراً عن رضى الله تعالى. ولذا، ولج، (عليه السلام)، إلى القوّة من باب الرحمة، لكي يكون توسّله بها رفعاً للنقمة، وتسبيباً لما يرضي الله تعالى. هذا في جانب، وفي جانبٍ آخر، حدّد، (عليه السلام)، للقوّة، ثلاث نتائج رئيسية، تعكس في مجموعها، مظهراً من مظاهر توحيد الله تعالى. هذه النتائج هي:
أ ـــ كلّ شيء مقهور بها
ب ـــ كلّ شيء خاضع لها
ج ـــ كلّ شيء مذلول لها
وكلّ من هذه النتائج مترتّب على الآخر. فبالقوّة تتمّ عملية القهر. والقهر يفضي إلى الخضوع. والخضوع يؤدّي إلى الإذلال. وهذا يعني أنْ لا شيء خارج نطاق قوّة الله، ما دام كلّ شيء مقهوراً بها، وخاضعاً لها، ومذلولاً لها. فكلّ شيء طوع يدي الله، وكلّ شيء مسحوق أمام قوّة الله لأنّ الله وحده القويّ حقّاً. وإنَّ كلّ القوّة له وحده لا لأحد سواه. وما من قوّة لدى قويّ، مهما كان صنفها، أو لونها، أو حجمها، أو سببها، أو كيفيّتها، إلاّ ظلّ من ظلال قوّته تعالى. يقول الله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(1).
فالله، سبحانه وتعالى، هو المالك حقاّ للقوّة وأسبابها، فهو مصدر كلّ قوّة ومنتهى كلّ قوّة.
فما فينا من قوّة الحياة, وقوّة الفكر والعمل والإنتاج، ما فينا من قوّة العافية والصحة والأمن والأمان، ما فينا من قوّة في الاقتصاد والسياسة والأمن والنظام.. كلّها مظاهر لقوّة الله سبحانه وتعالى التي أيّدنا بها.
إذاً، من الله، سبحانه وتعالى، نستمدّ كلّ قوّة. لكن كيف السبيل إلى الالتحام بقوّة الله سبحانه وتعالى؟ كيف السبل للالتحام بقوّة الله وأسباب قوّة الله, وعناصر قوّة الله، سبحانه وتعالى؟ أليس القهر، والخضوع، والإذلال، تكمن في حجم حضور القوّة. أليس القهر، والخضوع، والإذلال، من إفرازات القوّة ونتائجها. وبالتالي، أليس الشعور بالقهر والخضوع والإذلال هو المدخل المنطقي والموضوعي للشعور بالقوّة. فنحن لا نشعر بالقهر والخضوع والإذلال إلاّ أمام القويّ. وبقدر ما تكون قوّة القوي عظيمة يكون الشعور بالقهر والخضوع والإذلال عظيماً. فالقوّة تفضي إلى القهر والخضوع والإذلال، والقهر والخضوع والإذلال تؤشر على وجود القوي ومدّة قوّته. من هنا، كان مدى امتلاء وجودنا بالشعور بالقهر والخضوع والإذلال أمام الله سبحانه وتعالى، كان مدى تأكيدنا لقوّة الله سبحانه وتعالى. فالامتلاء بالشعور بالقهر والخضوع والإذلال أمام الله سبحانه وتعالى، هو النتيجة الحتمية لسريان الشعور بعظمة قوّة الله في كياننا، واستحواذ هذا الشعور على كلّ مفاصل وجودنا وحياتنا. وعندما لا نعود نرى في الوجود من قوى غير الله سبحانه وتعالى، فإنّنا لا نرى في غير الله سوى الفقر والضعف مهما تظاهر بمظاهر القوّة. فكلّ قوّة غير قوّة الله، سبحانه وتعالى، قوّة وهمية، سطحية، ظاهرية، عابرة، لأنّها لا أصالة لها في الوجود وفي الحقيقة. وبالتالي هي قوّة مقهورة، مغلوبة، مذلولة. وهكذا، امتلاؤنا بمشاعر عظمة قوّة الله اللامتناهية التي ليس فوقها قوّة، تطلق في جنباتنا أملاً لا يخبو، ذلك أنّ الأمل مظهر من مظاهر القوّة بالقدرة على تغيير كلّ الواقع السيئ على المستوى الفردي أو الاجتماعي، وبالقدرة على مصارعة كلّ القوى المستكبرة، الطاغية، الظالمة، مهما علا شأنها وبلغت إمكاناتها وقدراتها. من هنا، كان المؤمن لا يفلُّ من إرادته شيء حتى الحديد الذي بإمكانه أن يفلّ الجبال، لأنّ المؤمن حقاً هو من تشرّب بقوّة الله سبحانه وتعالى، وأخذ بأسباب هذه القوّة. فالشعور بالقوّة باعث على الشعور بالأمل. والشعور بالقوّة باعث على الرغبة بالتغيير، وبالانطلاق دوماً إلى الأمام في حركة دؤوبة لا تعرف الكلل أو الملل أو الانكسار.
فإذا كانت القوّة لله جميعاً، فهذا يعني حتماً، أنّ أي انقهار أو خضوع أو تذلّل لغير الله، سبحانه وتعالى، هو انقهار وخضوع وإذلال خاطئ وفي غير محلّه، وبالتالي غير جائز.
فكما أنّ القوّة هي لله فقط، فإنّ الخضوع والانقهار والإذلال لا يكون لغير الله.
ولذا، كان الامتلاء بالشعور بعظمة قوّة الله، سبحانه وتعالى، فعل تحرّر من كلّ ما هو قوّة باطلة تسعى لفرض وجودها على حياتنا، سواء أكانت هذه القوّة اقتصادية أم سياسية أم ثقافية، أم عسكرية، أم كلّ هذه مجتمعة، وبقدر امتلائنا بالشعور بعظمة قوّة الله، سبحانه وتعالى، ينبثق منّا فعل مقارعة قوى الظلم والظلام بكلّ أنواعه، يوقظ فينا قوّة بناء لا تستكين، لأنّها تستمدّ مددها من معين كلّ قوّة الذي هو الله، سبحانه وتعالى. لأنّ مقارعة القوّة الغاشمة تحتاج إلى إيجاد قوّة مواجهة لها قادرة على التصدّي والغلبة، كما أنّ تثبيت وحدانية قوّة الله في وجودنا يحتاج إلى أن نكون أقوياء بكلّ مجالات القوّة العلمية والثقافية والاقتصادية والإدارية والسياسية والعسكرية، لأنّ في ذلك تجسيداً لفعل قوّة الله في نفوسنا وأفكارنا وإرادتنا من جهة، ولاسيّما قوّة الرحمة الإلهية، بقدر ما يعبر الجانب الأوّل عن مظهر قوّة النعمة والغضب الإلهيّين، أو لنقل قوّة "لا إله". فنحن نحتاج إلى قوّة "لا إله" وقوّة "إلاّ الله" معاً. أي إلى قوّة النفي والإثبات معاً في صيرورة وسيرورة تتكامل فيهما مظاهر القوّة مع مظاهر الخضوع والتذلُّل لله سبحانه وتعالى.
من هنا، وفي هذا السياق، يمكن أن نضع أمر الله، سبحانه وتعالى، لنا بأن نعدَّ كلّ موارد ومظاهر القوّة المستطاعة في وجودنا في سبيل نشر الخوف والرهبة في قلوب أعداء الله. قال الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}(1).
فالمطلوب إعداد وتجهيز كلّ ما يدخل في دائرة استطاعة الإنسان من قوّة، ولاسيّما تلك القوى التي تبثّ الرعب والخوف في قلوب الأعداء، فتردعهم ليس فقط عن القيام بالعدوان، بل حتّى عن مجرّد التفكير به، وكأنّ هذه الآية ناظرة إلى ما نسمّيه اليوم بحفظ الأمن القومي للمجتمع والدولة، وإلى ما يسمّى باستراتيجية الردع. فالإعداد والتجهيز المستمرّان لمصادر القوّة، وتعبئتها وصيانتها، والمحافظة المستمرة على تطوُّرها وفاعلية أدائها، كلّها من مستلزمات استراتيجية الردع.
ومن هنا، لم تكن الاستطاعة في فنّ الممكن فحسب، وإنّما هي فنّ تطوير وتوسيع الإمكانات والطاقات والقدرات.
ولذا، لم يُرد من الاستطاعة الستاتيكيّة السكونية، وإنّما الاستطاعة المتحرّكة التي تسعى دائماً نحو الأفضل والأكفأ في كلّ المجالات.
وإذا كان المطلوب إعداد ما هو في متناول استطاعة الإنسان، فللاستطاعة مصاديق وعناوين متنوّعة؛ فالعلم مظهر من مظاهر القوّة، والتكنولوجيا مظهر من مظاهر القوّة، والاقتصاد المتين القائم على بنى تحتيّة صناعية وتجارية وزراعية قويّة مظهر من مظاهر القوّة، والثقافة الرائدة المتماسكة مظهر من مظاهر القوّة، والثقافة الرائدة المتماسكة مظهر من مظاهر القوّة، والتخطيط الواعي والعلمي، والأداء الإداري المتميّز، والبرمجة الدقيقة، كلّها مظهر من مظاهر القوّة، والكفاءة والتجهيزات العسكرية والأمنية مظهر من مظاهر القوّة.. الخ..
لقد جعل الله، سبحانه وتعالى، غاية إعداد ما في استطاعتنا من القوّة، إرهاب عدوّه وعدوّنا، فما لم تتحقّق الغاية يعني أنّه لا بدّ من إعادة النظر في ما بين أيدينا من قوّة، لكي نعيد توليد الغاية المعينة من الله سبحانه وتعالى. ولا ريب، أيضاً، في أنّ شكل القوّة ومضمونها ومظاهرها تختلف من عصر إلى عصر، ومن زمان إلى زمان، وحتى من مكان إلى آخر. ولذا، كان المطلوب دائماً تطوير مصادر قوّتنا وأدائها، حتى لا نتخلّف عن الهدف المقصود، فنقع في المحذور.
نعود، الآن، إلى سياق الدعاء. وعليّ (عليه السلام) يقول أسألك يا الله، أتوسّل إليك، أيضاً "بقوّتك"، لأنّك أنتَ القويّ يا ربّ، وأنا الضعيف، ولذا أريد أن أسألك "بقوّتك التي قهرتَ بها كلّ شيء، وخضع لها كلّ شيء، وذلَّ لها كلّ شيء". فحتى المتمرّدون والمتكبّرون الذين يعيشون الاستعلاء والعنفوان.. خضعوا لقوّتك حين داهمهم المرض والبلاء أو الموت، هم مهما ضخَّموا من شخصيّاتهم؛ فستصغر شخصيّاتهم وسيذلّون أمام قوّتك، هذه القوّة "التي قَهَرْتَ بها كلّ شيء"، فكلّ شيء مقهور في النهاية لديك يا الله: "فسبحان مَنْ تعزَّز بالقدرة والبقاء، وقهَرَ عباده بالموت والفناء".
"وذلّ لها كلّ شيء" كلّ الأشياء تذلّ أمام الله وتخضع، لأنّها محكومة لقدرته في كلّ شيء. فأجسادنا محتاجة إلى الله في كلّ ما أودع الله فيها من قوانين، فهي تذلّ إذا جاعت، فمن منّا يستطيع أن يتمرّد على الجوع. مَنْ منّا يمكن أن يتمرّد على الظمأ؟ الله أذلّك إذ جعلك تشعر بالظَّمأ والجوع، وذلك لتشعر بأنّك كائن محتاج دوماً إلى الله في كلّ مفردة من مفردات وجودك، فأنتَ تشعر باحتياجك إلى الغذاء الذي خلقه الله، وإلى الماء والهواء اللذين خلقهما الله أيضاً. والإنسان مقهور بحوائجه مذلول لها، ولذلك كان الإنسان مقهوراً ومذلولاً أمام مَن يمسك بوجوده وحوائج هذا الوجود وهو الله سبحانه وتعالى. يقال إنّ أحد الزهَّاد كان حاضراً مجلساً للخليفة العباسي هارون الرشيد، هذا الخليفة الذي كان يقول للغمامة: أمطري أينما شئتِ فسيأتيني خراجك، أي الضريبة المستحقّة على نتائج الأرض. وطلب الرشيد ماء ليشرب فجيء له بالكأس، لكن قبل أن يهمّ بشرب الماء قال له الزاهد: يا هارون قبل أن تشرب الماء، أحبّ أنْ أسألك مسألة.
فقال له: سل.
قال له الزاهد: ماذا لو منعت من شرب هذا الماء فبكم تشتريه؟
قال: بنصف ملكي.
قال: فاشرب، وبعد أن شرب هارون قال له الزاهد: ها أنّ الماء دخل إلى جوفك، ولو امتنع عليك إخراجه من جوفك، فكم تدفع لإخراجه؟
قال: أدفع نصف ملكي.
فعلّق عندها الزاهد على هذا الموقف قائلاً: إذاً ما قيمة ملك يشتريه الإنسان ببوله؟!!!
هذه نقاط ضعف يعرف من خلالها الإنسان كيف يكون محتاجاً إلى الله سبحانه وتعالى. هناك من إذا أصبح ولديه مال أو قوّة، أو سلاح، أو جاه، أو سلطة، فإنّه يشعر بضخامة شخصيّته، فيخيَّل إليه وكأنّه لا يحتاج إلى الله سبحانه وتعالى. الله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ*إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(1) وثمّة رواية أخرى، تُروى عن الإمام الصادق (عليه السلام). وتفيد الرواية أنّه كان جالساً ذات يوم مع أبي جعفر المنصور ــــ الخليفة الثاني من خلفاء بني العبّاس ـــ فجاءت ذبابة، حطَّت مرّة على رأسه ومرّة على جبهته، فانزعج منها قائلاً: لماذا خلق الله الذباب؟ متسائلاً عن فائدة هذا المخلوق المزعج؟
فقال له الإمام الصادق (عليه السلام) "ليذلّ به الجبابرة" لأنّ الإنسان الجبّار يرى نفسه في عظمة لا تسعه الدنيا، فتأتي ذبابة صغيرة لتذكّره كم هو مخلوق ضعيف وحقير، حتّى أنّ أتفه المخلوقات يمكن أن تسبّب له الانزعاج والتوتّر.
الخضوع لله:
"وخَضَعَ لها كُلَّ شيء"
هناك بعض الأشياء تخضع باختيارها، وهناك أشياء تخضع بغير اختيارها، وكلّ الأشياء خاضعة لله، شاءت أم أبَتْ، لأنّ حاجاتها تفرض عليها الخضوع لقوانين الله التي أودعها في الكون، وتخضع أمام الموت. فمن في هذا الكون لا يخضع للموت؟!
هذا الشعور بالقوّة لله نحتاجه دائماً لا لنصلّيَ أو لنصوم فقط، بل نحتاج إليه حتى تفرغ قلوبنا من الشعور بغير قوّة الله. إنّ لبعض المعاني الرّوحيّة مغزىً سياسياً، فإذا كنتَ تشعر بقوّة الله التي لا حدّ لها، وتشعر أنّ كلّ شيء خاضع لله، فستشعر أنّ كلّ شيء لا قيمة له أمام الله. من هنا، علينا أن ننمّي هذا الشعور في أنفسنا، فإذا تولَّد لدينا شعور بالانسحاق أمام أيّة قوّة ماديّة، فسنُسحَق أمام القوّة الظالمة، سياسيّة كانت أو اقتصاديّة أو ثقافيّة أو عسكريّة وأمنيّة..!
في معركة خيبر، وكما تقول الرواية، أرسل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) شخصاً فرجع يُجبِّن أصحابه ويجبّنونه، فأرسل (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) شخصاً آخر فرجع يُجبِّن أصحابه ويجبونه أيضاً، ففكّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّ القضية قد بلغت حدّاً صعباً، عند ذلك قال: "لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرَّار غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"، أنّه "يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّار" يعني أنّه يحبّ الله، فعظمة الله تتجلّى في نفسه، ومَنْ أحبّ الله امتلأ قلبه بعظمة الله، وفرغ من كلّ شيء غير عظمة الله، وبهذا يتقدّم إلى المعركة فيكرُّ ولا يفرُّ، لأنّه يعتمد على قوّة الله سبحانه وتعالى في المعركة.
"وبِجَبَروتِكَ التي غَلَبْتَ بها كلَّ شيء"
الجبروت: من الجبر. وهي من صيغ المبالغة على وزن فعلوت كملكوت.
وهي من الصفات التي تفيد المدح والذمّ معاً، وذلك بحسب من توصَّف بها. فإذا أطلقت على الله سبحانه وتعالى كانت مدحاً، وأفادت المعاني الرئيسية التالية: الملك. العالي فوق خلقه. الذي لا ينال. كما تفيد معاني: القهر، والإكراه، والقوّة، والعظمة، والاستعلاء، والكِبَر، والتسلُّط.
وإذا ما أطلقت بحقّ العبد أفادت الذَّمَّ، وذلك وفق المعاني التالية: المتمرّد، العالي، المتكبّر الذي لا يرى لأحد عليه حقّاً، ولا يقبل الموعظة من أحد، القاسي الذي لا يعرف قلبه الرحمة. والقتّال بغير حقّ، والمتسلِّط على غيره، القاهر لهم، بعتوّ وظلم وغير وجه حقّ(1). وقد عدت هذه الصفة، في جانبٍ منها، من مختصّات الله تعالى. وفي جانبٍ آخر، فإنّ المتأمّل في مضامينها يخرج بالنتائج التالية:
أوّلاً: إنّ المتسلِّط حقّاً على هذا الوجود، والماسك والمتصرّف بأسبابه، وعلله هو الله سبحانه وتعالى. فما من شيء إلاّ هو تحت يد الله وفي قبضته، سبحانه وتعالى، لا يخرج من دائرة ملكه أو نفوذه وسيطرته. فهو في وجوده محتاج، فقير، إلى الله تعالى، وهو في استمرار وجوده، وحفظ وجوده محتاج إليه تعالى، فما من شيء من أمر وجودنا، وأسباب معاشنا، إلاّ هو متعلّق بإرادة الله مقهور وخاضع لها.
فإذا كان لله، سبحانه وتعالى، كلّ هذا الشأن، ففي ذلك إقرار ضمني بأنّ شأننا في هذا الوجود، ليس له إلاّ الفقر الخالص، والاحتياج المطلق. ولذا كان حريّ بالفقير الضعيف أن يتوجّه بالسؤال إلى الغني القدير.
ثانياً: لا ريب في أنّ الواحد منّا كلّما استشعر قلبه وعقله معاني عظمة الخالق، وقدرته، وسلطته، ومنعته، أستشعر، أيضاً، معاني المقهوريّة، والعبوديّة الخالصة لله (عزّ وجلّ) ، حيث لا يرى لنفسه من منزلة سوى منزلة الفقراء البائسين، منزلة العبيد الأذلّاء.. ولا يرى في جانب الذات الإلهية إلاّ منزلة العظمة والكبرياء والتعالي والعزّة والمنعة.
من هنا، كان تقديمه (عليه السلام)، صفات القوّة والجبروت، بعد صفة الرحمة، إمعاناً منه في إبراز جانب العبودية فيه في مقابل إظهار جانب العظمة الإلهية.
وفي جانبٍ آخر، فإنّ شأن مَنْ لا يرى جبّاراً في الوجود إلاّ الله سبحانه وتعالى، أن لا يقرّ أو يعترف أو يسمح بوجود جبّارين في الأرض. فكلّ جَبّاري الأرض ليسوا في نظره سوى أوغاد، حقيرين، أذلاّء، مقهورين. وأن ليس لهم من جبروتهم سوى جانب الباطل منها، وبحسب الوهم والخيال، لا بحسب الحقيقة والواقع.
فتوكيد جبروت الله، سبحانه وتعالى، لا يستقيم إلاّ بنفي ونزع براثن كلّ شعور وفكر وإرادة وواقع جبّار في حياتنا ووجودنا.
من هنا، كان لاختصاص صفة الجبروت بالله تعالى، ولما تفيده من معان سامقة، أن أقسم بها، (عليه السلام)، متوسّلاً إجابة مسألته.
"... وَبِعِزَّتِكَ التي لا يقوم لها شيء.."
العزيز: صفة من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى.
والعزّ في الأصل يفيد معاني: القوّة، والشدّة, والغلبة، والرفعة، والامتناع. ولذا قيل أنّ العزيز هو الممتنع الذي لا يغلبه شيء. وهو القويّ الغالب كلّ شيء. وهو الذي ليس كمثله شيء(1).
والقيام: في الأصل يفيد الجلوس. كما يفيد معاني أخرى أبرزها، وهو المطلوب هنا، هو معنى الدوام والوقوف والثبات(1).
ولقد نسب القرآن الكريم، من جهة، العزّة كلّها لله سبحانه وتعالى قائلاً:
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}(2) لأنّ {الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(3) ولأنّه، تعالى، هو الممتنع حقّاً عن أن يُنال بالفكر والإرادة، وهو الغالب غير المغلوب. ومن جهةٍ أخرى ينسب القرآن الكريم العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، قائلاً {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(4).
فقط عطف سبحانه وتعالى عزّة رسوله على عزّته، وعزّة المؤمنين على عزّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). وإذا كانت عزّة الله سبحانه وتعالى لا تُنال ولا يقوم لها شيء، فإنّ عزّة رسوله وعزّة المؤمنين لا يمكن أن ينال منها شيء أو يقوم لها شيء، لأنّها من عزّته سبحانه وتعالى. وفي ذلك إشعار ضمني لنا بأنّ حركة الإيمان مهما اعترضها من مشاكل وعقبات ومنعطفات، ومهما تعرّضت لصنوف البلايا والشدائد، ومهما تربّصت بها دوائر القوى الغاشمة وظنّت أنّها منتصرة، غالبة، قاهرة، فإنّ النصر والغلبة لا بدّ ستكون في النهاية للمؤمنين حقاً. فالمؤمنون الذين لحموا عزّتهم بعزّة الله سبحانه وتعالى، وعزّة رسوله التي هي عزّة رسالته (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لا يمكن أن تعرف الكلل أو الوهن أو الاستسلام، مهما كان الواقع سيّئاً وموحياً باليأس والإحباط. بل، على العكس من ذلك، فهم مع كلّ تجربة قاسية، ومع كلّ منعطف حاسم، يخرجون أكثر غنىً، وأشدّ بأساً، وأمضى عزيمة، وأرفع وعياً وتبصّراً بما يجري حولهم.
فالمؤمنون حقّاً هم العلامات المضيئة في سماء الأُمّة المكفهرة. وهم إشراقات الأمل تخرج من بين غياهب ظلمات اليأس والقنوط. إنّهم المستقبل بكلّ ما تحمله كلمة مستقبل من معاني الوعد والأمل بالتغيير. لكن إذا كان من معاني العزّة، القوّة، والامتناع، والرفعة، والغلبة، والتفرّد، ألاَ يعني هذا أنّ العزّة لا تولَد هكذا من لا شيء، ولا تأتي منَّة من دون عمل وسَعي. فلكي يكون المرء عزيزاً، عليه أن يعمل لكي يكون قويّاً، منيعاً، ذا شأن رفيع ونموذج فريد لا يُحاكى. وهذا يعني أنْ نلمّ بكلّ مستلزمات وعناصر وأسباب القوّة المادية والمعنوية في داخل الأُمّة حتى نستطيع، بالفعل، أن نكون أُمّة عزيزة "لا يقوم لها شيء"، بل تقوم هي بالتصدّي لكلّ شيء زراعة نفسها كنموذج حضاري وثقافي يشعّ على كلّ أنحاء المعمورة.
هكذا يجب أن نستشعر معاني العزّة، ونحن ندعو بدعاء كميل، أو بغيره من الأدعية، نتصوّر أنّنا مسؤولون عن أن نعيش العزّة في حياتنا. لا مجرّد عيش فكر ووجدان شعوري فحسب، وإنّما عيش عملي، إلى أنْ نجسِّد العزّة واقعاً ملموساً من خلال تهيئة أسبابها وعواملها.
من هنا، على مَن يقرأ دعاء كميل أن يعيش هذه الأجواء. فالإمام عليّ (عليه السلام) عندما كان يدعو بهذه الكلمات كان يعيش أجواء العزّة الإلهية حتى الذوبان، وبات الدعاء عنده يمثّل حالة وجدانية عميقة في نفسه. إذاً، يجب علينا، عندما نقرأ الدعاء، أن لا نستظهره استظهاراً كأيِّ شيء عابرٍ في حياتنا.. ليحُسَّ، كلّ واحدٍ منّا، بعظمةِ الله وسيطرتِه وجبروته، دائماً، وليشعر بحقارة كلّ شيء أمامه سبحانه وتعالى، وهذا الأمر نحتاجه لكي لا نشعر بالهزيمة النفسية أمام أيّ قوّة غازية أو محتلة، صغيرة كانت أو كبيرة، هذا الشعور الذي يتولّد لدينا بسبب من إخلادنا إلى الأرض وعدم تطلُّعنا إلى السماء.
يقول الله سبحانه وتعالى عن بعض الناس: {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ}(1) أي أنّه لم يرتفع بنظره إلى السماء، بل بقي مستغرقاً بالأرض وما فيها وعليها. هذا الإنسان ابتلعته الأرض وشغلته عن كلّ شيء ما عداها، فلم يعد ينظر إلى الأعلى، جاعلاً كلّ ضوء عينه ما تحت قدميه. فالأرض باتت تمثّل كلّ شيء بالنسبة له. والذي يكون سمة حياته الإخلاد إلى الأرض، فهو عرضة دائماً لليأس والإحباط والإذعان والإذلال. لذا علينا أن نظلّ ننظر لله تعالى، أن تستشعر قلوبنا، وعقولنا، وإرادتنا، رحمة الله، وقدرته، وقوّته، وعظمته، وجبروته، وبذلك نبقى مرتبطين بمصدر كلّ قوّة، وعزّة، ومنعة، وعظمة، هذا الارتباط الذي يجعل القوّة، والمنعة، والعزّة، دائمة التدفّق في شرايين وجودنا، فلا نشعر معها باليأس وإنْ مسّنا طائف من التعب سرعان ما ننشط لمجرّد ذكر الله تعالى واللجوء إليه. فبقدر ما نقوِّي ارتباطنا بالله، سبحانه وتعالى، نزداد قرباً من الله، سبحانه وتعالى، وحبّاً له، سبحانه وتعالى، ونتّصل أكثر فأكثر بمصدر طاقة وجودنا ومعاشنا العزيزين المنيعين. ألم يقل الشاعر: على قَدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ.. إنّ العزيز عزّة لا يمكن أن ينالها الذلّ، العظيم عظمة لا يمكن أن ينالها نقص، هو الله، سبحانه وتعالى، لأنّه هو القوّة المطلقة.
عندما نعيش هذه الأجواء، علينا أن نعيشها في أنفسنا، حتى نملأها بالله، فإذا امتلأت نفس الإنسان بالله، فلن يخاف شيئاً بعد ذلك.
"وبعظمتك التي مَلَأت كلَّ شيء"
من صفات الله (عزّ وجلّ) العليّ العظيم، ولذا يُسَبِّح العبد ربّه فيقول: سبحان ربّي العظيم.
والعظيم: هو الذي جاوز قدره وجلَّ عن حدود العقول، حتى لا تتصوّر الإحاطة بكنهه وحقيقته. قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): أمّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ، أي اجعلوه في أنفسكم ذا عظمة. وعظمة الله سبحانه وتعالى لا تكيّف، ولا تحدّ، ولا تمثّل بشيء، ويجب على العباد أن يعلموا أنّه عظيم كما وصف نفسه وفوق ذلك بلا كيفية ولا تحديد.
هذا في ما يخصّ عظمة الله، وأمّا عظمة العبد فكبره المذموم وتجبّره. وفي الحديث: مَن تعظّم في نفسه لقي الله، تبارك وتعالى، غضبان؛ التعظّم في النفس: هو الكبر والزهوة والنخوة(1).
الإمام عليّ (عليه السلام) يقرّر أنّ ما من شيء إلاّ هو مملوء بعظمة الله تعالى. وبالتالي، ما من شيء إلاّ يكشف عن عظمة الله تعالى. وهو بذلك يبصّرنا، ضمناً، بالطريق الأنسب لاستشعار عظمة الله تعالى، وهو طريق التأمّل والتفكّر في مخلوقات الله تعالى، التي منها أنفسنا التي بين جنبينا، والتي لا شكّ، تفصح بذات وجودها عن عظمة الله أيضاً.
من هنا، فإنّ أيّ شخص إذا أراد أن يزيد في إيمانه بالله تعالى، وأنْ يؤكّد في وجدانه الشعور بعظمة الله، فلا يكفي أن يقرأ الكتب الدينية فقط، بل إنّ القراءة الجيّدة لكتب علوم الفيزياء، والكيمياء، والحيوان، والطبيعيات، تعطي لقارئها الشعور بعظمة الله. فدراسة القوانين التي أودعت في الكون، تشعر الإنسان بأن لا شيء خلق صدفة أو يسير بالصدفة. بل إنّ كلّ شيء خاضع لقانون ولترتيب خاصين. فأجهزة الحيوانات التي تعيش في المنطقة القطبية مركّبة على أساس شروط تمنعها من العيش في المناطق الحارّة، وهكذا النبتة التي هيّئ لها أن تعيش في الساحل فمن غير الممكن أن تعيش في المناطق الجبلية، وهكذا، إذا درست بعض أجهزة جسم الإنسان دراسة جيدة، كالجهاز الهضمي مثلاً، فإنّك ترى أنّه يمثّل واحداً من المعامل المعقّدة التي تقوم بعملية تصنيع وتوزيع دقيقة، فكيف يعرف هذا الجهاز وظيفته ليبعث إلى الدم العناصر التي يحتاجها؟ وهكذا بالنسبة للعظام، إنّ الأغذية التي يحتاجها الإنسان تتحلَّل وتتحوّل إلى موادَّ يستفيد منها الجسم وأجهزته فلو تمعنَّا في كلّ أجهزة الجسم، وفكّرنا في كيفية عملها وطريقتها، ولو فتحنا أيَّ كتاب يخصّ هذا الموضوع، ككتب الصحّة مثلاً، ودرسناها جيداً، مهما كان مستوى هذه الكتب، سنجد أنّنا سنمتلئ بالشعور بعظمة الله سبحانه وتعالى، وسنجد أنّ عظمة الله "ملأت كلّ شيء"، لأنّ هذا الجسم مجهَّز بالقوانين الدقيقة التي تنظّمه من كلّ جهة بالمستوى الذي تشعر فيه أنّ العظمة تحيط بك من كلّ جوانبك. أي سيدرك الواحد منّا كم هو الله تعالى كائن متعال لا يُحدُّ بحدّ، ولا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، ولا يكيّف، ولا يؤيّن بأين، فهو الكبير، المتعال، الذي لا يبلغ مدحته الواصفون، ولا يدرك كنهه الناعتون، الذي قصرت دونه الهمم، وحارت به أرباب العقول. والشعور بالعظمة مدخل للشعور بالجلال والاحترام والتقديس والتنزيه، وبالتالي مدخل من مداخل التوحيد السامية. فالله سبحانه وتعالى، فوق أن يمسّ أو يدرك.
وهناك بعض الشباب، بمجرّد حصوله على شهادة ثانية أو ثالثة، يبدأ يشكّك بوجود الله، ويشكّك بالعقلية التي تؤمن بوجود الله، ويعتبر العقلية المؤمنة بالله ورسوله عقلية قديمة، باعتبار أنّه لا يؤمن إلاّ بالعلم. علماً بأنّ دراسة بعض النظريات على طريقة الاستظهار لا تجعل منه رجل علم، أمّا عند الحديث عن العالم الحقيقي فنتذكّر المرحوم حسن كامل الصبّاح الذي يسمّونه "أديسون الصغير"، تشبيهاً بأديسون الذي اخترع الكهرباء، لأنّ لحسن الصبّاح في أميركا اختراعات كثيرة، وكانت اختراعاته توازي اختراعات "أديسون" أو تقترب منها، ولقد بعث برسائل إلى الملوك العرب شارحاً مشروعه واختراعه لاستخراج الطاقة من الشمس، الأمر الذي يفيد بلاد الشرق لأنّها مليئة بالصحارى، وبذلك يستطيع أن يستخرج الطاقة من الشمس بدون الحاجة للمياه أو غيرها، وقد فكّر اليهود بعد ذلك الوقت في هذا الإنسان وإنّ من الممكن استفادة البلاد العربية منه، ولذلك قتلوه.
هذا الإنسان كان يصلّي وهو في مختبره في أميركا، وكان يكتب في بعض رسائله عن العلوم الطبيعية يقول: "إنّ العلوم الطبيعية إذا رشفت رشفاً أبعدت عن الله" يعني إذا ذاقها شخص بشفتيه فقط ولم يهضمها جيداً، أبعدته عن الله "وإذا عُبّت عبّاً قربت من الله"، أي إذا تعلّم الشخص هذه العلوم الطبيعية وهضمها جيداً فإنّها تعطيه دليلاً واضحاً على وجود الله وعظمته؛ إذ سيفهم الإنسان طبيعة هذا الكون، وأنّه قائم على أساس قوانين حكيمة مركّزة، ومن غير الممكن أن يكون قد وُجِدَ وحده صدفة.
"... وبسلطانِكَ الذي عَلا كلّ شيء..."
السلطان: من السلطة، وهي القدرة، والملك. والسلطان هو القادر، والمالك، والمتسلِّط على غيره.
وعلا: من العلو، وتفيد الارتفاع، والقوّة، والقدرة، والقهر، والغلبة(1).
من هنا، لأنّ قدرة الله (عزّ وجلّ) تعلو كلّ قدرة، وإرادته تقهر كلّ إرادة، فهو المتسلّط حقّاً على كلّ شيء وعلى كلّ شأن. قال تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ}(2)، أي ما من شيء إلاّ وهو في متناول قدرته، وما من شيء إلاّ وإرادته نافذة فيه. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فحتّى لا يتوهّم متوهّم بأنّ سلطة الله تقف عند حدّ محدود، قال تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(3).
فالله سبحانه وتعالى محيط بكلّ شيء، ومالك لكلّ شيء، وقاهر لكلّ شيء. وكيف لا يكون هذا شأنه وهو خالق كلّ شيء ومبدعه. وهو مبدئ كلّ شيء ومعيده. ومحيي كلّ شيء ومميته: "سبحان مَن ... قهر عباده بالموت والفناء" ولذا، ما من إرادة أو قدرة، يمكن أن تزاحم أو تنافس إرادة وقدرة الله تعالى. وبالتالي، ما من سلطة يمكن أن تزاحم سلطة الله تعالى مهما توهّم صاحبها أنّ لديه من أسباب القوّة والمنعة والعظمة. فكل مشاعر السلطة التي تنتاب الإنسان، سواء سلطته على الطبيعة أو الكون بفعل التقدّم العلمي أو التقني، أو سلطته على أخيه الإنسان بالقهر والغلبة، أو بالسياسة وسواها، فإنّها كلّها لا تخرج عن إرادة الله وقدرته مهما عظمت واشتدّ عودها وكثفت أغصانها.
فسلطة الله سبحانه وتعالى مطلقة لا متناهية لا تضاهيها سلطة أخرى في الوجود. بل إنّ أسباب كلّ سلطة وعناصرها هي بيد الله سبحانه وتعالى وحده. فبيد الله تعالى مقادير وأزمّة كلّ سلطة مهما بلغت وعظمت.
ولأنّ الله تعالى وحده هو السلطان حقّاً، فلا يجوز الخضوع لأيّ سلطة غير سلطته تعالى. فالخضوع والانصياع لغير سلطة الله تعالى، إنّما هو إقرار بسلطة في مقابل سلطته تعالى، ممّا يفضي إلى نوع من أنواع الشرك بالله تعالى، ولأنّ الله سبحانه وتعالى له السلطة جميعاً، فله وحده فقط يعود أمر تفويض شيء من سلطته، كما فوَّض تعالى الأنبياء والرسل بعض السلطات، فكانت لهم الولاية التشريعية والولاية التنفيذية الإجرائية والولايات التي تدخل في سياق الكرامات والمعجزات.
من هنا، فكلّ سلطة لا تستمدّ شروطها وأسبابها، شكلها ومضمونها، غاياتها وأهدافها، ومواصفات القيّمين عليها، من عند الله سبحانه وتعالى، هي سلطة جاحدة كافرة.
وفي هذا السياق، يحدّثنا الله سبحانه وتعالى في القرآن عن الليل الذي يعقبه النهار، وبيد الله أن لا يكون نهار بعد الليل، وعن النهار الذي يعقبه الليل، وبيد الله أن لا يكون هناك ليل بعد النهار، بيد الله أرواح الناس، والماء الذي يجري، وكلّ الهواء الذي نتنفَّس، فماذا يملك الناس من سلطة؟ إنّما يملكون شيئاً من قدرة الله، يملكون بعض الأشياء التي هي من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
الله هو السلطان "وبسلطانك الذي عَلا كلّ شيء" إذا تصوّرنا كلّ القوى الكبيرة والصغيرة، فما قيمتها أمام قوّة الله وسلطانه؟! عندما تضغط القضايا على شخص من الأشخاص، ومن جميع الجهات، فيجب أن يرتفع بفكره إلى الله حتى يشعر بالانفتاح، لأنّ الناس قد يصيبهم الاختناق وقد يهزمهم، وحين يصيب الاختناق النفسي قوماً، فمعنى ذلك أنّهم قدّموا لأعدائهم أكثر ممّا يريدون.
لماذا ذلك يا ترى؟
إنّه الاختناق بالضعف.. وعلى الإنسان المؤمن أن يرفع قلبه وروحه وحياته لله سبحانه وتعالى في كلّ الأوقات، وفي كلّ الأحوال.
"وبوجهك الباقي بعد فناءِ كلّ شيء"
الوجه من كلّ شيء: مستقبله، وفي التنزيل العزيز: فأينما تولّوا فثمَّ وجه الله. والوجه أيضاً، المحيّا. لكن عندما نقول وجه الله، فليس معنى ذلك أنّ للهِ وجهاً يتضمّن عينين ولساناً... لأنّ الله ليس بجسد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(1)، ولذا المراد من وجه الله هو ذات الله، باعتبار أنّ الوجه هو مظهر الذات، فالشخص يعرف من وجهه، ولذا يعتبر باللّغة العربية عن ذات الإنسان وجهه، تماماً كما يعبّر عن القدرة بالــ "يد"، مثلاً، فلان يده طويلة، أو كما يقال في السياسة، هذه الدولة يدها طويلة، وهم يعنون بذلك أنّ قدرتها طويلة. كما يعبّر، أيضاً، عن اليد بالنعمة، فعندما نقول: إنّ فلاناً له على فلان يد، أو أياد كثيرة، فإنّ ذلك يعني أنّ له نِعَماً وأفضالاً. وعندما نقرأ في القرآن {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(2) فليس معنى اليدين أنّ لله يدين مثلما البشر لهم يدان لأنّ الله ليس بجسم مثل الإنسان، وإنّما يداه كناية عن فضل الله ونِعَمِه تعالى علينا، لأنّ اليد هي مصدر العطاء، فالشخص عندما يعطي، فإنّما يعطي بيده، وإذا فهمنا هذا في اليد، فإنّ الوجه كذلك أي المراد منه ذات الله المقدّسة أو نفسه الشريفة.
إنّ البعض قد يجامل فلاناً، لأنّ له سطوة أو قدرة، وحين نردّد في الدعاء "وبوجهك الباقي بعد فناءِ كلِّ شيء" فيتصوّر البعض عندها أنّهم إذا أرادوا أن يجاملوا فلاناً على حساب الله، فإنّ فلاناً لا بدّ أن يموت بعد مدّة، ولن يبقى فلان أو غير فلان ليستفاد منه، فالذي يبقى بعد موت كلّ الناس هو الله سبحانه وتعالى.
فإذا كان فلان يموت والله هو الباقي، فكيف أجامل فلاناً وأعصي الله؟ ففلان سيذهب من طريقي ولكنّ الله سيبقى، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}(1)،
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}(2)، فهذه الآية وتلك الكلمات يجب أن تعيش في قلوبنا، لا أن نرتّلها وننغِّمها حين نقرأها، أو نسمعها كما يستمع بعض الناس لسورة الرحمن عندما يقرأها هذا المرء أو ذاك وهو يرجعها ويأخذها وهم فرحون مسرورون بالصوت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} يعني ليس هناك أحد يستأهل أن أُراعيه وأُجامله، إذا بقي شخص معك في البيت لمدة طويلة وسيذهب بعد مدّة فيما استأجر شخص آخر في الفندق لفترةٍ قصيرة فمَنْ تُجامِل؟ ومن تُراعي؟ هل تراعي الشخص الذي سيغادر غداً، وهو نازل في فندق قريب منك، أم الشخص المقيم معك؟ طبعاً ستقول: إنّ هذا ينام اليوم في الفندق وغداً سيذهب، فأيّ شيء يحدث بيننا فلن يأتي عليّ بفائدة، ولكنّ فلاناً معي بالليل وبالنهار. فكيف بالله الذي يملك أرواحنا وأنفسنا وحياتنا.
صفات الله سبحانه وتعالى هي التي تحدِّد لنا حتى الواقع السياسي الذي نعيشه في حياتنا، لا أن نقرأ ونقول مثل بعض الناس: إنّ دعاء كميل ليس فيه سياسة. صحيح هذا، ولكنّك عندما ترتبط بالله، فإنّ ارتباطك بالله يعزّ لك عن كلّ قوّة كافرة وظالمة وطاغية غير الله سبحانه وتعالى، وهل السياسة غير هذا؟!
نحن لا نتكلّم عن سياسة الذين يلعبون يخادعون، بل نتكلّم عن سياسة القرآن، سياسة الله، سياسة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، سياسة عليّ (عليه السلام)، الذي يقول: "ما ترك لي الحقّ من صديق"، فالإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يريد أن يقول لك، عندما تقرأ دعاء كميل يجب أن تُفرِغ قلبك من كلّ شيء غير الله، وتملأ قلبك بالله، وقد جاء من صفات الله في أوّل الدعاء: رحمتك، عزّتك، سلطانك، قوّتك، عظمتك، وجهك، كلّ هذه الصفات تؤكّد لك أنّه ليس هناك من فراغ إلاّ وتملأه صفاته سبحانه وتعالى.
"وبأسمائك التي ملأت أركانَ كلّ شيء.."
الأسماء: جمع اسم، والاسم مأخوذ من السِّمة، والسِّمة هي العلامة التي يمتاز بها الشيء فيعرف بها. ولذا يقال، اتّسم الرجل إذا جعل لنفسه سمة يعرف بها(1).
من هنا، كانت أسماء الله تعالى هي صفاته التي عرَّف بها عن نفسه أو ذاته المقدّسة تعالى. فمعرفة الله تعالى، إنّما تكون من خلال أسمائه، أي صفاته تعالى. وهذه الصفات ـــ الأسماء هي عين ذاته، أي ليست أمراً زائداً على الذّات، مضافاً إليها من الخارج، أو أمراً غير الذّات. فذات الله تعالى وأسماؤه التي هي صفاته هما شيء واحد لا شيئان. وبالتالي، فإنّ ذات الله المقدّسة تكشف لنا عن نفسها من خلال الأسماء التي عرَّفنا الله تعالى بها نفسه.
وعدد أسمائه تعالى كبير، ولكنّ الأسماء الحسنى، التي نوَّه بها القرآن الكريم في أكثر من آية، فهي مائة وسبعة وعشرون اسماً.
أمّا "ملأت"(2)، فمأخوذة من ملأت الإناء، أي وضعت فيه بقدر ما يأخذه فهو مملوء، ومنه القول: "نظرت إليه فملأت منه عيني".
و"الأركان" جمع ركن. والركن يقال على معان عدّة. فيقال: ركن الإنسان: قوّته وشدّته. وركن الجبل والقصر: جانبه. وركن الرجل: قومه وعدده، ومادّته.
"وأركان كلّ شيء": جوانبه التي يستند إليها ويقوم بها(3).
فأسماء الله تعالى، إذاً، "ملأت أركانَ كلّ شيء": أي ما من شيءٍ إلاّ وينهض وجوده على هذه الأسماء والصفات. فهي أساس بناء هذا الوجود، وأساس استمراره، فبدونها يفقد الوجود أساس بنيانه، ويفقد أواصر لبناته، ويفقد مقدّمات استمراره، فينقضُّ وينهدم ويتلاشى.
ولأنّ أسماء الله تعالى وصفاته "ملأت أركان كلّ شيء"، فكان كلّ شيء يفصح عن هذه الأسماء والصّفات ويؤشّر عليها، وهي، بدورها، تفصح عن الله تعالى وتدلّ عليه. من هنا، نفهم مغزى الحضّ القرآني على التدبُّر والتفكُّر في خلق السماوات، ليس فقط للتعرّف على الله تعالى كعلّة، بل لنغوص في أعماق الوجود تماماً كما يغوص الغطّاس في أعماق البحار بحثاً عن أصداف اللؤلؤ والمرجان، بحثاً عمّا هو أعمق وأشرف من كنوز الأرض جميعاً، بحثاً عن صفات الله تعالى، عن أسماء الله تعالى.
كم هي الأشياء الجميلة التي تدهشنا في حياتنا. كم هي الأشياء الجميلة التي تسحر عيوننا، وتضرم في أفئدتنا ناراً من الحنين الدافئ، ومشاعر الوجد العتيق، وتلامس الرّوح شفافيّة النور، ويتضوّع العقل بعبير المعنى الزُّلال. فكيف بنا، إذا وثبنا من الجمال المائل أمام عيوننا إلى ربِّ الجمال، فأيّ رعشة ستنساب في مشاعرنا، وأيّ نور سيُسكب في أفئدتنا، وأيّ دهشة ستسكر عقولنا، فنلامس الوجود المطلق ملامسة الظلّ للحقيقة.
وعندما ندرس هذا الجمال، عندما تختلج أرواحنا له، فكيف يمكن عندها أن ندع يد السوء تعمل فيه إفساداً وخراباً وتشويهاً.
إنّ كلّ ما حوالينا يجسّد مظهراً من مظاهر ذات الله تعالى. والإمام عليّ (عليه السلام) يقسم على الله، سبحانه وتعالى، بأسمائه، انسجاماً منه مع قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}(1).
وأسماء الله تعالى كثيرة منها: الغنيّ، القادر، العليم، الحكيم، الرحيم، الرحمن، العزيز، الجبّار، الجميل، المتكبّر، المتعال... الخ.
وهذه الأسماء، إذا تمعنَّا فيها، رأينا أن ليس هناك شيء في الحياة الدنيا إلاّ هو قائم ومكتنف بها. لكن، لا يكفي في حالة الدعاء أو سواها من الحالات استظهار الأمور، بل لا بدّ من تدبّر معانيها ودلالاتها وأبعادها، وصولاً إلى التفاعل الروحيّ والوجدانيّ والفكريّ معها. والإمام عليّ (عليه السلام) يوجّه أنظارنا إلى أنّ هذه الأسماء قد "ملأت أركان كلّ شيء". وبالتالي، ليست هي أسماء معلّقة في الفضاء، أسماء مجرّدة لا يمكن تحسّس معانيها، وتلمُّس أبعادها. بل هي أسماء تستغرق وجودنا، في الأشياء والكائنات الحيّة وغير الحيّة، في كلّ ما هو موجود ومخلوق لله تعالى، يجعل منها مفتاح أسرار هذه الأسماء والصفات. فكتاب الكون مكتوب ومَصُوغ من أبجدية الأسماء الإلهية، من أبجدية الصفات الإلهية المقدّسة. فالقراءة بهذا الكتاب تجعلنا نلمس معنى الحياة الحقّة، كما تجعلنا نلمس عظمة الله وقدرته وجماله.
فبالتأمُّل، والتدبُّر، والتفكُّر، والتحسُّس، تنساب المعاني الإلهية، معاني الأسماء والصفات من الخارج إلى دواخلنا فتشعل فيها نار الحبّ والعشق لله تعالى، فضلاً عن مشاعر الإجلال، والعظمة، والتوقير، والتقدير، وبالتالي مشاعر العبودية الحقّة، هذه العبودية التي لا تأتي قهراً، إنّما تأتي استجابة تلقائية لما يتحسَّسه الإنسان ويلمسه من عظمة خالقه، وقدرته، وجلاله، وقدرته، وسطوته، ومالكيته، فضلاً عن رحمته، هذه العبودية التي تأتي ثمرة فعل حرّ، لا ثمرة إرادة قاهرة أو طاغية، وبالتالي فهي أسمى أنواع العبودية. فالحرّية عندما تكتنفها المعاني الإلهية، عندما تتشبَّع بالقِيَم الإلهية السامية، وبالحضور الإلهي اللامحدود بكلّ تجلِّياته ومفرداته، لا تجد نفسها إلاَّ في رحاب العبوديّة لله تعالى، هذه العبودية هي ثمرة فعل إجلال حرّ للمعبود. ولذا، فبقدر ما يكون الإنسان عبداً لله تعالى، يكون حرّاً في الحياة، وبقدر ما يكون حرّاً في الحياة يكون عبداً لله تعالى. ففي صميم العبودية لله تعالى تكمن كلّ أنواع الحرية، وتتفتّح كلّ أزهارها، وتعبق كلّ روائحها. من هنا، وبناء على ما تقدّم، فالتوسّل بالأسماء الإلهية يجب ألاّ يكون مجرّد لقلقة لسان، أو مجرّد ترداد لفظي خال من أيّ تفاعل وجداني أو روحي أو عقلي. بل يجب أن يكون ترداداً واعياً يستحضر معاني هذه الأسماء في انفعال روحي عميق، من القلب إلى اللّسان، انفعال يهزّ أركانه، أو يقيم تواصلاً عميقاً بين أسماء الله المتجلّية في وجوده الخاص، والإنسان هو أكثر الكائنات وأشدّها قابلية لتجلّي الأسماء الإلهية فيه. ألَم يقل فيه الإمام عليّ (عليه السلام): "... وفيك انطوى العالَم الأكبر...".
وبقدر ما تنساب هذه المعاني في أرواحنا، تطهر وتصفو، وتنطلق في بناء حياة إنسانية حيّة. أي كما أنّ على الإنسان أن يتفاعل مع الأسماء في فعل بناء متكامل لذاته، عليه أن يعود إلى الحياة، ليجسِّد صفات الله الحسنى في العالم، ومعنى الكمال الإنساني في الأرض.
وهذا التفاعل، والأخذ والردّ، ما بين الإنسان والكون من خلال جسر الأسماء الإلهيّة المقدّسة، لا يمكن أن يستقيم بدون عمل دؤوب، وجهاد مُضْنٍ لوأد كلّ ما هو مناقض لهذه الأسماء، أي للقيم الإلهية السامقة.
علينا أن نتحلّى بأخلاق الله تعالى، التي هي أسماؤه وصفاته، ألم يوصنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قائلاً: "تخلَّقوا بأخلاق الله"، لذا، علينا أن تكون أخلاقنا من أخلاق الله تعالى، أي علينا أن نتحلّى بأسمائه وصفاته، ونجسّد هذه الصفات ملكات راسخةً في قلوبنا وعقولنا، ومطالب سامية لإرادتنا، وأهدافاً بعيدة سامقة نرومها بأعمالنا وجهودنا.
فإذا كان الله سبحانه وتعالى رحيماً، فعلينا أن نتحلّى بصفة الرحمة.. وإذا كان من صفات الله العزّة، فعلينا أن نكون أعزّاء.. وإذا كان من صفات الله الخلق والإبداع، فعلينا أن نمسك بمقدّرات الخلق والإبداع، بقدرنا ووفق إمكاناتنا، وإذا كان الله جميلاً، فعلينا أن نتحلّى بِقِيَم الجمال ونسعى لبثّ الجمال في كلّ شيء حوالينا. وهكذا في ما يخصّ كلّ الصفات والأسماء الأخرى، علينا أن نكون المرآة الصافية التي تعكس أنوار هذه الأسماء في الكون كلّه، وفي علاقاتنا بعضنا مع البعض الآخر.
فإذا كان الله تعالى يمقت الظلم والطغيان والعدوان، فعلينا أن نمقتها جميعاً ونسعى لاستئصالها من الوجود.
هكذا نعيش في رحاب الله حقّاً، ونحوِّل التوسّل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه من توسّل ظاهري لا يتجاوز لقلقة اللّسان، إلى توسّل حيّ مَعِيش.
فثمّة فرق كبير بين أن يتوسّل الإنسان بلسانه فقط، وبين أن يتوسّل بلسانه وعمله، فيكون اللّسان ترجماناً للعمل والواقع، لا ترجماناً لفراغ.
أسماء الله:
إذا تعلَّمنا في أسماء الله، رأينا أنّه ليس في الحياة الدنيا شيء إلاّ وتجد أنّ هناك اسماً من أسماء الله يحدِّد لك هذا الشيء. أكثر الفقراء، هذه الأيام، يدور كلامهم عن الأغنياء، فلان يملك مليوناً، أو عشرة ملايين، وإذا جاء للمجلس فالكلّ يقوم له ويحترمه، ولكن عندما تقول: الله هو الغنيّ، وفلان غنيّ، هنا "وبأسمائك التي ملأت أركانَ كلّ شيء" يعني عندما تلاحظ أنّ في هذه الزاوية غنيّاً وفي تلك الزاوية غنيّاً، وفي هذا البلد غنيّاً وفي ذاك البلد غنيّاً، فكلمة (الله هو الغني) تلاحق كلّ غنيّ في الكون، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ}(1) فالذي يملك الملايين، والذي يملك الدول... أولئك كلّهم فقراء، لأنّهم محتاجون إلى الله.. محتاجون إلى الماء... والهواء والغذاء، وإلى الدم الذي يجري في العروق، إلى الأجهزة التي تتحرّك في الجسم، إلى الفرص التي يضعها الله أمامهم وأمامكم، ويجعلكم تتحرّكون هنا وهناك، وتكتشفون أنّ هذا كلّه من الله، فمن لديه مال لا يحتاج الذي لا يملك مالاً، لكنّه يحتاج إلى الطبيب، ويحتاج إلى الخبّاز، والبنّاء والكهربائي ويحتاج إلى كلّ مَنْ حوله، فلكلّ إنسان حاجة، صحيح قد يكون لديك مال، ولكنّ المال لا يؤكَل، فتحتاج أن تذهب للخبّاز وإلاّ فإنّك ستجوع، تحتاج أن تجلب الماء، وإذا لم يكن هناك ماء ستعطش، وتحتاج أن تذهب إلى بائع القماش لتشتريَ القماش، وإذا لم يكن هناك بائع قماش ستعرى، وتحتاج أن تذهب للخيّاط ليخيط ملابسك، وتحتاج إلى أن تسكن، فالغنيّ هو الذي لا يحتاج أحداً، فيما نجد أنّ الإنسان فقير من أكثر من ألف جهة...
لكن لو تصوَّرنا الله وتساءلنا إلى مَنْ يحتاج؟
بعض الناس يقول إنّ كلمة: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ}(1) تعني أَنّ الله يحتاجنا لكي ننصره، وهذا خطأ، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ}، هو أن تنصروا شريعة الله، والله قادر على أن ينصر شريعته بالمعجزة، الله هو الذي قال في كتابه المجيد: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}(2) لكنّ حكمة الله اقتضت أن يهتديَ الناس أو يضلّوا بحسب الطرق الموجودة في هذه الدنيا.
عندما تمتلئ عيونكم بغنى إنسان وترون في أنفسكم احتمال خضوعكم له، لأنّه غنيّ وعنده المال والجاه تذكَّروا قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ*إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(3)، فمهما كان وجودكم ضخماً، ومهما كان لديكم من علاقات وعائلات وإخوان، فكما قال الله للأشياء كوني فكانت، فمن الممكن أن يقول لها زولي.. فتزول.
ولكي نتصوّر كيف يقول الله {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } نفكّر بالناس الذين كانوا قبل مئة سنة في العالم ونتساءل أين هم؟ لقد زالوا، لم يُزالوا دفعة واحدة كلّهم، بل زال شخص بعد شخص، ولكنّ النتيجة واحدة، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ} الجبال كم هي عظيمة؟! يقول الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً*فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً*لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً}(4).
".. وبعلمك الذي أحَاطَ بكلِّ شيء.."
العِلْم: بالكسر نقيض الجهل ويفيد معاني شتّى أبرزها: إدراك الشيء بحقيقته. اليقين: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع. المعرفة. الشعور. الإتقان. الخبرة.
ويقام ضرب من التفرقة بين العلم والمعرفة لجهة الموضوع. فالعلم موضوعه الكلّي، أو المركّب، بينما المعرفة موضوعها الجزئي، أو البسيط. ومن هنا، يقال: عرفت الله، ولا يقال: علمت الله.
ومن صفات الله (عزّ وجلّ): العليم والعالِم والعلَّام، قال الله (عزّ وجلّ):
{وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}(1). وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}(2). وقال: {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(3). فالله سبحانه وتعالى هو العالِم بما كان وما يكون قبل كونه، وبما يكون ولما يكون بعد قبل أن يكون، لم يزل عالماً، ولا يزال عالماً بما كان وما يكون، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى، أحاط علمه بجميع الأشياء باطنها وظاهرها، دقيقها وجليلها على أتمِّ الإمكان وأكمله، قال تعالى:
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(4).
وأحاط بالأمر: أحدق به من جوانبه(5). جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} (6).
كثيراً ما نقف خاشعين مندهشين إزاء إنجازات العلم، وننبهر بأولئك العلماء الذين يفضون كلّ يوم عن سرّ من أسرار الكون، ويزيحون النقال عن ألغازه وقوانينه، ويفكّون شفراته وأبجديته، فنزداد معرفة بكتاب الكون واندهاشاً بمعانيه ومقدرة على تسخيره. وهكذا يكبر إجلالنا لهؤلاء العلماء، وهو إجلال بمحلّه، للّذين كشفوا لنا عن مكنونات الذرّة، واستطاعوا أن يأخذوا بأيدينا إلى عالَم الكواكب والأفلاك، إلى الفضاء الرَّحِب، وأن يغوصوا بنا إلى أعماق المحيطات.. وما ينتظرنا، لا ريب، أكثر بكثر ممّا توصّلنا إليه اليوم. لكي تبقى كلّ هذه العلوم، على تسارع وتيرة تطوّرها ونموّها كمّاً وكيفاً، وبشهادة أهل العلم أنفسهم، علوماً محدودة في الزمان والمكان. وهي مهما بلغ بها الشوط بعيداً ستبقى أعجز بكثير من أن تحيط بكلّ أسرار الكون والحياة والإنسان. قال تعالى:
{وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(1).
لكنّ علم الله تعالى على النقيض تماماً من علم الإنسان. فعلم الله تعالى محيط أبداً وأزلاً بكلّ ما كان وسيكون. وهذا أمر بيَّن نفسه. إذاً أليس الله تعالى علّة الموجودات كلّها، وإنّ إرادته تعالى هي الإرادة الوحيدة النافذة في الكون كلّه حقّاً لا يعترضها معترض، ولا ينهض في وجهها شيء. أليس من لوازم العلم بالعلّة العلم بالمعلول.
الآن، لو قام مهندس بتشييد مبنى ألاَ يكون عالِماً بكليّات هذا المبنى وجزئياته. وألا يكون عالماً مسبقاً بشكل البناء وارتفاعه ومساحته وعدد غرفه ومساحة كلّ غرفة وما يلزمه من موادَّ ولوازم. لماذا؟ لأنّه هو مَنْ وضع تصميم البناء، ودرس احتياجاته ولوازمه وفق دراسة مسبقة لمساحة الأرض وطبيعتها والشكل المناسب الذي يمكن أن يقوم عليها.
أفَلاَ يكون الله سبحانه وتعالى، وهو المهندس الأكبر للكون وما فيه برمته، وهو مبدع هذا الكون وخالقه وبارئه ومنشئه.. أفلا يكون عالماً علماً كاملاً بأحواله وصفاته وأسراره وكلّ تفاصيله وجزئياته.
لقد أخبرنا الكتاب الكريم عن هذه الحقيقة في أكثر من آية فقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}(1).
وقال: {إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(2).
وقال: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(3).
وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(4).
ومن البيّن أنّ علم الله سبحانه وتعالى علم مطلق لا متناهٍ، على النقيض تماماً من علم الإنسان المحدود والنسبي. فالإنسان كلّ يوم يبدّل أو يغيّر ويطوّر في آرائه ونظرياته وتفسيراته العلمية، وهذا أمر طبيعي لمحدودية الإنسان الفكرية والمادية. كما أنّ علم الإنسان يصل إلى حدّ ولا يتجاوزه مصداقاً لقول الشاعر: حفظت شيئاً وغابتْ عنكَ أشياءُ. ولذا يبقى الإنسان يلحّ في طلب التثبّت من معارفه التي بين يديه، أو في السعي الدؤوب للذهاب إلى نقطة أعمق من النقاط التي باتت بين يديه، وكلّ ذلك إدراكاً منه أنّه لا يستطيع أن يحيط إحاطة تامّة بموضوعات علمه مهما بلغ شأنه وشأوه.
في حين علم الله تعالى نافذ ومحيط بما كان وما يكون قبل كونه، وبما يكون ولما يكون بعد قيل أن يكون، لا تخفى عليه خافية. فعلمه محيط قبل بدء الأشياء وبأصول وجودها ومبادئها، وقوانينها، وأحوالها، وظروفها، وملابساتها، وحيثياتها، وحركتها، ومحيط بماضيها وحاضرها ومستقبلها، بل بكلّ آن من آنات وجودها وصيرورتها وسيرورتها. كيف لا يكون علمه هكذا، والوجود نفسه هو تجلِّ من تجلّيات علمه.
من هنا، قد يكون من الأنسب أن نطلق على الإنسان صفة المتعلِّم، لا صفة العالِم.
ومن هنا، أيضاً، إذا ما استشعرنا عظمة العلماء لعظمة علمهم، فعلينا أن لا نستغرق في ذلك، بل أن نتّخذ منه نقطة انطلاق، نقطة انتباه توقظ في قلوبنا وعقولنا عظمة الله تعالى. وذلك من خلال ترداد هذا السؤال بيننا وبين أنفسنا: إذا كان الإنسان يؤتى ما يؤتى من العلم الذي هو مدّعاة للفخر والتعظيم والإجلال، فأين علم الإنسان من علم الله تعالى؟ وأين علم المخلوق من ربّ المخلوق؟ وبالتالي علينا أن نوحيَ لأنفسنا بأنّ العظمة الحقّة والإجلال الحقّ يجب أن يكونا لله تعالى، لأنّه هو العلم، العالِم، العلاّم الذي لا يشوب علمه شائبة أو نقص. وأيضاً، عندما نقف على أسرار ما نقف عليه، التي بدورها لا بدّ من أن تهزّ أعماقنا، ليس فقط لروعتها وخلّابيتها، بل لعظمة من أودع فيها هذه الروعة، والدقّة، والانسجام، والتوافق، أي عظمة الله تعالى، فما من عالِم حقّ إلاّ وقلبه يخفق خشية من الله تعالى، فإذا كان المصنوع يدلّ على الصانع، فإنّ طبيعة المصنوع وإيجاده واتّقان صناعته وبلوغه درجة راقية من الكمال، لمؤشّر أيضاً على طبيعة الصانع ومقدرته وعلمه. فكلّما غاص الإنسان في سبر أسرار الكون والحياة، اقترب أكثر من استشعار عظمة الله وقدرته وعلمه. ولذا قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(1) فالعلم يجب أن يفجِّر في قلوبنا ينابيع الخشوع والانكسار لله تعالى والخضوع والتضرّع بين يديه. العلم يجب أن يوقظ في قلوبنا أنوار العظمة والإجلال والتقديس والتوبة لله تعالى.
وهكذا يصبح العلم والعلماء مدخلين أساسيين لتهيئة القلب للخضوع والتضرّع.
كما أنّ عِلْمَنا أنّ علمَ الله تعالى محيط بكلّ شيء ومطّلع على كلّ شيء، وأنّه تعالى يمسك بأسباب كلّ شيء، يجعلنا لا نتوسّل غيره، لأنّ مَنْ كان هذا شأنه، فلا ريب في أنّه الأقدر على إجابة مسائلنا.
ولأنّنا من الأشياء التي أحاطها الله تعالى بعلمه، فهو تعالى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(1)، فإنّ التوسّل إليه بعلمه تعالى، فيه نوع من الإشعار بصدق المقام والحال. أي كأنّ عليّاً (عليه السلام) يقول: أنتَ يا الله تعلم كلّ شيء، وأنا من جملة هذه الأشياء التي أحاط بها علمك، فلا ريب في أنّك مطّلع الآن على حالي، على سرِّي وعلانيتي، ولا ريب في أنّك تَخْبُرُ حوائجي ومسائلي، وبالتالي لا ريب في أنّك تعلم صدق اعتذاري وندمي على ما أسرفت وفرّطت من عمري، وتعلم صدق توبتي. أو كأنّه، (عليه السلام)، يردّد مقولة إبراهيم الخليل (عليه السلام): علمك بحالي يغنيك عن سؤالي.
بكلامٍ آخر، إنّ إقرار العبد في مقام سؤال الله تعالى، بعلم الله المطلق، يجعله لا يقف بين يديّ الله تعالى إلاّ وقد أخلص سرّه وعلانيته، لأنّه إنّما يُقبِل على الله تعالى عرياناً مكشوفاً لا يحجبه شيء عن الله تعالى، فسرّه وعلَنه مفضوحان.
ومن شأن الإنسان، إذا ما علم أنّه مراقب مطَّلَع على سرّه وعلَنه، محاط بكلّ شؤونه وتصرّفاته الداخلية والخارجية، أن يقوى لديه الشعور بالرقابة الذاتية، وبالتالي يصبح أكثر قدرة على تقييد تصرّفاته, وتصويب مشاعره وأحاسيسه، وتفكيره ونواياه.
"وبنور وجهِكَ الذي أضاءَ لهُ كلُّ شيء.."
النور: الضياء. والنور ضدّ الظلمة. ويتضمّن النور، أيضاً، معاني الإظهار والإيضاح والتبيين. فكما الظلمة تجعل الأشياء مستترة غير مرئية، فإنّ النور يجلو سترها، ويزيح النقاب عنها، فتغدو مرئيّة ومدركة، أي أنّ النور هو الذي يبيّن الأشياء، ويري الأبصار حقيقتها.
ويسمى نوراً، كذلك كلُّ شيء ظاهر بنفسه مُظهراً لغيره. فنور الشمس، مثلاً، ظاهر بنفسه ومظهر لغيره(1).
ولا يتوقّف استخدام كلمة "النور" على الأمور الحسّية فقط، وإنّما يستخدم للإشارة، أيضاً، إلى المسائل المعنوية. قال (عزّ وجلّ): {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ}(2)، أي اتّبعوا الحقّ الذي بيانه في القلوب كبيان النور في العيون. وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(3)، أي مَن لم يهده الله، سبحانه وتعالى، فليس بمهتد.
والنور، في النهاية، اسم من أسماء الله تعالى، وصفة من صفاته (عزّ وجلّ). قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(4).
ولا ينطبق على نوره تعالى المعنى الحسّي للنور، ولذا قيل في تفسير هذه الآية المباركة معنيان متكاملان:
الأوّل: إنّ نوره تعالى هو نفس إيجاده للسموات والأرض، لأنّ في هذا الإيجاد إظهاراً للموجود من غياهب العدم وظلماته؟ فبعد أنْ كان غائراً في العدم، لا يملك أيّ ظهور، فإنّ الله تعالى سلّط على العدم نور خلقه وإبداعه، فانشق هذا العدم عن الوجود برمّته، أي وجود السموات والأرض.
والثاني: إنّ أيَّ متأمّل في هذا الوجود يخرج بنتيجة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وهي أنّ هذا الكون مكتنف بهداية تكوينيّة أودعها الله سبحانه وتعالى فيه، فكان بها قوام وجوده. هذه الهداية التي تأخذ صفة النظام والقوانين التي تحكم حركة الوجود وعلاقات عناصره بعضها ببعض وتحدّد موقعها ومنزلتها فيه، وبالتالي دورها المناط بها، فضلاً عن مسار تطوّرها أو ارتكاسها.
فهذا الكون، الذي نحن منه، ليس كوناً أعمى، يسير على غير هدى، ويتخبَّط خبط عشواء، وكأنّه يتحرّك في الظلام لا يكاد يبصر طريقه. بل هو كون بصير بما أودعه الله سبحانه وتعالى فيه من أنظمة وقوانين، وبما رسم له من مسارات وغايات، وحدَّد له من وظائف وأدوار مواقع. هذه الأنظمة والقوانين التي بها قوام وجود الكون والحياة، هذه السنن الإلهية، هي بمثابة نور لهما. بل أكثر من ذلك، إنّ ما كشف عنه العلم من حقائق في عصرنا هذا، ليعطيَ هذا المعنى بعداً إضافياً، وحضوراً جديداً؛ فلقد برهن العلم الحديث عن أنّ مادّة الكون تنحلّ إلى ذرّات، وهذه الذرّات بدورها تنحلّ إلى بروتانات والكترونات ونيوترونات، وهذه بدورها، عندها تتحطّم هذه الذرّات، تنطلق منها على هيئة إشعاعات قوامها النور. فالنور هو، أيضاً، بنية الوجود المادي كلّه، بل إنّ محض الوجود هو محض النور نفسه.
هذا في جانب، وفي جانبٍ آخر، لقد خصَّنا الله سبحانه وتعالى، بنور من نوع آخر، هو نور الرسالة، نور النبوّة. فكما الله سبحانه وتعالى جعل للكون والحياة نواميس تكوينيّة، تحكم وجودها، ويهتدي بها هذا الوجود، وبها باتت ظاهرة، بيّنة، قابلة للإدراك والفهم، فإنّه تعالى جعل للإنسان هداية إضافية هي الهداية التشريعيّة، التي بها قوام وجوده الروحي، وانتظام أمور معاشه ودنياه وآخرته. قال تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}(1). وقال تعالى: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ}(2) وقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(3) والنور المقصود في هذه الآيات الثلاث هو نور النبوّة ونور الرسالة. فالنبيّ دوره المركزي أن يكون هادياً ومبشّراً ونذيراً. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً}(4). والرسالة السماوية التي يؤدّيها الرسول، مهمّتها تربية الإنسان، واستكمال وجوده المعنوي بكلّ أبعاده الأخلاقية والعقلية والإيمانية، ووجوده الاجتماعي المحكوم له في ظرف هذه الحياة، والذي لا بدّ له من قوانين وأنظمة ينحكم إليها، بحيث تحفظ فيها الحقوق والواجبات وتؤدّى، وتراعى فيه النسب في العلاقات والمواقع وفق موازين العدل والقسطاس.
وهكذا، تغدو الهداية التشريعيّة نوراً تستظهر وتتّضح وتبين به الحقائق والكمالات والقِيَم والمبادئ والغايات، والسبل السوية، والصراط المستقيم المفضي إلى رضوان الله تعالى يوم يقوم الناس لربّ الناس والحساب، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}(1).
والخلاصة التي يريد عليّ (عليه السلام) أن يسجّلها هنا، هي أنّ ما من شيء إلاّ وهو قائم بنور الله، ولا يستطيع أن يعيش إلاّ بنور الله، وفي سبيل نوره، فنحن موجودون بنور الله تعالى، ونحتاج في كلّ وجودنا وأسباب معاشنا إلى نوره، وأكثر من ذلك يجب أن تكون حركتنا كلّها في اتّجاه مصدر النور الأوّل والأخير الذي هو الله سبحانه وتعالى. فما نحن فيه من نور وأنوار ليس مقصوداً لذاته فحسب، بل هو مقصود لغيره، أي من أجل تبيين السبيل السَّويِّ باتّجاه مصدر النور، باتّجاه الله تعالى.
لذا قال (عليه السلام): "أضاء له كلّ شيء". ولم يقل أضاء به كلّ شيء؟!
فالضوء الذي يغشانا من نور الله تعالى، يجب أن يكون وسيلة نتوسّل بها مصدر النور الأساس، أي ساحة القدس الإلهيّة. فوجودنا كما هو قائم بالنور، يجب أن نسلك سبل النور للوصول إلى النور الأعلى على قدر استطاعتنا.
"يا نور يا قدّوس، يا أوّل الأوّلين، ويا آخر الآخرين"
نشعر مع هذه النداءات بأنّنا إزاء تطوّر روحي جديد، وكأنّ ما تقدّم من نداءات وأقسام هو بمثابة تصعيد تدريجي للروح يبلغ مداه مع هذا النداء المدوّي الذي يخرج من أعماق الروح ليلامس أجواز الفضاء. هذا النداء الذي يأتي ثمرة الانصهار الروحي في بوتقة الصفات الإلهية، صفات الرحمة والجود والكرم.. وصفات القهر والعظمة والجبروت، وبالتالي يأتي تعبيراً عن هذا التعلّق والتشبّث بالألطاف الإلهية، وعن هذا الانسحاق أمام القدرات الإلهية، ويعبر، في الآن نفسه، عن مدى الشعور بالفقر والاحتياج إلى الله تعالى.
فالنداء، عندما يأتي بهذه الصيغة المركزة والمكثّفة، يأتي نشيجاً، بل ترانيم روحية عذبة تفوز حزناً إنسانياً أصيلاً، حزناً على الذات وما هي عليه من أحوال لا تليق بها وبشرف انتسابها إلى الله تعالى، وحزناً على ما هي عليه من البعد عن مصدر وجودها وعزّتها وكرامتها، عن محبوبها الأعلى؛ الله سبحانه وتعالى. هذا الحزن الذي ترقُّ له النفس، فينفجر دمعاً زاخراً، وارتعاشاً يهزّ الكيان هزّاً، وكأنّه في هذا كلّه يعبّر عن لحظة اتّصال صاف وعميق بمصدر العظمة والعزّة الإلهية. فكما الإنسان عندما يلامس التيار الكهربائي يرتعش وينتفض، بل ويتحلَّل جسده كلّه إذا لم ينقطع عنه التيّار، فكذلك الاتصال بالله سبحانه وتعالى، لا بدّ من أن يترك أثره على المتّصل، وبقدر ما تكون درجة الاتصال عالية، يغيب المخلوق ويذوب أمام الخالق وعظمته.
والنداء عندما يأتي بهذه الصيغة، أيضاً، يأتي نابعاً من القلب، مغموراً بالصدق، صدق الإحساس والشعور الوجداني العميق، صدق التململ والتوتّر الروحي، صدق الاعتراف والإصرار والشهادة على الذّات، صدق التعلُّق والانجذاب والانشداد نحو المحبوب الأعلى، أي الله سبحانه وتعالى. ولذا اختار (عليه السلام)، تعبيراً عن هذا الطور الروحيّ الجديد، أسلوب التوسّل والاستغاثة بصفات أربع رئيسيّة لمناسبتها المقام، وهي:
النور، القدوس، أوّل الأوّلين، وآخر الآخرين
النور: هو مبدأ الحياة لكلّ ما لم يكن ثمّ كان، ولكلّ ما هو كائن وسيكون. فبنوره تعالى خرج كلّ ما هو كائن، من غياهب العدم إلى نور الوجود. وبنوره تعالى يدرك كلّ موجود طريق كماله، وسبل استقرار معاشه وانتظامها، ومنتهى الغايات من وجوده.
القدّوس: وهو الطَّاهر المنزّه عن كلّ عيب ونقص، وعن كلّ شريك أيضاً. ذلك أنّ احتياجه للشريك يعني أنّه ناقص من جهة ما هو محتاج إليه. فالشريك نقص بالنسبة إلى شريكه. ولذا، كان سبحانه وتعالى، منزّهاً أيضاً حتى عن هذا العيب.
أوّل الأوّلين: أي الأوّل الذي ليس قبله شيء. فالله، سبحانه وتعالى، هو الموجود المطلق الذي لا يتصوّر بحقّه وجوداً قبله. لأنّه هو مبدأ كلّ وجود. فما من شيء موجود إلاّ ينتهي وجوده إليه تعالى. حتى الأسباب العالية، أو العلل الأولى، التي يمكن أن يتوهّم الإنسان أنّها غير مبادئ الوجود، فإنّها تنتهي بدورها إلى سبب أعمق وعلّة أعمق، هي العلّة الأولى لهذا الكون، التي لا علّة لها تسبقها، والتي تقف على رأس جميع العلل، وهي الله سبحانه وتعالى. فكلّ العلل، مهما تُخيّل أو تُوهّم أنّ لها الأولوية في مراتب الوجود، فإنّها بالنسبة لله تعالى هي معلولات له، لأنّه تعالى هو أوّل الأوّلين فهو الأوّل، أي نقطة البداية في كلّ شيء، ولكلّ شيء.
وآخر الآخرين: فهو الآخر بعد الأشياء، فلا شيء بعده: فكما هو نقطة البداية، هو، سبحانه وتعالى، نقطة النهاية. فمنه تبدأ الأشياء وإليه تنتهي تماماً كالنقطة التي يبدأ منها رسم الدائرة، فهي تشكّل بدايتها، وتشكّل نهايتها. ولولا هذه البداية وهذه النهاية لما اكتمل شكل الدائرة، بل لما كان لها معنى. كذلك وجودنا وحياتنا لا شكل لها ولا معنى، ما لم تكن منطلقاتها من الله تعالى، ومنتهاها إلى الله تعالى. فنحن يجب أن ننقلب من الله وإلى الله تعالى. فالله هو البداية، بداية الوجود والحياة، ومبدأ طريقة الحياة وطراز المعاش، وإليه ينتهي كلّ شيء ويعود؛ قال تعالى: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}(1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}(2).
وسواء أكان الله سبحانه وتعالى هو الآخر بمعنى الباقي الذي لا نهاية له ولا فناء، أم كان الآخر بمعنى أنّه لا بدّ من أن ينتهيَ أمر كلّ شيء إليه، فهو، سبحانه وتعالى، أوّل من جهة ما هو آخر، وآخر من جهة ما هو أوّل. فهو أوّل سلسلة الوجود ونهاية سلسلة الوجود. ولذا، فإنّه له فقط معنى الوجود الحقّ، وليس لغيره من الوجود، إلاّ ما كان به تعالى. فبين أوّليّته وآخرته ارتسمت معالِم الوجود وكأنّ هذا الوجود، برمّته، قائم به تعالى، تماماً كما وجود الدائرة قائم بنقطة البدء التي هي نقطة النهاية.
وما يجدر ملاحظته، هنا، أنّه لا يجب أن نفهم الأوليّة والآخريّة هنا بالنسبة إلى الله تعالى بالمعنى الزَّماني، لأنّ حدّه بالزّمان يستلزم محدوديّته، واستلزام محدوديّته معناه: إحاطة الزمان به. وهذا يعني، حتماً، احتياجه تعالى إلى المحدّد. ومن الواضح، أنّ في ذلك إلحاقاً للنقص بذاته تعالى وهو المنزّه عن كلّ عيب ونقص. وفي هذا السياق سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن الأوّل والآخر، فقال: "الأوّل لا عن أوّل قبله، ولا عن بدء سبقه، والآخر لا عن نهاية كما يعقل صفة المخلوقين، ولكن قديم أوّل، وآخر لم يزل، ولا يزال بلا بدء ولا نهاية. لا يقع عليه الحدوث، ولا يحول من حال إلى حال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}(1).
وثمّة نقطة أخيرة تستلزم الوقوف عندها، هنا، وهي: أنّه (عليه السلام)، على الرغم من أنّه يعبر بهذا النداء الجديد عن لحظة تصعيد روحي، عاكساً بذلك نوعاً من الارتقاء المعنوي، وبالتالي القرب من الله سبحانه وتعالى، وعلى الرغم من أنّ الله سبحانه وتعالى يؤكّد في أكثر من مورد في كتابه العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}(2)، قربه اللامتناهي من مخلوقاته، حيث يقول عزَّ من قائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(3).
ويقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(4). على الرغم من كلّ ذلك، فإنّه، جعل نداءه بحرف (يا)، مع أنّها موضوعة في علوم اللغة لنداء البعيد، ممّا من شأنه أن يشكّل مفارقة ظاهرة للوهلة الأولى، وبالتالي عدم انسجام مع ما ذهبنا إليه.
الحقيقة أنّ الانسجام قائم ولا مفارقة، ذلك أنّه، (عليه السلام)، وضع الداعي في مقام البعد عن الله تعالى، استظهاراً منه لما هو عليه من الذنوب والآثام، التي من شأنها أن تجعل الإنسان بعيداً عن ربّه. فلأنّه في مقام الشهادة على نفسه، والإقرار بما هو عليه من هذه الصفات، فقد استخدم نداء البعيد لهذا التأكيد من جهة، وللتأكيد، أيضاً، لمدى حاجته الفائقة للعون والمدد الإلهيين، فهو، (عليه السلام)، يضع نفسه في مقام الفقير الفقير، والمحتاج أشدّ الاحتياج، قياساً لما هو عليه من الذنوب والآثام.
فالإنسان كلّما جبر نقصه الوجودي بالحركة نحو الله تعالى، ازداد قرباً منه عزّ اسمه. فغنى الوجود دليل على القرب، وفقر الوجود دليل على البعد. فالواحد منّا كلّما تخلَّق بأخلاق الله تعالى، وكلّما التزم أوامر الله ونواهيه ولَزِم حدوده تعالى.. اكتمل وجوده واغتنى، وبالتالي ازداد قرباً من الله سبحانه وتعالى. بينما عندما يكون الإنسان مكتنفاً بالذنوب والآثام والمعاصي، بعيداً عن أخلاق الله تعالى وأسمائه وصفاته، متعدّياً على حدوده وأوامره ونواهيه، فإنّه يزداد نقصاً وفقراً، وبالتالي بُعداً عن الله تعالى.
ولذا فاستخدامه، (عليه السلام)، حرف النداء للبعيد صرخة مدوية نابعة من صميم ألم الفقر والاحتياج والبُعْد والغُرْبة عن الله تعالى، وبالتالي عن الحاجة للارتفاع ممّا هو فيه إلى ما هو أفضل وأكمل، ومن ثمّ تمهيداً لما يريد أن يسأله ويطلب. ولذا، فالاستخدام دقيق ومنسجم ومتّسق ولا فجوات فيه أو ثغرات.
2 ـــ "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ الْعِصَم، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الْذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ الْنِّقَم، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ الْنِّعَم، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْبِسُ الدُّعاءَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ الْبَلاَء، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ كُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ خَطِيئَةٍ أَخْطَأْتُها، اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِذِكْرِكَ، وَأَسْتَشْفِعُ بِكَ إلَى نَفْسِك، وَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ أَنْ تُدْنِيَنِي مِنْ قُرْبِكَ، وَأَنْ توزِعَنِي شُكْرَك، وَأَنْ تُلْهِمَنِي ذِكْرَك".
"الَّلهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ الْعِصَم"
غفر: الغفور الغفّار من أسماء الله تعالى، ومعناها الساتر لذنوب عباده، المتجاوِز عن خطاياهم وذنوبهم.
وأصل الغفر: التغطية والستر. لذا يقال: غفر الله ذنوبه. أي سترها(1).
الذنوب: جمع ذنب. والذنب، الإثم، والجرم، والمعصية. قال (عزّ وجلّ) في مناجاة موسى (عليه السلام): "ولهم عليَّ ذنب":، عنى بالذنب قتل الرجل الذي وكزه موسى (عليه السلام)، فقضى عليه، وكان ذلك الرجل من آل فرعون(2).
الهتك: خرق الستر عمّا وراءه. والهتك، أيضاً: أن تجذب ستراً فتقطعه من موضعه، أو تشقّ منه طائفة يرى ما وراءه، ولذلك يقال: هتك الله سِتر الفاجر، أي جعل أمره مفضوحاً(3).
العِصَم: من العصمة، وهي تفيد المنع. يقال: عصم الله عبده: منعه ووقاه ممّا يوبقه. قال تعالى، نقلاً عن لسان ابن نوح (عليه السلام) عندما حذّره (عليه السلام) من الطوفان: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}(4)، أي يمنعني من الماء. وقال تعالى حكاية عن امرأة العزيز حين راودت يوسف (عليه السلام) عن نفسه: فاستعصم، أي امتنع عن إجابتها طلبها له، وتأبّى عليها. فالعصمة هي المنعة. والعاصم: المانع الحامي. والاعتصام: الإمساك بالشيء.
وقيل أصل العصمة الحبل. وكلّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه. ومنه قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً}(1) أي تمسَّكوا بعهد الله، وكذلك في قوله: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ}(2)، أي مَن يتمسّك بحبله وعهده.
إذاً العِصَم هي مجموع الصفات والحالات، والعناصر النفسية ـــ المعنوية والمادية، التي من شأنها أن تجعل الإنسان معصوماً، أي في موقع الممتنع، والمحمي، والمحفوظ، والممسوك عن الوقوع في الزلل والخطايا، والذنوب، والمعاصي، والانحراف، سواء على مستوى الفكر والعاطفة والشعور والانفعالات، أو على مستوى الأعمال والأفعال.
من هنا، فإنّ عصمة الإنسان تعني كيانه وشخصيّته، ومكانته الإنسانيّة على الصعيدين الفردي والاجتماعي.
والعصمة تشكّل ثمرة معنوية، أو هيئة معنوية للشخصية الإنسانية، تجعلها في موقع الفاعلية والحضور الإيماني المستقيم في الحياة، وتُزَوِّد، في الآن نفسه، هذه الشخصية بمقوّمات المناعة والحصانة الداخلية حتى لا تضعف أو تهون، فتسقط وتنهار.
فكما أنّ الجسد كلّما اشتدت مناعته قوي على مواجهة العلل والأسقام، وكلّما ضعفت مناعته ضعف عن مواجهتها، الأمر الذي يؤدّي به إلى الضعف والانحلال فالسقوط صريعاً، كذلك فإنّ للجانب الروحيّ من الإنسان مناعته التي تنسجم مع طبيعته الخاصة. فهذا الجانب، كلّما اشتدت مناعته قويت شخصيّة الإنسان عن الضعف والسقوط، وبالتالي قويت عزيمة الإنسان وإرادته وارتفعت همّته. وإذا كان الجسد يرزق ببعض اللقاحات ضدّ الأمراض الخطيرة التي من شأنها أن ترفده بالمناعة اللازمة لمواجهتها، وعدم السقوط في براثنها، فلا بدّ من تلقيح الجانب المعنوي في الإنسان بكلّ ما من شأنه أن لا يصيب إرادته بالتردُّد والوهن، وفكره بالزلل والشطط، وبصيرته بالعمى والضلالة، وانفعالاته الداخلية بالإفراط أو التفريط.
وهذا لا يتأتّى إلاّ عن طريق التزام حبل الله الممدود ما بين الأرض والسماء، أي هذا الحبل الذي يربط الأرض بالسماء، فيشدّ بعضهما إلى بعض من غير افتراق أو تباعد، فتهبط السماء من عليائها، بأجنحة التواضع، إلى الأرض، وترتفع الأرض، بأجنحة السماء من وضعية الطين إلى وضعية الملكوت.
فبهذا الحبل، فقط، يمكن للأرض أن تتسلَّق إلى السماء فتسمو على التراب، هذا الحبل الذي دعانا الله إلى الاعتصام به، لأنّ به عصمتنا كأفراد، وعصمتنا كأُمّة. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(1)، وعندما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن معنى هذه الآية قال: نحن حبل الله الذي قال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(2).
وقد أكّد هذا المعنى الحديث الوارد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، حيث قال: "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتُمْ بهما لن تضلّوا بعدي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما"(3).
وقال عليه الصلاة والسلام: "إنّي تارك فيكم خليفتين؛ كتاب الله، حبل ممدود ما بين السماء والأرض، (أو ما بين السماء إلى الأرض)، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض"(4).
فالاعتصام بكتاب الله (عزّ وجلّ)، وبأوصيائه الذين نصَّ عليهم، هو نقطة الثقل المركزية لعصمة الإنسان والإنسانية من الانحراف والضلالة والحيرة، وبالتالي صونه وحمايته، والارتفاع به في مدارج الكمال الإنساني الذي هو له.
وفي مطلق الأحوال، إنّ عليّاً يشرع في هذا المقطع من دعائه في تبيان ما من أجله كان يتوسّل مقسماً بأسماء الله تعالى وصفاته. وهو يبدأ بسؤال المغفرة للذنوب، وهو الإمام المعصوم، المفترض الطاعة، لكي يكون سؤاله قدوه لغيره، لمن هو دونه في الكمال المعنوي الإيماني، بحيث إذا ما أراد الوقوف بين يديّ الله تعالى، فإنّ عليه أن يتذكّر ذنوبه، تلك الذنوب التي من شأنها أن تمسّ كيانه وشخصيته، فتحيلها إلى شخصية متهالكة، ضعيفة، لا حول لها ولا قوّة، فاقدة لأيِّ اعتبار أو موقع، أو دور فاعل وإيماني في الحياة(1).
وفي قوله (عليه السلام) إشعار بأنّ هناك من الذنوب، ما من شأنه أن يفتك بكينونيّة الإنسان، ويحوّله إلى مجرّد ركام ليس له من الحياة إلاّ صورتها، فهو يعيش على الهامش من دون أي حضور أو موقع أو دور. فهو إنسان تفتك به الأمراض المعنوية من كلّ حدب وصوب، فإذا به إنسان فارغ، مضطرب، سقيم، فاشل وساقط لا يكاد يلوي على شيء. إنّ أخطر الأمراض وأفدحها هي تلك التي تصيب شخصيّة الإنسان، أي تصيب روح الإنسان، لأنَّها تفتك بالبعد الرئيسي من أبعاد وجوده وتميّزه، وتصيب محلّ كماله، ومستودع آفاقه وآماله، ومرتكز مصيره(2).
ولذا، فإنّه (عليه السلام) يسأل الله سبحانه وتعالى، أن يغفر له الذنوب التي لها أمثال هذه النتائج، لكي يصلح سرّه وعلانيته معاً، فيستعيد مكانته وموقعه في الحياة.
"الَّلهُمَّ اغفر لِيَ الذُنوبَ التي تُنْزِلُ النِقَم"
النِقَمْ: جمع نقمة وهي المكافأة بالعقوبة. ومن أسماء الله (عزّ وجلّ): المنتقم وهو البالغ في العقوبة لمن شاء، وهو مفتعل من نقم ينقم إذا بلغت به الكراهة حدّ السخط(1).
هذا يعني أنّ حدوث النعمة يستلزم أن يصدر من المخلوق ما يوجب كراهية وسخط الخالق، وبالتالي ما يوجب إنزال نقمته، تعالى، على مخلوقاته التي هي انتقامه منهم.
وإنزال النقم، هنا، ليس ابتدائياً منه تعالى، بل هو مقاضاة منه لمخلوقاته وهذه المقاضاة تأخذ طريقها، هنا، أي في الحياة الدنيا، تماماً، كما تأخذ طريقها في الحياة الآخرة.
وتفيد، أيضاً، أنّ للذنوب آثاراً تترتّب عليها. فبحسب طبيعة هذه الذنوب تكون النتائج، تماماً، فكما للطبيعة سنن وقوانين تتحكّم إليها ولا تحيد عنها، وإذا ما حادت اهتزَّ نظام الكون واضطرب وظهر فيه الفساد والخراب، كذلك الأمر نفسه في ما يخصّ الحياة الإنسانية، فإنّ لها سبلها الخاصة، ونمط عيشها المخصوص، وباختصار لها نظمها وقوانينها، التي من شأنها، أن توفّر للحياة الإنسانية استقرارها واتّزانها، واتّساقها، وتفتح لها إمكانياتها في اتّجاه الكمال الأسمى. وبالتالي إذا نقضها الإنسان ولم يلتزم بها حكم على نفسه بالفوضى، والاضطراب، والويل والثبور.
وقد سئل الإمام الصادق عن الذنوب التي تقتضي إلحاق العقوبة مجازاة للإنسان، فقال (عليه السلام) "نقض العهد، وظهور الفاحشة، وشيوع الكذب، والحكم بغير ما أنزل الله، ومنع الزكاة، وتطفيف الكيل".
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "ما نقض قوم العهد إلاَّ وسلّط الله عليهم عدوّهم، وما ظهرت عنهم الفاحشة إلاّ وقد فشى فيهم الموت، وما شاع فيهم الكذب، والحكم بغير ما أنزل الله إلاّ وقد فشى فيهم الفقر، وما منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم المطر، وما طففوا الكيل إلاّ منعوا النبات، وأخذوا بالسنين"(1).
والمتأمّل في سياق هذا الحديث يلحظ بوضوح كيف رتّب (عليه السلام) خمس نتائج على خمسة أعمال. وهذه النتائج من طبائع مختلفة، بيد أنّه يجمعها إطار واحد هو الإطار الاجتماعي. أي أنّ الذنوب التي عدَّها عليه الصلاة والسلام ليست ذنوباً لا تصيب نتائجها إلاّ الأفراد، وإنّما هي نتائج تستغرق المجتمع برمّته. وربّما، لهذا السبب عدَّها من موجبات النِقَم، على الرغم من أنّ كلّ ذنب، مهما صغر، يُشكِّل انتهاكاً لحرمة الله تعالى، وبالتالي يستوجب سخطه.
والمتأمِّل في طبيعة النتائج يلحظ أنّ منها ما له صلة بكيان المجتمع السياسي، ومنها ما له صلة بكيان المجتمع البيولوجي، ومنها ما له صلة بكيان المجتمع الاقتصادي والبيئي.
فنقض "العهد" يؤدّي إلى تسلّط العدوّ على المجتمع، أي إنّ نقض العهد يؤدّي إلى تفكيك التماسك الداخلي للجماعة، وإلى فقدانها مناعتها الأمنية والعسكرية، التي من شأنها مجتمعة أن تؤدّيَ إلى انهيارها أمام أيِّ عدوّ خارجي.
وأمّا ظهور الفاحشة، من أمثال الزنى ونظائره، فإنّه يؤدّي إلى تفشّي الموت في حياة المجتمع. والموت هنا في الحقيقة موتان: موت أخلاقي قيمي، وموت بيولوجي. فلا يحتاج الواحد منّا إلى حشد الكثير من المعطيات والأرقام. فثمّة دراسات علميّة كثيرة تكشف عن الأضرار والأخطار النفسيّة والأخلاقية المترتّبة على شيوع الفاحشة فضلاً عن الفساد الذي تشيعه في العلاقات الأُسَرِيّة التي هي المدماك الأوّل في بنية المجتمع أو الجماعة. إنّ أوّل سهم تطلقه الفاحشة يكون موجهاً نحو قلب الأسرة مشيعاً فيه الاضطراب والفاسد. هذا فضلاً عن الانحلال القيمي ـــ الأخلاقي، وبالتالي الاضطراب النفسي والسلوكي الذي يُمنى به الأفراد.
ولا يخفى على أحد أيضاً، أنّ الأمراض، بل الأوبئة التي تأتي عن شيوع الفاحشة في المجتمع، وهي أوبئة لا يزال الطبّ حتى الآن يقف عاجزاً دونها. وليس أدلّ على ذلك، من شيوع مرض "الإيدز" في عموم المجتمعات التي حفرت فيها الفاحشة عميقاً. وهكذا تقتل الفاحشة الإنسان والمجتمع ببعديه المعنويّ والماديّ، الروحيّ والجسديّ معاً.
وأمّا شيوع الكذب في أوساط المجتمع "والحكم بغير ما أنزل الله" فإنّه يترتّب عليهما، انتشار الفقر. ولا يخفى أنّ الفقر ظاهرة ذات طبيعة اقتصادية ـــ اجتماعية. وأمّا ترتّب الفقر كنتيجة لشيوع الكذب في أوساط المجتمع وعدم "الحكم بغير ما أنزل الله" تعالى، فمردّه، أنّ الكذب كقيمة أخلاقية سلبيّة تؤدّي إلى سيادة علاقات النفاق، وتحكم قِيَم الباطل، الأمر الذي يؤدّي إلى تفكيك الروابط الاجتماعية بمعول الشكّ والريبة، والتنابذ، والحرص، والطمع، المفضية، مجتمعة، إلى سيادة علاقات تصارعيّة بدلاً من علاقات الوئام والتواصل والتحابّ. ولا ريب في أنّ الصراعات داخل أيّ مجتمع تشكّل مسارب لطاقاته وإمكاناته وقدراته المتنوّعة، الأمر الذي يترتّب عليه فقر عام يطال كلّ المستويات والأوضاع. وأمّا الحكم بغير ما أنزل الله" تعالى، فذلك لأنّ الله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، والدِين إنّما جاء لرفع الخلافات بين الناس، وضبط النسب والروابط في العلاقة الاجتماعية، وحفظ الحقوق، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ}(1).
وبالتالي، أيّ نظام حكم لا يرتكز إلى "ما أنزل الله" تعالى، لن يصيب العدل والحقّ، وسيقع حتماً في الظلم إذ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}(2)، ووقوع المجتمع في براثن الظلم والطغيان والضلال، سيؤدّي حتماً إلى تركز الثروات والإمكانات الاقتصادية والمالية في أيدي قلّة من الناس، هم في الغالب، الفئة الحاكمة والمتسلِّطة في المجتمع، والذي بدوره سيؤدّي، إلى بروز طبقة واسعة من المستضعفين والفقراء، الأمر الذي سيفضي إلى اضطراب وصراعات وخلافات داخلية تذهب بالإمكانات والقدرات الاقتصادية للمجتمع، وبالتالي، تأخذ بيده إلى مهاوي الفقر.
وأمّا منع الزكاة والتطفيف بالكيل، فإنّ من نتائجهما: حبس المطر ومنع النبات والأخذ "بالسنين"(1). وذلك أنّ الزكاة، كما هو معلوم في أبواب الفقه، تتّصل ببعض الغلاّت الزراعية كالقمح والشعير والزبيب والتمر. وكذلك تشمل أنواعاً من المعادن كالذهب والفضة، وأنواعاً من الحيوانات كالغنم والماعز والأبقار. ومن الواضح أنّ هذه بمجموعها مردّها إلى الأرض. فكل أصناف المزروعات تحتاج إلى الأرض. والمعادن توجد، أيضاً، في باطن الأرض. وحياة الحيوانات تتوقّف على الكلأ الذي تقدّمه لها الأرض، ولاسيّما تلك التي تندرج في إطار موضوع الزكاة. وحياة الأرض، وعطاء الأرض كلّه، يتوقّف على الماء؛ فالماء هو الذي يخرج عطاء الأرض من الكمون إلى العلن. ولذا، كان عاقبة منع الزكاة حبس المطر، الذي بدوره يؤدّي إلى امتناع النبات عن الحياة والنّمو، وبالتالي، إصابة الأرض بالجدب والقحط.
إذاً، ثمّة تلازم وثيق بين منع الزكاة وما يصيب الأرض من جدب وقحط. والعكس صحيح، فإنّ تأدية الزكاة من شأنها أن تجعل الأرض تفيض عطاءً، يوفّر مستلزمات العيش الكريم للإنسان والحيوان معاً.
والخلاصة التي نريد أن نسجّلها هنا، هي أنّ لأفعال الإنسان وقِيَمِه أثاراً اجتماعية واقتصادية وبيئية وحتى بيولوجية. ففعل الإنسان لا يحدث في الفراغ. وقيمه ليست أمراً لا أثر له في الواقع، بل على العكس تماماً، فهذه الأفعال، بمرتكزاتها القيميّة، وما ترومه من أهداف وغايات متطوّرة، تشكّل الشرط اللازم في القوانين التي تحكم وجود الإنسان الاجتماعي والاقتصادي والبيئي والبيولوجي.
والقرآن الكريم يماشي هذه الحقيقة، أي ترتيب النتائج على أفعال الإنسان ومرتكزاتها القيميّة. قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(1).
فالذين ظلموا في الآية، والمقصود بهم بنو إسرائيل، لفسقهم أنزل الله (عزّ وجلّ) عليهم {رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء}.
وفي مطلق الأحوال، إذا ما أخذنا الحديث الآنف في عين الاعتبار، فإنّ سؤال عليّ (عليه السلام) ربّه غفران "الذنوب التي تنزل النِقَم"، فيه تنبيه للداعي إلى أمثال هذه الذنوب ومشخصاتها وصولاً لإدراك أخطارها وتداعياتها، وبالتالي تجنّب نتائجها الآن وفي المستقبل.
"الَّلهُمَّ اغفر لِيَ الذنوب التي تُغيِّر النِّعَم"(2)
لقد خلق الله الكون على أساس قوانين خاصة، وعلى قاعدة أنّ النتائج مرتبطة بأسبابها. ومن هذا المنطلق فإنّ بعض الذنوب التي يرتكبها الإنسان تصنع له مصيراً ما في الدنيا والآخرة.
إنَّ تغيّر الوضع الاجتماعي للإنسان، وانتقاله، مثلاً، من حالة الغنى إلى حالة الفقر، يحكمه ارتكاب بعض الذنوب. فنحن كثيراً ما نلاحظ في حياتنا اليومية أنّ فلاناً من الناس كان يتمتّع بوضع مادّي جيّد، فإذا به يصبح صفر اليدين، ونرى الناس من حوله يتألّمون لما حلّ به، من دون أن يسألوا أنفسهم مجرّد سؤالٍ عن الأسباب التي أدّت به إلى هذه الحالة المزرية؟ فهم لا يعرفون مثلاً، كيف كان يؤيّد الظالمين، وكيف كان يزايد على مصلحة الناس، وكيف كان يغشّ، وكيف كان يتجسَّس لحساب الأجهزة الداخلية والخارجية، والله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1). وشكر النعمة هو العمل بما يريد الله منك من خلال هذه النعمة، {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(2). عندما تتذكّر نفسك حين كان لديك مال والآن لا تملك شيئاً، كان لديك صحّة وذهبت، كان لديك أمان وطمأنينة وذهبت، لا تفكّر كيف ذهبت، فكّر ماذا عملت حتى فقدتها..
"الَّلهُمَّ اغفر لِيَ الذُّنوبَ التي تحبِسُ الدُّعاء"
لماذا ندعو دائماً ولا يستجاب دعاؤنا؟
لماذا يخرج الدُّعاء من أفواهنا ولا يصل حتّى إلى سقف المسجد؟
ذلك أنّ هذه الأسئلة لا بدّ من أن نواجه بها أنفسنا حتى ندرك موقع ومواطن الخلل في علاقتنا مع الله، سبحانه وتعالى، وبالتأكيد أنّ الخلل يكمن فينا، لأنّ الله سبحانه وتعالى، أكرم وأجود من أن يردّ سائلاً. كما أنّ عطاء الله (عزّ وجلّ) لا يعرف الكلل والملل، أو الانقطاع والتوقّف، فهو (عزّ وجلّ) دائم العطاء، وعطاؤه غير محظورٍ فهو يشمل البرّ والفاجر. قال تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً}(3) وجاء في الدعاء: "لا تزيده كثرةُ العطاء إلاّ جوداً وكَرَماً". إنّ الله (عزّ وجلّ) يزداد مع كلّ عطاءٍ عطاءً، ومع كلّ إفاضة إفاضة، فهو الكريم الذي لا حدَّ لكرمه، والجواد الذي لا حدَّ لجوده.
من هنا، عندما ندعو، ونرى أنّ دعاءنا لا يستجاب، يجب علينا أنْ نراجع أنفسنا، أن نقف أمام مرآة أعمالنا ونوايانا، أمام مرآة نفوسنا وضمائرنا، لنحاكمها ونكاشفها، ونتعرّف على مواطن الخلل والعيب فيها، والتقصير لديها. ثمّة ذنوب تحول بيننا وبين الله سبحانه وتعالى. ثمّة حاجز معنوي يقف بيننا وبين الله تعالى. هذه الحواجز يكشف لنا عن بعضها دعاء السَّحَر للإمام زين العابدين (عليه السلام) المسمّى بدعاء أبي حمزة الثمالي؛ ممّا جاء في هذا الدعاء، "اللّهمّ إنّي كُلَّما قُلتُ قد تَهَيَأْتُ وَتَعَبَّأتُ، وقمتُ للصّلاةِ بينَ يديكَ وناجيتُك، ألقَيْتَ عَلَيَّ نُعاساً إذا أنا صلَّيت، وسَلَبْتَني مُناجَاتَك إذا أنا ناجيتُك. ما لي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرتي، وقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التوَّابينَ مَجْلِسي، عَرَضَتْ لي بَلِيَّةً أزالَتْ قَدَمي، وحالَتْ بيني وبينَ خِدْمَتِكَ" ما هو السبب: "لَعَلَّكَ عن بابِكَ طَرَدْتَنِي وعنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَني، أو لَعَلَّك رأيْتَني مُسْتَخِفَّاً بِحَقِّكَ فَأَقْصَيْتَنِي، أو لَعَلَّكَ رأَيْتَنِي مُعْرِضاً عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي، أو لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي في مقامِ الكاذِبينَ فَرَفَضْتَنِي، أو لَعَلَّكَ رأيْتَنِي غيرَ شاكِرٍ لِنعمائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أو لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مجالِسِ العُلَماء فَخَذَلْتَنِي، أو لَعَلَّكَ رأَيْتَني في الغافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي، أو لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلَفُ مجالِسَ البطَّالين فَبيني وبينهم خَلَّيْتَنِي، أو لَعَلَّكَ لمْ تُحِبَّ أنْ تسمعَ دُعائي فَبَاعَدْتَنِي، أو لَعَلَّكَ بِجُرْمِي وجَرِيرَتي كافَيْتَني، أو لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائي مِنْكَ جازَيْتَني..". هذه بعض الحواجز التي تحبس وتجمِّد الدعاء فتمنعه من أن يعرج إلى السماء ليحظى باستجابة الله تعالى.
وفي هذا السياق، قال تعالى: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(1) وران: من الرين وهو الحجاب الكثيف(2). والمراد هنا بالحجاب حجاب الذنوب والآثام والخطايا. هذه الذنوب التي من شأنها أن تغرق القلب في ظلام دامس لا يعرف النور أو الضوء، لأنّه يصبح عاجزاً عن استقبال النّور الإلهي، هذا النّور الذي من شأنه أن ينقّي القلب من كلّ شائبة، فيتنوّر هو بهذا النور، ليعكس هذا النور لاحقاً في كلّ مناحي الحياة.
فالقلب المنوّر بنور الله تعالى يشيع في الحياة المعاني السامية، والأفعال البنّاءة. بينما القلب المعتم ماذا عساه يضخّ في الحياة سوى معاني البؤس والشقاء، والفساد والدمار.
إذاً، القلب النقيّ من الذّنوب، القلب المنكسر لله تعالى، هو أقرب القلوب إلى الله تعالى، وبالتالي أدعيته خير الأدعية وأسرعها إلى الإجابة من المولى العزيز القدير. جاء في الحديث: "وخير الدّعاء ما صدر عن قلب نقيّ، وقلب تقيّ"(1).
كما: "إنّ الله (عزّ وجلّ) لا يستجيب دعاءً بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك"(2)، كما جاء في رواية أخرى: ".. إنّ الله (عزّ وجلّ) لا يستجيب دعاءً من قلب خامل"(3).
فغفلة القلب، وخمول القلب وعدم انتباهه، تشكّل حاجزاً بين الداعي وبين الله سبحانه وتعالى. فمن شروط إجابة الدّعاء حضور القلب وتوجُّهه نحو الله تعالى، وإلاّ تحوّل الدّعاء إلى مجرّد لقلقة لسان.
لقد جاء في مأثور الكلام، إنّ الكلام الذي يخرج من القلب يقع في القلب، والذي يخرج من اللّسان لا يتجاوز الآذان. هذا إذا كان الكلام في ما بين البشر، فلا ريب في أنّه أصدق إذا كان ما بين الإنسان وخالقه. لأنّ من شأن الكلام الذي يخرج من القلب أن يكون متفاعلاً مع هذا القلب، شاغلاً له، وبالتالي معبراً حقّاً عن مكنونه، فيأتي اللّسان حاكياً عن القلب ورسولاً له، لا أن يكون القلب في مكان واللّسان في مكانٍ آخر، لا يجمع بينهما أيّ جامع. فاللّسان الذي يحكي عن القلب هو لسان صادق ومخلص، يقيم احتراماً ووزناً لخالقه تعالى. بينما اللّسان الذي لا يصدر عن القلب هو لسان منافق يفتقد إلى الصدق والإخلاص، فكيف يستجيب الله تعالى لكاذب.
"الَّلهُمَّ اغفر لِيَ الذُّنوبَ التي تقطعُ الرَّجاء"(1)
القطع: مصدر قطعت الحبل قطعاً فانقطع. ومنه قولهم: تقطَّعوا أمرهم بينهم زُبُراً، أي تقسَّمُوه. ومنه، أيضاً، قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}(2) أي قطَّعْنَها قطعاً بعد قطع، وخدشْنَها خدشاً كثيراً. وقوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً}(3)، أي فرّقناهم فرقاً. وقوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}(4)، أي انقطعت أسبابهم ووصلهم. فالقطع يفيد، إذاً، معاني البتر، والانقسام، والتبديد، والتفريق. وهو، بالتالي، يتضمّن معنى تفكيك العلاقة أو الروابط بين المقطوع والمقطوع منه(5).
والرجاء: هو الأمل نقيض اليأس(6).
وكأنّه (عليه السلام) يعتبر الرَّجاء بمثابة الحبل الذي يبقي على رابطة الإنسان بالسماء، أو قل الإنسان بالله سبحانه وتعالى، حتى إذا ما أقدم على بعض الذنوب انقطع هذا الحبل، ولم يعد ثمّة ما يربط هذا الإنسان بالله سبحانه وتعالى.
وبقدر ما يدفع اليأس بالإنسان للاستسلام للأمر الواقع، واعتباره أمراً مستعصياً على التغيير، فإنّ الأمل يبقى منافذ التغيير مفتوحة على المستقبل، كما يبقي جذوة المقاومة للفشل والطغيان الواقع بكلّ مفرداته الفكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية مشتعلة، تتحيَّن الفرص للخروج نحو غدٍ مشرق، وواقع أسمى وأفضل.
إنّ الأمل هو اليد الممدودة دائماً للإنسان لانتشاله من براثن الإحباط والخيبة والتردّي. إنّ الأمل هو النور الذي يشعّ علينا من وراء الظلمات ليضفيَ على وجودنا بسمة الصباح. إنّ مطر الشتاء يخبّئ في داخله الأمل بالربيع. ولولا هذا الأمل الكامن في جوف الشتاء، لكان الشتاء ببرده وعواصفه، ببرقه ورعده، رسالة رعب تعصف بالحياة والقلوب. لكنّنا نقرأ في رسائل المطر، مضامين البشرى بالخير الآتي.
فالأمل هو قوّة الحياة فينا، وبدونها تصبح الحياة قفراً يباساً، صحراء جدباء، ينخرها الموت حتى العظم.
ولذا قال الله تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}(1).
والضلالة ضدّ الهدى. والإنسان الضال، أو المجتمع الضال، هو ذاك الذي ينحرف عن جادة الحق والحقيقة، والذي يميل عن صراط قِيَم الخير والمحبة والجمال.
هو ذاك الذي يعتاش على كلّ ما يناقض مطالب حياته الحقّة، فلا يتسرّب إلى جسمه وروحه إلاّ السموم الضارّة، والأوبئة الفتّاكة، التي تصيب من قلبه وعقله وإرادته مقتلاً، فيقسو حتّى يصبح كالجماد، وينافس الحيوان في حيوانيّته، حتى يصبح أكثر منه ضلالة وغيّاً. قال تعالى: {أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(2). ولذا كانت الضلالة مفتاح اليأس والقنوط من رحمة الله، لأنّ الضلالة مفتاح البعد والنأي والانقطاع عن الله تعالى. فكيف يمكن لمن ابتعد ونأى بنفسه عن الله تعالى أن تصيبه رحمته برذاذها، أو يلامسه لطفه تعالى بأنامل الحبّ والحنان؟ كيف يمكن لمن تحجَّر قلبه حتى بات صلداً أنْ ينفجر منه الماء، ماء الأمل والحياة.
ولذا، ومن خلال متابعته، (عليه السلام)، لنهجه التعليمي ـــ التربوي، بوصفه المثل الأعلى للاقتداء، ويسأل الله سبحانه وتعالى، أن يغفر له الذنوب التي تميت القلب وتضعه في التيه والضلالة، حتى يبقى على صلة الأمل بالله تعالى.
فالقلب المفعم بالإيمان لا يمكن أن يتسرّب إليه اليأس مهما كانت الأوضاع والتحدّيات والاستبدادات والظروف التي تحيط به قاسية وداهمة.
فالقلب المفعم بالإيمان يبقى متعلّقاً بالله تعالى مهما بلغت أخطاؤه، ومهما عظمت ذنوبه. جاء في الحديث الشريف عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "والذي لا إله إلاّ هو ما أُعطِيَ مؤمنٌ قطّ خيرَ الدنيا والآخرة إلاّ بحسن ظنّه بالله، ورجائه له، وحسنِ خلقه، والكفِّ عن اغتياب المؤمن. والذي لا إله إلاّ هو ما يعذّب الله مؤمناً بعد التوبة والاستغفار، إلاّ بسوء ظنّه بالله، وتقصيره من رجائه، وسوء خلقه، واغتيابه للمؤمنين. والذي لا إله إلاّ هو، لا يحسن ظنّ عبد مؤمن بالله إلاّ كان الله عند ظنّ عبده المؤمن، لأنّ الله كريم بيده الخيرات، يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن الظنّ به، ثمّ يخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظنّ، وارغبوا إليه"(1).
من هنا يبدو لنا ما للأمل من أهمية بالغة في حياة الإنسان المسلم. وكيف لا يكون للإنسان المسلم مثل هذا الأمل والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}(2) {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(3).
"الَّلهُمَّ اغفر لِيَ الذُّنوب التي تُنْزِلُ البَلاء"
البلاء: الأصل في معناه الاختبار، وهو يكون في الخير والشرّ، يقال: ابتليته بلاءً حسناً وبلاءً سيّئاً. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}(4). والمقصود بالبلاء هنا، حسب ما يفيد سياق الكلام، الجانب السلبي من البلاء، أي الجانب الذي يجلب الغمّ والكرب للإنسان.
وقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، أنّ الذنوب التي تنزل البلاء، هي: "ترك إغاثة الملهوفين(1)، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(2).
وذكرت أحاديثُ أخرى أسباباً أخرى منها: "الشرك بالله، وقتل النفس التي حرَّم الله تعالى، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم ظلماً، والزنا، والفرار من الزحف، والسرقة"(3).
ولا يخفى على لبيب ما في هذه الذنوب من آثار هدّامة على الصعيدين الفردي والاجتماعي.
والحديث الأوّل، يلتقي في مضمونه على رفض الحضور الحيادي أو السلبي للإنسان في الحياة. فعلى الإنسان أن يمدّ يد العون والمساعدة لأخيه الإنسان، فلا يتركه وحيداً في مواطن الظلم يستفرد به الظَلَمَة والمُعْتَدون. فالبحث عن الخلاص الفردي من خلال ممارسة سياسة النعامة، واللامبالاة بما يجري من حولنا، مرفوض إسلامياً، ومدّعاة لسخط الله تعالى، ومسبّب لتعميم البلاء. لأنّ الظالم إذا لم يؤخذ على يده سرعان ما سيطال ظلمه أولئك الذين يحسبون أنّهم في منأى عنه، لأنّهم يتجنّبون إزعاجه أو الاعتراض عليه.
إنّ مسؤوليّة رفع الظلم ومحاربته مسؤولية جماعيّة بالدرجة الأولى، ينهض بها المجتمع بالتكامل والتعاضد، قبل أن تكون مسؤولية فردية. والأمر عينه في سياق "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي يعتبر من أهم الفرائض التي قام عليها الإسلام. وكان من شأن تركها أن مُنِي المسلمون بهذه الحالة المزرية التي هم عليها. فالمسلم يجب أن يكون داعية خير وحق وجمال، يبثّ مبادئ الله السامية ويبشّر بها، وينبّه الناس لحقوق الله تعالى وواجباتهم تجاهه وبعضهم تجاه بعض، ويزرع قِيَم السَّماء في الأرض، تلك القِيَم التي تحضّ على العدل والخير والحقّ والحبّ والجمال. وفي المقابل، يجب أن يعمل على نزع فتيل كلّ شر، وأكبرها الشرك بالله والظلم والطغيان والفساد بكلّ أنواعه.
ومن البيّن كم في ترك هذه الفريضة من إضعاف للحقّ وتضييع للخير، وتقوية للمنكر والباطل، وتدعيم للشرّ بكلّ صنوفه وألوانه، هذا الشرّ الذي يصيب المجتمع بكامله، فلا يترك صغيراً ولا كبيراً، شاباً كان أو فتاة، امرأة أو رجلاً، شيخاً أو طفلاً.
فالشرّ عندما يعمّ لا أحد يعصم منه.
ولنتخيّل مجتمعاً محكوماً لشريعة الغاب، يقتل فيه الإنسان أخاه الإنسان، وتسوده الفاحشة، والسرقة، والعدوان على المستضعفين من الأيتام وسواهم، كيف تكون حاله. هل تكون صورته وحالة أفضل من صورة وحال مجتمع الغاب، القويّ يأكل فيه الضعيف؟ وهل يمكن العيش في هذا المجتمع؟ وهل هذا مجتمع يصحّ أن يقال فيه أو عنه أنّه مجتمع إنساني؟ بالتأكيد لا.
فحتى يستجيب الله تعالى لنا إجابة مثل هذا السؤال، علينا أن نوطِّن أنفسنا، وأن نهيّئ قلوبنا، ونشحذ إرادتنا، ونشدّ عزيمتنا، من أجل أن نضطلع بدور بنّاء في الحياة؛ فنكون عوناً للمظلوم على الظالم، ننصر الحقّ ونجاهد الباطل، وأهله، ندفع العدوان ونردّ كيد المعتدين إلى صدورهم، ننصر المستضعفين ونؤدّي إليهم حقوقهم.. حتى نستحقّ في النهاية غفران الله حقّاً، ونستحقّ أن لا ينزل علينا الكرب والغمّ، الذي هو جزاء لنا على ما كسبت أيدينا.
"الَّلهُمَّ اغفر لي كلّ ذنبٍ أذنبته، وكلَّ خطيئةٍ أخطأتها"
الخطيئة: هي الذنب عن عمد، وقيل إنّها مطلق الذنب، أي ما كان منه عن عمد أو عن غير عمد، وهي في هذا الحال أعمّ من الإثم، لأنّ الإثم لا يكون إلاّ عن عمد، بينما قد تأتي الخطيئة عن غير عمد(1).
ويبدو، من سياق سؤاله (عليه السلام) أنّ المراد بالخطيئة هنا هو المعنى الثاني لا المعنى الأول، أي المراد مطلق الخطأ. فنحن نجد في سؤاله هذا (عليه السلام) توسُّعاً في الطلب. فبعد أن سأل (عليه السلام) الله أن يغفر بعض الذنوب كتلك التي "تهتك العِصَم"، "وتُغَيِّرُ النِّعَم"، و"تُنْزِلُ النِّقَم"، و"تقطَعُ الرَّجاء".. توسّع في سؤال المغفرة ليشمل كلّ ذنب، وكلّ خطيئة. وفي ذلك، استبطان عميق، واستشعار مرهف لرحمة الله تعالى، وجوده، وكرمه، ولطفه، وإحسانه. فهو (عليه السلام) يدفع بأمله إلى أقصى الحدود، هذا الأمل الذي ما كان ليتوقّد ويسطع لولا التعلّق برحمة الله تعالى، وعدم الوقوع في فخّ القنوط واليأس من روحه تعالى، ولولا استحضار ما هو عليه الله سبحانه وتعالى من الجود، والكرم، والتجاوز، والمغفرة، فهو الرحمن الرحيم، وهو الجواد الكريم، وهو التوّاب الغفور.
جاء في الأخبار، أنّ النبيّ قال يوماً: يا كريم العفو. فكان أن علَّق، جبرائيل (عليه السلام). قائلاً: أتدري ما معنى يا كريم العفو؟ إنَّ معناها أنّ الله سبحانه وتعالى يعفو عن السيّئات برحمته، ومن ثمّ يبدّلها حسنات بكرمه(2).
ثمّ إنّه (عليه السلام)، لا يأتي بشيء من عنده، فهو إنّما يحكي حقيقة قرآنية قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}(3) ويثبت هذه الحقيقة في هيئة سؤال إنكاري في آية أخرى فيقول: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ}(4).
ويستثني في آيةٍ أخرى ذنباً واحداً من المغفرة هو ذنب الشرك بالله تعالى، لأنّ الشرك معناه قطع العلاقات مع الله. جاء في محكم التنزيل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1).
كما ورد في الأدعية المأثورة: "فاغفر لي ذنوبي كلّها، فإنّه لا يغفر الذنوب كلّها إلاّ أنت".
كيف لا تكون هذه صفة المولى العزيز وهو مَن قال فيه رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "والذي نفسي بيده الله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها"(2). بل وكيف لا يطمع العبد كلّ هذا الطمع بعفو الله تعالى، وكيف لا يتطاول بعنق رجائه هذا التطاول، وهو يقرأ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّ العبد إذا أذنب فاستغفر يقول الله لملائكته انظروا إلى عبدي أذنب ذنباً فعلم أنَّ له ربّاً يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب، اشهدوا أنّي قد غفرتُ له"(3). لكن، هل هذه حالنا في علاقات بعضنا ببعض؟
ليس هناك شخص مستعد لأن يتجاوز عن كلّ خطأ. عندما يذنب أحدنا مع الآخر، قد يأتي أُناس في مهمة وساطة لرأب الصدع، وإصلاح ذات البين. لكنّنا نأخذ في وضع الشروط، هذه مسألة يمكن أن نتسامح فيها، ولكنّ المسألة الفلانية لا يمكن غفرانها، أو التجاوز عنها، وبالتالي فهي لا تقبل الوساطة. كثيراً ما نقول: إنّ هذه المسألة لا يمكن أن نسامح فيها أبداً. فعندما تحدث خلافات زوجية بين الزوج والزوجة، مثلاً، كأن تخطئ الزَّوجة مع زوجها، فيأتي شخص للإصلاح، فيطلب من الزوج مسامحة زوجه، فيبادر الزّوج قائلاً: إنّ المسألة الفلانية لا يمكن أن أُسامح فيها. والمرأة، أيضاً، في بعض الحالات، إذا أخطأ معها زوجها تجيب بنفس جواب الزَّوج، وهكذا بالنسبة إلى علاقة الحكّام مع المحكومين، والناس بعضهم مع بعض، غالباً ليس هناك من أحد مستعدّ لأن يصفح عن كلّ ذنب إلاّ الله سبحانه وتعالى.
إذاً، عندما نقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، فمن الممكن أن يتقبّلنا الله بكلّ أخطائنا، وبكلّ ذنوبنا ما دمنا مؤمنين، والدليل على أنّنا مؤمنون هو أنّنا ندعو الله، فغير المؤمن بالله لا يدعو الله. إذاً، عندما نقف بين يديّ الله تعالى، علينا أن نستحضر كلّ أخطائنا، وكلّ ذنوبنا أمامنا، يعني كلّ شخص عندما يقول لله: "اللَّهُمَّ اغفر لي كلّ ذنبٍ أذنبتُه، وكلَّ خطيئةٍ أخطأتها" ليجلس ويستعرض بنفسه الذنوب التي أذنبها مع الله سبحانه وتعالى، وما هي خطاياه، ليستحضرها في نفسه، ويطلب من الله أن يغفرها له، مع العزم على عدم تكرار المعصية.
وهذا يعلّمنا أن نستحضر ذنوبنا أمامنا، لأنّ الإنسان الذي يستحضر ذنوبه وأخطاءَه، يعمل على إصلاح ذنوبه وأخطائه. أمّا الإنسان الذي يفكّر بحسناته دائماً فإذا جاءه شخص هادياً له أخطاءه وعيوبه وانحرافاته، فإنّه يغصّ ولا يحبّ أن يذكّره أحد بأخطائه وذنوبه. لكن إذا جاءه شخص ومدّه في الشيء الذي فيه، أو في الشيء الذي ليس فيه، فعند ذلك تجده مرتاحاً ومسروراً.
يجب علينا أن نفكّر أنّ الأشياء الطيّبة التي في الإنسان سواء أذكرها الناس أم لم يذكروها فهي موجودة، ولكنّ عيوبنا هي التي يجب أن نصلحها، ولذا علينا أن نتذكّر دائماً أن نحاسب أنفسنا عليها، وكلّما ذكر الإنسان ذنبه أكثر، استطاع أن يخلّص نفسه من ذنوبه، ومن أخطائه أكثر.
"اللَّهُمَّ إنّي أتَقَرَّبُ إليكَ بِذِكْرِك"
الذِّكر: الحفظ للشيء. وهو أيضاً، الشيء يجري على الّلسان، أو جرى الشيء على اللّسان.
والذِّكر أيضاً: الدرس. قال تعالى: واذكروا ما فيه معناه ادرسوا ما فيه.
والذِّكر، كذلك، نقيض النسيان. قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1).
من الواضح، أنّ حفظ الشيء بحيث لا ينسى، يستلزم جريه على اللّسان، كما يستلزم تمحيص معانيه بالدرس. أي إنّ حفظ الشيء يستلزم تثبيت صورة الشيء ومعناه. وإذا كان تكرار صورة الشيء على اللّسان يؤدّي إلى حفظ شكله وصورته، فإنّ تمحيص معانيه بالدرس يؤدّي إلى تثبيت المعنى وحفظه. ولا ريب في أنّ هذا أكمل الحفظ، وبالتالي أكمل الذكر.
والقرب: نقيض البعد. يقال قرب الشيء، بالضّم، يقرب قرباً وقرباناً أي دنا، فهو قريب.
والقرب قد يكون في المكان والزمان فيقال مثلاً: منزل فلان قريب من منزلي، أي على مسافة قليلة من منزلي. وإنّ الساعة قريبة من العاشرة، أي إنّ الزمن الذي يفصلها عن العاشرة قليل جداً. وقد يفيد القرب معنى القرب النَّسبي كقولنا، فلان قريبي، أي ثمّة نسب مشترك يجمعنا. وقد يفيد، أيضاً، معنى الدرجة أو المنزلة كقولنا، فلان قرابتك في العلم، أي هو على منزلة أو في درجة قريبة من درجتك العلمية.
والقرب أيضاً، يفيد الاقتراب المعنوي، وهو المراد بموضوعنا هنا.
ذلك، لأنّ كلّ معاني القرب السابقة مستحيلة بالنسبة إلى الله تعالى، لما تستلزمه من تحديد وإشراك له تعالى.
ولذا في الحديث: من تقرَّب إليّ شبراً تقرّبتُ إليه ذراعاً. فالمقصود بقرب العبد من الله، (عزّ وجلّ) ، القرب بالأمور المعنوية كالذكر والعمل الصالح، لا قرب الذّات والمكان، لأنّ ذلك من صفات الأجسام، والله يتعالى من ذلك ويتقدّس. والمراد بقرب الله تعالى من العبد، قرب نعمه وألطافه منه، وبرّه وإحسانه، وترادف مننه عنده، وفيض مواهبه عليه(2).
ذكر الله والتقرّب إليه:
فعندما يريد أحد الناس أن يتقرّب من إنسان آخر فإنّه يقدّم له هديّة، لأنّ الهديّة تحمل في طيّاتها دلالة رمزيّة، فهي تمثّل عربون مودّة وتقدير. وبالتالي، تشكّل الهديّة وسيلة من وسائل التقارب والتوادّ بين البشر. لكن أيّ نوع من الهدايا يمكن أن نتقرّب به إلى الله تعالى. الإمام عليّ (عليه السلام) يقول: يا ربّ أنا أريدُ أنْ أتقرّب إليك، ووسيلتي لكي أكون قريباً منك، أي هديّتي التي بها أتوسّل التقرّب منك، هي ذكري لك. فأنا لا أريد أنْ أنساك. أريد أن أذكرك في اللّيل والنهار. كلّ هذا الذكر لله تعالى، لأنّ نسيان الله، سبحانه وتعالى، هو الذي يؤدّي بالإنسان للابتعاد عنه تعالى. غالباً ما نذكر الله، سبحانه وتعالى، لكنَّ ذكرنا له لا يتجاوز ألسنتنا. ذكرنا لله لا يعيش في قلوبنا أبداً. لذا إذا أردنا أن نتقرّب من الله بذكره، علينا أن لا نكتفيَ بلقلقة اللّسان، بل علينا أن نشعر بحضور الله في حياتنا. لقد علّمنا الإسلام أن نذكر الله في كلّ شيء، عندما تبدأ بتناول الطعام، تقول (باسم الله)، أو عندما تريد أن تقرأ شيئاً تقول (باسم الله).
وإذا كنتَ رجلاً عامِلاً، فإنّك تبدأ عملك بقولك: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وكأنّك تقول يا ربّ: إنّ كلّ عمل في الحياة أبدأه باسمك، لأنّك مصدر القوّة ومصدر الوجود.
وهذا الأمر لا نجده فقط عندنا نحن المسلمين. فكلّ بلد من بلدان العالم يحاول دائماً أن يعلّق أموره بمصدر من المصادر التي تشكّل مبدأ قدرته وسلطته وقوّته. فالحاكم مثلاً، في البلاد المَلَكِيّة يفتتح كلامه: باسم الملك. وفي البلاد ذات النظام الجمهوري: باسم الشعب. ماذا يعنون بهذه الكلمات. إنّهم يقولون نحن لا نعبّر عن أنفسنا، وإنّما نعبّر إمّا عن اسم الملك أو عن الشعب، وبالتالي، يربطون ويبرّرون تصرّفهم باسم الملك أو باسم الشعب، لما في هذا الرابط من معاني الشرعية والقوّة في نظر أهلها.
وفي ما يخصّنا، يجب أن نعرف أنّ كلّ قوّتنا وحياتنا ووجودنا هي من الله، سبحانه وتعالى، فعندما نبدأ أعمالنا نبدأها باسم الله، لأنّ الله هو الذي أعطانا القوّة التي نستطيع بها أن نعمل، ونستطيع بها أن نقرأ، وأن نتابع أيَّ شيء من الأشياء. عندما نلتذ بالطعام علينا أن نشكر الله. عندما نعيش عظمة الله وصفاته نقول: (الحمد لله)، عندما نَتَلَفَّتُ ونرى قوماً يعبدون أشخاصاً من دون الله سبحانه وتعالى، يطلبون الدنيا برفع صُوَرِهم، ونطق أسمائهم، وبمدحهم بالخضوع لهم، عندما نرى الناس كذلك، لنحاول أن نقف لنقول (لا إله إلاّ الله) ولنقول: (الله أكبر)، ليضعف شعورنا بعظمة كلّ هذه الأشياء وليمتلئ بعظمة الله وحده.
عندما يشعر الإنسان بالضعف ويحتاج إلى القوّة، ليقل: (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله).
وعندما يصاب الإنسان بمصيبة ويريد أن يصبِّر نفسه، ليقل: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}(1).
إنّ التربية الإسلاميّة تفرض على الإنسان حين يريد أن يتناول طعامه وشرابه، وحتى حين يمارس شهواته وكلّ أعماله، أن يذكر الله في كلّ مناسبة، لكي يشعر أنّ الله يحيط به من جميع الجهات.
فكلّما ذكرت الله أكثر، شعرت بحاجتك إليه أكثر، وكلّما شعرت بحاجتك إلى الله أكثر قربت إليه أكثر.
فمعنى أن نذكر الله تعالى؛ أن نستحضر الله في كلّ شيء يخصّ وجودنا وحياتنا، حتى يمتلئ هذا الوجود بحضور الله، فأنَّى وجّهنا نظرنا لا نرى إلاّ الله سبحانه وتعالى. يجب أن يكون لله تعالى الحضور الكلّي في حياتنا، فلا نغفل عن ذكره تعالى أو ننسى، حتى تعمر قلوبنا بحبّ الله والإخلاص له تعالى، فنكون مصداقاً لقوله تعالى:
{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}(1). فيجب ألاّ يقف أيّ مانع مهما كان نوعه، داخلياً أو خارجياً، من دون ذكر الله تعالى: فيجب ألاّ يلهينا شيء عن ذكره تعالى. لأنّ الله أعظم من كلّ شيء، وأجلّ من كلّ شيء، وأكبر من كلّ شيء.
"وأستشفعُ بِكَ إلى نفسِك"
الشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره.
وتشفع إليه: طلب إليه. والشافع: الطالب لغيره يتشفَّع به إلى المطلوب.
واستشفعت إلى فلان، أي سألته أن يشفع لي إليه(2).
والإمام عليّ (عليه السلام) يقول: "وأستشفعُ بكَ إلى نفسك"، أي يسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون هو نفسه شفيعاً له عند نفسه. ذلك أنّ بعض الناس قد يسألون شفاعة أُناس مثلهم، ظنّاً منهم أنّ هؤلاء يملكون القوّة عند الذين يشفعون. لكنّ عليّاً (عليه السلام)، يقول.. لا أرى أحداً يملك قوّة أمام قوّتك يا ربّ، بل إنّ قوّة كلّ إنسان هي منك. أنا يا ربّ أقف بين يديك، ولك وحدك أن تعاقبني، ولذا فأنا أستشفع بِكَ إلى نفسك، لأنّي لا أرى غيرك شفيعاً.
وهنا نتساءل ما معنى الشفاعة؟
ما معنى أن نستشفع برسول الله أو بالأئمّة (عليهم السلام)؟
إنّ رسول الله عندما يشفع، إنّما يشفع بموجب تكليف الله له بالشفاعة، إنّه ((صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لا يشفع من نفسه، أو من ذاته، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}(3) يعني أنّ الله يعطيهم برنامجاً وخطّاً للشفاعة، فإذا كان الناس يتشفَّع بعضهم لبعض على أساس القضايا الشخصية، فإنّ رسول الله عندما يشفع لأيِّ إنسان، لا يشفع على أساس خصوصيّات، وإنّما على أساس الخطّ الذي أعطاه إيّاه الله سبحانه وتعالى للشفاعة.
شفاعة أولياء الله:
إنّ هناك من يفهم القضايا خطأ، يذهب إلى مقام السيدة زينب بنت عليّ (عليه السلام) في الشام وينذر نذراً، أو يذبح ذبيحة، ويعتقد أنّه يُحمِّلُها جميلاً إذا ذبح ذبيحة، أو وضع لها في قفص الضريح بعض المال، وهو بهذا يعتقد أنّ زينب (عليه السلام) سوف تخجل، لأنّه نذر لها نذراً، والأمر نفسه مع الإمام الحسين (عليه السلام) أو أخيه العبّاس (عليه السلام) ولكن: "ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى" وفي آيةٍ ثانية: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}(1) بعض الناس يعصي الله ويحبّ عليّاً بن أبي طالب (عليه السلام)، فتراه يشرب الخمر، ويلعب القمار، ويقتل النفس المحرّمة، ويعمل كلّ شيء ويقول: أنا أحبّ عليَّ بن أبي طالب، وليس من المعقول أن يترك عليّ جماعته، ونسي هذا أنّ عليَّ بن أبي طالب ترك أعمامه وأقرباءه وأصدقاءه،وترك الناس كلّهم في سبيل الله حتى قال: (ما ترك لي الحقّ من صديق) فطريقة عليّ بن أبي طالب ليست مثل بعض الزعماء أو المنظّمات أو الأحزاب، أن اذهب اقتل فلاناً وأنا أُخلِّصك، أنا أوكِّل لك محامياً وأشفع لك، فالإسلام لا يقول هذا بل يقول على لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّما أهلك مَن كان قبلكم أنّهم إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لَقَطَعْتُ يَدَها".
هذا هو الإسلام، فلا تعتقدوا أنّ الشفاعة لله بدون مقابل، بل تأتيك الشفاعة لمجرّد أنْ تحبّ عليَّ بن أبي طالب.
عليّ (عليه السلام) لا يحبّ نفسه كما نحبّ أنفسنا، وقد كان عليّ (عليه السلام) يعيش مشاكل مع الناس ويقول: (ليس أمري وأمركم واحد) هنالك فرق بيني وبينكم (إنّي أُريدكم لله، وأنتم تريدوني لأنفسكم) أُريدُ أن أقرّبكم لله فيما أنتم تريدون أن تقرّبوني لمطامعكم ومصالحكم.
ليس هناك من أحد يمكن أن يشفع بغير إذن الله، حتى رسول الله يقف أمام الله ليشفع، ولكن بعد أن يصدر إليه الله الأمر، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(1). ليس هناك أحد غير الله، عظمة رسول الله أنّه عبد الله، ولذا نحن في التشهُّد نقول: "وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله"، وكذلك عليّ عظمته أنّه عبد الله، حتى الملائكة هم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(2).
"الَّلهُمَّ إنّي أتَقَرَّبُ إليكَ بِذِكْرِكَ وأسْتَشْفِعُ بكَ إلى نفسِك"
أنتَ الذي تحاسبني، وأنتَ الذي تشفع لي عند نفسك يا ربّ.
ولو وضعنا سؤال الشفاعة في سياق الأسئلة الأخرى لانفتحت لنا معانٍ أخرى له. ولتوضيح ذلك لنطرح السؤال التالي: لماذا لم يكتفِ الإمام عليّ (عليه السلام) بطلب المغفرة للذنوب التي سأل الله تعالى أن يغفرها له.
ماذا نشعر، ونحن نرى عليّاً (عليه السلام) يسأل المغفرة تلو المغفرة، ثمّ لا يكتفي بذلك، بل يتجاوزه إلى سؤال شفاعة الله سبحانه وتعالى له.
ألاَ تشعر أنّ عليّاً (عليه السلام) لا يزال خائفاً، ولاسيّما أنّ الذنوب والخطايا التي طلب من الله سبحانه وتعالى أن يغفرها له هي من الذنوب الكبيرة التي يكفي ذنبٌ واحدٌ لينقصم الظّهر منها.
نعم، إنّ عليّاً (عليه السلام) يدفع خوفه من الله سبحانه وتعالى إلى أعلى نقطة ممكنة. هو يريد أن يقول لنا، إنّ خوفنا من الله سبحانه وتعالى يجب أن يكون كبيراً كبيراً. بحيث نستشعر معه أنّ كلّ مخالفة نؤدّيها بحقّه، لا ينفع بإصلاحها وغفرانها أيّ شفيعٍ مهما كان نوعه سوى الله سبحانه وتعالى. وكيف لا يكون الأمر كذلك والله سبحانه وتعالى هو القاضي والمدّعي في آن، بينما نحن مَن هم في قفص الاتّهام، وكلّ الوقائع والأدلّة تديننا. ماذا يبقى لنا ونحن على هذه الحالة، سوى أنْ نلجأ إلى التوسُّلات وطلب الرّحمة والمغفرة، بل ماذا يبقى لنا سوى القاضي نفسه الذي هو خصمنا في الآن نفسه. وكأنَّ عليّاً (عليه السلام) تارة ينظر إلى الله بوصفه القاضي فيتوسّل إليه راجياً أن يخفّف عنه الحكم، وطوراً بوصفه الخصم فيتوسّل إليه أن يسحب دعواه ويبطلها، بحيث لا يبقى عليه شيء، فيستريح ويطمئِنّ.
"وأسألُكَ بجودِكَ وكَرَمِك أنْ تُدْنيَني مِنْ قُرْبِك"
الجود: السخاء، وهو بمعنى الكرم. والجواد: هو الكريم الذي لا يبخل بعطائه، وهو من أسماء الله تعالى.
والكريم الجواد هو الذي إذا قصده شخص بحاجة أو مسألة أو أيّ أمرٍ كان، لا يقفل الباب في وجهه، ولا يطرده عن بابه، بل يستقبله، ويحسن استقباله ووفادته، فيستضيفه ويكرمه. هذا بالنسبة إلى إنسان يتّصف بهاتين الصفتين، فكيف إذا كانت هاتان الصفتان لله تعالى.
ولذا، فإنّ عليّاً (عليه السلام) يقسم على الله (عزّ وجلّ) بجوده وكرمه أن يدنيَهُ مِنْ قُرْبه، لأنّ من شأن صفة الجواد الكريم أنْ لا يردّ سؤال مَنْ سألَه، بل يحقّق له مسألته، ويجيبه على طلبه.
وعليّ (عليه السلام)، في الآن نفسه، يعلّمنا ماذا نسأل الله سبحانه وتعالى. يعلّمنا أيّ الأمور جديرة بأنْ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحقّقها لنا. ذلك أنّ بعض الناس كلّ همّهم يكون في الأمور المادية والحسيّة من مأكل وملبس ومشرب وشهوة ومسكن.. الخ. وبالتالي يجعلون كلّ همّهم في أن يسألوا الله سبحانه وتعالى مثل هذه الأمور، ناسين، أو جاهلين، أنّ الله قد تكفل بالرزق، وأن لا أحد يموت من الجوع.
إنّ الأمور الجديرة بأنْ نسأل الله تعالى بها هي الأمور التي لها صلة وثيقة بإصلاح وبناء نفوسنا وشخصيّاتنا، الأمور التي نستكمل بها وجودنا، وتجعلنا كباراً عند الله تعالى.
إنّ معنى أن نكون قريبين من الله تعالى، هو أن نكون قريبين من حرمته ورضوانه ولطفه. وهذا لا يتأتّى لنا إلاّ إذا كنّا أقرباء له تعالى بأرواحنا، وأفكارنا، وأخلاقنا، وأعمالنا، وبكلّ جوّانيّاتنا.
شكر نعم الله:
"وأن توزِعَنِي شُكْرَك"
الإيزاع: هو الإلهام. واستوزعت الله شكره، فأوزعني، أي: استلهمته فألهمني. فعليّ (عليه السلام) يقول: إنّي أسألك ـــ يا الله ـــ أيضاً، بجودك وكرمك أن تلهمني شكرك، أي أن توفّقني لكي لا أكون كافراً بنعمتك، بل أكون شاكراً لها.
وقد بيَّنا أنّ شكر النعمة ليس في أن تقول الشكر لله. شكر النِّعمة لا يكون فقط باللّسان، بل هو أن تتصرّف بنِعَمِ الله بما يرضي الله سبحانه وتعالى؛ فإذا أعطاك مالاً فلا تصرفه في الحرام، بل اصرفه في الحلال، وإذا أعطاك صحّة، فلا تصرف هذه الصحّة في معصية الله، وإذا أعطاك قوّة، فلا تعطِ هذه القوّة للظالم حتّى يظلم بها الناس ويستغلّها في ظلم الناس، وإذا أعطاك جاهاً ومركزاً، فلا تبعه لِلْظَلَمَة والْخَوَنَة، بل أعطه للناس.
في القرآن الكريم نجد آيات في هذا المعنى {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}(1)، أي اجعلني إنساناً يشعر بالجميل ويعترف به. أليس مفارقاً، بل وغريباً، أنّ الله سبحانه وتعالى يغرقك بالنِّعَم صباحاً ومساءً، ثم تأخذ هذه النِّعَم لتحاربه بها!!
للإمام عليّ (عليه السلام) في هذا المجال كلمات رائعة عظيمة يقول فيها: (أَقَلَّ ما يلزمكم لله) أقلّ شيء يجب أن تعملوه مع الله هو شيء واحد: (أن لا تستعينوا بِنِعَمِه على معاصِيه).
الله يعطيك نعمة وأنتَ تأخذ هذه النعمة التي أعطاك الله إيّاها وتستعين بالنِّعمة على معصية الله سبحانه وتعالى، مثل شخصٍ يعطيك سيفاً، وأوّل عمل تعمله هو أن تمسك السيف وتقتله به!.
الله أعطاك لساناً، إذا انحبس لسان أيّ شخص فكم يصرف من المال حتى يداوي لسانه؟
إذا رزق شخص بطفل أخرس فكم يشعر بالخيبة لأنّ لدى طفله حبسة لسان. بعض الناس ليس عندهم سوى تأتأة أو فأفأة بألسنتهم يظلّون معقّدين ومحرجين. لقد أعطاك الله لساناً طلقاً تستطيع أن تتحدّث به من الصَّبَاح إلى المساء بأعذب الألفاظ، هذه النِّعمة التي أنعمها الله عليك، لكن عند حصول خلاف مع زوجتك، تلقي اللوم على الله وتبدأ بالسباب والشتائم.
لو راجعتم أنفسكم عندما تحصل لكم مشاكل مع زوجاتكم أو بناتكم أو أطفالكم أو أصدقائكم، فهل تسبُّون أعداء الله؟ لا يوجد أحد يفعل ذلك، لكن كم شخصاً يسبّ الله سبحانه وتعالى؟.
يجب أن تراجعوا أنفسكم، هل هناك أحد يسبّ الظالمين، أو يسبّ الطواغيت؟ لا أحد، لكن كم شخصاً يسبّ الدِين والمذهب؟ وحتّى الأطفال تعلَّموا منهم السبّ، بعض الناس بدأ يستشكل، فبدلاً من أن يقول: (دِينك) يقول: (تينك)، ولكن الفكرة نفسها، يعني بعض الناس لا يريد أن يغيِّر المسبة بشكل أساسي، يبقيها مسبّة على حالها ولكنّه يغيّرها، في حين أنّ جوّها هو الجوّ نفسه.
الله أعطانا لساناً حتى نطيعه به ونصلح به نفوسنا، ونصلح به الناس من حولنا. وحتى ننفع الناس بالكلام الذي يخرج من ألسنتنا، ولكنّنا من الصباح إلى المساء نغتاب الناس، ونفتن بين الناس، ونسبّهم، ونعاون الظالم ونحاول أن نتذلَّل له ونخضع.
أشكر نعمة الله بيدك، أن لا ترتفع لتضرب إنساناً لا يستحقّ ذلك، فالله هو الذي أعطاك يديك فإذا أصبت بشلل فماذا يحدث لك؟
مَن أعطاك هذه القوّة؟ وهو القادر في أيّ وقت أن يذهب قوّتك، تَرَوْنَ شخصاً وهو في أحسن حال، تأتيه ضربة صغيرة على الدماغ، فإذا به يصبح مشلولاً في كلّ جسمه.
الله هو الذي حرَّك اليد، وهو الذي يمسكها.
إنّ الله هو الذي أعطاك يدك حتّى تستعين بها على قضاء حوائجك، وتعاون فيها الضعيف، وتكون قوّة مع المظلوم. يجب أن لا تمسك بها إلاّ ما يكون فيه رضى الله، في يدك التي تمسك بها كأس الخمر وتلعب بها القمار، وتعتدي بها على المحصنات، وتضرب فيها الضعفاء، وتسخرها لخدمة الظلمة، إنّها يد تعمل في غير ما يريد الله سبحانه وتعالى.
إذا استخدم شخص يده على رجله أو لسانه، عليه أن يذكر دائماً هذه الآية: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(1).
3 ـــ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ سُؤالَ خَاضِعٍ مُتَذَلِّلٍ خاشِعٍ، أَنْ تُسامِحَنِي وَتَرْحَمَنِي، وَتَجْعَلَنِي بِقَسْمِكَ راضِياً قانِعاً، وَفِي جَميعِ الأَحْوَالِ مُتَواضِعاً. اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ سُؤالَ مَنْ اشْتَدَّتْ فاقَتُهُ، وَأَنْزَلَ بِكَ عِنْدَ الشَّدائِدِ حاجَتَهُ، وَعَظُمَ فِيما عِنْدَكَ رَغْبَتُهُ".
لا يكتفي عليٌّ (عليه السلام) في هذا المقطع من الدعاء ببيان حوائجه فقط، وإنّما يكشف، أيضاً، عن الحال التي يفترض أن يكون عليها الداعي وهو في محضر الدعاء والسؤال والمناجاة لله تعالى.
فعلى الداعي أن يكون متلبِّساً، وهو في محضر الدعاء، بصفات الخضوع والتذلُّل والخشوع. أي أن تكون حاله حال الخاضع، الذليل، الخاشع، لا حال المتكبّر، المختال، الفَرِح بنفسه وذاته. وذلك سواء في مظهره الخارجي، أي على صعيد تعبيرات جسده وبدنه، أو على الصعيد الباطني، أي على صعيد اختلاجات وانفعالات روحه وقلبه. ذلك أنّ الخضوع يكون في البدن، بينما الخشوع يكون في الصوت والبصر(1). والصوت والبصر مرآة الروح. فهما أكثر الحواس كشفاً عمّا يدور حقيقة في النفس والقلب من اختلاجات عميقة، وما يحتاجهما من مشاعرَ وانفعالاتٍ صادقةٍ. فالعيون تفيض بالدموع عندما تجتاح النَّفسَ مشاعرُ وانفعالاتٌ معيّنة. وقد تكون هذه الدموع دموع فرح أو حزن، لكنّها تكشف عن الحالة النفسية للإنسان.
والأمر كذلك في ما يخصّ الصوت؛ فالصوت المتهدّج، الذي يجهش بالبكاء، يكشف عن عمق تأوّهات الروح وانكسار القلب. كما قد يكشف عن أمور أخرى بعيدة كلّ البعد عن هذه المعاني.
وفي مطلق الأحوال، عندما نريد أن نطلب من الله، يجب أن نشعر بالخضوع والتذلُّل والخشوع له سبحانه وتعالى. وهذا لا يكون إلاّ إذا استشعرنا عظمة الله (عزّ وجلّ). لذا يجب أن ننمّيَ هذا الشعور بالتعظيم لله تعالى في نفوسنا، حتى نستطيع أن ننمّيَ في المقابل مشاعر الخضوع والخشوع والتذلّل له في قلوبنا.
بعض الناس عندما يسأل ليطلب طلباً من إنسان مثله، كيف يطلب؟ نراه يقف وِقْفَةَ مسكين، ضعيف، ذليل، على الرغم من أنّه يطلب من عبدٍ مثله أمّا عندما يقف بين يديّ الله ليدعو، فمن أوّل الدعاء إلى آخره لا تنزل له دمعة واحدة من عيونه خشيةً من الله سبحانه وتعالى، ولا يشعر بالخضوع والتذلُّل له.
إذا أردنا أن يربّينا الدعاء ويغسل قلوبنا؛ يجب أن نعيشه كما كان يعيشه أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، الذي يقال، إنّه إذا دعا الله، فإنّ دموعه تغرق خدّيه. وكان إذا سجد وحرّك يبدو كأنّه ميت...!
يقال إنّه مرّ إنسان من أصحاب الإمام عليّ (عليه السلام) به فرآه ساجداً لا يتحرّك وكأنّه ميت، فذهب للزهراء (عليها السلام) قائلاً: عظّم الله لكِ الأجر في ابن عمّك عليّ بن أبي طالب، فقالت له: صف لي حالته، فوصفها لها.
قالت: إنّها غشية تنتابه عندما يناجي الله سبحانه وتعالى.
بعض الناس يرى نفسه كبيراً، عضلاته مفتولة، أو لديه مال وجاه، فتستعظم نفسه البكاء.
ولكن أيُّ إنسان بمنزلة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أو يقترب منه؟ ومع ذلك فعليّ هو الذي يدعو بهذا الدعاء: "الَّلهُمَّ إنّي أسألك سؤال خاضعٍ، مُتَذَلِّلٍ، خاشع، أن تسامحني، وترحمني، وتجعلَنِي بِقَسْمِكَ راضِياً قانِعاً". يقول: يا ربّ لا تجعلني أعترض، كما يفعل البعض في بعض الحالات، بحيث إذا ضيّقت عليهم الأمور شرعوا يقولون: لماذا يعمل ربّي معي هذا. أو إذا أصابتهم مصيبة، كما إذا فقدوا ابناً أو أخاً أو صديقاً، بدأوا بالقول: إنّ فلاناً لا يستأهل تلك المصيبة.
الخلائق كلّها ملك الله تعالى وطوع أمره وإرادته
بعض الشباب قد ينتقدون القدر فيقولون: ما أظلم القدر! ولا يدرون ما القدر، فيشتمون ويسبّون القدر. وهكذا بالنسبة إلى مسألة الرزق: نقرأ في القرآن الكريم.
{فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ*وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}(1). فالله إذا أعطى إنساناً فليس هذا معناه أنّه احترام له، وإذا ابتلى إنساناً فليس معنى ذلك إهانة له، بل المسألة مرتبة على أُسس وأصول وحكم الحياة. فلا بدّ للمؤمن أن يعتقد دائماً بأنّ الله لا يقسم له إلاّ الخير، وأنّ الله هو الحكيم والعارف بالأمور، لا يتصرّف إلاّ عن حكمة، وبما ينسجم مع المصالح الحقيقية للعباد. عليه أيضاً أن لا يعترض على حكم الله، ولهذا نقرأ في الدعاء "وتجعلني راضياً قانعاً".
فعلى الإنسان المؤمن أن يكون قانعاً، راضياً، بما يقسمه الله تعالى له. ومعنى أن يكون قانعاً، أن يقنع بالقليل، فلا يسخط، أو يكلح(2). فالقانع هو الذي يقبل ما نعطيه جواباً لسؤاله(3).
فالقناعة، كما الرضى، تجسّد صفة خاصة للعلاقة مع الله تعالى، هي صفة الثقة بالله. فالإنسان الذي يرضى ويقنع بما يعطيه له الله (عزّ وجلّ)، إنّما يعبّر بهذه القناعة عن ثقته بالمعطي. كما أنّ القناعة والرضى يكبحان جماع الغيرة والجشع والطمع والحرص لدى الإنسان، فالإنسان الذي لا يقنع ولا يرضى بما هو مقسوم له، لا يرضى بالربح القليل إذا كان تاجراً، ولا يقنع بحقوقه وواجباته ومسؤولياته إذا كان مسؤولاً، فيسعى لأن يسرق حقوق الآخرين، ويتعدّى على مسؤوليات وواجبات الآخرين.. مثل هذه الأمور وسواها من شأنها أن تشيع الفساد في العلاقات سواء على صعيد علاقة الإنسان مع ربّه، أو على صعيد علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، ضمن المجتمع نفسه.
ولقد حدَّد القرآن مفهوم القناعة بدقّة فقال عزّ من قائل: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(4)، أي لا تجعل عينيك على ما في أيدي الناس مِن نِعَم، لأنّها ربّما كانت وبالاً عليهم. قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً}(1). ومن الواضح أنّ الإنسان الذي يبقى يتنطّح إلى ما في أيدي الناس، شاغلاً نفسه ووقته في كيفية بلوغ ما ليس له، حريصاً على الاستحواذ على كلّ شيء، بلا شكّ أنّه إنسان دائم التبرّم والشكوى، مسلوب الراحة والاستقرار، وبالتالي سيصبح مرتعاً خصباً للأمراض النفسيّة وغير النفسيّة.
التواضع والكِبَر:
"وفي جميعِ الأحوالِ مُتواضِعاً"
سواء كنت صغيراً أو أصبحت كبيراً سواء صرت وجيهاً أو بقيت إنساناً عادياً، كنتَ قويّاً أو ضعيفاً؛ اجعلني يا ربّ متواضعاً. إنّ الإنسان كلّما أخلص لله تعالى ـــ هذا هو لسان حالي عليّ (عليه السلام)، شعر أنّ عليه أن يتواضع لله الذي خلقه، فلا يزهو بأيِّ شيء من الأشياء؛ فعندما تكون متكبِّراً، عندما ترى نفسك وتقول: أنا ابن فلان.. ابن العشيرة الكبيرة التي ليس هنالك أكبر منها، نحن الحزب الكبير، أو المنظّمة الكبيرة التي ليس أكبر منها في البلد، بدلاً من ذلك يجب أن تقول: أنا الإنسان، العبد، الحقير، الذي كلّفني الله بمسؤولية، وبمقدار ما أعمل أكون كبيراً عنده سبحانه وتعالى، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): "الَّلهُمَّ ذَلِّلْني في نفسي وعَظِّمْنِي عندَك".
ويقول (عليه السلام): "الَّلهُمَّ لا ترفعني بين الناس درجة إلاّ حَطَطْتَنِي عندَ نفسي مثلها ولا تُحْدِث لي عزّاً إلاّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها".
إنّ الذين يصلّون، لكنّهم متكبّرون يجب أن يفهموا نقطة مهمّة. وهي أنّ إبليس قد صلّى لله أيضاً، ففي بعض الروايات أنّه صلّى مقدار ألف عام، فأين صلاتهم من صلاة إبليس لعنه الله.
إنّ إبليس كان من الجنّ، وقد ألحق بالملائكة، فلماذا فقد كلَّ هذه العظمة؟ فقد هذه المنزلة لأنّه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}(1) أنا أعظم من أصله. هذا هو قول إبليس الوحيد، {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}(2) الله يقول: أنا قلت لك اسجد لآدم، والسجود لآدم ليس سجوداً له، لأنّ السجود لله فقط، السجود إنّما هو تحيّة لله سبحانه وتعالى لعظمة هذا الخلق، فلم يعجبه أن يكرم هذا المخلوق، فرفض إبليس وقال: "أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين".
في هذه الدنيا لدينا كلام مثل هذا.. البعض يقول: أنا أفضل من فلان، عضلاتي أعظم من عضلاته، أنا ابن العشيرة وهو ليس ابن العشيرة، أنا من البلدة الفلانية وهو ليس من البلدة الفلانية.
لكن ماذا كان جواب الله (عزّ وجلّ) لإبليس لعنه الله. كان أنْ قال له: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}(3) فالله سبحانه وتعالى أنزل إبليس من ذلك المكان العظيم إلى درك الجحيم، إلى منزلة الملعونين، لأنّه قال: أنا فلان، وأنا أفضل من فلان، فعندما نفكّر ماذا لدينا في حساب الله حتى يجعلنا أفضل من إبليس؟ صلاتنا..؟
إبليس كان يصلّي أكثر!
عبادتنا؟ عبادته كانت أكثر!
معرفتنا؟ علم إبليس أكثر.
"في جميع الأحوالِ متواضِعاً" الإمام عليّ (عليه السلام) يسأل الله تعالى أن يجعله متواضعاً، وعلى مَن يحبّ عليّاً أن يتحلّى بصفة التواضع، فلا يعظم نفسه حين يملك عضلات مفتولة أو أيّ نوع من أنواع القوّة، ولا يتصوّر أنّه بهذا سيصبح كبيراً، إنّ المتواضع لا يحتاج إلى أن يبرز صفاته، فصفاته هي التي تقدّمه للناس، فلا يحتاج أن يقدّم نفسه للناس بالكلام، فبمقدار ما تكون قويّاً عظيماً تكون متواضعاً، وبمقدار ما تكون ضعيفاً تكون صغيراً في نفسك.
إنّ هؤلاء الناس الذين يتكبّرون ويتجبّرون على الناس، ليسوا أقوياء بأنفسهم، بل هم أذلاّء عند أنفسهم ويريدون تغطية هذه العقدة بتلك المظاهر، وهذا هو معنى حديث أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): (ما من رجل يتيه إلاّ لذلّة يجدها في نفسه) التيه يعني التكبُّر، معناه: أنّ الإنسان الذي يتكبَّر إنّما يرى نفسه صغيراً، فيبدأ بالتفكير بأيِّ طريقة يمكن أن يظهر نفسه كبيراً، لهذا فإنّه يقوم بهذه الاستعراضات.
تماماً كشخص يمشي وهو "رافع كتفيه"، أو يرفع إبطه، أو يضرب الأرض، والله يقول: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}(1). الله سبحانه وتعالى يريد أن يسخر منه فيقول: لماذا تتعب نفسك، ولماذا تضرب الأرض فمهما ضربت ومهما كان حذاؤك قويّاً، فإنّك لا تقدر أن تنزل سنتمتراً واحداً في الأرض، ومهما حاولت أن ترفع عنقك وأعصابك، فلن تستطيع أن تبلغ السماء، قد ترتفع سنتمتراً واحداً، فلماذا لا تمشي مثل بقيّة البشر؟ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} بشكل لا يزعج الأرض ولا الناس الذين حولهم، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}(2).
خطّ التشيُّع
الدعاء دروس وليس مجرّد كلام نقوله، فعندما تصل هذه الكلمة "وفي جميع الأحوال متواضعاً" أنظر إلى نفسك إذا كان لديك عقدة كبرياء أو تجبُّر أو إعجاب في نفسك، فقل لها إنّ أمير المؤمنين، هذا الإنسان العظيم الذي لا تزال الدنيا تزحف لتكتشف عظمته، هذا الإنسان كان متواضعاً، يطلب من الله أن يجعله متواضعاً، فلماذا لا أقتدي بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). التشيُّع لعليّ إنّما هو السير في خطى عليّ (عليه السلام)، فإذا أعنت الظالم، أو الخائن، أو الكافر، بكلمة أو بعمل، فأنت في الصف المعادي لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ولست شيعياً مهما أثبتّ تشيّعك بصورة رسمية، فالتشيّع ليس نسباً فمعنى كلمة شيعي هو تابع. أنا شيعة لعليّ يعني أنا تابع لعليّ. التبع ليس معناه أن تكون رجلاً لزعيم، التابع هو أن تَتْبَع خطاه فتخطو حيث يخطو، وتسير حيث يسير، وتعمل حيث يعمل. يقول عليّ (عليه السلام): (ألاَ وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه، ألاَ وإنّكم لا تقدرون على ذلك، لكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّة وسداد).
هذا هو التشيُّع. فكلّ إنسان يعتبر نفسه شيعيّاً، ويبيع تشيّعه للخونة وللظلمة، هو إنسان يلعنه خطّ التشيُّع، لأنّ خطّ التشيُّع هو عمل واستقامة، هو القرآن كلّه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}(1)، أن تبدأ من الإيمان بالله وتظلّ سائراً باستقامة حتى تلتقيَ بالله، فالطريق الذي فيه انحرافات وزوايا قد يكون فيه هنا أو هناك كمين للشيطان، لكنّ الطريق الواضح والواسع لا يمكن لأحد أن يضع فيه كميناً، وبذلك يظلّ سائراً في خطّ الله سبحانه وتعالى، والكائن تحدث عندما تكون هناك بعض الانحرافات والاعوجاجات في الطريق {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}(2).
ينابيع الروح:
إنّ قيمة هذا الدعاء، الذي كان يدعو به أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو ساجد، أنّه يفتح آفاق الإنسان على الله، ويعرّه كيف يتحدّث إلى الله بلسان العبودية له، لأنّنا قد نعترف بأنّنا عبيد الله، ولكنّنا لا نعيش حالة العبوديّة بعمق في أنفسنا. وهذا الدعاء كان يعيشه أمير المؤمنين كعبد لله. أمير المؤمنين الذي وصل إلى المرتبة العظيمة حتى خاطبه الرسول قائلاً: (أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)، وفي حديث ثانٍ: (أنا مدينة العِلْم وعليّ بابها)، وفي حديث آخر: (عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما دار) على هذا يقف بين يديّ الله ويتعبَّد لله، ويتحدّث مع الله سبحانه وتعالى كعبدٍ حقير، فيما نقف نحن أمام الله (عزّ وجلّ) وقلوبنا مغلقة، أغلقتها أطماعنا وشهواتنا وعلاقاتنا، نقف أمام الله ولكنّ فكرنا يعيش في آفاق غير آفاق الله، نصلّي ولكنّنا بعيدون كلّ البعد عن الله. وتلك هي مشكلتنا، لقد جفّت ينابيع الروح في نفوسنا. لقد أصبح الإسلام على لساننا مجرّد كلمات لا تحمل معها الروح. لذا نحن بحاجة إلى أن نعيش هذه الينابيع الروحية التي تتفجَّر في قلب الإنسان لتربطه بالله. ليجلس الإنسان بين يديّ الله، ويشعر أنّه لا شيء أمام الله، وأنّه يستمدّ كلّ قوّة، وكلّ مكانة، وكلّ حياة من الله. هذا الشعور نتمثّله في كلمات الإمام (عليه السلام): "الَّلهُمَّ إنّي أسألك سؤال خاضعٍ متذلِّلٍ خاشع أن تسامحني وترحمني". عندما يطلب الرحمة من الله، والسماح من الله، حول ما أسلف من خطايا وما قام به من ذنوب، إنّه يقول لله: أنا أطلب منك يا ربّ الرحمة والسماح بروح الإنسان الذي لا يشعر أنّ له عليك حقّاً، ليس لأحد في الكون حقّ عليك، حقّك على الناس كلّهم، ولكنّي يا ربّ أسألك سؤال خاضع، يخضع لألوهيّتك ولربوبيّتك ويخضع لك في كلّ شيء، خاضع يشعر بعظمتك ويشعر بهيبتك فتأخذه الهيبة فيخشع قلبه وتخشع جوارحه.
يحدّثنا الله عن المؤمنين في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(1)، "سؤالَ خاضِعٍ متذلِّلٍ خاشع" يشعر بأنّ موقفه أمام الله هو موقف الذلّ في الله.. الذلّ أمامه، لا أن يكون عزيزاً أمام الله، وذليلاً أمام الناس، كما نحن الآن، عندما تقول لإنسان: إنّ الله يأمرك بكذا، فإنّه يردّ عليك قائلاً: أنا حرّ
تقول له: إنّ خطّ الله يتّجه في هذا الاتجاه، فيقول: لك: أنا حرّ.
إنّ الله نهاك عن هذا فلا تفعله، يقول لك: أنا حرّ، أمّا إذا جاءت فلان ممّن يملك المال، أو فلان ممّن يملك الجاه، أو فلان ممّن يملك السطوة، أو فلان ممّن يملك الشهوة، فإنّه يخشع ويخضع ويتذلَّل، إنّه ذليل أمام الناس، وعزيز أمام الله.
إنّ المؤمن يذلّ أمام الله، ويتحمّل العار والذلّ في سبيله.
كان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يقول للناس آنذاك: (إنّكم تقولون النار ولا العار كأنّكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه) وقال الحسين بن عليّ (عليه السلام): (الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار).
أن تذلّ أمام الله، أن تذلّ في نفسك، وفي حياتك، أن تكون ذليلاً أمام الله، ذلك هو عزّك، وذلك الذي يجعلك عزيزاً أمام الناس، وعزيزاً أمام الطغيان والجبروت، وعزيزاً أمام الكفر، وبقدر ما تكون قريباً بروح الذليل لله والعبودية له تكون عزيزاً في نفسك أمام الناس، لأنّ عبوديّتك لله تربطك به، وذلُّك لله يربطك به أمّا عزّك مع عدو الله، فإنّه يبعدك عن الله.
يقول الله سبحانه وتعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(1). هؤلاء الذين يتمسّحون على أبواب الطغاة والظَّلَمة والكفرة، وعلى أبواب المستعمرين، هؤلاء الذين يتقرّبون إليهم بالكلام، وبأيّ طريقة، {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}.
هؤلاء الذين يتّخذون الكافرين أولياء، بحيث تجدهم أقرب إلى قلوبهم، ممّن كان مؤمناً، مسلماً وعابداً لله، خاشعاً، برغم أنّ هؤلاء أعزّاء أمام الله، أذلاّء أمام الناس كما قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لبِشْرِ الحافي الذي كان يقضي اللّيل دائماً باللّهو والعربدة.
فحين مرّ الإمام أمام منزل بشر، فقال لخادمته التي كانت تقف أمام المنزل: (سيّدك حرّ أم عبد؟).
قالت: سيّدي حرّ، قال (عليه السلام): (صدقت, لو كان عبداً لخاف من مولاه).
حرّ أمام الله، ذليل وعبد أمام الطغاة والكفرة، وأيّ مقام أعلى من مقام عليّ أمير المؤمنين غير مقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟!
أيّ مقام لكلّ هؤلاء الذين يعرفون رؤوسهم أمام الله، ويحنون رؤوسهم أمام العبيد؟!
الرضى بقسم الله
"الَّلهُمَّ إنّي أسألُكَ سؤالَ خاضِعٍ متذلِّلٍ خاشِع أن تسامحني وترحمني" إنّي أشعر يا ربّ، أمامك، بأنّي عصيت وأخطأت وظلمت وانحرفت، وذنوبي هذه تثقل ظهري، وأنا أقف بين يديك وِقْفَة الخاضع الذليل الخاشع الذي يطلب منك المسامحة، وأنتَ الكريم الرحيم، "وتجعلني بقسمك راضياً قانِعاً".
المسألة هي أنّنا نحن عبيد لله، والله هو الربّ الغنيّ عنّا، الغنيّ عن غنانا وفقرنا، الغنيّ عن كلّ شيء عندنا. لقد قسم أرزاقنا في أجسادنا، فخلق لكلّ منّا جسداً يختلف عن الجسد الآخر. وقسَّم أرزاقنا في صحّتنا فأعطى لكلّ إنسان طاقة تختلف عن طاقة الآخر. وقسَّم أرزاقنا في أولادنا، فأعطى كلّ إنسان شيئاً لم يعطه للآخر. وقسَّم أرزاقنا في أموالنا، فأعطى لكلّ منّا حصّة. قد يضيّق الله عليك في حالة، ويوسِّع عليك في حالةٍ أخرى، فإذا ضاقت عليك الحالة فإنّك تظنّ أنّ الله أهانك وأبعدك، وتبدأ بالاعتراض على الله سبحانه وتعالى، وإذا وسَّع عليك تطغى، وتعتبر أنّ التوسعة كرامة من الله لك، {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ*وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ*كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ*وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً*وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}(1) إنّ المال عندما يكون في سعة، فليس كرامة، {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(1)، المال بلاء في حالة السعة، وبلاء في حال الضيق.
الإنسان... بين المال والأخلاق:
إنّ الله قد يختبر عباده بالفقر أو يختبرهم بالغنى، يختبر الغني في غناه، حتى يعرف كيف يشكر نعمة الله في غناه، ويختبر الفقير في فقره، حتى يعرف كيف يصبر الفقير على فقره، والله قسَّم معايش خلقه بالعدل، الله هو الحكيم.. فربّما تكون السعة في المال في بعض الحالات، خراباً لروحك.
لماذا نعترض على الله دائماً؟
... لأنّنا ننظر دائماً للقضايا بعين واحدة، والله يريدنا أن ننظر للقضايا بعينين مفتوحتين، في كثيرٍ من الحالات تتصوَّر أنّك إذا حصلت على المال تكون قد حصلت على الدنيا كلّها، لكن تصوّر أنّك تحصل على المال وتفقد الصحّة، أو تحصل على المال وتفقد أخلاقك، تصبح إنساناً أنانياً، حقيراً، متكبِّراً، متجبِّراً، أسود القلب، لا تنظر إلى الحياة إلاّ من خلال المال.
إنّ بعض الناس إذا دخلت إلى حياته، ورأيت علاقته مع زوجته، وأولاده، ومع أقربائه ومع الناس والحياة تجدها علاقات مالية بحتة، هذا ليس إنساناً، بل هو مجرّد عملة، وليس لديه أيّ قِيَم.
الله يريد أن يقول لك: إنّ إنسانيّتك وروحيّتك أعظم من المال.. فأنتَ تترك المال، ولكنّ إنسانيّتك تبقى معك في حياتك، المال تضعه في الخزينة وتسافر.. ولكنّ إنسانيّتك معك، علمك وفكرك معك.
الإمام عليّ (عليه السلام) يقول لكميل ـــ وهو الذي روى هذا الدّعاء ـــ (يا كُمَيْلُ العلمُ خيرٌ من المالِ، العلمُ يحرسُكَ وأنتَ تحرُسُ المالَ، والمالُ تُنْقِصُهُ النَّفقةُ، والعلمُ يزكو على الإنفاق).
الله سبحانه وتعالى يأخذ منك المال في بعض الحالات ولكنّه يعطيك دائماً علماً أو صحّة أو ذكاء أو إنسانية، وأنتَ تقول إنّك لا تملك شيئاً، ولكنّك عندما تقيس نفسك وتقول: إنّ فلاناً غنيّ، وأنا فقير.. قد يكون فلان غنيّاً بالمال، ولكنّه ليس كذلك بالعلم أو الأخلاق أو الروحيّة، فالله يقول لك: كما تحسب حساب المال فلا بدّ أن تحسب حساب الأشياء التي تمثّل إنسانيّتك وشخصيّتك.
من هنا فإنّ الإمام (عليه السلام) عندما يخاطب الله ويقول يا ربّ أنا أريدك أن تجعلني بقسمك راضياً، فإنْ قسمت لي صحّة أو مرضاً، ومالاً، وأولاداً، أو لم تقسم لي أيّ شيء من هذا كلّه، أريدُ منك، يا ربّ، أن تجعلني راضياً، فأنا أعرف أنّك العدل الحكيم الذي لا يظلم أحداً من عباده، "إذ لا يحتاج إلى الظلم إلاّ الضعيف".
إذا نظرنا إلى الحياة من خلال هذا المنظار، فإنّنا لن نرتعد أمام غنيّ، أو ننحني، أو نخضع، ونشعر بأنّ فلاناً يساوي كذا... ونحن لا نساوي شيئاً. الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا نظر إلى أصحاب الدنيا قال: (الحمد لله، رضينا بحكم الله، شهدت أنّ الله قسَّم معايش عباده بالعدل، وأخذ على جميع خلقه بالفضل، الَّلهمّ لا تفتنّي بما أعطيتهم، ولا تفتنهم بما منعتني فأحسد خلقك وأغمط حكمك).
هذه هي الروحيّة، مقتضى أنّك عبد لله، أن ترجع أمورك كلّها لله، وتعتبر أنّ الله لم يكتب لك إلاّ العدل.
التواضع والثقة بالنفس:
"وفي جميعِ الأحوالِ متواضِعاً" حين أرتفع درجة، أو أنزل درجة، عندما أصبح غنيّاً أو فقيراً، عندما يصير لديّ جاه، أو لا يصير، عندما أملك سلاحاً أو لا أملكه، عندما تكون بيدي سلطة أو لا أملكها، أظلّ يا ربّ متواضعاً. فمهما عظمت صفاتي الشخصيّة فإنّها لا تساوي ذرّة من عظمتك، لهذا أشعر دائماً بعظمتك وأشعر أنّي صغير.. صغير أمامك.
كيف يحقّ لي أنْ أتَكَبَّر، وأنتَ المتكبِّر؟!
كيف يحقّ لي أنْ أتَجَبَّر، وأنتَ الجبَّار؟!؟
كيف يحقّ لي أن أشعر أنّي شيء كبير، وأنتَ الذي خلقت الإنسان ولم يكُ شيئاً مذكوراً؟! بكَ صرت يا ربّ شيئاً، وصرتُ كياناً، كلّ ذلك بك، فكيف يمكن لي أن أشعر بالتكبُّر، وأنا أشعر بربوبيّتك تعلو كلّ شيء؟! ولهذا أطلب منك يا ربّ أن تجعلني "في جميعِ الأحوالِ متواضِعاً".
التواضع ليس صغر نفس؛ لذا عليك أن تتواضع للصغير والكبير، وتتعامل مع الناس تعامل الطيّبين، وتشعر بأنّك إذا ارتفعت عن إنسان درجة فإنّه يرتفع عليك من جانبٍ آخر، لأنّك لا تملك الكمال كلّه، فأنتَ تملك جانباً من الكمال، إذا كان لديك العلم، فعند غيرك القوّة، وإذا كان لديك القوّة، فلدى غيرك المال، وإذا كان لديك المال، فلدى غيرك الروحيّة، لكلّ إنسان طاقة يفقدها إنسانٍ آخر، فكيف تتكبَّر على الناس بذلك كلّه؟!
إنّ معنى أن تكون كبيراً، هو أن تكون متواضعاً.
إنّ كلّ الناس الذين يمشون ويضربون الأرض بأقدامهم، ويستعرضون عضلاتهم، ويحبّون أن يمدحهم الناس ويهتفون بأسمائهم، ويحبُّون أن يكونوا تحت الأضواء المسلّطة عليهم، كلّ هؤلاء صغار في أنفسهم، لأنّ الإنسان الكبير في داخل نفسه، يشعر أنّه كبير لا يحتاج إلى شيء يكمله من الخارج، لأنّه كبير في نفسه، وقد ورد عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "مَنْ تواضَع لله رفعه الله، فهو في نفسه ضعيف، وفي أعين الناس عظيم، ومَنْ تكبَّر وضعه الله، فهو في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير"(1). إنّ كلّ شخص يستعرض عضلاته ويحاول أن يظهر بمظهر الإنسان الكبير، ويتكبَّر على الصغير، إذا نظرتم إلى داخل نفسه، سَتَرَوْنَهُ يشعر بالحقارة، ويريد أن يغطّيَ هذا الضعف، وكلّ إنسان يتواضع فلأنَّ لديه ثقة في نفسه. ويشعر أن لا عقدة نقص لديه، وأنّه كبير في داخل نفسه، فلا يحتاج إلى أن يستعير ثقته من أحد.. بعض الناس يستعير ثقته من الناس، فإذا هلَّل الناس له وكبَّروا يشعر بالثقة في نفسه، وإذا لم يرَ أحداً حوله فإنّه ينهزم نفسياً.
الإمام عليّ كان يقول، وهو إمامنا في كلّ شيء: (لا تزدني كثرة الناس حولي عزّة ولا تفرُّقهم عنّي وحشة) فعندما أكون في داخل نفسي كبيراً، فالناس ليسوا مشكلة أو عقبة، أمّا لو كنت صغيراً في نفسي، والناس كلّهم تجمَّعوا حولي، فلن يمنحوني قوّة لأنّي أعرف أنّ هؤلاء الناس مغشوشون، لأنّي ضعيف، ومهما جاء الناس فلن يقوّونني في داخلي، وإذا كنتُ قويّاً، فإنّ تفرّق الناس لن يؤثّر عليّ.
إذاً، عندما تثق بنفسك جيداً فلن تحتاج لأن تستعير ثقتك من الناس، فهؤلاء الذين يستعيرون ثقتهم من الناس، ومن مدحهم وثنائهم وتهليلهم لهم، إنّما يزيفون حياة الناس وحياتهم.
إنّ الأشخاص الذين يتعوَّدون على المدح ويأخذون ثقتهم من خلال مدح الناس لهم، فهم ينظرون إلى الناس غالباً بمنطق التزلُّف، فأنا إذا تعوَّدت المدح من كلّ الناس، وجاءني شخص طيّب وخيِّر ويريد أن ينتقدني نقداً صحيحاً، فأبدأ بالقول: إنّ هذا عدوّ ومغرض لأنّ كلّ الناس يمدحونني فلماذا يأتي فلان ويقول لي: إنّ عيبك في الشيء الفلاني، عندها سوف أنظر إلى كلّ شخص يقدّم لي عيوبي نظرة عدائية كما أنّي أنهزم في الوقت ذاته، وهذا موقف خاطئ لأنّ التغاضي عن العيوب وعدم المبادرة إلى إصلاحها سيؤدّي بي ولو بعد حين إلى السقوط في معترك الحياة.
الإنسان الذي يجد الثبات في نفسه ويستشعر بشخصيّة متكاملة، وبثقة بالله كبيرة لا يزعزعها شيء، فسيَّان لديه أن صعدت موجات سياسية أو اجتماعية، لأنّه يظلّ يمثّل نفسه، فنفسه لم تتغيَّر، ولن يتغيَّر، وهو لم يصعد لأنّ الموجة أصعدته، ولم ينزل لأنّ الموجة أنزلته، هو يبقى عندما تصعد وعندما تنزل على حدٍّ سواء، لأنّه لا يعيش آفاقه مع الموجات التي تصعد وتنزل وإنّما يعيش آفاقه من خلال ثقته بنفسه.
التفاعل مع الدعاء:
فبمقدار ما تكون عبداً لله، تستمدّ ثقتك من الله، وبمقدار ما تكون إنساناً متكاملاً صالحاً، تستمدّ ثقتك من حياتك التي تحاول أن تتكامل، تكون متواضعاً مع الناس. عندما تقرؤون في دعاء كميل هذه الفقرات، يجب أن تقرؤوها ليس بلسانكم، يجب أن لا تردِّدوها وتنغِّموها وتلحِّنوها فقط، بل يجب، ومن باب أولى، أن تدخلوها إلى أنفسكم.
الإمام عليّ (عليه السلام) يقول: يا ربّ، أرجوك أن تجعلني بقسمك راضياً؛ فهل أنتَ راضٍ بما قسمه الله لك؟ اجعلني يا ربّ في جميع الأحوال متواضعاً، فهل أنتَ متواضع في جميع أحوالك؟ أم أنّك تشعر بالزّهو؟
نحن بحاجة إلى أن نسهر ليالي في كلّ كلمة من هذه الكلمات، ونعيش معها أيّاماً، فالمسألة ليست هي حجم الكلمة. إنّ هذه الفقرة مؤلّفة من أربع كلمات، ولكنّ هذه الكلمات تدخل معك إلى البيت، مع زوجتك وأولادك، ومع جيرانك، ومع مؤسّساتك عندما تكون مع عمَّالِك، وتدخل إلى الناس عندما يكون لك شأن وأتباع، وتدخل معك في كلّ مجالات الحياة.
اجعل هذه الفقرة تمشي، واجعل لها يدين ورجلين وعينين مفتوحتين، حتى تمشي معك في داخل قلبك، وداخل وجدانك، وداخل حياتك، وأينما تكون، حتى إذا رآك الله تتواضع لعظمته من خلال تواضعك لخلقه يرفعك عنده درجة وذلك هو سبيل العظمة، "اللَّهُمَّ ذَلِّلْنِي في نفسي وعظِّمْني عندك". ليس المهمّ أن تكون عظيماً في نفسك، كن ذليلاً في نفسك، فتِّش في كلّ زوايا نفسك عن كلّ نقاط الضعف لتكتشفها وتصلحها لتكون بذلك عظيماً عند الله. بقدر ما تكتشف نقاط الضعف في نفسك وبقدر ما تتعامل مع نقاط الضعف في نفسك، وبقدر ما تلجأ إلى الله، لكي يقوّيَ ضعفك، تكون عظيماً عند الله. وإذا كان الإنسان عظيماً عند الله، فأيّ عظمة تبقى عندها للنسب والمال والسياسة؟ هذا ما كان يقوله الإمام زين العابدين لطاووس: "دع عنكَ ذِكْر أبي وأمّي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه ولو كان عبداً حَبَشِيّاً، وخلقَ الناس لِمَنْ عصاه ولو كان سيِّداً قرشيّاً".
العظمة هناك، عندما تصطف الأقدام بين يديّ الله، وتزلزل الأقدام أمام الله، وترتجف الشفاه عندما تريد أن ترجع الجواب إلى الله، وتخفق القلوب خوفاً من النار، هناك في يوم الحساب يكون الشريف مَن شرّفته طاعتك، والعزيز مَنْ أعَزَّته عبادتك، حيث يرى المؤمنون والكافرون أنّ القوّة والعزّة لله جميعاً، وأنّه لا عظمة إلاّ لمن يعطيه الله العظمة.
الفقر المطلق إلى الله
"الَّلهُمَّ إنّي أسألُكَ سؤالَ مَنْ اشْتَدَّتْ فاقته وأنْزَلَ بكَ عندَ الشَّدائد حاجته وَعَظُمَ في ما عندَكَ رغْبَتُه".
في هذه الفقرات يتابع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حديثه مع الله، حديثه ودعاءه الذي يريد من خلاله أن يشهد الله على قلبه، أنّه لا ملجأ له إلاّ الله، ولا مرجع إلاّ الله.
"اللَّهُمَّ إنّي أسألك سؤال مَنْ اشتدتْ فاقته"، فيا ربّ هذه مسائلي التي أقدِّمها إليك، ليست هي مسائل الإنسان الذي يشعر بالرخاء والراحة، ولكنّها مسائل الإنسان الذي اشتدّت حاجتك إليك، واشتد فقره إليك، لأنّ الإنسان المؤمن بالله حقّ الإيمان، هو الإنسان الذي يشعر بأنّه مفتقر إلى الله أشدّ الفقر مهما اتّسعت أحواله، ومهما اتّسعت فرص الحياة أمامه، لأنّ فقر الإنسان إلى الله يختلف عن فقر الإنسان إلى إنسان آخر، فأنتَ قد تحتاج إنساناً آخر في قضية خاصة، صغيرة أو كبيرة، أو قضيتين أو عشر أو أكثر، ولكنّك فقر في كلّ شيء إلى الله سبحانه وتعالى، لأنّ الإنسان مفتقر إلى الله في وجوده. لو درسنا عناصر الوجود؛ الماء الذي نشرب، والهواء الذي نتنفّس، والغذاء الذي نتغذّى، وحركة أجهزة الجسم التي تنظّم الحياة في داخل الجسم، كلّ ما حولنا وكلّ مَنْ حولنا، فهو بيد الله،... إنّنا محتاجون إلى الله حتّى في هذا النفس الذي يخرج وينزل.
حاجتنا إلى الله تختلف عن حاجتنا للناس، عندما تحتاج إنساناً مثلك في شيء فأنتَ تحتاجه في ما يحتاج فيه إلى الله، تحتاج إلى المال فيعطيك مالاً وقد استمدّه هو من الله سبحانه وتعالى، أو تحتاج إلى قوّته، ولكنّ قوّته مستمدّة من الله، وممّا أعطاه الله من نعمه، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}(1).
لهذا استخدم الإمام كلمة "اللَّهُمَّ إنّي أسألك سؤال مَنْ اشتدّت فاقته" الفاقة تعني الفقر، لأنّ فاقة الإنسان وفقره إلى الله، هو الفقر المطلق، لو فكّرنا في شيء واحد نتمكّن أن نستغني فيه عن الله. لو أحصينا كلَّ ما حولنا وكلّ ما نحتاج إليه، فلن نجد شيئاً واحداً لا نحتاج فيه إلى شيء، فكلّ شيء إمّا أن نحتاج فيه إلى الله بشكلٍ مباشر، أو نحتاج إلى الله فيه بشكلٍ غير مباشر.
قد يقول بعض الناس إنّ فلاناً يكفيهم، فما حاجتنا إلى الله، قد يكون فلان يكفيك، ولكنّ الله هو الذي يكفي فلاناً.
الإمام زين العابدين (عليه السلام) في بعض أدعيته في طلب الحوائج، يقول: "اللَّهُمَّ ولي إليكَ حاجة قد قَصُرَ عنها جُهْدي، وتقَطَّعَتْ دونَها حِيَلي، وسوَّلَتْ لي نفسي رَفْعَهَا إلى مَن يرفعُ حوائجَهُ إليكَ ولا يستغني في طلباتِهِ عنكَ، حتّى انتبهتُ بتفكيرك لي عن غفلتي وَنَكَصَتُ بتسديدِكَ لي عن عثرتي، وقلت سبحانَ ربّي كيف يسألُ محتاجٌ محتاجاً؟! وأنّى يَرْغَبُ مُعْدِمٌ إلى مُعْدِمٍ، فقصدتُكَ يا إلهي بالرَّغبةِ وأوصدتُ عليك رجائي بالثقة".
عندما أسأل إنساناً فأكون محتاجاً إلى المحتاج، أنا فقير أسأل فقيراً، لأنّ ذلك الإنسان وإنْ كان يملك مالاً، فهو محتاج إلى الله في ما يملك، أو في بقاء ما يملك، وفي التصرُّف في ما يملك، ولهذا فإنَّ هناك أُناساً يتصوَّرون أنّهم بصلاتهم وصومهم وعبادتهم يحمّلون الله جميلاً، ولكن في الحقيقة ليس هناك شخص له جميل على الله، لأنّه يصلّي لله بواسطة هذا اللّسان، والله هو الذي أعطاك اللّسان، وأعطاك فكرك ويديك ورجليك وتلك كلّها ملكٌ لله، فأنتَ تصلّي لله بملك الله، وتتصرّف بملك الله.
لهذا فالإنسان المؤمن يجب أن يفكّر بهذه الجوانب دائماً، حتّى يظلّ يشعر أنّه مفتقرٌ إلى الله باستمرار، ليقوده شعوره بالفقر إلى الله، إلى الشعور بعبوديّته، وحقيقة العبودية بي يديّ الله، لكي لا نكون مثل قارون، أو مثل بعض الأغنياء، فالله يتحدّث في القرآن عن قارون واحد، في حين أنّ لدينا الكثير من أمثال قارون في حياتنا، عندما يقولون له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ*قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}(1). فليس لله علاقة بالمسألة إذ إِنّي أعرف وأفهم في هذه الأمور.. كيف أقلب التجارة، وكيف أنظر السوق، وكيف أعمل وأبيع وأشتري، فما علاقة الله بذلك كلّه؟!
هكذا يفكّر بعض الناس مثلما فكَّر قارون، لأنّهم غافلون عن معنى حاجتهم إلى الله، ولهذا فالله سبحانه وتعالى ذكر هذه الحقيقة، في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(2) في كلّ شيء أيضاً، فلا يحتاجنا الله في شيء، ولكنّ بعض الناس يفكّرون أنّهم بصلاتهم ينفعون الله سبحانه وتعالى، فالإنسان عندما يصوم، يظنّ أنّه يزيد في ملك الله شيئاً، وعندما يحجّ كذلك، ولكنَّ الله غنيٌّ عن كلّ شيء، لا تنفعه طاعة مَنْ أطاعه ولا تضرُّه معصية مَنْ عصاه، كلّ عمل تقوم به هو لحسابك، صلاتك وصومك وحجّك وعبادتك لله، كلّ ذلك لحسابك ولا يدخل في حساب الله شيء أبداً، فالله لم يفتح حساباً للبشر لينتفع منهم، لكنّه يفتح حساباً لينفع البشر.
قد يأخذ البعض الغرور، ولكنّ الله يقول: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(1)، فالله قال للأشياء كوني فكانت، ويقول للأشياء أن تزول فتزول، وهذا الأمر لا يحتاج إلى الفلسفة، فالله يكلّمنا عن الإنسان، لكنّنا نعرف الفكرة العامة من الأشياء الخاصة، فأين الجبل الذي كان قبل مئة سنة، كيف كان قبل مئة سنة؟ لم يكن شيئاً مذكوراً فكان، والله ينبِّهنا لأنْ نقوم بواجباتنا ومسؤولياتنا دائماً وإلاّ: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}(2).
فيجب أن نشعر جميعاً بالفقر إلى الله. أنتَ عندما تتنفَّس فاشعر أنّ بمقدور الله أن يديم هذا النَّفَسَ أو يقطعه، وعندما ترى الماء الذي تشربه فاعرف أنّ بإمكان الله أن يُذْهِبَ هذا الماء ويصبح غوراً.
هذه الأفكار الدقيقة هي التي تجعلنا ننفتح على الله، تمنحنا خشوعاً وخضوعاً وشعوراً بالعبوديّة واستسلاماً لله في كلّ شيء أمَرَنَا به، نستسلم لله سبحانه وتعالى سواء أدركنا فقرنا أو لم ندرك.
"وأنْزَلَ بكَ عندَ الشدائد حاجتَهُ"
.. يا ربّ تمرّ علينا الشدائد الأمنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والعائليّة والشخصيّة، وهذه الشدائد تخلق لنا جملة حاجات.
في حالات الفقر يرجو الإنسان الله أن يعطيَهُ ما يأكل ويشرب ويلبس.
في حالات الأمن يطلب الإنسان أن يعطيَهُ الله ما يحمي به نفسه وكيانه، فيقول له: يا ربّ، إنّي عند الشدائد، أوّل شيء أفكّر فيه هو أنتَ يا الله، أنا أحمل هذه الشدائد والحاجات على ظهري وأسير ولا ألتفت لفلان ولا لغيره، إنّما أنزل حاجتي عندك، وأقول: أنتَ ربّي وأنتَ الرحمن الرحيم، فيسِّر لي أمري، وأنتَ أعرفُ بحاجتي منّي.
"وأَنْزَلَ بِكَ عندَ الشَّدائِد حاجتَهُ"، ينزل به، كأنَّه شخص يحمل حملاً وينزل هذا الثقل الموجود على ظهره ويضعه أمامه. هكذا يُصوِّر الإمام عليّ (عليه السلام) حالة الإنسان المؤمن الذي يقع في شدّة، كأنّ الشدائد تثقل ظهره بحاجاته، فيحاول أن يحمل هذه الأشياء ويقف بها بين يديّ الله سبحانه وتعالى.
والإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: "ورأيتُ أنَّ طلبَ المحتاجِ إلى المحتاجِ سَفَهٌ من رأيِهِ، وَضَلَّةٌ من عقلِهِ" أنتَ مفلس ـــ على سبيل المثال ـــ وتذهب إلى بيت شخص مفلس!، هذا غير ممكن، أو أنتَ في حالة خوف، تقصد شخصاً خائفاً لا يستطيع أن يؤمّن لك الحماية! فالإمام يقول إنّ هذا الإنسان لا عقلَ له: "ورأيتَ أنّ طلبَ المحتاجِ إلى المحتاجِ سَفَهٌ من رأيه، وضَلَّةٌ من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أُناسٍ طلبوا العِزَّ بغيرِك، فَذَلُّوا، وراموا الثروةَ مِن سواكَ فافتقروا، فَصَحَّ بمعاينةِ أمثالِهِم حازِمٌ وَفَّقَهُ اعتبارُهُ، وأرشدَهُ إلى طريقِ رشدِهِ اختيارُهُ".
هذا الجوّ الذي يجب أن تعيشه في نفسك.. أن تنظر إلى كلّ الناس الذين تنزل حاجتك بهم، على أنّهم أدوات أو آلات بيد الله، فقدّم طلباتك إلى الله أوّلاً، وأنزل حاجتك به أوّلاً، ثمّ اطلب منه بعد ذلك أنْ يسخِّر أدواته وآلاته حتى يمكن لك أن تتحرَّك بأمره في طريق قضاء حاجتك. إنّ الله لا يطلب منّا أن لا يستعين بعضنا ببعض، ولكنّك حتى عندما تستعين بغيرك فاعرف أنّ الله هو الذي حوَّل قلبه إليك وهيّأه لك.
"وأنزلَ بكَ عندَ الشدائد حاجته"... هذه الأمور التي تقوِّي إخلاصك لله، فعندما تحدث لك شدّة، أو حالة صعبة في حياتك، فقبل أن تفكّر في فلان، فكِّر بالله واجلس بين يديه، وتحدَّث معه كما يتحدَّث الطفل مع أبيه... إبكِ بين يديّ الله.. إخشع بين يديّ الله واصرخ، فإنّك تجد حاجتك عند الباب ولو بعد حين، حتّى تتأكّد بذلك ثقتك بالله سبحانه وتعالى، وبمقدار ما تتأكّد ثقتنا بالله يسهل الله سبحانه وتعالى أمورنا. قد يعاقبنا ويبتلينا في بعض الحالات، مثلاً، تحدث لك مشكلة وتبدأ بالتفكير في فلان من دون أن تفكّر بالله، فيدعك الله أن تذهب إلى فلان الذي يؤجّلك ويماطلك، وفي آخر الأمر لا تستفيد شيئاً.
بعض القضايا يمكن أن يعقّدها الله عليك حتى يعطيَك درساً عملياً في أنّ فلاناً الذي تنزل به حاجتك ليس جديراً بذلك، ولكنّ الله هو الذي يجب أن تنزل به حاجتك أوّلاً، والله هو الذي يسخِّر فلاناً وفلاناً.
"وعَظُمَ في ما عندَكَ رغبتُهُ"... يا ربّ عندما أنزل حاجتي لديك، وعندما أسألك أن تنقذني من حالة الفقر التي أنا فيها، فرغبتي عظيمة بما عندك، وأنا واثق من أنّك ستستجيب لما أطلب منك.
يجب أن تكون رغبتنا بما عند الله عظيمة جداً، ولذا علينا أن ندرس أنفسنا ونتساءل: هل صحيح أنّ لدينا رغبة بما عند الله من ثواب ولطف ورحمة، أم أنّه مجرّد كلام نقوله..؟!
4 ـــ "اللَّهُمَّ عَظُمَ سُلْطَانُكَ وَعَلا مَكانُكَ، وَخَفِيَ مَكْرُكَ وَظَهَرَ أَمْرُكَ، وَغَلَبَ قَهْرُكَ وَجَرَتْ قُدْرَتُكَ، وَلا يُمْكِنُ الْفِرَارُ مِنْ حُكُومَتِكَ".
سلطان الله العظيم
عندما يقف الإنسان بين يديّ الله تعالى مُظْهِراً حالة فقره وفاقته، سائلاً إجابة حوائجه، عليه، بدءاً، أن يكوِّن لنفسه فكرة عن الذي يتوجّه إليه بعرض حاله ورفع مسائله. ولذا نرى عليّاً (عليه السلام) يستهلّ كلامه بهذا المقطع بتعريفنا على بعض صفات الله تعالى، فيقول: "اللَّهُمَّ عَظُمَ سلطانُكَ، وَعَلا مكانُكَ" أي ليس هناك من سلطان أعظم من سلطان الله تعالى. وهو الأعلى من كلّ شيء، والمحيط بكلّ شيء. وليس معنى "علا مكانُك"، كما يتصوَّر بعض الناس، من أنّ لله مكاناً، وأنّ الله يجلس على العرش كما يجلس الملك على عرضه.. هذا تصوُّر خاطئ، لأنَّ الله لا يحويه مكان ولا زمان، فهو فوق الزمان والمكان، ولا نستطيع أن نحيط بذاته كلّية. ولذا، كلمة "علا مكانك" كناية عن أنّ الإنسان يشعر بأنّ الله أعلى من كلّ شيء في الكون، فالمكان هو المستوى أو الدرجة، التي لا يمكن أن يبلغها الإنسان، والمكان ليس شيئاً مادياً يجلس فيه، فمعنى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(1) ليس أنّه جلس على العرش، إنّما الاستواء، هنا، بمعنى السلطة، أي إِنّ الله سيطر على العرش. والعرش هنا هو رمز لأعلى مكان في خلق الله. كما أنّ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}(2) ليس معناها، هنا، أنّ لدى الله كرسياً كبيراً أوسع من السموات والأرض، أو كرسياً من ذهب أو خشب، بل إنّ كرسي الله هو سلطانه، أي وَسِعَ سلطان الله السماوات والأرض. أنّ كلّ السماوات والأرض هي ملك الله وسلطانه، باعتبار أنّ الكرسي يمثّل السلطنة والسيطرة، وأمثال تلك الاستعمالات تسمّى في البلاغة بــ (الكناية)، وتعطي معنى استولى، سيطر، فالكرسي يمثّل ملك الله وقدرته.
مكر الله
"وَخَفِيَ مكرُك"، بعض الناس يتحيّرون، ففي القرآن نقرأ قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(1) وهنا يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "وخَفِيَ مكرُك" فكيف يصف الله نفسه بالمكر، وليس بالمكر فقط بل يقول: {وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} يعني أنّ الله أعلى من كلّ الماكرين في الدنيا، كيف يصف الله نفسه بالمكر؟ {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ}(2) هل أنتم آمنون من أنّ الله لا يمكر بكم.
ونتساءل هنا: ما هو معنى المكر في اللغة العربية؟
معنى المكر هو تدبير الأشياء بشكل خفيّ لا يشعر فيه الآخرون، فمتى يقال إنّك تمكر بفلان؟ حين تدبّر الخطّة بطريقة خفيّة ذكية بحيث لا يشعر فيها، هذا هو المقصود. إذاً، لماذا صارت صفة المكر عند الناس نوعاً من أنواع السّباب والشتم؟ لأنّ الناس يستعملون الأشياء الخفيّة في الأشياء الشريرة غالباً، فليس معنى الماكر الشخص الشرّير، فالشرّ جاء لأنّ الناس استعملوا التدبير الخفيّ في الأشياء الشريرة، عندئذٍ يتبادر إلى الذهن أنّ الماكر هو الذي يدبِّر الأمور الشريرة، ولكن بحسب المعنى العربي ليس له صلة بالشرّ، فمن الممكن إذا تدبّرت أمراً خفيّاً أن يقال عنه "مكر" إنْ كان خيراً أو شرّاً. فمعنى {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}: يدبّرون بطريقة خفيّة، ويدبّر الله بطريقة خفيّة، وعندما يدبّر الله الأشياء فهو خير مَنْ يدبِّر، لأنّه مسيطر على خفايا الأشياء أكثر من سيطرة الآخرين على ذلك، فالمكر ليس معناه العمل الشرّير الخفيّ، وليس معناه الحيلة التي يلعب فيها الإنسان، فالمكر هو أن يدبِّر الأشياء بطريقة لبقة خفيّة لا يشعر بها الآخرون.
فعندما يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "وخَفِيَ مَكْرُك" يعني يا ربّ إذا أردتَ أن تدبِّر أمراً لأحد بطريقة معيّنة، فإنّ مكرك خفيّ لا يشعر به الذين تريد أن تدبِّر الأمور لهم أو عليهم. لهذا فنحن مأمورون أنْ لا نأمَنْ مِنْ مكر الله، يعني أنْ لا نأمَن عندما نعصي، ونجرم، ونخطئ، ونلعب، ونقول بعد هذا اللّعب والخطأ والجرم وبعد تلك المعصية: إنّ الله غفورٌ رحيم، لكنّ الله يقول: أنتَ تعمل وأنا أعمل، وقد يدعك الله حتّى يغمرك بالماء من جميع الجهات، مثل ابن نوح، عندما قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ*قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء}(1) يقول لأبيه: إنّ هذا الجبل موجود ونحن لم نرَ ما يصعد إلى جبل علوّه ألف أو ألفا متر، وأنا صاعد إلى الجبل، ولكنّ الله كان قد دبَّر الأمر كلّه، عندما تفجَّر الماء من جميع الجهات من الجبل والسّهل والسّماء، {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}(2).
ولقد رأيتم في حياتكم اليوميّة الكثير من الناس الذين عصوا الله سبحانه وتعالى في ما أعطاهم مِن نِعَمِهِ.. كيف دبَّر الله لهم الأمور بحيث أحاطت بهم من دون أن يشعروا بها.
وهنا... يجب أن نراقب الله دائماً، لأنّنا قد نفعل شيئاً لا يرضي الله فيعاقبنا من دون أن نعرف.
أمر الله الظاهر
"وظَهَرَ أمْرُك"، ظهر أمر الله في عظمته، وظهر أمره في وحدانيّته، وفي نِعَمه، فلا نحتاج إلى الفلسفة كي نعرف الله. بعض الناس يقولون إنّهم يريدون أن يدرسوا فلسفة عميقة حتى يعرفوا أنّ الله موجود، أو غير موجود. الله لا يُعرف بالفلسفة، الله يعرف بشكل بسيط جداً، الله يقول لك انظر إلى الكون، وإلى نفسك، وإلى كلّ شيء من حولك فتعرف الله.
في دعاء الصباح المنسوب للإمام عليّ يقول (عليه السلام): "يا مَنْ دَلَّ على ذاتِه بذاتِه" فالله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى دليل، بل أنتَ الذي تحتاج إلى أن تحرِّر عقلك فقط، انظر بعينيك جيداً، فكِّر بعقلك بشكل طبيعيّ جداً، فتستطيع أن تعرف الله من أقرب طريق، لأنَّ الله بيّن في كلّ شيء.
وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد.
هنالك أعرابي قالوا له: كيف تستدلّ على وجود الله؟ والأعرابي هذا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يدخل جامعة ولم يدرس فلسفة، فقال لهم: البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام يدلّ على المسير، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات ارتاج، لا تدلّ على اللّطيف الخبير!؟.
إذا رأيت آثار أقدام مطبوعة في الرمل أمامك، فإنّك تقول: إنّ ثمّة جماعة مرّوا من هنا، وإذا كانوا يلاحقون شخصاً فإنّهم يتبعون الأثر، لأنّها توصلهم إلى حيث هو.
لماذا؟
لأنّك تقول: من غير المعقول أن تكون هناك أقدام دون أنْ يمرّ أحد من هنا، أو عندما ترى أثر البعير، فإنّك تقول: إنّ بعيراً لا بدّ أن يكون قد مرَّ من هنا، فهذه السماء المنظّمة بكواكبها وأجرامها، وقد مرَّت عليها مليارات السنين ولم يخرب منها شيء، وهذه الأرض التي تسير على نظام، كلّ هذا لا بدّ أن يدلّ على خالقه دون ريب!.
أثر الأقدام لا يحدث إلاّ إذا مشى شخص، لكنّ هذا الكون كلّه هل من المعقول أن يوجَد صدفة؟! من يملك عقلاً لا يمكن أن يفكِّر هكذا، لكنّ بعض الناس يغلقون عقولهم، ويَدَعُون ألسنتهم تتكلَّم.
الإنسان في بعض الحالات بحاجة لأن يمسك لسانه ويغلق فمه ويترك عقله يعمل، وبعدئذٍ يأخذ النتيجة.
إذا تركت عقلك يفكِّر بهدوء، فإنّ لسانك سيتكلّم بحكمة وحقّ، أمّا إذا كان المهمّ لديك تحريك لسانك والكلام بأيّ شيء لكي تستعرض معلوماتك أمام الناس، تماماً كما يفعل بعض الناس حين يحصل على شهادة أو شهادتين ويجلس بين جماعة سُذَّج، ويريد أن يظهر نفسه على أنّه مثقّف وأعلى من الناس، فيحاول أن يتكلّم بالفلسفة مثلاً، ولكن ما هي فلسفته؟
إنّه يقول: ليس عندنا دليل على وجود الله!! هناك شخص اعترض على كلام الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي قال: إنّ الله لا يُرى، فقال: كيف يكون الشيء موجوداً ولا يُرى؟ هذا ليس معقولاً، فجاءه البهلول (البهلول هو عالِم عاقِل لكنّه يجعل نفسه كالمجنون) فحمل حجارة وضرب ذلك السائل، وعندما ضربه، بدأ يصرخ ويصيح، فقال له البهلول: لماذا تصرخ وتصيح؟، قال أنا متألِّم، فقال له: أين هو هذا الألم، إنّنا لم نره، أمّا كيف تقول إنّه ليس من المعقول أن يكون الشيء موجوداً إلاّ إذا رأيناه، فإذا كان الألم موجوداً فنحن لا نراه، إذاً ليس من المعقول أن يكون لديك ألم.
هنا نجد أنّ أكثر آيات القرآن فتقول: فَكِّر، أنظر بعينيك، فَكِّر بنفسك، وبأجهزتك التي في داخل جسمك، فكِّر في الكون الذي حولك، فإنّك ستجد ذلك دليلاً على الله، لكنّ المهم أن تحرِّر عقلك.
قهر الله
"وغَلَبَ قهرُك" أي قهر يغلب أعظم من قهر الله، يقول تعالى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}(1)، {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}(2)، فلو نزلت إلى أعماق الأرض، أو صعدت إلى الفضاء، فعندما يأتي أجلك فستلاقيه حتماً. وفي هذا السياق يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): (سبحان مَنْ تَعَزَّزَ بالقدرةِ والبهاء، وقَهَرَ عِبادَهُ بالموتِ والفناء).
"وغَلَبَ قهرُك" إنّ قهر الله يغلب كلّ قوّة في الكون، فكم من اختراعات واكتشافات حدثت في العالم، ولكن برغم ذلك لم يستطيعوا السيطرة على الزلازل، ولا على البراكين، ولا على الفيضانات، لأنّها أكبر من طاقة الإنسان.
هنالك قضيّة الخصب والرّخاء في العالم، ألا نسمع أنّ لدى روسيا مثلاً أزمة قمح، لماذا لديها أزمة قمح؟ لأنّ لديها أزمة خصب، على اعتبار أنّ المطر لم ينزل من السماء، والماء كان قليلاً، والظروف المناخية لم تساعد. إذاً، إذا كنتم تقولون إنّ الله غير موجود، وإنّ العلم هو كلّ شيء، فلماذا لا تحاولون حلّ مشاكلكم وتوجدوا الخصب في الأرض.. أن تخلقوا في الأرض خصباً، وأن تخلقوا ظروفاً طبيعية.
ولكنّ الإنسان لم يستطع أن يخلق ظرفاً طبيعياً زائداً على الظروف الطبيعية، وإنّما حاكى الظروف الطبيعية في حياته.
حكومة الله وقدرته
"وجرت قدرتك"، جرت قدرتك في خلق الإنسان والحيوان وفي كلّ شيء.
"ولا يمكن الفرار من حكومتك"
جاء في الحديث القدسي: (مَنْ لم يَرْضَ بقضائي، فليخرج من أرضي وسمائي) وليس هناك مجال للخروج من أرض الله وسمائه، وإذا لم يكن هناك مجال فإنّ حكومة الله ستلاحقنا إلى كلّ مكان، حكومة الله التكوينية الحقيقية، حكومة قدرته وسلطته وسيطرته.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نرتّب أمورنا مع الله؟
إذا كانت الحكومة تريد اعتقالك وتستطيع القبض عليك في أيِّ مكان تلجأ إليه، يجب عليك ترتيب أمورك حسب القانون. فلماذا لم يكن عندكم مهرب من الله، ليس لديكم طريق تهربون فيه من ملك الله وحكومته، فكيف تعصون الله في ما أمركم؟ وكيف تتمرّدون على قوانين الله؟ وكيف ترتكبون معاصي الله في ما حرَّمه الله عليكم؟. ألا تقول في الدعاء "هارِبٌ منكَ إليك"، كيف تهرب من الله؟ تجري وتجري، ولكن أينما تجرِ تجد الله أمامك.
هنالك الكثير من الناس يعيشون في الأوهام. هذا الإنسان يسير مع فلان، لأنّ فلاناً سيعطيه كلّ شيء، يؤيّد فلاناً، لأنّ فلاناً سيعطيه السلطة والسطوة وسيجعل له موقعاً، يدافع عن سلطة فلان، وعن حكومة فلان، وعن سيطرة فلان، على هذا الأساس يكون الواقع، إنّ هذا الإنسان مخدوع، وحاله كحال المسافر الظمآن الذي يحسب السراب ماء وفي الحقيقة ليس هنالك ماء، ولكنّ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(1) ليس هناك سراب الصحراء فقط، بل سراب الأشخاص، والأحزاب، والمؤسسات، والرئاسات، والوزارات، والحكومات، كلّ شيء غير الله سراب، وكل أمل بغير الله سراب. يقول الله لهذا الشخص الذي أصله السراب: قم، إلى أين أنتَ ذاهب؟ ماذا كنتَ تعمل؟ مَن فلان؟ ومن فلان؟ أنا الأوّل والآخر والظاهر، والباطن.
"ولا يمكن الفرار من حكومتك" اجعلوا هذه العبارة في أذهانكم، إنّكم تقرؤونها كلّ ليلة جمعة، إذا لم تتمكّنوا من أن تفرّوا من حكومة الله، فكيف تستطيعون الفرار من عذاب الله؟ وكيف تستطيعون الفرار من عقوبة الله؟
إنّ النار أمامكم فكيف يمكن أن تدبّروا أنفسكم؟
ألاَ يحتاج كلّ منها إلى تدبير أمره.
نعم إنّ كلّ شخص لديه خطيئة يجب أن يستغفر الله منها، أيّ عمل واجب يجب أن يحاول جهده أن يؤدّيه، أيّ مشاكل مع الله يجب العمل على حلِّها، حتى إذا ما وقف بين يديّ الله، وقف بقلبٍ سليم، وفكر سليم، وعملٍ سليم، وروحٍ سليمة.
هذه هي الأجواء التي يريدنا الإمام عليّ (عليه السلام) أن نعيش بعضها في دعاء كميل حتى نعيش مع الله فنعيش بما يقرّبنا إليه سبحانه وتعالى.
وإنّ من شروط الدّعاء أن يفهم الإنسان ما يدعو به، لأنّ الدّعاء هو حديث إنسان مع الله، وليس من المعقول أن يتحدّث مع الله بحديث لا يفهمه.
5 ـــ "اللَّهُمَّ لا أَجِدُ لِذُنُوبِي غافِراً وَلاَ لِقَبائِحِي ساتِراً، وَلاَ لِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِي الْقَبِيحِ بِالْحَسَنِ مُبَدِّلاً غَيْرَكَ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَتَجَرَّأْتُ بِجَهْلِي، وَسَكَنْتُ إلَى قَدِيمِ ذَكْرِكَ لِي وَمَنِّكَ عَلَيَّ، اللَّهُمَّ مَوْلايَ كَمْ مِنْ قَبِيحٍ سَتَرْتَهُ، وَكَمْ مِنْ فَادِحٍ مِنَ الْبَلاءِ أَقَلْتَهُ، وَكَمْ مِنْ عِثارٍ وَقَيْتَهُ، وَكَمْ مِنْ مَكْرُوهٍ دَفَعْتَهُ، وَكَمْ مِنْ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ لَسْتُ أَهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ".
"الَّلهُمَّ لا أَجِدُ لِذُنُوبِي غافِراً وَلاَ لِقَبائِحِي ساتِراً، وَلاَ لِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِي الْقَبِيحِ بِالْحَسَنِ مُبَدِّلاً غَيْرَكَ"
هل يمكن للإنسان أن يجد ملجأ آمن وأحصن من اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى؟
هل يمكن للإنسان أن يجد من يغفر له ذنباً أذنبه بحقّه؟ هل سنّة المسامحة والعفو هي التي تحكم العلاقات بين البشر، أم سنّة الاقتصاص وإنزال العقوبة، والرغبة في الثأر ورد الكيل كيلين.
هل القواعد التي تحكم العلاقات بين الناس هي فضح عيوبهم وتداولها في ما بينهم، أم هي سترها والتغطية عليها؟
هل ثمّة قادر بين البشر، في الإطار العام، على أن يحوّل عملاً قبيحاً إلى عمل حَسَن؟
هل ثمّة من يستطيع أن يرد على القبيح بأحسن منه، فيكون بردّه ذاك قد حوَّل القبيح إلى حسن، بدلاً من يرد عليه بقبيحٍ مثله؟
هل ثمّة مَن يستطيع أن ينزل صورة القبيح عن العمل، أن يمحو هذه الصورة عنه، ليكسوه بدلاً منها بصورة حسنة وجميلة؟
إنّ المتأمّل في تاريخ علاقات البشر لا يستطيع إلاّ أن يخرج بنتيجة قاطعة وهي أنّ السنّة الحاكمة والراجحة، هي سنّة الاقتصاص، وعدم العفو، والثأر، وسنّة الغيبة، وتداول الألسن والعيوب، وسياسة التعامل بالمثل، أي ردّ القبيح بمثله أو بأقبح منه.
والدّاعي، لعميق إدراكه لهذه الحقائق، يخرج بنتيجة حاسمة وهي أنّه ليس هناك من غافر للذنوب سوى الله سبحانه وتعالى، وهي حقيقة تلتقي مع كتاب الله تعالى عندما يقول: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ}(1).
هذا الاستفهام الذي صاغه الله سبحانه وتعالى، وبصيغة الإنكار لينفيَ أيّ إمكان لغفران الذنوب عند غير الله تعالى. وبالتالي، فالإنكار، هنا، يفيد التعجيز، الأمر الذي يعني أنّ أيَّ إنسان هو حتماً عاجز عن القيام بهذه المهمّة.
كما يؤكّد الداعي أنّ الله، سبحانه وتعالى، فقط، هو الستَّار الذي يستر العيوب ولا يفضحها، في حين أنّه لو أوكل أمره إلى الناس لفضحوها له، وجعلوها محلّ تداول ألسنتهم ومنتدياتهم وسهراتهم.
لكنّ الله تعالى، هذا الإله الحليم، الجليل، الستَّار، يحلم عن مجازاة المذنبين، ويجلُّ عن ملاحقتهم، ويستر عليهم رحمة منه. إذ أليس هو الرحيم الرحمن، الحنَّان، العطوف الشفوق بخلقه.
وفي هذا السياق، تبقى النقطة الأدق في مظهر الرحمة الإلهية، هي استبدال الله، سبحانه وتعالى، سيّئات عباده بالحسنات. فإذا كان مجرّد العفو يعبّر عن رحمة متناهية، فبماذا يمكن أن نصف ما هو فوق العفو، أي ليس فقط الوقوف عند حدّ التجاوز عن السيّئات، وإنّما استبدالها أيضاً بحسنات. فهل فوق هذا الكرم كرم؟ وهل فوق هذا الجود جود؟ وهل فوق هذه الرحمة رحمة؟ وهذه الحقيقة التي يأتي بها الداعي، لا يأتي بها من عند نفسه، وإنّما هي حقيقة وعد الله (عزّ وجلّ) بها في القرآن الكريم من تاب آمن، وعمل عملاً صالحاً، حيث قال: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}(2) وقد قيل في تفسير وجوه كيفية تبديل السيّئات بالحسنات أقوال كثيرة، نحن في غنى عن استعراضها، لأنّها مهما كانت، فإنّها تلتقي على أنّ التغيير واقع لا محالة، وإنْ تباينت في تفسير كيفيّته.
ولذا، يبقى المهم، في كلام الآية هو اعتبار التبديل ثمرة لتبديل يحدث عند الإنسان المذنب قوامه ثلاثة أمور رئيسية، هي:
أ ـــ التوبة، بما هي فعل إقرار بالذنب، والشعور بالندم، وقرار بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
ب ـــ الإيمان، بما هو فعل وعي والتزام بالمعارف والعقائد والقِيَم والتشريعات والسنن الإلهية.
ج ـــ العمل الصالح، بما هو ترجمة واقعية للإيمان في الحياة.
فإذا ما تحقَّق التغيير عند الإنسان العاصي على صعيد هذه الدوائر الثلاث المتلازمة، فإنّ الله سبحانه وتعالى، يرتّب عليه تغييراً أعمق قائماً على إعادة النظر في سجل تاريخ هذا الإنسان، بحيث تعاد كتابته من جديد.
فالتبديل من قِبَل الله تعالى بمثابة مكافأة للإنسان على إنابته، لا نوع من الهبة المجانية.
وهذا، إن دلَّ على شيء، فإنّه يدلّ على أنَّ أيَّ إنسان قادر، إذا ما التزم دوائر التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، على أن يعيد النظر ليس في حاضر وجوده ومستقبله فقط، وإنّما في ماضيه أيضاً، فإذا كان من شأن الماضي أن يؤثّر على الحاضر والمستقبل، فإنّ الله سبحانه وتعالى يؤكّد لنا إمكان تصحيح الماضي من خلال الحاضر أيضاً، فضلاً عن المستقبل، ممّا يعني، ضمناً، أنّ التاريخ الإنساني يجب أن يبقى دائماً تاريخاً منسجماً، محافظاً على استقامته واطّراده، من دون أيِّ تشويه في أيّ محطة من محطّاته.
ماذا يعني هذا الكلام أيضاً على نحو أعمق؟ إنّه يعني أنّ فعل التوبة ليس مجرّد قرار نظري يقف عند حدود الحاضر ولا يأخذ بالاعتبار إلاّ الآن الذي هو فيه والمستقبل الذي ينوي أن يتوجّه إليه، إنّما يعني في الصميم عودة إلى كلّ التراث الشخصي الماضوي لتقويم كلّ محتوياته ووضعها في الغربال وممارسة النقد الذاتي البنّاء لها وفق مقاييس الخطوة الإيمانية التي يراد اجتيازها. على الإنسان أن يخوض معركة مواجهة وتصفية حساب مع ماضيه تتيح له بالفعل نزع كلّ الشوائب والعيوب الماضية، كما تتيح له تحصيل وعي عميق بتجربته الماضوية، وتتيح له أخيراً الإمساك بمرتكزات وجوده التي لها حقّ البقاء والبناء عليها، من خلال تنميتها، والأخذ بيدها، في حركة تكامل كمّيّ ونوعيّ نحو الحاضر والمستقبل معاً.
"لا إله إلاّ أنتَ سبحانك وبحمدك"
"لا إله إلاّ أنتَ"، أي يا ربّ أنتَ الإله الذي لا شريك له في الألوهية، وأنتَ المعبود الذي لا يعبد سواه، وكأنّ الداعي بترديده شعار الموحّدين هذا، عقب الإشارات التوحيدية التي سبق أن أتى بها عندما حضر غفران الذنوب، وستر القبائح، وتبديل السيّئات بالحسنات، في الله وحده سبحانه وتعالى، أراد أن يعمِّم توحيده لله (عزّ وجلّ) في كلّ المجالات، فنادى ربّه بشعر التوحيد "لا إله إلاّ أنتَ". أي لا أقرُّ بالألوهية لأحدٍ سواك، ولا أقرُّ بالعبودية لأحد سواك. فأنا أشهد أنّك أنتَ الله ولا إله غيرك. وأشهد أنّك المعبود الجدير حقيقة بمقام المعبودية ولا أحد سواك. وبعد أن ثبت إقراره بالوحدانية، أتى بما يؤكّد أكثر فقال: "سبحانك وبحمدك".
فالتسبيح، بحسب معاجم اللغة والتفسير، يفيد التنزيه للإله عن الولد والصاحبة، والشركاء. أي عندما نقول نحن كلمة "سبحانك"، إنّما نريد بها تنزيه الله (عزّ وجلّ) عن هذه الأمور الثلاثة.
وعلى رأي آخر، فهي تفيد تبرئة الله من كلّ سوء(1).
وأمّا معنى، وبحمدك، أيّ يا ربّ، نبتدئ بحمدك، وبحمدك نفتتح، فحذف الفعل لدلالة المعنى عليه كما قال الله (عزّ وجلّ): {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ}(1) معناه: وادعوا شركاءكم.
ولقد قرن الداعي بين التسبيح والحمد، ليعلمنا أنّ التسبيح لا يكتمل بدون الحمد.
فعندما نسبّح الله، سبحانه وتعالى، يجب أن نقرن تسبيحنا له بحمدنا له، أي بالثناء عليه لأنّه أهل للتسبيح والحمد.
والحقيقة أنّ التسبيح ظاهرة كونية تشمل كلّ مخلوقات الله تعالى. فقد جاء في الكتاب الكريم قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(2).
كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(3).
وقد ورد مضمون هاتين الآيتين في آياتٍ أخرى أيضاً، كما جرى تأكيده، أيضاً، في الأخبار المروية عن الرسول الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وآل بيته (عليهم السلام).
في الأثر عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: "إنّ الطير إذا أصبحت سبَّحَتْ ربّها، وسألته قوت يومها"(4).
إنَّ معنى التسبيح الفعلي لله، سبحانه وتعالى، يفيد معنى الخضوع التام له تعالى والتزام طاعته في كلّ شيء، وإلاّ لاستحال التسبيح مجرّد لقلقة لسان، واستظهار لكلمات لا ثمرة وراءها. فالتسبيح هو شهادة لله، سبحانه وتعالى، بالكمال المطلق، وشهادة لله تعالى بالوحدانية المطلقة. وهاتان الشهادتان لا تتمّان باللّسان فقط، وإنّما تتمّان بالعقل والقلب والعمل أيضاً.
فيجب أن تشهد كلّ جارحة من جوارحنا، وكلّ جانحة من جوانحنا، لله تعالى بالكمال والوحدانية، وأن يؤتى بهذه الشهادة في دائرتي النظر والعمل، الفكر والسلوك، العاطفة والوجدان والمشاعر. إنَّ تنزيه الله حقّ التنزيه هو هذا التنزيه، وما عدا ذلك كلام فارغ لا معنى له ولا أثر.
وإذا كانت هذه هي حقيقة التنزيه، فلا ريب في أنّ كلّ كائن، أيضاً، ينزّه الله سبحانه وتعالى، ما دام من جهة يشهد بنفس وجوده على فقره وحاجته ويشهد لخالقه بالمعنى والكمال. وما دام من جهته يخضع لنواميس خالقه وقوانينه لا يحيد عنها قيد أنملة. وهي بهذا الخضوع تؤكّد عبوديّتها لخالقها، وتؤكّد واحديّته، بل أحدية هذا الخالق، وفي هذا كلّه منتهى التنزيه لله سبحانه وتعالى.
وفي مطلق الأحوال، إنّ اشتراك الكائنات في صفة التسبيح لله تعالى، تضع الوجود برمّته في طريق مشترك هو طريق الانجذاب نحو الله (عزّ وجلّ) والاتجاه نحو ساحة قدسه تعالى.
ومن شأن هذه الحقيقة، حقيقة كون المخلوقات بأسرها تسير في موكب إلهي واحد، أن توجد بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان وسائر الكائنات، علاقة تناغم وانسجام لا علاقة تنابذ وتصارع.
"ظلمتُ نفسي، وتجرّأتُ بجهلي، وسكنتُ إلى قديمِ ذكرِكَ لي ومَنِّكَ عليَّ"
الاعتراف بالذنب أو الخطأ أوّل خطوة على طريق تصحيحه وتجاوزه. بينما التكبُّر عن الاعتراف بالذنب، وشعور الإنسان بأنّه أكبر من أن يذنب أو يخطئ يدفعه إلى الإمعان في الخطأ، وإلى الإصرار على الذنب والانحراف. فإذا أراد الإنسان أن يصحِّح مسيرة حياته، وأن ينعتق من أغلال ذنوبه وأخطائه، ومعاصيه وزلاّت قدمه.. الخ فعليه أن يتحلّى بالتواضع أمام نفسه، وأمام الآخرين، وبالخصوص أمام ربّه، فيشهد على نفسه بما اقترف من الذنوب والأخطاء والمعاصي والزلاّت.. الخ. لأنّ هذه الشهادة تحفظ للإنسان وضعه كإنسان يمكن أن يخطئ ويذنب، فلا يضع نفسه في مقام الآلهة أو المعصومين عن الخطأ، حيث يصرّ على أنّه لم يخطئ أو يذنب في حياته قط. فالاعتراف تثبيت للنفس في مقام التواضع بدلاً من مقام التجبُّر، والتكبُّر، والتعالي.
والاعتراف يستبطن النيّة، أو الرغبة، بتصحيح الخطأ وتجاوزه نحو ما هو حسن وصحيح. لأنّ الاعتراف تعبير صريح عن الإحساس بالندم، وإعلان صريح عن الاستعداد لتحمّل تبعات الأعمال والأقوال، والاعتراف، أيضاً يريح الإنسان ممّا من شأنه أن يوتّر حياته وينغّصها عليه. ذلك أنّ المذنب عندما يذنب، فإنّ الذنب يفعل فعله فيه على الصعيد النفسي، فهو يتركه تحت وطأة عذاب الضمير، أو بحسب التعبير القرآني، فإنّه يضع الإنسان في دائرة النفس اللّوَّامة، أي في دائرة لوم الذات على ما أقدمت عليه. فإذا بقي هذا الذنب عالقاً في داخل الإنسان، ولم يجد له متنفّساً سليماً، فإنّه سينغّص عليه حياته، وسيكون مصدراً لتوتّر واضطرابات داخلية.
إنّ الذنوب إذا ما تراكمت في داخل نفس الإنسان، ولم يجد الإنسان مَن يشاركه في أمرها، فإنّها تصبح سبباً لظهور الكثير من الأمراض النفسية، لعلّ أهمّها: مرض القنوط واليأس.
ولذا، إنّ واحدة من وظائف الدعاء الأساسية، هي أنّه يشكّل وسيلة يُخرج من خلالها الإنسان أعباءه وهمومه وتوتّراته الداخلية، ليضعها، بين يديّ مَن يطمئن إلى أنّه يملك الحلول الناجحة. فالإنسان عندما يقف داعياً بين يديّ الله سبحانه وتعالى، يشعر أنّه يقف بين يدي إله قادر، غنيّ، كريم، جواد، رحيم، حنّان، منَّان.. الأمر الذي يمنحه الثقة بإجابة مسائله، بحيث لا يكاد ينهي دعاءه إلاّ وقد استراح من كلّ القضايا والمشاكل التي تضغط عليه وتنغِّص عليه وجوده، ومنها القضايا التي تتّصل بأخطائه وذنوبه ومعاصيه ولاسيّما تلك التي تتّصل اتصالاً مباشراً بالله تعالى.
من هنا، فالداعي يعلّمنا من خلال اعترافه، بأهمية الاعتراف بالذنب، وذلك من خلال تقديم نفسه كنموذج فيقول: "ظلمتُ نفسي، وتجرّأْتُ بجهلي"، لأنّ ما يصدر عن الإنسان من ذنوب ومعاصٍ ليس فيه تعدٍّ وانتهاك لحدود الله (عزّ وجلّ) فحسب، وإنّما فيه ظلم كبير للنفس. فنحن عندما نسيء لا نسيء إلى الله تعالى، أو إلى الآخرين فحسب، وإنّما نسيء إلى أنفسنا من خلال إساءتنا لله تعالى أو للآخرين. فما من إساءة أو تجاوز، إلاّ وترتدّ آثاره علينا سلباً في الدنيا أو في الآخرة، أو في كليهما معاً.
من هنا، فإنّ لسان حال الداعي، كأنّه يقول إنّي بدلاً من أن أعمر نفسي بالعمل الصالح والكَلِم الطيِّب، بدلاً من أن أكون عادلاً في حياتي مع نفسي ومع الآخرين ومعك يا ربّ، فها أنا، ظالم لنفسي وللآخرين، ولك يا ربّ من خلال ما تجرّأت به عليك.
وأنا إذا تجرّأت عليك، يا ربّ، إنّما "تجرّأت بجهلي"، أي لم يكن ما صدر منّي عن علم، ومعرفة، وسبق إصرار، بل كان ذلك عن جهل، وتقصير عفوي.. ولعلّ هذا يخفّف من شأن ذنوبي، واجترائي عليك يا ربّ.
"وَسَكَنْتُ إلى قديمِ ذِكْرِكَ لي ومَنِّكَ عليَّ"
فالداعي بعد أن أخذت الذنوب منه مأخذها، ونظر في حاله وأحواله، فراعه أنّه اجترأ على ربٍّ عظيم لا يؤدّي شكر نعمه؛ أخذ يفتِّش عمّا يسكِّن من روعه، ويسمح له بتجاوز ما هو فيه، فكان أن وجد ضالته في الماضي، في قديم ذكر الله تعالى له ومَنِّه عليه. فهو عندما أخذ يستحضر ماضيه اكتشف أنّ الله سبحانه وتعالى، لطالما أحاطه بنعمه وألطافه، بحيث لا يكاد يمرّ آن من آنات حياته إلاّ هو مكتنف بهذه النِعَم والألطاف. ولعلَّ هذا التساهل الإلهي معه كان سبباً في أن يتجرّأ على مولاه، وذلك لو أنّ الله (عزّ وجلّ) أخذ على يديه بقوّة منذ البداية لكان ما تجرّأ على ما تجرّأ عليه.
والداعي في هذه الفقرة يعلِّمنا أنّه عندما نعيش حالة الإقرار بالذنوب، وعندما نعاين ذنوبنا، يجب أن لا نسمّر عيوننا عندها فحسب، كما لا يجب أن لا نغضّ بصرنا عنها، بل يجب، في الآن نفسه، أن نتذكّر ونعاين نِعَم الله علينا وألطافه الجزيلة المتواترة المتّسقة التي لا تعرف الانقطاع. يجب أن نستحضر دائماً رحمة الله الواسعة لكلّ شيء، لأنّ من شأن ذلك، أن يمنحنا الشعور بالأمل والاطمئنان للمستقبل من خلال إدراكنا أنّ الله تعالى لن يتخلّى عنّا على الرغم من ذنوبنا ومعاصينا، وبالتالي، كلّ ما علينا هو أن نسلك سبل الإنابة والرجوع إلى الله تعالى، والله عنده مفاتيح التوبة والمغفرة والعفو، بل أكثر من ذلك عنده مفاتيح استبدال السيّئات بالحسنات. إنّ وقوف الإنسان عند حدود الذنوب فحسب من دون تذكّر أو استحضار رحمة الله تعالى ونِعَمه وإحسانه، قد يفضي به إلى اليأس والقنوط.
فالإنسان إذا ما شعر بأنّ ذنوبه تطبق عليه، كما تطبق الأمواج العاتية على الغريق، قد يستسلم لليأس، كما يستسلم الغريق للموت. بينما إذا لمس بارقة خلاص لو واحدة وبعيدة، فإنّه يشعر بالقوّة تدبّ فيه من خلال الأمل، ولو القليل، بإمكان النجاة والعودة إلى الحياة الصحيحة مجدداً.
"الَّلهُمَّ مَوْلايَ كَمْ مِنْ قَبِيحٍ سَتَرْتَهُ، وَكَمْ مِنْ فَادِحٍ مِنَ الْبَلاءِ أَقَلْتَهُ، وَكَمْ مِنْ عِثارٍ وَقَيْتَهُ، وَكَمْ مِنْ مَكْرُوهٍ دَفَعْتَهُ، وَكَمْ مِنْ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ لَسْتُ أَهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ".
من بين نِعَم الله تعالى التي أخذ الداعي يسترجعها، أنّ الله ستر عليه القبيح، وأنّ الله أنجاه من البلاء الفادح، وأنّ الله حال بينه وبين السقوط والتعثُّر في مسير حياته، وأنّ الله تعالى نشر له صورة جميلة لا يستحقّها بين الناس.
الدّاعي يعدّد هذه الاعترافات قائلاً:
"الَّلهُمَّ مَوْلايَ كَمْ مِنْ قَبِيحٍ سَتَرْتَهُ". أي يا ربّ، أنتَ سترت قبائحي ولم تذعها على الملأ وفي أوساط الناس. وبسترك هذا عليّ حفظت لي مكانتي واحترامي بينهم، فلو ذاعت قبائحي، وعَلِمَ بها الناس، فكانوا احتقروني ونظروا إليّ نظرة ازدراء واشمئزاز، لكنّك، يا ربّ، لم تسمح لكرامتي بأنْ تمسّ، ولمكانتي أن تخدش، ولسمعتي أن تُدان.
والدّاعي، يريد أن يعلِّمنا، أيضاً، وجوب حفظ مكانة النّاس واحترامهم من خلال أخلاق الله تعالى، بحيث إذا رأينا قبيحاً نسعى لإصلاحه من دون أن نذيعه وننشره. فالله سبحانه وتعالى حريص على كرامات الناس وعلى سمعتهم ومكانتهم الاجتماعية، ألاَ نكون حريصين مثله، وهو قدوتنا الأسمى في هذا الوجود.
تأمّلوا في أخلاق الله تعالى، تأمّلوا في كرم عفو الله تعالى؛ لقد جاء في الخبر أنّه "يؤتى بالعبد يوم القيامة يبكي فيقول الله سبحانه: لِمَ تبكي؟ فيقول: أبكي على ما سينكشف عنّي من عوراتي، وعيوبي عند الناس والملائكة. فيقول الله: عبدي ما افتضحتك في الدنيا بكشف عيوبك وفواحشك، وأنتَ تعصيني وتضحك، فكيف أفتضحك اليوم بكشفها وأنتَ تعصيني، وتبكي"(1)، هل ثمّة رقّة وحنو أعظم من رقّة وحنوّ الله تعالى على عبده. هذا الحنوّ الذي يعبّر عن حرص الله سبحانه وتعالى على مكانة عبده ومنزلته بين الناس ليس في الدنيا فحسب، وإنّما في الآخرة أيضاً. فنراه يسدل ستاراً واقياً عليه من الافتضاح. هكذا يريد الله تعالى منّا أن نبنيَ مجتمعاً نحفظ فيه الكرامات والمكانات. يريد الله منّا أن نصنع مجتمعاً مبنياً على الاحترام والتقدير المتبادلين، أن يحترم كلٌّ منّا الآخر حتّى في عيوبه. لكن إذا كان احترام المكانات واجباً، فإنّ ذلك لا يعني السكوت على الخطأ أو العيب، وإنّما معالجته بصمت، بدون ضجيج وضوضاء. إنّ أيّ مشكل مهما كان كبيراً يسهل علاجه أكثر إذا ما عولج برويّة وهدوء, وبقي بعيداً عن أعين المتطفّلين والمشاغبين، والمتصيّدين في المياه العكرة.
"وَكَمْ مِنْ فَادِحٍ مِنَ الْبَلاءِ أَقَلْتَهُ"
فدحه الأمر، وفدحه الحمل، وفدحه الدَّين، أثقله، وعاله، وبهظه.
ويقال: نزل به أمر فادح، أو ركبه دَين فادح، أي ثقيل. أمّا الإقالة: فهي هنا بمعنى: العفو والمسامحة(1).
لعلّ في بعض ما ورد من مناجاة للإمام الكاظم (عليه السلام) يفسِّر حجم البلاءات والمصائب التي يجنّبها الله تعالى عباده. يقول الإمام الكاظم في هذه المناجاة: "إلهي، وكَمْ من عبدٍ أمْسَى وأصبح مُسافِراً شاخِصاً عن أهله وولده، متحيِّراً في المغاور، تائهاً مع الوحوش والبهائم والهوام، وحيداً فريداً لا يعرف حيلة، ولا يهتدي سبيلاً، أو متأذّياً ببرد، أو حرّ، أو جوع، أو عري، أو غيره من الشدائد ممّا أنا منه خلو، في عافيةٍ من ذلك كلّه، فلك الحمدُ يا ربّ، من مقتدرٍ لا يغلب، وذي أناة لا يعجل. سيدي ومولاي، وكم من عبدٍ أمسى وأصبح قد استمرّ عليه القضاء وأحدق به البلاء، وفارق أودّاءه وأحبّاءه وأخلاّءه وأمسى أسيراً، حقيراً، ذليلاً، في أيدي الكفّار، في الحديد، لا يرى شيئاً من ضياء الدنيا، ولا من روحها، ينظر إلى نفسه حسرة لا يستطيع لها ضرّاً ولا نفعاً، وأنا خلو من ذلك كلّه بجودك وكرمك"(2).
الكثير منّا، قد يظنّ أنّ نِعَم الله تعالى عليه هي وحدها تلك النِّعَم التي يعطيه إيّاها الله تعالى مباشرة، كنعمة الصحّة، ونعمة المال، ونعمة العِلْم، ونعمة الولد، وغيرها من النِّعَم.. لكنّ الإمام (عليه السلام) يعلّمنا أنّ نِعَم الله ليست فقط تلك التي تأتي في مورد الإيجاب بل، أيضاً، هناك نِعَم ربّما لو قيست بنعم الإيجاب لكانت أعظم منها. هذه النِعَم هي في مورد السّلب، أي إنّ الله تعالى كما قد يعطي إنساناً نعمة ما، فإنّه يمنع عنه مكروهاً ما. فالنِّعَم الإلهية لا تقف عند حدود ما نحن حاصلون عليه ومتحقّق بين أيدينا، بل تشمل، أيضاً، تلك المعروضة عنّا، المدفوعة عنّا. إذ أليس منع المرض نعمة كما الصحّة والعافية نعمة؟ أليس عدم الوقع في الأسر نعمة، كما الحرية نعمة؟ أليس عدم الوقوع في الحيرة والضلال والبعد عن الأهل والأحبّة نعمة، كما العيش في جلاء اليقين، وبجوار الأهل والأحبّة نعمة؟ فنِعَم الله على قسمين: قسم ممنوح وقسم مدفوع عنّا. وإذا ما علمنا ذلك استطعنا أن ندرك كم هي عظيمة نِعَم الله ومِنَنه علينا.
أحياناً، قد لا يشعر الواحد منّا بعظيم هذه النِّعَم، لكن لو وسّعنا من دائرة نظرنا، وقسنا ما نحن عليه، بما هو عليه غيرنا، أو استحضرنا ما يمكن أن يصيبنا من شرّ أو سوء أو بلاء.. الخ، وهو لا يزال بعيداً عنّا لأدركنا أكثر عظيم نِعَم الله علينا، ولتعاظم بالضرورة حجم شكرنا لله، لأنّ الإحساس بالشكر لا ينجم إلاّ عن الإحساس بحجم نِعَم المُنْعِم.
إنّ البعض إذا نظر فقط في النِّعَم التي بين يديه، وأغفل عن النِّعَم المتحقّقة بطريق الدفع الإلهي، لكان إحساسه جزئياً، أي إِنّ الله قد أنعم عليه في بعض الجوانب وفي جوانب أخرى لم ينعم عليه. لكنَّ إدراك هذين النوعين من النِّعَم يشعر الإنسان كم أنّه غارق في نِعَم الله من رأسه حتى قدميه.
"وَكَمْ مِنْ عِثارٍ وَقَيْتَه"
العثرة: هي الكبوة في المشي، أي السقوط. وقيل، أيضاً، هي الزلّة، والخطيئة.
والوقاية: هي الحفظ. يقال: وقاه المرض: حفظه منه(1).
يتابع الداعي، هنا، بيان موارد نِعَم الله تعالى عليه، فذكر مورد الوقاية من العثرات. أي إِنّ مِن نِعَم الله تعالى على الإنسان، أنّه يحول بينه وبين الكثير من المطبّات والحفر التي لو اصطدم بها أو غفل عنها لتعثّر في مشيه، ولوقع منكبّاً على وجهه. بالطبع، ليس المراد هنا المطبّات والحفر العادية، وبالتالي الوقوع العادي، بل المراد ما هو أدهى وأعظم من ذلك، أي تلك المطبّات والحفر ذات النتائج الأخطر والأعمق على حياة الإنسان، لأنّها تمسّ مسيرة حياته، وخطّ سيره في هذه الحياة. فالمطبّات والحفر التي يمكن أن يواجهها الإنسان على أنواع كثيرة؛ منها الفكري والعقائدي، ومنها السياسي والاقتصادي، ومنها الاجتماعي.. الخ، إنّ التعثّر في خطّ الفكر والعقيدة، وفي خطّ السياسة والاقتصاد والاجتماع، يعني الخروج عن الصراط المستقيم.
إنّ التعثّر في هذه المجالات هو التعثّر الحقيقي الذي يجب أن نسأل الله تعالى أن يقيلنا منه.
"وكَمْ مِنْ مكروهٍ دفَعْتَه"
المكروه: في الفقه هو ما كره الله فعله، لكن إذا أتى به العبد لا يحاسب عليه.
ودفع المكروه إمّا يكون بنفسه، أي دفع نفس المكروه، أو بغيره، أي عن طريق إيجاد سبب يحول بينه وبين تحقّقه وحدوثه.
وسواء كان مراد الداعي الدفع بالاعتبار الأوّل، أو بالاعتبار الثاني، فكلاهما متوقّف على الله ويعدّ نعمة منه.
فمن فضل الله على عبده، مثلاً، أن يحول بينه وبين الفقر والمرض وغير ذلك ممّا يكرهه الإنسان ويشقّ عليه.
هذا في الاعتبار الأوّل. وأمّا بحسب الاعتبار الثاني، فمن نِعَم الله على الإنسان أن يوفّقه على الإتيان بالأسباب التي تحول بينه وبين ما يكره. وعلى سبيل المثال توفيق الله عبده على الإتيان بالصَّدقة التي ورد فيها أنّها تدفع جملة من البلاءات. جاء عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) "إنّ الله لا إله إلاّ هو ليدفع بالصدقة الداء والدبيلة، والحرق، والغرق، والهدم، والجنون، وعدَّ سبعين باباً من الشرّ"(1).
كما ورد عن الباقر (عليه السلام) أنّ "إنّ البرّ والصدقة ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر، ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء"(1).
"وَكَمْ مِنْ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ لَسْتُ أَهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ"
الثناء هو المدح، يقال أثنى عليه أي مدحه.
والدّاعي يتصوّر نفسه غير مستحقّ لأي "ثناءٍ جميل"، أو صيت حَسَن بين الناس، لكنّه على الرغم من كلّ ذلك يرى كيف أنّ الله تعالى قد هيّأ من المكانة والجدارة والاحترام في أعين الناس ما لا يستحقه أو هو أهلٌ له.
فهو ينظر إلى نفسه يجدها غارقة في الذنوب، والمعاصي، والعيوب.. بحيث لا يجد لها حقّاً بمكان لائق بين الناس، وينظر إلى مكانته بين الناس، فيظهر له أنّه في مكانة لا يستحقّها، فيدرك عندها أنّ هذا أيضاً مِن نِعَم الله تعالى عليه.
6 ـــ "اللَّهُمَّ عَظُمَ بَلائِي وَأَفْرَطَ بِي سُوءُ حالِي، وَقَصُرَتْ بِي أَعْمالِي، وَقَعَدَتْ بِي أَغْلالِي، وَحَبَسَنِي عَنْ نَفْعِي بُعْدُ آمالِي، وَخَدَعَتْنِي الدُّنْيَا بِغُرُورِها، وَنَفْسِي بِخِيانَتِها، وَمِطَالِي".
بلاء العبد
"الَّلهُمَّ عَظُمَ بلائِي"(1)
عندما يقف الإنسان بين يديّ الله، ويستحضر أمامه خطاياه ومعاصيه وسيّئاته، فإنّه يشعر بأنّ هذا هو البلاء، ليس البلاء العظيم ما تبتلي به من فقر فقط، لأنّ الفقر قد يتحوّل إلى غنى في فرصةٍ أخرى. وليس البلاء العظيم هو ما تبتلي به من مرض، لأنّ المرض يتبدَّل إلى الصحّة والعافية، ولكنّ البلاء العظيم هو ما تبتلى به من غضب الله عليك، لأنّ غضب الله عليك لا تقوم له السماوات والأرض، ولهذا فالإمام عليّ (عليه السلام) يقول:
"اللَّهُمَّ عَظُمَ بَلائِي وَأَفْرَطَ بِي سُوءُ حالِي". هذه الحالة السيّئة التي تصيبنا من خلال يقظة الشهوات في أنفسنا، ومن خلال تأثير الأطماع على حياتنا ومواقفنا، ومن خلال تأثير الانحراف عن الخطّ في ما تقتضيه نوازعنا الذّاتية وأنانيّاتنا. " وَأَفْرَطَ بِي" وصل سوء حالنا إلى الإفراط، ـــ الإفراط هو تجاوز الحدّ(2)، يقال فلان أفرط في هذا الموضوع يعني تجاوز الحدّ ـــ "وأفرط بي سوء حالي" أي تجاوز بي سوء حالي الحدّ، فأصبحت لا أترك معصية إلاّ أفعلها ولا أدع سيّئة إلاّ وأُمارسها.
"وَقَصُرَتْ بِي أَعْمالِي" يعني أعمالي لا ترفعني إليك. إنّ الأعمال عندما تكون كثيرة وصالحة يستطيع أن يتعلّق بها الإنسان ويصل إلى الله، ولكن عندما تكون الأعمال قليلة وسيّئة فهي تقصر عن أن ترفع الإنسان إلى الله، لأنّ ما من شيءٍ يحاول رفع شيء، إلاّ ويجب أن تكون له القوّة، والأعمال عندما تكون ضعيفة وقاصرة فهي تقصر عن أن ترتفع بالإنسان إلى الله من دون شكّ.
أغلال الشيطان
"وَقَعَدَتْ بِي أَغْلالِي" يقول: يا ربّ أنا مقيَّد، والإنسان المقيَّد لا يستطيع أن يركض، ولا يستطيع أن يتحرّك أو ينطلق.
ما هي هذه الأغلال؟ هي أغلال شهواتنا، وأغلال أخلاقنا السيّئة، أنظر إلى نفسك عندما يكون في داخلك شيء من الأنانية وتريد أن تعمل خيراً، جرِّب نفسك عندما تكون أنانيتك مستيقظة في نفسك وتريد أن تعمل عمل خير، كيف يكون ثباتك في الأرض، كيف تظلّ توسوس لكَ نفسك: مَن هو فلان؟
هل يستحقّ أن تضحّيَ في سبيله؟ هل تستحقّ الجماعة الفلانية أن تعمل الخير من أجلها؟
إنّها الأنانية، والأنانية من القيود التي تقيِّد حركة الخير في نفس الإنسان، وتغلّ حركة الخير في وجدانه، ولا تجعل روح الخير تنطلق في داخله.
وهكذا نلاحظ أنّ الأنانية تمنع الإنسان من أن يتحرّك في كثيرٍ من الأعمال التي تحتاج إلى تضحية وعطاء.
عندما يكون الإنسان بخيلاً، ويكون الله قد أنعم عليه بشيء من المال، فالبخل يقيّده ويمنعه من أن ينطلق.
ذنوبنا تقيّدنا عن عمل الخير أيضاً في كثيرٍ من الحالات.
هنالك شخص جاء إلى إنسان وقال له: أنا أحبّ أن أُصلّيَ صلاة الليل، وأحبّ أنْ أفعل بعض الأعمال الطيّبة، ولكنّي أرى أنّه كلّما أردتُ أن اندفع، تقصر همّتي عن الموضوع، وتبرز لي العقد من هنا وهناك. فأجابه ذلك الإنسان قائلاً: (أنتَ رجل قيّدته ذنوبه). أي أنّ ذنوبك هي التي تتحكّم بشخصيتك، وبكلّ انطلاقاتك، وهذه الذنوب هي التي تقيّدك عن الاندفاع في الأعمال التي تقرّبك إلى الله.
"وَقَعَدَتْ بِي أَغْلالِي" حين أريدُ أن أتحرّك وأنطلق، وأرى هذه الأغلال النفسيّة تمنعني من القيام والتحرّك، فكلّ واحد منّا حين ينظر إلى نفسه يدعى إلى عمل خير، يرى كم هي الأخلاق السيّئة التي ورثها، والأعمال السيّئة التي اعتادها كيف تقف أمام الإنسان وتمنعه من التحرّك. إنّ عملية مراقبة النفس تجعل الإنسان يفهم تأثير أخلاقه وصفاته وعاداته في أعماله.
آمال العبد وبعدها
"وَحَبَسَنِي عَنْ نَفْعِي بُعْدُ آمالِي" يا ربّ في بعض الحالات تسنح الفرصة أمامي لكي أقوم بعمل خير، لكنّي أمتنع تحت حجج شتّى.
بعض الشباب المتمكّن من الحجّ يقال له: ما زلتَ في مقتبل العمر أمامك ثلاثون سنة لتحجّ فلماذا الاستعجال؟ فيبدأ بالتأجيل، وكذلك يؤجّل التوبة، لأنّ طول الأم يجعل الإنسان يسوّف التوبة: يخشع قلبه، أو يسمع موعظة، أو يتذكّر، أو يرى أمامه عبرة من العِبَر، قلبه يهدف للموعظة، لكن عندما يريد أن يتوب، يقول: ما زال الوقت باكراً، لديّ الكثير من الوقت وما زلتُ شابّاً، فيظلّ الإنسان يقفز من أمل إلى أمل، حتى يأتيَهُ الموت وهو غافل عن ذلك.
لدينا أحاديث عن بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّه عندما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ}(1) أي إنّه إذا كان لدى الإنسان سيّئة وقت الصبح، وصلّى الظهر بقلبٍ خاشع تائب إلى الله عمّا فرط منه، فالصلاة تزيل الذنوب التي قبل الصلاة، وصلاة العصر تذهب الذنوب التي قبلها أيضاً. جمع إبليس أعوانه وجنوده، وقال لهم: لنتدارس المسألة، فنحن نأتي للإنسان ونعمل، ونتعب، ونوقعه في المعصية، ثمّ يتوب ويصلّي، وكلّ ما بنيناه ينهدم بصلاة حقيقيّة واحدة، فكيف العمل؟ قدِّموا اقتراحاتكم ـــ وبحسب الرواية ـــ فقدّم كلّ واحد اقتراحه، وجاء الوسواس الخنَّاس، وقال: أنا لها، أنا أعرف ما يجب فعله.
فقيل له: كيف؟
قال أظلّ أوسوس لهم حتى أوقعهم في المعصية، فإذا وقعوا في المعصية سوَّفَت لهم التوبة. فعندما يريد الإنسان أن يتوب، أقول له: ما زال الوقت باكراً، ليس اليوم بل غداً، أو بعد غد، لديك مسألة أو شهوة من شهواتك، افعلها اليوم وتُبْ غداً.. هنالك مال حرام خذه اليوم وغداً تب.. عندك مشكلة مع إنسان، اضربه وفجِّر حقدك ضدّه، ثمّ تب.. اشتم فلاناً من الناس..
فقال له: أنتَ لها. إنّك تستعيذ بالله {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}(1)، إنّ الوسواس الخنَّاس، يوسوس لك ويخنّس، ويحاول بعد ذلك أن لا يريك نفسه، ويظلّ يوسوس بشكل لا تشعر به، فيجب أن تنتبه أنّ الشيطان يزيّن لكَ المعصية ويسوِّف لك التوبة، ولهذا هناك حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): (إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى، وطول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة).
إذا كنتَ طويل الأمل، فإنّك تنسى الآخرة، وإذا أردنا أن نرجع إلى أنفسنا فهل هناك شخص يشعر في داخل نفسه من الممكن أن يموت بعد ساعة؟ لا أحد لديه هذا الإحساس، قد نفكّر أنّ من الممكن أن يموت شخص ما، بحسب الآية، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}(2) ولكنّنا لا نعيش هذا بمستوى الإحساس والشعور، خوف الموت، الخوف الحقيقي، إنّما نحن ننطلق في حياتنا انطلاقة الآمل الطويل الذي لا يقف عند حدّ كليّة.
انظروا ماذا يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلاّ ظننتُ أنّ شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي، ولا رفعتُ طرفي فظننتُ أنّي واضعه حتى أقبض، ولا لقمت لقمة إلاّ ظننتُ أنّي لا أسيغها حتى أغصّ بها من الموت ثمّ قال: يا بني آدم إنْ كنتم تعقلون فعدّوا أنفسكم من الموتى"(1).
وفي حديثٍ آخر يقول: (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "أَكُلّكُم يُحِبّ أن يدخل الجنّة؟ قالوا: نعم، قال: قصِّروا من الأمل، واجعلوا آجالكم بين أبصاركم"(2) هكذا يجب أن نتعامل مع التسويف والمماطلة وطول الأمل. يجب أن نستقويَ بالموت على الحياة.
ذلك أنّ الإنسان الذي لا يملك بيده مفاتيح حياته، لا يملك مصيره بيديه، كيف له أن يأمل. مَن يستطيع منّا أن يضمن لنفسه البقاء ولو لعشر أعشار، بل لواحد من مليار من جزء من الثانية. صدَقَ مَنْ قال: عجبتُ مَنْ يأمل ومصيره بيد غيره.
ثمّ إنّ في الأمل والتسويف والمماطلة هدراً للوقت. والوقت هو رأسمال الحياة. فكلّ دقيقة، بل ثانية تهدر في لهو أو لعب أو عبث باطل، إنّما تهدر من رأسمال وجودنا وحياتنا. من هنا، كان التفكُّر الدائم بالموت، تذكرة لنا، بأهمية رأسمال وجودنا وحياتنا، أي الوقت الممنوح لنا. فما دام سيف الموت معرضاً في أيّة لحظة ليقطع عنق حياتنا، فعلينا أن نستفيد وأن نوظِّف رأسمال هذه الحياة، أي الوقت، في كلّ ما هو بنّاء ومنتج سواء على صعيد وجودنا الخاص كأفراد، أو على صعيد وجودنا العام كمجتمع وأُمّة.
فالأُمّة التي تفقد الإحساس بقيمة الوقت هي أُمّة مسوّفة، مماطلة، تتحوّل، مع الوقت، إلى عالة على الوجود والحياة، والحياة لا ترحم المتقاعسين والمهملين، والمماطلين. فقهر الوقت لا يكون إلاّ بتحويله إلى عملٍ منتج، وليس أيّ عمل، بل العمل الناضج، والممتلئ بالقِيَم والأهداف والمبادئ الإلهية والإنسانية السّامية، لأنّ من شأن هذه القِيَم والمبادئ والأهداف، أن تسبغ على أعمالنا وثمرات هذه الأعمال طابع الخلود والبقاء والاستمرار. قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ}(1).
فلنردّد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) دعاء: "الَّلهُمَّ إنّي أعوذُ بكَ من دنيا تمنع الآخرة، وأعوذ بكَ من حياة تمنع خير الممات، وأعوذُ بكَ من أمل يمنع خير العمل"(2).
غرور الدنيا
"وَخَدَعَتْنِي(3) الدُّنْيَا بِغُرُورِها"(4) البلاء الآخر هو غرور الدنيا، الدنيا تغوينا بأموالها وشهواتها ولذّاتها وامتيازاتها ومراكزها وبكلّ ما حولها، وهذه كلّها تلتقي مع الغرائز والأنانية، غرائز الأكل والشرب والجنس وغيرها.
إنّ الدنيا تخدعنا، وتجعلنا نعيش جوّاً مترفاً يغمرنا، لأنّها تبرز إلينا بصورة محبَّبة جميلة ثمّ تحتوينا، الدنيا تحتوي لنا فكرنا، من خلال التربية التي نتربّى عليها، وبحسب الأوضاع التي نعيشها، الدنيا تجعل الإنسان يعتبر أنّ طموحاته كلّها في هذه الأشياء، مثلاً عندما نرجع لأنفسنا نجد أنّ طموحات كلّ واحدٍ منّا كبيرة، أن يأكل جيداً، أو يلبس جيّداً، أن يسكن جيّداً، أن يصبح لديه مركز اجتماعي أو سياسي جيّد، أن يكون أولاده وعائلته ميسورين، وهو يعمل إلى أن تتحقَّق كلّها. هذه الأجواء نعتبرها أسساً في حياتنا، ونعتبرها من الطموحات الأساسية التي نواجهها ونضحّي من أجلها في الحياة، فهي تحتوي فكرنا ومشاعرنا، فنحن نرى أنفسنا ننجذب إلى كلّ الأجواء التي تتحرّك في هذا المجال، يعني في مجال تحقيق أيِّ شهوة من شهواتنا.
بين ظاهر الدنيا وحقيقتها
لدى الإمام عليّ (عليه السلام) تحديد لطيف للدنيا ودقيق جداً، يقول عن الدنيا: "مَنْ أبْصَرَ بها بَصَّرَتْهُ، ومَنْ أبصَرَ إليها أعْمَتْه" مرّة تجعل الدنيا أمامك وتعتبرها عيناً تبصر من خلالها الأشياء، يعني عندما تتعمّق بالدنيا مثلما يكون لديك عين تحدّق فيها الأشياء، ألاَ تحاول أن تفهم الأشياء جيّداً؟ حاول أن تجعل الدنيا طريقاً للاعتبار ولفهم حياتك والواقع "مَنْ أبْصَرَ بها بَصَّرَتْهُ" كيف نبصر بها؟ نرى الذين لديهم أموال وشهوات، والذين طغوا وتجبَّروا كيف صار أمرهم إلى زوال، فمن يحدق في القضايا ولا ينجذب للصورة، وإنّما يدخل في أعماق الصورة، يجد أنّ كلّ ما حوله من كلّ هذه المتع، إنّما هو عرض زائل، فشهواتنا ليست عمق حياتنا بل هي حاجة، لمجرّد أن لبيتها، انتهى دورها في تأثيرها على نفسك، كذلك أطماعنا، امتيازاتنا كلّها إلى زوال، فعندما يفكّر الإنسان في الدنيا تفكيراً حقيقياً، فإنّها تبصّره وتعرّفه الحقيقة، "مَنْ أبصرَ بها بَصَّرَتْهُ".
ومن "أبصَرَ إليها أَعْمَتْه"؛ نعم حين ينظر الإنسان إلى الدنيا بأشعّتها القويّة، فمثله كمثل الذي يحدّق في شعاع قويّ، فلا يقدر أن يحدّق طويلاً. عندما يقف الإنسان أمام تلك الأشعة ينبهر، وينجذب، ويعمى قلبه قبل أن تعمى عينه، فالإمام يقول: اتّخذوا الدنيا أساساً تدرسون به الأشياء، ولا تتّخذونها صورة تحدّقون بها، اجعلوها عيناً تبصرون بها الأعمال، ولا تجعلوها صورة تتطلّعون بها إلى السطح، لأنّ الإنسان الذي ينظر إلى ظواهر الأشياء تجذبه ظواهرها، ولكنّه إذا حدّق في واقع الأشياء، فإنّها تعلّمه جيداً.
النفس الأمّارة بالسوء
"ونفسي بخيانتها"(1). جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}(2) إنّ نفس الإنسان هي غرائزه، وشهواته وأطماعه وأحلامه في الحياة. لكن مَنْ تخون النفس؟ ألا تخون نفسها عندما تخون الله في ما عاهدته عليه بالطاعة.
عندما تقول: "أشهدُ أنْ لا إله إلاّ الله، وأشهدُ أنَّ محمَّداً رسولُ الله" فذلك عهد بينك وبين الله، تُشْهِدُ الله على قلبك أنّك تشهد أنّه الربّ الذي يعبد، وأنّ رسوله هو الرسول الذي ينبغي أن يُطاع في ما أرسله الله من رسالة، فنفسك تخون عهدك، وتخونك أيضاً في مستقبلك، لأنّ النفس عندما تنحرف عن طاعة الله، وتقف بالإنسان على معصيته، فإنّ هذه خيانة للمصير.
شهوات الإنسان وغرائزه وأحلامه، يراد لها أن تبني للإنسان حياته، ثم تعينه على أن يصل إلى الله بطريقه ينطلق فيها مصيره أمام الله بشكلٍ ناجح وجيّد، فالنفس عندما تبعد الإنسان عن الله فإنّها تخون مصير الإنسان ومستقبله.
"وَمِطالي" مأخوذة من المطل، والمطل: هو التسويف بالوعد مرّة بعد أخرى(3)، أليس لكم على بعض الناس دين، وعند المطالبة بهذا الدين يقال لكم غداً وبعد غد، فالنَّفس عليها دين في أن نتوب إلى الله سبحانه وتعالى أيضاً، لكن بدلاً من أن نتوب اليوم نراها تؤجّل ذلك إلى الغدّ وإلى بعد الغد وهكذا، هذه هي المماطلة التي تأتي من طول الأمل، وحبّ الشهوة، وفيها يقول الشاعر:
لا تقلْ في غدٍ أتوبُ لعلَّ الــ ــغَدَ يأتي وأنتَ تحتَ التُّرابِ
7 ـــ "يا سَيِّدِي فَأَسْأَلُكَ بِعِزَّتِكَ أَنْ لا يَحْجُبَ عَنْكَ دُعائِي سُوءُ عَمَلِي وَفِعَالِي، وَلا تَفْضَحَنِي بِخَفِيِّ ما اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنْ سِرِّي، وَلا تُعاجِلْنِي بِالْعُقُوبَةِ عَلَى ما عَمِلْتُهُ فِي خَلَواتِي مِنْ سُوءِ فِعْلِي وَإِسَاءَتِي، وَدَوامِ تَفْرِيطِي وَجَهالَتِي، وَكَثْرَةِ شَهَواتِي وَغَفْلَتِي".
هذه المشاكل التي استعرضها الإمام عليّ (عليه السلام): "عَظُمَ بَلائِي.. أفرط بي سوءُ حالي.. قصُرَتْ بي أعمالي.. قعدت بي أغلالي.. الخ" إذا ما تمثّلها الإنسان، وعاشها حقيقة، لا بدّ من أن يصبح في حالة يرثى لها، وعندها إلى مَن يلجأ ويفرّ؟ لا ريب في أنّه سيلجأ إلى الله، سبحانه وتعالى، راجعاً إليه، طلباً للرحمة والمغفرة والعون. وهو في هذه الحالة يكون مصداقاً لقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي، حيث يقول: "وأنا يا سيّدي عائذٌ بفضلك، هاربٌ منكَ إليك". أو كما في دعاء آخر له (عليه السلام): "يا مَنْ كلُّ هاربٍ إليه يلتجئ، وكلّ طالب إيّاه يرتجي. يا خير مَرجوّ، ويا أكرم مَدعوّ"(1).
فلأنّ الله سبحانه وتعالى هو "خير مرجوّ" و"أكْرَمَ مدعوّ"، فإنّ الإمام عليّ (عليه السلام) يقسم عليه بعزّته أن لا يحجب عنه دعاءه بسبب ممّا اقترفته يداه من الذّنوب، أو بما كسب قلبه من الآثام. وكأنّ لسان حال الإمام (عليه السلام) في كلّ ذلك يقول:
يا ربّ، أنتَ العزيز الذي لا يذلّ، وأنا الذليل أمامك، وأنتَ الربّ الرحيم، أنا أدعوك وأتضرَّع إليك، أريدُ منك شيئا ًواحداً، وهو أن لا يحجب عند دعائي وهو في طريقه إليك، ولا تجعل ذنوبي تمنع عنك دعائي، فالمهمّ عندي بمكان أن يخرج دعائي من قلبي ويصل إليك. اجعل قلبي ودعائي منفتحاً عليك، لأنّ دعائي إذا وصل إليك فإنّك تتقبّل الدّعاء، لأنّك "خير مرجوّ" و"أكرم مدعوّ".
ويتابع الإمام (عليه السلام) ببيان حاله قائلاً:
"وَلا تَفْضَحَنِي بِخَفِيِّ ما اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنْ سِرِّي" يا ربّ هنالك الكثير من الأشياء التي أقام بها من دون أن يراني أحد، أو أتكلّم بشيء ولا يسمعني أحد، وأنتَ السَّاتر الرحيم. فيا ربّ، لا تفضحني في الدنيا وفي الآخرة، وأعدك بأنّي سأتراجع عن خطئي وإساءتي ومعصيتي.
عقوبة الله
"وَلا تُعاجِلْنِي بِالْعُقُوبَةِ عَلَى ما عَمِلْتُهُ فِي خَلَواتِي" أنا أعلم أنّك قد تعاجل بالعقوبة هنا في الدنيا قبل الآخرة. كأن تعاقبني بالفقر أو المرض وسواه من الابتلاءات وكلّ ذلك "مِنْ سُوءِ فِعْلِي وَإِسَاءَتِي، وَدَوامِ تَفْرِيطِي وَجَهالَتِي" إنّي أفرط دائماً، لأنّي جاهل لا أعرف مصلحتي، ولــ "كثرة شهواتي" حيث في كلّ يوم لي شهوات متعدّدة الأنواع.
"وَغَفْلَتِي": المراد بالغفلة، هنا، ليس غياب الشيء عن بال الإنسان، وهو من معانيها، وإنّما المراد بها معنى آخر لها، وهو ترك الإنسان الشيء، إهمالاً وإعراضاً(1)، فبسبب هذه الذنوب كلّها، يمكن لك، يا ربّ، أن تعاجلني بالعقوبة.
لذا، أسألك يا ربّ، أن تمهلني، وأن لا تعاجلني بالعقوبة، وأن تمنحني، بالتالي، الفرصة كي أرجع إليك تائباً، مستغفراً، متنكّباً من طريق معصيتك، سالكاً سُبُلَ طاعتك ورضوانك، عاملاً بنواهيك وأوامرك، ملتزماً خطّك، خطّ الحقّ، والعدل، والمعروف والإحسان.. خطّ محاربة الشيطان وأهله وأوليائه.. خطّ محاربة الظلم والعدوان والطغيان والاستكبار.. الخ.
وثمّة نقطة عامة توحي إلينا بها هذه الفقرة. فالإمام (عليه السلام) يسأل الله، سبحانه وتعالى، أن لا يعاجله بالعقوبة على ما عمله في خلواته، وما يريد الإمام أن يقوله، ضمناً، أنّ الله، سبحانه وتعالى، مطّلع على كلّ شيء. وما من عمل نُسرّه أو نظهره، نكتمه أو نعلنه، إلاّ والله سبحانه وتعالى، محصيه لنا. فهو الرقيب الذي لا تخفى عليه خافية، وكيف يخفى عليه وهو {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(1).
وأهمية هذه النقطة تكمن في كون ما يشجّع الكثير من الناس على الإتيان بالمعاصي والمحرّمات، وفعل المنكرات.. الخ هو فقدان الرقيب الداخلي.
شعور الإنسان بأنّه مراقب يدفعه إلى احتساب خطواته، والتفكير مسبقاً بأقواله وأفعاله، لأنّ ما من إنسان إلاّ ويخاف الافتضاح. ولذا، كلّما قوي إحساسنا وشعورنا بأنّ الله، سبحانه وتعالى، مطّلع على أقوالنا وأفعالنا، قوي لدينا الشعور بالحياء من الله تعالى، وكلّما قوي لدينا الخوف من الله تعالى، والخوف من الفضيحة في الدنيا والآخرة على رؤوس الأشهاد، قوي ضميرنا الداخلي، وقويت إرادتنا على التمسُّك والإتيان بما يرضي الله من الأقوال والأفعال والأعمال.
فعلى كلّ واحد منّا أن يعلم أنّه إذا كان لا يرى الله سبحانه وتعالى، فإنّ الله يراه. والله أحقّ بأن نستحيَ منه، وأحقّ بأنْ نخشاه ونخافه، ونحسب له ألف حساب، لأنّه هو الذي لا إله إلاّ هو العظيم الكبير المتعال، الشديد العقاب، كما هو الغفور الرحيم.
8 ـــ "وَكُنِ الَّلهُمَّ بِعِزَّتِكَ لِي فِي الأَحْوالِ رَؤُوفاً، وَعَلَيَّ فِي جَميعِ الأُمُورِ عَطُوفاً، إلهي وَرَبِّي مَنْ لِي غَيْرُكَ أَسْأَلُهُ كَشْفَ ضُرِّي وَالنَّظَرَ فِي أَمْرِي، إلهِي وَمَوْلايَ أَجْرَيْتَ عَلَيَّ حُكْماً اتَّبَعْتُ فِيْهِ هَوَى نَفْسِي وَلَمْ أَحْتَرِسْ فِيْهِ مَنْ تَزْيِينِ عَدُوّي، فَغَرَّنِي بِما أَهْوَى وَأَسْعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَضَاءُ فَتَجَاوَزْتُ بِما جَرَى عَلَيَّ مِنْ ذلِكَ بَعْضَ حُدُودِكَ، وَخالَفْتُ بَعْضَ أَوَامِرِكَ، فَلَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ، وَلاَ حُجَّةَ لِي فِيما جَرَى عَلَيَّ فِيْهِ قَضَاؤُكَ، وَأَلْزَمَنِي حُكْمُكَ وَبَلاؤُكَ".
"وَكُنِ اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لِي فِي الأَحْوالِ رَؤُوفاً، وَعَلَيَّ فِي جَميعِ الأُمُورِ عَطُوفاً" يخاطب الداعي الله في هذا المقطع قائلاً: يا ربّ، أنتَ وصفتَ نفسك بالرأفة والعطف وأنا أنتظر عطفك، لأنّني مهما تماديت في المعصية فلا أزال بحاجة لعطفك ورأفتك، أريدك أن ترأف بي في حال المعصية فتنظر إلى ضعفي الذي أودى بي نحو المعصية، وأن تقوّيني على الطاعة. في نهاية هذه الاعترافات بالذنب نجد الإنسان يفتح قلبه لله. فالفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية، أنّ الإنسان يعترف بكلّ شيء، ويشعر بثقل الأشياء على ظهره وصدره، لكنّ الله لا يتركه ليقنط وييأس، فأسلوب الإمام عليّ (عليه السلام) يريك كم أنتَ مثقل بالأعباء والأخطاء والذنوب، ولكن عليك أن لا تيأس ولا تقنط، فمهما عملت؛ قف بين يديّ الله وافتح له قلبك واطلب رأفته وعفوه وستره ومغفرته ورضوانه، أطلب كلّ شيء، فإنّ الله يستجيب لك كلّ ذلك من دون ريب إذا ما أخلصت النيّة وتوجّهت له سبحانه وتعالى توجُّهاً صادقاً.
إنّ الإسلام يعلّمنا أنّنا مهما أخطأنا أو انحرفنا أو فرطنا، يجب أن لا تتحوّل أخطاؤنا إلى عقدة، الإسلام لا يريد أن يكون الإنسان معقَّداً. الإسلام يقول: إنّ الدرب مفتوح أمامك، ومهما أفرطت، فإنّ الله ينظر إليك في كلّ مرحلة تصل إليها، إنّك تجد الله في كلّ مكان، ولا تحتاج إلى أنْ تبدأ من حيث ابتدأت، ففي أيِّ مرحلة ترى نفسك أنّك مستعد للتوبة وللرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وللندم على ما فرّطت، تجد الله في كلّ موقع من الحياة، تقول يا ربّ إنّي تائب، والله يقول لك: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}(1) و {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}(2).
اللجوء إلى الله
"إلهي وَرَبِّي مَنْ لِي غَيْرُكَ أَسْأَلُهُ كَشْفَ ضُرِّي وَالنَّظَرَ فِي أَمْرِي؟" الإمام عليّ (عليه السلام) يعلّمنا أنّ الإنسان عندما يحفّ به البلاء، وعندما يحفّ به الضرّ، وتضيق عليه الأشياء، وعندما يضيق صدره بما ينتابه من هموم وأمور، فإلى مَن يلجأ؟ وإلى مَن يرفع أمره؟ إنّ الإنسان المؤمن يلتفت عن يمينه وعن شماله إلى أبيه وأمّه، فيجد أنّهما لا يملكان له نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بالله، يلتفت إلى الأقوياء والأغنياء والرُّؤساء وإلى كلّ من حوله فيجد أنّه لا ملجأ إلاّ الله، لأنّهم محتاجون كلّهم إلى الله، فإذا أصابك ضرّ أو بلاء أو همّ أو غمّ، فلا بدّ أن تفكّر بأن ليس أمامك إلاّ الله لتلجأ إليه، فهو الذي يملك نفعك وضرّك، وحياتك وموتك، ويملك حياة الناس وموتهم، ويملك حاجاتهم، وهذا هو الجوّ الذي يدفع الإمام عليّ (عليه السلام) إلى أن يعلّمنا أن نقول في هذا الدعاء: "مَنْ لي غيرُك!" لا أحد، لأنّي فكّرت في كلّ الذين من حولي، فوجدتهم محتاجين إليك، كلّ واحد منهم إذا أصابه الضرر لا يستطيع أن يدفع الضرر عن نفسه. فإذا جاء للإنسان مرض لا يستطيع أن يدفعه، أو جاءه الموت، لا يستطيع دفعه إلاّ بك يا ربّ.
الناس في نقاط ضعفهم
إذاً، الملجأ إلى الله "إلهي وربّي مَنْ لي غيرُك!" هذه الكلمة عندما نقولها يجب أن لا نستعجل فيها، يجب أن نتصوّر الآفاق والمعاني التي تختزنها هذه الكلمة، عندما تقول "مَنْ لي غيرُك؟!" عليك أن تتصوّر كلّ شيء غير الله.. وترى إذا كان يستطيع أن يدفع الضرر والبلاء عنك، "مَن لي غيرك؟!" يعني ليس عندي أحد غيرك.. لنتصوّر مَن هم دون الله تعالى، لنتصوّرهم في أحوالهم وصفاتهم وإمكاناتهم؛ ماذا نجد؟
فلان الغنيّ، فلان القويّ، فلان المسؤول، فلان القريب، فلان البعيد، هؤلاء جميعاً، على الرغم من كلّ قدراتهم وإمكاناتهم، هم محتاجون إلى الله، إنّ أيَّ واحدٍ منهم إذا مسَّه ضرر، فإنّه لا يستطيع أن يعمل شيئاً حيال ذلك، {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(1). الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: "وعلمت أنّ طلب المحتاج سَفَهٌ من رأيه وضَلَّةٌ من عقله". المحتاج لا يطلب من محتاج مثله، إلاّ إذا كان عقله خفيفاً من دون شك، "فكم قد رأيت يا إلهي من أُناس طلبوا العزّة بغيرك فذلّوا وراموا الثروة من سواك فافتقروا".
قيل أن تقول: "إلهي وَرَبِّي مَنْ لِي غَيْرُكَ أَسْأَلُهُ كَشْفَ ضُرِّي" حاول أن تستحضر في ذهنك ونفسك، كل من هو غير الله، ممّن يهدف إليه قلبك، وممّن تتّجه إليه نفسك، في مقام دفع الضرّ، وإذا درست كلّ إنسان، فلا تأخذك الأشياء التي تبهر النفس. لا تتصوّر الإنسان من نقطة قوّته، تصوّره من نقطة ضعفه، هذا الإنسان الذي يملك الملايين، إذا أصيب بمرض مُستعصٍ، ماذا يفعل؟
كم من الأشخاص الذين يملكون الملايين، عندما يصاب أحدهم بمرض عضال، تراه يذهب إلى أحدث المستشفيات في العالم، وفي آخر الأمر يقف الأطباء حيارى، فلا يستطيع أن يفعل شيئاً لنفسه، كما لا تستطيع أمواله أن تفعل له شيئاً، وكذلك لا تستطيع زعامته، ولا رئاسته أن تفعلا له شيئاً. ويقف الأطباء عاجزين حياله، أليس هناك من الناس من يملك الكثير من المال، لكنّه لا يهنأ في طعامه أو مشربه، فلا يستطيع، على غناه، أن يأكل.
إنّ الإنسان أضعف ممّا نتصوّره، ومهما حاول أن يوهم نفسه بأنّه قويّ عزيز، سيبقى ضعيفاً عاجزاً لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الكثير من الأضرار، إلاّ من الطريق الذي وضعه الله لدفع الضرر. في بعض الحالات قد يقول البعض: إنّ فلاناً يستطيع أن يعمل هذا الشيء. صحيح. ولكنّه يستطيع أن يفعله من الطريق الذي فتحه الله له، فهو لا يستطيع أن يستحدث طريقاً جديداً لدفع الضرر عن نفسه ما لم يفتحه الله له.
إذا أردنا أن نملك في أنفسنا الشعور بوحدانية الله في كلّ شيء، فعلينا أن ننظر إلى الناس في نقاط ضعفهم، لا في نقاط قوّتهم، وحتى عندما نرى نقاط قوّتهم، للنظر إلى هذه القوّة، هل هي ذاتية؟ أم أنّها قوّة وهبها لهم الله؟ فالإنسان الذي يتعمّق في الأمور، لن ينبهر بالصورة. بعض الناس إذا رأوا شخصاً يأخذهم الانبهار والهيبة. فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما رأته امرأة ارتعدت، وأخذتها هيبة رسول الله، فقال لها: لماذا تأخذك الهيبة (إنّما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد بمكّة) إذا رأيت ابنك، فهل تأخذك الهيبة منه؟ ولدتني امرأة مثلك كما ولدت ولدك، فأنا مثل بقيّة الناس. كذلك الإنسان الذي ترى لديه مالاً، تَصَوَّرْهُ كشخص بذاته، لا يملك ماله نفعاً له. عندما ترى شخصاً يسير معه الناس من بين يديه، ومن خلفه ومن أمامه، من مسلحين وأتباع وأزلام وحرّاس.. اعلم أنّ هذه كلّها مظاهر قوّة طارئة، عارضة، وزائلة. لا تأخذك هذه المظاهر، وانظر إلى صاحبها بنفسه، واسأل نفسك هذا السؤال: ماذا يساوي هو نفسه؟ ماذا يملك هو نفسه من دون هذه المظاهر؟ بالتأكيد إنّه لا يساوي شيئاً ولا يملك شيئاً.
إذا أردت أن تعرف إنساناً فلا تنظر إلى الأشياء التي تحيط به، بل انظر إلى الأشياء التي تمثّل ذاته وقوّته.
للإمام عليّ (عليه السلام) كلمة في قيمة الناس، يقول: بعض الناس من الذين لم تقبل عليه الدنيا ثم تراه صغيراً جداً، والبعض الآخر الذي أقبلت عليه الدنيا تراه ضخماً، وفي الحالتين فالنظرة خطأ في خطأ، يقول: "إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه".
إذا أقبلت الدنيا، فإنّه يستعير القوّة والمال والجاه من غيره، فيصبح لديه مجد مستعار لأنّ الدنيا عندما أقبلت عليه أصبح يمدحه الناس أكثر ممّا يستحق، وإذا كان هناك عالِم كبير من أعظم العلماء، ولكنّه فقير، هل هناك شخص ينظر إليه، ويقولون: إنّ فلاناً "درويش" يفهم قليلاً، ولكن إذا كان هناك شخص يحمل عِلْماً أقلّ منه بعشرين أو خمسين مرّة، ولكنْ لديه جاهٌ، ألاَ يرفعه الناس للسماء، هذا الذي رفعناه، أعطيناه صفة ليست له، وهذا الذي أنزلناه للحضيض سلبناه صفاته الحقيقية، إنّ التقويم ليس حقيقياً في الغالب.
إذا أردت أن تعرف إنساناً فيجب أن تنظر إليه من خلال صفاته الذاتية الحقيقيّة، بعيداً عن الصفات التي تحيط به ممّا لا يتّصل بذاته، ولا يمثّل نقطة قوّة ونقطة ضعف بالنسبة له، وبهذا تعرف قيمة الناس من حولك، وقيمة الله من فوقك.
حكم الله الكوني
"والنظرَ في أمري" عندما تصعب وتكبر في وجهي القضايا والحاجات، والمشاكل، والأزمات، والهموم، ليس هناك غيرك يا الله، "يا مَن يحول بين المرءِ وقلبه". يجب أن نتّخذ من هذه النظرة أساساً فكرياً للعقيدة، وليس مجرّد حالة وجدانية نحاول أن ننطلق بها أمام الله، بل لا بدّ أن نتمثّلها كأساس فكريّ في قلب ما نعتقد.
ثمّ يبيّن الإمام (عليه السلام) حالة المذنب وهو يريد أن يعتذر لله من ذنوبه: "إلهِي وَمَوْلايَ أَجْرَيْتَ عَلَيَّ حُكْماً اتَّبَعْتُ فِيْهِ هَوَى نَفْسِي وَلَمْ أَحْتَرِسْ فِيْهِ مَنْ تَزْيِينِ عَدُوّي" يقول له: يا ربّ ثمّة قوانين في الكون "أَجْرَيْتَ عَلَيَّ حُكْماً"، المراد من الحكم هو الحكم الكوني، وليس الحكم الكلامي أو القضائي، مثال على ذلك أنّ الله أجرى علينا حكما ً بأنْ جعل الشمس تشرق في وقتها، والقمر في وقته، هنالك أوضاع كونية هي بمثابة أحكام إلهية وكونية، وليست أحكاماً كلامية، يقول: "أَجْرَيْتَ عَلَيَّ حُكْماً". ما هو هذا الحكم؟.
لقد غرس الله الغرائز في الإنسان. هذه الغرائز التي لا يستطيع بدونها أن يعيش، فهي التي تدفعنا إلى أن نأكل ونشرب ونعمل وننطلق. فالغرائز هي أساس وجودنا وحياتنا. بيد أنّه كما لهذه الغرائز إيجابيات تحرّك لنا حياتنا، فلها سلبيات، أيضاً، مثلاً: غريزة الجوع هي التي تدفعنا لتناول الطعام، فإذا لم نجع فإنّنا لن نأكل هذا الطعام الذي يبني جسمنا، ولكن إذا جعنا فقد نأكل الطعام المحرَّم الذي يضرّنا.
عندما جعلنا الله نستطيب الطعام اللذيذ والطيّب، فإنّ بعض هذا الطعام يكون طيباً في مذاقه، ولكنّه خبيث في نتائجه. إنّ له إيجابيات وسلبيات. فغريزة الجوع، والعطش، والجنس، وحبّ الذّات، كلّ هذه الغرائز فيها إيجابيات وفيها سلبيات، ولذا، فالإمام (عليه السلام) يقول يا ربّ؛ لقد خلقت لي هذه الغرائز، ومن حولي أجواء تثير هذه الغرائز، تستيقظ غرائزي عندما تحفّ بها الروائح والأجواء الطيّبة التي تثيرها.. أعطيتني عقلاً، ولكنّ غرائزي في بعض الحالات تغلب عقلي فأقع في المعصية.
الإمام (عليه السلام)، في هذا الدعاء، يريد أن يفلسف كيفيّة وقوع الإنسان في المعصية.
عندما أقع في المعصية هل لدي حُجّة على الله؟ أم أنّ الحُجّة لله عليّ في ذلك؟
بعض الناس يقول: إنّ الله لم يهدنا، ولو أنّ الله هدانا لكنّا من المتّقين، فيظنّون أنّهم يملكون الحُجّة على الله تعالى. منهم إذا ما سألهم الله: لماذا زنيتم؟ لماذا أكلتم الحرام؟ يقولون لله في حينها، يا ربّ أنتَ الذي ركّبت فينا الشهوات. الإمام يقول: صحيح أنّ للإنسان ظروفاً وأجواء تزيّن له المعصية وتقوده إلى الجريمة، ولكن مهما تنوّعت الظروف والأجواء يبقى مع الإنسان عقله وإرادته، ويبقى معه ما يريده الله منه ليدخل في عملية الصراع.
فالعقل يصارع الشهوة، والإرادة تصارع الدوافع السيّئة في النفس. ولذا، فالحجّة على الإنسان من الله (سبحانه وتعالى) قائمة دوماً.
"إلهِي وَمَوْلايَ أَجْرَيْتَ عَلَيَّ حُكْماً"، فالحكم هو القانون الطبيعي الذي أودعه الله في جسم الإنسان من حيث تأثّره بما حوله ومن حوله، "اتَّبَعْتُ فِيْهِ هَوَى نَفْسِي"، يعني تأثّر الجسم وانفعاله بالغرائز جعلني أتّبع هوى نفسي، "وَلَمْ أَحْتَرِسْ فِيْهِ مَنْ تَزْيِينِ عَدُوّي" مشيت مع العاطفة والغريزة والشهوة وحبّ الذّات، لم أحاول أن أضبط شهواتي عن اندفاعها، ومطامعي عن أن تتجاوز الحدّ، فسرت من أوّل انطلاقي بالشهوة، وجاء عدوي الشيطان يزيّن لي الشهوة والمعصية، ويسهّل لي الجريمة، فإذا انتبهت إلى التوبة سوَّف لي التوبة، "وَلَمْ أَحْتَرِسْ فِيْهِ"، في هذا الأمر "مَنْ تَزْيِينِ عَدُوّي"، لم أُحَكِّم عقلي وإيماني وإرادتي، " فَغَرَّنِي بِما أَهْوَى"، غرَّني يعني: جاءني من طريق ما أشتهي، فالكثير من الناس يراك تحبّ شيئاً من الأشياء، يأتيك من الجانب الذي تحبّه، ويلتفّ من خلال هذا الجانب عليك حتى يصل إلى الجانب الذي يريده. نؤتى نحن من نقاط ضعفنا، قد يدخل الشيطان إلى قلبك من مدخل الحبّ، فمثلاً، يدخل ابنك في حزب ضالّ وكافر، ويسير في طريق ضالّ وفاسق، وبما أنّك تحبّ ابنك، فتصبح تحبّ ما يحبّ ولدك وإن كان كفراً.
تحبّ ابنك، فتحبّ الذي يحبّه وتبغض الذي يبغضه، وهو يبغض المؤمنين، وأنتَ تبغض الذي يبغضه ابنك، فصرت تبغض المؤمنين، أنتَ تحبّ المال فيأتيك عدوّك الشيطان ويقول لك: إنّك الآن إنسان مفلس، فتعال وتجسَّس، أو اعمل في طريق محرَّم، أو تعاون مع الظَّلَمَة.
تحبّ الجاه، فيقول لك: تعال نوظّفك في هذه الوظيفة، ولكن اعمل لنا المسألة الفلانيّة، أو افتن في البلد، أو اعمل إشاعات، اضرب فلاناً واقتله، ولك الولاية الكبيرة. مثل قصّة عمر بن سعد، قيل له: اذهب واقتل الحسين ولك ملك الريّ، تماماً كما يحصل في هذه الأيام؛ أقتل فلاناً وتصبح مسؤولاً عن الجهة الفلانية، أو موظّفاً في هذه الجهة.
"فَغَرَّنِي بِما أَهْوَى" معناه أنّ الشيطان يأتي للإنسان من خلال ما يحبّ، وما يرغب، ويظلّ يضرب على هذا الوتر والنغمة حتى يحرّك عواطف الإنسان ومشاعره ليوقعه.
"وَأَسْعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَضَاءُ"، يعني أنّ طبيعة وضعي، وضعف إرادتي، ساعدا الشيطان على الإيقاع بي. فعندما يأتي الشيطان ليوسوس لك، وليزيّن لك، فإذا كنت صاحب إرادة قويّة، فإنّك تقف أمامه، وتواجهه مواجهة العدوِّ لعدوّه، ولكنّك إذا جمدت إرادتك، وإيمانك، وعقلك، فستحدث النتيجة التي يريدها الشيطان. إنّ القضاء يجري على حسب السنن الكونية التي أودعها الله في الأشياء، ومن السنن الكونية أن الإنسان إذا لم يحرّك عقله، وإرادته، وإيمانه، فسيصبح عندها لعبة بيد الشيطان. هذا معنى "أَسْعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَضَاءُ". ليس القضاء هو أن يجبرني الله على ما سيحدث، لأنّ قضاء الله يجري في الأشياء بحسب ما أودعه من الأسباب، ومن أسباب ضلال الإنسان أنّه يعطّل إرادته، وعقله، وإيمانه.
لله الحُجّة على العبد
"فَتَجَاوَزْتُ بِما جَرَى عَلَيَّ مِنْ ذلِكَ بَعْضَ حُدُودِكَ" سرقتُ، زنيتُ، غششتُ، خنتُ، قتلتُ النفس التي حرَّم الله، ضربتُ إنساناً بغير حقّ، فتنت بين اثنين بغير حقّ، اغتبتُ إنساناً، شتمت إنساناً، أعنت الظالمين.. وهكذا. كلّ هذه الأمور التي فيها مخالفة لأوامر الله، سبحانه وتعالى، ونواهيه، تشكّل تجاوزاً لحدود الله تعالى. إنّ الله تعالى قد فرض علينا حدوداً في كلّ شيء، هذه الحدود التي نسميها، أوامر الله ونواهيه، مستحبّاته ومكروهاته، الحدود هي أن نلتزم أخلاق الله، قِيَمه، مبادئه، حلاله، وأن نتجنّب حرامه، وكلَّ ما نهى عنه من خلق ذميم، وفكر ضال، وعاطفة مريضة. وبدون حفظ حدود الله تعالى، التي هي في النهاية الحدود بين الناس، لأنّ حقّ الله تعالى هو حقّ الناس، أيضاً. الله لا يريد الحقّ لنفسه لأنّه هو الغنيّ. الله يريد إقامة الحقوق والتزام الواجبات وحفظ العدل ونشر الخير والجمال، لأنّ في ذلك صلاحك أيّها الإنسان، ولأنّ في ذلك صلاح المجتمعات والأُمم، وسبيل تطوّرها الأقوم.
انظروا، كيف يمكن أن تقوم حروب ونزاعات من جرّاء تعدّي بعض الأمم على حدود بعض، أو تعدّي بعض الناس داخل المجتمع الواحد على حدود حقوق وواجبات ومسؤوليات البعض الآخر، ممّا يعني كم هو عظيم جرم التعدّي على حدود الآخرين، وهم بشر متشابهون، والخلاف، في النهاية على حفنة تراب، أو ممّا هو من التراب، ألاَ يجب أن يدفعنا هذا إلى تصوّر كم هو أعظم وأدهى التعدّي على حدود الله تعالى. لو أنّ الناس حفظوا حدود الله تعالى لقضوا على كلّ مشاكلهم الداخلية والخارجية، ولرسموا طريق العيش الآمن والسليم والمستقرّ لهم ولأولادهم في المستقبل، فتجاوز حدود الله تعالى هو أصل كلّ بليّة مهما كان نوعها، ومهما كانت درجتها.
"ولَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ" في بعض النسخ من هذا الدعاء مكتوب (فلك الحمد)، ولكنّ الأصحّ "فَلَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ، وَلاَ حُجَّةَ لِي"، ليس لديّ حجّة، بم أعتذر؟ لكَ الحجّة أنتَ، فكيف تكون الحجّة لله؟
إنّ الله يقول للإنسان أنا أعطيتك غرائز وشهوات، صحيح هذا، ولكنّي أعطيتك عقلاً ينظّم هذه الغرائز، أعطيتك شهوة وركّبتها في داخلك، ولكنّي أعطيتك الإرادة التي تستطيع أن تضبط بها هذه الشهوة، صحيح أنّي سلّطت عليك الشيطان بنحو، ولكنّي لم أدعه يلغي إرادتك، وأعطيتك الإيمان الذي تستطيع أن تواجه به الشيطان. إذاً، ليس هناك مشكلة إلاّ وأعطيتك حلّها، والوسيلة التي تحلّها، وأنتَ نقضت كلّ أسلحتك، وقلت للشيطان تفضّل واقتحم فكري وعقلي، إذاً ما هي حُجّتك؟ لماذا لم تستعمل عقلك؟ لماذا لم تستعمل إرادتك؟ بعض الناس يقول: إنّنا نعيش في بيئة سيّئة دفعتنا لهذا السلوك السيّئ، ولكن امرأة فرعون في أي بيئة كانت تعيش.
{إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(1) صحيح أنّ البيئة تترك تأثيرات على نفس الإنسان، ولكنّ الإنسان الواعي واليقظ يتمرّد على بيئته إذا استحضر وعيه وعقله.
لو كنت تعيش في بيئة تجّار ـــ وأنتَ تاجر في السوق ـــ ووجدت هؤلاء التجّار يبيعون كلّ يوم بخسارة ولكنّك تفهم طريق الربح، هل تقول يجب أن أبيع بخسارة لأنّ كلّ التجّار الذين حولي يبيعون بخسارة؟ فإذا كنتَ تعرف طريق الرّبح، فإنّ حبّك للرّبح يدفعك لكي لا تخسر، وأنْ تتمرّد، وإلى أن لا تخضع للبيئة في طريقتك في العمل. وكذلك إذا كنا نحبّ الله، ونحبّ الجنّة، فإنّ ذلك يدعونا للتمرّد على بيئتنا بطبيعة الحال، فأيّ نبيّ من الأنبياء كان يأتي إلى البيئة السيّئة، فهل يعذر الشخص الذي يقول: أنا يا رسول الله أحبّ أن أسير معك ولكنّ بيئتي هي هكذا، لا أُريد أن أسير لوحدي وأعيش لوحدي، أليس هناك بعض الشباب والفتيات يتكلّمون بهذه الطريقة؟ لو أنّ الناس واجهوا المصلحين من الأنبياء وغير الأنبياء بهذا المنطق، فهل يمكن للنبيّ أن يتقدّم خطوة واحدة للأمام؟!
لقد كان الأنبياء يقولون للناس تمرّدوا على بيئتكم، حاربوا آباءكم إذا كان آباؤكم يريدون أن يضلّوكم عن طريق الله، حاربوا كلّ الناس إذا أرادوا أن يبعدوكم عن الله سبحانه وتعالى، فالبيئة مثل الجوّ البارد، فكما لا تخرج إلى البرد قبل أن تلبس وتتدثّر لحمية نفسك من المرض، فإذا كنتَ قادراً على أن تلبس ملابس تقيك البرد ولم تلبسه، فليس لك عذر إذا مرضت لأنّك تملك أسس المناعة ضدّ الجوّ البارد. كذلك برد العقيدة مثل برد الجسد، وبرد الطمأنينة والاستقرار مثل برودة الجسد، فمثلما يأتيك شخص ويريد أن يضلّك ولديك طريق للمناعة فأمر العقيدة كذلك.
بعض الناس عندما تقول لهم: لماذا لم تعمل هذا الشيء؟ يقول أنا لا أدري أنّ هذا واجب، كيف عملت هذا الشيء؟ لا أعرف أنّه حرام، صحيح أنّك لا تعرف أنّ هذا واجب وذاك حرام، ولكنّك عندما خلقت من بطن أمّك هل كنتَ تعرف شيئاً؟ لم تكن تعرف، وتعلّمت لأنّك شعرت بالحاجة إلى أنْ تتعلَّم حتى تسيِّر حياتك، وعندما تعرف أنّك مسلم فيجب أن تعرف أنّ في الإسلام حلالاً وحراماً وواجباً وشريعة، لماذا تعلّمت البيع والشراء أو المهن اليدوية ولم تتعلَّم كيف تطيع الله ولا تعصيه؟ هذه أيضاً حُجّة، وقد ورد في تفسير قوله تعالى: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}(1) يؤتى بالإنسان يوم القيامة، فيقال له: لِمَ لم تعمل؟ فيقول: لم أعلم، فيقال له: هلّا تعلّمت؟ كنتَ قادراً على أن تتعلَّم أم لا؟ فلماذا لم تتعلَّم؟ فتكون الحُجّة من الله على ذلك الإنسان.
تقصير العبد وإسرافه
"فَلَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ، وَلاَ حُجَّةَ لِي فِيما جَرَى عَلَيَّ فِيْهِ قَضَاؤُكَ، وَأَلْزَمَنِي حُكْمُكَ وَبَلاؤُكَ" لقد سقطت في الامتحان "وقد أتيتك يا إلهي" بعد أن حلَّل الإنسان نفسيّته وحلَّل طريق الشهوة والمعصية، يقول له يا ربّ أنا سلَّمْت، فلك الحجّة عليّ، وليس لي حجّة.
9 ـــ "وَقَدْ أَتَيْتُكَ يا إِلَهِي بَعْدَ تَقْصِيري وَإسْرَافِي عَلَى نَفْسِي مُعْتَذِراً نادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقِيلاً مُسْتَغْفِراً مُنِيباً مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاً، لا أَجِدُ مَفَرّاً مِمَّا كانَ مِنِّي وَلاَ مَفْزَعاً أَتَوَجَّهُ إلَيْهِ فِي أَمْرِي، غَيْرَ قَبُولِكَ عُذْرِي وَإدْخَالِكَ إيَّايَ فِي سَعَةٍ مِنْ رَحْمَتِكَ".
المتأمّل في هذا المقطع من الدعاء يستطيع أن يشعر بثقل حال الداعي بفعل ما اجترأ على مولاه (عزّ وجلّ)، لدرجة أنّه حشد أهمَّ وأبلغ كلمات الندم والاعتذار والإقرار وقدّمها بين يديّ الله سبحانه وتعالى. وهو في ذلك يعبِّر أصدق تعبير عن حالة الغلبة والعجز والحصار التي بات عليها بفعل تقصيره وإسرافه على نفسه. فهو لا يكاد يجد منفذاً ينفذ منه، فلقد أطبقت عليه ذنوبه، وأحاطت به أخطاؤه، وهو في ذلك كلّه لا حجّة له، كما تقدَّم، إذ لله (الحجّة البالغة) عليه، فماذا يبقى له بعد هذا كلّه سوى اللجوء إلى الحقّ تعالى مستدّراً رحمته، راجياً عفوه، متعلِّقاً بأذيال كرمه، وشآبيب جوده. ولذا، نرى الداعي يجمع نفسه على أبلغ أوضاع المستكبرين، المقرّين، المستغفرين أمام الله، طارقاً باب داعيه بالشهادة على النفس، وبيد الرجاء، رجاء قبول الله العذر، ورجاء اشتماله له تعالى برحمته مجدّداً؛ فيتجاوز عمّا هو فيه. ومن الواضح أنّ الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطأ، يعدَّان من آثار الندم، الذي يستوجب، في الحدّ الأدنى، تخفيف العقاب أو الحكم. وهكذا نرى الداعي يرمق السماء بقلبه المنكسر، وهو يردِّد: "وَقَدْ أَتَيْتُكَ يا إِلَهِي بَعْدَ تَقْصِيري وَإسْرَافِي عَلَى نَفْسِي..." يميِّز أهل اللّغة بين القصور والتقصير؛ فالقصور عن الإتيان بأمرٍ ما، أو بعملٍ ما، إنّما يكون عن عجز ذاتي عند مَن يريد أن يأتيَ بهذا العمل. بينما المقصِّر هو الذي يقدر على الأمر، ولكن يقف عنده، أو ينتهي إليه(1).
والداعي في هذا المقطع يشهد على نفسه بالتقصير لا بالقصور، أي هو يقول: يا ربّ، أنا المقصّر دوماً إزاء حقوقك وواجباتك التي لك عليّ. والشعور بالتقصير إزاء حقوق الله (سبحانه وتعالى) وواجباته من المشاعر السليمة والموضوعية. ذلك أنّ الإنسان مهما اجتهد فهو لا يستطيع أن يفيَ الله سبحانه وتعالى حقّه. وبهذا المعنى يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): "إلهي كيف أفيك حقَّك من الشكر وشكري لكَ يحتاج إلى شكر". أي حتّى شكري لك على نعمك المتوالية، لا أستطيع أن أؤدّيه بنفسي ما لم تُعِنِّي عليه أنتَ يا ربّ. فقدرتي على شكرك لا تكون إلاّ بك، وهذه نعمة بدورها تحتاج إلى شكر... الخ.
وفي جانبٍ آخر، إنّ شعور العبد بالتقصير إزاء ربّه من شأنه أن يدفعه دائماً للجدّ والاجتهاد، لأنّ الإنسان إذا شعر أنّه أدّى أو يؤدّي ما عليه، سيشعر بالاسترخاء، بينما إذا شعر بالتقصير، فإنّ هذا الشعور يشكّل له مهمازاً يدفعه للاستمرار في خطّ الاجتهاد والنشاط، بدلاً من الركون إلى خطّ السكون والدّعة والخمول، والاسترخاء والراحة. كما أنّ الشعور بالرضى يمكن أن يؤدّي إلى وقوع الإنسان في فخِّ الغرور. وما أدراك ما فخُّ الغرور.
وفي هذا المعنى، جاء في الخبر عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في نصيحة له لبعض ولده قوله: "يا بُنَيّ عليك بالجدّ. لا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ وطاعته، فإنّ الله لا يعبد حقّ عبادته"(1) فالإمام (عليه السلام) يريد أن يقول، إنّ الإنسان الذي يشعر بالتقصير إزاء خالقه سيبقى مشدوداً إلى هذا الخالق. هذا فضلاً عن أنّ الإنسان عاجز عن أن يعبد الله تعالى حقّ عبادته.
وفي الوقت نفسه، يشهد الداعي على نفسه بالإسراف، أي بالخروج عن حدّ الاعتدال، والوقوف في طرف التفريط، وبالتالي الاستغراق في المعاصي، ولذا، نراه يقصد الله (سبحانه وتعالى) معتذراً اعتذار المخطئ الذي ليس لديه عذر، لكنّه يقف أمام من يقبل عذره برحمته. ذلك إذا كان الشاعر يقول: "والعذر عند كرام الناس مقبول" فكيف بالله، سبحانه وتعالى، الذي يقول فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) نقلاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّ الله كريم بيده الخيرات يستحي أن يكون عبده المؤمن نادماً منكسراً" لأنّه يرى نفسه في موضع لا يملك أيَّ مسوغ. "مستقيلاً" يطلب من ربّه أن يقيله عثرته، لأنّه استقال من المعصية، مثلما يستقيل الإنسان من الوظيفة.
فالله سبحانه وتعالى: يريدنا أن نستقيل من المعصية، ومن الجريمة، ومن الأخلاق السيّئة، ومن الأدوار السيّئة، ومن الواقع والمواقف السيّئة، ومن الصداقات السيّئة. ذلك، لأنّ الذي يقتل الناس بغير حقّ، والذي يسرق أموال الناس، ويعتدي على أعراضهم، ويحاول أن يحرق الناس بالفتن والإشاعات، والذي يحاول أن يسير مع المنحرفين والضَّالين والظَّالمين، فإنّ مستقبله تعيس في الدنيا، وفي الآخرة أتعس، لذا يجب أن نقدّم استقالتنا من كلّ خطوات الشيطان، لأنّ من يعصِ الله ويقوم بالجرائم، فهو حتماً إنسان موظّف عند الشيطان، يخدم خطواته.
إذا أصبح شخص خادماً لإنسان، ويتاح له مجال أن لا يصبح خادماً، ألا يستقيل. والله يقيلنا في هذا المجال، فهو مقيل العثرات.
"مستغفراً" أطلب غفرانك يا ربّ، وأنتَ قلتَ عن نفسك إنّك غفورٌ رحيم، لأنّك قلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(1).
"منيباً" الإنابة تعني الرجوع يعني أنا راجع إليك يا ربّ، لقد ابتعدت عنك وهربت منك، والآن أرجع إليك، {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(2).
الاعتراف بالمعصية
"مُقِرّاً" لا أنكر، فالإنسان ينكر أمام مَن لا يعرف داخله، ولكن كيف ينكر أمام مَن يعرف خائنة الأعين، وما تخفي الصدور؟
"مذعناً" أنا مذعن لك، أي أنا منقاد لك، لأنّ الإذعان معناه الانقياد(3).
"مُعْتَرِفاً لا أَجِدُ مَفَرّاً مِمَّا كانَ مِنِّي" الاعتراف هو الإقرار، وأصله إظهار معرفة الذنب، وذلك ضدّ الجحود. وبهذا المعنى، فإنّ الداعي لا يقف موقف المنكر لذنوبه، بل موقف المعترف. وكيف يسعه أن ينكر وهو يرى المعاصي تحيط به من جميع الجهات، فإلى أين يهرب؟
"وَلاَ مَفْزَعاً أَتَوَجَّهُ إلَيْهِ فِي أَمْرِي، غَيْرَ قَبُولِكَ عُذْرِي" فبعد أن وضع الداعي نفسه في حال الإنسان الغارق في الذنوب والمعاصي، نراه لا يجد له منفذاً من تبعاتها وثمراتها سوى اللجوء إلى الله تعالى ليقبل عذره على الشهوات والغرائز التي غلبته، والشيطان الذي أذلّه، فهو يريد أن يرجع إلى الله تعالى من جديد. وأن يدخل ساحة رحمته الواسعة: "وَإدْخَالِكَ إيَّايَ فِي سَعَةٍ مِنْ رَحْمَتِكَ".
10 ـــ "اللَّهُمَّ فَاقْبَلْ عُذْرِي وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرِّي، وَفُكَّنِي مِنْ شَدِّ وَثاقِي، يا رَبِّ ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَنِي وَرِقَّةَ جِلْدِي وَدِقَّةَ عَظْمِي، يا مَنْ بَدَأَ خَلْقِي وَذِكْرِي وَتَرْبِيَتِي وَبِرِّي وَتَغْذِيَتِي، هَبْنِي لابْتِدَاءِ كَرَمِكَ وَسَالِفِ بِرِّكَ بِي".
"اللَّهُمَّ فَاقْبَلْ عُذْرِي وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرِّي(1)، وَفُكَّنِي مِنْ شَدِّ وَثاقِي"(2).
الداعي بعد أن أظهر من نفسه ما أظهر يقول منادياً ربّه: يا ربّ، إنّ شهواتي وغرائزي، وأطماعي، ما فتئت تقيّدني بقيود غير منظورة، ولكنّي أشعر بثقلها، وبتعثيرها لخطواتي عندما أريد التحرّك في طريق طاعتك، أو في طريق البعد عن المعصية.
الداعي يعلّمنا كيف نعيش مثل هذه الأجواء، حتى نعرف كيف نُطلِّق المعصية ونتراجع عنها لنلجأ إلى الله، ولاسيّما أنّ الله حاضر لاستقبالنا دائماً وإحسان وفادتنا عليه، أليس هو القريب من عباده؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}(3) فالله، سبحانه وتعالى، يحبّ العبد الذي يدعوه، ولذا، لنردّد مع الداعي قوله: اللّهم ارحم ضرّنا، واقبل عُذرنا، وفكّنا من شدّة وثاقنا.
طلب الرحمة
"يا رَبِّ ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَنِي وَرِقَّةَ جِلْدِي وَدِقَّةَ عَظْمِي".
عندما يقف الإنسان أمام الله ويواجه خطاياه مستحضراً آيات العقاب في القرآن: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ}(4).
عندما يلتفت إلى عذاب الله، ويرجع إلى نفسه ويفحص جسده وبدنه، وجلده فليسأل نفسه هذه الأسئلة: هل يطيق عذاب الله؟ وهل يصبر عظمه أمام عذاب الله.
"يا رَبِّ ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَنِي" أنتَ القويّ يا ربّ: القويّ بعظمتك، وكبريائك، وعزّتك، وجبروتك، وأنا الضعيف يا ربّ: الضعيف ببدني الذي لا يتحمّل عذابك وعقابك، وبجلدي الذي لا يتحمّل نارك. لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يثير هذه المعاني أمام أصحابه وهو يعظهم، كما يثيرها أمام نفسه عندما يناجي ربّه. كان يقول لهم "واعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار، فارحموا نفوسكم فقد جرّبتموها في مصائب الدنيا، أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، والعثرة تدميه، والرمضاء تحرقه، فكيف إذا كان بين طابقين من نار؟! ضجيع حجر، وقرين الشيطان". هكذا يصوِّر الإمام (عليه السلام) الجوّ، ليدفعنا إلى التفكير؛ فالنار ليست أمامنا، ولكنّنا نستحضر آيات النار أمامنا، هذه هي طريقة التفكير... هل نحن نؤمن بالله واليوم الآخر أم لا؟ فإذا أجابتك نفسك بالإيجاب، وجّه لنفسك سؤالاً آخر؛ ماذا في اليوم الآخر؟ هناك جنَّات النعيم وهناك نار الجحيم، لأنّ الله حدّثنا عن ذلك في قرآنه: كيف ينال الإنسان الجنّة، وكيف يقع في النار؟ ينال الإنسان الجنّة كما حدّثنا الله، سبحانه وتعالى، إذا عمل صالحاً، ويقع في النار إذا عمل سيّئاً.
إذاً النار شيء حقيقي في ما نعتقده، وفي ما نؤمن به، فإذا كانت النار حقيقيّة، فقل لنفسك إذا دعتك لمعصية الله: هل تتحمَّل حرَّ النار ولهيبها، أم لا تتحمّل؟ {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى}(1).
لذلك، لا بدّ لنا من أن نستحضر تفاصيل إيماننا، ماذا في النار؟ ماذا في الجنّة؟ والله سبحانه وتعالى لم يترك لنا سورة من السور إلاّ حدّثنا فيها عن بعض التفاصيل، فيجب أن نستحضر هذه التفاصيل ليكون استحضارنا لها معيناً لنا على ضبط أنفسنا عن معصية الله، وعلى قيادتها إلى طاعته.
إذا أراد الإنسان أن يعمل الذي يريده، كأن يشرب الخمر، أو يلعب القمار، أو يشتم ويقتل الناس، أو يسرق أو يزني الخ...، فليعمل إذا كان باستطاعته أن يتحمّل عذاب الآخرة {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا}(2). إنّ على الإنسان أن يجلس مع نفسه ليستفيد من هذه الأجواء.
أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: "فارحموا نفوسكم" استثمروا الفرصة، استثمروا الصحّة قبل السقم حتّى تستعدوا لذلك اليوم الكبير.
"يا ربّ ارحم ضعف بدني".. أطلبُ منك يا ربّ الرحمة، ليس من المعقول أن تطلب من الله الرحمة وأنت تفكّر بالجريمة، إنّ معنى الرحمة هو أن لا تكرّر المعصية، فعندما تدعو، فإنّ الله، سبحانه وتعالى، مطّلع على قلبك، فعندما تقول "يا ربّ ارحم ضعف بدني، ورقّة جلدي، ودقّة عظمي" كأنّك تقول يا ربّ، إنّ بدني لا يطيق عذابك، وجلدي لا يطيق نارك، فارحمني ولن أعصيك بعد ذلك، لا أن تقول كلّ ليلة جمعة "ارحمني" ثمّ تنسى بعد ذلك، بل يجب أن يكون هذا هاتفاً في نفسك، لأنّك تحدّث ربّك وتعطيه عهداً من نفسك، وستحضر أمامك كلّ هذه الأهوال التي تَوَعَّدَ بها العصاة والكافرين في يوم القيامة.
نِعَم الله لا تحصى
ثمّ بعد ذلك يشعر الإنسان بأنَّه يريد أن يتحدّث مع الله من خلال عطفه ولطفه ورحمته، "يا مَن بدأ خلقي، وذكري، وتربيتي، وبرّي، وتغذيتي، هبني لابتداء كرمك وسالِفِ برِّك بي". يقول له: يا ربّ أنتَ بدأت فاكمل لي ما بدأته، "يا مَنْ بدأ خلقي" خلقتني سوياً ولم أكُ شيئاً مذكوراً، "وذكري"، أي لقد كنتُ مهملاً، ومنسياً، فجعلتني شيئاً أذكر.
"وتربيتي" أنتَ الذي ربيّت، لم يربّني أبي وأُمّي، ولكنّك، يا ربّ، أنتَ الذي ربيتني، لأنّك هيّأت لي كلّ العناصر التي ينمو فيها جسدي، وتنمو فيها روحي، وأنتَ الذي ألقيت العطف في قلب أمي وأبي حتّى تحمَّلاني، وحتى استطاعا أن يصبرا على ذلك كلّه.
"وبرّي وتغذيتي" كنتَ بارّاً بي يا ربّ، أعطيتني كلّ برِّك، وكلّ الخير الذي عشته.
مَن الذي أعطاني العين التي أبصر بها؟ والأُذن التي أسمع بها؟ واللّسان الذي أتكلّم به؟ والعقل الذي أفكِّر به؟
إنّ الله أعطى ذلك كلّه لبرِّه.
"وتغذيتي"، أنتَ مَنْ غذَّاني يا ربّ. فإذا كنت، يا ربّ، أنتَ الذي خلقت، وربّيت، وبررت، وذكرت، وغذَّيتَ، وأنا الذي عصيت، فلا أريد ما أستحقه يا ربّ، "هبني لابتداء كرمك وسالِفِ برِّك بي" كما تكرّمت عليّ في البداية أعطني من كرمك، يا ربّ، في النهاية، وكما بررت بي عند أوّل خلقي، بُرَّ بي عندما أقف بين يديك.
11 ـــ "يا إِلهي وَسَيِّدِي وَرَبِّي، أَتُرَاكَ مُعَذِّبِي بِنارِكَ بَعْدَ تَوْحِيدِكَ، وَبَعْدَما انْطَوَى عَلَيْهِ قَلْبِي مِنْ مَعْرِفَتِكَ، وَلَهِجَ بِهِ لِسَاني مِنْ ذِكْرِكَ، وَاعْتَقَدَهُ ضَمِيرِي مِنْ حُبِّكَ، وَبَعْدَ صِدْقِ اعْتِرَافِي وَدَعَائِي خاضِعاً لِرُبُوبِيَّتِكَ، هَيْهَاتَ أَنْتَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تُضَيِّعَ مَنْ رَبَّيْتَهُ، أَوْ تُبَعِّدَ مَنْ أَدْنَيْتَهُ، أَوْ تُشَرِّدَ مَنْ آوَيْتَهُ، أَوْ تُسَلِّمَ إلَى الْبَلاَءِ مَنْ كَفَيْتَهُ وَرَحِمْتَهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي يا سَيِّدِي وَإِلَهي وَمَوْلايَ، أَتُسَلِّطُ النَّارَ عَلَى وُجُوهٍ خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَعَلَى أَلْسُنٍ نَطَقَتْ بِتَوْحِيدِكَ صادِقَةً، وَبِشُكْرِكَ مادِحَةً، وَعَلَى قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بِإِلَهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً، وَعَلى ضَمَائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتَّى صَارَتْ خاشِعَةً، وَعَلَى جَوارِحَ سَعَتْ إلَى أَوْطَانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً، وَأَشَارَتْ بِاسْتِغْفَارِكَ مُذْعِنَةً، ما هَكَذَا الظَّنُّ بِكَ وَلا أُخْبِرْنَا بِفَضْلِكَ عَنْكَ يا كَرِيمُ".
"يا إِلهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي". هذه الكلمات الأربع عندما نقولها، يجب ألاّ نقولها بطريقة استظهارية. عندما نقول: "يا إلهي" علينا أن نضع أنفسنا في حالة وموقع العبودية أمام الله تعالى.
مَن نكون نحن الذين نقول يا إلهي؟
مَن الذي نخاطبه؟ لنتصوّر حقارتنا أمام عظمة الله. لنتصوَّر عبوديّتنا أمام ألوهيّة الله تعالى.
"يا إِلهي وَسَيِّدِي" الله هو السيّد ونحن العبيد.
"ورَبِّي" الله هو الربّ، الذي خلقنا ولم يتركنا، بل خلقنا وربَّانا. كلمة الربّ، التي تنادي بها الله تعالى تستبطن معنى التربية. مما يعني أنّ الخالق هو الذي يربّي خلقه وعباده.
"وَمَوْلايَ" الله هو مولانا ونحن عباده، أرقّاؤه.
الموحد وعذاب الله
"أَتُرَاكَ مُعَذِّبِي بِنارِكَ بَعْدَ تَوْحِيدِكَ؟!" انظر إليَّ يا ربّ، إنّي أُوَحِّدك، لا أُشرْكُ بك شيئاً في العقيدة، لا أعتقد بإله غيرك، ولا أطيع أحداً سواك، أوَحِّدك في العقيدة وفي العمل، لهذا فهل من المعقول أن تعذّب مَن وحَّدَك بالنار؟! هذا هو لسان حال الداعي في هذا المقام.
ولكن كيف نجرؤ على أن نقول ذلك إذا كنّا نشرك بالله ما ليس لنا به علم؟ يعني عندما يكون لسان حالنا كلسان حال الدّاعي: "أَتُرَاكَ مُعَذِّبِي بِنارِكَ بَعْدَ تَوْحِيدِكَ؟!" أي عندما نتوجّه إلى الله بالشهادة على أنفسنا بأنّنا موحّدون له لا لغيره، ولا نعبد، ولا نطيع، أحداً غيره، وفي الوقت نفسه، إذا كنّا نطيع غير الله، ونخضع لغيره، ونشرك بعبادته غيره، أيمكن لنا عندها أن نتكلّم بمثل هذه الشهادة.
"وَبَعْدَما انْطَوَى عَلَيْهِ قَلْبِي" أينما وردت كلمة القلب، سواء في القرآن والأدعية، فليس المراد بها هذا الموجود في الجانب الأيسر من الصدر، بل المراد منها العقل: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}(1) يعني لهم عقول لا يعقلون بها.
"وَلَهِجَ بِهِ لِسَاني مِنْ ذِكْرِكَ" لا يمكن، يا ربّ، أن تعذّب لساني، لأنّ لساني يذكرك صباحاً ومساءً.
إنّ المؤمن إذا ابتدأ بأيِّ عمل يقول: (باسم الله)، وإذا رأى أيَّ نعمة أو عظمة يقول (سبحان الله)، وإذا رأى أيَّ ثناء يقول: (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله)، إذا جاءته المصائب يقول: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون): إنّه يذكرك في كلّ شيء تُذكَرُ من خلاله، وأيّ شيء يا ربّ لا تُذْكَر من خلاله، لأنّ كلّ شيء منك، وكلّ الأشياء هي ظلّ لقدرتك ولعظمتك.
"وَبَعْدَما انْطَوَى عَلَيْهِ قَلْبِي مِنْ مَعْرِفَتِكَ؟!". إنّ القلب الذي أشرق بمعرفتك، عرفك من خلال نعمك، وخلقك، وآلائك، وآياتك، هذا القلب الذي عاش بك يا ربّ، والذي عرفك، فكنت النور الذي يشرق في داخله، أيمكن أن تعذّب قلباً عرفك حقّ المعرفة؟!
إنّك تملك معرفة الله إذا كان فكرك في الليل والنهار ينطلق بذكر الله في كلّ ما تراه، وتلمسه، وتتذوّقه، وتشمّه، وفي كلّ ما تواجهه. عندما تذكر الله في كلّ شيء، حين تناولك الطعام، تذكّر أنّ الله هو الذي صنع لك هذا الغذاء من خلال قدرته، عندما تستمع إلى أيِّ شيء، أو ترى أيّ شيء، فاذكر الله قبله، ومعه، وبعده، فبهذا تستطيع أن تعرف الله سبحانه وتعالى. علينا أن لا ننظر إلى الكون نظر البلهاء الذين يشاهدون الأشياء بدون أن يدخلوا إلى أعماقها، ولكن لنحاول أن نتذكّر الأشياء لنعرف أنّ الله وراء، وقبل، ومع كلّ شيء، كما أرادنا الله أن نعرفه من خلال ذلك.
حبّ الوجدان
"وَاعْتَقَدَهُ ضَمِيرِي مِنْ حُبِّكَ" ضمير الإنسان: جوانية الإنسان، هذا الشيء المستتر، مشاعره، عواطفه، قلبه.. يقول يا ربّ، كيف يمكن أن تعذّبني بنارك وأنا أحبّك، أحبّك بمشاعري، وعواطفي، وأفكاري، وبكلّ وجودي وكياني. إنّ قضية إعلان حبّنا الله ليست بسيطة أبداً، لأنّ حبّ الله يعني أن يتعمّق حضور الله في داخل كيانك، حيث إِنّك تقف بكامل مشاعرك أمام الناس، ويكون حبّك للناس وبغضك لهم منطلقاً من حبّ الله. فإذا كان الناس مع الله فإنّ حبّك لله يدفعك لتحبّهم. وإذا كان الناس معادين لله، فإنّ حبّك لله يفرض عليك أن تعاديهم، لأنّه لا يمكن أن يجتمع حبّ الله وحبّ أعدائه في قلب إنسانٍ واحد، ولا يمكن أن يجتمع حبّ الله وبغض أوليائه في قلب إنسان. أن تحبّ الله يعني أن تحبّ في الله، وأن تبغض في الله.
لقد خاطب الله تعالى رسوله قائلاً: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(1) فحبّ الله ليس عاطفة أو مجرّد مشاعر فقط، حبّ الله خطّ في الحياة، خطّ في الشعور، وفي الفكر، وفي السلوك، وفي العلاقات، وفي الحياة كلّها.
يحدّثنا الله، سبحانه وتعالى، عن جماعة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ}(2)، فالمؤمن لا يمكن أن يساوي بين حبّ الله وبين حبّ أيِّ إنسان آخر مهما كان. فإذا كنت تحبّ أحداً لجماله، فإنّ الله هو الجميل الذي خلق الجمال كلّه. وإن كنتَ تحبّ إنساناً لعلمه، فإنّ الله هو الذي أعطى كلّ شيء علمه وهداه. وإنْ كنت تحبّ إنساناً لقوّته، فإنّ الله هو القوي المتجبِّر المتكبِّر، الذي وهب القوّة للآخرين. وإنْ كنتَ تحبّ إنساناً لنعمه التي أنعمها الله عليه فالله يقول لك: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}(3).
لماذا نحبّ الناس؟
نحبّهم لصفة خلقها الله فيهم، لعمل وفّقهم الله إليه، لموقع أعطاه الله لهم. إذا كنتَ تحبّ بالناس، فأحببهم من خلال ما أعطاهم الله. فإذا ما أحببت إنساناً فعليك أن تحبّ الله قبل أن تحبّه. فقبل أن تستغرق في حبّ أحد، فكِّر في الله الذي أعطاه الأشياء أو الصفات التي جعلتك تحبّه من أجلها. فبهذه الطريقة تلتفت إلى المحبوب الحقيقي ويرتبك فؤادك بمصدر الحبّ والعشق، حتى يشتعل بنار الوجد الإلهي، فيستحوذ حبّ الله تعالى على كلّ كيانك ووجودك.
نعم، إذا ما سلكنا هذا السبيل سيكون حبّنا لله هو الحبّ الأعظم والأكبر، هذا الحبّ الذي يقود إلى الطاعة.
قال الشاعر:
تعصي الإلهَ وأنتَ تظهرُ حبَّهُ هذا لعمرُك في الفعالِ بديعُ
لو كان حبُّكَ صادقاً لأَطَعْتَهُ إنّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
صدق الاعتراف بالدعاء
"وَبَعْدَ صِدْقِ اعْتِرَافِي وَدَعَائِي" يظهر لنا الداعي لسان حاله، وكأنّه يقول: أنا، يا ربّ، الذي أعرفك، وأحبّك، وأؤمن بك، أجلس بين يديك، لا أجلس بين يديّ عبد مثلي، أعترف له. ليس هناك من يستحقّ أن أعترف له. أنتَ قلت لي استر نفسك عن كلّ عبادي وافتح نفسك لي، لأنّك مكشوف لي، وأنا أعترف إليك بأني أخطأت، وأذنبت، وعصيت، وتمرّدت، وعملت ما عملت.
عندما نجلس لنطلب رحمة الله، نعترف لله، نجلس بين يديّ الله وحدنا. إذا أردنا أن نرجع إلى الله ليس المطلوب أن نذهب إلى شيخ أو سيّد حتى نعترف له، فربّما كانت خطاياه كخطايانا. لنجلس بين يديّ ربّنا، ونفتح قلوبنا له، ولنتحدّث مع الله، ولسان حالنا: يا ربّ نحن تائبون إليك وأنتَ الذي تحبّ التوّابين وتحبّ المتطهرين، فاقبل توبتنا.
إنّ جلسة كهذه مع الله، سبحانه وتعالى، يجب المحافظة عليها. لنجلس مع الله وحدنا، في جوف الليل، وقد تخفّفنا من أثقالنا، ومن رفاقنا، ومن أهلنا، لأنّ الله يقول: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}(1). لنقف بين يديّ الله وحدنا، فنحن نسأل ونحاكم ونحشر إلى الجنّة والنار فرادى. لنجرّب الوقوف، الآن، مع الله فرادى، لنتعلّم كيف نجيب الله يوم القيامة ونحن فرادى. غالباً ما ندافع عن أخطائنا, وعن معاصينا، وعن أوضاعنا، ندافع بعضنا مع بعض. لماذا لا نفهم أنفسنا جيداً؟ لأنّنا نعمل في استعراض أخطائنا وانحرافاتنا دائماً في ما بيننا بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، فلا نستطيع أن نصفّي حساباتنا جيداً، لكنّنا إذا جلسنا مع الله، فليس هناك من خجل أو حياء، وليس هناك إنسان يصحِّح لك الخطأ إذا أخطأت. عند ذلك نعيش كلّ فكرنا ومشاعرنا لأنّنا نتكلّم مع الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. وبذلك نستطيع أن نفهم أنفسنا أمام ربّنا عندما نعترف بكلّ أخطائنا.
لنجلس كلّ يوم ولو لربع ساعة، أو لنصف ساعة، أو لساعة، نجلس فيها مع الله لنعدِّد أخطاءنا، ونعترف بها أمامه، لنشهده على حالة الندم، على سيّئاتنا، وليس ضرورياً أن نتكلّم مع الله بالقواعد العربية ونلتزم بها، فالمهم أن يكون الكلام مضبوطاً من خلال القواعد الروحية في قلبك، ونابعاً من قواعد أساسية وإيمانية في داخل وجدانك، فإنّ الله يسمع لنا ويستجيب دعاءنا.
الله أكرم من أن يُضَيِّع عبده
"وَبَعْدَ صِدْقِ اعْتِرَافِي وَدَعَائِي خاضِعاً لِرُبُوبِيَّتِكَ، هَيْهَاتَ" ليس من المعقول: أن يعذّب إنساناً مثل هذا العبد النادم. "هَيْهَاتَ" غير ممكن، بعيد جداً. معنى "هَيْهَاتَ" باللغة العربية، يعني (بعد هذا الشيء).
"أَنْتَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تُضَيِّعَ مَنْ رَبَّيْتَهُ" أنتَ الذي ربّيتني حتى نشأت وكبرت، وكلّ واحد منّا عندما يربّي ولده لا يمكن أن يضيّعه أبداً، وأنتَ أكرم وأعطف منّا يا ربّ.
"أَوْ تُبَعِّدَ مَنْ أَدْنَيْتَهُ" أنتَ قرّبتنا منك، وسمعت منّا دعاءنا، وتقبّلت منّا توبتنا، من هنا، فأنتَ أكرم من أن تشرّدنا وتبعدنا.
"أَوْ تُشَرِّدَ مَنْ آوَيْتَهُ"، فلست، يا ربّ، كمن يؤوي ثم يشرّد، بل أكرم من ذلك.
"أَوْ تُسَلِّمَ إلَى الْبَلاَءِ" تجعلني أعيش في بلاء، ضمن الفقر، والعذاب، والمرض، والمشاكل، "أَوْ تُسَلِّمَ إلَى الْبَلاَءِ مَنْ كَفَيْتَهُ وَرَحِمْتَهُ" بعيد هذا يا ربّ، أنتَ أرحم من ذلك.
عندما نريد أن نعيش رحمة الله بهذا الامتداد والعمق والسعة، لا بدّ أن نخشع لله، ولذلك يكون سجود الإنسان لله وحده لا شريك له.
نار الله والوجوه الساجدة
"وَلَيْتَ شِعْرِي يا سَيِّدِي وَإِلَهي وَمَوْلايَ، أَتُسَلِّطُ النَّارَ عَلَى وُجُوهٍ خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَعَلَى أَلْسُنٍ نَطَقَتْ بِتَوْحِيدِكَ صادِقَةً، وَبِشُكْرِكَ مادِحَةً"، أقرب ما يكون العبد إلى ربّه وهو ساجد. ليس السجود مجرّد وضع الجبهة على الأرض، بل السجود أن نشعر بأنّ كلّ كياننا يسجد لله. فهي عملية انسحاق بين يديّ الله، عملية ذوبان للإنسان في الله. أن لا يشعر الإنسان بوجوده وكيانه بين يديّ ربّه، بما يمثّله السجود من حالة خشوع وخضوع. ولهذا، فعلى الإنسان عندما يسجد، إذا أراد أن يكون سجوده مقرِّباً له إلى الله، أن يشعر بأنّ سجوده، في قلبه قبل جبهته. الله يقول: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}(1) فالشمس، والقمر، والنجوم، والشجر يسجدون، كيف ذلك؟
السجود الحقيقي لله تعالى هو أن نجعل حياتنا كلّها خضوعاً عملياً له، بأن تكون أعمالنا، وأقوالنا، ومواقفنا، وإرادتنا في الحياة طوع أمر الله ونهيه. بذلك، نكون ساجدين حقّاً لله. وبذلك، يكون هذا السجود على الأرض تعبيراً عن الحالة الروحية والنفسية الموجودة داخل أنفسنا. فالسجود هو تعبير عما في الداخل، فإذا كان داخل نفوسنا يمثّل التمرّد على الله (سبحانه وتعالى) في كلماتنا، ومواقفنا، وانتماءاتنا، فإنّ السجود يكون بدون معنى. لا يكون للسجود معنى إلاّ عندما يكون تعبيراً عن خضوعنا لله تعالى.
سجود أمير المؤمنين (عليه السلام)
إذا تحقَّق لنا هذا السجود: السجود الجسدي، والروحي، والعملي، والحياتي كلّه، عند ذلك، يمكننا أن نقف بين يديّ الله كما وقف عليّ (عليه السلام) الذي كان سجوده، يمثّل الانسحاق الكامل بين يديّ الله. كان عليّ إذا سجد ـــ في ما تُنْقَل عنه الروايات ـــ يُخَيَّل لمن يمرّ عليه أنّه مات، لأنّ هيبة خشية الله تنتشر في كلّ أعضائه، حتى تسكن أعضاؤه من خشية الله.
هذا السجود هو الذي جعل حياته مستقيمة في كلّ مجالاته، فلم يكن في قلبه من أحد غير الله، كان يقول للناس: "أيُّها الناس ليس أمري وأمركم واحداً؛ إنّي أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"، حتّى الناس الذين يتبعونه لا يفكّر أن يعيش معهم لنفسه، أو لنفسهم، وإنّما يفكّر أن يعيش معهم لله سبحانه وتعالى.
إنّ السجود الحقيقي هو الذي يمتزج مع شعورنا بعظمة الله، وبذلك نخرّ ساجدين لله.
ألسنة الموحدين
"وَعَلَى أَلْسُنٍ نَطَقَتْ بِتَوْحِيدِكَ صادِقَةً، وَبِشُكْرِكَ مادِحَةً"، يا ربّ هذا اللّسان الذي عاش وهو يذكرك، وعاش هو يوحّدك، لم ينطق بالشرك، لم يشرك بعبادتك أحداً ولا بألوهيّتك أحداً، لم ينطق لساني مرّة بتأييد ظالم أو الانتماء لظالم، أو بمدح مشرك أو كافر، فعندما كنتُ أتكلّم في السياسة أو في الاقتصاد أو في الاجتماع، كان كلامي لا يرجع إلاّ إليك، ولا يبدأ إلاّ منك، ليرجع إليك، "وَعَلَى أَلْسُنٍ نَطَقَتْ بِتَوْحِيدِكَ" ليس معناها أن نقول: الله واحد فحسب، وليس أن نقول: لا إله إلاّ الله فحسب، إذ قد نكون مشركين دون أن نلفظ كلمة الشرك. ففي كثير من الحالات عندما نطيع غير الله، ونخضع، في كلامنا، لغير الله، نكون مشركين. عندما نقول لإنسان مثلنا تحت أمرك، فنحن خاضعون لك، ونحن نعادي أعداءك ونصادق أصدقاءك، فعندها لا نكون ملتزمين بخطّ الله بل نكون من المشركين بالله.
إنّ الناس الذين يطيعون الكفرة، والظَّلمة، والمنحرفين، ويتعصّبون لمن يسير على غير درب الله، ويلتزمون بالشخص وهم يعلمون أنّه في طريق غير الله، معنى ذلك أنّهم يعبدونه من دون الله. في القرآن نقرأ: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}(1) ليس معنى الآية أنّهم جعلوهم آلهة، ولكنّهم كانوا يأمرونهم بأوامر، وهم يعرفون أنّ هذه الأوامر ليست أوامر الله، فكانوا يطيعونهم فيها، فإطاعتهم تجعلهم أرباباً من دون الله.
عندما نقول لا إله إلاّ الله، يجب أن نفكّر، فالتوحيد ليس كلمة بل هو موقف. طاعتنا للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ مثلاً ــــ ليست على أساس شخصه بل {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}(2)، {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(3) باعتبار أنّه رسول من الله، فليس لدى النبيّ خصوصية إلاّ أنّه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(1) فمن ينطق عن الهوى وكنت تنفّذ أمره ونهيه من دون أن ترجعه إلى أمر الله ونهيه، فإنّك تشرك بعبادة الله، وتجعله ربّاً من دون الله.
هناك أرباب فعليون وأرباب واقعيون. من هنا، يجب أن ننتبه جيداً إلى أن لا يكون ارتباطنا وتعصّبنا لأشخاص أو مؤسّسات، لا يؤدّون عن الله، لأنَّ طاعتهم، حينئذٍ، ستكون طاعة لغير الله. بمعنى آخر إنّ أمثال هؤلاء عندما يأمرون وينهون وهم ناظرون إلى حساباتهم الشخصية، ولا يفتحون القرآن أو الرسالة ليروا إذا كان ما يأمرون به حلالاً أو حراماً، فإنّ طاعة أمثال هؤلاء هي بمثابة عبادة لهم. والحديث الشريف يقول: (مَنْ أصغى إلى ناطق فقد عبده) يعني هذا الإصغاء هو حالة خضوع وعبادة، (فإنْ كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عَبَدَ الله، وإنْ كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبَدَ الشيطان) انظروا كم هي دقيقة قضية العبودية.
عندما نقول في دعاء كميل: "ليت شعري يا سيّدي، وإلهي، ومولاي، أَتُسَلِّطُ النَّار على وجوهٍ خَرَّتْ لعظمتك ساجدة، وعلى ألْسُنٍ نطَقَتْ بتوحيدك صادقة"، يجب أن ننتبه لكلّ كلماتنا. عندما أتكلّم بالسياسة، والحالات الاجتماعية، والاقتصادية، وعندما نؤيّد إنساناً أو نرفض إنساناً، كلماتنا هذه، هل هي نطق بالتوحيد، أم هي نطق بالشرك؟ هل تصبّ في القناة التي تؤدّي إلى الله، أم تصبّ في القناة التي تؤدّي إلى الشيطان؟
"وَبِشُكْرِكَ مادِحَةً" حين ينطق لساننا بالشكر لِنِعَمِ الله، سبحانه وتعالى، إنّما يكون كلامنا معبّراً عن القناعة التي تغمر قلوبنا.
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جعل اللّسان على الفؤاد دليلاً
إذاً، أصل الشيء، أنّ الكلمة التي تكون موجودة في لساننا لا بدّ أن تكون موجودة في قلبنا، عندما نقول: الشكر لله، معناه أنّنا نشكر الله ونحمده ونثني عليه وعلى نعمه. فالشكر لله هو موقف امتنان، ومحبّة لله، وتعاطف مع جميل الله. فعندما نشكر إنساناً، معناه أنّنا نُعَبِّر له عن اعترافنا بالجميل وامتناننا ومحبّتنا وعاطفتنا.
إذاً، إنّ معنى الشكر لله هو قولك: يا ربّ أنتَ أنعمت علينا نعمة البصر، والسمع، واللمس، والتذوّق، والنطق، وكلّ النِّعَم {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}(1)، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}(2)، ونحن ممتنون، وشاكرون، ومعترفون بالجميل، ومحبُّون لك على هذه النِّعَم التي أغدقتها علينا. لكن عندما نقول، يا ربّ، شكراً بلساننا، وبعد ذلك نغتاب الناس فهل نكون شاكرين لله على نعمة الله، عندما نغتاب، ونكذب، ونغشّ، وننقل الكلام المسيء، ونعمل ما نعمل بهذا اللّسان أو البصر، أو السمع، أو اليد، فهل نكون شاكرين لله حقّاً معترفين بجميله، أم محاربين له، جاحدين لنعمه؟
إنّ الله يقول لنا: لقد أعطيتكم اللّسان من أجل أن تتكلّموا به بكلّ ما يهمّكم في هذه الحياة، في الأمور التي تبيّن لكم حياتكم، ولكن لديّ تحفُّظات، قولوا ما تريدون ولكن {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً}(3)، {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ}(4)، فلا تشتموا مؤمناً، ولا تفتنوا بين الناس، ولا تؤيّدوا ظالماً، ولا تخذلوا عادلاً وما إلى ذلك.
إذا، كيف نشكر نعمة الله ونحاربه بنعمته؟ إنّ التمرُّد على أوامر الله ونواهيه هو بمثابة إعلان حالة الحرب على الله تعالى. فهناك حرب بالسيف، وحرب باللّسان، وحرب بالموقف. ولهذا، فالإمام عليّ (عليه السلام) قال كلمة يريد أن يستثير فيها حالة الحياة في أنفسنا أمام الله: "أقلُّ ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه". يعني أنّ الله يعطينا النعمة، ونحن نستعين بنعمه على معاصيه، مثلما يأتي شخص ويقدّم لنا سلاحاً في وقت نحتاجه، فإذا بنا نقتله بهذا السلاح نفسه. هذا يسمّى إنكاراً للجميل. فالله يعطينا اليد ونحن نعصيه، نقتل.. ونأكل.. ونبيع بالحرام، ونضرب بدون حقّ بأيدينا، أو يعطينا اللّسان ونعصيه به، مثلما يقول الشاعر:
أُعَلِّمُهُ الرّمايةَ كلَّ يومٍ فلما اشتدَّ ساعدُهُ رماني
وكم علَّمتُهُ نظمَ القوافي فلمّا قال قافيةً هجاني
عندما نريد أن نشكر الله، فإنّ شكر الله مدح له، فيجب أن يكون شكر الموقف لا شكر الكلمة فحسب.
الاعتراف لله بالألوهية
"وَعَلَى قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بِإِلَهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً" يقول الداعي: يا ربّ، هذا القلب الذي أعطيتني إيّاه، كيف يمكن أن تحرقه بالنار وقد عاش اليقين والإيمان بك، فكلمة "مُحَقِّقَةً" يعني بدون شكّ، قد عاش معترفاً بأنّك الله الذي لا ربّ غيره من دون ريب أو شكّ. فعندما يعترف شخص ما بالله، يجب أن يرجع إلى قلبه إذا كان فيه ريب أو شكّ، فبعض الناس ليس لديه يقين جيّد بالله، فهو مؤمن بالله طالما تسير أموره الدنيوية على ما يرام، وبمجرّد أن يصاب بالمصائب، يبدأ بالتحدّث بكلام غير مسؤول، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1)، فما دامت الريح سائرة برخاء، والسفينة سائرة بهدوء فهو مع الله، لكن إذا أتت الأمواج يلاطم بعضها بعضاً، وجاءت الظلمات من كلّ جانب، وجاءت الهزّات والزلازل، يبدأ بالاعتراض، ويقول: كيف يعمل الله معنا هذا؟
لماذا يعمل هكذا؟ فنحن نعبد الله، ونصلّي له، ونصوم، ونذهب للحجّ من أجله، وندفع الخمس، فكيف يعمل بنا كلّ هذا؟
الابتلاء لمصلحة الإنسان
نحن عبيد الله، وإذا كنّا عبيد الله، فالله أعرف بما هو صالحٌ لنا، وما هو فاسد. يقول الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(1).
نحن يضرّ بعضنا بعضاً نتيجة عقدة، أو نحاول أن نعبّر عن ضعفنا بهذه الطريقة، ولكنّ الله، سبحانه وتعالى، هو الغني عن وجودنا، وعن الكون كلّه. يتصوّر الناس أنّ الله يريد أن ينتقم من فلان، أو يتضايق من فلان، يجب أن لا نفكّر بهذه الصورة، لأنّ كلّ وجودنا لا يؤثّر بمقدار ذرّة على الله سبحانه وتعالى. من الأفضل أن نتذكّر هذه الآية، عندما ترى نفوسنا شيئاً ما. الآية تقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ*إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(2) فلا نتصوّر أنّ الله عندما يبتلي فإنّه يبتلي لمصلحته، وعندما ينعم فإنّه ينعم لمصلحته أيضاً. عندما يغنيك الله فهو بلاء لك واختبار لإيمانك، وعندما يفقرك فهو بلاء لك أيضاً. قد يكون الفقر خيراً لك، وقد يكون الغنى خيراً لك، {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ*وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ*كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ*وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً*وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}(3)، إنّ كلّ ما يحدث هو اختبار يجب أن لا تعترض عليه، فإذا جاءك الشيطان وأنتَ في حالةٍ سيّئة، كأن تكون فجعت بفاجعة، أو فقدت عزيزاً، أو حلَّت بك نكبة أو مشكلة، فاعتبر أنّ كلّ شيء هو مِن قِبَل الله سبحانه وتعالى: فالمرض لمصلحتك، والصحّة لمصلحتك، والغنى لمصلحتك، فما دمت معترفاً بالله، وبأنّ الله لا يفعل شيئاً إلاّ عن حكمة وعن مصلحة، فعليك أن تعترف بأنّه لا يفعل شيئاً عن حاجة أو عن هوى. فعلى أيّ أساس تعترض على الله؟ إنّ هذا يأتي من نقص الإيمان، فمن تخطر بذهنه هذه الأفكار أو تظهر على لسانه يجب أن يداوي إيمانه، فكما إذا أحسست بحالة غير طبيعية في قلبك، أو حركة غير طبيعية في معدتك، فإنّك تذهب للطبيب، كذلك إذا أحسست بحركة غير طبيعية في إيمانك فارجع إلى الطبيب أيضاً، إرجع إلى القرآن، ولمن يفهمون القرآن، حتى يتركّز إيمانك.
إنّ قلوبنا تشكّك ولا ترتاب في أيّ شيء يتعلّق بك يا ربّ "وَعَلَى قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بِإِلَهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً، وَعَلى ضَمَائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتَّى صَارَتْ خاشِعَةً، وَعَلَى جَوارِحَ سَعَتْ إلَى أَوْطَانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً". الجوارح هي الأعضاء، يقول: يا ربّ عندما تريد أن تعذّبني، فستعذّب يدي، ورجلي، وصدري، وظهري، وكلّ أعضائي تلك كانت تتحرّك في ما تحبّه وترتضيه من العبادات، فكيف تعذّب اليد، أو الرجل، التي تحرّكت في عبادتك وطاعتك؟
عبادة الجوارح
كيف تعذّب أيَّ عضو من أعضائي؟ متى تستطيع أن تقرأ هذه الفقرة؟ إذا كانت أعضاؤك جاهزة للتحرّك في طريق الله سبحانه وتعالى، أمّا إذا كانت أعضاؤك غير جاهزة فتتراخى وتكسل عندما تطلبها لطاعة الله، فلا يمكنك أن تقول ذلك.
هنالك بعض الناس عندما نطلب منه أن يؤدّيَ عملاً خيّراً، أو يقضي حاجة لأخيه المؤمن، أو يتّخذ موقفاً من آراء إنسان أو إمام ظالم، أو كافر، يجيبك: إنّ جسمي غير مرتاح، وإنّ جسمي متعب، أو إنّي أشعر بالنعاس، فيتعلَّل بأسباب واهية.
هذا الإنسان لا يستطيع أن يقف بين يديّ الله. الذي يقف بين يديّ الله هو الإنسان الذي إذا ناداه الله بأمر أحسّ بالنشاط حتى لو كان ضعيفاً. "وَعَلَى جَوارِحَ سَعَتْ إلَى أَوْطَانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً" يعني إلى المواقع التي تعبد فيها. لقد قلنا إنّ عبادة الله لا تتمثّل في الصلاة والصوم فحسب، ولكنّها تتمثّل في كلّ أمر يحبّه الله ممّا يتعلّق بنفسك، وممّا يتعلّق بالحياة من حولك، وممّا يتعلّق بكلّ الرسالات التي أراد الله لك أن تعيشها.
هذه هي عبادة الله سبحانه وتعالى
فعبادة الله هي الخضوع لله في كلّ شيء. ليس المسجد هو المعبد فقط، بل المعبد في الإسلام هو الكون كلّه، نعم، الكون كلّه مسجد، لأنّ الله عندما يقول لك من خلال كلمات رسله وأوليائه إذا كنتَ في الحقل مشغولاً بالفلاحة، وكنتَ إنساناً مخلصاً في عبادتك، فأنتَ عبد الله في الحقل. وإذا كنت في المعمل تعمل وأنتَ مخلص، فإنّك تعبد الله في ذلك. وإذا كنت تنظّف الشوارع وتجمع النفايات وأنت تعمل من أجل أن تحفظ ماء وجهك، فأنت في عبادة الله، وعندما تسير لقضاء حاجة مؤمن فأنتَ في عبادة الله. وعندما تقف أمام ظالم لتهزّ سوط الحقّ في وجهه، فأنتَ في عبادة الله.
المسجد إنّما هو مكان للصلاة، مكان فيه يفتح قلبك وتعدّ فيه نفسك للعبادة الصغيرة، أو قل العبادة الداخلية التي تعدك، بدورها، للعبادة الخارجية. أنتَ في المسجد تبني قلبك، وعندما تقول: أصلّي قربة إلى الله، اسجد قربة إلى الله، وأدعو قربة إلى الله، اقرأ قربة إلى الله.
المسجد هو محلّ للعبادة التي تبني روحك حتى تنطلق إلى الحياة بروح طاهرة فهي عبادة تكون مقدّمة لعبادة أخرى.
"وَأَشَارَتْ بِاسْتِغْفَارِكَ مُذْعِنَةً" هذه الأعضاء، يا ربّ، عندما تخطئ أو تعصي، أو تنحرف، فإنّها لا تصرّ على المعصية أو على الخطأ، ولا تتعقَّد. وهي إذا ما أخطأت، فإنّها تقف بين يديك وقفة التائب المستغفر، ولسان حالها: يا ربّ إنّي تائب فاغفر لي ذنبي.
مَنْ منّا لا يخطئ؟ مَن منّا لا يعصي؟! أو لا تغلبه شهوته؟! أو لا ينحرف عن الخطّ في كثيرٍ من الحالات؟! يجب أن لا نتعقّد. هناك الكثير من الشباب يردّدون بينهم وبين أنفسهم لقد اقترفنا الكثير من المعاصي، فبأيِّ وجه نلاقي ربّنا؟ {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(1).
فالإنسان التقيّ ليس هو الذي لا يعصي، لكنّ التقيّ إذا جاءه الشيطان وأغمض له عينيه، فإنَّه يفتحهما بسرعة. لكن هنالك بعض الناس، بمجرّد أن يأتيه الشيطان ويغمض له عينيه، يتركهما مغمضتين، حتى لو ارتفعت يد الشيطان فإنّه يظلّ مغمض العينين.
الله عبَّر عن الشيطان كأنّه يطوف بالإنسان {طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} يعني يمرّ عليه مروراً. فالله يصوّر لنا أنّ بعض الناس بمجرّد أن يمرّ بهم الشيطان مروراً، ينحرف ويظلّ منحرفاً، ولكنّ البعض ليس كذلك، فبمجرّد أن يريد أن يغمض عينيه، فإنّه يفتحهما ويرجع، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ} وتساءلوا: كيف استسلمنا للشيطان؟! {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} الله يفتح قلوبهم، ليس البصر الحسّي هو المقصود، بل البصر القلبي.
يجب أن لا يتعقَّد الإنسان، فحتى لو كنّا مؤمنين وسائرين في خطّ الالتزام وغلبنا الشيطان في كلمة أو عمل، يجب أن لا نيأس ونقول: ليس هناك فائدة ترجى منّا، بل نسارع إلى الوقوف بين يديّ الله ونستغفر ربّنا، ونتوب من ذنوبنا فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب به، وإنّ الله يحبّ العبد المُفتَّن التوَّاب، يعني العبد الذي تصيبه الفتن، ثم يتوب بعد ذلك.
"ما هَكَذَا الظَّنُّ بِكَ" يعني أنتَ أرحم من أن تعذِّب هذه القلوب التي اعترفت بألوهيّتك، أو أن تعذّب الوجوه التي سجدت لك، ومن غير الممكن أن تعذّب الألسن التي نطقت بتوحيدك، أو تعذّب الضمائر التي حَوَتْ مِنَ العِلْم بكَ حتّى صارت خاشعة، "ما هَكَذَا الظَّنُّ بِكَ وَلا أُخْبِرْنَا بِفَضْلِكَ" أنتَ أخبرتنا، يا ربّ، في القرآن، أنّك الغفور الرحيم، وإذا جاءك عبدك فإنّك تغفر له وتلاقيه بكلّ محبّة، أنتَ علّمتنا، فمن غير الممكن، يا ربّ، أن تعاقبنا.
يجب أن يحسن الإنسان الظنّ بالله دوماً، وعندما يرى أنّ لديه بعض أخطاء فيجب أن لا يستسلم لأخطائه، بل يجب أن يحسن الظنّ بالله، وأن يطالِب الله بما وعده لأنّه أرحم الراحمين.
12 ـــ "يا رَبِّ وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَعُقُوباتِها، وَمَا يَجْرِي فِيها مِنَ الْمَكَارِهِ عَلَى أَهْلِها، عَلَى أَنَّ ذلِكَ بَلاءٌ وَمَكْرُوهٌ، قَلِيلٌ مَكْثُهُ، يَسِيرٌ بَقَاؤُهُ، قَصِيرٌ مُدَّتُهُ، فَكَيْفَ احْتِمالِي لِبَلاءِ الآخِرَةِ وَجَلِيلِ وُقُوعِ الْمَكَارِهِ فِيها، وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ، وَيَدُومُ مُقامُهُ، وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْ أَهْلِهِ، لأَنَّهُ لا يَكُونُ إِلاَّ عَنْ غَضَبِكَ وَانْتِقامِكَ وَسَخَطِكَ، وَهَذَا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّماواتُ وَالأَرْضُ، يا سَيِّدِي فَكَيْفَ بِي وَأَنَا عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ، الْحَقِيرُ الْمِسْكِينُ الْمُسْتَكِين".
استعطاف الله
لقد أرادنا الله أن نعبّر عن خضوعنا وخشوعنا له، وأنْ نستعطفه في كلّ ما أهمَّنا، والإمام عليّ (عليه السلام) يعلمنا، هنا، كيف نستعطف الله. يقول: "يا رَبِّ وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَعُقُوباتِها" يا ربّ أنتَ تعلم أنّك إذا ابتليتني بمرض كيف أجزع من المرض، وأثير الشكوى يميناً ويساراً، وكيف أعمل بكلّ جهدي في سبيل التخلّص منه، لأنّي أشعر بالضعف أمام المرض.
أنتَ تعلم، يا ربّ، كيف أسقط في امتحانِ الفقر، فتراني أؤيّد الطغاة ليمنحوني مالاً، وأخذل الإنسان المؤمن خدمة لهم.
إنّي أفعل ما أفعل من أجل أن أتخلّص من الفقر؟ لأنّي لا أتحمّل الفقر، ولأنّي ضعيف على ذلك، أنتَ تعلم، يا ربّ، ضعفي عن بلاء الدنيا عندما يعرض عليّ الخوف، فإذا خفت من عدوّ، أو من حالة من الحالات، أو من أيِّ شيء، فإنّ الخوف قد يسقطني ويجعلني منحرفاً عن كثير من المبادئ، وعن كثير ممّا تفرضه عليّ، لأنّني ضعيف أمام الخوف، وهكذا أنتَ تعرف ضعفي أمام عواطفي.
عندما أحبّ إنساناً، فإنّي أضعف أمام عاطفة الحبّ، فأعطي مَنْ أُحبّه أكثر ممّا يستحقّ، وعندما أبغض إنساناً فإنّي أضعف أمام عاطفة البغض، فأسلبُ الإنسان الذي أبغضه ما يستحقّه، وأنسب إليه ما لا يستحقّه، وكذلك عندما تثور فيَّ شهواتي فإنّي أضعف أمام عاطفة الشهوة، وتقودني الشهوة من خلال ذلك إلى ما لا يرضيك.. أنتَ تعرف، يا ربّ، أنّي ضعيف، أجزع من كلّ شيء من بلاء الدنيا وعقوباتها. يا ربّ تعرف أنّي ضعيف أمام بلاء الدنيا.
عندما نقرأ هاتين الفقرتين، ونقف أمام الله ونقول له: يا ربّ أنتَ تعرف ضعفي، فليحاول كلّ واحدٍ منّا أن يعرف نقاط ضعفه، والمراحل التي مرّت عليه وهو يسقط أمام تأثير الضعف.. استحضر في نفسك من خلال ذكرياتك، كيف ضعفت أمام فلان، وكيف ضعفت أمام الشهوة؟ وكيف ضعفت عندما خفت، وعندما مرضت، وعندما افتقرت، وعندما ابتُليت ببلاء في أهلك؟
كيف ضعفت ولم تتحمّل؟
استحضر حالة ضعفك؟ وكيف سقطت أمام لحظات الضعف؟ ولم تتماسك في ما يريده الله منك أن تتماسك فيه من مبادئ، حتّى توبّخ نفسك لذلك، وحتى يكون اعترافك أمام الله اعترافاً واعياً، اعترافاً تستحضر من خلاله كلّ شيء من تاريخ حياتك أمامك، لتبسطه بين يديّ الله في موقف الاعتراف، والله أعلم منك بكلّ شيء.
البلاء المحدود
"عَلَى أَنَّ ذلِكَ بَلاءٌ وَمَكْرُوهٌ، قَلِيلٌ مَكْثُهُ، يَسِيرٌ بَقَاؤُهُ، قَصِيرٌ مُدَّتُهُ" أمرض فأضعف أمام المرض، كم عمر المرض؟
قد يمرض الإنسان سنة أو سنتين أو ثلاث سنين أو عشراً، كلّها محدودة. قد يفتقر الإنسان إذ تمرّ عليه حالات فقر، سنة أو سنتين، ولكن مدّتها قصيرة، ويسيرة، وهكذا عندما تمرّ عليك حالات الخوف، أشهراً أو سنين، لكنّها محدودة بحدود الزمان والمكان، إنّ كلّ بلاء الدنيا ومكروهها وأمراضها محدودة، كم عمرها؟
عمرها كعمرك، عمرك سبعون سنة، لو كان بلاء الدنيا بمقدار سبعين سنة، أو مرضك بمقدار سبعين سنة، لكان ذلك محدوداً من دون شكّ في مقابل بلاء الآخرة.
بلاء الآخرة
"فَكَيْفَ احْتِمالِي لِبَلاءِ الآخِرَةِ وَجَلِيلِ وُقُوعِ الْمَكَارِهِ فِيها"، يعني عظيم وقوع المكاره فيها، " وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ" ففي الآية الكريمة {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً}(1)، {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}(1)، "ويدوم مقامه ولا يخفِّف عن أهله" لأنّه ليس بلاءً طارئاً، بلاء الدنيا طارئ، فالمرض يأتي نتيجة (ميكروب)، تستطيع أن تحاربه، أو نتيجة حالة جسدية تستطيع أن تعالجها، الفقر الذي يمرّ عليك نتيجة ظرف اقتصادي معيّن، أو ظرف سياسي معيّن، أو نتيجة ظروف محدودة تستطيع أن تعالجها، وهكذا الخوف الذي يأتي نتيجة أوضاع عسكرية وسياسية واجتماعية معيّنة، تستطيع أن تعالجها، أن تختبئ، أو أن تتحصّن، أو تجعل لنفسك ملاذاً وملجأ، ولكن بلاء الآخرة من نوعٍ آخر.
"لأَنَّهُ لا يَكُونُ إِلاَّ عَنْ غَضَبِكَ وَانْتِقامِكَ وَسَخَطِكَ، وَهَذَا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّماواتُ وَالأَرْضُ، يا سَيِّدِي فَكَيْفَ بِي وَأَنَا عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ، الْحَقِيرُ الْمِسْكِينُ الْمُسْتَكِين".
الإمام عليّ (عليه السلام) يريد أن يدخلنا في حالة مقارنة، "أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه والعثرة تدميه والرمضاء تحرقه، فكيف إذا كان بين طابقين من نار؟ ضجيع حجر وقرين شيطان" المقارنة نفسها التي يقارنها الإمام عليّ (عليه السلام) في هذه الكلمات يقارنها في دعاء كميل، يقول: ربّما تمشي وتصيبك شوكة، أو عثرت بالأرض، وأدمتك العثرة، إذا مشيت على الأرض الحارّة أحرقت رجلك حرارة الأرض، فكيف إذا كنتَ بين طابقين من نار، نار من فوقك ونار من تحتك، (ضجيع حجر وقرين شيطان) يعني قارن بين بلاء الدنيا، وبلاء الآخرة، أنظر نفسك فأنتَ الآن لا تتحمّل بلاء الدنيا، تجزع بسرعة، فكيف بك إذا وقفت هناك "إذا قيل للمُخِفِّينَ جُوزوا، وللمُثْقَلِينَ حُطُّوا، أَمَعَ المخفّين أجوزُ، أم مع المثقلينَ أحطُّ، وما لي كلّما كبُرَ عمري كثُرَت خطايايَ، أمَا آن لي أن أستحي من ربّي" هذا هو كلام الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السلام)، يريد أن يعلّمنا ضرورة أن يشعر الإنسان أمام احتمالات دخول النار، وأمام الخطايا التي يقبل عليها، أن يشعر كما لو أنّ هناك كارثة قريبة تصيبه. ففي حالات القصف لا تعرف أين تذهب لتنقذ نفسك، كذلك عندما تحيطك خطاياك من كلّ جانب عليك أن تعرف أنّها تعرّضك لغضب ولسخط الله سبحانه وتعالى، وسخط الله لا تتحمّله السماوات والأرض، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(1) لا أحد يتصوّر سخط الله سبحانه وتعالى، لكنّ الإمام عليّ (عليه السلام) يعرف الله جيّداً، يقول: "لو كشف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً".
يروى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه كان يقول لعليّ (عليه السلام): "ما عرف الله إلاّ أنا وأنت" المعرفة الكبيرة العظيمة. ولأنّه عرف الله حقّ معرفته وعرفه بما يمكن أن يعرف الله به، ولهذا يقول: "لا يكون ذلك إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض"، السماوات والأرض إذا تعرّضت إلى غضبك وسخطك يا ربّ فسوف تتهاوى أمامها، فمَنْ أنا حتّى أرى نفسي أكبر من حجمها؟ ومَنْ أنا حتّى أتمرّد عليك وأُواجهك بالمعصية صباحاً ومساءً؟ ومَنْ أنا حتى تخوفني من عذابك، ونارك ولا يحرّكني أيّ شيء؟
الكلّ ضعيف ومحتاج
"وأنا عبدُكَ الضعيف، الذليل، الحقير، المِسْكين، المُسْتَكِين" يجب أن نستحضر هذه المعاني في أنفسنا، بعضنا يقرأ هذه الفقرة ويرى نفسه أكبر من حجمها، يفكّر أنّه أفضل من فلان، وأكبر من فلان، ما قيمة فلان؟، "ذليل" لماذا ذليل؟ لأنّ العزّة تأتي من القوّة الذاتية، {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(2) يعني ليس لديك أيّ عزّة ذاتية، حتّى عندما تكون عزيزاً، فإنّك عزيز بالله، الله هو الذي يعطيك العزّة عندما يعطيك القوّة، والله هو الذي يعطي رسوله العزّة، عندما يعطيه القوّة، لأنّ "العزّة لله جميعاً"، ولأنّ كلّ مَنْ في الدنيا محتاج لله سبحانه وتعالى، وكلّ محتاج يعيش الضعف، وكلّ مَن يعيش الضعف فإنّه يعيش الشعور بالذلّة أمام حالات الضعف.
حالة الشعور بالذلّة تمرّ بنا جميعاً في هذه الحياة؛ إنّك تشعر بالذلّة أمام إنسان مستبدّ أو مسيطر أو يملك سلاحاً أو مالاً، لماذا تشعر بالذلّة؟ لأنّك تشعر بالضعف. فعندما تكون ضعيفاً لا تملك لنفسك خيراً أو نفعاً فأنتَ ذليل أمام الله "كلّ كبير عندك صغير، وكلّ جليل في جنب شرفك حقير". ماذا تمثّل أمام ملك الله؟ هذه الأرض التي نتقاتل عليها ونتنازع، كلّها لا تمثّل إلاّ ذرّة ضائعة في الفضاء، يعني عندما تصعد للفضاء فإنّك ترى الأرض مثلما ترى النجوم التي في السماء من الأرض، فإذا كانت الأرض ذرّة ضائعة في الفضاء، فمن أنت؟.
فأنتَ في قدرتك وحجمك وإمكاناتك حقير، وإنّما تكون عظيماً إذا ما أعطاك الله العظمة. الله هو الذي ليس محتاجاً لأيِّ شيء لأنَّ كلّ شيء بيده، فيما نحن ليس لدينا شيء إلاّ ونحتاج فيه إلى الله، إنّنا مساكين أمام الله، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ}(1) فقراء إلى الله بوجودكم، وحياتكم ونعمكم، وطاقاتكم. جرّب أيّها الإنسان أن لا تكون مفتقراً إلى الله في شيء بسيط، ليس هناك لحظة من اللّحظات لا تفتقر فيها إلى الله، لأنّك في أيِّ لحظة بحاجة إلى الهواء الذي تتنفّسه، فإذا حجب عنك الهواء فكيف تعيش، وأنتَ بحاجة إلى أن يضبط الله أجهزتك لتعيش، فأنتَ مسكين، لا تستطيع أن تستقلّ بشيء، ولا تستطيع أن تستغنيَ عن الله بشيء، "المستكين" الذي يخضع ويذلّ، فالاستكانة هي الذلّ.
الإمام عليّ (عليه السلام) يقول: إذا كان غضب الله وسخطه لا تتحمّله السماوات بكلّ ما فيها من أكوان وأفلاك، ولا تتحمّله الأرض بكلّ ما فيها من جبال وأنهار وبحار، فكيف تتحمّله أنت، أيّها الصغير جدّاً أمام هذه العظمة الكونية كلّها. فإذا كنت لا تتحمّل ذلك كلّه، فكيف تبادر إلى ما يوقعك في ذلك؟ إذا كنت لا تتحمّل غضب الله، فكيف تعرّض نفسك لعقاب الله من خلال ارتكاب ما حرَّم الله، وترك ما أوجب الله..
13 ـــ "يا إلَهِي وَرَبِّي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ، لأَيِّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَشْكُو، وَلِمَا مِنْهَا أَضِجُّ وَأَبْكِي، لأَلِيمِ الْعَذابِ وَشِدَّتِهِ أَمْ لِطُولِ الْبَلاءِ وَمُدَّتِهِ، فَلَئِنْ صَيَّرْتَنِي لِلْعُقُوباتِ مَعَ أَعْدَائِكَ، وَجَمَعْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِ بَلائِكَ، وَفَرَّقْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحِبَّائِكَ وَأَوْلِيائِكَ، فَهَبْنِي يا إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي صَبَرْتُ عَلَى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِراقِكَ، وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلَى كَرامَتِكَ، أَمْ كَيْفَ أَسْكُنُ فِي النَّارِ وَرَجَائِي عَفْوُك".
"يا إلَهِي وَرَبِّي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ"
يتمادى عليّ (عليه السلام) في حالة التضرُّع والشكوى والتذلُّل والابتهال إلى الله، سبحانه وتعالى، تاركاً لواعج نفسه تأخذ مداها في حضرة ذات الله المقدّسة، مستأنساً بكنف الرحمة الإلهية، ومتشجِّعاً بحنان الله تعالى منّه ولطفه.
لأنّه عندما يشعر برحمة الله تشمله، وبعطفه يحيط به: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}(1)، {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}(2) فإنّه يأخذ حريّته التامة في الدعاء وطلب الحاجات.
يتساءل الداعي، في هذا المقطع، تساؤل الحائر المرتبك إزاء الخيارات المفتوحة أمامه، وهو يتمثّل وضعه بين يديّ الله، سبحانه وتعالى؛ فيتساءل حول الأمور التي يفترض أن تشكِّل موضوع شكواه، والتي تستحقّ أن يذرفَ الدموعَ من أجلها حزناً وكمداً وأسفاً.
ويجد نفسه بين خيارين كلاهما عسير وصعب: خيار "العذاب وشدّته" و"طول البلاء ومدّته" خيار أن يصير في العقوبات مع أعداء الله، بعيداً عن أحبّاء الله وأوليائه، وخيار حرمان النظر إلى كرامه الله تعالى ورجاء عفوه (عزّ وجلّ).
لكن الداعي يكشف، وبما لا يدع مجالاً للشكّ، أن لا صبر له على حرمان النظر إلى كرامة الله تعالى ورجاء عفوه. وبالتالي، فإنّ لسان حال الداعي كأنّه يقول: يا ربّ، لئن خيّرتني بين العذاب، على شدّته وطول مدّته، وبين أن تحرمني النظر إليك، والتعلّق بأذيال رحمتك وعفوك، فإنّي أُؤثِرُ العذاب على هذا الحرمان، لأنّه، بالنسبة لي، أشدُّ وأدهى.
طبعاً، هذا لا يمكن أن يكون إلاّ لسان إنسان يستمتع بالجلوس بين يديّ الله ويستلذّ بمناجاة الله، وينفتح قلبه عندما يجلس بين يديّ الله.
إنّ هذا الكلام لا يقوله إلاّ الذي لا يصبر على فراق الله في الدنيا، ولا يصبر على فراق الله في الآخرة، وفراق الله ليس معناه أنّك تجلس قرب الله ثمّ تبتعد عنه، فلا مكان له، معنى أن تفارقه هو أن تفارق الجلوس بين يديه والعيش في أجوائه وطاعته.
الشيء الوحيد، يا ربّ، الذي يمكن أن يفتح لي أبواب الحياة عندما تغلق بوجهي، ويكشف عنّي الهموم والكروب عندما تقبل عليَّ، ويخفّف عنّي أثقالي وألمي، هو عندما أجلس بين يديك لأشكو إليك كلّ شيء، ولأنفتح أمامك على كلّ شيء، ولأشعر بأنّي أجلس مع ربٍّ رحيم، عطوف، كريم، "فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِراقِكَ، وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلَى كَرامَتِكَ".
فأنتَ، يا رب، تكرمني، في الدنيا، في كلِّ يومٍ كرامة، عندما تغدق عليَّ نعمك في الصباح والمساء وعندما تستر عليّ فضائحي، وعندما تخفّف عنّي كثيراً من الآلام، وهذه كرامات كلّها منك، يا ربّ، تكرمني بها، فأنتَ قد عوّدتني على كرامتك، وكرمك، ولطفك، وفضلك، فعندما تدخلني النار فمعنى ذلك أنّي لن أرى كرامتك، ولن أرى إلاّ غضبك وسخطك.
يومٌ تبتليني في الدنيا، ويومٌ تُفَرِّجُ عنّي، يومٌ تفقرني، وآخر تُغنيني، ويومٌ تمرضُني، ويومٌ تُعافيني، لكنّني عندما أدخل النار فلن يبقى إلاّ سخطك وغضبك.
"أَمْ كَيْفَ أَسْكُنُ فِي النَّارِ وَرَجَائِي عَفْوُك؟" يُعلِّمُنا الإمام هنا، كيف نستعطف الله تعالى، بحيث نتكلّم معه كما لو كنّا نتكلّم مع شخصٍ آخر، يقول له: يا ربّ، قلبي ينبض بالرجاء والأمل والمحبّة، وأنتظر عفوك عندما أعصيك، ومغفرتك عندما أخطئ، فكيف أسكن في النار وأنتَ العفوُّ الغفور.
إنّ الذين يسكنون في النار هم الذين ييأسون من عفوك، ويقنطون من رحمتك، ولا يفكّرون في مغفرتك، لأنّك قلت: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(1).
14 ـــ "فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدِي وَمَوْلايَ أُقْسِمُ صادِقاً، لَئِنْ تَرَكْتَنِي ناطِقاً لأَضِجَّنَّ إلَيْكَ بَيْنَ أَهْلِها ضَجِيجَ الآمِلِيْنَ، وَلأَصْرُخَنَّ إِلَيْكَ صُرَاخَ الْمُسْتَصْرِخِينَ، وَلأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الْفاقِدِينَ، وَلأُنادِيَنَّكَ أَيْنَ كُنْتَ يا وَلِيَّ الْمُؤْمِنينَ، يا غايَةَ آمالِ الْعَارِفِينَ، يا غِياثَ الْمُسْتَغِيثِينَ، يا حَبِيبَ قُلُوبِ الصَّادِقِينَ، وَيا إلَهَ الْعالَمِينَ".
بعد ذلك يعلّمنا الإمام كيف يتفاعل الشعور، ويصل الإنسان إلى أجواء الحديث مع الله بمحبّة، وعاطفة "فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدِي وَمَوْلايَ أُقْسِمُ صادِقاً، لَئِنْ تَرَكْتَنِي ناطِقاً لأَضِجَّنَّ إلَيْكَ بَيْنَ أَهْلِها ضَجِيجَ الآمِلِيْنَ" يقول له: أنا لا أسكت إذا أدخلتني في النار، "فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدِي وَمَوْلايَ أُقْسِمُ صادِقاً، لَئِنْ تَرَكْتَنِي" إنّ شعوري، يا ربّ، لا يمكن أن يبتعد عنك، "ناطِقاً" مثلما عوّدت لساني على أن يدعوك في الدنيا، فاتركه وعذِّب جسدي فقط، لأنّ لساني هو الذي يعبِّر عن شعوري تجاهك، " لأَضِجَّنَّ إلَيْكَ بَيْنَ أَهْلِها" بين أهل النار "ضَجِيجَ الآمِلِيْنَ".
كأنّ هناك أشياء توزع والداعي يأملُ بالحصولِ على حصّةٍ منها، فيظلّ يضجُّ، ويصيحُ، لينتبهوا له، "بَيْنَ أَهْلِها ضَجِيجَ الآمِلِيْنَ، وَلأَصْرُخَنَّ إِلَيْكَ صُرَاخَ الْمُسْتَصْرِخِينَ" الإنسان الذي يعيش في خطر، يصرح لكي يسمعه الناس وينقذوه، وأنا، يا ربّ، صراخي مثل صراخ المستصرخ الذي يدعو لإنقاذه، وأنا لا أستصرخ أحداً غيرك، "وَلأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الْفاقِدِينَ" يقول له: أنا أبكي في النار، ليس لآلامي ولا لجراحاتي، بل أبكي لأنّي فارقتك وفقدتك، مثلما يفقد الإنسان حبيباً، ويبكي لفراق حبيبه، "وَلأُنادِيَنَّكَ أَيْنَ كُنْتَ يا وَلِيَّ الْمُؤْمِنينَ" فأنت موجود في كلّ مكان، وأنت وليِّي في الدنيا والآخرة، وإذا كنت وليِّي في الدنيا والآخرة، فأعطني، يا ربّ، من لطف ولايتك ما ينقذني من النار.
"يا غايَةَ آمالِ الْعَارِفِينَ" إنّ الذين يعرفونك جيداً، يعرفون أنّك غاية آمالهم، لا أمل لهم بغيرك، وليس لديهم غيرك، "يا غِياثَ الْمُسْتَغِيثِينَ" يا ربّ أنا أعيش حالة تدعوني إلى الاستغاثة، وأي حالة أعظم من حالة النار؟! "يا حَبِيبَ قُلُوبِ الصَّادِقِينَ" الذين صدقوا في قولهم وإيمانهم وأفعالهم، هؤلاء أنتَ حبيبهم ولا حبيب لهم غيرك.
يا ربّ إنّ الصادقين إذا أحبُّوا الناس فهم يحبّونهم من خلالك، كما يحبّ الحبيب حبيبه، وإذا أبغضوا الناس فإنّهم يبغضونهم من خلالك. إنّ الذين يحبّون غيرك، ويحبّون أعداءك، ولا يحبّونك، هم المزيّفون الكاذبون المنافقون.
"وَيا إلَهَ الْعالَمِينَ" هذه هي نداءات الإنسان المؤمن الذي عاش الحياة انفتاحاً مع الله، ولكنّه أخطأ مع الله هنا، في حين ظلّ قلبه ينبض بحبّ الله، ورجائه، وبقي لسانه ناطقاً بمناجاة الله حتّى وهو في النار، وهذا درس لنا لنظلّ في حياتنا مع الله في كلّ مشاكلنا، مع الله ومع خطّه، لا مع غيره، مع أولياء الله لا مع أعدائه، فإذا استطعنا أن نبقي قلوبنا مع الله وألسنتنا وجوارحنا مع الله، فلن يخذلنا الله غداً {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(1) فلنحافظ على قلوبنا أن لا يدخلها الشيطان، أو يدخلها حبّ أولياء الشيطان، فإنّ سلامة القلب هي الشرط الذي يمكن أن يُمكِّن الإنسان من أن يقف أمام الله، فانظروا إلى قلوبكم هل فيها خير أم شرّ؟ هل فيها حقد أم محبّة؟ فداووا قلوبكم روحيّاً، قبل أن تداووها جسديّاً لتقبلوا على الله بسلامة من قلوبكم.
15 ـــ "أَفَتُرَاكَ سُبْحَانَكَ يا إلَهِي وَبِحَمْدِكَ تَسْمَعُ فِيْهَا صَوْتَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ سُجِنَ فِيها بِمُخَالَفَتِهِ، وَذاقَ طَعْمَ عَذابِها بِمَعْصِيَتِهِ، وَحُبِسَ بَيْنَ أَطْبَاقِها بِجُرْمِهِ وَجَرِيرَتِهِ، وَهُوَ يَضِجُّ إلَيْكَ ضَجِيجَ مُؤَمِّلٍ لِرَحْمَتِكَ، وَيُنادِيكَ بِلِسانِ أَهْلِ تَوْحِيدِكَ، وَيَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِرُبُوبِيَّتِكَ".
المتأمِّل في هذه الفقرة من الدعاء يلاحظ ثلاثة أمور رئيسية هي:
أوّلاً: إنّ الداعي يقرّ باستحقاقه دخول النار، فهو "سُجِنَ فِيها بِمُخَالَفَتِهِ، وَذاقَ طَعْمَ عَذابِها بِمَعْصِيَتِهِ، وَحُبِسَ بَيْنَ أَطْبَاقِها بِجُرْمِهِ وَجَرِيرَتِهِ". فهو، إذاً، إنّما استحقّ دخول النار بسبب "مُخالفته" و"معصيته" لمولاه سبحانه وتعالى. وهو استحقّ أن "يحبس بين أطباقها" بسبب "جُرْمِهِ وَجَرِيرَتِهِ".
ثانياً: إنّ الداعي يشعرنا، في الآن نفسه، بأنّ ذنوبه ليست من النوع الذي لا يمكن غفرانه أو قبول التوبة عنه كالشرك بالله تعالى، حيث قال: "تَسْمَعُ فِيْهَا صَوْتَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ" فالداعي لم يخرج من طوق الإسلام، وإنّما عصى إذ عصى، وأذنب إذ أذنب، وأجرم إذ أجرم.. وهو مسلم. وكونه لم يزل مسلماً، فهو لا يزال يستحقّ رحمة الله تعالى.
ثالثاً: إنّ الداعي، على الرغم من دخوله النار، أو إقراره بالاستحقاق بدخول النار، فهو لم يفقد الأمل أو ييأس من رحمة ربّه. فلم يشغله العذاب عن مناجاة الله تعالى، والاستغاثة به لينقله من موقع العذاب إلى موقع النعيم. ولذا فالداعي لم يوقف الضجيج، والمناجاة، والتوسّل. "وَهُوَ يَضِجُّ إلَيْكَ ضَجِيجَ مُؤَمِّلٍ لِرَحْمَتِكَ، وَيُنادِيكَ بِلِسانِ أَهْلِ تَوْحِيدِكَ، وَيَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِرُبُوبِيَّتِكَ" فالداعي يريد أن يعلّمنا أنّ العلاقة مع الله، سبحانه وتعالى، يجب أن لا تنقطع حتّى ولو كنّا في أسوأ الأحوال، وأيأس المواقع، حتّى لو كانت أمواج العذاب والألم تطبق علينا من كلّ حدب وصوب، يجب أن نبقى معلّقين بحبال الرّحمة الإلهية، ويجب أن يبقى لساننا لسان أهل التوحيد، لا نتوسّل إلاّ إلى خالقنا وربّنا. فالله، سبحانه وتعالى، هو خلاصنا في كلّ الأحوال والظروف والأهوال، لأنّه أرحم الراحمين، ولأنّه الشفوق العطوف، ولأنّه الحنّان، المنّان، المفضل الذي يعطي مَن سأله، ويعطي مَن لم يسأله.
فالمسلم مهما أخطأ وأذنب، ومهما أسرف على نفسه، فطريق الخلاص أمامه مفتوح ما دام لم يقع في الشرك الأكبر، لأنّ الشرك الأكبر مفتاح اليأس والقنوط، لأنّه حبل الشيطان الأكبر، من التزم به فقد التزم حبل الشيطان.
ولذا على الإنسان المسلم أن لا ييأس ولا يقنط، لأنّ اليأس والقنوط هما ثمرة الكفر الذي ـــ والعياذ بالله ـــ لا مفرَّ منه ولا خلاص.
15 ـــ "يا مَوْلايَ فَكَيْفَ يَبْقَى فِي الْعَذابِ وَهُوَ يَرْجُو ما سَلَفَ مِنْ حِلْمِكَ، أَمْ كَيْفَ تُؤْلِمُهُ النَّارُ وَهُوَ يَأْمُلُ فَضْلَكَ وَرَحْمَتَكَ، أَمْ كَيْفَ يُحْرِقُهُ لَهِيبُها وَأَنْتَ تَسْمَعُ صَوْتَهُ وَتَرَى مَكانَهُ، أَمْ كَيْفَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ زَفِيرُها وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفَهُ، أَمْ كَيْفَ يَتَقَلْقَلُ بَيْنَ أَطْبَاقِها وَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَهُ، أَمْ كَيْفَ تَزْجُرُهُ زَبانِيَتُها وَهُوَ يُنادِيكَ يا رَبَّه، أَمْ كَيْفَ يَرْجُو فَضْلَكَ فِي عِتْقِهِ مِنْهَا فَتَتْرُكَهُ فِيها".
لهيب نار الآخرة
يا ربّ... ومهما أتيناك بأعمالنا القبيحة، فإنّ ذلك لا يمنعك من أن تشملنا بنعمك وتتفضَّل علينا بآلائك، فعندما أطلب منك يا ربّ، وأنا في النار، أن تنقذني من العذاب، فإنّي أطلب ما عوّدتني عليه، "فَكَيْفَ يَبْقَى فِي الْعَذابِ وَهُوَ يَرْجُو ما سَلَفَ مِنْ حِلْمِكَ، أَمْ كَيْفَ تُؤْلِمُهُ النَّارُ" كيف يمكن أن تؤلِم النار هذا الإنسان المسلم المؤمن الذي عصاك في شيءٍ وأطاعك في شيء آخر "وَهُوَ يَأْمُلُ فَضْلَكَ وَرَحْمَتَكَ، أَمْ كَيْفَ يُحْرِقُهُ لَهِيبُها" كيف يحرق هذا الجسد الذي سجد لطاعتك، "وَأَنْتَ تَسْمَعُ صَوْتَهُ" الذي ينطلق بشكلٍ ضعيف، وبشكل مليء بالآلام، وترى مكانه، "أَمْ كَيْفَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ زَفِيرُها" زفير النار هو صوت النار عندما تشتد، عندما يكون اللّهب في مضيق وفي حالة ضيق. "وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفَهُ" حيث لا يتحمّل، على غرار الفقرة السابقة "يا ربّ ارحَمْ ضعف بدني ورِقَّةَ جِلْدِي" وأنتَ يا ربّ تعرف هذا البدن الذي لا يقوى على الشوكة والعثرة، فكيف يقوى على زفير النار، "أَمْ كَيْفَ يَتَقَلْقَلُ بَيْنَ أَطْبَاقِها وَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَهُ" كيف تضغط عليه أطباق النار وأنتَ تعرف يا ربّ ـــ لأنّك مطّلع على قلبه ـــ أنّه صادق عندما يناديك، ويتوب إليك، ويعترف إليك بذنوبه، "أَمْ كَيْفَ تَزْجُرُهُ زَبانِيَتُها" وهو يستعين بك، ويلتجئ إليك، وهو ضعيف تمام الضعف، فكيف تترك زبانيتها تزجره "وَهُوَ يُنادِيكَ يا رَبَّه"، أنتَ أرحم من ذلك، "أَمْ كَيْفَ يَرْجُو فَضْلَكَ فِي عِتْقِهِ مِنْهَا فَتَتْرُكَهُ فِيها" عاش حياته، وعندما عصاك وخالفك، كان يرجو أن تعفو عنه، وعندما جاء إليك ووقف بين يديك للحساب أمل بعفوك، لأنّك أمرتنا أن نثق بك ونحسن بكَ ظنّاً.
"هيْهات، ما ذلِكَ الظَّنُ بِكَ ولا المعروفُ مِنْ فضلِك، وَلاَ مُشْبِهٌ لِمَا عامَلْتَ بِهِ المُوَحِّدِينَ مِنْ بِرِّكَ وإحسانِك" أرجو منك يا ربّ ما عوّدتني عليه، وما عوّدت خلقك عليه أيضاً، لأنّك عوّدت الموحّدين أن تعفوَ عنهم، وعوّدتنا أنْ تسامحنا في الدنيا، ونحن نرجو أن تسامحنا في الآخرة.
انفتاح القلب إلى الله
يريدنا الإمام عليّ (عليه السلام) في هذا الدعاء أن نتحدّث مع الله بدون أن نشعر بأيِّ حواجزَ أو عوائقَ بيننا وبينه تعالى. كما يتكلّم إنسان مع إنسان آخر بدون تكلُّف أو رسميات.
فالإمام عليّ (عليه السلام) يريدنا أن نتحدّث مع الله بهذه الطريقة، يعني أن يتحدّث الإنسان مع الله بقلبٍ مفتوح؛ جاء في دعاء الافتتاح: "فإنْ أبْطَأَ عنّي عَتَبْتُ بِجَهْلي عَلَيْكَ، ولَعَلَّ الذي أبْطَأَ عنّي هو خيرٌ لي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الأمور، فَلَمْ أَرَ مَوْلىً كريماً أصْبَرَ على عبْدٍ لئيمٍ مِنْكَ يا ربّ؛ إنَّكَ تَدْعُوني فَأُوَلّي عَنْك، وَتَتَحَبَّبُ إلَيَّ فَأَتَبَغَّضُ إليك، وَتَتَوَدَّدُ إلَيَّ فلا أَقْبَلُ مِنْكَ، كَأَنَّ لِيَ التَطَوُّلَ عَلَيْك، ثمَّ لَمْ يَمْنَعْكَ ذلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ لي والإحْسَان إلَيَّ والْتَفَضُّلِ عليَّ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ".
يريدنا الله أن نعيش معه "وحدة الحال"، أن نتكلّم معه بكلّ خشوع، وبكلّ صدق، ولا نترك أيَّ أسلوب من الأساليب لنستدرّ عطفه علينا. على أنّه (سبحانه وتعالى) ليس بحاجة إلى هذه الأساليب، ولكنّ الدعاء نوع من العبادة. اقرأ دعاء ما، وتضرَّع بمختلف أساليب التضرُّع والابتهال، حتّى تربّيَ قلبك على الانفتاح على الله، علينا أن نربّيَ أنفسنا من خلال الدعاء على أن نفرغ قلوبنا لمحبّة الله تعالى، وعبوديّته، والرجوع إليه، علينا أن نعوِّد ألسنتنا على أن نلجأ إليه في كلّ حال ليسدّ الطريق علينا من أن نلجأ إلى غيره. عندما تريد أن تذهب إلى إنسان كبير فإنّك تحتاج لعرائض، وتحتاج للغة لبقة، ولكن مع الله خذ حريّتك بأيّ لسان، وبأيّ أسلوب تريد أن تعاتب الله فعاتبه، فالدعاء إنّما هو أسلوب تربويّ يريد الله من خلاله أن يفتح قلوبنا للّقاء به، والاعتراف به، وبمحبّته. إنّ الدعاء مظهر من مظاهر العبودية لله، وأسلوب من أساليب التربية، التي يتربّى فيها الإنسان على مشاعر الروحانية العالية بين يديّ الله {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(1) يعني أنّ الدعاء هو الذي يحقّق العلاقة الحقيقيّة العميقة بين الله وبينكم، فإذا مارستم الطاعة لله بدون قلب مفتوح له تعالى، وبدون روح منفتحة عليه تعالى، فليس لعملكم قيمة، بل قيمة أعمالكم بمقدار الانفتاح على الله سبحانه وتعالى.
17 ـــ "هَيْهاتَ ما ذَلِكَ الظَّنُ بِكَ وَلاَ الْمَعْرُوفُ مِنْ فَضْلِكَ، وَلا مُشْبِهٌ لِما عَامَلْتَ بِهِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ بِرِّكَ وَإِحْسَانِكَ، فَبِالْيَقِينِ أَقْطَعُ، لَوْلاَ ما حَكَمْتَ بِهِ مِنْ تَعْذِيبِ جاحِدِيكَ، وَقَضَيْتَ بِهِ مِنْ إِخْلادِ مُعانِدِيكَ، لَجَعَلْتَ النَّارَ كُلَّها بَرْداً وَسَلاماً، وَمَا كانَتْ لأَحَدٍ مَقَرّاً وَلاَ مُقَاماً، لَكِنَّكَ تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ أَقْسَمْتَ أَنْ تَمْلأَهَا مِنَ الْكافِرِينَ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالْنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ تُخَلِّدَ فِيها الْمُعَانِدِينَ، وَأَنْتَ جَلَّ ثَناؤُكَ قُلْتَ مُبْتَدِئاً، وَتَطَوَّلْتَ بِالإِنْعَامِ مُتَكَرِّماً، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ".
الحكم والعدل
"هَيْهاتَ ما ذَلِكَ الظَّنُ بِكَ" ليس من المعقول أن تعذّب أحداً، فنحن لا نظنّ بكَ ذلك. "وَلاَ الْمَعْرُوفُ مِنْ فَضْلِكَ" إنَّ ما نعرفه من فضلك غير هذا، لا نعرف من فضلك أنّك تعذّب عبادك، أو تحرقهم بالنار، بل نعرف أنّك ترعى عبادك وتنعم عليهم.
"وَلا مُشْبِهٌ لِما عَامَلْتَ بِهِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ بِرِّكَ وَإِحْسَانِكَ" يقول له: وأنا في النار يا ربّ انظر لتاريخ الذين آمنوا وقالوا: لا إله إلا أنت، لم أرَ أنّك عامَلْتَ الموحّدين بمثل هذه الطريقة، فكيف تعاملني بمثل هذه الطريقة. نلاحظ هنا أنّ لهجة العتاب بدأت تتصاعد، وتتصاعد أكثر، وصولاً إلى قوله (عليه السلام): "فَبِالْيَقِينِ أَقْطَعُ، لَوْلاَ ما حَكَمْتَ بِهِ مِنْ تَعْذِيبِ جاحِدِيكَ" أي لولا علمي الجازم بأنّك أصدرت حكماً بأنّ مَن جحدك جزاؤه النار، و"وَقَضَيْتَ بِهِ مِنْ إِخْلادِ مُعانِدِيكَ" أي أنّ مَنْ عاندك هو مخلّدٌ في النار لا استثناؤك للجاحدين والمعاندين من رحمتك وعفوك لجزمت بأنّك ما كنت لتعذّب أحداً في النّار لأنّك لا تحتاج إلى أن تعذّب أحداً، فمن يعذّب إنّما تنفيساً لعقدة في نفسه، ولكنّك فوق ذلك كلّه. إنّي أقول، وبحسب فهمي القاصر، إنّك حكمت وقضيت وعندما تحكم، لا تحكم إلاّ عدلاً، وإن كنّا لا نفهم أسرار هذا العدل، وأنت عندما تقضي فإنّك تقضي حقّاً، وإن كنّا لا نفهم أسرار هذا الحقّ، "لَجَعَلْتَ النَّارَ كُلَّها بَرْداً وَسَلاماً، وَمَا كانَتْ لأَحَدٍ مَقَرّاً وَلاَ مُقَاماً" لأنّ رحمتك سبقت غضبك. ولأنّك لا تحتاج إلى أن تعذّب خلقك، لأنّك لا تحتاج إلى خلقك، "ولَكِنَّكَ تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ أَقْسَمْتَ أَنْ تَمْلأَهَا مِنَ الْكافِرِينَ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالْنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ تُخَلِّدَ فِيها الْمُعَانِدِينَ"، يعني أنّ الخلود هو لمن عاند الله وحاربه وكفَرَ به، لأنّ الله أقام الحُجّة على عباده في توحيده، وفي الإيمان به، وفي الطريق إلى طاعته، فإذا كفر عباده فإنّهم يكفرون بعد أن قامت عليهم الحُجّة في الإيمان بحيث لا عذر لهم، وإذا عذّب الله الذين عاندوه، فإنّه يعذّبهم بعد أنْ قامت عليهم الحُجّة في أن يطيعوه ويعبدوه ولا يعاندوه.
إذاً، لدينا حاجزان لا يمكن أن نخترقهما يوم القيامة، حاجز الكفر، وحاجز معاندة الله سبحانه وتعالى.
الشرك والعناد
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1) فالحاجز الأساسي هو الكفر والعناد، لذلك يجب أن نحاول أن نربّيَ إيماننا كما نربّي أجسادنا. إذا ضعف جسدك فإنّك تذهب إلى الطبيب ليعطيك المقوّيات والأدوية لتمنع المرض وتعيد لجسمك نشاطه، كذلك إذا رأيت قلبك ليس منفتحاً على الله، أو إذا رأيت حياتك بعيدة عن الله، أو رأيت نفسك لا تبالي بالمعصية، أو رأيت نفسك ترضخ لغير أولياء الله، فاعرف أنّ هناك مرضاً في قلبك وروحك وإيمانك، وقد يشتدّ هذا المرض فيقضي على إيمانك.
إنّ الإنسان إذا أذنب فإنّ نقطة سوداء ترتسم في قلبه، فإذا تاب زالت النقطة، وإذا بقي ولم يتب فإنّ النقطة السوداء تتّسع حتى تشمل القلب، فإذا شملت القلب صار أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، بحيث يرى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً "كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف" إذا لم يكن ابني يصلّي ـــ مثلاً ـــ فلا أهتمّ، أو أنّه يشرب الخمر، لا أهتمّ، أو أنّ ابنتي لا تلبس الحجاب الشرعي لا أهتمّ، أو إذا انتمى ابني إلى هذا الاتّجاه الكافر لا أهتمّ، أو إذا طلب منّي الظالم شيئاً فإنّي أستجيب له، إذا كان ذلك كلّه فاعرف أنّ هناك مرضاً في إيمانك، وعليك أن تلجأ إلى الطبيب، إلى القرآن الكريم، وإلى رسول الله، وإلى الله، حتّى تقوّيَ إيمانك، لتقف أمام الله بقلبٍ سليم، خالٍ من الكفر، والعناد، والتمرّد، والحقد على المؤمنين.
إنّ الله يريد منك قلباً سليماً ليس متضخِّماً بالكفر، وليس فيه "روماتيزم" الحقد، وليس فيه القاذورات التي تمنع الإنسان عن طاعة الله. وليس فيه ما يعطّل الإنسان وإنسانية الإنسان.
"وَلَكِنَّكَ تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ أَقْسَمْتَ أَنْ تَمْلأَهَا مِنَ الْكافِرِينَ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالْنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ تَخَلِّدَ فِيها الْمُعَانِدِينَ".
عندما يقسم الله بأمرٍ فهو واقع لا محالة. والإمام عليٌّ (عليه السلام) يؤكّد لنا أنّ الله تعالى أقسم بأنْ يملأ النار من الكافرين من الجِنَّة والناس أجمعين، أي سواء أكان هؤلاء الكافرون ينتسبون إلى عالَم الجنّ أو عالَم الإنسان.
وفي هذا إشعار لنا بأنْ لا تكون عاقبتنا عاقبة الكافرين، أي يلفت الإمام نظرنا إلى أن نبقى على إيماننا فلا ننقلب كافرين لأنّ الكافر مأواه النار ولا ريب. ولذا، إذا كنّا نطلب من الله باستمرار حسن العاقبة (اللَّهمّ ارْزُقْنِي حُسْنَ العاقِبة) وفي الدعاء: "اللَّهمّ اجْعَلْ يومِي خيراً مِنْ ماضيه، وخيرَ أعمالي خواتيمها، وخيرَ أيّامي يومَ ألقاك فيه" فهو يعني أنْ أظلّ متطوّراً إلى الأعلى، ذلك أنّه في بعض الأوقات قد تكون مؤمناً في أوّل حياتك، وإذا بالدولاب ينقلب وإذا بالأوضاع تتغيَّر فترى نفسك في موجة ضلال وفسق، وذلك لأنّ المؤمن يُلاحَق تحت كلّ حجر ومَدَر، والكافر تُفتَح له كلّ القلوب والأبواب، الإنسان الطائع لله يُسخر منه ويضطهد في كلّ مكان، والإنسان الفاسق تفتح له كلّ الدوائر والمجالات، فعندما تنقلب الموجة فهناك الكثير من الناس ينقلبون على وجوههم، وقد حدّثنا القرآن عن ذلك: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}(1).
على حرف يعني على معلومات بسيطة جداً، والبعض الآخر يقول في معنى (على حرف) مثل حرف الجبل، يعني على الحدّ، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} إذا كان الهواء خفيفاً تبقى قدماه على حافة الجبل ثابتتين، وإنْ جاءته عاصفة وقع في الوادي بسرعة، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} قد يؤمن البعض لأنّ الموجة موجة إيمان، لكن عندما تتغيَّر الرياح ويأتي التخويف من جميع الجهات حيث يبتلى المؤمنون ويزلزلون بشكلٍ لا يبقى مؤمناً إلاّ صاحب القدم الثابتة على الإيمان بحيث تزول الجبال ولا يزول، مثلما قال الإمام عليّ (عليه السلام) في معركة الجمل لولده محمّد بن الحنفيّة: "تِدْ في الأرضِ قَدَمَك" مثلما تثبت الوتَد في الأرض يجب أن تثبت وتحارب، "تِدْ في الأرضِ قَدَمَك، أَعِرِ الله جُمْجمَتَكْ" لا تقل هذه رأسي لي وأُريدُ أن أُحافظ عليها. قل إنّ جمجمتك لله، فأعطها لله، والله عندما يريد أن يحفظها فتكون مصلحة لك وإذا أراد أن تسقط على الأرض تكون مصلحة لك أيضاً، فَأَعِر جمجمتك لله الذي خلقها وهو يعرف كيف يتصرّف بها، ولا تعرها لظالم أو كافر، "ارم ببصرك أقصى القوم" لا تنظر للإنسان الذي أمامك حتّى تخاف، انظر بعيداً. عندما تريد أن تحارب وتصارع قوى الظلم، أنظر ببصرك أقصى القوم، يعني أن تندفع حتى تصل إلى نهاية المطاف، يعني انظر إلى أعمق الأشياء، وإلى أقصى مدى فيها. يجب أن نفكّر بإيماننا، ونرى ما هي الشبهات والشكوك التي تخترق إيماننا وإسلامنا، لكي نضعها تحت المجهر، وندرسها دراسة واعية. فمن الممكن أن يكون الإنسان اليوم مؤمناً، وغداً يكون فاسقاً، وبعد غد كافراً.
المؤمن والفاسق... لا يستويان
"وَأَنْتَ جَلَّ ثَناؤُكَ قُلْتَ مُبْتَدِئاً، وَتَطَوَّلْتَ بِالإِنْعَامِ مُتَكَرِّماً، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ".
"وَأَنْتَ جَلَّ ثَناؤُكَ قُلْتَ مُبْتَدِئاً" لماذا تُدْخِل الكافرين والمعاندين النار؟ لأنّك قلت: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ}(1)، فهل يمكن للإنسان الذي يعصي ويعاند ويكفر بالله أن يدخل الجنّة، والإنسان المطيع يدخل النار، هل هذا الشيء ممكن؟
إنّ هذا خطّ عملي في الحياة كما هو في الآخرة بل حتّى في الدنيا، فلا يمكن أن يكون المؤمن والفاسق سواء في معاشرتك، وانتماءاتك، وعلاقاتك، وتأييدك ورفضك. يقول بعض الناس: إنّ فلاناً الكافر يساوي ألف مؤمن من المؤمنين، أو فلان الفاسق الذي يشرب الخمر أفضل من المؤمنين ثقيلي الظلّ والدم، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ*أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ}(1)، عندما يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ}(2) فإنّ هذا ميزان الله الذي يجب أن يكون ميزاننا في الحكم على الأشياء وفي الانتماءات وفي العلاقات وفي التأييد والرفض.
الله يقول: المؤمن لو أخطأ أفضل من الفاسق حتّى لو أصاب، لأنّ الإيمان هو الأساس، ولأنّ هنالك فرقاً بين بيت أساسه يمكن أن تنهض عليه عشرة طوابق، وبين مبنى على وجه الأرض ليس له أيّ أساس، فالبيت الأول أفضل، لأنّه حتّى لو حدثت فسوخ في بعض جوانب البيت فبالإمكان إصلاحها لأنّ الأساس ثابت. في البيت الثاني، حتّى لو صادف أنّه لم تنل منه الزلازل بفسوخ وشقوق، فإنّ أساسه الضعيف سيجعله ينهار في وقتٍ قريب. إنّ قضية المؤمن والكافر أو المؤمن والفاسق هي هكذا أيضاً.
فالكفر يمثّل القاعدة غير الثابتة، والإيمان يمثّل القاعدة الصّلبة، والله قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}(3) الكفر والفسق كلمتان خبيثتان، الضلال والطغيان كلمتان خبيثتان أيضاً، فعلينا عندما نحكم على الأشياء أنْ لا ننظر إلى ظواهرها بل إلى قواعدها وأُسسها. فما دام أساس المؤمن ثابتاً فالأساس يصلح كلّ شيء، وما دام أساس الكافر غير ثابت فمعنى ذلك أنّ كلّ بناء يمكن أن يهدم في أيّ وقت من الأوقات.
18 ـــ "إِلَهِي وَسَيِّدِي، فَأَسْأَلُكَ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي قَدَّرْتَها، وَبِالْقَضَيَّةِ الَّتِي حَتَمْتَهَا وَحَكَمْتَها، وَغَلَبْتَ مَنْ عَلَيْهِ أَجْرَيْتَها، أَنْ تَهَبَ لِي فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ، كُلَّ جُرْمٍ أَجْرَمْتُهُ، وَكُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ قَبِيحٍ أَسْرَرْتُهُ، وَكُلَّ جَهْلٍ عَمِلْتُهُ، كَتَمْتُهُ أَوْ أَعْلَنْتُهُ، أَخْفَيْتُهُ أَوْ أَظْهَرْتُهُ، وَكُلَّ سَيِّئَةٍ أَمَرْتَ بِإِثْبَاتِها الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ، الَّذِينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يَكُونُ مَنِّي، وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيَّ مَعَ جَوَارِحِي، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشَّاهِدَ لِمَا خَفِيَ عَنْهُمْ وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ، وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ، وَأَنْ تُوَفِّرَ حَظِّي مِنْ كُلِّ خَيْرٍ تُنْزِلُهُ أَوْ إِحْسَانٍ تُفْضِله أَوْ بِرٍّ تَنْشُرُهُ، أَوْ رِزْقِ تَبْسُطُهُ، أَوْ ذَنْبٍ تَغْفِرُهُ، أَوْ خَطَأٍ تَسْتُرُهُ".
استحضار الذنوب
بعد تلك الجولة من الاعترافات التي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يبتهل فيها إلى الله، ويفتح قلبه خاشعاً، ويفتح ضميره لله ويتوسّل إليه بكلّ الأساليب التي تجلب العطف والحنوّ، يقول: "إِلَهِي وَسَيِّدِي، فَأَسْأَلُكَ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي قَدَّرْتَها" عندما أطلب منك شيئاً، يا ربّ، فأنا أطلب منك لأنّك قادر على كلّ شيء لأنّك قضيت فكان ما قضيت حتماً، ولأنّك حكمت وقدرت فكان ما حكمت لازماً وما قدرت من أمر كان مقضياً. فأسألك، يا ربّ، بالقدرة التي قدّرتها، عندما قدرت الأشياء بقدرتك لأنّك قدّرت كلّ شيء بقدرتك ونظّمته بما لك من السيطرة على الأشياء. "وَبِالْقَضَيَّةِ الَّتِي حَتَمْتَهَا وَحَكَمْتَها، وَغَلَبْتَ مَنْ عَلَيْهِ أَجْرَيْتَها" هناك أمور حكمتها في الكون وحتمتها، فأسألك بكلّ تلك الأمور التي سيطرت عليها فحكمتها وحتمتها، "أَنْ تَهَبَ لِي فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ، كُلَّ جُرْمٍ أَجْرَمْتَهُ، وَكُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ" هنا في هذه الحال عندما نطلب من الله (سبحانه وتعالى) أن يهب لنا، نقول مرّة: اغفر لنا، ومرّة: هب لنا، يعني: يا ربّ هذه الذنوب أصبحت بين يديك وإذا بقيت الذنوب والجرائم بين يديك فإنّها ستكلّفنا كثيراً غداً عندما نقف بين يديك وتعرض علينا صحائف أعمالنا. جاء في محكم التنزيل: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً*إِقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}(1) لهذا يعلّمنا الإمام (عليه السلام) أن نطلب من الله أن يهب لنا هذه الذنوب، ومعنى أن يهب الله ذنوبنا هو أن يعفوَ عنّا، يعني يعطينا ذنوبنا لنتصرّف بها، وجه تصرّفنا بها هو توبتنا عنها، فإذا تبنا عنها فلن يبقى علينا ذنوب. عندما نقف بين يديّ الله (عزّ وجلّ) ونحن نسأله أن يهبنا كلّ ذنب أذنبناه، وكلّ جرم أجرمناه، يجب أن نمعن النظر في هذه الكلمات، لا أن نمرّ بها مرور الكرام. لنحاول أن نتذكّر الذنوب التي أذنبناها أمام الله سبحانه وتعالى، لنحاول أن نستحضر ذنوبنا وأخطاءنا بحيث نسأل الله تعالى سؤال الداعين بما يسألون، وبمقاصد ما يرومون، لا أن يكون سؤالنا سؤال الساهين.
"أنْ تَهَبَ لي كُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ"، كلمة عامة، لذا، لا بدّ لنا من أن نستحضر في أنفسنا كلّ الذنوب. فعندما نردّد مع عليّ (عليه السلام): "كُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ"، ليعيش الإنسان أنواع الذنوب التي مرّ بها في حياته.. كالكذب، أو الغيبة أو النميمة، أو الغشّ، أو التجسُّس، أو إعانة الظالمين والطغاة، أو شرب الخمر، ولعب القمار... الخ.
لنضع كلّ تاريخ حياتنا الشخصيّة تحت المجهر، بغية وعي مثالبها وعيوبها ونواقصها، والثغرات التي فيها، ونقاط الضعف التي تكشفها.. والأكثر من ذلك، لنعش عقدة الذنب أمام الله.. لنعش عذاب الضمير على ما أجرمت أيدينا أمام الله سبحانه وتعالى.. لنعش القلق الوجودي على النقطة الحرجة، ومفترق الطريق المصيري الذي وضعنا فيه أنفسنا، بفعل تجرّئنا على انتهاك حدود الله ومخالفتنا لأوامره ونواهيه. إنّ كلّ هذا مطلوب، لأنّه يشكّل نقطة ارتكاز جوهرية سواء للعودة إلى الخطّ المستقيم، أو لإصلاح مسيرة مستقبلنا. فإذا عجزنا عن إدراك عيوبنا ومفاسدنا، فكيف يمكن لنا إصلاحها ومعالجتها.
ثمّة نقطة إضافية مهمة في مساعينا لاكتشاف ذنوبنا، وهي أن وضع الإنسان أعماله وأقواله وما كسبت يداه تحت المجهر، يجعله أيضاً أقدر على تبيان السّليم من الفاسد، والصواب من الخطأ. أي أنّ الإنسان عندما يعود إلى نفسه مقوِّماً تصرّفاتها وأفاعيلها وإنجازاتها، وبالتالي، يمارس حقّها عملية نقد بنّاء، سيصل إلى فرز الصحيح من الفاسد، والسليم من السقيم، بشكل يزيل أيّ ضرب من ضروب التوهّم والالتباس التي قد يقع فيها في الطريق، بحيث يتوهّم الباطل حقّاً، والحقّ باطلاً. فكثير من الناس يحسب تصرّفاته سليمة، وأقواله سديدة، وأفعاله رشيدة، لكن بشيء من التمحيص والتدقيق قد يكتشف أنّه وقع في الخطأ المريع. فحتّى لا يستمرّ الإنسان في الخطأ القاتل، عليه أن يمارس دوماً عملية نقد ذاتي ليصل إلى نقض أخطائه وعيوبه.
وفي هذا الإطار يقول الله (سبحانه وتعالى) في محكم كتابه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(1).
أي أنّ هناك مَنْ يحسب نفسه صائباً وهو غارق في الخطأ، ويوم القيامة يكتشف هذا الخطأ. وليس هناك خسارة أعظم من هذه الخسارة، لماذا؟ لأنّ هناك خسارة تلتفت لها في وقت تستطيع التعويض، فيما اكتشاف الخطأ يوم القيامة لا يمكن تعويضه، لأنّه يوم حساب ولا عمل. فما دام الإنسان في الحياة الدنيا فالفرصة تبقى سانحة أمامه، أمّا إذا دخل عالم الآخرة فإنّ الفرص تزول وتنتهي. لهذا فعلى الإنسان أن يستعرض كلّ المفاهيم التي يحملها لما هو الذنب، ولما هي الطاعة، لما هي الحسنات، ولما هي السيّئات، لكي يستطيع أن يميّز بين الحسنات وبين السيّئات، حتى يتوب عن السيّئات ويستكثر من الحسنات.
"وَغَلَبْتَ مَنْ عَلَيْهِ أَجْرَيْتَها"، لأنّك القادر الذي بيدك كلّ شيء، ولأنّك المهيمن على كلّ شيء.
"أَنْ تَهَبَ لِي فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ، كُلَّ جُرْمٍ أَجْرَمْتُهُ، وَكُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ قَبِيحٍ أَسْرَرْتُهُ".
المعاني يأخذ بعضها بعنق بعض، فالذنب هو جريمة، والجريمة ذنب، والقبيح ذنب، لكنّ الإمام (عليه السلام) يريد أن ينوّع بالألفاظ، حتّى يُعمِّق المعنى في نفوسنا، وليجعل لدينا إحساساً عميقاً بالذنب، فيكون هذا الإحساس دافعاً لنا لكي نتوب، نستشعر عظم ما نحن فيه أمام الله، وحتّى لا يكون موقفنا أمام ذنوبنا موقفاً لا مبالياً، كبعض الناس الذين لا يشعرون بعقدة الذنب أمام الله، ولكنّه إذا كان هناك خطأ ما في بعض الضرائب المفروضة عليهم، أو خطأ في بعض القضايا التي تتعلّق بجواز السفر، فإنّهم لا ينامون ليلة حتى يصحِّحوا هذا الموضوع، وإذا رأوا إشارة في الصحيفة العقارية تعرقل عملية بيعهم وشرائهم، فإنّهم يعملون ليل نهار، ويصرفون ما شاء الله ليلغوا هذا الخطّ الأحمر من الصحيفة العقارية. ولكنّهم إزاء الله سبحانه وتعالى، لا يشعرون البتة بأيِّ ذنب.
لهذا فإنّ الإمام عليّ يقول: "أَنْ تَهَبَ لِي فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ، كُلَّ جُرْمٍ أَجْرَمْتُهُ، وَكُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ قَبِيحٍ أَسْرَرْتُهُ، وَكُلَّ جَهْلٍ عَمِلْتُهُ".
الشهود ثلاثة
بعد أن انتهى الإمام عليّ (عليه السلام) من موضوع الذنوب بشكلٍ عام، شرع في التعرّض لموضوع دقيق وحسّاس يتعلّق بطرق إثبات صدور الذنب عن الإنسان. ذلك أنّه يوم القيامة، يوم يقف الإنسان ليحاسب الحساب الأكبر، يوم يدخل الإنسان محكمة العدل والقضاء الإلهيين ليعرف نفسه أهو من أهل الجنّة أم من أهل النار؟ وليعرف نفسه، على نحو أدقّ، في أيّ مرتبة من كلّ واحدة منهما، قد يعترض على الحكم الصادر بحقّه. لكنّ الله سبحانه وتعالى، حتّى يأتيَ الحكم حكماً عادلاً بالمطلق، ولكي يقطع عذر كلّ معتذر أو محتجّ، يحشد لكلّ حكم مقدّماته وحيثيّاتهِ وأدِلَّتَه، وبراهينَه، حتّى يأتيَ حكماً ساطعاً لا ريب فيه ولا شكّ، وبحيث يشعر معه المحَاكم أنّه هو الذي يحكم على نفسه بنفسه، لا أنّ الله، سبحانه وتعالى، يحكم عليه فحسب، والإمام عليّ (عليه السلام) يستعرض هذه الشهادات وفق التالي:
أوّلاً، شهادة الملائكة: يوضح الإمام أمر هذه الشهادة بقوله: "وَكُلَّ سَيِّئَةٍ أَمَرْتَ بِإِثْبَاتِها الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ، الَّذِينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يَكُونُ مَنِّي" وهذا في الحقيقة ترجمة لقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ*كِرَاماً كَاتِبِينَ}(1)، {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(2).
فهذان الملكان الحافظان حقيقة إيمانية، لأنّهما حقيقة قرآنية. ومهمة هذين الملكين تدوين وحفظ ما يكون من الإنسان من أقوال أو أفعال. والله سبحانه وتعالى يأتي بهذين الملكين يوم القيامة، كشاهدين على الإنسان. وهما لا يخوضان سجالاً مع الإنسان، كأن يقولا له أنتَ قلت كذا.. وفعلت كذا.. بل يأتيان بنفس أعمال الإنسان وأقواله كما هو أتى بها. قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً}(1) ما يعني أنّ الإنسان هو الذي يشهد في الحقيقة على نفسه، وأنّ المَلَكَيْن الحافِظَيْن ليسا إلاّ وسيلة لإقامة الحُجّة، تماماً كما جهاز الفيديو أو التسجيل ينقل صورتك وحركاتك وصوتك، بحيث لا تستطيع أن تنكر ذلك. وبالتالي، يشكّل حُجّة دامغة عليك.
ثانياً: شهادة الجوارح: أي شهادة الأدوات والوسائل التي أقدمت بها على قول أو عمل. قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ}(2) وقال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(3). وقال عزّ من قائل: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ*َمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ}(4). والإمام يقول: "وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيَّ مَعَ جَوَارِحِي"..
فجوارح الإنسان يُنطقها الله، سبحانه وتعالى، بالشهادة، وهكذا يغدو الإنسان مرّة أخرى شاهداً على نفسه، يحاكم نفسه بنفسه.
قد ينكر الإنسان أعماله وأقواله. وقد ينقض أقوال الآخرين فيه.. لكنّه لا يستطيع أن ينكر أو ينقض أقواله هو. إذاً أليس الاعتراف سيّد الأدلّة، فكيف إذا كان المعترف هو الجوارح نفسها، أي أدوات الجرم والذنب؟ ألاَ يسعى المحقِّقون الجنائيون للحصول على أدوات الجريمة كوسيلة للتعرّف على صاحبها سواء من خلال البصمات التي يمكن أن تكون عليها، أو للتعرّف على كيفية حدوث الجريمة نفسها. وكذلك الأمر مع جوارح الإنسان، أي مع لسانه الذي هو وسيلة الكلام الجيّد والرديء، البنّاء والهدّام.. ومع يديه التي يمكن أن تستعملا في العمل الجادّ والبنّاء وفي الإنتاج الحلال.. كما قد تسرقان وتقتلان... والأمر عينه مع باقي الجوارح من عينين وقدمين.. الخ. لكن يبقى ثمّة فارق نوعي بين الأدوات التي يسعى إليها المحقِّقون وبين التي يأتي بها الله، فهناك يؤتى بالأدوات المصطنعة، بينما هنا يؤتى بالأدوات الحقيقيّة. وهناك الأدوات صامتة قابلة للاجتهاد والتفسير، وقد تكشف أشياء وقد لا تكشف. لكن، هنا، الأدوات ناطقة حيّة لا يفوتها شيء.
ولذا، على الإنسان أن ينتبه جيّداً إلى نفسه. عليه أن يراقب بدقّة عمل جوارحه وجوانحه، لأنّ ما من شيء يأتي به إلاّ هو محفوظ له، وسيحاسَب عليه.
أمّا الشاهد الثالث، فهو الله سبحانه وتعالى: يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيَّ مَعَ جَوَارِحِي، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشَّاهِدَ لِمَا خَفِيَ عَنْهُمْ". فالله قد ستر بعض الأشياء عن الملائكة، فهم قد لا يطّلعون على الأسرار التي في قلبك، والنوايا التي في فكرك، لكنَّ الله يطَّلع على داخل قلبك، على رمشةِ عينيك، وعلى خفقات قلبك ونبضاته بالخير أو الشر؛ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(1).
"وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ، وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ" لتكون هذه حُجّة بين يديّ الله.
يقول الإمام (عليه السلام): أنتَ الساتر، فقط اطّلعت عليَّ في الدنيا وكنت قادراً على أن تفضحني وأن تُشَهِّرَ بي، وأن تُعْلِنَ خبري على رؤوس الملأ، لكنّك "وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ، وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ"، فرحمتك وفضلك كانا معي في الدنيا، فلماذا لا يكونان معي في الآخرة؟ رحمتك أخفت قبائحي، فلتُخْفِها اليوم، وفضلك ستر ذنوبي فليسترها اليوم.
الإنسان طمَّاعٌ، فلا يكتفي بطلب غُفران الذنوب، والله (عزّ وجلّ)، يريدنا أن نكون متّصفين بالطمع معه، إذ لا يخيب لديه سائل، ولا ينقصه نائل، {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}(1). والله يحبّ للإنسان أن يدعوه دائماً حتّى في القضايا الصغيرة، فلا نخجل من أن ندعوَ الله في أيِّ شيء من الأشياء حتّى في الأشياء التي نستحي أن نتكلّم فيها مع الناس، لأنّها من الخصوصيات التي نستحي أن نحكي فيها مع الناس نتيجة الأوضاع الاجتماعية، ولكن أمام الله ليس هناك خجل لأنّنا مكشوفون أمامَه لا يحجبنا عنه أيّ حجاب. قد يبتلي الله سبحانه وتعالى، عبده المؤمن ببعض البلاءات. لأنّه يريد أن يسمع دعاءه، فالله يحبّ عباده، ويحبّ أن يسمع دعاءهم.. لا يحبّ أن يسمع عباده لحاجة في نفسه، ولكنّه يريد أن يربّيَ عباده على أن يرتبطوا به، فعندما تكون حالتك المالية جيّدة، وأوضاعك لدى الدولة على حسب ما يرام، وأمور أولادك سائرة على أفضل وجه، عند ذلك تنسى الله سبحانه وتعالى، نعم، بمجرّد أن لا تشعر بحاجة إلى الله تنساه، فمن رحمته بكَ أنّه يبتليك، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(2) الله يريدك أن تذكره لتذكر نفسك، وأن تعرفه لتعرف نفسك، ويريد أن تفتح قلبك له لتفتح قلبك لمصلحتك ونفسك، فأنتَ، وفي غمرة النعيم، يبتليك الله ببلاءات فتذهب إلى هذا الباب فتجده مغلقاً، وتذهب إلى بابٍ آخر تجده مغلقاً، أيضاً، وهكذا، فلا يبقى معك إلاّ الله، فتلجأ إليه سبحانه وتعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(3)، فالله يريد أن يرجعك إليه كلّما ابتعدت عنه.
إكثار الطلب
هذه هي قيمة الدعاء، ولهذا حاول الإمام أن يكثر الطلب أمام الله: "وَأَنْ تُوَفِّرَ حَظِّي مِنْ كُلِّ خَيْرٍ تُنْزِلُهُ أَوْ إِحْسَانٍ تُفْضِله أَوْ بِرٍّ تَنْشُرُهُ، أَوْ رِزْقِ تَبْسُطُهُ، أَوْ ذَنْبٍ تَغْفِرُهُ، أَوْ خَطَأٍ تَسْتُرُهُ" عندما يقف الإنسان ويقول لله: في هذا اليوم يأتي منك برّ كثير للناس، وخير كثير وتستر أخطاء كثيرة، وتنشر فضائل كثيرة، وأنا أريدك أن تجعل لي حصّة مثلما تجعل للناس حصّة من خيرك، وإحسانك، ورزقك، وسترك، فالإنسان في هذا الجوّ يشعر أنّه إذا جلس بين يديّ الله فإنّه قد احتوى، من خلال طلباته لله، الدنيا والآخرة، لأنّه طلب من الله سعادة الآخرة بغفران ذنوبه، وسعادة الدنيا بأن يفضل عليه بما يتفضّل به على خلقه في الدنيا.
غاية الدين إحياء الروح
علينا ألاّ نواجه هذه الأجواء مواجهة تقليدية سطحية، فلو كانت الكلمة الواحدة من الدعاء تحتاج أن تردِّدها عشر مرّات حتى تدخل في أعماقك، وفي قلبك، فافعل. فليس المهم الصفحات وعددها، ليس المطلوب هنا من الدعاء الاستظهار.
فالدعاء الذي لا يفتح قلبك ليس من الضروري أن تقرأه، إنّما يجب أن يفتح الدعاء قلبك.
انظروا ماذا فعلنا بالصلاة. لقد جمّدنا الصلاة حتّى صارت مجرّد حركات تقليدية، وجمّدنا الصوم حتّى أنّ أحدنا يقنع الثاني بالصوم ليضعف جسده، وجمّدنا الحجّ وجعلنا سفرة سياحيّة أو تجاريّة، والأمر عينه حدث في ما يخصّ الدعاء.
إنّ الدعاء هو أن تدعو الله بقلبك قبل أن تدعوه بلسانك. جاء في الحديث: "الدعاء مخّ العبادة" أي مثل المخ بالنسبة للجسم، فلا قيمة للجسم بدون المخّ، فإذا كان المخّ جامداً فالجسم سيجمد بطبيعة الحال.
وفي الحال الحاضرة، فقدنا حياتنا الروحية، فليس هنالك روح لا في علاقاتنا، ولا في أفكارنا، ولا في ممارستنا الدينيّة أيضاً. فالدين روح قبل أن يكون فكراً. صحيح أنّ الدين سياسة ونظام اقتصادي واجتماعي، ولكنّ للدين أيضاً علاقة عميقة تبثّ الروح في كلّ هذه العناصر. لا يمكن أن يكون المرء مسلماً إذا كان لديه فقط فكر الإسلام دون أن تكون لديه روح الإسلام، ولا يمكن أن يكون مسلماً إذا خرج في ألف تظاهرة من أجل الإسلام، ولكن بقلب قاس لا يحمل في داخله الانفتاح على الله. إنّ قيمة العمل هي بمقدار ما نجعل مشاعرنا، وحياتنا، وقلوبنا، تنبض بالله ولله.
في صلاة الليل، أو دعاء الليل، أو في صلاتنا التي نصلّيها علينا أن نحاول ذرف بعض قطرات من الدمع من عيوننا خوفاً من الله وخشية منه، فهذه الدموع تغسل القلوب بأحسن ما يمكن أن يغسل الإنسان قلبه، لهذا يجب على الشباب أن يركّزوا في أنفسهم الجانب الروحيّ الذي يربطهم بالله، فكلّما قويت وتعمّقت مشاعرهم وأحاسيسهم بالله أكثر استطاعوا أن يكونوا مسلمين، أما إذا أخذوا الإسلام مجرّد مادة قانونية، فلا يطلق على هذا التوجّه اسم إسلام..!
لهذا فلنحاول ـــ قدر الإمكان ـــ أن نهيّئ المزيد من الأجواء الروحية، ولنجلس مع الله، سبحانه وتعالى، جلسات طويلة حتى نستطيع أن نعيش مع الله في الدنيا لنضمن حياة طيّبة مع الله سبحانه وتعالى في الآخرة.
19 ـــ "يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبْ، يا إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَمَالِكَ رِقِّي، يا مَنْ بِيَدِهِ ناصِيَتي، يا عَلِيماً بِضُرِّي وَمَسْكَنَتِي، يا خَبِيراً بِفَقْرِي وَفَاقَتِي".
في هذه الكلمات ينفتح الإمام (عليه السلام) بروحه ومشاعره وأحاسيسه على الله، سبحانه وتعالى، بعد أن يسأله في ما تقدَّم من فقرات أن يغفر ذنبه وأن يغفر جرمه، وأن يوفّر حظّه من كلّ برّ ينشره ومن كلّ رزق يعطيه. كان يتطلّع إلى الله، سبحانه وتعالى، ليجعل حواسه خالية من كلّ ذنب، وأن يجعلها مفتوحة لكلّ خير من الله تعالى. وكان يريد أن يعيش ألطاف الله في ما يغفره من ذنوب، وفي ما يستره من عيوب، وفي ما يعطيه من عطاء.. تلك كانت الفقرات الأولى.
الله كافل الحاجات
أمّا في هذه الفقرات، فإنّه يريد من الله، سبحانه وتعالى، أن يجعله إنساناً متحرّكاً في خدمته، فهو يريد أن يقول لله: إنّي حينما أفكّر بالدنيا فلا أفكّر بها من خلال حاجاتي، لأنّك تكفّلت بها، فقد تكفّلت بحاجات المؤمنين كما تكفّلت بحاجات الكافرين، وجعلت لكلِّ إنسانٍ رزقاً يأكله، فلماذا نفكّر بالرّزق كثيراً؟! وجعلت لكلِّ إنسان عمراً يعيشه فلماذا نحمل همَّ العُمر كثيراً؟! وجعلت... وجعلت... فلماذا نحمل همّ تعقيدات الحياة؟! لقد تكفّلت بكلّ شيء يا ربّ، وإذا كنّا نطلب منك فإنّا لا نلحّ بطلبها، وكلّ ما نطلبه منك أن تجعل حياتنا كلّها في خدمتك.
أن يشعر كلّ واحد منّا بأنّ عليه أن يخدم الله، والله ليس بحاجة لخدمة أحد، فهو غنيّ عن كلّ أحد، وعن كلّ عبادة، وعن كلّ طاعة.. فهو الغنيّ، ولكن خدمتنا لله في خدمتنا لشريعته ولدينه ولعباده، وهناك فرق بين أن تعيش لتخدم عبداً من عباد الله، أو أن تخدم كفراً، أو ضلالاً، أو فسقاً، وبين أن تعيش لتخدم أولياء الله، ولتخدم الإسلام، والهدى، والحقّ، والعدل، في كلّ مجالات الحياة.
هذه الأجواء التي كان يجلس فيها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بين يديّ الله ليقول: يا ربّ، إنّ حياتي ـــ كمسلم ـــ كلّها في خدمتِك، وكلّ أحلامي هي أن تكون حياتي في خدمتك، وكلّ هدفي هو رِضاك فأنا أعمل لأرضيك، فأتَّبع سبيل الحلال ولا أتَّبع سبيل الحرام..
ونلاحظ كلمة (يا ربّ) تكرّرت أكثر من مرّة، والسبب في ذلك هو أنّ الإنسان ينتبه للكلمة أكثر كلّما تكرّرت أكثر، فيتفاعل عاطفياً ويشعر بأنّه بين يديّ ربّ، يناجيه وكأنّه مكشوف لناظره، إنْ كان لا تدركه الأبصار، فإنّما تدركه قلوب المؤمنين.
"يا إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ" حينما نفكّر بألوهية الله، فعلينا أن لا نفكّر بألوهية أحدٍ سواه، وحينما نشعر أنّنا عبيد الله، فعلينا أن نتجرّد من العبودية لأيِّ أحدٍ سواه، ومن الخضوع لغيرِ الله.
حذار أن تقول: (يا سيّدي) مخاطباً الله، ثم تقول: (يا سيّدي) مخاطباً غير الله؟
"وَمَالِكَ رِقِّي" والرقّ هو العبودية. فما معنى أن تقول لله أنّك مالك رقّي؟ معنى ذلك أنّ بإمكانك أن تخاطب أيَّ شخص فتقول له: أنا حرّ، ولست مرغماً على أن أطيعك وأخضع لك. ولكن عندما تقِفُ بينَ يديّ الله فأنتَ تُخاطبه يا إلهي، إنّك تملك حياتي وكياني وكلّ شيء يخصّني، حتّى الأموال التي ملّكتني، لأنّ الأموال من خلقك كما أنا من خلقك.
وعندما تشعر أنّ الله يملك رقّك وعبوديّتك، فلا تفكّر بأن تكون لك حريّة أمامه.
"يا مَنْ بِيَدِهِ ناصِيَتي" الناصية: هي أعلى الجبهة. ومَن يملك هذا الموضع الأعلى من الإنسان فكأنّما يملك الإنسان كلّه، بما يحيط به.
"يا عَلِيماً بِضُرِّي وَمَسْكَنَتِي، يا خَبِيراً بِفَقْرِي وَفَاقَتِي". يا ربّ: عندما أعيش الضرّ والمَسْكَنة في حياتي فلستُ بحاجة لأنْ أخبرك لأنّك تعلم مِنْ نفسي ما لا أعلمه.
20 ـــ "يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبْ، أَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ وَقُدْسِكَ وَأَعْظَمِ صِفَاتِكَ وَأَسْمَائِكَ، أَنْ تَجْعَلَ أَوْقَاتِي في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِذِكْرِكَ مَعْمُورَةً، وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً، وَأَعْمَالِي عِنْدَكَ مَقْبُولَةً، حَتَّى تَكُونَ أَعْمالِي وَأَوْرَادِي كُلُّهَا وِرْداً واحِداً، وَحالِي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَداً".
ماذا يريد الإمام أن يطلب؟ وماذا يريد منّا أن نطلب؟
الذكر المقبول
إنّه يسأل ويقسم عليه: بحقّك وقدسك، بما لكَ من الحقّ على عبادك، وكلّ عبادك خاضعون لما لكَ من الحقّ عليهم، لا حقّ لأحد عليك، ولك الحقّ على كلّ أحد، لأنّ كلّ عبد مخلوق لك، وأنتَ الخالق لكلّ عبد "أَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ وَقُدْسِكَ وَأَعْظَمِ صِفَاتِكَ وَأَسْمَائِكَ، أَنْ تَجْعَلَ أَوْقَاتِي في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِذِكْرِكَ مَعْمُورَةً" يا ربّ اجعل وقتي عندما أستيقظ في الصباح، وعندما أبدأ عملي، وعندما أبدأ علاقاتي ونشاطاتي، وعندما أسافر أو أُمارس كلّ عمل، أن تجعل وقتي في كلّ ذلك بذكرك معموراً.
ولا يعني هذا أن نمسك المسبحة ونُسَبِّح: (سبحان الله والحمد لله)، بل أن يكون ذكر الله في قلوبنا في كلّ أوقاتنا، وأن لا ننسى الله ونحن نمارس كلّ نشاطات الحياة، ونذكر الله لنجعله أساساً للسير على الخطّ الصحيح.
وقد ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ ذكر الله لا يعني: "سبحان الله والحمدُ لله ولا إلهَ إلاّ الله واللهُ أكبر" بل هو أن نذكر الله عند كلّ حرام فنتركه، ونذكر الله عند كلّ واجب فنفعله.
الغاية القصوى
"وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً" ماذا تعني خدمة الله؟ وكيف السبيل إليها؟ خدمة الله هي أن نقوم بما أوجبه علينا من الطاعات، وأن نلتفت إلى كلّ ملهوف فنردّ لهفته، وإلى كلّ محتاج فنقضي حاجته، وإلى كلّ معروف فنأمر به وإلى كلّ منكر فننهي عنه، وإلى كلّ ذي بلاء فنفرّج عنه بلاءه. معنى أن تخدم الله هو أن تخدم عباد الله، فالخلق كلّهم عيال الله وأحبُّهُم إليه مَن أدخلَ على قلب غيره السرور.
"وَأَعْمَالِي عِنْدَكَ مَقْبُولَةً" أن لا يكون فيها رياء، أو دجل، أو غشّ، أو مَنّ على الناس قال تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}(1)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ}(2) فالعمل إذا ما خالطه رياء، أو غشّ، أو منّ، بطل وفسد.
"حَتَّى تَكُونَ أَعْمالِي وَأَوْرَادِي كُلُّهَا وِرْداً واحِداً" أي أن تكون كلّها لله، فليس هناك عمل لله ولغير الله في وقتٍ واحد، فإمّا أن يكون لله وإمّا أن يكون للشيطان، وحتى الأعمال التي يؤدّيها الشخص للناس تدخل في هذا الإطار، سواء كانت لأهلك، أو ابنك، أو جارك، أو أيّ شخص آخر، فإمّا أن يكون العمل لله وإمّا لغير الله أي الشيطان. إنّ العمل الحلال هو الذي تمارسه من أجل أن يعينك على عمل خير أو يمنعك من ممارسة حرام، كأنْ تمارس شهواتك في الحلال في سبيل أن تمتنع عن ممارستها في الحرام.
كلّ الساعات لله
ويخطئ بعض الناس في القول: "ساعة لك وساعة لربّك" وهم يعنون أنّك بذلك تستطيع أن تفعل ما تشاء في ساعتك، وتعود لتعبد الله في ساعته. إنّما معنى (ساعة لك) هو أن تمارس ما أباحه الله لك، وصاحب الدعاء الإمام عليّ (عليه السلام) يقول: (ينبغي أن يكون للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يروم فيها معاشه، وساعة يخلِّي بين نفسه وبين لذّاتها في غير محرم، فإنّها عون على تينك الساعتين). أي أنّ الساعة التي تمارس فيها ما تشتهيه نفسك في ما أحلّ الله أن تمارسه، تعينك على الساعتين الأخريين، لأنّ القلب يحتاج للانفتاح على ما يحبّ.
"أَنْ تَجْعَلَ أَوْقَاتِي في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِذِكْرِكَ مَعْمُورَةً، وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً، وَأَعْمَالِي عِنْدَكَ مَقْبُولَةً، حَتَّى تَكُونَ أَعْمالِي وَأَوْرَادِي كُلُّهَا وِرْداً واحِداً". الورد: هو العمل الذي يتابعه الإنسان، "وَحالِي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَداً" أظلّ في خدمتك يا ربّ دائماً. الله يقول: أنا أفضل شريك، (مَنْ عَمِلَ لي ولغيري جعلته لغيري) يعني إذا أشركت الله مع الشيطان، فالله يقول لك: إنّ عملك كلّه للشيطان، فإمّا أن تعمل لي وحدي، أو لا، لأنّه لا يجتمع في قلبك حبّ الله وحبّ الشيطان في وقتٍ واحد.
12 ـــ "يا سَيِّدِي يا مَنْ عَلَيْهِ مُعَوَّلِي، يا مَنْ إِلَيْهِ شَكَوْتُ أَحْوَالِي، يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبْ، قَوِّ عَلَى خِدْمَتِكَ جَوارِحِي، وَاشْدُدْ عَلَى الْعَزِيمَةِ جَوَانِحِي، وَهَبْ لِيَ الْجِدَّ فِي خَشْيَتِكَ، وَالْدَّوامَ فِي الاتِّصالِ بِخِدْمَتِكَ، حَتَّى أَسْرَحَ إِلَيْكَ فِي مَيادِينِ السَّابِقِينَ، وَأُسْرِعَ إِلَيْكَ فِي الْمُبَادِرِينَ وَأَشْتَاقَ إلَى قُرْبِكَ فِي الْمُشْتَاقِينَ، وَأَدْنُوَ مِنْكَ دُنُّوَ الْمُخْلِصِينَ، وَأَخَافَكَ مَخافَةَ الْمُوقِنِينَ، وَأَجْتَمِعَ فِي جِوارِكَ مَعَ الْمُؤْمِنينَ".
الاتصال الدائم
"يا سَيِّدِي". من جديد، يتصاعد الجانب الروحيّ، "يا مَن عليه معولي" لا أعول على أحد غيرك، لأنّه ليس هناك أحد يملك ويعرف الشيء الذي تملكه وتعرفه أنتَ، "يا مَنْ إِلَيْهِ شَكَوْتُ أَحْوَالِي" لأنّك تعرف أحوالي وتستطيع أن تردّ إليّ شكواي، "قَوِّ عَلَى خِدْمَتِكَ جَوارِحِي" الجوارح هي الأعضاء، يقول له: يا ربّ أنا أريد أن أطيعك وأعمل في سبيلك وأُجاهد وكلّ طاقاتي لك، لكن في بعض الحالات قد تضعف جوارحي، فقوِّ جوارحي حتّى أستعين بقوّتها على طاعتك، "وَاشْدُدْ عَلَى الْعَزِيمَةِ جَوَانِحِي" جوانحي هي وجداني وداخلي، ربّما تضعف نيّتي الطيّبة ويضعف قصدي الطيّب، "وَهَبْ لِيَ الْجِدَّ فِي خَشْيَتِكَ" عندما أخشاك أن لا أكون هازلاً، أن أكون جادّاً، أن لا تكون قضيّة خشيتك طارئة في حياتي، بل أن تملأ كلّ جوانب حياتي "وَالْدَّوامَ فِي الاتِّصالِ بِخِدْمَتِكَ " عندما تعطيني قوّة الأعضاء وقوّة العزيمة، فإنّي سآخذ حرّيتي يا ربّ، لأسرح إليك في ميادين السابقين، الذين يسبقون الناس إليك، لا الذين يتسابقون على كسب المال أو الجاه، لأنّك قلت {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}(1) وقلت: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}(2).
" وَأُسْرِعَ إِلَيْكَ فِي الْمُبَادِرِينَ" أتسلم زمام المبادرة في الوصول إليك. "وَأَشْتَاقَ إلَى قُرْبِكَ فِي الْمُشْتَاقِينَ" لأنّ الإنسان الذي يوفِّقه الله للخير وللعمل الصالح فإنّه لا يفكّر حتّى للدنيا، فنحن نخاف من الموت لأنّنا لم نهيّئ أنفسنا له، "وَأَدْنُوَ مِنْكَ دُنُّوَ الْمُخْلِصِينَ" أدنو منك بقلبي، وعملي، وأهدافي، ومشاعري، وأحاسيسي. فلستَ في مكان، يا ربّ، حتّى أدنوَ من مكانك، ولكنّ الناس يتقرّبون إليك بالعمل، والفكر والروح.
"وَأَخَافَكَ مَخافَةَ الْمُوقِنِينَ" لا مخافة المشكّكين، الذين يشكّون في وجود الجنّة والنار، وفي وجود الله، بل أنا أخافك مخافة الموقنين الذين يعرفون عظمة ثوابك وعظمة عقابك، "وَأَجْتَمِعَ فِي جِوارِكَ مَعَ الْمُؤْمِنينَ" إذا كنت في الدنيا ترتاح للفاسقين، وتستأنس للكافرين، وتعيش مع الظَّالمين، وتنفر من المؤمنين، فإنّك لستَ أهلاً لأنْ تعاشر المؤمنين في الآخرة، فاعرفوا أنّ الإنسان يحمل في قلبه جنّته وناره "إذا أردتَ أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإن كان قلبك يوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، ففيك خير والله يحبّك، وإذا كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَن أحبّ".
إذا أردت أن تجتمع في الآخرة في جوار الله مع المؤمنين، فيجب أن تكون حياتك في الدنيا مع المؤمنين، لتُشهدَ الله على أنّك صادق في قلبك تتمنّى أن تعيش في جواره مع المؤمنين، بعض الناس الذين يصبحون أغنياء لا يعاشرون المؤمنين لأنّ المؤمنين لا يعرفون الرقص الغربيّ الحديث، أو لبس الملابس الغربية الحديثة، أو شرب الخمر بطريقة عصرية، وهؤلاء مهما قرأوا دعاء كميل بلسانهم فإنّهم يرفضون الدّعاء بقلوبهم، وهنالك بعض الأغنياء والوجهاء، إذا دخل إلى مجلسهم رجل مؤمن وفقير ويرتدي ملابسه القرويّة فإنّهم يتضايقون منه، حتّى لو كان من أولياء الله الخُلَّص، تماماً كما يخجل بعض الناس من الأطبّاء أو المهندسين أو المحامين من أبويهم، لكونهما من القرويين!!!
هكذا بعض الناس، نفوسهم صغيرة، فالإنسان الذي يُقَيِّم الناس بملابسهم، أو بأموالهم، أو بمراكزهم، فهو ليس بإنسان، بل هو عبد للملابس، أو المراكز، أو المال، لأنّ عليك أن تقيِّم الإنسان بروحيّته أو بعمله.
الإمام عليّ (عليه السلام) يقول: "قيمة كلّ امرئ ما يحسنه" حتّى لو كان فقيراً، فإذا كان مسلماً ومؤمناً فينبغي أن تفتح قلبك للمسلمين والمؤمنين، إذا كان للمؤمنين سلبيّات، فكيف تصبر على سلبيات الفَسَقة، فالفَسَقة كثيرو السلبيات والانحرافات، بينما تصبر عليهم وترى أخطاءهم صغيرة. فإذا كنت كذلك فيجب أن تراجع نفسك لأنّ في قلبك وفي إيمانك مرضاً.
22 ـــ "الَّلهُمَّ وَمَنْ أَرَادَنِي بِسُوءٍ فَأَرِدْهُ، وَمَنْ كادَنِي فَكِدْهُ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَحْسَنِ عَبِيدِكَ نَصِيباً عِندَكَ، وَأَقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ، وَأَخَصِّهِمْ زُلْفَةً لَدَيْكَ، فَإِنَّهُ لا يُنالُ ذلِكَ إلاَّ بِفَضْلِكَ، وَجُدْ لِي بِجُودِكَ، وَاعْطِفْ عَلَيَّ بِمَجْدِكَ، وَاحْفَظْنِي بِرَحْمَتِكَ، وَاجْعَلْ لِسانِي بِذِكْرِكَ لَهِجَاً، وَقَلْبِي بِحُبِّكَ مَتَيَّماً، وَمُنَّ عَلَيَّ بِحُسْنِ إجَابَتِكَ، وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي وَاغْفِرْ زَلَّتِي، فَإِنَّكَ قَضَيْتَ عَلَى عِبادِكَ بِعِبادَتِكَ، وَأَمَرْتَهُمْ بِدُعائِكَ، وَضَمِنْتَ لَهُمُ الإِجَابَةَ".
" اللَّهُمَّ" يطلب، ويقول: يا إلهي هذه الحياة فيها كثير من الناس يكيدون لي، ويريدون بي سوءاً، وأنا لا ألجأ إلاّ إليك، {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(1).
"الَّلهُمَّ وَمَنْ أَرَادَنِي بِسُوءٍ فَأَرِدْهُ، وَمَنْ كادَنِي فَكِدْهُ" يعني مَن تحايل ونصب المؤامرات لي فكده أيّاً كان، فمنك الخلاص والإنقاذ والحفظ بيدك، "وَاجْعَلْنِي مِنْ أَحْسَنِ عَبِيدِكَ" أحسن عبيدك ليس في المال أو الجاه، بل "مِنْ أَحْسَنِ عَبِيدِكَ نَصِيباً عِندَكَ" أن تكون حسناتي وحظّي وموقعي كبيرة عندك، "الّلهُمَّ ذلِّلْني في نفسي وعَظِّمْنِي عندك" ليس المهم أن يهتف الناس لك، بل المهمّ أن يعطيك الله سبحانه وتعالى، هذه هي العظمة والوجاهة، إذا أردت أن تصبح وجيهاً قل "الَّلهُمَّ اجعلني عندك وجيهاً في الدنيا والآخرة"، ليس وجيهاً عند أهل القرية أو أهل المنطقة، لأنّ الذي يصبح وجيهاً لدى أهل القرية سيلعب ويلفّ ويدور ويحاول أن يمشيَ مع الزعيم ويتزلَّف له.
المنزلة الفضلى
"وَأَقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ" أن تكون منزلتي منك يا ربّ أقرب المنزلات، يعني عندما أطلب الطموحات والدرجات العالية، أطلبها لديك وليس لدى الناس لأنّ هذه الدرجات التي تعارف عليها النَّاس كلّها ستتكسَّر وتتهاوى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً*فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً*لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً}(2) إذاً، حتّى الجبال تتكسَّر وتتحوّل إلى أرض ملساء، فلن تنفعك درجاتك في السّلم السياسي أو الاجتماعي؛ فكلّ السلالم تتحطّم ولا يبقى سوى السلم الذي تنطلق فيه بأعمالك إلى الله سبحانه وتعالى.
"وَأَخَصِّهِمْ زُلْفَةً لَدَيْكَ" فالزلفة هي القربى، أخصّهم هي أن تكون لي عندك خصوصية، "فَإِنَّهُ لا يُنالُ ذلِكَ إلاَّ بِفَضْلِكَ" إنّ هذا المقام لا أناله إلاّ بفضلك، "وَجُدْ لِي بِجُودِكَ" فأنتَ الجود فأعطني من جودك يا ربّ، "وَاعْطِفْ عَلَيَّ بِمَجْدِكَ" أنتَ العطوف والحنون وأنا بحاجة إلى أن تعطف عليَّ بمجدك، "وَاحْفَظْنِي بِرَحْمَتِكَ" أنا أعيش يا ربّ أمام البلاء وأمام الأخطار وأُريد منك الحفظ، وأنتَ خير الحافظين.
" وَاجْعَلْ لِسانِي بِذِكْرِكَ لَهِجَاً" اجعلني يا ربّ أذكرك بلساني ذكر الواعين، لا ذكر التقليديين الغافلين، "وَقَلْبِي بِحُبِّكَ مَتَيَّماً" اجعلني أعيش حبّك كما يعيش العاشق حبّه لمن يحبّه، مُتَيَّم، إذا امتلأ قلبي بحبّك فإنّ معنى ذلك أن تكون كلّ حواسي في طريق محبّتك لا في طريق محبّة غيرك.
"وَمُنَّ عَلَيَّ بِحُسْنِ إجَابَتِكَ"، أي، يا ربّ تفضَّل عليَّ بالإجابة الحسنة على ما سألت ورجوتُكَ، ولا تردّني عن بابك خائباً أو خسران.
"وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي وَاغْفِرْ زَلَّتِي" قد أعثر يا ربّ وأقع، فاجعلني أقوم من عثرتي، "فَإِنَّكَ قَضَيْتَ عَلَى عِبادِكَ بِعِبادَتِكَ" أن يكونوا عباداً لك، أن يعبدوك في صلاتهم وصومهم وحجّهم وعلاقاتهم وتأييدهم ورفضهم، أن يعبدوك في كلّ شيء في حياتهم، "وَأَمَرْتَهُمْ بِدُعائِكَ، وَضَمِنْتَ لَهُمُ الإِجَابَةَ"، ومَنْ أصدق من الله قيلا!؟ ومَنْ أوفى بعهده من الله؟!.
23 ـــ "فَإِلَيْكَ يا رَبِّ نَصَبْتُ وَجْهِي، وَإِلَيْكَ يا رَبِّ مَدَدْتُ يَدِي، فَبِعِزَّتِكَ اسْتَجِبْ لِي دُعائِي وَبَلِّغْنِي مُنايَ، وَلاَ تَقْطَعْ مِنْ فَضْلِكَ رَجَائِي، وَاكْفِنِي شَرَّ الْجِنِّ وَالإِنْسِ مِنْ أَعْدَائِي، يا سَرِيعَ الرِّضا، اغْفِرْ لِمَنْ لا يَمْلِكُ إلاّ الدُّعاءَ، فَإِنَّكَ فَعَّالٌ لِمَا تَشاءُ، يَا مَنِ اسْمُهُ دَواءٌ، وَذِكْرُهُ، شِفاءٌ، وَطَاعَتُهُ غِنَىً، ارْحَمْ مَنْ رَأْسُ مالِهِ الرَّجَاءُ، وَسِلاحُهُ الْبُكَاءُ، يا سابِغَ النِّعَمِ، يا دَافِعَ النِّقَمِ، يا نُورَ الْمُسْتَوْحِشِينَ فِي الظُّلَمْ، يا عالِماً لا يُعَلَّمُ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَافْعَلْ بِي ما أَنْتَ أَهْله، وَصَلَّى اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَالأَئِمَّةِ الْمَيَامِين مِنْ آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً".
"فَإِلَيْكَ يا رَبِّ نَصَبْتُ وَجْهِي، وَإِلَيْكَ يا رَبِّ مَدَدْتُ يَدِي، فَبِعِزَّتِكَ اسْتَجِبْ لِي دُعائِي".
"النصب" رفعك شيئاً تنصبه قائماً منتصباً. وكلّ شيء رفع واستقبل به شيء، فقد نصب(1).
والوجه، هو ما يستقبل به الشيء.
والإمام (عليه السلام)، يريد أن يقول إنّي رفعت، أو جعلت رأسي قائماً مُيمِّماً بوجهي شطرك لا شطر أحد غيرك. هذا الوجه الذي يمثّل ذاتي، وكياني، وحقيقتي، قد جعلت له وجهة واحدة، هي الوجهة التي تقود إليك ولا تقود إلى أحد سواك، تماماً كما عندما نقول في الصلاة نقلاً عن لسان نبيّ الله إبراهيم الخليل. {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(2). أي سلّمت زمام نفسي وكلّ حياتي ووجودي لله وحده سبحانه وتعالى، لا أُشرك به شيئاً. والإمام يؤكّد المعنى نفسه، فهو يقول: يا ربّ لقد نصبتُ حياتي، وكياني، وكلّ أعمالي لك، أي جعلتها قائمة لك لا لأحد سواك.
وكما أنا، يا ربّ، أتطلّع إليك بكلّ كياني، فهذه يدي، أيضاً ممدودة لك، تسألك ما أنت أهلٌ لأن تجود به عليّ من كرمك، وجودك، وحنانك، ومنِّك، وفضلك، ورحمتك. فالإمام يضع نفسه موضع المستعطي، إمعاناً في توكيد موقفه الذليل بين يديّ الله سبحانه وتعالى، وإمعاناً منه في توكيد فقره وحاجته إلى الله تعالى، وإمعاناً منه، في استدرار رحمة الله تعالى وحنانه ومنَّه ورحمته.
ولأنّ حالي هي هذا الحال، أسألك يا الله أن تستجيب دعائي، وتبلِّغني مُناي، وأنْ "لاَ تَقْطَعْ مِنْ فَضْلِكَ رَجَائِي"، أي لا تحجبني عنك، كي لا تضعف نفسي ويقسو قلبي، "وَاكْفِنِي شَرَّ الْجِنِّ وَالإِنْسِ مِنْ أَعْدَائِي"، أي كفّ عنّي الشرور التي يمكن أن تلحقني من عالَمَي الجنّ والإنس، من شياطين الجنّ والإنس، وذلك بتحصين نفسي، ومعالجة عيوبها، وإعانتي على نفسي وعلى طاعتك، يا الله.
"يا سَرِيعَ الرِّضا، اغْفِرْ لِمَنْ لا يَمْلِكُ إلاّ الدُّعاءَ، فَإِنَّكَ فَعَّالٌ لِمَا تَشاءُ".
يقول الإمام (عليه السلام): يا ربّ أنا ليس لي ثقة بعملي، لأنّه قد يكون فيه غشّ كثير، فالدّعاء ضمانة بيدي. كما أنّ كلّ شيء بيدك، يا الله، فافعل بي ما أنت أهله، ولا تفعل بي ما أنا أهله.
"يَا مَنِ اسْمُهُ دَواءٌ، وَذِكْرُهُ، شِفاءٌ".
عليّ (عليه السلام) في هذه الكلمات يقدّم لنا حقيقتين مهمّتين؛ الأولى: أنّ اسم الله دواء، والثانية: أنّ ذكر الله شفاء.
وليس المراد بالاسم هنا لفظ كلمة الله سبحانه وتعالى، فإنّ الألفاظ لا قيمة لها بنفسها، ولا حقيقة لها بذاتها يمكن أن يترتّب عليها أثر. وإنّما حقيقة اللّفظ وقيمته، بما يحكي عنه، ويدلّ عليه. فالأسماء إنّما توضع لتشير إلى المسمّى، وهي إن استحقّت قيمة ما، فإنّ ذلك لا يعود إليها نفسها، وإنّما يعود إلى المسمّى الذي تدلّ، أو تشير، أو تكشف، وتحكي عنه.
من هنا، يتبيّن، لنا، أنّ الاسم ـــ كاسم ـــ لا حقيقة ذاتيّة له يمكن أن تترتّب عليها الآثار. إذاً، كيف يمكن أن نفسّر قول عليّ بأنّ اسم الله تعالى تترتّب عليه آثار كآثار الدواء. أي كما أنّ الدواء له حقيقة ذاتية تتمثّل في إشفاء الناس من بعض الأمراض التي هي، في الأصل، موضوع لها، فهل اسم الله كاسم من قبيل هذا الدواء، أم أنّ الأمر مختلف. بالتأكيد، إنّ الأمر مختلف. فإذا كان تناول جرعة الدواء مع الماء يمكن أن يحدث الشفاء من المرض، فإنّ إذابة اسم الله في كوب من الماء لا يمكن أن تحدث الشفاء، لأنّ الاسم متى ذاب لا تعود له حقيقة حتّى حقيقة اللّفظ المكتوب، كما أنّ الذي يذوب هو الحبر، وليس الاسم. وبالتالي، إذا ما نسبنا أيَّ فاعلية للاسم في هذه الحالة، إنّما ستعود، حقيقة وواقعاً، إلى الحبر، وإلى ما ليس له حقيقة ووجود وهذا محال.
من هنا، نخلص إلى نتيجة أساسية وهي أنّ اسم الله لا ريب في أنّه دواء شاف، لكنّ المراد بالاسم هنا، ليس لفظ الاسم، أو كلمة الاسم، وإنّما حقيقة الاسم ومصداقه، أي الله نفسه تعالى.
وإذا كان للاسم من وظيفة، فوظيفته الأساسية، أن يشكّل مرتكزاً للارتباط والانشداد إلى المسمّى، فنحن عندما نحاول التلفّظ باسم الله (عزّ وجلّ)، علينا أن لا نقف عند تخوم الأحرف أو الكلمات، بل أن نتجاوزها إلى ما تكشف عنه من آفاق ومعان. علينا أن نستعين بالاسم، لكي نصل إلى المسمّى، أي إلى الله، سبحانه وتعالى. عندها، وعندها فقط تصبح للاسم فاعليته. فكلّما تعوَّد الفكر، وتعوَّد الوجدان، والشعور، والإحساس على الربط بين الاسم والمسمّى، بين اسم الله والله (عزّ وجلّ)، قَوِيَ الارتباط بين الاسم والمسمّى على مستوى الفكر والوجدان، والرّوح، والشعور.. الخ. وبالتالي كلّما قَوِيَت رابطة التداعي بين اسم الله وذات الله حتى يبدوَ معها وكأنّ الاثنين أمر واحد.. عندها يصبح الاسم دواء.. دواء بما هو الله، سبحانه وتعالى، دواء بما يحدثه ذكره من تحوّلات وتغيّرات على صعيد القلب، والعقل، والروح، والوجدان. لذا، كان ذكره، سبحانه وتعالى، شفاء. فالذكر، إنّما قيمته وحقيقته تقوم على إيجاد هذه الرابطة وهذه اللحمة بين الاسم والذات التي يحكي عنها هذا الاسم، وما يمكن أن يترتّب عليها من آثار ونتائج. ولذا، عبَّر عليٌّ (عليه السلام) عن الذكر بالشفاء، وكأنّ الذكر هو بمثابة تناول الدواء. أي إذا كان اسم الله هو الدواء، فإنّ الدواء لا يحدث الأثر المطلوب منه وهو الشفاء إلاّ بتناوله. فإنّ وجود الدواء ليس كافياً بنفسه لحدوث الشفاء، بل لا بدّ من تناول الدواء وبالطريقة المنتظمة، أي وفق برنامج العلاج وتواقيته. كذلك الأمر بالنسبة إلى اسم الله تعالى فهو دواء، لكن ذكره، سبحانه وتعالى، هو بمثابة تناول لهذا الدواء، لكن ليس كيفما كان، وأنَّى كان، وإنّما بموجب البرنامج والنظام الذي يصفه الطبيب ومخترع الدواء، وفي هذه الحالة هو الله سبحانه وتعالى.
وبرنامج الله الشافي، نظامه الشافي، هو شريعته الغرّاء، وأخلاقه التي لا يعلو مبادئها وقيمها شيء. ضوابطه، أوامره ونواهيه كلّ هذه الأمور هي بمثابة ذكر حقيقي لله سبحانه، ذكر عملي، لا مجرّد لقلقلة لسان، أو مجرّد استظهار للأحرف والكلمات.
نعم، لنذكر الله، سبحانه وتعالى، بألسنتنا لكن ليكون ذلك وسيلة لأمر آخر هو أن ندخل الله، سبحانه وتعالى، إلى قلوبنا، إلى عقولنا، إلى كلّ قطعة من قطع كياننا ووجودنا، بحيث يغدو الله، سبحانه وتعالى، هو كلّ شيء في حياتنا ووجودنا، عندها، يصبح اسم الله، سبحانه وتعالى، دواءً وذكره شفاءً. فلنذكر الله بأقوالنا، وأفعالنا، وسلوكنا، ومشاعرنا وأفكارنا. وليكن كلّ شيء فينا ذاكراً لله تعالى بالعقل، حتى يتحوّل وجودنا نفسه إلى ذكر.
وإذا أردنا أن نتأكّد أنّنا نذكر الله تعالى فعلاً، فلنفحص أفئدتنا. فإذا وجدناها مطمئنة، ساكنه تعيش بسلام، فنحن نذكره بالفعل لا بالقول فقط، لكن إذا وجدنا فيها الاضطراب، والقلق، والتمايل، والصراع. فإنّنا ما زلنا بعيدين عن ذكر الله تعالى، وما زال الله بعيداً عن قلوبنا. ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه المنزل: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(1). فالقلب الذي يسكنه الله سبحانه وتعالى، تسكنه الطمأنينة، ويسكنه السلام، وينعم بالهدوء والاستقراء، ورباطة الجأش. قلب يسكنه الله تعالى لا يمكن أن يعرف القلق، والعواصف، والاضطراب، والصراع، والحروب. لأنّ الله، سبحانه وتعالى، مصدر كلّ طمأنينة وسكينة، وخير وبركة. فهو النور، وهو وهّاب النُّور وحيث يحلّ تحلّ بهجة الأنوار، رونق الأنوار، طمأنينة الأنوار وتهاديها.. وحيث يحلّ النور لا محلّ للظلام وجنود الظلام. فإذا شئنا أن نقوى على قلق العصر، على أمراضنا الروحيّة وغير الروحيّة، على أسقامنا الأخلاقية، وعللنا الفكرية، واضطراباتنا النفسية والشعورية، فعلينا بإحياء ذكر الله، علينا أن نطويَ قلوبنا على محبّة الله تعالى، وذلك عن طريق تعمير حياتنا كلّها بذكره سبحانه وتعالى.
وإذا كان الواحد منّا لا يرتضي لنفسه إلاّ أن يسكن في المنازل الفخمة، والمجهّزة بأفضل الأثاث وأفخره، وأنسب التجهيزات، فإنّنا إذا شئنا أن نوطِّن الله، سبحانه وتعالى، في قلوبنا، فعلينا أن نهيّئ له هذا القلب حتى يصبح لائقاً بساكنه. فالله، سبحانه وتعالى، لا يسكن القلب القذر، الملوّث بالأخطار والذنوب. الله سبحانه وتعالى أجلُّ وأشرف وأكرم، وأعزُّ من أن يستوطن قلباً هو مرتع للشيطان. فلنطرد الشيطان وجنوده من قلوبنا. ولننظّف هذه القلوب من القاذورات التي لحقت بها.. لنحدث نقلة نوعيّة في قلوبنا، بحيث تصبح مؤهّلة ومستعدة لاستقبال وفد الله سبحانه وتعالى.
"وَطَاعَتُهُ غِنَىً"
نعم، في طاعة الله سبحانه وتعالى غنى عن كلّ شيء. أليس الله سبحانه وتعالى هو القائل في محكم كتابه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(1).
إنّ الله سبحانه وتعالى كافٍ عبدَهُ، أليس هو الغنيّ المطلق الذي تنتهي إليه كلّ الحوائج، وتنتهي إليه كلّ الأسباب.
والله، سبحانه وتعالى، هو وحده الذي يعطي الإنسان، إذا ما أطاعه، خير الدنيا والآخرة.
لكن كفاية الله، سبحانه وتعالى عبده لا تتحقّق إلاّ بشرط أساس هو أن ينقطع العبد بالكامل إلى ربّه، وحينئذٍ لا خوف عليه، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(2).
"ارْحَمْ مَنْ رَأْسُ مالِهِ الرَّجَاءُ"
إنّ العمل الذي لا يعرف الإنسان طبيعته، هل سيوصله إلى رضا الله أم العكس، هذا العمل، هذا العمل لا يكون رأسه مال، ولكن رجاء الله هو رأس المال، يقول الله في بعض الأحاديث القدسية: (من أحسن بك ظنّاً فحقّق ظنّه) فحسن ظننا بالله سبحانه وتعالى سيوصلنا من دون شك.
فرجاء العبد لله تعالى أثمن ما يمكن أن يوظّفه عند الله تعالى، إذ بدون هذا الرجاء لاسودت الدنيا في عينيه، ولغرق في الإحباط والقنوط واليأس.
لكنّ الرجاء يبقى اليد الممدودة من الله، سبحانه وتعالى للعبد، لكي ينتشله من محيط الظلمات، وأمواج اليأس والإحباط. بل أكثر من ذلك، إنّ ما يرجوه العبد عند الله لهو الأثمن، لأنّ ما عند الله باق، ولأنّ ما عند الله هو الأكمل.
ولذا نرى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، يناجي ربّه بقلبٍ ناضح بالرجاء، خافق به، قائلاً:
"يا مَنْ إِذَا سأَلَهُ عبدٌ أعْطاه، وإذا أمَلَّ ما عِنْدَهُ بَلَّغَهُ مُناه، وإذا أقْبَلَ عليهِ قَرَّبَهُ وأَدْناه، وإذا جاهَرَهُ بالعصْيان سَتَرَ على ذَنْبِهِ وغَطَّاه، وإذا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَبَهُ وَكَفَاه. إلهي، مَنِ الذي نَزَلَ بِكَ مُلْتَمِساً قَرَاك فما قَرَيْتَه؟ وَمَنِ الذِي أناخَ بِبابَكَ مُرْتَجِياً نَدَاك فمَا أَوْلَيْتَهُ؟ أَيَحْسُنَ أنْ أرْجِعَ عن بابِكَ بالخَيْبَةِ مَصْروفاً، ولستُ أعْرِفُ سِواكَ مَوْلَىً بالإحْسَانِ مَوْصُوفاً؟ كَيْفَ أرْجُو غَيْرك والخَيْرُ بيَدِك؟ وكَيْفَ أُؤَمِّلُ سِواكَ وَالْخَلْقُ والأمرُ لك؟ أَأَقْطَعُ رَجائي مِنْك، وقَدْ أَوْلَيْتَني ما لَمْ أسْألْهُ مِنْ فَضْلِك؟ أَمْ تُفْقِرُني إلى مِثْلِي، وأنا أَعْتَصِمُ بِحَبْلِك"(1).
فالإمام (عليه السلام) يبسط رجاءه بين يدي الله تعالى، مقدِّماً لنا مثالاً حيّاً للعبد الراجي، ألا فاقتدينا به.
"وَسِلاحُهُ الْبُكَاءُ"
عندما تجلسون بين يديّ الله لا تجلسوا بعيون جامدة وقلوب قاسية؛ اجلسوا بين يديّ الله بقلوبٍ منفتحة تفجّر الدموع في عيونكم، ذلك أنّ البكاء هو رسالة القلب مكتوبة بقطرات الدموع. البكاء الصادق الذي يحكي عمّا يختلج في القلب من مشاعر وحقائق، الذي يفيض عن القلب، إنّما يحكي قصّة هذا القلب، حرقة هذا القلب، وفرح هذا القلب، بزفرات الدموع الحارّة.
إنّ البكاء مرآة للقلوب الخاشعة والمنكسرة والمنفطرة، والمتألّمة، أمام الله ولله تعالى.
إنّ البكاء مرآة القلوب المتأمّلة، والمحرقة، بسكين الشعور بالذنب، والخطأ. إنّ البكاء مرآة للقلوب الراجية والمتأمّلة الرامية بعيونها إلى ما عند ربّها، خالقها، وبارئها. لذا، ولهذا كلِّه، كان البكاء سلاحاً بيد الإنسان المؤمن في كلّ حاله وأحواله. إذ كيف يمكن للعبد أن يقف بين يديّ الله تعالى ولا يذرف دمعة واحدة.. دمعة وَجْدٍ، أو تأوّه، دمعة فرح أو انكسار، دمعة خشوع وأمل.. وحده القلب الذي لا يشعر، ولا يدرك بين يديّ مَنْ يقف، ولماذا يقف، لا يمكن أن يفيض بالدمع. إنّ القلوب القاسية هي القلوب الساخطة الجاحدة نستعيذ بالله منها.
"يا سابِغَ النِّعَمِ(1)، يا دَافِعَ النِّقَمِ، يا نُورَ الْمُسْتَوْحِشِينَ فِي الظُّلَمْ"
عندما يدلهم اللّيل، وتكثر الظلمات، وتشعرون بالوحدة أمام ظلمات الباطل، والكفر، والبغي، عندما تعيشون في الظلمات، فلا تتركوها تزحف إلى قلوبكم لتسيطر على أفكاركم، وأرواحكم، ومواقفكم، بل انظروا إلى الله، وارفعوا رؤوسكم إليه، فإنّكم ستجدون النور من الله، الذي يزيل وحشتكم أمام الأعداء والبلاء، وأمام كلّ شيء، وأمام كلّ ظلم.
"يا عالِماً لا يُعَلَّمُ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَافْعَلْ بِي ما أَنْتَ أَهْله فإنّك أهلُ التقوى والمغفرة، ولا تفعل بي ما أنا أهله"، ويختم الإمام دعاءه بأنْ يسأل الله تعالى أن يتّخذ بحقّه ما يناسب ساحة قدسه تعالى من الرحمة والعفو والمغفرة لأنّه تعالى أهل التقوى والمغفرة"، لا أن يأخذه بما يناسب وضعه، لأنّه لو أخذه بما يناسب وضعه، لما استحقّ سوى العذاب.
فلسان حال عليٍّ (عليه السلام) يقول: أنت، يا ربِّ، أهل التقوى والمغفرة" أي بيدك أن تغفر، وتتوب، وتسامح لا بيد أحدٍ سواك. وحدك المؤهّل لأنْ تتجاوز عن السيّئات والأخطاء والمعاصي، فلأنَّك أنتَ الربّ الرحيم، الرحمن، الحنَّان، المنّان، المفضل، المعطي، الجواد، الكريم، الشفيق، العطوف..
بينما أنا، يا ربّ، أهلٌ للعذاب، أستأهل العذاب، لأنّي في مقام العاصي، والمذنب، والمقصِّر بحقّك وواجباتك.
ولذا، يا ربّ، أسألك بحقّ محمّدٍ وآل محمّد، أن تحاسبني بما أنتَ أهل له، لأنّ في ذلك نجاتي، ولا تأخذني بما أنا أهل لأنّ في ذلك خسراني وعذابي. وصلِّ على محمدٍ والأئمة الميامين من آله وسلَّم تسليماً كثيراً.
والحمد لله ربّ العالمين
(1) سورة الذاريات: 56.
(1) محمدي، الري شهري، ميزان الحكمة، ج3، ص 245، الدراسات الإسلامية، 1405 هــ ـ 1985.
(2) ابن منظور، لسان العرب، ج13، مادة مخخ، ص 44، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، طـ 3، 1413هـ، 1994م.
(3) م. ن، ص 44.
(1) سورة غافر: 69.
(2) محمّدي، الري شهري، ميزان الحكمة، ج3، باب الدعاء، ص 245، الدار الإسلامية، بيروت 1405 هـ ، 1985م.
(3) محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، حلقة (20)، ص77، دار الزهراء، بيروت، طـ 1، 1408 هـ 1988م.
(4) م. ن. ص 77.
(1) المجلسي، بحار الأنوار، ج93، ص 294.
(2) ميزان الحكمة، ج3، ص 245.
(3) المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص204 وميزان الحكمة، ج3، ص244.
(1) سورة الدخان: 4.
(2) هذه الرواية ذكرها ابن طاووس في الإقبال.
(1) مصادر هذه الترجمة يمكن ملاحظتها في الإعلام للزركلي: 6/93 وتهذيب التهذيب: 8/448، والإصابة (7503)، وجمهرة الأنساب (390)، والكامل لابن الأثير: 3/151، وتنقيح المقال ترجمة (9938)، وتأريخ الإسلام للذهبي: 3/293، والإقبال للسيد ابن طاووس: 706، والمصباح. كما قد ترجم له البحّاثة الحجّة المرحوم الخطيب السيد عليّ الهاشمي في كتاب صغير فذكر ترجمة وافية له، وذكر مصادر ترجمته بشكلٍ وافٍ عنوان كتابه (كميل بن زياد النخعي) مطبعة الإرشاد/ بغداد.
(1) سورة الإسراء: 20.
(1) سورة البقرة: 165.
(1) سورة الأنفال: 60.
(1) سورة فاطر: 15 ـ 17.
(1) لسان العرب، ج2، مادة جبر، ص 165 ـ 168، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، طـ 3، 1413، هـ 1993م.
(1) لسان العرب، ج9، ص 185 ـ 189 مادة عزز.
(1) م.ن، ج11، مادة قوم، 354 ـ 357.
(2) سورة فاطر: 10.
(3) سورة البقرة: 165.
(4) سورة المنافقون: 8.
(1) سورة الأعراف: 176.
(1) لسان العرب، مادة عظم، ص/278.
(1) لسان العرب، مادة علا، ج9، ص377 ـ 386.
(2) سورة الزمر: 67.
(3) سورة الزمر: 67.
(1) سورة الشورى: 11.
(2) سورة المائدة: 64.
(1) سورة الرحمن: 26 ـ 27.
(2) سورة القصص: 88.
(1) لسان العرب، مادة وسم، ج15، ص 301 ـ 303.
(2) أقرب الموارد؛ مادة ملأ.
(3) لسان العرب، ج5، مادة ركن، ص/305 ـ 306.
(1) سورة الأعراف: 180.
(1) سورة فاطر: 15.
(1) سورة محمد: 7.
(2) سورة هود: 118.
(3) سورة فاطر: 15 ـ 17.
(4) سورة طه: 105 ـ 107.
(1) سورة يس: 81.
(2) سورة الأنعام: 73.
(3) سورة المائدة: 109.
(4) سورة الأنعام: 59.
(5) لسان العرب، ج3، مادة حوط، ص 396.
(6) سورة البروج: 20.
(1) سورة الإسراء: 85.
(1) سورة التغابن: 4.
(2) سورة الأنفال: 75.
(3) سورة الحجرات: 16.
(4) سورة الحديد: 4.
(1) سورة فاطر: 28.
(1) سورة غافر: 19.
(1) لسان العرب، ج14، مادة نور، ص 321 ـ 325.
(2) سورة الأعراف: 157.
(3) سورة النور: 40.
(4) سورة النور: 35.
(1) سورة المائدة: 15.
(2) سورة الأعراف: 157.
(3) سورة النور: 40.
(4) سورة الفرقان: 56.
(1) سورة الفاتحة: 4.
(1) سورة البقرة: 156.
(2) سورة الانشقاق: 6.
(1) سورة الأنعام: 102.
(2) سورة فصلت: 42.
(3) سورة البقرة: 186.
(4) سورة ق: 16.
(1) لسان العرب، ج10، مادة غفر، ص/91 ـ 94.
(2) م. ن، ج5، مادة ذنب، ص/62.
(3) ن. ن، ج15، مادة هتك، ص/26.
(4) سورة هود: 43.
(1) سورة آل عمران: 103.
(2) سورة آل عمران: 101.
(1) (2) سورة آل عمران: 103.
(3) أخرج الإمام الثعلبي هذا المعنى في تفسيره الكبير، بالإسناد إلى أبان بن تغلب عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام). وعدها ابن حجر في الآيات النازلة فيهم، فهي الآية الخامسة من آياتهم التي أوردها في الفصل الأول من الباب 11 من صواعقه، ونقل في تفسيرها عن الثعلبي ما سمعته من قول الإمام الصادق (عليه السلام).
وقال الشافعي، أيضاً، في رشفة الصادي للإمام الصادق:
ولما رأيت الناس قد ذهبت مذاهبهم في أبحر الغي والجهل
ركبت على اسم الله في سفن النجا وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
وأمسكت حبل الله وهو ولاؤهم كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبل
راجع أيضاً، المراجعات للإمام عبد الحسين شرف الدين، ص/110، دار الهدى ـ بيروت ـ لبنان، ط2/ 1412، هـ 1992م.
(4) أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم، وهو الحديث 874 من أحاديث كنزل العمل، ص/44، ج (1).
(1) أخرجه الإمام أحمد من حديث زيد بن ثابت بطريقين صحيحين أحدهما في أوّل ص/182، والثاني في آخر ص/189 من الجزء من مسنده. وأخرجه الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت أيضاً، وهو الحديث 873 من أحاديث الكنز ص/44، ج1.
(2) لقد أجرينا تعديلاً في صياغة هذه الفقرة، بالقياس لما كانت عليه في الطبعة الأولى، وذلك إمعاناً في تبيان ما كنّا نراه بديهياً لا يحتاج إلى تأويل أو تفسير، وقطعاً للطريق على المصطادين في المياه العكرة، وما أكثرهم في هذه الأيام، والتعديل ـ التوضيحي جاء بإضافة ما يلي: من "وهو الإمام المعصوم المفترض الطاعة، لكي يكون سؤاله قدوة لغيره (إلى) فإنّ عليه أن يتذكّر ذنوبه، تلك الذنوب...".
ولأمر عينه حدث أيضاً في ص (82)، حيث ضيف إلى الفقرة ما قبل الأخيرة التوضيح التالي، بعد كلمة "ولذا": من "ومن خلال متابعته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوجه التعليمي ـ التربوي (إلى) يسأل الله سبحانه وتعالى".
(1) لسان العرب، م.س، ماجة نعم، ج6، ص/272.
(1) ذكره السندواري في شرحه لدعاء كميل ص/63 طبع إيران حجر.
(1) سورة البقرة: 213.
(2) سورة يونس: 32.
(1) السنين: جمع سنة. والسنة مطلقة: هي السنة المجدبة. يقال: أصابتهم السنة أي الجدب والقحط، قال تعالى: ﭽ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯾ ﭼ أي بالقحوط. راجع لسان العرب، م. س، مادة سنة، ج6، ص/403.
(1) سورة البقرة: 59.
(2) النعم والنعمى والنعماء والنعمة، كلّها: الخفض، أي لين العيش وسعته وهو ضدّ البأساء والبؤس، والدعة والمال.
(1) سورة الأنفال: 53.
(2) سورة إبراهيم: 7.
(3) سورة الإسراء: 20.
(1) سورة المطففين: 14.
(2) راجع مجمّع البحرين: مادة رون.
(1) أصول الكافي: باب (إنّ الدعاء سلاح المؤمن) حديث.
(2) أصول الكافي، كتاب الدعاء، باب الإقبال على الدعاء حديث.
(3) إحياء العلوم للغزالي 1ـ ص/ 399.
(1) لم يثبت هذا السؤال في أكثر كتب الدعاء. لكن بعض شرّاح دعاء كميل أثبتوه كجزء من الدعاء. ولعلّهم في ذلك اعتمدوا على النسخة التي أثبتها تقي الدين إبراهيم بن علي العاملي الكفعمي في مصباحه. وهذا الكتاب يُعدُّ من مصادر كتب الدعاء عند الإمامية. ونحن إذ نثبتها، هنا، زيادة في الغنى والرجاء.
(2) سورة يوسف: 31.
(3) سورة الأعراف: 168.
(4) سورة البقرة: 166.
(5) لسان العرب، ج11، ماجة قطع، ص/ 220.
(6) راجع لسان العرب، م.س، مادة رجا، ج5، ص/163.
(1) سورة الحجر: 56.
(2) سورة الأعراف: 179.
(1) أصول الكافي: باب حسن الظنّ بالله/ حديث (2).
(2) سورة الزمر: 53.
(3) سورة النساء: 48.
(4) سورة الأنبياء: 35.
(1) الملهوف: المظلوم ينادي ويستغيث. جاء في الحديث: أجب الملهوف. والملهوف، أيضاً: المكروب. وفي الحديث: اتّقوا دعوة اللّهفان. وفي الحديث، أيضاً: كان يحبّ إغاثة اللّهفان.
(2) ذكره صاحب أسرار العرافين ص/42.
(3) ذكره السندواري في شرحه لدعاء كميل ص/ 96.
(1) راجع لسان العرب، م. س، ماجة خطأ، ج4، ص/133 ـ 134. وكذلك أقرب الموارد، والقاموس، وغيرهما: (خطأ).
(2) جامع السادات: 1/251 طـ 3/ مطبعة النجف. كما ورد في إحياء العلوم للغزالي: 4/129 باختلاف بسيط.
(3) سورة الزمر: 53.
(4) سورة آل عمران: 135.
(1) سورة النساء: 48.
(2) جامع السادات، ج1، ص2/ 251.
(3) م.ن. ص 151.
(1) لسان العرب، ج5، مادة ذكر، ص/ 48.
(2) لسان العرب، ج11، مادة قرب، ص/ 82 ـ 83.
(1) سورة البقرة: 156.
(1) سورة النور: 37.
(2) لسان العرب، ج7، مادة شفع، ص/151.
(3) سورة الأنبياء: 28.
(1) سورة يونس: 3.
(1) سورة الانفطار: 19.
(2) سورة الأنبياء: 26 ـ 27.
(1) سورة النمل: 19.
(1) سورة يس: 65.
(1) لسان العرب، ج7، مادة شفع، ص/ 151.
(1) سورة الفجر: 15 ـ 16.
(2) مجمع البحرين، مادة (قنع).
(3) مختار الصحاح، مادة (قنع).
(4) سورة طه: 131.
(1) سورة آل عمران: 178.
(1) سورة ص: 76.
(2) سورة الأعراف: 12.
(3) سورة الحجر: 34 ـ 35.
(1) سورة الإسراء: 37.
(2) سورة الفرقان: 63.
(1) سورة فصلت: 30.
(2) سورة الأنعام: 153.
(1) سورة الأنفال: 2.
(1) سورة النساء: 138 ـ 139.
(1) سورة الفجر: 15 ـ 20.
(1) سورة آل عمران: 178.
(1) بحار الأنوار، ج75، ص/ 126.
(1) سورة النحل: الآية: 53.
(1) سورة القصص: 77 ـ 78.
(2) سورة فاطر: 15.
(1) سورة إبراهيم: 19 ـ 20.
(2) سورة محمّد: 38.
(1) سورة طه: 5.
(2) سورة البقرة: 255.
(1) سورة الأنفال: 30.
(2) سورة الأعراف: 99.
(1) سورة هود: 42 ـ 43.
(2) سورة هود: 43.
(1) سورة آل عمران: 154.
(2) سورة النساء: 78.
(1) سورة النور: 39.
(1) سورة آل عمران: 135.
(2) سورة الفرقان: 70.
(1) يمكن الرجوع في جميع ذلك إلى: الزاهر/1/146، والنهاية لابن الأثير/ مادة (سبح).
(1) سورة يونس: 71.
(2) سورة الإسراء: 44.
(3) سورة النور: 41.
(4) الدر المنثور: 4/184.
(1) جامع السعادات للنراقي: 2/272.
(1) راجع النهاية لابن الأثير: مادة (فدح، وقيل).
(2) مقاطع من دعاء الجوشن الصغير المروي عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام).
(1) راجع أقرب الموارد: مادة (عثر، ووقي).
(1) جامع السعادات، ج2، ص 146.
(2) المصدر السابق نفسه.
(1) البلاء: هو الغم الذي يبلي الجسم أقرب الموارد: مادة (بلى).
(2) أقرب الموارد مادة (فرط).
(1) سورة هود: 114.
(1) سورة الناس: 4.
(2) سورة لقمان: 34.
(1) جامع السعادات: ج3، ص 36.
(2) م. ن، ج3، ص31.
(1) سورة الكهف: 46.
(2) جامع السعادات: ج3، ص36.
(3) خدعه: ختله، وأراد به المكر من حي لا يعمله.
(4) الغرور: الأباطيل، وقيل تزيين الخطأ بما يوهم أنّه صواب. راجع لسان العرب: مادة (خدع، وغرر).
(1) الخيانة: هي نقض العهد (راجع أقرب الموارد: مادة خون).
(2) سورة يوسف: 53.
(3) أقرب الموارد: (مادة مطل).
(1) الصحيفة السجّادية/ مناجاة الراجين.
(1) راجع أقرب الموارد: مادة غفل.
(1) سورة ق: 16.
(1) سورة البقرة: 222.
(2) سورة البقرة: 222.
(1) سورة ق: 19.
(1) سورة التحريم: 11.
(1) سورة الأنعام: 149.
(1) أقرب الموارد: مادة (قصر).
(1) أصول الكافي: باب الاعترافات بالتقصير من كتاب الإيمان والكفر. حديث (1).
(1) سورة الزمر: 53.
(2) سورة الزمر: 54.
(3) لسان العرب، والمفردات في غريب القرآن، مادة (ذعن) بأذيال كرمه، وشآبيب جوده.
(1) الضرّ: هو ضدّ النفع، وسوء الحال، والشدّة (أقرب الموارد: مادة ضرر).
(2) الوثاق: هو ما يشدّ به من قيد، أو حبل، أو نحوهما (أقرب الموارد: مادة وثق).
(3) سورة البقرة: 186.
(4) سورة الحاقة: 30 ـ 32.
(1) سورة المعارج: 15 ـ 16.
(2) سورة النساء: 56.
(1) سورة الأعراف: 179.
(1) سورة آل عمران: 31.
(2) سورة البقرة: 165.
(3) سورة النحل: 53.
(1) سورة مريم: 95.
(1) سورة الرعد: 15.
(1) سورة التوبة: 31.
(2) سورة النساء: 80.
(3) سورة آل عمران: 31.
(1) سورة النجم: 4.
(1) سورة إبراهيم: 34.
(2) سورة النحل: 53.
(3) سورة الحجرات: 12.
(4) سورة الحجرات: 11.
(1) سورة الحج: 11.
(1) سورة الأنبياء: 23.
(2) سورة فاطر: 15 ـ 17.
(3) سورة الفجر: 15 ـ 20.
(1) سورة الأعراف: 201.
(1) سورة النبأ: 23.
(1) سورة هود: 107.
(1) سورة الزمر: 67.
(2) سورة النساء: 139.
(1) سورة فاطر: 15.
(1) سورة الزمر: 53.
(2) سورة البقرة: 186.
(1) سورة يوسف: 87.
(1) سورة الشعراء: 88 ـ 89.
(1) سورة الفرقان: 77.
(1) سورة النساء: 48.
(1) سورة الحج: 11.
(1) سورة السجدة: 18.
(1) سورة القلم: 35 ـ 37.
(2) سورة السجدة: 18.
(3) سورة إبراهيم: 24 ـ 26.
(1) سورة الإسراء: 13 ـ 14.
(1) سورة الكهف: 103 ـ 104.
(1) سورة الانفطار: 10 ـ 11.
(2) سورة ق: 18.
(1) سورة آل عمران: 30.
(2) سورة ياسين: 65.
(3) سورة النور: 24.
(4) سورة فصلت: 21 ـ 22.
(1) سورة المجادلة: 7.
(1) سورة الكهف: 109.
(2) سورة الحشر: 19.
(3) سورة الطلاق: 2 ـ 3.
(1) سورة البقرة: 263.
(2) سورة البقرة: 264.
(1) سورة البقرة: 148.
(2) سورة آل عمران: 133.
(1) سورة يوسف: 64.
(2) سورة طه: 105 ـ 107.
(1) لسان العرب، م. س، ج14، ص159، مادة (نصب).
(2) سورة الأنعام: 79.
(1) سورة الرعد: 28.
(1) سورة الزمر: 36.
(2) سورة الذاريات: 58.
(1) فقرات من مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام) المعنونة بمناجاة الراجين.
(1) سبغ الشيء: اكتمل تم، وأسبغ الله عليه النعمة أكملها وأتمها ووسَّعها. راجع لسان العرب، ج6، مادة سبغ، ص 159.