تأمّلات إسلامية

 حول المرأة

 

السيّد محمد حسين فضل الله

 

 

 

 

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الخامسة

1414 هــ ـــ 1994 م

 

مقدّمة الطبعة الرابعة

الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى

وبعد..

خلق الله الرجل والمرأة وأراد لهما أن يتحرّكا في عمق التجربة الحيّة الصعبة ليتصرّفا بمسؤوليةٍ أمام دائرة المسموح والممنوع.. وكانت الجنّة ـــ حسب القرآن الكريم ـــ الساحة الأولى للامتحان فقد كانت المسألة أن يأكلا من الجنّة ـــ حيث شاءا ـــ رغداً من كلّ أشجارها وأثمارها، إلاّ شجرةً واحدةً لم يُرَد لهما أن يأكلا منها.. وسارت الأمور بهما كما يجب في خطّ الالتزام، لأنّهما لم يعرفا من التجربة إلاّ وجهاً واحداً ينفتح على الطاعة تبعاً للتعليمات المحدّدة، ولكنّ الشيطان ـــ الذي تمرّد على خلق آدم وتكريم الله له حسداً وبغياً وعدواناً، ورفض السجود له استكباراً، استغلّ بساطتهما وطيبتهما وضعفهما الذاتيّ وفقدانهما للعزيمة الصلبة والإرادة القوية، فوسوس لهما، وأثار الوجه الآخر من التجربة وحرّك الأحلام اللذيذة في إحساسهما، ودفعهما إلى التساؤل: لماذا هذه الشجرة الممنوعة من بين الأشجار؟ ولم يعرفها الجواب، ولكنّه وسوس لهما بها،... إنّها شجرة الخلود، والملك الدائم، فلا موت لمن يأكلها، وهكذا انطلق الحلم الأول في مشاعرهما، فأكلا منها من دون وعي ودراسة للنتائج السلبية.. وهكذا سقطا معاً وبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة.

وكانت البادرة مشتركة، ولكنّ المسؤولية تحمّلها آدم.. وتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه وهدى.

وفهم، وزوجه، ما معنى الشيطان، وما معنى الوجه الآخر للأشياء وما هي التجربة في النتائج السلبية والإيجابية.. وما هي المسؤولية في مضمونها الروحيّ والفكريّ والعمليّ.. وما هي ساحة الصراع، وتربية النفس على التقوى وتنمية الإرادة على الحزم والثبات.

وهبط إلى الأرض مع زوجه، وبعد أن اجتباه ربّه, وهبط الشيطان معهما، لتبدأ الحياة الدنيا ـــ في الأرض ـــ قصّة الصراع بين العقل والغريزة، والحقّ والباطل، والخير والشرّ.

وانطلقت الرسالات لتدفع الرجل والمرأة معاً إلى مواجهة المسؤولية فإذا كان امتداد الحياة يتحرّك من خلال تفاعلهما الجسدي، فلا يستطيع واحد منها أن يبدع الحياة في الولادة الجديدة، فإنّ نموّها الروحيّ وتطوّرها العمليّ، وعمرانها المادّي لا بدّ أن ينطلق في مسؤوليتهما فكان لكلّ منهما دور في خصائصه النوعية، يتميّز به أحدهما عن الآخر وكان لهما معاً دور في إنسانيّتهما في الفكر والإرادة والحركة يشتركان فيه.

وهكذا أراد الله لهما أن يحرّكا العقل لتتوازن العاطفة معه فلا تذوب ولا تنحرف، وأن يبدعا العاطفة ليرقّ العقل فلا يقسو ولا يطغى، وقالا لهما قد يكون أحدكما أكثر عاطفةً من الآخر من خلال الخصائص الذاتية في الذكورة والأنوثة والأبوّة والأمومة.. ولكن.. ليكن العقل قوياً وحاكماً ومتحرّكاً، فلا تجمّداه ولا تسقطاه، بل استنطقاه حتّى في أحاسيس العاطفة، وانفتحا عليه حتّى في الأشياء الصغيرة.

وفي ضوء ذلك كان التشريع الإسلامي يخاطب التوازن الإنسانيّ في الدور الحيويّ لتوازن الحياة، فيما يشرّعه للرجل والمرأة معاً، الأمر الذي يفرض التنوّع في داخل الوحدة، من أجل إغناء المضمون الداخلي للوحدة من خلال العناصر المتنوّعة ذات الخصائص المختلفة، فيما هي المصلحة في المسموح والمطلوب، والمفسدة في الممنوع والمرفوض على أساس الدراسة الدقيقة لما يصلح أمرهما، ويصلح الحياة من حولهما.

ولذلك لا بدّ من مواجهة مسألة حقوق المرأة في الحياة من خلال المضمون الفكريّ للحقّ مقارناً بالمضمون العمليّ لمصلحة الحياة لا من خلال المضمون العاطفيّ للحسّ، فإنّ محدوديّة الكون تفرض على كلّ ظاهرة فيه، أو كلّ موجود في داخله، أن يفقد شيئاً من ذاته أو من شعوره، أو من مزاجه، أو موقعه، أو تطلّعاته لحساب الآخر، لتكون الحياة تنازلاً مشتركاً يتبادل فيه كلّ واحد ما يأخذه من الآخر ممّا يفقده من شخصيّته بعد أن كان المطلق مستحيلاً.

وربّما كانت مشكلة البعض من الدارسين أنّهم يستغرقون في مأساة الذات بدلاً من أن يستغرقوا في توازن الحياة، ليدفعوا القضية إلى الإخلال بالتوازن، حيث تكون المأساة أكبر، على حساب الواقع كلّه فيتضرّر الاثنان معاً، لأنّ ما يأخذه أيّ فريقٍ من دون حساب دقيق سوف ينعكس سلباً عليه وعلى الآخر.

وتلك هي مسألة الحرّيات عندما تتحرّك في نطاق ملاحظة الواقع من كلّ جوانبه، ووعي قضية الإنسان في حركته على الأرض من كلّ أبعادها، فقد يفرض على المرأة قيداً لا ترتاح إليه في ذاتها ولكنّها تحصل على نتائجه الإيجابية في توازنها في حركة الحياة وقد يفرض على الرجل قيداً مماثلاً لا يتناسب مع عنفوانه فيما يفرضه عليه من مسؤوليات وواجبات، فلا يرتاح إليه في الذات، ولكنّه يحصل على الكثير من الخير في توازن الحقوق والواجبات المشتركة بينه وبين المرأة.

إنّ مشكلة الكثيرين أنّهم يتطلّعون إلى الصورة من زاوية واحدة ويدرسون القضايا من وجهٍ واحد، فيغيب عنهم السرّ الكامن في الجمال هنا، والقبح هناك، أو الخير في هذا الجانب والشرّ في ذلك الجانب.

وقد كانت هذه التأمّلات محاولة لاكتشاف خطّ التوازن في نظرة الإسلام إلى المرأة في ذاتها وفي حياتها مع الرجل، وفي مسؤوليتها في الحياة، وفي إيحاءات إنسانيّتها وتطلّعاتها.

وربّما كنت ولا أزال أشعر أنّ على الاجتهاد الإسلاميّ في تجارب الفقهاء أن يضاعفوا الجهد وينطلقوا بالانفتاح الفكريّ الذي لا يتأثّر بالواقع السلبيّ في فهمه للنص، ليكتشفوا عمق النظرة الإسلامية للمسألة الحيّة التي لا تزال مثاراً للجدل في المفهوم والتشريع والمنهج والحركة.. لأنّ بعض الفتاوى قد تنطلق من مؤثّرات ذاتية لا من عناصرَ موضوعيّة.

وكلّي أمل أن يحقّق هذا الكتاب عطاء الوعي الإسلاميّ حول المرأة وأن أجد في ملاحظات القرّاء الفكر الناقد الذي يصحّح الخطأ ويقوّم الانحراف، ويبلور الفكرة، والحمد لله ربّ العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل.

23 شوّال 1413 هــ

محمد حسين فضل الله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدّمة الطبعة الخامسة

الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى

وبعد..

للحديث عن المرأة أكثر من عنوان، لأنّها الإنسان الذي يتوزَّع أدوار الحياة مع الرجل في عملية التكامل الإنساني في صعيد المادّة والروح، ليعطيا الحياة الكثير من طاقاتهما في حركة الوجود وفي حيويّة الحبّ، وفي إبداع المعرفة، وفي روحيّة العطاء.

وقد يطول الحديث عن المرأة في المسألة الأخلاقية في حدودها الذهنية والسلوكية، وقد يتنوّع بأساليبَ متعّددة، بحيث يوحي بأنّها هي التي تتحمّل مسؤولية استقامة الأخلاق وانحرافها من خلال توازنها في طبيعة الضوابط العملية في قضية الحجاب وفي إدارة العلاقات وفي مسألة الجنس، كما لو كانت شرّاً وشيطاناً ولعنةً وعنصر إغراء وإغواء للرجل.

ولكنّ النظرة المتوازنة في الدراسة الواقعية لكلّ حاضر الانحراف الإنساني وماضيه، تؤكّد لنا بأنّ الرجل قد يكون له الدور الأكبر في تحوّل شخصية المرأة إلى الجانب السلبيّ الأخلاقيّ بحيث تكون حركةً في عالم الرجل، لا إنساناً معه، ولعبةً يلعب بها، لا موجوداً يتكامل معه، وعنواناً للإغراء بدلاً من أن يكون واجهةً إنسانيةً متنوّعة.. فهي ليست مخلوقاً جنسياً بحيث يشمل الجنس كلّ تطلّعاته وأوضاعه لتكون النظرة إلى كلّ أوضاعها من هذه الزاوية، كما نلاحظه في بعض الناس الذي لا يستطيع أن يتصوّرها إلاّ من خلال هذا العنوان حتّى إنّه لا يجد لها حقاً في علم أو ثقافةٍ أو إبداع أو مشاركةٍ في عملية التغيير للواقع وللإنسان.

إنّه إنسان بكلّ معنى هذه الكلمة في مدلولها الواسع، الأمر الذي يفرض علينا إعدادها من أجل عملية التطوّر الإنساني الإيجابي، تماماً كما تفرض علينا صفة الإنسانية في الرجل إعداده لبناء الحياة في حركة إنسانيته الغنية بالعلم والحركة والإرادة المنفتحة على الإبداع.

وإذا أردنا أن نتحدّث عن المسألة الأخلاقية فإنّنا لا بدّ أن ندرسها في تعاون الرجل والمرأة على تركيز قاعدتها، سواء في ذلك، الجانب الجنسيّ أو الاجتماعيّ، أو السياسيّ أو غير ذلك فيما تتّسع له هذه المسألة، فإنّ الانحراف، لا يكون من جانبٍ واحد في القضايا التي تحتاج إلى التعدّدية في حركة الفعل والانفعال، فعلينا أن نصلحهما معاً وأن نخطّط لبناء ذهنيّتهما بالطريقة التي تنفتح فيها على التكامل والتوازن لا على الاستغلال، وعلى القيمة الإيجابية المتنوّعة في كلٍّ منهما، لا على أساس القوّة والضعف.

إنّ الله الذي خلق للإنسان من عمق نفسه زوجه وجعل بين الزوجين مودّة ورحمة، وأكّد أنّ للنساء من الحقّ مثل ما عليهن، وأنّ للرجال عليهن درجةً واحدةً من خلال بعض الخصائص النوعية، والأوضاع التنظيمية للأدوار المتنوّعة.

.. إنّ الله الذي خلقنا على هذه الصورة أراد لنا أن نبدأ رحلة المودّة والرحمة في كلّ قضايانا لتكون التجربة الزوجية، كعلاقةٍ إنسانيةً مميّزة، بداية تجربة، واسعة للعلاقة الحميمة القائمة على احترام كلّ من الرجل والمرأة للآخر، فلا يتعسّف في استعمال حقّه، ولا يسيء في القيام بدوره، لأنّ المسألة عقل يرحم الآخر في حركة عقله، وشعور ينفتح عليه في حركة قلبه، لتكون الحياة فكراً يحتضن فكراً، بالاحترام والحوار، وشعوراً ينفتح على شعور بالمودّة والمحبّة.

وللمودّة بُعدها العقليّ إلى جانب بُعدها الشعوري، وللرحمة حركتها الفكرية إلى جانب حركتها العملية.

وفي ضوء ذلك يمكننا أن نلتقيَ بالمرأة الجديدة في أنوثتها وأمومتها وإنسانيّتها في حركة الإبداع والمسؤولية، كما نلتقي بالرجل الجديد في ذكوريّته وأبوّته وإنسانيّته في هذا الاتجاه، ليتقبّل الرجل تفوّق المرأة فيما تبدع فيه، كما تتقبَّل المرأة إبداع الرجل فيما يتفوّق فيه، لتكون المسألة مسألة تنافس في الكمال وفي خدمة الحياة.

وبعد فقد كانت هذه "التأمّلات" تجربةً من أجل المرأة الجديدة إلى جانب الرجل الجديد في وعي الإسلام للجانب الإنساني في علاقتهما ببعضهما وفي حركتهما في الحياة.

وقد استطاع هذا الكتاب أن يثير بعض الأفكار والتساؤلات بحيث تحوّل إلى حركةٍ فكريّةٍ إسلاميّةٍ في الصراع الفكريّ والعمليّ.

وكلّ ما أرجوه أن يجد القرّاء في طبعته الخامسة، بعض ما يثير التفكير ويدفع إلى التوازن العمليّ.

    والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل

19 رجب الحرام 1414 هــ 

          محمد حسين فضل الله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقدّمة

الحمدُ لله ربّ العالمين، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى

وبعد، هذه أحاديثُ متنوّعة حول بعض الجوانب المتّصلة بالمرأة، من وجهة نظر إسلامية، لأنّ هناك الكثيرَ من علامات الاستفهام حول موقف الإسلام من المرأة، الأمر الذي قد يحمل بعض الصُّور المشوّهة التي تسيءُ إلى الصورة المشرقة للمعنى الإنسانيّ للإسلام في تشريعه للإنسان. الرجل والمرأة معاً؛ وذلك انطلاقاً من بعض الاجتهادات الخاصّة، أو من حالات التخلُّف الفكري في المجتمع الإسلاميّ العام.

وقد أراد بعض المثقَّفين، من إخواننا وأخواتنا، أن أجيب عن بعض علامات الاستفهام في حوارٍ متعدِّد الجوانب متنوّعها لم أتكلّفه في كتابة، أو تحقيق، أو تحضير سابق، بل كانت الإجابات عفويّة ارتجالية من خلال تجاربي الفكريّة ونظراتي الاجتماعية، ومن خلال فهمي المتواضع للإسلام.

وقد أحبّ هؤلاء الأخوة والأخوات أن يسجّلوا هذه الإجابات، ويحوّلوها إلى عناوينَ عامّة، كموضوعات مستقلّة بعيداً عن الصّورة الحوارية.

وقد لاحظت أنّه من الممكن الاستفادة منها في إثارة المناقشات الفكرية حول القضايا المطروحة فيها، في هذا الموضوع المهمّ الذي يتّصل بالبعد الإسلاميّ الإنسانيّ، في عدالة النظرة الإسلامية للمرأة.

لذلك وافقت على اقتراح دار الملاك في إخراجه إلى النُّور، بتقديمه إلى القرّاء بهذه الصورة راجياً من الإخوان والأخوات أن ينظروا إليه باهتمام وحدّية للاستفادة من ملاحظاتهم الفكرية التي قد نثيرها مع أجوبتها في الطبعة الثانية، إنْ شاء الله.

والله المسؤول أن ينفع المؤمنين والمؤمنات بهذه التأمُّلات، وأن يقودنا إلى الصّواب في دراسة الإسلام ويهدينا إلى الصّراط المستقيم.

والحمد لله ربّ العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل

بيروت في 11 ذي الحجّة 1412 هــ

محمد حسين فضل الله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شخصية المرأة في حركة الحياة ودورها الفاعل

لا يزال موضوع المرأة في الإسلام" موضع حديث المفكِّرين الإسلاميين الذين يعملون على تحديد شخصية المرأة ودورها، في الفكر الإسلاميّ والشريعة الإسلامية، من أجل إعطاء الصورة المشرقة التي تتمثّل في نظرة الإسلام إلى إنسانيّتها الأصيلة، من حيث القِيَم الروحيّة والإنسانيّة في عالمي الدنيا والآخرة.

والحديث، في هذا الموضوع، يتفرّع إلى مسائلَ عديدة، منها: شخصيّة المرأة وطبيعتها وإيمانها ودورها الفاعل في النشاط الديني وخطّ الدعوة، أو الحركة الجهادية، في ساحة الصراع، والانفتاح العلميّ وحركة الثقافة، ونحو ذلك..

ويتمّ هذا الحديث من خلال بعض الكلمات المأثورة، ومن خلال النظرة الفقهية السائدة لدى الفقهاء.

السبيل الأفضل للوصول إلى نتائجَ متوازنة

وقبل الدخول، في هذا الحديث، لا بدّ من إثارة سؤال يتناول طريقة بحث بعض هذه المسائل. والسؤال هو: هل السبيل إلى اكتشاف شخصية المرأة وعقلها وإيمانها الخ.. يتمثّل في النصوص الدينية أو في دراسة عناصر شخصية المرأة الذاتية من خلال حركة وجودها في الواقع الحيّ، وفي مستوى انفتاحها على الآفاق العلمية، من حيث عمق الفكر وسعته، وفي طبيعة رؤيتها للأشياء من حولها، من حيث سلامة الرأي وصدق النظرة إلى الأمور، وفي نوعيّة التزامها الداخليّ بالعقيدة في خطّ الارتباط بالإيمان بالله ورسله وكتبه وشرائعه، والتزامها الخارجيّ في خطّ العمل والمعاناة والمراقبة لله في دائرة التقوى الروحيّة والفكريّة في ذلك كلّه.. وفي قدرتها على مواجهة التحدّيات في الصراع الفكريّ في ساحة الدعوة، أو في مواجهة المشاكل الواقعية في ساحة الجهاد.

إنّنا نعتقد أنّ الدراسة التي تتمّ على مستوى الاستغراق في الواقع الإنسانيّ للمرأة، كما هو الواقع الإنسانيّ للرجل هي السبيل الأفضل للوصول إلى النتائج المتوازنة. ننجز ذلك، ثم ندخل إلى فهم النصوص. وعلى أساس ذلك نتعرّف إلى طبيعة الظروف التي تحرّكت النصوص فيها، والنظرة التي انطلقت منها. فلعلّنا نجد بعض القرائن التي تصرف النّاس عن ظاهره ليكون له تفسير آخر لا يختلف عن الواقع الخارجيّ، أو لنكتشف عدم سلامة الحديث بسبب مخالفته للأصول الثابتة للعقيدة، الأمر الذي يجعله مخالفاً للضرورة الدينية المستقاة من الكتاب والسُنّة، ونحو ذلك.

نماذج متعدّدة لتفوّق المرأة

وفي ضوء ما سبق نلاحظ، في المقارنة بين الرجل والمرأة اللّذين يعيشان في ظروف ثقافية واجتماعية وسياسية متشابهة، أنّه من الصعب التمييز بينهما؛ إذ ليس من الضروريّ أن يكون وعي الرجل للمسألة الثقافية والاجتماعية والسياسية أكثر من وعي المرأة لها، بل قد نجد نماذجَ متعدّدة لتفوّق المرأة على الرجل في سعة النظرة، ودقّة الفكر، وعمق الوعي، ووضوح الرؤية؛ وذلك من خلال ملاحظة بعض العناصر الداخلية أو الخارجية المميزة لها بشكلٍ خاص. وهذا ما نلاحظه في بعض التجارب التاريخية التي عاشت فيها بعض النساء في ظروف متوازنة من خلال الظروف الملائمة لنشأتها العقلية والثقافية والاجتماعية. فقد استطاعت أن تؤكّد موقعها الفاعل ومواقفها الثابتة المرتكزة إلى قاعدة الفكر والإيمان. وهذا ما حدّثنا الله عنه في شخصيّة مريم، وامرأة فرعون، وما حدّثنا التاريخ عنه في شخصيّة خديجة الكبرى أم المؤمنين (رضي الله عنها) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) والسيدة زينب ابنة عليّ (عليه السلام).

إنّ المواقف التي تمثّلت، في حياة هؤلاء النسوة العظيمات، تؤكّد الوعي الكامل المنفتح على القضايا الكبرى التي ملأت حياتهن على مستوى حركة القوّة في الوعي والمسؤولية والمواجهة للتحدّيات المحيطة بهنّ في الساحة العامة.. وقد لا يملك الإنسان أن يفرّق بأيّة ميزة عقلية، أو إيمانية، في القضايا المشتركة بينهن وبين الرجال الذين عاشوا في مرحلتهنّ.

وإذا كان بعض الناس يتحدّث عن بعض الخصوصيات غير العادية في شخصيات هؤلاء النساء، فإنّنا لا نجد هناك خصوصية إلاّ الظروف الطبيعية التي كفلت لهن إمكانات النموّ الروحيّ والعقليّ والالتزام العملي بالمستوى الذي تتوازن فيه عناصر الشخصية بشكلٍ طبيعيّ في مسألة النموّ الذاتيّ. ولا نستطيع إطلاق الحديث المسؤول القائل بوجود عناصر غيبيّة مميّزة تخرجهنّ عن مستوى المرأة العاديّ، لأنّ ذلك لا يخضع لأيّ إثبات قطعيّ، مع ملاحظة أنّ الله، سبحانه وتعالى، تحدّث عن اصطفاء إحدى النساء، وهي مريم (عليها السلام) من خلال الروحانية التي تميّزها والسلوك المستقيم في طاعتها لله. وهذا واضح في ما قصَّه الله عن ملامح شخصيّتها، عندما كفلها زكريا، وعندما واجهت الموقف الصعب في حملها لعيسى (عليه السلام)، وفي ولادتها له.

وإذا كان الله قد وجَّهها من خلال الروح الذي أرسله إليها فإنّ ذلك لا يمثِّل حالة غيبيّة في الذّات بل يمثّل لطفاً إلهياً في التوجيه العمليّ والتثبيت الروحيّ، على أساس ممارستها الطبيعية للموقف في هذا الخطّ من خلال عناصرها الشخصية الإنسانية التي كانت تعاني من نقاط الضعف الإنسانيّ في داخلها، تماماً كما هي المسألة في الرجل في الحالات المماثلة.. وهذا يعني أنّنا لا نجد فرقاً بين الرجل والمرأة عند تعرُّض أيٍّ منهما للتجربة القاسية في الموقف الذي يرفضه المجتمع من دون أن يملك فيه أيّ عذر معقول؛ الأمر الذي يخرج فيه الموقف عن القائمة المتمثّلة فيه من حيث القيمة الاجتماعية السلبية في دائرة الانحراف الأخلاقي.

ملكة سبأ نموذج من القصص القرآني

وعندما ندرس التاريخ في القصص القرآنيّ، وفي جانبٍ آخر غير الجانب الإيمانيّ، فإنّنا نجد شخصية ملكة سبأ في ما قصّه القرآن الكريم علينا من أمرها، وفي حوارها مع قومها عند وصول رسالة سليمان إليها، فقد جمعت قومها لتستشيرهم في الموقف الذي يجب أن تتّخذه من تهديد سليمان لها ولقومها ونوعية الردّ الذي تردّ به على الرسالة. ولعلّ هذا اللّجوء إلى الاستشارة يوحي بوجود عقل راجح تتميّز به شخصيّتها، وهو ما يجعلها لا تعطي الرأي الذي تملك إقراره من موقعها كملكة، إلاّ بعد استشارة أهل الرأي من قومها فيه. وهذا ما حدّثنا الله عنه، في سورة النمل:

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ*إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ*قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل : 29 إلى 32].

وهكذا أرادت من رجال قومها أن يقدِّموا الفتوى السياسية التي تعينها على استيضاح الموقف الذي ينبغي لها أن تتّخذه في المسألة الخطيرة، ولكنّهم أَرجعوا إليها الأمر، لترى رأيها، وذلك ثقة منهم برجاحة عقلها وصواب رأيها. ولهذا جعلوها صاحبة القرار الأول والأخير.. أمّا دورهم فانحصر في تنفيذ أوامرها في ما يملكونه من القوّة والبأس الشديد في مواجهة كلّ التحدّيات التي يطلقها الملوك الآخرون ضدّ سلطانها ومواقع الحرّية في حياتهم.

{قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ*قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ*وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَا يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل : 33 إلى 35].

وكان رأيها عاقلاً متّزناً يرتكز إلى حسابات دقيقة توصل إلى الحلّ الأفضل للمشكلة التي لا تكون القوّة السبيل الأمثل لمعالجتها. فلا بدّ، كما رأت الملكة، من دراسة شخصيّة سليمان والإجابة عن الأسئلة التالية: هل هو ملك يهدف إلى السيطرة الغاشمة التي تلغي وجود الآخرين وحرّيتهم في اتّخاذ قرارهم وتفسد عليهم حياتهم، وتفرض عليهم الذلّ في واقعهم المعاش كبقيّة الملوك الذين يتميّزون بهذه الخصائص الشرّيرة؟ وفي هذه الحالة لا بدّ من دراسة المسألة من حيث إمكانات الحلّ السلميّ، وتقدير حجم قوّته، وهل تستطيع مواجهته أم لا؟ وهل هو داعية حقّ ورسول هدى يمكن الدخول في حوار معه في القضايا التي يدعو إليها؟

واستقرّ رأيها على أن ترسل إليه هدية لترى الجواب في مضمونه السلميّ أو الحربيّ، القويّ أو الضعيف، فلو كان ملكاً لأمكن للهدية أن تجتذبه إذا كان حجمها كبيراً، أو تثيره إذا كانت أهدافه كبيرة في غير هذا المستوى، وإذا كان داعية حقّ فلا يتنازل تحت تأثير أيّ شيء مادّيّ مهما كان كبيراً.  

وهكذا فعلت في قرارها الحاسم الذي اتّخذته، وهو قرار يدلُّ على شخصية عاقلة متّزنة تحسب للأمور حساباتها الدقيقة، قبل أن تتّخذ أيّ قرار، وتعمل على أساس استنطاق عقلها بدلاً من استشارة عاطفتها وانفعالاتها، لاسيّما إذا كانت تملك الوسائل التي تمنح هذا الانفعال القاسي فاعليته في القضية التي تهدّد عرشها، من خلال قوّة قومها وبأسهم الشديد.

إنّ القرآن يقدِّم لنا المرأة، في صور ملكة سبأ، إنسانة تملك عقلها، ولا تخضع لعاطفتها، لأنّ مسؤوليتها استطاعت إنضاج تجربتها وتقوية عقلها حتى أصبحت في مستوى يمكنها من أن تحكم الرجال الذين رأوا فيها الشخصية القوية العاقلة القادرة على إدارة شؤونهم العامّة.

ويدلُّ استنطاق هذه الصورة على إمكانية انتصار المرأة على عوامل الضعف الأنثوي الذي قد يؤثّر تأثيراً سلبياً على طريقتها في التفكير، وعلى اتّخاذها المواقف وإدارتها للأمور؛ الأمر الذي يوحي بأنّ الضعف ليس قدرها الذي لا تستطيع التخلّص منه.

وهكذا كانت نهاية المطاف أن دخلت في الإسلام مع سليمان، بعد أن اقتنعت بذلك من خلال المعجزة التي نقلت عرشها إلى موقعه، أو من خلال الحوار الذي دار بينها وبينه؛ الأمر الذي يضيف دليلاً جديداً إلى فكرتنا عن المرأة القائلة بأنّها قادرة على أن تقرِّر وتنتمي من خلال الفكر الخاضع للحسابات الدقيقة التي قد لا يملكها الكثيرون من الرجال.

 

 

امرأة فرعون نموذج آخر

ولا بدّ، قبل أن نبحث في مسألة أخرى، بعيداً عن استعراض النماذج، من التوقُّف عند شخصية امرأة فرعون التي كانت تعيش في القِمّة من الجاه والنعيم. ولكنّها تمرّدت على ذلك كلّه، لأنّها لم تنفتح ـــ من خلال إيمانها ـــ على هذه الحياة المستكبرة اللاهية الطاغية التي تعيش، من ناحية أولى، الأثرة والأنانية والطغيان في ما تتلهّى به من آلام المستضعفين وجوع الجائعين، وتعيش، من ناحية ثانية، التمرّد على الله والبعد عن مواقع الخير في حياة الناس.

كانت امرأة فرعون تحبّ أن تعيش إيمانها في إنسانيتها، ولكنّها لا تجد أيّة فرصة للقيام بذلك، لأنّ زوجها كان يملأ الحياة من حولها بكلّ ما هو غير إنساني في اضطهاده للمستضعفين هناك.. وهكذا انطلقت صرختها إلى الله لتعبِّر عن رفضها الروحيّ والعقليّ لكلّ ما حولها، وتطلب من الله أن يقوّيها في موقعها العمليّ، ليكون التحدّي في موقفها أكبر، ليبنيَ لها بيتاً في الجنّة تتطلّع إليه في أحلامها الإيمانية، كلّما زحفت إلى مشاعرها نقاط الضعف التي قد تعمل على أن تزلزل مواقعها ومواقفها.. ولينجّيها من فرعون وعمله لأنّها لا تطيق شخصيّته المشوّهة وعمله الاستكباريّ، ولينجّيها من القوم الظالمين الذين يحيطون به، ليتزلّفوا إليه ويدعموا ظلمه ويتحرّكوا ـــ في ساحته ـــ من أجل أن يكون الظالمون الصغار في خدمة الظالم الكبير.

وهكذا ضرب الله قصّتها مثلاً للمؤمنين والمؤمنات، لتكون القدوة لهم والأنموذج الأمثل للقوّة الإيمانية الإنسانية المتمرّدة على سلطان الظّلم بكلّ إغراءاته وملذّاته. كما ضرب الله مريم ــ من بعدها ـــ لهم مثلاً في الصفة الأخلاقية في مستوى القيمة، كما كانت الأنموذج الأمثل في التصديق بكلمات ربّها وكتبه، وفي القنوت الخاشع لله في حياتها كلّها حتّى كانت حياتها صلاة كلّها.

وهذا ما جاء في قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 11 ــ 12].

المرأة المؤمنة مثال الإنسان القويّ:

نحن نعرف أنّ اعتبار المرأة المؤمنة القويّة قدوةً ومثلاً حيّاً للرجال والنساء، من المؤمنين والمؤمنات، يدلُّ دلالة واضحة على أنّ القرآن يعترف للمرأة بقدرتها على أن تكون الإنسان القويّ الذي يستعلي على كلّ مواقع السقوط، ويتمرّد على كلّ نوازع الضعف.. الأمر الذي يدلّ على أنّ المرأة، في نموذجها الأمثل، يمكن أن تكون المثال للرجل، كما هي المثال للمرأة من موقع الإنسانية المشتركة التي تستطيع أن تندفع في عطائها الإنساني الأخلاقي في الوقف، بالمستوى الذي تلغى فيه فوارق الجنس أمام وحدة العقل والإرادة والحركة والمواقف.

وإذا تحدّثنا عن بعض النماذج القرآنية، أو بعض الشخصيات التاريخية الإسلامية التي تمثِّل البطولات الكبيرة التي قامت بها المرأة، فإنّا نجد في قراءتنا للتاريخ النساء اللواتي جسّدن التفوّق في مجتمعهن في ما يملكنه من قدرات ومواهب ومواقف تؤكّد القدرة الإنسانية للمرأة على أن تتجاوز نقاط ضعفها لتحوّلها إلى نقاط قوّة، ولتبلغ بها المستوى الرفيع.

وفي العصور المتأخّرة، وفي العصر الحاضر أيضاً، نجد أنّ التجربة الإنسانية، في العلم والثقافة والحركة السياسية والاجتماعية، تقدّم لنا الكثيرات من النساء اللاتي استطعن أن يؤكّدن وجودهن وتجربتهن الرائدة المعبّرة عن مواقع القوّة الإنسانية الدّالة على قدرة المرأة على التحدّي والثبات والإبداع في مختلف المجالات العامّة والخاصّة؛ الأمر الذي يوحي بوجود نوع من التوازن في القدرات الإنسانية في الظروف المشتركة بين الرجل والمرأة.

هذه صورة من الواقع الحيّ الذي يعيشه كلّ من الرجل والمرأة، في الواقع الإنساني؛ وهي تفيد أنّ اختلاف الجنس، في الطبيعة الإنسانية، لم يمنع الاتفاق على الوحدة في القوّة الفكرية والإرادة الصّلبة والمرونة العملية لدى الرجال والنساء، مع توفّر ظروف القوّة والتوازن والإبداع، فما هي النظرة الإسلامية إلى هذا الواقع؟ وهل هناك نظرة سلبية للمرأة تجعل منها إنساناً دون الرجل في العقل والإيمان وحركة الحياة؟

وهل تلتقي هذه النظرة التي قد تطبع الذهنية الشعبية وبعض ذهنيّات العلماء والمفكّرين المسلمين، مع النظرة القرآنية أو أنّها لا تلتقي معها بالدقّة الإسلامية؟

هذا ما نريد أن نناقشه في هذا الحديث.

البحث القرآني لا يتبنّى المنهج التوفيقي

ولا بدّ لنا، قبل الدخول في البحث بشكلٍ مباشر، من التأكيد على نقطة مهمّة، وهي أنَّا لسنا في صدد عمل تأويلي يستهدف تأويل النصوص القرآنية، أو النبويّة، لمصلحة هذا الاستنتاج النظري في دراسة الواقع، على أساس التوفيق بين التجربة الإنسانية ومضمون النصوص، تبعاً لبعض النظريات المرتكزة على المنهج التوفيقي بين النظرية الإسلامية في التشريع وبين تطوّرات العلم في حركة الواقع، لأنّنا لا نتبنَّى المنهج التوفيقيّ الذي ينطلق من الرّغبة في التوافق مع فكرة عصرنة الإسلام في خضوعه للمتغيّرات الطارئة المنطلقة من سيطرة فكرٍ معيّن، أو قوّةٍ معيّنة، على حركة الإنسان في العصر بعيداً عن حقائق الحياة في أصالتها الواقعية..

إنّ المسألة، عندنا، هي الانطلاق من حقائق الإسلام في ما تتضمّنه النصوص القرآنية القاطعة، أو النبويّة، لإثباته في مستوى الحقيقة من خلال عناصر الوضوح الكامنة في ظواهر النصوص؛ فذلك هو الذي يؤكّد لنا القناعات الإسلامية في ما نلتزم به من فكر أو نتحرّك فيه من شريعة. وإذا كنّا نلاحظ دراسة الحياة في عناصرها الأصيلة فإنّنا نفعل ذلك من خلال القناعة بأنّ الإسلام لا يتنكّر للحقائق بل يؤكّدها ويتحرّك في تشريعه على أساس الانسجام معها، بما يجعلنا نعيد دراسة النصوص الظاهرة في خلاف ذلك، لنعمل على اكتشاف بعض العناصر الخفيّة التي قد تؤدّي إلى فهمها بطريقة أخرى، ليكون ذلك بمثابة القرينة الداخلية على إرادة خلاف الظّاهر. وهذا ما نريد إثارته في حديثنا عن اكتشاف النّظرة الإسلامية الحقيقيّة للمرأة في إنسانيتها الكاملة على مستوى مسؤوليتها أمام الله.

 

هل يؤكّد القرآن التمايز بين الرجل والمرأة؟:

والسؤال الذي يطرح، الآن، هو: هل في القرآن ما ينافي النظرة إلى العناصر المشتركة في شخصية المرأة والرجل، من حيث عناصر الشخصية الإسلامية في أصالتها؟

وفي الإجابة عن هذا السؤال تثار عدّة نقاط هي:

النقطة الأولى: التشريعات المتنوّعة التي توحي بأنّ المرأة نصف الرجل. ويبدو ذلك في الإرث، كما جاء في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ..} [النساء: 11]. وفي أداء الشهادة كما جاء في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى..} [البقرة: 282]. وقد نجد في النّصوص الدينيّة، استيحاء نقصان حظوظ النساء من الآية الأولى، ونقصان عقولهن من الآية الثانية. كما قد نلتقي، في هذا السياق، بالتعبير الذي يشير إلى نقصان إيمانهن من خلال قعودهن عن الصلاة والصيام في أيام الحيض لتحريم ذلك عليهن..

النقطة الثانية: قوامة الرجل على المرأة التي قد توحي بأنّ مستواها دون مستواه، وذلك من خلال ما نستفيده من الآية الكريمة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ..} [النساء: 34]. ومن خلال ما صرّحت به الآية الأخرى: {.. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ..} [البقرة : 228].

فهناك أفضلية للرجل على المرأة؛ الأمر الذي يجعل درجة الرجل، في التقويم، تعلو على درجة المرأة.

النقطة الثالثة: قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف : 18]. فقد نستفيد من هذه الآية، أنّ النظرة التي ينظر بها القرآن إلى المرأة تتمثّل بكونها إنساناً مُعَدّاً للزّينة في أجواء الحلي، من أجل شهوة الرجل، وخاضعاً لعناصر الضعف الكامنة في شخصيته؛ الأمر الذي يجعله غير قادر على الدخول بقوّة في ساحة الصراع في الحياة.

التشريع يلحظ الخصوصيّة

ولنا في ما يتعلّق بهذه النقاط، الملاحظات التالية:

أمّا النقطة الأولى، فإنّ التشريعات الثلاث، لا تدلّ على الدونية في إنسانية المرأة من حيث المستوى، بل كلّ ما تدلّ عليه هو طبيعة حركة توزيع الثروة تبعاً للمسؤوليات التي يتحمّلها الورثة في الوضع الاقتصادي في التشريع الإسلاميّ، الذي حمَّل الرجل مسؤولية الإنفاق على البيت الزوجيّ، بالإضافة إلى تقديمه المهر، وهو ما لا يحمّله للمرأة؛ الأمر الذي اقتضى نوعاً من التوازن في تحديد حصَّة الرجل. وهذا ما نلاحظه في مفردات الحصص التي قد تعلو فيها حصّة الأبناء على الآباء. وهو لا يفيد تفضيل الأبناء على الآباء في القيمة الإنسانية في التشريع.

أمّا مسألة أداء الشهادة، فقد علَّلت الآية بالاحتياط للعدالة. فقد تدفع النزعة العاطفية التي قد تكون قوّتها في المرأة أكثر من قوَّتها لدى الرجل إلى انحراف عن الحقّ في أداء الشهادة. وقد أراد الإسلام أن يكون الموضوع موضع تشاور وتذكير من إحداهما للأخرى، ليستقيم الحقّ في دائرة التوازن في الوعي للمسألة. ولعلّ في تذكير المرأة للمرأة إيحاء بأنّ المرأة الأخرى تملك أمر التركيز للشهادة من خلال اتّزان النظرة، بحيث لا يكون العنصر الأنثوي سلبياً بشكل مطلق، بل يحمل إيجابية التسديد للحقّ، تماماً كما هو ضمّ الرجل إلى الرجل في الشهادة، في البيِّنة التي لا بدّ فيها من رجلين عادلين. وهذا لا يفيد النقصان في الرجل الواحد في مقام الشهادة، من حيث طبيعته العقلية أو الإنسانية.

وفي ضوء ذلك، فإنّنا لا نستطيع اعتبار المرويّ عن الإمام عليّ (عليه السلام)، في نهج البلاغة، منطلقاً من عمق النظرة إلى المرأة في دائرة التأكيد على نقصان إنسانيتها في الحظّ والعقل والإيمان.. بل قد يكون خاضعاً لبعض الظروف والأجواء الخاصّة التي قد تفرض لوناً من ألوان التعبير الإيحائي، أو للواقع الذي تعيشه المرأة بشكلٍ عام من خلال تاريخ الجهل والتخلُّف المفروض عليها في طريقة تربيتها وتأهيلها للحياة الاجتماعية، بالقياس إلى الرجل. وهو ما جعل حركتها في الواقع خاضعة لطبيعة الأسلوب والمنهج التربويّ في نتائجه السلبية على انفتاح شخصيتها في قضايا الحياة، بعيداً عن النقص الذاتيّ في الطبيعة الإنسانية.

أمّا مسألة نقصان الإيمان فإنّنا لا نتصوَّر الأمر تعبيراً وارداً على نهج التعبير الحقيقي في دلالة الألفاظ على معانيها، لأنّ المسألة تتمثَّل في أنّ قعود المرأة عن الصّلاة والصيام يمثِّل تخفيفاً عنها وانسجاماً مع الحالة الجسدية المضادّة للطهارة التي تحتاجها العبادة في روحيّتها تماماً، كما هو القصر في الصلاة والصوم في السفر، تخفيفاً عن المسافر واستجابة لحاجة العبادة إلى نوع من الاستقرار المفقود في السفر.

 وربّما تعش بعض النساء المؤمنات روحيّة العبادة في إخلاصها لله وانفتاحها عليه في تلك الحالة بالمستوى الذي تتمنَّى فيه لو أنّ التشريع أباح لها الصلاة والصيام، فتلجأ إلى الدعاء والتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوه؛ الأمر الذي ينفتح على ذكر الله. وربّما نستوحي من استحباب جلوس المرأة في مصلاّها أثناء الصلاة، في حال الحيض، أنّ المسألة ليست نقصاً في الإيمان، من حيث الوعي الروحيّ للعقيدة وللشعور، بل هو لون من ألوان التخطيط لحركة الإنسان في العبادة، في ما يتعلّق بالجانب الماديّ لجسم العبادة، ومن حيث شروطها الخاصّة؛ الأمر الذي يجب فيه التشريع للمرأة بأن تستمر في الجوّ لتكون العبادة في التأمُّل والذكر والدعاء تعويضاً عن عبادة الصلاة، كما أنّ تشريع القضاء للصيام، في أوقات غير الحيض، يدلّ على أنّ المسألة لا تمثّل حرماناً في العمق، بل تمثّل تنظيماً لأوقات الصيام على أساس الظروف الذاتية لإنسان.

وأمّا النقطة الثانية، فإنّها تمثّل نوعاً من أنواع تنظيم الحياة الزوجية التي جعلت الرجل قائماً على شؤون المرأة من خلال مسؤوليته المالية عن البيت الزوجيّ، ومن خلال بعض الخصائص الذاتية التي يتميَّز بها، وهي التي تجعل قدرته على مواجهة الموقف أكثر من قدرة المرأة في خصوصيات الحياة الزوجية أو الحاجات الذاتيّة الخاصة. وليس من الضروريّ أن تكون المسألة اختلافاً في مستوى إنسانية المرأة بالقياس إلى إنسانية الرجل، من حيث العقل والحكمة والبصيرة ووعي الأمور، ومن خلال العناصر الطبيعية للشخصية في إمكاناتها الخاصّة.

وإذا كان بعض الناس يرى أنّ القوامة، في الآية، تشمل جميع الأمور العامة كالحكم والقضاء ونحوهما، فإنّنا لا نرى ذلك مفهوماً من الآية التي يوحي جوّها العام بالحديث عن البيت الزوجيّ؛ وذلك من خلال التفريع الذي لا يعتبر مجرّد تفريع جزئيّ لأمر عام شامل، بل يمثّل ـــ بحسب الظهور العرفيّ ـــ تفريعاً ذا دلالة على نطاق الشمول في الحكم. ولولا ذلك لكان الحديث عن القضاء والحكم والجهاد أولى من الحديث عن فرض النظام في البيت. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنّ الآية تتحدّث عن القوامة في الدور الذي يقوم به الرجل إزاء المرأة، لتكون القضيّة، في كلّ جزئياتها التطبيقيّة، قضيّة رجل وامرأة. وهذا ما لا تتكفّل به قضيّة القوامة في موضوع الحكم والقضاء، فإنّ الهيمنة فيهما على كلّ الناس الذين يتعلّق بهم الحكم والقضاء, ولكن من غير الجوّ الذي تعيش فيه الآية بحسب مدلولها اللّفظي.

وقد نضيف إلى ذلك ملاحظة ثالثة، وهي أنّ القوامة انطلقت من الآية، من نقطتي الإنفاق والتفضيل ملاحظةً بعض الخصائص، الأمر الذي يدلّ على أنّهما الأساس في الحكم معاً. وهذا لا يفيد أنّ القوامة تشمل الأمور العامة، إذ لا علاقة للإنفاق بها، إذا كان التفضيل هو الأساس في تشريعها. وهكذا نجد أنّ القوامة ـــ في نطاق مدلول الآية ـــ لا تمثّل خصوصيّة في انحطاط البعد الإنسانيّ في المرأة عن البعد الإنسانيّ في الرجل بل تمثّل خصوصية معيّنة في المسؤولية عن الحياة الزوجية.

أمّا النقطة الثالثة، فإنّها لا توحي بالضعف من خلال الطبيعة، بل كلّ ما هنالك هو أنّ أسلوباً معيّناً في التنشئة التي قد تترك تأثيراتها السلبية على طريقة نموّ الشخصيّة في المرأة؛ الأمر الذي يجعل لاستبدال أسلوب التربية بأسلوب آخرَ تأثيراً آخرَ، قد يكون إيجابياً في طريقة تطوّر القوّة الشخصية في حركة الوجود الإنساني للمرأة..

وعلى أيّ حال، فإنّ الفقرة المذكورة في الآية لا توحي بالعنصر الذاتيّ للضعف الإنساني في شخصية المرأة إذا لم توحِ بخلافه.

وربّما نستوحي انفتاح المرأة على إيجابيات القيم الروحية بنفس انفتاح الرجل عليها، وصلابة الموقف المتمرّد على نقاط الضعف في داخل الشخصية في الرجل، ليكون الجزاء الإلهيّ فيها هو الثواب والمغفرة واحداً في النتائج الكبيرة عند الله. وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة:

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب : 35].

إنّه حديث عن المجتمع في الدائرة الواسعة التي تتضمّن الرجال والنساء في ما يريد الإسلام أن يصل إليه في مجال التربية الروحية والعملية التي تؤكّد على مواقع القوّة، بوصفها مواقع الالتزام في الشخصية الإسلامية، من حيث الانتماء للإسلام وللإيمان والانفتاح عليه في ما يتمثّل به من الانفتاح على الله، وفي ما هو القنوت لله والصدق في الكلمة والموقف والنيّة والصبر في مواقع الشدّة، وفي حالات الاهتزاز، والخشوع الذي يعيش فيه الإنسان الشعور العميق في انفعالات روحه وفكره بعظمة الله، والعطاء المتمثّل بالصّدقة في بذل المال حتّى في حالات الضيق في سبيل الله، والصوم الذي يوحي بالإرادة الصّلبة في تحمّل الجوع والعطش والحرمان الغريزي والعفّة عن الحرام في مواجهة ثورة الغريزة الجنسية، وذكر الله في كلّ حال، في وعي الفكر، وفي حركة الموقف.

إنّه الخطّ المستقيم، والحركة الملتزمة القويّة الواعية والقِيَم الروحية المنفتحة على الله، وعلى حياة الإنسان من خلاله.

إنّه مجتمع المرأة الملتزمة، والرجل الملتزم في الإخلاص لله، وهو الذي يحمل أكثر من دلالة على أنّ التربية الإسلامية الواعية يمكن أن تبدع هذه العناوين الكبيرة في الرجل والمرأة معاً، إذا عاشا الظروف الواحدة والخطّ الواحد.

هذه هي إيحاءات هذه الآية. وكم، في القرآن الكريم، من أمثال هذه الإيحاءات التي تجعل الإنسان في إنسانيّته، في موقع النّداء الإلهي الذي يريد أن يجعل الحياة على صورة رسالته.

ضرورة بناء الشخصية

وفي ضوء ذلك، قد نفكّر بضرورة تنمية هذا العمق الإنساني الذاتي في المرأة، وذلك بالتخطيط لبناء شخصيّتها على أساس تقوية الطاقة العقلية لديها بالتجربة الحيّة، والمعرفة الواسعة، والعمل على انفتاح طاقاتها على القضايا الإنسانية الكبرى والمسؤولية الشاملة في قضايا الحياة، لتؤكّد نجاحاتها في هذه الدوائر. إنّ مسألة النمو العقلي والعملي والحركي، في شخصيّتها الإنسانية، ليست شيئاً بعيداً عن طبيعة الأشياء في وجودها، في ما لاحظناه من النتائج الإيجابية الكبرى في أكثر من صعيد، وفي أكثر من أفق؛ الأمر الذي يوحي بأنّ ما تعيشه المرأة من ضعف، وما تعانيه من تخلّف، ليس هو القضاء والقدر الذي لا بدّ منهما في حياتها، بل هو نتيجة للإهمال الكبير لعناصر القوّة والوعي في تربية شخصيّتها وبناء وجودها، كما هو الحال في الرجل الضعيف في فكره والمتخلِّف في وعيه وحركة حياته. إنّ ذلك ليس ناشئاً عن طبيعته في الذّات في هذه المنطقة أو تلك، بل هو ناشئ عن تقصير في تهيئة عوامل التقدّم والقوّة في الظروف المحيطة به.

وإذا كان العنصر الأنثوي يختزن بعض الضعف في شخصيّة المرأة انطلاقاً من الجانب العاطفيّ الأكثر ظهوراً في مشاعرها، أو من الجانب الجسديّ الذي لا يستطيع حمل الأثقال كما هي الحال عند الرجل، فإنّ ذلك لا يمنع من تحويل هذا الضعف إلى قوّة، بتربية الفكر بالمعرفة، وتقوية العقل بالممارسة، وإضعاف العاطفة بالوعي القائم على مواجهة الأمور بطريقة موضوعية من خلال منهج تربويّ عمليّ متوازن، وتدريب الجسم على اكتساب القوّة بدرجة معقولة. فقد رأينا، في الواقع، الكثير من النساء اللاتي يملكن صلابة الإرادة وقوّة الموقف ووعي الواقع أكثر من العديد من الرجال الذين أهملوا إمكانات القوّة في شخصياتهم، الأمر الذي يعني أنّ نقاط الضعف في التركيبة الإنسانية ليست من الأمور الذاتية المرتبة بالتكوين الإنسانيّ الذي لا يقبل التغيير، بل هي من الأمور الطبيعية القابلة للتكيّف والتطوُّر من خلال الجهد الإنسانيّ في الدائرة الإيجابية أو السلبية. 

ولعلّ حديث القرآن الكريم عن شخصيّة امرأة فرعون ومريم ابنة عمران شاهد على الإمكانات التي تملكها المرأة في التمرّد على الضعف الأنثوي في شخصيّتها فتتحوّل إلى إنسانة تواجه الرجال في جبروتهم بكلّ قوّة وثبات.

وإذا كان بعض الناس يرى أنّ الحجاب، وما يستتبعه من قيود والتزام، عملية لا تسمح بالحركة القويّة المتوازنة للمرأة، لأنّه يمنعها من الاختلاط بالرجل، والاندماج في المجتمعات العامّة؛ الأمر الذي يؤثّر تأثيراً سلبياً على حركتها في المشاركة في صنع الحضارة الإنسانية في مواقعها المتنوّعة، فإنّنا لا نرى ذلك.

إمكانية بناء الدور الملائم

إذا كان بعض الناس يطرح القضية في هذا الاتجاه، فإنّنا لا نجد ذلك مانعاً من القيام بالدور الملائم لإمكانات المرأة والتزاماتها. فهناك الدائرة النسائية الواسعة التي تحتاج إلى عناصر نسائية مثقّفة واعية متحرّكة، من أجل القيام بمهمة التوعية والتثقيف والتعبئة الروحية، والنشاط السياسي والاجتماعي، انطلاقاً من حاجة المرأة إلى ذلك، في القيام بواجباتها ومسؤولياتها الإسلامية في حركة الحياة، لأنّ إهمال هذه الناحية من جانب المرأة، من خلال إهمال دور المرأة الداعية إلى الله، المتحرّكة في اتّجاه خطّ التغيير، وإبعادها عن ذلك، وابتعاد الرجل عن القيام بهذا الدور، كنتيجة للحواجز الشرعية المانعة من انفتاح الرجل على المرأة، لا بدّ أن يؤدّيَ إلى مجتمع نسائيّ متخلِّف من الناحية الاجتماعية والسياسية والثقافية، منحرف من الناحية الدينية على مستوى الالتزام والانضباط في طريق الله، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الإسلام لم يمنع الاختلاط بين الرجال والنساء بشكلٍ إلزامي إلاّ في الدائرة التي تؤدّي إلى الانحراف الأخلاقيّ. أمّا الاختلاط المتوازن الذي يضع الحدود الأخلاقية في نطاق متوازن فإنّه لا يبتعد عن الإباحة الشرعية، على أساس التربية الإسلامية التي تعمل على تأكيد الالتزام الإسلاميّ في شخصية كلّ من الرجل والمرأة. ولعلّ كثيراً من التجارب التي عاشتها المسيرة الإسلامية، في الماضي والحاضر، تدلّ على أنّ قضية الانضباط في الحدود الشرعية ليست أمراً بعيداً عن الواقعية في التجربة الإنسانية الحيّة. وإذا كان بعض الناس يقدّم عدداً من الوقائع السلبية، في الدائرة الأخلاقية ناتجة عن الاختلاط، في ما يمثِّله من انحرافات عن الخطوط الشرعية، فإنّنا لا نجد في ذلك مشكلة كبيرة في ما نعالجه، لأنّ سقوط التجربة، في بعض المواقع، ليس بدعاً من الأمور في كلّ الدوائر الأخلاقية العامة في المجتمع كلّه. لأنّ طبيعة الضعف الإنساني قد تفرض الانحراف بفعل الغفلة عن الاحتراس من السقوط، حتّى في الدائرة الذاتية الفردية في دائرة الرجل، أو المرأة فقد لا تخلو أيّة حالة إنسانية من ذلك كلّه. الأمر الذي يستدعي العمل على تأكيد الضوابط في النطاق الاجتماعي والفردي من دون الحاجة إلى المبادرات الضروريّة في حركة الفرد والمجتمع، في هذا الخطّ، أو ذاك. لأنّ ذلك يعني إلغاء أيّة تجربة في نطاق المسؤولية في أيِّ جانب من جوانب الحياة العامة والخاصة، لأنّها لا تنفصل في بعض مفرداتها عن الانحراف بدرجة أو بأخرى.

وقد يثير بعض الناس مسألة الأمومة، بوصفها مسألة مهمة وأساسية يفرضها الدور الإسلامي البارز للمرأة، بل ربّما يكون هو الدور الإنساني البارز لها من خلال الالتزامات الطبيعية التي تفرضها أوضاعه المعقّدة من الحمل والإرضاع والتربية.. فقد نستوحي من هذه المسألة التي تؤكّد أصالة الدور الإنساني للمرأة في شخصية الأم في حياتها، بالإضافة إلى شخصيّة الزوجة في ذلك الدور.. ويؤكّد بعضهم على الموانع التي تمنع المرأة من ممارسة أيّ دور آخرَ في النطاق الثقافيّ أو الاجتماعيّ أو السياسيّ؛ الأمر الذي يعني أنّ على المرأة القيام بدور الاختيار بين دورها كزوجة وأُم، لا بدّ من أن ترعى زوجها وأولادها وبين دورها كعاملة في الحقول العامة، لا بدّ من التوازن بين الدورين، إذ لا بدّ من أن يطغى جانب على جانب، بحيث قد يلغيه في بعض الظروف العامّة.

ولكنّنا نتصوّر أنّ الأمومة، في مسؤولياتها ومشاكلها، كالأبوّة في بعض هذه المسؤوليات والمشاكل، وإن اختلفت عنها في الطبيعة من حيث الحمل والإرضاع وتربية الأولاد والعناية بهم وبالزّوج، في البعد الواقعيّ العمليّ للمسألة، وهو ما لا يعيشه الأب أو الزوج ولا يستغرق فيه.. غير أنّ المسؤولية الشرعية التي يحملها الإسلام للزوج وللأب في الإنفاق على البيت الزوجيّ ورعاية الزوجة والأولاد، تأخذ أكثر الوقت، وتستهلك أكثر الطاقة. فالمسألة، في هذه الدائرة العائلية، متقاربة في ضغوطها ومشاكلها، ولا تقلّ إحداهما عن الأخرى في حجم المسؤولية.

غير أنّ ذلك لا يمنع الرجل من أن يملك بعض حريّة الحركة في ممارسة شخصيته كإنسان، وكمسلم، في ما تفرضه عليه إنسانيّته من نشاطات عامّة وخاصّة على مستوى الثقافة، والاجتماع، والسياسة، وكلّ ما يحتاجه المجتمع الإنساني من حوله، أو في ما يفرضه إسلامه من دعوة وجهاد وتقوية وتنمية في حركة الإسلام كرسالة، أو في واقع المسلمين كمجتمع أو كأمّة. ولهذا، فلا بدّ له من رعاية ذلك في عمله تبعاً للإمكانات التي يملكها من وقت أو جهد، لأنّ الإنسان لا يتجمّد في دوره كزوج أو كأب، بل إنّ الأمومة والأبوّة تمثّلان عنوانين من عناوين العلاقات الإنسانية التي أراد الله لها أن تحرّك الحياة في حلقات متّصلة في الوقت الذي يفرض فيه الإسلام على الأب والأم الخضوع للخطوط الكبرى التي تحكم كلّ العناوين الإنسانية في حركة الإنسان.. وعلى هذا الأساس، فلا بدّ من العمل في الدائرة العامّة من أجل حماية الواقع كلّه من كلّ الاهتزازات والثغرات والأوضاع السلبية التي تنحرف به عن الخطّ المستقيم الذي يريده الله للإنسان في حركته الفاعلة في الحياة.. وهذا هو الذي يفرض عليه أن يعطيَ جهده للرسالة في ما تحتاج إليه من جهدٍ فكريّ وعمليّ للوصول إلى الأهداف؛ الأمر الذي يدفعه إلى أن يجعل لوقته مساحة احتياطية للعمل العام في نطاق العمل الخاص في مفرداته المتّصلة بحاجات الرسالة، أو في نطاق العمل العام في تطلّعاته الواسعة إلى الآفاق الرحبة.

وهكذا نواجه المسألة في شخصية المرأة ـــ الزوجة، أو المرأة ـــ الأم. فإنّ ذلك لا يلغي شخصيّتها كإنسانة لا بدّ أن تضيف إلى الإنسانة شيئاً من عطائها الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ في المجالات التي لا تستطيع أن تحرّكها في هذه الاتجاهات. وهو لا يجمّد حركتها كمسلمة يحتاجها الإسلام في دعوته وجهاده وحركته العملية من أجل التغيير. الأمر الذي يفرض عليها أن تحتفظ للإنسانية في عنوانها العام، وللإسلام في حركته الشاملة، بعضاً من وقتها وجهدها خارج نطاق مسؤوليتها كزوجة وأم. وربّما كانت نشاطاتها في الحقل العام تؤكّد حيوية المعنى الإنسانيّ والإسلاميّ في نشاطاتها في حقل الزوجية والأمومة.

إنّ التأكيد على مهمة المرأة في دور "ربّة البيت"، بالتأكيد على أهمية الرجل في دور "ربّ البيت"، لا يلغي ضرورة التحرّك في الخطّ الإنسانيّ الممتد في واقع الإنسانية على هدى انفتاح الإسلام على كلّ قضاياها الكبيرة والصغيرة في استقامة الطريق في خطّ الأهداف، وفي الوقوف في وجه الانحراف.

وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة التي تحمّل المؤمنات مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تحمّل المؤمنين ذلك. وتتصاعد القضية في إيحاءاتها الاجتماعية لتؤكّد على الاندماج الإنسانيّ الإسلاميّ في الولاية، بحيث يكون بعضهم أولياء بعض في العمل والنصرة والتأييد والتعاون في كلّ المجالات المشتركة، وذلك هو قوله تعالى:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ*وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 71 ــ 72].

عملية التكامل الإنسانيّ

ويرسم قوله تعالى صورة المجتمع المؤمن المتكامل المتمثّل في وقوف المؤمنين والمؤمنات معاً في علاقة الولاية المنفتحة على المسؤولية في مواجهة الانحراف الاجتماعي والسياسي والعقيدي المتمثّل في إهمال المعروف وتشجيع المنكر، ليتحرّكوا جميعاً في وحدة إيمانية شاملة، في إعادة الحياة إلى خطّ المعروف وإبعادها عن خطّ المنكر. وذلك بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في كلّ شيء ممّا تتضمّنه رسالة الله في حركة العقيدة، في مفاهيمها وامتداد الشريعة في أحكامها، وذلك هو وحده الذي يمنحهم رحمة الله ويدخلهم جنّته الخالدة في نعيمها، ويرفعهم إلى الدرجة الكبرى التي تقدم على ذلك كلّه، وهي رضوان الله الذي هو غاية كلّ مؤمن ومؤمنة من وجوده في الحياة. ونجد إزاء هذه الصورة المشرقة المتحرّكة، في آفاق رحمة الله ورضوانه صورة أخرى، وهي صورة المنافقين والمنافقات، في الواقع السلبي المنحرف الذي يمثّله المجتمع القائم على الارتباط العضوي بين المنافقين والمنافقات بحيث يتّصل بعضهم ببعض، ويقوّي بعضهم بعضاً في إبعاد الحياة عن المعروف وتقريبها من خطّ المنكر، وفي منعها عن الانفتاح على العطاء، وفي نسيانها لله الذي يهملها ويهمل أهلها في ما يوحي به نسيان الله لهم. ويتّضح ذلك في قوله تعالى:

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 67 ــ 68].

وهذا هو المجتمع الذي تتكامل فيه عناصر الانحراف التي تبتعد به عن الله، فيتحوّل النفاق في الرجال والنساء إلى وضع شاذّ يعرض أصحابه إلى نار الجحيم، حيث يتساوى المنافقون والكفّار في استحقاقهم لغضب الله. وهكذا نرى كيف يتحدّث القرآن عن الرجال والنساء معاً في حياتهم الحركيّة، بعيداً عن الأبوّة والأمومة والزوجية، في الدائرتين: الإيجابية والسلبية، من دون أن يجعل للرجال دوراً أكبر، أو أخطر، من دور النساء. ومن دون أن يعزل أيّاً منهما عن مسؤوليته في واقع الحياة في غمرة انشغالها بالأدوار الخاصة. وهي: الأمومة والأبوّة والزوجية. بل ربّما كان الدور العام هو الذي يمنح الدور الخاص مضمونه الإنسانيّ أو الرساليّ في ما يترك من تأثيراته الإيجابية على فكر الإنسان وروحه، فيمتد إلى واقعه العمليّ بكلّ قوّة وإيمان.

إنّ هناك مشكلة معقّدة في ذهنية الكثيرين من المؤمنين من إسلاميين وغيرهم، وهي أنّهم ينظرون إلى المرأة كما لو كانت كائناً جنسياً ينفتح على الحياة من موقع الاتصال الجنسيّ في طبيعته الغريزية، وفي نتائجه التناسلية. وبذلك تختصر حياتها في هذه الدائرة، على مستوى الالتزامات الأخلاقية والعلاقات الاجتماعية والنوازع الذاتية فلا مجال عندهم لأيّ تصوّر ينطلق بالمرأة نحو الأبعاد الإنسانية الواسعة. فيرون إلى المرأة بوصفها إنساناً يملك طاقات فاعلة يمكن أن تمنح الحياة فكراً وحركة وانطلاقاً في عملية الإبداع.. بل وربّما نجد بعض الناس يسخر من هذه الفكرة، ويعتبرها نوعاً من أنواع المزاح، أو التفكير الخياليّ الذي لا يملك أيّة إمكانات واقعية للحياة.

ولكنّ هؤلاء لا ينظرون إلى الرجل مثل هذه النظرة، في الوقت الذي لا نجد فيه فرقاً بين الرجل والمرأة من حيث الوظيفة الإنسانية للعامل الجنسيّ بوصفها حركة الغريزة في الراحة الجسدية، وقضيّة التوالد والتناسل في استمرار النوع البشريّ، مع اختلاف الخصائص في ذلك بينهما، تبعاً للدور الذي يتميّز به التكوين الجسدي لأحدهما عن الآخر.

ولكنّ ذلك لا يوجب أيّ اختلاف في المسائل الأخلاقية كالعفّة عند الرجل والمرأة، وفي الالتزامات الشرعية في المسألة الجنسية، وفي طبيعة الحدود المفروضة في علاقاتها الإنسانية وفي الإمكانات الفكرية والروحيّة والعملية.

إنّ التفكير الإسلاميّ ينظر إلى إنسانية المرأة والرجل بمنظارٍ واحد في مسألة التكوين، وفي مسألة المسؤولية، ويدعوهما معاً على صنع حركة الحضارة الإسلامية في حياة الناس.. ويحمِّلهما معاً مسؤولية الانحراف والاستقامة بالمستوى نفسه. ويوزّع بينهما الأدوار والمهمّات على أساس عملية التكامل الإنساني الذي يضيف فيه كلّ فريق، من الذكر والأنثى، شيئاً من خصائصه إلى الفريق الآخر لتتّحد الخصائص الإنسانية على مستوى النتائج في تكامل الأدوار والمسؤوليات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شعار تحرير المرأة

لعلَّ شعار تحرير المرأة، في طبيعته، ناشئٌ من الواقع السيِّئ الذي كانت المرأة تعيشه، في أجواء التقاليد والعادات المتخلِّفة التي تضطهد إنسانيّتها وتعاملها كما لو كانت مجرّد شيء من أشياء الرّجل التي صُنعت للاستمتاع، من دون أن يكون لها أيّ دور فاعل في الحياة.

حتّى الأمومة التي هي رسالتها في مضمونها الإنسانيّ، لا يُنظر إليها، من قِبَل المجتمع المتخلِّف، إلاّ في دائرة الخدمة التي تؤدِّيها لأولادها بعيداً عن عملية التوعية والتربية والتوجيه لأنّ مسألة تعلُّم المرأة ليست واردة في حسابهم، باعتبار أنّ ذلك ليس حاجة، في علاقتها بالزّوج والولد والبيت.

وهكذا تمتدُّ المسألة، في هذا التقليد الاجتماعيّ، لترى في تشريع الحجاب أساساً لإبعادها عن كلّ أجواء العمل الماديّ، والنشاط الاجتماعي والموقف السياسيّ، والثقافة العامّة، لأنّ الحجاب، كما يقولون يشمل المعنى الدّاخلي، والمضمون الحركيّ للشخصية، كما يشمل الجانب المتّصل بتغطية الجسد.

كلُّ ذلك أعطى للواقع، في حركة المرأة في الحياة، معنى الإنسان المقهور المُسْتَعبد الذي لا يعيش حركيّة إنسانيّته، واستقلال إرادته بل هو مجرّد ظلّ للآخرين، وصدىً لأصواتهم، وأداة استهلاكية لحاجاتهم وغرائزهم؛ الأمر الذي جعل القضية تنطلق في معنى الثورة، ومضمون التحرير، لاتّصالها بالتغيير الذي يختزنُ في داخله حركة حريّة الإنسان ليكون تحرير المرأة جزءاً من تحرير الإنسان في الجوانب الذي تضطهد فيها إنسانيته، لتعود المرأة إنساناً صاحب رسالة، ومخلوقاً متعدِّد الأبعاد، يتحرّك في عقله وعاطفته وإرادته وطاقاته، ليضيف إلى الحياة شيئاً جديداً.

أمّا خصوم الحرّية، فإنّهم يرون فيها إفساداً للمرأة، لأنّه يؤدّي بها إلى الدخول إلى المجتمع من الباب الواسع الذي يمكن أن ينفذ الرّجل منه لتضليلها واستغلالها بشكلٍ أوسع، لغرائزه وشهواته. وهذا ما نلاحظه في الواقع الذي عاشته المرأة، في المضمون الفكريّ الاجتماعيّ للحضارة الغربية الذي أدخل المرأة في جوّ جديد للاستهلاك الغريزي، ولكن بصورةٍ عصريةٍ إيحائية توحي للمرأة بأنّها تمارس حرّيتها، عندما تمارس خضوعها لغرائز الرجال بأساليبهم المتعدّدة.

وهكذا يرى هؤلاء أنّ ما حصلت عليه المرأة من فرص للعمل الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ لم يحلّ مشكلة الإنسان، بل زادها تعقيداً، لأنّها أخذت دورها في ذلك على حساب دور الرجل، الذي فقد فرصة العمل في أكثر من موقع فزادت نسبة البطالة لديه. كما أنّها زادت أعباء المرأة التي لم تتخلَّ عن دور الزوجة في مسؤوليّاتها، والأمومة في مشاكلها ومتاعبها.. أمّا المرأة التي تخلّت عن الأمومة في طبيعتها، أو في دورها، فقد خلقت لنفسها مشكلة الفراغ النفسيّ الذي تطوف العقد النفسية في داخله، كما خلقت للمجتمع أكثر من مشكلة.

وهكذا يرى هؤلاء أنّ رسالة الأمومة، ومهمّة الزّوجية، وقيمة العفّة قد خسرت الكثير بسبب حرّية المرأة، بينما لم تحصل المرأة، ولا الإنسانية، على المقابل من ذلك، في ثروة الحياة الرّوحية والمادية.   

ولكنّ القضية ليست بالصورة القاتمة التي يصوّرها هؤلاء، لأنّ دور الأمومة في المرأة يقابله دور الأبوة في الرجل، فإذا كان دور الأبوّة لا يلغي للرّجل أدواره الأخرى في حركة الحياة، من خلال البعد الإنساني الواسع في شخصيته فكيف يكون من الضروري أن يلغيَ دور الأمومة للمرأة أدوارها الأخرى المتّصلة بإنسانيتها وإذا كانت الأمومة أكثر تعقيداً من الأبوّة لصلتها بالجانب الجسدي العضوي من وجودها، بينما تتّصل الأبوّة بالجانب الخارجي من وجوده، فإنّ ذلك لا يلغي طبيعة الدور مهما كانت طبيعته ودرجة خطورته، وهكذا هي النظرة في مهمّة الزوجيّة التي لا تلغي دور الإنسان في المهمّة الإنسانية الملقاة على عاتقها.

أمّا قيمة العفّة، فإنّ الضوابط الإسلامية لحدود الحرية كفيلة بإبقاء المسألة الأخلاقية في الدائرة المضبوطة في مجال الإرادة الإيمانية للمرأة المؤمنة، تماماً كأيّة امرأة خاضعة لحركة القيمة في وعيها الإيماني وشخصيتها الفاعلة.

إنّ المشكلة، في الكثيرين من دعاة الحرية وخصومها، أنّهم ينطلقون من ملاحظاتٍ سريعةٍ في الواقع، ومن دراسة نماذج معيّنة للإنسان، ومن سطحية في مواجهة المشكلة والحلّ؛ الأمر الذي يجعلهم يستعجلون الحكم على الأشياء: إيجاباً أو سلباً في آفاق المطلق الغارق في الضباب.

ولذلك، لا بدّ من التوقّف أمام شعار حريّة المرأة، لنطرح السؤال الكبير: ما هي الأمور، أو الأوضاع، التي ينبغي للمرأة أن تتحرّر منها؟

وما هو مفهوم الإسلام للحرية مقارناً بمفهوم دعاة حرّية المرأة للحريّة؟

وهل تقف حرّية الإنسان في حدود معيّنة تتقاطع فيها مصالحه وقضاياه وأهدافه؟ أو أنّها تتحرّك في اتجاه المطلق من دون حدود أو قيود؟

وللجواب عن ذلك لا بدّ من أن ندرس قضية الحرية في بعدها المطلق الذي لا يقف فيه الإنسان عند حدّ معيّن في نزواته وشهواته وأطماعه ومشاريعه الخاصة والعامّة، بحيث تكون القضية في الحياة قضية واقعه الفردي، كما لو لم يكن في الوجود غيره، فلا مشكلة لديه إذا كانت حرّيته تضغط على حريّة الآخرين أو تلغيها.

لعلّ من الطبيعي أن يكون الحديث عن الحرّية المطلقة حديثاً غير ذي موضوع لأنّها تمثّل الفوضى في النظام الكونيّ، عندما تتعارض حركتها لدى الناس فتؤدّي إلى التنازع والتقاتل في ما بينهم، وتكون النتيجة إلغاء بعضهم لبعض.. حتّى الإنسان الفرد الذي يمارس حرّيته من دون قيود، فقد تصطدم حرّيته، في موقع بالحرية في موقع آخر، الأمر الذي يفرض عليه اختيار أحدهما، انطلاقاً من المصلحة الأهمّ في هذا الأمر أو ذاك، فيؤدّي ذلك إلى تحديد المساحة والحركة والموقف.

وفي ضوء ذلك، لا بدّ من وضع الضوابط العملية التي تجعل من الحرية حركةً واقعية في المصلحة العليا للإنسان على مستوى الفرد، في ما يحمي له سلامة حياته وتوازنها في حركة الروح والجسد، وعلى مستوى الجماعة في الساحة المفتوحة على تنوّعات المجتمع في المجال الضيّق والواسع، الأمر الذي ينظّم للمجتمع نظامه المدنيّ الذي تتوازن فيه حاجاته وقضاياه، وتتحرّك فيه وسائله وأهدافه، في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، بحيث يجد فيه كلّ فرد حاجته التي تتكامل مع حاجات الآخرين، ليقدّم تنازلاً من بعض حدود حاجاته، للآخر بدلاً من الدخول في صراع الذاتية المتحرّكة نحو إلغاء الآخر، ممّا يؤدّي إلى خراب الحياة وسقوطها في ساحة التنازع والتقاتل.

وقد لا تحتاج إلى مزيد من الدخول في التفاصيل المتعلّقة بهذا الموضوع لأنّ الإنسانية، في كلّ حركتها، تنطلق من السّعي نحو إيجاد النظام المتوازن الذي يكفل لكلّ إنسان حاجته في حدود الحاجات العامّة للمجتمع.

ومن الطبيعيّ أن تكون للحرّية حدودها الأخلاقيّة من خلال الفلسفة الإنسانية في عمق المصلحة العامّة للإنسان.

فهناك الفلسفة المادية التي تتحدّث عن الحرّية الفردية بطريقةٍ تشبه المطلق، فلا تضع لها حدوداً إلاّ في المدى الذي تتحوّل فيه إلى حالةٍ عدوانية ضدّ الآخر، فللإنسان الذكر والأنثى، الحقّ في ممارسة حرّيته في حدود حياته الشخصية، من دون حدود خاصة مفروضة عليه من جهةٍ عليا ـــ أيّاً كانت طبيعتها ــــ إلاّ في نطاق النظام العام الذي يفرضه القانون المدنيّ، في حدود الحريّات العامة.

ولكنَّ بعض الناس ـــ من الخاضعين لهذه الفلسفة ـــ قد ينتقدون واضعي القانون في فرض هذه القيود، لأنّها ترهق الإنسان، وتصادر إنسانيّته.

وقد يجمع الخيالُ ببعض الشعراء في استغراقهم في الذّات في أجواء المطلق فلا يجدون أيّ عذرٍ لتقييد الحركة، تماماً كما هي الحال عندما نفكّر بحبس الهواء الذي يتنفّسه الناس، أو الضوء الذي تشرق به الحياة.. حتّى إِنّ هؤلاء قد يجدون في القانون تهديداً للحرّية بحيث يفكّرون بأنّ على الحياة ألاّ تخضع للقانون في المطلق.

وهناك الفلسفة الدينية التي تضع الإنسان في صورته الطبيعيّة الواقعية، فهو مخلوق لله بكلّ وجوده وبكلّ طاقاته، وهو جزء من الكون من حيث طبيعة التفاعل العضويّ بينه وبين مفرداته التكوينيّة والاجتماعية فهو عنصر فاعلٌ في الحياة ومنفعل بها، لا يملك أن ينفصل عنه كما لا تملك الانفصال عنها ـــ في ساحة الوجود الحيّ في داخله وفي ساحاتها، ولذلك فإنّ حركته جزءٌ من حركة النظام الكونيّ.

وهو ـــ من خلال ذلك ـــ عبد الله خاضع لأوامره ونواهيه التي لن تكون ضدّ مصلحته الفردية والجماعة في مستوى إنسانيّته، لأنّها جزءٌ من نظام التوازن الذي أقام الله عليه الحياة، وأراد للإنسان أن يطبّقه على نفسه وعلى الكون من حوله. وهكذا كان النّظام الأخلاقيّ خطاً طويلاً ممتداً في كلّ مفاصل وجوده، وفي كلّ دروبه المنفتحة على الله وعلى الإنسان وفي الآفاق المنفتحة على حاجاته الجسدية والروحية، باعتباره مزيجاً من الروح والمادة في سرّ وجوده العميق.

وهكذا كانت المسألة الأخلاقية هي التي تنظِّم له حركة حرّيته، لتوازن له حياته العامّة والخاصّة، فليست القضية قضية مزاج ذاتيّ، ولا خيالات ضائعة في المطلق، بل هي قضية واقعٍ محدود بحدود المصلحة العليا التي حدّدها خالق الإنسان للإنسان.

وبذلك لن تكون هذه الحدود الموضوعة للحرية حالة مأساوية للإنسان الخاضع لها، لأنّ المأساة ليست مجرّد حالة شعورية في الإحساس بل هي حالة عملية في الواقع، فهي مسألة نسبية في الحياة فلا بدّ للإنسان من أن يعاني مثل هذه الأحاسيس الذاتية المأساوية عندما تصطدم حرّيته بحريّة الآخرين، فلا مشكلة ـــ من هذه الجهة ـــ عندما تعيش حالة التصادم بين الجانب الفردي والاجتماعيّ في المسألة الأخلاقية التي هي سرّ مصلحة الإنسان.

وفي هذا المجال، نلاحظ أنّ الإسلام قد وضع قيوداً أخلاقية شرعيةً في المسألة الجنسية للرجل والمرأة معاً، فاعتبر الزواج هو المتنفّس الطبيعيّ للغريزة، وحرّم كلّ العناوين الأخرى، لأنّ الفوضى الجنسية قد تحلّ للإنسان مشكلته في نطاقه الذاتيّ من جهةٍ معينة، ولكنّها تعقّد له المشكلة من جهةٍ أخرى، كما تخلق له مشاكل أخرى في موقعٍ آخر.

وإذا كان الإسلام قد أعطى الرجل مساحةً أكبر في اتّباع غريزته من خلال الزواج المتعدّد، فإنّ ذلك لم يكن تمييزاً تعسّفياً بين الرجل والمرأة بل كان منطلقاً من خصوصية الغريزة المتنوّعة بين الرجل والمرأة بشكلٍ عام.

وهذا ما فصّلناه في هذا الكتاب في فصلٍ لاحق ـــ ومن خصوصيّة النظام الأبويّ الذي يتّصل به موضوع النّسب على أساس المسألة الطبيعية التي تربط الشجرة بالبذرة لا بالأرض التي تنبت فيها، والمسألة الاجتماعية في التنظيم العام المتحرّك الذي يخضع له المجتمع الإنساني في حركة المسؤولية المباشرة.

وفي هذه الأجواء التي تضع للغريزة الجنسية نظاماً وترسم للعلاقة بين الرجل والمرأة حدوداً، لا بدّ من وضع الضوابط العملية في تطويق عمليات الإثارة ومحاصرة انفعالات الانحراف. لذلك كان الحجاب هو النظام الإسلاميّ للزيّ الذي تظهر به المرأة أمام الرّجال الأجانب، باعتبارها الإنسان الرمز للإثارة في التاريخ الشعوري في انفعال الرجل بالمرأة، ممّا يفرض عليها الاحتراز عن التحرُّك أمامه بالصفة الأنثوية المثيرة لغرائزه ليكون البديل عن ذلك أن تتحرّك بصفتها الإنسانية المثيرة لاحترامه.

ولم يجعل الإسلام الحجاب في هذه الدائرة سجناً لأنوثة المرأة لأنّ لها الحقّ في أن تعبّر عن مظاهر الأنوثة في الزيّ أو في الزينة في المجتمع النسائيّ، وفي دائرة محارمها من الرجال، وفي البيت الزوجيّ الذي جعل لها كلّ الحرية في التعبير عن كلّ عمق الأنوثة الجسدية مع زوجها، من دون أيّ قيد، الأمر الذي يملأ فراغها العاطفيّ، في منطقة الإحساس العميق بشخصيّتها الخاصة كامرأة في خصوصيّتها الغريزية.

وقد نلاحظ أنّ المرأة لا تجد في حريّة أنوثتها في الجوّ الاجتماعي الملتهب بعناصر الإثارة، أيّ طموح ذاتيّ يُرضي إنسانيتها، أو يحقّق لها الاستقرار النفسي لاسيّما أنّها تعيش الإحساس بأنّ نظرات الإعجاب بجمالها لا تختزن الانفعال بالجمال كقيمة شعورية جمالية، بل تحمل في داخلها جوع الغريزة واستهلاك الشهوة تماماً كأيّ طعام وشراب يستهلكه الإنسان من دون أن يمثّل أيّ معنىً للقيمة الحياتية.

ولذلك، فإنّ الزّهو الأنثوي الذي تعيشه الفتاة، أو المرأة من خلال النظرات الشهوية قد يثير فيها بعض الانفعال الذاتيّ بالفخر والرضا. ولكنّها عندما تتحرّك في خطر التجربة التي تلاحقها فيها الكلمات اللاهبة، والمشاعر الجائعة، وتحاصرها فيها الأوضاع الشاذّة فإنّها تجد في نفسها أكثر من مشكلةٍ تشعر معها بالحرج والخجل فتدفعها إلى الهروب، أو تخلق لها أكثر من عقدةٍ نفسيةً متأزّمةٍ.

وهكذا نرى أنّ الإسلام لم يخنق في المرأة أنوثتها، ولم يسجن لها غريزتها، ولم يقيّد حرّيتها، بل جعلها في الدائرة التي تتوازن فيها المسألة الذاتية والمسألة الأخلاقية والاجتماعية في نطاق الحالة الخاصة والعامة للإنسان الفرد ـــ والمجتمع في نطاق الإيمان بالله والوقوف عند حدوده التي هي حدود المصلحة العليا للإنسان.

وقد أثرنا ـــ فيما يأتي في حديث ـــ بعض الأحاديث عن الفكرة التي تقول: إنّ الحجاب يعطّل طاقة المرأة عن الانفتاح على المسؤولية المتنوّعة في الحياة العامة، لأنّه يعزلها عن المجتمع من خلال الموقف السلبيّ من الاختلاط، والحدود المتزمّتة للزيّ المحتشم.

وقلنا، هناك، إنّه بإمكان المرأة أن تمارس كلّ حركتها في ذاتها كإنسان، من خلال حركة العلم في شخصيتها إلى أبعد الآفاق ومن خلال حركة النشاط العمليّ والسياسيّ والاجتماعيّ في الدائرة الأخلاقية التي جعلها الله مشتركة بينها وبين الرجل مع ملاحظة خصوصيّتها كامرأة في مقابل خصوصيّته كرجل.

لأنّ الاختلاط المحرّم هو الاختلاط الذي يؤدّي من خلال ظروفه الموضوعية إلى الانحراف، فليس كلّ اختلاط محرّماً، كما أنّ الحجاب لا يعني تغطية المرأة لوجهها بل يعني ستر الجسد ما عدا الوجه والكفّين على أساس قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].

وتبقى المرأة إنساناً مستقلاً عن الرجل في شخصيّتها الإنسانية في داخل الحياة الزوجية وخارجها، من دون أن يكون له أيّة سلطة عليها في هذا المجال، فيما عدا بعض الحدود التي تفرضها طبيعة المسؤوليات التي تفرضها طبيعة التنظيم الإسلامي للحياة الزوجية في توزيع الأدوار وتنويع الخصوصيات، مع ملاحظة مهمة، وهي وجود بعض الشروط المعتبرة في ما يمكن للمرأة أن تتجاوز ـــ من خلالها ـــ بعض السلبيات الخاصة في مسألة اعتبار الطلاق بيد الرجل، ممّا لا يخلو منه أيّ تشريع بنسبةٍ معيّنة.

إنّ الفرق بين الإسلام في مجتمعه الإسلاميّ الذي يريد أن يصنع للإنسان الرجل والمرأة، وبين الانحراف في المجتمع الرأسمالي، هو أنّ الإسلام يريد الارتفاع بالمرأة والرجل ليعيش كلّ منهما إنسانيّته بوصفه إنساناً مستقلاً، في روحه وجسده، بينما يعمل المجتمع الرأسماليّ على تحويل المرأة إلى سلعة للاستهلاك الإعلاميّ، والابتذال الجنسيّ في صورة الإثارة، الأمر الذي يجعلها مادّة رخيصة للإعلان بدلاً من أن تكون عنصراً محترماً للإنسان.

وخلاصة الفكرة، أنّ الحرية المسؤولة هي التي تلتقي بالمعنى الإنسانيّ للإنسان في حركة أبعاده المتنوّعة التي تتوازن فيها الخصائص والأدوار في النطاق الفرديّ والاجتماعيّ، وليست هي التي تلتقي بالأهواء الذاتية التي تستغرق الإنسان في شهواته وغرائزه ومزاجيّاته بعيداً عن مسؤولياته في واقع الحياة من خلال حاجة الوجود إليه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المرأة وواقع التخلُّف

تحديد مفهوم التخلّف    

كثيراً ما تُثار مسألة تخلّف المجتمع ومدى انعكاسها على المرأة التي باتت تعتبر جزءاً من واقع التخلُّف هذا. فما هي مسؤولية المرأة عن هذا الواقع؟ وهل باستطاعتها أن تخرج منه؟ وما هو دورها في عملية التنمية؟

أسئلة كثيرة تُطرح. وقبل الإجابة عنها لا بدّ لنا من أن نحدِّد مفهوم التخلّف لنقول: إنّ هناك مفاهيم عامّة للتخلُّف لا تختلف فيها حضارة عن حضارة. فالجهل، مثلاً، يعتبر مظهراً من مظاهر التخلّف سواء كان ذلك على مستوى الحضارة الإسلامية أم على مستوى الحضارة الغربية، باعتبار أنّ الإسلام يؤكّد على العلم وعلى ضرورة التعليم.. وكذلك الأمر بالنسبة للقبلية والعصبية فإنّهما يعدَّان مظهرين من مظاهر التخلّف. وهذا الأمر ينطبق على الكثير من المفاهيم التي تتحرّك لتُنتج المشاكل الكثيرة داخل المجتمع. نعم، هناك مفاهيم للتقدّم ومفاهيم للتخلّف تنطلق من النهج أو الخطّ الفكريّ لهذه الحضارة أو تلك. وكمثال على ذلك، نذكر أنّ المدنيّة الغربية تعتبر أنّ إعطاء الحريّة الفردية للإنسان بشكلٍ كامل مظهر من مظاهر التقدّم. وهذا يعني ألاّ يؤمن الإنسان بالحدود والضوابط الأخلاقية، في علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة المرأة بالرجل على مختلف المستويات. وكذلك الأمر بالنسبة للحريّة الاقتصادية ولمواضيع أخرى تختلف فيها النظرّيات حتّى في الواقع الغربي نفسه.. لهذا، فإنّنا، في هذا المجال، لا نستطيع أن نضع التخلُّف لافتةً من دون مضمون. فلا بدّ لنا من أن ندرس مفاهيمنا الإسلامية التي تعمل على إعطاء الإنسان دفعةً نحو التقدّم والنموّ والسموّ، على أساس أحكام الله في ما شرّعه للإنسان عندما نظر إليه من جميع جوانبه الروحية والمادية. لهذا لا بدّ لنا من أن نعتبر أنّ مسألة التقدّم والتخلّف مسألة نسبية، بحسب طبيعة الأفكار التي تتقدّم نحو التقدّم أو نحو التخلّف. والقصد من النسبيّة هنا أنّه ليس هناك شيء اسمه تقدّم بالمطلق أو تخلّف بالمطلق، بل إنّ لكلّ فكر فلسفته وخطوته التي ترسم للحياة خطّ التقدّم والتخلّف بحسب المفاهيم التي ترتكز في الواقع.

التخلُّف مسؤولية مَن؟

إنّ واقع التخلّف الموجود داخل المجتمع الإسلاميّ ليس مسؤولية الرجل بحدِّ ذاته ولا مسؤولية المرأة بحدِّ ذاتها، بل إنّ الرجل والمرأة ضحيّتان لمزيد من الأوضاع الإسلامية الداخلية على مستوى السلطة وعلى مستوى الأوضاع الجديدة التي أغرقت المسلمين في أجواء معقّدة من الخلافات ومن حالة الاسترخاء التي عاشوها، بحيث أنّهم غفلوا عن تأصيل الشخصية الإسلامية في حياتهم الفردية والمجتمعية، بالإضافة إلى العوامل الخارجية التي أطبقت على الواقع الإسلاميّ، فأبقت حالة التخلُّف وشجّعتها. وعندما أرادت للمسلمين أن يأخذوا بأسباب الحضارة أعطتهم من الحضارة قشورها. وأرادت أن تجعلهم ضائعين بين ما هو الإسلام وبين ما هي الحضارة الغربية. إنّها أبعدتهم عن إسلامهم باسم التقدّم ولم تعطهم جوهر ما يسمّى بالتقدّم في عمقه الفكريّ والحضاريّ. ولهذا فإنّ المسألة لا تستند إلى عامل واحد بل تستند إلى عواملَ كثيرة تؤثّر في تكوين أوضاع المجتمع الإسلاميّ: الداخلية والخارجية.

دور المرأة في عملية التنمية

المرأة عضو فاعل في المجتمع. وهذا يمكّنها من أن تتحرّك في أداء دورها الطليعيّ المتمثّل في عدد من المهام، منها: إشاعة مفاهيم التنمية في الحياة الاجتماعية، والعمل على أساس إيجاد مبادرات في الأماكن التي تستطيع فيها أن تتحرّك بحريّة وأن تعمل في خطّ جهاديّ طويل على إقناع الرجل بأنّها إنسان وأنّها تستطيع أن تقوم بعملية التنمية، سواء أكان ذلك على المستوى الثقافيّ أم الاقتصاديّ أم الاجتماعيّ كما يقوم الرجل، لأنّ طاقاتها ليست بأقلّ من طاقته. عندما يتمُّ استخدام هذه الطاقات.

إنّ المسألة تحتاج إلى مبادرة وإلى عملية دخول في صراع مع المفاهيم المتخلّفة حتى تكون التنمية نتيجة للسيطرة على عقلية التخلّف، لأنّ ذلك هو الذي يمكن أن يحقّق لنا السيطرة على واقع التخلّف باعتبار أنّ الله.. {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..} [الرعد : 11].

إنّنا نتصوّر أنّه لا بدّ للفئات المثقّفة الواعية التي تملك عقلية حضارية من أن تندفع لإيجاد جوٍّ للتوعية الروحية والثقافية الإسلامية والسياسية للمرأة حتّى ينشأ عندنا جيل من النساء يمكن أن يملك بعض المواقع الفكرية والحضارية، ليتحرّك من هذا الموقع نحو توعية بقيّة النساء، كما يحض من خلال الأجواء العامة على إيجاد فكر نسائي منفتح لا يتعقّد من الطموحات الحقيقة الأصلية في الإسلام، والمتعلّقة بشخصية المرأة وحركتها، وحركة الإسلام في الواقع.

ضرورة تربية المرأة

إنّنا عندما نريد أن نصوغ المرأة ومنذ بدايتها الطفولية ولغاية مراحل تدرّجها في الحياة لا بدّ لنا أن نُعنى بإنسانيّتها بأن نجعلها تعيش عناصر إنسانيتها التي تجعل منها إنساناً مسؤولاً عن حركة الحياة من حولها، لتكون الأمومة بعض مسؤولياتها لا كلّ مسؤولياتها تماماً كما هو الرجل عندما نريد أن ننمّيَ عناصر إنسانيّته ليرتبط بالحياة لتكون أبوّته جزءاً من مسؤوليته لا مسؤوليته كلّها، ثم نحاول في هذا المجال أن لا نجعل المرأة تشعر بأنّ أنوثتها شيء معين في حياتها أو نقطة ضعف بل علينا أن نوحيَ إليها بأنّها شيء طبيعي كما نقول للرجل أنّ ذكوريّته شيء طبيعي له باعتبار أنّ هذا أمر يدخل في طبيعة التكوين الإنسانيّ وعلى الإنسان أن لا يتعقّد من تكوينه الإنساني حتّى لو صادف بعض الصعوبات في هذا المجال.

وفي هذا الجوّ لا بدّ أن نربّيَ المرأة الزوجة بحيث تدخل الحياة الزوجية وهي تختزن في داخلها شخصية الزوجة لتعيَ دور الزوجة في حياتها وفي حياة الإنسان الآخر تماماً كما هي المسألة في ما نقوله عن الرجل. وعلينا أيضاً أن نعطيها الفكرة التي لا تتعقّد من مسألة الأمومة لتعتبر أنّ الأمومة رسالة وليست مجرّد عبءٍ ثقيل عليها تريد أن تتحرّر منه لتأخذ حريّتها المطلقة في العبث واللهو كما تفعل بعض النساء اللاتي يتعقّدن من الأمومة ولذا ينسحبن من الأمومة تماماً. أو اللاتي لا يردن أن يضحّين في مسألة الأمومة فيقتصرن على ولدٍ واحد، بقطع النظر عن الجوانب الاقتصادية أو التربوية بل لحبّ الراحة والابتعاد عن المسؤولية. لهذا لا بدّ للمرأة أن تشعر أنّ الأمومة حالة أساسية في شخصيّتها وفي حركة إنسانيتها كما تشعر بأنّ الزواج يمثّل دوراً في صنع الرجل وإغناء شخصيته كما يفكّر الرجل بأنّ الزواج حركة في صنع شخصية المرأة وفي تنمية عناصرها الإنسانية.

إنّ خلاصة الفكرة هي أنّ على المنهج التربويّ في تربية المرأة أن ينظر إلى المرأة كإنسانة تمتلك عدّة جوانب وتتحرّك في أكثر من بعد في المسألة الإنسانية فلا يطغى جانب على جانب بل أن نصنع المرأة تربوياً كما هي في دورها الجسديّ وفي دورها الإنساني على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ في الحياة. ولا بدّ أن تتكامل في هذا المجال التربية الأخلاقية والاجتماعية والروحية والجنسية والشرعية لتعيش شخصيّتها الإنسانية الذاتية في دورها المتعدّد الجوانب بشكلٍ طبيعيّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

المرأة وحقّ العمل

يعتبر الإسلام المرأة إنساناً مستقلاً من الناحية القانونية كالرجل، وليس لأحدٍ أيّة ولاية عليها إذا كانت بالغة رشيدة، إلاّ في ما تتنازل هي عنه بقرارٍ شخصيّ على أساس التعاقد.

وعلى هذا الأساس، فإنّنا لا نجد للزوج سلطةً على زوجته في أن يمنعها من العمل، من حيث طبيعة العمل. ولكنّ المسألة تتّخذ مجالاً آخر إذا اقتضى العمل خروجها من البيت. هنا تختلف الاجتهادات، فهناك اجتهاد لا يجيز للمرأة أن تخرج من بيت زوجها من غير إذنه. وهذا هو الاجتهاد الغالب لدى الفقهاء. وهناك اجتهادٌ آخرُ يراه بعض الفقهاء ـــ ونحن نوافقه على ذلك ـــ ومفاده أن لا مانع من أن تخرج المرأة من بيت زوجها بغير إذنه، في ما لا يتنافى مع حقِّه الزوجيّ الخاصّ في العلاقة الجنسية.

ويمكن للمرأة أن تحتاط لنفسها في هذا المجال، إذا أرادت أن تبقى في عملها بالاتّفاق مع زوجها، بأن تشترط في نصّ عقد الزواج أن يكون لها الحقّ في ممارسة عملها أثناء الحياة الزوجية، كما كان الحال قبلها. فإذا اشترطت ذلك لنفسها فليس للزوج أن يمنعها منه.  

من خلال ذلك نفهم أنّ الزوج ليس له أن يمنع زوجته من أيّ عملٍ محلَّلٍ شرعاً إلاّ من خلال طبيعة ما يقتضيه هذا العمل من خروج المرأة من بيتها، باعتبار لزوم استئذان الزوج، إمّا مطلقاً أو في ما ينافي حقّه.

وفي مثل هذا المجال، فإنّنا لا نجد سلطةً للأب في أن يمنع ابنته البالغة الرشيدة من العمل، إلاّ في الأمور المتعلّقة بدائرة الإشفاق الأبويّ على الولد. وهذا أمر يستوي فيه الابن والبنت، في تلك الأوامر الإشفاقية التي يكون عصيانها إساءةً للأب وعقوقاً له، في ما يتعلّق بالجوانب الحياتية التي تمثّل جانب الخطر على حياة الولد، سواء أكان رجلاً أم امرأة. فهي مستقلّة عن أبيها استقلالاً كاملاً في كلّ شيء، كما هي مستقلة عن أيّ إنسانٍ آخرَ، مع التحفُّظ الذي ذكرناه بالنسبة إلى الأوامر الإشفاقية.

وإذا كان بعض الفقهاء يرى أنّه لا بدّ من استئذان الأب، في زواج الفتاة العذراء، فليس ذلك داخلاً في باب الولاية، بل هو حكم تعبّدي من وجهة نظر هذا الاجتهاد الذي قد تخالفه اجتهادات أخرى ناشئة من بعض المصالح المختلفة في تحييد الفتاة من الوقوع في تجربة صعبة، نتيجة قلّة خبرتها أو ما إلى ذلك. 

أمّا بالنسبة للزوج، فمن الطبيعيّ أن يقيّد عقد الزواج حرّية المرأة، انطلاقاً من أنّها تتنازل عن حرّيتها بموجب هذا التعاقد. ومن الطبيعي أنّنا عندما نقول إنّه ليس للأب أن يمنع ابنته من العمل، وليس للزوج أن يمنع زوجته من العمل إلاّ في نطاق التحفُّظ الذي ذكرناه، فإنّنا نتحدّث عن ذلك في الأعمال الشرعية في هذا المجال. أمّا إذا أرادت المرأة أن تقوم ببعض الأعمال المنافية للشرع فللأب وللزوج، وأيّ إنسان، أن يمنعها. لكن ليس من خلال سلطة الأب والزوج بل من خلال الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كما يمكن منع الرجل من هذا العمل المنافي للأخلاق في هذا الاتجاه.

عمل المرأة الرسالي

يطالعنا القرآن الكريم بنداءات كثيرة تدعو الإنسان إلى أن يتحمّل المسؤولية المرتبطة بالحياة، على مستوى حركة الرسالة وعلى مستوى حركة المجتمع، وفي مواجهة التحدّيات التي يمكن أن تنطلق لتحاصر الرساليين في أداء رسالتهم، والناس في حرّيتهم، وفي قضاياهم المصيرية العامّة. إنّنا نجد أنّ القرآن الكريم في نداءاته لا يفرّق بين الرجل والمرأة. وعندما نقرأ كلّ النداءات التي وردت بعنوان: يا أيّها الناس، أو بعنوان: يا أيّها الذين آمنوا، فإنّنا نفهم منها النداء الموجّه إلى كلّ الناس وإلى كلّ المؤمنين من دون فرق بين الرجل والمرأة.

ولعلّنا نستطيع أن نستوحيَ ذلك، ولو من بعيد، في تأكيد القرآن الكريم، عند تعرّضه للثواب الذي يعطيه الله تعالى للعاملين في خطِّ الصالحات، فإنّ هناك تركيزاً في أكثر من آية على تحديد اسم الذكر والأنثى؛ الأمر الذي يوحي بأنّ كلّ ما تصدق عليه صفة عمل صالح، فإنّ المرأة معنيّةٌ به كما الرجل معنيّ به. وإنّ الله يثيبها عليه كما يثيب الرجل على ذلك. من خلال ذلك نفهم أنّ القضايا العامّة في الإسلام مشتركة بين الرجل والمرأة في حركة المسؤولية، تبعاً للطاقات التي يملكها هذا الفريق أو ذاك، إلاّ ما نصّ عليه الإسلام. ومن ذلك الجهاد الذي أعفى المرأة منه، ولكنّه لم يُحرِّمه عليها، بل ربّما رأينا في أحاديث السيرة النبوية أنّ المرأة تقوم بدور في الجهاد. فكان لها دور المسعفة والممرضة والساقية للعطاشى، وما إلى ذلك من الشؤون التي تتعلّق بتلبية حاجات الجهاد والمجاهدين قبل المعركة وأثناءها وبعد انتهائها. إنّنا نعتبر أنّ المسؤولية عامّة إلاّ في ما استثناه الإسلام. ومن ذلك الأعمال التي نصّت الشريعة على أن تخصّ بعضها بالرجل، كالقضاء والولاية وما إلى ذلك من الأعمال. نستطيع أن نستوحيَ ذلك ممّا جاء في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة : 71]؛ حيث اعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية النساء والرجال معاً. إنّنا قد نجد تأكيداً على مسألة دور المرأة الأساسي في تربية الأطفال وفي رعاية الزوج وفي إدارة الحياة الزوجية. ولكن ليس معنى ذلك أنّ هذا هو دورها الوحيد، فنحن، مثلاً، في المقابل، قد نلاحظ أنّ الله كلّف الرجل بأن يؤمِّن قوت عياله وبأن يسعى من أجلهم، وبأن يحصِّل الرزق، وما إلى ذلك. ولكن هذا ليس هو دور الرجل الوحيد، كما أنّ دور المرأة أن تكون ربّة البيت ليس هو دورها الوحيد. فللمرأة ساحة واسعة تستطيع أن تقوم فيها بمسؤولياتها، في ما يمكن لها أن تتحمّله من مسؤولية في نطاق ثقافتها وفي نطاق طاقتها الاجتماعية التي تملكها، بحيث يمكنها أن تصل إلى نتائجَ كبيرة في ذلك، كما هو دور الرجل في الساحة العامة خارج نطاق مسؤوليته العائلية.

فإنسانية الإنسان: ذكراً كان أم أنثى تتّسع لكلّ جوانب الحياة. إنّ الإسلام لم يلغِ إنسانية المرأة، ولم يعفِ المرأة من مسؤوليتها.

فنحن، عندما نواجه المسألة من الناحية الشرعية الخاصة، نرى أنّه إذا كانت المرأة تعرف أنّها تستطيع أن تهدي جمهوراً من النساء أو من الرجال، فإنّه يجب عليها أن تقوم بذلك في دائرة إمكاناتها الطبيعية والواقعية، وحتى إِنّها إذا كانت تستطيع توسعة هذه الإمكانات، من دون أن تضغط على ظروفها، فإنّه من الواجب عليها أن تفعل ذلك. وربّما تكون المصلحة في أن يكون القيام بهذا الدور الثقافي من بعض مسؤولياتها الخاصة، بحيث تتقدّم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في بعض الحالات. وهكذا نجد أنّ المرأة تستطيع أن تواجه كلّ المواقع العملية المتّصلة بالرسالة وبالحياة، والمتّصلة بالمجتمع بشكلٍ عام، في ما يمكنها أن تقدّمه، سواء على مستوى القضايا الإلزامية التي يجب عليها القيام بها أم على مستوى القضايا غير الإلزامية التي يُستحَبُّ لها القيام بها.

علينا أن ندرس المسألة من خلال النظرة الواسعة التي نستوحيها من دور الإنسان في الحياة، في ما أراد الله تعالى له أن يقوم ببناء الحياة على أساس الخلافة العامّة التي تأخذ من كلّ إنسان طاقته. فعلى كلّ إنسان أن يبذل طاقته في المجال الذي يستطيع أن يحرّكها فيه.

إنّ الفكرة التي تحبس دور المرأة في نطاق خاص، أو تحبس دور الرجل في نطاق خاص، هي فكرة غير عملية وغير صحيحة. وقد اعتاد الناس على أن يجعلوا لكلّ إنسانٍ دوراً بحسب اختصاصه. كما نلاحظ أنّ الناس، في بعض المجتمعات الإسلامية، يحصرون دور الفقيه في العمل الفقهيّ، ولا يريدون له أن يتدخّل في الأعمال الاجتماعية أو السياسية من خلال النظرة التي ترى أنّ الدّين لا يتدخّل في السياسة، وربّما يأخذون على المهندس أن يتدخّل في القضايا الخارجة عن اختصاصه إذا كانت لديه إمكانات في تحريك حياته في هذا الاتجاه. إنّنا نعتقد أنّ كلّ إنسان يملك طاقات متنوّعة ومتحرّكة ينبغي له، وقد يجب عليه، أن يحرّكها بأجمعها لحياة الناس كلّها بحسب طاقاته وإمكاناته. وهذا بالنسبة للمرأة قد يكون طبيعياً، لأنّ لها المجال الواسع في ذلك، إذا أحسنت إدارة وقتها واستغلاله كما هو بالنسبة للرجل، لأنّنا نجد أنّ كثيراً من الأمور التي تستهلك حياتنا يمكننا أن نختصرها وحتّى أن نلغيَ جزءاً منها.

 

 

أنوثة المرأة

عندما ندرس الأحكام الشرعية التي تحرّكت في نطاق حركة المرأة في الواقع العام، في ما يتّصل بالجانب الأنثويّ من شخصيتها، فإنّنا نلاحظ أنّ الإسلام لم يمنع المرأة من أن تعيش أنوثتها بكلّ عناصرها الشعورية والجسدية في داخل حياتها الزوجية. وقد نلاحظ أنّ الإسلام شجّع المرأة على أن تستثير أنوثتها في الحياة الزوجية بشكلٍ بعيد عن التحفُّظات، تماماً كما أراد للرجل أن يعيش ذكوريّته في هذه الدائرة الخاصة. ولكنّه لم يفسح المجال للمرأة في تحريك أنوثتها كعنصر من عناصر حركتها في داخل العلاقات العامة، أو الخاصة، بعيداً عن دائرة الزواج.

ونحن نلاحظ أنّ الإسلام في هيكليّته التشريعية، قد طرح أحكاماً إلزامية على المرأة كالحجاب الذي يمثّل مجموعة من الأحكام تحدِّد عدّة أمور منها:

ــــ طريقة خروجها سواء من حيث الملابس التي تلبسها أم من حيث الزينة التي تتزيّن بها.

ــــ وقضية الاختلاط في الحدود التي تتحرّك فيها، وما أشبه ذلك من الأحكام التي نفهم منها أنّ الإسلام لا يشجّع المرأة على أن تنطلق إلى المجتمع، من خلال طبيعة الأنوثة، لتؤكّد إحساسها الداخلي بالأنوثة وتثير إحساس الآخرين بها.

ولدى دراسة تلك الأحكام الإلزامية المتعلّقة بحركة المرأة في الواقع، في ما يتّصل بالجانب الأنثويّ من شخصيتها، فإنّنا نلمس تحذيرات للمرأة حتّى لا تقع فريسة الاستغلال، نتيجة تحريك الرجل لعوامل الإغراء في هذه الأنوثة. ولذلك فإنّ طبيعة الضعف الذي تعيشه، ولو من خلال طبيعة حركتها في التاريخ والمجتمع، قد يعرّضها لضغوط كثيرة سواء كانت إغرائية أم تعسّفية. يعني قد يكون الضغط من قبيل الترغيب أو الترهيب كما يقال. لهذا فربّما تكون عملية التحذير انطلاقاً من وجود خطر طبيعيّ في إمكانية استغلال الرجل لهذا الضعف، وفي إمكانية انسجامها مع بعض العناصر التي يمكن أن تنحرف بها عن الطريق. وبعبارة أخرى، يمكن القول: إنّها الجانب المستغَل في المجتمع، ولذلك نحتاج إلى تحذيرها من جهة إيجاد نوع من أنواع المناعة الذاتية في هذا الاتجاه.

نلاحظ هذا، تماماً، كما نلاحظ أنّه في الحالات التي يعيش فيها المجتمع الفوضى فإنّ التحذيرات تنطلق لكلّ الأشخاص الذين يملكون مالاً أو الذين يعيشون بعض الأجواء، مردِّدة: "أغلقوا أبوابكم.. حاولوا أن تأتوا بأبواب حديدية، إذا خرجتم فعليكم تجاوز مواضع الخطر.. وإذا انطلقتم فعليكم أن تكونوا مسلّحين بكذا". وهكذا فإنّ التحذير ينطلق، عادة، من الحرص على سلامة هذا الإنسان الذي نحذِّره باعتبار وجود أخطار معينة تهدّده. فالمرأة عندما تكون عنصراً يستضعفه الرجل وعنصراً يواجهه المجتمع بتحميله مسؤولية الانحراف أكثر ممّا يحمل الرجل، لا بدّ من أن ينطلق التحذير إليها ليقول: إنّ هناك وحشاً يريد أن يعتديَ على هذه الأنوثة، أو على هذه الإنسانة، أو على هذا المخلوق الضعيف. وعليها أن تحترس من هذا الوحش. وليس التحذير من باب التخويف. إنّه وسيلة من وسائل الإيحاء لها بالقوّة، فعندما يقال لها: إنّ عليك أن تتمرّدي على مواضع الإغراء، وإنّ عليك أن تتصلَّبي أمام ضغط الرجل بأن تحترمي نفسك، فلا تجعليها موضعاً للاستغلال، نكون كمن يوحي لها بألاّ تستسلم في ساحة الصراع، وإنّما تقف لتواجه مصدر الخطر بقوّة.

وهذا لا يعني بأيّ حال تكريساً لضعف المرأة. ولذلك نجد الكثير من الأحاديث للرجل: ابتعد عن مواطن الإغراء، ابتعد عن المواقع التي تؤدّي بك إلى الانحراف.

وعندما نريد أن ندرس هذه المسألة بعيداً عن الدوائر الصغيرة فإنّا نجد أنّ كلّ القوانين في العالم تشتمل على اللاءات الكثيرة الناهية التي توجّه إلى المواطنين، في حالات الطوارئ، أو في الحالات الطبيعيّة، لإيجاد قدر كبير من الانضباط أمام إمكانات الاهتزاز. فإنّ مثل هذا يمثِّل نوعاً من أنواع إعانة الإنسان على أن يتوازن في موقع الاهتزاز من أجل ألاّ يستسلم للضعف في هذه المواقع، بل ليحاول تأكيد عناصر الثبات في شخصيته أمام هذه الجوانب. 

وما ينبغي تأكيده هو أنّ الإسلام لم يمنع المرأة من الإحساس بجمالها. ولكنّه لا يريد لها أن تحرّك هذا الجمال بشكل استعراضي يجتذب مشاعر الآخرين، باعتبار أنّ اجتذاب مشاعر الآخرين يعني اجتذاب غرائز الآخرين. قد لا يكون هذا قاعدة كلّية، فقد نجد كثيراً من النساء اللواتي يعتصمن بعفّتهن وبأخلاقهن عن التعرّض لأيّ إغراء أو ضغط من قِبَل الآخرين. وقد نجد كثيراً من الرجال يعتصمون بأخلاقهم وعزّتهم في هذا الاتجاه. لكنّنا نعتقد أنّ عملية تحريك الجمال كقيمة إنسانية تعيشها المرأة في المجتمع, ويعيشها المجتمع في نظرته إلى المرأة وفي تعامله معها، يخلق جوّاً شعورياً لإثارة الجانب الغريزي، بحيث يصعب السيطرة عليه إلاّ من خلال المعاناة الكبيرة التي يمكن أن يعيشها هذا الجانب أو ذاك.  

تنظيم الحرّية والنهج الإسلاميّ

لعلّنا نستطيع أن نفهم أنّ الإسلام، عندما يريد أن يطلق نهجه الأخلاقيّ والاجتماعيّ، في المجتمع، يعمل على أن يهيِّئ له أرضية وقائية تجعل حركة الأخلاق في حياة الناس أمراً واقعياً قابلاً للتطبيق. ولا بدّ، بغية تحقيق ذلك، من تهيئة الأجواء الملائمة والابتعاد عن الأجواء المضادّة.

إنّ المسألة التي نريد أن نثيرها، في هذا المجال، هي أنّ لكلّ مبدأ، أو لكلّ دين، أو لكلّ رسالة، منهجها الأخلاقيّ ومنهجها الاجتماعيّ اللذين يحدِّدان طريقة علاقة الناس مع بعضهم البعض.

ومن الطبيعيّ أن يخضع أيّ منهج أخلاقي، أو أيّ منهج اجتماعيّ في واقعيّته، لهيكلية من الخطوط ومن التحفّظات ومن الأجواء التي يمكن أن تجعله أمراً واقعياً. ولهذا فإنّنا لا نستطيع أن ننظر إلى القضايا من الناحية الشعورية السطحية، وبشكلٍ منفصل عن كلّ المفردات التي تشكّل المجموع المتكامل للهيكل الأخلاقي أو للهيكل الاجتماعي. ربّما يطرح بعض الناس تصوُّراً في هذا المجال مفادُه: أَنّ معنى ذلك أنّ المرأة سوف تعيش الحرمان، لأنّه من الطبيعيّ أن يعيش الإنسان ذاته، وأن يرغب في أن تنفتح كلّ طاقاته، لينفتح الناس على ما يملكه من الطاقات. فالعالِم يحبّ للناس أن يتحسَّسوا علمه، والشجاع يحبّ للناس أن يتحسَّسوا شجاعته، والجميل يحبّ للنّاس أن يتحسَّسوا جماله. وربّما كان إحساس الناس بهذه الأمور هو الذي يشجّعهم على الامتداد في تنمية هذه العناصر في شخصيتهم. بل ربّما رأينا، في دراستنا للإنسان، أنّ تنميته لكلّ العناصر التي تمثّل عمق شخصيته إنّما تنطلق، في حركتها وقوّتها ونموّها، من خلال شعوره بإحساس الآخرين بها. فكلّما أحسّ الآخرون بطاقاتنا إحساساً يتمثّل في إعجابهم وفي دهشتهم تشجّعنا على الاستمرار في تقوية هذه الطاقات وتنميتها. ومن الطبيعيّ ألاّ يكون ذلك إلاّ بإبراز هذه الطاقات. لذلك فإنّ المرأة التي تتميّز بالجمال الجسديّ، أو ببعض الأساليب الأنثوية، أو الإغرائية التي تستثير دهشة الحاضرين وتستثير إعجابهم وتملك بريق عيونهم، ربّما تشعر بالحرمان في هذا الجانب، وربّما يدفعها ذلك إلى إهمال الطاقة الشعورية التي تعيشها وقتلها.

ربّما يتحدّث بعض الناس عن المسألة بما يشبه المأساة، فيصوِّر المرأة المسلمة التي يمنعها الإسلام من أن تعيش أنوثتها في صورة المرأة المضطهدة المكبوتة التي تتآكلها العقد النفسية الناشئة من الكبت والحرمان في إطار الضغوط التشريعية التي تتحوّل إلى ضغوط اجتماعية. ولكنّنا نريد أن نثير أمام هذا الموضوع مسألة في حجم الخطّ العام، وهي: هل المسألة الإنسانية في كلّ أبعادها تنطلق من المشاعر الذاتية في ما يتحسّسه الإنسان من كلّ نوازعه، بحيث أنّا نرفض أيّ نوع من أنواع الحرمان للإنسان؟ وهل نفهم القيمة من خلال، تفاعل الإنسان بها أو من خلال الواقع الموضوعي الذي تتحرّك بنتائجها الإيجابية فيه؟

لو أردنا أن نطلق المسألة في هذا النطاق العام، بحيث يكون المقياس في السعادة والشقاء إرضاء النوازع الذاتية، وأن يكون المقياس في القيمة الإنسانية متمثّلاً في مدى التفاعل الذّاتيّ بها واختزان الذاتي لها، فمن الطبيعيّ أنّ المسألة لن تكون محصورة في حجم المظاهر الأنثوية التي تتحرّك فيها المرأة إمّا على مستوى إبراز مفاتنها الجسدية أو على مستوى تحريك أساليبها الأنثوية الإغرائية، بل تمتد إلى الإحساسات الجنسية الخاصة نفسها. فمن الطبيعيّ أنّ كلّ إنسان، سواء كان رجلاً أم امرأة، يشعر تماماً بهذه الحاجة بعيداً عن التقاليد والتشريعات، بحيث يعمل على تغذية هذا الجوع الجسدي تماماً كما يحسّ الإنسان بالجوع الغذائيّ، وما إلى ذلك، بحيث يتحسَّس في نفسه معنى الحرّية في تغذية هذا الجوع تماماً، كما يتحسَّس في نفسه معنى الحرّية في تغذية الجوع في ناحية أخرى.

وهكذا يمكن أن نمتدّ إلى مجالات أخرى. ونحن نعرف أنّ هناك كثيرين من الناس يعتبرون الحرية الجنسية قيمةً فرديةً للإنسان، تماماً كما يعتبرون الحرّية السياسية أو الحرّية الاقتصادية أو الأمنية. ولكنّنا لا نستطيع أن نستسلم لذلك بل لا بدّ من أن نضع ضوابط لحركة الحريّة في الإنسان، انطلاقاً من مصلحته التي تحدّدها الخطوط العامة التي يؤمن بها في مجال قناعاته، في ما تنتجه من إيجابيات أو سلبيات. وعلى هذا الأساس، فإنّ كلّ إنسان لا بدّ من أن يعيش نوعاً من أنواع المأساة في حرمانه من بعض حرّيته، في ما تنطلق فيه نوازعه الذاتية، لحساب حريّة الآخرين، أو لحساب مواقع الحريّة الأخرى في حياته التي قد لا تنسجم مع إطلاق الحريّة في هذا الجانب. لأنّ الإنسان يعيش عدّة حريّات في مواقعه. ولو أطلق الإنسان لنفسه كلّ حرّياتها لكان معنى ذلك أنّ حرّيته قد تصطدم بحرّية أخرى، الأمر الذي يجعل الإنسان يخسر من حرّياته بشكل فوضويّ إذا لم ينظِّم علاقة هذه الحرّيات مع بعضها البعض. لذلك فإنّ مسألة المأساة، في الجانب الشعوريّ، تفرضها الحدود الواقعية التي تتحرّك في طاقات الإنسان وفي حياته.

الإسلام والجمال

يمثِّل الجمال حالة في الجسد، كما يمثّل حالة في الواقع، في الأرض وفي السماء، وما إلى ذلك من مواقع الجمال في الكون. 

وهو، في ذاته، قيمة معيّنة يتميّز فيها الحسن من القبيح. ولكن يبقى أن نبحث حركة هذا الجمال: ما دوره؟ وهل يتمثّل هذا الدور في أن يتطلّع الناس إليه وينفتحوا عليه بطريقة شاعرية؟ إنّ هذا لا يتحقّق بانفعال الرجل بجمال المرأة، أو بانفعال المرأة بجمال الرجل، لأنّ انفعال الجنسين بالجمال في أوضاعهما لا بدّ من أن يلتقيَ بالغريزة. ومن هنا فإنّنا نعتبر أنّ الجمال لا يمثّل قيمة مطلقة. وهذه القيمة لا يمكن أن تتحرّك، في الواقع الإنسانيّ، إلاّ من خلال ما يميِّز جسداً عن الآخر.

أمّا حركة هذه القيمة، في إحساس المرأة، أو الرجل، بها، فإنّ الإسلام لم يغلق الباب تماماً في هذا المجال، بل نظَّمه داخل العلاقات الزوجية الطبيعية، وإنّ الذين يحرِّكون الجمال داخل الدائرة الأنثوية لا يحرّكونه بشكلٍ مطلق، كما أنّ المرأة التي تتحرّك بجمالها في المجتمعات لا تقبل أن ينفعل الآخرون بجمالها، أو أن تنفعل هي بجمالها في علاقتها بالآخرين، في كلّ العلاقات. بل إنّها تختار علاقة معيّنة. ومعنى ذلك أنّ الطبيعة الإنسانية لا تتحرّك في مسألة الجمال الجسديّ بشكلٍ مطلق وإنّما بشكلٍ محدود. 

إنّ الإسلام يحاول أن يرسم الحدود التي تجعل للجمال مهمة معيّنة يمكن لها أن تُغني التجربة الإنسانية الجسدية، في المستوى الذي ينظّم فيه المجتمع، ويوزّعه خلايا متعدّدة لا يعيش الإنسان فيها الجوع من هذه الجهة، بل يشعر بالاكتفاء في الحالات الطبيعية التي لا تتحوّل إلى وضع مرضي.

علاقة المرأة والرجل والحكم الشرعي

من الممكن أن نرى، عندما ندرس طبيعة المرأة الأنثوية، في الجانب الغريزي، أنّ طبيعتها، وربّما تكوينها، قد يجعلانها تقوم بدور الإثارة بالنسبة للرجل، ولو من خلال التربية التاريخية الطويلة التي جعلتها في موقع إثارة الرجل أكثر ممّا جعلت الرجل في موقع الإثارة بالنسبة للمرأة. ولذلك فإنّنا نجد أنّ المرأة تجتذب الرجل بإغراءاتها وأنوثتها، بحيث إِنّها تعتبر موضعاً للإثارة. كما أنّ هناك مسألة أخرى، وهي أنّ طبيعة الإثارة في الرجل حتّى في ما يتعلّق بالمسألة الغريزية أكثر من طبيعة الإثارة في المرأة. بحيث إِنّنا نجد أنّ إثارة المرأة قد تكون معقّدة أكثر من الرجل. ولهذا فقد أراد الإسلام للمرأة في ما فرضه عليها من قيود في اللّباس، أو في بعض مواقع السلوك، أراد أن يحميها من نفسها ومن شعورها بقدرة الإثارة على أن تجتذب الرجل.

وقد تعيش المرأة حالة لا شعورية تدفعها إلى إظهار مفاتنها، ليس بهدف إظهار قيمة جمالها بل رغبة في أن يتحرّك هذا الجمال لاجتذاب الرجل بطريقةٍ ما، من خلال الزواج، وما إلى ذلك. بينما لا يعيش الرجل في هذا الجوّ. والحقيقة أنّ المرأة لم تعش في ظلّ تربيةٍ تجعلها تنظر إلى الرجل كما ينظر هو إليها؛ الأمر الذي يجعل المسألة تختلف. ولذلك نجد أنّ انتشار الفساد، في العلاقات الجنسية، في المجتمع الذي تتحرّر فيه المرأة، أكثر من المجتمعات التي تكون فيها المرأة ملتزمة، مع كون الرجل متحرّكاً في ملابسه أو ما إلى ذلك. وهذا يعني أنّ الفهم الواقعيّ للمسألة يتناسب مع الحدود التي وضعها الإسلام. نحن لا نقول إنّ هذا الوضع يُعاش في حجم الشمول الكامل، بل ربّما نجد أنّ بعض النساء قد تكون لديهن حالة من سرعة الإثارة تتساوى مع الرجل أو أكثر، ولكنّها ليست قاعدة عامّة. هنا قد يقول قائل: إنّ الإسلام، وعلى هذه الحال، يكون قد حرم المرأة من التعبير عن عاطفتها.. إلاّ أنّنا نقول: إنّ المرأة عندما تريد أن تعيش عاطفتها فإنّها تستطيع التعبير عنها في ما لا يؤدّي إلى انحراف، كما أنّ الإسلام لم يُجز للرجل أن يتحدّث مع المرأة بطريقة عاطفية تؤدّي إلى انحراف. إنّ المرأة والرجل سيّان في هذا المجال.

ويمكن أن تعبّر المرأة عن عاطفتها للرجل، إذا كانت تريد أن تتزوّج من رجل معيّن، بطريقة لا تصل إلى حدّ الميوعة أو الانحلال. كما أنّ للرجل أن يعبّر عن عاطفته للمرأة إذا أراد أن يتزوّجها. لكن هناك تقاليد معيّنة عند الناس لا يتحمّل تبعتها الحكم الشرعي.

ونقرأ في كتب الأحاديث أنّ امرأة تأتي إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتقف بين المسلمين وتقول: زوّجني يا رسول الله، فنلاحظ أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يعترض على هذا، وإنّما يسأل المسلمين بشكل طبيعيّ: هل، هنا، مَن يتزوّجها. وعلى هذه الحال فإنّه باستطاعة المرأة أن تأتيَ إلى شخص وتقول له: تزوّجني. أنا أرغب في أن أعيش معك وأن أتزوّجك. وأنا متفاعلة معك. ومتعاطفة.. وما إلى ذلك.

لكنّ التقاليد تقف في وجه هذا الأمر. وهنا نريد أن نتحدّث عن النظرة الإسلامية إلى هذه التقاليد. إنّ الإسلام لا يشجّعها، وإنما يريد للمرأة والرجل أن يتحرّكا بشكلٍ طبيعيّ، لأنّ الزواج أمر طبيعي في حياة المرأة كما هو أمر طبيعي في حياة الرجل. وكما أنّ للرجل أن يطلب الزواج من امرأة كذلك للمرأة أن تطلب الزواج من رجل. هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية فإنّ طريقة التعبير عن الرقّة والانفعال والعاطفة لا تقتصر، في التعبير عنها، على نطاق علاقات الجنسين، إذ يمكن للمرأة أن تعبّر عن ذلك داخل نطاق الجنس الواحد بالطريقة العاطفيّة العامّة التي تتحدّث عن المشاعر، في مجال الأمومة وغير ذلك.

فالأنوثة، إذاً، أمرٌ أساسي في ذاتيّة المرأة. والإسلام لا يريد للمرأة أن تقمع ذلك. بل إنّ الإسلام ينظر نظرة سلبية إلى المرأة المسترجلة أو المرأة التي تتشبّه بالرجال من حيث الذكورة وليس من حيث القوّة. كما ينظر بسلبية إلى الرجال المتشبّهين بالنساء من حيث الأنوثة. وعندما يتحدّث الإسلام عن علاقة المرأة بالرجل، في داخل العلاقة الزوجية، فإنّه يتحدّث عن ضرورة أن تعطيَ المرأة نفسها الحريّة في إظهار أنوثتها ومشاعرها في علاقتها بزوجها. وهكذا بالنسبة للرجل، فإنّه يمكنه أن يتحرّك بكلّ ما تعنيه مشاعر الذكورة في هذا المجال. إنّ الإسلام لا يريد للمرأة أن تلغيَ أنوثتها، ولكنّه يريد لها أن تنظّم حركة الأنوثة في حياتها بحيث لا تتحوّل إلى عنصر يفسد على المرأة أخلاقها، فتنحرف عن عفّتها في هذا الجانب الذي يريد الله للمرأة وللرجل أن يأخذا فيه بالعفّة كنمط أخلاقيّ مستقيم.

والأنوثة، في الجانب الإنسانيّ، تتحرّك في مجال الشعور والرقّة والعاطفة والانفعال. وللمرأة الحقّ في أن تبلور هذه العناصر بالطريقة التي تستطيع أن تغنيَ التجربة الإنسانية كلّها. 

ونستطيع أن نعتبر أنّ الله أراد، عندما خلق الإنسان بطريقة متمايزة، أن يؤكِّد هذا التمايز أساساً للتكامل. ولكن على أساس أن نضع هذا التمايز في داخل الهيكلية العامة التي يريد الإسلام للإنسان أن يتحرّك فيها، في حياته العامة والخاصة.

نظرة المجتمعات الأخرى لأنوثة المرأة

عندما ندرس مسألة الأنوثة بوصفها حالة غريزية، كما هي الذكورة عند الرجل، فإنّه قد يخيّل للإنسان، من وجهة نظر بعضهم، أنّ احترام أنوثة المرأة يتمثّل في إطلاق حرّيتها، بحيث تكون لها الحرّية في التعبير عن حركة الأنوثة بالغريزة تماماً. كما يخيّل للبعض أنّ للرجل هذا الحقَّ في الحرّية.

ومع ذلك، فقد تنقلب المسألة. فقد يخيّل لهؤلاء أنّ المجتمع البدائيّ كان يحترم هذه الأنوثة وأنّ العصر الحديث يحترمها، بينما يضطهدها الإسلام، باعتبار أنّ الإسلام قد جعل لها ضوابط تحصرها في دائرة خاصة؛ حيث لا مجال للحرّية خارج نطاق هذه الدائرة، كما جعل للرجل مثل هذه الضوابط، ولكن في دائرة أوسع تتّسع لتعدّد الزوجات، وما إلى ذلك...

وإذا فسّرنا دور الأنوثة، في شخصية المرأة، ورأينا أنّها تمثّل ذاتيّتها في كلّ الجوانب التي يمثّلها كيانها الجسدي والعاطفيّ وحركتها في عوالم الإحساس، بحيث تغدو الأنوثة وكأنّها تمثّل معنى التنوّع في الإنسان، كما تمثّل الذكورة هذا المعنى، حينئذٍ لا تكون الأنوثة مجرّد حالة غريزية، بل تكون حالة إنسانية تمثّل ما هي المرأة في مقابل ما هو الرجل، من حيث الخصائص المودعة فيها والتي تتناسب مع أجواء الأمومة والأجواء العامّة التي تختلف في مزاجها عن أجواء الرجل.

عندما ندرس هذا التفسير نجد أنّ المسألة ليست كذلك، لأنّ الخصائص الإنسانية تُضطهد وتُحترم بقدر ما يتّصل بتصوّر الإنسان لهذه الخصائص. فنحن نلاحظ أنّ طريقة الشعوب البدائية، في مواجهة شخصية المرأة، لا تمثّل حالة احترام للأنوثة بل حالة استغلال، وحالة إيحاء بأنّ المرأة عبارة عن غريزة وليست إنساناً. كما أنّ التطوّر الحضاريّ الماديّ الذي يمثّله العصر الحديث، بامتداداته الوثنية، يتحرّك في هذا الاتجاه وفي هذه الدائرة أيضاً. ربّما نجد أنّ هناك احتراماً للمرأة باعتبارها عنصراً منتجاً وفاعلاً في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. ولكنّ المجتمع الحديث اعتبر المرأة ـــ الأنثى عنصراً مستغلاً، حتّى أنّ المرأة هُيِّئت لها ذهنية معينة، من خلال الحالة الثقافية، تعتبر هذا الجانب من شخصيتها قيمة أساسية في إنسانيّتها. بينما نجد أنّ الرجل لا يعتبر الذكورة تمثِّل قيمةً أساسية. من خلال ذلك، نستطيع أن نقول: إنّ الإسلام، عندما احتفظ للمرأة بشخصيّتها كامرأة، واعتبر الجانب الغريزيّ حاجة بالنسبة لها كما هو حاجة بالنسبة للرجل، أراد للمرأة أن تعبّر في الحياة الاجتماعية عن إنسانيتها من خلال عناصر الأنوثة التي لا تنحرف عن الخطّ المتوازن الخاص بهذه الأنوثة.

لذلك نعتقد أنّ الإسلام قد احترم هذه الأنوثة عندما جعل لها ضوابط معيّنة، وعندما أراد لها أن تتحرّك في خطّ التوازن، بينما أرادت لها الحضارة المادية أن تتحرّك في خطّ الانحراف. ولهذا فإنّنا في الوقت الذي نجد فيه أنّ المرأة المسلمة قد تعيش بعض المشاكل داخل المجتمع المسلم، من خلال بعض النقاط السلبية في ذهنية المجتمع، أو من خلال بعض الجوانب السلبية التي تقابلها إيجابيات في التشريع نجد أيضاً أنّها تشعر بالاستقرار في هذا المجتمع، بينما لا تشعر بهذا الاستقرار في المجتمع الحضاري.

وهناك وجهات نظر تعتبر أنّ المرأة كانت محترمة في مجتمعات قبل الإسلام، وهي المجتمعات التي سُمّيت بمجتمعات "الأمومة"؛ حيث كانت المرأة في موقع قيادي وإليها يُنسب الأطفال.

ونحن نقول: ليس من الضروريّ أن يكون هذا السلوك الاجتماعي، في هذا المجال، دليل احترام، بل قد يكون عنصراً من عناصر الأوهام. ونعني الأوهام البدائية التي كانت تعيشها الشعوب البدائية؛ حيث كان هناك تقديس للمرأة لا من خلال إنسانيّتها بل من خلال أمومتها، بما تمثّله الأمومة من أسرار، قد يخيّل للشعوب البدائية أنّها تمثّل حالة خلق، بحيث تختزن في داخلها شيئاً من الألوهة. وكذلك كانت هناك حالات اجتماعية ما زالت موجودة؛ كما في الهند وغيرها؛ إذ إنّ هناك شعوباً تتعبّد للأعضاء الجنسية للرجل والمرأة على أساس أنّها تمثّل المنطلق والأساس للتوالد والخلق. ومن الطبيعيّ، عندما يكون الأمر على هذا المستوى، ألاَّ يكون هذا عامل احترام بالمعنى الإنساني للاحترام، بل هو عامل تخلُّف في تقييم هذه الناحية عند المرأة. ولذلك، فإنّنا عندما نريد أن ندخل جانب التقييم فإنّ القضية لا تنطلق من احترام أو عدم احترام، حتّى أنّنا عندما نلاحظ أنّ مجتمعنا الذي أقرّته الأديان، وهو المجتمع الأبوي، لا يمثّل حالة اضطهاد للمرأة لأنّه قد ينطلق من زاوية نسبة الولد إلى الأب من موقع نسبة الشجرة للبذرة. قد يكون من ناحية طبيعية في هذا المجال، وربّما ينطلق من أنّ الأم قد تتحمّل أعباء التربية. لأنّ الأمومة ليست أن تحمل الأم وتنتهي مهمّتها بعد وضع الحمل. إنّ الأمومة تمثّل معاناة في صنع الإنسان، وفي تربيته، وفي إعطائه من المخزون العاطفيّ للأم ومن الممارسات الشعورية التي تعيشها الأم وتنعكس على شخصية الطفل مع تدبير أموره؛ الأمر الذي لا يجعل للأم الفرصة الكبيرة في أن تنطلق إلى المجتمع بشكلٍ واسع. وربّما نجد أنّ مجتمعاتنا، بما في ذلك المجتمعات الغربية، لا تزال بين حالتين:

ـــ حالة أولى تعيش فيها الأم دورها كأمّ، بالإضافة إلى دورها كعنصر إنتاج؛ الأمر الذي يجعلها مرهقة بشكلٍ وحشيّ عندما تأتي من العمل وهي مكدودة متعبة، فتضطر إلى أن تقوم بدور ربّة البيت كزوجة وأمّ. وهذا الواقع يجعلها لا تشعر بأيّ معنى للراحة في الحياة.

ـــ حالة ثانية يكون البيت بالنسبة للرجل والمرأة مجرّد مكان يعيشان فيه كما يعيش الإنسان في الفندق، فتكون هناك خادمة، أو يؤتى بالطّعام من المطعم ويكون للطفل حاضنة، أو يكون في رياض الأطفال، أو في المحاضن. إنّ ذلك سينعكس سلباً على مسألة الإنتاج، ويحمل البيت مصروفاً أكثر؛ الأمر الذي ينعكس على تربية الطفل، لأنّه لن يحصل على الكفاية ممّا يحتاجه من زاد عاطفي لا يمكن لأحد أن يعطيه سوى الأم.

ولذلك، فإنّنا نشعر أنّ المجتمع الأبوي قد يهيِّئ للمرأة الإمكانات لأن تؤكّد إنسانيّتها، وتعيش دورها، أكثر ممّا يهيّئه المجتمع الأموميّ الذي يجعل الرجل مجرّد إنسان عاطل عن العمل يأتمر بأمر المرأة من دون أن يقوم بعمل.. ولا يكلّف الرجل بشؤون البيت بل يضيفها أيضاً إلى المرأة. لهذا لا نستطيع أن ندخل في عملية التقييم الحضاريّ لنعتبر أنّ المجتمع الأموميّ يتميّز باحترام المرأة أكثر من المجتمع الأبوي. وبعض السلبيات في طريقة تمثُّل الرّجل لدوره في المجتمع الأبويّ. كما قد تكون هناك انحرافات في تمثُّل المرأة لدورها في المجتمع الأمومي. لكنّها انحرافات لا تنطلق من طبيعة الخطّ الفكريّ الذي يتحرّك في هذه الدائرة؛ إذ إنّه يتحرّك ضمن دائرة طبيعة الانحراف في الممارسات.

الحاجة إلى حملة تربوية مركّزة

من الطبيعيّ أن نقول، في ضوء ما سبق: لا بدّ لنا، كي يلتزم المجتمع بخطّ الإسلام ويتحرّك وفق نظرته، من أن نثقّفه ثقافة إسلامية واسعة تكوِّن نظرة الإسلام الحقيقيّة إلى المرأة، لأنّ المشكلة التي قد نواجهها تتمثّل في أنّ كثيراً ممّا يحمله الناس من نظرات وانطباعات تنطلق من ركام هائل من التخلّف، ومن الثقافات المضادّة للإسلام، أو من خلال طبيعة النوازع الذاتية التي يعيشها الناس في أنفسهم. فلا بدّ لنا من أن نقوم بحملة تربوية مركّزة تدرس كلّ عناصر النظرية الإسلامية في هذا المجال، وتحاول أن تجد السبيل لتغيير قناعات الإنسان لمصلحة الإسلام.

ومن الطبيعي أنّنا، عندما نقول: إنّ على المرأة أن تتحرّك في المجتمع بإنسانيّتها لا بأنوثتها، لا نريد أن نعزل الأنوثة عن الإنسانية. لكنّنا لا نريد للأنوثة وحدها أن تتحرّك من خلال المشاعر، بعيداً عن العناصر الأساسية لإنسانية المرأة. إنّنا نريد للأنوثة أن تُغنيَ إنسانية المرأة، ليكون هناك تفاعل بين الأنوثة وبين الإنسانية، فتتأنسن الأنوثة وتتأنّث الإنسانية مستفيدةً من الخصائص الإيجابية التي يمكن أن تحقّق التمايز بين الرجل والمرأة، وهو تمايز ينطلق في عملية التكامل.

 

 

 

الصداقة بين الجنسين

لقد خطَّط الإسلام للعلاقات الإنسانية داخل المجتمع، وخصّ العلاقة بين الرجل والمرأة، فوضع لها حدوداً وأُطراً تصونها وتسمح لها بأن تنشأ في جوٍّ سليم لا يثير المشاكل والانحراف داخل المجتمع. والصداقة هي إحدى هذه العلاقات الإنسانية التي قد تنشأ بين الرجل والمرأة في ظروف كثيرة. وإذا أردنا أن ندرس مسألة الصداقة بين الجنسين، من الناحية الشرعية، لا بدّ لنا من أن ننظر إلى الهدف الشرعيّ الذي يستهدفه الإسلام من مسألة التخطيط للعلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة. فنجد أنّ الإسلام يهمّه أن تبقى العلاقات طاهرة نظيفة من حيث المشاعر والأحاسيس ومن حيث الممارسة. ولعلّ تأكيد الشّرع على هذا الجانب ينطلق من الأهداف الإسلامية في الخطّ المستقيم، في ما أراده الله تعالى لعباده أن يعيشوه.

نلاحظ، مثلاً، أنّ الإسلام حرّم الزنا. وأراد، عندما حرَّمه، أن يجعل حركة هذا التحريم في الواقع تنطلق في خطٍّ عمليّ يفسح المجال لهذا الهدف؛ وهو الابتعاد عن الزنا والانطلاق في جوّ العفّة. وهذا ما يوفّر للإنسان الوسائل والأجواء التي تبعده عن عيش التجربة المنحرفة.

ومن هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم انطلق، في هذا المجال، ليؤكّد على وجوب غضّ البصر، سواء أتعلّق الأمر بالمؤمنين أم بالمؤمنات.

ونهى عن التبرُّج وإبداء الزينة. وأراد من خلال ذلك، أن يُبعد الطرفين عن العيش في الأجواء التي تولّد العاطفة وتحرّك الغريزة في الاتجاه الذي يوصل إلى نتائجَ سلبية من هذا الجانب. وفي هذا المجال، نجد أحاديث شرعيّة تتحدَّث عن كراهة خلوة الرجل بالمرأة. وربّما يتحوّل هذا الحكم الشرعي بالكراهة إلى حكم شرعي بالحرمة، إذا علمنا بوجود نتائجَ سلبية محقّقة الحدوث، أو بوجود احتمال كبير في حدوثها. وعندما نجد أنّ هناك حديثاً منسوباً للزهراء (عليها السلام) يقول: "خيراً للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهنّ الرجال" فإنّنا لا نفهم، من هذا الحديث، مجرّد عدم الرؤية بالمعنى الحرفيّ لهذه الكلمة، بل نفهم منه الكناية عن عدم الاختلاط، باعتبار أنّ الاختلاط يؤدّي إلى بعض النتائج السلبية التي تشارك في اقتراب الطرفين من التجربة الصعبة من حيث المشاعر الحميمة والنظرات اللاهبة، وما إلى ذلك.

إنّنا نحاول أن نثير هذه الأمور لننفذ إلى هذه المسألة، كي نفهم المراد من كلمة الصداقة، ونسأل: هل المراد من كلمة الصداقة وجود علاقة طبيعيّة بين رجل وامرأة تماماً كما هي العلاقة بين رجل ورجل وبين امرأة وامرأة في شؤون المحادثة، وفي شؤون الدرس، وفي شؤون الحياة الاجتماعية العامة، بحيث تقف المشاعر عند حدود معيّنة، ولا تقترب من الجانب الحسّي الغريزي. وهل المراد من الصداقة هو هذا، بحيث يشعر كلٌّ منهما بأنّ هناك علاقة تقوم على التفاهم والاحترام المتبادل اللّذين تحكمهما حاجة الطرفين، إلى لقاء من أجل قضايا فكرية أو اجتماعية أو سياسية. إذا كان المقصود هو هذا فإنّ التحفّظات التي يمكن أن نستوحيها من بعض الأجواء الإسلامية الأخلاقية، ومن بعض الأحكام الإسلامية، تتركَّز حول نقطتين:

النقطة الأولى: هي أنّ طبيعة هذه الصداقة التي نريد أن تتحوّل إلى أجواء طبيعيّة من اللّقاء، ومن الاختلاط، قد توقع الطرفين في بعض الإشكالات الشرعية التي لا يمكن أن تتمّ بشكلٍ طبيعيّ بعيد عن العُقد التي يعيشها الطرفان إلاّ بالانحراف عن الخطّ الإسلاميّ في بعض الأحكام الشرعية.

النقطة الثانية: هي أنّ طبيعة التنوُّع بين الرجل والمرأة لا يمكن لها أن تضبط الصداقة عند حدودها الطبيعية، لأنّ الصداقة تمثّل حالة شعورية معيّنة ترتفع المشاعر الحميمة فيها كلّما تعمّقت أكثر، وكلّما شعر الطرفان بالوحدة أكثر. ومن الطبيعي بأنّ الغريزة سوف تعبّر عن نفسها، في هذه الحالة، بطريقة أو بأخرى، بحيث قد يتجاهلها الطرفان. ولكنّها تتجمّع في المشاعر والأحاسيس بحيث يمكن في نهاية المطاف أن تنفجر بطريقة أو بأخرى.

نركّز على هذا الفهم المتحفّظ للصداقة، بين الجنسين، من خلال استيحائنا لكثير من الأحاديث، ومها الحديث التالي: "ما اجتمع رجل وامرأة إلاّ وكان الشيطان ثالثهما"، فإنّه يؤكّد أنّ طبيعة الاجتماع المنفرد تجعل الطرفين وجهاً لوجه أمام مسألة الأحاسيس الخاصة التي تنطلق من خلال التنوّع، ومن خلال انجذاب كلّ نوع إلى النّوع الآخر.

وهذا الذي نؤكّده يمكن أن نفهمه، أيضاً؛ من خلال ما توصّل إليه علماء الاجتماع في إجاباتهم عن السؤال المطروح بشكلٍ دائم، وهو:

ـــ هل يمكن أن تقوم صداقة بريئة بعيدة عن الجانب الجنسيّ بين الرجل والمرأة؟

تفيد إجابات العلماء أنّ قيام مثل هذه الصداقة أمر غير عمليّ وغير واقعيّ، وربّما نستطيع أن نصل إلى هذه النتيجة من خلال ملاحظاتنا للواقع المعاش الذي تتقدّم فيه الحدود بين الطرفين إلى درجة لا يشعر فيها كلّ من الطرفين بمشكلة من ناحية حركة غريزته، باعتبار أنّ المجتمع مجتمع يعيش حرّية في هذا الجانب. ومع ذلك، نجد أنّ الصداقات التي تتمّ في أجواء اكتفاء من هذه الناحية لا بدّ من أن تتحرّك في هذا الاتجاه السلبيّ حتّى لدى أكثر الناس بعداً عن هذا الجانب من المسؤولين الكبار، ومن القادة الكبار، وما إلى ذلك.

ولهذا، فإنّنا لا نعتقد أنّ الصداقة بين الرجل والمرأة لا يمكن أن تؤدّيَ إلى نتائجَ إيجابية على مستوى الواقع الأخلاقيّ، بل يمكن أن تؤدّيَ إلى نتائجَ سلبية في هذا المجال، فتكون الصداقة قضية من القضايا التي يكون إثمها أكبر من نفعها؛ الأمر الذي يدخلها في جوّ التجربة الصعبة التي تقترب من الحرام. وقد ورد في الحديث: "المحرَّمات حمى الله، فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه".

لهذا، فإنّنا نتصوّر أنّ على المجتمع المؤمن أن يدرس هذه الأمور دراسة دقيقة وواقعية حتّى لا يقع في التجربة الصعبة التي قد تسيء إلى الطرفين، أو إلى المجتمع المؤمن بالكامل. إنّنا نفهم أنّ الأخلاق لا بدّ لها من أجواء ملائمة، فنحن لا يمكن أن نقول للإنسان: اقترب من المحرقة ولا تحترق، ولا يمكن أن نرميَ إنساناً بالماء ونقول له: لا تبتلّ.

وقريبٌ من هذا المعنى ما يقول الشاعر:

"ألقاهُ في اليمِّ مكتوفاً وقالَ لَهُ:       إيّاكَ إيّاكَ أن تبتلَّ بالماءِ"

إنّنا نفهم، من الحدود الشرعية التي تحكم علاقة الرجل بالمرأة، في التشريع الإسلاميّ، أنّها لا تشجّع أيّة علاقات بين الرجل والمرأة خارج نطاق البيت الزوجيّ. وهذا الفهم لا يعني أنّ الاختلاط شرٌّ كلّه، وأنّ اللقاءات شرٌّ كلّها، غير أنّنا يمكن أن نعيش الحاجة إلى بعض الأجواء المشتركة في العمل الاجتماعيّ، أو العمل الإسلاميّ، أو العمل الثقافيّ.. وهذه الأجواء لا بدّ لنا من أن نحصِّنها بكثير من القيود والشروط التي تبعدها عن أن تكون أداة للانحراف الأخلاقيّ..

الاختلاط وحديث الزهراء

قد يتساءل الكثيرون إنْ كان حديث فاطمة الزهراء (عليها السلام) المشهور(1).

ـــ "خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال"(2).

يعتبر حكماً شرعياً ضابطاً للمرأة في حركتها داخل المجتمع. للإجابة لا بدّ لنا من أن نشير إلى أنّه لا بدّ لنا من أن نفهم الكلمات التي تصدر عن أهل البيت (عليهم السلام)، وعن غيرهم من الذين تنطلق كلماتهم في خطّ المسؤولية، وفق الطريقة البلاغية المتمثّلة في الأسلوب الفنّي للتعبير في اللغة العربية. ويتحدّث علماء البلاغة عن عدّة أساليب؛ فهناك أسلوب الحديث عن أفكار بالألفاظ بلحاظ معانيها الحقيقيّة الموضوعة لها. وهناك أساليب وأفكار يعبّر عنها بطريقة المجاز والكناية.

في ضوء هذه الإشارة، نحاول أن نفهم قول سيّدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهي لم تكن في مجال الحديث عن الحكم الشرعيّ الذي لا بدّ أن تخضع له المرأة في حياتها العامّة: في رؤيتها للرجال أو رؤية الرجال لها حتّى في ما يحلّ لها أن ترى من الرجال أو في ما يحلّ للرجال أن يروا منها. بل كانت الزهراء (عليها السلام) في مقام إعطاء الفكرة العميقة التي تعالج مسألة الاختلاط بين الرجل والمرأة والتي يمكن أن تؤثّر سلباً في طهارة روحيّة المرأة تجاه علاقتها بالرجل أو طهارة روحيّة الرجل تجاه علاقته بالمرأة، باعتبار أنّ الاختلاط قد يؤثّر تأثيراً سلبياً في هذا المجال. كما أنّ النظرات، عندما لا تنهض في دائرة خاصة، أو عندما تتحرّك من خلال الحالة الغريزية العفوية الموجودة لدى الرجل والمرأة، فإنّها تترك تأثيرات سلبية على أخلاقيّة الرجل والمرأة في طبيعة ما توحي به النظرة من مشاعر، وفي طبيعة ما تقود إليه النظرة من سلوك.

ولعلّ الشاعر عبّر تعبيراً موحياً عن هذه المسألة في قوله:

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ          فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ

وإن كان هذا الشعر يتّجه اتّجاهاً آخر، لكنّه يمكن أن يعطيَ إيحاءً معيناً. ويمكن، في هذا المجال، أن نستوحيَ ما ورد من الحديث الشريف التالي: "النظرة الأولى لك والثانية عليك"، والحديث الآخر الذي يقول: "النظر سهم من سهام إبليس" وما إلى ذلك من روايات في هذا المجال.

إنّ الزهراء (عليها السلام) كانت تريد أن تتحدّث بطريقة الكناية فتقول: إنّ المرأة إذا استطاعت أن تبتعد عن دائرة الاختلاط بالرجل، بحيث لا يراها رجل ولا تراه، فهو خير لها من خلال ما يتركه ذلك من تأثير على النفسية.

إنّها تعالج مسألة الاختلاط من خلال ما تريده من طهارة روحيّة المرأة في الدائرة العليا من الطهارة التي يراد للمرأة ـــ كما يراد للرجل ـــ أن تبلغها في هذا المجال.

ولكنّنا نلاحظ أنّ هذه الدائرة العليا، في الوقت الذي تمثّل فيه قيمةً إسلاميةً أخلاقيّة كبيرة، من حيث الغايات الكبيرة للكمال الإسلاميّ، لا تمثّل تكليفاً شرعياً بذلك.

لم تكلّف المرأة شرعاً بألاّ تنظر إلى الرجل، ولم يحرَّم عليها أن ينظر إليها الرجل في دائرة ما هو حلال من النّظر بين الطرفين، ولاسيّما إذا كانت هذه المسألة تعيش في دائرة ضروريات الحياة العامة، أو في ضرورات الدافع السياسيّ والجهاديّ والثقافيّ الذي قد تحتاج المرأة المسلمة فيه أن تنطلق، في دائرة حجابها الشرعيّ، لتتحدّث مع الرجال في ما يتعلّق بالشؤون الرسالية العامة التي تفرض مشاركة المرأة في كثير من الحالات. إنّ الحديث يضع موضوع الاختلاط في دائرة القِمّة الأخلاقية العليا بما يسمّيه البلاغيون المبالغة في التعبير عن الفكرة في أعلى درجاتها. ولكنّه، على كلّ حال، ليس تكليفاً شرعياً، لأنّنا نعرف أنّ الزهراء (عليها السلام)، في ما ينقله لنا تاريخها، كانت ترى الرجال وكانت تتحدّث معهم، كما كان الرجال يرونها ويتحدّثون معها؛ الأمر الذي يدلّ على أنّ المسألة لا تتحرّك في نطاق التوجيهات العادية، وإنّما تتحرّك في دائرة الأخلاقيات العليا التي لم يكلّف الإنسان بها، ولكنّها وضعت أمامه قِمّةً لما يحتاج الناس أن يستوحوه من التطلُّع إلى القمم الكبيرة في المجال الأخلاقيّ العام.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحبّ بين الرجل والمرأة

لكلِّ إنسان، سواء أكان رجلاً أم امرأة، عاطفة تتّصل بحركة مشاعره إزاء الناس الآخرين أو الأشياء الأخرى. وقد لا تكون العاطفة، في كثير من الحالات، أمراً اختيارياً، إذ قد ينطلق الإنسان في عاطفة حبّ أو بغض على أساس التأثّر ببعض الأمور، أو ببعض الأحداث، أو ببعض الأوضاع التي تتحرّك في الواقع. ولذلك، فإنّ الإسلام لا يريد للإنسان أن يواجه مسألة العاطفة، سلباً أو إيجاباً، في مضمونها الإنسانيّ بشكلٍ مباشر ضاغط، لأنّ الضغط على العاطفة بأسلوب المواجهة لها قد لا يؤدّي إلى نتيجة إيجابيةً، بل ربّما يؤدّي إلى نتائجَ عكسيّة. ولهذا، فإنّ الإسلام يعمل على تربية الإنسان تربية إسلامية تنفتح على الله وعلى القِيَم الروحية التي يحبّها الله. وبذلك فإنّها تنفتح على الإنسان وعلى الحياة من خلال الله.

إنّ الإسلام يريد للإنسان أن يربّيَ في نفسه الجذور التي تتحرّك فيها العاطفة. ولا بدّ له من أن يربّيَ نفسه على أن يكون حليماً لا منفعلاً وأن يكون عقلانياً لا عاطفياً، بمعنى أن يدرِّب ذهنه وشعوره على أن يواجه الأشياء بطريقة موضوعية تحسب حساب الإيجابيات والسلبيات ونقاط القوّة والضعف، حتّى تكون عاطفة من النوع الذي يختزن في داخله الكثير من العقل. وليس معنى ذلك أنّ الإسلام لا يريد للعاطفة أن تنطلق لتعبّر عن نفسها، بل يريد للعقل أن يعيش في قلب العاطفة. وهذا يعني أنّ الإسلام يؤكّد على جانب التوازن الذي تعبّر عنه كلمة الاستقامة، بحيث تستقيم مبادئ الإسلام وخطواته ووسائله وأهدافه وعلاقاته، على صعيد القضايا التي يؤمن بها في الحياة كإنسان مؤمن بالله وبالإسلام.

وفي ضوء هذا الفهم، ندخل إلى الموضوع بشكلٍ مباشر. إنّ الإسلام لا يمنع الشاب من أن ينجذب إلى الفتاة بأيِّ دافع من الدوافع التي تؤثّر في عملية الانجذاب الذي نعبّر عنه بالحبّ أو بالعاطفة، كما لا يمانع في أن تنجذب الفتاة إلى الشاب، ما دام ذلك الانجذاب ينطلق من دوافع إنسانية متّزنة لا تطوف في الأجواء الأخلاقية السلبية، بمعنى أنّ عملية هذا الانجذاب قد تعيش أجواء العلاقات الشرعية. وفي هذه الحالة يحدث أن ينجذب أحد الجنسين للآخر ليتحوّل هذا الانجذاب إلى علاقة شرعية. وربّما تتطوّر العلاقة في غير هذا الاتجاه لتكون وسيلة من وسائل التفكير بعلاقة غير شرعية. إنّ الإسلام يرفض التفكير الذي يتحوّل إلى حالة شعورية تتحوّل إلى ممارسة واقعية في خطّ الانحراف، ولا يمانع في عاطفة تصل إلى النتائج الشرعية المرجوّة. وقد حاول الإسلام أن يحصِّن هذه المشاعر حتى لا تقود الطرفين إلى الانحراف، فوضع الضوابط لكلّ مستويات العلاقة: النّظرة والملامسة والاجتماع المنفرد بين الرجل والمرأة، باعتبار أنّ الشيطان سيكون ثالثهما حتّى لا تتحوّل الحالة الشعورية إلى حالة منحرفة، بفعل الأجواء الحميمة والممارسات الخاطئة التي تقود الطرفين إلى الانحراف.

الحبّ مشروع في الإسلام، ولكن ما هي حركة هذا الحبّ في ممارسات الرجل والمرأة؟ هل يتحرّك لتكون الممارسة في خطّ معصية الله أو في خطّ طاعة الله؟ ذلك هو الذي يحدّد للحبّ معناه الشرعيّ في دائرة رضى الله أو في دائرة سخطه. 

إشكالية الشّرك في الحبّ

أمّا الحديث عن مسألة الشرك في الحبّ، فإنّ هذه الحالة النفسية التي يستغرق فيها الإنسان، في الشخص الذي يحبُّه، قد تتحوّل إلى حالة عبادة. وهذا ما نراه في تعبيرات كثير من الشعراء، في أشعارهم الغزلية التي قد يعبّر بها الحبيب، عن شعوره نحو حبيبه، بكلمات العبادة، وما إلى ذلك.

إنّ هذه الحالة قد لا تختصّ بما يسمّى بالحبّ بين الرجل والمرأة، بل قد تنطلق في علاقات الناس بالعظماء والقياديين والأبطال في المجتمع؛ حيث يستغرق المحبّون في ذات هذا الشخص البطل أو ذاك القائد، أو في ذات هذا الحبيب أو الحبيبة، بحيث ينسى كلّ شيء ما عداه؛ بل قد يكون مستعدّاً لأن يعصيَ الله ويطيعه، وأن ينحرف عن طريق الله ليسير في طريقه. إنّ هذا قد يقترب من الشرك الخفيّ الذي يختزن في داخل الإنسان شخصية مقدّسة إلى جانب الله سبحانه في نفسه. وهذا ما عبَّر عنه الله تعالى في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ...} [البقرة : 165].

إنّ الذين آمنوا لا يعدلون بالله أحداً، بل إنّهم يحبّون الناس من خلال حبّهم لله وعلى أساس علاقة هؤلاء الناس بالله. ولذلك فإنّنا نحاول أن نثير هذه المسألة أمام الشباب والفتيات الذين يعيشون مشاعر ما يسمّى بالمراهقة، أو مشاعر العاطفة في دور المراهقة، أو يعيشون مشاعر الحبّ. كما أنّنا نتحدّث في ذلك أمام الرجال والنساء الذين يعيشون في داخل الحياة الزوجية، ونقول للجميع: إنّ عليهم أن يضبطوا عواطفهم في علاقة كلّ منهم بالإنسان الآخر، سواء كانت علاقة عاطفية مجرّدة أم علاقة حياتية تحكمها الكثير من الأوضاع. إنّ عليهم أن يضبطوا عواطفهم، فيقفوا بها عند حدود الله، سبحانه وتعالى في ما يمارسون ويقولون من أعمال ويشعرون من أقوال ومن مشاعر، باعتبار أنّ عليهم أن ينظروا إلى الناس بوصفهم عباد الله. وعندما يتأثّرون بالجمال فإنّ عليهم أن يعلموا أنّ الله هو الذي أعطى هذا الإنسان الجمال. وعندما يتأثرون بالبطولة فإنّ عليهم أن يعرفوا أنّ هذه البطولة هي هبة من الله. وعندما نستحضر الله في وعينا، وفي كلّ مشاعرنا ومواقفنا تجاه الآخرين، فإنّ الآخرين سيصغرون ويصغرون أمام الله، ويبقى الله وحده هو الكبير في وعينا، وهو العظيم في شعورنا، وهو الذي لا يقترب من موقعه أحد في ما نتّخذ له من مواقع في عقولنا وفي قلوبنا وحياتنا. وعلينا أن نعرف أنّ الله علّمنا أنّ حبّه ليس عاطفة في القلب؛ إنّما هو إلى جانب ذلك، حركة في الواقع. وقد جاء كتاب الله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ..} [آل عمران : 31].

إنّ ما يجب أن نؤكّده يتمثّل في ما يلي: إذا كنّا نقول لأنفسنا: إنّنا نحبّ الله فعلينا أن نؤكّد حبّ الله بالعمل. وعندما نقول: إنّنا نريد أن يحبّنا الله فعلينا أن نؤكّد ذلك بالتوسّل إلى محبّة الله من خلال طاعتنا لله. أمّا أن نحبّ الله ثم نعصيه، وأن نحبّ الله ونتمرّد على إرادته، فنكون كما قول الشاعر:

 

تعصي الإله وأنتَ تُظهِرُ حبَّه         هذا لعمرُكَ في الفِعَالِ بديعُ

لو كان حبُّكَ صادقاً لأطعتَهُ           إنّ المحبَّ لمن يُحِبُّ مطيعُ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الزواج: رابط مقدَّس

من الطبيعيّ أن يمثِّل الزواج الدائم العلاقة الإنسانية الطبيعية بين الرجل والمرأة. وهذه العلاقة تجعل الإنسان يعيش الإحساس بالسكينة والهدوء النفسيّ والاستقرار الروحيّ والجسديّ في علاقته بالإنسان الآخر؛ حيث يمثّل الزواج الدائم الحياة المشدودة إلى حياة أخرى، والمنفتحة على كلِّ الجوانب الخفيّة والظاهرة لشخصية كلّ طرف في مواقف الطرف الآخر، بحيث لا يشعر أحدهما بأيّة حاجة إلى أن يخفي أيّ شيء عن الآخر، من خلال هذا الارتباط العميق في مصير كلّ منهما بالآخر، لاسيّما إذا كان الأولاد ثمرة هذه العلاقة. وقد عبّر القرآن عن الحياة الزوجية، ويقصد بها الزواج الدائم، بقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً..} [الروم : 21].

حيث أنّ هذا التعبير: "يسكن كلّ إنسان إلى الآخر" يعني أن يطمئن إليه، وأن يجد في رفقته السكينة والاطمئنان والراحة والهدوء النفسيّ.

ثم أضاف القرآن إلى تلك السكينة، فجعل عنوان هذا الزواج المودّة والرحمة. وهما يعبّران عن حالةٍ تجعل الإنسان يعيش الإحساس بأنّ هناك إنساناً آخرَ يحمل له في عقله وقلبه، وفي إحساسه وحياته، المودّة التي تثير في نفسه كلّ مشاعر السكينة والطمأنينة، والرحمة التي تجعل الإنسان، يطلّ بمشاعره وعقله على حياة الإنسان الآخر، ليقدِّر ظروفه ونقاط ضعفه ليرحمه، ويطلّ على أخطائه، ليغفر له في عملية تكامل بين الطرفين، وفي عملية تناصح بين الطرفين.

تلك هي مهمّة الزواج الدائم: الرِّفق الدائم في الحياة.

ولكنّ المسألة في الزواج المنقطع تختلف عنها في الزواج الدائم، لأنّ الزواج المنقطع شرِّع في أغلب حالاته لينطلق من خلال حالة طبيعية لإشباع الغريزة، حتّى لا يتحرّك الإنسان في خطّ الانحراف، أو من أجل بعض الحالات الطارئة التي قد تدعوه إلى أن يتحرّك بشكلٍ أو بآخر نحو إشباع غريزته بلحاظ حالة معينة، أو نزوة معيّنة، أو وضع معيّن؛ الأمر الذي لا يؤكّد وجود علاقة أساسية تشكّل خطراً على الزواج الدائم.

الزواج المنقطع شُرِّع في الإسلام من أجل أن يلبّيَ الحاجات التي يلجأ الإنسان فيها للزنا، عندما تحاصره بعض الظروف النفسية، أو بعض الظروف الخارجية. وهذا ما نستوحيه من الكلمة المأثورة عن الإمام عليّ (عليه السلام): "لولا ما نهى عنه عمر من أمر المتعة ما زنا إلاّ شقيّ.." وفي رواية: "إلاّ شفى". إنّنا نفهم من ذلك أنّ تشريع الزواج المنقطع إنّما كان لأنّ الزواج الدائم لم يحلّ المشكلة الجنسية تماماً، فبقيت هناك بعض الثغرات التي قد يلجأ الناس فيها إلى الزنا، عندما لا يمكن للزواج الدائم أن يحلّ كلّ المشاكل الطارئة.

وفي ضوء هذا، فإنّ القول بأنّ الزواج المنقطع لا بدّ أن يكون وسيلة للوصول إلى الزواج الدائم ليس أمراً دائماً، أو ليس أمراً طبيعياً بشكلٍ عام، لأنّ طبيعة الزواج المنقطع تختلف عن طبيعة الزواج الدائم.

إنّنا لا نمانع في أن تكون هناك علاقة في الشروط الشرعية المحدّدة للزواج المنقطع على أساس هذا الزواج، ليتعرّف الطرفان على بعض ما يجهلانه عن بعضهما بعضاً ويكون الزواج المنقطع طريقاً إلى الزواج الدائم. 

وربّما رأينا، في بعض البلدان الإسلامية التي تلتزم بتشريع الزواج المنقطع، كإيران، أنّ هناك استبدالاً لفترة الخطوبة بالزواج المؤقّت بين الخطيب والخطيبة حتّى لا يرتكبان ما حرّمه الله، باعتبار أنّ الخطوبة لا ترتكز إلى عقد زواج. وبعد ذلك ينفتحان على الزواج الدّائم من موقع معرفة أحدهما للآخر، من خلال الحرّية التي يملكانها في إطار الزواج المنقطع.

إنّ علينا أن نكون واقعيين في فهمنا لطبيعة المشكلة، لذلك فإنّني أتصوّر أن التعقيد من الزواج المنقطع أمر غير واقعيّ، وهو أمر ليس في مصلحة الإنسان، سواء كان رجلاً أم امرأة، باعتبار أنّ إبعاد المجتمع عن هذا الزواج بشكلٍ مطلق يجعل المجتمع ينفتح على الزنا. وبذلك تكون المشكلة أكثر تعقيداً، لأنّ الزنا قد يثير مشاكل كثيرة يمكن ألاّ يثيرها الزواج المنقطع، لاسيّما بالنسبة إلى المتزوّجين من الرجال؛ الأمر الذي ينعكس على زوجاتهم، بسبب بعض المشاكل التي تحدث، من ناحية نفسية أو من ناحية عملية. ولكنّنا نتصوّر أنّ التعقيدات التي تحدث عند إغلاق هذا الموضوع تماماً، أكثر من التعقيدات التي تحدث عند إيجاد فرصة له محدّدة بالضوابط الشرعية والنفسية، والعملية والواقعية.

الفتاة وحريّة الاختيار

من الطبيعيّ أن تكون الفتاة صاحبة الحقّ الأوّل والأخير في اختيار الزوج المناسب لها. فليس لأحد أن يضغط عليها في فرض أيّ زوج، لأنّ الله لم يجعل أحداً مالكاً لأحد.

ولكنّ هناك عدّة نقاط، أو تحفّظات، ينبغي بحثها في صدد هذه المسألة.

النقطة الأولى هي البلوغ الذي يلتقي أو الذي يمتزج بالرشد. فلا يكفي في تصحيح عملية الاختيار أن تكون الفتاة بالغة سنّ التكليف، بل لا بدّ من أن تكون راشدة أو رشيدة، بحيث تستطيع أن تميّز الاختيار الصحيح من الاختيار الفاسد في حياتها. فإذا اجتمع لها هذان الشرطان: البلوغ والرشد فإنّ بإمكانها أن تختار مَن تشاء.

النقطة الثانية، وتتمثّل في الجدل الفقهيّ الدائر بين سائر فقهاء المسلمين حول السؤال التالي: هل يشترط في زواج الفتاة العذراء إذن الوليّ كالأب أو الجدّ، وربّما يمتدّ بعضهم إلى الأخ الأكبر ولو على نحو الاستحباب أو أنّه لا يشترط ذلك. هناك فريق كبير من الفقهاء، يقول: إنّ البالغة الرشيدة كالبالغ الرّشيد، ليس لأحد سلطة عليها.

فإذا كانت الفتاة رشيدة في التسع سنوات فلا بأس في ذلك. وإذا لم تكن رشيدة يحتاج الأمر أن تصل إلى سنّ الرشد. وسنّ الرشد ليس محدّداً بحالة زمنية بل بحالة عقلية.

وعلى هذا الأساس، هناك رأي لا يشترط شيئاً في موضوع صحّة زواج الفتاة وصحّة اختيارها إلاّ البلوغ والرشد، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى الرجل. وإن كان يستحبّ لها هذا الرأي أن تستشير أباها أو جدّها أو أخاها في ما يمكن أن يحقّق لها رشداً إضافياً على مستوى الاستشارة في الإنسان الذي تختاره، لأنّه من الممكن أن تخضع لجوٍّ عاطفيّ ضاغطٍ على مشاعرها يمنعها من أن تفكّر بطريقة موضوعية في المسألة، لاسيّما أنّ جانب الإحساس في المرأة أو جانب الضعف الطبيعيّ العفويّ في حياتها قد يجعل كثيراً من الناس يستغلّون هذا الجانب من شخصيتها، وهو براءة الطهر في ضعفها وفي إحساسها إذا صحّ التعبير. فيحسن لها أن تستشير في هذا الأمر الحيويّ الذي يمثّل مسألة مصير، لاسيّما إذا عرفنا أنّ أمر الطلاق بيد الرجل وليس بيد المرأة، كما يحسن لها أن تستشير في القضايا الأخرى التي تتّصل بالجوانب الأخرى من حياتها.

وهناك رأيٌ آخر لبعض الفقهاء، أو لكثير منهم، يشترط في صحّة زواج الفتاة ممّن تختاره إذن الأب أو الجدّ من جهة الأب. ولكن ليس معنى ذلك أنَّ للأب أن يجبرها على قبول ما لا تريده، لكن له أن يرفض من تريده انطلاقاً من المصلحة التي يراها. ولكن عندما نرى أنّ الأب لم ينطلق في رفضه من مصلحة بل من استغلال، أو من حالة تعسّفية، وكانت الفتاة محتاجة إلى الزواج، فإنّه من الممكن جداً في رأي بعض هؤلاء الفقهاء، ألاّ يكون للأب أيّ دور في هذه المسألة لأنّه لا يمارس هذا الموقع الذي أعطاه إيّاه التشريع بطريقة إسلامية، بل بطريقة ذاتية عدوانية أو عبثية أو استغلالية.

وفي كلّ الأحوال، للفتاة الرأي الأوّل والأخير في الاختيار. وربّما تتحفّظ بعض الفتاوى في حريّة هذا الاختيار عندما تربطه بإذن الأب، ولكنّها لا تتحفّظ في أنّه ليس لأحد أن يفرض عليها ما لا تريده. هذا من الناحية الشرعية الملزمة.

 

عناصر الاختيار

وفي صدد عناصر الاختيار نرى أنّ للفتاة، كما للشابّ، الحقّ في أن تطلب الأشياء الذاتيّة، باعتبارها إنسانة لها أحاسيسُ ومشاعرُ وطريقة في التفاعل مع الإنسان الآخر. فلها أن تطلب، في عملية اختيارها، الإنسان الجميل، أو الإنسان المقبول من حيث الشكل، لأنّها لا تطيق أن تعيش مع إنسان قبيح الشكل، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى الرجل. ولها أن تطلب الإنسان الذي يمثّل الكفاية الحياتيّة من حيث إمكانياته المادية. ولها أن تطلب الشخص الذي يملك مستوى ثقافياً معيناً أو مستوى اجتماعياً معيناً.

إنّ الإسلام لا يقف أمام رغبة المرأة في تحديد المواصفات الذاتية للرجل الذي تريد أن تختاره، باعتبار أنّ مسألة الزواج هي مسألة اختيار ناشئ عمّا يفكّر فيه الإنسان في حياته. ولكنّ الإسلام الذي يحترم إرادة المرأة والرجل في هذا المجال يحاول أن يوجِّه رغباتهما ليؤكّد أنّ هذه المواصفات التي قد تنجذب إليها المرأة أو الرجل لا تمثّل القيمة الكبيرة، بحيث يجعلانها في قِمّة اهتماماتهما، فتكون الخطّ الصحيح في حياتهما.

إنّ مثل هذه الأمور لا تُعتبر أساساً في ثبات الحياة الزوجية. فالجمال، مثلاً، شيء طبيعيّ في الرغبة، لاسيّما في مجال الرغبة الحسّية. ولكن قد يذهب الجمال بفعل التشويه، أو بفعل أيّ وضع من الأوضاع. وربّما يذهب المال، وربّما يصاب الإنسان بنكسة مالية أو بخسارة كبيرة. وقد يفقد مركزه الاجتماعيّ مثلاً، وتضعف ثقافته بفعل عدم الممارسة. إنّ هذه الأمور ليست من الأمور التي تمثّل العناصر الثابتة التي يمكن أن تتحرّك في داخل الحياة الزوجية لتضمن سلامتها. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنّ الزواج يمثّل علاقة خاصة، لأنّه يمثّل أسلوباً من أساليب حركة العلاقات الإنسانية في ما يتصرّف به كلّ فريق تجاه الفريق الآخر على مستوى احترام حقوقه، وعلى مستوى طريقة إدارة المعنى الإنسانيّ في داخل هذه العلاقة، وما إلى ذلك.

إنّ هذه المسألة تتّصل بالجانب الأخلاقي في شخصية الزوج أكثر ممّا تتّصل بالجانب الماديّ. فقد يُغرق الزوج زوجته بالمال أو بتلبية الرغبات الحسّية، ولكنّه لا يحسن التعامل معها بشكل إنسانيّ جيّد من خلال غياب الجانب الإنسانيّ في تعامله. إنّ حياتها سوف تتحوّل إلى جحيم. وكذلك عندما لا يكون الإنسان متديّناً يخاف الله فإنّه من الممكن جداً أن ينعكس عدم تديّنه على طريقة تعامله مع زوجته التي يستضعفها في البيت، عندما لا يكون هناك شخص آخر معهما يحمي الزوجة من الزوج. كما أنّه يستطيع أن يدمِّر حياتها بطريقة أو بأخرى من خلال طبيعة إثارة المشاكل والقضايا وما إلى ذلك بشكل سلبيّ في الحياة الزوجية. لهذا ركَّز الإسلام في توجيهه المرأة على الارتفاع برغباتها إلى الجانب الذي يمسّ عمق إنسانية العلاقة وعمق شأنها، وهو "الخُلُق والدِّين". فقد جاء في الحديث المأثور: "إذا جاءكم مَنْ تَرْضَون خُلُقه ودينه فزوِّجوه إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير"، على أساس أنّ الزيجات التي تتحرّك خارج هذا النطاق هي زيجاتٌ لا بدّ أن تفرز الكثير من المشاكل ومن الخلافات ومن الفساد في العلاقات الزوجية. لا أريد أن أقول: إنّ على المرأة أن تنظر إلى الخُلُق والدِّين ولا تنظر إلى الأشياء الأخرى. وإنّما أريد أن أقول إنّ الفكر الإسلاميّ، في ما نفهمه من أمثال هذه الأحاديث، يدعو المرأة، عندما تريد أن تنظر إلى الجوانب الأخرى ألاّ تعتبرها الأساس، بل عليها أن تنظر إلى العناصر التي تمسّ طبيعة العلاقة الزوجية من حيث هي علاقةٌ إنسانيةٌ اجتماعية تحتاج إلى الأخلاق التي تحكم نظرة كلٍّ من الزوجين للآخر وتصرّفه نحوه، وإلى الالتزام الدينيّ الذي يمثّل الضابطة التي تضبط تصرّفات الزوج في الخطّ الشرعي نحو المرأة. للمرأة الحق في أن تطلب الرجل الجميل والرجل الغنيّ والرجل الذي يملك مركزاً اجتماعياً والذي يملك مركزاً ثقافياً، ولكن عليها أن تضع أمامها، إلى جانب هذه العناصر، عنصري الخُلُق والدّين لأنّهما هما اللّذان يساهمان في نجاح الحياة الزوجية حتّى ولو افتقر الرجل أو ذهب جماله أو فقد مركزه الاجتماعي.

إنّ الأخلاق والدِّين يمكن أن يمثّلا الأساس في هذا المجال. وهذا المعنى الذي يؤكّده الإسلام في الرجل يؤكّده في المرأة. فقد ورد في بعض الأحاديث أنّ هناك مَن سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مَنْ أتزوّج؟ قال: عليكَ بذات الدِّين تَرِبَتْ يداك. انطلاقاً من هذا التعبير، أيضاً، لا بدّ للرجل من ألاّ يجعل جمال المرأة ومالها الأساس. ولذلك ورد في الحديث: مَن تزوّج امرأة لمالها ولجمالها سلبه الله مالها وجمالها. الدِّين إذاً هو الأساس في شخصية المرأة في العلاقة الزوجية، والدِّين هو أساس في الرجل في مسألة العلاقة الزوجية، والأخلاق هي نوع من أنواع الفكر الدينيّ في تفاصيله.

وإضافةً إلى ما سبق، نريد أن نؤكّد حقيقة؛ وهي أنّ المرأة التي تطلب الجمال والثقافة والمال والمركز في الرجل، إلى جانب الخلق والدّين، هي امرأة غير منحرفة إسلامياً. كما أنّ الرجل الذي يطلب في المرأة المتديّنة الجمال والمال والثقافة والموقع الاجتماعي هو إنسان ليس منحرفاً إسلامياً. فالانحراف هو أن يكون الجمال كلّ شيء، أو أن يكون المال كلّ شيء، أو أن يكون المركز الاجتماعي كلّ شيء، بحيث تكون الأخلاق والدِّين حالة هامشية في البحث عن الشريك في الحياة الزوجية.

المهر ليس ثمناً للمرأة

تنطلق النظرة السائدة عن المهر، لدى الكثير من الناس من فكرة خاطئة متخلِّفة ترى أنّ المهر يمثّل ثمناً للمرأة، باعتبار أنّ الرجل يملك المرأة في مقابل ما يدفعه من مال.  

وعلى هذا الأساس، نجد بعض النساء يُعلنَّ عن مهرهنَّ بالطريقة الشعبية: إنّه "حقّي عتيقة رقبتي"، وكأنّ المهر يمثّل نوعاً من أنواع التملُّك. كما أنّ اعتبار ارتفاع قيمة المهر نوعاً من أنواع تأكيد القيمة الاجتماعية للمرأة يشبه رفع قيمة السلعة كتأكيد على قيمتها التجارية.

وقد تحدَّث القرآن الكريم عن المهر بوصفه نحلةً، فقال: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً..} [النساء : 4].

والنحلة هي العطيّة من دون مقابل. هي هبة، هي رمز المحبّة، وليست ثمناً. ولهذا نجد بعض الفقهاء يقولون: إنّ التعبير في عقد الزواج يمكن أن يكون: زوّجتك فلانة على مهر لا بمهر، لأنّ الباء تعطي معنى العوضية. والمهر لا يشكّل عنصر عوضيّة في هذا المجال، بل هو مجرّد شرط ضمن العقد. ولهذا يجمع الفقهاء على أنّ المهر إذا كان باطلاً لبعض الاعتبارات، فإنّ العقد يكون صحيحاً. ويرجع إلى مهر المثل في هذا المجال؛ الأمر الذي يدلّ على أنّ مسألة المهر ليست مسألة تتّصل بجسم العقد الزوجيّ، وإنّما هي من شروطه وتوابعه ولواحقه. إنّنا نتصوّر أنّ المرأة التي تحترم نفسها هي التي لا تسمح بالحديث الطويل حول حجم المهر وقيمته. وقد ورد في الحديث الشريف: "شؤم المرأة غلاء مهرها"، باعتبار أنّ غلاء المهر قد يعقّد زواجها. وهناك كثيرٌ من النساء لا يتزوّجن بسبب أنّ أهلهن الذين يعيشون في مجتمع يرفع من قيمة المهر يغالون في هذه القيمة؛ الأمر الذي يبعد طالبي الزواج عن الاستمرار في ذلك.

وقد قرأت، في أخبار بعض الشعوب، التي تعارفت على أساس أنّ الأهل يعطون "الدوطة" للرّجل، في الهند وسواها أنّ هؤلاء يعملون على تأخير زواج بناتهم، لأنّ ذلك يكلّفهم جهداً كبيراً؛ الأمر الذي يجعل المهر عند الطرفين سواء أكان يأخذه الرجل، كما الدوطة مثلاً أم تأخذه المرأة، مجرّد رمز لا يمثّل قيمة، كما أنّه يمثّل عنصر تثبيت للحياة الزوجية، كما يعتقد بعض الناس.

إنّنا نعتقد أنّ الرجل الذي لا يملك خوفاً من الله، ولا يملك أخلاقاً، يمكن له أن يُكره الزوجة، ولو باختيارها، على طلب الطلاق والتنازل عن المهر، بأن يخلق لها أوضاعاً وظروفاً وأجواء نفسية تجعلها تبذل أكثر منه، بل ربّما نجد أن بعض المتديِّنين يعملون على الاقتصار في هذا المجال، على ما هو واجب عليهم في الإنفاق أو في المعاشرة. 

إنّ الذي يحفظ الحياة الزوجية هو المودّة والرحمة والمسؤولية المشتركة بين الطرفين والأخلاق الإسلامية. إنّ على المرأة أن تبحث في الزّوج عن دينه، وأخلاقه، واحترامه للمرأة والحياة الزوجية. فإذا كان فقيراً فعليها أن تساعده وأن تدفع له، وعلى أهلها أن يراعوه كما يراعون ابنتهم وأولادهم. لهذا نعتبر المفهوم الذي يقدر المرأة بزواجها أو يعتبره عنصراً ضاغطاً على الرجل، هو مفهومٌ غير إسلاميّ، ومفهومٌ غير إنسانيّ ومفهومٌ لا ينسجم مع احترام المرأة.

الصّفات الدينية والخلقية

نقرأ الأحاديث الشريفة التي تركِّز على موضوع صفات الزوج أو الزوجة، مثل: "إذا جاءكم مَنْ ترضون خلُقه ودينه فزوّجوه إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". أو الحديث الآخر: "عليك بذات الدِّين" الذي جاء إجابةً عن السؤال التالي: مَنْ أتزوّج؟. ونستوحي، من هذين الحديثين، ومن غيرهما، أنّ الزواج ينطلق من ضرورة إحراز كلٍّ من الزوجين الصفات الخلقية والدينية. فإذا أمكن إحراز ذلك بطريقة السؤال والاستشارة كان ممكناً تحقيق النتائج من دون حاجة إلى لقاء أو تعارف. لكنّ ذلك لا يعني أنّ اللّقاء الخاضع لضوابطَ أخلاقية وشرعية معينة يعتبر محرّماً، بل إنّ لقاء الشاب بالفتاة وجلوسه معها، في أجواء تحمي كلاً منهما من الآخر، في جانب الإحساس غير العاديّ بالغريزة ليس محرّماً شرعاً، بل هو جائزٌ بشكل طبيعيّ، لأنّه لم يرد عندنا، في الشرع، حرمة حديث الرجل مع المرأة أو جلوسه معها.

أمّا ما يطرح من النهي عن اختلاء الرجل بالمرأة، فهو عندما يكونان في مكان واحد خالٍ ليس فيه أحد غيرهما، لأنّ ذلك قد يوحي لكلّ منهما بإيحاءات غير أخلاقية عندما يشعران بالأمن من أيّ عمل يقومان به؛ الأمر الذي يقرِّبهما أو يشجِّع العناصر الملتهبة في نفسيهما في هذا الاتجاه.

وربّما كانت هناك بعض الأحاديث التي تتحدّث عن استحباب عدم الاختلاط، أو أن لا ترى المرأة رجلاً ولا يراها رجل، لكن هذا داخل في معنى الكناية التي تريد أن تجنِّب الطرفين الاختلاط الذي قد يسبّب الفتنة ولو بنسبة 10%. وهذا ينطلق في الجوانب الأخلاقية العالية. ولكن عندما نلاحظ الحكم الشرعيّ، بالعقل البارد، نجد أنّ المسألة تدخل في نطاق الحلال لا في نطاق الحرام إلاّ إذا طرأت أمورٌ أخرى تجعل هذا الاختلاط، أو اللّقاء، محرّماً أو مكروهاً أو مستحبّاً أو واجباً. أمّا إذا لم يستطع الرجل أو المرأة أن يكتشف أحدهما الآخر إلاّ من خلال لقاءات يعرف كلٌّ منهما، من خلالها، صاحبه في طريقته بالتفكير وفي طريقته في احترام العلاقة الزوجية وفي عواطفه وأوضاعه وانتماءاته وخلفياته، بحيث إِنّه لن يستطيع أن يتعرّف على هذا الشيء نفسه، لأنّه لا يستطيع أن يعتمد على غيره، فإنّنا لا نرى أنّ هناك أيّ مانع شرعيّ من هذه الناحية في ظلّ الضوابط الأخلاقية التي تحكم تلك اللقاءات، والتي يمكن أن تتمَّ تحت رقابة الأهل، أو تحت رقابة أصدقاء مؤمنين أو في جوّ إيمانيّ آخر.

التناسب بين الزوجين

من الطبيعيّ أنَّ أيّ توافق بين شخص وآخر، في العمر والثقافة والظروف الاجتماعية، يحقِّق نسبةً كبيرة من نجاح العلاقة التي يريدان تحقيقها بينهما. لأنّ مثل هذا التوافق يحقّق بين الطرفين نوعاً من الألفة الروحية والفكرية والعاطفية والاجتماعية. وهذا لا يتحقّق بشكلٍ طبيعيّ عاديّ، في حالة اختلاف هذه العناصر بينهما. لأنّ الإنسان عندما يعيش مع شخصٍ آخر يشبهه من حيث الأجواء والموقع والانتماء، لا يشعر بالغربة، ولا يحسّ أنّه فقد شيئاً من مزاجه، أو شيئاً من حياته الاجتماعية، أو شيئاً من أوضاعه الخاصة والعامة. إنّ هذا أمر طبيعيّ، وقد جاء في بعض كلمات الشعراء: كلّ شكلٍ لشكله ألِفُ..

ولكن عندما ندرس عمق المسألة في التفاصيل، فإنّنا نجد أنّ ذلك لا يمثِّل خطّاً عاماً يوصل إلى النجاح. وذلك لأنّ الإنسان الذي قد يشعر بالحاجة إلى التناسب، حتى لا يشعر بالغربة، قد يحسّ بالحاجة إلى شخص آخر مخالف لما هو عليه، من أجل أن ينفتح على أُفق جديد لا يملكه في واقعه الحاليّ. ونذكر مثالاً على ذلك: ربّما يلتقي شخصان شابان في العلاقة الزوجية، فيحسَّان بالتوافق والتناسب من حيث الحيوية الجسدية التي يمكن أن تعطيهما نوعاً من الاكتفاء والإشباع الغريزي بما قد لا يحصل في حالات اختلاف السنّ، لاسيّما إذا كان الفارق كبيراً. وربّما يعيشان بشكلٍ جيّد، الأجواء اللاهية العابثة التي قد يسمح بها هذا العمر. لكن قد يشعر الإنسان في هذا المجال بأنّ حياته لا تزال في طبيعتها الساكنة الهادئة. إنّه يعيش الحالات التي كان يعيشها مع حيويّة جديدة ولم يتغيّر عليه شيء. وقد يشعر إنسانٌ آخر بأنّ هناك عناصر أخرى قد يحتاجها، وهي موجودة عند الطرف الآخر وليست موجودة لديه. وقد تكون لأحد الزوجين ثقافة، وللزوج الآخر خبرةٌ ونضجٌ. وربّما يكون لأحد الزوجين مستوى اجتماعيٌّ كبيرٌ وللزوج الآخر ثقافة ونضوجٌ ومستوى اقتصاديّ معيّن. وهكذا.. في الجوانب الأخرى التي تتحرّك فيها العناصر التي تحكم علاقات الناس في الحياة. لذلك فإنّنا لا نستطيع، عندما ندرس الواقع بشكلٍ طبيعيّ، أن نخرج بنتيجة حاسمة وحيدة، وهي أنّ التوافق في العمر، أو في المستوى الثقافيّ، هو الذي يمثّل عنصر النجاح الحيويّ في السعادة الزوجية، وإن كان له الدور الكبير والأساس. قد نجد حالاتٍ كثيرة، في جميع المستويات، ولدى الشعوب البدائية والمتقدِّمة، ينجح فيها زواج ابن الستين بابنة الثلاثين بقدرٍ لا ينجح به زواج ابنة الثلاثين بابن الخمسة والثلاثين. لأنّ هناك حاجةً في نفس ابنة الثلاثين للتكامل مع بعض العناصر الموجودة في ابن الستين ممّا لا تجده عند ابن الخامسة والثلاثين. وليس من الضروري دائماً أن يكون العنصر الجنسيّ هو الأساس، ليقال: كيف يمكن أن يعيش إنسانٌ في مثل هذه السنّ الشاب مع إنسانٍ في هذه السنّ المتقدّمة من العمر؟ لأنّ بعض العناصر الموجودة لدى الإنسان قد تجد مستوى من الأهمية أكثر من المستوى الغريزيّ في حياة هذا الإنسان.

ومن الممكن جداً أن يحدث هذا الاكتفاء على حساب العنصر الجنسيّ، لأنّنا عندما ندرس الواقع الموجود، في المجتمعات التي تسمّى متحضِّرة اليوم، مثل الشعوب الأوروبية أو الأميركية، نجد أنّ هناك زيجات تمّت في أعمار متباعدة جداً، ومع ذلك كانت ناجحة.

وهذه الزّيجات تمثّل حالةً إنسانية لها بعض النماذج في الوجود الإنساني، بحيث إِنّه قد ينجح زواج المثقّف من امرأة غير مثقّفة بدرجةٍ لا يصل إليها زواج شخصين مثقّفين، لأنّ هذا النموذج قد لا يريد أن يعيش في بيته التطلّعات والآفاق الواسعة التي تعيشها الفتاة الواعية والمثقّفة، باعتبار أنّه يريد أن يعيش في بيته حالة الحياة الخاصّة المحدودة. وكذلك ربّما تشعر امرأة مثقّفة بأنّها قد لا تحتاج إلى إنسان مثقّف لأنّ الشخص المثقّف قد يتعقّد من ثقافتها في بعض الحالات، فيجد أنّ مستواها الثقافيّ يسيء إلى الذهنية التاريخية الاستعلائية الموجودة عند الرجل في رجولته والتي تفترض أن تكون كلمته فيها هي العليا. فإذا كانت في المستوى الثقافي موازيةً له فلا يتحقّق ذلك، فهذا يحتاج إلى إنسانةٍ أقلّ مستوى ثقافيٍّ لإرضاء كبريائه.

إنّ هناك ذهنية تقول: إنّ العامل الجنسيّ هو كلّ شيء، أو إنّ العامل الثقافيّ هو شيءٌ مهمٌ جداً. ونحن نقول: إنّ العامل الجنسيّ مهمٌ، لكنّه قد يصطدم بعامل آخر أهمّ منه.

هذا واقعٌ قد نرى بعض نماذجه. وإنّنا في الوقت الذي نشجّع فيه على التناسب الذي يحمي الحياة الزوجية ـــ وإنْ كنّا لا نغفل بعض السلبيات، لكن الإيجابيات أكثر ومقدار إنتاجها الاجتماعيّ أكبر جداً ـــ نرى أنّه قد تكون، في حالات خاصة، عوامل أكثر فاعليةً. وهذا يقتضي دراسة مثل هذه الحالات. فربّما يصطدم العامل الثقافيّ، أو الجنسيّ، بتلك العوامل فيتراجع لمصلحتها. والسرُّ في ذلك يتمثّل في أنّ بعض الناس قد لا ينطلق من خلال العامل الواحد. وجميعنا في الحياة لا نتحرّك على أساس العامل الواحد، وإنّما ينطلق الإنسان في حياة متحرّكة بفعل عواملَ متبادلةٍ وضاغطةٍ ومتداخلةٍ ومتمايزةٍ. ولذا فقد يكون الإنسان اليوم ضدّ نفسه غداً. وقد يتأثّر اليوم بما لا يتأثّر به غداً. ولهذا نقول، في الجانب الفكريّ، بأنّ الذين يفسِّرون التطوُّر الإنسانيّ بالعامل الواحد مخطئون. فعندما نجد أنّ "فرويد" يحاول أن يجعل العامل الجنسيَّ هو العامل الأساسيّ في تطوّر الإنسان وفي كلّ نشاطاته، أو أنّ كارل ماركس الذي يحاول أن يجعل العامل الاقتصاديّ هو الأساس، أو غيرهما من الذين يعتبرون العامل الاجتماعيّ هو الأساس "كدوركهايم" نقول: هؤلاء مخطئون في ما يذهبون إليه، لأنّهم استغرقوا في عامل مهمٍّ ولم يستغرقوا في العوامل الأخرى.

نظروا إلى الإنسان من زاويةٍ واحدة واستغرقوا فيها لأنّها كانت محلّ اهتماماتهم، ولم ينظروا إلى الإنسان على الطبيعة بل إنّهم عاشوا هذه الفكرة وحاولوا أن يفرضوا تفسيرهم على واقع الإنسان. ومن هنا نجد أنّ أفكارهم لم تستطع أن تحقِّق النجاح الكبير، وإنْ حقَّقت بعض النجاح.

وعلى هذا الأساس نرى أنّ الإنسان حيوان متعدِّد المواقع والاتجاهات والخلفيات، ولذلك فإنّنا لا نستطيع أن نعطيه عنواناً واحداً في علاقاته، بل لا بدّ من أن ندرس اهتمامات الإنسان ومدى سيطرتها على حركته في الحياة. ولذلك، فالجانب الجنسيّ مهمً جدّاً في الحياة الزوجية، ولكنّنا نجد بعض الناس قد تغلب عليه اهتماماته الأخرى بحيث يعتبر هذا الجانب حالةً رتيبةً بالنسبة له، وهذا ما نجده لدى بعض الرجال والنساء. وربّما كان ما يسمّى بحالة البرود الجنسيّ عند الرجل أو المرأة ناشئاً من حالة ذاتية، وإنّما هو ناشئٌ من غلبة بعض الاهتمامات على الإنسان، بحيث يشعر بأنّ هذا الجانب ليس جانباً مهماً وحيوياً. وعندما نرى أنّ الإنسان في الحياة غالباً ما يعيش اهتمامات كبيرة فإنّنا نجد هذه الاهتمامات تغلب على هذا الجانب، ولذلك فإنّنا، في الوقت الذي لا نريد أن نخفّف من تأثير هذا العامل: التناسب، مغلبين تأثير مجموعة من العوامل المتوافقة، في نجاح العلاقات الزوجية، نرى أنّ هذا العامل لا يمثّل مجمل العناصر الحاسمة في إفشال الزواج.

إنّنا نريد أن نناقش أصل الفكرة. ليس من المفروض أن يفشل الزواج إذا لم يكن هناك توافق في العمر أو الثقافة أو المستوى الاجتماعي. فربّما نجد زيجات كثيرة لم يتمّ فيها التوافق في هذه الأمور وكانت أكثر نجاحاً ـــ في بعض الحالات ـــ من الزيجات التي تملك هذا التوافق. ولكنّنا في الوقت نفسه، لا نريد أن نفرض الظاهرة الواحدة، وعلينا أن نفكّر دائماً في الدور الأفضل الذي يتمّ من خلاله تأسيس الأسرة الناجحة. ويبقى العامل الأساسيّ هو بناء الحياة الزوجية على أساس من الوعي والثقافة المتبادلة، وإنْ كنّا كما أشرنا لا نلغي الحالات الأخرى ولا نفصل العوامل الأخرى، علماً أنّها ليست قاعدة عامّة.

التفاوت بين الزوجين

إذا أردنا دراسة الزيجات التي تتّصف بالتّفاوت، من حيث العمر والثقافة والانسجام الفكريّ دراسةً واقعية، فإنّنا نلاحظ أنّ الحياة لا تنطلق من جانب واحد يتمثّل في السعادة أو الشّقاء. وإنّما هناك جوانب متعدّدة قد تجعل العنصر المأساويّ عنصر فرح، عندما تضاف إليه عناصر أخرى قد تجعل عنصر الفرح عنصراً مأساوياً، عندما تحيط به أجواء المأساة. ومن الأمثلة التي تؤكّد ذلك ما يلي: قد يتزوّج إنسان في سنّ الشباب إنسانة تناسبه من حيث العمر، جميلة بأروع صور الجمال، أو غنيّة، ولكنّها بليدة كأقصى ما تكون البلادة. يكون الجمال في هذه الحالة، مصدر فرح ويكون الغنى مصدر استقرار، ولكن عندما تنطلق الحياة الزوجية كخليّة أولى للحياة الاجتماعية فإنّ البلادة تنسف ذلك كلّه. إنّ هذا الإنسان البليد الجميل الغنيّ، سواء كان رجلاً أم امرأة سوف يدمّر كلّ الإحساس بالغنى، أو ما إلى ذلك، لأنّ الإنسان يتحرّك بعقله وقلبه وشعوره، ولا يتحرّك بمعدته وثيابه وغرائزه. وقد نجد في الجانب الآخر فتاة في عمر الورود تتزوّج إنساناً متقدّماً في السنّ، وربّما كان فاقداً حرارة الاكتفاء الغريزيّ، ولكنّها قد تجد في هذا الإنسان الغنى في العقل، وفي التجربة والعاطفة، ما يشعرها بأنّ الجانب الغريزيّ الذي تفقد بعض حيويّته لا يمثّل حالةً مأساوية أمام ذلك الجانب. وهكذا قد يتزوّج إنسانٌ غير مثقّف إنسانةً مثقّفةً، لكنّه إنسانٌ يملك الخبرة الاجتماعية، ويملك الحيوية في العلاقات الاجتماعية، ويملك أشياء كثيرة لا تجعل عدم التكافؤ الثقافيّ عنصراً مأساوياً، لأنّ ما يفقده هذا الرجل من إمكانات ثقافية قد يملك ـــ بدلاً منه ـــ الكثير من المخزون العاطفيّ ومن التجربة ومن العقلانية وما إلى ذلك، بما يعوِّض عن ذلك النقص. إنّ الإنسان ليس حالةً تجريديةً ليستغرق في الجانب التجريدي. إنّ أيّ طاقة قد تخفِّف منها طاقة أخرى، وقد تغنيها طاقة أخرى.

لهذا ربّما لا يكون هناك زواج متكافئ، من حيث الثقافة أو من حيث المستوى الاجتماعيّ، أو من حيث الجمال. ولكنّنا عندما ندرس جميع العناصر سنرى أنّ هناك تكافؤاً في مجموع هذه العناصر، يترك أمر تقديره للزوجين ليدرسا طبيعة الحاجات التي يختزنان منها في نفسيهما ما يتطلّبانه، كلّ واحدٍ لدى الآخر، ليكون اختيارهما منسجماً مع الحاجات التي قد تكون في بعض الحالات مأساوية في الصورة، ولكنّها تمثّل الفرح كلّه في العمر.

 

 

 

 

 

الخطوبة

الخطوبة، بالمعنى المتعارف عليه بين الناس، اتّفاقٌ بين الطرفين على الزواج، من ناحية المبدأ، ومن دون إجراء عقد الزواج. وهذا أمرٌ لا يمثّل أيّة علاقة شرعيّة تجعل حالة ما بعد الخطوبة متقدّمة على حالة ما قبلها. فالرجل أجنبيٌ عن المرأة، والمرأة أجنبية عن الرجل في ما بعد الخطوبة، تماماً كما هو الحال قبلها. وذلك لأنّه ليس هناك إلاّ اتفاقٌ على الزواج، من دون أن يكون هذا الاتفاق محقِّقاً لأيّ شيء شرعيّ. وعلى ضوء هذا فكلّ التحفّظات الشرعية، في لقاء الأجنبيّ بالأجنبية، يمكن أن تتحرّك بعد الخطوبة، كما هو الحال قبلها. ولذلك، فإذا أراد الطرفان أن يعيشا تجربة تعارف بطريقة عميقة يستطيع كلّ واحد منهما أن يتعرّف، من خلالها، على خصوصيات الآخر، من الناحية النفسية والأخلاقية والعملية، فلا بدّ من إجراء عقد شرعيّ، إمّا بطريقة العقد المنقطع لمن يؤمن بالعقد المنقطع وبالشروط الشرعية للعقد المنقطع، كما هو العقد الدائم، أو بالعقد الدائم الذي يعتبر نقلةً لعقد دائم آخر، إذا أريد للمسألة أن تأخذ وضعاً مختلفاً، فبهذه الطريقة وحدها يمكن للطرفين أن يأخذا حريّتهما من دون أيّة مشاكل شرعية في هذا المجال. وفي هذه الحالة تكون الفتاة زوجة الرجل بمقتضى عقد الزواج، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى. والرجل هو زوج هذه الفتاة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى. وغاية ما هناك هو أنّه قد توضع شروط ضمنيّة، داخل عقد الزواج، تقضي بألاّ يكون للرجل في هذه الفترة الحقّ في الاستمتاع بأيّ طريقة من الطرق المتعارف عليها بين الناس في هذا المجال. هذا الشرط الضمنيّ حقّ للمرأة، ولها أن تتنازل عنه. وإذا تنازلت عنه يصبح العقد زواجاً شرعياً من دون أيّة تحفّظات، من هذه الجهة.

في فترة عقد الزواج التي تفصل بين العقد وبين الانتقال إلى بيت الزوجية، هناك وجهة نظر فتويّة يؤكّدها السيّد الخوئي، حفظه الله، تقول بعدم وجوب النفقة على الزوج على من تسمّى خطيبته أو زوجته. فالإنفاق عليها غير واجب في هذه الفترة، لأنّ هناك شرطاً ضمنياً يقضي بأن يكون الإنفاق بعد الانتقال إلى البيت الزوجيّ. وهذا يحدث طبعاً، في المجتمع الذي يُتعارَف فيه على مثل هذا الشرط. أمّا في المجتمعات التي لا يتعارف فيها على مثل هذا الشرط، فقد لا يكون هذا التحفُّظ موجوداً. المهمّ أنّ عقد الزواج يجعل الطرفين زوجين بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، مع ملاحظة الشروط التي يشترطها كلّ واحد منهما على الآخر، سواء أكانت شروطاً ضمنية اتّفقا عليها، أو قبلاها على سبيل التعارف، وإنْ لم تنصّ على العقوبة، أو كانت شروطاً عقدية في أيّ جانب من الجوانب. ومن الممكن جداً أن تتنازل المرأة عن الشرط الذي اشترطته لمصلحتها. فلو أنّ الأهل قد اشترطوا شرطاً على الزوج، وتنازلت الزوجة عنه، فليس للأهل الاعتراض حتّى لو كان الأمر متعلّقاً بالمهر المحدّد خلال إجراء عقد الزواج.

الخطوبة وسيلة لوضوح الصورة

وهناك مسألة أخرى تتمثّل في أنّ الإسلام يؤكّد على الزوج أن تختار الزوج الذي يملك خُلُقاً وديناً. ويؤكّد على الرجل أيضاً أن يختار الزوجة التي تملك ديناً وخلقاً. وفي هذا المجال ربّما يُطرح سؤال، وهو كيف يمكن للزوجة أن تعرف الصّفات الأخلاقية والدينيّة للزوج؟ وكيف يمكن للزوج أن يعرف الصفات الأخلاقية والدينية للزوجة؟

وفي هذا المجال، قد نستطيع أن نصل إلى هذه النتيجة من خلال استشارة الآخرين ودراسة المسألة من خلال الواقع الذي يحيط بالزوج أو بالزوجة، في المجتمع الذي يراقب أوضاعهما الأخلاقية والدينية. ويمكن أن ينقل إلينا التجربة بشكلٍ واضح. ولكن لا يستطيع كلٌّ من الطرفين أو أحدهما أن يعرف صفات الآخر بشكلٍ كافٍ. في هذه الحالة تكون مرحلة الخطوبة المرحلة التي يمكن لكلّ منهما التعرّف على الآخر خلالها. ومن الطبيعيّ أنّ مرحلة الخطوبة لا تتيح مثل هذه المعرفة، عندما لا تترافق مع عقد يبيح لكلّ واحد منهما أن يأخذ حرّيته في التعامل مع الآخر، بالشكل الذي يتحرّكان فيه كما لو كانا زوجين طبيعيين، مع وقف التنفيذ، بالنسبة إلى الواقع الخاص. في هذا المجال طبعاً لا بدّ من إجراء عقد زواج بالطريقة التي ذكرناها، لأنّ هذا يسمح للخطيب بأن يعرف خطيبته عن كثب، ويسمح للخطيبة بأن تعرف خطيبها عن كثب، لكي يحسما أمرهما في نهاية المطاف، عندما تكون هناك فرصةٌ طبيعيةٌ أو اجتماعية لحسم المسألة بشكلٍ معقول، لأنّه ليست هناك أيّة مشاكل شرعية في هذا المجال. ولكن لا بدّ لهما من أن يلاحظا العُرف الاجتماعي الذي ربّما يخلق لهما مشاكل فيما لو أرادا أن يتجاوزا الحدود المألوفة في المجتمع. هذا من الناحية الاجتماعية العامة، أمّا في الحالات التي لا يكون فيها عقدٌ زوجيٌّ، فمن الطبيعيّ أن تخضع مسألة التعارف، أو مسألة الاجتماع فيما بينهما، للحدود الشرعية التي يخضع لها كلّ أجنبيّين يريد أحدهما أن يلتقي بالآخر. ومن الطبيعي أنّ الإسلام لا يحرّم اللقاء بين الأجنبيّ والأجنبية، ولكن في الحدود الشرعية من حيث النظرة والملامسة والأفكار الخاصة التي يحملها كلّ واحد منهما اتّجاه الآخر. ومن الطبيعي أنّ التعرّف عندما يتمّ في ظلّ مثل هذه التحفّظات يكون من الصعب على الخطيب أن يفهم خطيبته بشكلٍ جيّد. ويكون من الصعب، أيضاً على الخطيبة أن تفهم خطيبها بشكلٍ جيد. بل ربّما يتحوّلان إلى ممثّلين يحاول كلّ واحد منهما في هذه الجلسات المحدودة أن يمثّل على الآخر دور الإنسان المتديِّن صاحب الأخلاق العالية، وما إلى ذلك. ولذلك فإنّ المسألة لا تكون في موضع فاعلية في مسألة التجربة الحيّة.

وقد يسأل بعضُ الناس عمّا إذا كان يترتّب ـــ برأي الإسلام ـــ على كلّ من الخطيبين واجبات اجتماعية معيّنة تجاه أهل الطرف الآخر؟ إجابةً عن هذا السؤال نقول: ليست هناك واجبات اجتماعية بهذا المعنى، من الناحية الشرعية، باعتبار أنّ المسألة تخصُّ الخطيبين وحدهما، وحياتهما الخاصة، وليس لأهلهما أيّ دور ما يتّصل بعلاقتهما الزوجية. نعم لأهل الزوجة دور في حياة الزوجة، باعتبار العلاقات الطبيعيّة الموجودة. ولأهل الزوج دور بالنسبة للزوج. ومن الطبيعيّ أنّ الخطبة توجد علاقة خاصة. وهذه مسألة لا بدّ من أن تخضع للياقات الاجتماعية والعرف الاجتماعي.

أمّا بالنسبة للولاية، فإنّ الفتاة البالغة الرشيدة لا تعتبر تحت ولاية والديها في هذا المجال، باعتبار أنّها بالغة رشيدة. وليس للأب الولاية على البالغة الرشيدة. نعم هناك حالة إسلامية تقضي بالإحسان إلى الأب. أمّا بالنسبة إلى المجالات الأخرى فليس له أن يمنعها من الخروج من البيت، أو من أن تخرج مع خطيبها. وليس له أن يمنعها من أيّ شيء من الأشياء في هذا المجال، لأنّه ليس له ولاية عليها من قريب أو بعيد. كان هناك تحفُّظ شرعي في أنّها لا تتزوّج إلاّ بإذنه، وعندما تزوّجت بمقتضى العقد الزوجيّ لم تعد له أيّ سلطة أو أيّ إشراف عليها. وهكذا الأمر بالنسبة إلى ولاية الزوج، فبمقتضى العقد الذي اتّفقا فيه على شروط ضمنية، لها الحقّ في أن لا تتقيّد بحقوق الزواج إلاّ بعد الانتقال إلى البيت الزوجيّ، كعدم الخروج من البيت بغير إذنه، باعتبار أنّ الشروط العرفية تصبح أشبه بالشروط الضمنية في هذا المجال.

نصائح وإرشادات

إنّنا، إذ ننظر إلى الزواج نظرة شرعية مبسَّطة، باعتباره مجرّد علاقة إنسانية خاصة بين الزوجين، نرى أنّه ليس من الطبيعيّ أن يعيش الزوجان خطيبين مدّة طيلة مع كلّ الحرية التي يشعر فيها كلّ واحد منهما اتجاه الآخر، وأن يعيشا، في الوقت نفسه، الضوابط الاجتماعية بشكلٍ ضاغط، لأنّ ذلك قد يعقِّد كلّ واحد منهما بطريقة أو بأخرى. وقد يؤدّي إلى توتّرات نفسية غير طبيعية.

لذلك فإنّنا نرى أنّ على المجتمع أن يبسّط المسألة الزوجية كما بسّطها الشرع الإسلاميّ ودعا إليها، بوصفها علاقة طبيعية تخضع للحدود الشرعية. فإذا كانت الحدود الشرعية صحيحة، فعلى المجتمع أن يعطي الزوجين حريّتهما في هذا المجال. إنّنا قد نفهم أنّ مسألة الخطوبة هي المسألة التي قد تملأ نفس كلّ من الزوجين من ناحية التوتّرات النفسية التي يعيشها الشاب أو تعيشها الفتاة، نتيجة القضايا الخاصة، وفي الوقت الذي لا يستطيعان فيه أن يفتحا بيتاً زوجياً. ولذلك فإنّه من غير الطبيعيّ أن توضع قيود كبيرة في هذا المجال؛ إذ ربّما يكتشفان بعض الوسائل، أو بعض الأساليب التي قد يستطيعان من خلالها أن يوفّقا بين الضغوط الاجتماعية وبين حاجتهما الشخصية.

وبالنسبة إلى فترة الخطوبة، أو قصرها، فإنّ هذه المسألة تخضع للظروف الذاتية للخطيب والخطيبة بحسب الواقع الاجتماعيّ الذي يحكم علاقتهما. ولكن من الناحية المبدئية، فإنّ طول المدّة ربّما يؤدّي إلى نتائج سلبية على الحياة الزوجية التي تفقد الاستقرار، ثم تفقد بعد ذلك الشعور بالطمأنينة وتدفع إلى الشعور بالأجواء التي تشبه معنى المفاجأة في حياة كلّ إنسان مع إنسانٍ آخر. وربّما تتحوّل المسألة إلى حياة رتيبة تفقد الحيوية في طبيعة العلاقة الروحية بينهما، لأنّ طبيعة الاستقرار البيتيّ قد تعطي من الحيوية للعلاقة ما يفتقده الإنسان في خارج البيت الزوجيّ. وإنّ الزواج في ما يعطيه من حريّة وطمأنينة، قد يصنع ألوناً من الدهشة المتحرّكة لا تصنعها الحياة التي يعيشها الزوجان خارج نطاق البيت الزوجيّ، عندما يصطدمان بالقيود في كلّ مكان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الزواج: علاقة مودّة ورحمة

الزواج علاقةٌ إنسانية مثل بقيّة العلاقات الإنسانية التي تربطُ إنساناً بآخر، وتختلف عن العلاقات الإنسانية الأخرى بأنّها أشدّ حميميّة، من حيث الخصوصيّات التي تتفرّد بها في حركة الحياة بين الزوجين. وتختلف أيضاً بأنّها تثمر ولادة أناسٍ آخرين هم الأولاد الذين يرتبط وجودهم: سلباً أو إيجاباً، بسلبية هذه العلاقة وإيجابياتها. وعندما نريد أن ندرس العلاقات الإنسانية يكون من الطبيعيّ أن نتفهّم اختلاف كلّ إنسان عن الآخر في بعض جوانب فكره، وفي بعض جوانب أخلاقه وظروفه وأوضاعه المحيطة به. ولذلك من الطبيعيّ لأيّة علاقة تنشأ بين إنسان وآخر أن ينطلق التفاهم خلالها على أساس أن يفهم كلّ فريق ما لدى الفريق الآخر من نقاط ضعف ونقاط قوّة، ليعرف كيف يوازن بينها وبين نقاط ضعفه وقوّته. ولعلّه من الطبيعيّ أن يحصل صدامٌ وخلافٌ وتنافرٌ في القضايا المختلف عليها على المستوى الفكريّ أو العاطفيّ، أو المصالح، في حركة الواقع الذي يعيشه الطرفان. وفي هذا المجال، لا بدّ للطرفين من أن يدخلا في حوارٍ موضوعيٍّ عقلانيٍّ يحاول أن يدرس جذور الخلاف وامتداداته وطريقة الوصول إلى قاعدة مشتركة، أو إلى تفاهم مشترك حوله بحيث لا يدمّر العلاقة ولا يعقِّدها، بل يصل بها إلى نوع من التعايش، بين مواقع الخلاف تماماً كما هو التعايش بين مواقع اللّقاء.  

ولكن هذا يحتاج إلى وعيٍ إنسانيٍّ إيمانٍّ منفتح على قضايا الإنسان والحياة، ومتحرّك من موقع الشعور الإنساني الذي يفكّر الإنسان من خلاله بأنّ الحياة ليست له وحده بل هي له وللآخرين. ولذلك، ليس من حقّه أن يلغيَ الآخرين، أو أن يمنعهم من أن يفكّروا بطريقة أخرى، أو من أن يتعاطفوا بطريقة أخرى، بالأسلوب القمعيّ القهريّ القاسي. وهذا الموقف يمكن أن يعطيَ للحياة توازنها وسلامها وحيويّتها، ويمنحها الكثير من إمكانات الإنتاج على كلّ المستويات. ولكنّ هناك، في الجانب الآخر من الحياة، أُناساً لا يفكّرون بهذه الطريقة، فهم لا يعيشون إنسانيّتهم في إنسانية الآخرين، ولا يعيشون روحية الانفتاح على الآخرين في ما يختلفون فيه معهم، بل يتحرّكون من مواقعهم الأنانية الذاتية التي يفكّرون من خلالها بأنّ من حقّهم أن يفكّروا، وليس من حقّ الآخرين أن يفكّروا بطريقة مخالفة، وبأنّ من حقّهم أن يحقّقوا مصالحهم وذواتهم وليس من حقّ الآخرين أن يتصرّفوا بطريقة أخرى. ومن هنا يأتي الاضطهاد والقهر والقمع والأساليب الوحشية وإلغاء الآخرين وتدمير حياتهم.

إنّ هذا الأسلوب هو الذي يحكم العلاقات الإنسانية بشكلٍ عام، وليست العلاقة الزوجية بدعاً في ذلك، فالزوج يدخل إلى الحياة الزوجية بكلّ نقاط ضعفه وقوّته وبكلّ رواسبه الأخلاقية والفكرية، وبكلّ عاداته وتقاليده المتخلِّفة أو المتقدّمة، والزوجة كذلك. وعندما تكون العلاقة الزوجية علاقةً غير مدروسة لدى الزوجين، بل مجرّد علاقة تقليدية يتحرّك فيها الجيل الجديد على غرار ما تحرّك فيه الجيل القديم، فإنّ الكثيرين من الأجيال الجديدة يختزنون رواسب ما كان يعيشه آباؤهم الذين ينكرون عليهم تقدّمهم، ومع ذلك يتأثّرون بهم. فالرجل قد يختزن في الحالة اللاشعورية لديه طريقة والده في التعامل مع أُمّه، والبنت قد تختزن في ذهنيّتها اللاشعورية طريقة والدتها في التعامل مع أبيها. وبهذا لا تكون الحياة نتيجة علاقة مدروسة في ما بينهما بل تكون علاقةً خاضعةً للفوضى ولتأثير الرواسب المتفرّعة والأخلاق والأوضاع المحيطة بهما. ومن هنا نجد تعقيداً كبيراً في أكثر العلاقات الزوجية، بحيث قد يجد الإنسان سلاماً في الظاهر ولكنّه يعيش حرباً خفيّة في الواقع ناشئةً من حالة الاضطهاد والقمع والقهر التي يخضع لها أحد الزوجين، بفعل عناصر القوّة الموجودة لدى الطرف الآخر. ومن الطبيعي أنّ الإسلام وضع للزوجين ضوابط في الخطّ الإنسانيّ العام. وقد أراد لكل حالة عداء وخلاف أن تنطلق ليدفع كلّ طرف من الطرفين المشكلة بالتي هي أحسن، ويحوّل الآخر إلى صديق، إذا كانت المشكلة قد حوّلته إلى عدو: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]. وكذلك وضع الإسلام، عندما درس المسألة الزوجية، ضوابط لكلّ حالة، ومنها الحالة التي تنشز فيها الزوجة وتتمرّد على طاعة الرجل من دون حقّ.

من الملاحظ أنّ مثل هذه العلاقة قد تحتاج إلى إيجاد الكلمات الموحية التي يراد من خلالها الإيحاء بأنّ القيود التي يعيشها الإنسان، في داخل العلاقة الزوجية، ليست قيوداً بغيضة إلى حرية الإنسان وإلى نفسه، لأنّها القيود التي يضعها الإنسان في يديه، من خلال ما يعيشه من حبّ ومودّة ومسؤولية في الحياة. فالحياة تحتاج إلى ضوابط للحريّة. والإنسان لا يستطيع أن يحافظ على وجوده، بكلّ حاجاته، في آفاق الحريّة المطلقة. لأنّ الحياة ليست لك وحدك، إنّها لك وللآخرين. وإذا كان من حقّك أن تكون حرّاً في حياتك لتأكيد مسألة وجودك، فإنّ الآخرين من حقّهم أن يكونوا أحراراً لتأكيد وجودهم. ولذلك لا بدّ للحريّة من أن تأخذ لنفسها الضوابط والقيود التي تمنعها من أن تلغيَ نفسها في جانب، لتأكيد نفسها في جانبٍ آخر. وهذا ضروريّ لتتوازن الحريّة في كلّ مواقعها من خلال ذلك. ولا بدّ من أن نفهم مسألة العلاقة الزوجية بأنّها قد تكون قيداً يحجز حريّة الإنسان في كثيرٍ من أوضاعه الذاتية التي كان يمارسها أثناء العزوبة، بعيداً عن كلّ المسؤوليات التي تربطه بالإنسان الآخر. ولكنّه كان يعيش في حالة العزوبة قيوداً نفسية من جانب آخر وفراغاً من ناحية أخرى. ولذلك فإنّ هذا القيد الذي اختاره لنفسه، عندما ربط حياته بحياة إنسانٍ آخر، كان قيداً اختيارياً من أجل أن يتخلّى عن السجن الذي كان يعيش فيه، في داخل العقد النفسية والغرائزية والحياتية التي يفرضها جوّ العزوبة، ليتحرّر من ذلك كلّه، من خلال القيد الذي لا بدّ من أن يكون ذهبياً يوحي بكلّ ما يوحي به الذهب للإنسان في حلّ مشكلته. ولهذا فإنّ التعبير: "القفص الذهبيّ" هو تعبير يتضمّن إيحاءات كثيرة. ولكنّ المشكلة أنّ الذهب على قسمين: فهناك ذهب صاف خالص لا يقبل أن يعرض عليه أيّ شيء من العناصر الأخرى التي تشوِّه صورته وتذهب بلمعانه، وهناك ذهب مزيّف. والمهمّ، لكي يكون القفص الذهبيّ قفصاً يعيش الذين في داخله السعادة أن يكون الذهب صافياً، أي منطلقاً من روح المسؤولية، ومن روح الإيمان.

وهنا قد يوحي الإنسان لنفسه بأنّ ما ليس ذهباً هو ذهب، فيمتد في إيحاءاته الذهبية ـــ إذا صحّ التعبير ـــ ثم يكتشف أن ليس هناك ذهبٌ وليس هناك أيّ شيء ممّا يقترب من المعدن الخالص. وذلك من جهة أنّ الحياة الزوجية في ما أكّده الله من طبيعتها هي الحياة التي تُبنى على المودّة والرحمة. وعندما يدخلها الإنسان من خلال أطماعه وغرائزه البعيدة عن القِيَم العامة التي يعيش فيها الناس جدّية العلاقات الاجتماعية ومسؤوليتها يجد، بعد فترةٍ قصيرة، الفشل الذريع. وتنتهي العلاقة الطيّبة في النفس قبل أن تنتهيَ في الواقع، أي عندما تنتهي الأطماع، أو عندما تكشف الأطماع عن أنيابها وعن شراستها في اضطهاد إنسانٍ آخر، وعندما تبرد حرارة الغريزة، أو عندما يبتعد الهدف الصغير الذي كان يُراد له أن يتحقّق من خلال الزواج. ومن الطبيعيّ أنّ العلاقة لن تصاب بالشّحوب، ولكنّها ستتجلَّل، فحسب، بالسّواد في ظاهرها وباطنها لأنّها ليست علاقة إنسانية بل علاقة تجارية ليس فيها من الإنسانية شيء. وقد يلجأ بعض الناس إلى التّدليس، وهذا أسلوب من أساليب الإيحاء للآخر بالصورة المشرقة في الوقت الذي يختزن فيه الظلام في داخله. والتّدليس ينشئ تلك العلاقة التي يندفع الإنسان إليها من أجل الحصول على المطامع والغرائز والشهوات وما إلى ذلك، بعيداً عن أيّ عمق إنسانيّ. وهنا لا نريد أن نعتبر الغريزة شيئاً شيطانياً في الزواج، ولا نريد أن نعتبر الشهوة غير أخلاقيةٍ في اندفاع الإنسان نحو الزواج. ولكنّنا نقول: إنّ الغريزة لا بدّ أن تعيش إنسانيّها والشهوة لا بدّ أن تعيش إنسانيّتها حتى لا يكون الإنسان مجرّد حيوان يعيش مع حيوان آخر من خلال حيوانية الغريزة وسُعار الشهوة. ونقول: لا بدّ من أن يعيش الإنسان إنسانيّته التي تعبّر عن حاجاته الروحية والجسدية التي تلتقي مع حاجات الإنسان الآخر، في الجانب الروحيّ والجسديّ ليتكامل الإنسان في خصائصه. وبذلك يكون الرجل لباساً للمرأة، وتكون المرأة لباساً للرجل من خلال احتواء المرأة للرجل بكلّه واحتواء الرجل للمرأة بكلّها. وهكذا يكون الاحتواء كاملاً، بحيث يمثّل الاندماج الكامل الذي لا يشعر فيه أيّ جانب بفراغ يبعده عن الجانب الآخر. وهذا ممّا يجعل لحركة الغريزة في العلاقة الزوجية معناها وحيويتها وإنسانيتها، كما يعطي لحركة العاطفة والمودّة والرحمة معناها وحيويتها وأصالتها.

العلاقات داخل الحياة الزوجية

لعلّ من أخطر السلبيات في العلاقات الإنسانية، ولاسيّما في العلاقة الزوجية، وهي الأوثق في العلاقات الإنسانية، لأنّها الصّلة التي ينفتح فيها الإنسان بكلّه على الإنسان الآخر بكلّه من دون أيّ حدود أو حواجز تفصل بينهما في كلّ المجالات التي تفصل بين الناس، هي مبادرة أحد طرفي العلاقة إلى إلغاء الآخر، فيعتبر أنّ خصوصيّاته ينبغي أن تكون خصوصيّات الآخر، بحيث لا يجد له أيّة حريّةٍ في التمايز عنه من خلال خصوصياته الذاتية المنطلقة من جذوره الإنسانية في نطاق العائلة، أو في نطاقٍ آخر يتعلّق بطبيعة ظروفه النفسيّة والاجتماعية والاقتصادية التي تحيط به.

لذلك، نرى أنّه من الضروري للزوجين ألاّ يعتبرا الحالة الزوجية مناسبةً لإلغاء أحدهما الآخر، بحيث يشعر أيٌّ منهما بالتعقيد لمجرّد أنّ الآخر يختلف معه أو يتمايز عنه أو يستقلّ عنه في بعض الأمور. إنّ عليهما أن يعتبرا أنّ العلاقة الزوجية هي علاقةٌ بين شخصين، أي إِنّ التعدُّدية تمثّل أساساً لمعنى العلاقة. والتعدُّدية تعني أنّ لكلّ واحدٍ منهما خصائص وجودية إنسانيةً تختلف عن خصائص الآخر، وذلك في الوقت الذي يلتقيان فيه على بعض القضايا المشتركة في ما يتّفقان فيه، ويلتقيان فيه على مصالحَ مشتركة، وفي ما يعيشان من أجله، وفي الممارسات المشتركة، وفي ما يتعاقدان عليه. ومن خلال ذلك نفهم أنّ عليهما أن يتفاهما في خصوصيّاتهما ليتكاملا في هذه الخصوصيات، بدلاً من أن يتنافرا. وعليهما أن يقرِّبا هذه الخصوصيات، بحيث لا تطغى على الجوانب المشتركة لتفسدها. وفي جميع الحالات لا بدّ من احترام هذه الخصوصيّات.

ومن الأمثلة على ذلك، نذكر أنّه قد تكون هناك مسألةٌ تثير الخلافات بين الزوجين. فالزوج قد يفرض على زوجته أن تندمج في مجتمع أهله بالمستوى الذي تفقد فيه حرّيتها وإنسانيّتها وخصوصيتها أمامهم؛ الأمر الذي قد يفرض عليها الابتعاد عن أهلها ومقاطعتهم وما إلى ذلك. وربّما تفرض الزوجة على زوجها مثل ذلك، وإن كان بدرجة أقلّ، مستخدمة ما تملك من عناصر الضغط على زوجها، ولو من خلال إرباك حياته وتعقيدها.

في هذا المجال لا بدّ للزوج من أن يفهم بأنّ زوجته هي إنسانٌ كما هو إنسانٌ، ولها جذورٌ كما له جذورٌ، وأنّ من الصعب أن يقتلع الإنسان من جذوره، كما أنّه من الصعب أن يندمج الإنسان اندماجاً كلياً في مجتمعٍ آخر لمجرّد أنّ رغبة إنسانٍ ما تفرض عليه الاندماج، باعتبار أنّ مسألة الاندماج لا بدّ من أن تنطلق من خلال بعض العوامل النفسية والشعورية والحياتية التي تلتقي بأجواء الإنسان وبأعماله وأوضاعه في المجتمع، لذلك يكون من الطبيعي أن يقرّب الزوج أجواء زوجته من أجواء مجتمعه، أو أن تقرِّب الزوجة أجواء زوجها من أجواء مجتمعها، حتّى يحصل من ذلك نوعٌ من العلاقة الطبيعية التي يمكن بعدها ممارسة الضغط للامتداد أكثر، على أساس أنّ طبيعة المصلحة الزوجية المشتركة التي يريدان حمايتها، بالضغط هنا وهناك، تفرض نوعاً من أنواع الامتداد في العلاقة ولو على خلاف المزاج.

وفي هذا الجوّ، ينبغي لكلّ من الطرفين أن يرفض السلبيات التي تأتي من مجتمعه تجاه الآخر، ليحاول السيطرة عليها بطريقة أو بأخرى، أو للتخفيف من تأثيراتها السلبية من أجل ألاّ يسحق الآخر في عواطفه وفي روحيّته وفي أوضاعه. ولعلّنا نستهدي بعبارة "المودّة والرحمة" التي اعتبرها القرآن الكريم عنواناً للحياة الزوجية، كمدخل للتحرّك في ترتيب هذه العلاقة التي تربط الزوجة بأهل زوجها وتربط الزّوج بأهل زوجته، لأنّ المودّة تفتح للإنسان آفاق احترام شعور الآخر، والرحمة تفتح له آفاق الاعتراف بظروف الآخر.

وهكذا يمكننا أن ننطلق إلى الاختلاف في الآراء السياسية أو الاجتماعية، فإنّه ليس من الطبيعي أن يفرض الزوج على زوجته رأيه السياسيّ لمجرّد أنّه الزوج، أو لأنّ حياتهما الزوجية تفرض اتّفاقهما في الرأي السياسيّ وأنّ على الزوجة أن تطيع زوجها في هذا المنحى، أو أن تفرض الزوجة على زوجها ما ترتئيه، باعتبار أنّ ذلك هو دليل محبّة وإخلاص، ومن دون ذلك لن يكون محبّاً ومخلصاً لها. إنّ مثل هذا التصوُّر خاطئٌ وغير إنساني، لأنّنا نعرف أنّ الالتزام بالرأي السياسيّ أو الموقف السياسيّ، أو الالتزام بالرأي الاجتماعيّ أو الموقف الاجتماعيّ، ينطلق من خلال قناعاتٍ معيّنة، ومن خلال ظروفٍ معيّنة.

لذلك، ليس من الطبيعيّ أن نفرض قناعاتنا على الآخرين، إذا لم نستطع أن نقنعهم بما نقتنع به، أو أن نفرض ظروفنا على الآخرين إذا لم نستطع أن نقرّب ظروفهم من ظروفنا. لهذا لا بدّ من أن يكون هناك نوعٌ من أنواع الحوار في هذا المجال، أو نوعٌ من أنواع ترتيب الخلافات بالطريقة التي لا تهدم الحياة الزوجية، بحيث يمكن التعايش مع الرأي المختلف. ويمكن التحرّك بأسلوب يعتمد على القواسم المشتركة بين الرأيين، أو بين الموقفين، في طريق الوصول إلى القضايا المختلف عليها، على أن يتمّ ذلك بالتفاهم والحوار، وما إلى ذلك.

مظاهر الرّحمة

الرّحمة كلمة تقابل القسوة. وإنّنا نستوحي معناها الإيجابي من خلال ما نتمثّله من المعنى الآخر السلبيّ. أن تقسوَ على إنسان يعني أن تحاصره في عواطفه ومشاعره وظروفه وأوضاعه، وفي مصالحه، بحيث لا تراقب أيّ جانب من الجوانب المتّصلة بحركة الشعور الإنساني أو حركة الواقع، باعتبار أنَّ مثل هذا السُلوك يطال وجوده الإنسانيّ.

وهذا يعني أنّ مسألة الرحمة تنطلق من دراسة ظروف الإنسان الآخر، ومن دراسة مشاعره وحساسيّاته ومصالحه. لهذا ليس للرحمة حالةً ثانية. كما ليس للقسوة أيضاً مثل تلك الحالة. فقد تكون القسوة بالكلمة، أو ببعض التصرّفات، رحمةً في الجانب الآخر، كما في قسوة الطبيب على المريض، عندما يقوم بالعملية الجراحية التي تجعل المريض يصرخ من شدّة الألم. ولكنّه ينطلق من ذلك ليرتاح وقتاً طويلاً. لهذا يتمثّل معنى "أن نرحم بعضنا بعضاً" في أن نراعيَ مشاعر وحساسيّات وظروف بعضنا بعضاً، في الدائرة التي لا تبتعد عن رؤيتنا لمصالح بعضنا بعضاً. ومن الطبيعيّ أنّ الناس قد يختلفون في تمييز المصلحة، وقد يختلفون في تمييز طبيعة الواقع. ولكن هذا أمرٌ ينبغي للإنسان فيه أن يعيش تقوى الله، ليدرس الأمر بينه وبين الله من خلال معطياته، ليحاول من ثمّ أن يدرس هذه المسألة مع الآخرين الذين يملكون هذا الرأي ومع صاحب العلاقة، ليتصرّف على أساس دراسةٍ تحدّد له حركة الرحمة في الواقع الموضوعيّ منطلقةً من العناصر الأساسية للمسألة.

ولا بدّ لمفهوم الرحمة، كما لا بدّ لأيّ مفهومٍ أخلاقيّ إسلاميّ، من أن يتحرّك في بنيته التحتية من خلال الأحكام الشرعية، ومن خلال دراسة الظروف الواقعية المحيطة بالمسألة، وهي الظروف التي تحدّد للإنسان الحكم الشرعيّ سلباً أو إيجاباً. وعلى هذا الأساس فإنّنا نتحدّث عن الإنسان المسلم الذي يملك في دائرة إسلامه حركة الالتزام الواعي المنفتح على رضى الله سبحانه وتعالى. كما أنّنا نتكلّم في الدائرة الواسعة عن الإنسان الذي لا يبتعد عن وجدانه الإنسانيّ والأخلاقيّ والروحيّ والاجتماعيّ. ولا يبتعد عن الضوابط العامة التي تحكم علاقات الناس مع بعضهم بعضاً. إنّنا لا نتحدّث عن الإنسان الغرائزي، ولكن عن الإنسان الإنسانيّ.                                     

أخلاق الزوج

من الطبيعيّ أنّ الزوج ـــ كالزوجة ـــ لا بدّ أن يعيش أخلاقية الإيمان في نفسه، من خلال الصّفات العامة التي تفرض على المؤمن أن يؤدّيَ حقّ المؤمن الآخر، فزوجته لها صفتان، صفة كونها زوجته، وصفة كونها أختاً له في الإيمان.

وهذا يعني أنّ على الزوج أن يؤدّيَ إلى زوجته حقّ الأخ المؤمن الآخر، في كلّ ما جعله الله سبحانه وتعالى، من حقوق المؤمنين على بعضهم بعضاً، سواء أكانت حقوقاً واجبة أو مستحبّة. أمّا من ناحية العلاقة الزوجية، فإنّ الكلمة التي تختصر أخلاقيّة الزوج بالنسبة للزوجة تتمثّل في الآيات الكريمة: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء : 19]، {... فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...} [البقرة : 229]، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228].

ولا بدّ أن يعرف الرجل أنّ الله سبحانه وتعالى، لم يجعل له أيّة سلطة على زوجته إلاّ في ما يتعلّق بالاستمتاع الجنسيّ، وليست له أيّة سلطةٍ عليها خارج نطاق ذلك، إلاّ من خلال بعض التحفّظات الشرعية التي يختلف الفقهاء في حدودها، وتتعلّق بخروج المرأة من بيتها من دون إذن زوجها. أمّا في الحالات الأخرى فالزوجة متبرّعةٌ بكلّ ما تقدّمه لزوجها، وهي إنسانة تقدّم له العطاء من دون مقابل، فعليه أن يشعر أنّ دور الزوجة معه، هو دور الإنسان الذي يحسن إليه، والله يقول: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن : 60]. كما أنّ على الزوج أن يعمل بكلّ ما عنده في سبيل أن يحترم آلام زوجته وأحاسيسها وتعبها وجهدها ونقاط ضعفها، وأن يحترم أيضاً علاقاتها بالناس الآخرين. فليس من الطبيعيّ أن يمنع الرجل امرأته من إبقاء العلاقة مع أهلها، إلاّ في الظروف التي تؤدّي فيها العلاقة إلى هدم الحياة الزوجية، كما أنّ الرجل لا يرضى لأحد أن يمنعه من العلاقة مع أهله. وعليه أن يتصرّف مع زوجته في الخطّ الإسلاميّ العام.

ـــ لا يؤمن أحدكم حتىّ يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها.

ـــ عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به.

ـــ اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحبُّ لنفسك واكره له ما تكره لها.

أخلاق الزوجة

للزوجة المؤمنة صفتان: الصفّة الأولى، كونها إنسانة مؤمنة، والصّفة الثانية كونها زوجة صالحة.

وتتلخّص الصفة الأولى في أن تقف الزوجة عند حدود الله، في كلماتها وفي أفعالها، فلا تتجاوز حدود الله سبحانه وتعالى، في ما أحلّه الله وفي ما حرّمه. هكذا تتصرّف عندما تريد أن تعيش الإيمان بمعناه المنفتح، وعليها أن تعرف أنّ الخطّ العريض للإيمان يتمثّل في أنّ للإنسان أن يأخذ حقّه ممّن اعتدى عليه وممّن أساء إليه، ولكن أن يعفو أقرب للتقوى، والصبر هو خير، وأنّ على الإنسان أن يدفع بالتي هي أحسن ليحوّل عدوّه إلى صديق. وهذا الخطّ يقضي بأنْ يتحرّك الإنسان المؤمن، في أخلاقياته السلوكية مع الآخرين، على أساس أن يكون هدفه في الحياة رضا الله، من خلال الأخذ بكلّ المفردات التي تحقّق رضا الله في حركة الإنسان في الحياة.

أمّا بالنسبة إلى أخلاق الإنسانة المؤمنة، عندما تكون زوجة، فإنّ الكلمة التي تختصر هذا تتمثّل في الحديث المأثور: "جهادُ المرأة حسن التبعُّل". وهذا يعني أن تعيش المرأة روحية مَن ترى، عندما تدخل الحياة الزوجية، أنّ هذه الحياة حركة جهاد في حياتها الخاصة. وحركة الجهاد هذه تعني أن تجاهد نفسها في نزواتها وفي نقاط ضعفها التي قد تدفعها إلى التمرّد على زوجها، أو الإساءة إليه، أو الإساءة إلى حياتها الزوجية بشكلٍ أو بآخر.

وإنّ عليها أن تعتبر أنّ مهمّتها الأساسية هي أن تسيطر على القلعة الحصينة، وهي قلب زوجها وعقله وحياته، من خلال الكلمة الطيّبة والمعاشرة الطيّبة وتحمّل بعض أذاه. ومن خلال أن تقدّم ما لا يجب عليها انطلاقاً من المودّة والرحمة، كلّ ذلك إرضاءً لله. وإذا فكّرت الزوجة المؤمنة الصالحة في أنّها، في حياتها الزوجية، تعمل لتطيع الله في زوجها كما تطيع الله في أولادها ونفسها، وتعمل على التقرّب لله في ما تبذله من نفسها لزوجها وأولادها ونفسها، وتعمل على التقرّب لله في ما تبذله من نفسها لزوجها وأولادها في ما لا يجب عليها. تفعل هذا تماماً كما تؤدّي صلاة اللّيل التي لا تجب عليها قربةً إلى الله ليرضى عنها، وكما تتصدّق على الآخرين وتقدّم خدماتٍ لهم، من دون أن يجب عليها ذلك لتتقرّب إلى الله. فعليها أن تقدّم لزوجها وأولادها ما لا يجب عليها قربةً إلى الله. وبذلك فإنّ المرأة المؤمنة الصالحة، عندما تتحرّك في حياتها على أنّها ساحةٌ من الساحات التي تريد أن ترضي الله فيها، فإنّه من الطبيعيّ ألاّ تتعقَّد من أيِّ ردّ فعل سلبيّ من زوجها وأولادها تجاه ذلك، لأنّها لم تعمل لحسابهم وإنما عملت لحساب الله.

 

 

 

 

 

 

الزوج والزوجة: حقوق وواجبات

الحدود الشرعية لحقوق الزوج

لقد نظَّم الله سبحانه وتعالى حياة الأسرة، فجعل بين طرفيها: الزوج والزوجة حقوقاً وواجباتٍ. فللزّوجة حقوقٌ لدى زوجها وللزّوج حقوقٌ لدى زوجته. وقد أكّد الإسلام على ذلك في أكثر من موضع. وإذا أردنا أن ندرس حقوق الزّوج على زوجته من الناحية الشرعية، فإنّنا نلحظ حقوقاً في إطار الموارد الإلزامية التي تعطيه حقّاً خاصاً في ما يتعلّق بالحاجات الطبيعية التي توجب على الزوجة أن تلبّيها له. أمّا بالنسبة لموضوع خروج المرأة من البيت وحقّ الزّوج في أن يمنعها من ذلك أم لا، فإنّ هناك نظرية معروفة لدى العلماء ترى أنّ الزوجة لا يجوز لها أن تخرج من بيت زوجها بغير إذنه إلاّ في الحالات التي اتّفق عليها في حال العقد، كما لو كان هناك اتّفاقٌ بين الزّوج وزوجته، في ضمن العقد أو كان العقد مبنياً على أن تبقى هي في عملها، إذا كانت زوجةً عاملةً في العمل الإسلامي أو في العمل الماديّ. ففي هذه الحالة، من حقّها أن تخرج لهذا العمل حتّى ولو من دون إذنه.

أمّا في الحالات الأخرى، فليس من حقّها أن تخرج من البيت إلاّ بإذنه، على المشهور بين الفقهاء. وهناك رأي فقهيّ آخر يتبنّاه السيّد الخوئي حفظه الله، يرى أنّ مسألة خروج المرأة من بيت زوجها من المسائل التابعة للحقّ الزوجيّ الأول، في الحالات التي يحتاج فيها الزوج لزوجته في ما يتعلّق بشؤون الاستمتاع، ولهذا لا يجوز لها أن تخرج من بيتها بغير إذنه.

أمّا في الحالات الطبيعية، كما لو كان الزوج في حال العمل، أو مسافراً، أو مشغولاً عنها بأيّ شغل آخر، فليس له حقٌّ عليها في أن تبقى في البيت.

    ولكنّ الأحوط لها، استحباباً، أن تطيع زوجها؛ وذلك من جهة الجهاد الشرعيّ بالنسبة لها، والمتمثّل في حسن التَّبعّل. ولأجل تركيز الحياة الزوجية في ما بينهما حتى لا يكون ذلك مثاراً للخلاف، لاسيّما إذا كان خروج المرأة من البيت سيخلق مشاكل تتّصل بالثّقة، أو أنّه يربك الحياة الزوجية بطريقة أو بأخرى.

على الزوجين أن يتكاملا مع احتفاظ كلٍّ منهما بخصوصيّته

إنّ قوامة الرجل على المرأة، في دائرة العلاقة الزّوجية، تتّصل بالحقوق الزّوجية الخاصة في الجانب الشرعيّ الإلزاميّ، وتتّصل في الجوانب العامة، وفي الموارد التي تكون المسؤولية العامة فيها من نصيب الرجل وليس من نصيب المرأة، وهذا يتعلّق في الأمور التي جعلها الشارع للرجال لا للنساء. وفي ما عدا ذلك فإنّ للمرأة حريةً في حياتها الزوجية، كما للرجل الحريّة في ذلك. وهذا ما نفهمه من الآية الكريمة: {... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228]. والدرجة هي ما يمثّل حقّ الرجل الذي لا تستطيع المرأة أن تمتنع عنه. ويتمثّل هذا الحقّ أيضاً في الطلاق الذي هو بيد الرجل.

أمّا في الأمور الأخرى، في ما يتعلّق بالجانب المزاجيّ للمرأة، في عاداتها الشخصية، فإنّنا في الوقت الذي نكره فيه التدخين للرجل وللمرأة لا نرى أنّ من حقّ الرجل أن يمنع زوجته من التدخين من خلال سلطته الزوجية. نعم قد يكون ذلك من جهة النصيحة، ومن جهاتٍ أخرى. ولكن ليس له ذلك من خلال السلطة الزوجية، إلاّ إذا أوجبت مسألة التدخين حالة تنفير تصيب العلاقة الخاصة المتعلّقة بالاستمتاع، بحيث تكوّن نفوراً واشمئزازاً بشكلٍ أو بآخر.

وهكذا بالنسبة إلى القضايا الأخرى في ما تحتاجه المرأة من استماع للإذاعة أو لأيِّ جهاز إعلاميّ آخر أو قراءة لصحيفة، وما إلى ذلك من الأمور التي تتّصل بعاداتها الشخصية، وبمزاجها الشخصيّ، فإنّه ليس للزوج الضغط عليها بصفته الزوجية من الناحية الشرعية. بل إنّ لها الحقّ في أن تعيش مزاجها الخاص وعاداتها وتطلّعاتها الخاصة في ما لا يتنافى مع حقّه الخاصّ.

كما أنّ لها على الزوج الحقّ في أن يكفل لها حاجاتها الشخصية التي تعدُّ من شؤونها الخاصة في الحياة الزوجية، سواء كانت الحاجات ضرورية أم كمالية في ما يستطيع الزوج ذلك.

لا بدّ لنا أن نفهم حقيقةً مفادُها أنّ الزواج لا يمثّل عقداً يجعل الزوجة أمَةً للرجل، بحيث يكون الزواج عنصر اختناق لحياتها ومصادرة لعاداتها ومزاجها في الحياة. فالمرأة إنسانةٌ لها أن تعيش إنسانيتها في داخل الحياة الزوجية، كما أنّ الرجل إنسانٌ له أن يعيش إنسانيته في داخل الحياة الزوجية، وقد جعل الله سبحانه وتعالى، طبيعة هذه الحياة بين الرجل والمرأة قائمةً على أساس المودّة والرحمة، ليعمّق الشعور بالوحدة التي تربط بين الزوجين. وعلى هذا الأساس لا تكون المسألة مسألة تعاقد نحو شراكة حياة كما يُفهم من عبارة "شراكة الحياة"، بل يجب أن نفهم منها المعنى العميق الذي يمثّله القرآن الكريم في قوله: {... هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] . بمعنى أنّ هناك وحدةً، فحياتها تلبس حياته، وحياته تلبس حياتها. وهذا سيُنتج بالطّبع نوعاً من الاندماج والامتزاج، وهو ما يدعم العلاقة بينهما، فيجعلها قائمةً على أساس المودّة التي تمثّل مراعاة كلّ منهما لظروف الآخر في مشاعره وأحاسيسه وفي أوضاعه الخاصة، بحيث لا يحاول أيّ فريق أن يفرض نفسه على الآخر، فيلغي شخصيته وإنسانيّته في هذا المجال. ولذلك، فإنَّ المتعارَف عليه من أنّ الرجل يحاول أن يلغيَ شخصية المرأة، بحيث لا يقبل أن يكون لها رأيٌّ عندما تتعدّد الآراء ويرفض أن يكون لها مزاجٌ خاص أو عاداتٌ خاصة، يعتبر أمراً غير إسلاميٍّ، ولا يعبِّر عن وجهة نظر إسلامية. كما أنّ المرأة عندما تكون شخصيتها قويّةً بمستوى تتغلّب فيه على شخصية الرجل فتحاول أن تلغيَ شخصيته وإنسانيّته، وتحاول أن تحاصره في علاقاته بأهله أو ببعض الناس لتفرض عليه أن يُنشئ علاقة مع هذا الفريق أو ذاك، أو أن يقاطع هذا الفريق أو ذاك، فإنّ هذا العمل أيضاً يعتبر غير إسلاميّ، فالزوج هو إنسانٌ مستقلّ في شخصيته الإنسانية الشرعية والزوجة إنسانةٌ مستقلة في شخصيتها الشرعية والقانونية. وعليهما أن يتكاملا مع احتفاظ كلّ منهما بخصوصيته التي يجب أن يحترمها الآخر.

 

الزواج روحية عطاء

إنّ الحياة الزوجية لا تقوم على أساس الإلزامات التي يُلزم بها كلّ فريق الآخر، وإنّما تقوم على أساس روحية العطاء الناشئة من شعور المودّة والرحمة. ولهذا فإنّنا نحاول أن نقدّم نصيحةً لكلّ الزوجات المؤمنات بألاّ يتّخذن هذه المساحة من الحرية التي يعطيها الإسلام لهن في أن يعتقدن بأنّه لا يجب عليهن القيام بشؤون البيت وشؤون تربية الأولاد، أو الإرضاع، الخ.. وأن يتّخذن ذلك سبيلاً للضغط على الرجل، أو أن يتّخذ الرجل بعض حقوقه الزوجية سبيلاً للضغط على المرأة. وذلك لأنّ مسألة عقلية الضغط، من هذا الطرف أو ذاك، تسيء إلى عمق الحياة الزوجية، وتؤدّي إلى أن يشعر الزوجان بالجفاف في العلاقة والفتور في المشاعر. وعند ذلك تتحوّل الحياة الزوجية إلى جحيم نفسيّ وروحيّ وعاطفيّ، يتحوّل في ما بعد إلى جحيم عمليّ، عندما يفكّر كلّ فريق في أن يستغلّ نقطةً ضدّ الفريق الآخر، أو عندما يفكّر كلّ فريق في أن يستعمل حقوقه الخاصة كأداة ضغط على الطرف الآخر. لذا فإنّ على المرأة المؤمنة ألاّ تعيش في دائرة الرخصة التي أعطاها الله لها في حرّيتها في المنزل لتتوقّف عندها، بل عليها أن تلتمس ثواب الله وطاعته في ذلك، فإنّ المرأة التي تحسن إلى زوجها حتّى لو أساء إليها، والمرأة التي تخدم بيتها حتى لو تكن ملزمةً بذلك، تعتبر في عداد النساء المجاهدات، باعتبار أنّ ذلك يمثّل حسن التبعُّل. وعلى المرأة ألاّ تفكّر بالقضايا المادية بل عليها أن تفكّر في رضا الله {... وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف : 32]. وهكذا بالنسبة للرجل، فإنّ عليه أن يقدِّر التضحية التي تضحّي بها زوجته عندما تعطي ما لا يجب أن تعطيه، وعندما تمنحه، ما لا يجب أن تمنحه فإنّ عليه أن يقدّر ذلك، وإنّ عليه في الوقت نفسه أن ينظر رضى الله في ما يحبّه الله من رعاية المرأة، ومن الإحسان إليها، ومن تقديره لها، ومن الرحمة بها والاحترام لإنسانيّتها.

عندما يعيش الزوج المسلم، من موقع إسلامه الذي يتّسع لكلّ المعاني الروحية الإنسانية، وعندما تعيش الزوجة من موقع إنسانيّتها التي تتّسع لكلّ المعاني الروحية الإنسانية، فإنّ الحياة الزوجية تكون فرصةً للسموّ والارتفاع إلى المستوى الكبير، وفرصةً للسعادة الروحية التي تتحوّل إلى سعادةٍ مادية. وبذلك يتكامل لهما خير الدّنيا والآخرة.

المرأة بين دورين: مسلمة وزوجة

عندما تعيشُ الزوجة، في داخل البيت الزوجيّ: زوجاً وأُمّاً، من الطبيعي أن تعتبر نفسها ذات شخصيّتين ترتّب كلٌّ منهما عليها مسؤولية في الحياة.

الشخصية الأولى: هي شخصيتها كزوجة تريد أن تحصل على محبّة زوجها، وكأم تريد أن تحصل على محبّة أولادها وأن ترعاهم وتهيِّئ لهم ما يرغبون فيه ويحبّونه كي ينطلقوا في دروب النجاح من خلال الطمأنينة التي يجدونها في البيت. وهذا ما يتيح لهم كلّ ما يحتاجه الإنسان من علاقة أسريّة سليمة تمكّنه من أن يحتضن مشاعر الإنسان الآخر ورغباته، بحيث تتحوّل العلاقة إلى علاقةٍ شعورية عميقة توحّد الناس في حياتهم، وفي أوضاعهم العامّة.

الشخصية الثانية: هي شخصيّتها كمسلمة تشعر أنّ عليها أن تجعل من نفسها، من حيث الفكر والعاطفة والالتزام، إنسانةً تعمل على أن تحقّق رضا الله تعالى، أكثر ممّا تعمل على أن تحقّق رضا الناس من حولها.

هذه الشخصية تدفعها إلى أن تتحرّك في الحياة، كإنسانة مسلمة، لتحقّق رضا الله من حولها، وذلك بالقيام بالمسؤوليات الشرعية الملقاة على عاتقها كزوجة تجاه زوجها، وكأمّ تجاه أولادها، فلا تضيِّع حقّ زوجها انطلاقاً من عقدةٍ أو نزوةٍ أو من حالةٍ نفسيةٍ صعبة. ولا تضيّع حقّ أولادها، انطلاقاً من حالة مماثلة لتلك الحالة. وذلك كي تبيّن للآخرين أنّ الإنسان المسلم هو الإنسان الذي يقوم بما عليه من حقوق من دون أن ينظر إلى الآخرين هل يقومون بما عليهم من واجبات أو لا. فالزوجة المسلمة هي التي لا تنتظر من زوجها أن يقوم بحقوقها لتقوم بحقوقه. ولا تنتظر من أبنائها ليقوموا بحقوقها لتقوم بحقوقهم، بل تتسلّم زمام المبادرة لتقوم بحقوق أولادها قربة إلى الله تعالى. ويكون دافعها إلى ذلك امتثال أمر الله تعالى ونهيه في هذا المجال. وهكذا تعيش شخصية الزوجة المسلمة والأم المسلمة في حركتها، في مجال الدعوة إلى الله، وفي مجال الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وفي مجال التجربة الحسّية التي تمكنها من أن تجعل من بيتها الزوجيّ، أو العائليّ، بيتاً إسلامياً يتحرّك في نطاق الأجواء الإسلامية. وعلى هذا الأساس فهي عندما تعيش هاتين الشخصيّتين: فلا بدّ لها أن تراقب حركتها الشعورية وحركتها العملية في الانسجام بين هاتين الشخصيّتين شخصيّتها كزوجة وكأمّ وشخصيّتها كمسلمة، فلا تحاول أن تنتقص من شخصيّتها الإسلامية لمصلحة شخصيّتها الزوجية أو شخصيّتها الأمومية، بحيث تترك طاعة الله لإرضاء زوجها، أو تترك طاعة الله لإرضاء أولادها، بل تعمل معتبرةً شخصيّتها الإسلامية هي الأصل والشخصيات الأخرى التي تملكها كجزء من مجتمع صغير أو كجزء من مجتمع كبير، هي شخصيات تابعة للشخصية الإسلامية ومتفرِّعة عنها.

وعلى أساس ذلك تتصرّف. وإذا ابتليت بزوج مفطر، أو بأولاد مفطرين، فإنّ عليها أن توحيَ إليهم، ما أمكنها ذلك، بعدم رضاها عن ذلك، إذا كان إفطارهم إفطار معصية، فيظهر عدم رضاها في وجهها وفي طريقة تعاملها في البيت، أو في الامتناع في بعض الحالات عن تحضير الأكل أو غير ذلك ممّا يحتاجه الناس المفطرون، أو في عدم جعل هذا الشيء مريحاً لهم، بحيث يشعرون بثقل معنى الإفطار في داخل البيت من خلالها. هذا إذا كان الضغط بهذه الطريقة يمكن أن يؤدّيَ إلى نتيجةٍ عمليةٍ إيجابيةٍ. أمّا إذا كانت المسألة تحتاج إلى أسلوب آخر يتمثّل بطريقة الانفتاح الذي يمتزج مع الانغلاق، من أجل أن تقودهم بطريقةٍ عاطفية أو ببعض الوسائل العملية نحو الارتداع عن ذلك فإنّ عليها أن تقوم بهذا. المهمّ أن تكون رسالتها، في هذه الدائرة الصغيرة، رسالة الإنسانة المسلمة التي تدرس أفضل الوسائل وأحسن الكلمات وأرقّ الأساليب أو أحكمها في الوصول إلى ردع هؤلاء عمّا هم فيه. وإذا كان امتناعها عن تحضير الطعام أو الشراب، أو إذا كان أسلوبها الجافّ يمكن أن يشكِّل حرجاً عليها في وصول العلاقة الزوجية إلى نوع من الانفصال، أو إلى نوع من الاهتزاز تصل إلى حدّ ضربها من جانب زوجها أو من جانب أولادها، أو إذا كانت المفسدة في الامتناع أكثر من المصلحة فمن الطبيعيّ، من الناحية الشرعية، أن تأخذ برخصة الشرع في ذلك وتقوم بخدمتهم في هذا المجال، ولكن بطريقة يشعرون فيها أنّها تمارس عملاً ثقيلاً عليها باعتبار أنّها تتحرّك مع أُناسٍ، إذا كانوا من أقرب الناس إليها، فهم من أبعد الناس عن الله تعالى، للإيحاء لهم بأنّ القربة من الله هي الأساس في قرب الإنسان إلى النفس.

الشرع وعمل المرأة داخل البيت

من الطبيعيّ أن نشير إلى أنّ الإسلام فتح للمرأة أُفقاً واسعاً يؤكّد إنسانيتها، بشكل لم تؤكّده أيّة جماعةٍ من الناس، أو أيّ مجتمع من المجتمعات، أو أيّة شريعة من الشرائع. فالمرأة في الإسلام ليست ربّة بيت بالمعنى الإلزاميّ لربّة البيت، لأنّ الإسلام لم يكلّفها بأيّ شأن من شؤون البيت، فهي ليست ملزمة بأن تقوم بأيّ عمل من أعمال البيت، بل إنّ الرجل مكلّف بأن يقدّم لها كلّ متطلّبات حياتها الضرورية والكمالية من جهده. وقد بلغ الإسلام في هذا المجال حدًّا كبيراً، بحيث جعل إرضاع ولدها غير ملزم لها. ومن الطبيعي أن تكون التربية في المجالات الأخرى غير ملزمة لها في أيّ جانب. وقد اعتبر الإسلام عمل المرأة في البيت من الأعمال التي تستحقُّ عليها الأجر، حتّى الإرضاع لو طلبت أجراً على إرضاع ولدها فعلى الزوج أن يدفع هذا الأجر لها. ولها الحقّ في ذلك إلاّ أن تطلب أكثر من أجر المرضعة الطبيعية، إذ إنّ له في هذه الحالة أن ينقل الولد إلى مرضعةٍ أخرى. فإذا كان الإسلام يعتبر عمل المرأة في البيت عملاً مستقلاً لا يملك الزوج أن يستثمره بعيداً عن إرادتها. وأنّ لها أن تطلب أجراً على هذا العمل، فكيف لو كلّفها الزوج بأن تعمل في المحلّ أو في المزرعة أو في غيرها؟ إنّ لها أن تطلب أجراً على ذلك، لأنّه أمر يبتعد حتى عن أعمال البيت.

إنَّ الإسلام لا يريد، في هذا التشريع، أن يوحيَ للمرأة بأن تكون عنصراً سلبياً في الحياة الزوجية أمام مسؤولياتها في هذه الحياة. ولا يريد لها أن تكون شخصيةً ماديةً تجاريةً في نظرتها إلى عملها في داخل البيت الزوجيّ. ولكنّ الإسلام أمام التاريخ الطويل الذي كان يستعبد المرأة، ويجعلها قطعة من قطع الأثاث تورث كما يورث الأثاث وتستخدم كما يستخدم العبيد، بحيث لا يعترف هذا التاريخ بإنسانيّتها ولا بشخصيّتها، سواء كانت ابنةً أو أختاً أو زوجةً أو أمّاً. إنّ الإسلام أراد أن يلغيَ معنى العبودية الذي اختزنه التاريخ الجاهلي في رؤيته للمرأة، ليضع مكانه معنى حرية الإرادة في العمل، بحيث أنّ المرأة تدخل إلى الحياة الزوجية نتيجة تعاقدٍ ينطلق من إرادتها، ومن إرادة الزّوج في إنشاء هذه العلاقة التي تجعلهما محكومين بضوابطَ معيّنة في ما يشرّعه الله لهذه الضوابط. إنّ الله أراد للمرأة أن تشعر بأنّها حرّةٌ في ممارسة هذه الأعمال وعدم ممارستها، وأن يشعر الزّوج بأن ليس له سلطةٌ على زوجته في هذه الأمور، ما لم يشترط عليها ذلك صراحةً ضمن العقد. وبذلك فإنّ المرأة عندما تتحرّك في داخل حياتها الزوجية فإنّها تنطلق من موقع روحية العطاء والإخلاص للحياة الزوجية وتأكيد معنى المودّة والرحمة والتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى. وفي هذا المجال، اعتبر تشريع الإسلام عمل المرأة في بيتها جهداً يحسِّن مستوى الحياة الزوجية، ويرفع مستوى علاقتها بزوجها؛ وذلك لأنّه اعتبر عمل المرأة في البيت جهاداً بدلاً من أن يحوّلها إلى إنسانةٍ لا تملك شيئاً من حرّيتها وإرادتها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الزوج والزوجة: مشاكل وهموم

الغيرة الزوجية:

غيرة الزوج

هناك سببان يدفعان للغيرة:

السّبب الأوّل هو العاطفة القويّة التي حملها الزوج لزوجته، بحيث يخشى عليها من أيّ شخص، حتّى إنّه يخشى عليها من أن تنجذب، بشكلٍ طبيعيّ إلى شخصٍ آخر. ولذلك يعمل على محاصرتها بالشكوك أو بالضغوط العملية، أو بالكلمات الحادّة، وما إلى ذلك، ويتصرّف حيالها كما يتصرّف الإنسان الذي يحبّ شيئاً ويخشى أن يفقده.

والسّبب الثاني هو الخوف من الظروف المؤدّية إلى الانحراف والتي قد تحيط بالمرأة، سواء في ذلك تلك الظروف التي تنطلق من وجود تربية معيّنة للمرأة، تجعلها قريبة من الانحراف، أو الظروف الناجمة عن ضغوط في المجتمع تلاحق المرأة كي تقودها للانحراف. تمارس هذه الضغوط فعلها عندما يعيش الرجل نوعاً من الاهتزاز في الواقع الاجتماعي الأخلاقيّ، لاسيّما إذا كان رجلاً جرَّب الخيانة الزوجية، أو خان الآخرين في زوجاتهم. ففي هذه الحالة يكون من الصعب عليه أن يثق بامرأة أخرى، حتّى إذا حصل على الثقة بامرأة أخرى، فإنّا نجده يعيش هواجس الخوف من أن تتحوّل هذه المرأة الموثوقة إلى امرأة تشبه النساء اللّواتي يعرف، من خلال علاقاته الخاصة، أنَّ ظاهرهن العفّة وباطنهنّ الخفيّ الخيانة.

إنّا نتصوّر أنّ الغيرة تنطلق من هذين السببين بشكلٍ رئيسيّ. وربّما تتدخّل طريقة المرأة في حركتها في المجتمع، وفي طبيعة علاقاتها بالجنس الآخر فتسهم في تكوين الشعور بالغيرة. ومن الأمثلة على ذلك أن تكون المرأة في مستوى من الجمال الجسدي، بحيث تكون محلاً للإغراءات التي قد تجذب بها الرجال أو قد يجتذبها الرجال. ولكنّنا نتصوّر أنّ على الرجل أن يحصّنها من جميع الجهات التي يمكن أن تفتح ثغرات للانحراف في حياتها. فنجد مثلاً، أنّ بعض الرجال، ربّما يسيئون فَهْم حاجات زوجاتهم الجنسية، أو حاجات زوجاتهم من الناحية الإنسانية الأخلاقية في المعاشرة، وما إلى ذلك الأمر الذي قد يخلق نقطة ضعف لدى الزوجة يستند إليها الآخرون.

وربّما يتصرَّف بعض الرجال أيضاً بطريقة إثارة الشكّ في المرأة، حتى يجعلها تفقد الثقة بنفسها. وعند ذلك يقودها إلى الانحراف، أو ربّما تتصرّف بعض النساء على أساس أن تواجه هذا الشكّ بطريقة متمرّدة، فتحاول أن تؤكّد فيه ذاتها ونفسها بشكلٍ أنّها تحوّل هذا الشكّ إلى واقع، كي تثأر من زوجها أو تنتقم منه، وهكذا..

لذلك لا بدّ للزوج من أن يعطيَ الزوجة الثقة من نفسه لتكون لها الثقة بنفسها. ولا بدّ من أن تكون عاطفة الحبّ التي يشعر بها اتّجاه زوجته، عاطفةً تؤكّد ثقته بها لا أن تؤكّد شكَّه فيها. وإذا كانت لديه بعض الشكوك في بعض الأوضاع، فإنّ عليه أن يصارح زوجته بذلك في عملية تفاهم ودراسةٍ موضوعية للعناصر التي تؤدّي إلى الشكّ، أو التي تؤدّي إلى إثارة الهواجس في نفسه.

وهذا ما نستوحيه من كلمة الإمام عليّ (عليه السلام) في وصيّته للإمام الحسن (عليه السلام): "إيّاك والتغاير في غير موضوع غيرةٍ فإنّه يدعو الصحيحة منهنّ إلى السقم ولكن أحكم أمرهنّ فإن رأيت عيباً فعجّل النكير على الكبير والصغير". إذا حاول الإنسان أن يثير الغيرة والشكّ ضدّ امرأته في الأشياء التي لا تثير الغيرة أو الهواجس، باعتبار أنّها أشياء طبيعية، كأنْ تتحدّث المرأة مع رجل من أقربائها، أو مع غيره من الناس ممّن تحتاج للحديث معهم في الحالات الطبيعية، فإنّ الغيرة في مثل هذه الحالة تدفع الإنسانة البريئة إلى الريب والشكّ وإلى عدم الثقة بنفسها، وقد يؤدّي ذلك بها إلى أمراض نفسيّة معقّدة.

وعندما تكون الغيرةُ حالةً طبيعيةً يواجه فيها الرجل المسألة، على أساس تحصين المرأة من الانحراف بشكلٍ معقول ومدروس، فإنّ هذه الغيرة تكون إيماناً.

ولكن عندما تتحوَّل الغيرة إلى حالة مَرَضيّة، وإلى عقدة نفسية فإنّها تكون مشكلة للرجل ومشكلة للمرأة. وتكون في كثير من الحالات ظلماً للمرأة ووسيلة من وسائل تعقيدها وإفقادها الثقة بنفسها.

غيرة الزوجة

السّبب الأول الذي يؤدّي إلى غيرة الزوجة هو حبّ الزوج والخوف من فقده. وهذا ما عبّر عنه الإمام الصادق (عليه السلام) في بعض كلماته لأصحابه، عندما سأله أحدهم: المرأة تغار على الرجل فتؤذيه؟ قال: إنّ ذلك من الحبّ.

فقد تغار عليه على أساس أنّها تحبّه، وتخشى أن تفقده، وتخشى أن تأخذه منها امرأة أخرى.

لاسيّما أنّ الرجل يجوز له أن يتزوّج امرأة ثانية وثالثة.. أو يجوز له أن يتزوّج بالعقد المنقطع، وما إلى ذلك. فالغيرة هنا، تعتبر حالةً طبيعيةً، باعتبار أنّها تنطلق من محبّة هذه المرأة لزوجها، وخشيتها من أن تفقده، بعيداً عمّا يمكن أن تؤدّي إليه هذه الغيرة من تطرّفٍ في الاتجاه الحادّ، بحيث تتحرّك المرأة لتواجه المسألة على أساس تحريم ما أحلَّه الله، وما إلى ذلك..

إنّ الإسلام لا يتدخّل في الحالات النفسية للمرأة، فالمرأة قد لا ترتاح إذا تزوّج زوجها بامرأة أخرى، سواء كان ذلك زواجاً دائماً أم منقطعاً. فالإسلام لا يحاسبها على عدم راحتها، ولكنّه يحاسبها على تصرّفاتها السلبية التي قد تؤدّي إلى أن تمنع زوجها من حقّه، أو أن تؤذيَهُ في ما ليس لها الحقّ في إيذائه. ومن هنا جاء الحديث المأثور عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "غيرة المرأة كفر". وليس معنى ذلك أنّها كفر بمعنى الكفر، ولكنّها تؤدّي إلى بعض أجواء الكفر، وهو تحريم ما أحلَّه الله. لأنّ المرأة قد تتطرّف في مشاعرها السلبية إزاء زواج زوجها من امرأةٍ ثانية، فتتصرّف وكأنّ هذا الأمر محرّم، أو كأنّ زوجها قد زنا، وتستعظم هذا الموضوع؛ الأمر الذي يدفع إلى أن يكون هذا الاستعظام بمثابة اعتراض على التشريع، واعتراض على الله سبحانه وتعالى، في تشريعه هذا الأمر، باعتبار أنّ بعض النساء قد يعتبرن ذلك ظلماً وما إلى ذلك، بقطع النظر عن المبرّرات الشرعية لذلك.

السببُ الثاني الذي قد يؤدّي إلى غيرة المرأة هو طبيعة تصرُّفات الرجل، خصوصاً إذا كان ناجحاً ومحلّ إعجاب النساء، أو إذا كان ممّن يعيشون نزوات معيّنة، وما إلى ذلك. وربّما ينشأ ذلك بسبب تصرّفات بعض النساء في علاقتهن بأزواجهن، وما إلى ذلك.

من الطبيعيّ أنّ ذلك كلّه قد يثير غيرة المرأة على زوجها.

ونحن نقول للمرأة، كما نقول للرجل: إنّ الغيرة تمثّل حالة إنسانية. وكلّ إنسان يعيش غريزة التملُّك، سواء في ذلك الرجل أم المرأة. فهو يحبّ أن يمتلك عاطفتها وعقلها، وهي تحبّ أن تملكه، في عقله وعاطفته وفي جميع شؤون حياته. وعلينا أن نعتبر العلاقات الإنسانية علاقات متحرّكة ومفتوحة لا يمكن أن نضبطها بضوابطَ حديدية، كما لا يمكن للرجل أن يخنق آفاق امرأته بشكلٍ حاسم، وكذلك المرأة لا يمكنها أن تخنق آفاق الرجل بشكلٍ حاسم.

ولذلك، لا بدّ من أن يتمّ التصرّف في مسألة الغيرة بشكلٍ هادئٍ، عاقلٍ وموزون، لأنّ الحسابات الدقيقة في ما تدرسه المرأة من أوضاع زوجها العقلية، والنفسية والحياتية ونزواته وأوضاعه، قد يفرض عليها إذا أرادت أن تحتفظ بزوجها أن تترك لها بعض حريّاته في ما أحلّه الله، بمعنى أن تهمل في بعض الحالات، وتحاسب في بعض الحالات، ولكن حساباً خفيفاً، يشعر فيه الرجل بلهفة الحبّ بدلاً من حالة الحقد.

إنّ المسألة الإنسانية، سواء كانت في العلاقات الزوجية أم في العلاقات الأخرى، لا بدّ من أن نؤكّدها من خلال أنّ الإنسان يمكن أن يربح قلب إنسان، بالكلمة الطيّبة والمعاشرة الطيّبة، أكثر ممّا يمكن أن يربح قلبه وحياته بالأساليب الضاغطة الحادّة. وهذا ما لاحظناه في توجيه القرآن الكريم للناس كلّهم {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [الإسراء : 53]. فالكلمة الطيّبة صدقة. والكلمة الطيّبة هي التي تفتح القلب. لذلك على الزوجين اللّذين يعيشان الغيرة التي قد تكون في أغلب حالاتها منطلقةً من عاطفة حبّ عميق، أن يعرفا كيف يعالجان المشكلة، التي يمكن أن تجعل الحياة الزوجية أكثر انفتاحاً وسعادة وإنسانية، بدلاً من أن يواجهاها بطريقة تُسقط الحياة الزوجية وتهدمها على رؤوس الجميع.

الأنانية في الحياة الزوجية

عندما نتحدّث عن حياة زوجية معقولة ومتوازنة فإنّنا نتحدّث عن زوجين طبيعيّين لا زوجين متنافرين شاذّين. ونتحدّث عن زوجين يختزنان المعنى الإنساني في إنسانيّتهما بدلاً من أن يختزنا معنى الأنانية التي تثقل ظروف الآخر وتلتقي بأنانيّته التي تثقله في مجالٍ آخر. إنّنا نتحدّث عن زوجين تمتزج حياةُ كلٍّ منهما بحياة الآخر، ولا نتحدّث عن فردين يشعر كلّ منهما بذاته، وبأنّ دور الآخر هو أن يؤكّد خصوصيته ولو على حساب ذاتيّة الآخر. لهذا يكون من الطبيعيّ أن يعيش الزوج مشاعر الرحمة لزوجته عندما يحسّ بتعبها وجهدها، كما أنَّ على الزوجة أن تحسّ بتعب زوجها وجهده، لأنّه يقضي كلّ وقته في الظروف القاسية الصعبة التي قد توقعه تحت الذلّ والقهر من أرباب العمل، أو من خلال ظروف العمل، ليهيّئ لها ولأولادها الحياة العزيزة الكريمة. إنّ عليها أن تقدّر هذه الظروف، وتقدّر حاجته إلى الراحة من أجل أن تجعله يعيش أجواء الحنان التي افتقدها في العمل وبعض أجواء العاطفة التي فقدها بفعل ضغط أصحاب العمل، وما إلى ذلك، من قسوة واضطهاد لإنسانيّته.

إنّ عليها أن تشعر بالحاجة إلى أن تكون أمّاً لزوجها من ناحية العاطفة، بحيث تستحضر في نفسها حالة الأم بالنسبة إلى طفلها، فتعرف كيف تحضن ألمه وكيف تحضن تعبه وسهره وجهده، فتعطيه من نفسها الكثير ممّا يعوِّضه عمّا يفقده، أو ممّا يخفّف عنه ذلك. إنّ عليها أن تعيش ذلك لتشعر بدور التضحية والعطاء والمعنى الزوجيّ الذي يجعل كلّ فريق يدخل إلى روح الفريق الآخر، ليفتح روحه للأمل الكبير والحياة الكبيرة. وفي هذا المجال ينبغي للزوج أن يبادلها عاطفةً بعاطفةٍ ومحبّةً بمحبّةٍ. إنّنا نعتقد أنّ كلّ إنسان منّا يبقى يعيش في داخله شخصية طفولته حتّى في شيخوخته، ولذلك فإنّه يحسّ بالحاجة إلى الأمومة حتّى في شيخوخته، وإلى الأبوّة حتّى في شيخوخته. ولذلك قد تحتاج الزوجة إلى أن تعيش دور الأمّ لزوجها من ناحية الحنان والعاطفة. وقد يحتاج الزّوج إلى أن يعيش شخصية الأب لزوجته في ما تحتاجه من عاطفة وحنان، لأنّ كلّ شخصيةٍ فينا لا تموت بل تبقى في الأعماق تتنفّس، وتحسّ بالحاجة إلى أن تشبع جوعها؛ وهو جوعٌ يمكن أن يحسّه الإنسان في جميع مراحل حياته. وذلك لأنّ طبيعة المراحل التي نعيشها تؤكّد وجود هذه الحاجة في أعماقنا، وهي ليست مجرّد شيء في تاريخنا، ولكنّها تمثّل الأساس الذي ترتكز عليه المراحل الأخرى، لأنّ كلّ مرحلةٍ تمثّل أساساً لمرحلةٍ أخرى.

ولهذا فإنّنا نجد الإنسان، وهو في الستين من عمره، يحبّ أن يلهو، ويحبّ أن يعبث، ويحبّ أن يتحرّك تماماً كما يتحرّك الأطفال في عبثهم الذي لا معنى له. إنّ الكثيرين من الآباء يستعيدون طفولتهم في طفولة أبنائهم، ولذلك فإنّهم يعيشون مع أطفالهم تماماً كما يعيش الأطفال مع بعضهم بعضاً. ولعلَّ هذا ما عبّر عنه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ما يروى عنه من حديث: "مَن كان له صبيٌّ فليتصاب له". فإنّ أعلى درجات التربية هي أن يتقمَّص الإنسان شخصية الطفل مع طفله. ونحن لا نعتبر أنّ المسألة مسألة تمثيل. قد تكون تمثيلاً في البداية عندما يعيش الإنسان حياته الشبابية أو حياته الكهولية في هذه المرحلة. ولكنّه عندما يدخل في المسألة تستيقظ طفولته في نفسه. وبذلك يندمج في الدور. ولولا أنّ الواقع يقول له: يا فلان أنتَ شيخ كبير، أو أنتَ شاب كبير، لاستمرّ طويلاً في هذا المجال.

ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان الذي لا يعيش طفولته في شبابه، ولا يعيش شبابه في شيخوخته، هو إنسانٌ يحاول أن يقتل العناصر الأساسية في شخصيته على حساب عناصر أخرى؛ ولذلك فإنّه يعيش كإنسان معقّدٍ يختنق في مرحلته، باعتبار أنّ المراحل الأولى تعطيه أجواء حميمة وحالاتٍ طريّةً تخفّف عنه ثقل المرحلة القادمة.

 

رتابة الحياة الزوجية

الرّتابة ظاهرةٌ من الظواهر الطبيعية التي تنشأ بفعل أيّ علاقةٍ تقوم بين إنسانٍ وآخر وتستمرّ زمناً طويلاً يعيش فيه كلّ واحدٍ منهما مع الآخر، بشكلٍ مستمرّ، في جميع الحالات، بحيث يفقد أيّة حالةٍ من حالات الغموض التي تثير اهتمام الآخر، وتدعوه إلى التحرّك نحوه لاكتشافه.

ففي علاقة الزواج يصبح الزوج مكشوفاً لزوجته بكلِّه، وتصبح الزوجة كذلك. وعند ذلك تتحوّل الحياة عندهما إلى وضع عاديٍّ جداً، ليس فيه أيّ نوع من أنواع الإثارة، لأنّهما يكونان قد رتّبا علاقاتهما الاجتماعية، وحياتهما الخاصة وأوضاعهما البيتيّة، ورغباتهما.. في نسقٍ محدّد. بحيث لا يبقى لدى أيّ طرفٍ منهما ما يثير به الطرف الثاني، حتّى عناصر الإثارة التي كانت في البداية قبل الحياة الزوجية، وفي بدايتها، لأنّ الإنسان عندما يستنفد حاجته من كلّ جوانبها، من الطبيعيّ أن تصبح هذه الحاجة عاديةً. وهذا ليس مجرّد ظاهرةٍ تتّصل بالعلاقة الزوجية فحسب، بل هي ظاهرة تصاحب كلّ العلاقات الإنسانية، على مستوى الصداقة والقرابة.. ففي البداية تكون العلاقة متحرّكة حيويّة. وبعد ذلك تبدأ بالجمود والانغلاق والرتابة؛ الأمر الذي يورث مللاً قد يؤدّي إلى زوال العلاقة.

وهذا، أيضاً، قد نلاحظه في تطلُّعاتنا إلى مظاهر الإبداع والعظمة والجمال في الحياة، فإنّنا عندما نرى تلك المظاهر قد نشعر بأنّها لا تثير فينا شيئاً؛ فالشمس لا تثير فينا شيئاً، وهكذا القمر والأنهار.. وحتّى الغذاء الذي نحبّه، أو الملابس، هذه الأشياء جميعها قد تفقد حيويتها وتأثيراتها في نفوسنا، عندما تستمرّ معنا فترةً طويلة.

في مثل هذه الحالة، لا بدّ للزوجين من أن يبحثا عمّا يجدّد نشاطهما وعلاقتهما، ولو بتغيير بعض التفاصيل الصغيرة في حياتهما، وفي أجواء البيت. ولا بأس بأن يتغيّر نظام البيت، بين وقتٍ وآخر. وفي رغباتهما الزوجية الخاصة، ولا بأس بأن تتغيّر طريقتهما في إشباع هذه الرغبات مثلاً، وقد يحتاجان إلى أن يثيرا مواضيع جديدة إذا كانا يملكان الثقافة التي تتيح لهما الدخول في نقاش حول مواضيعَ فكريّة وسياسيّة.. بحيث يشعران بوجود شيء جديد في حياتهما قد يشمل، في ما يشمله، الحديث، والرغبة، والبيت، والعلاقات الاجتماعية.

ونعتقد أنّ اكتشاف الجديد، أو صنعه، في داخل الحياة الزوجية، يمكن أن يبقيَ لهذه الحياة حركتها في إثارة اهتمام كلّ طرف بالآخر، من خلال شعوره بأنّ الآخر يحقّق له شيئاً يملأ فراغ فكره وحاجته ورغبته في ما يتطلّع إليه الإنسان من التجدُّد. إنّنا نتطلّع دائماً إلى الجديد، ولذلك لا بدّ للزوجين من أن يعملا لتحقيق الجدّة في حياتهما الزوجية. ومن الطبيعي أنّ هذا يحتاج إلى مزيدٍ من الوعي، ومزيدٍ من الظروف الملائمة، ومزيد من الأجواء الاجتماعية التي تعينهما على ذلك، كما يحتاج إلى مزيدٍ من الثقافة التي تصنع لدى كلّ طرف بعض الآفاق الجديدة التي يمكن أن تجدِّد الحياة في داخلها.

إدارة الحياة الزوجية

من البديهيّ أن يتحمّل الشخص الأوعى مسؤولية الإدارة والتخطيط. وفي الحياة الزوجية، قد يكون التناسب في مستوى الوعي بين الطرفين، وقد يكون أحدهما أوعى من الآخر. ففي الحالة الأولى، لا بدّ للزّوجين من أن يتّفقا على التخطيط لحياتهما الزوجية، وعلى توزيع الأدوار في إدارة هذه الحياة في ما يتّصل بمسؤولية كلّ واحدٍ منهما تجاه الآخر، أو تجاه حياتهما المشتركة.

أو إذا كان هناك فارق في الوعي، فلا بدّ للطرف الذي يملك وعياً أكثر من أن يخطِّط لإدارة العلاقة الزوجية، ومن أن ينطلق بوعيه لاحتواء فكر الآخر، فيدفعه إلى مشاركته في عملية التخطيط والإدارة، عندما يحاول اكتشاف العناصر الإيجابية في شخصيته، للوصول إلى التكامل في مسألة الإدارة.

إنّ مسألة التخطيط، في داخل الحياة الزوجية، تشبه مسألة التخطيط في الحياة العامة، فقد يكون التخطيط مسؤولية النخبة، وقد يكون مسؤولية المجتمع كلّه، من خلال استفتاءٍ شاملٍ يجري لتحديد العناصر المهمة وتركيزها في حياته الحاضرة والمستقبلية.

لكن، إذا كانت المرأة أكثر وعياً من الرجل، فإنّها قد تحتاج إلى أن تدرس طبيعة العناصر الإيجابية في الرجل، حتّى لا توحي له بالفوقية في مستوى الوعي، بحيث تُثقل شعوره، ولو المرضي، برجوليّته، في ما يتصوّره الرجال من تفوّق عنصر الذكورة على عنصر الأنوثة. إنّ على المرأة في مثل هذه الحالة، أن تنفذ إلى وعيه وشعوره، لتقدّم له الخطّة كما لو كانت خطة مشتركة بينهما، ثمّ تعمل على دراسة مفردات الإدارة في داخل الحياة الزوجية لتتوزّعها مع الرجل. وقد تستطيع المرأة إدارة الحياة الزوجية في الشؤون الخاصة، أو في بعض الشؤون العامة، بلباقتها وحسّها ووعيها، ولكن بطريقة تحفظ للزوج سلامة موقفه، فلا تتجاوز الحدود التي قد يكون تجاوزُها مؤدِّياً لأن يشعر الرجل بثقل حركة الزوجة على شخصيته وعلى شعوره بذاته.

حالة بتكامل فيها الطرفان

ويجب، عندما يتولّى الرجل مسؤولية الإدارة، أن يتحلّى بصفات منها ألاّ يعتبر المرأة كميّة مهملةً في البيت، بحيث يقتصر دورها على تلقّي الأوامر واحتواء التعليمات، بل عليه أن يعتبرها إنسانة يتّصل دوره بدورها، وتتّصل حياتها بحياته، فيعمل على أن تشاركه هذه الإدارة بطريقتها الخاصّة، ويعمل على رفع مستواها، لكي تستطيع أن تعيش في الجوّ الذي يتيح لها أن تحصل على نتائجَ كبيرة من خلال دخولها فيه.

هناك شيءٌ أساسيٌّ في أيِّ حالةٍ إدارية، سواء كانت إدارة الرجل للحياة الزوجية أم إدارة المرأة لتلك الحياة، أم إدارة المسؤول لمواقع مسؤوليته. وإنّ على الذي يتولّى الإدارة أن يتحسَّس إنسانية الأشخاص الذين يتعاونون معه، وعلينا ألا نعتبر الإدارة مجرّد شيءٍ جامدٍ تحكمه المواد القانونية أو التعليمات الشرعية والاجتماعية، وما إلى ذلك.. بل علينا أن نعتبر الإدارة حالةً إنسانيةً لا يمكن أن تنجح إلاّ إذا توفّرت كلّ الشروط الإنسانية في الأشخاص الذين يعيشون في داخل هذه الإدارة. ولذلك، لا بدّ من أن يشعر الرجل بإنسانية المرأة، وأن تشعر المرأة بإنسانية الرجل، وأن يتحرَّكا من خلال هذا الشعور، لتكون العلاقة الزوجية حالة إنسانيّة يعيشانها. وعند ذلك تنطلق المشاعر والأحاسيس والأفكار لتتكامل حتّى لا يثقل أحدهما على الآخر. وإن كان أحدهما يريد أن يخضع الآخر لإرادته، فعليه أن يخضعه بطريقةٍ إنسانية وليس بطريقة وحشيةٍ أو تسلّطيةٍ، وما إلى ذلك.

الخصوصيات في الحياة الزوجية

في البدء، هناك نقطة لا بدّ من أن نلاحظها في كلّ العلاقات الإنسانية؛ وهي أنّ على كلّ طرف في العلاقة الإنسانية أن يحسّ بأنّ للآخر خصوصيات لا يستطيع تجاوزها، كما أنّ له خصوصيات يريد من الآخرين ألاّ يتجاوزوها.

ولذلك، يجب على كلّ طرف ألاّ يعمل على إلغاء خصوصيات الطرف الآخر، بهدف أن يكون حرّاً في ممارسة خصوصياته.

وفي الحياة الزوجية، من الطبيعيّ أن يكون للزوج أهله وعلاقاته السابقة والحاضرة، وأن يكون للزوجة أهلها وعلاقاتها السابقة والحاضرة، لأنّ شخصية كلّ واحدٍ منهما، وطبيعة اختلاف موقعه الاجتماعي وعلاقاته قد تجعل له خصوصية تختلف عن خصوصية الآخر. وقد يحدث الاختلاف في ثقافة كلّ منهما، فقد يملك أحدهما ثقافةً علميةً، والآخر ثقافةً أدبيةً. ولا يمكن، في هذه الحالة، لأحدهما أن يفرض ثقافته على الآخر مصادراً ثقافته الخاصة. وعلى هذا الأساس، من الطبيعيّ أن يتأثّر الزوج بخصوصيّاته في بعض مراحل حياته الزوجية بطريقةٍ قد تتحوّل إلى حالةٍ سلبيةٍ تجاه زوجته، إمّا من جهة بعض الثغرات الموجودة في علاقة أهله بزوجته، أو من جهة علاقة بعض أصدقائه بزوجته.. وهكذا المسألة بالنسبة للزوجة.

لا بدّ للطرفين، في هذا المجال، من أن يضعا الحدود الفاصلة لخصوصيّاتهما حتّى لا يثقل أحدهما على الآخر في هذا الجانب. وإنّ عليهما، إذا احتاجت الحياة الزوجية أن يضحّيا ببعض خصوصيّاتهما التي يمكن التضحية بها، لأنّها لا تؤدّي إلى حالةٍ صعبةٍ في حياة هذا الجانب أو ذاك، أن يضحّيا بذلك، كالتضحية ببعض الصداقات أو العلاقات الطارئة.. التي قد لا تشكّل شيئاً أساسياً في الحياة الزوجية.

أمّا بالنسبة إلى الخصوصيات التي تمثّل حالةً أساسيةً، كعلاقة الزوج بأهله، أو علاقة الزوجة بأهلها، أو علاقة كلّ منهما بأهل الآخر، فإنّ مثل هذه الأمور لا بدّ من أن تُدرس، بغية وضع الضوابط التي لا تجعل خصوصيات كلٍّ منهما تتحوّل إلى حالةٍ عدوانيةٍ على خصوصيات الآخر. وهذا أمر يحتاج إلى كثيرٍ من الدقّة والحكمة، نتيجة حساسية بعض العلاقات، بحيث قد يشعر الزّوج أو الزوجة أمامها بالحرج، كما هي الحالات في مشاكل الأهل في داخل حياة أولادهما الزوجية، وهذا أمر لا يمكن أن توضع له خطوطٌ تفصيلية، بل يمكن أن يوضع له خطّ عامٌ يتمثّل في أن يعتبر الزوج أنّ زوجته ليست زوجةً لكلّ أقربائه، بل هي زوجةٌ له. وأن تعتبر الزوجة بأنّ زوجها زوجٌ لها فقط، فلا تسمح لأقربائها بأن يتدخّلوا في حياة زوجها، كما لو كانت لهم سلطة عليه. وكذلك الأمر بالنسبة للزّوج.

قد تكون للأب سلطةٌ على ولده، ولكنّ ذلك لا يبرّر، أبداً، أن تكون له سلطة على زوجة ولده، وقد يكون للأب سلطة على ابنته، لكنّ ذلك أيضاً، لا يبرّر أن تكون له سلطة على زوج ابنته. الزوج والزوجة إنسانان مستقلان عن أهل كلّ منهما. لذلك علينا ألاّ نخلط بين الأمور.

ولكن قد يحتاج الأمر إلى بعض المجاملة من قبل الزوج أو الزوجة، لحفظ أوضاعهما الخاصة التي قد تؤثّر على الأوضاع المشتركة. وهذا ما يجب على الزوجين أن يقوما به ويتفاهما عليه، من أجل ألاّ تأتيَ الرياح الخارجية لتنسف الحياة الزوجية من الداخل.

 

ضربُ الزوجة

تكمن، في شخصية كلّ إنسان عقلية القويّ والضعيف. فالقويّ يمارس، في كثيرٍ من الأحيان، تميّزه تجاه الإنسان الضعيف. فنحن نلاحظ أنّ الأب يضرب ولده، والأم تضرب ولدها حتّى في غير حالات التأديب.

ونجد الحاكم، مثلاً، يطلق الرصاص على أبناء شعبه، أو يسجنهم، أو يشرّدهم، أو يظلمهم.. ونجد، في هذه المظاهر، ما يفيد بأنّ الإنسان القويّ يضطهد الإنسان الضعيف.

والواقع أنّ الذهنية التي يحملها الرجل، تجاه المرأة، هي ذهنية القويّ إزاء الضعيف، ولذلك فإنّه يشعر بأنّ له كلّ الحقّ في أن يضرب زوجته بما يتّفق مع مزاجه، بقطع النظر عمّا إذا كان له الحقّ في ما يطلبه من زوجته أو في ما يلزمها به، أم لا. وربّما يتصرّف مع زوجته بدافع تنفيس الغيظ الذي تكوَّن بفعل تعامله وعلاقاته مع الآخرين.

إنّ الحكم الشرعيّ، في هذا الصدد واضح. وهو أنّ الله سبحانه وتعالى، لم يسلّط الرجل على المرأة من خلال نطاق العلاقة الزوجية، في أيّة حالة من الحالات، إلاّ في حالة واحدة نذكرها بعد قليل. إنّ المرأة الزوجة هي تماماً، كأيّة امرأةٍ أجنبيةٍ عن الزوج، في العلاقات الإنسانية العامة، فلا يجوز أن يشتمها، أو يضربها، أو يطردها من بيتها بغير حقّ. ولا يجوز له أن يسيء معاملتها، أو يؤذيها، بكلّ ما لهذه الكلمات من معنى، تماماً كما لا يجوز له أن يضرب المرأة الأجنبية أو يؤذيها.. لأنّ الله لم يسلّط إنساناً على إنسانٍ آخر، في هذه الدوائر الحياتية، سواءٌ في ذلك الإنسان الذي تكون له علاقة بإنسانٍ آخر أو الذي لا تكون له مثل هذه العلاقة.

هناك حالة واحدة تحدّث فيها الإسلام عن الضرب، وهي حالة نشوز المرأة على الزّوج، أي في الحالة التي تتمرّد فيها، كأنْ تمنعه من ممارسة العلاقة الجنسية التي يجب عليها أن تتجاوب فيها معه في كلّ وقت، ما عدا الحالات المعذورة فيها أو الحالات الضاغطة. ففي هذه الحالة جعل الإسلام وسائل لإخراج المرأة من جوّ النشوز، ومن هذه الوسائل وسيلتان:

الأولى: الموعظة بكلّ الأساليب التي تفتح عقلها على خطأ ما تقوم به، وعلى النتائج السلبية في الدنيا والآخرة التي تترتّب على هذا.

الثانية: الهجران في المضجع، ويعني التأديب النفسيّ. ويتمثّل ذلك في أن ينام الرجل في مكانٍ غير المكان الذي تنام فيه زوجته، أو يدير لها ظهره. أو ما إلى ذلك...

فإذا لم تفد هاتان الوسيلتان، فإنّ من حقّ الزوج أن يلجأ للضرب، باعتبار أنّه صاحب حقّ، ويواجه زوجةً تتمرّد من دون أساس، بعدما وعظها ولم تقتنع، وهجرها ولم تتأثّر نفسيّاً من الهجران. الضرب، إذاً من حقّ الزّوج الذي يريد أن يحافظ على البيت الزوجيّ من الانهيار لأنّه لا يريد أن يطلّق. والحقيقة أنّ المرأة التي لا تحسّ بالموعظة ولا بالهجران والتأديب النفسيّ، هي امرأةٌ لا يمكن أن تعود إلى رشدها إلاّ بالضرب، لأنّ المرأة العاقلة الموزونة هي التي تسمع الموعظة، وتدخل في عملية تفاهم حول الموضوع، وهي التي تتأثّر نفسيّاً بالهجران النفسيّ. أمّا المرأة التي تتحوّل إلى إنسانة لا تسمع ولا تعي ولا تتأثّر نفسيّاً، فهي امرأة غير طبيعية، لذلك يكون ضربها الحلّ الأخير وكأنّه العملية الجراحية التي تنقذ الحياة الزوجية(1).

وقد ورد أيضاً، أنّه لا بدّ من أن يكون الضرب تأديباً، من دون إدماء لحم أو كسر عظم، لا أن يكون ضرباً ناشئاً من عقد نفسية وما إلى ذلك.

هذه هي الحالة الوحيدة التي يجوز فيها ضرب المرأة، بعد استنفاد كافة الوسائل السلمية. أمّا في الحالات الأخرى فليس للزوج أن يضرب زوجته، إذا امتنعت عن إرضاع ولدها أو تربيته أو الطبخ في البيت.. لأنّ كلَّ ذلك ليس حقّاً للرجل على المرأة.

هذا هو الخطّ الإسلاميّ في هذه المسألة. ولذلك فإنّ كلّ الذين يضربون زوجاتهم، خارج نطاق الحدود التي وضعها الله سبحانه وتعالى، في هذا المجال، هم أُناس ظالمون، ولا فرق بين أن يضربوا زوجاتهم أو أن يضربوا أخواتهم أو أن يضربوا النساء الآخرين.

معنى "شاوروهن وخالفوهن"

ربّما نسب هذا الحديث إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). وقد أُسيء فهمه واستغلّ للدلالة على سوء معاملة المرأة. إنّنا نتصوّر أنّ المضمون العميق لهذا الحديث، يختلف عمّا يفهمه الناس منه، لأنّ ما يفهمه الناس لا ينسجم مع طبيعة الحقوق العامّة في الإسلام . وإذا أردنا أن نسير، مع هذا الحديث بحسب طبيعته الظاهرة، يكون معنى ذلك أنّ على الإنسان أن يشاور المرأة في كلّ شيء، ثم يرى أنّ العكس هو الحقّ، في ما يتعلّق بالقضية التي يسأل عنها حتّى ولو كان رأيها محقّاً. ونحن، إذا كنّا نتّهم بعض النساء بأنّهن قد يخضعن للعاطفة في القضايا التي تتّصل بالعاطفة، أو أنّهن قد يخضعن للتخلّف الذي يعشن فيه، فيتحرّك التخلُّف في خدمة الرأي الذي يتّخذنه، إلاّ أنّنا لا نستطيع أن نعتبر أنّ كلّ النساء يخضعن، في تقييمهن للقضايا الفكرية أو الاجتماعية، للعاطفة. إنّنا لا نستطيع أن نعتبر أنّ كلّ النساء متخلِّفاتٌ. وفي المقابل فإنّنا لا نستطيع أن نعتبر أنّ كلّ الرجال ينطلقون من موقعٍ عقليّ؛ فهناك كثيرٌ من الرجال ينطلقون من موقع عاطفيّ. وقد يكونون في بعض المجالات أكثر عاطفيةً من طريقة المرأة في إدارة الأمور. إذاً كيف نفهم هذا الحديث؟

إنّنا نفهم هذا الحديث، في نطاق عدم الاستسلام للمرأة من قِبَل الرجل، باعتبار أنّ العلاقة الطبيعية التي تحكم صلتهما هي العلاقة العاطفية المنفتحة على العنصر الغريزي القائم بين الجنسين. ومن الطبيعيّ أن نعرف أنّ مثل هذه العاطفة التي يمتزج فيها الجانب العاطفيّ بالجانب الغريزي قد تترك تأثيراتٍ كبيرةً على شخصية الرجل؛ الأمر الذي يجعله منجذباً إلى المرأة بالطريقة التي قد يستسلم فيها إليها، بحيث قد تفرض عليه رأيها، وقد تدفعه إلى الكثير من المواقف غير الصحيحة، انطلاقاً من استسلامه لغريزته وعاطفته، وهذا ما نلاحظه في طريقة المخابرات التي تستخدم النساء لمحاولة الحصول على أسرار عسكرية، من خلال قادة سياسيين أو عسكريين، على أساس العلاقات النسائية الخاصة أو ما إلى ذلك من الأمور. إنّ الحديث في ما نفهمه منه، يركّز على ألاّ يعوِّد الرجل المرأة على الاستسلام لها والقبول برأيها في كلّ شيء، ليكون ذلك بمثابة أساس لسيطرتها عليه، بحيث يفقد إرادته أمامها.

فمعنى "شاوروهنّ وخالفوهنّ" إذاً، هو: عوِّدوهن على المخالفة. وهذا التعوُّد يمكّن الرجل من التماسك أمام المرأة في ما تطلبه منه. كما يجعل المرأة تشعر بأنّ الرجل يملك القدرة على الرفض في بعض القضايا التي قد تريدها منه. وهذا يلتقي مع الكلمة المنسوبة للإمام عليّ (عليه السلام)، وهي "لا تطيعوهنّ بالمعروف كي لا يطمعن في المنكر". وتعني هذه الكلمة ألاّ يعوِّد الرجل المرأة على الطاعة المطلقة في المعروف ـــ من خلال أنّه طاعةٌ لها لا من خلال أنّه معروف ـــ على أساس أنّ الطاعة للمرأة، بمعنى الاستسلام لها قد يجعلها تطمح في أن تعوِّد الرجل على المنكر مستغلّة الجانب العاطفيّ الغريزيّ عنده.

لهذا، فإنّ هذا الحديث لا يتحدّث عن قيمة رأي المرأة، ليقول: إنّ رأيها لا يمثّل قيمةً، بل إنّه يتحدّث عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، ويرى أن تكون علاقةً منطلقةً من الحذر الذي يُراد له أن يوحيَ للمرأة بأنّه من الممكن للرجل أن يخالفها، وأن يوحيَ للرجل بأنّ عليه ألاّ يستسلم للمرأة. لذا فإنّ "شاوروهن وخالفوهن" لا يعني أنّ رأي المرأة، عندما يشاورها الرجل، هو ضدّ الحقيقة، بل معناه عوّدوهن على المخالفة في بعض الحالات حتّى لا يتعوّدن على استغلال الجانب العاطفيّ للسيطرة على الرجل وحتّى يتعوّد الرجل على أن يتماسك في ذلك كلّه. وعلى هذا الأساس من الطبيعيّ أن يصبح من الممكن للرجل أن يشاور المرأة، وأنْ يناقشها وتناقشه، ليكون النقاش أساس الوصول إلى الحقيقة من خلال القناعات. وقد قلنا، في البداية إنّنا لا نستطيع أن نأخذ بظاهر هذا الحديث، ولو فعلنا ذلك لكان معناه حينئذٍ كما يلي: لو أنّ رجلاً لا يصلِّي وشاور امرأته المؤمنة: هل أُصلّي أو لا؟ وقالت له: صلّ، فينبغي أن يخالفها فلا يصلّي. المعنى ليس كذلك بل هو: شاوروهنّ في بعض الأمور وخالفوهنّ في بعض الأمور حتّى تشعر المرأة أنّها لا تملك الرجل لتسيطر عليه، وحتى يشعر الرجل بأنّ عليه ألاّ يستسلم للمرأة، بل أن يكون حذراً في هذا المجال حتّى لا تأخذه العاطفة إلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.

إضافةً إلى كلّ هذا، فإنّنا نرى أنّ الإسلام اعتبر المجتمع الإسلاميّ مجتمع الشورى، عندما قال الله تعالى في كتابه: {... وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى : 38]. ومعنى ذلك أن يتشاور الناس في كلّ الأمور التي تواجههم. وهذا التشاور يؤدّي إلى الإفادة من الخبرة الموجودة عند هذا الفريق أو عند ذاك. وعلى هذا الأساس تكون المرأة ضمن دائرة الشورى، لأنّها جزءٌ من المجتمع الإسلاميّ.

وهناك مجالات تشترك فيها المرأة والرّجل في المسؤولية، مثل: البيت، الأولاد والعلاقات الاجتماعية المشتركة. وعندما تكون المرأة ذات مستوى ثقافيّ وسياسيّ أو اجتماعيّ، بحيث تملك الخبرة في هذه الأمور، فإنّ على الرجل أن يدخل معها في حوارٍ بمثل خطّ الشورى في الأمور، ليتداول معها في القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية. وإذا اعتبرنا أنّ الشورى لا تمثّل عملية طاعةٍ لأحد الفريقين تجاه الآخر، بل تتمثّل في أن يعرض كلّ واحد وجهة نظره ليناقشها الطرف الآخر، ولينطلق النقاش في خطِّ الحوار على أساس أن يصل إلى قناعةٍ مشتركة أو إلى تفاهمٍ مشترك، إذا اعتبرنا ذلك نرى أنّه ليست هناك مشكلة في أن يشاور الرجل المرأة، وفي أن تشاور المرأة الرجل، ما دام كلّ منهما حرّاً في أن يقبل ما يطرحه الطرف الآخر إذا اقتنع به وألاّ يقبله إذا لم يقتنع به. لهذا يمكن أن تشاور المرأة في كلّ الأمور التي تملك خبرةً فيها، لاسيّما إذا كانت هذه الأمور من القضايا التي ترتبط بخبرتها الخاصة وبمسؤوليتها المشتركة. ونحبّ أن نؤكّد من جديد أنّ الحديث يتحرّك في دائرة ممارسة تجربة المخالفة في بعض الحالات على أساس تحقيق التوازن في طبيعة علاقة الرجل بالمرأة.

 

 

جهاد المرأة وإذن الزوج

إذا أردنا أن ندرس مسألة "جهاد المرأة وإذن الزوج" علينا أن نحدّد نوع هذا العمل الجهاديّ، فتسأل: هل هو من الأعمال الواجبة على المرأة، باعتبار أنّ المرحلة التي يمرّ بها الإسلام، في حركته في مواجهة الكفر والاستكبار، تحتاج إلى جهد المرأة، كما تحتاج إلى جهد الرجل، في مختلف المجالات الثقافية والسياسية والعسكرية، بحيث يكون هذا الجهد ملزماً لها كما هو ملزمٌ له، على أساس أنّ هناك مصلحة عُليا تفرض تضافر كلّ الجهود في سبيل الوصول إلى النتائج الحاسمة في هذا الموقع الإسلاميّ أو ذاك؟

عندما تكون المسألة مسألة أداء واجبٍ يفرض على المرأة، ولو من خلال العناوين الطارئة الملائمة التي تختلف حسب اختلاف الرجل، علينا أن نثير سؤالاً آخر، وهو: هل هذا الوجوب وجوب عينيّ أو هو وجوب كفائيّ؟ لأنّ الواجبات التي توجّه للرجل، أو للمرأة، قد تكون من قبيل الواجبات الكفائية التي توجّه إلى كلّ المكلّفين، ولكن إذا قامت مجموعة منهم بما يحقّق النتائج فإنّها تسقط عن الكلّ. ويمكن أن تكون الواجبات عينيةً بحيث يجب القيام بهذا الواجب على كلّ إنسان سواء أقام به إنسان آخر أم لم يقم، في حين تقتضي الواجبات الكفائية أنّه إذا كان هذا العمل الواجب على المرأة، ممّا يمكن أن يقوم به الرجل، وقد قام به، فعلاً، بالمستوى الذي لا يحتاج فيه إلى جهد المرأة، فإنّه يسقط عنها. أمّا إذا لم يقم به الرجل أو لم تقم به امرأة أخرى، فإنّه يبقى واجباً عليها.

ويفرّق الفقهاء بين الواجبات الكفائية العينيّة في وجوب استئذان من يجب استئذانه، كالزّوج أو الأهل في بعض المواقع. فقد يقال: إنّ الواجب الكفائيّ لا بدّ فيه من استئذان الزّوج، إذا افترضنا أنَّ الأمر يتنافى مع الحقّ الشرعي للزوج على اختلاف الفتاوى في هذا المجال. كذلك لا بدّ فيه من استئذان الأهل في الأوامر الإشفاقية للأهل. أمّا إذا كان الواجب عينياً، بحيث كان ملزماً للمرأة سواءً قامت به امرأة أخرى أم لم تقم، وقام به رجلٌ آخر أم لم يقم، فلا يشترط لا رضى الزوج ولا رضى الأهل. فالوجوب وجوبٌ عينيّ. لهذا فإنّه لا يجب عليها أن تستأذن زوجها أو أهلها، بل يجب عليها أن تعصيَ زوجها، أو أهلها، إذا مانعا في ذلك.

حلّ الخلافات الزوجية

عندما ينشب الخلاف بين الطرفين يسعى الأهل إلى الصلح بينهما. وهذا ما تدعو إليه الآية الكريمة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا}  [النساء : 35]. وإذا فشلت مساعي الصلح يتمّ اللّجوء إلى الطلاق باعتباره الحلّ الذي يُرجع إليه، عندما لا تبقى هناك أيّة وسيلة من وسائل الحفاظ على الحياة الزوجية، ويُخشى أن يخلق امتداد الحياة الزوجية مشاكل كبيرة للزوجين، أو مشاكل كبيرة للمجتمع أو للأولاد. في هذه الحالة يكون الطلاق الوسيلة الطبيعية لإنهاء العلاقة كما تكون القطيعة حلاً في إنهاء العلاقة، في أيّة علاقة إنسانية أخرى.

يكون الطلاق حلاًّ في الحالات التي تتحوّل فيها الحياة الزوجية، بين الزّوجين، إلى مشاكلَ لا تنتهي، بحيث يصبح الواقع بمثابة جحيم لا يطاق، لا يشعر فيه الزوجان بالسلام الروحيّ والحياتيّ في علاقاتهما أحدهما مع الآخر. وفي الوقت نفسه، يمكن أن ينعكس هذا الشقاق على سلامة النموّ الطبيعيّ للأولاد، بحيث أنّه يدمّر نفسيّتهم وروحيّتهم، أو قد يؤدّي إلى مشاكل اجتماعية من خلال علاقة الزوجة بعائلتها وعلاقة الزوج بعائلته؛ الأمر الذي يعني أنّ استمرار العلاقة بمشاكلها قد يؤدّي إلى فتنةٍ عمياء بين العائلتين وما إلى ذلك. إنّ الله جعل الزواج قائماً على المودّة والرحمة، فإذا تحوّلت المودّة والرحمة إلى حالة بغضٍ وبغضاءٍ وقسوةٍ، ولم نستطع السيطرة على هذا الواقع بتحويله إلى واقع أفضل، وغدا من الممكن أن تمتدّ العلاقة الزوجية على أساس أن تتحوّل إلى جوٍّ لا بدّ أن يُعصى الله فيه بحيث تعصي الزوجة ربّها في علاقتها بزوجها، ويعصي الزوج ربّه في علاقته بزوجته، عند ذلك يجب الطلاق.

الحوار أمرٌ طبيعيٌّ بين كلّ إنسان يعيش علاقةً مع إنسان آخر، لاسيّما في العلاقة الزوجية التي لا تترك تأثيراتها السلبية والإيجابية على الزوجين فحسب، بل تمتد إلى الأولاد وإلى المجتمع من حولهما. من الطبيعيّ أن يكون الحوار هو الأساس بين الزوجين. وهذا ما يعبّر عنه القرآن الكريم بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون : 96]، بمعنى أنّ الإنسان يحاول أن يتخيَّل الوسائل الكفيلة بحلّ المشكلة بتوضيح الجوانب الغامضة فيها، إذا كان الغموض هو الذي يؤدّي إلى سوء الفهم أو سوء التفاهم، أو بحلّ العقد الموجودة في داخلها إذا كانت هناك عُقَدٌ قابلةٌ للحلّ.

من الطبيعيّ أنّ الإسلام لا يشجّع على الطلاق، كما لا يشجّع على إنهاء أيّة علاقة حتّى على مستوى علاقات الصداقة بين إنسانٍ وآخر إلاّ بعد استنفاد كافّة الوسائل الكفيلة بإيجاد الركائز التي تحفظ هذه العلاقة وتعطيها الانفتاح على كلِّ القضايا الإنسانية التي تؤكِّد امتدادها في ما هو خير الإنسان. لذلك لا بُدّ من أن يتعلّم الزوجان لغة الحوار قبل أن يدخلا الحياة الزوجية. وهذا ما حاولنا أن نؤكّده في بعض أحاديثنا، وهو أنّه ينبغي لأهل الزوجة وأهل الزوج أن يربِّيا ابنتهما أو ولدهما على كيفية القيام بالواجبات الزوجية، ليس على مستوى الخدمات أو ما إلى ذلك فحسب، بل لا بدّ من أن يربّياهما على كيفية إدارة الحياة الزوجية من خلال التفاهم المشترك، ومن خلال الحوار، وبالدفع بالتي هي أحسن وما إلى ذلك. ولا بدّ من أن يربّى الزوج على أساس أن يكون الإنسان زوجاً لإنسان آخر، وأنّه بالزواج يفتقد حرّيته الفردية ويصبح إنساناً يرتبط بإنسانٍ آخر في كلّ حياته. ومن الطبيعيّ أن يبحث عن الوسائل التي تحفظ هذا الارتباط تماماً كما هو الارتباط بين أعضاء الجسد الواحد.

من الطبيعيّ ألاّ تخضع العلاقة الزوجية، كما كلّ العلاقات الإنسانية، لضوابط ماديةٍ، لأنّ الإنسان يستطيع أن يتلاعب بهذه الضوابط. ولذلك فنحن نلاحظ، مثلاً أنّ كثيراً من الأهل، أو من الزوجات، يحاولون أن يضبطوا استمرار العلاقة الزوجية بزيادة المهر، بحيث يقف الزوج، عندما يريد الطلاق حائراً أمام المهر الكبير الذي لا يستطيع أن يدفعه، فيمنعه ذلك من الطلاق. وفي مثل هذه الحالة نلاحظ أنّ الزوج يحاول، عندما لا يكون صاحب دين وأخلاق أن يضطهد زوجته إلى درجةٍ تصبح فيها مستعدةً للتنازل عن هذا المهر وعن أكثر منه. لذلك، فنحن نعتقد أنّ الضوابط المادية لا يمكن أن تنتج علاقةً إنسانية، ولا يمكن، أيضاً، أنْ تؤدّيَ إلى استمرار علاقةٍ إنسانيةٍ، فالضوابط الأساسية هي الشخصية الإنسانية التي يملك الإنسان في داخلها الأخلاق والتديّن ومراقبة الله سبحانه وتعالى، بحيث يمنعه ذلك من أن يتصرّف تصرّفاً مسيئاً. وإنّني أتصوّر أنّ الزوجة التي قد تصطدم بأنّ زوجها أصبح بعيداً عنها روحياً أو نفسياً، تحت تأثير أيّة حالة من الحالات، ينبغي لها أن تفكّر بالانفصال عنه، إذا لم تستطع أن تقنعه أو تغيّر أفكاره أو أوضاعه في هذا المجال، بطريقتها الخاصة، أو بواسطة الناس الآخرين، لأنّ الإنسان لا يشعر بمعنى الحياة، إذا كان يعيش مع إنسانٍ آخر يشعر بأنّه لا يطيقه، ويرغب في الابتعاد عنه. لهذا فإنّني أتصوّر أنّ الزوجة لا تشعر بالسعادة أو بالراحة مع الزوج عندما يفقد مشاعره الحقيقية الإنسانية نحوها. ولذلك فإنّ الطلاق يكون حلاً لمشكلتها الجديدة، كما هو حلّ لمشكلته في هذا المجال. من الطبيعيّ أن يقال أمام هذا الكلام إذا كانت المسألة من جانب الزوج، فماذا عن الزوجة عندما لا تطيق الرجل؟ وكيف يمكن أن تتخلّص منه في هذا المجال؟ 

في مثل هذه الحالة، جعل الشّارع للزوجة الحقّ في أن تطلب الطلاق، كما أنَّ لها الحقّ في أن تأخذ العصمة بيدها عند الزواج، عندما يوافق الزوج على أن تكون وكيلة عنه في طلاق نفسها، كما هو رأي بعض المراجع في عصرنا الحاضر. وقد يكون ذلك من الناحية الشكلية، عندما تكون العصمة بيدها.

وقد يقال: هذا أمرٌ على خلاف الشرع، لأنّ الشارع جعل العصمة بيد الزوج، وقد يقال: هذا شرطٌ مخالف للكتاب والسُنّة. لكن عندما يكون الشرط أن تكون وكيلة عن الزّوج في طلاق نفسها، في هذا المجال تستطيع أن تطلّق نفسها عندما تفقد الشعور بالحاجة إلى الاستمرار والامتداد معه، لأنّه ربّما كانت مشكلة المرأة في الطلاق غير متمثّلة في الحالتين: الإنسانية والعاطفية بل من الناحية الاقتصادية، لأنّ الغالب أنّ المرأة التي لا تعمل والتي لا تجد ظروفاً طبيعة للحياة الكريمة أن تفقد بالزواج عنصر الأمان في حياتها الاقتصادية. عند ذلك تكون مسألة الطلاق أخفّ تأثيراً ممّا هي عليه الآن، للذهنية الاجتماعية التي تشعر فيها المرأة المطلقة بشعور سيّء يثقل نفسيّتها ويعرّضها للكثير من النظرات أو التصرّفات أو الاتهامات غير الطبيعيّة. وهذا أمر ينطلق من طبيعة المجتمع. والمجتمعات تتغيّر في ذهنيّتها عندما تعرف أنّ الطلاق شيء أحلّه الله، والزواج شيءٌ أحلّه الله، وأنّ الطلاق لا يشكّل أيّة عقدةٍ في حياة المطلّقة، كما لا يشكّل أيّة عقدةٍ في حياة المطلق، بل إنّها مسألة طبيعية أن يختلف اثنان فلا يعيشان معاً، ثم يفترقان بشكلٍ طبيعي.

ونعتقد، بغية حلِّ تلك المشكلات، أنّ للمرأة، ولكلّ إنسان، الحقّ في أن يحصل على عناصر القوّة في شخصيّته التي تبعده عن الانسحاق أمام الظروف الطارئة. لذلك فنحن نرى أنّه من الضروري للمرأة، كما للرجل، أن يكون لكلّ واحدٍ منهما مهنةٌ أو خبرةٌ أو موقعٌ في الحياة يستطيع من خلاله أن يواجه كلّ الحالات الطارئة التي تجعله في حاجة إلى الآخرين. إنّ الناس تستعبدهم حاجاتهم، والله يريد للناس أن يكونوا أحراراً. ولذلك يريد لهم أن يعيشوا الحرّية في حاجاتهم حتّى يعيشوا الحريّة في إنسانيّتهم.

 

 

 

 

 

 

 

أبعادُ العلاقة الزوجية

إنّ الإنسان يمثّل هذا الكائن الحيّ الذي ينطلق من مجموعة غرائز تكوّن حركة وجوده في تلبية حاجاته، كما ينطلق من الجانب الفكريّ الذي يكون تطلُّعاته في وعيه للكون والحياة. وإن نظرنا إلى العلاقة الزوجية نرى أنّ الغريزة تعدّ فيها أمراً حيوياً من جهتين: الجهة الأولى تتمثّل في جانب إشباع الحاجة الجنسية، باعتبار ما يمثّله ذلك من وسيلة أساسية لتحقيق العفّة في حياة الإنسان. والجهة الثانية تتمثَّل في التناسل. وهذا يعني أنّ الجانب الغريزيّ يمثّل عنصراً أساسياً في مسألة الزواج. ومن هنا اهتمّ الإسلام كثيراً بالأحكام المتّصلة بالحالة الجنسية في علاقة الزّوج بالزوجة.

ويبقى للزّواج البعد الإنسانيّ الذي ينفتح على الغريزة ليعطيها معنى المودّة والرحمة حتّى لا تكون مجرّد شيءٍ حيوانيّ جامد لا ينفذ إلى عمق المشاعر الإنسانية. فنحن نجد كثيراً من الأحاديث النبويّة الشريفة التي توجِّه الرجل إلى أنّه لا بدّ من أن ينتظر المرأة حتى تبلغ لذّتها. وفي الوقت نفسه نجد أنّ التوجيهات الإسلامية تنطلق في اتّجاه دفع الرجل إلى أن يتزيّن للمرأة، تماماً، كما تتزيّن المرأة له. لأنّ النساء يحببن من الرجال ما يحبّه الرجال من النساء؛ الأمر الذي يعني أنّ الإسلام يرشّد الحالة الشعورية الإنسانية في تفاعل الرجل والمرأة في الجانب الغريزيّ، بحيث لا يكون الرجل أنانياً في غريزته كما لا تكون المرأة أنانيةً في غريزتها، بل لا بدّ من أن يكون هناك تكاملٌ بينهما من خلال شعور المودّة والرَّحمة الذي يجعل كلّ فردٍ، في هذا الجانب أو ذاك، يفكِّر بالإنسان الآخر، على أساس أن تنطلق الغريزة لتمنحه حالة الطمأنينة الجسدية بالإضافة إلى الطمأنينة الروحية.

ونلاحظ، في مجال تحقيق هذه الطمأنينة، أنّ الإسلام وضع آداباً شرعيةً عباديةً في أجواء العلاقة الجنسية تقضي بأن ينطلق الإنسان فيها من خلال أدعيةٍ معيّنةٍ وذكرٍ معيّنٍ واستيحاء أنّ شرعية هذه العلاقة انطلقت من خلال ما أعطاه الله من شرعيةٍ في كلمات الله التي تُخاطَب بها الزوجات في أثناء إجراء العقد.

كلّ هذا يعني أنّ هناك تحريكاً من الإسلام للجانب الغريزيّ الجنسيّ: العنصر الماديّ، وللجانبين الروحيّ والإنسانيّ، حتّى لا تكون العلاقة الزوجية مجرّد حالة طارئةٍ في جسد الإنسان، ولتكون حالة متنوّعة الأبعاد في شخصية الإنسان، بحيث تتحرّك المودّة والرحمة، وتتحرّك إطلالةً إلهية على كلّ هذا الجانب. وعلى ضوء هذا، فإنّنا نستطيع اعتبار الغريزة الجنسية غريزةً إنسانيةً ذات بعدٍ روحيٍّ وماديّ، وأنّها أساسيةٌ في الزواج وليست شيئاً هامشياً.

وهذا يطلُّ بنا على فكرةٍ أخرى، وهي أنّ الكثيرين يريدون أن يبعدوا الجانب الجنسيّ عن الجانب الإنساني، أو أن يعتبروا الجانب الجنسيّ جانباً هامشياً في عقد الزواج، وينطلقون من فكرة النظر إلى الجانب الجنسيّ بوصفه جانباً جنسياً يخجل الإنسان منه. وربّما يتّصل ذلك بالفكرة المسيحية التي تحاول بطريقة لا شعورية أن توحيَ بمعنى الخطيئة في علاقة الجنس، وتحاول أن تتحدّث عن الزواج كما لو كان أمراً روحياً لا يمثّل الجسد فيه شيئاً مهمّاً. الإسلام ينطلق في تفكيره من اعتبار الحاجات الإنسانية الجسدية التي تنطلق من غرائز معيّنة خلقها الله في جسد الإنسان لاستكمال حركة وجوده في الاتجاه الذي يبني للإنسان حياته. إنّ الإنسان يفكّر أنّ هذه الحاجة تعتبر حاجةً طبيعيةً تماماً كبقية الحاجات الأخرى كالطعام والشراب. فكما لا يشعر الإنسان بأيّة غضاضةٍ بأن يسعى نحو إشباع غريزته الغذائية أو المائية، إذا صحّ التعبير، كذلك لا يجد الإسلام أيّة مشكلةٍ أو أيّةٍ غضاضةٍ في أن يعمل الإنسان على إشباع غريزته الجنسية، بل أن يطلب ذلك ويعبّر عنه، وأن يتحدّث بشكلٍ معيّن في سبيل الوصول إلى هذا الهدف بالطريق الشرعية. إنّ الحالة الجنسية حالة طبيعية جدّاً في شخصية الإنسان، بحيث تدخل في عمق إنسانيّته وفي عمق امتداد وجوده الإنساني. وبذلك لا يعتبر الامتناع عن الجنس حالةً أخلاقيةً في الإسلام، ولهذا رفض الإسلام الرهبانية، واعتبر العزوبة أمراً ضدّ القيمة بدلاً من أن يكون هو القيمة؛ الأمر الذي يعني أنّ للغريزة دورها الأساسيّ الأخلاقيّ في شخصية الإنسان، لأنّ الإسلام لا يريد للإنسان أن يكبت غرائزه وأن يخنقها، بل يريد أن يحرّكها في خطّ التوازن، بحيث لا تنحرف ولا تطغى لتوصل إلى النتائج السلبية التي يمثّلها الطغيان والانحراف، بل تنطلق في خطّ الاستقامة الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في تشريعه.

"حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث..."

ونجد عدّة أحاديث لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذا المعنى، ومنها الحديث الوارد: "حُبِّب إليّ من دنياكم ثلاث: الطِّيب والنساء وقرّة عيني الصلاة". ويريد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من هذا الحديث، أن يبيِّن انفتاحه على هذه الحاجة الجسدية بشكلٍ طبيعيّ، بل إنّه يريد القول: إنّه إنسانٌ طبيعيٌّ، كبقيّة البشر، يشتهي ما يشتهون، ولكلّ بشرٍ تطلُّعاته ولكلّ بشرٍ حاجاته وتمنّياته في الأشياء. ولذلك فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يريد أن يعبّر عن الحالة الطبيعية لبشريّته ولإنسانيّته، تماماً كبقية البشر، من دون أن تمنعه نبوّته عن الانفتاح على حاجاته الجسدية، كما ينفتح على حاجاته الروحية، وهي الصلاة التي تعلو على هاتين الحاجتين لتكون قرّة عينه باعتبار أنّها معراج روحه إلى الله والموعد الذي يلتقي فيه بالله. لكنّنا في الوقت نفسه نجد أحاديث أخرى تدعو إلى عدم الاستغراق في حبّ النساء أو في الجنس، وهذه الأحاديث تشبه تلك التي تدعو الإنسان إلى عدم الاستغراق في الطعام والشراب كي لا تملكه الحاجة، بحيث يدمن عليها لتكون جزءاً من ذاته فلا يستطيع أن يتحرّر منها عندما تدعوه التزاماته ومسؤولياته إلى أن يتحرّر منها وينفصل عنها. لذلك فإنّ هذه الأحاديث تتحدّث عن خطّ التوازن في المسألة، بينما الحديث النبويّ الشريف يتحدَّث عن الخطّ الطبيعيّ فيها.

دعوات الحدّ من النسل

تمثّل مسألة تحرير النسل خطاّ متحرّكاً يختلف باختلاف الظروف التي يعيشها المسلمون، فهناك حالات يصل فيها التضخّم البشريّ، في الواقع الإسلاميّ، إلى حدٍّ كبير. وقد يصل الوضع الاقتصاديّ، بشكلٍ طارئ ضاغط، إلى حدّ الانهيار. في مثل هذه الحالات، قد تفرض المسألة التخطيط لتنظيم النسل كجزءٍ من تنظيم الاقتصاد أو تنظيم الجانب النوعيّ للقوّة في الإسلام. وقد تمرّ ظروفٌ يحتاج فيها المسلمون إلى الكثرة العددية باعتبار أنّ هناك تحدِّياً معيّناً لا يمكن أن يواجهه المسلمون إلاّ من خلال الكثرة. في مثل هذه الحالة، يصبح تحديد النسل ضدّ القيمة، لتكون كثرة النسل هي القيمة. وهذا ما يفسِّر قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "تناكحوا وتناسلوا فإنّي أُباهي بكم الأُمم يوم القيامة، ولو بالسقط". إنّه يتحدّث عن الحاجة إلى أن يكون المسلمون كثيرين بشكلٍ يواجهون الأمم، من موقع الكثرة، في عالم كانت الكثرة فيه تمثّل عنصراً أساسياً من عناصر القوّة. ومن الطبيعي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يدعو إلى الكثرة على حساب النوعية، ولكنَّ هناك شيئاً معيناً لا بدّ أن نشير إليه في هذه المسألة، وهي المسألة الروحية في النظرة الإيمانية. وعندما تتحرّك الخطط لتنظيم الواقع الإسلاميّ فإنّ علينا ألاّ نكون مادّيين في هذه النظرة.

ولذلك فإنّ الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئَاً كَبِيراً} [الإسراء : 31]. إنَّ ذلك يعني أنّ عليك أن تحسب حساب الله سبحانه وتعالى، في ألطافه الغيبية التي تتحرّك في نطاق {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ...} [الطلاق : 2 ـــ 3].

تأثيرات العلاقة الجنسية على الزواج 

من الطبيعيّ أنّ الإقدام على الزواج، من قِبَل الرجل أو من قِبَل المرأة، ينطلق من حاجتين: حاجةٍ جسديةٍ طبيعيةٍ تتمثّل في إشباع الغريزة وحاجةٍ روحية، نفسية، اجتماعية، حياتية تتمثّل في إيجاد الخليّة الاجتماعية الأولى، وفي تأسيس البيت الزوجيّ، وفي تهيئة أجواء السكينة والطمأنينة التي تنطلق من اندماج إنسانٍ بإنسانٍ بشكلٍ يخرق كلّ الحجب. لذلك، من الطبيعيّ أن يشعر الإنسان الذي لا تجد حاجته الجنسية الإشباع بشكلٍ كافٍ في الزواج بالتعقيد والإرباك في أجوائه الزوجية، الأمر الذي قد يؤثّر على الطمأنينة التي يعيشها الإنسان في ما عبَّر عنه القرآن بالسكن الذي يعني الطمأنينة والهدوء الروحيّ، بينما تمثّل حالة الإشباع الجنسيّ حالة اكتفاءٍ تمنح الكثير من الهدوء للتوتّر الجسدي الذي ينعكس إيجاباً على التوتّر الروحيّ. ونحن لا ندّعي بأنّ النجاح في الجانب الجنسيّ يعطي الزواج نسبةً مئوية من النجاح. ولكنّ هناك حاجاتٍ أخرى، كما ذكرنا، تتجاوز الجانب الجنسيّ ممّا يتطلّبه الزوجان كعناصر حيويةٍ في العلاقة الزوجية. ولكنّنا نتصوّر أنّ الجانب الجنسيّ مهمّ جداً في نجاح حياة الزوجية أو فشلها إيجاباً أو سلباً.

دور العلاقة الجنسية في الزواج المتعدِّد

قد يصابُ بعض الرّجال بمشكلة في حياتهم الزوجية نتيجة برودة الزوجة، وذلك في الوقت الذي يرغب فيه الزوج في حركة هذه العلاقة، وما إلى ذلك من أمور تتّصل بمفرداتها، فيحاول البحث عمّا يلبي هذه الرغبات لدى نساءٍ أخريات يمكن أن يجد لديهنّ ما يشبع رغبته ويلبّي حاجته، في غياب إمكانية الانفصال عن زوجته واستبدالها بزوجةٍ أخرى. وهناك من الرجال من لا تعوزه الحالة الحيوية للعلاقة الجنسية، ولكنّه يرغب في التنوّع، على طريقة "لن نصبر على طعامٍ واحد". وبذلك لا تكون المسألة مسألة حاجةٍ تتعلّق بعدم وجود إمكانية اكتفاءٍ ذاتيّ بالشكل الطبيعيّ، ولكنّها رغبةٌ إضافيةٌ. وهذا ما جعل الإسلام يشرّع تعدّد الزوجات، بغية مواجهة هذه الحالة التي تنطلق من رغبةٍ في التنوّع.

الخبرة الجنسية ضرورية أم لا؟

عندما ندرس تاريخ الإنسان، في الجانب المتعلّق بتاريخ الزواج، نجد أنَّ الخبرة المتقدّمة على الزواج لا تمثّل عنصراً حيوياً في نجاح هذه العلاقة. بل نجد أنّ أغلب الزيجات كانت تنطلق من دون خبرة. وربّما نلاحظ أنّ الإنسان يكتسب خبرته بالممارسة في المسألة الغذائية وفي المسائل الأخرى التي تشبهها، باعتبار أنّ القضايا التي تتحرّك فيها الطبيعة الإنسانية تملك في داخل شخصية الإنسان عناصر حيويةً تقوده إلى الخبرة بأسرع وقت. بل ربّما نجد أنّ الخبرة المتقدّمة على الزواج قد تتدخّل في إفشال الحياة الزوجية، لأنّ الإنسان عندما يعيش خبرةً معيّنة من خلال تجارب معيّنة قد تكون محاطةً بظروف معينة لا يجد في الزواج ما يماثلها، فيشعر بالتعقيد في علاقته الزوجية لعدم استطاعتها تلبية ما كان قد حصل عليه في تجربته السابقة. وهذا ما نلاحظه لدى الكثيرين من الناس الذين يتحرّكون من خلال خبرتهم مع بنات الهوى، سواء حدث ذلك بطريقة شرعية أم غير شرعية، أو من خلال بعض العلاقات مع بعض النساء اللاتي يملكن أسلوباً معيناً في إدارة هذه العلاقة. هؤلاء الرجال قد يواجهون حالةً طبيعيةً عند زوجاتهم اللواتي لا يملكن مثل هذا الفن في إدارة العلاقة؛ الأمر الذي يجعل الرجل ينظر إلى زوجته نظرةً سلبيةً. ولذلك فإنّ حياتهم الزوجية تتعقّد من أوّل مرّة. إنّنا لا نقلِّل من قيمة الخبرة في بعض المجالات في الجانب الجنسيّ، ولكنّنا لا نعتقد أنّ التجربة هي التي تمنح الخبرة، كما لا نعتقد أنّ للخبرة دورها الكبير الأساسيّ في هذه المسألة.

ضرورة الثقافة الجنسية

قد تكون الثقافة الجنسية التي تتّصل بمعرفة بدايات المسألة الجنسية ونتائجها وتركيبة الجهاز التناسلي، ووظائف أعضائه، لدى الرجل والمرأة، مسألة مهمة جداً في انفتاح الزّوجين على آفاق متنوعةٍ قد تجنّب العلاقة الزوجية كثيراً من المشاكل الصحّية أو النفسية، ولاسيّما الأمور التي قد تنعكس سلباً على الطفل الذي يكون ثمرة لهذه العلاقة. ونلاحظ أنّ الإسلام قد تحدّث عن المسألة الجنسية وعن الأعضاء الجنسية بشكلٍ صريح في الكتاب والسُنّة؛ الأمر الذي يعني أنّ مفردات الجنس ليست أشياء معيبةً في الثقافة الإسلامية، حتّى أنّ الإسلام يعبّر عن عقد الزواج بكلمة النكاح التي هي أقرب الكلمات إلى العملية الجنسية في الجانب العمليّ منها. لذلك نحن لا نرفض الثقافة الجنسية، ولكن لا بدّ لها من أن تبتعد عن أجواء الإثارة، وذلك باتّباع اللّغة العلميّة في هذه المسائل لا بالانطلاق مع الأفلام الجنسية أو مع أساليب الإثارة المتّبعة لدى الناس.

لذلك لا بدّ من الحذر لدى الشباب والشابات من الانفتاح على تلك الكتب التي وُضعت من أجل الإثارة، ولم توضع من أجل أيّ هدفٍ ثقافيّ إنسانيّ. وإذا كان بعض الناس يستفيد من هذه الكتب في إثارة بعض الحالات الراكدة في جسده فإنّه يخسر مقابل ذلك الكثير من مناعته الروحية والأخلاقية وتوازنه النفسيّ، فينفتح على هذا العالم من الموقع القذر لا من الموقع النظيف. والإسلام يريد للإنسان، في مفرداته الثقافية، وحتّى في ما يحتاجه من عناصر الإثارة، إلى أن يتّبع الوسائل التي تحقّق له رغبته في الوقت نفسه الذي لا تهدم فيه روحيته وأخلاقيّته ونفسيّته النظيفة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مشكلة العنوسة

قد تعود أسباب العنوسة إلى صعوبة الشروط التي تشترطها المرأة على من يريد الزواج منها، نتيجة بعض حالات الانفتاح الذاتيّ الذي يجعلها تفكّر في وضع شروط قاسية جداً على من تقبل به زوجاً فتقول، مثلاً: فهذا أقلّ مني ثقافةً، وهذا لا يمثّل الإنسان الذي أطمح إليه في قامته وشخصيته وجماله، وهذا الإنسان من عائلة دون مستوى عائلتنا، وهكذا... وقد تحدث العنوسة عندما تعيش المرأة في حالة معقّدةٍ توحي برفض كلّ من يتقدّم لها، لأنّه لا يمثّل الصورة التي وضعتها في أحلامها للإنسان الذي تريد أن تعيش معه، وهي صورةٌ قد تكون أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. قد تبدأ المسألة هكذا وتستمرّ.. ونحن نعرف أنّ المرأة عندما تبلغ سناً معيّنة فإنّ العرف الاجتماعي يجعل هذا العمر حاجزاً بينها وبين رغبة الآخرين في الزواج منها.

وقد تكون المسألة ناتجةً عن تقاليد الأهل في مسألة الزواج، سواء أكان ذلك من ناحية ضخامة المهر الذي لا يستطيع أن يدفعه الرجل أم من خلال الشروط التي يشترطونها، في الزوج بأن يكون ملائماً لمزاجهم لا لمزاج الفتاة، أو أن يكون منسجماً في المستوى مع مستواهم الاجتماعي، وما إلى ذلك من الأمور التي يتدخّل فيها مزاج الأهل أو مزاج المجتمع في وعي الأهل. الأمر الذي يعقِّد إتمام الزواج ويجعلهم يرفضون الزوج الأول والثاني والثالث، حتّى تنتهيَ المسألة إلى العنوسة.

وربّما تعود الأسباب إلى ظروف اجتماعية خاصة كأن تعيش الفتاة في جوٍّ لا تملك فيه أن يتعرّف إليها أحد ممّن يمكن أن يتزوّجوها، وما إلى ذلك من الأمور الذاتية أو الخارجية.

ومن الطبيعيّ أنّنا، في مثل هذه الحالة، ينبغي أن نفكّر بأنّ الإسلام أراد تسهيل مسألة الزواج، فنحن نلاحظ أنّ الحديث الشريف يقول: "إذا جاءكم مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَه ودِينَه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبير".

وهذا يعني أنّ الخُلُق والدِّين هما الأساس في العلاقة الزوجية. وينبغي على الفتاة وأهلها ألاّ يرفضوا الإنسان الذي يتميّز بهاتين الصفتين، انطلاقاً من وجود حالةٍ مادّيةٍ سلبيةٍ، أو من وجود حالةٍ اجتماعية سلبيةٍ في عرف هؤلاء وذات صلةٍ بالمستوى الطبقيّ للمجتمع وما إلى ذلك من الأمور. إنّ الإسلام اعتبر غلاء المهر شؤماً للمرأة، واعتبر مسألة تعقيد الحياة الزوجية، نتيجة الواقع الاقتصادي، أمراً غير مستحبّ. وهذا ما نفهمه من الآية الكريمة: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...} [النور : 32].

فهي تعني أنّ مسألة المال ليست واردة على أساس أن تكون شرطاً في وقت الزواج، لأنّ الله سبحانه وتعالى يمكن أن يرزقهما كما رزق غيرهما.

إنّ تبديل النظرة إلى هذا الأمر غدا أمراً ضرورياً، وينبغي تخفيف قيود الزواج، ومحاولة إعطاء الفتاة والشاب الحرية في أن يتزوّجا ويعيشا معاً، وفق ما يختارانه من حياة، فقد يخطِّطان لأن يستأجرا غرفة ليجلسا فيها، ليكملا دراستهما مثلاً، ضمن شروط معينة.

ويمكن أن يعيشا مع أهلهما إذا اتّفقا مع أهل الزوج أو الزوجة، ويمكن أن يكتفيا بأيّ مكان يتوافق مع إمكاناتهما. وهكذا عندما نسهّل الحياة الزوجية، ونخفِّف كثيراً من تقاليد الزواج، ونخفّف كثيراً من الشروط غير الواقعية وغير الإنسانية للزوج الذي تريد أن تختاره الفتاة، يمكن أن تتسهّل عملية الزواج.

ثمّ إنّ هناك أمراً قد لا يحتمله المجتمع، ولكنّ الإسلام أقرّه، فقد جعل من حقّ الفتاة أن تسعى لتهيِّئ لنفسها زوجاً، وأن تطلب من إنسان، أن يتزوّجها، كما من حقّ الرجل أن يسعى ليتزوّج بامرأة. إنّ علينا أن نغيّر مفهوم المجتمع، حتّى لا يُعتبر طلب الفتاة الزواج انتقاصاً في شخصيتها أو في شرفها، أو ابتعاداً عن موقع الحياة الطبيعي عندها، لأنّ الزواج حاجةٌ للمرأة كما هو حاجةٌ للرجل، بل قد يكون حاجة للمرأة، بلحاظ بعض الظروف التي قد تواجهها في حياتها، أكثر ممّا قد يكون حاجة للرجل. وهذا ما نستوحيه من قصّة تلك المرأة التي جاءت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو جالس بين أصحابه فقالت له: "زوِّجني يا رسول الله. فلم ينكر عليها الرسول هذا الطلب، ولم ينكر عليها أصحابه هذا الطلب، وعرض على أصحابه أن يتزوّجها أحدٌ منهم، كما لو كانت المسألة شيئاً طبيعياً. وعندما لم يقم إلاّ رجل واحد كان لا يملك شيئاً، قال له: هل معك شيء من القرآن؟ قال: بلى. قال: زوّجتك إيّاها بما معك من القرآن.

إنّنا نستوحي من هذه القصّة الواردة، في السّيرة النبوية، الشريفة مفهوماً يفرض علينا أن نبدّل مفاهيمنا.

إنّ كثيراً من العانسات صرن إلى هذا الوضع بفعل عقدة ذاتية تتمثّل في صورة متخيّلة لزوج المستقبل، أو بسبب شروط غير واقعية لما يمكن أن يقدّمه زوج المستقبل، أو بفعل مفاهيم غير إنسانية وغير إسلامية في ما يختزنه المجتمع من مفاهيم. لذلك لا بدّ من ثورةٍ على كلّ هذه العقد، وعلى كلّ هذه المفاهيم، حتّى نتجاوز مسألة العنوسة كظاهرة اجتماعية. ولكن من الطبيعيّ أنّ حلّ هذه المشاكل لن يكون مئة بالمئة.

ستبقى هناك عانسات، وعليهن أن يتدبّرن أمورهنّ في الخروج من هذه العنوسة، بحسب ظروفهن الطبيعية التي تحيط بهن من هنا أو من هناك.

ويجب أن تفهم المرأة، في مثل هذه الحالات، أنّ الزواج ليس هو كلّ شيء في حياتها. الزواج حاجة طبيعية تشعر فيه المرأة بأنّها تتكامل مع الرجل. ومن الطبيعي أنّها تبقى تشعر بفراغ ما دامت لم تحصل على زوج، وهذا ما تنطق به الآية الكريمة: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]، كما يشعر الإنسان بالعري عندما يفتقد الثوب، وكذلك تشعر المرأة ويشعر الرجل بالفراغ والنقص عندما لا ينضمّ إلى الطرف الآخر.

لكن عليها أن تعتبر أنّه ليس من الضروريّ التفكير بأنّ السعادة في الحياة تتمثّل في أن نحصل على كلّ ما نحبّه، فهناك أشياء نحبّها ولا تتحقّق لنا. وعليها أن تنظر للمتزوّجات، فربّما كنّ يعشن مشاكل أكثر ممّا تعيشها العانسات.

لهذا عليها ألاّ تعتبر عدم الزواج عذاباً إلهياً يمثّل شقاءً أبدياً لها. وعليها، وهي تبحث عن إمكاناتٍ تتجاوز حالة العنوسة، أن تنصرف إلى أن تنمِّيَ شخصيّتها بالأعمال الثقافية والاجتماعية، والقيام بجهودها التي تملكها في إبراز العناصر الأساسية في شخصيتها؛ الأمر الذي يجعل منها إنسانةً يشعر المجتمع بأنّه بحاجة إليها أكثر ممّا يشعر الزوج بأنّه بحاجة إليها.

لذلك فإنّ عليها ألاّ تستسلم إلى الأحاسيس السلبية الخانقة في هذه المشكلة، بل عليها أن تنفتح على الحياة بشكلٍ واسع، لأنّ مجالات الحياة أوسع وآفاقها أرحب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الزواج المؤقت

إنّ عدنا إلى بداية هذا التشريع نرى أنّ المسلمين يتّفقون على أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، شرّعه في ظرف خاص. ولكنّ بعض المسلمين يرون أنّ هذا التشريع نُسخ. وبذلك فقد تحوّل الحلال إلى حرام. ويرى بعضهم، من خلال الرّوايات الواردة في هذا المجال، أنّه شُرِّع مرّتين ونسخ مرتين. ولكنّ المصادر الإسلامية الشيعية تروي أنّه لم ينسخ، وتناقش الروايات التي تقول أنّه قد نسخ، وتنقل عدّة أحاديث تفيد أنّ هذا التحريم كان تحريماً إدارياً من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب الذي نُقل عنه أنّه قال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله، حلَّلهما، وأنا أحرِّمهما وأُعاقب عليهما".

وإذا كان من المعروف أنّ أحداً لا يملك أن يحرّم أمراً حلَّله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا بدّ لنا من أن نحمل هذا التحريم على التحريم الإداري الذي تتمثّل فيه المصلحة التي يمكن أن تنحصر في مدّة معيّنة.

على كلّ حال، فإنّ الفقه الإسلاميّ الشيعيّ قد انطلق على أساس بقاء تشريع هذا الزواج، بينما انطلق الفقه الإسلاميّ السنّي على أساس تحريمه، انطلاقاً من نسخ التحليل الصادر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيه.

ويروي فقهاء الشيعة عن الإمام عليّ (عليه السلام)، الحديث الذي يقول: "لولا ما نهى عنه عمر، من أمر المتعة، ما زنا إلاّ شفا أو إلاّ شقي". (شفا، تعني القليل. يقال: ما بقي منه إلاّ شفا، أي إلاّ قليل).

من هذا الإطار نستطيع أن ننطلق إلى مناقشة هذه المسألة، باعتبارها من المسائل التي تثير الجدل الكثير من المسلمين، وربّما بين غير المسلمين. وهذا ما لاحظناه عندما أثار الشيخ هاشمي رفسنجاني المسألة في إحدى خطب الجمعة، حيث بادرت الوكالات الأجنبية، في تحليلاتها، أو في عناوينها، إلى الحديث عن الدعوة إلى التحرّر الجنسيّ، أو إلى الإباحية الجنسية؛ الأمر الذي يجعل الفكرة التي تؤخذ عن هذا الزواج فكرةً ترى فيه مجرّد حالات انفلات في المسألة الجنسية قد تصل إلى حدّ الفوضى كما يُخيَّل للكثيرين، وربّما تنشأ منه مشاكل اجتماعيةً كثيرة، باعتبار أنّ طبيعته تفرض أن تكون القضية خاصة بين الشخصين. وهذا قد يؤدّي إلى أكثر من مشكلة اجتماعية في ما يمكن أن تمثّله كلمة التحرُّر الجنسيّ أو الإباحية الجنسية، بحيث يلتقي معها في النتائج وإن لم يلتقِ معها في الطبيعة القانونية.

إنّنا نستطيع أن ندرس المسألة، بعد التأكيد على بقاء شرعيّتها، من خلال المناقشات الفقهية التي تؤكّد ذلك في نظرنا. ومن الطبيعيّ أنّنا لسنا في مجال بحث فقهيّ يتناول المسألة في دائرة السلب والإيجاب.. وإنّما نريد أن نطلّ على المسألة من الناحية الاجتماعية، ونتساءل: هل يمثّل الزواج المنقطع حاجةً اجتماعية في معالجة المشكلة الجنسية، أو أنّه لا يمثّل حاجةً في هذا المجال، لأنّ الزواج الدائم يمكن أن يحلّ هذه المشكلة بما يحقّق من نتائجَ إيجابية لحياة المجتمع؟

إنّ الجواب، عن هذا السؤال، يجعلنا ندرس المسألة من ناحية تاريخية. وفي هذا المجال، نلاحظ أنّ الزواج الدائم كان حالةً تاريخية عرفها الإنسان منذ القدم، ولكنّه، في الوقت نفسه، ظلّ يترافق مع العلاقات غير الشرعية، بشكل أصبحت فيه العلاقات غير شرعية، ظاهرةً إنسانيةً طاغيةً، تماماً كما هو الزواج الدائم ظاهرةٌ إنسانيةٌ طاغية، وربّما تختلف النسبة بينهما في الحجم، أي من حيث حجم امتداد هذه الظاهرة أو تلك.

والسؤال الذي يُطرح، في هذا السياق، هو: لماذا احتاج الإنسان إلى الزنا، أو إلى العلاقات غير الشرعية ما دامت العلاقات الشرعية متوفّرةً، لاسيّما في المجتمعات السابقة التي كان التعدُّد فيها ظاهرةً طبيعيةً، لأنّ وحدة الزوجة في الحياة الزوجية أصبحت تمثّل تشريعاً متأخّراً تمثّل في التشريع المدنيّ الغربيّ المتأثّر بالتشريع المسيحيّ، في هذا المجال؟

لماذا كانت هذه الظاهرة بهذا الشكل؟

نقول، من قبيل التحليل، وقبل الدخول في المناقشة: إنّ الزواج الدائم لم يحلّ المشكلة الجنسية، لأنّ الإنسان قد يحتاج، في كثير من الظروف، إلى أن يتجاوز الزواج الدائم، وذلك عندما لا يتيح له هذا الزواج، مثلاً، وبخاصة في حالات السفر، أو في بعض الحالات الطارئة التي قد يعيشها، أو في بعض الحالات الأخرى، التنوُّع بشكلٍ طبيعيّ، أو التجدُّد في علاقاته الجنسية.

ونرى، عندما ندرس هذه المسألة، أنَّ العلاقات غير الشرعية كانت تمثّل حاجةً عند غياب إمكانات الزواج الدائم، أو عند وجود بعض النوازع أو بعض الحاجات التي قد تفرض علاقةً خارج نطاق تلك العلاقة.

ومن هنا، فإنَّا نلاحظ أنّ التشريع، أيّ تشريع، لا بدّ له، عندما يدرس مصلحة الإنسان في مواجهة أيّ مشكلة من مشاكله، من أن يسدّ كلّ الثغرات التي تنطلق منها هذه المشاكل. وإذا كنّا نتّفق على أنّ الإسلام ينظر إلى الجانب الجنسيّ، في حياة الإنسان باعتباره حاجةً طبيعيةً غريزيةً تضاف إلى حاجاته الطبيعية الأخرى، من دون أيّ تهاويل، وأيّ مقدّساتٍ، وأيّ نظرة دونية لهذه المسألة، وأيّ شعورٍ بالقذارة لهذه العلاقة، لأنّها مجرّد حاجةٍ طبيعية.. وإذا كنّا متّفقين على ذلك، نرى أنّه لا يضير المرأة والرجل، ولا يكون امتهاناً لهما، إن بحثا عن تلبية هذه الحاجة في إطار الشرع.

إنّ العلاقة الجنسية، في النظر الإسلامي، علاقة جدّ طبيعية، ولكن بما أنّها تتّصل بقضية العلاقات النسبية، وما إلى ذلك، أراد الإسلام أن يجعل لها حدوداً وأن يجعل لها إطاراً معيّناً.

وربّما نفكّر أنّ الإسلام لاحظ أنّ هناك حاجةً للاستقرار في هذه العلاقة الجنسية التي يتبعها الاستقرار في المسؤوليات المالية للبيت الزوجيّ، من حيث توزيع المسؤوليات وحقوق الزوج والزوجة في الوضع المستقرّ، وهذا ما جُعِل له نظامُ الزواج الدائم.

ومن ناحيةٍ أخرى، قد لا يشكّل هذا الزواج حلاًّ في بعض الحالات. فهناك رجال لا يتاح لهم الزواج الدائم، كما أنّ هناك نساء لا يتاح لهن مثل هذا الزواج، بسبب ظروف معينة. في مثل هذه الحالات، وبما أنّ مسألة الجنس حاجة طبيعيّة يشعر بها الرجل والمرأة، يكون الزواج المؤقّت حلاً ينظّم علاقة مؤقتة بينهما في إطار الشرع.

وهذا يعني أنّ الإسلام جعل لهما المجال لإنشاء هذه العلاقة على أساس عقدٍ ومهرٍ والتزاماتٍ معيّنةٍ، مع التزام بنتائج هذا الزواج، فيكون الولد شرعياً مئةً في المئة، ولا فرق بينه وبين ولد الزواج الدائم، الأمر الذي يجعل من العلاقة الجنسية المؤقّتة علاقةً زوجية، لكنّها تخفّف من مسؤوليات الحياة الزوجية، كالالتزام بالنفقة وما إلى ذلك من الأمور، باعتبار أنّ طبيعتها تختلف عن طبيعة الزواج الدائم، وإلاّ كانت مشاكلها مشاكل الزواج الدائم نفسها.

إنّنا نفهم من الكلمة المروية عن الإمام عليّ (عليه السلام): "لولا ما نهى عنه عمر، ما زنا إلا شفا من الناس، أو إلاّ شقي"، أنّ مسألة الزنا كانت حاجةً، باعتبار أنّ الزواج الدائم لا يلبّي كلّ هذه الحاجة، لذلك كان لا بدّ من زواجٍ يكمل تلبية هذه الحاجة، وهو الزواج المؤقّت.

هذا من الناحية العامة، ففي استطاعتنا أن نفسّر هذا التشريع، الذي ما زال برأينا مستمراً، من وجهة نظر هذا الاجتهاد وبأنّه جاء يُكمل حلّ المشكلة الجنسية في الحياة الإنسانية.

أمّا لماذا يرفضه الناس؟ ولماذا يثير الكثير من الجدل؟ فلأنه، في نظرة الكثرة من المسلمين، يعتبر علاقة غير شرعية. لذلك فلا بدّ من أن يقفوا ضدّه كما يقفون ضدّ أيّ علاقةٍ غير شرعية. كما أنّه غير مألوف حتى في الوسط الإسلاميّ الشيعيّ الذي يرى شرعيته. ومن الطبيعيّ أنّ المجتمعات تواجه كثيراً من القضايا غير المألوفة عندها بالذهنية نفسها التي تواجه بها قضايا غير مشروعة. ولذا نلاحظ أنّ الناس في بعض المجتمعات حتّى الشيعيّة، ينظرون إلى علاقة المتعة نظرةً أكثر خطورة من نظرتهم إلى الزنا. فقد يواجهون الزنا بنظرة عدم الرضا، بينما قد يواجهون المتعة بطريقة العنف. وهذا ما لاحظناه عندما أُثير الحديث في الإعلام، في بداية الحركة الإسلامية الملتزمة التي تسمى بالحركة الإسلامية الأصولية، في الوسط الشيعيّ، حيث أُثير في الإعلام الكثير من الحديث عن انتشار هذا الزواج وما إلى ذلك. ورأينا أنّ هناك كلاماً يعمل على مهاجمة هذه الحركة من خلال هذه الظاهرة التي لم تكن ظاهرةً، وإنّما كانت تمثّل حالاتٍ فرديةً. إنّنا نلاحظ أنّ هؤلاء الذين كانوا يهاجمون هذه الظاهرة في هذه الحركة الإسلامية، كانوا لا يمانعون، في الوقت نفسه، من وجود علاقات غير شرعية تحدث بفعل الحرية الجنسية وما إلى ذلك. إنّ الزواج المؤقّت، أو المتعة، يثير قضيّةً غير مألوفةٍ، ولذا يواجهه الناس كما يواجهون أيّ شيء غير مألوف، بالإضافة إلى اللعبة الإعلامية الاستهلاكية التي تريد أن تُسجّل نقاطاً سوداء حول هذا الموقع أو ذاك.

الحدود المرسومة للزواج المؤقت

الواقع أنّ هناك خلافاً فقهياً في دائرة الزواج بشكلٍ عام، وهو موجود عند السنّة والشيعة. ويتمثّل هذا الخلاف في الإجابة عن السؤال التالي: هل تحتاج البكر البالغة الرشيدة إلى إذن من وليّها وهو أبوها أو جدّها لأبيها لإثبات صحّة زواجها، أو أنّها، تماماً كالبالغ الرشيد، لا تحتاج إلى إذن وليّها في شرعية زواجها باعتبار أنّ البلوغ والرّشد يحوّلانها إنسانة كاملة في قرارها وإرادتها، بحيث تملك تقرير مصيرها في معاملاتها التجارية، وفي التزاماتها الشخصية.

هناك رأي، عند السنّة والشيعة، يقول باستقلال البالغة الرشيدة في أمر زواجها، تماماً كما هو البالغ الرشيد مستقلٌ في قراره، باعتبار أنّ البلوغ والرّشد يجعلان من الشخص شخصيةً قانونيةً شرعيةً مستقلةً كاملةً، لا يملك أحدٌ الولاية عليها من أيّ جهة كانت.

وهناك رأيٌ آخر يفرض على البالغة الرشيدة أن تستأذن أباها، أو جدّها لأبيها. وهناك رأي متطرّف يقول بأنّ لوليّها الحقّ في تزويجها حتّى من دون رضاها.

هذه الآراء فقهية في مسألة استقلال البالغة الرشيدة في زواجها، أيّاً كان هذا الزواج.

وعلى هذا الأساس هناك رأيان في الفقه الشيعيّ:

رأي يقول باستقلال البالغة الرشيدة في أمر الزواج، ورأي يقول بضرورة استئذان الأب، أو الجدّ للأب.

وعلى هذا الأساس يكون حكم الزواج المنقطع مثل حكم الدائم، فالذي يقول باستقلالها، في أمر نفسها، يجيز لها أن تتزوّج بعد دراسة هذا الأمر بشكلٍ عام سواء كانت بكراً أو ثيباً.

ومن قال بعدم استقلالها فإنّه يربط الأمر باستئذان الأب، أو الجدّ للأب. ومن الطبيعيّ أنّه من الصعب أن يأذن الأب أو الجدّ بهذا الأمر، الأمر الذي يجعل منه أمراً غير واقعيّ في حركة التشريع.

ومن خلال ما سبق، فإنّ المسألة لا تكوِّن مشكلة في هذا المجال، وهي تتوقّف على إرادة الفتاة عندما تدرس مصلحتها في هذا الزواج، كما تدرس مصلحتها في الزواج الدائم.

إنّنا نلاحظ، مثلاً، أنّ هناك فتيات يبلغن سنّاً متقدّمة، ويبقين من دون زواج، كالعوانس مثلاً اللواتي لا تتاح لهن فرصة الزواج الدائم، بسبب بعض الظروف المانعة من ذلك، فإنّهن، على أساس هذه التحفّظات الفقهية، يتمكنَّ من أن يتزوّجهن زواجاً مؤقتاً، عندما يرين أنّ مصلحتهن تقتضي الزواج المؤقّت.

النفقة في الزواج المؤقّت

كان الزواج المنقطع حلاًّ للمشاكل التي قد تُثقل الإنسان في الزواج الدائم. ومن المشاكل التي تثقل الإنسان في الزواج الدائم مشكلة الإنفاق وتحمّل مسؤولية البيت الزوجي المتمثّلة في تأسيس بيت وتأثيثه والقيام بمسؤولية الزوجة. وإذا كنّا نحمّل الإنسان، في الزواج المنقطع، مثل هذه المسؤولية، فإنّه يتحوّل، في ثقل مسؤولياته، إلى ما يشبه الزواج الدائم. وعند ذلك لا يستطيع الرجل، أن يحلّ المشكلة التي قد تتمثّل بعض مفرداتها في عدم تمكّنه من الإنفاق.

 

شبهة مردودة

يثير بعض الناس شبهة تتعلّق بفوضى في الأنساب قد يحدثها الزواج المؤقت، ونحن عندما نودّ مناقشتهم في هذه الناحية، فإنّنا نقول: إنّهم لم يدرسوا الزواج المؤقت: المتعة من الناحية الفقهية، وذلك لأنّه لا يجوز للمرأة التي ترتبط بهذا الزواج، في حالات الدخول، أن تتزوّج إنساناً آخر، إلاّ بعد مرور حيضتين عليها بعد انتهاء المدة من ناحية الحمل. لهذا فإنّ الزواج المؤقت لا يتسبَّب لا باختلاط المياه ولا بفوضى الأنساب.

فالعدّة أساسية في الزواج المنقطع للمرأة المدخول بها، تماماً كما هي أساسية في الزواج الدائم.

رأي الشهيد مطهري والسيّد محمد تقي الحكيم

إنّنا نتّفق مع الرأي القائل بتحويل عقد زواج المتعة إلى حالة طبيعية، تصبح الدعوة إليه كالزفاف في الزواج الدائم، لأنّنا كمسلمين نؤمن بهذا التشريع ونرى أنّه حلال تماماً كالزواج الدائم. ولا بدّ لنا من أن نطلقه في المجتمع، ليحقّق حلّ مشكلةٍ قائمة من جهة، ولكنّه يبقى عقدة في نفوس الناس من جهةٍ أخرى، لأنّ أيَّ تشريع لا يفسح له المجال ليتحوّل إلى ظاهرة اجتماعية، يمكن أن يعيش حالة تحريميّة في ذهنية المجتمع، كما نلاحظ الآن في الحملة المنظّمة التي يقوم بها الكثيرون من الناس في مسألة تعدُّد الزوجات، فإنّ هذه المسألة بدأت تتحوّل، في بعض المجتمعات إلى مشكلةٍ كبيرة، وإلى ما يشبه المحرّمات، بحيث أنّ الإنسان الذي يتزوّج مرّة ثانية، أو ثالثة، قد يواجه من المجتمع رفضاً قاسياً، تماماً كما لو كانت هذه العلاقة غير شرعية. لذلك فإنّ المسألة تتمثّل في ما يلي: هل هذا الزواج مشروع أو غير مشروع؟ فإذا كان مشروعاً، وكانت هناك مصالح للمجتمع من خلال مشروعيّته، فلا بدّ لنا من أن نحوّله إلى ظاهرة اجتماعية، بحيث يمكن تسجيله، من أجل ضمانة مسألة تسجيل الولد، والدعوة إلى حضور عقده، وما إلى ذلك من أمور..

تأثير الزواج المؤقّت على الحياة العائلية:

يثير زواج المتعة بعض المشاكل التي تتأثّر بها الحياة العائلية، لاسيّما عندما تعرف الزوجة بحدوثه، فتتأثّر أحاسيسها ومشاعرها بذلك. إنّنا نفهم مثل هذا التأثّر، ولكنّنا نريد أن ننطلق من نظرةٍ عامةٍ ترى أنّ أيَّ تشريع في الحياة لا يمكن أن يكون إيجابياً في جميع حالاته، كما أنّه لا يمكن أن يكون سلبياً في كلّ حالاته. فلكلّ تشريع إيجابياته وسلبياته، ويمكن أن يكون محرّماً إذا كانت سلبياته أكثر من إيجابياته، كما قال الله سبحانه وتعالى عن الخمر والميسر {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...} [البقرة : 219]. أمّا إذا كانت إيجابياته أكثر من سلبياته، فإنّ التشريع يمكن أن يتحرّك في خطّ التحليل، أو في خطّ الوجوب والإلزام.

لذلك نريد أن نعرض المسألة كما يلي: إنّ الإنسان الذي قد يعيش الحاجة إلى الزواج المنقطع، بطريقةٍ أو بأخرى، أو في ظرفٍ أو آخر، الإنسان هذا كيف يواجه حاجته؟ هل يواجهها بالكبت؟ إنّ هذا الكبت يمكن أن يتحوّل إلى عقدةٍ نفسيةٍ. وهل يواجهها بالبحث عن منفسٍ آخر غير شرعيّ؟ وهذا يترك تأثيره على الحياة الزوجية وعلى طهارة الإنسان؛ الأمر الذي قد يقوده إلى أن ينسى الحياة الزوجية من الأساس.

إنّنا نعتقد أنّ المشاكل التي يثيرها الزواج المنقطع، لاسيّما عند الأزواج المعتدلين في حركتهم الغرائزية، ليست بهذه الدرجة التي قد تنسف الحياة العائلية. ولكنّها قد تخلق مشاكل. وهذا أمر طبيعيّ. كما أنّ الزواج الدائم نفسه قد يخلق مشاكل.

وإضافة إلى ما سبق نقول: إنّنا نحتاج، في المجتمع غير الإسلاميّ، إلى أن نحصل على مناعة للمسلمين في دائرة هذا المجتمع الذي يعيش الانفلات في خطّ العلاقات غير الشرعية.

إنّنا نرى أنّ ممارسة هذا الزواج، في دائرة المجتمع غير الإسلاميّ، قد تكون ضرورةً وحاجةً أكثر منها في داخل المجتمع الإسلاميّ.

سلبيات الزواج المؤقّت، كيف نحلّها؟

لا بدّ من أن ندرس كلّ مشكلة بمفردها، ولا بدّ من أن ندرس إمكانات الإسلام الواقعية في الدخول إلى الواقع والتأثير فيه، وفق ظروفه، لنعرف ما إذا كنّا قادرين على حلّ المشكلات أم لا، لأنّ مسألة الحلّ قد لا تنطلق من خلال التشريع، وإنّما من خلال أنّ التشريع لا يملك إمكانات واقعية لفرض نفسه على الحياة الاجتماعية.

وهكذا نجد أنّ الإسلام الذي شرّع الزواج الدائم، أو غير الإسلام الذي شرّع ذلك، قد لا يحتاج إلى ممارسة الضغط لحلّ كثير من مشكلات الزواج الدائم، باعتبار أنّه لا يملك الإمكانات الواقعية السلطوية وغير السلطوية، وهي ما يمكنه من الحلّ.

لذلك لا بدّ من دراسة كلّ مشكلة بمفردها لنعرف طبيعتها وقدرة الإمكانات المتوافرة لحلّها.

الخلاف على الأولاد، كيف يحلّ في الزواج المؤقّت؟

في هذه الحالة، يمكن إجراء دعوى بين الرجل والمرأة، فتثبت المرأة أنّها تزوّجت هذا الرجل، بما عندها من معطيات. وإذا لم يكن عندها بيّنة فإنّ الرجل يحلف على نفي ذلك. وتتمّ المسألة بنفي دعوى الزوجة في الظاهر. وهذا لا يحدث فقط في الزواج المنقطع، بل قد يحدث أيضاً في الزواج الدائم الذي لم يسجّل في المحكمة.   

إنّنا نعرف أنّ شرعية الزواج في الإسلام لا تتوقّف على التسجيل في المحكمة. وهناك رأيان في مسألة عقد الزواج: رأي يتبنّاه المذهب السنّي ويرى أنّه لا بدّ من شاهدين على الزواج، ورأي يتبنّاه الفقه الشيعيّ، وهو لا يرى وجوب وجود شاهدين في شرعيّة الزواج، بل يرى وجوب وجود ذلك في شرعيّة الطلاق.

وعلى هذا الأساس، فإذا حصل الزواج الدائم من دون شاهدين، أو بوجود شاهدين غير موثوقين في موازين القضاء، فإنّه من الطبيعي أن تنشأ دعوى بين الزوج والزوجة، للإجابة عن الأسئلة المطروحة، مثل: هل حدث الزواج أم لم يحدث؟ هل هذا الولد نتيجة هذا الزواج أو ليس نتيجة له؟

هذه أمور لها مفرداتها التشريعية في الفقه الإسلاميّ.

ماذا لو أدّى الزواج المؤقت إلى سلبيات أكثر من الإيجابيات؟

إنّ هذا الافتراض غير واقعيّ، لأنّ مسألة تفوّق السلبيات على الإيجابيات أمر غير عمليّ وغير واقعيّ. قد يكون هناك نوعٌ من إساءة التطبيق في هذا الزواج، كما قد يكون هناك نوع من إساءة التطبيق في الزواج الدائم. وعلينا أن نفكّر في أن نتدخّل بسلامة التطبيق بدل أن ننسف التشريع من أساسه، لندخل في مشاكل أكبر من ذلك في هذه الحالة.

كانت هناك بعض الإشكالات التي تدخلنا لحلّها شرعياً وقد استطعنا أن نحلّها من ناحية شرعية.

حذر ووعي

إنّنا نريد أن نقول، لكلّ أجيالنا: إنّ المسألة الجنسية ليست مجرّد غريزة يلبّيها الإنسان، وإنّما هي مسألة تتّصل بالإنسان، أي مسألة تتّصل بالمرأة والرجل، لذلك لا بدّ لمن يريد أن يُقدم على هذا الزواج، أو حتّى في الزواج الدائم، من أن يشعر باحترام إنسانية الرجل والمرأة في هذا المجال، بحيث لا يحاول الإساءة إلى إنسانية هذا الإنسان، لاسيّما بالنسبة للمرأة، باعتبارها الطرف الأضعف في المجتمع بشكل عام، ولا بدّ لنا من أن نحترمها، ونحترم كلّ تطلُّعاتها وكلّ إنسانيّاتها في هذا المجال.

 

عقد التحريم

وفي هذا المجال، هناك عقدٌ آخر ليست المسألة فيه مسألة متعة أو زواج، وإنّما هو رأي فقهيّ موجود في الدائرة الفقهية الواسعة يرى أنّ الحاجة قد تستدعي، في بعض الحالات، أن تكون إنسانةٌ ما محرماً لإنسانٍ ما. ومن الأمثلة على ذلك، عندما تريد امرأةٌ ما أن تسافر إلى الحج مع محرم من محارمها، ولا يتيسّر المحرم الطبيعيّ في هذا المجال. فهناك رأيٌ يقول بجواز عقد الزواج على الطفلة غير البالغة، بإذن وليّها، أو على التي تجاوزت التسع وصارت في سنّ البلوغ، يجوز أن يعقد عليها عقداً، إمّا دائمٌ ثم تطلّق، أو منقطعٌ لمدة معيّنة ثم توهب المدّة، لتكون أمّها محرماً على هذا الإنسان الذي عقدت عليه باعتبارها أم زوجته.. هناك فقهاء يَرَوْنَ هذا العقد صحيحاً، إذا توفّر له العقد والإرادة الجدّية، وهناك مَن يناقش في تحقّق العقد والإرادة الجدّية، ولذا يقول إنّه إذا كان ممكناً من الناحية النظرية فهو غير واقعيّ من الناحية التطبيقيّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الزواج المدني

يثير الحديث عن الزواج المدني ثلاث نقاط، هي:

النقطة الأولى: تتمثّل في الجانب الشكلي للزواج، وهو الجانب العقدي الذي يمكن أن يثير الإنسان إزاءه سؤالاً: هل يُشترط في صحّة الزواج أن تكون هناك صيغة محدّدة، بحيث لا بدّ للزوجين من أن يتكلّما بها ليكون الزواج شرعياً، أو أنّ ذلك غير مشترط؟ من أجل الإجابة، على ذلك، فإنّنا نجد الكثير من فقهاء المسلمين: السنّة والشيعة، يشترطون في الزواج أن يكون بصيغة: زوّجتك وما رادفها من الكلمات، سواء كان الزواج بين الأصيلين فتقول المرأة: زوّجتك نفسي بمهر، وقدره كذا... ويقول الزوج قبلت التزويج، أو بين الوكيلين، كأن يقول أحدهما للآخر: زوّجتك موكّلتي فلانة بمهر، وقدره كذا.. أو زوّجت موكّلك من موكّلتي بمهر وقدره كذا. ويأتي الجواب بالقبول من الطرف الأصيل أو الوكيل. كما أنّنا نجد حديثاً يشترط أن تأتيَ الصيغة بلفظ الماضي، وهناك من لا يشترط ذلك. ويتفرّع هذا الشرط إلى نقاط أخرى منها: هل يجوز الإتيان بالصيغة بلغة غير العربية أو لا يجوز ذلك إلاّ بالعربية؟

هناك حديث، في الأبحاث الفقهية، في موضوع العقد، يتحرّك حول هذه النقاط.

وربّما يلاحظ بعض الفقهاء أنّ في الزواج شيئاً من شائبة العبادة، لا بمعنى أنّه عبادة، بل باعتبار أنّ العبادات توفيقية في كلّ كلماتها وأفعالها، فليس لنا أن نضيف إليها شيئاً بل لا بدّ من أن نتبع فيها ما ورد من قبل صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام. وكذلك لا بدّ من أن نتبع ما ورد في الزواج، حيث وردت في القرآن الكريم، كلمتا الزواج والنكاح، فلا بدّ من أن نقتصر عليهما. وهناك تنشأ مشكلة الزواج المدنيّ، حيث إِنّه لا يتقيّد بصيغة خاصة في إجراء عقد الزواج، بل الغالب فيه أن يسأل موثّق العقود كِلا الزوجين عن قبوله بالآخر حسب الشروط الموضوعة بينهما، فإذا أجابا بالإيجاب، طلب منهما التوقيع على وثيقة عقد الزواج، من دون أيّة صيغة معيّنة.

ومن هنا، يجد بعض الفقهاء هذا الزواج زواجاً غير شرعي، لخلوه من الصيغة الخاصة المعتبرة. ولكنّنا، بحسب رأينا الفقهيّ، نرى أنّ الزواج يمكن إنشاؤه بكلّ لفظ يدلّ على الالتزام العقديّ بالمضمون الذي يتّفق عليه الطرفان، بحيث يعتبر حالةً إراديةً إلزاميةً لهما، تماماً كأيّ عقد من العقود التي يعقدانها في معاملات أخرى، فلا يشترط فيه أيّ لفظ معيّن، بل يكتفي فيه بكلّ ما يدلّ عليه، حتّى إنّ الزواج يمكن أن ينشأ بالكتابة، بشرط أن تكون الكتابة دالّة بوضوح على العقد الإرادي للتعاقد من دون أيّ لبس أو اشتباه. وعلى هذا فنحن لا نرى مشكلةً في الزواج المدنيّ من هذه الناحية، لأنّنا نعرف أنّه يوثّق عقد الزواج بين الطرفين، بالطريقة التي يتحدّثان بها بشكلٍ واضح، بالتزامهما بالعلاقة الزوجية كعقدٍ ملزمٍ لهما.

النقطة الثانية: التي لا بدّ أن تثار في هذا الموضوع تتعلّق بشخصية الزوجة، وذلك أنّ الزواج المدنيّ لا يشترط في الزوجين إلاّ أن يكونا بالغين، عاقلين راشدين، بحسب شروط البلوغ والرشد المتعارفة في العالم. ولا يشترط شيئاً آخر في هذا المجال، بينما يؤكّد الإسلام في هذا المجال شروطاً معيّنة، ففي عقد المسلم، لا يجوز للمسلم أن يتزوّج الملحدة التي لا تؤمن بدين، كما أنّه لا يجوز له أن يتزوّج باللّواتي يتدينَّ بدين غير الأديان السماوية المعروفة كالبوذية مثلاً أو الهندوسية، وما إلى ذلك من الأديان التي قد تؤمن بالأدلة، ولكنّها لا تنطلق من رسالة سماوية يُعتدّ بها الإسلام.

لذلك، فإنّ أيّ عقد بين مسلم وأيّ امرأةٍ ملحدةٍ، أو غير متديِّنة بالأديان السماوية الكتابية، يعتبر عقداً باطلاً، سواء أُنشئ بالصيغة المعتبرة لدى جمهور الفقهاء في الفقه الإسلاميّ، أم بالصيغة المتعارف عليها في الزواج المدنيّ.

من هنا، لا يجوز في الإسلام أن تتزوّج المسلمة من شخصٍ غير مسلم حتّى ولو كان كتابياً، بينما يجوز للمسلم، في رأي جمهور الفقهاء، مع تحفّظ بعضهم، أن يتزوّج من الكتابية، سواء كانت يهوديةً أم نصرانيةً، مع بقائها على دينها، أو مجوسيةً مع تحفُّظ فقهيّ حول ما إذا كان المجوس أهل كتاب أم لا. فعندما يُعقد عقدٌ بين مسلمة وبين كتابيّ، أو بين غير مسلم، من غير أهل الكتاب، يكون العقدُ باطلاً، وتكون العلاقة غير شرعيةٍ، كما تكون علاقة الزوج المسلم من غير الكتابية من أتباع الديانات الأخرى أو من الملحدات، غير شرعيةٍ، بمعنى أن تكون العلاقة علاقة زنا، من وجهة النظر الدينية التي يلتزمها أحد طرفي العقد سواء كان مسلماً أم مسلمة، بمعنى أنّ الأولاد الذين يأتون من هذا الزواج غير شرعيين بالمعنى الإسلاميّ.

ولعلّ هذه هي المشكلة التي يدور الجدل فيها حول الزواج المدنيّ بين الذين يشجّعونه والرافضين له، باعتبار أنّه يمثّل الحلّ لمشاكل كثيرة يعانيها الناس في لبنان، عندما يراد للزواج المختلط أن يتحرّك في الساحة، وأن يأخذ قانونيّته في المحاكم اللبنانية، وفي دوائر الأحوال الشخصية في لبنان.

إنّ الإسلام، من وجهة النظر التي نتبنّاها في صيغة عقد الزواج، يعتبر الزواج بين المسلم والمسلمة أو بين المسلم والكتابية، زواجاً شرعياً حتّى لو وُثِّق بطريقة الزواج المدنيّ.

ويعتبر الزواج بين المسلمة وغير المسلم، أو بين المسلم وغير الكتابية زواجاً غير شرعيّ، ولو كان على الطريقة الإسلامية الفقهية، طبعاً مع بقاء الطرف الثاني على دينه الذي يمنع توثيق عقد الزواج بينه وبين الآخر.

النقطة الثالثة: وتتمثّل في المسألة التالية، وهي أنّ عقد الزواج، في الإسلام، لا يُلغى ولا يفسخ إلاّ بطريقتين هما:

الطريقة الأولى هي الطلاق باعتباره وسيلةً شرعيةً لإنهاء عقد الزواج، وقد جعله الشرع الإسلاميّ بيد الرجل، باعتبار أنّه مَن يتحمّل مسؤولية الإنفاق على البيت الزوجيّ، ولاعتبارات أخرى. وللرجل الحقّ في أن يجعل العصمة بيد المرأة في ظلّ عقد الزواج بطريقةٍ أو بأخرى. حسب اختلاف الاجتهاد الفقهيّ في صيغة إعطاء العصمة للمرأة، الأمر الذي يجعل لها الحقّ في أن تطلِّق نفسها بعد ذلك، ولا يجوز للزوج أن يتراجع عن هذا الشرط الذي أعطاها إيّاه في عقد الزواج.

الطريقة الثانية التي يُلغى فيها عقد الزواج هي الفسخ، إذا كانت هناك عيوب معيّنة لدى الزوجين، أو لدى أحد الزوجين، كالعنن والجنون وغير ذلك من عيوب الزوج التي توجب الفسخ. أو كان هناك تدليسٌ من أحد الزوجين على الآخر في الصفات الخفيّة أو غير المعلومة للآخرين التي بُني العقد عليها.

وقد يكون للحاكم الشرعي الحقّ في إجراء الطلاق وفسخ العقد من دون إرادة الزوج، إذا امتنع الزوج عن الطلاق والإنفاق، وأراد أن يجعل المرأة معلّقة: لا مطلقة ولا مزوّجة. ويختلف الفقهاء في الحالات التي يمكن فيها للحاكم الشرعيّ أن يتدخّل لإجراء الطلاق خلافاً لإرادة الزوج، باعتبار أنّ الحاكم الشرعي يمثّل الولاية، حيث تدعو الحاجة في بعض الحالات.

أمّا، في الزواج المدني، وهذه نقطة سلبية إسلامياً، فإنّ فسخ عقد الزواج يخضع للقوانين المدنية المتّبعة لدى هذه الدولة أو تلك، تبعاً للقوانين التي تفرض إلغاء عقد الزواج هنا أو هناك، ممّا قد يرفضه الشرع الإسلاميّ، حتى إنّ إجراءات الطلاق في الشرع الإسلاميّ تخضع لشروط معينة، فنجد، مثلاً، أنّهم، في مذهب الإمامية الاثني عشرية، يشترطون في إجراء الطلاق أن تكون المرأة المدخول بها، في طهر لم يواقعها فيه، وأن يكون ذلك أمام شاهدين عدلين، ونرى أنّهم لا يجيزون الطلاق بالثلاث، أو بيمين الطلاق، بينما يجد بعض علماء المسلمين، من أهل السنّة، أنّ يمين الطلاق تحدث الطلاق، وأنّ الطلاق من دون شاهدين عدلين يحقّق الانفصال، وهكذا.. فقد يجري الطلاق في المحكمة بعيداً عن الشروط الشرعية لدى السنّة أو الشيعة، الأمر الذي يعني أنّ العلاقة الزوجية تبقى على حالها مع صدور الحكم بالانفصال مِنْ قِبَل السلطات المدنية.

لذلك، فإنّ الزواج المدنيّ يختلف: شكلاً ومضموناً عن الزواج الشرعيّ الإسلاميّ، الأمر الذي يجعلنا لا نستطيع إقرار الزواج المدنيّ كهيكلية عقدية تختزن الكثير من التشريعات التي تختلف مع التشريعات الإسلامية، بحيث إِنّ الإسلام قد يرى زواجاً قانونياً في الجانب المدنيّ زواجاً غير شرعيّ في الفقه الإسلاميّ، كما أنّه قد يرى انفصالاً قانونياً في الجانب المدنيّ غير شرعيّ في الجانب الفقهيّ الإسلاميّ.

لماذا التمايز في اختلاف الدين؟

إنّ الإسلام يلحظ، في هذا الجانب، حماية أتباعه من الضغوط التي قد تقودهم إلى الانحراف. وفي صدد هذه المسألة نتوقّف عند نقطتين:

النقطة الأولى هي أنّ الزوج، عادةً، يملك التأثير على واقع البيت من الناحيتين الدينية والفكرية، بحيث يُخضع البيت لانتمائه، ولو من الناحية العملية.

ولعلّ هذا من  الأمور الواضحة على مستوى الواقع، وإذا لم يكن واقعاً فعلاً في بعض الحالات فهو واضح على مستوى النظرية، فالرجل هو العنصر المؤثّر في البيت في أكثر المناطق التي يعيش فيها الناس. وهناك كلماتٌ متنوعةٌ تتحدّث عن أنّ المرأة تأخذ من دين زوجها. فقد تكون الملاحظة الإسلامية منطلقةً من أنّ الزوج، عندما يكون غير مسلم، قد يضغط على الزوجة  المسلمة، فيبعدها عن الإسلام من الناحيتين الفكرية والعملية، ليس من خلال القناعة، ولكن من خلال ما يملكه من ضغوطٍ عاطفيةٍ وماديةٍ، وما إلى ذلك.

ربّما تكون هذه الملاحظة واردةً في هذا الحساب، ونحن نعرف، في واقعنا السياسي، أنّ كثيراً من الأزواج يضغطون على زوجاتهم في انتمائهم السياسي، بحيث قد يضطهد الزوج زوجته إذا كان انتماؤها السياسي مختلفاً عن انتمائه، سواء كان ذلك على مستوى أشخاص يؤيّدهم أو على مستوى أحزاب ينتمي إليها، أو ما إلى ذلك.

النقطة الثانية التي نستوحيها من هذه المسألة هي أنّ هناك فرقاً بين الإسلام، في انفتاحه الإيمانيّ على كلّ الرسالات وبين النصرانية واليهودية، فالنصرانية لا تعترف بالإسلام كدينٍ منزّل من السماء، ولا تحترم النبيّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كرسولٍ من رسل الله. وإنّ أقصى ما قد يبلغه المفكّرون، من النصارى، في شخصية النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عندما يقرأون القرآن، أو عندما يتتبّعون سيرته، أنّهم يقدّرونه كعبقريّ، أو كمصلح، أو كأديب، أو كثائر، أو كأيّ شيء من هذا القبيل؛ ولكنّهم لا يحترمونه كرسول.. وعندما تنزل المسألة إلى الحالة الشعبية، وتتحرّك عناصر التخلّف والعصبية، قد نجد الكثيرين من النصارى لا يجدون حرجاً في التحدّث عن النبيّ بطريقة مهينة، أو بطريقة غير محترمة أو بطريقة عدوانية. 

وهكذا نجد أنّ اليهود لا يحترمون السيّد المسيح (عليه السلام) كرسول من رسل الله، لأنّهم يعتبرون أنّ عيسى (عليه السلام) ليس المسيح الموعود في ما تتحدّث به كتبهم عن المسيح. كما أنّهم لا يحترمون النبيّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كرسول من رسل الله. ولذا فإنّ اليهودي، بيهوديّته الدينية، بعيداً عن المسألة السياسية، لا يجد مانعاً من التحدّث عن النبيّ عيسى (عليه السلام) بطريقة سلبية، أو عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالطريقة نفسها.

بينما نجد أنّ المسلم يؤمن بالرسالات كلّها، ويؤمن بالرسل كلّهم، فشعاره الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر. وطريقة المسلم في مخاطبة أهل الكتاب هي: قل آمَنَّا بما أُنزل إلينا، وأُنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، لا نفرِّق بين أحدٍ من رسله.

ولذلك، فالمسلم لا يمكن أن يتجرّأ على شخصية موسى (عليه السلام)، ولا على شخصية عيسى (عليه السلام)، أو على مريم (عليها السلام)، لأنّه يعتبر موسى وعيسى رسولين من رسل الله الذين يؤمن بهم، تماماً كما لو كان ينتمي إليهم. وهكذا نجد القرآن يعظّم السيّدة مريم (عليها السلام) تعظيماً كبيراً، ربّما لا نجد شيئاً مماثلاً له، في هذا الشكل، في الانجيل.

كما أنّ القرآن يقدّس الإنجيل والتوراة. وإذا كان يناقش النصارى واليهود، في بعض المفاهيم، فإنّه يناقش على أساس أنّه يفترض وجود تحريف أحدثه بعض علماء النصارى واليهود للتوراة والإنجيل، لا على أساس كرهه للتوراة والإنجيل.

لذلك، فإنّ الزوج المسلم لا يمكن أن يُسيء إلى قناعات الزوجة المسيحية ومقدّساتها في الرموز الأساسية الدينية: النبيّ والكتاب، وإن كان يختلف معها في العبادة، أو في الأشياء التفصيلية التي لا تمثّل حالة قداسة بالمعنى الديني للقداسة، الأمر الذي يجعل إمكانية التعايش المشترك بين الزوج المسلم والزوجة الكتابية، لأنّه مبنيّ على الاحترام مِنْ قِبَل الزوج للزوجة بحيث يتمّ بشكلٍ طبيعيّ جداً لا يجامل فيه الزوج الزوجة، بل ينسجم، عندما يحترم رموز مقدّساتها الدينية، بكلّ عفويةٍ، مع التزامه الدينيّ.

أمّا في حالة زواج المسلمة من الكتابيّ، فإنّ الزوج النصرانيّ لا يستطيع أن ينطلق من حالةٍ عفويةٍ بوصفه متديِّناً، في احترام الرمز الدينيّ للزوجة المسلمة. وهكذا بالنسبة لليهوديّ فهو لا يستطيع أن ينطلق من عفويّته الدينية بصفته يهودياً ملتزماً، في احترام الرموز الدينية لزوجته المسلمة. وهكذا إذا أراد الزوج غير المسلم أن يحترم مقدّسات زوجته المسلمة فإنّه قد يلجأ إلى المجاملة أو إلى أن يعيش غير ذاته؛ الأمر الذي يجعل الحياة الزوجية متكلّفةً.

قد تكون هاتان الملاحظتان أساسيّتان في مسألة إقرار الإسلام لزواج المسلم من الكتابية، مع عدم إقرار زواج المسلمة من كتابيّ. ونحن لا نريد أن نعتبر أنّ هاتين الملاحظتين أساسيّتان في التشريع، أي بأنّنا نلتزم التشريع على أساسهما لأنّ التزامنا به منطلقٌ على أساس ما وردنا في الكتاب والسنّة في الجانب الديني الذي لا نجد مجالاً لمناقشته في طبيعته الشرعية، ولكنّنا نحاول أن نستوحي التشريع في هذا التحليل الذي نتحدّث فيه عن هذه المسألة.

التوفيق في النتائج

عندما يتمّ عقد الزواج بين مسلم ومسلمة بطريقة الزواج المدنيّ، فإنّه يعتبر حسب المسألة التي تحدّثنا عنها في رأينا الفقهيّ، في الشكل العقدي للزواج، زواجاً شرعياً من الناحية الشكلية. ومن الطبيعيّ أن يخضع الزوجان للقواعد الإسلامية، في مسألة حركة هذا الزواج، وفي مسألة إنهائه.

وعندما يفسخ الزوجان العقد، بغير الطريقة الإسلامية، فإنّهما لا يكونان منسجمين شرعياً مع الشريعة الإسلامية في هذا المجال. ويكون حالهما حال الزوجين بالصيغة الشرعية التي يتبنّاها أكثر الفقهاء، عندما ينحرفان عن الأحكام الشرعية في حركة زواجهما.

وهناك نقطة أحبّ أن أُثيرها في إطار ما يطرحه هذا السؤال: هل يعتبر الزواج المدنيّ حالة تعاقدية ينطلق فيها الزوجان من شروط معينة في علاقتهما: أحدهما بالآخر؟

في الإجابة عن هذا السؤال نقول: من الملاحظ أنّ الإسلام لا يمنع أن يشترط الزوج ما يشاء في طريقة تعامله مع الزوجة، وأن تشترط الزوجة ما تشاء في طريقة  تعاملها مع الزوج. وقد أكّد الإسلام على هذه النقطة في الحديث الذي يرويه جميع المسلمين، وهو: "المسلمون عند شروطهم أو المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً". يعني إلاّ الشروط المخالفة للقانون. وهذا أمر جارٍ حتى في القوانين المدنية. لذلك فإنّنا عندما تحدّثنا عن شرعية الزواج المدنيّ الذي يعقده المسلمان، فإنّما تحدّثنا عن جانب الشكل في الشرعية، ولكن جانب المضمون لا بدّ من أن يخضع للشريعة الإسلامية. فإذا خضع للقانون المدنيّ، وكانت أحكام القانون المدنيّ مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية فإنّ هذه الممارسة تكون غير إسلامية، بمعنى أنّه لو انفصل الزوجان، بمقتضى قانون الانفصال في الزواج المدني، ولم يكن هذا القانون ملائماً للقانون الإسلاميّ من الطلاق، فإنّهما يبقيان في نظر الشرع زوجان، لا يجوز للزوجة أن تتزوّج رجلاً آخر إلاّ إذا طلّقها الزوج طلاقاً شرعياً.

وهكذا إذا أراد الزوج، في الزواج المدنيّ، أن يشارك زوجته في حالة، بحيث تكون شريكة له في ماله في حياته وبعد وفاته عند الإرث فإنّه لا بدّ من أن يتبع الوسائل الشرعية للشركة العادية التي تجعل الزوجة شريكة له، كأن يهبها نصف ماله في حياته أو أن يبيعها ذلك، ثم يهبها الثمن، وما إلى ذلك من أمور.

إنّ الزوجين، في هذه الحالة، لا يتصرّفان كزوجين، وإنّما يتصرّفان كشخصيّتين مستقلتين يمكن أن يعقدا عقد شراكةٍ مستقلةٍ. ولا بدّ من أن يكون هذا العقد خاضعاً لشروط عقد الشركة في الإسلام.

أمّا بالنسبة إلى ما بعد الموت فإنّه من الممكن للزوج أن يوصيَ لزوجته، في بعض المذاهب الإسلامية التي تجيز الوصية لغير الوارث، خلافاً لبعض المذاهب الإسلامية الأخرى التي لا تجيز الوصية للوارث.

في مثل هذه الحالة، هناك شرطٌ عند من يُجيز الوصية للوارث يقول: إنّ الوصية تنفُذ بالثلث، ثلث مال الموصي، أمّا في الثلثين الباقيين فيتوقّف على رضى بقية الورثة، فإذا وافقوا على هذه الوصية لهذا الإنسان (الوارث أو غير الوارث) بأكثر من الثلث نفذت الوصية، وإذا لم يوافقوا نفذت الوصية في الثلث، وعاد الثلثان إلى الورثة ليقسم بينهم.

الزواج المدنيّ حلّ سياسيّ

أعتقد أنّ مسألة الطافية لم تنطلق من سلبية عدم حصول الزواج المختلط، فنحن نلاحظ أنّ هناك زواجاً مختلطاً في لبنان، سواء على مستوى زواج المسلمين من نصرانيات باقيات على دينهنّ، أو على مستوى زواج مسيحيين من مسلمات، مع انتقال الأزواج إلى الدين الإسلاميّ بالشكل، ولكنّنا لم نلاحظ أنّ مثل هذه الزيجات حلّت المشكلة حتّى في دوائرها الخاصة.

ونحن نلاحظ، أيضاً، أنّ العصبيّات السياسية، عندما تحدث، فإنّ المشكلة النفسية التي  تعيش في أيّ موقع طائفيّ تفرض نفسها حتّى على البيت الزوجيّ، بحيث ينقسم هذا البيت الزوجيّ، في مشاعره، وفي حساسيّته، إلى حالةٍ ضاغطةٍ على هذا التنوّع في داخله. بحيث قد تشعر الأم المسيحية باضطهاد أولادها لها إذا كانوا مسلمين، أو يشعر الأب الذي كان مسيحياً ثمّ أسلم بحالة الاضطهاد، من خلال قراباته أو بيئته، وما إلى ذلك. وهذا يعني أنّ مسألة الزواج لا يمكن أن تلغيَ المسألة الطائفية، كما أنّنا نلاحظ أنّ التزاوج بين القوميات المختلفة والعنصريات المختلفة لم يستطع أن يبرّد حرارة  الخلافات القائمة بين تلك القوميّات.

إنّ المسألة الطائفية يمكن أن تُحلَّ من خلال، إلغاء النظام الطائفيّ، وإنشاء نظام بديل يشعر فيه المسلمون والمسيحيون بأنّهم سواسيةٌ في الحقوق والواجبات في الدائرة السياسية العامّة. ويمكن أن تبقى للمسيحي خصوصيّته وتبقى للمسلم خصوصيّته في هذا المجال، من دون أن تثير هذه الخصوصية، هنا أو هناك ـــ لا سيّما إذا كانت هذه الخصوصية في دائرة الأحوال الشخصية ـــ أيّة مشكلة حقيقية في الجانب العام.

نحن لا نريد أن نقول: إنّ الزواج المختلط لا يحقّق بعض نتائج إيجابية محدودة، ولكنّنا عندما نتحدّث عن التشريع سواء كان في مضمونه السلبيّ أم الإيجابيّ، فإنّنا نقول: إنّ كلّ تشريع لا بدّ من أن يختزن بعض الإيجابيات أمام السلبيات التي يثيرها، أو يختزن بعض السلبيات أمام الإيجابيات التي يثيرها، لأنّ التشريع ليس حالة مطلقة، بل إنّ كلّ تشريع قد يختزن سلبية داخل إيجابياته وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة : 219]: حيث يؤكّد القرآن على أنّ أيّ تشريع تحريميّ قد يختزن بعض المنافع في مضمونه، أو أنّ أيّ تشريع إلزاميّ قد يختزن بعض المضارّ في مضمونه، ولكن حركة التشريع تنطلق من خلال الجانب الأكبر، يعني من جانب الأكثر في المصلحة.

 

 

 

 

الطَّلاق

عندما ندرس العلاقة الزوجية، في التشريع الإسلاميّ، نرى أنّ الإسلام حمَّل الرجل مسؤوليتها، من الناحية المادّية، باعتبار أنّه لا يمكن أن تحمل المرأة هذه المسؤولية بمفردها، على أساس أنّ الطبيعة الخاصة للمرأة المتمثّلة في الحمل والولادة والإرضاع والأمومة، بشكلٍ عام، تمنعها من أن تتحمّل أعباء المسؤوليات الزوجية، بالإضافة إلى ما تفرضه عليها العلاقة الزوجية من واجبات تثقل جسدها وتثقل حياتها. فالأمومة تثقل جسد المرأة بالإضافة إلى ما تستهلكه من وقتها وطاقاتها، وما إلى ذلك، بينما الأبوّة لا تثقل الرجل في جسده، أو في وقته.

ومن هنا، يكون من غير الطبيعيّ أن تتحمّل المرأة مسؤولية الحياة الزوجية، كما أنّه من غير الواقعيّ والعمليّ أيضاً، أن تتحمّل المرأة قسماً من مصاريف الحياة الزوجية على سبيل المشاركة، لأنّه ليست كلّ امرأة قادرة على العمل بالطريقة التي يقدر عليها الرجل. ولذلك حُمّل الرجل، بشكل مستقل، مسؤولية الإنفاق على البيت الزوجيّ: على نفسه وزوجته وأولاده. ومن الطبيعيّ أنّ من يتحمّل مسؤولية الحياة الزوجية، بشكل مطلق، هو الذي ينبغي أن يتحمّل قضية إنهائها لأنّه هو الذي يتضرّر من إنهائها ومن الطبيعيّ أنّ المرأة، عندما لا تكون مسؤولية عن الحياة الزوجية، حتّى بنسبة واحد بالمئة، لا تخسر شيئاً عند إنهاء الحياة الزوجية. نقول هذا عندما نتحدّث بعقل بارد بعيداً عن الظروف الخاصة الطارئة التي قد تحدث للمرأة أو للرجل، لأنّ التشريع إنّما يُشرّع للخطّ العام. وعلى هذا الأساس كان أمر الطلاق بيد الرجل.

وهناك مسألة أخرى تتحرّك في الخطّ العام، ولها استثناءات، وهي أنّ الجانب العاطفيّ في المرأة، ربّما يدفعها إلى أن تنطلق في موضوع الطلاق بشكلٍ سريع، ارتجاليّ عاطفيّ، بينما يفكّر الرجل كثيراً قبل أن يطلّق، باعتبار أنّ ذلك سوف يحمّله مسؤوليات كثيرة، وسوف يفقده فرصاً كثيرة في تنظيم حياته العامّة والخاصة.

وقد يكون هناك بعض الرجال الذين لا يتحمَّلون مسؤولية قرارهم ومسؤولية إعطائهم حقّ الطلاق، كما أنّه يوجد بعض النساء ممّن يملكن القرار الهادئ في تفكيرهنّ الرصين. وقد يتصرّفن تصرّفاً جيداً في هذا المجال. لكن الخطّ العام هو هذا، والتشريع إنّما يؤكّد على الخطّ العام. ولعلّنا نستوحي ذلك من قوله عزّ وجلّ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء : 34] من الخصائص الذاتية {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.

والقوامة، هنا، إنّما هي الإشراف على البيت الزوجيّ والإدارة، وفي ما يتّصل بحقّ الطلاق، وليست القوامة في مسائل أخرى، لأنّ الله لم يسلّط الرجل على المرأة في خارج نطاق الحياة الزوجية، في الدوائر التي تفرضها هذه الحياة.

الطلاق: أبغضُ الحلال

هذه المسألة لم تحدَّد في الشرع الإسلاميّ بحدود إلزامية، ولكنّها حُدِّدت بحدود أخلاقيّة. ونحن، عندما نقرأ الحديث المأثور: "أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق"، نرى أنّ هذا الحديث يوحي بأنّه لا بدّ للإنسان الذي يريد أن يمارس هذا الحقّ، من أن يمارسه وهو منفتح على الله، وهو يرغب في محبّة الله له. فإذا كان الله قد أحلّ الطلاق لمصلحة في الواقع الإنساني، فإنّ على الإنسان ألاَّ يأخذ الأمر بشكل مزاجيّ وعفويّ، لأنّه وإنْ كان حلالاً، فإنّه الحلال الذي يبغضه الله، بمعنى أنّه مكروهٌ، بحيث يصل في كراهته إلى أن يقترب من المحرّم. ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان المؤمن الذي يعيش الرغبة في رضا الله ومحبّته والحصول على القرب منه، لا يبادر إلى الطلاق نتيجة نزوةٍ، أو نتيجة حالةٍ مزاجيةٍ طارئة، بل لا بدّ من أن يعمل على دراسة الأمر بشكلٍ دقيق عميق وواسع، بحيث لا يلجأ إلى الطلاق إلاّ بعد استنفاد كافّة الوسائل التي تحفظ للعلاقة الزوجية صفاءها وديمومتها وقوّتها، تماماً كما هي العملية الجراحية التي لا يلجأ إليها الإنسان إلا بعد وصول  المشكلة أو المرض إلى حدّ الخطر. ومن الطبيعيّ أنّ أيّ قانونٍ لا يستطيع أن يحميَ نفسه إلاّ من خلال الشخصية التي تطبقه، لأنّنا نلاحظ أنّه حتّى لو فرضنا أنّ الإسلام قيّد هذا الطلاق بقيود معينة، فإنّ الرجال قد يحتالون على هذه القيود ليجدوا لأنفسهم الرخصة في هذا المجال.

وإنّنا نلاحظ، مثلاً، أنّ الله لم يُجز للرجل أن يأخذ المهر الذي أعطاه لزوجته من دون حقّ، ولم يجز له أن يضغط عليها في ذلك المجال، ولكن بعض الأزواج قد يتصرّف مع زوجته تصرّفاً أخلاقياً شاذّاً، أو تصرّفاً منحرفاً من الناحية الشرعية، نتيجة نزواته ومزاجه، بحيث يجعل المرأة تتّجه إليه لتبذل كلّ ما عندها كي تتخلّص منه؛ وهو بهذا، يحتال على المنع الشرعيّ فيتحرّك باتجاه آخرَ يجعل المرأة تبذل ما عندها برضاها.

انطلاقاً من هذا الواقع، نقول: إنّ كثيراً من الأمور، لاسيّما ما يتّصل بالعلاقات الإنسانية، لا يمكن أن نضع له ضوابط هندسية تحرّكه نتيجة حسابات وتسكنه نتيجة حسابات أخرى، بل لا بدّ من أن تنطلق الشخصية الإسلامية الأخلاقية، التي تمارس ما أباحه الله، كما تمارس ما أوجبه الله، بالطريقة التي تحيطها الأجواء الأخلاقية التي تقرّب الإنسان إلى الله.

حقّ الحاكم الشرعيّ في إجراء الطلاق

عندما يترك الرجل زوجته من دون تحمّل مسؤوليتها في الإنفاق، بجميع ما يقتضيه الإنفاق والمعاشرة بالمعروف، فإنّ للحاكم الشرعيّ أن يطلّقها عندما ترفع أمرها إليه، وذلك بعد أن يُخيّر الزوج بين المعاشرة بالمعروف والطلاق. فإذا رفض الاثنين، طلّقها الحاكم الشرعيّ. وهذا ما نستوحيه من كتاب الله سبحانه وتعالى، عندما يضع الحياة الزوجية بين خطّين، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. فإذا لم يُمسك الرجل المرأة، بأن يبقيها في دائرة العلاقة الزوجية بالمعروف، فإنّه لا بدّ من أن يسرّحها بإحسان. وهذا يعني أنّه لا بدّ من أن يطلِّقها لتأخذ حرّيتها، بعيداً عن ضغوطه، أمّا إذا فرضنا أنّه امتنع عن الإمساك بمعروف وعن التسريح بإحسان فإنّ من حقّ الحاكم الشرعي أن يطلِّقها.

 

حالات يكون الطلاق فيها بيد المرأة

من الممكن للمرأة أن تفسخ عقد الزواج، نتيجة العيوب الشرعية التي قد تكتشفها في الرّجل بعد إجراء العقد. فعندما تكتشف المرأة العجز الجنسيّ عند الرّجل، مثلاً، فإنّ الإسلام جعل لها الحقّ في أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعيّ ليمهله سنة تعاشره فيها بشكل طبيعيّ، فإذا بقي العجز، أمكن للمرأة أن تفسخ عقد الزواج وتصبح حرّة بشكلٍ طبيعيّ.

وهذا ما يحدث إذا أصيب الرجل بالجنون أثناء الحياة الزوجية، فأصبح مجنوناً فاقداً عقله، فإنّ من حقّ المرأة أن تفسخ عقد الزواج.

وهكذا تملك المرأة هذا الحقّ إذا كان هناك تدليسٌ من الزوج عليها.

هذا في ما يتعلّق بالحالات الطارئة.

وهناك حالات أخرى، وهي أن تشترط المرأة، ضمن عقد الزواج، أن يكون أمر الطلاق إليها. وفي هذا تختلف الصيغة بين فقهاء المسلمين، ففقهاء السنّة يقولون: إنّ للمرأة أن تشترط أن تكون العصمة بيدها، بمعنى أن تقول: زوّجتك نفسي بشرط أن تكون العصمة بيدي، مثلاً.

أمّا فقهاء المسلمين الشيعة، فيقولون: إنّ هذا الشرط مخالف لكتاب الله والسنّة، لأنّ العصمة بيد الرجل في شكلها الطبيعيّ، فلا يمكن أن يجعلها الرجل لإنسان آخر أو للمرأة.

ولكن هناك صيغة أخرى، في هذا المجال، وهي أن تشترط المرأة أن تكون وكيلة عن الرجل في طلاق نفسها، باعتبار أنّ كلمة الوكالة هذه لا تنافي كون العصمة بيد الرجل، لأنّها تستمدّ طلاقها بنفسها من خلال أنّ الأمر بيده، وأنّه هو أعطاها حقّ الوكالة بأن تُطَلِّق نفسها، كما أنّه يمكن أن يعطيَ الوكالة لأيِّ شخص، أو لعالم دينيّ في أن يطلِّق زوجته. وهذه الوكالة، وكالة غير قابلة للعزل، لأنّها وكالة لم تنطلق من صيغة التوكيل، وإنّما انطلقت من الشرط في العقد، والمؤمنون عند شروطهم فلا بدّ أن يفيَ بشرطه، وليس له أن يعزلها عن الوكالة.

وتستطيع المرأة، إذاً، إذا كانت تشعر بإمكانية حدوث ظروف طارئة في ما تستقبل من الحياة الزوجية، بحيث قد تضطر إلى الانفصال، أن تأخذ هذا الحقّ لنفسها ضمن عقد الزواج، سواء كان ذلك بشكل مطلق بأن تقول له: "زوَّجْتُكَ نفسي على شرط أن أكون وكيلة عنك في طلاق نفسي متى أردت" أو بوضع شروط معيّنة تحدِّدها المرأة، مثل زواجه من امرأة أخرى.. وللمرأة الحقّ من أن تشترط ما تشاء في هذا العقد. وبذلك فإنّ الإسلام لا يضيّق على المرأة، ولا يغلق عليها الباب في أن تملك التصرّف بحرّيتها في إنهاء العلاقة الزوجية من خلال هذا الشرط المذكور ضمن العقد.

وخاصة ما نلاحظه، عندما نرى كثيراً من الرجال يبتعدون عن الأخلاق الإسلامية في علاقاتهم مع زوجاتهم، ويعملون على أساس تطوّر خاطئ، وهو أنّ الرجل يملك السيطرة المطلقة على المرأة، بحيث يحقّ له أن يضربها أو أن يشتمها أو أن يطردها من البيت، وما إلى ذلك. في مثل هذه الظروف إذا أصبح الواقع المنحرف ظاهرة اجتماعية ضاغطة، فإنّي أشجِّع على أن تأخذ المرأة هذا الحقّ لنفسها، لتخفّف من غلواء الرجل في هذا الاتجاه الخاطئ.

 

 

 

 

 

 

 

 

تعدُّد الزوجات

تحدَّث القرآنُ الكريم عن تعدُّد الزَّوجات، فجاء فيه: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء : 3].

الأصل في الزواج وما يُرخَّص في أوضاع معينة:

إنَّ الزواج الأحاديّ هو الأصل في موضوع الزواج، باعتبار أنّ الله سبحانه وتعالى، أراد للحياة الزوجية أن تكون سَكَنَاً وحركةً إنسانيةً في اتجاه إيجاد علاقة متوازنة تنطلق من مُناخ المودّة والرحمة الذي تشير إليه الآية الكريمة: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة : 187].

إنّنا نتصوّر أنّ الزواج الأحادي هو الأصل، لكن يرخَّص للرّجل أن يخرج من هذا الأصل إلى تعدُّد الزوجات عندما تطرأ بعض الأوضاع وتحدث بعض المشاكل في حركته.

ويبدو أنّ موضوع تعدُّد الزوجات يثير أسئلة عديدة. نحاول في ما يلي، طرحها والإجابة عنها.

سلبيات تعدّد الزوجات في آراء الآخرين:

كيف نواجه تعدّد الزوجات في نتائجه النفسية والاجتماعية والاقتصادية من خلال السلبيات التي يثيرها الآخرون هنا وهناك حتّى تحوّل هذا التشريع إلى نقطة ضعف كبيرة، فحاول أعداء الإسلام أن يدلّلوا على تخلُّف الإسلام عن خطّ العدالة والمساواة، في ما يريده للعائلة من ثبات وطمأنينة واستقرار.

فقالوا: إنّه يحوِّل المرأة إلى مجرّد أداة للمتعة في ما تتطلّبه شهوانية الرجل، وإنّه يشجّع الاتجاه الشهوانيّ للرجل بما يوفّره له من فرص التعدّد والتزوّج بما طاب له من النساء. وإنّه يؤدّي إلى الاستغراق في هذا الجانب، والابتعاد عن الآفاق الروحيّة التي ترتفع به عن حاجات الجسد، والاقتراب من الطبيعة الحيوانيّة فيه. وهذا أمرٌ لا يلتقي مع روحيّة الدين، في ما يعمل له من تهذيب الغرائز الإنسانية وترويضها والانطلاق بها إلى ما يحقِّق حاجات الإنسان الطبيعية من دون إفراط.

وقالوا: إنّه يفقد البيت الزوجيّ طمأنينته واستقراره في ما يفرضه من عوامل الحقد بين الزوجات، من خلال التنافس الذي يحصل بينهنَّ للاستئثار بعاطفة الرجل. فينتهي بهنّ ذلك إلى التنازع والتخاصم، لاسيّما في الحالات التي قد يميل فيها الرجل إلى واحدة دون الأخرى، انطلاقاً من نزوةٍ أو رغبةٍ أو عاطفةٍ أو مصلحة، فيكوِّن عندها عقدة نفسية ضدّ صاحبتها.

وقد تتعاظم العقدة فتؤدّي إلى ما لا نحمد عقباه من مشاكل عامّة وخاصة.

ولا يقتصر ذلك على الزوجات بل يتعدّاه إلى الأولاد الذين قد يتعقّدون ضدّ بعضهم بعضاً، تبعاً للعقدة الحاصلة بين الأمهات. وربّما تتحوّل عُقَدُهم إلى مشاعر سلبية ضدّ الأب الذي تدفعه رغبته إلى إهمال أولاده من زوجته غير المفضّلة لديه.

وهذا أمرٌ لا يلتقي مع طبيعة المودّة والرحمة اللتين ترتكز عليهما العلاقة الزوجية في الإسلام، ولا ينسجم مع مفهوم السكن، الذي جعله الإسلام طابع هذه العلاقة في القرآن.

وقالوا: إنّه يؤدّي إلى إرباك الواقع الاقتصاديّ للعائلة، لأنّ التعدُّد يضيف إلى الميزانية أعباءً جديدة، تبعاً للحاجات المتعدِّدة لكلّ واحدة من الزوجات، ويساهم في تكثير النسل الذي يُربك الجانب الاقتصاديّ للإنسان وللأمّة، ويضعف الجانب التربويّ للأولاد، باعتبار أنّ تعدُّد الزوجات لا يتيح للرجل أن يخطِّط ــــ بطريقةٍ معقولةٍ ــــ للسير بتربيتهم في الاتجاه السليم.

وهذا أمرٌ لا يلتقي مع المصلحة الحقيقية للإنسان التي تتمثّل في انطلاق الحياة في خطّ اليسر؛ وذلك لأنّ العسر الماليّ قد يوقع الإنسان في قبضة الانحراف عن الحقّ تحت ضغط الحاجة إلى الآخرين، كما عُبِّر عنه، في دعاء مكارم الأخلاق في الصحيفة السجّادية: "اللّهمَّ صُنْ وجهي باليَسَارِ، ولا تَبْتَذِلْ جاهي بالإقتارِ فَأَسترزِقَ أهلَ رزقِكَ وأستعطيَ شِرَارَ خلقِكَ، فأفتتِنَ بحمدِ من أعطاني وذمِّ مَنْ منعني، وأنتَ مِنْ دونِهِم وليُّ الإِعطاء والمَنْعِ..".

أمّا الجانب التربويّ فإنّه من الجوانب الحيويّة في التخطيط الإسلاميّ لبناء شخصية الطفل في ما حمله الله للإنسان من وجوب الاعتناء بأمر ولده في حسن أدبه وحمايته من النار التي وقودها الناس والحجارة، وذلك بالتربية الصالحة التي تركّز له إيمانه وأخلاقه، وتسير به إلى الصراط المستقيم.

لقد قالوا ذلك.. وقالوا غير ذلك، وأفاضوا في الحديث عن انعكاس تلك المشاكل على الحياة الاجتماعية العامة، لأنّ طبيعة العلاقات العائلية تفرض الامتداد إلى كلِّ العلاقات الأخرى المرتبطة بالعائلة من الأقربين أو الأبعدين.

وتحدّثوا أيضاً، عن الجانب النفسي للمرأة في ما تعيشه من الشعور بالقهر والاضطهاد تحت تأثير الخلل العاطفيّ في العلاقة الزوجية بسبب التعدُّد؛ الأمر الذي يرهق إنسانية المرأة ويحوّلها إلى إنسانٍ معقّدٍ مقهور.

وكان للمدنيّة والحضارة الجانب الكبير من حديثهم حول الموضوع في ما اعتبروه انحرافاً عن قِيَم الحضارة والمدنية التي تلتقي عند المحافظة على الإنسانية في حركة التشريع في الحياة.

الحكم الشرعيّ وحساب المصالح والمفاسد

ولكنّنا لا نجد، في ذلك كلّه، مصدر خلل في تقييم التشريع الإسلامي في تعدّد الزوجات، لأنّنا نحاول ـــ في تقييمنا لأيِّ حكم شرعيّ ـــ أن ندرس حساب المصالح والمفاسد والمضارّ والمنافع، فإذا غلب جانب المصلحة والمنفعة على جانب المفسدة والمضرّة، كان المفروض فيه أن يكون في خطّ الإيجاب، وإذا غلب جانب المفسدة والمضرّة على جانب المصلحة والمنفعة، كان اللازم أن يكون في خطّ السلب. وذلك لأنّ الأحكام ـــ في ما نعتقده ـــ تابعةً للمصالح والمفاسد الغالبة في مواردها، فلا يكفي في سلبيّة حكمٍ ما أن يكون في نقطة ضعف، بل لا بدّ أن تكون بدرجة غالبةٍ على نقطة القوّة فيه. وهذا، نستوحيه من قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...} [البقرة : 219]. وفي ضوء ذلك، نجد أنّ وجود السلبيات في موارد الأحكام لا يفرض إلغاء الحكم بل لا بدّ من إثبات ارتفاع نسبتها على نسبة الإيجابيات.

سلبيات التعدُّد وإيجابياته في عملية مقارنة

وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نضع أيدينا على طبيعة هذه المسألة، لنرى كيف تلتقي الإيجابيات بالسلبيات في عملية مقارنةٍ لتنتهيَ إلى النتيجة المطلوبة. فقد ذكر الباحثون عدّة حالات تفرض المصلحة فيها تشريع التعدُّد ومنها:

إنّ التعدُّد قد يكون حاجةً طبيعيةً في بعض الحالات، ولدى بعض الأشخاص؛ الأمر الذي يجعل الوحدة مدعاةً للانحراف. وهذا ما قد نجده لدى كثير من الأشخاص الذين يمارسون العلاقات غير الشرعيّة إلى جانب العلاقات الشرعيّة بفعل الحاجة الملحّة تارةً، أو بفعل وضع طارئ تارةً أخرى. بل ربّما نستطيع أن نقرّر أنّ التعدّد يمثّل وضعاً تاريخيّاً عاماً في نطاق العلاقات الشرعية وغير الشرعية؛ الأمر الذي يعطينا الفكرة التي تعتبره حالة إنسانية عامة، سواءٌ في ذلك المجتمعات البدائية التي لا تزال تمارسه حتّى الآن، أو المجتمعات المتحضّرة التي تنكر التعدُّد قانوناً، ولكنّها تمارسه بطريقة واقعية.

أمّا حكاية تشجيع الشهوانية في حركة الغريزة لدى الرجل والاقتراب به من الحيوانيّة بعيداً عن الجانب الروحيّ، فهي حكايةٌ تستلهم المثالية ولا تنطلق من النظرة الواقعية للأشياء، فإنّ الإسلام لم يُرد للإنسان أن يخنق غريزته ويعتبرها شرّاً وعيباً وانحطاطاً، بل اعتبرها حاجةً طبيعية، تماماً، كحاجته إلى الأكل والشرب، وعمل على تنظيمها في حدودها الطبيعية، فلم يرد للإنسان أن يقع في الحرج ليتعقّد أو ينحرف، بل أراد له أن يستقيم في وضع طبيعيّ من خلال الممارسة المتوازنة. وترك له ـــ بعد ذلك ـــ حريّة الاختيار بين أن يأخذ بالرخصة فيلبّي نداء غريزته بشكلٍ منظَّم، وبين أن يقتصر على الحدّ الأدنى من موقع قدرته على الحدّ الأقصى بالوسائل الشرعية. والحقيقة أنّ هناك فرقاً بين أن تمارس الضغط على غرائزك من قاعدة الإلزام وبين أن تمارسها من قاعدة الرخصة، في ما يتمثّله الإنسان من مشاعر الحرج والضيق النفسيّ.

أمّا حكاية تحويل المرأة إلى مجرّد أداة للمتعة للرجل، فهي حكاية لا تثبت أمام النقد، لأنّ الجنس حاجةٌ ذاتية لكلّ منهما، في حالة التعّدد أو في حالة الوحدة، فإذا اعتبرنا هذه الفكرة في هذا الاتجاه كان لا بدّ لنا من إلغاء أصل الزواج.. وخلاصة الفكرة، إنّ الإسلام دينٌ واقعيٌ يعمل على حلّ المشكلة من منطق الواقع لا من منطق المثاليّات، ليرتكز واقع الحلّ على أساس واقع المشكلة من أجل سدّ الذرائع على الإنسان في مواجهة الانحراف.

أمّا موضوع اختلاف هذا التشريع مع الطمأنينة والاستقرار والمودّة والرحمة في البيت الزوجيّ.. فذلك أمر لا نجد فيه كبير مشكلة، لأنّ أيّة مشكلة طارئة في أيّ موضوع لا بدّ من أن تبحث من خلال الوضع البديل، في ما يثيره من مشكلة أخرى، لتكون المقارنة هي السبيل لترجيح أحد الموضوعين. وهذا ما نواجهه في هذا المجال.

إنَّ التعدُّد ينشأ ـــ كما قلنا ـــ غالباً من حاجةٍ ذاتية، فإذا أهملناه كان البديل أحد أمرين: الاقتصار على الوحدة مع الحالة النفسية المعقّدة إزاء ذلك، أو التعدُّد في العلاقات غير الشرعية. وفي كلتا الحالتين نلتقي بالقلق والتعقيد وعدم الاستقرار في داخل النفس وفي حركة العلاقة الزوجية كنتيجة لردود الفعل المتنوّعة على ذلك، لأنّهما ينطلقان من قاعدةٍ غير واقعيةٍ وغير مستقرّة. بينما يكون التعدُّد على أساس شرعيٍّ ـــ بمشاكله ـــ ضماناً لضبط الحاجة في نطاقها الواقعيّ، وتحديد المشكلة في مجالٍ محدود، ومحاولة حلّها على أساس الأخلاقيات الإسلامية التي تخفّف الكثير من السلبيات من جهة، والاستمرار في التعامل مع الأمر الواقع الذي يعتاد الإنسان معه التعايش مع المشكلة من جهةٍ أخرى..

وربّما نستطيع أن نعالج المسألة من وجهٍ آخر، فإنّ أخلاقية الزوجين هي الأساس في مواجهة مشاكل الحياة الزوجية، حتّى في حالة الوحدة. فقد تتعقّد الحياة وترتبك بينهما مع الأخلاق السلبية في نطاق العلاقة الواحدة. وقد تستقيم وتستقرّ وتتضامن مع الأخلاق الإيجابية في نطاق التعدُّد. إنَّ الوحدة والتعدُّد يعتبران من الحالات الخارجية للعلاقة؛ الأمر الذي يجعل من موضوع معالجتهما قضيةً تعيش مع أكثر من حلّ.

أمّا ارتباكُ الواقع الاقتصادي في نطاق التعدُّد، فهو أمر لا يحصل في كلّ الظروف ومع جميع الأشخاص، فقد يعيش بعض الناس حالةً من اليسر تنسجم مع مسؤوليات التعدُّد. وقد يندفع بعضٌ آخر إلى تنمية موارده الاقتصادية بطريقةٍ واقعية لا حرج فيها من خلال ذلك. وقد يؤدّي هذا إلى حالة انتعاش اقتصاديّ نتيجة ما يوفّره من تنوّع الأيدي العاملة في الظروف التي تحتاج العائلة فيها إلى ذلك. وربّما يتحرّك التعدّد في إنقاذ العائلة من الارتباك الاقتصاديّ الذي تحدثه المصارف غير المحدودة التي تُبذل في العلاقات غير الشرعية التي تكون البديل عن التعدُّد الشرعيّ. فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ الإسلام يدفع الإنسان إلى الاكتفاء بالعلاقة الواحدة في حالة العسر التي تجعل الإنفاق على أكثر من زوجة أمراً محرجاً، وتمنعه من العدل في النفقة، فإنّنا نصل إلى النتيجة الحاسمة التي تضع القضية في إطارها الطبيعيّ الذي يعيش معه الإنسان في حالة اليسر لا في حالة العسر.

أمّا موضوع كثرة النسل وتأثيره على الواقع الاقتصاديّ للعائلة والأُمّة، فإنّه حديثٌ يلتقي، في أكثر من جانب مع حركة الواقع، فقد تحتاج الأمة في بعض ظروفها إلى الكثرة، وقد تفرض عليها ظروفها القلّة. وقد يأتي ظرفٌ آخرُ ليفرض حالةً من التوازن بين الأمرين. فليست الكثرة قيمةً سلبيةً دائماً وليست القلّة قيمة إيجابيةً دائماً، بل هما، ككلّ القِيَم التي تستمد عناصرها من خارج الذّات، خاضعتان للظروف الموضوعية المحيطة بالساحة. وهذا ما نواجهه في واقعنا المعاصر الذي نجد فيه بعض الدول، حتّى المتحضّرة، تمنح الامتيازات المادية للعائلة الكبيرة انطلاقاً من حاجتها إلى النموّ العددي للأمّة، مع وفرة مواردها الاقتصادية. بينما نجد بعض الدول الأخرى الغارقة في مشاكل اقتصادية كبيرة تمارس نوعاً من الحرب على تكثير النسل لتحفظ اقتصادها من الانهيار.

وهناك نقطتان لا بدّ من إثارتهما في هذا الجانب من الحديث.

الأولى: إنَّ التعدُّد لا يلتقي أبداً مع كثرة النسل، فقد نجد الكثرة مع الوحدة في حالات فقدان ضوابط تنظيم النسل. فإذا لاحظنا وجود الوسائل الشرعية المتنوّعة لتنظيم الأسرة في هذا المجال أمكننا السيطرة على الموضوع في حالتي الوحدة والتعدُّد وإلغاء المشكلة من الأساس.

الثانية: إنّ هناك، في عقيدة المؤمن، جانباً غيبيّاً يلتقي فيه بالله الذي يرزق مَن يشاء من حيث لا يحتسب، فإنّ الله ينزل المؤونة على قدر المعونة، فلا تخضع المسألة للحسابات المادية فحسب، بل هناك أكثر من جانبٍ غيبيٍّ يحرّك الواقع إلى أكثر من حلّ في نطاق رحمة الله.

أمّا موضوع التربية وتركيزها في حالات القلّة بخلاف حالة الكثرة، فإنّه يختلف في نتائجه الإيجابية والسلبية تبعاً لاختلاف الظروف المحيطة بالشخص. والواقع أنّنا قد نجد انحرافاً تربوياً في حالة الولد الواحد تقابله استقامةً في التربية في حالة كثرة الأولاد. لأنّ الإمكانات الذاتية، في ما يملكه الإنسان من جهدٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو وضعٍ عام.. قد تتيح له التركيز في التربية بما لا يتاح له ذلك في حالات أخرى. الأمر الذي يجعل المسألة تابعة للأوضاع الخارجية المحيطة بالإنسان في ظروف الواقع.

وقد يثير القائلون بالتعدُّد مشاكل واقعية كثيرة أمام القائلين بأحاديّة الزواج، ومنها:

 1 ـــ تثبت الإحصائيات أنَّ عدد النساء يفوق عدد الرجال طبيعياً؛ الأمر الذي يجعل قسماً من النساء لا يملك فرص الزواج في حالات الأحادية.

2 ـــ تفني الحروب الرجال بأعداد كبيرة أكثر بكثير مما تفنيه من النساء، لأنّ الرجال هم الفئة المقاتلة في أغلب الظروف، بينما تعمل النساء ـــ حتّى في حالات الحرب ـــ في ظروف أكثر أمناً وأقلّ خطورة. الأمر الذي يجعل الحرب مصدراً كبيراً من مصادر مشاكل الأحاديّة. وقد قيل إنّ بعض النوّاب، في مجلس النواب الألماني، طالب بتشريع التعدّد في الزواج لمواجهة الحالة المفجعة التي أثارتها الحرب العالمية الثانية في قلّة عدد الرجال بالنسبة إلى النساء.

3 ـــ حالة العقم التي تكون لدى الزوجة في الوقت الذي يعيش فيه الإنسان الشعور بالحاجة إلى الأبوّة، ولا يريد أن ينفصل عن زوجته لوجود الانسجام بينهما، فإنّ التعدُّد هو الحلّ الطبيعيّ لمثل هذه الحالة..

وهناك أكثر من جانب من الجوانب الواقعية التي تخلق المشاكل أمام الزواج الأحاديّ، وتجعل من التعدُّد حلاً طبيعياً أقرب إلى الطبيعة الإنسانية الخاضعة في ذاتها إلى نوازعَ وحاجاتٍ جسدية روحيّة لا بدّ للإنسان من تلبيها، إذا أراد الانسجام مع حالة التوازن النفسيّ التي تفرضها الحاجة إلى الاستقرار.

لماذا التعدُّد للرجل دون المرأة؟

قد تثار هذه القضية من خلال سؤال يفرض نفسه على البال، وهو: لماذا أباح الإسلام للرّجل أن يعدّد في زوجاته، ولم يُبح للمرأة أن تعدّد في الأزواج؟

ونجيب عليه في نقطتين:

النقطة الأولى: إنّ نظام الأسرة الأبويّ القائم على أساس شخصية الأب كوجهٍ أصيل للأسرة، هو نظام أساسيّ في الإسلام. وربّما كان أساسياً في الواقع الإنسانيّ. وإذا كان التاريخ قد عرف ـــ في بعض مراحله ـــ نظام الأمومة، أي النظام الذي تحكمه الأمّ، ويكون الأب تابعاً في القيام على شؤون الأسرة، فإنّ ذلك يعتبر حالةً شاذةً، وليست عامّةً. وقد تبنَّى الإسلام هذا النظام الأبويّ فاعتبر الأب قوَّاماً على الأسرة وأساساً للانتماء ومسؤولاً عن الأمور الحياتية. وليس معنى ذلك إلغاء دور الأمّ أو نسبها، بل اعتبره ثانوياً من هذه الجهات. وفي ضوء ذلك، لا يمكن الإقرار بتعدّد الأزواج لأنّه يخلق مشكلة انتماء الأولاد، فتضيع الأنساب.

النقطة الثانية: لا بدّ للتشريع من أن ينشأ عن حاجةٍ ملزمةٍ في الحياة. وقد تحدّثنا، في ما قدّمناه من حديث، عن الأسس التي ارتكز عليها تشريع تعدّد الزوجات من خلال الواقع ومن خلال نداء الطبيعة، حتّى إِنّنا قرّرنا الفكرة التي تقول: إنّ تاريخ الإنسان هو تاريخ التعدُّد في العلاقات الجنسية من طرف الرجل سواء في ذلك العلاقات الشرعية وغير الشرعية، الأمر الذي يوحي بأنّ الزواج الأحادي، في ذلك، لا يعتبر حلاً للمشكلة، وأن لا بدّ من تجاوز ذلك إلى غيره.

أمّا تعدُّد الأزواج للمرأة فهو حالة شاذّةٌ تاريخياً، حتّى لدى القبائل البدائية التي وقف عندها التاريخ، فلا حاجة إلى أن يقف عندها التشريع ليخطّط لها القوانين والأحكام. فإذا اقتربنا من مبرّرات التعدّد، فإنّنا نجد من بينها أوضاع الحروب التي تفني الرجال بنسبة أكبر ممّا تفني النساء. الأمر الذي يجعل من كثرة النساء وقلّة عدد الرجال حالةً طبيعية تفرض التعدُّد في علاقات الرجل بالمرأة دون العكس، وذلك لحلّ مشكلة المرأة الجنسية والروحية الباحثة عن العلاقة الطبيعية بالرجل.

... وهناك نقطة أخرى جديرة بالبحث والتأمّل، وهي أنّ غريزة الرجل تدعو إلى التعدّد أكثر من غريزة المرأة. لأنّ عنصر الإثارة لدى الرجل أشدّ وأسرع من عنصر الإثارة لدى المرأة. فإنّ تأثّر المرأة بالعوامل التي تثير الغريزة يحتاج إلى إعداد نفسيٍّ وجسديٍّ أكثر ممّا يحتاجه الرجل. حتّى أنّ الرجل يبلغ حاجته في ما يسمّى بذروة الشهوة في العلاقة الجنسية قبل أن تبلغها المرأة بوقت قصير، الأمر الذي يؤدّي إلى مشاكل نفسية وجسدية للمرأة عندما لا تحسّ بالاكتفاء في العلاقة بالمستوى الذي يحسّ به الرجل. وقد نستفيد من ذلك أنَّ عنصر الإثارة لدى المرأة ليس إيجابياً بالمستوى الموجود لدى الرجل. وربّما نلمح في الواقع، أنّ الرجل هو الذي يلاحق المرأة، ويهيِّئ لها أجواء الانحراف على أساس نداء الغريزة، بينما نجد أنّ إغواء المرأة للرجل يخضع في كثير من الحالات لعواملَ اقتصاديةٍ، أو غير ذلك من العواملِ الخارجية.  

وقد عاشت بعض البلدان الأوروبية والأميركية ما يشبه تعدّد الأزواج والزوجات، في ما يسمّى بعملية الزواج الجماعيّ الذي يلتقي فيه عدد من النساء والرجال على حياة زوجية مشتركة. ولكنّ الواقع أثبت فشل التجربة، لأنّها خلقت لهم أكثر من مشكلة ولم تستطع أن تمنحهم الشعور بالرضا النفسيّ والسعادة لاسيّما بالنسبة للمرأة.

وقد نلاحظ أنّ المرأة تميل إلى العلاقة الأحادية أكثر من ميلها إلى العلاقات المتعدّدة. ولهذا نجد ظاهرة الوفاء في العلاقة الجنسية لدى المرأة أكثر منها لدى الرجل.. لأنّها تشعر بالاكتفاء بالعلاقة الواحدة في حالتها الطبيعية في ما يخفّفه ذلك من عوامل الإثارة لديها، بينما لا نجد ذلك الشعور نفسه لدى الرجل.

وعلى ضوء ذلك كلّه، نقف أمام الحقيقة الواقعية التي تفرض الحاجة إلى التعدّد لدى الرجل من ناحية الغريزة والأوضاع الإنسانية العامة، الأمر الذي يجعل من ذلك قضية في حجم الظاهرة التي يجب أن يواجهها التشريع بالحلّ العمليّ. ولا نجد ذلك حاجةً في حجم القضية والظاهرة لدى المرأة، بل كلّ ما هناك وجود حالات طارئة سريعة لا تفرض الاهتمام الكبير.

وهكذا نجد أنّ التشريع الإسلاميّ يواجه الواقع بحلوله للمشاكل المعقّدة من موقع الحاجة الطبيعيّة للإنسان. لأنّه لا يشرّع للملائكة بل يشرّع للبشر. وكان التعدّد حلاّ طبيعياً لمشكلة الرجل والمرأة معاً من الناحيتين الجنسية والاجتماعية.

شرط ممارسة الرّخصة، أو الحريّة في حدود الشرع، الوصول إلى التوازن

ولمّا كانت القضية تعيش في نطاق الرخصة لا في دائرة الإلزام كان من الممكن للإنسان أن يمارس حرّيته من خلال ظروفه ليصل بذلك إلى حدود التوازن في حياته، فقد يجد المصلحة في الوحدة. وقد يجدها في التعدّد، وقد يجدها في عدم الزواج. الأمر الذي يجعل الإنسان يمارس واقعه على أساس شرعيّ يبتعد به عن الأوضاع غير الشرعية في أيّ ظرف من ظروفه، ويدفعه إلى مواجهة الواقع بإيجابيات الشريعة، بعيداً عن سلبيات الانحراف.

وقد يكون من الضروريّ أن نواجه التقييم الفكريّ والعمليّ للعلاقات من منطق الأحكام الشرعية، فنحترم الممارسات التي تقوم على هذا الأساس، وتنسجم مع أخلاقيات الشريعة، مهما كانت بعيدةً عن التقاليد الاجتماعية المستمدة من قواعد فكريةٍ غير إسلاميةٍ، كما نلاحظ في بعض ملامح الواقع الذي نعايشه في العصر الحاضر، تأثّراً بالقِيَم المسيحية المثالية التي تؤكّد على الرهبنة والبعد عن الغرائز كقيمةٍ روحيةٍ أساسيةٍ، فتعتبر الإنسان الذي يخنق غريزته إنساناً قدّيساً، بينما ترى في الإنسان الذي يستجيب لغرائزه بشكل طبيعيّ إنساناً لا يرقى إلى مستوى القيمة. وعلى هذا الأساس تعتبر موضوع التعدّد في العلاقات الجنسية حالة شهوانيةً لا تليق بالإنسان المؤمن الذي يريد أن يعيش القِيَم الروحيّة في حياته في ما تمثّله قِيَم الزهد والترفُّع عن الشهوات والتنكّر للحياة المادية وما شابه ذلك من مفاهيم..

ولكنّ الإسلام لا يستجيب لهذا المنطق، ولا يتبنّى هذه المفاهيم، فقد اعتبر الغرائز التي أودعها الله في كيان الإنسان أموراً طبيعية لا بدّ للإنسان من أن يمارسها بطريقة متوازنة، فلكلّ غريزة جوع وظمأ، وللإنسان أن يُشبع جوعه، ويُطفئ حرارة ظمإه، تماماً كما هي الحاجات الطبيعية الجسدية للإنسان.. فلا يكون العمل على أساس ذلك ضدّ القيمة، ولا تكون الشهوانية المعتدلة شيئاً سيّئاً في حياته. ولا يعتبرها الإسلام شيئاً منافياً للروحانية، لأنّ روحانية الإسلام لا تتمثّل في ابتعاد الإنسان عن حاجات الجسد، بل كلّ ما هناك هو أنّه يريد منه ألاّ يرتفع بها عن مستوى الحاجة إلى مستوى القيمة الأساسية في الحياة.. وأن يقف أمامها من موقع حريّة الإرادة التي تستطيع أن تقول: لا، وأن تقول: نعم، من دون أن تخضع للضغوط الدافعة إلى الانحراف، فلا تستعبدها الحاجات إذا وقفت الحياة لتخيّر الإنسان بين السير مع مبادئه وبين الخضوع لضغط الشهوات..

وهذا هو المعنى الحقيقيّ للزهد في ما يمثّله من مشاعرَ نفسيّةٍ يملك فيها الإنسان التحرّر من الارتباط بالمادة في ما يشبه حالة الاستعباد، وتلك هي الروحانية الداخلية التي تجعلك تواجه الحياة من موقع القدرة على التحكّم في حركتها من حولك. فليس الجوع في ذاته قيمةً روحيّةً، وليس البعد عن الشهوات في ذاته معنىً روحياً، إلاّ في ما يمثّله من حركة الإرادة الواعية في رفض المنكر أو التدرّب على مواجهته، من أجل أن يقرّبك ذلك من الله في ما يمثّله من ممارستك لحريّتك بين يديه.

وعلى هذا الأساس، نجد أنّ تعدّد الزوجات ليس ضدّ القيمة، كما أنّ الوحدة ليست هي القيمة، بل هي حاجةٌ طبيعيةٌ يمكن للإنسان أن يعيشها على أساس ظروفه الذاتية في ما يحيط به من الظروف الداخلية والخارجية، فله أن يعدّد من موقع الإرادة، وله أن يوحّد من ذلك الموقع.. ليكون بذلك قريباً من الله في كلتا الحالتين، لأنّه يتحرّك على هدي التشريع الذي يرى في الأخذ بالرخصة التزاماً إسلامياً، كما يرى في الأخذ بالإلزام التزاماً بالخطّ الإلهيّ السليم.

وقد يسيء الرجل استخدام هذه الرخصة. ومن مظاهر هذه الإساءة أن تكون مسألة التعدُّد حالةً مزاجية ينطلق فيها الإنسان من الرغبة في التنويع من دون أن يكون هناك أساسٌ عميق في حياته العاطفية، أو في حياته العامّة، من خلال بعض حاجاته الملحة التي تفرض التعدّد. إنّ الرغبة المزاجية الطارئة التي قد تتوقّد الآن، لتنطفئ بعد حين، ينبغي ألاّ تكون الأساس في إقامة العلاقة الزوجية لأنّ هذا يجعل الزواج مسألة مزاج طارئ لا مسألة حاجةٍ حقيقيةٍ. ربّما يكون هذا من الموارد التي يجب للإنسان ألاّ ينصرف إلى تعدّد الزوجات بسببها. إنّ المسألة الإيجابية في هذا المجال هي أن ينطلق التعدّد من حالة عميقة في النفس، أو من حاجة عميقة يفرضها الواقع لأنّ ذلك هو الذي يجعل الزواج مسؤوليةً وهو الذي يحقّق المسؤولية في عملية التوازن في الزواج.

العدل بين الزوجات

وفي هذا المجال تثار مسألة أخرى، وهي العدل بين الزوجات

جاء في القرآن الكريم: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً...} [النساء : 3] لا بدّ لكلّ علاقة إنسانية من أن ترتكز على أساس العدل سواء في ذلك العلاقات الزوجية وغيرها، لأنّ الله يريد للحياة أن تتحرّك في خطّ العدل. ولذلك كان التعدُّد مشروطاً بالعدل في مواجهة الإنسان لمسؤولياته والتزاماته تجاه زوجاته. فليس له إهمالهنّ في ما يجب لهنّ من حقوق عليه. وقد يكون من الأقرب إلى الوقوف مع خطّ التقوى، أن يدرس الإنسان إمكاناته قبل الدخول في هذه التجربة، فإذا رأى في نفسه القدرة على الوفاء بالتزاماته الشرعية، أقدم على ذلك. أمّا إذا لم تتّضح له المسألة، وخاف ألاّ يقدر على العدل من خلال الظروف الخاصة والعامّة، فالأفضل له أن يكتفيَ بواحدة، لأنّ ذلك أقرب إلى التقوى وإلى الانسجام مع إمكاناته المادية، فلا يثقل على نفسه بأكثر ممّا يستطيع.

هل العدل شرط في صحّة الزواج المتعدّد؟

وقد يُثار سؤال وهو: هل العدلُ، أو إمكاناته، شرط في صحّة العلاقة الزوجية المتعدِّدة، فلا يصحّ العقدُ على أكثر من واحدة إذا خاف الإنسان من نفسه عدم العدل، أو أنّه ليس شرطاً في الصحّة، ولكنّه شرط في الانسجام مع خطّ التكليف الشرعيّ من دون مساس بالجانب القانونيّ للعقد؟

ونجيب على ذلك بالقول: إنّ المسألة ربّما تبدو، في ظاهر الأمر، كما لو كان العدل شرطاً قانونياً لصحّة العقد ونفاذه.. لأنّ الله لم يرخّص التعدّد في حالة الخوف من عدم العدل. ولكنّ العلماء أقرّوا بصحّة العقد في جميع الحالات، ولم يحكموا بفساده في حالة اكتشاف عدم القدرة على النفقة التي يتوقّف عليها العدل، وربّما كان الوجه في ذلك أنّ الفقرة الأخيرة في الآية {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} تفيد بأنّ الاشتراط جارٍ مجرى الإرشاد والنصيحة وليس جارياً مجرى الإلزام الشرعيّ القانونيّ.. لأنّ الإقدام على التعدُّد مع خوف عدم العدل يعرّض الإنسان لمشاكل شرعية في حركة العلاقة، ويدخله في أوضاع اقتصادية ثقيلة قلقة.. والله العالم بحقائق أحكامه.

 

 

كيف نوازن بين هذه الآية

وبين الآية التي تنفي إمكانية العدل؟

وقد تُثار أمامنا مسألة أخرى، وهي: أَنَّ مقارنة هذه الآية بالآية الكريمة: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء : 129] تؤدّي إلى النتيجة التالية:

ــــ إنّ الله سبحانه قد حرَّم التعدُّد لأنّه ربطه بشرط العدل الذي أفادت الآية الثانية عدم استطاعة الإنسان الوقوف عند خطِّه في ذلك، حتى في حالات الحرص التام على القيام به. الأمر الذي يوحي بأنّ التشريع مقيّدٌ بقيدٍ لا يمكن أن يتحقّق، فيكون بمثابة الأسلوب اللّبق في إلغاء الرخصة بطريقة غير مباشرة.

وفي صدد هذه المسألة يمكن القول:

أوّلاً: لقد ألمحنا، آنفاً، إلى أنّ الشرط وارد في مقام الاحتياط للوضع الشرعيّ والاقتصاديّ للإنسان، وليس وارداً مورد الإلزام القانونيّ.

ثانياً: إنَّ العدل الذي أخذ شرطاً في هذه الآية يراد به العدل في النفقة، بينما يراد من العدل في الآية الثانية العدل في المحبة والميل القلبيّ، وذلك من خلال قوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ..} [النساء : 129] فإنّه يمثّل النهي عن الانحراف مع الحالة العاطفية إلى المستوى الذي يصل إلى حدّ الهجران بحيث تصبح المرأة معلّقة، لا مزوّجة ولا مطلّقة، بل إنّ هذا التأكيد على طبيعة المدى الذي يجب أن تعيش معه العلاقة، يمثّل إقراراً بشرعيّتها. وقد ورد هذا التفريق في تفسير كلمة العدل في الآيتين في بعض كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام.

 

 

 

 

 

ملحق

ملاحظة: الملحق عبارة عن مقالات نُشرت في بعض الصحف اللبنانية حول هذا الكتاب للطبعة الخامسة 1414هــ ــ 1994م.

 

 

 

 

 

المرأة القرآنية كالرجل والواقع "يؤذي" النص

تثير قضية المرأة في الإسلام أسئلة عديدة ومحيّرة لم تصل حتّى الآن إلى أجوبة محدّدة وواضحة. إلاّ أنّ هذه القضية تأخذ حيّزاً واسعاً من النقاش والتفكير سواء في المجتمع الإسلاميّ أو في خارجه.

السيّد محمد حين فضل الله يبحث في قضية المرأة ويقدّم وجهة نظر إسلامية متكاملة عبر كتابه الصادر حديثاً "تأمّلات إسلامية حول المرأة".. هنا حوار حول أهم محاور الكتاب:

ــــ تبدو قضيّة المرأة موضع لبس وآثار دائمين في الفكر والواقع الإسلاميين، لماذا؟

إنّ مسألة المرأة معقّدة من خلال حركة الواقع السلبيّ في تعامله معها انطلاقاً من مفاهيم ضبابية ربّما تتحدّث بشكلٍ يشرّع للواقع مفاهيمه أو يحاول أن يستمدّ من الواقع إيحاءاته ليكون التأويل في النص لمصلحة الواقع بدلاً من أن يكون الواقع حركة في اتجاه النصوص.

من الطبيعيّ أنّ أيَّ فكر ينطلق في أيّ مجتمع لا يستطيع أن يغيّر الواقع حتّى لو تحرّك هذا الفكر في خطّ التشريع اليومي للإنسان. إنّ التغيير قد يحتاج إلى الكثير من الزمن الذي يعمل على تجفيف الكثير من الحلول الموجودة في أعماق الذات التي تختزن التاريخ كلّه. ومن هنا فإنّنا قد نجد طبيعة الواقع في رواسبه وتخلّفه تفرض نفسها على المفاهيم فيؤولها لمصلحته. وهكذا نلاحظ أنّ النصّ الإسلاميّ ترافق مع الواقع الجاهليّ بالمستوى الذي رأينا فيه أنّ هذه الحركة الجديدة التي ولدت في ذلك الواقع لم تستطع أن تغيّر المفهوم تغييراً جذرياً، ولكنّها حاولت أن تعطيه بعض آفاقه أو تمنحه بعض المفاهيم الجديدة في الواقع. لذلك انطلقت مسألة المرأة كواقع يتحرّك في المجتمع الإسلاميّ أكثر من كونها مفهوماً يراد به المجتمع الإسلاميّ. وأعتقد أنّ المجتمع الإسلاميّ ورث مسألة الواقع مع بعض النقاط التي وزعها على بعض مواقع المرأة في البيت والمجتمع بشكلٍ يعطي المسألة صوراً إسلامية.

نحن نعرف أنّ الإسلام جعل المرأة كائناً مستقلاً بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى. فالمرأة تؤمن وتفكّر وتتحمّل مسؤولية ذلك في الدنيا والآخرة.

والمرأة عندما تعيش في داخل السلطة، أيّ سلطة كانت، هي التي تتحمّل مسؤولية التزامها بالسلطة وعدم التزامها بها. ولذلك نجد أنّ القرآن يتحدّث عن بيعة النساء تماماً كبيعة الرجال. والمرأة في السورة القرآنية أيضاً هي إنسانة تتمرّد على الواقع الذي ترفضه وتتحرّك من أجل التخلُّص من هذا الواقع بعنف. وهذا ما حدّثنا عنه القرآن في النساء المؤمنات المهاجرات اللاتي فررن بدينهنَّ من أزواجهنَّ أو من آبائهنَّ وجئن إلى النبيّ. فإنْ كان فرارهن من خلال حالات خاصة، أو من خلال التمرّد على واقع الشرك والكفر، {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة : 10]. إنّ معنى ذلك أنّ المرأة في المفهوم الإسلاميّ هي إنسانة تملك مسؤولية عملها وتنفتح على واقع السلطة في المجتمع لتقف موقفاً سلبياً أو إيجابياً في هذا المجال.  

ــــ لو سمحت لي. هل اختلال العدالة في المجتمع الإسلاميّ لغير صالح المرأة ناجم عن عدم فهم النص أم أنّ النص لا يمكن أن يطبّق واقعياً؟

قد لا تكون المسألة مسألة لا واقعية النص. ولكنّ المسألة تتحرّك من جهتين: الأولى هي أنّ الواقع قد يلقي ضباباً على النص، لاسيّما إذا كانت اللغة الغربية تتحمّل في احتمالاتها أكثر من معنى، ممّا يسمح المجال للتأويل لمصلحة الواقع. والنقطة الثانية هي مسألة أنّ النص لا يستطيع أن يحميَ نفسه من الواقع، لأنّ النصّ عندما يتحوّل إلى واقع من خلال الظروف الموضوعية التي تحيط بالأرض التي يتحرّك فيها النصّ سواء كانت أرض الإنسان أو الأرض الأخرى التي يتحرّك الإنسان في داخلها. لذلك أنا أتصوّر أنّ المسألة تنطلق من جهة، من خلال عدم الفهم العميق للنصّ انطلاقاً من تأثير الذين يثيرون المفاهيم بالواقع، ومن خلال ضغط الواقع على حركة النصّ في انطلاقته من أجل أن يتحوّل إلى ممارسة عملية في حياة الإنسان.

ــــ قد يذهب البعض للقول إنّ النصّ (في زمنه) الذي عالج قضية المرأة لا يمكن أن ينطبق على قضية المرأة في زمننا الحاضر.

إنّ الكثير من النصوص التي تواجه المسألة الإنسانية في عملية التطوير والتغيير لا تستطيع أن تحقّق ذاتها في العصر نفسه الذي تنطلق فيه لسبب بسيط جداً وهو أنّ عمليات التطوير والتغيير تأتي من أجل أن تنسف جبالاً من الأفكار المتخلّفة أو المضادّة ممّا يعني أنّ مسألة هذا التحجّر الذي يفرض نفسه على الذّات، سواء في رواسبها العميقة أو في انطلاقاتها ومفرداتها، لا يمكن أن تلغيه بموعظة أو بنصيحة أو بتحليل فكريّ. إنّ العوامل الطبيعية، كما أنّها تحتاج إلى وقت لتفرض التغيير على مستوى الواقع الكوني، تحتاج أيضاً إلى وقت طويل لتفرض نفسها في الواقع الذهنيّ للإنسان، ولذلك نعتقد أنّ دور النصّ التغييري في أيّة مرحلة هو أن يخلق مُناخاً يثير التساؤل والجدل، ويفسح في المجال لتجربة صغيرة هنا وأخرى هناك، ويحقّق نوعاً من أنواع المضادّ الذي يدخل المسألة في ساحة الصراع ممّا يهيِّئ له المجال للتحوّل إلى حركة جديدة متجذّرة في الواقع بشرط أن تتهيّأ الظروف الموضوعية لعملية التجذّر.

ولكن قد تأتي بعض النصوص وهي تتحرّك من أجل عملية التغيير، من أجل أن تصطدم بحواجز التخلُّف التي تفرض نفسها على الواقع فتمنع النصّ من أن يتحوّل إلى حالة ممارسة، وهذا الأمر لا يقتصر على الفكر الدينيّ الذي يريد أن يطوِّر المفهوم الإنساني لمصلحة إنسانيّته. بل إنّنا نعتقد أنّ كلّ المفاهيم الأخرى التي لم تنطلق من حالة دينية بل من حالة فلسفية انطلقت بواقعية من خلال عناصر الواقع ولكنّ الظروف التي أحاطت بها منعتها من بلوغ مداها في هذا المجال.

ــــ سماحة السيّد هل قناعتك تقول بأنّ المرأة مساوية للرجل؟

في المسألة الإنسانية، أي في ما هي المرأة فكر وإحساس وشعور وحركة ومسؤولية، لا أعتقد أنّ المرأة تختلف عن الرجل، وهنا لا أتكلّم كلاماً "ذاتياً" ينطلق من معاناة ذاتية للفكرة، ولكنّني مثلاً أنطلق من خلال المفهوم الإسلاميّ. ونحن نلاحظ أنّ القرآن الكريم عندما تحدّث عن الجانب السلبيّ والإيجابيّ في مسألة المسؤولية لم يفرّق بين رجل وامرأة. ونحن نعتبر أنّ قضية المسؤولية هي التي تعطينا المفهوم في مسألة المساواة أو التمييز.

ــــ هل نتحدّث عن مسؤولية الحقوق والواجبات أم عن الواجبات فقط؟

أقصد مسؤولية الإنسان عن عمله بقطع النظر عن مسؤوليّته تجاه الآخر. أقصد أنّه عندما نتحرّك كشخصية مسؤولة من دون أيّ نقص في مسؤوليتك، وعندما تتّفق مسؤوليتك في موقعك وموقع الآخر أي في الموقع الذي تتّفق فيه مع الآخر.

الواقع أنّ القرآن لم يفرّق في تمثّل الإنسان للقيمة بين أن يكون رجلاً أو امرأة، فالقيمة واحدة في وعي كلّ منهما، ممّا يدلّ على أنّ مسألة الوعي التي تتّصل بالطاقات الفكريّة والروحيّة هي مسألة لا تختلف بين رجل وامرأة. كما أنّنا نلاحظ في نتائج المسؤولية "أنّ الله لا يضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أُنثى"، أو "قل الزاني والزانية فاجلدوا كلّ واحدٍ منهما مئة جلدة". إنّنا نلاحظ أنّ مسألة إنسانية الرجل والمرأة في وعي المسؤولية التي هي المظهر الحيّ لقضية المساواة بينهما، هي مسألة واحدة، وهناك مناطق يتميّز فيها الرجل عن المرأة في حركة الواقع كما تتميّز المرأة عن الرجل في طبيعة الخصائص الوجودية. ففي الحياة الزوجية هناك نص يقول "الرجال قوّامون على النساء" والقيامة هنا ليست مسألة التمييز الإداري. فالرجال قوّامون على النساء بما فضَّل بعضهم على بعض من خلال طبيعة الطاقات التي تجعل الرجل أقدر على تحمُّل مسؤولية الحياة الزوجية من جهة امتلاكه الحريّة أكثر وربّما يملك مجالاً من الصلابة الذاتية أكثر.

 

 

ــــ مَن أعطاه هذه الحريّة؟

سأتابع. ومن خلال تحمّل مسؤولية الحياة الزوجية من حيث الإنفاق. وفي هذا المجال نتساءل مَن أعطى الرجل هذه الحريّة؟ ونقول إِنّ طبيعة الحريّة تنطلق من خلال الدور الذاتيّ الطبيعيّ للرجل. لماذا؟ عندما ندخل الحياة الزوجية فهناك الأُبوّة التي هي، بمعناها الطبيعيّ، لا تكلّف الرجل شيئاً ولا تشغله. أمّا الأمومة بالنسبة إلى المرأة فإنّها تربك حرّيتها لأنّها تغيّر مجرى حياتها الجسدية سواء في النتائج السلبية التي تعيشها في بداية الحمل، ثم إِنّ طبيعة الأمومة، في معنى الأمومة بقطع النظر عن بدائلها تفرض الإرضاع والحضانة التي تعطّل وتأخذ الكثير من حريّة ووقت المرأة. كلّ ذلك يفقد المرأة حريّتها الطبيعية من خلال دورها الأموميّ، بينما لا يفقد الرجل دوره من خلال دور الأبوّة.

(...) إنّني اعتقد أنّ الحضارة الحديثة التي فتحت للمرأة أبواب الحياة على الطريقة التي فتحتها للرجل، لم تستطيع أن تحلّ مشكلة العائلة، لا بل ألغت العائلة. لذلك عندما نريد أن نفكّر في القضايا علينا أن لا نستغرق في مأساة المرأة لنتصوّرها شهيدة أمام الحالة التي تفرضها عليها شؤون البيت، لكنّنا في الوقت نفسه افتقدناها الحياة العائلية وحركة الأمومة في معناها الإنسانيّ الذاتيّ، لأنّها أصبحت أمّا تنتج الولد ولكنّه ليس ابنها بل ابن دور الحضانة.

ولهذا فالإسلام عندما جعل للمرأة الحريّة في أن لا تعمل في البيت إلاّ برضاها، وعندما جعل لها الرضاعة بأجر، أراد لها من ناحية روحيّة أن تتحرّك من موقع العطاء من خلال حريّتها واختيارها في خدمة بيتها وزوجها. ثم مَن قال إِنّ عمل البيت يناهض إنسانية المرأة؟ إنّه عمل كالأعمال الأخرى. ونحن نتصوّر أنّ دور المرأة كزوجة أو كأمٍّ في البيت لا يلغي دورها في الإبداع، حيث بإمكانها، بالتوافق مع زوجها بعيداً عن العقلية البدوية، أن تبدع في أكثر من ميدان اجتماعيّ وسياسيّ.. الخ..

   

ــــ كيف سيتمّ لها ذلك وممنوع على المرأة الاختلاط حسب ما جاء في كتابك؟

هناك فرق بين الاختلاط الذي يسيء إلى أخلاقية المرأة، وهذا ممنوع على الرجل، وبين الاختلاط المقترن بالضوابط الاجتماعية التي تمنع المرأة والرجل من الانحراف.

ــــ لماذا تحدِّدون النتيجة مسبقاً لعملية الاختلاط؟

ليست المسألة كذلك، بل هي تنطلق من خلال التجارب الاجتماعية. لأنّ مسألة الذكورة في الرجل هي المسألة التي تعيش في ذهنية الرجل تجاه المرأة. كما أنّ المرأة تختزن في داخل أنوثتها مسألة اجتذاب الرجل، وإلاّ كيف نفسّر أنّ المرأة تحبّ أن تظهر جمالها؟ أو أنّها تزيّن نفسها؟ إنّها ليست مجرّد مسألة تاريخية تتّصل بتربية المرأة. وإنّما هي مسألة جنسية تحاول المرأة أن تعبّر عنها بهذه الطريقة التي تنفتح فيها على الجنس في الرجل من خلال تهيئة الأجواء لاجتذابه. وهكذا كان التاريخ الإنسانيّ في كلّ أدبيّاته، حيث نجد أنّ كلّ المشاعر التي يكتبها الكتّاب، أو الناس، بالنسبة إلى المرأة والرجل هي مسألة الجنس الذي نغلّفه بكلمات الحبّ والعاطفة. والإسلام عندما انطلق في تخطيطه للواقع أراد أن ينطلق من الواقع. وعندما أراد الإسلام للحياة الجنسية أن تعيش في ضوابط معينة، انطلاقاً من خطّته في المسألة الأخلاقية، حاول أن يوفِّق بين الخطّ الأخلاقيّ والممارسة العملية.

هل نحن، في المسألة الأخلاقية، نرى أنّ الجنس لا علاقة له بالأخلاق؟ وأنّه يمثّل حاجة من حاجات الإنسان كالطعام والشراب ليس فيها محرّمات؟ أو أنّ الجنس حاجة تخضع لضوابط معيّنة أخلاقية تمثّل القطار الذي يراد للمجتمع أن يعيش فيه التوازن والسلام في قضاياه الخاصة والعامة؟

عندما نفكّر بالجنس كحاجة ذاتية يملك الإنسان الحرية الكاملة فيها من دون محرّمات فلا معنى لأن نقول بمسألة حرمة الاختلاف أو حرمة الزنى، أمّا عندما نضع الضوابط الأخلاقية فالمسألة تتّخذ بعداً آخرَ. وعندما يصبح من الطبيعيّ أن يتحرّك التشريع في خدمة هذه الضوابط.

إنّ الإسلام حاول أن يضع ضوابط لعلاقة الرجل بالمرأة عن أن يعيش في دائرة التفكير الذكوريّ للرجل بشكل يربك أوضاعها النفسية والعملية. وأراد للاختلاط أن يتمّ في نطاق ضوابط معينة يمكن للمرأة أن تمارس فيها إنسانيّتها في الجانب العمليّ من دون أن تسيء إلى أخلاقيتها في الجانب السلوكيّ.

إنّ الفرق بين الإسلام وبين الاتجاهات الأخرى هو أنّ الإسلام ينظر إلى مسألة الإنسان من جميع الجوانب، بينما الاتجاهات الأخرى تحاول أن تستغرق في جانب واحد من الإنسان. إنّنا نستغرق في جانب حرية المرأة دون أن نتحدّث عن مسألة العائلة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الحديث عن حريّة الرجل في هذا المجال. ونحن نتصوّر أنّ الإنسان ليس هو المخلوق ذا البعد الواحد.

ــــ هل يفهم هنا أنّ الحريّة تتعارض مع الركائز الاجتماعية؟

ليست القضية كذلك، ولكنّ الكلام أنّنا نحتاج إلى نوع من الضوابط الاجتماعية. ولذلك لا بدّ لنا عندما نريد أن نحرّك الحريّة، لا بدّ لنا أن نحرّكها في عملية توازن بين الفردية وبين الاجتماعية. فالمشكلة التي يدور فيها الجدل الآن هي أنّ الفردانية هي التي يستغرق فيها الكثيرون عندما ينطلقون في تصوّر المأساة في موقع معيّن على أساس إنقاذ هذا الإنسان أو ذاك من المأساة. نريد أن نفكّر بمأساة الفرد والمجتمع. ماذا يخسر المجتمع من عمل المرأة وماذا يربح؟ ماذا تخسر المرأة من ضغط المجتمع عليها وماذا تربح؟ لأنّنا نفهم أنّ مسألة الحريّة التي يفكّر بها بعض الشعراء هي مسألة لا تعيش في واقع هذا الشاعر الذي يعيش حريّته، لأنّه يعيشها من خلال ذاته، ولكنّه عندما يواجه الآخر فإنّه يفرض عليه الكثير من القيود لحساب حريّته هو.

ــــ في كتابك أثارني ما قلته عن أنّه يحقّ للرجل ضرب زوجته في حال واحدة فقط هي عندما ترفض معاشرته جنسيّاً..

الرجل عندما يتزوّج فمن الطبيعيّ أنّ دور الزواج يكون في أن يحصّن الرجل نفسه حتّى لا يبحث عن إرواء رغبته في مجالٍ آخر.. وهنا عندما تتمرّد عليه زوجته، لا لعذر شرعيّ وإنّما لأنّها لا ترغب بذلك ماذا يحصل؟ إذا كان الرجل إنساناً طبيعياً هادئاً فقد يكون من الأفضل له أن يستجيب لرغبة الزوجة. لكن عندما يعيش الرجل الحاجة الملحة للجانب الجنسيّ بحيث قد يقود ذلك إلى الانحراف والبحث عن مجالٍ آخر فماذا يفعل؟ هل يقدّم الزوج شكوى إلى السلطة؟ هذا شيء يبعث على الابتسام.

إنّ المسألة التي طرحها القرآن في هذا المجال هي أن يحاول الرجل أن يُفْهِمَ زوجته بطريقة تصل إلى قناعتها النفسية. ولكن إذا تمرّدت: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء : 34] أي بالتأديب.. وإذا لم يمكن ذلك فباستخدام الضرب الخفيف الذي لا يدمي كما "ولا يكسر عظماً".. ومعنى ذلك أنّ المسألة عندما تصل إلى الطريق المسدود الذي يعطّل الحياة الزوجية جعل للرجل الحقّ في أن يضغط على زوجته هذا الضغط الخفيف. وقد يقول قائل لماذا هذا الأمر من حقّ الرجل؟ والجواب بأنّ العقد الزوجيّ يتضمّن هذه النقطة. ولذلك لم يجعل الإسلام للرجل على المرأة حقاً مطلقاً إلاّ الحقّ الجنسيّ.

ــــ إنَّ ما تفضّلت به يعني أنّ عقد الزواج مبنيّ على الجانب الجنسيّ أساساً؟

هناك فرق بين أن يكون لك الحقّ في الجنس وبين أن تكون المسألة هي الجنس بمجملها. والقرآن يتحدّث عن الزواج على أنّه علاقة إنسانية. ولكنّ الإسلام ليس مثالياً يتحدّث في العلاقات الإنسانية بعيداً عن الرغبات. إنّنا لا ننكر أنّ للجنس دوراً أساسياً في العلاقة الزوجية.

ــــ وهل للمرأة حقّ جنسيّ عند الرجل؟

لها الحقّ باعتبار أنّ الإسلام يفرّق بين عنصر الإثارة عند المرأة في الواقع (وهو عنصر معقّد) وبين عنصر الإثارة عند الرجل، للمرأة حقّ جنسيّ عند الرجل ولكن ليس بالحدود التي للرجل انطلاقاً من طبيعة الفرق في عنصر الإثارة بين الطرفين.

جريدة السفير اللبنانية 25/12/1992

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تحرير المرأة الإنسان والإسلام يريدها مرتفعة

لأنّ هناك الكثير من علامات الاستفهام حول موقف الإسلام من المرأة أصدر العلامة السيّد محمد حسين فضل الله كتابه "تأمّلات إسلامية حول المرأة" (1) الذي يحتضن جملة أحاديث متنوّعة تتّصل بالواقع النسويّ من وجهة نظر فقهية يطلب العلامة رأياً صريحاً حولها. في هذا الكتاب يبدو العلامة محمّد حسين فضل الله ثائراً، محرّراً منتفضاً على الممارسة المعوجة للتقاليد، رافضاً الطقوسية الدينية وله مطالبة بالعودة إلى البعد الإسلاميّ الإنسانيّ دون كثرة الاجتهادات التي أساءت إلى القضية.

يطرح العلامة محمّد حسين فضل الله سؤاله الأشمل:

"هل السبيل إلى اكتشاف شخصيّة المرأة، وعقلها، وأمانها يتمثّل في النصوص الدينية أم في دراسة عناصر شخصيّة المرأة الذاتية من خلال حركة وجودها في الواقع الحيّ؟".

تساؤل مفصليّ في الموضوعة التي تصدّى لها العلامة لأنّ الاستغراق التأمّليّ في الواقع الإنسانيّ للمرأة يتوازى معيارياً مع الواقع الإنساني للرجل. وفي سياق كهذا يتعرّض العلامة لطبيعة الظروف التي تحرّكت. من ضمنها النصوص، ولبعض القرائن التي تصرف النصّ عن ظاهره لتعطيه معنىً جديداً وفي بعض الحالات يكتشف العلامة عدم سلامة الحديث لمخالفته الأصول الثابتة للعقيدة.

وهنا السؤال: أصول العقيدة هل هي ثابتة لا تتقبّل التبدّلات؟

في حديثٍ آخر (2) يقول العلامة: "الإسلام دين يحمل في داخله كلّ الأثقال التي تجعله حركة تاريخية أيّ حركة إبداع، وحركة اختراق بالمستوى الذي قد تتحوّل فيه الأمور إلى مشكلة فكرية". إلى أن يقول: "إنّ الإسلام ليس مجرّد عقيدة غيبية، وليس مجرّد حالة عبادية": وبكلامٍ آخر إنّ كلمة "حركة" تعني أنّ الاسم على استعداد لقبول التبدّلات أي للخروج من الحالة الثابتة وعندما نقول: "إنّ الإسلام ليس مجرّد حالة عبادية" فهذا يعني أنّ الإسلام مواكب لحركة الحياة بكلّ اصطراعاتها، وصراعاتها دون أن تكون هناك حاجة إلى عملية ازدراع أي إلى نقل أعضاء أو أفكار جديدة إليه. وأظنّ العلامة السيد محمد حسين فضل الله لا ينكر الأفكار التطويرية، وإنْ كان ضدّ تأويل النصوص القرآنية وضدّ المنهج التوفيقيّ بين النظرية الإسلامية في التشريع، وبين تطوّرات العلم في حركة الواقع أي لا يتبنّى فكرة التوافق مع توجّه عصرنة الإسلام في خضوعه للمتغيّرات الطارئة.

صحيح أنّ الإسلام لا يتنكّر للحقائق بل يؤكّدها، وينسجم معها، والعلامة نفسه يقول (3): "في تصوّري أنّ الجماهير الإسلامية الشيعية لا تبتعد عن الأضواء الإسلامية الحركية المنفتحة من خلال أنّها تعيش حالة الرفض سنوياً عبر عاشوراء، كما أنّ التزامها بخطّ أهل البيت المنفتح على خطّ الإسلام يجعلها في حركية دائمة في التطلُّع نحو مسألة الحريّة، والعدل. 

والعلامة الذي يريد الخروج من الدائرة الغرائزية، يقيم حالة توازنية بين الرجل والمرأة وإنْ كانت [الآية 33 من سورة النساء] تقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}.

لكنّ العلامة الكبير يصل إلى الاجتهاد التالي: "وإذا كان العنصر الأنثويّ يختزن بعض الضعف في شخصية المرأة انطلاقاً من الجانب العاطفيّ الأكثر ظهوراً في مشاعرها، أو من الجانب الجسديّ الذي لا يستطيع حمل الأثقال كما هي عند الرجل، فإنّ ذلك لا يمنع من تحويل هذا الضعف إلى قوّة، بتربية الفكر المعرفيّ، وتقوية العقل بالممارسة، وإضعاف العاطفة بالوعي القائم على مواجهة الأمور بطريقة موضوعية من خلال منهج تربويّ عمليّ متوازن.

ويرى العلامة أنّ الإسلام لم يمنع الاختلاط بين الرجال والنساء إلزاماً إلاّ في الدائرة التي تؤدّي إلى الانحراف الأخلاقيّ مع تركيز على إعلاء شأن الأمومة في عملية تكامل إنسانيّ رائع. من هنا، يرفض العلامة السيد محمّد حسين فضل الله النظر إلى المرأة كما لو كانت كائناً جنسياً ينفتح على الحياة من موقع الاتصال الجنسيّ في طبيعته الغرائزية وفي نتائجه التناسلية.. هو يرفض حصر دور المرأة ضمن هذا الخطّ الاهليليجي المعلق، ولهذا يستخلص؛ "إنّ التفكير الإسلاميّ ينظر إلى إنسانية المرأة والرجل بمنظار واحد في مسألة التكوين، وفي قضية المسؤولية، ويدعوهما معاً إلى صنع حركة الحضارة الإسلامية في حياة الناس، ويحمّلهما معاً مسؤولية الانحراف والاستقامة بالمستوى نفسه ويوزّع بينهما الأدوار، والمهمّات على أساس عملية التكامل الإنسانيّ الذي يضيف فيه كلّ فريق، من الذَّكر والأنثى، شيئاً من خصائصه إلى الفريق الآخر لتتّحد الخصائص الإنسانية على مستوى النتائج في تكامل الأدوار، والمسؤوليات" (الصفحة 25).

شعار تحرير المرأة

يشير العلامة السيّد محمّد حسين فضل الله إلى أنّ شعار تحرير المرأة نابع من الواقع السّيِّئ المعيوش، ومن تشوّهات التقاليد التي تضطهد المرأة "كما لو كانت مجرّد شيء من أشياء الرجل صنعت للاستمتاع".

وفي خلاصة هامة يقول العلامة: "وهكذا تمتد المسألة، في هذا التقليد الاجتماعيّ، لترى في تشريع الحجاب أساساً لإبعادها عن كلّ أجواء العمل الماديّ، والنشاط الاجتماعيّ، والموقف السياسي، والثقافة العامة، لأنّ الحجاب؛ كما يقولون؛ يشمل المعنى الداخلي؛ والمضمون الحركيّ للشخصية، كما يشمل الجانب المتّصل بتغطية الجسد". وهنا يعود العلامة إلى التغيير الذي يختزن في داخله حركة حرية الإنسان لكي يكون تحرير المرأة جزءاً من تحرير الإنسان، لكي تعود المرأة إنساناً صاحب رسالة ومخلوقاً متعدِّد الأبعاد يضيف إلى الحياة الشيء الجديد. ويسرد العلّامة آراء خصوم حريّة المرأة كتلك التي في الغرب حيث تحوّلت إلى مادة استهلاك غرائزية توحي للمرأة بأنّها تمارس حريّتها، هذا إلى سلخها عن بعدها الأموميّ فيخلق لها العقد النفسية. والعلّامة يستنتج: "لكن القضية ليست بالصورة القاتمة التي يصوّرها هؤلاء لأنّ دور الأمومة في المرأة يقابله دور الأبوّة في الرجل، فإذا كان دور الأبوّة لا يلغي للرجل أدواره الأخرى في حركة الحياة، من خلال البعد الإنسانيّ الواسع في شخصيته فكيف يكون من الضروريّ أن يلغيَ دور الأمومة للمرأة أدوارها الأخرى المتّصلة بإنسانيّتها" (الصفحة 27). جاء في كتاب الله [سورة عمران: 45] {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران : 45].

وهنا، يرى العلامة وضع الضوابط العلمية التي تجعل من الحريّة حركة واقعية في المصلحة العليا للإنسان على مستوى الفرد والجماعة، ودون الدخول في التفاصيل يمكن الإقرار أنّ الإنسانية تنطلق من السعي لنحو إيجاد النظام المتوازن الذي يكفل لكلّ إنسان حاجته في حدود الحاجات العامة للمجتمع. ولهذا، يرى العلامة حدوداً أخلاقية للحريّة بعيداً عن المزاجية الذاتية، والخيالات الهائمة.

والإسلام وضع قيوداً شرعية في المسألة الجنسية للرجل والمرأة معاً، فاعتبر الزواج متنفّساً طبيعياً للغريزة مع تحريم كلّ العناوين الأخرى، وهنا يستخلص العلامة: "أنّ الفرق بين الإسلام في مجتمعه الإسلاميّ الذي يريد أن يصنعه الإنسان للرجل والمرأة، وبين الانحراف في المجتمع الرأسمالي، هو أنّ الإسلام يريد الارتفاع بالمرأة، والرجل لكي يعيش، كلّ منهما، إنسانيته إنساناً مستقلاً في روحه وجسده، بينما يعمل المجتمع الرأسمالي على تحويل المرأة إلى سلعة للاستهلاك الإعلاميّ، والابتذال الجنسيّ في صورة الإثارة، والأمر يجعلها مادة رخيصة للإعلان بدلاً من أن تكون عنصراً محترماً للإنسان" (الصفحة 32).

 

 

 

المرأة، واقع التخلّف، والأنوثة

يرى العلامة السيّد محمّد حسين فضل الله أنّ واقع التخلُّف داخل المجتمع الإسلاميّ ليس مسؤولية الرجل بحدّ ذاته، ولا مسؤولية المرأة بحدّ ذاتها. فالعكس هو الأصحّ، والرجل والمرأة ضحيّتان لأوضاع إسلامية داخلية على مستوى السلطة، وعلى مستوى الأوضاع الجديدة التي ساعدت على تعقيد الأجواء عبر مزج ما هو إسلاميّ بما هو حضارة غربية، وهنا يستنتج العلامة: "إنّ على الفئات المثقّفة الواعية المالكة لعقلية تجارية أن تندفع نحو إيجاد جوّ للتوعية الروحيّة، والثقافية الإسلامية للمرأة حتّى ينشأ جيل من النساء يمكن أن يقبض على بعض المواقع الفكرية، والحضارية ليتحرّك من هذا الموقع نحو توعية بقية النساء" ليست الأمومة كلّ شيء في حياة المرأة، كما ليست الأبوّة كلّ شيء في حياة الرجل، وليست الأنوثة معيبة في حياة المرأة. ولهذا يعتبر الإسلام المرأة إنساناً مستقلاً من الناحية القانونية, وعملها هو عمل رساليّ لأنّ إنسانية الإنسان، ذكراً كان أم أنثى، تتّسع لكلّ جوانب الحياة، إنّ الإسلام لم يلغِ إنسانية المرأة وكذلك لم يعفها من مسؤوليتها. من هنا، يمكن الإقرار بالدور الخاص، والمميّز للمرأة لأنّ الإسلام أحد على أنوثة المرأة، وعلى إعطائها حريّة الإحساس بجمالها دون حركات استعراضية أو محاولات اجتذاب غرائزية.

عندما يطلق الإسلام نهجه الأخلاقيّ والاجتماعيّ يهيِّئ له القاعدة الوقائية لكي لا تخرج الأمور عن دائرة الانضباط والصرامة، والمسلك الحميد. والتحفّظات هنا ليست قيوداً بل إنّها ضبط لواقع المشاعر الغرائزية الإنسانية. فإذا تركت الإنسان دون روادع أخلاقية قد يخرج عن مداره العقلانيّ تماماً مثل التابع الاصطناعيّ الأرضيّ الذي يخرج عن مداره الفلكيّ بعامل الخطأ. بكلامٍ آخر، إنّ الطبيعة الإنسانية لا تتحرّك، في شكلٍ مطلق إنّما محدود في مسألة الجمال الجسديّ، ولهذا يستنتج العلامة محمّد حسين فضل الله: "الأنوثة أمر أساسي في ذاتية المرأة والإسلام لا يريد للمرأة أن تقمع. الإسلام ينظر بسلبية إلى المرأة المسترجلة أو المرأة التي تتشبَّه بالرجال من حيث الذكورة، وليس من حيث القوّة، الإسلام لا يريد للمرأة أن تلغي أنوثتها، ولكنّه يريد لها أن تنظِّم حركة الأنوثة في حياتها".

الزواج: رابط مقدَّس

يعالج هنا العلامة السيد محمد حسين فضل الله مسألة "الزواج المنقطع" الذي شرّع في الإسلام من أجل أن يلبّي الحاجات التي تكره الإنسان على الزنا. ويلاحظ أنّ الزواج المنقطع لا بدّ أن يكون وسيلة للوصول إلى الزواج الدائم، وذلك لا يحصل دائماً لأنّ طبيعة الزواج المنقطع تختلف عن طبيعة الزواج الدائم. والعلامة نفسه يقول: "إنّنا لا نمانع أن تكون هناك علاقة في الشروط الشرعية المحدّدة للزواج المنقطع على أساس هذا الزواج، ليتعرّف الطرفان ما يجهلانه بعضهما عن بعض ويكون الزواج المنقطع طريقاً إلى الزواج الدائم".

ويرى العلامة أَنّ منع الزواج المنقطع يجعل المجتمع ينفتح على الزنا، وبذلك تتعقّد الأمور لأنّ الزنا قد يثير مشاكل كثيرة يمكن ألاّ يثيرها الزواج المنقطع، علماً أنّ الإسلام لا يقف أمام رغبة المرأة في تحديد المواصفات الذاتية للرجل الذي تختاره زوجاً. وهنا يثير العلامة مسألة المهر فيقول: "تنطلق النظرة السائدة إلى المهر، لدى الكثير من الناس من فكرة خاطئة متخلّفة ترى أنّ المهر يمثّل ثمناً للمرأة باعتبار أنّ الرجل يملك المرأة مقابل ما يدفعه من مال" ويستخلص أنّ الذي يحفظ الحياة الزوجية هو المودّة، والرحمة والمسؤولية المشتركة بين الطرفين والأخلاق السامية، ولهذا يرى الزواج علاقة مودّة إنسانية يندمج فيها الثقافيّ بالجنسيّ، والاجتماعيّ بالاقتصاديّ. على الزوج أن يفهم زوجته كإنسان كما هو إنسان، وليس من حقّه فرض آرائه السياسية عليها، ليس من الطبيعي فرض قناعاتنا على الآخرين إذا لم نستطع إقناعهم بمعتقداتنا، "ومتى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا"، والحياة الزوجية لا تقوم على أساس الإلزامات من كلّ فريق الآخر، وإنّما تقوم على أساس روحية العطاء الناشئة من شعور المودّة والرحمة، ويقول العلامة في (الصفحة 107): "هناك حالة واحدة تحدّث فيها الإسلام عن الضرب، وهي حالة نشوز المرأة على الزّوج، أي في الحالة التي تتمرّد فيها، كأن تمنعه من ممارسة العلاقة الجنسية التي يجب عليها أن تتجاوب معه في كلّ وقت، ما عدا الحالات المعذورة فيها أو الحالات الضاغطة. ففي هذه الحالة، جعل الإسلام وسائل لإخراج المرأة من جوّ النشوز، ومن هذه الوسائل:

1 ــ الموعظة.

2ــ التأديب النفسيّ أو الهجران في المضجع.

وإذ يلاحظ العلامة أنّ العلاقة الزوجية، كما كلّ العلاقات الإنسانية لا تخضع لضوابط مادية، فمن الطبيعيّ أن يعمل الزوجان لئلا ينسحقا تحت عبء الضغوط المعيشية، وأن يبقيا في خطّ الاتّزان، والاستقامة الحياتية، وهنا يحذّر العلامة الشباب والشابّات من الانفتاح على الكتب الجنسية رغم أنّ الإسلام لا يكبت الغرائز البشرية بشرط تفجّرها من خلال شكلها الشرعيّ.

إلى ذلك يعتبر العلامة أنّ الزواج المدنيّ حلّ سياسيّ، ويرى أنّ المسألة الطائفية يمكن أن تُحلّ من خلال إلغاء النظام الطائفيّ، وإنشاء نظام بديل يشعر فيه المسلمون، والمسيحيون أنّهم سواسية في الحقوق، والواجبات.

كتاب العلامة السيد محمد حسين فضل الله "تأمّلات إسلامية حول المرأة" شائق فيه الكثير الكثير للانتفاع، والاستفادة، والمناقشة.

جريدة النهار اللبنانية 19/10/1992

 

 

 

 

تأمّلات (السيّد) محمد حسين فضل الله

في المرأة مواضيعها المختلفة

إذا كان الداخل إلى الذاتية الجوانية للمرأة تمتلكه الرهبة، فإنّ السفر في عالم المرأة في تأمّلات حولها، حول واقعها، حول حقوقها، واجباتها، مكانتها وإمكانياتها، لا يقلّ رهبة دون شكّ.

ومع تلك الرهبة مع إدراكها ومعايشتها شاء السيّد محمد حسين فضل الله، اقتحام عالم المرأة في كتابه الأخير (تأمّلات إسلامية حول المرأة)، الصادر عن (دار الملاك) في بيروت بطبعته الأولى (1412 هــ/ 1992م).

كتاب السيد فضل الله الذي يقع في (165) صفحة من القطع الكبير، مجموعة محاضرات. ودروس ألقاها المؤلّف في ندوات متتابعة هنا وهناك، وبعد جمعها وتبويبها، جاءت على الشكل الذي بين يديّ القارئ، ينتظم موضوعات ذلك الكتاب، المرأة في حديث عنها، لكان فضل الله يريد تحدّي كلّ المشكّكين في ما وهبته السماء للمرأة عبر الديانات التي حملها الرسل لأبناء هذه الأرض، من هنا جاءت مضامين الكتاب، موازية لعصرنا، موازية لشكوكه، لمتاهاته في علاقته بالمرأة، حيث تظلّ تلك العلاقة تلبس في كلّ آنٍ لبوساً يختلف، في محاولة لخداع شخصية المرأة، لإبعادها عن دورها، عن خطّها إنّ في الجانب الأسريّ، أو الاجتماعيّ. بل في الجانب العقدي أيضاً.

لا شكّ أنّ الذي يقرأ (تأمّلات إسلامية حول المرأة) يستطيع الاعتراف للسيّد فضل الله بأنّه يمسك بتلك الشكوك، يسلّط الضوء عليها، بل يقترب يلتصق بجوانية المرأة محاولاً جهده تحديد مزايا شخصيتها، ولاسيّما أنّه رسم لها صورة كبيرة جمع ألوانها، واختار خطوطها ممّا رسمته رسالة السماء للمرأة، صورة هذا الكائن البشريّ الذي له ملامحه الخاصة, وعلاماته الفارقة.

هل لنا أن نتلمَّس بعض النماذج التي تحدّث عنها فضل الله؟

يستوقفنا هنا بعض النماذج من النساء اللواتي استطعن أدواراً تكاملية مع الرجل في غير فترة من فترات التاريخ، تقاسمن بعض الأدوار مع الرجل كالسيدة خديجة بنت خويلد، والسيدة الزهراء، في حين كانت نساء يثبتن وجودهنّ ودورهنّ من خلال قيامهن بأداء ما كلّفهنّ الله وفي هذا المجال يقدّم المؤلّف شخصية السيدة (مريم العذراء) نموذجاً متفرّداً لذلك النوع من النساء، وكيف استطاعت السيّدة العذراء إثبات شخصيّتها وقوّتها، من خلال روحانيّتها أولاً، ومن خلال أدائها لأصعب الأدوار التي قد تبتلى بها أنثى. فهي (سلام الله عليها) تواجه بضعف جسدها قوّة مجتمعها، ذلك المجتمع الذي يتّهمها بسلوكها، ولم يكن هناك من أحد ليدافع عنها إلا طفل، ينطق في المهد: (قال إنّي عبد الله).

شعار تحرير المرأة، أحد العناوين في كتاب (تأمّلات إسلامية حول المرأة) من أين جاء هذا الشعار، ولماذا رفع؟ إنّها جرأة أن يتصدّى لمثل ذلك الموضوع كتاب ما، ولاسيّما موضوع في أخذ ورد منذ زمن ليس بالقريب.

ولعلّ شعار تحرير المرأة في طبيعته ناشئ من الواقع السيِّئ، الذي كانت المرأة تعيشه في أجواء التقاليد والعادات المتخلّفة التي تضطهد إنسانيتها وتعاملها كما لو كانت مجرّد شيء دون أن يكون لها أيّ دور فاعل في الحياة.

كيف يحدّد المشكلة هذه مؤلّف الكتاب؟

إنّه يرى "أَنّ المشكلة في الكثيرين من دعاة الحريّة وخصومها أنّهم ينطلقون من ملاحظات سريعة في الواقع، ومن دراسة نماذج معيّنة للإنسان، ومن سطحية في مواجهة المشكلة والحلّ، الأمر الذي يجعلهم يستعجلون الحكم على الأشياء إيجاباً أو سلباً في آفاق المطلق الفارق في الضباب.

ما هي الأمور التي ينبغي للمرأة أن تتحرَّر منها؟ ليخرج في النهاية بفكرة خلاصتها: إنّ الحريّة المسؤولة هي التي تلتقي بالمعنى الإنسانيّ للإنسان في حركة أبعاده المتنوّعة التي تتوازن فيها الخصائص والأدوار في النطاق الفرديّ والاجتماعيّ، وليست هي التي تلتقي بالأهواء الذاتية التي تستغرق الإنسان في شهواته وغرائزه ومزاجياته بعيداً عن مسؤولياته في واقع الحياة من خلال حاجة الوجود إليه.

الجمال لدى المرأة، كيف ينظر عالِم الدين إلى (الجمال)، استوقفني العنوان وأنا أقلّب صفحات الكتاب. فالجمال هبة الله يمنحها بعض عباده، بل بعض مخلوقاته حتّى من الحيوان، والنبات أو في أذهان الكثيرين صورة العالم الدينيّ وكأنّه لا يتحسّس موقعاً للجمال، والسيّد فضل الله يطيل تأمّلاته في موضوع الجمال فيرى أنّه يمثّل حالة في الجسد، كما يمثّل حالة في الواقع، في الأرض وفي السماء، وما إلى ذلك من مواقع الجمال في الكون. ويعود فضل الله ليؤكّد أنّ الجمال في حدّ ذاته قيمة معيّنة يتميّز فيها الحسن من القبيح، بيد أنّ لذلك الجمال دائرة يتحرّك فيها، ودوراً يطلب منه أن يؤدّيه، بعيداً عن الانفعالات العاطفية. نترك السيّد فضل الله يتأمّل الجمال ليحدّثنا عن دوره وحركته. يقول: "إنّ الإسلام يحاول أن يرسم الحدود التي تجعل للجمال مهمة معيّنة يمكن أن تغني التجربة الإنسانية في المستوى الذي ينظّم فيه المجتمع. ويوزّعه خلايا متعدّدة لا يعيش الإنسان فيها الجوع من هذه الجهة، بل يشعر بالاكتفاء في الحالات الطبيعية التي لا تتحوّل إلى وضع مرضيّ.

شخصية المرأة في حركة الحياة ودورها الفاعل، المرأة واقع التخلُّف، الصداقة بين الجنسين، الحبّ بين الرجل والمرأة، مشكلة العنوسة، الزواج المؤقّت، الزواج المدني. تلك بعض موضوعات هذا الكتاب الذي جاء محتوياً على إيجابيات كثيرة لتساؤلات عديدة كلّها تدور في فلك المرأة. تساؤلات عن المرأة عن ذاتيتها الجوانية والبرانية، إنّه يرسم في تأمّلاته صورة المرأة نموذجاً حيّاً من شأنه أن يقلب موازين عدّة في واقع المرأة، وفي حياتها، في علاقتها بالمجتمع وبالرجل خصوصاً. ولكن وفق نهج سويّ تسلكه ووفق نهج عقائديّ تعتقده.

أن يعالج عالِم دينيّ شؤون المرأة الذاتية. أن يتناول أشياءها الصغرى بهذه الروح، وبهذا الانفتاح هذا ما يستدعي الإعجاب والإكبار حقاً وصدقاً.

جريدة النهار اللبنانية 19/11/1992

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كتاب "تأمّلات إسلامية حول المرأة" للعلامة فضل الله

الضعف ليس قدراً والقوّة رهن مبادرتها

 

(هناك إسلام ولكن على السطح.. أمّا رواسب التخلُّف فلم تزل في الأعماق).

هذه العبارة قالها سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله يوماً لنساء ناشطات في العمل الإسلاميّ حين جئن يشكون له المشاكل التي تعترض عملهن والآراء التي ترد والانتقادات التي توجّه إليهنّ من هذا وذاك.

قد دعاهن سماحته آنذاك إلى الثبات والاستمرار فالساحة تحتاج إلى طاقة كلّ امرأة كما هي بحاجة إلى طاقة كلّ رجل.

وعبارة (السيّد) تختصر كلّ الكلام الذي يأتي، وتتحدّث عن مشكلة المرأة مع مجتمعها ونفسها، فهي تدفع ثمن التخلُّف الذي أنتجها وتعيد إنتاجه باستمرار لكن (السيّد) وكما في كلّ موقف يقدّم أفكاراً عملية. تأمّلات هذه حول المرأة عبارة عن برنامج عمل باستطاعة كلّ امرأة مسلمة أن تنظّم نقاطه وزمنيّته وتسعى به لاستعادة موقعها الفاعل ودورها المغيب في المجتمع الذي تعيش فيه.

أساسان للنهوض

يؤسّس (السيّد) للنهوض بالمرأة على فعلين فكريّ نظريّ، وآخر اجتماعيّ تربويّ عمليّ.

فالفعل الأول هو الدراسة (على مستوى الاستغراق في الواقع الإنسانيّ للمرأة.. ثمّ ندخل إلى فهم النصوص) (ص8) وإعادة دراسة النصوص (ص14)، وذلك كي (نتعرّف إلى طبيعة الظروف التي تحرّكت النصوص فيها والنظرة التي انطلقت منها) (ص14)، أيضاً (لنعمل على اكتشاف بعض العناصر الخفيّة التي قد تؤدّي إلى فهمها بطريقة أخرى) (ص14).

وهكذا فإنّ هناك آلية عمل فكريّ جديدة، واقعية أنضجتها دراسة الواقع الإنسانيّ فجاءت لتدرس النصّ بذهنية عملية منفتحة، ولا تبعد عن حركة الواقع الإنسانيّ.  

ويتحدّث (السيّد) في الفصل الثاني عن (صنع المرأة تربوياً) (ص37) مؤكّداً لكلّ الذين تحجّروا عند ضعف المرأة ودونيّتها (إنّ اختلاف الجنس في الطبيعة الإنسانية، لم يمنع الاتّفاق على الوحدة في القوّة الفكرية والإرادة الصلبة والمرونة العملية لدى الرجال والنساء مع توفّر ظروف القوّة والتوازن والإبداع) (ص13).

أما واقع ما تعيشه المرأة وتعتقد به هي من ضعفها ومحدودية فعاليتها فيعزوه (السيّد) إلى الواقع (الذي تعيشه المرأة بشكلٍ عام من خلال تاريخ الجهل والتخلُّف المفروض عليها في طريقة تربيتها وتأهيلها للحياة الاجتماعية بالقياس إلى الرجل) (ص16).

إذاً هناك إنسان يعدّ ويربّي ضعيفاً محتاجاً تابعاً إلى الآخر في كلّ شؤون حياته (المرأة)، وهناك إنسان يربّي ويعدّ للحياة قوياً مستقلاً (الرجل) إنّها ازدواجية التربوية التي جعلت حركة المرأة (في الواقع خاضعة لطبيعة الأسلوب والمنهج التربوي في نتائجه السلبية) (ص16).

أمّا الحلّ، أما السبيل لكسر حلقه التخلّف في التربية فهو (إنّ على المنهج التربوي في تربية المرأة أن ينظر إلى المرأة كإنسانة تمتلك عدّة جوانب وتتحرّك في أكثر من بعد في المسألة الإنسانية فلا يطغي جانب على جانب).. (ص 37).

فلا تحزن المرأة لكلّ هذا القهر الذي يمارس ضدّها، أنّ لديها غنىً في التكوين والقدرات الشخصية والمفتاح الأول هو التربية.

 

فلتبادر هي..

ولكن ماذا لو لم يستعمل هذا المفتاح؟ هل تركن إلى قدرها التاريخي في التربية على الضعف؟.

(السيّد) هنا لا يعفي المرأة من المسؤولية عن نفسها وعن طاقتها و(ما تعيشه من ضعف وما تعانيه من تخلُّف ليس هو القضاء والقدر الذي لا بدّ منهما في حياتها بل هو نتيجة للإهمال الكبير لعناصر القوّة والوعي في شخصيّتها ووجودها) (19ص).

وتتساءل المرأة هنا: كيف يمكنها أن تغيِّر نفسها وتعيد تربيتها وتقنع الآخرين بجدارتها وهي التي تُعَيَّر بقلّة اطّلاعها ومعرفتها وضعف عقلها؟

يكون ذلك وبوضوح (بتربية الفكر بالمعرفة، وتقوية العقل بالممارسة وإضعاف العاطفة بالوعي القائم على مواجهة الأمور بطريقة موضوعية من خلال منهج تربويّ عمليّ متوازن وتدريب الجسم على اكتساب القوّة بدرجة معقولة.. (ص19) وهكذا يصبح الشغف مجرّد ذكرى!.

لكن هل سيكون سهلاً على المرأة أن تتفلَّت من إسار مجتمع مختلف وهي صنيعته؟

هنا يقول (السيّد) بوضوح، أنّ إدراك المرأة لواقع التخلُّف فيما حولها، وفي نفسها، يجب أن يدفعها إلى (مبادرة وإلى عملية دخول في صراع مع المفاهيم المختلفة حتّى تكون التنمية نتيجة للسيطرة على عقلية التخلُّف) (ص 36).

وهكذا تجد المرأة المختلفة نفسها في وسط المعمعة وعليها أن تخوض عراكاً قاسياً مع نفسها ومع مجتمعها لتستعيد مكانتها ودورها.

والحقّ يقال، إنّ قارئة هذه التأمّلات بتأمّل، تكاد تسهو عن أنّ صاحبه هو رجل دين، لفرادة وجرأة الأفكار التي يطرحها، قائداً للمرأة بأفكار عمليّة لتتحرّر وتنهض ولكن على أُسس فكرية رشيدة، بعيداً عن استهلاك العناوين وتمييع القضايا.

العلم والعمل

ولكن ما هي العناوين التي يضعها (السيّد) أمام المرأة في تحرّكها النهوضيّ؟

العلم أوّلاً: إذ (بإمكان المرأة أن تمارس كلّ حركتها في ذاتها كإنسان من خلال حركة العلم في شخصيّتها إلى أبعد الآفاق ومن خلال حركة النشاط العمليّ والسياسيّ والاجتماعيّ في الدائرة الأخلاقية..) (ص32).

ومن خلال العلم تبعد المرأة، كما يبعد الرجل، (عن الإنسان أمام الظروف الطارئة التي تجعله في حاجة إلى الآخرين) (ص115).

والعلم لا يعزّز وعيها في الحياة، ولا يجعلها فقط في غنى عن الآخرين، بل يعزّز دورها في التبليغ وفي مختلف حقول العمل: السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، إذن هي مدعوّة إلى توظيف طاقاتها في تنمية المجتمع، أمّا الدور الخاص للمرأة، أمّا الأمومة فليس إلاّ (بعض مسؤولياتها لا كلّ مسؤولياتها) (ص 36).

و(للمرأة ساحة واسعة تستطيع أن تقوم فيها بمسؤولياتها في ما يمكن لها أن تتحمّله من مسؤولية في نطاق ثقافتها وفي نطاق طاقتها الاجتماعية التي تملكها) (ص 40).

و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية النساء والرجال معاً) (ص 40).

ممّا يؤكّد مسؤوليّتها في التغيير الاجتماعيّ، بعد تغيير وتنمية نفسها وأسرتها.

الأنوثة ضعف أم إغناء

تواجه المرأة مشكلة في ما نشأت عليه وهي قدرية الضعف فيها ممثلاً بأنوثتها وقدرية القوّة لدى الرجل انطلاقاً من ذكورته فهل تستطيع هي أن تتجاوز هذا القدر المفروض؟

هذه الأنوثة جعلت المرأة تختزل في نظر الكثيرين من المؤمنين وغيرهم بكائن جنسيّ (ص 24) وهذه مشكلة أخرى لدى المرأة تنطلق من خصوصيّتها.

(السيّد) في تقويمه للمسألة وتصحيحه لما هو سائد يرى أنّ التفكير الإسلامي يختلف عن نظرة الناس حتّى الإسلاميين منهم، من الذين يحملون نظرة غير سويّة إلى هذه المسألة، التفكير الإسلاميّ يرى في الذكورة والأنوثة عنصرين نحتاجهما معاً في (صنع حركة الحضارة الإسلامية في حياة الناس على أساس عملية التكامل الإنساني الذي يضيف فيه كلّ فريق من الذَّكر والأنثى شيئاً من خصائصه إلى الفريق الآخر لتتّحد الخصائص الإنسانية على مستوى النتائج في تكامل الأدوار والمسؤوليات) (ص 25).

وهكذا يعيد (السيّد) الأمور إلى نصابها، لكن، وإلى أن يتحقّق تغيير قناعات الناس لمصلحة الإسلام، فالمرأة تدعو لممارسة دورها، لفهم أنوثتها في داخل الدائرة الإنسانية التي تتحرّك فيها مع الرجل وتتكامل وليست الأنوثة ملكاً خاصاً تستقلّ به المرأة فتتصرّف به كيف تشاء.

(إنّنا نريد للأنوثة أن تغني إنسانية المرأة ليكون هناك تفاعل بين الأنوثة وبين الإنسانية فتتأنسن الأنوثة وتتأنّث الإنسانية..) (ص 52).

(إنّنا)...

(إنّنا) هي المجتمع الذي ينتظر طاقات المرأة الخبيّة.. وهي (إنّنا) الأجيال التي تتطلّع إلى امرأة إنسانة تتفتّح في أعماقها قِيَم الحقّ والخير وتسعى بوعي واستنارة لممارسة دورها التربوي على غير القِيَم المختلفة التي نشأت عليها.

(إنّنا) ضمير الدين الذي ظلم، بتأويل نصوصه على غير ما تحمل، وظلم بالتقصير في التزام تعاليمه الإلهية التي حملت للمرأة نماذج (آسية زوجة فرعون ومريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد) آيات للعالمين.

دوائر أخرى

ويتقدّم (السيّد) في تأمّلاته إلى دوائر إنسانية أخرى مثل العلاقة الزوجية التي يراها (خاضعة للفوضى ولتأثير الرواسب المتفرّعة والأخلاق والأوضاع المحيطة بهما) (ص 81).

ملاحظاً أنّ الحياة الزوجية (إنّما تقوم على أساس روحيّة العطاء الناشئة من شعور المودّة والرحمة) (ص 93).

رافضاً محاولة أيٍّ من الزوجين (خاصة الزوج) إلغاء شخصية الآخر معتبراً أنّ هذا (أمراً غير إسلاميّ) (ص 92).

ويرى (السيّد) أنّ (الحوار أمر طبيعيّ بين كلّ إنسان يعيش علاقة مع إنسانٍ آخر لاسيّما في العلاقة الزوجية.. من الطبيعيّ أن يكون الحوار هو الأساس بين الزوجين) (ص 113) كأسلوب لمواجهة مشكلات الحياة الزوجية مثل الغيرة والأنانية والرتابة وما شابه.

وبالأسلوب الناقد المصحّح المقوّم، يتابع (السيّد) أحاديثه الغنية في مواضيعَ حسّاسةٍ يلتبس على المسلمين الموقف الإسلاميّ الصحيح فيها، فتقع المشاكل وتكثر التعقيدات بسبب عدم وضوح الرؤية الإسلامية فيها.

ويقدّم (السيّد) آراء جريئة ومتقدّمة ومنفتحة في الصداقة بين الجنسين الحبّ بين الرجل والمرأة، العنوسة، الزواج المؤقّت، الزواج المدنيّ، الطلاق، تعدُّد الزوجات.

مجلة البلاد اللبنانية/ 7 تشرين الأول 1992

 

 

 

العلامة فضل الله: حلول ومشاكل

في تأمّلات حول المرأة والإسلام

 

سألوني مرّة لو لم تكوني أنثى صحافية، وكاتبة متفوّقة ماذا تحبين أن تكوني أجبت فوراً دون أخذ نفس أو تردُّد: أحبّ أن أكون امرأة ذكية بسيطة وغبيّة في آنٍ لست أدري لماذا تنطّحت في جوابي هذا الذي جاء عفو الخاطر والبديهة لكنّي تداركت السبب، وحلّلت الأسباب التي دعتني وحفّزتني على التسرّع والإجابة المسطّحة هذه وغير المنتظرة منّي تجاه البعض.

فأنا عندما أسمع عن حرية المرأة ومطالبتها الدائمة بهذه الحرية، والمرأة المثقّفة التي تحتاج إلى أوسمة ونياشين، والأخرى النائبة أو الوزيرة أو السفيرة أو الرئيسة، وتلك المكتشفة والمتحرّرة والأخرى المبدعة ـــ خصوصاً عندما حضرت ندوة المرأة العربية والإبداع التي أقيمت مؤخّراً في بيروت بدعوة من اتحاد الكتّاب اللبنانيين والعرب وشاهدت المرأة المبدعة وما تحمل هذه الكلمة من إبعاد وإبداع وتبدّع.

المهمّ أنا لست أبداً ضدّ المرأة المثقّفة ولا المبدعة ولا المخترعة بل على العكس أنا معها بكلّ ما أوتيت من حبّ وتشجيع ومساعدة لكنّني ضدّها في التخلّي عن أنوثتها كأمّ ومسؤوليتها كزوجة وإنسانيّتها كامرأة.. هي نصف المجتمع، يجب أن توازن بين كونها مسؤولة عن وطن وعن خلق أجيال وبناء أمّة وإخصاب أمومة.

المهمّ أنا أنثى لست ضدّ المرأة المثقّفة والمطالبة بحرّيتها على حساب كرامتها وأنوثتها وإنسانيّتها، إلى آخر الترجومة التي أتخمتنا بها لجان حقوق المرأة، وجمعيات الدفاع عن المرأة وتجمّعات النساء العالميات وغيرهم. نعم تمنّيت أن أكون المرأة الغبيّة البسيطة في مجتمع تتشابك فيه المصالح والأشياء وتتعومد الغايات، وتتناطح الرغبات وتتطاول على القِيَم الإنسانية التي تحملها المرأة كأنثى وأمّ وإنسان.

قد تسألون لماذا هذا الموقف منّي أنا الإنسانة الغنية بإنسانيتي وطيبتي. كوني أنثى، بالطبع أقول إنّه يجب أن تكفّ المرأة عن الكلام بالمطالبة بحريّتها المطلقة. وعن الحكي بحالها المقموعة والمجتمع القامع والقابع فوق أنفها وفمها وجسدها.. لأنّ هذا الكلام ملّ منه الكثيرون وأصبحت المطالبة نوعاً من الاستهزاء بالمرأة.. فيجب أن تكفّ المرأة عن المطالبة بالمساواة مع الرجل ولأنّ الدين ساوى الرجل بالمرأة في حالات كثيرة وخصوصاً الإسلام.. وتعالوا نقرأ كتاب العلامة السيّد محمد حسين فضل الله "تأمّلات إسلامية حول المرأة" والصادر في بيروت عن دار الملاك في 165 صفحة من الحجم الكبير حيث ينصف فيه هذه المرأة.. ويقدّم لها قانوناً حياتياً إنسانياً مستنداً إلى تجارب شاملة من الرسالات الدينية والاجتماعية والحياتية، بحيث يتوجّب على المرأة والرجل قراءته، ففيه الحلول لكلّ المشاكل المستعصية إن على صعيد الزواج أو الطلاق أو الزواج المؤقّت أو الدائم أو العنوسة.. إلى غيرها من المشاكل والإشكالات التي يستعصي فهمها على البعض..

والكتاب حسب الناشر أحاديثُ متنوّعةٌ حول بعض الجوانب المتّصلة بالمرأة من وجهة نظر إسلامية، لأنّ هناك الكثيرَ من علامات الاستفهام حول موقف الإسلام من المرأة، الأمر الذي قد يحمل بعض الصور المشوّهة التي تسيء إلى الصورة المشرقة للمعنى الإنسانيّ للإسلام في تشريعه للإنسان (الرجل والمرأة معاً) وذلك انطلاقاً من بعض الاجتهادات الخاصة، أو من حالات التخلُّف الفكريّ في المجتمع الإسلاميّ العام.

والعلامة السيّد محمّد حسين فضل الله بدوره أجاب عن بعض علامات الاستفهام هذه في حوار متعدِّد الجوانب، متنوّعها، دون تحقيق أو تحضير سابق، بل جاءت الإجابات عفوية من خلال تجاربه الفكرية ونظراته الاجتماعية ومن خلال فهمه للإسلام. تناول وفي مواضيعه المتشعّبة، شخصية المرأة في حركة الحياة ودورها الفاعل، شعار تحرير المرأة، المرأة وواقع التخلُّف، المرأة وحقّ العمل، أنوثة المرأة، الصداقة بين الجنسين، الحبّ بين الرجل والمرأة، الزواج رابط مقدّس، الخطوبة، الزواج علاقة مودّة ورحمة، الزوج والزوجة حقوق وواجبات، مشاكل وهموم، أبعاد العلاقة الزوجية، مشكلة العنوسة، الزواج المؤقّت، الزواج المدنيّ، الحلّ الشرعيّ، الطلاق وتعدُّد الزوجات..

الذات والمرأة

في باب شخصية المرأة في حركة الحياة ودورها الفاعل يشرح العلامة بعض المسائل المتعلّقة بهذا الموضوع، بادئاً بالنصوص الدينية ومن ثمّ دراسة عناصر شخصية المرأة الذاتية من خلال حركة وجودها في الواقع الحيّ.. وفي مستوى انفتاحها على الآفاق العملية، من حيث عمق الفكر وسعته. وفي طبيعة رؤيتها للأشياء من حولها، من حيث سلامة الرأي وصدق النظرة إلى الأمور وفي نوعية التزامها الداخليّ بالعقيدة في خطّ الارتباط بالإيمان بالله ورسله وكتبه وشرائعه. والتزامها الخارجي في خطّ العمل والمعاناة والمراقبة لله في دائرة التقوى الروحية والفكرية في ذلك كلّه، وفي قدرتها على مواجهة التحدّيات في الصراع الفكري في ساحة الدعوة، أو في مواجهة المشاكل الواقعية في ساحة الجهاد.

ويقدّم في هذا الباب نماذج متعدّدة لتفوّق المرأة، وملكة سبأ كأنموذج حيّ من القصص القرآنيّ، هي القرار الحاسم الذي يدلّ على شخصية عاقلة متّزنة تحسب للأمور حساباتها الدقيقة، وقد قدّمها القرآن إنسانة عاقلة تملك عقلها ولا تخضع لعاطفتها، لأنّ مسؤوليتها استطاعت إنضاج تجربتها وتقوية عقلها حتى أصبحت في مستوى يمكّنها من أن تحكم الرجال الذين رأوا فيها الشخصية القوية العاقلة القادرة على إدارة شؤونهم العامة.

ويقدّم امرأة فرعون كأنموذج آخر، وقد ضرب الله قصّتها مثلاً للمؤمنين والمؤمنات لتكون القدوة لهم والأنموذج الأمثل للقوّة الإيمانية الإنسانية المتمرّدة على سلطان الظلم بكلّ إغراءاته وملذّاته. كما ضرب الله مريم ـــ من بعدها ـــ لهم مثلاً في الصفة الأخلاقية في مستوى القيمة كما كانت الأنموذج الأمثل في التصديق بكلمات ربّها وكتبه، وفي القنوت الخاشع لله في حياتها حتّى كانت حياتها صلاة كلّها.

المرأة والتحرير

وفي باب شعار تحرير المرأة يرى العلامة أنّ هذا الشعار لعلّه ناشىء من الواقع السيِّئ الذي كانت المرأة تعيشه في أجواء التقاليد والعادات المتخلّفة التي تضطهد إنسانيّتها وتعاملها كما لو كانت مجرّد شيء من أشياء الرجل التي صنعت للاستمتاع من دون أن يكون لها أيّ دور فاعل في الحياة.. حتّى الأمومة التي هي رسالتها في مضمونها الإنساني لا ينظر إليها من قِبَل المجتمع المتخلِّف إلاّ في دائرة الخدمة التي تؤدّيها لأولادها بعيداً عن عملية التوعية والتربية والتوجيه. لأنّ مسألة تعلّم المرأة واردة في حسابهم باعتبار أنّ ذلك ليس حاجة في علاقتها بالزوج والولد والبيت، والإسلام يريد بذلك الارتفاع بالمرأة والرجل ليعيش كلّ منهما إنسانيته بوصفه إنساناً مستقلاً، في روحه وجسده، بينما يعمل المجتمع الرأسمالي على تحويل المرأة إلى سلعة للاستهلاك الإعلامي، والابتذال الجنسيّ في صورة الإثارة الأمر الذي يجعلها مادة رخيصة للإعلان بدلاً من أن تكون عنصراً محترماً للإنسان.. وخلاصة الفكرة أنّ العلامة يرى بالحريّة المسؤولة التقاء بالمعنى الإنساني للإنسان في حركة أبعاده المتنوّعة التي تتوازن فيها الخصائص والأدوار في النطاق الفردي والاجتماعي وليست هي التي تلتقي بالأهواء الذاتية التي تستغرق الإنسان في شهواته وغرائزه ومزاجياته بعيداً عن مسؤولياته في واقع الحياة من خلال حاجة الوجود إليه.

المرأة والتخلُّف

وفي باب المرأة وواقع التخلُّف يحدِّد العلامة مفهوم التخلُّف ومدى انعكاسه على المرأة ودور المرأة في عملية التنمية، كونها عنصراً فاعلاً في المجتمع، وضرورة تربيتها والاعتناء بإنسانيّتها لأنّها تملك عدّة جوانب وتتحرّك في أكثر من بعد في المسألة الإنسانية.

أمّا باب المرأة وحقّ العمل، فإنّ العلامة فضل الله يعتبر أنّ "الزوج ليس له أنّ يمنع زوجته من أيّ عمل محلَّل شرعاً إلاّ من خلال ما يقتضيه هذا العمل من خروج المرأة من بيتها باعتبار لزوم استئذان الزّوج، أمّا مطلقاً أو في ما ينافي حقّه، وأنّ الفكرة التي تحبس دور المرأة في نطاق خاص، أو تحبس دور الرجل في نطاق خاص هي فكرة غير عملية وغير صحيحة.

وفي زاوية "أنوثة المرأة" يرى العلامة أنّ الإسلام في هيكليّته التشريعية قد طرح أحكاماً إلزامية على المرأة كالحجاب الذي يمثّل مجموعة من الأحكام تحدّد عدّة أمور منها: طريقة خروجها سواء من حيث الملابس التي تلبسها أو من حيث الزينة التي تتزيّن بها. وقضية الاختلاط في الحدود التي تتحرّك فيها، وهو يؤكّد في هذا السياق أنّ الإسلام لم يمنع المرأة من الإحساس بجمالها. ولكنّه لا يريد لها أن يتحرّك هذا الجمال بشكل استعراضيّ يجتذب مشاعر الآخرين باعتبار أنّ اجتذاب مشاعر الآخرين يعني اجتذاب غرائز الآخرين وقد لا يكون هذا قاعدة كلّية. فقد نجد كثيراً من النساء اللواتي يعتصمن بعفّتهن وبأخلاقهنَّ عن التعرّض لأيّ إغراء أو ضغط من قِبَل الآخرين وقد نجد كثيراً من الرجال يعتصمون بأخلاقهم وعزّتهم في هذا الاتجاه. لكنّنا نعتقد ـــ يقول العلامة ـــ أنّ عملية تحريك الجمال كقيمة إنسانية تعيشها المرأة في المجتمع ويعيشها المجتمع في نظرته إلى المرأة وفي تعامله معها يخلق جوّاً شعورياً لإثارة الجانب الغريزيّ، بحيث يصعب السيطرة عليه إلاّ من خلال المعاناة الكبيرة التي يمكن أن يعيشها هذا الجانب أو ذاك.

الإسلام والجمال

أمّا علاقة الإسلام بالجمال وما يمثّل هذا الاتجاه في الحركة الإسلامية فإنّ الجمال بنظر العلامة يمثّل حالة في الجسد كما يمثّل حالة في الواقع، في الأرض وفي السماء. وما إلى ذلك من مواقع الجمال في الكون والإسلام بدوره يحاول أن يرسم الحدود التي تجعل للجمال مهمّة معيّنة يمكن لها أن تغني التجربة الإنسانية الجسدية في المستوى الذي ينظّم فيه المجتمع، ويوزّعه خلايا متعدّدة لا يعيش الإنسان فيها الجوع بل يشعر بالاكتفاء في الحالات الطبيعية التي لا تتحوّل إلى وضع مرضي فالأنوثة أمر أساسيّ في ذاتية المرأة، والإسلام لا يريد للمرأة أن تقمع ذلك. بل إِنّه ينظر نظرة سلبية إلى المرأة المسترجلة أو المرأة التي تتشبّه بالرجال من حيث الذكورة وليس من حيث القوّة وعندما يتحدّث الإسلام عن علاقة الرجل بالمرأة في داخل العلاقة الزوجية فإنّه يتحدّث عن ضرورة أن تعطيَ المرأة نفسها الحريّة في إظهار أنوثتها ومشاعرها في علاقتها بزوجها وهكذا بالنسبة للرجل فالإسلام حسب العلامة فضل لا يريد للمرأة أن تلغيَ أنوثتها. ولكنّه يريد لها أن تنظّم حركة الأنوثة في حياتها بحيث لا تتحوّل إلى عنصر يفسد على المرأة أخلاقها كون الأنوثة في الجانب الإنساني تتحرّك في مجال الشعور والرقّة والعاطفة والانفعال. وللمرأة الحقّ في أن تبلور هذه العناصر بالطريقة التي تستطيع أن تغنيَ التجربة الإنسانية كلّها. ويركّز الكتاب في باب الصداقة بين الجنسين على مسألة الاختلاط من خلال ما تريده من طهارة روحيّة المرأة في الدائرة العليا من الطهارة التي يراد للمرأة ـــ كما يراد للرجل ـــ أن تبلغها في هذا المجال فالمرأة لم تكلّف شرعاً بألاّ تنظر إلى الرجل. ولم يحرَّم عليها أن ينظر إليها الرجل في دائرة ما هو حلال من النظر بين الطرفين ولاسيّما إذا كانت هذه المسألة لا تعيش في دائرة ضروريات الحياة العامة.

رجل وامرأة

أمّا باب الحبّ بين الرجل والمرأة فإنّه يرى أنّ الإسلام لا يمنع الشاب من أن ينجذب إلى الفتاة بأيِّ دافع من الدوافع التي تؤثّر في عملية الانجذاب الذي يعبّر عنه بالحبّ أو بالعاطفة، كما لا يمانع في أن تنجذب الفتاة إلى الشاب. ما دام ذلك الانجذاب ينطلق من دوافعَ إنسانيّةٍ متّزنة لا تطوف في الأجواء الأخلاقية السلبية.

وفي باب (الزواج رابط مقدّس) يتناول المؤلّف الزواج الدائم كعلاقة إنسانية طبيعية بين الرجل والمرأة. وهذه العلاقة تجعل الإنسان يعيش الإحساس بالسكينة والهدوء النفسيّ والاستقرار الروحيّ والجسديّ في علاقته بالإنسان الآخر.. ويشرح في هذا الباب الزواج المنقطع وحرية اختيار الفتاة، وقضية المهر الذي هو ليس ثمناً للمرأة.. وعملية التناسب بين الزوجين والتفاوت بينهما.. وفي مسألة الخطوبة أو الاتفاق بين الطرفين على الزواج من ناحية المبدأ فهي بنظره وسيلة لوضوح الصورة وهي تخضع للظروف الذاتية بحسب الواقع الموضوعيّ الذي يحكم العلاقة بين الطرفين.

ويتناول أيضاً حقوق وواجبات الزوجة والزوج والحدود الشرعية لهذه الحقوق. كما يتناول مشاكل وهموم هذه الحياة ومنها الغيرة الزوجية، والأنانية في الحياة الزوجية ورتابة الحياة وإدارة الزوجة وحالة تكامل الطرفين إضافة إلى الخصوصيات في هذه الحياة. وإبعاد تلك العلاقة الزوجية والحدّ من النسل وتأثيرات العلاقة الجنسية على الزواج، ودور هذه العلاقة في الزواج المتعدّد وضرورة الثقافة الجنية في إطار الابتعاد عن أجواء الإثارة وذلك باتّباع اللغة العلمية في هذه المسائل.

أمّا مشكلة العنوسة وهي السائدة بكثرة في المجتمعات فإنّ العلامة يناقشها بموضوعية وهو يعيدها إلى صعوبة الشروط التي تشترط المرأة على من يريد الزواج منها نتيجة بعض حالات الانفتاح الذاتيّ الذي يجعلها تفكّر في وضع شروط قاسية جداً على مَن تقبل به زوجاً. وهو يرى حلاً لمسألة العنوسة بعدم اعتبار الحالة مستعصية أو شائكة أو عدم الزواج عذاباً إلهياً يمثّل شقاء أبدياً للفتاة، وعليها أن تنصرف إلى تنمية شخصيتها بالأعمال الثقافية والاجتماعية والقيام بجهودها التي تمتلكها لإبراز العناصر الأساسية في شخصيتها. وفي موضوع الزواج المؤقّت فإنّ العلامة فضل الله ناقش هذا الموضوع بموضوعية علمية فقهية استندت إلى الحدود المرسومة لهذا الزواج وآراء أهل المشورة فيه، وتأثيره على الحياة العائلية وكيفية حلّ سلبياته (...).

وأمّا موضوع الزواج المدنيّ فيراه حلاً سياسياً في الزيجات المختلطة حتّى في دوائرها الخاصة (...).

أبغض الحلال

وفي باب الطلاق (أبغض الحلال) يشرح العلامة إلزامية المسألة في حالاتها الخاصة جداً وأحقّية المحاكم في إجراء الطلاق وحالات الطلاق التي تكون فيها بيد المرأة.

وفي باب تعدُّد الزوجات يشرح بدوره أصل الزواج هذا وما يرخّص به في أوضاع معيّنة، كذلك يورد، مفصلاً، سلبيات تعدُّد الزواج في آراء الآخرين والحكم الشرعيّ وحساب المصالح والمفاسد وإيجابياته في عملية مقارنة بين السلبيات أيضاً، ولماذا التعدّد للرجل دون المرأة؟ ليخلص الكتاب. "تأمّلات إسلامية حول المرأة"، إلى إعطاء المرأة أهميتها على الصعيد الحياتيّ والإنسانيّ والاجتماعيّ وقد أنصف العلامة محمّد حسين فضل الله المرأة في هذا الباب كما أنصفها الإسلام. وهو بذلك كان عادلاً ناصعاً، منحازاً إلى المرأة من أجل الحفاظ على أنوثتها وكيانها كبشر أولاً وكإنسان لم يميزّه القرآن عن الإنسان الآخر ـــ الرجل ـــ إلاّ ضمن الأشياء التكوينية الفيزيولوجية. وقد جاء الكتاب بمثابة المرجع والمدرسة والتشريع الذي ينصف ـــ نصف المجتمع ويجعلها مناصفة في الإرث والحبّ والزواج والطلاق وكلّ ما يتعلّق بجذور الحياة اليانعة الطالعة من خصوبة الأرض وتربتها المتوالدة في الزمان والمكان والتكوين.

جريدة الأنوار اللبنانية 16/11/1992

 

 

 

 

 

 

 

 

فضل الله في تأمّلاته حول المرأة

كتاب عفويّ لهجته صادقة وملفتة

 

بيني وبين الكتب التي تتحدّث عن المرأة ولع لا أقول عنه أنّه غير طبيعيّ.

فالمرأة، تهمّها قضايا المرأة.

والمرأة، بفضولية، تسعى لمعرفة رأي الجنس الآخر بها، فكيف إذا كان هذا الجنس الآخر رجل دين في حديثه الكثير الكثير من الثقافة واللباقة والدفاع عن حقوق المرأة، ما يرسم ابتسامات الرضا على شفاه النساء.

"تأمّلات..." هي آراء وتفسيرات وشروح.

"تأمّلات..." هي إجابات "من خلال تجاربي الفكرية ونظراتي الاجتماعية، ومن خلال فهمي المتواضع للإسلام" (ص 5).

"تأمّلات..." لإزالة التشويه المقصود والمتراكم الذي يسيء إلى "الصورة المشرقة للمعنى الإنساني للإسلام في تشريعه للإنسان" (ص 5).

"تأمّلات..." في الزواج ـــ بنوعي: الدائم والمؤقّت ـــ في العمل ـــ الأمومة ـــ العنوسة ـــ الحريّة ـــ الجمال ـــ الأنوثة ـــ الطلاق ـــ تعدّد الزوجات.

"تأمّلات..." والتأمّل بحاجة إلى وقت طويل، طويل... بينما كتابنا هو كما يقول مؤلّفه "السيّد محمد حسين فضل الله": "إجابات عفوية ارتجالية" (ص 5).

وبين التأمّل، والعفوية، والارتجالية نضع إشارة استفهام!

"تأمّلات إسلامية" غير عادية... "حول المرأة" ذلك العنصر الرقيق الهام جداً، تتصفّح الكتاب فتقِّطب ربّما، صديقي الرجل.

تتصفّحين الكتاب، صديقتي المرأة، فتجدين نفسك منساقة إلى تقليب الصفحات وقراءتها بنهم. وأشكّ أنّك قادرة على تركه قبل إنجاز آخر صفحة فيه. بل أجزم أنّه ستكون لك فيه عودة بل عودات.

***

الكتاب "التأمّلي"، "العفوي"، "الارتجالي" معاً، تميّزه العصرانية واللهجة الصادقة، الجديدة، الملفتة.

ـــ المرأة، أبداً، ليست ضعيفة.

"ما تعانيه من تخلّف ليس هو القضاء والقدر الذي لا بدّ منهما في حياتها، بل هو نتيجة للإهمال الكبير لعناصر القوّة والوعي في تربية شخصيتها وبناء وجودها، كما هو الحال في الرجل الضعيف في فكره والمتخلّف في وعيه وحركة حياته. إنّ ذلك ناشئ عن طبيعته بالذات في هذه المنطقة أو تلك. بل هو ناشئ عن تقصير في تهيئة عوامل التقدّم، والقوّة في الظروف المحيطة به" (ص 19).

ـــ المرأة، أبداً، ليست ضعيفة.

ولكن إنّه "الواقع السيِّئ الذي كانت المرأة تعيشه في أجواء التقاليد والعادات المتخلّفة التي تضطهد إنسانيتها وتعاملها كما لو كانت مجرّد شيء من أشياء الرجل التي صنعت للاستمتاع، من دون أن يكون لها أيّ دور فاعل في الحياة" (ص 26).

فظلّت بذلك "الإنسان المقهور المستعبد" (ص 26).

وظلّت "مجرّد ظلّ للآخرين وصدى" لأصواتهم وأداة استهلاكية لحاجاتهم وغرائزهم" (ص 26).

ـــ المرأة، أبداً، ليست ضعيفة.

"كلّ ما هنالك هو أنّ هنالك أسلوباً معيّناً في التنشئة التي قد تترك تأثيراتها السلبية على طريقة نمو الشخصية في المرأة" (ص 18).

ـــ المرأة، أبداً، ليست ضعيفة.

إذ لا "فوارق في الجنس أمام وحدة العقل والإرادة والحركة والمواقف" (ص 12).

 ـــ المرأة، أبداً، ليست ضعيفة.

اسألوا التاريخ عن "مريم، وامرأة فرعون" و"خديجة الكبرى أم المؤمنين (رضي الله عنها) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) والسيدة زينب ابنة عليّ (عليها السلام) (ص 18).

فليسمح لنا مؤلّف كتاب، "كتيب"، "المرأة في حوار مع العقل" حين يقول بلسان "العقل" "؟؟؟".

"في موسكو الملحدة الحكام رجال من أيام لينين وستالين وخروشوف وحتّى عصرنا الحاضر، وفي فرنسا الحكام رجال، وفي كلّ مكان من الأرض إلاّ ما قلّ وندر الحكّام رجال، هم الذين يحكمون ويقودون ويخترعون..

وجميع الأنبياء كانوا رجالاً، وجميع الفلاسفة كانوا رجالاً، وحتّى صنعة الطهي والحياكة والأزياء هي تخصّصات نسائية تفوَّق فيها الرجال ثم انفردوا بها..." و"الإسلام لم يفعل أكثر من تسجيل القاعدة" (ص 9).

ليسمح لنا مؤلّف هذا الكتيّب بأنّ العقل ألا نصغي لهذا "العقل" لأنّنا سئمنا تكرار بطولة الطهي والخياطة ولا أعتقد أنّ دور الإسلام اقتصر على تسجيل القاعدة بعد أن قام بإحصاءات لحكّام وفلاسفة وأنبياء وطهاة ومصمّمي الأزياء من الرجال في العالم. لكن أجود ما في هذا الكتيب صفحاته القليلة.

نعود من جديد للمرأة في "تأمّلات إسلامية حول المرأة" الإسلام ومنطق القوّة؟

أم المرأة ومنطق القوّة؟

أم كلاهما معاً؟

يدخل الجزء في الكلّ! لكلّ عضو دوره الفعّال في أيّ جسم وكي يكون الجسم قوياً، فعلى كلّ الأعضاء أن تتمتّع بالقوّة والنشاط.

"إنّ المسألة تحتاج إلى مبادرة وإلى عملية دخول في صراع مع المفاهيم المتخلّفة" (ص 36).

وما أكثرها. وما أكثر المُنادين بها باسم الفكر والدين وعلم الاجتماع وعلم الرجولة والأنوثة.

من هنا، في كلّ الصفحات كلمات تتكرّر. مجرّد تكرارها يعطيك القواعد المبني عليها الكتاب:

"تتحرّك ـــ تعمل على ـــ تتمرّد ـــ تتصلّب ـــ تخطّط ـــ تتحرّر ـــ تجاهد ـــ تقنع ـــ تندفع ـــ تشترط ـــ تقف ـــ تواجه ـــ تعبّر ـــ تختار ـــ تفهم ـــ تنمّي شخصيّتها ـــ تأخذ حقّها"...

ـــ المرأة منطق القوّة؟

لا أعرف لماذا يقف هذا العنوان لي واضحاً كلّما تصفّحت المزيد وتمعّنت بالأفكار الواردة.

ـــ المرأة ومنطق القوّة؟

ـــ كيف؟

ـــ بالعلم...

"إنّه بإمكان المرأة أن تمارس كلّ حركتها في ذاتها كإنسان من خلال حركة العلم في شخصيتها إلى أبعد الآفاق ومن خلال حركة النشاط العمليّ والسياسيّ والاجتماعيّ في الدائرة الأخلاقية التي جعلها الله مشتركة بينها وبين الرجل مع ملاحظة خصوصيتها كامرأة في مقابل خصوصيته كرجل" (ص 32).

ـــ بالعلم...

أجل!

"نرى أنّه إذا كانت المرأة تعرف أنّها تستطيع أن تهديَ جمهوراً من النساء أو من الرجال، فإنّه يجب عليها أن تقوم بذلك في دائرة إمكاناتها الطبيعية والواقعية، وحتّى إِنّها إذا كانت تستطيع توسعة هذه الإمكانات، من دون أن تضغط على ظروفها، فإنّه من الواجب عليها أن تفعل ذلك وربّما تكون المصلحة في أن يكون القيام بهذا الدور الثقافيّ في بعض مسؤولياتها الخاصة في بعض الحالات" (ص 41).

ــــ المرأة منطق القوّة؟

ــــ كيف؟

ــــ بالعمل.

"إذا أحسنت إدارة وقتها واستغلاله كما بالنسبة للرجل، لأنّنا نجد أنّ كثيراً من الأمور التي تستهلك حياتنا يمكننا أن نختصرها وحتّى أن نلغيَ جزءاً منها" (ص 41).

ــــ بالعمل.

"دور المرأة أن تكون ربّة البيت ليس هو دورها الوحيد فللمرأة ساحة واسعة تستطيع أن تقوم فيها بمسؤولياتها في ما يمكن لها أن تتحمّله من مسؤولية في نطاق ثقافتها وفي نطاق طاقتها الاجتماعية التي تملكها" (ص 40).

لا اختصاصات إذن.

لا فروق.

الرجل والمرأة يتكاملان. يتساعدان في توازن واستقامة.

فيا أيّتها الزوجات، يا أيّتها الأمهات:

أنتن مدعوّات للقراءة والسماع.

"الأمومة في مسؤولياتها ومشاكلها، كالأبوّة في بعض هذه المسؤوليات والمشاكل" (ص22).

إذن "المرأة ـــ الزوجة، أو المرأة ـــ الأم" يجب ألاّ تلغيَ شخصيّتها كإنسانة بل "لا بدّ أن تضيف إلى الإنسانة شيئاً من عطائها الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ" (ص 22).

"فإذا كان دور الأبوّة لا يلغي للرجل أدواره الأخرى في حركة الحياة، من خلال البُعد الإنساني الواسع في شخصيته، فكيف يكون من الضروري أن يلغي دور الأمومة للمرأة أدوارها الأخرى المتّصلة بإنسانيّتها" (ص 27).

نعم للمرأة دور هام، بل الأهمّ في "تربية الأطفال وفي رعاية الزوج وفي إدارة الحياة الزوجية ولكن ليس معنى ذلك أنّ هذا هو دورها الوحيد" (ص 40).

والحلّ؟

بين الزوجة والأم.

بين الزوج والأطفال والمجتمع والعلم والثقافة والعمل، لا بدّ "أن تتكامل في هذا المجال التربية الأخلاقية والاجتماعية والروحيّة والجنسيّة والشرعيّة، لتعيش ـــ المرأة ـــ شخصيتها الإنسانية الذاتية في دورها المتعدّد الجوانب بشكلٍ طبيعي" (ص 37).

المرأة إذاً مدعوّة لأنّ تنهض وتنفض عنها غبار الجهل والظلم المتراكم.

المرأة يجب أن تصاغ من جديد، على أسس جديدة، متينة مفعمة بالثقة، بالشباب، بالجرأة.

"إنّنا عندما نريد أن نصوغ المرأة ومنذ بدايتها الطفولية ولغاية مراحل تدرّجها في الحياة، لا بدّ لنا أن نعنى بإنسانيّتها" (ص 36).

"إنّ على المرأة أن تتحرّك في المجتمع بإنسانيّتها لا بأنوثتها" (ص 52).

"إنّنا نريد للأنوثة أن تغنيَ إنسانية المرأة ليكون هناك تفاعل بين الأنوثة وبين الإنسانية، فتتأنسن الأنوثة وتتأنّث الإنسانية" (ص 52).

نعم... كما الضعف للرجل والمرأة سواء، كذلك القوّة.

"إنّ للمرأة، ولكلّ إنسان، الحقّ في أن يحصل على عناصر القوّة في شخصيته التي تبعده عن الانسحاق أمام الظروف الطارئة لذلك فنحن نرى أنّه من الضروري للمرأة كما للرجل، أن يكون لكلّ واحد منهما مهنة أو خبرة أو موقع في الحياة يستطيع من خلاله أن يواجه كلّ الحالات الطارئة التي تجعله في حاجة إلى الآخرين. إنّ الناس تستعبدهم حاجاتهم والله يريد للناس أن يكونوا أحراراً، ولذلك يريد لهم أن يعيشوا الحريّة في حاجاتهم حتّى يعيشوا الحريّة في إنسانيّتهم" (ص 115).

أجل..

والمرأة ربّما أكثر حاجة من الرجل، بل بالتأكيد، إلى هذه "المهنة" أو "الخبرة" أو "الموقع" لأنّ حاجة المرأة عندما تصطدم بظروف قاسية، مفاجئة، تصبح حاجة يعرض أصحاب المصالح والغايات حلولاً لها، مفصلة على قدر شهواتهم ونزواتهم الخاصة.

فيا أيّتها المرأة آن وقت النهوض.

لا تنتظري أن يعطيك أحد حقوقك.

فالحقّ يُؤخذ ولا يُعطى.

حتّى في أدقّ المسائل الحياتية.

"وإنّني أتصوّر أنّ الزوجة التي قد تصطدم بأنّ زوجها أصبح بعيداً عنها روحياً أو نفسياً تحت تأثير أيّة حالة من الحالات، ينبغي لها أن تفكّر بالانفصال عنه إذا لم تستطع أن تقنعه أو تغيّر أفكاره أو أوضاعه في هذا المجال بطريقتها الخاصة، أو بواسطة الناس الآخرين، لأنّ الإنسان لا يشعر بمعنى الحياة إذا كان يعيش مع إنسان آخر يشعر بأنّه لا يطيقه ويرغب في الابتعاد عنه، لهذا، فإنّني أتصوّر أنّ الزوجة لا تشعر بالسعادة أو بالراحة مع الزوج عندما يفقد مشاعره الحقيقية الإنسانية نحوها. ولذلك، فإنّ الطلاق يكون حلاً لمشكلتها الجديدة" (ص 114).

فيا أيّتها المرأة آن وقت النهوض والمجابهة.

"إنّي أشجّع على أن تأخذ المرأة هذا الحقّ ـــ الطلاق ـــ لنفسها لتخفّف من غلواء الرجل في هذا الاتجاه الخاطئ" (ص 149).

الزواج ـــ الطلاق ـــ الحرية ـــ المتعة ـــ العمل كلّها أمور قد يسيء البعض استخدامها، فيظنّ الآخرون أنّها بطبيعتها سيّئة ومجحفة، بينما هي حلول طارئة لمشاكل مستعصية. حلول جراحية نستعملها حين لم ينفع الدواء.

يقول الشهيد مرتضى المطهري في "نظام حقوق المرأة في الإسلام" الذي أتاح لي فرصة اكتشاف قراءات جديدة ممتعة عبر أحد الأصدقاء المخلصين والمثقّفين:

"إنّنا يجب ألاّ نهاجم القانون عندما نعجز عن إصلاح الناس وتوعيتهم فنبرّئ الناس ونتّهم القانون" (ص 45).

"تأمّلات إسلامية حول المرأة"

أم "المرأة منطق القوّة"؟

كتاب أكثر من عاديّ

كتاب ليس حول المرأة، بل هو للمرأة.

جريدة الأنوار اللبنانية 24/10/1992

 

 

 

 

 

 

الحياة بحركتها تتجاوز الكثير من القِيَم الاجتماعية المتغيّرة، وفي خضم هذه الحركة المتجّددة قد يتوهم بعض الناس إلى الحاجة إلى تأصيل ثوابت جديدة، والحقيقة أنّ هناك حاجة إلى مواكبة هذه الحركة بالانفتاح عليها، بنفس الثوابت.

وعلى صعيد الحركة الحياتية في بعدها الاجتماعي وبالخصوص العلائق بين الرجل والمرأة، يأتي كتاب آية الله السيّد محمد حسين فضل الله "تأمّلات إسلامية حول المرأة" كنقطة ضوء تتحرّك في أفق الحياة الإسلامية الإنسانية لتكشف عن الحقيقة التي قد تتلاشى صورتها بين خطوط الحركة السريعة والمتشابكة وتظهر المنطق الإسلاميّ دونما خضوع لأيّ ابتزاز عصريّ، حيث يقول: "لا نتبنّى المنهج التوفيقيّ الذي ينطلق من الرغبة في التوافق مع فكرته عصرنة الإسلام في خضوعه للمتغيّرات الطارئة المنطلقة من سيطرة فكر معين. (ص 13).

الكتاب ينطلق من حقيقة، أنّ الإسلام المسلم، رجلاً كان أو امرأة يجب عليه أن يتحرّك في خطّه الرسالي، وأنّ ذلك لا يتمّ إلاّ من خلال تفعيل كلّ طاقته كإنسان ولو من منطلق تفعيل تلك الطاقة على حساب كونه ذكراً أو أنثى، دون إلغاء هذا الجانب، وانطلاقاً من هذا المرتكز يرتسم دور المرأة أو الرجل الرسالي.

ومن الطبيعيّ أنّ الحديث عن المرأة يعاني من حساسية تاريخية قديمة، بفعل ما تتمتّع به المرأة من طاقة إغرائية تفوق الرجل، وما لحق بها من غبن نتيجة لتكرار ممارسة مطردة كرّست ضعفها من جهة، وكرّست قوّة الرجال من الجهة الثانية، لا بدّ من وضع النقاط على الحروف ليبرز المعنى جلياً مشذباً من الحذف والإضافة، لكي لا نصاب بداء التطرّف، فننجر وراء دعوات الإفراط أو التفريط الذي يخطئ الحقيقة ويصيب باطلين.. فلا نتبنّى جزءاً من الممارسة الاجتماعية التي ينطلق من موروث خاطئ يسلب المرأة حقّها "فإنّ الكثيرين من الأجيال الجديدة يختزنون رواسب ما كان يعيشه آباؤهم الذين ينكرون عليهم تقدّمهم، ومع ذلك يتأثّرون بهم، وبهذا لا تكون الحياة نتيجة علاقة مدروسة فيما بينهما، بل تكون علاقة خاضعة للفوضى وللتأثير وللرواسب" (ص 81) ولا نتبنّى أيضاً الجزء الآخر الذي يدعو إلى حريّة المرأة دون ضوابط تبقى المرأة متحرّكة على خطّها كإنسان رساليّ، إذ إنّه "لا بدّ من وضع الضوابط العملية التي تجعل من الحريّة حركة واقعية في المصلحة العليا للإنسان على مستوى الفرد في ما يحمي له سلامة حياته وتوازنها في حركة الروح والجسد، وعلى مستوى الجماعة في الساحة المفتوحة على تنوّعات المجتمع في المجال الضيّق والواسع، (ص 28)، والسيّد فضل الله، يدعو إلى حال منضبطة كهذه، سواء على حركة المرأة وعملها واختلاطها بالرجل في الحياة العامة، أو على مستوى اختيارها وزواجها وأمومتها في الحياة الخاصة، بحيث يتكامل الرجل والمرأة تحت العنوان المحترم الكبير "الإنسان" دون أن يلغيَ أحدهما شخصية الآخر أو دوره.

والحقيقة التي لا جدال فيها أنّ الإسلام ليس ديناً كهنوتياً، بل أنّه الشريعة الخاتمة المتكاملة التي تنظّم علاقات الإنسان في كلّ الاتجاهات وتغذّيها بأسباب رقيّها وتساميها، إضافة إلى البعد المعنوي في الإنسان فهي تحرّك حتّى البعد الغريزيّ في خطّة كريمة مقدّسة حيث إِنّ الإسلام لا يقف بين الإنسان وبين إشباع الغريزة والذّات، ولكنّه يحكم هذا الإشباع بعوامل رقيّه، يحرّم الزنا، ويحلّل، بل يقدّس الزواج، يحرّم الربا ويبارك البيع والتجارة، يحرّم السرقة، ويحمي الحيازة المشروعة، وهكذا، إضافة إلى احتوائه على التشريعات الوقائية التي من شأنها أن تزيل أيّ ضغط يهدّد بالانحراف.

وانطلاقاً من هذه المرتكزات الشرعية يعالج أموراً عدّة تتعلّق بالمرأة، والمجتمع عموماً كالعمل والصداقة والحبّ فالعمل كما هو واجب الرجل، فهو واجب المرأة، باعتبار دورهما الرساليّ، إذ إِنّ "الإسلام لم يلغِ إنسانية المرأة، ولم يعفِ المرأة من مسؤوليتها، (ص 40)، ولكنّ هذه المسؤولية تتحرّك مع مراعاة قواعد السلوك الإسلاميّ، فمثلاً لا يحقّ للرجل أن يمنع الزوجة عن العمل المحلّل شرعا،ً "إلاّ من خلال طبيعة ما يقتضيه هذا العمل من خروج المرأة من بيتها، باعتبار لزوم استئذان الزوج، أمّا مطلقاً، أو فيما ينافي حقّه، (ص 38)، وذلك لاعتبارات القوامة التي لا تعني إلاّ الأمور المتعلّقة بالبيت الزوجيّ.

أو فيما يخصّ الاختلاط "فإنّنا يمكن أن نعيش الحاجة إلى بعض الأجواء المشتركة في العمل الاجتماعيّ، أو العمل الإسلاميّ، أو العمل الثقافيّ، وهذه الأجواء لا بدّ لنا من أن نحصّنها بكثير من القيود والشروط التي تبعدها عن أن تكون أداة للانحراف قد تتحرّك في أكثر الأحوال في اتجاه سلبيّ فإنّ "على المجتمع المؤمن أن يدرس هذه الأمور دراسة دقيقة حتى لا يقع في التجربة الصعبة التي قد تسيء إلى الطرفين، أو إلى المجتمع المؤمن بالكامل" (ص 55).

وفيها يتعلّق بموضوع الحبّ "فإنّ الإسلام لا يمنع الشاب من أن ينجذب إلى الفتاة كما لا يمانع في أن تنجذب الفتاة إلى الشاب (ص 60)، ولكن بشرط أن يجريَ هذا الانجذاب على خطّه الشرعيّ أي ينتهي إلى علاقة شرعية.

وقد عالج السيّد فضل الله واقع التخلُّف الذي تعاني منه المرأة، مشيراً إلى أنّ مسألة التقدّم هي مسألة تخضع لطروحات فكرية، وأن تخلُّف مجتمعنا، رجالاً ونساءً له أسباب داخلية أنتجتها الممارسة المغلوطة التي أدّت إلى إغفال "تأصيل الشخصية الإسلامية في الحياة الفردية والاجتماعية" (ص 35)، أمّا تخلّف المرأة فقد كرّسته الممارسة الموروثة، وعلى المرأة "أن تعمل في خطّ جهاديّ طويل على إقناع الرجل بأنّها إنسان، وأنّها تستطيع أن تقوم بعملية التنمية سواء أكان ذلك على المستوى الثقافيّ، أم الاجتماعيّ، كما يقوم الرجل، (ص 35).

جريدة العهد اللبنانية/ 2 تشرين الأول 1992

 

  

 

 

 

  

 

 

       

 

  

 

 

 

 

 

 

  

 

  

 

 

 

      

 

    

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

     

 

      

 

   

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

 

   

 

   

 

 

 

 



(1) الحسن الطبرسي، "مكارم الأخلاق".

(2) لم تثبت صحّة هذا الحديث من ناحية التوثيق السندي لأنّه مرسل كما ذكره الإمام الخوئي في بحثه الفقهي في كتاب "مستند العروة الوثقى ـ كتاب النكاح، ج1، ص53، فلا مجال للاعتماد عليه.

(1) وهذا هو مفاد الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء : 34] .