{وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب} الذي يختص به، فلا يعلم الغيب من موقع الذات إلاَّ هو، فإنَّ اللّه لا يريد للمؤمنين أن يرتبطوا بالجانب السهل من وعي الواقع، لتكون مسألة المعرفة لديهم منطلقة من الغيب الذي يريدون من اللّه أن يطلعهم عليه من دون أن يبذلوا أيّ جهد شخصي في سبيل الوصول إليه، من خلال الوسائل التي أودعها اللّه فيهم في طاقة العقل، وفي قوّة الحبّ، وفي حركة الإرادة، وفي المعطيات الكثيرة المتناثرة على صعيد الواقع، ما يتيح لهم أكثر من فرصة للوصول إلى النتائج المعرفية على مستوى النَّاس أو الواقع، الأمر الذي يعمّق الفكرة في الوجدان بأكثر مما يحصلون عليه من خلال المعرفة الآتية من الخارج، ولو كان ذلك من الغيب، لأنَّ الإنسان الذي ينتج الفكرة ـ من خلال تجربته التأمّلية والعملية ـ يختلف في وعيه الفكري عن الإنسان الذي يستهلكها في وجدانه، {ولكنَّ اللّه يجتبي من رسله من يشاء} فيختار من يشاء منهم، فيطلعه على الغيب من خلال الوحي النازل عليهم مما يتصل بحاجات الرّسالة ومنطلقات الرَّسول، لأنَّهم لا يملكون علم الغيب من الناحية الذاتية، بل ربَّما نفهم من الآيات القرآنية أنَّ اللّه لم يمنحهم هذه المعرفة بشكلٍ مطلق، بحيث تكون طبيعةً ثانيةً فيهم، بالإلهام الإلهي الذي يتحوّل فيهم إلى قوّة المعرفة الغيبية تبعاً للإرادة أو لحاجات الذات، بل إنَّ اللّه يطلعهم على بعض مفردات الغيب، ويعلّمهم إياه من خلال حكمته التي تتحرّك ـ من خلالها ـ مشيئته من خلال ما يعطي ويمنع، حتّى أنَّ الآية التي استدل بها على علم الأنبياء بالغيب لا تدل على أكثر من ذلك، بمعنى المعرفة التدريجية التابعة للحاجات الرسالية، وذلك قوله تعالى: [عالِمُ الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلاَّ من ارتضى من رسول فإنَّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً] (الجن:26ـ27)؛ فإنَّ ظاهره أنَّ المسألة مسألة إظهار على الغيب وليست مسألة إعطاء القدرة على معرفة الغيب.

وربَّما نلاحظ أنَّ الفقرة المذكورة لا تتحدّث عن اطلاع الرُّسل على الغيب، بل تتحدّث عن اجتباء اللّه من رسله مـن يشاء، فهو العالـم ـ وحده ـ بالغيب، فـلا يعلم الغيب إلاَّ هو. ويمكن استفادة ذلك من كونه استثناء ـ ولو كان منقطعاً ـ من جملة: [فآمنوا باللّه ورسله] لأنَّ المناسبة الوحيدة التي تفرضها هي هذه المسألة، فإنَّ اللّه لا يطلع عباده المؤمنين على الغيب، إذ لا مصلحة لهم في ذلك، ولا دور لهم يتطلب مثل هذا العلم بالغيب، أمّا الرّسل الذين يصطفيهم اللّه، فيوحي إليهم ويخبرهم بأنَّ في الغيب كذا، وأنَّ فلاناً في قلبه النفاق وفلاناً في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار اللّه له لا من جهة اطلاعه على المغيبات، لأنَّ دوره في حركة الرسالة يقتضي ذلك، لعلاقته بالمسألة في إبلاغ الرسالة، وفي تحديد بعض المواقف التي تفرضها المسألة المصيرية في موقعه وموقفه، مما يتوقف عليه معرفة بعض الأمور وبعض الأسرار بما لا يتيسر له الاطلاع عليه من ناحية ذاتية.

إنَّ علم الغيب يتحرّك في شخصية الرَّسول من خلال الدور الذي أوكله اللّه إليه، فيمنحه اللّه منه بالمقدار الذي تفرضه حاجة الرسالة إليه، وليس امتيازاً ذاتياً له من موقع التشريف في الذات، لأنَّ اصطفاء اللّه له وخلافته عنه هو الذروة في التشريف بحسب طبيعته، بقطع النظر عن الجزئيات المتصلة به. وهذا ما يُستفاد من مجموع الآيات المتصلة بذلك؛ فليست المسألة في موقع الإيجاب الكلي لتكون الذات ذاتاً تختزن الغيب في وجدانها الذاتي، وليست في موقع السلب الكلي، فهناك الدور الغيبـي في مواقع الرسالة وحاجاتها. واللّه العالـم.

*من وحي القرآن