آية الله العظمى

السيّد محمد حسين فضل الله

 

الندوة – الجزء السابع عشر

سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق

محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسّيرة

 

 

                                                إعداد عادل القاضي

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شكر وتقدير وامتنان وعرفان!!

لا يسعني وأنا أقدّم الجزء السابع عشر من كتاب (الندوة) إلاّ أن أتقدّم بوافر الشكر والتقدير للأَخَوَيْن الفاضِلَين: الأستاذ المحمود (محمد الحسيني) والسيّد النجيب نجيب فضل الله، لما يمهّدانه من طريق الإعداد لهذا الكتاب الذي عادَ بفضل الله ومعونتهما يسيراً معبّداً أكثر من ذي قبل.

كما أغتنمُ هذه الفرصة لأعبِّر مجدّداً عن بالغ امتناني وخالص تحيّتي لسماحة السيّد الذي أولاني ثقة المواصلة في الإعداد لهذا الكتاب الأثير إلى نفسي، ضارعاً إلى الله أن يتقبّل هذا المجهود من صاحب النّدوة وهذا اليسير من معدّيها بأحسن القبول.

كما أشكر قرّاء هذه السلسلة المباركة لما يوفّرونه لنا من فُرَص الخدمةِ والثواب وله سبحانه وتعالى الحمدُ أوّلاً وآخراً.

    المعدّ

عادل القاضي

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

حديث العقل

إذا كانَ لكلّ شيء نظام فـــ (عقلُ المرءِ نظامه)(1) كما يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فإذا استقام النظام استقامت الحياة وترعرعت ونَمَتْ وازدهرت وتحضّرت، وإلاّ اختلّت وتزلزلت وارتبكت خطاها فتاهت وتاه مَن سار في دروبها.. "هي المهلكةُ طُلّابَها".. ذلك أنّ "مَن قعدَ به العقل قام به الجهل"(2).

قانون لا يقبل المساومة ولا المفاصلة، فليس بين العقل وبين الجهل منطقةٌ وسطى، أليس وجيهاً ومنطقياً وموضوعياً بعد ذلك أن يكون العقلُ ملاك التكليف وعماده، فلا مسؤولية بلا عقل ولا عقل بلا مسؤولية، تلازم كتلازم النَظر والبَصرْ، ولهذا كانت رؤية الآيات الكونية والآفاقية رؤية بصيرة وعقل وتفكّر وتأمّل واستكشاف وأسئلة تُطرَح وإجابات تُستنبط، فلا يدرك من ذلك كلّه أو بعضه إلاّ (أولو الألباب).

في الرواية عن الإمام الكاظم (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}(3) قال: "يعني العقل والفهم"(4). فحينما ترد آية في كتاب الله فيها لفتة لآية كونية فهي لفتةٌ معرفيّة، وهذا يعني في لغة الإشارات المروريّة (قفْ).. واترك للعقل أن يتزوّد ويستثري ويغتني ويسبح في الملكوت ويحلّق بعيداً عن (عقال) الجسد، الذي يُثقلُه (ليثّاقلَ) إلى الأرض!

كان (أحمد شوقي) محقّاً حين استوقف سائق السيارة التي كانت تمخُر طريقاً زراعية ليقول له:

هذي الطبيعةُ قفْ بنا يا ساري            حتّى أريكَ بديعَ صُنعِ الباري

وكان (عمر أبو ريشة) محقّاً هو الآخر حينما استوقفته آثار الماضيين وأطلالهم ليقول لها: أين بانوك؟ أين ساكنونك؟ مالكِ صامتة، لا تتكلّمين: "قفا قدميَّ إن هذا المكانَ يغيبُ به المرءُ عن حسِّهِ".

(قفا) هنا (وقف) هناك، وقفات للتأمّل، وبالتالي فكلّ وقفة تأمّل وقفةٌ للتزوّد، وما أحرى العاقل في عصرٍ تجري فيه الحياةُ جريانَ السيارات المارقة في نهر الشارع الهادر الذي لا يلتفت، أن يقول لعينيه (قفي) ولرجليه (قفا) ولسمعه (قف) ولقلبه (قف) ولحركته (قفي)!.. وإلاّ كان (سيّارة) مارقة في النهر المتدفّق بالسيارات التي لا تكاد ترى بعضها للسرعة الخاطفة التي تندفع كلٌّ منها بها.

ألسنا في حياتنا المعاصرة في سباق محموم أشبه بسباق السيارات المجنونة، حتّى إذا انقلبت سيّارة مسرعة أو اشتعلت فيها النار، لم تتريّث السيارات الأخرى لتغيثها، أو لتتفقّدها، أو تستطلع الوضع، أو لتعتبر بها على الأقل!

إذا غاب العقل أو غيّبَ فليس إلاّ (الجنون) كلّه، أو شعبة من شعبه، ألمْ ترَ إلى البيت يُطفأ فيه السراجُ كيف ترتبك الحركة داخله، وكيف تتشابه الأشياء وتستوي في انعدامها، وكيف يكثر الارتطام وتتعدّد الضحايا والخسائر، يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) "مثلُ العقلِ في القلب، كمثلِ السراج في البيت"(1) (*) العقلُ نور والعقلُ ضياء.

لهذا كلّه.. يتّضحُ لنا السبب في أنّ (الدين) هو (العقل).. قل لي كم عندك من العقل، أقل لك كم عندك من دين، فليس اعتباطاً أنّ من يخشى الله حقّ خشيته هم العلماء وأولو الألباب، فالعقول أئمّة الأفكار تقودها إلى (الجنّة) أو (النّار) والجنّة والنار هنا ليس فقط الآخرويتين، بل جنّة الحياة ونار الحياة، فهما ـــ كما يؤكّد سماحة السيّد ـــ يصنعنا في دنيا الإنسان، والعقل كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "منزّه عن المنكر آمرٌ بالمعروف"(2) لا يغرّر ولا يخدع ولا يزوّر.. هو (هادي) و(دليل) و(مرشد) و(خارطة طريق).. وعلى هذا كان "قوام المرء ـــ كما يقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ عقله ولا دين لمن لا عقل له"(1). ألم يقل أمير المؤمنين (عليه السلام) "حبذا نومُ الأكياسِ وإفطارهم"(2)؟!

(حديث العقل) في (الندوة):

في حدود اطّلاعي المتواضع، لم أجد سماحة السيّد يركّز في (الندوة) على موضوعٍ كتركيزه على (العقل) ولم يُولِ مفهوماً من مفاهيم الإسلام ما أولاه مفهوم العقل والعقلانية، وكان أكثر ما يستشهدُ به من روايات وأحاديث بشأن العقل روايتان:

الأولى: عن الإمام الباقر (عليه السلام): "لمّا خلق اللهُ العقل استنطقهُ، ثمّ قال له أقبِل! فأقبَل، ثمّ قال له: أدبِر فأدبر، فقال: وعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً أحسن منك ـــ وفي رواية ـــ أعزّ منك ـــ وفي أخرى ـــ أكرم عليّ منك ـــ وفي ثالثة ـــ أحبّ إليّ منك ـــ وفي أخريات ـــ أطوع وأشرف وأرفع وأعظم، إيّاك آمر وإيّاك أنهي، وإيّاك أُثيب، وإيّاك أُعاقِب"(3). والدلالة في التركيز على الرواية غيرُ خافية.

الثانية: عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام): "إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، وأمّا الباطنة فالعقل"(4). أو كما يعبّر سماحته فإنّ للإنسان عقلاً من خارج وهو (الرسول) ورسولاً من داخل وهو (العقل).

حديثُ العقل في الندوة أحاديث وليس حديثاً واحداً، وهو (روحُ الندوة) و(عمودها الفقري) وواسطة العقد فيها، فكلّما عصفت (الانفعالات) نسّم سماحة السيّد عليها بنسائم العقل وادعة متّزنة، وكلّما عتت أمواج (الغلوّ) تطامنها برخاء العقل وسداده، وكلّما اصطخب الضجيج الغرائزيّ هدّأ من غلوائه بسكينة العقل، علَّ السادر يرعوي فيثوب إلى رشده وعقله، والعاقل يزداد قناعة بقيمة الكنز الذي تحت يديه.

ما هي طبيعة أزمتنا؟

هناك مقولة جاهزة يُردّ بها على السؤال المتقدّم: أزمتنا أخلاقيّة.

دعوني أقول لكم: أزمتنا عقلية!

فحتّى الأزمة الأخلاقية هي رشحة من رشحات الأزمة العقلية، فنحن نعتقد أنّ الأخلاقيات والتربويات والعقائديات والفقهيات والفكريات هنّ بناتُ العقل وأخواته وقرباه وأرحامه.

فمن المستقلّات العقليّة أنّ الحُسنَ ما حَسّنه العقل والقُبح ما قبّحه العقل، وهل يأمر العقلُ إلاّ بكلّ ما هو أخلاقيّ يُزيّن الحياة ويطيّبها ويوازنها ويهديها ويعقلنُ خطاها، وهل يدلُّ العقل على غير أصول الدّين وفروعه وإلاّ ما وجب النظرُ والبحثُ في الأولى، وما استجاب للتكليف والمسؤولية في الثانية لولا ما انطوت عليه من منافع ومصالح حتّى في غير ما يدركه ويرقى إليه، وهل اعتباطاً أن يكون العقل حجّة وأداة للاستنباط بعد القرآن والسُنّة (حتّى أنّ المنهج الإسلامي في النقد يرى أنّه لا يمكن حصول تعارض بين النصّ الدينيّ والعقل، فإذا تعارض ظاهرُ النصّ مع العقل لزم تأويل النصّ لمصلحة العقل إذا أمكن، وإلاّ فَقَدَ قيمته كنصّ ديني"(1).

ولأنّ سماحته يرى أنّ قيمة الوثيقة العقلية التأريخيّة "وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم" هي الأوفى والأشمل من بين ما وصلنا من مأثور في مسألة العقل، فلقد تناول العقل من خلال الوصية في سلسلة طويلة من المحاضرات في الجزئين (14 و15) من (الندوة) ناهيك عن قائمة طويلة من المحاضرات والإجابات المتعلّقة بالعقل، حتّى إِنّك لتنتهيَ إلى محصّلة واستخلاص مفادهما أنّ (مرجعية) العقل هي في الصدارة من المرجعيات الأخرى (غير القرآن) و(السُنّة) بالطبع، والعقلاء هم (الطليعة) في كلّ عصر ومصر ونائبة وشائكة.

وحتّى أضع القارئ في صورة ما تحدَّث به سماحته في حديث العقل أقدّم بين يديه الكريمتين هذا الكشف بالمحاضرات التي تناولت موضوع العقل تاركاً فرص الحديث الأخرى عن العقل في أسئلة الندوة لمراجعة فهارس الأجزاء السبعة عشر من هذا الكتاب المكتبة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الجزء                               العنوان                                          الصفحة

ج2                   هدوء العقل في خضم المأساة                                  15   

ج3                   موقع العقل في حياتنا                                          51   

ج12    17           العقل في القرآن (1) التدبّر في الكون                           237

ج12    18          العقل في القرآن (2) دعوة الأنبياء (ع) رائدها العقل       245

ج12    19           العقل في القرآن (3) أعداء العقل                               255

ج12    20           العقل في القرآن (4)  المناقشة العقلية للقيادات                   265

ج12    21           العقل في القرآن (5) مَنْ هم أولو الألباب                        275

ج12    22           العقل في القرآن (6) الارتكاز على قواعد التخطيط                285

ج12    23           العقل في القرآن (7) الصبر لدى أولي الألباب                   295

ج12    24           العقل في القرآن (8) الإنفاق لدى أولي الألباب                   307

ج12    25           العقل في القرآن (9) تشريع القصاص (أ)                        319

ج12    26           العقل في القرآن (10) تشريع القصاص (ب)                    329

ج12    27           العقل في القرآن (11) تشريع القصاص (ج)              339

ج12    28           العقل في القرآن (12) تشريع القصاص (د)                      349

ج12    29           العقل في القرآن (13) شبهة تنافي الإعدام والرحمة               361

ج12    30           العقل في القرآن (14) امتدادات الخبيث والطيّب                  371

ج13    1            مكانة العقل في السنّة النبويّة (1)                               33

                      استعمالات العقل

ج13    2            مكانة العقل في السنّة النبويّة (2)                               34

                      المستوى الفكري للمرأة

ج13    3            مكانة العقل في السنّة النبويّة (3)                               59

                      الركيزة الأساس في حركة الإنسان   

ج13    4            مكانة العقل في السنّة النبويّة                                   71

                      دور التجربة في إغناء الفكر (1)            

 ج13   5            مكانة العقل في السنّة النبويّة (5)                               81

                      دور التجربة في إغناء الفكر (ب)

 ج13   6            مكانة العقل في السنّة النبويّة (6)                               91

                      دور العقل في إغناء الحياة 

ج13    7            مكانة العقل في السنّة النبويّة (7)                               99

                      دوره في إغناء الحياة الإنسانية                                 

ج13    8            مكانة العقل في السنّة النبويّة (8)                               111

                      دور العقل في إغناء الفكر الإنساني والعقيدي                   

ج13    9            مكانة العقل في السنّة النبويّة (9)                               125

                      قيمة العقل في ضمان المستقبل الإنساني                       

ج13    10           مكانة العقل في السنّة النبويّة (10)                             135

                      المؤثّرات السلبية على العقل                                    

ج13    11           رؤية الإمام عليّ (عليه السلام) للعقل (1) في ذكرى الغدير 143

ج13    12           رؤية الإمام عليّ (عليه السلام) للعقل (2) تنظيم الوقت           155

ج13    13           رؤية الإمام عليّ (عليه السلام) للعقل (3) تنظيم الوقت (أ) 169

ج13    14           رؤية الإمام عليّ (عليه السلام) للعقل (4) تنظيم الوقت (ب)      177

ج13    15           رؤية الإمام عليّ (عليه السلام) للعقل (5) عقل التجربة           188

ج13    16           رؤية الإمام عليّ (عليه السلام) للعقل (6) حسن التدبير          195

ج13    17           رؤية الإمام عليّ (عليه السلام) للعقل (7) أنواع التدبير           209

ج13    18           رؤية الإمام عليّ (عليه السلام) للعقل (8) تدبير الأسرة           219

ج13    19           رؤية الإمام عليّ (عليه السلام) للعقل (9) تدبير الأولاد           233

ج13    20           تدبير الأسرة (1)                                              245

                      الأسلوب الإسلامي في التعامل مع الأطفال                     

ج13    21           تدبير الأسرة (2) حقوق الولد على الوالدين                       257

ج13    22           تدبير الأسرة (3) تربية وإعداد الجيل الصالح              271

ج13    23           تدبير الأسرة (4) الولد غير الصالح                             283

ج14    7            وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (1)          90

                      دور الأئمّة التأسيسي في إرساء منهج العقل                     

ج14    8            وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (2)          99

                      إدراك العقل للخلق والتدبير وأسرار الحياة                        

ج14    9            وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (3)          113

                      الاستدلال العقيدي وارتباط العقل بالعلم                          

ج14    10           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (4)          125

                      العقلاء هم الطليعة الإنسانية                                   

ج14    11           وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (5)          137

                      العقل هو الدليل على الأشياء                                  

ج14    12           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (6)          147

                      العقل الباطن والعقل الظاهر                                   

ج14    13           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (7)          157

                      التقييم العقليّ للأعمال                                         

ج14    14           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (8)          167

                      خيارات العقل                                                 

ج14    15           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (9)          179

                      العقل والقناعة                                                

ج14    16           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (10)         191

                      الكمال والرشد العقليّان                                         

ج14    17           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (11)         205

                      مرجعية العقل                                                

ج15    10           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (9)          175

                      الإسلام دينُ العقل والحياة                                     

ج15    11           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (10)         187

                       العقل مدار الحياة كلّها                                        

ج15    14           وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (13)         217

                      جنودُ العقل

 

 

 

 

 

 

والله أسألُ أن يجعلنا ممّن ينتفعون بعقولهم ويحكّمونها في حركتهم في الحياة، ويجعلونها مرجعياتهم فيما اشتبه على الناس من الحقّ والباطل، أو أغمض عليهم فرأوا الحقّ باطلاً والباطل حقّاً بغير هدىً من الله، وبما اتّبعوه من أهوائهم، ذلك أنّ الرسول عقلٌ من الخارج والعقلُ رسولٌ من الداخل، وبالعقلين معاً، وبالرسولين معاً تتحرّك عربة الحياة صاعدة شطرَ الهدى.. هدى الله.

والحمدُ لله تعالى خالق العقل ومعظّمه ومعزّه ومكرّمه وجاعله دليلاً على معرفته والمعاقب به والمثيب به، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.

 

            عادل القاضي

            ديربورن ـــ أميركا

عيد الغدير الأغر 18 ذو الحجّة 1427 هــ

            8 كانون الثاني 2007م

 

 

 

 

 

 

 

 

               جدول إحصائي بمسائل الندوة ج17

المحاضرات                        30 محاضرة

المسائل القرآنية                    75

المسائل العقيديّة                    94

المسائل الفكرية                     35

المسائل الفقهية                     194

مجموع المسائل                    398

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

باب المحاضرات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الأولى

24 ربيع الأوّل 1427 هـــ ـــ 22/4/2006م

 

 

الاستغلال المالي باسم الدّين

 

إذا كنت لا تعطي أحداً مالاً إلاّ بعد أن تثق به، فكيف تعطي أحداً دينك من دون أن تثق به؟!

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

لا نزال نتابع حديث القرآن عن المال، وكيف يحرّكه الإنسان في طريق الحقّ، أو في طريق الباطل، وذلك عندما يملكه فريق من الناس يمثّلون الفريق الديني الذي يستغلّ التزام الناس بالدّين، وتعظيمهم للذين يمثّلونه، واستسلامهم إليهم، وتقديسهم لهم، بحيث يتقبّلون منهم كلّ شيء، حتّى لو دعوهم إلى الخرافة، وفرضوا عليهم التخلُّف، واستغلّوا مشاكلهم، ما يمنحهم الفرصة لأكل أموال هؤلاء الناس بالباطل.

استغلال الأحبار والرهبان للرئاسة الدينيّة

وهذا ما تناوله القرآن الكريم في حديثه عن الأحبار والرهبان الذين يمثّلون الرئاسة الدينيّة لهدى اليهود والنصارى، وقد تمثّل استغلالهم لمواقعهم في أمرين: 

الأوّل: أكل أموال الناس بالباطل.

الثاني: الصدّ عن سبيل الله.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ}(1)

يقدّم لنا القرآن الكريم هذا النموذج من الذين يملكون الصّفة الرسمية للدّين، ويجعلون من أنفسهم هداة للناس، فيما يحملونه من علم الكتاب، أو فيما يمارسونه من تدرّب على الجهاد الداخلي، بالعزلة الروحية التي يفرضونها على حياتهم عندما يذهبون إلى التعبُّد في رؤوس الجبال وفي الكهوف والمغارات، أو بالتقشّف القاسي الذي يخضعون له أجسادهم، أو بالبعد عن شهوات الحياة وزخارفها من خلال ما يظهرونه للناس من ذلك كلّه، وما إلى ذلك من أوضاع وممارسات على الأرض، تجعل منهم القدوة المثلى في نظر الناس، بحيث يخيَّل إلى الناس أنّهم وكلاء الله على الأرض، وأنّهم ممّن يملكون توزيع حصص الجنّة عليهم. حتّى إنّه ينقل أنّ بعض الأحبار والرهبان كانوا يبيعون بيوت الجنّة بالجملة، كما كانوا يوزّعون حصص النار على الذين لا يرضون عنهم، وبعضهم كان يمهّد للظالمين بسط سلطانهم على المستضعفين من الناس، وبعضهم كان يبيع صكوك الغفران، وهو ما نجده في مسألة الاعتراف التي اعتادها المنتمون إلى هذه الأديان، ليعترفوا للكاهن أو القسّيس أو غيرهما بكلّ ما أخطأوا فيه تجاه ربّهم، ليمنحهم بالتالي غفراناً لخطاياهم من خلال سلطته الممنوحة له من الكنيسة أو ما شابه.. وهكذا يؤكّد هذا الانطباع الذي يحمله الناس عنهم بالتقديس، تأثيرهم في المجتمع وسلطنتهم عليه، ولذلك طوّروا من أساليب استغلالهم لأموال الناس بطرق غير شرعية، تتنوّع بحسب تنوُّع المراحل والأديان.

وينقل التاريخ أنّهم كانوا يحلّلون لهم الحرام، ويحرّمون لهم الحلال، ويستغلّون ذلك في اجتذاب أموال الناس؛ لأنّ الذين يملكون المال والسلطان، قد يحتاجون إلى تحليل حرام يتّصل بمصالحهم وأوضاعهم، أو قد يحتاجون في سلطتهم على الناس إلى تحريم حلال. وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ـــ في حديثه عن واقع هؤلاء الأحبار والرهبان ـــ أنّه قال: "والله، ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم"، بحيث يطلبون منهم أن يعبدوا الربّ، "ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحرّموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون"(1). لأنّ العبادة ـــ في مفهومها ـــ تمثّل الخضوع المطلق الذي يعطي الإنسان المعبود كلّ ذاته، بحيث لا يملك أمامه شيئاً، بل يخضع له خضوعاً مطلقاً. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}(2) يعني أنّنا نعبدك ونخضع لك خضوعاً مطلقاً، فلا أمر لنا أمام أمرك، ولا موقف لنا أمام ما تريده لنا من موقف، ولا طاعة لأحد غيرك.

وقد يتحرّك أولئك الذين يمثّلون القيادة الدينيّة ليأخذوا بأسباب الرِّبا، وليفرضوا على الناس البسطاء ـــ باسم الغيب ـــ دفع الأموال، من أجل أن ينفّذوا ما يخطّطون له من تهديم قواعد الدّين الحقّ، سواء عبر تشويه المفاهيم الإسلامية، أو إضعاف الحضور الإسلامي في وجدان المسلمين. وهذا ما حدث في الحروب الصليبيّة التي انطلقت بها السلطة البابوية آنذاك، لتحشد الناس للهجوم على بيت المقْدِس، وجمعت لذلك الكثير من التبرّعات، ولا يزال المال لحركة التبشير أو الاستشراق، للصدّ عن سبيل الله. وقد انطلقت حركة التبشير جنباً إلى جنب مع حركة الاستعمار، وخصوصاً في بلادنا العربيّة والإسلاميّة، وهذا ما تؤكّده كثير من الدراسات العلميّة في هذا المجال.

وإذا كان هذا هو الحال الذي يذكّرهم به القرآن الكريم، فإنّه لم يتحدّث عن الأحبار والرهبان بشموليّة، وإنّما تحدّث عن الكثير منهم؛ لأنّ منهم ـــ وهم قلّة، بحسب مفهوم الآية ـــ مَن يخافون الله، ولا يستغلّون الناس في مقدّراتهم، وإنّما يتحرّكون في أوضاعهم على أساس الصدق والعدل.

في هذه الآية، نواجه حديثاً قرآنياً في مظاهر الانحراف لدى المجتمع الكتابي، من خلال النماذج البشرية المتنوّعة القائمة على شؤون هذا المجتمع، والتي تمارس عملية تضليل وانحراف يُلقي بظلاله وتبعاته على المجتمع كلّه.

التحذير القرآني من مغبّة الخطر ذاته

وفي هذا المجال، نجد أنّ القرآن الكريم يرشد المؤمنين إلى كلّ ما يواجه مجتمعاتهم من أخطار تهدّد قواعدهم العقيديّة أو الفكريّة أو الشرعيّة، والتي تنطلق بها هذه النماذج لإضلال المسلمين وحرفهم عن طريق الحقّ، وذلك بفعل المواقع المتقدّمة التي تملكها، كما هو حال الاستكبار العالمي اليوم، الذي يخطّط بالتنسيق مع مثل هؤلاء لإبعاد المسلمين عن دينهم، أو لمنع مَن يرغب في الإيمان بالإسلام من الدخول فيه.

وتؤكّد هذه الآية، أنّ موقف الإسلام من هؤلاء الكتابيّين ليس ناشئاً من الاختلاف معهم في القضايا التي يؤمنون بها فيما أنزل على موسى وعيسى (عليهما السلام). وبتعبيرٍ آخر، إنّ هذا الموقف ليس ناشئاً من اختلاف الدين؛ لأنّ الإسلام يعترف بهذه الأديان كوحيٍّ منزل من الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وإنْ كان هناك بعض التحريف الذي قام به هؤلاء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ـــ بل هو ناشئ من الانحراف السلوكي الذي يشير إليه بعناوين محدّدة، كما في أكل أموال الناس بالباطل، أو الصدّ عن سبيل الله. وبتعبيرٍ آخر: لا يتحدّث القرآن عنهم بشكلٍ سلبي لأنّهم آمنوا بالمسيحيّة أو باليهوديّة، بل من جهة استغلالهم الكتاب الذي يلتزمونه وينتسبون إليه كواجهة للابتزاز والتضليل والتلاعب بحياة الناس من خلال ذلك.

ومن خلال ذلك، يريد القرآن أن يوحي إلينا بعدم الاستسلام الكلّي لهذه الفئة التي تملك هذا المركز الرسمي للدّين، بل علينا أن نرصد حركتها ونواجهها بحذر ووعي، لئلا نعيش مثل هذه التجربة في واقعنا العملي الإسلامي أيضاً. فربّما نجد في واقعنا بعض الناس الذين يستسلمون لبعض الفئات التي تتزيّا باسم الدّين، والتي ينفتح الناس عليها على أساس أنّها تقرّبهم إلى الله، وربّما ينطلق بعض هؤلاء ليقدّموا أنفسهم على أنّهم يملكون مفاتيح رحمة الله ومواقع القرب منه، وقد يحاولون ربط بعض النّاس بالغيبيّات، على أساس ادّعائهم أنّهم يملكون بعض الغيب في ذلك، فيكتبون لهؤلاء الناس كتب المحبّة وكتب البغض، ويحدّثونهم عن الغيب في بعض ما يعانونه، ليستغلّوهم مالياً من خلال ذلك.

دور القرآن في التوعية

إنّ القرآن الكريم يحذّرنا حتّى لا نقع في مثل ما وقع فيه اليهود والنصارى من واقع منحرف، وإلاّ فإنّ القرآن لا يريد أن يعقّد الناس تجاه الفئات التي تملك مواقع القيادة الدينيّة، ليقضي على الثقة بهم؛ فإنّ هناك فرقاً بين أن تثق بالشخص وبين أن تستسلم له في ما لا عصمة له فيه.

إنّ القرآن يريدنا أن نواجه كلّ الناس، سواء كانوا من العلماء أو من المثقّفين أو غيرهم ممّن يملكون مواقع متقدّمة في المجتمع، بطريقة واضحة؛ إذ هناك فرق بين أن تحترم الشخص وبين أن تستسلم له وتعتبره مشابهاً للمعصومين في ذلك كلّه. ولذلك يقول: لك أن تفكّر فيما يُلقى إليك، ولك أن تنتقد من موقع العلم، ولك أن تستفهم، ولك أن تناقش. إنّه يريد أن يفتح عيون الناس على الواقع، فيثير اهتمامهم في دراسته بطريقة واعية تضع في حسابها كلّ الاحتمالات، لتتحرّك في إعطاء الثقة لهؤلاء أو لغيرهم من موقع دراسة وتدقيق، انطلاقاً من إمكانات الخطأ لكلّ إنسان غير معصوم، لا أن تنطلق على أساس الشكل الديني، أو رسميّة الموقع، بعيداً عمّا يملكونه من علم أو تقوى أو تجربة. إذا كنت لا تعطي أحداً مالاً إلاّ بعد أن تثق به، فكيف تعطي أحداً دينك من دون أن تثق به؟! احترم كلّ الناس، ولكن لا تعطِ الثقة إلاّ لمن يملك عناصرها؛ لأنّ من الممكن للشخص غير المعصوم أن يخطئ، ثمّ قد تكون هناك تجارب عملية من مثل هؤلاء المنحرفين في الماضي والحاضر، فعلينا أن ندرس تجربتهم، ونقرأ من خلال التجربة ما يملكون من خصائص وصفات.

هذا هو دور الإسلام في التوعية؛ ليتعلّم الناس أن يواجهوا الحياة بوعي، حتّى في ظلّ الأهواء التي تأخذ لنفسها صفة القداسة؛ ليكون التأييد عن وعي وقناعة، وليكون الرفض عن دراسة واطّلاع، بعيداً عن كلّ حكم عشوائي أو تصرّف غير مسؤول.

لذلك، فإنّ القرآن عندما يحدّثنا عن هذا الاستسلام الكلّي الذي كان يحصل لدى المجتمع الكتابي، من خلال استغلال كثير من الأحبار والرهبان لمجتمعهم، وأكلهم أموال الناس بالباطل، يريد لنا أن ندرس ما يشبه هذا النموذج من جهات تنتمي إلى مجتمعنا الإسلامي، والتي يمكن أن تحصل على ما حصل عليه هؤلاء من ثقة واستسلام، حتّى نفكّر جيداً قبل أن نتحرّك في أيّ تأييد لها أو رفض، ولتكون الثقة بأيّة جهة من خلال دراسة كلّ عناصر الثقة، حتّى لا نسقط أمام الجهل والتخلّف والاستغلال.

إنّ الإسلام يريد للمجتمع الإسلاميّ أن يكون واعياً منفتحاً على كلّ ما حوله وعلى كلّ من حوله، وأن يكون لديه البصيرة والبصر العقلي والروحي؛ {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(1). والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة الثانية

1 ربيع الثاني 1427 هـــ ـــ 29/4/2006م

 

 

شهوة المال وسطوته

 

طريقة الحكم في توزيع الأموال، منطلقة من الإثرة التي تدفع الحاكم إلى أن يتصرّف بالمال على هواه، أو أن يخصّ به ذوي قرباه، الأمر الذي يدفع الناس إلى اكتناز الأموال، واعتباره قيمة اجتماعية.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين. والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

إكتناز الذهب والفضّة

في إطار الحديث عن إدارة المال من وجهة نظر إسلامية، نطوف في أجواء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(1).

يقدّم القرآن الكريم في هذه الآية، فئةً من الناس تمثّل الانحراف في الجانب المالي، بحيث الذين يعتبرون كلّ هدفهم في الحياة أن يحصلوا على المال بأيّ وسيلة، ومن أيّ مصدر، سواء من طريق الحلال أو من طريق الحرام، فإذا حصلوا على كميّة منه، فإنّهم يعملون على الاستزادة من ذلك بمختلف الوسائل؛ وبذلك يستغرق المال كلّ فكرهم، فيسخّرون عقولهم في سبيل الحصول عليه كيفما كان، بعيداً عن كلّ ما يتّصل بخدمة الحياة في قضاياها الحيويّة، أو بخدمة الإنسان في مشاكله المتنوّعة، بل كلّ ما يقومون به، يصبّ في إرضاء عقدة الطمع والكبرياء في ذواتهم، وشهوة التملُّك في نفوسهم.

وهذا ما تشير إليه الفقرة من الآية: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ}. وسبيل الله يمثّل المسؤولية في حساب الحياة، والتي تتوزّع على كلّ الناس بحسب مواقعهم وأوضاعهم، ليقوموا بتنمية الحياة وتطويرها، وتحريك كلّ طاقاتها، من أجل أن تتطوّر وتبلغ المواقع العليا، وذلك بالانفتاح على الأُفق الواسع لكلّ المعاني الروحيّة والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية والأمنية، ممّا يُعتبر خدمةً لله، وعبادةً له، وجهاداً في سبيله. ولكنّ أولئك الذين استحوذ كسبُ المال على كلّ عقولهم، لا يتحمّلون هذه المسؤولية، ولذلك لا ينفقون ما يحصلون عليه من مال في سبيل الله.

 

شمولية الآية

وهنا يبرز السؤال: هل إنّ هذه الآية مختصة بأهل الكتاب؟ أم أنّها تشمل كلّ الناس، فتمتد في أهل الكتاب الذين يتمثّلون في أولئك الأحبار والرهبان، في جشعهم في اكتناز الأموال، كما تمتد إلى المسلمين وإلى كلّ الفئات الإنسانية التي تتمظهر بهذا المظهر؟

في هذا الصدد، شكّلت هذه الآية محوراً للجدل في المجتمع الإسلامي الأوّل، ومن ذلك، ما حصل بين معاوية بن أبي سفيان وجماعته، وبين الصحابي الجليل أبي ذرّ الغفاري، الذي كان شخصية معارضة للطريقة التي تصرف فيها أموال المسلمين، سواء من خلال الولاة، أو من خلال الشخصيات التي بلغت من الغنى مبلغاً عظيماً، فكان أبو ذرّ يقرأ هذه الآية، لينبِّه المجتمع الإسلامي آنذاك إلى سلبيّة اكتناز أموال الذهب والفضّة وعدم إنفاقها في سبيل الله، فاحتج عليه معاوية، وقال إنّها نزلت في أهل الكتاب، ولكنّ أبا ذرّ الغفاري قال له إنّها نزلت فينا وفيهم، أي إِنّها تعالج الذهنية التي تستغرق في كسب المال واكتنازه، ولا تعالج حالة تاريخية خاصّة. فهي تنفتح على كلّ واقع الإنسان الذي تتمثّل فيه هذه الصفات، وكان من سبب ذلك، أنْ شكاه معاوية إلى الخليفة عثمان بن عفّان، فأرسل خلفه ونفاه إلى الربذة.

وهناك رواية وردت في (الدرّ المنثور) للسيوطي، يذكر فيها أنّ بعض المسلمين أرادوا تخصيص هذه الآية بأهل الكتاب، فحاولوا أن يحذفوا الواو، فيكون المعنى: إنّ كثيراً من الأحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله الذين يكنزون الذهب والفضّة، بحيث تحذف الواو وتبدو الآية مختصّة بأهل الكتاب، ويأخذ المسلمون حريّتهم في اكتناز الذهب والفضّة، بزعم أنّ الآية لا تشملهم. ووقف بعض الصحابة الذين يغارون على القرآن وعلى مفاهيمه، وجرّد سيفه وقال: والله، لترفقنّ الواو أو لأضعنّ سيفي على عاتقي، ـــ ويقصد الهجوم عليهم ـــ فألحقوها تحت هذا الضغط، وذلك بحسب رواية الدرّ المنثور للسيوطي(1).

وبناءً عليه، تؤكّد هذه الفقرة المفهوم الإسلامي الذي يرفض اكتناز الذهب والفضّة وادّخارهما وعدم تحريكهما في المسؤوليات العامّة التي فرضها الله سبحانه وتعالى على الناس في السياسة المالية للإسلام.

بل إنّ لقائلٍ أن يقول: إنّه حتّى لو تمّ التسليم بأنّ الآية نازلة في خصوص أهل الكتاب، إلاّ أنّ طبيعة هذا الأمر تأبى ـــ بقرينة مناسبة الحكم والموضوع ـــ الاختصاص بهم؛ لأنّنا لا نتقبّل فكرة أنّ الاكتناز وعدم الإنفاق في سبيل الله ممّا يمكن قبوله من المسلم، مع تضافر الحثّ على الإنفاق، والتعبير عن المال بأنّه مال الله، وأنّ المعطي إنّما يُنفق من مال الله، وأنّه يؤدّي حقوق الناس المفروضة سلفاً، فضلاً عن منافاته ـــ بشكلٍ وبآخر ـــ للهدف من استخلاف الإنسان على الأرض، والذي هو إعمارُها في كلّ ما ينفع الناس ويرضي الله.

قيمة المال في حركة الواقع

وهنا سؤال آخر: ما هو مصداق هذه الآية في الحياة العامّة التي نعيشها؟ وكيف نحرّكها في الواقع؟ وكيف نتعامل معها كمسلمين، ونحن نعيش حركة المال في حياتنا، خصوصاً عندما يملك الإنسان ثروة كبيرة يدَّخرها في خزائنه، أو يدَّخرها لدى المصارف وما إلى ذلك؟

وبتعبيرٍ آخر: مَن هم هؤلاء؟ هل هم الذين يجمعون المال ويخرجون منه حقوق الله ثمّ يدَّخرونه من أجل تقوية مركزهم الاقتصادي في المجتمع، فيقوى بذلك مركزهم الاجتماعي الذي يساوي بين قيمة الفرد وبين ما يملكه، أو لمجرّد اعتبارات فرديّة يُرضي فيها هؤلاء طموحهم في سدّ حاجاتهم الآنيّة أو في مستقبلهم الذي يتقاعدون فيه عن العمل؟ أو هم هؤلاء الذين يجمعون المال ويدَّخرونه حبّاً به وبخلاً بإنفاقه، من خلال شهوة ذاتية في طلبه، فلا يدفعون شيئاً من حقوق الله أو من حقوق الناس؟

وبكلمة موجزة: هل هذه الآية هي من الآيات التي تتضمّن تشريعاً عامّاً يختلف عن التشريعات التفصيليّة في نطاق الضرائب الشرعية كالزّكاة والخمس؟ بحيثُ إنّها تتحدّث عن الذين يدّخرون المال ويكنزونه ولا يدفعون الحقوق الشرعية منه، ولا تتحدّث عن الذين يدّخرونه بعد أن يدفعوا زكاته وخمسه، وبذلك لا تنطبق عليهم هذه الفقرة من الآية؟ أو هي من الآيات التي تتحرّك في أجواء هذه التشريعات، لتعالج مسألة نوعية العقاب الذي يترتّب على الممتنعين عن دفع الضرائب الشرعية؟ أم هي واردة في اتّجاهٍ آخر؟

بعض الروايات تتحدّث عن أنّ هذه الآية لا تشمل من يخرجون الزكاة من أموالهم، ويصرفون المال في ما كلّفهم الله به، ولا يدّخرونه في خزائنهم.

وهناك وجهة نظر لأحد المحقّقين من المفسِّرين، وهو العلاّمة الطباطبائي، في تفسيره الميزان، يرى فيها أنّ هناك جانباً في الآية يتّصل بالحركة العامّة للمال والاقتصاد في المجتمع؛ فالله سبحانه كلّف الناس ببعض الضرائب، ولكنّه أراد لهم أن لا يحجبوا ما يملكونه من الثروات عن حركة الاقتصاد العام؛ لأنّ المجتمع بحاجة إلى أن يتحرّك المال فيه، ليتداوله الناس في معاملاتهم وفي إنتاجياتهم وفي صناعاتهم وزراعتهم، لأنّ أصحابه مكلّفون بأن لا يحجبوه عن الناس، حتّى لو كانوا يريدون من خلال ذلك الاسترباح والاتّجار. وهكذا في مجالات الإنفاق العام الذي قد يتمثّل في الحقوق الشرعية الواجبة، أو في ما يفرضه ولي الأمر من إنفاقات طارئة، من خلال ما يحتاجه أمر الإسلام والمسلمين في أمور الجهاد والدفاع وإطلاق المشاريع التربويّة والاجتماعية والثقافية والصحيّة وما إلى ذلك. وعلى هذا الأساس، فالآية ـــ حسب هذا الرأي ـــ تتّصل بالذين يحجبون الثروة عن المجتمع، فيتأثّر المجتمع بذلك سلباً، من خلال فقدان السيولة التي يمكن أن تحقّق نموّ الاقتصاد.

وظيفة المال في الحياة العامّة

ونحن نجد أنّ هذا الرأي رأي جيّد في نفسه، ولكنّ القضية هنا تكمن في تطبيق الآية على هذا الرأي، ويمكن أن نسجّل عليه ملاحظة ذكرناها في تفسيرنا (من وحي القرآن)، ذلك أنّ هذا الرأي ينطلق من الاستغراق في كلمة (الكنز)، على أساس ما تتضمَّنه من معنى لغوي بما توحي به الكلمة من معنى، لتتحرّك في أجواء الامتناع عن بذل المال في سبيل الله. ولكنّنا نستوحي من هذه الفقرة، أنّها تتحدّث عن ظاهرة عامّة منحرفة، تتمثّل في أولئك الذين يعيشون الحياة للمال. أي إِنّه يعالج الحالة النفسيّة والخطّ العملي لهؤلاء، وليس في مقام بيان المسألة الاقتصادية العامّة في حركة السيولة المالية للمجتمع. هذه الحالة النفسيّة التي تتمثّل في أولئك الذين يعيشون الحياة للمال، ويعتبرون جمعه قيمة حياتية بعيداً عن أيّ هدف كبير يتعلّق بحياة الناس، الأمر الذي يدفعهم إلى أن يحصلوا عليه بالحقّ أو بالباطل، كهؤلاء الأحبار والرهبان، وإلى أن يستغرقوا فيه كما لو كان هو الهدف للحياة، فيؤدّي ذلك إلى أن يمنعوه عن مجالات الحياة العامّة التي أراد الله للمال أن ينفق فيها.

لذلك، فإنّ الله أراد للناس أن يملكوا المال كوظيفة اجتماعية في حركة مسؤولياتهم، وهذا ما نلاحظه في قوله الله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}(1)، {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}(2). وهذا هو الجوّ الذي أراد الصحابيّ الجليل أبو ذرّ الغفاري أن يحرّكه في المجتمع، من خلال معارضته للانحراف والفساد واستغلال المال مِن قِبَل الذين يملكون السلطة، كما حدث ذلك من بعض الذين يحيطون بالخليفة الثالث من الأقرباء أو ما شاكل؛ لأنّ طريقة الحكم في توزيع الأموال، كانت منطلقة من الأثرة التي تدفع الحاكم إلى أن يتصرّف بالمال على هواه، أو أن يخصّ به ذوي قرباه، الأمر الذي يدفع الناس إلى اكتناز الأموال، واعتباره قيمة اجتماعية للتفاضل على حساب أهداف المجتمع الإسلامي.

أمّا الحديث عن الكنز بمعنى الادّخار الذي يدفع الإنسان إلى حبس المال في صناديق مقفلة، بحسب ما يراه السيّد الطباطبائي، فإنّه لم يكن ظاهرة اجتماعية عامّة لدى الذين يجمعون أموالهم تبعاً لأطماعهم، لأنّ ذلك لا يحقّق لهم الغاية المطلوبة في تكثير المال وازدياده، فكيف يمكن أن يكون ذلك هو المعنى المقصود من الآية التي جاءت تعالج حالة عامّة في حياة الناس؟!.

وبتعبيرٍ آخر: إنّ كلّ إنسان يملك مالاً يحب أن يستزيده، ولذلك نلاحظ أنّ كثيراً من الناس اليوم يضعون أموالهم في المصارف ليستفيدوا منها من خلال استثمارها في مشاريع معيّنة، أمّا أن يحبسوها ويضعوها في صناديق مقفلة من دون أن يحرّكوها في عالم الاسترباح، فهذا ليس ظاهرة عامّة، لا في الواقع الإسلامي، ولا في الواقع الإنساني العام، وهذا ما يبعّد أن تكون الآية بصدد التعرّض لمسألة لا حظّ لها في الواقع إلاّ بحدود قليلة، بل نادرة.

انحراف المال عن هدفه

ومن خلال ما تقدّم، نعود لنؤكّد أنّ الآية، في صدد بيان كيفية انحراف المال عن هدفه، من حيث هو طاقة من طاقات الأمّة التي تتحرّك في نطاق الأفراد الذين يملكونها، من أجل أن يحقّقوا الغايات التي أمرهم الله بتحقيقها في عالَم الإنفاق، ولكنّهم يحوّلونها إلى أطماعهم الفردية وأنانيّاتهم الشخصية وشهواتهم الذاتية. والآية تعالج الرّوحية التي يعيشها هؤلاء فيما يترتّب عليها من ممارسة وعمل، وليست في مجال الحديث عن التفاصيل، من حيث طبيعة العناصر التي يتمثّل فيها الإنفاق في سبيل الله، فيما يقتصر على الضرائب الشرعية المفروضة الخاصّة، أو في ما يبذله الإنسان من خلال ذاته فيما تدعو إليه الحاجة العامّة، كما في حالات الجهاد أو الانهيار الاقتصادي أو المجاعة وما إلى ذلك.

وربّما كان من الطبيعي لأمثال هؤلاء، أن لا يكونوا سائرين على خطّ الإيمان في حياتهم، بل إنّهم يعتبرون المال إلَههم، وهو الهدف الكبير الذي يتحرّكون لتحقيقه؛ لأنّ المؤمن الحقّ، هو الذي يستهدف غايات الإيمان في غاياته، فيعتبر الملكية للمال وظيفة اجتماعية، لا امتيازاً شخصياً، وبذلك، فإنّه يعتبره أمانة الله عنده، كما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً. وفي هذا السياق، جاء شخص إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وقال له: "والله إنّا لنطلب الدّنيا" وتقولون دائماً وأنتم توصوننا اتركوا الدُّنيا "ونحبُّ أن نؤتاها"؛ بل ربّما لا يوجد أحد لا يحبّ هذه الدّنيا، "قال: تحبّ أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي" عندي حاجات "وعيالي، وأتصدّق بها وأحجُّ وأعتمر، فقال (عليه السلام): ليس هذا طلب الدّنيا، هذا طلب الآخرة"(1). لأنّك تنطلق في تحريك الدّنيا في حياتك على أساس تحقيق مسؤولياتك التي يرضى الله عليك بها.

فإذا اعتبرت المال أمانة الله عندك، فيكون حاله حال الأمانات الخاصّة التي ينبغي للإنسان أن لا يتصرّف فيها إلاّ بما ينسجم مع رضى أصحابها وتوجيهاتهم، وصاحب الأمانة هنا هو الله. ومن هنا، يعتبر سبيل الله في الإنفاق، هو السبيل الذي يجب أن يحكم ملكيّته للمال، فليس له أن يبتعد عنه، ولا أن يقترب من غيره، لأنّ معنى ذلك اتّباع سبيل الشيطان والانحراف.

وتختم الآية بقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(2)، لماذا؟ لأنّهم تمرّدوا على الله، فخالفوا أمره، ولم يرتدعوا عن نهيه، واتّبعوا خطوات الشيطان الذي يأمرهم بالمنكر وينهاهم عن المعروف.

{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} أي على ما يكنزون من الذهب والفضّة {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} لتتحوّل كلّ تلك الكنوز التي ادَّخروها ومنعوها عن أهلها إلى نار تحرق الجباه والظهور والجنوب {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} ويقال لهم في تلك الحال: إنّا لم نظلمكم أو نأتِ بشيءٍ من عندنا، بل ما ترونه، هو حصيلة ما جمعتموه من مال تحوّل إلى نار في الدنيا، وانقلب إلى لهيبٍ في الآخرة {هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ} ومنعتموه عن الآخرين البائسين المحرومين {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}(3)، لأنّ الإنسان لا يجني إلاّ ثمرة عمله؛ إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشرّ.

وفي ضوء هذا العرض الذي قدّمناه، نعود لنؤكّد: إنّ الآية لا تختصّ بأهل الكتاب، وإنْ جاءت في سياق الحديث عنهم، بل هي شاملة لكلّ الناس؛ لأنّها في معرض الحديث عن الظواهر العامّة التي تمثّل المبادئ الشاملة لكلّ أوضاع الحياة. كما أنّها لا تختصّ بزمان دون زمان؛ فإنّ مثل هذه القضايا لا تمثّل شريعة محدودة لتنسخها شريعة أخرى، بل هي شريعة الحياة فيما تحتاجه من قواعد للانطلاق والإبداع والاستمرار. والحمد لله ربّ العالمين.

المحاضرة الثالثة

8 ربيع الثاني 1427 هـــ ـــ 6/5/2006م

 

 

قصّة الشيطان (1)

البدايات الأولى

 

الشيطانُ لا يملكُ كلَّ الحريّة في إضلال الناس، والذين يسقطون أمامه هم الذين لا يحرّكون إرادتهم في مواجهته.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في القرآن الكريم، أكثر من آية تتحدّث عن الشيطان، سواء بعنوان الشيطان أو بعنوان إبليس، عن خططه وحقده وعداوته واستكباره وأنانيّته وطريقته في إغواء بني آدم. كما تتحدّث عن ذرّيته وقبيله من شياطين الجنّ والإنس. وقد حذّر الله سبحانه وتعالى بني آدم منه، وأكّد ـــ في أكثر من آية ـــ عداوته لهم، والتي بدأت مع آدم وحوّاء.

وأصل الشيطان ـــ لغةً ـــ من الشطن، وهو الحبل الطويل الشديد الفتل يُسقى به. وشطن صاحبه يشطنه شطناً: خالفه عن نيّته ووجهه. ومن المجاز: بئر شطون، أي بعيدة القعر، أو هي الملتوية العوجاء.. والشاطن: الخبيث، والشيطان فَيْعالٌ، من شطن، إذا بَعُد. وقيل: هو من شاط يشيط، إذا احترق غضباً. وقال أبو عبيد: الشيطان: كلّ عات متمرّد من إنس أو جنّ أو دابّة، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ}(1).

بداية الظاهرة الشيطانيّة

وقبل أن نتناول الحديث عن خطوات الشيطان، لا بدّ لنا من أن نتناول بشيء من التفصيل، كيف نشأت قصّة الشيطان أو إبليس؟ وما كان موقعه؟ هل هو من الملائكة أو أنّه مخلوق آخر؟

ربّما يتوهّم بعض الناس أنّ الشيطان من الملائكة؛ لأنّ الله لمّا أمَرَ الملائكة بالسجود لآدم شمله في الأمر، والله تعالى يقول: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ..}(2) ما يدلّ على أنّه منهم؛ ولكنّ الله صرّح في آيةٍ بأنّه من الجنّ، فقال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}(3). كما أنّه عندما وقف ذلك الموقف الحاقد على آدم، قال إنّه مخلوق من النار، والملائكة ليسوا كذلك، فهم مخلوقون لله سبحانه وتعالى من عناصر نورانية تنفتح على كلّ معاني الصدق والإخلاص والعبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى.

أوّل مورد تعرّض فيه القرآن الكريم للشيطان، هو في بدء خلق الله للإنسان. قال تعالى في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}(1)، وذلك إشارة إلى خلق آدم الذي يمثّل النوع الإنسانيّ، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ}(2)، {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}(3)، {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ}(4)، {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}(5).

مناقشة الدفاع عن الشيطان

وأمام هذا الأمر الإلهي للملائكة ـــ ومعهم إبليس ـــ بالسجود لآدم، قد يقول قائل: إنّ السجود مظهر عبوديّة، فكيف يأمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بأن يسجدوا لغيره ويتعبّدوا له؟

هناك وجهان في الجواب عن هذا السؤال:

1 ـــ أنّ السجود يمثّل تحيّة تكريميّة لخلق آدم؛ فكأنّ الله يريد أن يقول للملائكة عندما قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(6): إنّ هذا مخلوق مميّز، يملك ما لا تملكون؛ فهو مخلوق يملك عقلاً يستطيع أن ينتج الفكر، ويستطيع أن يكتشف أسرار الكون، وأن يخطّط لنفسه ما يصلحه وما يفسده، ويملك الكثير من إمكانات الانفتاح العلمي، بحيث يصلح لأن يكون هو الخليفة لله في الأرض، فالله أراد للملائكة أن يحيُّوا هذا المخلوق الجديد، وأن يكرّموه بالسجود له. على أنّ السجود ليس مظهر عبودية دائماً، بل قد يكون للتحيّة وإظهار الاحترام، وهذا ما لاحظناه في سجود يعقوب (عليه السلام) وزوجته وأولاده ليوسف (عليه السلام)، حيث قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ}(1)، أي في قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}(2)، فالشمس هو يعقوب، والقمر زوجته، والأحد عشر كوكباً هي أخوته.

ثمّ إنّ قضية العبادة ليست في مظهر الخضوع السجودي فقط، بل هي تابعة للقصد، وهذا ما يخضع لتقاليد الشعوب في التعبير عن مظاهر العلاقات بين أفرادها؛ فقد نجد أنّ الانحناء يمثّل مظهراً للتحيّة والاحترام، وقد يكون التقبيل لدى شعوب أخرى، وقد يكون السجود كذلك.

لذلك، لم يرد الله من الملائكة أن يسجدوا لآدم سجود عبادة، ولم يقصد الملائكة ذلك، بل كان سجود تحيّة وتكريم وتعظيم للعناصر التي تتمثّل في هذا المخلوق الجديد ممّا لا تتمثّل في أيّ مخلوق آخر في ذلك الوقت. وهذا هو الوجه الأوّل في تفسير معنى السجود.

2 ـــ أنّ السجود كان لله سبحانه وتعالى، بمعنى أنّ الله أراد لهم أن يسجدوا له تعظيماً لعناصر العظمة الموجودة فيه، والتي تجلّت في خلقه لآدم (عليه السلام).

وأحبّ ـــ في هذا المجال ـــ أن أذكر شبهة انطلق فيها أحد المفكّرين السوريّين العلمانيّين، وهو صادق جلال العظم، في كتابه (نقد الفكر الديني)، حيث تحدّث عن إبليس في مناخ المأساة، وقال إنّ إبليس مخلوق موحّد لله كأعمق ما يكون التوحيد، ولذلك لم يكن مستعداً أن يعبد غير الله، فعندما أمره الله بالسجود لآدم، انطلقت توحيديّته ورفض ذلك؛ لأنّه أراد أن يقول لله سبحانه وتعالى إنّي لن أسجد لغيرك، ولن أعبد غيرك، باعتبار أنّ السجود مظهر عبادة.

وقد ناقشناه آنذاك، وقلنا له من أين جئت بهذه الفكرة التي أعطيتها لإبليس؟! فإنّ إبليس شخصية غيبيّة، والطريقة الوحيدة لمعرفة إبليس هي القرآن، والقرآن لم يحدّثنا عن أنَّ ردّ فعل إبليس كان سببه عقيدته التوحيديّة، بل كان ردّ فعله سببه كبرياؤه وأنانيّته وإعلانه بأنّه هو الذي يجب أن يُسجد له، لا آدم، فكأنّه يقول لله سبحانه وتعالى: لماذا تأمرنا بالسجود لآدم ولا تأمر الملائكة بأن يسجدوا لي؛ لأنّ السجود إذا كان ينطلق من خلال عناصر القوّة في المخلوق، فأنا العنصر الأقوى. فمن أين أتيت بهذه الحالة التي صوّرت فيها أنّ إبليس يعيش أزمة في نفسه أمام الأمر بالسجود الذي يخالف التوحيد؟!

ثمّ تتابع الآيات: {إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}(1)، وعندئذٍ خاطبه الله وسأله عن سبب امتناعه، وذلك هو قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}؛ فأنت عبد الله، وعلى العبد أن يخضع لله فيما أمره به، فلماذا لم تخضع للأمر الإلهي؟ {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}(2)، أنا أصلي أقوى من أصله ـــ وهنا برز الجانب العنصري ـــ عنصري أقوى من عنصره؛ فالنار تُفني التراب وتحرقه، بينما لا يستطيع التراب أن يسيطر على النار، فكنت أنتظر أن يكون السجود لي لا لآدم.

ولكنّ الله سبحانه وتعالى رفض منه هذا المنطق، ولم يناقشه فيه؛ لأنّه منطق لا يخضع لأيّة حالة عقلية، لأنّه إذا كان هناك عنصر قوّة في النار، فإنّ عنصر القوّة في التراب أشدّ، لأنّ التراب يحمل الخصب والرخاء، ويحقّق للحياة الكثير من النمو والخير والتطوّر، بما لا يمكن أن يتحقّق في النار. كما أنّ التراب يمكن أن يستخدم في بناء القلاع والبيوت، وفي كلّ الأشياء التي يمكن أن تجعل حياة الإنسان أفضل. وبذلك تكون المسألة نسبيّة، وخاضعة لطبيعة الهدف الذي يتمّ التحرّك نحو تحقيقه.

بداية القياس

وجُلّ القضية، أنّ إبليس قاسَ المسألة قياساً لا يخضع لقاعدة واقعيّة عقلانيّة في عملية التفضيل بين عنصر وآخر، ولذلك لم يردّ الله تعالى على هذا النمط. وقد ورد في بعض أحاديثنا ـــ في رفض القياس أساساً في الاستنباط الفقهي ـــ: "إنّ أوّل مَن قاس إبليس"؛ لأنّ الفرق بين مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وبين مدرسة الخلافة، هو أنّ مدرسة الخلافة تتبنّى القياس في استنباط الأحكام، فإذا رأوا حكماً متّصلاً بموضوع من الموضوعات، ورأوا أنّ هناك موضوعاً آخر يقترب في بعض خصائصه من هذا الموضوع، فإنّهم يعطون الحكم الذي لهذا الموضوع للموضوع الآخر، ولكنّ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تردُّ على هذا المنطق بأنّه أوّلاً: لا دليل على حجّية القياس في نفسه. وثانياً: إنّ مسألة اتّحاد الموضوعين في الملاك، أو ما هي المصلحة أو المفسدة، ليس أمراً يقينياً وقطعياً، بل هو أمر ظنّي؛ لأنّه قد يكون هناك التقاء بين الموضوعين من جانب، ولكن يكون هناك خلاف بينهما من جانبٍ آخر، ولا يُعلم أيّ من الجانبين كان هو الأساس في جعل الحُكم الشرعي.

لذلك، لا يمكن أن نتبع موضوعاً لحكم موضوع آخر؛ لأنّ (الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً). وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ السُنّة لا تقاس، ألاَ ترى أنّ المرأة تقضي صومها، ولا تقضي صلاتها" مع أنّ الصلاة أفضل من الصوم، فلو تمّ النظر إلى هذه الزاوية، كانت أحقّ بالقضاء من الصوم. ثمّ قال: "إنّ السُنّة إذا قيست مُحق الدّين"(1).

فإبليس قاس بين النار والتراب، ورأى أنّ أساس العلّة في موضوع السجود هو تكريم العنصر، وجعل قيمة النار أكبر من قيمة التراب، ولكنّه لم يلتفت إلى الجوانب الأخرى التي يتميّز بها التراب عن النار. وعلى كلّ حال، فالله سبحانه وتعالى لم يناقشه في هذا الأمر. وثانياً، إنّ مقتضى العبودية لله هو الأصل؛ لأنّ القضية ليست قضية آدم، بل القضية هي موقع كلّ من الملائكة وإبليس من الله سبحانه وتعالى، والله {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(2)، والله يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم، وليس للعباد أن يناقشوه أو أن يعترضوا عليه؛ لأنّ الله هو الذي يملك العلم بالحقائق بشكلٍ مطلق، ويملك الحكمة بشكلٍ مطلق.

الشعور بالاستعلاء

لذا، فإنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعله يشعر بسقوطه عن مستوى العبودية، وأن يحتقره في موقفه هذا الذي يمثّل المعصية لله سبحانه وتعالى، فقال عزّ وجلّ: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا}، فأنتَ انطلقت من خلال حالة الكبرياء، لا من خلال قاعدة الحقيقة؛ لأنّك نظرت إلى آدم من موقع الاحتقار والاستصغار له، نتيجة حالة الكبر التي تستعر في كيانك، والتي أدّت إلى معصية الله سبحانه وتعالى، ولا كبرياء إلاّ لله، فالله وحده هو المتكبّر؛ لأنّه يجمع كلّ عناصر الكِبر، وليس لأحد أن يعيش هذه الحالة، لأنّ كلّ عنصر من عناصر الكبر والقوّة هي من الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى هو الذي فضّل الناس بعضهم على بعض بحسب حكمته، {فَاهْبِطْ مِنْهَا}، أي من الجنّة؛ لأنّ الجنّة للمتواضعين الذين يعيشون العبودية لله بكلّ عمق وإخلاص.

وهذا المعنى ـــ أعني التنافي بين الجنّة والتكبّر ـــ ينبغي أن ننتبه إليه أخلاقياً، أي إذا كان الله قد أخرج إبليس من الجنّة للحظة تكبّر، فما شأن المتكبّرين عندنا الذين يتكبّرون على الضعفاء وعلى الفقراء وما إلى ذلك؟! {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}(1)، فقد طرده الله من الجنّة ليشعره بالسقوط والذلّ والصغار والاحتقار.

التنفيس عن الحقد

وهنا رأى إبليس أنّ الدائرة قد دارت عليه، فانطلق لينفّس عن الحقد الذي عاشه ضدّ آدم وحوّاء. {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(2)، فإنْ كنتَ أخرجتني من الجنّة فهذا قدري وقضائي، لكن أبقني في الحياة حتّى أبقى مع هذا الرجل ومع أولاده، لأنفّس عمّا في نفسي من العقدة الحاقدة، {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ}(3).

وهنا قد يتساءل البعض: لماذا استجاب الله سبحانه وتعالى لإبليس في هذا الطلب الذي قد يؤدّي إلى إضلال الناس وإبعادهم عن الله؟

والجواب: أنّ حكمة الله اقتضت أن يتحرّك الإنسان في عبوديّته لله من موقع الإرادة الحرّة والاختيار الأصيل، ومن الطبيعي أن تنطلق حركة الإرادة والاختيار من حالة الصراع بين الخير الذي ينبغي أن يتحرّك فيه، والشرّ الذي ينبغي أن يبتعد عنه، وبين الطاعة لله والمعصية له. لذلك، فإنّ الإنسان الذي خلقه الله على أساس الفطرة الصافية التي تفتح له كلّ أبواب الحقيقة، وتنفتح به على الله، يحتاج إلى أن يكون هناك حالة أخرى تثير في نفسه مسألة الشرّ، وقد قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}(1)، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(2). وهكذا التقت حكمة الله في أن يتحمّل الإنسان مسؤولياته أمامه، من خلال ما يريده أن يحصل عليه من مواقع القرب منه، بالإرادة الحرّة والاختيار الأصيل.

وهنا عبَّر إبليس عن حقده {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}، أي: بسبب إبعادك لي عن الرشد وطردي من رحمتك، فخطّتي هي أن أبعد كلّ أولاد هذا الإنسان عن الجنّة، لأنّك أخرجتني بسبب أبيهم وأمّهم {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}(3) سوف أنصب الحواجز بينهم وبين السير في صراطك المستقيم، {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}، سأحيط بهم من جميع الجهات لأمنعهم من أن يأخذوا بأسباب طاعتك، {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(4)، لأنّني سوف أستغلّ ما يختزن في حياتهم من الغرائز، لأوّجه غرائزهم في طريق الشرّ، ولأدخلهم في الغفلة، ولأقوم بإثارة التمنيّات والأضاليل، لأبعدهم عن الانفتاح عليك في مواقع الربوبيّة.

وقد عبّر الله عن بعض تفاصيل حركة الشيطان، فقال تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً*لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً*وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً*يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}(5).

وهنا بيَّن الله له أنّه لا يملك كلّ الحريّة في إضلال الناس؛ فالذين يسقطون أمامه هم الذين لا يحرّكون إرادتهم في مواجهته، ويستسلمون لكلّ خططه وخدعه وأمانيّه وغروره، وأولئك سوف يدخلهم الله جهنّم معه. أمّا الذين يتمرّدون عليه ـــ وهم عباد الله الصالحون ـــ فهم الذين جاهدوا نوازع الشرّ التي يثيرها فيهم، وحرّكوا إرادتهم في الصبر على الطاعة، وأولئك سوف يدخلهم الله في رحمته.

ونحاول في ما يأتي من حديث، أن نجيب عن بعض الأسئلة: هل يملك إبليس الحريّة المطلقة والقدرة المطلقة في أن يحول بين الإنسان وبين عقله ونفسه، أو لا يملك من ذلك شيئاً؟ وما هي قصّة إبليس بعد مسألة السجود؟ وما هي قصّته في إغواء آدم وحوّاء؟ والحمد لله ربّ العالمين.   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة

15 ربيع الثاني 1427 هـــ ـــ 13/5/2006م

 

 

قصّة الشيطان (2)

الثأر من ولد آدم

 

إبليس مخلوق حقيقي وليس شخصاً معنوياً أو مجرّد فكرة تمثّل الشرّ.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

إبليس والثأر من ولد آدم

نتابع الحديث عن قصّة إبليس، وما كان يخطّط له ليثأر من آدم وذرّيته، من خلال ما أصابه من إخراج من الجنّة، بعد أن رفض السجود لآدم تكبُّراً. ولا بدّ لنا ـــ هنا ـــ من أنْ ندرس شخصية إبليس الذي تدلّ أكثر من آية على أنّه مخلوق حقيقي، وليس شخصاً معنوياً أو مجرّد فكرة تمثّل الشرّ، كما يحاول البعض أن يصوّره.

إنّنا ـــ في دراستنا للقرآن الكريم ـــ نجد أنّ القرآن يصوّر إبليس كمخلوق حيّ أصله من عنصر النار، في مقابل آدم الذي أصله من عنصر التراب. وهذا هو وجه طبيعة إبليس (الشيطان) الوجوديّة. وقد لاحظنا ـــ فيما سبق من حديث ـــ كيف أنّ كبرياءه العنصري دفعه إلى أنْ يتمرّد على الله تعالى الذي أمره ـــ وقد كان في مجتمع الملائكة وإنْ كان من الجنّ ـــ أن يسجد لآدم، فرفض السجود له تكبُّراً واحتقاراً له. ولذلك نجد أنّ هذا المخلوق هو مخلوق معقّد ومتكبِّر. ولعلّ انطلاقة عقدة الحسد عنده لآدم، الذي أكرمه الله تعالى وميّزه عليه، وربّما على الملائكة، لم تلبث أن تحوّلت إلى حالة حقد، لا على آدم فحسب، ولكن على كلّ النوع الإنساني ليثأر من هذا التكريم الإلهي الذي عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(1).

لهذا، فإنّه عندما قدَّم طلبه إلى الله سبحانه وتعالى ليمهله {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(2)، وافق الله على ذلك، لأنّه ـــ تعالى ـــ أراد له أن يبقى ما بقي الإنسان، انطلاقاً من حكمته التي اتّفقت وطلب إبليس، بحيث يقوم إبليس بدوره في الوسوسة لهذا الإنسان، وإثارة عناصر المعصية والانحراف لديه، ليبدأ في صراع بين طاعته لله تعالى، وبين ما تدفعه إليه عناصر الانحراف في غريزته، أو في وسوسة الشيطان، لأنّ الله أراد للإنسان أن يطيعه عن إرادة واختيار، وليس انطلاقاً من حال الجبر {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1). وقد عبّر إبليس عمّا في داخله من حالة الحقد على بني آدم، مهدِّداً بأنّه سوف يقعد لهم في الصراط المستقيم، ويمنعهم من السير فيه بكلِّ الوسائل التي يملكها، سواء كانت وسائل مادية، أو وسائل معنوية، أو ما إلى ذلك.

لا حريّة مطلقة لإبليس في إضلال الناس

وفي مقابل ذلك، نلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى ـــ في أكثر من آية قرآنية ـــ أكّد لإبليس أنّه لا يملك الحريّة المطلقة في إضلال آدم؛ لأنّ الله تعالى زوّدهم بالعقل الذي يميّز الحسن من القبيح، والنافع من الضارّ، ولذلك فإنّه لا يملك أن يشلَّ قدرة الإنسان عن الاختيار الحرّ في طاعة الله، إذا أخذ بعناصر الخير، فقال تعالى ـــ مخاطباً إبليس ـــ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}(2)، وفي آيةٍ أخرى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ*إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(3).

ولعلَّ أوضح دليل على أنّ الشيطان لا يملك الأمر كلّه، هو حواره مع الناس يوم القيامة، فيما حدّثنا الله تعالى عنه، إضافة إلى حوارات أخرى حدّثنا عنها، كما في الحوار بين المستضعفين والمستكبرين، وبين الذين اتَّبعوا والذين اتُّبعوا، فالصورة القرآنية تبرز مشهد الناس في حيرتهم يوم القيامة، يتطلّعون، فيجدون الشيطان أمامهم، فيهرعون إليه ويحمّلونه مسؤولية كلّ ما انحرفوا فيه, وما وقعوا فيه من كفر، أو من شرك، أو من عصيان، وهنا يقف الشيطان كمحامٍ مدافعٍ عن نفسه، ليردَّ على الناس، وليبرّئ نفسه، أو يخرجها من المسؤولية.

قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ}، عندما يجيء يوم القيامة، ويقف الناس لمصيرهم، {إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}، فقال لكم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(1)، {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}(2)، لأنّ خطّتي كانت أنْ أضلّكم، وأنْ أكذب عليكم، وأنْ أعدكم بغير الواقع وبغير الحقّ، وقد حذّركم الله منّي عندما قال لأبيكم آدم: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}(3)، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(4)، {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ*وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ*وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}(5). وقد قال لكم الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(6)، وحدّثكم عنّي في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}(7).

فلقد حذّركم الله منّي، وبيَّن لكم أنّ موقفي منكم، هو موقف العدوّ من عدوّه، وموقف من يريد إسقاط الآخر وإضلاله، ودفعه إلى حالة الانحراف، فلماذا لم تدرسوا هذه المسألة في المقارنة بين وعد الله تعالى لكم وبين وعدي؟! إنّ الله تعالى لم يسلّطني عليكم بحيث أنّني أُصادر كلّ إرادتكم، وليس لي إلاّ الوسوسة، ولم يعطني القوّة التي تمكّنني من إخراجكم من دائرة العقل، ومن مصادرة إنسانيّتكم في كلّ عناصرها التي تدفع أحدكم إلى أن يكون في موقع الحماية لنفسه.

{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ}(8)، إذ قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ}(9)، فلم أتحرّك معكم من موقع القويّ ضدّ الضعيف في إجباره على ما لا يريد، وفي مصادرة إرادته واختياره، {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}، فلم تكن منّي إلاّ هذه الدعوات التي أمارس فيها دور (خبير التجميل) الذي يحسِّن القبيح ويقبّح الحسن. {فَلاَ تَلُومُونِي}، فهذا هو عملي منذ تمرّدت على الله، {وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}، لأنّكم أنتم تملكون كلّ الوسائل في داخل وجودكم، وفيما هيَّأه الله لكم من رسالات الرّسل، ومن عناصر الهداية، ولكنّكم لم تأخذوا بها، {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}، فإذا أدخلكم الله في جهنم وصرختم، فلن أدافع عنكم، {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} إذا أدخلني الله جهنّم، فكلّ واحد منّا يلقى مصيره، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}، فأنا لم أعترف بأنّكم جعلتموني في الطاعة شريكاً لله، لأنّني لم أشرك به؛ صحيح أنّني عصيته وتمرّدت عليه، ولكنّي لم أشرك به أحداً، ولم أعتبر نفسي شريكاً له سبحانه وتعالى، فقد كان عندي وظيفة انطلقت من حالة العقدة التي عشتها، {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وعندئذٍ، يبرِّئ الشيطان نفسه يوم القيامة من كلّ ما يعيشه بنو آدم من كفر، أو من شرك، أو من ضلال، ما يعني أنّ الشيطان لا يملك القدرة المطلقة في أن يشلّ الإنسان، بل يبقى للإنسان الذي يريد أن يعصم نفسه أن يحرِّك عقله، وأن ينفتح على ربّه، وأن يفكّر في قضيّة المصير.

الوسائل الشيطانية

ومن جانبٍ آخر، يحدّثنا القرآن الكريم عن الوسائل التي يستخدمها إبليس في إضلال الإنسان، كما في قوله تعالى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ}، أي لأجعلنّهم ينحرفون عن خطّ الهدى والصراط المستقيم، {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ}، فأثير أمامهم الأحلام الورديّة، والوعود المعسولة، التي ربّما تثير مشاعرهم، ليسقطوا تحت تأثيرها، بحيث يتصوّرون بعض التصوّرات التي تزيّن لهم فعل القبيح، أو ترك الحسن {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ}، والتبتيك: القطع، وقيل: التشقيق. وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّ المقصود: ليقطّعنَّ الآذان من أصلها، وقيل إنّهم كانوا في الجاهلية يحرّمون على أنفسهم الناقة إذا أنجبت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً، فيقومون بشقّ أذنها، ويمتنعون من ركوبها ونحرها، ولا تُطرد عن ماء، ولا تمنع من مرعى، وقيل غير ذلك ممّا يلتقي مع قيام الإنسان بالتحريم من دون أساس، وهو ما يلتقي مع خطّ الشيطان في هذا المجال. {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ} وهي فطرته التي فطر الناس عليها، {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً*يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}(1).

ويبيِّن الله، في هذا المجال، طريقة وسوسة الشيطان للإنسان المؤمن، وذلك عندما يريد أن ينفق ممّا رزقه الله تعالى، فيأتي ليستغلّ هذه الحالة بالإيحاء إليه بأنّه سوف يفتقر، ليحرِّفه بذلك عن طاعة الله. وذلك هو قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

هذه هي مسألة إبليس في تهديده لبني آدم. وننتقل من خلال ذلك إلى تجربة إبليس مع آدم وحوّاء، فالله سبحانه وتعالى بعد أن أخرج إبليس من الجنّة {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}(2)، انتهى بذلك المشهد الأوّل الذي كان مشهد امتناع إبليس من السجود لآدم، وما دار بينه وبين الله من حوار.

التجربة وبناء الإنسان

والمشهد الثاني، هو مشهد خطاب الله تعالى لآدم وحوّاء، وما عاشاه بعده من تجربة صعبة مع إبليس، {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}(3). وهنا نشير إلى أنّ هناك أحاديث ربّما يتردّد فيها أنّ هذه الجنّة، هل هي الجنّة الحقيقيّة التي وعد الله بها عباده، أو أنّها جنّة الأرض أو أنّ الله خلق جنّة معيّنة؟ لأنّ البعض يقول بأنّ مَن دخل هذه الجنّة لا يخرج منها، فكيف خرج إبليس منها وكذلك آدم وحوّاء؟! ولكن هذا لا يثبت من خلال ظاهر القرآن الكريم، ولا مانع من أن يدخل الله تعالى آدم الجنّة التي وعد الله بها عباده، ليتعرّفها، وليعرف أنّ هذه هي نهاية المطاف لمن يرضى الله تعالى عنه، ولمن يطيع الله سبحانه وتعالى.

ولذلك نحن نقرأ مثلاً في سورة طه: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى*إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}(4)، ونقرأ عن جنّة الخلد التي وعد الله بها عباده: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا}(5).

وعلى كلِّ حال، فلا مشكلة في ذلك، فسواء كانت هذه هي الجنّة التي وعد الله بها المتّقين، أو كانت جنّة خلقها الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى أراد أن يحذّر آدم وحوّاء بقوله: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}(1)، فالله أطلق لهما الحريّة في أن يتجوّلا في الجنّة بسعتها، وأن يأكلا ما شاءا من ثمارها، ولم يمنعهما إلاّ من شجرة واحدة. وهنا يتحدّث البعض عن هذه الشجرة، فبعضهم يعتبر أنّ المقصود بالشجرة هو حالة معنويّة، كشجرة المعرفة، أو شجرة الخير، وما إلى ذلك. ولكنّ الظاهر من القرآن أنّها ليست شجرة معنوية وروحية، بل هي شجرة من أشجار الجنّة المادية.

{فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم، لأنّهما بذلك يورِّطان نفسيهما في فقدان كلّ هذا العالم المملوء بالخيرات، والمملوء باللَّذات، والمملوء برضا الله تعالى.

وسائل الوسوسة

وهنا كان الشيطان ـــ على الرغم من أنّ الله تعالى أخرجه من الجنّة ـــ يوسوس لهما على خلفية حقده وعقدته، ليخرجهما من الجنّة. ولكن ما هي وسائل الوسوسة؟ وهل يملك الشيطان نافذة إلى مشاعرهما أو إلى أحاسيسهما أو إلى عقليهما؟ هذا أمر لم يبيّنه الله تعالى، ولم يبيّن لنا طبيعة ذلك الوسواس الخنّاس، فهو يدخل الفكرة ويتركها تتفاعل. ولم تكن لآدم وحوّاء أيّة تجربة مع أي مخلوقٍ آخر، فهما كانا في طور الحضانة الوجودية، ولم يكونا يملكان أيّة عناصر فكرية تجعلهما يتعمّقان في الأشياء التي تعرض عليهما، وذلك يعني أنّهما كانا في حالة طهارة وبساطة، فلم يدركا الحركة المعقّدة البعيدة عن العفويّة الناشئة من عدم الاحتكاك بالتجربة التي لها أثر كبير في بناء الإنسان وخبراته.

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا}، يعني كانا لا يحسّان بطبيعة العورة، والسوءة: العورة، فلقد كانا عاريين في الجنّة، ولم يعرفان أنّ هناك دوراً معيّناً يمكن أن يخجل الإنسان منه، عندما يرى الرجل عورة المرأة، أو ترى المرأة عورة الرجل، فهو أراد أن ينزع عنهما لباس الجنّة، ولباس الطهر، وما إلى ذلك، ليبدي لهما ما ووري عنهما، ليسخطهما، وليثير فيها بعض الأفكار غير الطاهرة وغير النظيفة، {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} هل تعرفان لماذا نهاكما الله عن هذه الشجرة؟ لأنّها تحمل سرّ الملائكية، فإذا أكلتما منها، فإنّكما تصبحان ملكين مع الملائكة، ويصبح لكما أجنحة {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}(1)، فهذه الشجرة فيها سرّ الخلود، فلا موت بعدها.

الانحراف وتضخيم الخيال

وهذه نقطة مهمّة تشير إلى أنّ الانحراف قد يأتي من تضخيم الإنسان حالة الخيال عنده، فقد يواجه الإنسان شيئاً عادياً، ولكنَّ خياله يجعله ينفتح من خلاله على عالم يفترض فيه اللّذّة وما أشبه ذلك، فشرب الخمر، مثلاً، هو حالة ماديّة بسيطة جدّاً، ليس فيه كلّ هذا النوع من اللّذة، إنّما هو الخيال الذي يعطي كلّ ذلك الوهم باللّذة. وكذلك الحال في الأمور الأخرى.

وننقل في هذا المجال عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنّه كان جالساً في أصحابه إذ مرَّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال الإمام (عليه السلام): "إنّ أبصار هذه الفحول طوامح"، يعني إلى الأشياء السيّئة، "وإنّ ذلك سبب هبابها" انحرافها "فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه، فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأته"(2)، أي أنّ اللّذة التي يتطلبها الإنسان من الناحية الجنسية، لا يوجد فيها فرق بين الذي يجده عند امرأته أو عند امرأةٍ أخرى، إذ إنّ الجانب الجنسيّ، أو الإحساس الجنسيّ، واحد، لكنّ الخيال يعطي الجانب الجنسيّ ما يضخّم اللّذة أكثر من واقعها، وإلاّ فمن حيث واقع اللّذة، الحالة الجنسية، واحدة مثل حالة الأكل أو الشراب.

ثمّ بدأ إبليس يحلف لآدم وحوّاء الأَيْمان المغلّظة: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}(3)، وإنّه لا مصلحة له في أن يُصبحا ملكين أو ينالا الخلود، وإنّما المصلحة لهما. وعندما سمع آدم وحوّاء ذلك، ابتعدا عن نهي الله لهما، {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فكيف أطعتماه وعصيتموني؟ {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الخامسة

22 ربيع الثاني 1427 هـــ ـــ 20/5/2006م

 

 

قصّة الشيطان (3)

وسوساته

 

نحن كبشر نستشعر هذا التجاذب الذي عاشه آدم وحوّاء في حياتنا كلّها.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

وسوسة الشيطان لآدم وحوّاء

لا نزال في أجواء الحديث عن قصّة إبليس وآدم وحوّاء، وذلك عندما وسوس لهما ليدفعهما إلى الانحراف عمّا نهاهما الله عنه من الأكل من الشجرة، في الوقت الذي أباح الله لهما كلّ الجنّة، وذلك قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}(1). وقد ذكرنا أنّ إبليس حمل الحقد على آدم وذرّيته منذ أمره الله أن يسجد له مع الملائكة، تحيّةً لخلقه، وتكريماً له، وتعظيماً لله في عظمة هذا الخلق. ولذلك، أراد إبليس أن يدخل في التكوين الفكريّ والشعوريّ لآدم وحوّاء، ليخرجهما من الجنّة كما خرج هو.

وكان الله سبحانه قد حذّر آدم وحوّاء من إبليس {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}(2)، ولكنّ إبليس راح يخطّط لآدم وحوّاء ليعيشا في نطاق الأحلام الوردية التي تخاطب مشاعرهما وأحاسيسها، ليستغرقا فيها، ولينسيا تحذير الله لهما؛ لأنّ استغراق الإنسان في أحلامه الذاتية عادةً ما يدفعه إلى أن يعيش في حالات نفسيّة منفتحة على الأمور التي تخاطب مشاعره وأحاسيسه، فينسى نفسه، وينسى ربّه، وينسى موقعه من مسؤولياته في الحياة. وهكذا قال لهما إبليس: عندي نصيحة لكما {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}(3)، يعني أنّ الله يحبّكما، ولكنّ الله لم يمنحكما شيئين: الشخصية الملائكية التي تجعلكما تحلّقان مع الملائكة في آفاق الجنّة، والخلود في الحياة، وإنّما منعكما عن الأكل من الشجرة؛ لأنّ فيها هاتين الخصوصيّتين.

وعندما ألقى هذه الأمنيات في ذهنيهما، ولم تكن لديهما تجربة في هذا المجال، سمعا منه ذلك كلّه، ولكن، يبدو أنّه كان في نفسيهما قلق ممّا يسمعانه، ولعلّه حصل نوعٌ من التجاذب بين نهي الله عن الأكل من تلك الشجرة، وبين الأماني التي صوّرها لهما إبليس، فما كان من إبليس إلاّ أن اقتحم هذا القلق والحيرة، وبدأ يحلف الأَيْمان على صدق زعمه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}(1)؛ فليس  من مصلحة لي إذا أنتما صرتما خالدين أو صرتما من الملائكة. إنّها مجرّد نصيحة لوجه الله. وهكذا ركّز الفكرة عندهما؛ لأنّهما لم يلتقيا في تجربتهما بشخص يحلف بالله كذباً أو يغشّ أو يخدع، وبذلك أنساهما التحذير الإلهيّ، وانفتحا على الحلم الوردي في الخلود وفي تحوّلهما إلى ملكين يحلّقان في أجواء الملائكة.

ونحن ـــ كبشر ـــ نستشعر هذا التجاذب الذي عاشه آدم وحوّاء في حياتنا كلّها، فقد نهانا الله عن أشياء كثيرة؛ نهانا عن شرب الخمر، وعن الزنا، وعن السرقة، وعن أكل المال بالباطل؛ ولكن قد يحدث للإنسان، إمّا من خلال الإغواء والإغراء، أو من خلال واقع حركة غريزته، أن يندفع إلى ما يفكّر فيه من اللّذة، ليحصل عليها في شرب الخمر وفي المخدّرات وفي السرقة، إلى درجة أن ينسى كلّ شيء آخر، بل قد لا يكون مستعداً لأن يستمع إلى غيره من أصحاب التجارب.

الأحلام الوردية

{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا} يعني أنزلهما، من تدلية الشيء بالبئر. دلاّهما: أنزلهما بواسطة التغرير بهما، فسقطا في التجربة، ونزلا من الدرجة الرفيعة التي كانا فيها. وهكذا أصبحا عاريين بشكلٍ مفاجئ، وبدت لهما سوءاتهما ـــ والسّوْءة: العورة ـــ؛ إذ لم يكونا يحسّان بها بما يستلزمه من حرج في كشفها.

ويذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هناك لباساً خاصاً في الجنّة كانا يلبسانه، ولكن بمجرّد أن أكلا من الشجرة، سقط لباس الجنّة وأصبحا عاريين، وثار في نفسيهما الشعور بالخزي والعار أمام هذا العري. وعلى كلّ حالٍ، يقول الله  تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}، ليغطّيا عورتيهما.

 {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}. لماذا لم تلتزما هذا النهي الذي كان لمصلحتكما، {وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1)، فكيف استسلمتما للشيطان الذي يضمر لكما العداوة ولا يريد لكما الخير؟ وكيف سقطتما تحت تأثير هذا الإغراء وهذا التغرير؟ فالله سبحانه وتعالى وبّخهما على ذلك، لكنّهما انتبها إلى خطئهما، وإلى أنّهما واجها الموقف الذي لم ينطلق من وعي التجربة، ومن وعي الفهم لمعنى إبليس، وعلى هذا الأساس، لم يبق لهما إلاّ أن يعترفا لله بخطئهما، فطلبا منه المغفرة، {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}؛ لأنّ ما قمنا به إنّما هو على خلاف مصلحتنا، وقد أسأنا إلى أنفسنا؛ لأنّك أعطيتنا الجنّة كلّها، ولم تحرم علينا إلاّ الأكل من تلك الشجرة، ولم ننتبه إلى نتائج عداوة إبليس لنا، وإلى تلك المؤامرة الإبليسية التي أبعدتنا عن طاعتك فيما نهيتنا عنه، فظلمنا أنفسنا، ونحن نرجع إليك لتتوب علينا {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا}، وأنتَ الغفور الرحمن الرحيم {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(2)، فأيّة خسارة أعظم من خسارتنا لرضاك ولمغفرتك وعفوك ورحمتك؟!

وفي آيةٍ أخرى في سورة طه، يصوّر الله سبحانه هذه التوبة، فيقول: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}(3)، ابتعد عن الرشد { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ}، أي اصطفاه إليه وقرّبه منه، {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}(4) وجّهه من جديد إلى طريق الهداية.

رحلة الاستخلاف

ثمّ بدأت الرّحلة الرساليّة إلى الأرض، والله قدّر ـــ منذ بداية خلق الإنسان ـــ أن يعيش آدم وحوّاء (عليهما السلام) وأولادهما في الأرض؛ وهذا ما نفهمه من حديث الله سبحانه مع الملائكة، حيث قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(5). وقد قدّر الله ـــ منذ البداية ـــ أن يتعايش آدم وحوّاء وأبناؤهما مع إبليس، وأن يدور الصراع لدى الإنسان بين العقل والشهوة، بين خطّ الاستقامة وخطّ الانحراف، بين خطّ العبودية لله وخطّ العبودية للشيطان.

وهكذا انطلقت التعليمات الإلهية التي خاطب الله فيها آدم وحوّاء وإبليس: {قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. لقد انطلقت العداوة منذ البداية، وسوف تتركّز هذه العداوة في واقع الحياة الأرضية في كلّ حركة صراع بين الخير والشرّ {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(1)، فلن يخلد أحد في الأرض، ولن يخلد آدم، ولن تخلد حوّاء، ولن يخلد إبليس. {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} وتمارسون كلّ خطوط حركة حياتكم بكلّ تفاصيلها وحاجاتها وأوضاعها ومسؤولياتها {وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}(2) عندما يقوم الناس لربّ العالمين في يوم القيامة. هذا ما تناولته سورة الأعراف من قصّة آدم وإبليس.

وهناك تكملة فيما تحدّثت عنه القصّة في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى}، فعندما تعيشون في هذه الحياة، فإنَّ حياتكم لن تكون من دون رسالة ومن دون مسؤولية، ولن تكون لكم الحريّة في أن تتصرّفوا كما تشاؤون، فسوف أنزل الوحي في كلّ ما أُريد لكم أن تهتدوا به في العقيدة وفي الشريعة، بكلّ ما تشتمل عليه من المسؤوليات الفردية والجماعية في المواقف والعلاقات، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ}؛ لأنّ هذا الهدى يدفع عن الضلال، {وَلَا يَشْقَى}(3)، بل سيكون من السعداء الذين يمنحهم الله السعادة في دخول الجنّة من جديد.

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي معيشة ضيِّقة، وذلك كنايةً عن النار، أو إشارةً إلى ما يمثّله عدم الأخذ بالهدى من تخبّط في طريق الشيطان وهوى النفس، من دون الانفتاح على الآفاق الرحبة الواسعة التي يمثّلها الارتباط بالله عزّ وجلّ، {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} فقد كنت في الدنيا مفتوح العينين، {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}(1)، فنحن نحشرك وفقاً للصورة التي كنت عليها في الدنيا، ووفقاً للخطّ الذي انطلقت فيه، فقد نسيت الله في الدنيا ونسيت آياته، فكنت كالأعمى الذي لا يهتدي طريقاً، ولا يصيب هدفاً.

وهكذا انتهت قصّة تجربة آدم وحوّاء مع إبليس، بأن نزلا إلى الأرض، وبدأ الصراع فيما بينهم، وانطلق آدم بعد ذلك ليبلّغ ذرّيته الرسالة التي حمّله الله إيّاها. وهكذا تأكّدت نبوّة آدم (عليه السلام).

محطّات للدراسة والتأمّل

وهنا لا بدّ من أن نتوقّف عند نقطتين:

1 ـــ نبوّة آدم وعصمته

من بين علامات الاستفهام التي أثارها علماء الكلام، وأشرنا إليها فيما تقدّم من حديث، هي أنّ آدم كان نبيّاً، والعقيدة التي يحملها أتباع أهل البيت (عليهم السلام) هي عصمة الأنبياء، فكيف نفسّر معصية آدم؟ حيث تحدّث القرآن في سورة (الأعراف) عن خضوعه وحوّاء لتغرير إبليس وأكلهما من الشجرة التي نهاهما الله عنها وتأنيب الله لهما {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} وأنّ الله صرّح بمعصية آدم في سورة طه {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}(2)، فكيف نفسّر معصية آدم ونوفّق بينها وبين العقيدة بعصمة الأنبياء؟.

هناك عدّة أجوبة عن هذا السؤال:

أ ـــ أنّ آدم لم يكن نبيّاً عندما كان في الجنّة؛ لأنّه لم تكن هناك قاعدة إنسانية حتّى يبلّغها الرسالة، كما قال الله عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(3)، وهكذا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}(4) فلم يكن آدم نبيّاً آنذاك ليخضع موقعه لمسألة العصمة، وبالتالي لا يكون هناك محذورٌ من ارتكاب آدم للمعصية في الجنّة.

ولكنّ البعض يتحفّظ على هذا الجواب؛ وذلك من جهة أنّ قضية العصمة في الأنبياء، هي من المسائل التي تدخل في التكوين الذاتي للنبيّ، بأن يكون النبيّ نوراً كلّه؛ ونوراً في عقله، ونوراً في قلبه، ونوراً في عمله، لأنّ دور النبوّة هو أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، (وفاقد الشيء)، إذا كانت ذهنيّته تعيش في الظلام؛ ظلام المعصية والانحراف، (لا يعطيه)، حيث لا يكون لديه نور لينير للآخرين.

ب ـــ أنّ الجنّة ليس ساحة التكليف، وأنّ المسؤولية والتكليف إنّما يكونان في الدنيا، كما جاء في الحديث: "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل"(1)، فالناس يعيشون في الآخرة ليمارسوا نتائج أعمالهم، ولذلك، فإنّ الله لم يكلّفهما بالمسؤولية التي تستتبع العقاب على الانحراف عنها، أي بما يعبَّر عنه بالأوامر المولوية، وهي تلك الأوامر التي يوجّهها الله إليهم بما هو مولى لا بدّ من إطاعته فيها، ويعاقب عليها إذا عصي. وإذا كان الحال كذلك، فإنّ الأمر الذي وجَّهه الله إلى آدم وحوّاء هو أمر إرشاديّ، لا يحمّل الإنسان مسؤولية تكليفيّة تستلزم العقاب، ولكنّه يمثّل عملية نصح وإرشاد، تماماً كما هي أوامر الطبيب. فنحن قد يأمرنا الطبيب بأشياء مثل: خذ هذا الدواء، ولا تأكل من هذا الشيء، وعليك أن تنام في وقت معيّن، وتستيقظ في وقتٍ معيّن فإذا عصيتَ أوامر الطبيب، فإنّك لن تدخل السجن، ولكنّك ستقع في الضرر. ولذلك نقول: أمرني الطبيب فعصيته، ولكن هذا لا يستوجب العقوبة.

فالله عندما نهى آدم وحوّاء عن الأكل من تلك الشجرة، كان نهيّه نهياً إرشادياً، بمعنى أنّكما إذا كنتما تحبّان أن تعيشا في الجنّة، وأن تأكلا منها رغداً حيث شئتما، فإنّ عليكما أن لا تأكلا من هذه الشجرة. ولا مانع من أن يعيش الأنبياء نقاط الضعف البشري التي لا تنافي إطاعتهما لله بهذا المستوى، لأنّ قضية العصمة، إنّما تنطلق من خلال إطاعة الله فيما يأمر به عبده، ممّا يتحرّك في نطاق المسؤولية، بحيث إذا لم يطعه عاقبه على ذلك. ولذلك فالنهي الذي صدر من الله لآدم وحواء هو نهي إرشادي، كنصيحة لهما، وهذا لا ينافي العصمة؛ لأنّ الأنبياء بشر، وقد يخضعون لبعض نقاط الضعف الذاتية التي قد تنطلق من خلال بشريّتهم، من دون أن تكون هناك أيّة حال انحراف عن الله سبحانه وتعالى في أوامره ونواهيه. ولعلّ هذا الجواب أقرب إلى واقع العصمة في الأنبياء.

2 ـــ مسؤولية حوّاء في إغواء آدم

جاء في التوراة المتداولة، أنّ حواء هي أصل الإغواء، وأنّها هي التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة، وأنّها كانت وسيلة الشيطان لإقناع آدم، يعني أنّ آدم توقّف، حسب رواية التوراة، وتحيّر، فسيطر الشيطان على حوّاء، التي دفعت بدورها آدم إلى الأكل، كما هو الحال في بعض الرجال، حيث تسيطر عليهم نساؤهم في كثيرٍ من الحالات، ويُغوينهم ويغرينهم بأشياء كثيرة. وهو ما يعطي فكرة عمّا هو موجود عند بقيّة الأديان، أو بعض الأديان، بأنّ المرأة هي العنصر الإغرائي الذي يستخدمه الشيطان لإغواء الرجل، فيكون ضحيّةً لها في هذا الجانب. وعليه، فإنّ المسؤولية في خروج آدم من الجنّة، هي مسؤولية حوّاء وليست مسؤولية آدم، لأنّ آدم كان ضحيّة لحوّاء، مثل بعض الرجال الذين هم ضحيّة للنساء.

ولكن عندما ندرس القرآن الكريم ـــ وهو الكتاب المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس فيه زيادة ولا نقصان ـــ نجد أنّ القرآن يصوِّر لنا أنّ آدم وحوّاء كانا شريكين في توجيه الله لهما في النهي عن أكل الشجرة، وهما معاً كانا خاضعين لإبليس، وأنّ إبليس كان خادعاً لهما معاً، وعلى هذا الأساس، عاشا التجربة كلّ من موقعه، وفي الوقت نفسه، انطلقا معاً إلى الله في التوبة. وبكلمةٍ أخرى: عندما نقرأ ما تحدّث به القرآن من قصّة آدم وحوّاء في تجربتهما الأولى مع إبليس، لا نرى أيّ حديث عن أيّة حالة سلبية للمرأة ـــ وهي حوّاء ـــ في إغواء الرجل، فليست هناك أيّة مشكلة في علاقتهما ببعضهما البعض في حياتهما المشتركة، حتّى إنّنا نستوحي من القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} أنّه لم يكن هناك إحساس جنسي لآدم بالنسبة إلى حوّاء في ذلك الوقت، بل إنّهما عاشا هذه التجربة بعد خروجهما من الجنّة، والرجل تغويه المرأة وتغريه من خلال اجتذابه غالباً من الناحية الجنسية، أمّا آدم وحوّاء فكانا يعيشان الطهارة الروحية في الجنّة تجاه ذلك كلّه.

والخطاب القرآني يؤكّد أنّ التكليف كان موجّهاً إليهما معاً، وهو موجّه إلى آدم بشكلٍ مستقلٍ، كما أنّه موجَّه إلى حوّاء بشكلٍ مستقلّ، فقال تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}، وقد حذّرهما الله تعالى معاً، فخاطب آدم قائلاً: {هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}، ومعناه أنّ إبليس كان يخطِّط لإخراج آدم وحوّاء من الجنّة، لأنّه لا يريدهما أن يقوما بمسؤوليتهما في الانسجام مع النهي الصادر من الله سبحانه وتعالى، وإنْ كان نهياً إرشادياً. وعلى هذا، كانت وسوسة الشيطان لهما معاً، وليس هناك ما يدلُّ على خطاب الشيطان لحوّاء أوّلاً لتغوي آدم ثانياً. أمّا الوسوسة، فالقرآن الكريم يؤكّد أنّها انطلقت من إبليس إليهما معاً، فقال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} إذ كانا معاً ضحيّة لوسوسة الشيطان.

وأيضاً نجد قوله تعالى حكايةً عن إبليس: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}، وقد شعرا معاً بالحيرة والقلق أمام هذه المسألة، حيث إنّهما دخلا في مسألة الموازنة في ذلك {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فهو حلف لهما معاً، واشتركا معاً في الأكل من الشجرة، حيث قال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}، وعندما ناداهما الله سبحانه وتعالى، ناداهما معاً، ولم يحمِّل المسؤولية لأحدهما، بل حمّلها لهما معاً: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، فالنداء لهما معاً، من خلال أنّ كلّ واحد منهما يملك عقلاً، ويملك إرادةً، ويملك مسؤوليةً، فيتحمّل المسؤولية في هذا المجال.

 

 

المسؤولية المشتركة

وقد وقع كلٌّ منهما في العصيان والاستسلام وطاعة الشيطان بشكلٍ مستقل، ومن دون أيّ ارتباط بالآخر، ومن دون أيّ علاقة بينهما، ولذلك فإنّ مسؤولية آدم في ذلك مستقلةً عن مسؤولية حوّاء. ثمّ إنّهما عندما واجها هذا التأنيب الإلهيّ أو العقاب الإلهيّ، رفعا أيديهما معاً {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1). وهكذا نجد أنّ القرآن لا يحمِّل حوّاء مسؤولية سقوط آدم أمام التجربة كما توحي التوراة، بل يحمِّل المسؤولية لآدم وحوّاء على حدٍّ سواء؛ للإيحاء العميق بأنّ للرجل خياره في الطاعة أو المعصية، كما للمرأة خيارها في ذلك كلّه، وأنّ الله خلق لكلّ منهما عقلاً يدرك الحسن والقبح، وإرادةً تملك الصلابة في الموقف، فهما يقفان على قدم المساواة في خطّ المسؤولية.

وقد يقال إنّ الله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى، يبدو وكأنّه يحمِّل آدم مسؤولية ما حصل دون حوّاء، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}(2)، نسي عهد الوصية الإلهية، ولم نجد له إرادة قويّة صلبة، بل انطلق من خلال الضعف البشري الذي جعل عزمه يضعف عن الطاعة وعن الانسجام مع ما يريده الله سبحانه وتعالى. ولكن، ليس معنى ذلك إبعاد حوّاء عن المسؤولية، بل ورد ذلك بلحاظ بعض المناسبات التي اقتضت التذكير بموقف آدم، بإظهار مظهر الإنسان الذي يخضع لضعفه البشري، لا بلحاظ ذكوريّته. ولذلك، فإنّ القرآن تارة يوجّه الخطاب إلى آدم، وأخرى يوجّه الخطاب له ولحوّاء معاً.

وعلى ضوء هذا، ننطلق من الفكرة الإسلامية التي يؤكّدها الإسلام، أنّه لا فرق بين الرجل والمرأة في المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإنّ الله تحدّث في الجانبين السلبي والإيجابي عنهما معاً {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}(3)، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}(4)، وتحدّث أيضاً في عالم الثواب: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}(1)، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(2).

كما أنّه ضرب المثل في المرأة الكافرة والمرأة المؤمنة {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}(3), وفي نموذج آخر: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}(4). فالله لم يفرّق بين الرجل والمرأة في مسألة المسؤولية أمام الله، سواء كانت على مستوى الاستقامة أو على مستوى الانحراف. وأمّا قضية الإغواء، فنحن نعرف أنّ الرجل قد يغوي المرأة، والمرأة قد تغوي الرجل، حسب ما يملك كلّ منهما من تأثير على الآخر من خلال الظروف المصاحبة لهما. ويبقى للكلام بقيّة في أكثر من جانب آخر، والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السادسة

29 ربيع الأوّل 1427 هـــ ـــ 27/5/2006م

 

 

قصّة الشيطان (4)

شجرة الخطيئة

 

قصّة الشيطان لا تقتصر على الموقع الذي جرت فيه، بل هي قصّة تمثّل البرنامج الذي وضعه الشيطان لإضلال وإغواء آدم وحوّاء وأبنائهما.

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

لا نزال في أجواء قصّة الشيطان مع آدم وحوّاء، وهي قصة لا تقتصر على الموقع الذي جرت فيه الأحداث، بل هي قصة تمثّل البرنامج الذي وضعه الشيطان لإضلال وإغواء آدم وحوّاء وأبنائهما؛ هذا الإغواء الذي يستفيد من طبيعة التكوين الإنساني، سواء كان على مستوى حركة الغريزة في داخل الإنسان، أو على مستوى خضوعه للأوهام والخيالات والأمنيات والأحلام. فالمسألة ليست قصّة حدثت في الجنّة لتنتهي فيها، بل هي قصّة تشمل كلّ الواقع الإنساني إلى نهاية العالم وإلى يوم يبعثون. وقد تحدّثنا بعض الحديث عن بعض الأمور التي أثارها الكثير من العلماء، في محاولة تفسير بعض المفردات الواردة في هذه التجربة الصعبة.

شجرة الخطيئة

من بين هذه الأمور، تفسير الشجرة التي نهى الله آدم وحوّاء عن الأكل منها، وما هي؟ وما هي نوعيتها؟

وأمام ذلك، نواجه في أبحاث العلماء واجتهاداتهم مذاهب شتَّى:

1 ـــ أنّها شجرةٌ مادية، وأصحاب هذا الاتجاه بين مَن يرى أنّها شجرة الحنطة، وبين من يقول إنّها شجرة التفاح؛ لما لهاتين الثمرتين من خصائص تجعل الإنسان ينفتح على أكثر من لذّة أو على أكثر من شيء يمكن أن ينتفع به.

2 ـــ أنّها شجرة معنويّة، والعلماء هنا مختلفون أيضاً على النحو التالي:

أ ـــ أنّها شجرة الحسد. وهي ـــ بناءً على هذا التفسير ـــ تتّصل بالجانب المعنوي الأخلاقي السلبي الذي لا يريد الله للإنسان أن يتّصف به؛ لأنّه يمثّل مسألة ضدّ القيمة، فالحسد يمثّل العدوان على الإنسان المحسود، سواء كان هذا العدوان منطلقاً من الحالة النفسية التي يحملها الحاسد ضدّ المحسود، عندما يتعقّد من النعمة التي أنعم الله بها عليه، ويتمنّى أن يزيل الله عنه هذه النعمة، أو كان منطلقاً من التخطيط للتدخّل في حياة المحسود، بالمستوى الذي يتصرّف فيه معه تصرّفاً شريراً، قد يؤدّي إلى قتله أو جرحه أو نهب ماله أو ما إلى ذلك. وكأنّ الله سبحانه قال لآدم وحوّاء: لا تقربا شجرة الحسد، أي لا تحسدا أحداً على ما آتاه الله.

ب ـــ أنّها شجرة العلم والمعرفة. وكأنّ الله أراد لهما أن يبقيا على هذه السذاجة الذهنية الثقافية، فلا يأخذا بالعلم في كلِّ خطوطه، ولا يأخذا بالمعرفة في كلّ انفتاحاتها، ولا يستغرقا في الحياة بالمستوى الذي يملكان فيه معرفة ما يتحرّك في داخلها من قضايا ومكاسب، ومن حركة وحيويّة. ويؤيّدون قولهم ذلك، بأنّ آدم وحوّاء لم يميِّزا عريهما، فلما أكلا منها، صارا إنسانين بمعنى الكلمة، والتفتا إلى عريهما.

مناقشة الاحتمالات المطروحة

هذه هي الاحتمالات المطروحة، ونحن بصدد مناقشتها احتمالاً.

ولنا أن نعلّق على الرأي الثاني ـــ وهو أنّ الشجرة معنويّة ـــ بما يلي:

أمّا الاحتمال الأوّل ـــ وهو أنّها شجرة الحسد ـــ فإنّه ليس وارداً في حسابات آدم أو حوّاء، حيث لم يكن أيّ منهما في تلك المرحلة منفتحاً على العنصر الذاتي في شخصيته تجاه الآخر، ليرى نفسه في المستوى الذي يملك فيه نعمة ليست لدى الآخر، فيحسد الآخر على ذلك، بل كانت المسألة التي عاشها آدم، هي مسألة الأحلام الذاتية التي أثارها إبليس في ذهنه، وهي مسألة الخلود والملائكية، من حيث ارتفاعه إلى عالَم الملائكة الذي اطلع عليه في تجربته في بداية خلقه، عندما سجد الملائكة كلّهم له، فاطَّلع على الجوّ الملائكي، ولم يكن له عهد به فيما سبق.

وهنا ملاحظة، وهي أنّ الحسد، بما هو قيمة سلبية تتحوّل إلى حركة شرّيرة في الإنسان، إنّما ينطلق من اصطدام الإنسان بالآخر فيما يملك من قضايا أو نِعَم أو صفات، ليتحوّل هذا الاصطدام إلى حالة سرّية دفينة في هذا المجال. ولكنّنا نلاحظ أنّ آدم لم تكن لديه هذه الحالة الاصطدامية، خصوصاً وأنّه لم تكن لديه تجربة سابقة؛ لأنّه ولد من دون تجربة، واندفع في هذه التجربة الصعبة اندفاعاً لا يملك معه أيّة حالة من الحالات التي تمنحه الوعي في موقعه في نفسه، وموقعه من الإنسان الآخر. وبتعبيرٍ آخر: هو لم يعش في أيّ مجتمع حتّى يمكن القول إنّه انفتح على مثل هذه الحالة الواقعية التي تؤدّي إلى تلك الحالة النفسية. فالحديث عن أنّ الشجرة هي شجرة الحسد، لا يملك ثباتاً علمياً يمكن أن يخضع التفسير له.

وأمّا الاحتمال الثاني ـــ وهو أنّها شجرة العلم والمعرفة ـــ فإنّنا نلاحظ عليه ما ذُكر في القرآن الكريم من آيات تدلّ على أنّ الله سبحانه منح آدم العلم والمعرفة، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1)، بل ربّما نستوحي من قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}(2)، أنّ الله عهد إلى آدم بكلّ ما يريده له من المعرفة والتجربة مع إبليس، أو ما سوف يقبل عليه في المستقبل، عهداً يرتكز على الوعي المعرفي الذي يطلّ به على آفاق الحياة. ولذلك لم يكن آدم جاهلاً لنفسه بعد هذا العلم، أو بموقعه أو بمسؤوليته، ولكنّه غفل عن ذلك، وهو ما عبّرت عنه الفقرة من الآية: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}، أي إرادة صلبة، فنسي ذلك العهد في غمرة الضعف البشري.

وعلى كلّ حال، قد يكون الأقرب إلى ظهور الآية، حمل الكلمة على ظاهرها، أي الشجرة بالمعنى المادّي الحسّي، لأنّه ليس هناك ما يمنع من أن لا يكون للشجرة خصوصية، سوى أنّ الله أراد من خلالها أن يقحم آدم في هذه التجربة الصعبة، ليكون النهي نموذجاً للممنوع الذي يمثّل العنصر المحرم الذي يواجه الإنسان أمامه مسؤولية الالتزام، من خلال قوّة الإرادة؛ باعتبار أنّ المنع قد يجتذب الرفض، فيكون الموقف موقف امتحان واختبار لإرادة الالتزام.

 

 

رمزيّة الشجرة

وعلى هذا الأساس، يمكن لنا أن نطلّ على مسألة تُثار، وهي مسألة رمزيّة الشجرة، بأن يُقال: إنّ الله سبحانه وتعالى أعدَّ آدم (عليه السلام) ليتحمّل مسؤولية الحياة المستقبلية في الأرض، من حيثُ يريد له أن يلتزم بالرسالة التي كلَّفه القيام بها، ويتّبع الهدى الذي أنزله عليه، ويتحرّك في خطّ المسؤولية فيما يقبل عليه، وفي ذلك خطّان: خطّ الإباحة وخطّ الحرمة. فالله سبحانه وتعالى عندما منعه من القرب من هذه الشجرة، ومن الأكل منها، أراد أن يقدِّم له الرمز لكلّ حرام منعه الله من ارتكابه، في مقابل المباح الذي ترك له الحرّية تجاهه، والذي أعطاه صورته في إباحة كلّ ما في الجنّة. فكأنّ الله يريد أن يقول له إنّ هناك ممنوعات، وهناك إباحات، وعليك أن لا تسقط أمام الممنوعات والمحرَّمات. وهذا ما نجد مصداقه في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}(1)، ممّا يأكل الإنسان، أو يشرب، أو ممّا يتلذّذ وما إلى ذلك، أو ممّا يلبس، ولكنّ الله حرَّم عليه بعض الأشياء المتّصلة بحياته المادية والمعنوية، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ...}(2).

ولكنّ الإنسان أكل، ولا يزال يأكل من شجرة الحرام، فيما يأخذ به من المحرّمات التي حرّمها الله عليه في حاجاته المتنوّعة، الأمر الذي يعرِّضه للطرد من الجنّة في الآخرة، ومن السعادة في الدنيا.

وهذا ما يجب على الإنسان أن يعيه وعياً عميقاً واسعاً منفتحاً على المصالح والمفاسد التي تتّصل بحياته الإيجابية والسلبية على مستوى الدنيا والآخرة؛ لأنّ قضية الخضوع للجانب الإحساسي في حاجاته، ليس هو القيمة الإنسانية، بل القيمة هي حماية إنسانيّته المنفتحة على رضوان الله ونعمه في الدنيا والآخرة، ما يفرض عليه الدخول في عملية مقارنة بين النتائج الإيجابية الحاصلة من الامتناع عن المحرّمات والاكتفاء بالمحلّلات، والنتائج السلبية الحاصلة من الإقبال على المحرّمات. وهذا ما ترمز إليه قصّة آدم الذي ترك أشجار الجنّة التي تحفل بأفضل المشتهيات وألذّها وأحلاها، واستغرق في وحي وسوسة إبليس ليأكل من هذه الشجرة المحرّمة التي قد لا يكون لها أيّة ميزة.

وما نستوحيه من مسألة تجربة النهي عن الأكل من الشجرة، وتحليل الأكل من كلّ ثمار الجنّة، أنّها تمثّل حالة إيحائية للإنسان، في أنّه عندما يقف أمام الشريعة الإسلامية، يجد أنّ هناك أموراً قد أحلّها الله له ممّا يصلح أمره وحياته، وأموراً حرَّمها عليه ممّا يفسد أمره وحياته، لينفتح على تجربة آدم وحوّاء، فيما وقعا فيه من وسوسة إبليس، ليعرف أنّ إبليس أدخل أبويه في هذه التجربة القاسية الصعبة التي أسقطتهما أمام المسؤولية الإلهية، ليرتدع عن ذلك ويسير في الصراط المستقيم.

سقوط لباس الجنّة

تقدّم قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}(1). والسؤال: ما هي الإيحاءات وردود الفعل التي عاشها آدم وحوّاء أمام سقوط لباس الجنّة واكتشاف هذا العري الذي عاشاه عندما بدت لهما سؤءاتهما؟

في هذه المسألة، يقول بعض المفسِّرين أو الباحثين، إنّ إبليس كان يستهدف إيقاظ الجانب الجنسي في إحساسهما؛ لأنّهما لم يعيشا تجربة جنسية، أو ثقافة جنسية، بل كانا يعيشان في جسديهما كما لو كان أمراً يتحرّك من دون أيّ شعور أو إحساس سلبيّ في هذا المجال. فلذلك أراد إبليس أن يركّز ارتباط الأكل من الشجرة المحرّمة بالوقوع تحت تأثير الضعف الإنساني الغريزي الكامن في الجسد الذي استيقظ في حيويّته الفعلية بالتجربة الجديدة، ما يوحي بأنّ السقوط في تجربة الاستغراق في الشهوة من جانب، قد يؤدّي إلى الوقوع في تجربة ثانية في هذا الاتجاه أيضاً.

وهذا ما نلاحظه في كثير من التجارب التي يعيشها الناس في بداية المراهقة. ولذلك نقول، ربّما كان لهذه الحركة الفطرية، في إلقاء ورق الجنّة على عورتيهما، علاقة بالحسّ الفطري الذي يختزنه الإنسان، في الرغبة في إخفاء العضو الجنسي الذي أراد الله للإنسان أن لا يبديه؛ لأنّ المشاعر التي أثارها انكشاف العضو الجنسي كانت مشاعر جديدة، بحيث واجه آدم وحوّاء شيئاً لم يكن لهما عهد به، فهما لم يتطلّعا إلى عورتيهما من قبل، ولم يعرفا ما هو دور هاتين العورتين، وهذا ما جعل كلاًّ منهما يلجأ، وبشكلٍ فطريّ وغريزيّ، إلى إخفاء عورته عن الآخر.

وقد يكون من إيحاءات هذه القصّة، أنّ على الإنسان أن لا يكتفي بإخفاء عناصر ضعفه، بل ينبغي أن يعالجها ويحوِّلها إلى نقاط قوّة، والله يريد للإنسان أن يأخذ بأسباب القوّة الروحية، كما يريد له أن يأخذ بأسباب القوّة المادية، قال تعالى: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}(1)، ليعيش الإنسان القوّة في وجوده، وليستعين بالقوّة على الاستقامة في الالتزامات العملية، من حيث علاقتها بقضية المصير في الدنيا والآخرة.

وتبقى هناك بعض الملاحظات التي أثارها بعض المفسّرين، ممّا توحي به هذه القصّة المهمة التي يمكن أن تمنحنا الكثير من القِيَم والكثير من الدروس. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السابعة

6 جمادى الأوّل 1427 هـــ ـــ 3/6/2006م

 

 

قصّة الشيطان (5)

لباسُ التقوى

 

قيمة لباس التقوى في الارتباط بالله، وبالسكينة الدنيويّة والرضوان الأخروي.

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

صراع إبليس مع أبناء آدم

تحدّثنا في المرّة السابقة عن قصّة آدم في تجربته الصعبة مع إبليس، والتي أراد الله له أن يدخل فيها في دورة تدريبية، وأن يعيش حضانة التجربة؛ ليتثقّف بما يمكّنه وأولاده من التعامل مع إبليس، ليبدأ الصراع فيما بينهما، من خلال الخير الذي أودعه الله في فطرة آدم وأبنائه، والشرّ الذي ينتجه إبليس في عملية الإضلال بوسائله الملتوية. وقد انتهت هذه القصّة بين آدم وإبليس بأن أنزلهما الله إلى الأرض، وقال لهما إنّ هناك خطّ هدى يريد الله للناس أن يأخذوا به، ليعطيهم النتائج الجيّدة في المستقبل عندما يفدون إليه، وإنّ هناك خطّ ضلال يواجهون فيه غضب الله وسخطه.

ومن الملاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن خاطب آدم، وجَّه خطابه فيما بعد إلى أبناء آدم، باعتبارهم الجيل الذي سيحمل المسؤولية فيما أنزله الله على آدم ليبلّغهم إيّاه.

التقوى خير لباس

وهكذا انطلق الخطاب الإلهي إلى بني آدم، ليذكّرهم بتجربة أبيهم مع إبليس، وليحذّرهم ممّا قد يخطّط لهم في عملية الإضلال التي تنحرف بهم عن خطّ طاعة الله ورضوانه. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ}(1)، وهنا يذكّر الله سبحانه بني آدم أنّه أراد لهم أن يستروا عوراتهم، كما كان حال آدم وحوّاء عندما ذاقا الشجرة التي نهاهما الله عنها، باعتبار النتائج السلبية التي قد تحدث من انكشاف هذه العورة بفعل الغريزة، بما توحي به من مشاعر وأحاسيس تؤدّي بهم إلى نتائج سلبيّة على مستوى المسؤولية.

{وَرِيشاً} يقول اللّغويون: الريش هو الأثاث ومتاع البيت، من فراش أو دثار. وقيل: الريش ما فيه الجمال، ومنه ريش الطائر. وقال الزجّاج: الريش كلّ ما يستر الرجل في جسمه ومعيشته. يُقال: تريّش فلان، أي صار له ما يعيش به. وفي الآية الكريمة، يريد الله سبحانه وتعالى أن يبيّن لبني آدم، أنّه أنزل عليهم ما يسترهم، وما يهيّئ لهم من النتائج الإيجابية في حياتهم، والتي يمكن لها أن تغطّي كثيراً من نقاط الضعف عندهم، {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}، أي أنّه يريد أن يقول: مهما كانت قيمة هذا اللّباس المادّي الذي يستر عوراتكم، فإنّ لباس التقوى الذي أراد الله لكم أن تلبسوه، لتنفتحوا على كلّ مسؤولياتكم، فيما حمّلكم من مسؤوليات، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو ما إلى ذلك، هذا اللّباس هو خيرٌ من كلّ ذلك؛ لأنّه الذي تحصلون من خلاله على السكينة في الحياة الدنيا، من خلال الارتباط بالله سبحانه، وتستحقّون به رضوان الله ودخول جنّته.

أنواع التقوى

والتقوى على أنواع، فهناك التقوى الفكرية، وهي أن يتحرّك الفكر من أجل أن يخطّط للحقّ ويركّزه. وهناك التقوى العاطفية، وذلك بأنْ تتحرّك العواطف في اتّجاه الله، لتحبّ ما يحبّه الله، وتبغض ما يبغضه الله. وهناك التقوى الحركية، وهي أن يعمل الإنسان على أن تكون أقواله وأفعاله في الخطّ الذي يرضاه الله، كما ورد في الحديث: "خفِ الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك"(1)، فلا يكن الله سبحانه وتعالى أهون ناظر إليك. وبذلك يكون فقدان لباس التقوى فقداناً لكلّ ما يجعل للإنسان قيمةً روحيةً وفكريةً وحركية تصعد به إلى مواقع رضا الله سبحانه وتعالى، كما يكون سبباً للشعور العميق الساحق بالخزي والعار أمام الله، وبالعري الذي لا تستره معه أي فضيلة، ولا يحميه معه من عقاب الله شيء.

{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ} التي ينبغي للناس أن يتأملوا فيها ويدرسوها، ليعرفوا من خلالها عظمة الله وقيمة النعمة، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}(2). عملية التذكير التي يؤكّدها القرآن، لأنّها هي التي تفتح عقول الناس وقلوبهم وحياتهم على كلّ الحقائق التي قد تكون خفيّة عنهم، فتقودهم الذكرى إلى الوقوف الواعي أمام أوامر الله ونواهيه، بكلّ قوّة وإيمان، كما تقودهم إلى الابتعاد عن حبائل الشيطان وخداعه وغروره.

وهنا يأتي الخطاب لبني آدم: { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}، فيعيد الله سبحانه وتعالى لبني آدم ذكريات أبيهم وأمّهم؛ فقد كانا يعيشان في الجنّة، ويملكان الحريّة في التنقّل والعيش الرغيد والتلذّذ بكلّ نعمها، والتنعّم برعاية الله لهما بشكلٍ مباشر، ولكنّ إبليس أبعدهما عن ذلك، {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا}، من خلال الفتنة التي دفعتهما إلى أن يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، ممّا قدّمنا بيانه.

ثمّ يحذّر الله بني آدم من الشيطان وجماعته من الجنّ والإنس. وهذا الأمر ـــ أي أنّ الشياطين من الإنس والجنّ ـــ يتكرّر الحديث عنه في القرآن؛ فالله عندما تحدّث عن الوسواس الخنّاس قال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}(1)، وفي آيةٍ أخرى قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}(2).

وفي هذه الآية، يبيّن الله سبحانه أنّ لإبليس جنوداً، وهم يعرفون من الناس ما لا يعرفه الناس منهم، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}(3)؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى وضعهم في حالة لا يظهرون فيها بوجودهم الماديّ إلى الناس، بل يدخلون في الناس بطرق خفيّة، وربّما ينفذون إلى مشاعرهم وأحاسيسهم، ليوسوسوا لهم، وليثيروا فيهم الجوانب السلبية التي تساهم في تزيين القبيح وتقبيح الحسن، وما إلى ذلك. لذلك، لا بدّ من أن تحذروا منهم لتتفادوا وسائلهم الضالّة المضلّة، وذلك بأنْ تلبسوا لباس التقوى، حتّى تعرفوا ما يريده الله منكم، وتعرفوا مواقع رضاه وخطوط شريعته، لتنفتحوا عليها، وتبتعدوا عن معاصيه.

 

الحذر الروحي والفكري والحركي

لقد أراد الله سبحانه وتعالى من بني آدم أن يكون لهم هذا النوع من الحذر الروحي، والحذر العقلي، والحذر الحركي؛ ليأخذوا من تجربة أبيهم آدم درساً للمستقبل، وليتعرّفوا منه خطَّ السير في طريقة تعاملهم مع إبليس، الذي حذّرهم منه ودعاهم إلى محاربته لحماية أنفسهم من ضلاله وكفره. ولذلك كانت هذه الآيات من أجل أن تشرح لهم كيف يتصرّفون معه، وكيف يواجهون مخطّطاته؛ ليكونوا على وعي دائم، يحفظون معه أنفسهم من المصير المحتوم من العذاب الذي يريد أن يقودهم إليه.

ولعلّ عدم توجيه الخطاب بقوله: يا أيّها الناس، بل بقوله: يا بني آدم، للإيحاء إليهم بالتجربة الحيّة التي عاشها آدم مع إبليس؛ لئلا يكون التفكير في المسألة في المطلق في عالم التجريد، بل ليكون تفكيراً ينطلق من الواقع التاريخيّ الحيّ.

وقد استوحت الآيات قصّة العريّ الذي شعر به آدم بسبب معصيته في حالة من الإحساس بالخزي والعار، لتوجِّه بنيه إلى النعمة التي أنعم الله بها عليهم، فيما خلق لهم من اللّباس الذي يصنعونه من أصواف الأنعام وأوبارها وشعورها، وفيما رزقهم من الريش الذي يمثّل الفاخر من اللّباس والأثاث ليتزيّنوا به ويلبسوه. وقد أراد الله أن يوجِّههم إلى أنّ المسألة التي ينبغي أن تلحّ عليهم في مواجهة إبليس وقبيله، ليست فقط مسألة اللّباس الذي يستر عورتهم؛ لأنّ ذلك لا يمثّل إلاّ جانباً محدوداً من جوانب حياتهم التي تتعلّق بحماية ما يريد الإنسان أن يحميه من جسده من نظر الناس، بل أن يوجّهوا اهتمامهم أيضاً إلى اللّباس الذي يستر عيوبهم وأخطاءهم، وهو لباس التقوى الذي يمثّل الحالة الروحية والفكرية التي يشعر الإنسان معها بالحاجة إلى أن يضبط حركة غرائزه وشهواته ومطامحه ومطامعه في الاتجاه السليم الذي ينسجم مع إرادة الله في أوامره ونواهيه، على أساس محبّة الله وخوفه اللّذين تخضع لهما هذه الحالة الداخلية.

 

 

دراسة أساليب إبليس جزء من محاربته

وفي هذا المجال، لا بدّ لبني آدم من أن يدرسوا أساليب إبليس. فنحن نلاحظ أنّ الله، سبحانه، نهى آدم وحوّاء عن الأكل من الشجرة، ولكنّ إبليس راح يوسوس لهما بأنّ الأكل منها يجعلهما ملكين خالدين، مع أنّ الله أعطى آدم موقعاً أعلى من موقع الملائكة، بأن جعله خليفةً في الأرض، يعمرها ويبنيها، ويحمل رسالة الله فيها. ولذلك، فإنّ الأسلوب الذي استخدمه إبليس من أجل فتنة آدم وحوّاء لم يكن أسلوباً واقعياً، ولا حقيقيّاً، ولا يمثّل لآدم وحوّاء أيَّ نوع من أنواع السموّ والارتفاع خارج ما هما فيه، والله سبحانه أراد لبني آدم أن يتعرّفوا الأساليب التي يتّبعها الشيطان في وسوسته لهم، وفي إلقائه إليهم بالكثير من الأوهام والخيالات التي تجعلهم يتصوّرون القبيح حسناً.

التأمّل والتجربة معاً

كما أنّ هناك نقطة ينبغي أن نفهمها في الحياة، وهي أنّ الله أراد للإنسان أن يتأمّل ويفكّر ويدرس التجارب الفاشلة التي حدثت للأمم السابقة. كما في قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}(1)، فقد عاشت الشعوب السابقة تجارب قد يكون بعضها تجارب ناجحة، وقد يكون بعضها تجارب فاشلة، وقد أراد الله لهذه التجارب أن تكون مصدراً من مصادر الوعي، ومن مصادر المعرفة، ومن مصادر العلم، ومن مصادر التذكّر.. إضافةً إلى التأمّل والتفكير وما إلى ذلك، كما أراد لبني آدم أن يدرسوا تجربة أبيهم، وأن يتعرّفوا كيف توصّل إبليس إلى ذلك، وماذا أوحى لهما من أفكار، وما هي أساليب الوسوسة التي أثارت في داخل آدم وحوّاء المشاعر التي هيّأتهما للتحرّك في اتّجاه تحقيق ما أراده منهما.

كما أنَّ على بني آدم أن يحذروا من فتنته الشيطانية، التي يحاول من خلالها أن يثير فيهم الأفكار والأجواء المنحرفة عن خطّ الله، وأن يوسوس لهم في همسات خفيّة، وأن يتجنّبوا الوسواس الخنّاس الذي يوسوس ويخنّس، أي يبتعد ولكي لا يكتشفه الطرف الآخر، حتّى تتفاعل الوسوسة في نفس الإنسان، ليزيّن لهم معصية الله كما لو كانت حلماً من الأحلام، أو لوناً من ألوان السحر؛ ليعيش الإنسان معها في أجواء سحرية ضبابيّة غامضة، يسهل معها انجذابه إلى النار التي يحترق فيها إيمانه وفكره، تماماً كما هي الفراشة التي تجلبها أشواق اللّهيب إلى النار.  

وبذلك، لا تكون الذكرى شيئاً من التاريخ، بل حركة وعي، ودرس إيمان، وسبيلاً إلى الحرّية؛ ليفهم الناس من خلالها دورهم في الحياة، ومسؤوليتهم في بناء كيانهم على أساس إرادة الله، ليعمِّقوا إيمانهم، وليلتفت الإنسان إلى خلجات نفسه، وإلى نبضات مشاعره، وإلى حركة فكره، فلا تتحرّك نفسه في كلّ ذلك إلاّ في خطّ رضى الله سبحانه.

ويبقى للكلام بقيّة نرجو أن نوفّق لها في الأسبوع القادم إنْ شاء الله، والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثامنة

13 جمادى الأوّل 1427 هـــ ـــ 10/6/2006م

 

 

قصّة الشيطان (6)

شياطين الإنس

 

المطلوب أن نعيش حالة طوارئ مع الشيطان بكلّ تنوّعاته.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

  تحدّثنا فيما سبق عن النداء الإلهيّ لبني آدم، الذي أراد من خلاله أن يذكّرهم بالتجربة التي خاضها أبوهم وأمّهم مع إبليس، وأن يحذّرهم من أن يسقطوا في التجربة التي سقط فيها أبواهم، فيخرجهم من الجنّة في مستقبل حياتهم كما أخرج أبويهم منها في فجر الخليقة.

ومن بين الأمور التي أثارها الله سبحانه وتعالى، العرض الذي قدّمه إبليس لآدم وحوّاء، والذي أدّى إلى نزع لباسهما عنهما. وقد أشرنا إلى أنّ ذلك قد يكون رمزاً لنزع لباس التقوى؛ لأنّ آدم وحوّاء قد لا يكونان واعيين لدور الجسد في الجنس، وعلاقة الرجل بالمرأة، ما جعلهما يعيشان بعيداً عن أيّ إحساس بمسألة العورة.

وربمّا يذكر البعض ـــ كما ذكرنا سابقاً ـــ أنّهما كان يلبسان لباس الجنّة، فلما سقطا أمام التجربة وأكلا من الشجرة، نُزِع عنهما لباسهما، وأحسّا بالعريّ، وربّما أحسّا بطبيعة دور العورة للرجل أو المرأة، الأمر الذي جعلهما يحسّان بالحياء.

بين العري والعار

وربّما كان هذا وارداً على نحو الإيحاء لبني آدم بأن يرفضوا كلّ الوسائل التي يقدّمها إليهم الآخرون، في ما قد يقودهم إلى العار من خلال فقدان ما يستر به الإنسان نفسه، سواء في الجوانب المادية أو المعنوية؛ ليبقى الإنسان ملتزماً بما يتمثّله مِنَ القِيَم، ولا يسمح لأحد بأن يسقط عنه هذا النوع من الستر الروحي أو المادّي، بحيث يؤدّي به ذلك إلى العريّ الروحي أو الأخلاقي أو ما إلى ذلك... وليشعر بأنّ من الممكن أن يخدع من الآخرين من شياطين الإنس والجنّ كما خدع آدم وحوّاء من الشيطان الأوّل، ليتنبّه إلى ذلك؛ فلا يسقط أمام الأحلام السطحية التي تطوف به في أجواء اللّذات الخيالية، يستفيد ممّا حدث في تجربة آدم وحوّاء.

وفي ضوء ذلك، لا بدّ لبني آدم من أن يستفيدوا من هذه التجربة، بأن يعيشوا اليقظة الروحية الدائمة المنفتحة بهم على الله، والوعي المنفتح المستمرّ الذي يستطيعون من خلاله أن يكتشفوا كلّ الخفايا التي يمكن أن يحرِّكها الآخرون من أجل الانحراف بهم عن الخطّ المستقيم، ومن خلال ذلك الرَّصد المتحرِّك لكلّ كلمة أو همسة أو عاطفة أو فكرة أو علاقة أو عمل أو شهوة أو طموح، بحيث لا يواجه الإنسان ما يُلقى إليه من الآخرين من ذلك كلّه مواجهة الغفلة؛ فإذا سمع كلمة، فلا بدّ من أن يدرسها ويدرس مضمونها وخلفياتها، وإذا قدّمت إليه فكرة، فعليه أن يدرس طبيعة هذه الفكرة وطبيعة امتداداتها ونتائجها، وعندما يواجه مسألة العاطفة التي تقدَّم إليه، فلا بدّ من أن يدرس طبيعة هذه العاطفة في سلبياتها أو إيجابياتها.

وعندما يدخل في علاقة معيّنة، فلا بدّ من أن يدرس طبيعة هذه العلاقة ومدى تدخّلها أو دخالتها في طبيعة حركته وإيمانه في الحياة. وهكذا بالنسبة إلى ما يواجهه من أعمال، أو ما يسيّره من شهوات أو طموحات أو ما إلى ذلك؛ لأنّ الشيطان يحاول الاختباء في كلّ واحدة من هذه الأمور؛ ليشوّه بها جمال الطهر وصفاء الروح واستقامة الطريق. ولذلك، لا بدّ من التحرّك على كلّ الصعد، وبكلّ الوسائل التي وهبها الله للإنسان من عقل وإرادة وإيمان؛ لأنّ المطلوب أن نعيش حالة طوارئ مع الشيطان بكلّ تنوّعاته؛ لأنّه يحاول أن يدخل إلينا في كلّ ما يمكن أن يترك تأثيره السلبي علينا، مستغلاً بعض غفلاتنا وبعض ما نعيشه من حالة السهو أو من حالة الجهل.

إنّكم ـــ في ما يخاطبكم الله ـــ تخوضون المعركة، في داخل أنفسكم وخارجها، ضدّ عدوٍّ لا تعرفونه بالحسّ، ولا تعرفون أعوانه وجنوده إلاّ بما يعرّفكم الله من وسائله ومخطّطاته، بينما يراكم هو وكلّ جماعاته، بكلّ ما تعيشونه من أفكار وهواجس وأحلام. وقد ورد في بعض الأحاديث، أنّ الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم في العروق. ولكنّ الله يحفظ المؤمنين من الشياطين، عندما يعيشون وعي التقوى، ووعي الإيمان بالله والارتباط به، والانفتاح على آياته في مواعظه ونصائحه، من خلال ما يلهمهم من أسباب الخير، ويوفّقهم إليه من وسائل الهداية، كي يرعى عباده الذين يتحرّكون في الحياة تبعاً لمرضاته. فهو وليّهم الذي يؤيّدهم ويرعاهم.

ولذلك، قال الله تعالى للشيطان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}(1)، وهم أولئك الذين يعيشون معنى العبودية في علاقتهم بالله، وينفتحون على كلّ ما أريد لهم من السير على الخطّ المستقيم. أمّا الذين لا يؤمنون بالله، ولا يسيرون في طريقه، فالشياطين هم أولياؤهم؛ لأنّهم عندما يسلمون أمرهم إلى الشياطين، تحتضنهم الشياطين وتوجّههم وتسيّرهم في الخطّ الشيطاني الذي يريدونه لهم. وولاية الشيطان تعني الإمعان في الخداع والغرور الذي يقود الإنسان إلى الهلاك المحتوم، وذلك قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(2).

شياطين الإنس

وهنا ملاحظة، وهي أنّنا عندما نقف أمام الفقرة من الآية التي تقول: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}، نجد أنّه يتحدّث عن الشيطان في الآفاق التي توحي بالغيب؛ ولكنّنا عندما ننفذ إلى واقعنا، نرى أنّ هناك مَن قد يمثّل دور الشيطان في هذا الواقع، كالمخابرات التي قد تختلف في خطوطها السياسية أو خلفيّاتها الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنيّة، سواء كانت مخابرات دولية، أو إقليمية، أو محليّة، أو شعبية وما إلى ذلك، وبوسائلها المتنوّعة وأجهزتها الخفيّة، البشرية منها والتقنيّة، بحيث يكون المنهج الشيطاني في التخطيط والحركة والوسائل هو ذاته، فهم ـــ بوسائلهم المتطوّرة ـــ يروننا ويكتشفوننا ويتعرّفون خلفيّاتنا وأسرارنا وما إلى ذلك، كما في شبكات التجسّس عبر الأقمار الاصطناعيّة، أو التجسُّس على مكالمات الهواتف، أو شبكات الانترنت، وما إلى ذلك، ولا بدّ لنا من أن نواجه ذلك بالحذر ذاته الذي يحذّرنا الله فيه من الشيطان، ولاسيّما أنّ الله سبحانه قد حدّثنا عن شياطين الإنس والجنّ؛ لنعرف كيف نواجه هذه الوسائل بوسائل أخرى، ولو من خلال إمكاناتنا في المستقبل.

شبهة وردّ

وهنا يبرز سؤال، وهو أنّ الله سبحانه عندما يقول: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}، فإنّه ينسب الجعل هذا إلى نفسه، أي أنّه هو الذي جعل الشياطين يحيطون بالذين لا يؤمنون ويسيطرون عليهم ويطوفون بهم، وربّما يشلّون حركتهم عن الانفتاح عليه سبحانه وتعالى. أفلا يكون ذلك ممّا يدخل في معنى الجبر؟

والجواب: أنّ الله سبحانه وتعالى، في كلّ الأساليب القرآنية التي تتعرّض للأسباب والمسبّبات في الحياة والكون، يربط كلّ شيء به؛ للإيحاء بأنّه هو المسيطر والمهيمن على كلّ شيء، وهو وراء كلِّ شيء؛ لأنّه الخالق لكلّ شيء.

فالله خلق الإنسان حرّاً، وركّز في كيانه حركيّة الإرادة، وأعطاه العقل الذي يستطيع من خلاله أن يفكّر وأن يختار ما يريد، وأن يميِّز من خلاله بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشرّ، وبين الحسن والقبيح، لتنطلق الإرادة بعد ذلك في هذا الجانب أو في ذاك الجانب: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}(1)، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(2)، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(3). فالله سبحانه جعل ذلك، ولكن ليس على نحو إجبار الإنسان ليكون من أولياء الشيطان، بل من خلال خلق العلاقة بين السبب والمسبِّب، بحيث جعل فعليّة السبب بيد الإنسان. فهو ـــ أي الإنسان ـــ قادر على أن يسير مع الشيطان أو لا يسير معه؛ فإذا سار مع الشيطان صار الشياطين أولياءه. وهذا هو الذي تحرّك به المبدأ الذي ركَّزه الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، حيث قالوا: لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين.

الإغراء بالفاحشة

ثمّ يقول تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا}(4). والفاحشة كلّ عمل يتجاوز الحدّ، وتطلق على المعصية في كلّ مظاهرها. وقد غلب استعمال الفاحشة في الأفعال التي يغلب عليها الجنس، ولكنّ الظاهر شمولها في هذه الآية لكلّ عمل يخالف فيه الإنسان ربّه، ممّا تدفعه إليه وسوسة الشيطان، سواء منه ما يتعلّق بانحراف في المنهج أو في الممارسة.

إنّ هؤلاء الذين كانوا من أولياء الشياطين، إذا ما سئلوا: لماذا فعلتم الفاحشة؟ أجابوا بأنّهم يسيرون بسيرة الآباء والأجداد، ونحن نتبعهم في ذلك. وهذا منهج خطأ نبّه الله إليه في أكثر من آية؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان عقلاً يفكّر به، وعلى الإنسان أن يسعى إلى ما يصلح أمره، ليصل إلى معرفة حقائق الأمور في التمييز بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشرّ. فكما أنّه أعطى الآباء عقولاً، كذلك أعطى الأبناء عقولاً، ولكنّهم لم يستعملوها في طريق الخير، بل استعملوها في طريق الشرّ وفي طريق الباطل وما إلى ذلك.

لذا، فإنّ علاقة الأبناء بالآباء ليست مبرّراً لهم لأن يتّبعوهم في كلّ العادات والتقاليد السيّئة. ولذلك قال الله في أكثر من آية: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(1)، وقال في آية أخرى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ}(2). ولعلّه لم يخلُ عصر من هذا النوع من التقديس للآباء والأجداد، حتّى إنّك عندما تناقش بعض العادات التي يقوم بها الناس اليوم، يُقال لك: هذه عاداتنا وعادات آبائنا وأجدادنا، ولا يجوز لنا أن نتركها، حتّى إنّ ذلك وقع أيضاً في الأمور الدينيّة ممّا توارثه الناس من آبائهم، مثل التطبير والضرب على الظهور، وما إلى ذلك من كلّ هذه الأمور التي لا يتقبّلها العقل والوجدان السليم.

وهم بعد أن يبرّروا فعلهم للفاحشة باتّباع سيرة الآباء والأجداد، إذا ما أحسّوا أنّ بعض من يسمع تبريرهم غير مقتنع به، لأنّه يرى أنّ الأمر الإلهيّ هو الذي يمكن أن يبرِّر للإنسان ما يعمله، حاولوا أن يربطوا أعمالهم بالله، فيقولوا ـــ كما قال القرآن ـــ: {وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا}.

ولكنّ الله يردُّ على هذا الزعم: {قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(3)، وتلك جريمة كبيرة فيما تؤدّي إليه من تزييف الحقيقة الإلهية في العقيدة أو في التشريع، ممّا يقود إلى الاجتراء على الله من جهة، عندما نسب إليه شيئاً لم يقله ولم يشرِّعه، وإلى تزييف الصورة الحقيقيّة للمسار الإنسانيّ في خطّ الإيمان بالله من جهةٍ أخرى.

إذاً بماذا يأمر الله؟

والجواب: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}(1)، والقسط هو العدل، وهو أن تقف عند الحقيقة، وعند حقوق الناس، وعلى ما يصلح أمورهم ويرتفع بمستواهم إلى ما يحبّه الله ويرضاه، وإلى ما يحقّق لهم سلامة المصير في الدنيا والآخرة.

وفي آيةٍ أخرى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}(2) الذي يمثّل التوازن في الحياة، سواء منه ما يتعلّق بحقوق الناس، أو بقضايا الحياة الأخرى فيما يقوله الإنسان أو فيما يفعله ممّا يستطيع من خلاله أن يميِّز الحقّ من الباطل في مختلف مفردات حياته ووجوده.

الإيمان الحرّ

{وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. هذا هو الخطّ الذي يريد الله سبحانه للإنسان أن يسير عليه؛ ليتوازن في خطّ الإيمان به؛ أن يقيم الإنسان وجهه لله ـــ وهو كناية عن كيان الإنسان كلّه ـــ عند كلّ مسجد، بكلِّ ما يمثّله المسجد من أجواء العبادة والعبودية من الإنسان تجاه الله؛ لأنّ دور المسجد هو أن يعيش الإنسان في داخله أجواء عبادة الله، ليطيعه فيما أمره به، وليركع ويسجد له سبحانه وتعالى، ليجسّد في ذلك العبوديّة الواقعية لله، فيتّجه إليه في كلّ أموره، بحيث يكون الله مقصده وغايته في جميع المجالات، فمنه، ومن وحيه، تبدأ كلّ انطلاقات الإنسان، وإليه تنتهي كلّ خطواته؛ فلا يتصوّر الإنسان الوجود إلاّ من خلال أنّ الله هو سرّ الوجود، باعتبار أنّه هو سرّ الخلق للإنسان وللحياة كلّها.

وهذا هو معنى الإيمان الحرّ المنفتح على الله في كلّ الآفاق، المتحرّك معه في كلِّ السبل... {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وهذا هو دور الإنسان المتعبِّد لله الذي يعيش العبودية؛ يدعو الله في كلّ حاجاته، وفي كلّ أموره، وفي كلّ قضاياه، وأن يشعر بأنّ الله سبحانه وتعالى هو وليُّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة، وأنّ الله هو المهيمن على الأمر كلّه. فادعوا الله بكلّ إخلاص، في دينكم، وفي انفتاحكم على الحياة، وفي إيمانكم، ولا تدعوا غيره، ولا تشركوا به أحداً؛ فله الدعاء، وإليه المشتكى، وعليه المعوّل في الشدّة والرخاء، حتّى يكون الدّين كلّه له، في فكركم وشعوركم وخطوات حياتكم في الخطّ والمنهج والممارسة، فليس لكم أن تتبعوا غير منهجه، أو تسيروا في غير طريقه، أو تتّخذوا وليّاً غيره.

الحياة المسؤوليّة والآخرة حصاد نتائجها

{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}(1)، فالذي يبدأ الخلق هو الذي يعيدهم إلى الحياة من جديد، والحياة ليست مجرّد ذرّة ضائعة في الفراغ، أو فقّاعة تنتفخ ثمّ تنفجر، ولكنّها بداية حركة المسؤولية التي تنطلق وتتوهّج؛ لتعود في نهاية المطاف، بعد هدأة قصيرة تغفو فيها الحياة ـــ عندما يموت الإنسان ـــ لمواجهة النتائج بين يديّ الله. فالحياة هي حركة المسؤولية، والآخرة هي حركة نتائج المسؤولية. فعلى الإنسان أن لا يعتبر الموت نهاية الحياة، بل أن ينتظر من خلاله رحلة العودة إلى الحياة من جديد، في أجواء متنوّعة الألوان والأشكال والآفاق، تبعاً لتنوّع الأفكار والمواقف والأعمال.

وفي خطِّ العودة إلى الله، هناك فريقان: {فَرِيقاً هَدَى} فيما أعطاه الله من وسائل الهداية، من عقل، ووحي، وإرادة، وحسّ، {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ}، وهم الذين انغمسوا في خطّ الضلالة، وتأكّد ذلك في ما اختاروه لأنفسهم من وسائل تبعدهم عن أجواء الهدى، وتقرّبهم من أجواء الضلال. فالإنسان إذا انطلق في اتّجاه الضلالة، كانت الضلالة أمراً طبيعياً في حياته.

{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ}، وهذه هي مشكلة الذين يأخذون بأسباب الضلالة؛ أنّهم ساروا مع الشياطين فيما شقّوه لهم من طريق، وما زيّنوه لهم من أعمال، وانتصروا بهم فيما واجهوه من مواقف، وخرجوا من ولاية الله، وتحرّكوا بعيداً عن طاعته ومنهجه في الحياة، فضلّوا وضاعوا في متاهات الطريق، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}(2)؛ لأنّهم لم يعرفوا الخطّ الفاصل بين الهدى والضلال، ليحدّدوا لأنفسهم الهُويّة الحقيقيّة للمسار والمصير. والحمد لله ربّ العالمين.

  المحاضرة التاسعة

20 جمادى الأوّل 1427 هـــ ـــ 17/6/2006م

 

قصّة الشيطان (7)

عبادة الشيطان

عبادة الشيطان تتمثّل في عبادة الفكر، وذلك في الاستسلام لما يثيره الشيطان في عقول الناس من مفاهيم الكفر والشرك وخطوط الضلال، وفي ما يحرّكه في مشاعرهم وأحاسيسهم من وساوس الشرّ.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في سياق حديثه عن الشيطان، تعرّض القرآن الكريم إلى مسألة لافتة، وهي عبادة بني آدم للشيطان، في مقابل عبادتهم لله، فالله سبحانه وتعالى أراد لبني آدم ـــ وللجنّ أيضاً ـــ أن يعبدوه، وذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1).

العبادة في الإسلام

اعتبر الإسلام مسألة العبادة من المسائل التي تمثِّل الخطّ العام لما أمر الله به ممّا يتّصل بكلّ أفعال الإنسان وأقواله وعلاقاته ومواقفه {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}(2)، أن يعبدوا الله عبادة خالصة ليس فيها أيّة شائبة.

كما أكّد أن تكون العبادة بالطاعة المطلقة لله، والخضوع له في كلّ الأمور، بحيث يذوب الإنسان في الله. وقد ورد في بعض الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عمّن يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، قال: "ورجل لم يقدّم رجلاً ولم يؤخّر أخرى حتّى يعلم أنّ ذلك لله رضى أو يحبس"(3).

ومن جهةٍ أخرى، اعتبر الإسلام قيام الإنسان بمسؤولياته فيما يعول به أهله، وفيما يعوّل به الناس الذين يسأله الله عن رعايتهم، اعتبر ذلك عبادةً؛ فقد ورد في الحديث: "العبادة عشرة أجزاء" ـــ وفي رواية سبعون جزءاً ـــ "وأفضلها جزءاً طلب الحلال"(4)، فعندما تطلب المال من حلّه لتقوم بمسؤولياتك في رعاية عيالك أو رعاية الناس من حولك، فأنتَ بذلك تعبد الله، سواء كنت في المزرعة أو في المصنع أو في المتجر، أو في أيّ موقع من مواقع طلب الرزق، إذا كنت مخلصاً في ذلك، ولم تحرّك رزقك في غير ما يريده الله سبحانه وتعالى. وقد جاء في السُنّة النبوية الشريفة، أنّ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأوا رجلاً في جلده ونشاطه: فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله ـــ أي في الجهاد ـــ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"(1).

إذاً، عندما يطلب الإنسان المال في الحلال، ليحقّق من خلال ما يجنيه الأهداف التي أرادها الله سبحانه له، فهو في حالة عبادة، وفي حالة سير في سبيل الله، وفي الطريق إليه سبحانه وتعالى.

التوحيد ركيزة العبادة الأولى

ومن الطبيعي أنّ مسألة العبادة في الإسلام، هي مسألة التوحيد في عبادة الله، ولذلك كانت كلّ العناوين الكبرى التي يطلقها الأنبياء لِأُمَمِهم هي {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}(2)، {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}(3)، ثمّ بعد تأكيدهم وحدانية الله، يدخلون في تفاصيل العبادة من خلال التشريعات التي يفصّلونها للناس.

وعلى ضوء هذا، رفض الإسلام كلّ شرك في العبادة، حتّى اعتبر الرِّياء في العبادة مبطلاً لها، وهو أن يصلّيَ الإنسان ليراه الناس، أو أن يحجّ لذلك، وقد اعتُبر الرّياء من الشرك الخفيّ، لأنّ على الإنسان أن يخلص العبادة لله.

 

 

 

عبادة الإنسان للشيطان

وعلى ضوء هذا، تحدّث الله ـــ في كتابه ـــ عن عبادة بني آدم للشيطان في مقابل عبادتهم لله. وهذا ما جاء في سورة (يس): {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1)، فكيف نتمثّل عبادة بني آدم للشيطان؟

العبادة ـــ في مفهومها ـــ تمثّل غاية الخضوع والاستسلام المطلق، وبتعبيرٍ آخر: هي الذوبان في الشخص أو الجهة، في ما يأمر به أو ينهى عنه، فلا يكون لك كلمة مع كلمته، ولا يكون لك موقف أمام ما يريده من موقف، ولا يكون لك خطّ أمام ما يسيّره من خطّ.

وعبادة الشيطان تتمثّل في عبادة الفكر، وذلك في الاستسلام لما يثيره الشيطان في عقول الناس من مفاهيم الكفر والشرك وخطوط الضلال، وفي ما يحرّكه في مشاعرهم وأحاسيسهم من وساوس الشرّ، ليدفعهم نحو الانحراف في السلوك والعمل.

ويريد الله سبحانه ـــ في نوعٍ من العتاب واللّوم ـــ أن ينبّه الناس ويحذّرهم من الانقياد للشيطان والاستسلام له، وقد قصّ علينا كيف أنّ الشيطان أخرج أبوينا من الجنّة، وقال لنا: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ}(2)، فهو يخطّط ليخرجكم منها أيضاً، أو ليمنعكم من دخولها، وهذا ما حدّثنا به القرآن الكريم في قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(3). وأنتم عندما تطيعون الشيطان فكرياً وعملياً في كلّ الواقع، فأنتم تعبدونه عملياً وإنْ لم تعترفوا بذلك نظرياً؛ لأنّ العبادة ليست أن تقول للشخص إنّي أعبدك فحسب، بل العبادة هي أن تستسلم له من دون أيّ تفكير ومن دون أيّ حساب ـــ كما ذكرنا ـــ. ومن هذا الباب، تكون عبادة الشخصية، وعبادة الناس بعضهم بعضاً؛ حيث إنّ هناك من يعبد زوجته، ومن تعبد زوجها، وهناك من يعبدون الشخصيات الاجتماعية، وربّما حتّى الشخصيات الدينيّة بشكلٍ وآخر.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1). هنا يريد الله سبحانه أن يركّز في نفوس بني آدم ما ركّزه في نفس آدم وحوّاء، حيث قال لهما: {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}(2)، فالله أعلن لآدم وحوّاء، أنّ الشيطان يختزن في داخله العداوة لهما، وذلك من خلال عقد الكبرياء والعصبيّة في نفسه. وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(3).

خطوط العداوة

وقد أكّد القرآن الكريم في أكثر من آية، عداوة الشيطان للإنسان، في ما يدخل في حياتنا الاجتماعية، سواء في بيوتنا مع عوائلنا، أو في مجتمعاتنا مع الناس الذين نتحرّك معهم في علاقاتنا ومعاملاتنا، في السلم والحرب، في السياسة والأمن والاقتصاد وما إلى ذلك.

فمن ذلك قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً}(4)؛ فالله سبحانه أعطاك هذا اللّسان الذي ألهمك لأن تعبّر عمّا في نفسك، وأن تقول الكلمة التي تريد أن تنقلها إلى الآخر. والكلام على أنحاء: كلام للخير وكلام للشرّ، كلام يجمع وكلام يفرِّق، كلام يؤدّي إلى الفتنة وكلام يؤدّي إلى اللّقاء والتواصل. فالله يقول للإنسان: انتبه إلى كلماتك، وادرسها دراسة دقيقة، ادرس نتائجها، سواء عندما تتحدّث مع عائلتك، أو مع أقربائك، أو مع أصدقائك، أو مع الناس الذين تختلف معهم، سواء كان هذا الاختلاف اختلافاً مذهبياً، لأنّك على مذهب وهم على مذهبٍ آخر، أو طائفياً لأنّك على دين وهم على دينٍ آخر، أو سياسياً لأنّك في اتجاهٍ سياسي معيّن والآخرون في اتّجاهٍ آخر.

وفي آيةٍ أخرى، يجري التركيز على أنّ مسألة التعامل مع الشيطان كالتعامل مع العدوّ، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(5)، والغرور هو الشيطان، أي الخدّاع الذي يحاول أن يغرّكم، فيصوّر لكم الأشياء الخيالية التي ليس لها أيّة واقعية بصورة الحقيقة، لتسيروا في اتّجاهها وما إلى ذلك، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ}(1)، لأنّه يريد أن يخرجكم من الجنّة ويبعدكم عن الصِّراط المستقيم {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}، يعني: تعاملوا معه كما تتعاملون مع أعدائكم، وذلك بالحذر من كلّ ما يصدر منه، سواء كان ما يصدر منه كلاماً يوحي به إلى الإنسان، أو نصائح ينصحه بها، كما اتّخذ إبليس صفة الناصح لآدم وحوّاء. وحتّى لو تكلّم بكلام يوحي بالخير، فإنّ على الإنسان أن يكون حذراً، وأن يتنبّه إلى خلفيات هذا الكلام، لأنّه سيكون كلام حقّ يراد به باطل، أو كلام خير يراد به الشرّ.

ثمّ إنّ الله سبحانه يعلّل مسألة عداوة الشيطان لنا، ولماذا يجب أن نتّخذه عدوّاً: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} هؤلاء الذين يطيعونه، والذين يسيرون في خطواته، والذين يخضعون لوسوسته، والذين يأخذون بتزييناته، وما إلى ذلك {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، لا يقول لهم: كونوا من أصحاب السعير، ولكنّه يدعوهم من خلال ما يقدّمه لهم من التعليمات، للسير في الخطوط التي يريد لهم أن يسيروا عليها، ممّا تكون نتيجته السعير وغضب الله سبحانه.

النزغ بين الأخوة

وفي حديث الله عن الحوار الذي جرى بين يعقوب ويوسف (عليه السلام) حول رؤيا يوسف، تعرّض القرآن لهذه العداوة الشيطانية، فقال تعالى: ـــ على لسان يوسف ـــ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}(2)، وبما أنّ يعقوب كان يدرك مدى الحساسية التي يحملها إخوة يوسف لأخيهم؛ ليس لأنّه كان آية في الجمال فحسب، بل لأنّه كان على درجة عالية من الوعي والتقوى والعلم على صغر سنّه، أراد أن يحذّره: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}(3)، يعني لا تتحدّث معهم عمّا رأيته ممّا يبيِّن مستواك الرفيع وقيمتك الراقية {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، وكأنّه يقول له: إنّ الشيطان قد يدخل إلى مشاعر أخوتك وأحاسيسهم، فيدعوهم أو يدفعهم إلى أن يكيدوا لك، ويتآمروا عليك، وأن يقودوك إلى الهلاك.

ونحن نستطيع أن نعيَ هذه الحالة التي عاشها أخوة يوسف تجاهه، من خلال الكثير من النماذج التي نعايشها في حياتنا، ممّن يعيشون العقدة في نفوسهم تجاه آخرين قد يكونون من أقربائهم، أو أصدقائهم، أو أصحاب الصنعة نفسها التي يمارسونها، أو الوظيفة نفسها، أو ما إلى ذلك ممّا يحسُد الناس بعضهم بعضاً فيه.

{وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(1)، لأنّ العبادة لله وحده؛ فهو الخالق، وهو الرازق، وهو سرّ الوجود كلّه، وهو المهيمن على الأمر كلّه، وهو الذي يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(2)، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}(3)، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(4)، فهو وليّ النعمة، وهو صاحب كلّ حسنة، وهو منتهى كلّ رغبة. وكأنّ الله يريد ـــ في هذه الفقرة ـــ أن يقول: إذا أردتم أن تعبدوا فاعبدوني أنا؛ لأنّني أنا سرّ الألوهية، وسرّ الربوبية.

وعبادة الله تكون بالانقياد المطلق له سبحانه؛ بالالتزام بدينه وشريعته وإطاعته في كلّ شيء، فهو الذي يصل بالإنسان إلى النتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة، ويحقّق له السعادة في كلّ مجالات حياته. وعبادة الله سبحانه وتعالى هي الخطّ المستقيم الذي يحقّق للإنسان التوازن بين الدنيا والآخرة؛ فلا تطغى الدنيا على الآخرة في مسؤولياتها، ولا تطغى الآخرة على الدنيا في ما يحصل عليه الإنسان منها في طاعة الله.

 

تجارب مريرة مع الشيطان

{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً}(1)، أي جيلاً وجماعةً كثيرين.

يبيّن الله سبحانه في هذه الآية نقطةً، وهي أنّ علينا أن ندرس الأجيال التي سبقتنا؛ كيف بغت؟ وكيف سقطت في التجربة؟ كيف ضلّت وانحرفت عن الخطّ المستقيم؟ كيف واجهت مسؤولياتها في معصية الله سبحانه وتعالى؟

والإنسان عندما يدرس التاريخ، بسلبيّاته وإيجابيّاته، وانحرافاته واستقامته، وأضاليله وهداه، ومتاهاته التي تاه فيها السابقون، ويقف على حقائق الأشياء، فإنّه يستطيع أن يحصل على العبرة والدرس، وذلك هو قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}(2)؛ فيجتنب كلّ السلبيّات والانحرافات والأضاليل والمتاهات التي أبعدت السابقين عن الارتفاع إلى مواقع السموّ الفكري والروحي والأخلاقي والحضاري، ويأخذ بكلّ الإيجابيات التي ترتفع به إلى تلك المواقع. وليس التاريخ قصّة نلهو بها، أو سياحة نتسلّى بها.

والله سبحانه وتعالى لا يريد لنا أن نعيش مع التاريخ على نحو يعزلنا عن أن نعيش مسؤوليّاتنا في الواقع، فنستشعر الأمجاد في تاريخ أبطالنا من دون أساس لها في حاضرنا، ونتقاتل باسم كلّ الذين اختلفوا في التاريخ من دون أن يكون للعداوة خطوط واقعيّة في من نواجهه من حياتنا. قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}(3)، وذهبت في كلّ متاهات الزمن {لَهَا مَا كَسَبَتْ}، ممّا عملت، وممّا قامت به في انتصاراتها وهزائمها، وفي استقاماتها وانحرافاتها، وفي كلّ ما صدر منها، وهي تتحمّل مسؤوليته أمام الله، {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} فأنتم الآن تتحمّلون مسؤولية كلّ ما تكسبون وما تعملون {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فالله لن يحاسبكم عمّا عملته الأجيال السابقة من خير أو من شرّ، بل سيحاسبكم على ما عملتم أنتم.

وبعد أن ينبّه إلى ما فعله الشيطان في الأجيال السابقة، يأتي السؤال ـــ على سبيل الإنكار ـــ: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}؟! ما هي مهمّة العقل؟!

العقل هو سيّد الإنسان، وهو الذي يوجّهه إلى الخير، فيدفع به إلى أن يتلمّس سبل سعادته عبر ما يختاره لنفسه ممّا يصلح أمره، ولاسيّما فيما يتعلّق بقضية المصير في الآخرة، ويبتعد به عمّا يفسد أمره، باعتبار أنَّ العقل يحدِّد للإنسان مواقع الحسن والقبح، ومواضع الخير والشرّ. فلماذا جمّدتم عقولكم، وامتنعتم عن أن تأخذوا الدروس من الذين سبقوكم، والذين أضلّهم الشيطان، وأودى بهم إلى المصير السيّئ الذي عاشوا فيه غضب الله وسخطه؟! لماذا جمّدتم عقولكم ومنعتموها من الحركة في هذا الاتجاه، حتّى وقعتم تحت تأثير شهواتكم في دائرة شيطنة الشيطان الذي دفعكم إلى السّير في طريق الضلال؟!

أتعرفون ما هي النتيجة؟ يتحدّث الله عن تلك النتيجة مخاطباً هؤلاء الناس الذين وقعوا في حبائل الشيطان: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ*اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}(1).

وهنا، نحن نحتاج إلى أن ننفذ إلى الآيات القرآنية التي تعرّفنا الوسائل التي يستخدمها الشيطان في حركته في مسألة العداوة، وكيفيّة تخطيطه لتحريك عداوته للإنسان وهذا ما نحاول أن نطلّ عليه فيما يلي من أحاديث إنْ شاء الله. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

المحاضرة العاشرة

27 جمادى الأوّل 1427 هـــ ـــ 24/6/2006م

 

قصّة الشيطان (8)

حبائل الشيطان

 

الشيطان مخلوق العقدة.. يعيش العقدة ضدّ الإنسان ويعمل بكلّ وسائل التخطيط والتنفيذ للاستحواذ عليه.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

لا نزال نتابع الحديث عن الشيطان. ونحاول هنا أن نتعرَّف الأساليب التي يستعملها ويستخدمها ضدّ الإنسان. وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن بعض هذه الوسائل، باعتبار أنّ هذا المخلوق هو مخلوق العقدة، بمعنى أنّه عاش العقدة ضدّ الإنسان، ولذلك عمل، بكلّ ما يملك من وسائل التخطيط والتنفيذ، من أجل أن يستحوذ على الإنسان ويسيطر عليه، من خلال الدخول إلى خلجات فكره ومشاعره وحركته في الحياة.

وفي هذا المجال، يحدّثنا الله تعالى عمّا كان يتوعّد به الشيطان أبناء آدم، في كلّ أساليب الشيطنة الخفيّة والمعلنة: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً}(1) وأبعده عن ساحة رحمته، {وَقَالَ} وهو يتوعّد، بعد أن أمهله الله للبقاء في الأرض مع الإنسان إلى يوم القيامة: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً}(2)، أي لآخذنَّ نصيباً من عبادك ليكونوا أوليائي وجماعتي وجندي بحيث يسيرون حسب مخططاتي.

ثمّ يتوعّد أنّه سوف يستعمل كلّ الوسائل التي يملكها ليبعدهم عن الصراط المستقيم: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(3)، وكأنّه يريد أن يقول لله سبحانه وتعالى، إنّ طريقتي هي أن أقعد لهم في الساحة التي توصلهم إلى الهدى؛ لأمنعهم من سلوك طريقه، ولأعمل على الإحاطة بهم؛ سأدخل في عقولهم حتّى لا تنتج الحقّ، وفي قلوبهم حتّى لا تنتج الخير، وفي حياتهم حتّى لا تتحرّك في اتّجاه العدل والصلاح.. سوف أحاصرهم بكلّ وسائلي، وبكلّ خططي؛ حتّى لا يشعروا بأيّة حريّة تدفعهم إلى أن يستضيئوا بفكر، أو يستمعوا إلى هدى.

{وَلأُضِلَّنَّهُمْ}، وذلك باستخدام كلّ وسائل الضلال، فأمنعهم من أن يفكّروا في نطاق الإيمان، وأن يستمعوا إلى كلّ آيات الوحي، وأن ينفتحوا على كلّ وسائل الأنبياء، ولأضلّهم أيضاً بأن أفتح لهم كلّ مواقع المعرفة الضالّة المضلّة، في ما أثيره في داخلهم من الشبهات والإشكالات؛ فلا تستقرّ عقولهم على قاعدة الإيمان، ما يجعلهم يتحرّكون معي في طرق الضلال.

الأحلام الشيطانية

{وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ}، فالإنسان ينفتح على الأماني وعلى الأحلام في ما لا يملك أمره في الواقع، ولذلك يتعلّق الناس بكلّ الذين يثيرون أمامهم الأمنيات المشوّقة، والأحلام المعسولة، حتّى لو كانت خيالية وغير واقعية؛ لأنّ الإنسان عندما يطبق عليه الواقع، فإنّه يلجأ إلى الخيال أو الأحلام لكي يتخلّص بذلك من واقعه إلى واقع أفضل، كما يقول الشاعر:

مُنىً إنْ تكُنْ حقّاً تَكُنْ أعذبَ المنى        وإلاّ فقد عشنا بها زمناً رغْدا

لذلك سوف أثير ـــ كما يقول الشيطان ـــ الأمنيات والأحلام للإنسان لأبعده عن الواقع، ولأبعده عن المسؤولية، وعن الرسالة؛ لأنّ الإنسان إذا عاش بأحلامه الخيالية، فإنّه يعيش الغفلة عن كلّ ما كلّفه به الله سبحانه وتعالى.

ونحن نعرف أنّ الكثير من الذين يسيطرون على حياة الناس وعلى عقولهم، يقدّمون لهم الأحلام فيما يمكن أن يحقّقوه في المستقبل، والأمنيات التي تخاطب غرائزهم وأوضاعهم، من أجل أن يحصلوا منهم على مكسبٍ هنا، أو تنازلٍ عن مبدأ هناك، أو أن يطلبوا تأييداً في موقفٍ سياسيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ أو ما إلى ذلك ممّا لا يرضاه الله.

 

 

 

تحريم الحلال

{وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ}(1). والتبتيك هو شقّ الأذن.

هذه المسألة تتّصل بالجوّ الذي كان سائداً في الجاهلية، وهو أنّ الجاهلين كانوا يحرّمون ما أحلَّه الله، وقد يحلّون ما حرَّمه الله. وكان من ذلك أنّهم إذا شقّوا آذان الأنعام والبقر والغنم حرّموها على أنفسهم، وجعلوها من حصّة الأصنام. ولذلك جاء تعبير إبليس بذلك، كنايةً عن أنّهم يحرّمون ما أحلّ الله، وكأنّه يقول من خلال هذا النموذج الموجود عندهم: إنّني سوف أجعلهم يحرِّمون ما أحلّ الله، وهذا يمثّل انحرافاً بالناس عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي يشرّع الحرام والحلال، فلا يجوز لإنسان أن يحرّم ما أحلّ الله، أو يحلّ ما حرّمه. ولذلك قال تعالى: {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ}(2)، حيث لا يحقّ للإنسان أن ينسب إلى الله تعالى أمراً، إلاّ أن يثبت بالحجّة والبرهان أنّه أمر به، أو نهى عنه.

تغيير الفطرة

{وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ}(3). اختلف المفسّرون في المراد من تغيير خلق الله، فبعضهم قال بأنّه الخصاء، وهذا ما كان متعارفاً عليه بالنسبة إلى العبيد الموجودين في قصور الملوك والسلاطين، حتّى يأمنوا من خلال ذلك على نسائهم. وبعضهم قال إنّه الوشم. وربّما رأى بعضٌ منهم حلق اللّحية، باعتبار أنّ خلق اللّحية هو تغيير لما خلقه الله سبحانه وتعالى، ورأى آخرون أنّه الشمس والقمر والحجارة عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها. وبالجملة، فهذه الأقوال ـــ ما عدا الأخير ـــ ترتكز على أنّ التغيير هو تغيير في الجسد.

ولكن ما ورد عن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، يدلُّ على أنّ المقصود هو تغيير الفطرة، أو تغيير دين الله. ويؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(1)، فعبّر عن الفطرة بأنّها خلق الله. وهذا المعنى أقرب إلى دور الشيطان، الذي ينطلق لإبعاد الإنسان عن فطرة التوحيد، وعن الانفتاح على الله سبحانه وتعالى. ومن المرويّ في هذا المجال، ما ورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، في قول الله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ}، قال: "أمر الله بما أمر به"(2). وعن الباقر (عليه السلام)، قال: "دين الله"(3).

على أنّه يمكن أن يُقال: لو أخذنا بإطلاق الآية، لاقتضى ذلك القول بحرمة كلّ تغييرٍ يطال ما خلقه الله، وليس ذلك في الإنسان فحسب، فإنّه عندها لا يجوز لنا أن نقطع الأشجار، ولا أن نفجّر الأنهار، بل يجب أن نأخذ ما ورثناه من صورة العالم من دون أن نغيّر شيئاً، وهذا أمر لا يمكن أن يلتزم به أحد.

ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى يعلّق على تهديد إبليس ووعيده لبني آدم: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً}(4)، لماذا ذلك؟ لأنّه {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ}، فهو يعدهم بالخير الوفير، ويدفعهم إلى الأماني الحالمة التي قد يوحي لهم بأنّها تجلب لهم السعادة، ولكنّهم يكتشفون أنّهم لم يكونوا إلاّ في أحلامٍ ورديّة، أو أماني عذبةٍ ليس وراءها إلاّ السراب والواقع المرّ {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}(5)؛ لأنّ وعوده ليست الوعود التي يمكن أن تصبّ في مصلحة الإنسان وفي نجاته في الدنيا والآخرة، بل إنّ الشيطان يخدع الإنسان عندما يدرس بعض مشاعره وبعض أحاسيسه من أجل أن يحرّكها في اتّجاه شهواته وغرائزه التي قد تؤدّي به إلى الخسران المبين.

ثمّ تحدّث الله تعالى عن جزاء الذين يتّخذون الشيطان وليّاً من دون الله، فيقول: {أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً}(6).

منع الإنفاق والأمر بالفحشاء

وفي آيةٍ أخرى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ*الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(1). هنا يتحدّث الله سبحانه وتعالى في مسألة، وهي أنّ الشيطان عندما ينطلق إلى الإنسان وهو ينفق ممّا رزقه الله، ويتصدّق، أو يدفع زكاته، وغير ذلك من الحقوق الشرعية، فإنَّ الشيطان يأتيه ويقول له، إنّك إذا صرفت مالك في أداء الحقوق الشرعية وفي الصدقات وفي إعانة الفقراء والمساكين فسوف تفتقر، ولذلك احتفظ بمالك. ونظير ذلك ما ورد في قوله تعالى حكايةً عن الذين يأمرهم الأنبياء بإعطاء حقوق الله في أموالهم: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}(2)، فنحن لسنا مسؤولين عن الناس، بل الله هو الذي خلقهم وهو المسؤول عنهم.

وهذه وسيلة شيطانيّة من أجل منع الإنسان من أن يحرّك قوّة المال الاقتصادية فيما ينفع الناس ويعزّز إمكانات المجتمع، وذلك بإثارة كلّ عناصر التقتير التي تصوّر له أنّه لو استمرّ في الإنفاق من ماله، فإنّه سيفتقر في نهاية المطاف، وكأنّه هو يتعبُ ويشقى ليأتي غيره ويأخذ المال! وربّما يوحي إليه ـــ لو أراد الإنفاق ـــ بأن يصرف من المال الذي لا حاجة له به، وقد يطرحه في الأرض، وهو ما عبّرت عنه الآية بالخبيث الذي لا يأخذه الإنسان، ولا يحتفظ به إلاّ بطريقة لا تنسجم مع رغباته، بينما يريد الله منه أن ينفق الطيّب من المال الذي يكتسبه بالتجارة أو يزرعه في الأرض.

{وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء}. المراد بالفحشاء ما يتجاوز الحدّ، أي أنّ الشيطان يأمركم بما يتجاوز الحدود التي يريد الله منكم أن تقفوا عندها وأن تأخذوا بها، {وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً}(3)، فالله سبحانه وتعالى عندما يريد منكم أن تنفقوا من أموالكم، فإنّه يمنحكم النتائج الإيجابيّة في الدنيا فيما يفتحه لكم من آفاق فضله ونعمه، وفي الآخرة فيما تحصلون عليه من مغفرته. والله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}(1).  

أساليب ملتوية أخرى

وفي آيةٍ أخرى، يقول الله تعالى وهو يحدّثنا عن موقف إبليس عندما أمره بالسجود لآدم: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}، أأسجد لهذا المخلوق من التراب؟! {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً}. لأحتنكنّ لها معنيان: الأوّل: لأقودنّ، مأخوذة من تحنيك الدابّة، إذا شدّ على حنكها الأسفل بحبل يقودها به، والثاني: لأقتطعنّهم من الأصل وأستأصلنّهم، من احتنك الأرض إذا جرّد ما عليها. والقليل المستثنَوْن هم أولئك الذين يحرّكون عقولهم، والذين لا يخضعون لنداء شهواتهم، بل يعطون الشهوة دورها في حركة الجسد بما يلبّي حاجاته الطبيعيّة، ويمنعونها من التحرّك في ما يهدّد حياتهم وطُهرها وصفاءها في آفاق الروح، ويتحرّكون في اتّجاه الدور الطبيعي المميّز الذي خلق الله الإنسان من أجله، وهو الخلافة في الأرض.

{قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} وجمَّد عقله أمام شهوته، وفكره أمام غريزته، {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً} أي جزاءً كاملاً. ثمّ إنّ الله توعّده بالخيبة، فقال له: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أطلق صوتك، واستخفّ بهؤلاء حتّى يستثيرهم نداؤك فيتّبعوك، {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}، وهذا القول وارد على سبيل الكناية والتمثيل، فحال الشيطان في تسلّطه على مّن يسعى لغوايته، حالُ الذي يقع على قومٍ فيصوّت بهم صوتاً يستفزّهم من أماكنهم ويقلقهم عن مواقعهم، وهو يحشد بذلك كلّ جنوده، من خيّالة ورجّالة، {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، وذلك بتوجيههم إلى الوسائل غير الشرعيّة في اكتساب المال، كالقمار والربا والسرقة والغصب، أو في إنفاقه في الموارد المحرّمة، أو بتوجيههم إلى الوسائل غير الشرعية في إنجاب الأولاد، عن طريق الزنى، أو في تربية من ولد منهم شرعيّاً على غير النهج الشرعي، الأمر الذي يجعل هناك نوعاً من الشراكة بين الشيطان وبين صاحب المال أو الولد.

وقد ورد في الحديث عن عليّ (عليه السلام) قال: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله حرَّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له، فإنّك إنْ فتّشته لم تجده إلاّ لغيّة أو شرك شيطان. فقيل: يا رسول الله، وفي الناس شرك شيطان؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أما تقرأ قول الله عزّ وجلّ {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}"(1).

{وَعِدْهُمْ} بكلّ المواعيد الكاذبة التي تثير فيها أمامهم أحلام المستقبل الذهبيّة التي تجرّهم إلى معصية الله وتنحرف بهم عن خطّه المستقيم، وتؤدّي بهم إلى الاستسلام، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} فليس لوعوده حقيقة؛ لأنّه لا يملك من الأمر شيئاً، إلاّ أن يزيّن لهم الواقع، ويصوّر لهم صوراً خياليّة تثير غرائزهم وشهواتهم وأطماعهم.

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}(2)؛ لأنّ عباد الله هم الأقوياء في إيمانهم، والأشدّاء في إرادتهم في الثبات على الاستقامة، وهم الذين باعوا أنفسهم لله، فلم يكن لهم مع الله أمر، ولا في غير خطّ الله طموح، ولا لغير الله إخلاص.

البراءة الكاملة

وفي حديثٍ آخر، يتحدّث النصّ القرآني عن نموذجٍ من النّاس يعدون ويخلفون، وهم المنافقون الذين كانوا يعرضون على اليهود المساعدة والنصرة على النبيّ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يبيّن أنّهم يقولون لليهود كلاماً لن يستطيعوا الوفاء به في الواقع، ثم يشبّه وعودهم بوعود الشيطان، إذ يقول في هذه المسألة في سورة الحشر: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم اليهود الذين كانوا في المدينة {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} أي طُردتم وأجليتم عن المدينة {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} تضامناً معكم {وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً} لا نطيع النبيّ والمسلمين {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} فنحن مستعدّون لأن نكون معكم في القتال {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في كلّ هذه الوعود التي قدّموها إلى اليهود. {لَئِنْ أُخْرِجُوا}، أي اليهود من المدينة {لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} يعني يهربون من المعركة. وتتابع الآيات إلى أن يقول الله بعد ذلك: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} وكأنّه يقول للإنسان: لا تحمِّلْني المسؤولية في انحرافك {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ*فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} عاقبة الشيطان ومن أغواه الشيطان {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}(1).

تنصّل الشيطان من مسؤولية الانحراف

وفي مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة، يصوّر القرآن الكريم الحقيقة الواضحة، وهي تنصّل الشيطان من كلّ مسؤوليّة يحاول أن يحتجّ بها الذين وقعوا في شركه، وخضعوا لغوايته، يقول تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} في يوم القيامة {إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}، وقال لكم ـــ كما في أكثر من آية في القرآن الكريم ـــ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(2)، وبشّر المؤمنين بالجنّة، والعاصين بعذابه وسخطه، كما حذّركم من خطوات الشيطان، وقال لكم: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(3)، {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} وزيّنت لكم أعمالكم، ووعدتُكم بوعودي الكاذبة، حتّى صدّقتم أنّه ليس هناك جنّة ولا نار ولا حساب ولا عقاب، والله قال لكم: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}.

ثمّ يقول الشيطان للإنسان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} بحيث أشلُّ قدرتكم على التفكير، وأشلُّ إرادتكم عن الحركة، {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} يعني ضربت الطبل فاجتمعتم حول صوت الطبل، {فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} لأنّ الله أعطاكم عقلاً وإرادةً، وأرسل إليكم رسلاً، وعرَّفكم معنى الشيطان، وأرشدكم إلى مسؤولياتكم، وما هي نتائج حساب المسؤولية في الآخرة، ولكنّكم لم تلتفتوا إلى ذلك كلّه، فلا تلوموني في ذلك؛ لأنّ عملي كان أن أحول بينكم وبين الجنّة، وأن أدفعكم إلى الدخول في النار، {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} إذا صرختم بسبب العذاب، {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} إذا أنا عُذِّبْتُ، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}(1) عندما جعلتموني شريكاً لله. هذه هي المسألة، ويبقى للشيطان حديث آخر ما دامت مشكلتنا معه مستمرّة. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الحادية عشرة

5 جمادى الثاني 1427 هـــ ـــ 1/7/2006م

 

 

قصّة الشيطان (9)

مؤسّسات الباطل الشيطانية

 

حركة الطغيان في الإنسان تنطلق ـــ في مختلف الأزمان ـــ من تزيين الشيطان.

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

تحدّثنا فيم سبق عن الوسائل التي يستخدمها الشيطان لإضلال الناس، ومن بين هذه الوسائل، إيجاد الأجواء التي تربط الناس بالعقائد الباطلة، سواء كان ذلك فيما يأخذون به من عبادة الكواكب أو الشمس أو عبادة الأصنام، أو في ما تتحرّك به الجهات التي تملك القوّة، سواء كانت هذه القوّة جسدية، أو مالية، أو اجتماعية، أو عسكرية، تلك القوّة التي تجعل هؤلاء يمارسون الطغيان والجبروت على الناس، ويبغون في الأرض بغير الحقّ.

التأسيس للباطل

وقد حدَّثنا القرآن عن نموذجين من الذين زيّن لهم الشيطان أعمالهم وصدّهم عن السبيل. النموذج الأوّل: هو ملكة سبأ وشعبها، ويظهر ذلك في ما قصّه الله من أمر الهُدهد مع سليمان (عليه السلام)، وذلك أنّ الهدهد كان موظّفاً عند سليمان (عليه السلام)، إذ كان الجنّ والإنس والطير يخدمون سليمان (عليه السلام) في كلّ ما يحتاجه من معلومات وغير ذلك، وفي يوم تفقّد سليمان (عليه السلام) الطير فلم يجد الهدهد في مركز المسؤولية التي كان مكلّفاً بأدائها، فتحدّث (عليه السلام) بلهجة المسؤول الذي يعاقب الموظّف على غيابه من دون عذر أو من دون إذن: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ*لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} أحكم عليه بالإعدام، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}، بحيث يكون قد ذهب في مهمّة يعرف أنّنا نهتمّ بها، أو أن يبرِّر لنا إنْ كان سبب غيابه هو مهمة، وتدخل في حساب أعمالنا، كالحصول على معلومات ممّا تحتاجه السلطنة أو ما إلى ذلك، عندما نعفو عنه.

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} لم يمض وقت طويل حتّى جاء الهدهد {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} عندي معلومات لا تملكها ـــ وهذا ما يدلّنا على أنّ الأنبياء لا يملكون كلّ المعلومات البعيدة عن تجربتهم وعن وسائلهم الخاصّة أو عمّا عرّفهم الله إيّاه من أنباء الغيب ممّا هم يحتاجون إليه في مهمّة النبوّة ـــ {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، إنّي ذهبت إلى مملكة سبأ ودرست أحوالها في اعتقاداتهم وعباداتهم، فرأيناهم يسجدون للشمس ويعبدونها {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}، فهي المسيطرة عليهم {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ}، تملك إمكانات هائلة بحيث لا تحتاج إلى أيّ شيء {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} يوحي بالعظمة والأُبّهة من خلال شكله وطبيعته.

{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ}، وهنا محلّ الشاهد، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}(1)، فقد انطلقوا في عبادة الشمس باعتبار أنّها آلهة كما كان متعارفاً في ذلك الوقت. ويؤيّد ذلك ما ساقه القرآن من حديثٍ عن تساؤلات النبيّ إبراهيم (عليه السلام): {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ}(2) إذ كان هناك من يعبد الشمس. والهدهد من خلال ثقافته، كان يعتبر أنّ كلّ عبادة لغير الله سبحانه وتعالى هي من تزيين الشيطان. أمّا لماذا عَبَدَ هؤلاء الشمس، فلأنّه هالهم عظمتها في إنارتها الشاملة للكون، وما يترتّب على ذلك من نتائج كونية، الأمر الذي يجعل لها تأثيراً كبيراً على النظام الكوني.

وقد استطاع الشيطان أن ينفذ إلى عقول الناس الذين ارتبطوا بالمحدود ولم يرتبطوا بالغيب، والذين جمّدوا عند المادّة ولم ينفتحوا على الروح والعقل، لذلك زيّن لهم الشيطان عبادة الشمس، فكانوا يسجدون لها عند شروقها وعند غروبها. وبذلك انحرفوا عن الطريق القويم الذي أراده الله لهم أن يسيروا عليه {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} لأنّهم سلكوا الطريق المنحرفة ولم يسلكوا الطريق المستقيم.

ثمّ يعلّق الهدهد، أو أنّ التعليق كان من خلال الإيحاءات القرآنية: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، لأنّ الله سبحانه هو المطّلع على ذلك كلّه، وهو المهيمن على الأمر كلّه {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ*اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}(3).

وما ذكرته الآية المباركة من تزيين الشيطان لهؤلاء عبادة الشمس، يوحي إلينا بمنهج كلّ الاعتقادات التي تبتعد عن الإيمان بالله، وعن عبادته سبحانه، سواء كانت عبادة الكواكب، أو عبادة الأصنام، أو ما إلى ذلك من أنواع العبادات التي أخذ بها كثير من الناس الذين لا يملكون الوعي الروحي الذي ينفتح بهم على الله سبحانه وتعالى، بل ينطلقون من الأفكار المتخلّفة التي تربطهم بعبادة مخلوقات خلقها الله سبحانه وتعالى ولا تملك أيَّ صفة من صفات الخالقية؛ ما يجعلنا ندرك أنّ الإنسان لو ترك لنفسه ولم يوسوس له الشيطان، ولم يدخل في عقله، لما انحرف بعقله عن خطّ الحق، وكذلك إذا لم يدخل الشيطان في مشاعره وأحاسيسه وطريقته في مواجهة الأمور، لعبد الله، لأنّ الله فطر الإنسان على التوحيد.

ولذلك ورد في الحديث: "ما من مولود إلاّ يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه"(1). وقال الله تعالى كتابه العزيز: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

فساد الأقوياء والجبابرة

وفي موردٍ آخر، يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن تزيين الشيطان للجبابرة والطّغاة الذين يملكون قوّة مستعلية تجعلهم يتجبّرون على الناس. قال تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ}، لأنّ مساكنهم كانت واضحة للمسلمين آنذاك، وكان الناس يمرّون عليها في عهد نزول القرآن. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}(3). وقد تحدّث الله عن جبروتهم في مجالٍ آخر، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ*وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}(4).

هنا يتحدّث القرآن الكريم عن فساد هؤلاء، باعتبار أنّهم كانوا يستغلّون قدراتهم، إمّا لامتلاك بعضهم القوّة الجسدية الكبيرة، أو لامتلاك الإمكانات الماليّة الضخمة، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الذي هو سبيل الله سبحانه وتعالى في كلّ ما أمر به ونهى عنه، {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}، ولكنّ الشيطان عندما وقف حاجزاً بينهم وبين ذلك، جعلهم يتحرّكون في خطّ العمى والضلال. {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ*فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(1).

ونستوحي من هذه الآية، أنّ حركة الطغيان في الإنسان في مختلف الأزمان، ليست منطلقة من داخل الإنسان بحسب طبيعته وبحسب فطرته، بل إنّها تنطلق من خلال تزيين الشيطان الذي يصدّهم عن الطريق المستقيم، كما قال متوعّداً بني آدم: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(2)، ما يدلّ على أنّ الشيطان يدخل في عقل الإنسان وفي قلبه وأحاسيسه ومشاعره وحركته، وذلك من خلال ما يحيط به، ومن خلال ما يملكه من عناصر الطغيان التي تدفعه إلى التجبّر في الأرض، وإلى ظلم الناس بغير حقّ.

وهكذا نقرأ في آياتٍ أخرى، قوله تعالى للنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ}، أي من أمم الأنبياء السابقين مثل موسى وإبراهيم وعيسى {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء} يعني أخذناهم بوسائل البلاء، سواء كان ذلك من خلال الفقر أو قلّة الإمكانات، أو من خلال الضرر الذي كان يحيطهم في أجسادهم {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}، لأنّهم إذا شعروا بالبأساء وهي تسيطر عليهم، والضرّاء وهي تحيط بهم، فإنّهم يلجأون إلى الله سبحانه وتعالى ليتضرّعوا إليه، وليطلبوا منه أن يكشف عنهم ذلك.

{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ}، ولو أنّهم انفتحوا على الله عندما جاءتهم هذه الشدائد، وتضرّعوا له ورجعوا إليه، لرعاهم الله ولمنحهم رحمته ولكشف عنهم ذلك كلّه، {وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} بمعنى أغلقوا عقولهم ولم ينفتحوا على الله سبحانه وتعالى، بل استغرقوا فيما يعيشونه في حياتهم عمّا يبتعد بهم عن الجوانب الروحية {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} زيَّن لهم الشيطان الخطوط التي تحرّكوا فيها وكانوا من خلالها يشركون بالله غيره، ويعبدون الأصنام، ويمارسون الخبائث والفحشاء وما إلى ذلك {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ}، ومنعوا الآيات التي أراد الله لهم أن يذكروه بها، وأن يرجعوا إلى الحقيقة التي توحي بها هذه الآيات {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} فأصبحوا في ما هم عليه من الحصول على العافية والحصول على الغنى والثروة {أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} أي آيسون ومكتئبون، لأنّهم كانوا يتصوّرون عندما فتح الله عليهم أبواب الرزق، أنّهم سوف يمتدّون في ذلك, ولكن جاءهم البلاء بغتة، فعاشوا الكآبة والسقوط النفسي.

الأمم التي يقودها الشيطان

وعليه نفهم ـــ أيضاً ـــ أنّ الأُمّة التي تبتعد عن الله، ولا تتذكّر آياته التي جاء بها الرسل، وتتحرّك بقلوبٍ قاسية، ولا تنفتح على الخير والعدل والحقّ، سيكون الشيطان هو قائدها، وستكون عاقبة أفرادها الخسارة في الدّنيا ثمّ الخسارة في الآخرة.

ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن أنّ الناس على قسمين؛ فهناك أُناس يذكرون الله، وينفتحون على كتبه ورسله، وعلى الخطّ المستقيم الذي أراد الله للناس أن يسيروا عليه، وهناك فريق من الناس يشرك بالله، وينحرف عن الطريق المستقيم، ويبغي في الأرض بغير الحقّ، ويأخذ بأسباب الظلم والفحشاء والمعصية وما إلى ذلك. والتوجيه القرآني في هذا المجال يفيد أنّ على الإنسان، إذا عاش في مجتمع من هذه المجتمعات المنحرفة، وبدأ أفراده الحديث عن آيات الله بطريقة سلبية، كما هو شأن الذين يتحدّثون ضدّ التوحيد، وضدّ الإسلام، وضدّ الأنبياء، ويثيرون الشبهات حول الحقائق التي أنزلها الله على رسوله، وكان في المجلس أُناس مؤمنون، فماذا يفعل المؤمنون؟ هل يبقون في المجلس ويستمعون إلى كلام الكفر والباطل والشرّ والظلم أو ينسحبون؟

إنّ الله يريد من المؤمنين عندما يعيشون في مجتمع يتحدّث بشكلٍ سلبي عن الله وعن آياته وعن رسله، أن ينسحبوا من هذا المجتمع إلى أن ينتهيَ هؤلاء الناس من حديثهم وينتقلوا إلى حديثٍ آخر ليس فيه شيء من الانحراف عن الله سبحانه وتعالى، بحيث يكون المؤمن واعياً، فلا يجلس في مثل تلك المجالس. يقول الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}، ويحرّكون خطوط الباطل، وينطلقون بالوسائل الشرّيرة السيّئة، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تلتفت إليهم، وتشاغل عنهم إذا كنت غير قادر عن الخروج من المجلس، وإلاّ أعرض عنهم بالخروج منه، ولا تلتفت إليهم {حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} فتأخذك بعض رهبة المجلس، أو بعض المجاملات الاجتماعيّة، فتنسى أنّ الله أراد منك أن تعرض عنهم وأن تخرج من المجلس {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} بعد أن ينفتح عقلك وفكرك وتلتفت إلى ما أراده الله منك {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ}، أي أنّ الله لا يحاسب الناس المتّقين الذين قد يصادف وجودهم في المجلس، {وَلَـكِن ذِكْرَى}، أرادها الله لهم حتّى يحتجّوا على كلّ كلام يبتعد عن الحقّ ممّا أراد الله للناس أن يأخذوا به في آياته ومن خلال خطوط رسله، وما إلى ذلك، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(1) فلا يتركون أنفسهم في متاهات الأجواء المنحرفة والضالّة التي تجعل المؤمن لا ينفعل ضدّها(2).

وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، ثمّ يهدِّد الله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} وذلك إذا اعتبرتم أنّه ليس عليكم شيء في أن تسمعوا كلامهم، سواء كان كفراً أو غيره، {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}(3)؛ لأنّ الإنسان الذي يجلس في مثل هذه المجالس دون أن يبالي، فهو من المنافقين.

وهنا نستطيع أن نأخذ من ذلك درساً بالنسبة إلى المجتمعات التي يُذكر فيها الطغاة، ويمدح فيها المنحرفون والكافرون، ويُدعى فيها إلى تأييد المستكبرين وتأييد الظالمين وما إلى ذلك، وإلى السير في خطوط الكفر والضلال في هذا المجال، بأنّ على المؤمن أن لا يكون غير مبالٍ في موقفه، وإنّما عليه أن يكون رافضاً لكلّ ذلك، بموقفه، أو بقلبه إنْ لم يستطع، وذلك أضعف الإيمان.

سوء العاقبة

وفي مجالٍ آخر، يحدّثنا الله سبحانه عن بعض الناس الذين يقرأون القرآن، ويدرسون تفاسيره، وينفتحون على كلّ ما جاء من الرسل، حتّى يصبحوا من العلماء ومن الشخصيات التي يمكن أن تكون في موقع القيادة للناس، ولكنّهم فجأة، عندما يدخل الشيطان فيهم، فإنّهم ينسلخون عن كلّ ثقافتهم الإسلامية والروحية، وينطلقون في عالم الضلال والكفر، ويبيعون أنفسهم للكافرين والمستكبرين والطغاة، وينحرفون بالناس عن الخطّ المستقيم. وقد نجد الكثير منهم في مجتمعاتنا.

يقول الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}، بمعنى أنّه حصّل ثقافة دينية واسعة، بحيث أصبحت آيات الله في داخل شخصيّته، {فَانسَلَخَ مِنْهَا}، يعني خرج منها وتنكَّر لها، وانقلب من الإيمان إلى الكفر، ومن الهدى إلى الضلال طمعاً في الدّنيا، {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}، تعلّق به الشيطان وتمسّك به وسيطر عليه بكلّ وساوسه وإضلالاته {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} من الذين انتقلوا من حالة الرشد إلى حالة الغواية {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، بحيث إنّه لو أراد الله تعالى أن يحرّك لطفه وقوّته، لمكَّنه من أن يرتفع بها؛ لأنّه لو أخذ بهذه الثقافة التي يملكها لاستطاع أن يرتفع بها إلى الدرجات العليا في الدنيا والآخرة {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} يعني ركن إلى الدّنيا ورضي بها، واستسلم لها، ولم ينفتح على مواقع العلوّ، وسقط في مواقع الانحطاط، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} فيما يريد أن يلبّيَ به شهواته، {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}، ليس مستعداً أن يحاور، ولا أن يناقش، ولا أن يستمع إلى الأدلّة والبراهين.

{إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} والمعنى: إنْ هاجمته ينبح، {أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}، فهذا الشخص يظلّ في ضلاله في جميع الحالات، سواء أقبلت عليه أو أعرضت عنه، {ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} حتّى يعتبر الناس {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(1). والحمد لله ربّ العالمين.

المحاضرة الثانية عشرة

12 جمادى الثاني 1427 هـــ ـــ 8/7/2006م

 

 

قصّة الشيطان (10)

التهويل الشيطانيّ

 

لأنّ الشيطان يربط أولياءه بمواقع القوّة المادية، ويحدّثهم عن مواقع الضعف.. لذلك تراهم لا يملكون القوّة الذاتية الكامنة في شخصيّتهم في مواجهة التحدّيات الكبرى.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

ونبقى في الحديث عن الشيطان في وسائله وأساليبه ووساوسه في حركة الواقع الإنساني. وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن عدد من النماذج المنحرفة في السلوك الإنساني التي انطلقت من خلال تخطيط الشيطان في ما يملك من الوسائل التي ينفذ فيها إلى ذهنية الإنسان ويحرّك عمله في اتّجاهها.

التهويل الشيطاني

من بين هذه الأمور، مسألة تخويف الشيطان للإنسان. فهناك خطّ قرآني يريد للإنسان أن يكون قويّاً، بمعنى أن يشعر بالقوّة عندما يحرّك عقله في المعادلات الثقافية والفكرية، فلا يخضع في طريقته في التفكير للضغوط النفسية التي تطبق عليه من هنا وهناك، وأن لا يدع المؤثّرات تترك تأثيراتها عليه، سواء في الضغوط العاطفية، أو في الأهواء المتنوّعة وما إلى ذلك، لأنّ الله يريد للإنسان أن يتحسّس هذه القوّة في نفسه من خلال ارتباطه بربّه، الذي له القوّة جميعاً، وله العزّة جميعاً. ويؤكّد الله سبحانه وتعالى للإنسان، أنّ بمقدوره أن يتغلّب على عنصر الضعف الذي انطلق في تكوينه، ممّا بيّنه في قوله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}(1).

وذلك من خلال عناصر القوّة التي هيّأ الله له وسائلها، كما أنّ ارتباطه الإيماني بالله، يجعله يتطلّع إليه دائماً في كلّ مواقع ضعفه، ليستلهم منه القوّة في كلّ مواقع التحدّي ومواقع الضعف.

في القرآن حديث عن نموذج من الناس، يتحسّسون القوّة أمام كلّ عوامل الضعف التي تتحدّاهم من الخارج، ونموذج آخر يواجه الخوف من القوّة التي يمكن أن تتحدّاه أو تحيط به أو تسيطر عليه. وجاء في أسباب النزول، أنّ المسلمين ـــ بقيادة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ عندما رجعوا من معركة أحد، التي ألحقت فيها الهزيمة بالمسلمين بعد انتصارهم في بدايتها، والتي أدّت إلى إصابة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المعركة، فشجّت جبهته وكسرت رباعيّته، وصاح صائح: لقد قتل محمّد، واهتزّ بعض المسلمين؛ فقال بعضهم: فلنذهب إلى أبي سفيان، وقال بعضهم الآخر: إنْ كان قد قتل محمّد فإنّ ربّ محمّد لم يمت، فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه. المهم أنّ المسلمين عندما رجعوا إلى المدينة، وجاء الخبر إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أنّ قيادة المشركين التي يمثّلها أبو سفيان تعمل على خطّة جديدة، وهي ملاحقة المسلمين إلى المدينة والإجهاز عليهم حتّى لا تقوم لهم قائمة؛ لتكون الهزيمة هزيمة حاسمة في عملية الصراع بين الإسلام والشرك، وبين المسلمين والمشركين.

بلغ الخبر ـــ حسب هذه الروايات ـــ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فدعا المسلمين، ولاسيّما الجرحى، إلى التجمّع في منطقة يقال لها (حمراء الأسد)، وتقول الرواية إنّه التحق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الدعوة حتى مَنْ تخلّف عنه في السابق، بحيث أصبح هذا التجمع الإسلامي من الصحابة تجمّعاً كبيراً، وبلغ أبا سفيان، أنّ المسلمين يستعدّون لمواجهة المشركين من جديد. وهنا دخل الخوف إلى أبي سفيان، ورجع عائداً بالخزي والخذلان.

وهذه القصّة التي يرويها رواة السيرة النبويّة الشريفة، قيل إنّها كانت سبب نزول الآيات التالية: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}. والقرح كناية عن الجراحات التي أصيبوا بها، أو ما أصيبوا به من نتائج المعركة في أنفسهم وفي أجسادهم.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ} الذين استجابوا للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {أَجْرٌ عَظِيمٌ}. فما هي الميزة التي بيّنها الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين تغلّبوا على روح الهزيمة، والذين تمرّدوا على كلّ جراحاتهم، وعلى كلّ ما أصابهم من الآلام، واستجابوا لله وللرسول في استعدادهم لمواجهة المشركين في جولة جديدة يقرّرون فيها الانتصار والابتعاد عن كلّ ما فرضته الهزيمة عليهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ}، الذين قيل لهم إنّ المشركين بدأوا يستعدّون بقوّتهم التي كانت في معركة أُحُد، والتي ألحقت بالمسلمين الهزيمة في نهاية المطاف، وربّما استقدموا قوّة جديدة من أجل الإجهاز على القوّة الإسلامية بشكلٍ حاسم {فَاخْشَوْهُمْ}، أي خافوا منهم؛ لأنّ الإنسان بطبعه، سواء كان فرداً أو مجتمعاً، عندما يواجه بقوّة قادرة قاهرة من الناحية العددية، أو من الناحية العسكرية فإنّه يخاف، ويشعر بالضعف، وعلى الأقلّ يبدأ بالتفكير في ما عليه الآخرون في الجانب الآخر.

قوّة الروح الإيمانية

{فَزَادَهُمْ إِيمَاناً}؛ لأنّهم عندما حُذّروا من تجمّع الشرك هذا، وحُدّثوا عن هذه القوّة العددية أو العسكرية، ذكروا الله، وانفتحوا على قوّته التي سيطرت على عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم وأحاسيسهم ومواقفهم ومواقعهم، فقارنوا بين قوّة الله وقوّة الناس، وكان الميزان لصالح القوّة التي انفتحوا عليها على حساب قوّة الآخرين، {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. يكفينا الله ما جمعوا لنا؛ فإنّ الله هو كافي من لا كافي له، وهو الذي يكفي من كلّ شيء، ولا يكفي منه شيء، وقد وكلنا أمرنا إلى الله، وجعلناه الوكيل علينا وعلى رعايتنا في هذه المعركة.

وتُحدِّثنا الآية الثانية عن نتائج هذه الروح الإيمانية القويّة التي واجهت التخويف الذي وجّه إليهم: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ}، الله الذي أنعم عليهم بأنْ أعطاهم القوّة في نفوسهم، والصلابة في مواقفهم، وقذف في قلوب الذي كفروا الرعب، فانهزم أولئك الناس مع كثرتهم وقوّتهم {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} لأنّهم لم يدخلوا في المعركة ولم يواجهوا تلك القوّة، {وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

ثمّ يؤكّد القرآن الكريم القاعدة بين مجتمع المؤمنين ومجتمع المشركين: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ}؛ لأنّ الشيطان يربط أولياءه بمواقع القوّة المادية، ويحدّثهم عن مواقع الضعف الموجودة في حركتهم وفي أوضاعهم في ساحات الصراع. ولذلك فإنّ أولياءه لا يملكون القوّة الذاتية الكامنة في شخصيّتهم في مواجهة التحدّيات الكبرى؛ لأنّهم يفقدون الانفتاح والارتباط بالقوّة الإلهية التي هي فوق كلّ قوّة.

لذلك، فإنّ الشيطان يستطيع من خلال هذا الضعف الطبيعي الذي يعيش في داخل شخصيات أوليائه، أن يسقطهم في ساحة المعركة، {فَلاَ تَخَافُوهُمْ}؛ لأنّهم لا يملكون عناصر القوّة، {وَخَافُونِ} راقبوني في كلّ مواقفكم، وفي كلّ مواقعكم، وفي كلّ التزاماتكم، وفي كلّ أعمالكم، وانفتحوا على الخطّ المستقيم الذي يربطكم بالله سبحانه وتعالى، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(1)، وهنا يؤكّد الله سبحانه وتعالى، أنّ معنى أن تكون مؤمناً هو أن تخاف الله، وأن تتّقيه، وأن تراقبه في حربك وسلمك وفي كلّ أمورك، وأن تستمدّ منه القوّة عندما تخافه، فإنّك تستطيع بذلك أن تشعر بالأمن من الناس كلّهم.

وفي ضوء هذا، نستوحي في واقعنا المعاصر ما يطابق ذلك؛ لأنّ هذه الآيات تتحدّث عن قصّة حدثت في العهد النبويّ الشريف، أمّا الآن، فكيف يتمثّل ذلك في الواقع الموجود؟

مواجهة الاستكبار العالمي

نحن نواجه اليوم الاستكبار العالمي، الذي يحاول بكلّ ما لديه من قوّة، من خلال وسائله الاستخباراتية، أن يحقِّق الهزيمة النفسية ضدّ المسلمين والمستضعفين، عندما يستعرض قواه العسكرية الضاربة، وعندما يستعرض قواه الاقتصادية والسياسية والأمنية، فلكي يشعر المسلمون والمستضعفون بالهزيمة أمامه، وبالسقوط أمام كلّ ما يتحرّك به في أوضاعه الاستكبارية، وهناك الكثير من الناس الذين إذا حدّثتهم عن عناصر القوّة في الواقع الإسلامي حدّثوك عن نقاط القوّة لدى الآخرين، أو استسلموا لنقاط ضعفهم.

ونحن عندما ندرس واقعنا الإسلامي، بحجمه الكبير، نرى أنّ المسلمين إذا أخذوا بأسباب القوّة والوحدة، وانفتحوا على قضايا الوعي، وحاولوا أن يقارنوا بين نقاط الضعف ونقاط القوّة الموجودة لدى المستكبرين، ونقاط الضعف ونقاط القوّة التي لدى المسلمين ولدى المستضعفين، فسيخلصون إلى نتيجة واقعية في المسألة الإنسانية، وهي أنّ للضعيف عنصر قوّة، وللقويّ عنصر ضعف، وأنّ علينا أن نحارب القويّ في عناصر ضعفه بعناصر قوّتنا، بدلاً من أن نحاربه في عناصر قوّته بنقاط ضعفنا. والله حدّثنا أنّه {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ}(2).

وهذا ما نلاحظه في بعض التجارب التي عاشها الناس؛ من تجربة حرب الفيتناميين ضدّ الاحتلال الأميركي، أو حركة المقاومة الإسلامية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، حيث استطاعت هذه المقاومة أن تنتصر على الجبروت الصهيوني الإسرائيلي، حتى اعترف الإسرائيليون أنفسهم بالهزيمة، مع أنّه ليس هناك مجال للمقارنة بين ما يملكه العدوّ الصهيوني من القوّة العسكرية والسياسية وما إلى ذلك، وبين ما يملكه المجاهدون في لبنان.

وهكذا نرى كيف أنّ الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان، أصبح يعيش مأزقاً وأكثر من مشكلة، بحيث أصبح العالم يشعر بأنّ أميركا فشلت في احتلالها، وهي الآن تحاول أن تخرج بما يحفظ ماء الوجه، من خلال ما يتحدّث به رئيس أميركا بأنّنا لن نخرج حتّى ننتصر، ما يدلّ على أنّهم لم ينتصروا حتّى الآن، على الرغم من القوّة الضاربة التي يملكونها. وهكذا عندما نتطلّع أيضاً إلى الثورة الإسلامية في إيران، التي تنطلق في مواجهة العالم المستكبر الذي يحاول جاهداً أن يضغط على الشعوب التي تنشد صنع القوّة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، لكي يمنعها من ذلك، من أجل أن لا تقوم للمسلمين أيّة قائمة، وحتّى لا يحقّقوا حدّاً معيّناً من القوّة تمكّنهم من مواجهة أطماعه ومشاريعه في المنطقة، في الحاضر أو في المستقبل.

ومن الممكن لنا أن نستفيد من هذا الدرس القرآني في الحديث عن دور الشيطان الذي يخوِّف أولياءه، وأنّ أولياءه هم الذين يسقطون أمام تخويفه؛ لنحاول أن نجد ملامح هذه الحركة الشيطانيّة أمام ما نواجهه من أحداث ومخطّطات ومشاريع يحوكها المستكبرون ليُسقطونا نفسيّاً وسياسياً واقتصادياً وأمنيّاً، من خلال الضغط على كلّ مواقعنا وأوضاعنا لكي لا نسير في خطّ صنع القوّة، فنبقى مستسلمين لنقاط ضعفنا، خاضعين لكلّ نقاط القوّة لديه. وقد ورد في آيةٍ أخرى: {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}(1).

ومن الطبيعي أنّنا عندما نتحدّث عن هذا كلّه، فإنّنا لا نتحدّث عن الاندفاع في مواجهة الأقوياء بشكلٍ عشوائي، بل لا بدّ من أن نعمل على أساس التخطيط لحركتنا في ساحة المواجهة، بالطريقة التي يمكن لنا معها أن نحرّك إعلامنا في مواجهة إعلامه، وأن نحرّك خططنا في مواجهة خططه، وأن نطلق فكرنا في مقابل فكره، من أجل تقوية الروح المعنوية للمسلمين في كلّ ساحات الصراع. وإذا كانت الظروف الموضوعية في هذه المرحلة لا تساعدنا على الانتصار، فإنّ من الممكن جداً أن يحمل المستقبل الكثير من عناصر القوّة للمستضعفين في ما لا يملكه الحاضر من تلك العناصر، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(1).

التحاكم إلى الحقّ

ومن جهةٍ أخرى، ننفتح في القرآن الكريم على ما ورد في سورة (النساء)، من مسألة التحاكم، وهذه مسألة ملحّة في واقعنا الإسلامي، ذلك أنّ الكثير من المسلمين ـــ في حاضرهم ـــ كما كان بعضهم في الواقع الإسلامي الأوّل ـــ عندما تحدث بينهم خلافات، ويتنازعون فيما يختلفون فيه، من قضايا مالية أو أمنية أو عائلية أو ما إلى ذلك، قد يلجأون إلى التحاكم إلى غير القضاء الإسلامي؛ لأنّهم يوازنون ـــ في مسألتهم الخاصة ـــ بين قوانين الإسلام في قضائه، وبين قوانين الطاغوت. وقد ورد في السيرة النبويّة، أنّ بعض المسلمين كانوا يرجعون إلى اليهود ليتحاكموا عندهم؛ لأنّهم لا يستطيعون أن يأخذوا ما يعتقدونه من حقّ لهم من خلال القضاء الإسلامي.

وربّما يحدّثنا التاريخ في السيرة النبويّة، أنّ بعض اليهود كانوا يتحاكمون إلى المسلمين؛ لأنّهم يعرفون أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يقبل الرشوة ليحكم بغير الحقّ، بينما يرون أنّ بعض قضاتهم يأخذون الرشوة ويقضون بغير الحقّ؛ إذ كان هناك نوع من الحالات السلبية هنا أو الحالات الإيجابية هناك. والإسلام يريد أن يؤكّد حقيقة، وهي أنّك عندما تكون مسلماً، فإنّ عليك أن تأخذ الإسلام كلّه؛ أن تأخذه فكراً في عقيدتك، وعاطفة في مشاعرك وأحاسيسك، ومنهجاً في حياتك، بحيث لا تقدّم رِجلاً ولا تؤخّر أخرى حتّى تعلم أنّ ذلك لله رضا، لأنّ الإسلام يمثّل وحدة عقيدية وشرعية وقضائية وحركية، فلا يمكن أن نأخذ ببعض الكتاب ونكفر ببعض، كما كان يفعل البعض؛ فيختارون من الكتاب ما يوافق أهواءهم ومصالحهم، ويتركون ما لا يتوافق معهم.

لذلك، لا يجوز للمسلمين أن يتحاكموا إلى الطاغوت، لأنّه يمثّل القوّة التي تحكم بغير الحقّ، بحيث إنّ شرائعه وقوانينه على خلاف الشريعة الإسلامية. ويؤكّد القرآن الكريم أنّ كلّ هذا هو من ضلالات الشيطان.

وقد فصّل القرآن ذلك، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ}(1). الخطاب هنا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونحن نعرف أنّ الله يخاطب الأُمّة من خلاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنّ المسألة ليست مسألة شخصية، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو رسول الله للأُمّة في كلّ ما أراد الله لها أن تعيشه وأن تعمل في اتّجاهه. {إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن والوحي {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى (عليهم السلام)؛ لأنّ القرآن جاء مصدّقاً لما بين يديه {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} إلى هذه القوّة التي تقضي بغير الحقّ.

والطاغوت من الطغيان، وهو تجاوز الحدود المستقيمة المتوازنة على جميع المستويات، سواء كان ذلك على مستوى الحكم، أو على مستوى القضاء، أو على مستوى التعامل بين الناس أو غير ذلك، {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى جعل الخطّ الذي جاء به الأنبياء ينطلق من خلال دائرتين: أن يعبدوا الله، ويجتنبوا الطاغوت، كما جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}(2). وهذان الخطّان لا يلتقيان.

{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}، إذ يريد الشيطان أن يدفعهم إلى التحاكم إلى الطاغوت فيما ينطلقون به، لأنّ الشيطان يوسوس لهم ويقول لهم: إنّكم إذا تحاكمتم إلى الله وإلى رسوله، فإنّكم سوف تخسرون دعاويكم، ولن تحصلوا على مكاسبكم وأرباحكم التي تتطلّعون إليها، بينما إذا أخذتم بالقانون الوضعي ـــ كما يصطلح عليه في هذه الأيام ـــ أو أخذتم بقوانين أخرى لا تنسجم مع قوانين الإسلام، فستجدون الفرصة للحصول على كلّ ذلك.

وهنا يفصّل الله سبحانه هذه المسألة، وكيف أنّ الشيطان سيطر عليهم، فأغلق عقولهم عن التفكير بما يمكن أن يحقّق لهم الخير في الدنيا والآخرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}، والمعنى: إذا خاطبت هؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت بالحقيقة التي أعلنوها، والتي تقتضي منهم أن يُذعنوا للهُدى الذي أعلنوا اتّباعه، رأيت المنافقين يقفون موقفاً مشوّشاً حتّى يمنعوهم من أن يتحاكموا إلى الإسلام، {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، وذلك في بعض الحالات التي يجني فيها المنافقون جزاء سيرهم في الخطّ المنحرف.

{ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، فنحن ـــ بحسب منطقهم ـــ لم يكن في نيّتنا أيّ إساءة، بل أردنا الإحسان، وأردنا السير مع الواقع الإسلامي، وأردنا التوفيق بين المتنازعين والمختلفين بصرفهم عن الحكم المرّ الذي يمكن أن يزيد المشكلة فيما بينهم، {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من النفاق؛ لأنّهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} أي لا تعاقبهم، وعظهم بلسانك كي تبصّرهم بالحقائق، {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} يُعرّفهم أنّ الإعراض عنهم لا ينطلق من نقطة ضعف أمامهم.

الخطّ الرسالي والقاعدة الإيمانية

ثمّ يؤكّد الله سبحانه وتعالى الخطّ الرسالي في قضية رسالة الرسول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}؛ فالله لم يرسل الرسول ليقدّم الرسالة للناس ليحفظوها أو يدخلوها في عقولهم وثقافتهم لتكون مجرّد نظريات جامدة، بل أراد للرسالة أن تتحوّل إلى واقع عمليّ يمثّل الطاعة لله وللرسول. {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالتحاكم إلى الطاغوت والانحراف عن الخطّ المستقيم {جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ} لذنبهم الذي أذنبوه {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} أي قام النبيّ باستغفار الله لهم، وذلك على طريقة الشفاعة لله سبحانه وتعالى {لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}.

ثمّ يؤكّد الله سبحانه وتعالى القاعدة الإيمانية، فمتى تكون مؤمناً ومتّى لا تكون مؤمناً؟

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} حتّى لو شهدوا بالشهادتين؛ لأنّ الإيمان عقيدة وعمل، {حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} في كلّ الخلافات، سواء كانت الخلافات خلافات فكرية عقيديّة، أو خلافات شرعية، أو خلافات واقعية اجتماعية، {ثُمَّ} إذا حكمت بالحقّ {لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً}، ضيقاً {مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(1). هذا هو الخطّ الإسلامي، وهو أنّك عندما تكون مسلماً، فإنّ عليك أن تعمل على أساس أن تحكّم الله ورسوله في كلّ ما تتنازع فيه مع الآخرين وترضى به حتّى لو كان على خلاف مزاجك أو مصلحتك الذاتيّة الشعوريّة، وهذا ما تؤكّده الآية {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(2).

ونحن اليومَ نعيش المشكلة فيما تعالجه هذه الآية، لأنّه في العالَم كلّه، سواء كان إسلامياً أو غير إسلامي، هناك القوانين الوضعية التي استحدثها الناس على خلاف قانون الإسلام، وربّما لتكون في مواجهة القوانين الإسلاميّة، من خلال إسقاط القاعدة الفكريّة التي ارتكز عليها القانون الإسلامي في القِيَم الإنسانيّة الروحيّة التي توازن بين خطّ المادّة والروح وتدرس المسألة من جميع جهاتها العامّة والخاصّة، وهناك الدعوات التي ترفض أن يحكم الإسلام بلاد المسلمين في قوانينه وشريعته، حتّى إنّ بعض الحاكمين من المسلمين أصبحوا يعتبرون المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية تهمة ليس فوقها تهمة، باعتبار أنّها تسيء إلى الواقع الذي تعيش فيه الدولة، حتّى لو كان عنوان الدولة عنواناً إسلامياً.

وهكذا نجد أُناساً، إذا اختلفوا فيما بينهم، سواء كانت خلافات الزوجة مع زوجها، أو خلافات الأهل فيما بينهم، أو خلافات الناس في ما يتعاملون فيه وفي ما يتحرّكون فيه، فإنّهم يلجأون إلى القوانين الوضعية ولا يلجأون إلى القوانين الإسلامية؛ لأنّهم لا يتحرّكون من خلال موقعهم في الخطّ الإيماني الذي يؤمنون به، بل ينطلقون من خلال أهوائهم ومصالحهم وما إلى ذلك، ولهذا يبتعدون عن القاعدة الإيمانية التي ركّزتها الآية الأخيرة. والحمد لله ربّ العالمين.

 

  المحاضرة الثالثة عشرة

19 جمادى الثاني 1427 هـــ ـــ 15/7/2006م

 

 

قصّة الشيطان (11)

الرِّجس من عمل الشيطان

 

الرجس كلُّ عمل قد يضرُّ بالحياة والعقيدة والسلوك.

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

ونبقى في الحديث عن الشيطان في وسائله وأساليبه ووساوسه في حركة الواقع الإنساني. وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن عدد من النماذج المنحرفة في السلوك الإنساني التي انطلقت من خلال تخطيط الشيطان في ما يحرّكه من وسائل الفساد والضلال.

ومن ذلك، قوله تعالى في شأن الخمر والميسر اللّذين يُعتبران من الوسائل أو الأشياء التي تؤثّر على حالة التوازن في حركة الإنسان، فالخمر يفقد الإنسان عقله، ما يؤدّي به إلى أن يقتل النفس المحترمة، أو يعتدي على العرض الحرام، وما إلى ذلك، وكذلك الميسر الذي يؤثّر على توازن العلاقات الإنسانيّة.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(1).

يُذكر في أسباب نزول هاتين الآيتين، عن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال: "أتيت على نفر من المهاجرين، فقالوا: فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً، وذلك قبل أن يحرَّم الخمر، فأتيتهم في حشّ ـــ والحشّ البستان ـــ، وإذا رأس جزور مشويّاً عندهم ودنّ من خمر، فأكلت وشربت معهم، وذكرت الأنصار والمهاجرين، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل لحي الرأس، فجدع أنفي بذلك، فأتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأخبرته، فأنزل الله في شأن الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...}"(2).

وهنا لا بدّ لنا من التوقّف عند عدّة نقاط من وحي الآيتين:

تدرّج تحريم الخمر

النقطة الأولى: طرحت بعض الروايات، أنّ تحريم الخمر لم يكن مُطلقاً في بداية التشريع، وأنّه كان في البداية مجرّد إرشاد إلى ما فيه من الإثم والضرر، من دون تحريم، ثمّ حرّم الخمر حال إرادة الصلاة، ثمّ بعد ذلك تمّ تحريمه مطلقاً. وروى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة أنّه قال: "حرِّمت الخمر ثلاث مرّات: قدم رسول الله، وهم (أُناس) يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنهما، فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}(1)، فقال النّاس: ما حرّم علينا، إنّما قال: {إِثْمٌ كَبِيرٌ}، وكانوا يشربون الخمر، حتّى كان يوم من الأيام، أمَّ رجل من المهاجرين أصحابه في صلاة المغرب، وخلط في قراءته، فأنزل الله أغلظ منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}(2)، وكان النّاس يشربون حتّى يأتيَ أحدهم الصّلاة وهو مغتبق، ثمّ نزلت آية أغلظ من ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ} قالوا: انتهينا ربَّنا، فقال النّاس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ}(3) إلى آخر الآية"(4).

ولكنّنا نلاحظ على هذه الرواية أمرين:

1 ـــ أنّها تمثِّل اجتهاداً من الراوي؛ لأنّ الآية الأولى أكثر غلظةً وشدّةً من الآية الثانية، فالأولى ـــ وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} ـــ تتضمّن التأكيد على الإثم الكبير الذي هو أكبر من النفع الذي يقصده الناس منهما، ما يوحي إليهم بأنَّ ذلك يفرض الترك له، كما هي سيرة العقلاء وحكم العقل في الامتناع عن كلّ ما كان ضرره أكثر من نفعه، بينما لا تتضمّن الآية الثانية ـــ وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} ـــ رفض الخمر وإبعاد الناس عنه، بل تؤكّد ضرورة اجتنابه في حال الصّلاة.

2 ـــ إنّ الروايات الواردة في مناسبة نزول هذه الآية، تحدّثت عن الخمر وعن مناسبة تحريمها، في الوقت الذي نجد أنّ الآية تتحدّث عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ما قد يوحي بأنّها نزلت لإيجاد قاعدة تشريعيّة لهذه العادات الجاهليّة على أساس ما تختزنه من نتائج سلبية، فلا تتناسب مع اختصاص الخمر بمناسبة النزول. والله العالِم.

3 ـــ يؤيّد ما ذهبنا إليه، ما جاء في حديث أهل البيت (عليهم السلام)، أنّ الله سبحانه حرَّم الخمر في كلّ الشرائع، ما يجعل تشريع التحريم أمراً مألوفاً واضحاً، لا حاجة لبيانه متدرّجاً. فقد جاء في الكافي والتهذيب بإسنادهما عن أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) قال: "ما بعث الله نبيّاً قطّ إلاّ وفي علم الله أنّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم تزل الخمر حراماً، وإنّما ينقلون من خصلةٍ إلى خصلة، ولو حمل ذلك عليهم جملةً، لقطع بهم دون الدين قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): ليس أحد أرفق من الله عزَّ وجلّ، فمن رفقه تبارك وتعالى، أنّه نقلهم من خصلةٍ إلى خصلة، ولو حمل عليهم جملةً لهلكوا"(1).

النقطة الثانية: في معاني الميسر والأنصاب، جاء في الكافي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "لمّا أنزل الله عزَّ وجلّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...} قيل: يا رسول الله، ما الميسر؟ فقال: كلّ ما تقومر به حتّى الكعاب والجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوه لآلهتهم، قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها"(2). وقد جاء في تفسير العياشي عن أبي عبد الله ـــ جعفر الصادق ـــ (عليه السلام) قال: "الشطرنج ميسر والنرد ميسر"(3). وعن ياسر الخادم عن الرضا (عليه السلام) قال: "سألته عن  الميسر قال: الثقل من كلّ شيء. قال: والثقل ما يخرج بين المتراهنين من الدرهم وغيره"(1). وجاء في حديث ابن مسعود ـــ أخرجه أحمد أو ابن أبي الدنيا فرزم الملاهي ـــ عن ابن مسعود قال: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): وإيّاكم وهاتين الكعبتين الموسومتين، فإنّهما من ميسر العجم"(2).

ونستوحي من ذلك كلّه، أنّ مضمون القمار داخل في مفهوم الميسر، وأنّ تطبيق الميسر على النرد والشطرنج اللّذين كانا من أدوات القمار، يعين اختصاص التحريم بصورة ما إذا كان اللّعب بهما على سبيل القمار؛ لأنّ صدق العنوان على شيء، لا بدّ من أن يكون العنوان ثابتاً فيه، لا أن يكون على نحو التنزيل من دون حقيقة.

ولعلّ الإشارة إلى أنّهما ميسر العجم، من أجل توضيح المصداق للعرب الّذين كانوا لا يتعاملون بهما في القمار، بل كانوا يتعاملون بآلات أخرى، فأريد بيان وحدة العنوان في الجميع. غاية ما هناك، أنّ أدوات الميسر لدى العرب تختلف عن أدوات الميسر لدى العجم.

وعلى ضوء ذلك، فإنّ اقتصار التحريم في القرآن الكريم على الميسر، الذي يختزن معنى القمار في مفهومه، يوحي بأنّ اللّعب بأدوات القمار، سواء كان ذلك في الشطرنج أو النرد أو ورق اللّعب، على نحو التسلية لا على نحو القمار، جائزٌ شرعاً، وذلك خلافاً للرأي السائد لدى الفقهاء، وهو أنّ تحريم اللّعب بأدوات القمار مطلق وشامل حتّى في صورة عدم كون اللّعب قماريّاً.

النقطة الثالثة: دور الشيطان في تزيين العادات المضرّة. للقرآن أساليبه المتنوّعة في إبعاد النّاس عن بعض العادات المضرّة التي تحوّلت إلى ما يشبه الإدمان، فيذكرها أكثر من مرّة، ولكنّه يتبع في ذلك أسلوب الإجمال والتفصيل من جهة، وطريقة التدرُّج في توضيح الصورة الحقيقيّة من جهةٍ أخرى. ومن هذه العادات، شرب الخمر ولعب القمار (الميسر)، والأنصاب، وهي الأصنام التي كان الناس ينصبونها لذبح القرابين عليها والتبرّك بها، والأزلام، وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها، وقد تطلق على السهام التي كانوا يتفاءلون بها عند العزم على فعل بعض الأمور.

وقد تقدّم الحديث عن هذه الأمور في آيات سابقة، فقد جاء الحديث عن الخمر والميسر في سورة البقرة، في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}(1)، وجاء الحديث عن الخمر ـــ وحده ـــ في سورة النساء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}(2). وجاء الحديث عن الخمر والأنصاب والأزلام في هذه السورة، في آيات التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ} وقد جاءت هذه الآيات لتعطي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام مفهوماً واحداً يبرّر ابتعاد الناس عنها، وهو أنّها {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، والرّجس: هو الشيء القذر الذي ينفر الطبع منه. ولعلّ هذه الكلمة واردة على سبيل الكناية، باعتبار ما تشتمل عليه هذه الأشياء من خصائص سلبيّة، فضلاً عمّا تلحقه من أضرار لو اطّلع النّاس عليها لابتعدوا عنها كما يبتعدون عن الأشياء القذرة الظاهرة. فالسبب في نفور الطبع من هذه الأشياء، هو ما يلاحظه النّاس فيها من الخصائص المنفرة في رائحتها أو شكلها أو طعمها أو آثارها المضرّة، ما يوحي للإنسان ببعض الأفكار والمشاعر المضادّة.

وقد أراد الله للنّاس أن يدقّقوا في هذه الأمور، ليكتشفوا ما تشتمل عليه من خصائص منفرة تدفع الإنسان إلى الابتعاد عنها، لما فيها من إضرار بالحياة والعقيدة والسلوك، فالخمر يحوِّل السكران إلى إنسان يتحرّك خارج نطاق الحياة الواعية، ليعيش في غيبوبة الخدر التي تبعده عن الواقع، وبذلك يفقد الإنسان توازنه في عالَم التصوّر والعلاقة والعمل. والميسر يبعد الإنسان عن النشاط الاقتصادي الذي يتطلّب الرّبح، فيمنعه من الانطلاق إلى الأعمال المنتجة التي تبني للحياة كيانها في نطاق الخدمات العامّة، ما يجعل النشاط كلّه مشدوداً إلى طاولة القمار، ليعطي كلّ جهده للألاعيب والأساليب الفنيّة في اقتناص الربح، في جوٍّ لا يحمل أيّة تجربةٍ إنسانيّة نافعة.

والأنصاب، تجعل الفكر الإنساني مشدوداً إلى الحجارة، في نظرة تقديسٍ تتحوّل إلى نوع من الممارسة العباديّة، وبذلك تنطلق الصنميّة لتكون بمثابة الخطّ العريض لكلّ قضايا الحياة وتطلّعاتها، فتبعده عن الآفاق الروحيّة الواسعة، وتربطه بالخرافة والأسطورة، وتزوّر لها فهمه للحياة. والأزلام هي طريقة للقسمة أو لاكتشاف الغيب، لا تعتمد على أساس ثابتٍ من الواقع يضمن للإنسان التوازن والسلام في أموره العمليّة.

ومن خلال هذا العرض الموجز، نستطيع أن نكتشف من وصف الله تعالى لهذه الأشياء بأنّها {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، دلالةً على دوره فيها، إذ هو الذي قام بتزيينها للإنسان، بالوسوسة والإغواء. فهو الذي يزيّن له ارتكاب هذا العمل أو ذاك، بإخفاء الجوانب السلبيّة فيه وإظهار الجوانب الإيجابيّة، ليندفع الإنسان إليها بلهفة وشوق، من دون أن يعاني في ذلك من أيّة عقدةٍ نفسيّةٍ.

وفي ضوء ذلك، لا بدّ للإنسان من التعامل معها بالطريقة التي يتعامل فيها مع الأشياء القذرة التي ينفر الطبع منها ويبتعد عنها، فيخلق ذلك في داخل وعيه عقدة رفض، تماماً كما هي الأشياء القذرة في حياته، ولهذا كان الأمر بالاجتناب عنها في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} نتيجةً طبيعيّةً لما أراد الله أن يُثيره في نفس الإنسان ضدّ هذه الأشياء، ليربطها ـــ في النهاية ـــ بعوامل الفلاح والنجاح، لأنّهما ينطلقان في حياته من خلال أفعاله النافعة والإيجابية، كما ينطلقان من خلال نأيه عن الأمور الضارّة والسلبيّة، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإنّ الابتعاد عن طريق الخسارة أسلوبٌ من أساليب الفلاح.

العداوة والبغضاء نتاج الخمر والميسر

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}(1)، فقد أراد الشيطان أن يحقّق من خلالهما العداوة والبغضاء، في ما ينتجه الخمر من نتائج سلبيّة على مستوى العلاقات والأعمال السيّئة ضدّ الآخرين، بحيث إنّ أكثر الجرائم قد تحدث بسبب الخمر، فالإنسان إذا فقد وعيه وأخذ منه السكر مأخذه، استباح لنفسه كلّ شيء، من قتل النفوس، وهتك الأعراض، ونهب الأموال، لأنّه يفقد الميزان الذي يزن به الأمور من موقع الربح والخسارة، في حسابات الدّنيا والآخرة، فيؤدّي ذلك إلى مزيد من العداوة والبغضاء بينه وبين النّاس الذين صنع الجريمة في حياتهم. أمّا الميسر، فإنّه يترك في نفوس الخاسرين حقداً ضدّ الرابحين، ولاسيّما إذا اكتشفوا أنّ الربح لعبة فنّية خادعة لا تخضع للأصول المتعارفة في قانون اللّعب، كما يُثير المشاكل والمنازعات على أساس التفاصيل التي يكثر حولها الخلاف والنزاع.

غياب الوعي الإيماني

{وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ}. وهذه مشكلة أخرى لهاتين العادتين الضارّتين ـــ وهما الخمر والميسر ـــ فالإنسان إذا سكر ابتعد عن الوعي، وانصرف عن خطّ الإيمان، وفقد الصلة بالله التي تحتاج إلى المزيد من الانفتاح والوعي على عظمة الله وقدرته، لأنّ قضيّة الإيمان هي فعل وعي، وبذلك يفقد الإنسان الإقبال على ذكر الله في وجدانه ولسانه، فيدفعه ذلك إلى الاستسلام للشيطان في خططه وتهاويله، ويفقد الإقبال على الصّلاة التي هي عمود الدّين، بما توحيه من حضورٍ دائم بحيث تطوف به في عالَم من الروح والقدس والصفاء والسلام، وتجعله يعيش المسؤوليّة ـــ من خلال ذلك ـــ حبّاً لله واستسلاماً لألوهيّته. وأمّا الميسر، فإنّه يحقّق هاتين الغايتين السلبيتين الشيطانيّتين، بالاستغراق في أجواء اللّعب، والاندماج في خيالات الربح والخسارة، فيبتعد بذلك عن التفكير في أيّة قضيّةٍ أخرى، ولاسيّما إذا كانت متعلّقة بالله.

وهكذا تكون هذه العادات مصدر ضررٍ للإنسان على مستويي الدّنيا والآخرة، وفي علاقاته بالنّاس الآخرين، وفي علاقته بالله. ولعلّ الدراسة العلميّة الموضوعيّة للإحصاءات الخاصة بالمشاكل الكثيرة الناتجة عن الخمر والقمار، تدلّنا دلالةً واضحةً على الأخطار الكبيرة التي تصيبُ الإنسان في مختلف جوانب حياته، وعلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي، بما يوافق ويصدّق الحقيقة القرآنيّة المتحدّثة عن الإثم الكبير الذي يختزن في داخله الضرر والإبطاء عن الخيرات، وعن العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصّلاة، بما لا يتناسب مع النفع الجزئي الذي يحصل منهما.

ويطرح الله على النّاس ـــ بعد ذلك ـــ التساؤل في معرض الدعوة إلى رفض ذلك كلّه، وذلك في معرض الاستفهام: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} أي هل وعيتم هذه الأضرار التي تدمّر دنياكم وآخرتكم؟ وهل يدفعكم ذلك إلى الانتهاء عنها، كما يفعل أيُّ عاقلٍ يبحث في الحياة عن أسباب النجاح في الدّنيا والآخرة، أو أنّكم تظلّون في غيّكم سادرين؟ وللحديث تتمّة إنْ شاء الله، والحمد لله ربّ العالمين.  

   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة عشرة

26 جمادى الثاني 1427 هـــ ـــ 22/7/2006م

 

 

قصّة الشيطان (12)

خطوات الشيطان واستدراجاته

 

في إيحاءات الشيطان وخططه الإغوائية ما يزيّن للإنسان من أقوال وأفعال وأفكار بعيدة عن خطّ الاستقامة.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في سياق متابعتنا لما تقدّم، نواصل حديثنا عن الوسائل الشيطانية في إضلال الإنسان، وذلك من خلال ما ورد في كتاب الله تعالى، حيث جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ*إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(1).

وقبل الخوض في الحديث عن هذه الوسائل، تحسن الإشارة إلى بعض المفردات الواردة في هذه الآية الشريفة، فإنّ قوله: {حَلاَلاً}: أي جائزاً، وأصله: الحَلّ: نقيض العقد، وإنّما سمّي المباح حلالاً، لانحلال عقد الحظر عنه، والحلال إطلاق في الفعل لمن يجوز عليه المنع، ولهذا لا يسمّى كلّ حسن حلالاً، لأنَّ أفعاله تعالى حسنة، ولا يقال: إنّها حلال.

وقوله {طَيِّباً}: أي خالصاً من شائب ينغّص، قال الطبرسي: "وهو على ثلاثة أقسام: الطيّب المستلذّ، والطيّب الجائز، والطيّب الطاهر"(2). قال الراغب: "أصل الطيّب ما تستلذّه الحواس وما تستلذّه النفس. والطعام الطيّب في الشرع، ما كان متناولاً من حيث ما يجوز، وبقدر ما يجوز، ومن المكان الذي يجوز"(3).

و{بِالسُّوءِ}: كلّ فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع، وساء: قبح، وأفعل التفضيل منه أسوأ، ومؤنثه السَّوْأى.

{وَالْفَحْشَاء}: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، وأصل الفحش الزيادة والكثرة، وكلّ ما تجاوز قدره فهو فاحش. وقيل: الفحشاء ما يجب الحدّ فيه، والسوء: ما لا حدّ فيه.

مصادر الرزق

في هاتين الآيتين، نداء ربّاني للنّاس، يستشعر فيه الإنسان بأنّ الله لا يريد أن يضيّق سبل الحياة عليه، بل يريد أن يوسِّع له آفاقها الرحبة ومواردها الخصبة، فقد خلق له الأرض في كلّ ما تنتجه من رزق، وفي ما تحتوي من نِعَم، وأباح له التمتُّع بالرزق الطيّب الحلال، والنِّعَم الكثيرة الخالصة، فلم يحرّم عليه شيئاً من طيّباتها ممّا يحتاجه في استمرار حياته ونموّ جسمه؛ بل دعاه إلى أن يأكل منها ما يشاء، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً}.

ولكنّه حذّره من خطوات الشيطان التي تتّجه به إلى ما فيه فساد حياته، وضرر جسمه وعقله، بالاستمتاع بالشهوات المحرّمة، والأكل من الخبائث المضرّة، ممّا يزيّن له فعله ويغريه بالإقبال عليه، من خلال ما يثيره أمامه من الأجواء الحميمة، والإغراءات اللّذيذة التي يدعوه إليها بلهفة شديدة، وشوق حميم، بطريقة تحجب عنه ما في الداخل من خسارة وضرر وفساد، ويبرّر القرآن للإنسان كلّ هذا الحذر بالحقيقة الدينيّة الحاسمة التي توضح عداوة الشيطان له، ليشعر بأنّ هذه الخطوات التي يثيرها أمامه ليست في مصلحته مهما أظهر له من إخلاص أو مودّة.

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} في إيحاءاته ووساوسه وخططه الإغوائية الإغرائية ممّا يزيّن به للإنسان من أقوال وأفعال وأفكار بعيدة عن خطّ الاستقامة، وعن مواقع رضى الله، وقريبة من موارد سخطه التي تؤدّي إلى عذابه وإبعاده عن رحمته. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، فقد أخرج أبويكم من الجنّة، وأعلن عزمه على أن لا يدخل أحد من بني آدم الجنّة من خلال أساليبه الضالّة ووسائله المنحرفة: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(1).

ثمّ يفصِّل القرآن للإنسان في الآية الثانية بعضاً ممّا أجمله في الآية الأولى من خطوات الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، فيورد لنا نماذج ثلاثة من أوامره: فهو يأمر الإنسان بالسّوء الذي يمثّل كلّ فكر سيّئ أو عمل شرّير. والفحشاء التي تتمثّل فيها الأعمال المنكرة التي تجاوزت الحدّ الطبيعي للأشياء، سواء كانت من المنكرات المتعلّقة بالعلاقة بين العبد وربّه في معاصي الله، أو كانت من المنكرات المتعلّقة بين الشخص والنّاس، في الجوانب المالية أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الأخلاقية، ولاسيّما في ما يتعلّق بالعرض وبالخيانة والكذب.

أمّا الأمر الثالث، فهو نسبة الأحكام أو العقائد أو الأعمال إلى الله، باعتبارها شيئاً موحى به من قبله، وثابتاً في وحيه، مع أنّهم لا يعلمون شيئاً من ذلك، لأنّهم لا يملكون طريقاً إلى المعرفة في هذا الاتجاه. ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة، أن يؤكّد القرآن خطورة مثل هذا الواقع على مسيرة الإنسان المسلم في الحياة، لأنّ الشيطان يغريه بالزيف والنفاق والكذب والخيانة في ما يوحي إليه به من أساليبه الذكيّة الشيطانية، ويدفعه إلى الارتباك في مواجهة خطّ الانحراف لاختلاط الحقّ والباطل أمامه، ما يعطّل عليه طريق الوصول إلى الهدى الحقّ، ويجعله يتقلّب في أجواء غامضة من الضباب الكثيف.

وقد ينطلق التعبير القرآني بهذا الأسلوب، ليعبّر بذلك عن الشرك وأمثاله من العقائد المضادّة للحقّ، ممّا ثبت بطلانه بالدليل والحُجّة، ليدلِّل على ذلك بعبارة: {وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}(1)، أو {وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ}(2)، أو بكلمة: {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}(3)، هذه العبارات التي يصف بها المشركين، للإيحاء بأنّ هؤلاء لا ينطلقون من موقع الحُجّة والبرهان، في ما يعتقدونه من عقيدة، وفي ما يحملونه من صفات وأخلاق، كأسلوب من أساليب إثارتهم لينحوا نحو البحث عن الحقيقة، وليخرجوا من أجواء الغفلة، متّبعاً في ذلك الطريقة التي هي أحسن معهم، حيث نجد أنّه لم يعبّر عنهم بتعابير توحي بالجحود والإنكار والعناد الذي يربطهم بجوّ التعصّب ويخرجهم من أجواء التفاهم ويبعدهم عن روحية الحوار.

 

 

الحوار والهدف الرسالي

وهذا الأسلوب القرآني هو ما يجب أن نتعلّمه، بحيث نختار الكلمات الهادئة بدلاً من الكلمات المتوتّرة، في المجالات التي نشعر فيها بالحاجة إلى أن نقود الأفكار المضادّة إلى ساحة الحقيقة والحوار، لأنّ الهدف الرسالي من الحوار مع النّاس، هو الوصول إلى عقولهم بالطريقة التي ندخل فيها إلى قلوبهم، التي تتفاعل مع الكلمة الهادئة المتّزنة التي تشير إلى الفكرة بعيداً عن أيّة إساءة حادّة، أو انفعال شديد، أو قسوةٍ عنيفةٍ، ما يهيّئ الجوّ النفسي للاستماع إلى وجهة النظر المخالفة، وإلى الدخول في حوارٍ هادئ حول القضايا المختلف عليها.

وربّما كانت المشكلة الصعبة التي يقع فيها بعض الدّعاة، في جدالهم مع الآخرين، أنّهم ينطلقون من عقدة ذاتية، لا من ذهنيّة رسالية، الأمر الذي يدفعهم إلى المزيد من كلمات السباب والفحش ونحوهما، من خلال الزعم بأنّ ذلك هو الطريقة الشرعية للتعبير عن رفض الباطل وتحقيره، من دون دراسةٍ للنتائج السلبية على أجواء الحوار وأساليبه، حيث تزيد هذه العقدة في عداوة الطرف الآخر الذي يُراد الدخول معه في الحوار، فيبتعد بذلك عن الاستجابة لعملية الأخذ والردّ أو يدخل معنا في أجواء التشنّج والانفعال التي تسقط كلّ ما يحصل من نتائج إيجابية.

وفي آياتٍ أخرى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ*فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ*هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ*سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ*زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(1).

وكما تقدّم، يمكن أن نشير إلى بعض معاني المفردات الواردة في هذه الآيات الشريفة، فإنّ {كَآفَّةً}: تعني جميعاً، واشتقاقها في اللّغة ممّا يكفّ الشيء في آخره. ومن ذلك: كفّة القميص لحاشيته، لأنّها تمنعه من أن ينتشر، وكلّ شيء جمعته فقد كففته.

وقوله: {زَلَلْتُمْ}: تنحّيتم عن القصد وعدلتم عن الطريق القويم. والزلّة في الأصل: استرسال الرِّجل من غير قصد، وقيل للذنب من غير قصد: زلّة، تشبيهاً بزلّة الرِّجل.

وقوله: {يَنظُرُونَ}: النظر هنا بمعنى الانتظار. وأصل النظر: الطلب لإدراك الشيء. وإذا استعمل بمعنى الانتظار، فلأنّ المنتظر يطلب إدراك ما يتوقّع. وإذا كان بالعين فلأنّ الناظر يطلب الرؤية.

وقوله: {ظُلَلٍ}: جمع ظلّة، وهي ما يستظلّ به من الشمس، وسمّي السحابُ ظلّة لأنّه يستظلّ به.

وقوله: {الْغَمَامِ}: السحاب الأبيض الرقيق، سمّي بذلك لأنّه يغمّ أي يستر.

المعاني والإيحاءات

في هذه الآيات، دعوة للمؤمنين إلى أن يدخلوا في الجوّ الإيماني الذي يحفظ لهم في الحياة الوحدة التي لا خلاف فيها، حيث لا نزاع ولا خصام، انطلاقاً من تعاليم الإسلام وتوجيهاته ومفاهيمه وأحكامه. ولكن كيف نستفيد ذلك منها؟! هذا ما نحاول أن نعرضه ونستوحيه بتفصيل.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} فإنّ الإيمان يفرض على صاحبه الالتزام بالخطّ الإلهي الذي رسمه الله في دينه، وفي مناهجه وشرائعه.

وقد انطلقت الكلمات المفسّرة في تحديد معنى كلمة "السِّلم" بين ثلاثة اتّجاهات، ففسّرها البعض بالإسلام، وفسّرها آخرون بالصلح أو ترك المنازعة والخلاف، وفسّروها ثالثة بالطاعة التي تختزن معنى الاستسلام، ويقصد بها استسلام الإنسان لربّه، بطاعته له، وانقياده لأوامره ونواهيه، بحيث يبتعد عن الاستغراق في ذاته، إلى الاستغراق في الخضوع لربّه، وهذا ما يؤدّي إلى السلام مع نفسه ومع ربّه ومع النّاس ومع الطبيعة والحياة كلّها.

في هذا الجوّ، يمكننا أن نؤكّد إرادة المعنى الثاني، وهو ما نفهمه من كلمة "السِّلم"، التي تعني الوفاق الاجتماعي الذي يبتعد عن جوّ الصراع والخلاف والقتال، فكأنّ الآية تدعو إلى الدخول في أجواء السلم التي تلتقي بالوقوف على الخطّ الواحد الذي تجتمع عليه الأمّة بعيداً عمّا يفرّقها ويوزّعها أشتاتاً متنازعة مختلفة، تماماً كما هو جوّ الآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...}(1).

فإذا أضفنا إلى ذلك انسجامه مع استعمال كلمة السلم في الآيات القرآنية في هذا المعنى، أمكننا أن نقترب من الاطمئنان للفكرة، وذلك كما في قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}(2)، وقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}(3).

ومن خلال ذلك، نستوحي انطلاق الآية في هذا الاتجاه الذي هو الشرط الأساسي لسلامة استمرار الخطّ الإسلامي في الحياة. فعلى المؤمنين أن يعيشوا في أجواء السلم في علاقات بعضهم ببعض، في المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، فلا يفسحوا في المجال للخصومة والنزاع أن يحكما حياتهم، ولاسيّما الخلافات المذهبية في داخل الدِّين الواحد، فإنّها تفرّق الناس، وتجعل من كلّ فئة من الفئات قوّةً تخاصم الفئة الأخرى؛ فيؤدّي ذلك إلى ضعف الدِّين، لأنّ كلّ طاقة دينية تضرب طاقة دينية أخرى، تساهم في النتيجة في إهدار الطاقات الدينية لمصلحة القضايا الشخصية.

وهكذا يفهم الإسلام قصّة السلم في الواقع، وذلك في نطاق الوحدة الفكرية والشعورية التي تتحرّك نحو الوحدة العملية الواقعية. وربّما كان ابتداء الآية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، إيحاءً بذلك، لأنّ الإيمان يوحي للمؤمنين بوحدة المنطلق والطريق والهدف؛ الأمر الذي يربط الوحدة بالجذور العميقة للانتماء، ويبعدها عن الارتماء في أحضان الكلمات السطحية الغارقة في الضباب، فيفجِّر كلّ الأشياء في الداخل، لتتحوّل إلى الهواء الطلق والنور الباهر.

خطوات الشيطان تصادر السّلام

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فإنّه يبعد المؤمن عن خطّ إيمانه، بجعله يستغرق في أجواء اللّهو والغفلة، فيتجمّد إيمانه في داخل ذاته بعيداً عن حركة الحياة من حوله، وبجعل كلّ خطواته متحرّكة في طريقه السائر نحو الضلال والكفر والانحراف.. وذلك بما يثيره في النفس من وساوس الشرّ، ونوازع الشكّ، وعوامل الانحراف؛ فيفقده وعي الإيمان، فيرى الحقّ باطلاً والباطل حقّاً، وتضطرب مقاييسه عندما يختلف لديه ميزان الرؤية للأشياء. ولعلّ من بين هذه النتائج السلبية لذلك، ما نواجهه من حرب المؤمن للمؤمن باسم الإيمان، بتسويل الشيطان له بأنّه يحارب الانحراف لدى المؤمن الآخر، ولكنّه لو دقَّق النظر، لاكتشف أنّه يعاديه على أساس مزاجه الشخصي وهواه الذاتي.

وربّما كان من مظاهر ذلك، ما نواجهه من إثارة الخلافات المذهبية والطائفية بين المسلمين، بالمستوى الذي يؤدّي إلى التخاصم والتنازع في المجالات العامّة، بحجّة الدفاع عن الحقّ، في ما يوحيه الشيطان للمعتدي، بينما تكون الساحة مثاراً لخطط كافرة جهنّمية تتحرّك من مواقع الاستعمار تارةً، وقواعد الكفر أخرى، ما يجعل من إثارة هذا الجوّ أساساً لتنفيذ كلّ مخطّطاته القريبة والبعيدة من دون شعور وانتباه؛ تماماً ككثير من كلمات الحقّ التي يقصد بها الباطل أو تتحرّك في خدمته.

كيفيّة التعامل مع الشيطان

وفي ضوء ذلك، كان التأكيد الدائم من الله في آياته على مراعاة الدقّة والحذر في التعامل مع الشيطان في كلّ خطواته، لأنّه يسلك أخفى الطرق وأدقّ الوسائل في النفاذ إلى وعي الإنسان وفكره، بحيث يتركه ضائعاً بين الحقّ والباطل. وهذا ما نجده في بعض الآيات الكريمة، كقوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً}(1). فقد كان التأكيد على القول الأحسن، منطلقاً من استغلال الشيطان لكلّ الثغرات الموجودة في جوّ الكلمة غير المدروسة، ممّا يمكن أن يثير بعض المشاعر والأحاسيس الذاتية المعقّدة التي يمكن أن يتفاداها الإنسان بلباقة، باستعمال كلمة أخرى تؤدّي الفكرة نفسها بعيداً عن كثير من السلبيات بأسلوب أفضل وجوٍّ أحسن.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فهو لا يريد لكم الخير في وساوسه وتسويلاته وتزيينه، بل يريد لكم الشرّ من خلال استغلال نقاط الضعف الكامنة في شخصيّاتكم، ليستثير غرائزها في اتجاه الانحراف، وأحلامها في الخطوط البعيدة عن الواقع، سواء كان ذلك من الناحية الفكرية، أو من الناحية العملية، فيصوّر لكم الباطل بصورة الحقّ لتتّبعوه، ويصوّر الحقّ بصورة الباطل لتتركوه، لأنّه يحسن تجميل الصورة القبيحة ببعض وسائله، كما يتّقن تقبيح الصورة الجميلة ببعض ألاعيبه. وهذا هو العنوان القرآني العام في كلّ حديث له عن الشيطان، كما في هذه الآية.

وربّما كان التعبير بــ {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يختزن في مضمونه الإيحاء ـــ ولو من بعيد ـــ بالطريقة التدريجية في أساليب الشيطان الخدّاعة المغرية، بحيث يتحرّك مع الإنسان خطوةً خطوة، ليؤدّيَ به إلى الهلاك في نهاية المطاف، إذ إنّ الإنسان إذا استغرق في الاندفاع في الطريق بالخطوة الأولى، فإنّها تجتذب الخطوة الثانية والثالثة إلى نهاية الطريق، ما يفرض على الإنسان أن يعيَ الخطّة الشيطانية منذ البداية عندما يبدأ حركته في الطريق، فإنّ الوعي في نقطة الانطلاق هو الذي يحمي الإنسان من نقطة النهاية، لأنّ الوعي في الحركة الأولى يجتذب وعي الحركة في آخر الطريق.

وفي آيةٍ أخرى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(1). فقد نجد في هذا التركيز على العداوة، إشارة إلى طبيعة الحاجز النفسي الذي يجب أن يعيشه الإنسان في كيانه ضدّ كلّ إيحاءات الشيطان، ليكون في موضع الريبة والشكّ وعدم الثقة، من موقع العداوة المتأصّلة. ولذلك عليه أن يفكّر طويلاً قبل أن يستسلم لأيّة كلمة أو فكرة أو حركة، مهما كانت ظاهرة الصدق والبساطة والإيمان، حتّى يكتشف طبيعة الزيف أو الإخلاص في داخلها تبعاً لوعي الفكر وذكاء الشعور، ليرفض أو يؤيّد من موقع المعاناة والتأمُّل العميقين.

وجاءت هذه الفقرة في هذه الآية {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} لتوجّه الإنسان إلى دراسة الطريق جيداً في كلّ خطوة من خطواته، ولاسيّما إذا كان الجوّ جوّ الدعوة إلى السّلام؛ فإنّ الشيطان يعرف كيف يسخّر الخطوات الساذجة لتسير في الاتجاه الذي يريده، من أجل تخريب خطوات السّلام وإضاعتها في مهبّ الرياح الذاتية والحزبية والعصبية، وغير ذلك من الأمور التي تفرّق الناس وتشتِّتهم شِيَعاً وأحزاباً بمسمّيات وألوان وأشكال مختلفة، كما ألمحنا إليه في بداية الحديث، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نحدّد الخطّ الفاصل بين أهداف الشيطان وأهداف الرحمن، لنكتشف طبيعة الخطوات من خلال اكتشاف طبيعة الأهداف ـــ وقد تحدّثنا بعض الحديث عن هذه الفقرة في ما تقدّم من أحاديث في آيةٍ سابقة ـــ .

{فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} فالزلل ليس ناشئاً، عند انسجامكم في خطوات الشيطان، من جهل أو عدم وضوح في الرؤية؛ فقد قامت الحُجّة عليكم من الله في ما أقامه أمامكم من بيّنات ودلائل، بما منحكم من عقول، وبما أرسله إليكم من رسالات. وبذلك كان الخطاب إليهم بأنَّ عليهم مواجهة الحقيقة الحاسمة، وهي {أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لا يستطيعون الانتقاص من عزّته مهما عملوا وانحرفوا، {حَكِيمٌ} لم يترك الأمور لتسير في أجواء العبث والفوضى؛ بل جعل لكلّ شيء ـــ ثواباً كان أو عقاباً ـــ حدّاً لا يتجاوزه في ما يفعل أو يدع. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

المحاضرة الخامسة عشرة

11 رجب 1427 هـــ ـــ 5/8/2006م

 

 

قصّة الشيطان (13)

حزب الشيطان

 

الملتزمون لنهج الشيطان، المُتبَعون لخطواته، المصدّقون لتهاويله وإغراءاته.. هم حزب الشيطان.

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في هذا المقام، نحاول أن نستنطق القرآن الكريم حول حزب الشيطان، وفي مقابله حز//ب الله، لنتلمّس الصفات التي يتحلّى بها كلٌّ منها.

يقول تعالى ـــ وهو يصوّر ملامح حزب الشيطان ـــ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ*لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ*اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْ//بَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(1).

في هذه الآيات لفتةٌ إلى المنافقين في المدينة الذين كانوا يتحرّكون بين المؤمنين وبين اليهود في حركةٍ ازدواجيّةٍ؛ فمن جهة، كانوا ينفتحون على المؤمنين تحت عنوان الإيمان من دون عمقٍ في الفكر وفي الشعور، ومن جهةٍ أخرى، كانوا يلتقون مع اليهود تحت عنوانٍ آخر من دون شموليةٍ في الموقف. وبذلك، كانوا يعيشون الاهتزاز الروحي والعملي على أكثر من صعيد.

ملامح حزب الشيطان

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم}، وهم اليهود الذين تولاّهم هؤلاء المسلمون، فاندمجوا في مخطّطاتهم، والتزموا بمواقفهم، واعتبروا أنفسهم فريقاً لهم في كلّ قضايا السلم والحرب، {مَّا هُم مِّنكُمْ} لأنّهم لم يعلنوا الإيمان ويمارسوه عملياً ليندمجوا بالمجتمع المؤمن اندماجاً روحياً ومسلكياً ليكونوا جزءاً منه، {وَلَا مِنْهُمْ} لأنّهم إذا كانوا يلتقون معهم بالموقف والمصلحة، فإنّهم لا يستطيعون الدخول في نسيج المجتمع اليهودي، لأنّه مجتمعٌ مغلقٌ لا يسمح للآخرين من غير اليهود بأن يدخلوا فيه وينفذوا إليه بطريقةٍ عضويةٍ، انطلاقاً من العنصرية التي يختزنها أفراده فيما يعتبرونه من تفوّق العنصر اليهودي على سائر البشر، بل كلّ ما هناك، أنّهم يستغلّون الثغرات الموجودة في كلّ مجتمع، لينفذوا إليه من خلالها، وليعبثوا فيه ما أمكنهم العبث، وليفسدوا فيه ما أمكنهم الإفساد.

وهكذا كان هؤلاء المنافقون مذبذبين في الموقف بين اليهود وبين المؤمنين، ما يجعلهم يفقدون شخصيّتهم الأصيلة، في ما هو الانتماء الروحي والفكري على مستوى الاستقرار والثبات.

{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. وتلك هي سيرتهم عندما يشعرون بأنّ المؤمنين لا يمنحونهم الثقة، أو يخيّل لهم ذلك من خلال القلق النفسي الذي يعيشون فيه، فيلجأون إلى الحلف الكاذب الذي يحاولون من خلال تغطية أوضاعهم السرّية المشبوهة، وإخفاء مواقفهم السيّئة، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً}، لأنّهم يمثِّلون في نفاقهم الخطورة الكبيرة على المجتمع المسلم، في ما يكيدون له، وفي ما يكيد له الأعداء من خلالهم بإثارة المشاكل في داخله، {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لأنّهم ينطلقون في ذلك من العقدة الكامنة في مواقع الحقد والعداوة من شخصيّاتهم، ما يجعلهم في حركةٍ دائمةٍ للإضرار بالإسلام والمسلمين.

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي درعاً يتَّقون به من اتّهامات المسلمين لهم، فيعملون على تأكيد إخلاصهم وصدقهم ومزاعمهم بالأيمان الكاذبة، للإيحاء بأنّهم يقفون موقفاً ثابتاً، وأنّهم متعمّقون إيمانياً. وهكذا كان البسطاء من الناس يصدّقونهم، ويثقون بأيمانهم، فينجذبون إليهم، وينقادون لهم، وينفّذون مخطّطاتهم.

{فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وأبعدوا هؤلاء البسطاء الطيّبين من المسلمين عن خطّ الاستقامة، وقادوهم إلى مواقع الانحراف في متاهات الضلال التي يتحرّك فيها الشيطان بكلّ حرّيةٍ في إضلال الناس وإبعادهم عن الله، {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يسحق أوضاعهم الاستعراضية وزهوهم الاستكباري وتعاظم شخصيّاتهم، ليواجهوا المهانة بالعذاب يوم القيامة.

{لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً}، لأنّ القوّة التي تقدّمها إليهم الأموال أو يتحرّك بها الأولاد، قد تغني عنهم أمام قوّة الناس، ولكنّها لا تغني شيئاً أمام قوّة الله التي لا يثبت أمامها شيء، {وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، لأنّهم عملوا لها من خلال الروحية الخبيثة السوداء التي تختفي وراء مواقفهم، فتتحرّك أعمالهم العدوانية في هذا الجوّ، لتقهر القوّة الإسلامية، لمصلحة الكفر والكافرين، والاستكبار والمستكبرين.

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}، لأنّ هذه العادة قد تأصّلت في نفوسهم، بحيث أصبحت جزءاً من شخصيّاتهم، فيمارسونها بشكلٍ عفوي من دون أن يشعروا بذلك، فيفكّرون أنّ الحلف الكاذب أمام الناس قد يمرّ عليهم، فلا ينكشف أمره لوجود بعض الحواجز التي تحجب الحقيقة عنهم، ولكنّ الحلف أمام الله لا يمكن أن يمرّ من دون انكشاف الكذب فيه، فهو الذي يعلم سرّهم كما يعلم علانيّتهم، فلا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء. فكيف يمكن لهم أن يواجهوا المسألة بهذه الطريقة؟ إنّها الغفلة المطبقة على العقول الأفكار التي تمنع الإنسان من التفكير السليم.

{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} من الثبات على القاعدة التي تحمي مواقعهم ومواقفهم ومصائرهم، ولكنّها القاعدة المهتزّة اهتزاز النفاق في مواقعه وحركته، فلا استقرار لهم على شيءٍ، تماماً كمن يتحرّك في الفراغ، فلا شيء إلاّ الهواء، ولا مجال إلاّ للسقوط، {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} في دفاعهم عن أنفسهم في الآخرة، تماماً كما هو الحال في الدّنيا.

{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فأحاط بكلّ أفكارهم، فلم ينفتحوا على فكر الحقّ، ونفذ إلى قلوبهم، وتمكّن منها، وتحرّك في كلّ نبضاتها وخفقاتها، وامتد إلى كلّ آفاقها، فلم يطلّوا على آفاق الله ورحاب الخير ومواقع الإيمان، وانطلق إلى مواقع خطواتهم فبعثرها، وانحرف بها عن الصراط المستقيم، وأثار فيها الكثير من أجواء الشرّ والفساد، {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} في الكلمة، فلا تنطلق به ألسنتهم، وفي الموقف، فلا تعي حضوره ذهنيّاتهم، فاستغرقوا في الباطل كلّه، يقدّسون رموزه، ويتحرّكون في مخطّطاته.

{أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} لأنّهم التزموا منهجه، واتّبعوا خطواته، وصاروا من جماعته، وعاشوا في أجواء إغراءاته وتهاويله، فابتعدوا عن الله، وكذّبوا رسله، ورفضوا شريعته.

{أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لأنّهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ففقدوا النعيم في الجنّة، وعاشوا في عذاب النار وبئس المصير.

مَنْ هم حز//ب الله؟

وفي مقابل حزب الشيطان، بيَّن القرآن الكريم ملامح حز//ب الله، والتي هي على طرفي نقيض من أولئك، فهم الثابتون على ما يعتقدونه، وهم الذين باعوا أنفسهم لله، فلم تعد الدّنيا كلّها عندهم تمثّل شيئاً مقابل إرادة الله تعالى.

قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

من خلال هذه الآية المباركة نتساءل: كيف تكون صفة المؤمنين بالله ورسوله، في علاقاتهم الروحية، وفي مشاعرهم العاطفية، وفي مواقفهم الحركية، في ما يتّصل بالفئات الكافرة الضالّة المخالفة لله ورسوله في عقيدتها وفي خطواتها العملية؟ فهل يحاولون الفصل بين الموقف العقيدي والموقف الذاتي، لتكون عاطفة القرابة حيّةً في نفوسهم، فتنفتح قلوبهم للكافرين الذين يمتّون إليهم بصلة القرابة، أو يعملون على أن يكون الموقف واحداً، لتكون الذات تجسيد العقيدة، ولتكون العقيدة عنوان الذّات، لأنّ المسألة في الانتماء العقيدي ليست شيئاً يتحرّك في زاويةٍ من زوايا الكيان، بل هي الروح التي تشمل الكيان كلّه؟

ونحاول أن نجيب عن ذلك في شرحنا للآيات: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ لأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر يمثّل خطّاً للفكر والعاطفة والحياة، كما تمثِّل المحادّة لله ورسوله خطّاً مغايراً لهذه المواقع، ما ينعكس على المواقف والعلاقات الخاصة التي تحمل الرفض للفكر المضاد، وللموقف المعادي، وللإنسان المتمرِّد الحاقد، فلا يجتمع في وعي الإنسان المؤمن وموقفه الانفتاح على الله وعلى رسوله وعلى دينه، والموادَّة المخلصة المنفتحة على المعادين لهم بالموقف والعاطفة، لأنّ ذلك يمثّل اجتماع الشعورين المتنافرين، كما يفرض التقاء الموقفين المتضادَّين في ما تفرضه طبيعة كلٍّ منهما من شعورٍ وموقف.

وعلى ضوء ذلك، فإنّ كلّ واحدٍ منهما ينفي الآخر، ما يعني أنّ الإيمان موقفٌ ينفي الودّ الفكري والروحي والعملي لمن حادَّ الله ورسوله {وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فلا قيمة لصلة القرابة، مهما كانت وثيقةً، أمام مسألة العقيدة، فقد تفرض العقيدة على الإنسان في مواقف التحدّي، أن يقتل الإنسان أباه أو ولده أو أخاه أو أفراد عشيرته إذا وقفوا في الموقف المعادي للإسلام وللمسلمين، كما حدث لبعض الصحابة في معركة بدر، وكما حدّثنا القرآن الكريم عن موقف نوح من ولده، وعن موقف إبراهيم من أبيه. وهذا هو الخطّ الذي يريد الإسلام للإنسان المسلم أن يقف عنده ويتحرّك فيه، ليكون منفصلاً عن كلّ المواقع المضادّة للإسلام، في عملية رفضٍ فكري وعملي، يؤكّد الحاجز الفاصل بين الإسلام والكفر، لتكون المواقف تابعةً له.

{أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}، فلا مجال فيها لأيّ شيء غيره، ممّا يتّصل بالكفر فكراً وشعوراً، {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} في ما يوحي به إليهم من الإشراق والصفاء والنقاء، وفي ما يمنحهم إيّاه من الطمأنينة والثبات والاستقرار والعزيمة القويّة الصامدة، {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}، فذلك هو جزاء المؤمنين الصامدين في إيمانهم، المستقيمين في طريقهم، المتّقين في أعمالهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بما أفاض عليهم من نعمه في وجودهم كلّها وفي مفردات حياتهم العملية كلّها، في حركة الوجود كلّها.

وهذا هو الهدف الذي يريد الله للمؤمنين أن يتابعوا السير نحوه، وهو الرِّضا المتبادل بينه وبينهم، فينفتحون عليه في الرضا بقضائه، ويحصلون على رضاه عنهم، بإيمانهم وتقواهم، لتكون حياتهم له ومعه في جميع المجالات.

متطلّبات الانتماء إلى حز//ب الله

{أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} الذين يؤكّدون انتماءهم إلى الله من خلال التزامهم بمواقع رضاه، وابتعادهم عن مواقع سخطه، وانطلاقهم في الحياة كلّها على مستوى الكلمات والأفعال والعلاقات والأهداف، من منطلق الإيمان به والرفض لغيره. وهذا هو خطّ حز//ب الله الذي يقابله حزب الشيطان، في ما يعنيه الانتماء إلى نهج الشيطان، والسير على خطواته، والارتباط بأهدافه.

وعلى ضوء ذلك، لا بدّ في الانتماء إلى حز//ب الله، كعنوانٍ من عناوين الحركة والانطلاق، من الالتزام الفكري والعملي بالإسلام، وذلك بتأكيد الخطّ الفاصل بين الإنسان المسلم الملتزم بالإسلام وبين غير الملتزم به، وذلك بالتدقيق في النهج والخطّ والحركة والنتائج، والولاية لله ورسوله وأوليائه، فذلك هو الأساس في صدق الانتماء. لأنّه لا يكفي، لتأكيد صدق الانتماء إلى حز//ب الله، الانتماء إلى الإسلام بالمعنى البسيط الرسمي الذي يدخل به الإنسان إلى الإسلام، ذلك أنّ الفارق فيما بينهما، تماماً كما هو الفارق بين الإسلام والإيمان، في ما يختلف به المسلم عن المؤمن في ما أشارت به الآية الكريمة في سورة الحجرات في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(1).

فإذا كان الإنسان مسلماً، وارتبط بخطّ أعداء الله في أيٍّ من المسائل، ثقافية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية وما إلى ذلك، ليقتصر دوره على المسألة العباديّة بمعناها الساذج، لتكون النتائج النهائية لأعداء الإسلام، فهو من حزب الشيطان لا من حز//ب الله، لأنّ التحزّب للشيطان لا يعني الكفر دائماً، بل قد يعني الانتساب إلى الإسلام في جانب، والالتزام بالمواقف الشيطانية في الخطّ العملي في جانبٍ آخر، كما استوحيناه في ما حدّثنا الله به عن المنافقين الذين هم حزب الشيطان الخاسرون. وعلى هذا الأساس، فإنّ المؤمنين المتّقين هم حز//ب الله الذين يشملهم الله بعين رعايته وعنايته {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الذين أخذوا بأسباب الفلاح في الدنيا والآخرة، ففازوا به في الدرجات العلى عند الله سبحانه، وذلك هو الفوز العظيم.

وتبيِّن آية أخرى صورة أخرى لحزب الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ*وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(1).

خطّ الولاية الذي يجب التزامه

لقد نزلت هاتان الآيتان لتحدِّدا خطّ الولاية الذي يجب أن يلتزمه الناس في العقيدة والشريعة والقيادة. فالله هو الوليّ الذي تتّجه إليه قلوب العباد وأرواحهم بالطاعة والعبادة والإخلاص والنصرة والمحبّة، فبالإيمان به ينفتح درب الحياة، وبالالتزام بشريعته يستقيم خطّ العدل، وبالإنابة إليه يتصحَّح كلّ انحراف، وهو المرجع والملجأ في كلّ شيء لأنّه القادر على كلّ شيء، والمهيمن على كلّ وجود. والرسول هو الوليّ في الدعوة والرسالة والقيادة، فهو من يجب أن يستجيب له الناس إذا دعاهم إلى ما يحييهم من طاعة الله وعبادته، وهو الرسول الذي أراد الله للناس أن يؤمنوا برسالته بما يوحيه الله إليه من وحيه، وبما ينزل عليه من قرآنه، وهو القائد الذي جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فيملك منهم ما لا يملكونه منها، وله عليهم حقّ الطاعة في ذلك كلّه، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، والذّين آمنوا هم أولياء المؤمنين، لأنّهم يمثِّلون الإخلاص لله في ما تمثّله الصّلاة التي يقيمونها من روح الإخلاص وشعاره، وفي ما تمثِّله الزكاة التي يؤتونها كتعبيرٍ عن روحيّة العطاء المنسابة من إنسانيّة المؤمن وقلبه، ولاسيّما أنّهم يؤدُّونها وهم راكعون لله، كأسلوب من أساليب المزج العملي بين عبادة العطاء وعبادة الخضوع، في ما يوحيه ذلك من معنى العبادة الذي لا يتمثّل في حركة الشكل التقليدي للعمل العبادي، بل يمتدّ ليتحوّل إلى عنصرٍ من عناصر الخير الفاعل في حياة الناس الآخرين المحتاجين للعطاء.

وربّما كان الاقتصار على هاتين الصفّتين في شخصية وليّ المؤمنين، للإيحاء بأنّهما في ما يعبّران عنه من معنىً داخليّ روحيّ وعمليّ، يمثِّلان الانطلاقة الحيّة في الصفات العامّة والخاصة التي ينبغي أن تتوافر في وليّ المؤمنين، في ما يتحدّث به المتحدِّثون من شروط الولاية، لأنّ الإنسان الذي يقيم الصلاة لله بمعناها الحقيقي، لا بدّ من أن يعيش الإخلاص والأمانة على رسالة الله وحياة عباده، كما أنّ الإنسان الذي يؤتي الزكاة من موقع الخضوع لله والركوع بين يديه، لا بدّ من أن يحمل مسؤولية الناس الذين يتولّى أمورهم بكلّ أمانة وإخلاص، وبذلك تجتمع له الاستقامة في خطَّي العقيدة والمسؤولية العمليّة.

وقد جاء في أكثر من حديث، أنّ الآية الأولى قد نزلت في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، عندما تصدّق على الفقير الذي سأله الصدقة وهو في حالة الركوع، فأعطاه خاتمه. ولا بدّ من أن تكون لهذه الحادثة الدلالة التعبيريّة الإيحائيّة بالمعنى الروحي الذي تمثّله هذه الصدقة، من حيث علاقة الصّلاة بروح العطاء في نطاق الصدقة، ما لا يجعل من ممارستها في أثناء الصلاة عملاً مختلفاً عن الصلاة، بل يعتبر منسجماً معها تمام الانسجام، لأنّ كلاً منهما يمثِّل رضى الله في ما يأمر به. هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ التركيز على {الَّذِينَ آمَنُوا} الذين يمارسون هذا العمل، يوحي أنّ المسألة ليست منطلقةً كحالة طارئة من حالات التصدُّق، بل هي منطلقة من حيث كونها مدلولاً إيمانياً عملياً، يتحرّك في كيان الشخص، ليتحوّل إلى صفةٍ لازمةٍ لا تنفك عنه، ما يجعله من ملامح الشخصية الأصيلة. ونستوحي من نزولها في نطاق هذه الحادثة، في ممارسة عليّ (عليه السلام)، أنّها تشير إلى النموذج الأمثل الذي يجد الناس فيه هذه الفكرة بعمق.

وجاءت الآية الثانية لتؤكّد جانب الممارسة، بعد أن أكّدت الآية الأولى جانب الخطّ، {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ويتحرّك في خطّ الولاية الصحيح، فيلتزم به، ويترك الخطّ المزيّف، فسيجد كلّ الخير والهدى والعدل والصلاح والقوّة والغلبة، في هذا الجانب الذي يمثِّل حز//ب الله في كلّ ما يحمل من شعارات وما يتّجه إليه من أهداف، وإذا سار الناس في هذا الطريق، وعاشوا الانتماء إلى حز//ب الله، فسيكون لهم النصر والغلبة على الآخرين، {فَإِنَّ حِزْ//بَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} بفكرهم، وإخلاصهم، وثباتهم، وصمودهم، أمام التحدّيات الصعبة في الساحة... والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السادسة عشرة

18 رجب 1427 هـــ ـــ 12/8/2006م

 

 

قصّة الشيطان (14)

الاستعاذة من الشيطان الرجيم

 

اللّجوء إلى الله للاستعاذة من الشيطان الرجيم، بحث عن السكينة في المجير الذي يقوّي الإنسان ويرعاه في الموقف الصعب.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

لا نزال نتابع حديث القرآن الكريم عن الشيطان، ونحاول فيما يلي أن نطلّ على مسألة الاستعاذة من الشيطان الرجيم، كما وردت في سياق آيات عديدة.

المنهج التربوي التوحيدي

ينطلق المنهج الإسلامي التربوي في ممارسته العقيديّة التوحيديّة، من قاعدة الارتكاز على أنّ الله تعالى هو القوّة الوحيدة في النظام الكوني والوجود الإنساني، فهو خلق كلّ شيء، وله القوّة جميعاً، وعلى الناس أن ينفتحوا على كلّ شيء من خلاله، بحيث يتمثّلونه باعتباره سرّ كلّ شيء. وهذا يفرض اللّجوء إليه في كلّ مشكلة، والاستعانة به في كلّ قضية وفي كلّ حاجة مهما كانت الظروف والأوضاع والبلايا، والإقبال عليه بروحيّة إيمانيّة مشبعة بالثقة المطلقة لأنّه سبحانه وليّ كلّ نعمة فلا وليّ غيره، وصاحب كلّ حسنة فلا حسنة إلاّ منه، ومنتهى كلّ رغبة فلا يُرغب إلاّ إليه، وهو الكافي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء، وهو المرجع والمستعان، لأنّه القادر على كلّ شيء والقاهر فوق عباده، هو مالك الملك يؤْتي الملك مَنْ يشاء وينزع الملك ممّن يشاء، يعزّ من يشاء ويذلّ مَن يشاء، بيده الخير كلّه والرزق كلّه والحياة كلّها والموت كلّه، هو الرحمن الرحيم الذي يفيض رحمته التي وسعت كلّ شيء على عباده.

ولكن ليس معنى ذلك أن يتوجّه الناس في أمورهم العامّة والخاصة إلى الله تعالى ليطلبوا منه أن يحقّق ذلك لهم بشكلٍ مباشر، من دون أن يتحرّكوا بطاقاتهم المادية والروحية التي يملكونها من أجل تحقيق أمورهم في الواقع من خلال حركة الأسباب في حصول المسبّبات، ولا يكتفوا بالدعاء والابتهال إليه تعالى أن يهيّئ لهم أسباب الرزق في موارد حاجاتهم أو شروط النصر في ساحة المعركة، أو حلّ مشاكلهم في تعقيدات أوضاعهم من دون أن يمارسوا جهدهم الطبيعي في ذلك.

فقد أقام الله تعالى الحياة في نظامها العام على أساس القوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون والإنسان، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(1)، وقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}(2)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(3)، وقوله تعالى: {أَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(4)، وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(5).

وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(6)، إلى غير ذلك من الآيات التي تعالج خضوع الواقع ـــ في سلبياته وإيجابيّاته ـــ للسلوك الإنساني الذي يأخذ بقوانين السببيّة التي تتحرّك في أوضاعه العامّة والخاصة من خلال اختياراته الخيّرة والشرّيرة، ما يوحي بأنّ الإنسان في مسؤولياته العملية هو الصانع للتغيير، وهو المحرّك للخير والشرّ والصلاح والفساد في الحياة، في سوء الاختيار أو حُسْنِه، انطلاقاً من إيحاءات العقل الذي أودعه الله في كيان الإنسان، في إقدامه على الحسن أو القبح، وتوجيهات الوحي الإلهي في الانحراف والاستقامة والانفتاح في ذلك كلّه على الوعي العميق لموقعه من الله وموقع الله في الوجود.

وفي ضوء ذلك، يبقى للإنسان في ارتباطه بالله أن يستعين به في قضاياه لإمداده بالقوّة والسداد واللّطف الخفيّ الذي يمنحه القوّة في مواجهة التحدّيات الصعبة بما يحقّق له قوّة الإرادة، وصلابة الموقف، وسداد الرأي، ليشعر أنّه ليس وحده في مواقع الصعوبات، بل الله هو الذي يحوطه ويرعاه ويحميه، لتتحقّق له النتيجة الإيجابية فيما يقوم به من جهد، على هدى قوله تعالى، في حديثه عن موقف رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ليلة الهجرة ـــ فيما حكاه القرآن ـــ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ}(7)، فقد منحه الله تعالى السكينة الروحية، والاطمئنان الذاتي، والإيحاء له بالجنود الملائكيين في الجوّ المحيط به يحوطون مسيرته الرساليّة، بحيث كان الجهد البشري محاطاً باللّطف الإلهي، الأمر الذي يلخّص المنهج الإسلامي في حركة الإنسان من خلال ما يبذله من جهود وطاقات في مسؤوليّاته الحياتيّة، واللّطف الإلهي في عملية الإمداد الغيبي والإيحاء الروحي.

ومن هنا، ننطلق في الحديث الفكري القرآني في مسألة الاستعاذة بالله من الشيطان، فقد أراد الله تعالى للإنسان الذي يواجه خطوات الشيطان ووساوسه وتسويلاته وإغراءاته وتهويلاته القيام بالجهد اللازم لمواجهة ذلك، باعتبار أنّ الشيطان عدوٌ من أشدّ الأعداء، لأنّه يهدّد مصير الإنسان في الدنيا والآخرة، ليتعامل معه بكلّ وعي وحذر كما يتعامل مع عدوّه في مواقع الإحساس بالخطر منه. فإذا أحسّ بالضعف في موقفه أمام برنامجه الشرّير، وخاف من انهيار إرادته، أو فكّر بالمخاوف من أوليائه في حركة الصراع معهم في أموره الشخصية، وفي أوضاعه العامّة أو في حالاته النفسية، فإنّ عليه أن يلجأ إلى الله ليستعيذ به من الشيطان الرجيم، ليجد لديه السكينة في ذاته ليحسّ بأنّ الله يعيذه ويجيره ويقوّيه ويرعاه في هذا الموقف الصعب.

امرأة عمران والاستعاذة لمريم

وقد عالج القرآن الكريم مسألة الاستعاذة بالله من الشيطان في أكثر من موقف؛ فنلتقي ـــ في البداية ـــ بامرأة عمران {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}(1)، فنلاحظ أنّ هذه المرأة التي نذرت أن يكون حملها خادماً لبيت الله، لم يتحقّق لها ذلك، لأنّ مولودها كانت أنثى لا يتمكّن من القيام بخدمة بيت المقدس بلحاظ أنّ الخدمة كانت مختصّة بالذكور.

وبدأت ـــ هذه المرأة المؤمنة ـــ تفكّر في مستقبل هذه البنت، وفي مستقبل ذرّيتها، وهي على درجة عالية من الخوف والخشية من غوايات الشيطان وخطواته وأضاليله؛ لأنّها تريد لذرّيتها أن تكون صالحة طيّبة مطيعة لله، فاستعاذت بالله أن يجيرها وذرّيتها من الشيطان الرجيم، بأن يجنّبها من كلّ أضاليله... وهي ـــ في هذه الاستعاذة ــــ كانت تخطّط للقيام بجهدها في التربية بما تملكه من عملية الإصلاح، في حالةٍ نفسيّةٍ تخشى معها أن لا توفّق لذلك حذراً من الموت.

واستجاب الله دعاءها، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}. وقد صوّر الله سبحانه كيف هي نشأة مريم، في عمق علاقتها بالله سبحانه، فقال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(1). وهكذا كان إيحاء هذه القصّة، أنّ الله يتقبّل الاستعاذة به من خطوات الشيطان وأحابيله، من كلّ الآباء والأمّهات، في رعايته لأولادهم، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً.

وقد نستوحي من ذلك أنّ على الآباء أن لا يقتصروا في الاهتمام بجانب التربية الإيمانيّة على الذكور فقط، بل عليهم أن يلتفتوا أيضاً إلى الإناث، لأنّ الفساد إذا تطرّق إلى أيّ من الأولاد، فإنّ ذلك ينعكس تأثيراً سلبياً على الذرّية التي تنطلق من خلال الذكر أو الأنثى، كما ينعكس سلباً على مصير الابن والبنت نفسه.

كما نستوحي من ذلك أنّ التربية هي مسؤوليّة الأمّهات، كما هي مسؤوليّة الآباء، وأنّ على الأمّ والأب ـــ في إطار العائلة ـــ أن يتشاركا معاً في دراسة المنهج التربوي الذي يسيران عليه لتنشئة أولادهما تنشئة إيمانيّة صافية تجعل ذرّيتهما ذرّية طيّبة.

مع سورة (الناس)

ويتابع القرآن آيات الاستعاذة؛ فنقرأ في سورة الناس قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، في عمليّة توجيه الإنسان للاستعاذة بالله من الشيطان بطريقة توحي بالرحمة الإلهيّة، لأنّه ربّ النّاس الذي يرعاهم بالتربية للخير، و{مَلِكِ النَّاسِ} الذي يملك أمرهم، و{إِلَهِ النَّاسِ} الذي يرحم عباده ويحقّق لهم كلّ ما يحميهم من السقوط الماديّ والروحيّ. من الوسواس الخنّاس، الذي يوسوس في عقول الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم وتطلّعاتهم وأفكارهم، لينحرف بها عن الخطّ المستقيم، ثمّ يختفي تاركاً للوسوسة أن تتفاعل في الذّات، فتؤثّر فيها بما يريده من الضلال. وهذا الوسواس الخنّاس يتمثّل في شيطان الجنّ وفي شيطان الإنس، وذلك في طبيعة المنهج والوسائل والحركة والأهداف الشرّيرة التي يحرّكها هؤلاء وأولئك. قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}(1).

ولعلّ قيمة هذه السورة أنّها تحرّك الاستعاذة في وجدان الإنسان، من ناحية الفكر والشعور، هذا الوجدان الذي هو الأساس في الحركة العمليّة للناس، والممثّل للموقع الكبير ذي الأهميّة في كيان الإنسان.

الاستعاذة لخلوص العمل

ونلتقي بقوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ*وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}(2)، في عملية استعانة بالله على خطوات الشياطين في واقع الإنسان، لإبعادهم عن مواقعه عندما يبدأ في أيّ عمل عباديّ أو اجتماعيّ أو سياسي أو اقتصاديّ، ليكون عمله خالصاً لوجهه، ومنفتحاً على طاعته.

وإذا قرأ المؤمن القرآن، فإنّ الله يريد منه أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم، وذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ*إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(3)؛ لأنّ على المؤمن أن يتدبّر القرآن بعقله، وينفتح به على تطلّعاته، ويجعله في تأمّلاته الروحيّة منهجاً لحياته. وربّما يدخل الشيطان عليه ليشغله عن ذلك كلّه، ويدخله في حالة الغفلة، ويثير في داخله الشكوك في حقائقه، ويقفل قلبه عن مواعظه ووصاياه ونصائحه وتوجيهاته، فعليه أن يلجأ إلى الله، ويستعيذ به؛ ليدخل بلطفه على روحه ويجبره من كيد الشيطان في كلّ وساوسه وأضاليله.

استعاذة بالله وجهدٌ ذاتي

ونفهم من ذلك أنّ الاستعاذة بالله ليست مجرّد موقف يتطلّع فيه الإنسان إلى الله ـــ سبحانه ـــ ليحلّ له مشكلته، بشكلٍ مباشرٍ، دون أن يقوم هو بأيّ جهدٍ إرادي في هذا الاتجاه، بل هي موقفٌ يستجير فيه المؤمن بربّه، ليعيش ثقته بالله من خلال إحساسه برحمته، وليستعيد الثقة بقوّته، ما يؤهّله للانطلاق بقوّة في مواجهة كلّ تحرّك مضادٍّ له في إيمانه، ثمّ ينتظر أن تنهمر فيوضات الله وألطافه على روحه برداً وبركةً وسلاماً، وبذلك ينتصر من مواقع الإرادة والإيمان والممارسة، فيخرج من سلطان الشيطان ليبقى في سلطان الله.

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، لأنّ المؤمن من خلال اتّصاله بالله وانفتاحه عليه في الغيب والشهادة، والثقةٍ به، ووعيه لكلّ سننه في الحياة، وفهمه لحكمته، وانتظاره لرحمته، وكذلك الحال بالنسبة إلى المتوكّل على الله ما يعطيه أملاً كبيراً في المستقبل الذي تحكمه إرادته، في ما يدبّر أمره، ممّا لا يستطيع المخلوق تدبيره، لأنّ الله قد كلّف عبده بما يستطيع، وتكفّل سبحانه بتدبير القسم الآخر، وبهذا كان التوكّل متّصلاً بخطّ المستقبل في حركة الغيب، بعد انطلاق حركة الإنسان الإرادية الواقعية من الحاضر ومقدّمات المستقبل، سواءٌ كان ذلك في مشاريع الحياة، أو في مشاريع الإيمان، أو في مشاريع العمل المتحرّك في أجواء الإيمان، فإنّه يتحرّك بسلطان الله بشكلٍ غير مباشر في نطاق حركته الذاتية كإنسان، وهو يخضع لكلّ سلطانه بشكلٍ مباشر في ما يملك الله أمره، ولا يملكه هو. ولا سلطان ـــ في وعيه ـــ لأيّ سلطان غير سلطان الله.

{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} الذين يخضعون له، ينسون الله ويذكرونه، يبتعدون عن ربّهم ويقتربون منه، يستسلمون لحبائله وخدعه، يهربون من حقيقة الإيمان بالله، وبهذا تكون كلّ حياتهم ساحةً للشيطان، يجول فيها ويصول، لأنّهم يفتحون كلّ قلوبهم له، ويحرّكون كلّ عقولهم معه، ولا يؤمنون إلاّ به وبما يثيره مِنْ قِيَم زائفة وأخلاق فاسدة ومناهج منحرفةٍ. هؤلاء المهزومون الخائفون الذين يتولّون الشيطان {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} لأنّ عيونهم وقلوبهم وعقولهم، بل وكلّ حياتهم في غشاوة.

من هنا، فإنّ قصّة الشيطان مع الإنسان ليست قصّة السيطرة المطلقة التي لا يملك الإنسان معها إرادة الفكاك منها، ولكنّها قصّة الإنسان الذي يسلّم كلّ أمره للشيطان، ويتنازل عن إرادته فلا يحرّكها في خدمة إيمانه، وينسى إيمانه فلا يستعيده في حركة حياته، فيستولي عليه الشيطان، كما يستولي العدوّ على أيّة قلعةٍ غير محصّنة تسقط في يديه مع أوّل بادرة هجوم، دون أن يلقى أيّة مقاومةٍ تذكر.

بين خطّ الله وخطّ الشيطان

وينطلق القرآن الكريم ليتحدّث عن الاستعاذة في تصرّفات المؤمن وسلوكيّاته في الجانب الأخلاقي، وذلك قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ*وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ*إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ*وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}(1)، فنلاحظ أنّ الله يريد للإنسان أن ينطلق في مواجهة الجاهلين بالإعراض عنهم، والسير على أساس المعروف والابتعاد عن نزغات الشيطان ومداخلاته في إثارة الوضع المتوتّر الذي يبتعد بالإنسان عن خطّ التوازن ويدخله في حالة الغفلة عن خطّ الاستقامة؛ لأنّ المؤمن يتذكّر عند الغفلة، ويمتنع عن الخضوع للإغواء في أوضاع الإثارة السلبيّة.

وقد يكون من الطبيعي أن يعمد الشيطان إلى الدخول على هذا الخطّ وتحريك كلّ العوامل التي تمنع الإنسان من الاستقامة، وتدفعه إلى الانحراف، وتثير فيه حالة الإرباك الداخلي، ممّا قد يغفل عنه الإنسان المؤمن عندما يندمج في هذا الجوّ الانفعالي، فيبتعد عن التفكير العاقل الهادئ المتّزن، إلى التفكير المجنون الهائج، وقد يضعف ـــ تبعاً لذلك ـــ عن اتّخاذ الموقف السليم. وهذا ما أرادت الآية الكريمة أن توجّه التفكير إليه.

{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} والنزغ ـــ كما قيل ـــ هو النخس، وهو غرز جنب الدابة، أو مؤخّرها بقضيب ونحوه لتهيج. وعلى ضوء هذا، فإنّ التعبير يكون كناية عن تسويل الشيطان الذي يدخل ـــ من خلال النزغ ـــ إلى مشاعر الإنسان بطريقةٍ تثيره ليأخذ بالأسلوب الأسوأ، ويوجّه الموقف إلى القطيعة بدلاً من التواصل، وإلى العداوة بدلاً من الصداقة، {فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} الذي يعيذ عباده المؤمنين الذين يستجيرون به، من كلّ ما يحذرون منه أو يخافونه {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فهو الذي يسمع سؤال عباده، ويعلم حاجاتهم وأفعالهم. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السابعة عشرة

25 رجب 1427 هـــ ـــ 19/8/2006م

 

قصّة الشيطان (15)

الشيطان داعية البخل

 

الشياطين يثيرون الشكوك ويفوّتون الفرص، ويضعفون الهِمَم، ويجفّفونَ منابع الخير في قلوب الناس.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

البخل والشعور الأناني

لا نزال في إطار ما تناوله القرآن من الحديث عن الشيطان، وكلّ حركته في إضلال الناس، أو حرفهم عن الصراط المستقيم الذي أراد الله للإنسان أن يسير عليه.

من تلك الموارد، ما تحدّث الله تعالى به عن أولئك الذين يبخلون بما آتاهم الله تعالى من رزقه والذي طلب منهم أن ينفقوا منه في سبيله، ولكنّ هؤلاء تعمّق البخل في نفوسهم، حتّى إنّهم لم يقتصروا به على أنفسهم، بل بدأوا يأمرون به الناس به.

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً*وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً*وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً}(1).

وقوله تعالى: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}.

ورد في أسباب النزول ـــ للواحدي ـــ: قال أكثر المفسّرين: نزلت في اليهود؛ كتموا صفة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يبيّنوها للناس، وهم يجدونها مكتوبةً عندهم في كتبهم. وقال الكليني: هم اليهود بخلوا أن يصدقوا مَنْ أتاهم صفة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونعته في كتابهم، وقال مجاهد: الآيات الثلاث إلى قوله: {عَلِيماً}، نزلت في اليهود. وقال ابن عباس وابن زيد: نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم وينصحونهم ويقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنّنا نخشى عليكم الفقر، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ...}.

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ...}.

تلك هي صفة المختالين الفخورين الذين ذكر الله في الآية السابقة لهذه الآيات أنّه لا يحبّهم: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}(1)، فهاتان الصفتان الذميمتان تمنعان الإنسان من الانفتاح على الفئات المحرومة في المجتمع التي هي أقلّ منه مالاً وجاهاً، وتوحيان إليه بالحرص على ما عنده من المال الذي أوصله إلى هذه المكانة، ورفعه إلى هذه الدرجة. هذا الشعور الأنانيّ الضيّق، يظلّ يتنامى لديه حتّى يسجنه في داخل ذاته، فيخيّل إليه أنّ الدّنيا تتجمّع في شخصه، فلا وجود إلاّ له، ولا مصلحة إلاّ مصلحته؛ والمهمّ عنده أن يعيش ويشبع ويرتوي ويستمتع بالحياة، ولا قيمة لحياة الآخرين ولحاجاتهم المعيشيّة.

فلماذا يهتمّ بالناس أو يعتني بأمرهم، ما دامت حياتهم غير مرتبطة بحياته؟ بل ربّما يمتدّ به الأمر إلى الإحساس بالخوف على ماله منهم، وذلك لما يخيّل إليه من أنّهم يحسدونه. وهكذا تتحوّل الأنانية في نفسه إلى عقدة مرضيّة، تمنعه من العطاء والمشاركة والامتداد في حياة الآخرين؛ وهذا هو سرّ البخل الذي يتحكّم في سلوكه، في ما يحتاج الناس إليه من العطاء، لأنّ الكرم خلقٌ رفيع يتحرّك في داخل النفس المنفتحة على حياة الناس، لإحساسها العميق بإنسانيّة الآخرين، وانطلاقها الواسع في رحاب الإيمان الذي يجد في العطاء تأكيداً للثقة بالله الذي منه العطاء، وإليه يرجع؛ فهو صاحب الفضل في ما يعطي، وما يأخذ، وهو الذي يفيض على الإنسان نعمه في البداية، وفي النهاية، فلماذا البخل، ولماذا الحرص؛ إذا كانت خزائن الله لا تنفد، وكرمه لا يضيق عن أحد؟.

 

 

تجفيف منابع  الخير

وهكذا أراد الله أن يعطينا ملامح هؤلاء المختالين الفخورين، من خلال سلوكهم في مواقع العطاء؛ فهم لا يكتفون بالبخل، بل يتنكّرون للعطاء مِنْ قِبَل الآخرين الذين يعيشون العطاء كقيمة إنسانية روحية كبيرة، فيأمرونهم بالبخل، ويخوّفونهم بالفقر، ويصوّرون لهم الواقع الذي تعيشه الفئات المحرومة بغير صورته الحقيقيّة؛ فهذا الإنسان لا يستحقّ العطاء، وذاك لا يستحقّ الإكرام.. وهكذا يستمرون في إثارة الشكوك، وتفويت الفرص، وإضعاف الهِمَم، وتجفيف منابع الخير في قلوب الناس، لأنّهم لا يحبّون للعطاء أن يمتدّ أثره لدى الناس، باعتبار أنّ ذلك ينعكس سلباً على مواقعهم الاجتماعية، بما يكشفه من أنانيّتهم وضعفهم في أنفسهم، عندما يبدأ الناس المقارنة بينهم وبين الكرماء الطيّبين من الأُمّة.

ومن صفات هؤلاء أنّهم يكتمون ما آتاهم الله من فضله، في ما أنعمه عليهم مِنْ نِعَمِه التي أراد لهم أن يبذلوها للناس، سواء كان ذلك مالاً أو علماً أو جاهاً، فلكلّ نعمة من هذه النِعَم مسؤولية لا بدّ من أن يقوم بها الإنسان في نفسه وفي الآخرين، ولكنّهم يكتمونها، لأنّ إظهارها لا يلتقي مع طبيعة الأنانية المتحكّمة في نفوسهم؛ وقد يبرز ذلك في أساليبهم المتنوّعة التي يحاولون أن يظهروا بها أنّهم فقراء لا يملكون شيئاً؛ خشية أن يطالبهم الناس بالعطاء.

وإذا صحّ ما جاء في أحاديث أسباب النزول ـــ التي أشرنا إليها في صدر هذا الحديث التفسيري عن هذه الآيات ـــ من أنّ المقصود بهؤلاء، الذين يكتمون ما آتاهم الله من فضله، ممّا أعطاهم الله من العلم بالنبيّ المبعوث في صفاته وعلامات رسالته ونبوّته، فإنّنا نرى أنّهم يمثّلون ـــ في واقع الإنسان ـــ النموذج السلبي الذي لا يريد الله للناس أن يقتدوا به، لأنّه يريد للإنسان أن يعيش روحية العطاء لمن يحتاج إلى ماله، كما يحبّ له أن يقدّم للناس العِلْم الذي أتاه من فضله، لأنّ الحقيقة كالماء والهواء، ليست ملكاً ذاتياً لأيّ إنسان، بل هي هبة الله للإنسان كلّه وللحياة كلّها، لأنّها هي التي توضّح له الرؤية، وتعمّق له المعرفة، وتحقّق له التوازن في خطواته وعلاقاته وأوضاعه العامّة والخاصّة في الحياة، باعتبار أنّ الباطل يبتعد به عن ذلك كلّه، ويمنعه من أن يتصوّر الواقع في صورته الحقيقيّة، ما يجعله منحرفاً عن خطّ الاستقامة في الفكر والعمل.

المجاهدة بالعلم

وعلى ضوء ذلك، فقد نستوحي من الآية، أنّ على العلماء الواعين أن يجاهدوا بعلمهم، وأن لا يخافوا من إعلان الحقّ لأهله، حتّى لو كان ذلك على خلاف الذهنيّات الخرافية الجاهلة المنحرفة التي تقف ضدّ كلّ رأي يخالف المألوف عندها، من عقائد الآباء والأجداد ومفاهيمهم الخاطئة التي تسيء إلى الإسلام وإلى المسيرة كلّها، وأن لا يتعقَّدوا من النتائج السلبية النفسيّة التي قد تحصل لهم مع مَنْ يختلفون معهم، وأنْ لا ينهزموا أمام الحملات والاتّهامات الظالمة التي قد توجّه إليهم من الجاهلين والمنحرفين، لأنّ على المفكّر الحرّ المنفتح على الحقّ، أنْ يدفع ضريبة أخذه بالحقيقة وانفتاحه عليها.

منافاة البخل والإيمان

{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً}. وقد تحدّث عن الكافرين في نطاق حديثه عن المختالين، للإيحاء بأنّ الإيمان لا يلتقي مع البخل، ولا ينسجم مع الأنانية والخيلاء والتجبُّر والتكبُّر والفخر، بل يلتقي مع التواضع والخشوع والرقّة والقلب الكبير، فإذا عاش المؤمن مثل تلك الصفات الذميمة، فإنّ ذلك يعني أنّه يتحرّك في أخلاقه من موقع الخطّ الكافر، لأنّ الشيطان هو الذي يوحي للإنسان بذلك وهو الذي يخوفِّه من الفقر، {وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً}(1). وفي ضوء ذلك، يلتقي الإنسان بالكفر العملي في سلوكه، في الوقت الذي يبتعد عنه في تفكيره، الأمر الذي يجعل مصيره، في بعض الحالات، مصير الكافرين في ما ينتظرهم من العذاب على ما قدّموه من معاصٍ وجرائم.

{وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ} وهذه صفة بعض النماذج المنحرفة من هؤلاء المختالين الفخورين الأنانيين، فقد تمرّ بهم بعض حالات العطاء، ولكن ليس باعتبارها مظهراً من مظاهر النفس الطيّبة الكريمة، بل لتكون مفتاحاً لحركة الذّات في خطّ المصالح الشخصية الأنانية، فهم ينفقون أموالهم رياءً، ليراهم الناس ويمدحوهم، وليرضوا بذلك غرورهم وكبرياءهم، ويظهروا بمظهر المحسنين الكرماء الكبار الذين يقفون في الدرجة العليا من السلم الاجتماعي؛ فهم يتصدّقون على المحتاجين من أموالهم من موقع الرفعة والعظمة والكبرياء، ليحصلوا من خلال ذلك على بعض الامتيازات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، أو ما إلى ذلك.

وبذلك، لا يكون الإنفاق عمليةً أخلاقيةً، بل يتحوّل إلى عملية تجارية تبحث عن البدل لما تدفعه، وتفتّش عن الربح في ما تنفقه. وهذا ما نراه في بعض البلاد التي يندفع فيها بعض الأغنياء للإنفاق بمستوى الملايين على المؤسّسات الخيرية والتربوية، لأنّ ذلك يعفيهم من دفع الضرائب التي تزيد كثيراً على ما ينفقون، ويحقّق لهم ـــ بالتالي ـــ وضعاً اجتماعياً مميّزاً، ويثير حولهم هالة كبيرة من المدح والثناء الذي لا يستحقّونه.

{وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} فإنّ مثل هذا الإيمان يفرض على الإنسان أن يحسب حساب الرغبة في القرب من الله، والنجاة في اليوم  الآخر؛ ما يدعوه إلى أن يجعل كلّ غايته في عمله هو رضا الله، وأن ينطلق ـــ على أساس ذلك ـــ في حياته للحصول على النتائج العملية التي تحقّق هذا الهدف.

قرين السوء

{وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً}. والسؤال: كيف يكون الشيطان قريناً للإنسان؟!

الظاهر ورود ذلك على سبيل الكناية، في انطلاق الإنسان في حياته من خلال الأفكار الضالّة المنحرفة، والأخلاق الذميمة السيّئة، والأهداف الضيّقة المحدودة، التي تجعله ينسى الله ويستسلم للدّنيا في شهواتها المحرّمة ولذائذها الفانية. وهكذا تتمثّل المسألة في العلاقات الإنسانية المرتكزة على قاعدة الضلال، من خلال ما يعيشه الإنسان في علاقاته بالكافرين والمنافقين والفاسقين والضالّين، الذين يزيِّنون له سوء عمله فيراه حسناً، ويغيّرون له طريقة تفكيره ليبتعد بذلك عن الإيمان والخير والصلاح. ولما كان ذلك كلّه من تسويلات الشيطان، كان التعبير القرآني بمصاحبته للشيطان الذي هو قرين سيّئ لكلّ أصحابه، وأيّ سوء أعظم وأفظع من الوقوع في جهنّم وساءت مصيراً!.

دعوة إلى الإنفاق

وتتابع الآيات لتعطيهم النموذج الذي ينبغي أن يسيروا عليه، فيقول تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً}. إنّها الدعوة إلى الإيمان والإنفاق من موقع النصيحة التي تدعو إلى التأمّل والتفكير في عواقب الأمور. فما الذي يضرّهم إذا انفتحوا على أُسس الإيمان بالله واليوم الآخر، وفكّروا وتأمّلوا عن طريق البراهين والبيّنات التي تقودهم إلى ذلك وتوصلهم إلى القناعة اليقينيّة الثابتة؛ فتدفعهم إلى الإنفاق ممّا رزقهم الله؛ لأنّهم إذا آمنوا بأنّ الله هو الرزّاق الذي يرزق عباده، ليعودوا به على أنفسهم وعيالهم، كان ذلك دافعاً لهم للحصول على الثقة بالله والشعور بالمسؤولية في الإنفاق على عباد الله من رزق الله، من دون أن يعانوا أيّة عقدة في هذا السبيل، لأنّ المؤمن لا يرى لنفسه الاستقلال الذاتي في الأمور الخاصّة والعامّة أمام الله، بل يعتبر وجوده خاضعاً له في كلّ شيء، في ما توحيه كلمة الإسلام: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(1)... هو الذي يعطي ويمنع ويأمر وينهى في ذلك كلّه، {وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً}، في كلّ ما يبدون وما يخفون من أمر السرّ والعلانية.

العداوة بين الأنبياء والشياطين

ومن الموارد التي ذكر فيها الشيطان في القرآن الكريم، ما تحدّث به تعالى عن أعداء الأنبياء من شياطين الإنس والجنّ، ممّا نتابع تفاصيله في الآيات الكريمة. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ*وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}(2).

وقد جاءت الآية الأولى لتتحدّث عن هذه السلسلة التاريخية الطويلة من أعداد الرسل والرسالات، فقد أشارت إلى ما واجهه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من مظاهر العداوة التي تتمثّل في الجحود والكفر والنكران لرسالته ودعوته، وبيّنت له أنّ المسألة لا تختصّ به، بل تشمل كلّ الأنبياء من قبله.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} فهناك الذين ينسجمون مع الخطّ الرساليّ، وينفتحون على جميع معانيه ومفاهيمه، وهناك الذين يتنكَّرون له ويتمرّدون عليه، ما يجعلهم معقّدين أمامه، ليتحوّل ـــ بعد ذلك ـــ إلى عقدةٍ ضدّ صاحب الخطّ وضدّ رسالته، سواءٌ في ذلك شياطين الإنس الذين يعملون في السرّ والعلن من أجل التخطيط للقضاء على الرسول والرسالة، أو شياطين الجنّ الذين يتبعون سبيل الوسوسة في إبعاد الإنسان عن الحقّ والعدل، وتزيين الباطل له، وتشويه القِيَم الروحية والأخلاقية في حياته، وإثارة الشهوات من أجل تحريك كلّ نقاط الضعف فيه.

ويتلاقى هؤلاء الشياطين في اجتماعات صغيرةٍ أو كبيرةٍ، مغلقةٍ أو مفتوحةٍ، ليتحدّثوا فيما بينهم في أقرب الوسائل للضغط على الرسول، وفي أفضل الكلمات التي تحرِّك النوازع السيّئة الخبيثة التي تمنع الإنسان من الانفتاح على الله، وفي أكثر الأساليب خداعاً وتغريراً.

{يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في عملية إيحاءٍ بالشرّ والضلال، في أجواء حميمة محبّبةٍ إلى النفس، وفي كلماتٍ حلوة تنفذ إلى القلب في أعمق مشاعره وأدقّ نبضاته. وهكذا يبدأ الضلال في عقول الناس، كلماتٍ حلوة، وأساليب جميلة، وأجواء حالمة، وشهوات محمومة، ممّا تزيّنه الشياطين وتثيره وتحرّكه في حياة الناس البسطاء الطيّبين الساذجين الذين لا يعرفون فنون الحيل وأساليب الخداع، بل يقبلون على كلّ ما يسمعونه بالطيبة التي توحي بالثقة، وبالطهارة التي تقود إلى الاستسلام، حتّى إذا اكتشفوا وجه الحيلة في نهاية المطاف، أصابتهم الدهشة، وأثارهم العجب، وتساءلوا: كيف يمكن أن يوجد في الكون مثل هؤلاء الناس الذين يخدعون عباد الله ولا يخافونه في ما يقولون وفي ما يفعلون، وفي ما يدبّرون من مكائد ومصائد؟.

وقد كان للأنبياء أعداءٌ لا يعرفون من الحيلة إلاّ الأساليب الخفيّة التي سرعان ما تنكشف للناس، فيبطل مفعولها من خلال ذلك، كما تحدّث لنا القرآن عن صاحب إبراهيم (عليه السلام) عندما قال ـــ على ملأٍ من قومه ـــ جواباً لإبراهيم (عليه السلام) الذي قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي}، قال: {أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} كأسلوبٍ من أساليب تضليل البسطاء من الناس الذين يرون أنّ أمر الحياة والموت بيد الملوك الذين يستطيعون أن يهبوا الحياة للمجرم فيرفعوا عنه القتل، وأن يسلبوا منه الحياة ليحكموا عليه بالموت. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(1). وهكذا رأينا كيف كانت أساليب فرعون الظاهرة والخفيّة في الكيد لموسى (عليه السلام). وتتوالى الأحداث مع الأنبياء. ويكون الحلّ الأخير لأعدائهم هو القوّة التي قد تنجح أحياناً، وقد تفشل في كثيرٍ من الحالات، عندما تتدخَّل القوّة الغيبيّة لتنقذ النبيّ من كيدهم وطغيانهم.

الثُلَّة المؤمنة وجنود الشيطان

ومرّت قافلة الأنبياء، وجاء بعدها الأئمّة والأولياء والعلماء الذين حملوا الرسالات بقوّةٍ وصدق، ووقفت قافلة أعداء الله في الطريق، تواصل مسيرة التصدّي والتحدّي والكيد والتخريب، وتنوّعت وسائل ذلك، فاستخدمت كلّ أدوات العلم والفنّ والإعلام، في سبيل المزيد من سياسة التشويه والتمويه والترغيب والترهيب، والتخييل والإيهام، وتغيير الواقع بما يتناسب مع أفكار الكفر والضلال، وما زالت المؤامرة على الإسلام والمسلمين مستمرةً، وما زال الناس يتساقطون، في دينهم وعقيدتهم وسلوكهم، أمام عناصر المؤامرة وأساليبها، بفعل القوّة المدمّرة، والاحتواء الشامل لكلّ الساحة، في جميع أوضاعها ومجالاتها، وما زال المجاهدون الدّعاة إلى الله في قلب المعركة؛ معركة الأنبياء مع شياطين الإنس والجنّ الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.

وتلك هي إرادة الله في ما أقام الكون عليه من سننه الحتمية التي تترك للناس أن يختاروا ما يحلو لهم، فلا يشلّ قدرتهم على الاختيار، بل يوجّهها في نطاق الحرّية المسؤولة، فإذا انحرفوا عن الطريق، لم يتدخّل بإرادته الفاعلة ليمنعهم عن الانحراف. وذلك هو مفهوم الآية الكريمة: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} لأنّهم لم يتمرّدوا على أنبياء الله ورسله من موقع قوّةٍ ذاتية يملكون ـــ من خلالها ـــ مجابهة الله في سلطانه، وإنّما فعلوا ذلك في نطاق السنن الكونية التي أودعها الله في الكون، فهم يتصرّفون في نطاق حركة القدرة الإلهية، في ما أعطاهم الله من حرّية الإرادة، وحركة الاختيار.

{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} دعهم، لا تلتفت إليهم، لأنّهم لن يضرّوك شيئاً، ما دمت سائراً في طريق الله بقوّةٍ وعزيمةٍ وإخلاصٍ، إنّهم يعيشون مع أفكارهم الشيطانية، ويحسبون أنّها تجلب لهم الفلاح والنجاح، ولكنّها لن تفيدهم شيئاً ولن تغيّر شيئاً من مصيرهم، فذرهم وما يفترون من أفكار وآراء، فإنّ وحي الله معك، فهو النور، وهو الحقيقة. {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}. وهذه هي النتائج التي ينتظرها عدوّ النبيّ في كلِّ زمانٍ ومكان؛ أن يجد أذناً تصغي إليه، وقلباً يرضى بزخرفه وغروره، وأُناساً يسيرون على خطّته، ويقترفون الجرائم التي يأمرهم بارتكابها.

إنّ دوره هو أن يحرّك الساحة لمصلحة الكفر، ويحقّق لها شروط نموّها وتطوّرها في الاتجاه الذي يريده، فقد نجد في بعض الحالات مجموعةً من الناس تعيش في أجواء الكفر، ولكنّها لا تجد القيادة التي تستفيد من هذه الأجواء من أجل الحصول على نتائج كبيرة، أو لا تتوفّر الظروف الموضوعية التي تنمّي فيها قابلية الانطلاق، فتقف في الظلّ طويلاً تتطلّع إلى الفرص القادمة، فإذا جاءها ذلك كلّه، تحوّلت إلى حركةٍ قويّةٍ متمرّدة، في ما تسمع وفي ما تؤيّد وفي ما تعمل. وتلك هي سنّة الله في الحياة، في ما أراده من تنظيم للكون، في أن يمارس الإنسان عملية الإرادة من موقع الحرّية، وأن تتحرّك الحرّية في الأجواء التي تحمل في ساحاتها فرص الهدى، وفرص الضلال.

أمّا كيف يجعل الله لكلّ نبيٍّ عدوّاً، وكيف ينسجم ذلك مع فكرة الحرّية، فقد ذكرنا أكثر من مرّة، أنّ الله عندما يتحدّث عن نسبة أيّ فعلٍ من أفعال الخير أو الشرّ إلى ذاته المقدّسة، فإنّه لا يتحدّث عن ذلك بشكلٍ مباشر أو بشكلٍ غير مباشر، يلغي فيه دور الإرادة الإنسانية في الفعل، بل يتحدّث عنه في الإطار العام للخلق، في ما أودعه فيه من النظم الكونية والحياتية التي تتحرّك في نطاق قانون السببيّة. فلكلّ فعلٍ سببه الذي لا يوجد إلاّ به، وإذا كانت الإرادة الإنسانية هي أحد أسباب وجود الفعل الإنساني، فإنّها تؤكّد عملية الاختيار ولا تلغيها. وبذلك يكون ما نسب إلى الله في الآية، من جعله أعداء لكلّ نبيٍّ، منطلقاً من أنّ طبيعة الرسالة التي أرسلها الله إلى الناس، تفرض أن يكون لها أناسٌ يؤمنون بها، وأُناسٌ يكفرون بها، وذلك بالنظر إلى اختيارهم الشخصي في قضية الإيمان والكفر، ما يجعل القضية مرتبطة بالله من جهة، من خلال خلقه للإرادة الحرّة في الإنسان، وبالمكلّف من جهةٍ أخرى، من خلال مباشرته لعملية الاختيار بحريّته، وهذا الأسلوب ليس ببعيد عن عالم الإسناد المجازي في اللّغة العربية. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثامنة عشرة

2 شعبان 1427 هـــ ـــ 26/8/2006م

 

 

الارتداد عن الدِّين

 

لا يظنّ جيلٌ من المسلمين زهواً أنّه إذا ابتعد عن الساحة، فإنّ الإسلام سوف يموت أو يزول.

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

نتناول في هذا الحديث، بعض الخطاب القرآني الذي وجّهه الله سبحانه إلى {الَّذِينَ آمَنُواْ}، والذي يركّز فيه على خطورة الارتداد عن الدين في ميزان المصير عند الله سبحانه، حيث إنّ الارتداد لا يضرّ إلاّ أصحابه، في الوقت الذي تستمرّ المسيرة الإسلامية التي أرادها الله سبحانه للإنسان والحياة، من خلال نماذج إسلاميّة أخرى يهيّئها سبحانه بحكمته وتدبيره، لتحمل أعباء الرسالة، بوعي وإصرار وثبات وإيمان، ولتؤدّي دورها في خطّ المسؤولية في ذلك كلّه.

طلائع إسلامية مخلصة

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

كيف نفهم هذا الخطاب للذين آمنوا؟ وهل كان هناك حالة ارتدادٍ عن الدّين، في مستوى الظاهرة، ليأتي هذا النداء الحاسم الذي يوحي بالتهديد من جهة، والاستهانة من جهةٍ أخرى؟ لأنّ هؤلاء الذين يواجهون الموقف بهذا الأسلوب، قد يتخيّلون أنّ ذلك يضعف الإسلام، ويوهن قوّة المسلمين، لما يرونه لأنفسهم من الأهمية الكبرى في داخل المجتمع الإسلامي، بحيث لا يستطيع المجتمع أن يجد بديلاً عنهم، كالكثيرين من الناس الذين يعطون لأنفسهم دوراً أكبر من دورهم، في ما يخيّل إليهم من ضخامة شخصيّتهم، بالحجم الذي لا يسدُّ مسدّه أحد.

وقد لا يكون الموقف بهذه الخطورة، على هذا المستوى، بل ربّما تكون الآية تابعةً للجوّ الذي انطلقت فيه الآيات السابقة التي كانت تشير ـــ بطريقةٍ إيحائيّةٍ وتقريريّةٍ ـــ إلى النماذج التي تقدِّم لغير المسلمين فروض الطاعة والولاء، في أساليب متنوّعة، وتقدّم التنازل الفكري والعملي عن كثير من قضايا الإسلام المهمّة، ما يوحي بارتدادٍ واقعيٍّ عن الخطّ الإسلامي، وبالتالي ابتعاد عن الدّين، وقد يؤدّي ذلك إلى الخروج منه كلّياً بشكلٍ رسميٍّ في الحالات الضاغطة التي تفرض عليهم الاندماج في المجتمع الآخر، نظراً إلى ضعف العقيدة والوازع الديني في أنفسهم، وقوّة الدافع الذاتي في نوازعهم.

وربّما كان هذا التفسير أقرب إلى جوّ الآيات التي تعمل على أن تمارس ضدّ هؤلاء لوناً من ألوان الضغط النفسي، بالإيحاء لهم بأنّهم لا يمثِّلون الكثير من مواقع القوّة في المجتمع الإسلامي، بل هم مجرّد مرحلةٍ لا قيمة لها.

قانون الاستبدال

فهناك أكثر من مرحلة من مراحل التطلّع الإسلامي إلى المستقبل، في ما تبشّر به خطوات الطلائع الإسلاميّة الجديدة التي عاشت الإسلام في أعماقها الفكريّة والشعوريّة، حبّاً لله، وفناءً في طاعته، وخوفاً منه، والتي سارت على الخطّ المستقيم في الاتجاه السليم الذي يؤدِّي إلى رضوانه. ولذلك، لا بدّ من أن يعرف هؤلاء وغيرهم، من الذّين يعتبرون الحياة خاضعة لمواقفهم السلبيّة والإيجابيّة في وجودها وفنائها، أنّ الله سيأتي بقوم لا يشبهون هؤلاء في كلّ مواقف الاهتزاز والتذبذب، لأنّهم يمثّلون الصدق في العقيدة، والثبات في الموقف، والاستقامة في الطريق، والوضوح في الرؤية، وقد حازوا محبّة الله لهم لأنّهم أطاعوه حقّ طاعته، وعبدوه حقّ عبادته، وهم يحبّون الله حبّاً ملك عليهم فكرهم وشعورهم، لأنّهم عرفوه في آفاق عظمته ومواقع نعمه، فإذا انطلقوا في الحياة الاجتماعيّة العمليّة، فإنّ مواقفهم تجاه الآخرين، تتحدّد من خلال الخطّ الذي يلتزم به هؤلاء الآخرون.

 

 

 

خطّ الإيمان والسلام والصلاح

فإذا كان الخطُّ إيماناً وسلاماً وصلاحاً، فهم المتواضعون الذين يخفضون للمؤمنين جناح الذلّ، من دون أن يعانوا أيّة عقدة في ذلك كلّه، لأنّهم لا يعيشون المشاعر الذاتيّة في علاقتهم بهؤلاء، لأنّ العلاقة بالله هي القاعدة التي يتمسّك بها الجميع، ولأنّ الإسلام اعتبر أفراد المجتمع المؤمن كالجسد الواحد، فلا اثنينيّة لتتحرّك النوازع الفرديّة في نطاقها الذاتي المعقّد. وإذا كان الخطّ كفراً وفساداً وظلماً وشرّاً، فهم الأعزّاء الذين لا يتنازلون بل يترفّعون، لأنّ القضية ليست قضيّة إنسانيّة تتحرّك في خطوات المشاعر، بل هي قضية رساليّة تتميّز في حساب المواقف، فليس هناك إنسانٌ يترفَّع عن إنسان، بل عقيدة تعلو عقيدة، وحركة تواجه حركة، ورسالة ترتفع فوق استعراضات المنافع.

ومن هنا جاء هذا النداء الإلهي لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ} إذا واجهوا التحدّيات، ووقف الكفر ليحارب تعاليم الله وشرائعه، ويهاجم عقيدة الحقّ ورسالته، كانوا في المواقع الصلبة الصعبة، شرارةً من نار، ويقظةً من نور، وحركةً من فكر، وصرخةً من حقّ، وموقفاً من عدل، وجهاداً في معركة، وانطلاقةً في سبيل الله، فهم الأشدَّاء الثابتون الذين لا يتزلزلون ولا يرتبكون، وهم الواثقون بالحقّ ثقتهم بالله، فقد يسمعون اللائمين الذين يأخذون عليهم قسوة موقفهم وصلابة رأيهم، ويطلبون منهم التراجع عن ذلك ليحصلوا على رضى هذا الفريق أو ذاك، ولكنّهم يرفضون ذلك بإباءٍ وإيمانٍ، لأنّ الموقف ليس ملك أيديهم، بل هو ملك الله، بحيث إنّهم يملكون حريّة الانسحاب لو أرادت منهم أنفسهم ذلك، فلا تأخذهم في الله لومة لائم، وذلك هو فضل الله عليهم بأنْ مَنَّ عليهم بهدى الإيمان، وإشراقة الحقّ، الأمر الذي يتحوّل فيه الإنسان إلى ينبوعٍ من النور، يتدفّق بكلّ أريحيّات اللّطف الإلهي، والله واسعٌ في رحمته ولطفه ورضوانه ورعايته لعباده المؤمنين، عليم بما يحتاجون إليه في المراحل الصعبة من جهادهم في طريقه.

ولكن، هل تشير الآية إلى جماعةٍ معيّنة من هؤلاء المؤمنين المخلصين؟ ربّما كانت بعض الأحاديث أو التفاسير تتضمّن الإشارة إلى ذلك، ولكنَّ هذا داخل في عالم التطبيق على بعض الأفراد الطليعيين الذين عاشوا في عصور الإسلام الذهبيّة في عهد الدعوة والجهاد. ولكنّ الآية تسير مع الزمن، لتوحي لكلّ جيلٍ من أجيال المسلمين، أنَّ الإسلام هو الرسالة التي يجب عليه أن يحتضنها ويرعاها بكلّ قوّة، وأن يستمرّ عليها بكلّ إخلاص، وأنَّ عليه أن يعي جيّداً دوره، فلا يغترّ أبداً بحجم هذا الدور بالمستوى الذي يخيَّل إليه أنَّ الإسلام سوف يموت ويزول إذا ابتعد ـــ هو ـــ عن الساحة، فإنّ هناك أكثر من جيلٍ في علم الله، ينتظر الفرصة التي ينتصر فيها للإسلام، بعيداً عن كلّ زهوٍ وعظمةٍ وخيلاء.

علاقة القيادة بالقاعدة

وربّما نستوحي من هذه الآية، كيف يجب أن تتركَّز التربية الإسلاميّة في علاقة القيادة بالقاعدة، وبالعكس، فلا مجال للفكرة التي تقول إنَّ غياب القيادة المعينة، أو انحرافها، أو ارتدادها، يلغي الدور المستقبلي للإسلام، ولا مجال ـــ أيضاً ـــ للفكرة المماثلة التي قد تعتبر اهتزاز القاعدة وضياعها وارتدادها كفيلاً باهتزاز الإسلام وسقوطه، لأنَّ الله سبحانه هو الذي يكفل مسيرة هذا الدّين، ويخلق له ـــ في كلّ زمن ـــ أناساً مخلصين {يُحِبُّهُمْ}؛ لأنّهم من الذين أخلصوا في عبادتهم لله وأطاعوه طاعةً تصبّ في عمق التوحيد العقيدي والروحي، وأحسنوا لعباده فيما يبذلونه من جهدهم وأموالهم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}(1)، ولأنّهم أيضاً من الذين يبذلون طاقاتهم العقلية والعملية والحركيّة من أجل رفع مستوى الناس، في عملية إحسان شامل يرتفعون به إلى الموقع الذي تنفتح لهم من خلاله آفاق الوعي والتقدّم والحياة القويّة الكريمة.

ولأنّهم من التوَّابين الذين أخلصوا التوبة لله، فندموا على ما أسلفوا من الأعمال السيّئة، وعزموا على تغيير أنفسهم والسير في خطّ الطاعة لله والبعد عن معصيته؛ ولأنّهم من المتّقين {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(2).

ولأنّهم من المتوكّلين الذين يتحرّكون في حياتهم بالأسباب التي وضعها الله لهم في تدبير أمورهم وتحريك أوضاعهم، فإذا ما واجهوا المستقبل الذي يتطلّعون إليه، وخافوا من بعض العوارض المخيفة التي قد تعطّل مشاريعهم ممّا لا يملكون أيّ جهدٍ لتفاديها، توكّلوا على الله، وتركوا له أمر إنقاذهم ممّا يخبئّه لهم الزمن، وهم على ثقة بأنّه لا يخذلهم، لأنّه يحبّ المتوكّلين عليه في كلّ أوضاعهم وعزماتهم وحركاتهم في ساحة الصراع، وقالوا ـــ في حالات التحدّي ـــ {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

ولأنّهم الصابرون الذين يحبّهم الله لثباتهم في البأساء والضرّاء، وفي كلّ حالات الخوف، وفي تماسكم على الطاعة وبعدهم عن المعصية، وفي كلّ أوضاع البلاء، فينالون بذلك صلوات الله ورحمته واعتباره إيّاهم من المهتدين.

ولأنّهم المقسطون العادلون الذين يحكمون بين الناس ـــ وفي أنفسهم ـــ بالقسط، ويؤكّدون خطّ العدل معهم، سواء مع العدو والصديق، القريب والبعيد، المؤمن والكافر؛ لأنّ الله أراد للحياة أن تقوم على العدل الذي جاءت به الرسالات، ونزلت به الكتب السماوية، ووضعت فيها الموازين، كما قال الله سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(1).

ولأنّهم من المطّهرين الذين يعيشون طهارة الروح والقلب والجسد، فلا قذارة في الفكر ولا في العاطفة ولا في الحركة ولا في الجسد ولا في الواقع، لأنّهم من المجاهدين {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}(2)، فكانوا من خلال كلّ هذه القِيَم الروحية والإنسانية والعملية في موقع محبّة الله وفي معارج القرب منه.

 

 

الحبّ المقدَّس

{وَيُحِبُّونَهُ} من خلال ما عاشوه في أنفسهم من العشق الإلهي؛ لأنّهم ارتفعوا إلى قِمّة المعرفة لله في صفاته الكماليّة والجلاليّة التي تنفتح على المطلق، فلا يساويه شيء من عباده، وليس له كفؤ من أيّ أحد. ولذلك، فإنّهم يحبّونه حبّاً توحيديّاً، فلا يشاركون أحداً غيره في هذا المستوى من الحبّ، كما جاء في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ}(1). ولم يكن هذا الحبّ مجرّد خفقة قلب ونبضة إحساس وشعور، بل هو حبّ الذوبان في ألوهيّته، من خلال الالتزام بمواقع رضاه، والبعد عن مواقع غضبه، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2).

وفي ضوء ذلك، تتمثّل العلاقة بين الله وعباده الصالحين، فالله يحبّهم من خلال ما يعرفه فيهم من القيمة الروحية والالتزام العملي برسالته، ويحبّونه من خلال عمق المعرفة به، وارتباط وجودهم بوجوده، لأنّه سرّ الوجود كلّه، ومن خلال افتقار حياتهم لنعمته، لأنّه لا نعمة إلاّ منه {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}(3).

{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، من خلال رحمتهم بهم، وتواضعهم لهم، وانفتاحهم الروحيّ عليهم، من خلال الأخوَّة الإيمانية التي عقدها الله بينهم، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، فهم لا يسقطون في مواقفهم ومواقعهم أمام ما يملكه هؤلاء من القوّة أو من الامتيازات المادية؛ لأنّهم يرون أنَّ الإيمان بالله وبرسله ورسالاته، هو في الموقع الأعلى في القيمة الإنسانية، لأنّ الله هو الذي جعل العزّة للمؤمنين، كما جعلها لنفسه ولرسوله، كما جاء في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(4). وكما جاء في إيحاء قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(5).

{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ}؛ لأنّهم يلتزمون المسؤولية الرسالية في مواجهة أعداء الله وأعداء رسوله ورسالته. ولهذا، فإنّهم لا يهربون من المواجهة، ولا يقفون على الحياد في مواقع الصراع بين الكفر والإسلام، أو بين الاستكبار والاستضعاف، بل إنّهم يتقدَّمون الساحة في عملية المواجهة القويّة من أجل أن يهزموا الكفر كلّه والاستكبار كلّه بجهادهم القويّ وثباتهم الصعب؛ لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}؛ لأنّهم مقتنعون تماماً بالحقّ الذي يلتزمونه، والعقيدة التي ينتمون إليها.

ولذلك، فإنّهم يواجهون كلّ الآخرين الذين يختلفون معهم في الخطّ، ولا يخافون من كلّ هؤلاء اللائمين، مهما كانت مواقعهم الاجتماعية والطبقية والاقتصادية والسياسية {ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}، وهو الفضل الذي لا يدانيه فضل؛ لأنّه من الله الذي يملك الوجود كلّه والمصير كلّه، {وَاللّهُ وَاسِعٌ} برحمته {عَلِيمٌ}(1) بأسرار خلقه فيما يفكّرون وفيما يعملون وفيما يلتزمون، لأنّه هو الذي يعلم السرّ وأخفى، ويعلم وساوس الصدور. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة عشرة

9 شعبان 1427 هـــ ـــ 2/9/2006م

 

 

وحدة الرسالات

 

إنّ متابعتنا للآيات القرآنيّة في عناوينها العامّة، وفي تفاصيلها الخاصّة، تؤكّد لنا وحدة الدِّين، في وحدة الرسالات القائمة على التوحيد لله.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

وحدة الرسالات

هل الدِّين الذي أنزله الله على الناس، من خلال رسله، دينٌ واحد، في ما يرتكز عليه من قواعد، وفي ما يتحرّك فيه من مفهوم؟

أو عنوانٌ لأديانٍ، متعدّدة تتنوّع في قواعدها، وتختلف في مفاهيمها، وتتباعد في التزاماتها؟

إنّ متابعتنا للآيات القرآنية في عناوينها العامّة، وفي تفاصيلها الخاصّة، تؤكّد لنا وحدة الدين، في وحدة الرسالات القائمة على التوحيد لله، في امتداداته العقيديّة، والتزاماته العباديّة، وعناصره التشريعيّة؛ فلم يأتِ أيّ رسولٍ بما لم يأتِ به الرسول الآخر، ولم ينطلق الاعتراف بأيّ نبيٍّ إلاّ من خلال الإيمان بشرعيّة نبوّة نبيّ آخر. وهذا هو ما نستوحيه صراحةً وظهوراً من النصّ القرآنيّ.

فنقرأ عنوان الوحدة في أمّة الرسل، من خلال وحدة الرسل، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ*وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(1).

إنّها الدعوة إلى الرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى الناس ليؤدّوا إليهم رسالاته، فهؤلاء الرسل ليسوا ملائكةً من العالَم الآخر، بل هم بشرٌ ممّن خلق، في حاجتهم البشريّة الجسديّة التي تتطلّب التغذية لتنمية قدراتهم وتأمين الاستمرارية في الحياة، فلهم الحقّ في الأكل من طيّبات الغذاء، وعليهم الالتزام بالسير في خطّ العمل الصالح الذي يراقب الله القائمين عليه والعاملين به. وإذا كانت هناك تعدّدية في مسؤوليّاتهم لحمل الرسالة وتبليغها للناس، فليست هناك أيّة تعدّدية في طبيعة الرسالة؛ فهي رسالة واحدة في الخطّ التوحيديّ للألوهيّة الذي ينفتح على الالتزامات العقيديّة التي توحّد الناس ليكونوا أمّة واحدةً، باعتبار أنّ الوحدة ـــ فيما يجمع الناس ـــ تنطلق من الوحدة في العقيدة والتصوّر والخطّ والسلوك. وهذا ما يتمثّل في التقوى التي دعا الخلق للأخذ بها، باعتبارها تنطلق من الاعتقاد بالله في ربوبيّته المطلقة، وهيمنته المسيطرة، وقاهريّته القويّة، ما يفرض عليهم الاتّقاء منه فيما يتحرّكون به في أعمال العبادة، وامتدادات الطاعة، والتطلُّع إلى مواقع القرب منه.

وإذا كان خطّ الرسل واحداً، فلا بدّ من أن تكون رسالاتهم في حركة أتباعهم واحدةً، في إقامة الحياة على كلمة الله، وتحصيل رضاه بذلك.

وهذا ما يجمع الدعاة إلى الله والأدلاّء عليه، بعيداً عن العلاقات الشخصيّة، والمنافع الذاتيّة. وهو ما يجعل المؤمن يعيش في دائرة الوحدة بعيداً عن الأوضاع العائليّة والعرقيّة والإقليمية، ونحو ذلك ممّا يختلف الناس فيه أو يتوحّدون. فلا بدّ من إقامة الوحدة على هذا الأساس، بحيث يشكّل ذلك القاعدة والمنطلق، مع مراعاة الوحدات الإنسانيّة الصغيرة أو الكبيرة، في الجانب الذاتي للمؤمن، والعنصر العاطفي الذي يربطه بها. فالإسلام لا يريد إلغاء العنصر الذاتي للإنسان، بما يتضمّنه من أحاسيس ومشاعر، بل كلّ ما يريده هو أن لا يؤثّر ذلك على حركة المسؤوليّة الرساليّة في حياته.

وهكذا نستوحي أنّ الوحدة الرساليّة، في حركة الرسل في رسالاتهم، تدخل إلى الوحدات الأخرى عند الإنسان، فتبقى إيحاءات التوحيد الإلهي عميقة في الوحدة العائليّة والقوميّة والاجتماعيّة، باعتبارها خاضعةً لتقوى الله في كلّ خصوصيّاتها، فلا تسقط أمام العصبيّة التي تجعل الإنسان يعيش الغفلة عن ربّه في العقيدة، باعتباره سرّ وجوده في كلّ العناوين الأخرى. وبذلك لا يكون ثمّة تناقض بين الالتزام بأيّ وحدة من هذه الدرجات، وبين الالتزام بتوحيد الله في امتداده في كلّ عناصر الوجود الإنساني. وهذا ما توحي به كلمة التقوى في الدعوة الإلهيّة للرسل وللنّاس، من خلال الأخذ بأسباب التقوى في قوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.

 

 

وحدة العبوديّة لله

ونقرأ هذه الوحدة في عنوان الأُمّة التي طرحتها الآية المباركة؛ هذا العنوان الذي قد يُراد منه الخطّ الرساليّ الذي يوحّد الرسالات، وقد يُراد منه الجماعة التي تلتقي في امتدادها الجماعيّ في اتّباع الرسل، الذين يعملون من أجل توحيد الناس على كلمة الله وعبادته، وذلك هو قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.

وهذا هو الجوّ الرسالي الروحي الذي يرعاه الإيمان بالتوحيد، وتتعهّده الرسالات بالوحي، ويطلّ الله عليه بالربوبيّة المطلقة، ليشعر الناس أنّهم يتوحّدون، ويجتمعون باسمه، ويتحرّكون من خلاله نحو الهدف الواحد في دنياهم وآخرتهم، ويتمثّل ذلك في عبادته التي هي المظهر الحيّ للتوجّه إليه والعمل بما يرضيه والبعد عمّا يسخطه، في ما يفرضه ذلك من تنفيذ إرادته في أمره ونهيه للحصول على رضاه.

إنّها وحدة الإنسان من خلال وحدة الله، كما توحي به وحدة العبادة أمام وحدة المعبود؛ هذه الوحدة التي تنطلق من ذاتيّتها لا من العوامل الطارئة عليها، فالكلّ عباد الله فيما تختزنه شخصيّاتهم من سرّ العبودية لله المنطلقة من معنى المخلوقيّة فيهم وحاجتهم إليه في كلّ شيء، وما يوحي به ذلك من إذعانٍ عميق لربوبيّته المهيمنة على الوجود كلّه، في عمقه وامتداده وشموله وفي كلّ تفاصيله.

وهذا ما يريد الله تعالى أن يثيره في الناس؛ أن يلتقوا ويجتمعوا ويتعارفوا ويتعبّدوا إليه من موقع الوحدة في العبادة التي تحرّك فيهم الإحساس بالمسؤولية للقيام بواجباتهم في دوائرهم الصغيرة المتّصلة بالدائرة الكبيرة، لئلاّ ينغلقوا على خصوصيّاتهم، بل ليروا العموم في الخصوص، والشمول في الحدود.

اختلاف التشريع لا ينفي وحدة الرسالات

وفي ضوء ذلك، ومن خلال كلمة (الأُمّة الواحدة) كعنوانٍ لأمّة الرسل وأتباعهم، نستوحي الدعوة إلى أن يتمثّل المؤمنون الموحّدون معنى الوحدة في اكتشاف العنوان التوحيدي الذي يوحّدهم، والانفتاح على التنوّع في خصوصيّات الأحكام الشرعية، أو المفاهيم الخاصّة، على أساس ما تمثّله من طبيعة التنوّع في الحاجات الطارئة في تغيّر الزمان الذي يؤدّي إلى تبدّل الأوضاع والتطوّرات التي قد تفرض تحليل ما حُرّم سابقاً، أو تحريم ما أحلّ، من دون أن تنصب هذه التعدّدية الحواجز بين رسالة ورسالة، ممّا يفرض الإيحاء بتعدّد الدّين كما لو كانت الأديان المتدرّجة مختلفة في القاعدة والتفاصيل، فتؤدّي ـــ جرّاء ذلك ـــ إلى ما تؤدّي إليه من التعقيدات النفسيّة لدى الناس في تنوّع التزاماتهم الدينيّة.

وحدة دعوات الأنبياء

ونتابع هذا الخطّ التوحيدي ـــ في آيات القرآن ـــ في العنوان الواحد الذي تلتقي عنده دعوات الأنبياء، فقد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}(1)، حيث إنّ العنوان الكبير في الدعوة هو عبادة الله، باعتبار أنّ إيمان الإنسان بالله يختزن في داخله الإيمان بوحدانيّته وربوبيّته التي توجّهه إلى عبادته، بكلّ ما توحي به العبوديّة من الخضوع له، والذوبان فيه، والالتزام بأوامره ونواهيه، والتطلّع إلى الحصول على القرب منه في مواقع رضاه.

ولعلّ العدول ـــ في لسان الآية ـــ إلى الدعوة إلى العبادة، بدلاً من الدعوة إلى الإيمان بتوحيده وألوهيّته، ناشئ من أنّ المطلوب هو الإيمان في الجانب العملي، بحيث يتمثّل بذلك التوحيد في الرابطة الواقعيّة بين المؤمن وربّه، في عمليّة الالتزام المنفتح على كلّ معاني وحدانيّة العبادة.

وبذلك يتمثّل اجتناب الطاغوت في رفض الشريك لله، سواء كان الطاغوت صنماً يتعبّد له المشركون، أو شخصاً يدّعي الربوبيّة لنفسه ويدعو الناس إلى الخضوع له، أو منهجاً ممّا يشرّعه المشرّعون خلافاً لشريعة الله، أو مفاهيم منحرفة عن الخطّ الإسلامي الأصيل؛ لأنّ ذلك هو مصداق الطاغوت الذي يعبّر عن الطغيان الذي يتجاوز فيه الإنسان إرادة الله فيما يتعبّد به في أموره كلّها.

وقد استجاب الرسل لهذه الدعوة التي بعثهم الله بها، فقد جاء في قوله تعالى ـــ في مقام الحديث عن نوح (عليه السلام): {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(2). وجاء في قوله تعالى ـــ في الحديث عن هود (عليه السلام) ـــ: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}(1)، وعن صالح (عليه السلام) جاء قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}(2)، وعن شعيب (عليه السلام) قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}(3)، وفي قوله تعالى ـــ في حديثه عن إبراهيم (عليه السلام) ـــ: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ}(4).

وهكذا كانت الدعوة إلى عبادة الله الواحد، هي الدعوة الواحدة التي زوّد الله بها الرسل مع اختلاف أُمَمِهم وأزمانهم، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(5).

وفي ضوء ذلك كلّه، نستوحي أنّ من مسؤولية المؤمنين، في التزامهم الإيمانيّ، أن يلتقوا على هذه الكلمة التوحيديّة، ليحوّلوها إلى حالةٍ عباديّة ينفتحون من خلالها على الالتزام برسلهم، بأن يتبعوهم من خلال ما يمثّلونه من الوحدة، بحيث لا يفرّقون بينهم مع اتّحادهم في رسالاتهم، حتّى لا يبتعدوا عن الخطّ المستقيم الذي تمثّله الآية الكريمة: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(6).

وخلاصة الفكرة التي رمنا بيانها، أنّ القاعدة الدينيّة التي تمتدّ منها كلّ الخطوط التفصيليّة هي قاعدة الوحدة، فالدين واحد، والتفاصيل متنوّعة في حركيّة الالتزام بالقاعدة.

 

 

انتصار الإسلام

ونحن إذ نتحدّث عن ذلك، فإنّنا نعيش هذا الانتصار الكبير في هذه المرحلة التي عشناها في لبنان، وهي المرحلة التي عشنا فيها المعركة التي خاضها المجاهدون بكلّ قوّة وعنفوان، وسطّروا فيها أسمى آيات البطولة؛ هذه المعركة التي خاض فيها شبابنا المجاهد الحرب ضدّ أعداء الله وأعداء رسوله، ضدّ اليهود، وضدّ أميركا، لأنّ الحرب كانت حرباً أميركية خطّطت لها الإدارة الأميركية، وتحالفت فيها استراتيجياً مع إسرائيل، من أجل إسقاط المقاومة الإسلامية، كما كلّ مواقع الممانعة والمقاومة في المنطقة العربية والإسلامية؛ لأنّ المقاومة في لبنان استطاعت أن تحرِّر لبنان في سنة 2000 ميلادية من الاحتلال الإسرائيلي، وأن تهزم إسرائيل، وأن تمنع تحويل لبنان قاعدة للسياسة الأميركية؛ هذه السياسة التي عبّرت عنها وزيرة خارجية أميركا، بأنّها مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي تريد أميركا من خلاله أن تسيطر على المنطقة، سواء عبر احتلالها المباشر أو غير المباشر.

لقد صمد المجاهدون في هذه المعركة التي فرضت عليهم، واستطاعوا في مدى شهرٍ وأكثر أن يُنزلوا الهزيمة بالجيش الإسرائيلي الذي كان يقال عنه إنّه الجيش الذي لا يُقهر، والذي يُعتبر خامس جيشٍ أو رابع جيشٍ في العالم. لقد اندفعت إليه مجموعة من شبابنا المجاهدين الذين آمنوا بربّهم وزادهم هدىً، هؤلاء الشباب المؤمنون الحُسينيّون البدريّون الذين يستأنسون بالشهادة استئناس الطفل بمحالبِ أُمّه.

لقد عبّر بعضهم بأنّ هذه الحرب هي أوّل حرب تخوضها إسرائيل بشكلٍ فعلي، وقد انتصر فيها الإسلام على الكفر، وبرز فيها موقع خطّ أهل البيت (عليه السلام) في حركة الصراع في القضايا الكبرى. ولذلك رأينا العالَم الإسلامي بعلمائه، وشبابه، وسياسييه، يقف ليشيد بهذه الطليعة المجاهدة.

إنّها الحرب التي انتصرت فيها هذه الفئة القليلة من المجاهدين، الذين استطاعوا أن يعطونا بدراً جديدة وخيبراً جديداً.. ولذلك فإنّ هؤلاء المجاهدين هم موقع اعتزازنا، لأنّهم أعادوا إلى الأمّة كرامتها وحريّتها وقوَّتها، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(1)، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى...}(2) كانت هناك أمور غيبيّة في المعركة، والله يعلم أنّ هؤلاء باعوا أنفسهم لله، ولذلك نصرهم الله. ولذلك، لا بدّ من أن نأخذ منها دروساً كثيرة في حركة الصراع التي يخوضها المسلمون والمستضعفون ضدّ المستكبرين ومشاريعهم التي يُراد فرضها على المنطقة العربية والإسلامية. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة العشرون

16 شعبان 1427 هـــ ـــ 9/9/2006م

 

 

عنوان الرسالات

 

الدين: الإسلام في بعده الشمولي.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

عنوان الرسالات

ما هو العنوان الكبير للدّين في القرآن من خلال ما أراد الله أن يجعله للناس جامعاً في امتداد الرسالات، بحيث يلتقي الرسل عليه، ويلتزم الناس مضمونه؛ ليتوحّدوا فيه، ويجدوا في خطوطه هويّتهم في الانتماء إلى الله والانفتاح عليه؟

نلتقي في هذا المجال بقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}(1). إنّه يحدّد الدّين بعنوان الإسلام، وهو بذلك يشير إلى الإسلام في بُعده الشمولي، وانفتاحه الروحي الذي تتمثّل فيه الشخصية، ويتحرّك فيه السلوك، من خلال سعة التصوُّر ـــ في الأُفق الفكري ـــ الذي يلتقي بالمطلق في التوحيد العقيدي، في البعد الروحي وفي الالتزام العملي، بحيث يتوجّه الإنسان فيه إلى قوّةٍ واحدة، في خطٍّ مستقيم لا ينحرف يميناً ولا شمالاً.

وبذلك، فإنّ كلمة {الإِسْلاَمُ} تشمل كلّ خطوط الرسالات، وليست مختصّة بالدّين الذي أنزله الله على النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل إنّ ما أنزل على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ في مضمونه الفكري والتشريعي ـــ يلتقي مع هذا العنوان العام.

وقد جعل الله هذا العنوان في صلوات الإنسان كلّها؛ هذه الكلمة التي تمثِّل انفتاح الإنسان على الله بكلِّ وجوده، بحيث لا تكون له وجهة إلاّ الله، وهذا ما عبّرت عنه الآية: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}(2) أن يُسلِم وجهه، أن يُسلِم ذاته. وكلمة الوجه في الإسلام تُطلق عادةً على الذّات وعلى الكيان، بمعنى أن يستسلم الإنسان لله، بحيث لا يرى في وجوده غيره...

وقد تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن إسلام الكون، وأنّ كلّ ما فيه خاضعٌ له؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي رتَّب كلّ نُظمه وأبدع كلّ قوانينه، سواءً كان في حركة الوجود والتكوين، أو في حركة وجود الإنسان والحيوان، وهو قول الله سبحانه وتعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(1)، فكلّ مَنْ في السموات والأرض أسلم لله، باعتبار أنّ حركة وجوده في كلّ عناصر حياته خاضعة لله سبحانه وتعالى.

أمّا كيف نتمثّل هذا العنوان؟ نتمثّله بالانفتاح على الله في كلّ شيء؛ بأنْ يجعل الإنسان حياته كلّها لله، فيما يأمره به أو ينهاه عنه، أو يقوده إليه من أهداف كبيرة في الحياة. وبذلك لا بدّ له من أن ينفتح على كلّ الرسالات ويصدّق بها كلّها؛ فلا يخضع لعصبيّة عمياء تحجب عنه إشراقة الحقّ، فتؤدّي به إلى العناد والاستكبار والبعد عن الطريق المستقيم، فينكر ـــ من خلال ذلك ـــ الحقائق الواضحة التي لا سبيل إلى إنكارها، ويتنكّر للبيّنات التي لا مجال للشكّ فيها. وهذا يشمل كلّ ما جاء به الرسل؛ لأنّ كلّ رسالة إنّما تمثّل الخطّ الذي يريد الله للناس أن يسيروا عليه في مرحلتها المحدودة، الأمر الذي يجعل الإسلام متمثّلاً فيها؛ لأنّ السير عليها مصداق للاستسلام والخضوع لإرادة الله سبحانه.

أمّا إذا انتهت هذه المرحلة لتبدأ مرحلة جديدة، من خلال رسالة جديدة ورسولٍ جديد، فإنّ الإسلام يتمثّل في السير على خطّ هذه المرحلة الجديدة، ويكون البقاء في تفاصيل الخطّ الأوّل الذي يختلف معها منافياً للإسلام في مدلوليه الروحي والعملي، فالإسلام هو صفة كلّ الأديان، ولكن في نطاق المرحلة التي يتّسع لها كلّ دين فيما حدّده الله له من مراحل زمنيّة محدودة.

 الإسلام بين الشكل والمضمون

وقد جاء في نهج البلاغة عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال: "لأنسبنَّ الإسلام نسبةً لم ينسبها أحدٌ قبلي؛ الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل"(2).

هذا القول يؤكّد أنّ مسألة الإسلام ليست مسألة خضوع واستسلام شكلي يتحرّك بطريقة آلية لا روح فيها ولا عمق، بل هي انفعال النفس بالفكرة والخطّ، بحيث تنحني كلّ حالة ذاتية أمامها، وذلك من خلال اليقين الذي يمثّل وضوح الرؤية للأشياء، ووعي الفكر للعقيدة. أن يتحرّك الإنسان من موقع الاقتناع الذي تخضع فيه الذّات لكلّ المعطيات والمتطلّبات، ما يجعله يستسلم استسلاماً إرادياً واعياً منفتحاً، بحيث يعرف ما يريد وما لا يريد، لا مسألة استسلام أعمى خاضع للإرث التقليدي والانفعال العاطفي. وإذا كان اليقين هو حالة العلم الذي يكشف مفردات الحقائق، فلا بدّ من التصديق الذي يجعل العلم متجذِّراً في الذّات من موقع الاعتقاد القلبي، بحيث يجعل العقيدة من خصوصيّات الذّات في الحسّ والشعور.

وإذا تحقّق التصديق، فإنّه يجتذب الإقرار الذي يعني الانتماء إلى الفكرة من موقع الإقرار بها والإعلان عنها؛ لأنّ القناعة بالانتماء تؤدّي إلى شجاعة الاعتراف بمقتضاه، وهكذا يتحوّل الإقرار الذي يمثّل الالتزام الجدّي الواضح الصريح، إلى التزام بالمسؤولية وبالأداء الحركي الذي هو العمل في مظهره الحيّ، وهو الطاعة بامتثال أوامر الله ونواهيه.

ومن خلال ذلك نعرف أنّ الإسلام ليس كلمةً مجرّدة، وليس عملاً جامداً، بل هو كلمة حيّة فاعلة تنطلق من عقيدة صادرة عن اقتناع عميق، وموقف يتحرّك في خطّ الالتزام بالمسؤولية وحركة العمل. إنّ مسألة الإسلام هي مسألة روح في معنى الذّات، والتزامٍ في خطّ العمل، وعلم في آفاق الإيمان.

نحو حوارٍ موضوعي

ثمّ يتابع القرآن الكريم: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}(1)، فقد ابتعدوا عن روحية الإسلام، واستسلموا للعوامل الذاتية في تعاملهم مع خطّ العقيدة والعمل، فانطلقوا بروحية البغي والعدوان، يثيرون الخلافات التي تفرّق الناس عن الحقّ، من دون أن يكون لهم أساس من شبهة فكرية، أو قاعدةٍ علمية، بل المسألة على العكس من ذلك؛ فهم يعرفون الحقّ ويعلمون ما جاء في كتاب الله الذي أنزله الله على موسى وعيسى (عليهما السلام).

وذلك هو أساس التفرُّق، في ما يتفرّق به أهل الأديان وأهل المذاهب في الدّين الواحد، فهم لا يُسلِمون فكرهم وعقلهم لله عندما يتناقشون، ليجدوا الانفتاح الذي لا مجال معه للانغلاق على روح العصبية العمياء، ولو أسلموا أنفسهم لله لانطلقوا إلى البحث عن الحقيقة، وتعاونوا على فهمها لإزالة الغموض عنها، بحيث يتسابقون إلى اللّقاء عليها بدلاً من التسابق إلى الوقوف عند الحدود التي كانوا فيها، من دون أيّ رغبة في التقدّم إلى موقف الآخر، أو إلى منتصف الطريق، حيث تنتظرهم الحقيقة هناك.

وبذلك، فإنّ المشكلة في الخلافات الدينية ـــ في أغلب الحالات ـــ روحية ونفسية أكثر منها فكرية وعلمية. ونحن نعرف أنّ الوصول إلى القناعات المشتركة، يفرض إزالة الحواجز التي تمنع من اللّقاء وتدفع إلى التعصُّب والعناد، ولن يكون ذلك إلاّ إذا فتح الإنسان قلبه لله، في روحية المؤمنين الذين يقولون: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(1).

ثمّ يعقّب تعالى بقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(2)؛ لأنّ الكفر لا ينطلق من قاعدةٍ فكرية يُعذر فيها الإنسان، بل ينطلق من الخضوع للجهل والبغي الذي يدفعه للاعتداء على الآخر، ومن العناد الذي يدفعه إلى إنكار وحي الله وآياته التي أنزلها على رسله، وشرائعه التي ألقاها على أنبيائه وألهمهم تفاصيلها. وربّما كان من هذه الآيات ما ورد في الكتب السماوية السابقة من أوصاف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلاماته الدّالة على نبوّته، ممّا بقي من تراث اليهود والنصارى، وقد أنكرها هؤلاء بغياً وحسداً للمحافظة على أوضاعهم وامتيازاتهم التي حصلوا عليها بفعل التراكمات التاريخيّة في حركة السلطة والرئاسة في مواقعهم المختلفة. ولذلك، فإنّ الله سيحاسبهم حساباً عسيراً، وفي ذلك إيحاء بأنّ على الإنسان أن يركّز قناعاته على أساس متين من الحجّة والبرهان، ليستطيع الدفاع عنها والاحتجاج بها أمام الله عندما يقف للحساب بين يديه {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(1).

{فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}(2)، فهذا هو الذي ينبغي أن يعلنه النبيّ على الناس كافّة؛ لأنّ ذلك هو سبيل الانفتاح الواعي على الحقّ الآتي من الله في موقع الجدال والنزاع. وهذا ما أراد الله لنبيّه أن يعلنه لكلّ مَن يحاجّه، وهو الذي أسلم وجهه لله من خلال إسلامه الروحي والعملي، كما أسلم أتباعه وجوههم لله من خلال التزامهم بخطّ الرسالة والرسول الذي هداهم إلى العقيدة الحقّة والخطّ الصحيح.

وفي ضوء ذلك، تنطلق الدعوة إلى الحوار العملي الموضوعي الذي يرتكز على الحجّة والبرهان لكلّ الذين يختلفون مع المسلمين، في الدّين أو في الرأي أو في أيّ جانب من جوانب وعي الحقيقة المتحرِّكة في الحياة، من دون أيّة عقدة ذاتية أو مشكلة نفسية؛ لأنّ المسألة عندهم هي أنّهم أسلموا وجوههم لله، فهو الذي يتوجّهون إليه بعقولهم، لتكتشف ـــ من خلال هدايته ـــ الحقيقة، كلّ الحقيقة، في قضايا العقيدة والحياة.

ويبقى أنّ على الآخرين الاستجابة لهذه الدعوة الإنسانيّة الحضارية الحوارية، من أجل الانطلاق نحو الموقف الواحد المرتكز على العقل الواعي والفكر الصحيح. وهذا هو المنطق الذي أراد الله لنبيّه وللمسلمين أتباعه أن يخاطبوا به أهل الكتاب، ليقودهم إلى إسلام وجوههم لله كما أسلم النبيّ ومن تبعه وجوههم لله، ليلتقيَ الجميع على الإسلام الذي يمثِّل روحية البحث عن الحقيقة من خلال الفكر والحوار.

{وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ} وهم ـــ أيّ الأمّيون ـــ المشركون؛ لأنّهم لم يملكوا كتاباً سماوياً حتّى يكون حافزاً لهم على تعلّم القراءة والكتابة ـــ كما قيل ـــ. {قُلْ} لهم، ممّا تثيره أمامهم من البيّنات والحجج على أحقيّة الرسالة: {أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ}، واستجابوا لك في طريقة الحوار الخالي من التعقيد والتعصُّب، وفي مواجهتهم للحقائق بروح منفتحة خاشعة لله ولآياته، {فَقَدِ اهْتَدَواْ} إلى الجوّ الطاهر الذي يهديهم إلى الحقّ في اتّباع سبيلك، في ما بلّغت وفي ما هديت إليه.

{وَّإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا وانطلقوا يكيدون لك في خطّ العناد والاستكبار، فلا تحزن ولا تتعقّد {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} وتلك هي مسؤوليتك التي قمت بها خير قيام، وأمّا الحساب فليس من مسؤوليتك. فقد أدّيت ما عليك من واجب الإبلاغ والإنذار، وانتهت مهمّتك عند هذا الحدّ من خلال صفتك كرسول يبلّغ رسالة الله، {وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(1). ويبقى لله أن يواجههم بنتائج أعمالهم، فإنّه بصير بعباده في كلّ شيء.

وقد نستوحي من ذلك، سبل مواجهة بعض الفئات التي ندخل معها في قضايا الحوار. فإنّ من الضروري لنا أن نواجه الموقف ـــ في داخل وجداننا ـــ من موقع الإسلام لله الذي يجعل الإنسان يتقدّم إلى الحوار من خلال الروح الطيّبة النقيّة النظيفة التي أسلمت فكرها لله، لا من خلال الأفق الضيّق الذي يقوده إلى التعصّب الأعمى، لأنّنا نلاحظ، في هذا المجال، أنّ الدعاة إلى الله قد يتحرّكون من موقع العقدة الذاتية ضدّ خصومهم، فيمارسون بعض الأساليب التي لا تتّفق مع خطّ الإيمان وأسلوبه العملي في الحوار، فيسيئون إلى الفكرة من حيث يخيَّل إليهم أنّهم يحسنون صنعاً.

ولذلك، لا بدّ لهم من أن يرتفعوا إلى مستوى هذا الأسلوب الذي يعلن فيه الرسول إسلامه لله من موقع الحاجة إلى تأكيده هذا الإسلام في العقيدة والموقف والحوار، ثمّ يبدأ الحوار من هذه القاعدة، ليثير السؤال أمامهم عن وصولهم إلى القناعة التي تقودهم إلى إسلام الوجه والقلب واللّسان والعمل لله، مستخدماً في ذلك كلّ الوسائل التي تقودهم إلى الهداية، فإنْ لم يهتدوا بعد استنفادها، فلا مجال للتعقيد والانفعال أو السباب وغيرها من الأساليب التي تعبّر عمّا في الذّات من الحالات الانفعالية، بل على الإنسان أن ينسحب بكلّ هدوء ويترك الآخرين لضلالهم بعد أن أقام عليهم الحجّة؛ فقد أدّى واجبه؛ لأنّ خطّ الدعوة إلى الله يتمثّل في إقناع الآخرين بالحقّ، أو في إقامة الحجّة عليهم، فإذا بلغ أحدهما فقد انتهت مهمّته.

الإسلام الإبراهيمي

وهكذا نواجه كلمة الإسلام في كلّ الرسالات، فكلّ رسول يأتي بالإسلام؛ لأنّه يدعو إلى أن يُسلم الناس أمرهم لله، وأنْ يخضعوا ويستسلموا له، فليس هناك أمرٌ إلاّ أمره، وليس هناك طاعة إلاّ له، وليس هناك عبادة إلاّ عبادته.

ونقرأ في القرآن الكريم أنّ إبراهيم (عليه السلام) هو الذي عمد إلى تطبيق هذا العنوان الكبير ـــ عنوان الإسلام ـــ على نفسه وعلى أبنائه، فعندما بدأ إبراهيم (عليه السلام) ومع ابنه إسماعيل (عليه السلام) في بناء البيت ورفع قواعده {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، لم تكن عملية البناء لتشغله عن التفكير، فكانا يرفعان القواعد ويبتهلان إلى الله ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}(1). نحن نبني بيتاً لك ليعبدك الناس فيه، وأنتَ أمرتنا بذلك في قولك: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(2)، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الذي تسمع دعاءنا وتعلم ما نحتاجُ منه.

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}، فهما يبتهلان إلى الله أن يرزقهما الإسلام؛ إسلام العقل، حتّى لا يتحرّك العقل إلاّ بالحقّ، وإسلام القلب حتّى لا ينفتح القلب إلاّ على الخير، وإسلام الوجه، حتّى لا يتوجَّه الإنسان إلاّ إلى ما يُرضي الله، وإسلام الحياة كلّها، حتّى لا يتحرّك الإنسان إلاّ بطاعة الله، {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً}، فهما لا يفكّران في أنفسهما فقط، ولكنّهما كانا يفكّران في ذرّيتهما، فهما لا يريدان لها أن تنحرف عن طريق الله سبحانه وتعالى، بل يريدان أن يعمِّقا الإسلام الذي عاشاه في حياتهما وطلبا من الله أن يحقّقه بالعمق في كيانهما، ويريدانه لذرّيتهما في أن تكون أمّة مسلمة، لتكون مجتمعاً مسلماً في الأبناء والبنات وكلّ الأهل.

وهذا ما ينبغي لنا أن نفكّر فيه، وهو أن ننفتح على المستقبل عندما ننفتح على الرغبة في أن يرزقنا الله الذرّية؛ أن نطلب من الله أن يجعل من ذرّيتنا أمّة مسلمة، وأن يحقّق فيها المجتمع المسلم.

{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}، يعني فروض العبادة في الحجّ {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. ونحن نعرف أنّ التوبة عندما تصدر من الأنبياء المعصومين، فإنّها تمثّل التواضع لله، وتمثّل الخضوع له وهم يقفون بين يديه كما يقف العبد أمام سيّده يتضرّع إليه ويرجع إليه، حيث التوبة تمثِّل خطّ الرجوع إلى الله، وخطّ الإخلاص له وخطّ الانفتاح عليه.

ثمّ يفكّران في المستقبل البعيد، عندما يُعمر هذا البيت، ويتحوّل ما حوله إلى قرية أو إلى مدينة، فإنّ أهلها سيحتاجون إلى الموعظة وإلى الإرشاد وإلى الدعوة إلى الإسلام لله سبحانه وتعالى، ولذلك يتطلّع إبراهيم (عليه السلام) ومعه إسماعيل (عليه السلام) إلى رسولنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو من أولادهما، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)  ينتمي إلى إبراهيم وإسماعيل، فيطلبان من الله سبحانه وتعالى أن يبعث في هذه الأمّة المسلمة رسولاً منهم، {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} فيما تُنزله عليه من الوحي {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، والكتاب هو القرآن، والحكمة هي الخطّ التنفيذي الذي يعرف فيه كلّ إنسان كيف يضع الأشياء في مواضعها، {وَيُزَكِّيهِمْ}، يطهِّر عقولهم من الباطل، وقلوبهم من الشرّ، وحياتهم من المعصية، {إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.

ملامح الخطّ الإبراهيمي

ثمّ يركّز الله سبحانه وتعالى على هذا الخطّ الإبراهيمي، فيقول: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}، أي أنّ الشخص الذي يبتعد عن ملّة إبراهيم وينحرف عنها ويتّخذ لنفسه طريقاً آخر وملّةً أخرى، وذلك بأن يُشرِك بعبادة ربّه، ويتمرّد عليه، ولا يُسلم أمره إليه، إنّ هذا يمثّل السَّفَهَ كلَّ السَّفَهِ، لأنّ السَّفيه هو الذي يتصرّف فيما يُبعده عن خطّ الصلاح، ويقرِّبه من خطّ الفساد، ممّن يتحرّك في خطّ الخسارة ولا يتحرّك في خطّ الربح. ولذلك فإنّ الذي يترك ما فيه نجاته وما فيه سلامة مصيره في الدنيا والآخرة، هو الإنسان الذي سفّه نفسه وكان نموذجاً للسَّفيه.

{وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أي اخترناه ليكون نبيّاً وإماماً ورسولاً، وليكون داعيةً إلى الله سبحانه وتعالى، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}(1)، باعتبار أنّ الله يحشره في مجتمع الصالحين من {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً}(2).

قصّة إسلام إبراهيم (عليه السلام)

وهنا نكتشف البداية، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}(3)، وقد كان إبراهيم (عليه السلام) مسلماً منذ طفولته. وإذا كان القرآن يتحدّث عن أنّ إبراهيم (عليه السلام) تدرّج في مسألة الإيمان، عندما رأى كوكباً فقال هذا ربّي، ثمّ تراجع عن ذلك، وعندما رأى القمر بازغاً قال هذا ربّي، ثمّ تراجع عن ذلك، وعندما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربّي ثمّ تراجع عن ذلك، وطلب من الله الهداية بقوله: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}(4)، لكنّ هناك مَن يقول إنّ إبراهيم عبّر بهذا الأسلوب عن قلقه، وعن مواجهته لهذه الاحتمالات.

ولكنّ الرأي الأقرب، هو أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان يطرح هذه الأمور أمام قومه في عملية مناقشةٍ لهم، وذلك بأن يظهر أمامهم بأنّه يعيش فكرة ثمّ يسقطها، ليستمع إليه قومه في ذلك، لأنّ إبراهيم كان منذ البداية مسلماً، وهذا ما كان ملاحظاً في طفولته، حيث كان يذهب إلى دار الأصنام وكان يكسّر هذه الأصنام، وأُتي بإبراهيم، واتّهم بذلك، {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}(5)، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}(6).

وهذا ما قصّه الله سبحانه وتعالى علينا في سورة مريم، حيث كان إبراهيم (عليه السلام) يخاطب أباه وهو في سنّ مبكرة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً*إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً}، إنّه يتحدّث معه ويقول له: أنتَ تعبد حجارة لا تملك شيئاً من الحسّ، ولا تملك شيئاً من الوعي، ولا تملك أيَّ سرّ يمكن أن يجعل منها شيئاً يحترمه الإنسان العاقل لينطلق إلى عبادته، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}. هب أنّي لا أزال صغيراً وأنّك أبي الكبير، ولكنّ المسألة في قضايا الوعي وفي قضايا العلم لا تخضع للسنّ، فقد يعلم الصغير الكبير، لأنّ الصغير يملك من العلم ما لا يملكه الكبير، {فَاتَّبِعْنِي} في هذا العلم الذي أملكه، والذي يفتح عقلك على توحيد الله والإيمان به وعلى الحقّ كلّه.

{أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}، لا ينحرف عن خطّ الحقّ وخطّ الرُشد، {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}، فهو الذي يقودك إلى هذه العبادة، لأنّه لا ينصح الإنسان ولا يريد له الصلاح، بل يريد أن يبعده عن خطّ السلامة في الآخرة وفي الدّنيا، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}، وإذا عصى ربّه فكيف يمكن أن يثق الإنسان به، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن}، لأنّك إذا أشركت بالله غيره، فإنّك سوف تواجه عذاب الله في سخطه، وفي كلّ البعد عن مواقع الرضا. وهو لم يناقش ولده ولم يدخل معه في حوار.

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} لا بدّ للأبناء من أن يتّبعوا ما عليه آباؤهم، وأن يرغبوا بما رغبوا فيه، وقد رغبت أنا في عبادة الأصنام، وأنتَ تعبِّر عن رغبتك في الابتعاد عن آلهتي، إذاً {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} عن هذا العمل {لَأَرْجُمَنَّكَ} بالحجارة {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}، اخرج من بيتي. {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ} هذا هو الأدب الإسلامي الإيماني الذي يؤدّب به المسلم المؤمن في مواجهته لكلّ الذين يمارسون العنف معه، سواء كان عنفاً في الكلمة أو في السلوك، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أن يهديك سواء السبيل {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} إنّه كان يحبّني ويقرِّبني إليه {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} من الأصنام {وَأَدْعُو رَبِّي} ليحقّق لي الهداية والسعادة في الدّنيا والآخرة، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً}(1).

فنحن نقرأ في كلّ هذا الحوار بين الابن وبين أبيه، أنّ إبراهيم كان منذ طفولته مسلماً ومؤمناً، وبذلك عندما قال له ربّه أسلم، فإنّ الله لم يرد أن يختبره، وإنّما أراد له أن يُظهر التزامه بالإسلام ليلتزمه الآخرون، ليكون المنطلق للخطّ الإيماني الإسلامي في هذا المجال.

أوّل المسلمين

ولذا نستوحي ممّا تقدّم، أنّ ما طلبه الله من إبراهيم في إعلان إسلامه {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(1)، إنّما هو ما أراده الله سبحانه أن يعلنه. وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}(2). وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أكثر من آية: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}(3)، يعني أنّني لست من الذين يدعون الناس إلى الالتزام بخطٍّ ولا يلتزمون به، بل أكون أوّل الملتزمين به {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}(4)، أعلن إسلامك في هذا المجال، وفي آيةٍ أخرى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(5)، وفي آيةٍ أخرى: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(6).

ويتابع القرآن المسألة في إعلان المسلم إسلامه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(7). حتّى إنّنا نجد ذلك في حوارنا مع أهل الكتاب، وذلك حيث يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(8).

وهكذا نعرف كيف أنّ الأنبياء يطلبون من الله أن يتوفّاهم على الإسلام، وأن يستمروا في التزامهم الإسلامي. فيقول تعالى على لسان إبراهيم (عليه السلام): {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(9). ثمّ نلاحظ أنّ إبراهيم (عليه السلام) عندما أعلن إسلامه، أراد لإسلامه أن يمتدَّ في نسله، كما في دعائه عند رفع القواعد من البيت: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(1). أسلموا في حياتكم، وليستمرّ هذا الإسلام بحيث تنهوا حياتكم عليه.

وقال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} كان يعقوب في حال الاحتضار، ـــ وأراد أن يطلق وصيّته الأخيرة لأبنائه: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي}، فأنا أريد أن أطمئن ألاّ تعبدوا الأصنام، {قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(2)، نسلم لله سبحانه وتعالى، فهذا هو خطّنا المستقبلي.

إخلاص إبراهيم (عليه السلام)

ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى يتحدّث عن إخلاص إبراهيم (عليه السلام) له سبحانه وتعالى وإسلامه له، وهو الذي انطلق من موقع إلى موقع، وقام بما أراده الله منه، وواجه طاغية زمانه النمرود، عندما {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}(3).

وهكذا نلاحظ أنّ إبراهيم (عليه السلام) واجه قومه بكلّ قوّة، حتّى لم يجدوا أيّة وسيلة لردعه إلاّ أنْ هيّأوا له ناراً وألقوه فيها ليحرقوه، لكنّ الله سبحانه وتعالى قال: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(4).

وهكذا تحدّث الله عن إبراهيم أنّه كان أُمّةً، بحيث إنّه كان يمثّل الأُمّة كلّها، الأُمّة المسلمة المنفتحة على الله، فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ} مطيعاً عابداً له {حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ*شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}(5).

وهكذا نجد كيف أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان النبيّ الذي أعطى الإسلام حركيّته في كلّ دعوات الأنبياء. ولذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى أراد لهذا الخطّ الإبراهيمي أن يكون خطّاً للإسلام كلّه وللرسالات كلّها، ونحن نقرأ في القرآن الكريم: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}(1). فهذه التسمية التي نتشرّف بها ونلتزمها، انطلقت من إبراهيم (عليه السلام)، فملَّة الإسلام في معناه التوحيدي الذي ينفتح فيه الإنسان بكلّه على الله، انطلقت من إبراهيم، وامتدت حتّى وصلت إلى مواقع هذا الدّين الذي جاء به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وهكذا لا بدّ لنا من أن ننطلق في هذا الاتجاه، ونقرأ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}، أي كان مستقيماً مائلاً عن الخطّ المنحرف {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}(2)، صديقاً، لأنّه كان في المرتبة العليا من علاقته بالله ومحبّته له وإيمانه به. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الحادية والعشرون

23 شعبان 1427 هـــ ـــ 16/9/2006م

 

وَصفهُ بالإرهاب باطل

الإسلام دينُ العقل

 

المنهج الإسلامي في النقد يرى أنّه لا يمكن حصول تعارض بين النصّ الديني والعقل، فإذا تعارض ظاهر النصّ مع العقل لزم تأويل النصّ لمصلحة العقل إذا أمكن، وإلاّ فَقَدَ قيمته كنصّ دينيّ.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في خضمّ ما يتحرّك به الاستكبار اليوم ضدّ عالمنا العربيّ والإسلامي، سواء على المستوى العسكري والأمني أو على المستوى الثقافي، فيما يتعرّض له الإسلام من حملات تشويه لإظهاره بأنّه ذو بنيةٍ فكريّة مفكّكة أو ضعيفة، وذلك بأساليب متنوّعة، منها تعميم الإرهاب على الإسلام من خلال ما تمارسه جماعات معيّنة من عنف يطال الأبرياء ممّا لا يوافق عليه كثير من المسلمين. في هذا الوقت، يُطالعنا بابا الفاتيكان (بيندكت السادس عشر) بحديث ينسب إلى الإسلام أموراً تنمّ عن عدم معرفةٍ بالخطوط الإسلاميّة في علاقة الإسلام بكثير من القضايا التي أثارها، وفي مقدّمتها العقل.

الإسلام دين العقل

فممّا جاء في حديثه، أنّ الإسلام لا يتّفق مع العقل، حيث ينسب إلى المسلمين أنّهم يرون أنّ مشيئة الله لا تخضع لحكومة العقل، مشدّداً على ارتباط المسيحيّة "ارتباطاً وثيقاً بالعقل، وهو الرأي الذي يتباين مع رأي أولئك الذين يسلمون بنشر دينهم بحدّ السيف"، مستشهداً بكلام لإمبراطور بيزنطي في القرن الرابع عشر في حوارٍ له مع رجل فارسيّ قال فيه إنّ النبيّ محمّداً "أحضر أشياء شرّيرة لا إنسانيّة، مثل أمره بنشر الدّين الذي يدعو إليه بالسيف". واستخدم البابا في محاضرته مصطلحي (الجهاد) و(الحرب المقدّسة) قائلاً إنّ العنف "لا يتّفق والطبيعة الإلهيّة وطبيعة الروح".

ونحن إذ استنكرنا ما أتى به البابا، وطلبنا منه اعتذاراً عمّا صدر منه، لا لكونه أطلق أفكاراً تعكس وجهة نظرٍ تُقابَل بالنقد والحوار، بل لأنّ طبيعة حديثه كانت تمثّل اعتداءً على الإسلام ورسوله الكريم، لإطلاقه الاتهامات جزافاً دونما تدقيقٍ مطلوبٍ من مقام دينيّ كالذي يشغله.

على أنّ ذلك لا يمنع من أن نسجّل ملاحظاتنا حول ما طرحه من قضايا، إيضاحاً لمن لديه حولها غموض، وإبرازاً للمنهج الثقافي الإسلامي في إدارة الحوار، خصوصاً في ظلّ ما يشهده العالم اليوم من حملات متنوّعة ضدّ الإسلام ديناً وواقعاً.

إنّ علاقة الإسلام بالعقل هي علاقة وثيقة؛ لأنّه ركّز كلّ عقيدته وكلّ مفاهيمه وكلّ شرائعه على العقل، وقد جعل سبحانه العقل الحُجَّة بينه وبين عباده، واعتبر أنّ العقل هو الذي يخضع به الإنسان لربّه في ما يأمره به وينهاه عنه. ولو درسنا القرآن الكريم دراسةً دقيقة، لرأينا أنّ هناك عشرات، بل مئات الآيات التي تركّز على العقل وتؤكّده، وتدعو الناس إلى أن يعقلوا ما يفكّرون فيه، وما يتحرّكون به، وما يعيشونه في حياتهم، وتعتبر أنّ الآخرين الذين يعيشون الغفلة إنّما يعيشونها، لأنّهم لا يملكون العقل. وهذا أمرٌ لا يحتاجُ إلى الكثير من التدقيق أو التعمّق، بل هو واضحٌ لمن سرَّح نظره في بعض آيات القرآن أو في أدبيّات الإسلام ممّا جاءت به السُنّة الشريفة.

حتّى إنّ المنهج الإسلامي في النقد يرى أنّه لا يمكن حصول تعارض بين النصّ الديني والعقل، فإذا تعارض ظاهر النصّ مع العقل لزم تأويل النصّ لمصلحة العقل إذا أمكن، وإلاّ فَقَدَ قيمته كنصّ دينيّ.

دعوة البابا إلى قراءة القرآن

وفي موازاة ذلك، وأمام ما أثرناه في مسألة انطلاق الإسلام من قاعدة العقل، ندعو البابا إلى أن يقرأ بعض الآيات القرآنية التي تؤكّد أنّ المسألة بيننا وبينكم ـــ من الناحية الثقافيّة ـــ هي أنّكم إذا كنتم تقفون ضدّ التوحيد ومع الشرك، وتنحازون إلى بعض الأفكار، فإنّنا نطلب منكم البرهان. لذا فإنّنا نقول لكلّ إنسان يخالفنا في الرأي ـــ وهذا هو مفهوم القرآن ـــ: إنّ من حقّه أن يخالفنا، ولكنّ عليه أن يقدّم البرهان على ما يتبنّاه من أفكار في مقابل تقديمنا للبرهان على ما نتبنّاه، حتّى تكون المسألة هنا وهناك مرتكزة على العقل والمنطق، لا على الظنّ والخيال وما إلى ذلك. ولذلك قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1). فعلى أيّ أساس تعتبرون الجنّة لكم إنْ كنتم يهوداً أو نصارى؟ وما هي الضمانة التي أعطاكم الله إيّاها؟

ثمّ يناقش القرآن هؤلاء الذين يتحدّثون عن الشرك {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} عن هذه الآلهة التي تعتبرونها شريككم لله، {هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} وهو القرآن {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} وهو التوراة والإنجيل {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ}(2). ثمّ يستدلّ على التوحيد ولا يطلقه كفكرة لا تستند إلى برهان، فيقول: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ*لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} أي لو تعدَّدت الآلهة، وانطلق كلّ إله بحسب الخطّة التي يعمل لها، والتي قد تختلف مع خطّة الإله الآخر، فعند ذلك سيحصل التنافر فيما بينهم، وستتحوّل المسألة إلى فساد ينطلق من تعدّد الإرادات في حركة الكون والوجود، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}(3).

ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ}(4) والبرهان هو الدليل.

ويقول تعالى: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(5).

ثمّ يقول تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ}(6).

ثمّ يؤكّد القرآن للناس الذين يدخلون في الحِجاج، وهو الجدال، أنّ ذلك لا بدّ من أن يكون على أساس علميّ موضوعيّ: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} ممّا تملكون معرفته بشكلٍ أو بآخر، {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ}(7).

ويشير تعالى إلى أنّ الأحكام في حركة القيامة والحساب، لا تنطلق جزافاً، وإنّما تستند إلى إقامة الحُجّة والبرهان من قِبَل الله على البشر، فيقول تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}، أي هاتوا الدليل {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ}، لأنّ البرهان كان دامغاً، والحُجّة كانت ساطعة، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}(1).

وفي حوار قوم إبراهيم (عليه السلام) وجدالهم، قال إبراهيم (عليه السلام) لهم: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}، لأنّ الله هو الذي يملك القوّة كلّها ويملك الأمر كلّه، ولذلك فإنّني لا أخاف أصنامكم التي لا تضرّ ولا تنفع {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ*وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}، وأنتم في مقابل ذلك {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} وهو كناية عن البرهان والدليل الذي ينسجم مع معطيات العقل ونتائجه {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

ثمّ يختم الله تعالى ذلك بقوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ*وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}(2)؛ فإبراهيم عندما تقدّم إلى قومه، وإلى أبيه من قبل، قدّم الحجّة التي تجعل موقفه موقفاً مرتكزاً على الدليل.

وفي مجالٍ آخر يقول تعالى وهو يعرض للمنطق السليم الذي يقود إلى الإيمان بالتوحيد: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ}(3)، بمعنى أنّه لو فرضنا كان هناك الإيمان، فذلك يعني أنّ هذا يكون عنده جماعة وذاك عند جماعة، أو لهذا خلقٌ ولذلك خلقٌ، ومن الطبيعي أنّ كلّ واحدٍ منهما يأخذ جماعته ويفسد الكون نتيجة ذلك.

 

 

نحن أصحابُ الدليل

والخلاصة، أنّ القرآن الكريم يركّز على مسألة الدليل والحجّة والبرهان، وينطلق من فكرة الحوار في المسألة الثقافيّة، سواء كانت عقيديّة، أو أمراً يتّصل بالشريعة أو ما إلى ذلك ممّا جاء في الديانات. وعلى هذا الأساس قلنا للمسيحيين، وقلنا لليهود أيضاً في المسألة الثقافية، وحتّى للذين يبتعدون عن الدّين كلّياً: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1)، تعالوا لننطلق بالحوار من خلال العقل والحجّة والبرهان، ليكون ذلك بيننا وبينكم.

وإذا كان البابا قد حاول التأكيد ـــ في مقابل نفيه العقل عن الإسلام ـــ أنّ المسيحية تختلف عن الإسلام في كونها دين العقل؛ فإنّنا لا ندري أيّ إيمان هو إيمان العقل؟ وقد قرأنا تصريحاً لبعض المفكّرين المسيحيين في تعليل الجمع بين التثليث والتوحيد، أنّ المسألة فوق العقل؛ باعتبار أنّ الإيمان فوق العقل، لأنّه ينطلق من القلب والروح بعيداً عن المعادلات العقليّة. وفي المقابل، نرى أنّ العقيدة الإسلامية لا بدّ من أن تخضع كلّها للعقل، حيث إنّ العقل هو الذي يؤسّس للإيمان، وهو الميزان الذي تقيم على أساسه الفكرة التي يُفترض الاقتناع بها والإذعان لها.

حتّى إنّ ما يدخل في إطار التعبّد والتسليم، لا بدّ من أن يؤسّس طريق الإيمان به من خلال العقل؛ فإنّنا عندما نؤمن ـــ بالعقل ـــ بصدق النبيّ، وأنّه رسول الله، فإنّ العقل يقول لنا أن نصدّق بما جاء به، سواء فهمناه عندما نملك أدوات معرفته، أو لم نفهمه لأنّنا لم نملك تلك الأدوات. وبذلك يكون العقل هو المحور الذي تدور حوله كلّ القضايا التي تشكّل مفردات الإيمان، سواء على مستوى العقيدة أو الشريعة أو المفاهيم أو ما إلى ذلك.

أمّا قضية مشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته، فإنّها تخضع لحكومة العقل. والعقيدة الإسلامية تؤكّد أنّ الله هو الحكيم، وأنّه تعالى لا يتصرّف إلاّ بالحكمة، وأنّه سبحانه وتعالى خلق الكون على أساس النظام المتوازن الذي يخضع للقوانين الحكيمة المتوازنة التي تقود الإنسان إلى ما فيه الخير كلّه والصلاح كلّه، حيث قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(1)، وهو الذي أرسى السنن والقوانين في حركة الكون والإنسان، وقال تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}(2). كما أنّ الله هو الرحمن الرحيم الذي يأخذ عباده بالرحمة كما يفتح لهم آفاق الحياة بما يُصلح أمرهم وبما يُبعدهم عن الفساد.

ويعلم الباحثون أنّ منهج العدليّة الذي ينتمي إليه المعتزلة والشيعة الإثنا عشريّة، يؤكّد الحُسن والقُبح العقليّين، هذه المسألة التي ترتكز على أنّه لا يصدر عن الله تعالى إلاّ كلّ فعلٍ حسن، ويستحيل أن يصدر القبيح منه. حتّى الأشاعرة، فإنّهم يستدلّون على وجود الله والوحي الإلهيّ بالعقل، فإذا حكم العقل بذلك استسلموا له، وهم عندما لا يقولون بالحُسن والقبح العقليّين، فإنّهم لا يجوِّزون فعل القبيح على الله، بل يرون أنّ العقل لا يتدخّل في ذلك.

الإسلام والجهاد

أمّا حديثه أنّ الجهاد يمثّل العنف ضدّ الآخر لإجبار الناس على الدخول في الإسلام، فهو إنّما يقول ذلك لأنّه لم يدرس فلسفة الجهاد وخلفيّاته في الإسلام. فالله سبحانه يقول: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ...}(3)، وهذا هو الجهاد الدفاعي، أي: من قاتلك قاتله، وهكذا قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}(4)، فإنّ القتال في الآية إنّما يشرَّع دفاعاً عن المستضعفين وعن المظلومين وعن المقهورين، وليس عدواناً على الناس.

والجهاد هو حركة وقائية أيضاً، وذلك عندما تتوفّر المعطيات التي تشير إلى وجود خطر محدق بالمسلمين ودولتهم، فيتحرّك المسلمون بالجهاد في سبيل رفع هذا الخطر، وقد قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}(5).. أن تواجه الذين يريدون أن يخونوك بما عقدت معهم من المعاهدات. وهكذا ورد، حول الحرّية الدينيّة لدى الذين ينتمون إلى الإسلام عقيدةً وعملاً، قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ}(1)، في معالجة للوضع الذي كان يتعرّض له المسلمون في مكّة من الاضطهاد والقتل والتشريد، لتحويلهم عن دينهم وإرجاعهم إلى الشّرك الذي كانوا عليه.

وبذلك يكون الجهاد في الإسلام منسجماً مع الحالة الإنسانيّة العامّة في دفع الأعداء وأخطارهم، وهو بعيدٌ كلّ البعد عن العدوان والظلم للآخر، حتّى لو كان كافراً. وقد نجد في هذا المجال، تصريح القرآن بأنّ الاختلاف في الدين أو المذهب أو غيره لا يبرّر القتال، وأنّ ما يبرّره هو وقوع العدوان والظلم من الطرف الآخر، أيّاً كان، حتّى لو كان مسلماً، فنجد في الدائرة الإسلامية الحديث عن قتال المسلمين، فيقول تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(2)، فتحدّث عن البغي في الآية، وهو تعبير آخر عن العدوان.

أمّا خارج الدائرة الإسلامية، فقد قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(3). والآية واضحة في أنّ الاختلاف في الدّين لا يبرّر القتال، إنّما يخضع ـــ في منطق الآية ـــ لعدوان الآخرين بالقتال أو بالقهر والظلم وما إلى ذلك.

على أنّ القرآن صريح في أنّه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(4)، ولذلك لم يكن القتال هدفه إدخال الناس في الإسلام، بل نجد أنّ الإسلام يجعل الانتماء إليه يرتكز بالدرجة الأولى على العقل والبرهان في بناء العقيدة، بحيث لا يخضع لأيّ ضغطٍ خارجيّ بعيداً عن الاقتناع الذاتي.

 

خطأ في الفهم

ومن الطريف أنّ البابا تحدّث عن أنّ هذه الآية تمثّلت في بداية الدعوة إلى الإسلام، عندما كان الإسلام ضعيفاً، وكان النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حالة ضعفٍ، حتّى إذا حصل على القوّة تحوّل إلى الأمر بالقتال. وهذا ما يدلّ على جهل البابا بتاريخ نزول آيات القرآن. ولو كان يملك الثقافة العلميّة، لاكتشف أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في المدينة، أي بعد أن أصبح الإسلام، بقيادة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في موقع القوّة الكبرى، وذلك ما تمثّل في انتصاره على المشركين في معارك الإسلام والشرك.

هذا، ومن الملاحظ أنّ البابا ـــ في هذا المجال ـــ لم يتحدّث عمّا جاء في العهد القديم، من أمر بني إسرائيل بإبادة الذكور من البلد التي يدخلونها بالقتل الشامل لهم. وفي نصٍّ آخر: "إذا دخلتم مدينةً أسيلوها بحدّ السيف، ولا تتركوا فيها رجلاً ولا امرأةً ولا طفلاً ولا حياةً ولا نباتاً". ولا ندري هل عدم الاستشهاد هذا كان خشيةً من سيطرة اليهود في ألمانيا، فلم يستشهد بنصوصهم الداعية إلى إبادة الإنسان غير اليهودي ليستشهد بالمسلمين في حديث لا عمق فيه ولا صدق؟!

ثمّ إذا كان يعتبر أنّ الحروب التي خاضها المسلمون هي حروب مقدّسة، وأنّ قتل الناس كان يتمّ باسم القداسة، ونحن ـــ مع نفينا صفة القداسة عن الحروب الإسلامية بالمعنى الذي يحمله المفهوم لدى الغرب للحروب المقدّسة ـــ نسأله: ماذا عن الحروب الصليبية، المسمّاة حروباً مقدّسة، والتي قادها البابوات وهاجموا فيها فلسطين وبيت المقدس، وقاموا فيها بمختلف الفظائع ضدّ المسلمين المدنيّين؟ وماذا عن إجبار مسلمي الأندلس على الدخول في المسيحيّة؟ وماذا عن قتلى المسلمين في الأندلس، هؤلاء الذين رفضوا الدخول في المسيحيّة؟

وينقل التاريخ في هذا المجال، أنّ المسيحيّة خرجت من الدياميس في عهد قسطنطين الملك لتصبح ديانة القصر والملكية، ألم يضع قسطنطين الصليب على الدروع ليجعل جنوده أكثر شراسةً في القتال بحجّة أنّ القتال تحت راية الصليب؟    

الموروث الصليبي

وإذا كنّا نعتبر أنّ البابا قد أخطأ الفهم في كلّ ما تقدّم من قضايا، فإنّه أخطأ الموقف وهو يستعيد رؤى قديمة عبر اقتطاع نصوص تنتمي إلى تلك العصور المغرقة في التاريخ، كما حصل في الاستشهاد بكلام الإمبراطور البيزنطي. وما ذُكر في الدفاع عن إيراد هذا النصّ، بأنّ الاستشهاد بكلام الإمبراطور البيزنطي لا يعكس رؤيته، فإنّ سياق الكلام ينفي ذلك؛ لأنّ المسألة هي أنّ هناك نقلاً تفصيليّاً لمسألةٍ لا علاقة لها بصُلب الموضوع؛ لأنّ ما يُراد التركيز عليه ـــ وهو مسألة ارتباط الإسلام بالعنف ـــ يمكن الإشارة إليه بعيداً عن الاستشهاد بالنصّ المشار إليه، علماً أنّ هذا النقد للإسلام ـــ أعني كونه قائماً على إكراه الناس على الدخول فيه بالسيف ـــ ليس جديداً، فهو طرحٌ قديم قد أجاب المسلمون عنه إجابات مستفيضة، إلاّ أنّ المسألة هي أنّ تعمّد الاستشهاد بنصّ يتناول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذا الوصف، يوحي بأنّ إيراده لهذه الصفة متعمّدة أيضاً.

ثمّ إذا كان البابا يتحدّث عن أنّه لا يتبنّى هذا الرأي، بل هو كلام مقتبس عن الآخر في محاضرة علميّة، فإنّنا نقول له: لقد أخطأت التبرير؛ لأنّ الباحث العلميّ عندما ينقل نصّاً مقتبساً، لا بدّ له من إعطاء الرأي فيه، تأييداً أو رفضاً، إخلاصاً للمنهج العلميّ. وهذا ما لم يحصل، بل إنّ أسلوب الطرح يوحي بأنّه جاء به استشهاداً لا اقتباساً؛ لأنّه يتطابق مع اتّجاه المحاضرة في اتّهام الإسلام بأنّه يقف ضدّ العقل، ويتبنّى العنف في الدعوة إلى الإيمان؛ على اعتبار أنّ الدّين لا يتماشى مع العنف الذي يؤكّد البابا أنّه ضدّ الله والروح، ما يعني أنّ الإسلام، في مفهومه الإيحائيّ، ليس ديناً سماويّاً.

وإنّ من اللافت للباحث، أنّ البابا يعتبر محاضرته فتحاً للحوار بين الأديان، بينما هي في الواقع مهاجمة للإسلام؛ الدّين الذي يؤمن به مليار ونصف المليار من الناس، بطريقة غير علميّة، مرتكزة على جهلٍ بالحقائق الإسلاميّة؛ لأنّ أسلوب الحوار يحتاج إلى لغة موضوعية علمية حيادية، لا إلى لغةٍ تشهيرية. ولذلك رأينا أنّ ضجّة عالميّة ثارت ضدّ الموقف البابوي في العالَم الإسلامي، وفي أنحاء أخرى، حتّى في بعض أوساط المسيحيين والباحثين في مسألة حوار الديانات والحضارات.

أمّا تبرير البعض بأنّ الموقف المستنكر لكلام البابا ناشئ من موقف سياسيّ، فإنّه ـــ أي هذا التبرير ـــ ناشئ من دراسة غير واقعيّة؛ لأنّ العالَم الإسلامي انطلق من رفضٍ للإساءة إلى الإسلام وإلى رسوله، ولاسيّما أنّ البابا لا يمثّل موقعاً سياسياً في العالَم، مع احترامنا لمقامه ومنصبه.

وختاماً: إنّنا نؤكّد أنّنا لا نستهدف في مناقشتنا الإساءة الشخصية إلى البابا، ولا إلى العلاقات الإسلاميّة المسيحية التي نحرص على توثيقها وتقويتها، وقد كنّا من السبّاقين للتنظير لمسألة الحوار الإسلامي ـــ المسيحي. ونستمرّ في دعوتنا إلى الحوار الموضوعي الإنسانيّ الهادف. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثانية والعشرون

30 شعبان 1427 هـــ ـــ 23/9/2006م

 

الطغيان ماضياً وحاضراً

 

تجاوز حدود الله المرسومة والتمرّد عليها طغيان.

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

خطّ الطغيان

رسم الله تعالى لعباده حدوداً معيّنة في العقيدة والسلوك، وأراد لهم أن يقفوا عندها، وأن لا يتجاوزوها؛ لأنّ تجاوزها يمثّل انحرافاً عن الصراط المستقيم في خطّ التوحيد، والذي يتمثّل في الانفتاح على الله في مواقع إرادته وفي خطّ رضاه. قال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}(1)، وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(2).

وقد اعتبر سبحانه أنّ تجاوز هذه الحدود والتمرّد عليها إنّما هو طغيان يستحقّ عليه صاحبها نار جهنّم، وذلك قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}(3). والمراد بالطغيان هنا تجاوز الحدود المرسومة من الله في العقيدة وفي الحركة؛ والتي تجعل الإنسان غير متوازن في فكره، وغير مستقيم في حركته، وغير قادر على تحمّل المسؤولية في انتمائها، الأمر الذي يجعله في موقف المتمرّد على الله، المعادي لرسوله ولرسالته.

وأمّا إيثاره الحياة الدّنيا، فيتمثّل في تفضيلها على الآخرة، بحيث يستغرق في ملذّات الدنيا وشهواتها من دون أن يفرّق بين حلال وحرام، بل ربّما فضّل الحرام على الحلال؛ لأنّه أقرب إلى مزاجه، حيث القضية لديه هي مشاعر اللّحظة الحاضرة، بعيداً عن المصير المستقبلي الذي يواجهه في الدار الآخرة، باعتبار أنّه من الذين يفكّرون في بدايات الأمور ولا يفكّرون في نهاياتها، فتغريهم حلاوة البداية عن مرارة النهاية، فيستسلمون للغفلة المطبقة على عقولهم حتّى تغيب الآخرة عن وجدانهم. وقد يدفع إيثار الإنسان للحياة الدّنيا على الآخرة، إلى الكفر والضلال والعصيان والغفلة عن أسباب النجاة في الآخرة.

نموذج الخائفين مقام الله

وفي مقابل هذا النموذج الطاغي، يطرح القرآن نموذجاً آخر، وذلك في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} وعرف مواقع عظمة الله في ربوبيّته المطلقة المهيمنة على الكون وما فيه، من خلال استشعاره لمقام الألوهية التي تستتبع الإيمان والطاعة في كلّ شيء، الأمر الذي يجعل الحياة بالنسبة إليه تمثّل فرصة المسؤولية الخاشعة، في ما يأمر به الله أو ينهى عنه؛ لتكون إرادته مرتبطةً بإرادة الله، فإذا أرادت منه نفسه أن يتمرّد على الله انطلاقاً من رغباتها الذاتيّة، وأهوائها الغريزية، فإنّه يبادر إلى أن ينهى نفسه عن السير في هذا الاتجاه؛ ليجعل هواه تبعاً للإيمان؛ لأنّ المسلم الحقّ هو الذي أسلم كلّ حياته لله، وهو الذي يحاول أن يصوغ نفسه صياغةً إيمانيّة على خطّ التقوى؛ ليكون العبد المطيع لله. وهذا كلّه نتيجة الخوف من مقام الله عزّ وجلّ.

ثمّ يتابع القرآن الكريم تصوير آثار هذا الخوف، فيقول تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}(1)، والمراد بالهوى هنا ليس كلّ ما تشتهيه النفس؛ لأنّها قد تشتهي الأشياء التي تنسجم مع ما يحبّه الله، بل المراد منه الهوى الذي لا يخضع للقاعدة الأخلاقيّة الشرعية في الإسلام. ولعلّ إطلاق الكلمة، ناشئ من أنّ العمل الذي يوحي به الالتزام، لا يعبَّر عنه بالهوى؛ لأنّه لا ينطلق من إرادة الإنسان باعتباره شهوةً ومزاجاً نفسيّاً، بل لأنّه ينطلق من خلال إرادة الالتزام في إيمان الإنسان التي تتمثّل في حرّية الاختيار في شخصيّته.

وقد جاء في أصول الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "مَنْ عَلِمَ أنّ الله يراه، ويسمع ما يقول، ويعلم ما يعمله من خير أو شرّ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى"(2). أمّا هذا النموذج، فإنّ مأواه الجنّة، وهي السكن الدائم؛ لأنّ طبيعة الخوف من مقام الله ونهي النفس عن الهوى، تفرض الالتزام بالخطّ المستقيم الذي يربط الإنسان بالله، فيكون قريباً إلى رحمته في مواقع رضاه.

نماذج من الأمم الطّاغية

وقد قدّم الله لنا نموذجاً من الأمم الطاغية في سلوكها المتمرّد على الله ورسوله، كنموذج ثمود، حيث قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}. وهذا نموذج تاريخيّ للناس الذين تحرّكوا في خطّ الخيبة الفكريّة والروحية والعملية، عندما استسلموا لنوازع الكبرياء في ذواتهم، وعاشوا الخوف على امتيازاتهم الطبقيّة المستعلية من كلّ رسالة تربط الناس بالله، وتقودهم إلى توحيده، وإلى الإخلاص في عبادته، وإلى التقوى في أعمالهم التي يقدّمونها إليه ويتحرّكون بها بين يديه.

وهكذا واجه هؤلاء الطغاة الرسول الذي أرسله الله إليهم، وهو النبيّ صالح (عليه السلام)، ليدعوهم إلى توحيد الله في العقيدة والعبادة، وإلى التقوى في الفكر والعمل والشعور، حيث قدّم إليهم آيةً من آيات الله الكبرى التي توحي لهم بصدقه، وتدلّهم على عظمة الله في خلقه، وتمثّل عطاءات الله اللامتناهية، ليستفيدوا منها في الغذاء الدائم الذي يكفيهم جميعاً، {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا*فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}، فلا تمسّوها بأيّ سوء، واجعلوا لها يوماً تشرب فيه من ينابيع الماء الموجودة لديكم، ليتحوّل ذلك إلى لبن تتغذّون منه، واجعلوا لكم يوماً آخر. وقد أنزل الله هذه النعمة العظيمة لتكون في مستوى الآية المعجزة، كما جعلها بلاءً يمتحنكم به، ليختبر ـــ في ما يظهر من مواقفكم ـــ صدق إيمانكم وكذبه.

ولكنّ الطغيان الذاتي والطبقي وذهنيّة الاستعلاء على الناس، ولاسيّما المستضعفين منهم، منعهم من الانسجام مع هذه الدعوة الواضحة في مواقع الحقّ فيها، وموارد النصح في نتائجها، ممّا لا مجال فيه لريب أو شبهة، اعتقاداً منهم بأنّ صالحاً ـــ وهو المستضعف فيهم ـــ جاء ليحقّق لنفسه امتيازاً اجتماعياً على حساب امتيازاتهم. واستغرقوا في ذلك، بحيث شعروا بالخطر، فأغلقوا قلوبهم عن سماع دعوته، وتمادوا في البغي، حتّى قرّروا ـــ فيما بينهم ـــ قتل الناقة، وأوكلوا تنفيذ ذلك إلى بعض سفهائهم.

{فَكَذَّبُوهُ}، ليشكّل إعلان التكذيب منطلقاً لأيّ عمل عدوانيّ يقومون به ضدّه، ليكون مقبولاً عند الناس، {فَعَقَرُوهَا} ليقتلوا الشاهد الأساس على صدق صالح، ذلك الشاهد الذي يمثّل حركة يوميّة في مستوى النعمة الكبيرة والمعجزة البارزة على أنّه مرسل من ربّه، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا}(1)، أي أطلق عليهم غضبه، فيما يوحي به من تنكيل وعذاب صارخ مقابل هذا الذنب الكبير. وإذا كان بعضهم قد عقر الناقة، فإنّ البعض الآخر قام بالإعداد والتأييد والرضا، الأمر الذي جعل التبعة الاجتماعية مشتركة بينهم؛ لأنّهم أعطوا الجريمة قوّتها وفعاليّتها من خلال هذا الشمول في الموقف العمليّ المتحرّك. 

وهذا ما أشارت إليه هذه الآية التي اعتبرت العقر عملاً منسوباً إليهم جميعاً، وأكّدت شموليّة الذنب لهم. وقد أوضح الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك في قوله المرويّ في نهج البلاغة، حيث قال: "إنّما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا"(2). وقال (عليه السلام): "الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم، وعلى كلّ داخل في باطل إثمان: إثم العمل، وإثم الرضا به"(3).

وهكذا أطلق الله عليهم العذاب الذي عبّر عنه بالدمدمة التي توحي بالرُّعب في إثارة الغضب، {فَسَوَّاهَا}، أي سوّى أرضهم عاليها بسافلها، وقيل سوّاها بينهم، فلم يفلت من العذاب صغيرهم وكبيرهم، {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا}(4)، أي لا يخاف عاقبة ذلك ونتائجه؛ لأنّ الله هو الذي يملك القوّة كلّها، فلا قوّة معها، وهو المهيمن على الأمر كلّه، الذي يخافه الناس جميعاً؛ فكيف يخاف من عباده الذين لا يملكون لأنفسهم من الأمر شيئاً في الدّنيا والآخرة؟!.

 

 

الطغيان يستتبع العذاب

وإذا كان الله قد أنزل العذاب على ثمود لتكذيبهم وفجورهم العملي وتحدّيهم للرسول وللرسالة، وبالتالي تحدّيهم لله سبحانه، فما الذي يؤمن الكافرين الآخرين الذين يقفون الموقف نفسه، ويقومون بالعمل نفسه، ولو كان ذلك بطريقة أخرى؟! وإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ للناس من أن يبتعدوا عن خطّ الطغيان النفسي المؤدّي إلى الطغيان العملي، في ما يفرضه من التكذيب لما لا يجوز التكذيب به، ومن الجريمة التي لا يجوز القيام بها.

وهكذا يقف الناس على الخطّ الفاصل بين الفلاح والخيبة، في ما يواجهونه من نتائج ذلك على مستوى المصير في الدنيا والآخرة. إذ ليس من الضروري أن يكون العذاب على الطريقة التي كانت تجري في الأمم السابقة، أي بشكلٍ مباشر، فقد يعذّبهم الله في الدنيا بالوسائل الطبيعيّة التي تثير في الحياة الكثير من المشاكل والتحدّيات والمصائب التي تتحرّك في أوضاعهم الفرديّة والاجتماعيّة، في ما يبتليهم الله به من الجوع والخوف والنقص من الأموال والأنفس والثمرات، ونحو ذلك، فليراقبوا الله في كلّ مواقعهم في الحياة!

نموذج عاد: طغيان القوّة القاهرة

وهناك نماذج من الطغاة الذين تمثّل طغيانهم بالقوّة القاهرة التي يملكونها ضدّ المستضعفين، وبالسلطة المهيمنة الظالمة على الضعفاء، وكيف تحوّل هذا الطغيان إلى إفساد البلاد والعباد في الأوضاع العامّة، وفي القضايا الحيويّة للناس في أمورهم المتنوّعة، بما في ذلك الأمور الخاصّة، بحيث كان هؤلاء الطغاة يعملون على شلّ قدرات الناس ومصادرة إرادتهم وتحويل حياتهم إلى ما يشبه الجحيم. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}، وهم قوم هود الذين كانوا يمثّلون القوّة الجبّارة في التاريخ القديم، وكان مسكنهم في الأحقاف، في جنوبي الجزيرة العربية، بين حضرموت واليمن ـــ كما يقال ـــ.

{إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}، فقد كانت مدينةً لا نظير لها، ذات قصور عالية، وعمد ممدودة، ولا نعرف من تاريخ هؤلاء الجماعة شيئاً ذا بال، إلاّ ما قصّه القرآن علينا من أنّهم كانوا ذوي بسطة في الخلق، أولي قوّة وبطش شديد، وكانوا من أصحاب التقدّم والرقيّ في المدنيّة والحضارة، ولهم بلاد عامرة وأرض خصبة ذات جنان ونخيل وزروع ومقامٍ كريم، {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}(1)، أي قطعوا الصخر من الجبال وشيّدوا منها القصور، كما جاء في قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ}(2).

وقيل إنّ ثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية، وهي منطقة تقع بين المدينة والشام، وكانوا أولي قوّة وبطشٍ شديد، {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ}(3)، وهو ـــ على الظاهر ـــ صاحب موسى (عليه السلام)، وقد قيل إنّ هذا اللّقب أطلق عليه، لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً، بسطه على الأرض وثبّت يديه ورجليه بأربعة أوتاد فيها، وربّما بسطه على خشب وفعل به ذلك، ويؤيّد ذلك ما حكاه الله من قوله، وهو يهدّد السحرة الذين آمنوا بموسى (عليه السلام): {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}(4)، فإنّهم كانوا يثبّتون يديّ المصلوب ورجليه بأوتاد على خشبة الصّلب.

ثمّ يصفهم تعالى بقوله: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ}، وتجاوزوا الحدّ في الإساءة إلى الناس بمختلف الوسائل التي أثقلت كاهلهم، مستغلّين قوّتهم في الضغط على حياة الناس واستغلال مواردهم وفرض إرادتهم عليهم بالتعسُّف والقوّة، {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}(5)؛ لأنّهم لم ينطلقوا في علاقاتهم بالناس من قانون عادل يخضع له الجميع، وينظّم لهم حياتهم، ويرعى موازين العدل في خلافاتهم، ويضع الحدود لهم، حتّى يعرفوا حدود أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم وأوضاعهم، بل انطلقوا في علاقتهم بالناس من خلال تأليه الذّات المتحرّكة، من خلال شريعة الاستكبار القائمة على القوّة، المنطلقة من الهوى، الخاضعة للعقدة المستحكمة في شخصية هذا أو ذاك من هؤلاء الطغاة المستكبرين، ما كان يؤدّي إلى عدم وجود أيّ ضابطة لتصرّفاتهم في الحكم والتشريع والإدارة والاقتصاد والحرب والسلم، فكلمات الطاغية هي القانون، ونزواته هي حيثيّات الحكم، ومصالحه هي الأسس التي يخضع لها الاقتصاد، وغضبه ورضاه هما القاعدتان اللّتان تحكمان الحرب والسلم. وبهذا يتحرّك الطغيان من موقع اللاقاعدة، فيما هو مضمون الحركة في الحياة.

الطغيان وتشويه الذهنيّة

ولا يقتصر الأمر على هذا الحدّ، فإنّ الطغاة يعملون على تغيير المفاهيم والقِيَم والقوانين لمصلحة طغيانهم؛ من أجل أن يغيّروا الذهنية العامّة، لتتحوّل إلى رأي عام لمصلحة النتائج السلبية التي يريدون لها أن تحرّك قضايا الواقع في مواجهة مسألة الحريّة التي تنطلق من حركة الجماهير الغاضبة، ليقوموا بتدميرها والناس تصفّق لهم، والهتافات تلهج بأسمائهم.

وهكذا يعملون على تحويل القانون العام، والقِيَم الكبيرة التي يصوغونها على طريقتهم، إلى أداة قمعٍ لكلّ من يواجه ذلك، فيكون المعروف منكراً، والمنكر معروفاً. وهكذا، حتّى يتحوّل الفساد واقعاً حيّاً في حياة الناس، ولكن في صورةٍ أخرى، كما لو كان بعنوان الصلاح. وهذا ما عبّرت عنه الآيتان الكريمتان، في الحديث عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}(1).

وعلى ضوء ذلك، فإنّنا نستطيع استيحاء النظريّة الإسلاميّة في الدائرتين الاجتماعية والسياسية، وهي أنّ الطغيان في القوى الحاكمة والنافذة في واقع الأُمّة، يستلزم الفساد في كلّ جوانبها ومواقعها، ما يؤدّي إلى تدخّل الإرادة الإلهيّة في عملية إنهاء الطغيان أو تخفيفه، أو إفساح المجال للقضاء على رموزه؛ ليتنفّس المجتمع فترةً من الزمن، بحيث يمكن للمصلحين أن ينفذوا إلى بعض ثغراته، ليدخلوا من خلالها إلى الساحات الواسعة التي يمكن لهم أن يغيّروا فيها الكثير أو القليل من قضاياها.

وهذا ما نراه في كلّ فترات التاريخ التي سيطر فيها الطغيان، بحيث تفرض السنن الكونيّة الإلهية في حياة الناس، إيجاد الظروف المتنوّعة والتحرّكات المختلفة لتغيير حالة الثبات التي تحكم واقع الطغيان، والعمل على حلحلة قواعد الطغيان، وإسقاط رموزه، وهزّ مواقعه، لتستمرّ حركة الصراع بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل، بشكل متوازن، ولتبقى للقوى المستضعفة الإمكانات الذاتيّة الواقعيّة للوقوف في مواجهة المستكبرين بالوسائل الطبيعيّة الممكنة. وربّما تتدخّل القدرة الإلهيّة بصورة المعجزة، كما حدّثنا القرآن الكريم عن هذه الفئة الطاغية، وهي عاد وثمود وفرعون الذين أنزل الله بهم العذاب في الدنيا، لينتظرهم العذاب الأشدّ في الآخرة، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}(1)، فهو المهيمن على الواقع كلّه، وعلى الأمر كلّه، والراصد لكلّ أعمال الطغاة وأوضاعهم.

وستبقى مسألة الطغيان تفرض نفسها على الواقع المتجدّد، وستبقى إرادة الله تلاحق كلّ الطغاة؛ لتنزل عليهم العذاب بشكلٍ مباشر، وهو ما يخلقه الله من وسائل العذاب، أو بشكلٍ غير مباشر في ما يتحرّك به المستضعفون بوسائلهم الخاصّة؛ ليعملوا على القضاء عليهم أو إضعافهم أو هزيمتهم.

وفي ختام الحديث، نقرأ النهي الإلهي لبني إسرائيل عن الطغيان الذي يتجاوز حدود الله. قال تعالى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}(2)، وقال تعالى ـــ في مصير الطغاة ـــ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ*جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ}(3). وقد جاء عن الإمام عليّ (عليه السلام) قوله: "الظالم طاغٍ ينتظر إحدى النقمتين"(4) نقمة الدنيا أو نقمة الآخرة. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

المحاضرة الثالثة والعشرون

7 رمضان 1427 هـــ ـــ 30/9/2006م

 

رسالةُ الأنبياء

عبادةُ الله واجتناب الطاغوت

 

هذا هو خطّ الرسالات الإلهية: التركيز على التوحيد، وعلى رفض الطاغوت الحاكم.

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

عبادة الله واجتناب الطاغوت: رسالة الأنبياء

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(1).

تؤكّد هذه الآية خطّ الرسالات الإلهيّة، وتركّز على التوحيد في جانبه العملي، وهو عبادة الله وحده، من خلال الإيمان بالألوهية المطلقة التي لا تلتقي مع أيّ إلهٍ غيره، مع ما يستتبعه ذلك من الطاعة لأوامر الله ونواهيه، ومن السير مع خطّ الشريعة في كلّ أحكامها الفرديّة والاجتماعية والتزاماتها الخاصّة والعامّة، ورجوع الناس إليها في كلّ خلافاتهم ومنازعاتهم، كما جاء في قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(2).

وفي مقابل هذه الدعوة الرسوليّة إلى عبادة الله، كانت الدعوة إلى اجتناب الطاغوت في إيحاءاتها الفكريّة والعمليّة، بمعنى الابتعاد عنه بكلّ حالات البعد، فلا يلتقي الإنسان الذي يعبد الله بالطاغوت من قريب أو بعيد، بكلّ ما يمثّله مفهوم عبادة الله الذي يتّسع لكلّ قضايا الإنسان، في الفكرة والانتماء والحركة والموقع والموقف، بحيث يعيش حالة براءةٍ مطلقة من الطاغوت في مقابل تولّيه لله ورسوله.

وهذا ما تصوّره الفقرة التالية التي تتحدّث عن الواقع الإيجابي والسلبي في مسألة الإيمان والكفر، والهدى والضلالة: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ} بما هيّأه من وسائل الهداية، {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}(1)، وثبتت في حياته، لأخذه بأسبابها كنتيجة حتميّة تفرضها علاقة المسبّب بالأسباب. وأمّا الملتزمون، فهم الذين تحدّث عنهم القرآن الكريم في خطّ الالتزام بعبادة الله والإنابة إليه واجتناب الطاغوت، وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} في هذا الخيار الإيماني، الإيجابي في خطّ التوحيد الشامل، والسلبي في خطّ الكفر والشرك والرفض المطلق لمعطياتهما الانتمائيّة والعمليّة.

وتتابع الآيات في إيحاءاتها الحديث عن الذين يستحقّون البشارة، وهم الذين يملكون الوعي الروحي والثقافي لاستماعهم إلى الكلمات التوجيهيّة والوعظيّة والرساليّة، إلى جانب الكلمات الأخرى، فيتأمّلون ويفكّرون ويختارون، من خلال الدراسة العمليّة المنفتحة على الفكر الأحسن والانتماء الأفضل، فيلتزمونه، {فَبَشِّرْ عِبَادِ*الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ}، فيدقّقون في كلّ الكلمات، {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}؛ لأنّهم انفتحوا على هدى الله في التزاماتهم العقيديّة، وفي عبادتهم التوحيدية لله، وطاعتهم له، من خلال الحريّة الفكرية المسؤولة، ولاسيّما ما يرتبط بقضية المصير. وقد كان هذا الانفتاح على هدى الله منطلقاً من تميّزهم بالعقل المفكّر الذي يتحرّك بالمعادلات الفكريّة التي ترتكز على أساس عناصر الحقّ التي تلتقي بالإيمان بالله. وذلك هو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(2).

 

 

 

 

الابتعاد عن عناصر الضعف

وقد تحدّث الله عن هذين الجانبين في عالم الانتماء في مسألة الإيمان والكفر، وذلك هو قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1).

إنّ حبل الإيمان بالله قويّ وشديد ومتماسك، وجذور الإيمان بالله عميقة عمق الحياة الممتدّة في الكون، فمن آمن به فقد استمسك حينئذٍ بالقوّة التي لا مجال فيها لضعف أو انحلال، ومن يكفر بالطاغوت فقد ابتعد عن كلّ عوامل الضعف والفساد والخذلان؛ لأنّ الطاغوت يمثّل ما يعنيه الطغاة من كلّ معاني الانحراف المنفصلة عن كلّ ما تمثّله الإنسانيّة من قوّة وعمق وامتداد.

إنّها دعوة توحي للكفر بالطاغوت في جميع مجالاته التي يتحرّك فيها في حياة الناس، في مجال الفكر والعقيدة والحكم والسياسة والاجتماع. فالقوى التي تمثّل الفكر الباطل، أو الحكم الباطل، أو السياسة الباطلة، أو القوّة الغاشمة المعتدية، هي قوى طاغوتيّة في مفهوم الإسلام؛ لأنّها تتنافى مع الفكر الحقّ، والحكم الحقّ، والسياسة الحقّ، والقوّة العادلة المنفتحة على كلّ حركة الإنسانيّة في الحياة. ولذلك، فهي ضدّ الإيمان بالله، بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى.

التركيز على رفض الطاغوت الحاكم

وربّما كان التركيز على رفض الطاغوت الحاكم من الأمور الحيويّة؛ لأنّ خطورته تتمثّل في سيطرته على مقدّرات الواقع كلّه، من الناحية الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنيّة، باعتبار أنّ ذلك يمكّنه من احتواء الساحة كلّها في جميع جوانبها؛ وتأكيده للمفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفتح له آفاق الذهنيّة العامّة للناس على عناصر الفساد المتنوّعة الداخلية والخارجيّة، بحيث يتحرّكون تبعاً لإيحاءاتها ومعطياتها ونتائجها؛ لأنّ الحاكم الطاغوتي الذي يرتكز حكمه على قاعدة ثقافية ذهنية عامّة، أكثر قوّة من الحاكم الذي ينطلق بالقوّة وحدها في فرض سيطرته عليهم. وبذلك يقف الإنسان المسلم في الحياة أمام خيارين لا ثالث لهما: الإيمان بالطاغوت الذي يعني الارتباط بخطّ الكفر والباطل ويؤدّي إلى الكفر بالله، أو الإيمان بالله الذي يعني الانطلاق في حركة الحياة، من موقع الحقّ، فيما يمثّله من امتداد ومسؤوليّة وشمول، وفيما يدلّ عليه من كفر بكلّ ما عدا الله.

الكفر بالطاغوت في طريق الإيمان بالله

وربّما ينطلق التساؤل: لماذا هذا الحديث عن الكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله في هذه الآية؟ كما هو الأسلوب نفسه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}(1).

والجواب: إنّ الإيمان ينطلق من انفتاح القلب والعقل على الله، بحيث لا يكون في داخله أيّ موقع لغيره؛ حتى يكون الإيمان صافياً نقيّاً خالصاً في إيحاءاته وخلفيّاته ومعطياته، لئلا يلوّث الجوّ الداخلي في زحف المشاعر الخفيّة السلبيّة إليه، فتختلط الصورة، ويرتبك الإحساس، ويمتزج الحقّ بالباطل، ويعيش الإنسان الازدواجيّة بين بقايا الطاغوت في الفكر وحركة الإنسان في الذّات، وبذلك تضطرب الخطوات وتنحرف يميناً وشمالاً.

ولهذا كانت الخطّة الإلهية في تعميق الإيمان وتصفيته، تتمثّل في طرد الطاغوت من عقيدة الإنسان، كوسيلة من وسائل طرده من حياته، ليكون القلب فارغاً من كلّ المؤثّرات السلبيّة، ليدخل الإيمان فيه، فيستولي على الذّات كلّها. ولعلّ هذا ما توحيه كلمة الإيمان التي هي أساس الإسلام، وهي شهادة التوحيد (لا إله إلاّ الله) التي تتضمّن مفهوماً يحمل معنى سلبيّاً، ويتمثّل في نفي أيّ إله غير الله ممّن يتّخذهم الناس آلهةً في الذهن وفي الواقع، ومفهوماً إيجابياً، ويتمثّل في إثبات الألوهيّة الواحدة؛ لأنّ الوحدانيّة هي في العمق؛ لأنّها تعني سلب العدد الآخر والاقتصار على الواحد.

ولا بدّ لنا ـــ في هذا الاتجاه ـــ من تخطيط منهجيّة تربويّة تنطلق في حركتها من تفريغ ذهنيّة الإنسان الذي ندعوه إلى الله، أو نهديه إلى الإسلام، وإلى التقوى من الأفكار الضارّة والمشاعر السيّئة والانطباعات الشرّيرة، وإلى عزل ذاته عن كلّ شخصٍ طاغٍ أو منحرفٍ أو ضالّ، حتّى لا يؤثّر على نفسيّته، أو يشوّش خاطره؛ فإذا طهّرنا ذاته من ذلك كلّه، أمكننا أن نزرع فيها الإيمان والخير والتقوى في أسلوبٍ صافٍ، بعيداً عن التأثّر والامتزاج بأيّ شيءٍ مضادّ، والله العالِم. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة والعشرون

14 رمضان 1427 هـــ ـــ 7/10/2006م

 

 

ولاية الله وولاية الطاغوت

 

في الإيمان تلتقي خطوط الحياة العملية المسؤولة التي تتحرّك بحساب وتقف بحساب.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

لا نزال نتابع الحديث عن الطاغوت في القرآن الكريم، المتمثّل في أكثر من مثال، والذي يقع في الموقع المضادّ لله سبحانه، سواء على مستوى العقيدة، أو على مستوى الشريعة، أو على المستوى العملي في النماذج التي تتحرّك ضدّ إرادة الله في الحياة. وفيما يلي، نطلّ على بعض المواضع التي تناول فيها القرآن الكريم الطاغوت.

جدل النور والظلمات

قال تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1).

أمام هذه الآية، لا بدّ لنا من أن نتساءل: ما الذي يعنيه الإيمان في حياة الإنسان المؤمن، وما الذي يمثّله الله في حركة حياته؟ هل الإيمان بالله مجرّد فكرة تجريدية ترتبط بالجانب الفكري التجريديّ من الإنسان، تماماً كما يتحرّك الفكر الفلسفي في نطاق التصوّرات المجرّدة التي تفلسف الواقع في ما هو يتحرّك بعيداً عن كلّ فلسفاتها.. فالواقع يتقدّم، وهي تلهث خلفه لتفهمه وتعطيه صورة من صور الفكر أو الخيال؟ أو أنّه يمثّل الفكرة التي تدخل في عمق وجدان الإنسان وتتحرّك في كيانه لتجدّد له خطّ السير في نقطة البداية والنهاية، وتنطلق بعيداً في حياته لتغييرها على صورتها، فيتغيَّر مصيره تبعاً لتغيير الصورة؟

إنّ الجواب عن ذلك، هو أن تختار الفرض الثاني. ففي الإيمان، تلتقي خطوط الحياة العملية المسؤولة التي تقف بحساب وتتحرّك بحساب، وتخطّط على أساس أنّ الله موجود من حيث هو خالق، ومن حيث هو رازق، ومن حيث هو ربُّ الوجود ومالكه، ومنه كلّ شيء وإليه المصير، وما وجود الإنسان إلاّ ظلّ لوجوده، فهو مفتقر إليه في كلّ شيء، كما أنّ الله مستغن عنه في كلّ شيء.. فقضية الإيمان بالله مرتبطة بوجود الإنسان، بأعمق ما تمثّله الرابطة العضوية بين شيءٍ وآخر.

وهذا هو معنى ما يمثّله الله في حركة حياته، فهو الذي يفتح للناس آفاق النور من خلال هدايته، في ما يوحي إليهم من آياته، وفي ما يشرّع لهم من شرائعه، وفي ما يقودهم إليه من مصير، وفي ما يثيره في أفكارهم من مفاهيم مضيئة.. وبذلك لا يمكن أن يعيش المؤمن معاني القلق والضياع والحيرة، ولا أن يشعر بالجوّ الضبابي يغلّف رؤيته للأشياء التي حوله، ولا أن يتخبّط في ظلمات الريب والشكّ والشبهة، ولا أن يتعقّد أمام الأزمات التي تختنق في داخله لتخنق له حياته، لأنّه يعرف من خلال إيمانه كيف يخطّط لطريقه الذي لا التواء فيه ولا انحراف، ويشعر بالنور يقتحم عليه وعيه للأشياء من حوله، ويزيل عنه كلّ ريب وشبهة، ويشعر في الوقت نفسه، أنّ الكون يتحرّك بالقوّة الحكيمة الرحيمة القادرة التي تسيطر على كلّ شيء وتضع كلّ شيء بحساب وتقضي كلّ شيء بحساب، وبذلك لن تكون الحياة خشبةً في مجرى التيّارات، بل هي سفينة تسير بقيادة مدبّر حكيم. حتّى الموت ـــ في وعي المؤمن ـــ ليس ظلاماً، وليس نهاية كلّ معاني الحياة، بل هو انفتاح على الله في حياة جديدة يواجه فيها الإنسان نتائج مسؤوليّته، كما كان يواجه في الدّنيا حركة المسؤولية، فهو يعيش في وضوح الرؤية في الدنيا، وينطلق مع وضوح الرؤية في الآخرة، وفي ضوء ذلك، نفهم كيف يخرج الله الذين آمنوا من الظلمات إلى النور.

أمّا الذين كفروا بالله، فهم الذين أغلقوا عيونهم عن النور المتدفّق من كلّ جانب من جوانب الحياة، وأخلدوا إلى الأرض، وعاشوا للّحظة الحاضرة، وغرقوا في ظلام الشكّ والشبهة، فتنقّلوا من ظلمة إلى ظلمة، ومن مشكلة إلى مشكلة، ووقفوا في الطريق المسدود أمام قضايا المصير، حيث لا فكرة تنير لهم الطريق.. فعاشوا القلق والضياع والإحساس بعبث الحياة وتفاهتها، وتحرّكوا مع أطماعها وشهواتها وسكراتها، يُغرقون فيها آلامهم، ويغيبون فيها مع أوهامهم.. وانتقلوا من طريق إلى طريق من دون قاعدةٍ ومن دون أساسٍ... لأنّهم لم يملكوا القاعدة التي تتفجّر بالنور وتفجّر النور من حولهم، وهي الإيمان بالله، فساروا مع الطاغوت الذي يمثّل الظلم والظلام والجحود والنكران، فوقعوا في الظلمات؛ ظلمة الكفر والشرك والعصيان، فكان جزاؤهم النار خالدين فيها، بعد أن وضح الطريق أمامهم، فانحرفوا عنه، وذلك هو جزاء الكافرين الجاحدين...

المؤمنون وولاية الله

{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} فهو ربّهم الذي خلقهم ورزقهم ورعاهم وربّاهم ودلّهم على مواقع هدايته وسبل رشده، وأفاض عليهم من نور علمه، وزوّدهم بوسائل معرفته، وأنزل عليهم وحي رسالاته، وفتح قلوبهم على نور البصيرة، فكانوا منه على نور في العقل والروح والشعور والحركة، بحيث لا تلتقي بهم ظلمةٌ في أيّ طريقٍ يسلكونه، وفي أيّ فكرٍ يفكّرون به، أو في أيّ أفقٍ يتطلّعون إليه، إلاّ وقد أعطاهم ـــ من خلال كلّ ما وهبهم من ألطافه ـــ نوراً وإشراقاً يمنحهم من كلّ نور نوراً جديداً، ومن كلّ إشراقةٍ وعياً جديداً. وهكذا تنطلق ولاية الله للإنسان المؤمن لتحتضن روحه وعقله وحياته وتوجّه خطواته إلى الصراط المستقيم الذي يفتح لهم كلّ نوافذ النور التي تطلُّ بهم على السعادة في الدّنيا والآخرة.

ومن خلال ذلك، فإنّه {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ} بما تمثّله كلمة الظلمات من ظلمة الكفر والشرك والجهل والتخلُّف والشرّ والظلم والباطل، وكلّ الأعمال التي تؤدّي إلى ظلمة العقل والقلب والروح والحركة والشعور وما إلى ذلك، {إِلَى النُّوُرِ} الذي يتمثّل في وحي الله وتعاليم رسله بما يقرب الناس من مصالحهم في الدنيا والآخرة، ويبعدهم عمّا يفسد أفكارهم ومشاعرهم وأوضاعهم الخاصّة والعامّة في الحياة.

والظاهر من هذا التعبير الذي يلتقي بأكثر من آية مماثلة لها في القرآن، أنّ هذا الإخراج وارد على سبيل الاستعارة للكلمة الموضوعة للمعنى المادي للنور والظلمة، بدلاً من الصورة المعنوية لها، والتي تعني الهداية للإيمان التوحيدي والنهج التشريعي والمنهج الأخلاقي الذي يتحرّك فيه الإنسان في حال من الصفاء الروحي والنقاء الفكري والاستقامة العملية، ونحوها ممّا يشبه حركة الإنسان في النور في صفائه ونقائه واستقامة طريقه، فيكون السائر معها كالسائر على النور، في مقابل الكفر والشرك والنهج الشرّير في الجانبين الأخلاقي والشرعي، الذي يعيش الإنسان فيه التخبُّط الفكري والعملي في أكثر من طريق.

ويؤكّد هذا المعنى الذي ذهبنا إليه في معنى النور، دراسة الآيات المتعدّدة التي ورد فيها هذا التعبير؛ إذ تشير إلى المقصود بهذه الكلمات. فنقرأ قوله تعالى في سورة المائدة: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ*يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(1)، وقوله تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}(2)، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(3)، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(4)، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(5)، وقوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً*رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(6).

إنّ النور الذي يدخل المؤمنون إليه، هو كتاب الله الذي عبَّر عنه بالنور في الآية  الأولى، من خلال ما يوحي به للإنسان من حقائق العقيدة والشريعة والحياة، كما في الآية الثانية، وهذا ما توحي به أيضاً الآية الثالثة التي جعلت الرسالة التي كلّف الله موسى أن يحملها، تتمثّل في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، باعتبار أنّها تتحرّك في خطّ التوراة التي هي النور، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ}(7), وقد جاء التعبير بالنور عن الإنجيل في الحديث عن عيسى (عليه السلام): {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً}(1)، وهذا ما نستوحيه من الحديث عن الآيات البيّنات التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور.

الكافرون وولاية الطاغوت

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ} وابتعدوا عن خطّ الإيمان وروحه وفكره وحركته {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} الذين يقدّمون لهم فكراً بعيداً عن وحي الله، ومنهجاً لا يلتقي بالمنهج الحقّ الصادر عن رسله، وأخلاقاً لا تتّصل بالخطّ الأخلاقي الذي شرّعه سبحانه، ومواقف ومواقع وأوضاعاً لا تخضع لأحكامه وشريعته، فأفسدوا عليهم وجدانهم وأفكارهم ومشاعرهم وحياتهم كما حياة الآخرين، فهم {يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} لأنّهم ينتقلون بهم من دائرة الإيمان بالله والحقّ والخير والمحبة والسلام والطهارة والصفاء والنقاء، إلى دائرة الكفر به والباطل والشرّ والحقد والعداوة والحرب والقذارة والرجاسة. إنّهم يتخبَّطون في الظلمات في كلّ يوم يبتعدون فيه عن نور الحقّ، وبذلك استحقّوا غضب الله وسخطه {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، لأنّهم تمرّدوا على الله بعد أن قامت عليهم الحجّة من قبله، وليس لهم حجّة يقدّمونها بين أيديهم، فكان جزاؤهم النار وبئس القرار.

الجبت والطاغوت

وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً*أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}(2). 

جاء في أسباب النزول ـــ للواحدي ـــ بإسناده عن عكرمة قال: جاء حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكّة، فقالا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم، فأخبرونا عنّا وعن محمّد، فقالا: ما أنتم وما محمّد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء، ونسقي اللّبن على الماء، ونفكّ العاني، ونصل الأرحام، ونسقي الحجيج، وديننا القديم ودين محمّد الحديث، قالا: بل أنتم خيرٌ منه وأهدى سبيلاً، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} إلى قوله تعالى: {وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}.

وقال المفسّرون: خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكباً من اليهود إلى مكّة بعد وقعة أُحُد ليحالفوا قريشاً على غدر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فنزل كعب على أبي سفيان ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكّة: إنّكم أهل كتاب، ومحمّد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم، فإنْ أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، فذلك قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}، ثمّ قال كعب لأهل مكّة: ليجيء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون، فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنّ على قتال محمّد، ففعلوا ذلك، فلمّا فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أُمّيون لا نعلم، فأيّنا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحقّ؛ أنحن أم محمّد؟ فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء، ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفكُّ العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربّنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمّد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمّد الحديث. فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً ممّا هو عليه، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} يعني كعباً وأصحابه ـــ الآية.

ونلاحظ على هذه الرواية أنّ كعباً ـــ وهو اليهودي المتعصّب ـــ يطرح على قريش أن ينطلق ثلاثون يهودياً وثلاثون قرشيّاً فيلصقون أكبادهم بالكعبة ويعاهدون ربّ الكعبة على قتال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في الوقت الذي نعرف أنّ اليهود لا يعترفون بالكعبة ولا يقدّسونها؛ الأمر الذي لا ينسجم مع الخطّ اليهودي الذي لا يساومون عليه في العادة، ولو في الشكل، لأنّه يخلق لهم مشكلة كبيرة في مجتمعهم. هذا مع اختلاف الروايتين في بداية الحادثة.

 

 

الإيمان يفرض التوازن

وعلى كلّ حال، فالآية تريد أن تبيّن لنا لوناً جديداً من ألوان انحراف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب؛ فإذا كانوا يؤمنون بالكتاب حقّاً، فينبغي لهم أن يتوازنوا في علاقاتهم على أساس قرب الناس من خطّ الإيمان وبعدهم عنه، لتكون المفاهيم الكتابية هي القاعدة التي ينطلقون منها في تأييد مَنْ يؤيّدون، ورفض من يرفضون، لأنّ صاحب العقيدة والإيمان يعمل على أساس تأكيد إيمانه في الحياة، من خلال الالتقاء ـــ ولو في خطّ الوسط ـــ بالذين ينسجمون مع مفاهيمه بعض الانسجام، في مقابل الذين يبتعدون عنها كلّ البعد. وعلى ضوء هذا، كان من المفروض أن تكون علاقة اليهود بالمسلمين هي علاقة القريب الذي تلتقي مفاهيمهم بمفاهيمه، ليقفوا معهم في معركتهم ضدّ المشركين، باعتبار أنّها معركة واحدة يقف فيها الكفر في جانب، والإيمان في جانبٍ آخر؛ ولكنّ القضية كانت على خلاف ذلك، فقد وقفوا ضدّ المسلمين مع خصومهم، فتحالفوا معهم وانطلقوا يدبّرون المؤامرات المشتركة ضدّ الإسلام والمسلمين.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} عالج القرآن المسألة على أساس أنّ هؤلاء لا يؤمنون بالكتاب، لأنّ الكتاب تحوّل عندهم إلى مجرّد شعار يستغلّونه لتضليل الناس، وسلعةٍ يتاجرون بها في أسواق الربح والخسارة، فهم يؤمنون بالجبت الذي هو تعبير عن معبود غير الله، والطاغوت الذي هو تعبير عن الطغيان في الحكم والنظام، فهم يؤمنون بالجبت والطاغوت في واقع الناس، وذلك عندما يتعاونون مع الطغيان والضلال، وفي ممارساتهم الخاصة عندما يمارسون الطغيان والإضلال في واقعهم الشخصي. ولهذا كان تاريخهم تاريخ الطغيان، في الفكر والعلاقات والعمل، عندما كانوا يواجهون الرسالات بالجحود، والرسل بالعدوان، والحياة الباحثة عن السلام بالحرب.

الانحراف في التقييم

وهكذا امتد إيمانهم بالجبت والطاغوت في موقفهم الضالّ الجائر، في الموازنة بين المسلمين وبين المشركين، {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} فقد كانوا يقولون عن المشركين الذين يعبدون الأصنام ولا يدينون بدين الحقّ ولا يؤمنون بالقِيَم الرسالية التي أنزلها الله على رسله: {هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} إنّهم أهدى سبيلاً من المؤمنين؛ في الوقت الذي يقف المؤمنون، ليعلنوا الإيمان بالله ورسله وكتبه، وليصدقوا بالتوراة والإنجيل في كلّ شرائعهما ومفاهيمهما الأخلاقية والعملية. فكيف يمكن أن يصدر مثل هذا عن أُناس يعيشون الكتاب فكراً وعقيدة وشريعة؟ إنّه منطق الكفر الذي يتّخذ الإيمان بالكتاب ستاراً يستتر وراءه ليخفي الحقد والشرّ والظلام، إنّه إطار سقطت صورته، وبان على حقيقته، من خلال أساليب الزيف والبهتان والضلال التي كان يستخدمها.

وقد نجد الكثير الكثير من هذه النماذج في الناس الذين يأخذون من المبادئ والأفكار والديانات الإطار الذي يمثّل الانتماء إلى الشكل ويعزلون حياتهم عن المضمون، كما هو واقع اليهود الذين يحملون في تحرّكهم السياسي شعار التوراة، ولكنّهم لا يؤمنون به جملةً وتفصيلاً؛ وهذا هو واقع بعض الاتجاهات المسيحية السياسية التي تحاول أن تنطلق من العاطفة المسيحية كشعار، ولكنّها لا تلتزم بالقِيَم المسيحية التي جاء بها الإنجيل في علاقاتها ومعاملاتها السياسية. وقد نجده في بعض الأوضاع السياسية الإسلامية التي تتستّر بالإسلام، ولكنّها تخفي وراء ذلك مطامعها الشخصية والإقليمية والقومية. وعلى هذا الأساس، نجد أنّهم ينطلقون في مواقفهم وعلاقاتهم من مصالحهم، لا من مبادئهم؛ ولهذا فهم قد يفضِّلون مصالح الكافرين على مصالح المؤمنين، تبعاً لمصالحهم الذاتية الخاصة، أو للعقد النفسية المريضة التي تواجه أيّ معنىً من معاني الإيمان أو موقف من مواقف المؤمنين.

وقد وجّه القرآن في هذه الآية المؤمنين إلى أن يرصدوا هذه النماذج بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ...} للإيحاء بأنّ القضية لا تحتاج إلاّ إلى النظر إلى واقع هؤلاء، ليعرفوا الحقيقة القرآنية من خلال ذلك؛ كأسلوب من أساليب التربية الإسلامية التي تدفع الإنسان إلى أن يفهم الواقع، من خلال النظرة الواعية المنفتحة على الناس والأشياء، من منطلق النظرة الإسلامية إلى الحياة؛ وبذلك تتحوّل الحياة لدى الإنسان المؤمن إلى ساحةٍ للمعرفة الشاملة لكلّ ما هو حوله ومن حوله، ليبتعد بذلك عن جوِّ السذاجة، فيتطلّع إلى بواطن الأشياء كما يتطلّع إلى ظواهرها.

ثمّ يتحدّث القرآن ـــ في الآية الثانية ـــ عن الذين يعيشون الازدواجية بين ما يمثّلون من انتماء وبين ما يمارسون في حياتهم من خطوات؛ {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ} هؤلاء هم الذين لعنهم الله، وأبعدهم عن ساحة رحمته وغفرانه؛ وكيف لا يبعدهم عن رحمته وساحة رضوانه، وهم يسيئون إلى المبادئ التي يقولون إنّها وحي الله وكتابه؟! فإنّ الله لا يقرّب إلاّ الناس الطيّبين الذين يعيشون الخير في أفكارهم وأفعالهم ومنطلقاتهم في الحياة.

{وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} فما قيمة أن يلتفّ الناس من حوله، أو يهتفون باسمه، أو يتجمَّعوا لنصرته؛ ما قيمة ذلك كلّه إذا كان الله يريد أن يخذله؟ إنّه سوف يحسّ بالوحشة تفترس أمنه الداخلي عندما يخلد إلى نفسه، لأنّ الله هو المهيمن والمسيطر على الناس والأشياء، بيده كلّ شيء، أمّا الناس، فإنّهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرّاً ولا نفعاً إلاّ بالله، ولا تنطلق علاقاتهم إلاّ من خلال الضعف الإنساني المتحرّك في نطاق الطمع والرغبة والخوف، وما إلى ذلك، فلا تمتلئ نفس الإنسان الذي يحترم نفسه إلاّ من خلال قوّة الله التي تفيض على حياته بالقوّة النابضة بالحياة، لأنّ الإنسان الذي يكون مع الله، أو يكون قريباً إليه، يشعر بأنّه قويّ وكبير بالله، حتّى لو لم يكن هناك من أحدٍ حوله، أو كان الناس كلّهم ضدّه. وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ (عليه السلام)، الذي كان يعيش الوحدة في طريق الحقّ وهو يسير فيه بمفرده، فكان يقول: "لا يزيدُني كثرةُ الناس حولي عزةً، ولا تفرُّقهم عنّي وحشةً..."(1)، وكان يقول لولده في وصيّته له: "لا يُؤنسنَّك إلاّ بالحقّ، ولا يوحشنَّك إلاّ الباطلُ"(2)، ويقول للناس: "أيّها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهلِه، فإنّ الناس قد اجتمعوا على مائدةٍ شبعُها قصيرٌ، وجوعُها طويلٌ"(3). والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة الخامسة والعشرون

21 رمضان 1427 هـــ ـــ 14/10/2006م

 

 

الكفر العمليّ والسلوكيّ

 

الذين لا يحكمون بما أنزل الله من شريعة.. كافرون.

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

النفاق والكفر السلوكي

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}(1). في هذه الآية وما يليها، حديث عن بعض نماذج المنافقين الذين انحرفوا عن الخطّ الإيمانيّ، باعتبار أنّ الإيمان يفترض أن يكون متوافقاً مع السلوك العملي، من خلال ما يقبلون وما يرفضون من الأشياء، أو ما يواجهونه من مواقف عمليّة في التزامهم بأحكام الله عندما تقترب من مصالحهم، وتؤثّر على ما هم فيه من أطماع وشهوات.

وقد حدّثتنا هذه الآيات حديثاً وافياً عن ملامح هؤلاء المنافقين الحقيقيّة، فها هم يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، لأنّهم يزعمون أنّهم يؤمنون به وبالكتب المنزّلة قبله، ولكنّهم يرفضون الانصياع له، لأنّه لا يؤمّن لهم رغباتهم المنحرفة، بل {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} الذي يمثّل الحكم القائم على الطغيان، في ما يرتكز عليه من التشريعات المنحرفة الباطلة؛ {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} في الوقت الذي أراد منهم الإسلام ـــ الذي يزعمون الإيمان به ـــ أن يكفروا بالطاغوت فكراً وشريعةً وعملاً.

إنّ الرسل عندما كانوا يأتون إلى أُمَمِهم، كان شعارهم الكبير هو أن يعبدوا الله وأن يجتنبوا الطاغوت، لأنّ مسألة عبادة الله تعالى، هي إسلام الأمر إليه في كلّ ما أوحى به سبحانه، وفي كلّ ما شرّعه، وفي كلّ ما أراد للناس أن يجعلوه ميزاناً لهم في كلّ خلافاتهم مع بعضهم البعض. وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، أي حتّى يجعلوك يا محمّد، في ما بلَّغتهم من شريعة، الحَكَم، في كلِّ الخلافات التي تحدث بينهم، سواء كانت هذه الخلافات خلافات في الجانب العقيدي أو في الجانب الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي. {فَلاَ وَرَبِّكَ}، وهذا ما يدلّ على التشديد وتأكيد الأمر، لأنّ اليمين إنّما يأتي في مقام رفض من ينكره الآخر أو ما يشكّ فيه {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، والشجار هو كناية عن الخلاف، {ثُمَّ} إذا حكمت بينهم في ما شجر بينهم {لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً} ضيقاً {مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}، وهذا هو الإسلام.

ويقول تعالى أيضاً: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(1)، أي أنّ المؤمن لا يملك الحريّة أمام حكم الله وحكم رسوله، لأنّ معنى الإيمان هو هذا الالتزام والخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى.

ولكنّ هؤلاء المنافقين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يتحوّل إلى حالةٍ متجذّرة تدفع الإنسان إلى أن يخاف مقام ربّه، انطلقوا إلى الطاغوت ليحكم لهم؛ لأنّهم رأوا في حكمه ما يؤمّن لهم أطماعهم وشهواتهم، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}(2) لأنّه يبعدهم عن الارتباط بالقاعدة الفكرية والروحية التي تحدّد لهم ما يفعلون وما يتركون، من موقع المصلحة الحقيقيّة للإنسان، بعيداً عن القضايا الذاتية، لأنّه إذا ابتعد الإنسان عن القاعدة الثابتة في حياته، لن يجد لحياته أساساً من الهدى، ما يدفعه إلى الابتعاد كثيراً عن الخطّ المستقيم، ليجعله في حال من الضياع الفكري والروحي والعملي، كمن يتيه في الرمال المتحرِّكة في الصحراء، حيث لا أرض صلبة يقف عليها، ولا علامات واضحة تحدّد له ملامح الطريق.

وقد ذكر صاحب مجمع البيان أنّه "كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى محمّد، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة ولا يجور في الحكم، فقال المنافق، لا، بل بيني وبينك كعب بن الأشرف، لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة"(3). ولعلّ جوّ الآية يوحي بمثل هذه القصّة. 

 

نماذج واقعيّة

وهذا ما نواجهه عند كثير من المسلمين الذين يتحاكمون إلى القوانين والشرائع الكافرة، التي استطاع المستعمر الكافر أن يفرضها على البلدان الإسلامية وينفّذها بقوّة الدولة، وذلك لإبعاد التشريع الإسلامي عن حكم المسلمين، كأسلوب شيطاني لإبعادهم عن دينهم، عندما تتحرّك حياتهم العملية اليومية في اتّجاه غير الاتجاه الإسلامي. وقد تتمثّل نماذج هؤلاء المسلمين في فريقين:

الأوّل: الفريق الذي يرفض التحاكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ويفضِّل الرجوع إلى حكم القانون المدنيّ، عندما يوازن بينهما بالنظر إلى ما يتحقّق له من أطماع وغايات شخصية، فيجد ذلك لدى حكم الطاغوت، فيعمل به ويدعو إليه.

الثاني: الفريق الذي يرفض العمل من أجل إقامة حكم الله، ويعمل على محاربة السائرين في هذا السبيل، لأنّه يستريح إلى الأوضاع القائمة التي تجلب له الراحة، وتؤمّن له سبل العيش الرغيد، فيحاول تبرير التخاذل والتقاعس بكلّ ما أوتي من قوّة، ويشتدّ على المؤمنين العاملين في هذا الاتجاه أكثر من اشتداده على الكافرين، بل يبرّر لأولئك العذر في بعض ظلمهم بما لا يبرّره للمؤمنين في جهادهم، وذلك هو الضلال البعيد الذي يريد الشيطان أن يوقعهم فيه.

إنّ هذه الآية تحدّد للمؤمنين الخطّ الفاصل بين الإيمان والنفاق؛ فالمؤمن هو الذي يلتزم بحكم الله وينطلق نحوه مهما كانت الظروف والنتائج؛ أمّا المنافق، فهو الذي يلتزم بمطامعه وشهواته، فهي التي تحدّد له الالتزام بالقوانين الموجودة حوله، سواء كانت قوانين الله أو قوانين البشر. وفي ضوء هذا، لا يمكن للمؤمن أن يعطي الحكم الكافر ـــ الذي هو حكم الطاغوت ـــ أيّ نوع من أنواع الشرعية، بعدما أمر الله أن يكفر به جملةً وتفصيلاً؛ ما يدفعنا إلى إعادة النظر في كثير من الممارسات التي يمارسها البعض ممّن يتولَّون المهمّات الدينية الرسمية في بلاد المسلمين، فيبرّرون للحكم أوضاعه وخططه، ويتحدّثون عن شرعيّته، تماماً كما يتحدّثون عن شرعية الإسلام؛ ما يجعلنا نتحفَّظ أمام هؤلاء، لنتعرّف في ملامحهم هذه، ما تؤكّده الآية من ملامح النفاق والمنافقين.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ}، بما أنّكم أعلنتم الإسلام وأعلنتم الإيمان، والإسلام يفرض عليكم الخضوع لما أنزله الله سبحانه وتعالى من أحكام، وما شرَّعه الرسول بأمر من الله سبحانه وتعالى من قضاء، فتعالوا، وانسجموا مع ما أعلنتم من إسلامكم وإيمانكم لرسول الله وللمجتمع المؤمن من حولكم، {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}(1)، فهم يعرضون عنك ويبتعدون ولا يتجاوبون مع هذه الدعوة التي تلزمهم بمقتضى التزامهم الظاهري بالإسلام.

ازدواجية العلاقة

ثمّ يتحدّث عن هؤلاء عندما يقعون في مشكلة ولا يجدون من ينقذهم منها، أو لا يجدون أيّ حلٍّ لها إلاّ الرجوع إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، وما كسبت أيديهم ممّا ينزل بهم من المصائب في حياتهم، {ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، عندها يقولون نحن لا نريد إلاّ الخير، ونريد أن نحلّ المشاكل بطريقة وبأخرى {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} يعلم أنّ قلوبهم مملوءة بالكفر الذي يخالف ما يعلنونه في المجتمع الإسلامي {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}، أي لا تقبل عليهم، ولا تشعرهم بالمودّة، ولا تجعلهم يحسّون بالشرعية، لأنّهم خالفوا حالة الصدق في مطابقة الباطن للظاهر في مسألة الإيمان، {وَعِظْهُمْ}، وبيِّن لهم النتائج السلبية التي تترتّب على خطّ النفاق الذي يأخذون به ويسيرون عليه {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}(2)، قولاً حاسماً حازماً.

الإيمان والطاعة

ثم يبيّن لهم أنّ قضية الرسول ليست في ما يمثّله من رمزٍ للجماعة أو كما هو رمز القبيلة، ولكنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يمثّل رسالة الله سبحانه وتعالى، فهو الشخص الذي أراده الله أن يبلّغ رسالته: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}(3). إنّك جئت من أجل أن تضيء عقول الناس وقلوبهم وحياتهم لتقودهم إلى الصراط المستقيم الذي تؤكّده رسالات الله سبحانه وتعالى. فالإيمان بالرسول يتجسَّد طاعةً للرسول، لا أن تقول أشهد أنّ محمّداً رسول الله ثمّ لا تطيعه في ما بلّغه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(1)، لأنّ من أطاع الرسول فقد أطاع الله.

وهكذا: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(2)، فطاعة الرسول متداخلة مع طاعة الله سبحانه وتعالى. ثمّ يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}، هذا الإذن من الله للناس بأن يطيعوا النبيّ، لأنّ النبيّ لا يمثّل شخصه بالمعنى الذاتي للشخص، وإنْ كان شخصه يمثِّل كلّ الرسالة لأنّه القرآن الناطق، فالله أراد له أن يجسِّد الرسالة في كلامه وفي فعله، ولذلك جعله قدوة للناس، وأراد لهم أن يطيعوه في كلامه، وأن يقتدوا به في عمله.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ}، بالكفر الباطني الذي اختزنوه في داخل نفوسهم {جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ}، يعني وقفوا أمامك وتراجعوا عمّا هم فيه وأعلنوا توبتهم إلى الله بطريقة الاستغفار، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} أي أكّد استغفارهم بأنْ دعا الله سبحانه وتعالى أن يغفر لهم {لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}(3)، لأنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء، و{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(4).

الكفر العملي

وفي مجالٍ آخر، يتحدّث القرآن الكريم عن أولئك الذين لا يحكمون بما أنزل الله تعالى من شريعة، ولا يرتكزون في أحكامهم على الأُسس التي يرضاها الله، والتي تعمل على تحقيق العدل بين الناس، ونشر الصلاح في حياتهم، فيصفهم بالكافرين، حيث يقول تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} بالمعنى العملي للكفر في إيحاءاته والتزاماته ونتائجه، فإنّ للكفر درجات ومراتب تبعاً لما في الإيمان من درجات تبدأ من الإيمان القلبي، لتمتد إلى الإعلان عنه باللّسان، لتصل ـــ في الدرجة العليا ـــ إلى الإيمان العملي الذي يعمل على تغيير واقع الإنسان من الضلال إلى الهدى، ومن الانحراف إلى الاستقامة، هذا كلّه إذا كان عدم الحكم بما أنزل الله ناشئاً من حالة الخوف أو من حالة الطمع، أمّا إذا كان ذلك ناشئاً من إنكار شرعيّته وواقعيّته أو الاستهانة به من جهة عدم الإيمان بكتاب الله ورسوله، فإنّه يكون كفراً التزاميّاً يشمل العقل واللّسان والحركة.

وفي موضعٍ آخر يصفهم بالظالمين. قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(1) الذّين يساهمون في تعميق واقع الظلم في الناس، من خلال امتناعهم عن معاقبة الظالم، ما يجعلهم مشاركين في امتداد الظلم في المجتمع من خلال إعطاء الحريّة للمعتدي أن يتحرّك في عدوانه بكلّ حريّة من دون خوف من عقاب.

ونلاحظ ـــ في هذا المجال ـــ أنّ ظلم الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله من الحقّ والعدل، أكثر خطورةً من ظلم المعتدي، لأنّ المعتدي يتحرّك في ظلمه من الموقع الفردي الخاص بالجريمة التي ارتكبها، أمّا الحاكم، فإنّه يقوّي الظلم في المجتمع كلّه في مبادرات الظالمين، من خلال منعه الحكم على الظالم لمصلحة المظلوم، ما يؤدّي إلى انتشار الظلم بين الناس، حيث يزداد الظالمون قوّةً وجرأةً على الظلم، ويزداد المظلومون ضعفاً وسقوطاً بفعل الواقع الظالم الذي لا يملكون له دفعاً من ناحية ضعفهم، ومن ناحية الحكم الذي يقف ضدّهم لمصلحة الظالمين.

وفي موضع ثالث يقول تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(2) الذين خرجوا عن خطّ الاستقامة في الدّين، لأنّ الحكم بما أنزل الله هو النتيجة الطبيعيّة للالتزام العقيدي العملي الذي يتجسَّد في السير على نهج العقيدة في مفاهيمها وأحكامها وخطوطها العامّة في حركة الإنسان والحياة، فإذا كان الإنسان ملتزماً بدين الله، فلا بدّ من أن يستهدي أحكام الدّين وقوانينه في حكمه، لأنّ هذا هو معنى الانتماء الذي يُمثِّل الارتباط العضوي بالخطّ الديني، ولهذا كان الخروج عنه فسقاً وانحرافاً عن خطّ الطاعة إلى خطّ المعصية.

من خلال ذلك، نخلص إلى أنّ الإيمان لا يكتفي من المؤمن بإيمانه القلبي، بل يريد لذلك الإيمان أن يتجسّد في حياته، قولاً وفعلاً وسلوكاً ومنهجاً، فلا يأخذ ببعض مقتضيات الإيمان حيث ينفعه ذلك، ويترك بعضاً آخر حيث يصيبه منه الضرر، فلا بدّ له من أن يرتكز إلى قاعدة واحدة في ذلك كلّه، وإلاّ خسر نفسه في الدنيا، حيث لا يعيش الاستقرار النفسي والسلوكي في حركته في الحياة، وسيخسر نفسه في الآخرة، لأنّ إلهه كان هواه ومشتهياته ورغباته، ولم يكن إيمانه هو الذي يحدّد له معالم الطريق، ويوضح له صفاء الهدف، ويحرّك له خطوات العمل. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السادسة والعشرون

6 شوّال 1427 هـــ ـــ 28/10/2006م

 

 

 مخاطر التكفير على الواقع الإسلاميّ

 

التكفيريّة خطر على الواقع الإسلامي كلّه بما ترتكب من مجازر، وما تشوّهه من صورة الإسلام لدى الآخرين.

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في هذا اللّقاء، يفتح سماحة آية الله العظمى، السيّد محمد حسين فضل الله، موضوع الكفر، ويتناوله بالتحليل والتفصيل، سواء في بُعده العقيدي، أو في آثاره الاجتماعية والحياتية.

الكفر في اللّغة

الكفر في اللّغة: ستر الشيء. ووصف اللّيل بالكافر لستره الأشخاص. الكافر: الزرّاع، لستره البذر في الأرض.

وأعظم الكفر جحود الوحدانيّة أو الشريعة أو النبوّة أو ثلاثتها، وذلك من جهة ستر الحقيقة في العقيدة. وقد يُقال: كفر، لمن أخلّ بالشريعة وترك ما لزمه من شكر الله عليه.

الكفر في العقيدة الإسلامية

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً*إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}(1).

هذا هو النداء الذي وجّهه الله للمؤمنين الذين يدخلون الإيمان من خلال الأجواء العامّة للدعوة بعيداً عن التفاصيل، أنّ عليهم أن يتعمّقوا في معناه، وفي جميع مجالاته؛ لأنّه يمثّل الخطّ الممتدّ في تاريخ الرسالات، كما يمثّل الآفاق الرحبة الواسعة التي تلتقي بالله ورسوله ورسله وملائكته؛ لأنّ الدعوة تمثّل الحقيقة التوحيدية لله في ذاتيّاتها العقيديّة، وفي امتدادها إلى رسالات الله في عناصرها الغيبيّة والتشريعيّة والمفاهيم الرسالية، وتحمل في روحيّتها مسؤولية الدنيا والآخرة في انسجام وترابط وامتداد. فلكي يكون الإنسان مؤمناً، كما يريده الله، لا بدّ له من الإيمان بالله ورسوله والكتب السماوية التي أنزلها على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى سائر الأنبياء، ولا بدّ له من الإيمان بالحقائق التي تتضمّنها هذه الكتب، ممّا يدخل في عالم الغيب، من الإيمان بالملائكة واليوم الآخر، فذلك هو الهدى الذي لا ضلال معه.

أمّا الذي يكفر بذلك، كلّه أو بعضه، فقد ضلّ ضلالاً بعيداً؛ لأنّه لا يرتكز في مسيرته العقيديّة على قاعدة الحقيقة التي لا بدّ له من الوقوف عليها.

وفي هذا السياق من الحديث عن الكافرين، يحدّثنا الله عن بعض النماذج التي تتلاعب بقضية الكفر والإيمان في حياتها، من خلال مواقفها؛ لأنّهم لم ينطلقوا من منطلق الجدّية في مسألة الالتزام بالعقيدة، أو بالخطّ الذي تسير عليه، بل انطلقوا في اعتبارها حالةً طارئة من الحالات التي يتلاعب بها الناس على أساس مصالحهم. وهؤلاء هم الذين يعلنون الإيمان ثمّ ينحرفون إلى خطّ الكفر، ليقفوا فيه مع الكافرين. فإذا وجدوا الساحة غير ملائمة لهم فيما يستهدفونه من مصالح وأطماع، عادوا إلى خطّ الإيمان، وأظهروا الندم والتراجع، فإذا واجهتهم صعوبة الالتزام بالحقّ، وناداهم رفاق الكفر لكي يرجعوا إليهم، رجعوا إلى الكفر وأمعنوا فيه، وازدادوا كفرا، وهؤلاء لا يتعلّقون بأيّ سبب من أسباب المغفرة؛ لامتدادهم بالكفر، {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}؛ لأنّهم ابتعدوا عن أجواء الهداية باختيارهم، فكيف يهديهم الله سواء السبيل. 

إنّ مسألة العقيدة هي مسألة عمق الإيمان، في العقل والقلب والحركة، بحيث يعيش الإنسان الثبات عليه، فلا تهزّه الشبهات، ولا تثيره الطوارئ، ولا تسقطه الأطماع، وهي مسألة الصلابة في الالتزام به، ما يجعل الإنسان في موقع القوّة العقليّة والروحيّة من دون أيّ ضعفٍ طارئ؛ لأنّه ارتكز في الأساس على وعي الدليل والحُجّة والبرهان. وهذا هو الذي يؤكّده الإسلام في عقلانيّة الفكر العقيدي، على هدى ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}(1).

ضوابط التكفير

وفي مسألة الحكم بالكفر على الإنسان، هناك بعض الحالات التي لا تتّصل بالجانب السلبي في الاعتقاد الإسلامي بشكلٍ مباشر، وهي حالة إنكار الضروري. وهو ما تأكّد ثبوته في الشريعة بشكلٍ بديهيّ قاطع؛ لأنّه ممّا ثبت في الدّين ضرورةً، كإنكار الصلاة أو الصوم أو الحجّ أو حرمة الزنا والقمار وقتل النفس المحترمة وشرب الخمر وغيرها ممّا هو من مسلّمات التشريع الإسلامي، من دون شكّ أو ريب.

فقد حكم الفقهاء بكفر منكر الضروري. ولكن قد يُتأمّل في ذلك، بأنّه لا يمثِّل أيّة علاقة مباشرة بالعقيدة، فلا يعتبر إنكاره موقفاً سلبياً جاحداً بأصول العقيدة، بل هو إنكار لحكم شرعي فرعي خاضع للالتزامات الشرعية، لا للالتزامات الإيمانيّة.

ولكنّ دراسة هذه المسألة في العمق، في امتدادها الفكري، يجعلها مرتبطة بأصول الإيمان؛ لأنّ بداهة ثبوت هذه الأمور في التشريع، تُثبت أنّ الله قد بلّغها في القرآن، وأنّ النبيّ قد بيّنها في السنّة بشكلٍ قطعيّ، ولذلك فإنّ نفيها يستلزم تكذيب الله ورسوله فيما بلّغاه وشرّعاه، فتمتدّ المسألة إلى عدم التصديق بالكتاب والسنّة، وهذا ما يؤدّي إلى تكذيب الله والرسول، وهو أمر ينافي الإيمان بهما، فيتحوّل إلى حالة سلبية في العقيدة، ما يوجب الكفر بالله والرسول ولو بشكلٍ جزئيّ، وهذا ما يتنافى مع التأكيد العقيدي على الإيمان المطلق بكلّ ما ثبت عن الله والرسول.

وفي ضوء ذلك، فإنّ الحكم بكفر منكِر الضروري مشروط بكونه ملازماً لتكذيب الله والرسول، لا أن يكون منطلقاً من شبهة فكريّة، بحيث يلتقي مع الإيمان بصدق الله والرسول؛ لأنّه قد يفهم المسألة بما لا ينافي الثابت التشريعي، لتأويله بطريقة خاصّة، أو تفسيره بشكلٍ معيّن، كما في مسألة الاعتقاد بالتجسيم أو برؤية الله بالبصر، استناداً إلى بعض الظواهر القرآنيّة أو بعض أحاديث السنّة، أو في مسألة شبهة الخوارج في قضيّة التكفير، أو في بعض ما قد يعتقده بعض المتصوّفة والعارفين من سقوط التكليف بالعبادة إذا وصل الإنسان إلى درجة اليقين، على هدى قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(1) حسب تفسيرهم له بذلك.

وعلى هذا الأساس، فإنّ بداهة ثبوت هذه الأمور في التشريع الإسلامي، لا يجعل المنكرين لها في نطاق الحكم بالكفر؛ لأنّهم انطلقوا من شبهة، ولم ينطلقوا من رفض التصديق بالكتاب والسنّة، بل قد يخيّل إليهم أنّهم يلتزمون ذلك بالاستناد إليهما لا إنكاراً لهما.

ولذلك، فإنّنا لا نملك الحكم بكفر المجبّرة والمجسّمة والمشبّهة والخوارج وأمثالهم ممّن انطلقوا من شبهة في إنكارهم لما ثبت من الدّين ضرورة عندنا أو عند غالبية المسلمين.

نقد للوهابيّة في التكفير

ولا بدّ من الإشارة في هذا المجال إلى ما قد يتحدّث به بعض العلماء في المذهب الوهّابي، أو في بعض المذاهب الكلاميّة الأخرى، من الحكم بتكفير بعض المسلمين الذين ينطلقون في التزاماتهم العملية بما جاءت به بعض النصوص في الكتاب والسنّة، فيرون المسلمين الذين لا يلتزمون بمضمون اجتهادهم، أو لا يرون حجّية الأحاديث التي يعتمدونها، خارجين عن الإسلام أو ملتزمين بخطّ الشرك، كما في مسألة الإيمان بشفاعة الأنبياء والأولياء والتوسّل بهم وزيارة قبورهم، انطلاقاً من شبهاتهم في قضيّة الإيمان والكفر. وربّما يصل الأمر ببعض هؤلاء إلى استحلال دمائهم على أساس حلّية سفك دم الكافر والمشرك.

ولعلّ مشكلة بعض هؤلاء أنّهم لا يملكون العقل المنفتح، والثقافة العميقة الواسعة في أصول العقيدة والتشريع، بما يقودهم إلى الحوار والجدال بالتي هي أحسن في هذه الأمور الملتبسة، ولاسيّما في فتاوى قتل المسلمين الذين يلتزمون بما يرفضه هؤلاء ويعتبرونه شركاً وكفراً.

التكفير ومخاطره على الواقع الإسلامي

وتلك هي مشكلة الظاهرة التكفيرية في هذا العصر، والتي تحوّلت إلى خطر على الواقع الإسلامي كلّه، في ما يقوم به هؤلاء من المجازر الوحشيّة التي تطال الرجال والنساء والأطفال من دون أيّ ذنب. وهذا ما أدّى إلى تشويه صورة الإسلام لدى الآخرين، واعتباره دين عنف وإرهاب، انطلاقاً من الأوضاع السلبيّة التي أصبحت في مستوى الظاهرة في أكثر من بلدٍ إسلاميّ.

وربّما امتدّ هذا الاتجاه السلبي في تكفير مَنْ ليس كافراً، وتضليل مَنْ ليس ضالاًّ، إلى بعض المواقع الحوزويّة في المذهب الإمامي الشيعي الإثني عشري، في اعتبار بعض الأمور التفصيليّة في العقيدة أو في التاريخ، من ضروريّات الدّين، أو من ضروريات المذهب، في المواقع التي وقعت محلاً للخلاف لدى القدماء، أو التي ترتكز على بعض الخطوط النظريّة التي لا تصل إلى مستوى الضرورة أو البداهة، أو التي تنطلق من قضايا تاريخية تأخذ قداستها الشعوريّة من خلال العاطفة المرتبطة بأشخاصها.

ومن المؤسف أنّ مثل هذه الأحكام بالكفر أو الضلال تنطلق من مواقع مرجعيّة دينية، لا تقبل الجدل أو النقاش في أحكامها التي تمنحها القداسة من دون أيّ أساس.

إنّ المشكلة لدى الاتجاه التكفيري، أنّ كثيراً من أصحابه ينطلقون من حالة جهل مغلق لا ينفتح على الآخر من خلال عناصر العلم، وذلك بما أراده الله للمسلمين من الجدال بالتي هي أحسن، حتّى بالنسبة لغير المسلمين، ومن ردّ الخلافات والمنازعات الفكريّة أو الفقهيّة إلى الله والرسول، بالرجوع إلى القواعد العلميّة الموضوعية المنفتحة على الحقيقة في الأخذ بحقائق الكتاب والسنّة، بالعقل المفتوح والقلب المنفتح. والحمد لله ربّ العالمين.

     

 

المحاضرة السابعة والعشرون

13 شوّال 1427 هـــ ـــ 4/11/2006م

 

 

السبب العاطفيّ للكفر

 

الخضوع العاطفيّ لعقيدة الآباء والأجداد، من غير بحث وتأمّل.. سبب للكفر بالله.

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

السبب الفكري للكفر

ربّما يتحدّث البعض عن الجانب الفكري السلبي كمنشأ للالتزام بالكفر، من خلال التركيز على التفسيرات العلميّة النظريّة لبداية الكون، أو من خلال التأسيس على النظريّات الكونيّة لبعض الظواهر في الأرض والكواكب الأخرى والفضاء والتطوّرات الكامنة في عمق الأشياء، الأمر الذي لا يجد الباحث معه أيّة ضرورة لأيّة فرضيّة لوجود خالق للكون منفصل عنه ماديّاً، مشرف على إدارته، مهيمنٍ على حركته؛ لأنّ حركيّة التطوّر كامنة في نفس الموجودات الكونية.

وهكذا لاحظنا كيف انطلق هؤلاء في التفسير المادّي للوجود، معتبرين أنّه يتحرّك تلقائيّاً في عناصره الذاتية، أو في جدليّته التكوينيّة أو التاريخيّة، في نطاق ما يسمّى (الحتميّة الوجوديّة)، وهذا التفسير هو ما يجعل الإلحاد قاعدةً للعقيدة، ويبتعد بالإنسان عن أيّ عنصر للروح أو للغيب.

ملاحظات على هذا المنهج

أوّلاً: أنّه لا ينطلق من ملاحظات قطعيّة في النظريّات التفسيريّة لعناصر الوجود والحركيّة الكونيّة والتطوّر المتنوّع، بل ينطلق من تأمّلات احتمالية أو معادلات ضدّية خاضعة للكثير من المناقشات العلميّة من خلال الثغرات الموجودة في داخلها، ما يجعلها غير صالحة لتكون أساساً لردّ فكرة التوحيد في الإله الخالق، في قدراته الحكيمة المطلقة التي تنفتح على تفسير دقيق لنشأة الكون والإنسان.

ثانياً: أنّ هذه التفسيرات النظريّة العلميّة قد تكون مقبولةً في بعض أجزائها، ولكن يبقى السؤال: من أين انطلقت هذه العناصر المادّية التي تحكم الظاهرة؟ وما هي القوّة التي منحتها هذه الحركة الداخليّة بعد أن كانت لا تملك أيّ إمكانية ذاتيّة في تكوينها الوجودي؟ تماماً كما هو مصطلح القدماء في نظريّة الإمكان التي تحكم احتمالات التفاسير المتنوّعة، ولكن لا بدّ من وجود قوّة خارجية ترجّح جانب الإيجاب على السلب؛ لأنّه ـــ بدونها ـــ لا يمكن أن يتغلّب جانب على جانب من الداخل بعد فرض تساويهما في الاحتمال.

لذلك، فإنّ المسألة لا تخرج عن دائرة الظنّ الذي يبقى في إطار الاحتمال، ولا يرتكز على أيّة قاعدة قطعيّة. وقد تحدّث القرآن الكريم عن الذين يتّبعون الظنّ ويركّزون عقيدتهم على أساسه، فقال تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}(1)، وقال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}(2)، وقال أيضاً: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(3). ومن الواضح كما في الآية الأولى، أنّ الظنّ هو الرأي الذي لا يرتكز على عقيدة قطعيّة، حيث قابل بينه وبين العلم.

وربّما يثير البعض كلاماً مثيراً، وهو أنّ أصحاب النظريّات الماديّة لا يلتزمون في تصوّرهم العقيدي ما يقدّمه أصحاب النظرية الإلهيّة، لما يثيرونه من علامات الاستفهام حول هذا الدليل الذي يقدّمونه أو ذاك، ولهذا فإنّهم لا يحصلون على القطع في مسألة الإيمان.

ونلاحظ على هذه المقولة، أنّها إذا كانت خاضعةً لبعض الواقعيّة في المسألة العلميّة الجدليّة، فإنّ موقفهم لا يؤدّي إلى النظريّة الإلحاديّة؛ لأنّ الإلحاد ـــ من الناحية المنطقية العلميّة ـــ يمثّل النفي المطلق لوجود الله، وهذا ما لا يملك أحد الالتزام به بطريقة واقعيّة؛ لأنّه يتوقّف على استقراء مواقع الوجود كلّه، والبحث، حتّى في عالم الغيب، عن وجود هذا الإله والاطّلاع على نفيه، ممّا لا يتيسّر إمكانه لأيّ شخص. وبذلك تنتهي القضيّة ـــ على فرضيّة صدق الرفض لأدلّة الإيمان، بالإضافة إلى عدم قطعيّة أدلّة الإلحاد ـــ إلى حالة الشكّ.

وفي ضوء ذلك، نؤكّد أنّ الملحدين لا يملكون الحجّة على الإلحاد؛ لأنّهم لا يملكون فرضيّة الاستقراء الشامل في البحث في الوجود كلّه، فلا يبقى لهم إلاّ الشكّ الذي يجعلهم في موقع البقاء في خطّ الحيرة الذهنيّة التي تدعوهم ـــ من ناحية علميّة ـــ إلى الاستمرار في التفكير والبحث والتأمّل.

السبب العاطفي للكفر

وهناك سبب آخر للكفر بالله، وهو الخضوع العاطفيّ لعقيدة الآباء والأجداد، والالتزام بها من غير تفكير أو بحث أو تأمّل. وقد تحدّث الله عن هؤلاء في أكثر من آية. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(1)، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(2). فقد كان جوابهم على دعوة الرسل، أنّهم قلّدوا آباءهم في تصوّراتهم العقيديّة والعباديّة من دون أن يناقشوهم ويدرسوا المضمون الفكري لهذه التصوّرات، كما أنّهم لم يدخلوا في عملية تقويميّة لآبائهم، من ناحية تعرّف على مستواهم العقلي والعلمي، لرؤية ما إذا كانوا من ذوي الخبرة فيما يعتقدونه أو يقرّرونه أو يوجّهون أبناءهم إليه، ليكون الاعتماد عليهم في اتّبعاهم اعتماداً على أهل الحجّة في الرأي، كما هي الطريقة التي يتّبعها العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالِم فيما يجهله، أو الأخذ بقول أهل الخبرة الذين لا يملكون الخبرة في الأشياء. وهذا ما أنكره الله عليهم في الآية الأولى؛ لأنّ آباءهم كانوا من الأمّيين الجاهلين الذين لم يأخذوا بأسباب العقل، ولم ينطلقوا في مواقع الهدى ممّا لا بدّ للناس أن يهتدوا به، فكيف يخضعون لغير العقلاء فيما يُطلب فيه العقل؟! وكيف يلتزمون الضلال في الطريق الباحث لدى الإنسان عن الهدى؟!.

وهذا ما توحي به الآية الثانية التي تنفي عن هؤلاء الآباء صفة العلم؛ لأنّهم لم يتعلّموا قواعد العقيدة وأسس الالتزام بها، فكيف يتّبعونهم في جهلهم؟ ويسيرون على ما وجدوه لديهم من أفكار وعادات وتقاليد ممّا لا يرتكز على قاعدة من العلم. وهذا ما لا يسير عليه العقلاء في قضاياهم العامّة والخاصّة، ولكنّهم ساروا عليه، وكان ردّ فعلهم التمرّد على دعوة الأنبياء الذين دعوهم إلى رفض عبادة الأوثان التي كان يعبدها آباؤهم. وهذا ما قاله قوم صالح في خطابهم الإنكاري عليه، ممّا قصّه الله تعالى: {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}(1)، فلم يقدّموا له أيّة حجّة على ما يعبدونه إلاّ أنّه كان ممّا يعبده الآباء، ولم يكن الشكّ الذي واجهوه به في دعوته مرتكزاً على نقاشٍ فكريّ، بل جاء رفضهم مبنياً على غرابة ما دعا إليه عن المألوف لديهم من السير التاريخي على الالتزام بالماضي في العبادة وفي الاعتقاد. وهذا ما قابلوا به أيضاً شعيباً، على ما قصّه الله تعالى في قوله: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}(2)، وهذا ما قابلت به بعض الأمم الأنبياء، قال تعالى: {تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}(3).

إنّ المنهج الإسلامي في قضايا الفكر والعقيدة، هو أن يستقلّ الإنسان بالتفكير المنهجي الذي يدرس عناصر الأمور؛ ليكون التزامه العقيدي والفكري منطلقاً من الأُسس التي تركّز اقتناعاته على قاعدة متينة تمنحه الحجّة في نفسه، وأمام الله، وأمام الناس، بحيث يملك الدفاع عنها بما يحقّق له الموقف المسؤول في موقع الحساب.

ولذلك كانت مسألة التقليد منفتحةً على الأمور العامّة التي لا يملك الإنسان إمكانيّة التعرّف إليها؛ لأنّها بحاجة إلى الاختصاص الذي لا يملك عناصره، أو منفتحة على الأمور الشرعية التي ليست لديه المعرفة في مصادرها في نصوص الكتاب والسنّة، أو على غير ذلك من القضايا الفرعيّة. أمّا قضايا العقيدة التي تبني للمؤمن شخصيّته، وتركّز له كيانه، وترتبط بقضايا المصير، فإنّها لا بدّ من أن تنطلق من عقله واختياره وإرادته، ممّا يستقلّ به العقل، أو ينفتح به على وسائل العلم في التعلُّم والحوار مع الآخرين، ما يمنحه الثقافة العميقة والعلم المنفتح، ولذلك اعتبر أهل العلم الجاهل المقصّر الذي لا يأخذ بأسباب الحقّ في الاعتقاد أو في العمل غير معذور، بل إنّ الحكم الصادر عليه كالعامد في المسؤوليّة؛ لأنّه كان قادراً على الاجتهاد في العقيدة ولم يجتهد، ومتمكّناً من التعلّم ولم يتعلّم. وهذا ما جاء به النصّ الشريف، في تفسير قوله تعالى: {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}(1)، قال: يؤتى بالإنسان يوم القيامة، فيقال له: لمَ لمْ تعمل؟ فيقول: لم أعلم، فيُقال له: هلاّ تعلّمت؟!.

ويبقى في هذه الدائرة سؤال كبير، وهو: إذا كان الاجتهاد في العقيدة أمراً مطلوباً، فكيف هو حال المقلّدين من المسلمين المؤمنين الذين اعتقدوا ما اعتقدوه عن تقليدٍ لآبائهم في الالتزام بأصول الدّين، في التوحيد والنبوّة واليوم الآخر، وفي الالتزامات الأخرى بالإيمان بالرُسل والملائكة والكتاب ونحو ذلك، فهل لهم عذرٌ في ذلك؟

والجواب: إنّ مسألة الاجتهاد في العقيدة ملحوظٌ على نحو الطريقيّة من أجل الوصول إلى الحقّ، وليس له موضوعيّة في ذاته، بحيث يكون مطلوباً لنفسه، ليُعاقب المؤمن على تركه، فإذا صادف التقليد عنده الإيمان بالعقيدة الصحيحة، ممّا نزل به الوحي وبلّغه الرسول، كان معذوراً في اعتقاده من خلال التزامه بالحقّ. وتظهر الثمرة في حساب المسؤوليّة إذا كان تقليده مخالفاً للحقّ، فإنّه يستحقّ العقاب من خلال ابتعاده عن الخطّ المستقيم في الأخذ بالوسائل الموصلة إلى العقيدة الصحيحة، والله العالِم.

وللحديث تتمّة إنْ شاء الله تعالى والحمد لله ربّ العالمين

 

  

 

 

 

المحاضرة الثامنة والعشرون

20 شوّال 1427 هـــ ـــ 11/11/2006م

 

 

إستبعادات الكُفر

 

الكافرون يستبعدون التوحيد، وبشريّة الرسل، والبعث بعد الموت.

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

ذكرنا في الحلقة الماضية سببين من أسباب الكفر لدى الإنسان، الأوّل يرتبط بالجانب الفكري فيما يحاوله الإنسان من عمليّة استدلال على الكفر أو الإلحاد، والثاني يتناول التأثّر بالتقاليد والإرث الثقافي لدى الآباء والأجداد، والذي يسير معه الإنسان من دون الانطلاق باستقلاليّة في التفكير في طبيعة ما ورثه عن آبائه وأجداده، ليُجريَ تقييماً يتّخذ على أساسه موقفه الفكري والإيمانيّ.

عدم الألفة سببٌ للكفر

وهناك سبب آخر للكفر لدى الإنسان، ويتمثّل في استبعاده الطروحات التي يطرحها الرسل من ناحية بعض المألوف الذي يألفه الناس، أو من خلال عدم وجود أساس مادّي للاعتقاد بها، أو من ناحية بعض التصوّرات الساذجة التي تسيطر على تفكيرهم، فيلجأون إلى الرفض والإنكار من دون أيّة حُجّة مقنعة.

1 ـــ استبعاد بشريّة الرُسُل

ومن بين هذه الأمور، إنكارُهم لبشريّة الرسل تحت تأثير الفكرة التي يحملونها، وهي ضرورة انطلاق الرسالة، التي هي من الله، من موقع غيبيّ ينسجم مع الجانب الغيبيّ لله، فهم يعتقدون أنّه لا يمكن أن يكون الرسول، الذي أُرسل إليهم مِنْ قِبَل الله سبحانه، مماثلاً في وجوده المادي للناس. وهذا ما كان يعانيه الرسل في مواجهة الناس لهم، بحيث كانوا يواجهونهم بهذا المنطق الذي لا أساس له إلاّ تأثير هذه الفكرة الراجعة إلى الاستبعاد لا إلى الدليل.

ويردّ الله عليهم هذه الفكرة، بأنّ الرسول لا بدّ من أن يكون مماثلاً للناس الذين أُرسل إليهم، لتكون طاقاته كطاقاتهم، وحياته كحياتهم؛ لأنّ دوره يتمثّل في تجسيده للرسالة في واقعيّتها، ليكون القدوة الذي يجسِّد فيه كلّ الواقع الحركي الذي يريد للناس التحرّك معه. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً}(1)؛ فالرسول للملائكة لا بدّ من أن يكون ملكاً، ما يفرض أن يكون الرسول للبشر بشراً مماثلاً لهم.

ويحدّثنا الله عن حوار الرسل مع أُمَمِهم في قوله تعالى: {قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ*قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(2)، فلم يُنكر الأنبياء بشريّتهم المماثلة لهم، ولكنّهم يناقشون الفكرة بأنّ قضيّة الرسالة هي قضيّة صادرة من الله الذي يمنّ على من يشاء من عباده، سواء أكانوا ملائكة أم بشراً؛ لأنّهم جميعاً خلق الله الذين يكلّفهم برسالاته، سواء كانت تتمثّل بالوحي الذي يوحي به إلى الناس من خلال الرسل البشريّين، أو تتمثّل في المهمّات التي يكلّف الله بها الملائكة في تنفيذ بعض إراداته في الكون والحياة والناس.

فهو الذي يملك الأمر كلّه في عباده في تنوّعاتهم ومهمّاتهم، ولا يملكه غيره، فــ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(3)، فالحكمة حكمته، والإرادة إرادته، والأمر أمره، ولا أساس لما يفكّر فيه هؤلاء الجاهلون الذين لا يملكون أيّ أساس من العلم والمعرفة في الفكرة التي يحملونها حول ما يجب أن تكون عليه شخصية الرسول، بل هي حالة استبعاديّة لا معنى لها. هذا في الوقت الذي يؤكّد الرسل في منطقهم، الصفة البشريّة في ذاتيّاتهم. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}(4).

حتّى إنّ الرسول يصارح الناس بقدرته المحدودة التي لا يملك معها أن يأتيهم بالمعجزات الخارقة للعادة، أو تغيير الواقع الكوني عمّا هو عليه، إلاّ بإذن الله وقدرته. فلا ولاية للرسول على الكون كلّه، بل هو بشير ونذير. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً*أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً*أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً*أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}(1). فقد أنكر عليهم كلّ طلباتهم التعجيزيّة التي لا يستطيعها البشر الإنسان في قدراته الذاتيّة، أو في إمكاناته التي أقدره الله عليها في مسؤوليّته الرسوليّة؛ لأنّه بشرٌ يملك قدرة البشر، وهو رسولٌ دورُه هو إبلاغ الرسالة، وبذلك فإنّه ينكر عليهم ولايته على الكون، بأنْ يغيّره عمّا أودع الله فيه من قوانين طبيعيّة، أو يتصرّف فيه بإرادته.

2 ـــ استبعاد البعث بعد الموت

وفي موقعٍ آخر، يتمثّل الاستبعاد في التساؤل الساخر الرافض لعودة الأموات من القبور إلى ساحة القيامة من جديد ليواجهوا موقف الحساب ونتائج المسؤوليّة، فهم لا يجدون أيّة واقعيّة لهذا الطرح، فلم يحدُث أن عاد أحدٌ من الأموات في التاريخ الذي سمعوه، أو في الواقع الذي عاشوه، إضافة إلى عدم توفّر عناصر الحياة في الجسد الذي تحوّل إلى عظامٍ نخرة وتراب جامد. وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ}(2)، وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ*أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ*هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ*إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}(3)، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ*أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ}(4).

نلاحظ من خلال هذه الآيات، أنّ هؤلاء الكافرين رفضوا فكرة البعث في الآخرة استبعاداً لها، وكفروا بما جاء به الرسل من تأكيد ذلك، من دون أن يناقشوا الموضوع من ناحية فكريّة موضوعيّة ترتكز إلى دراسة دقيقة للخلق في بدايته، ودلالته على قدرة الله في سُنّة الحياة والموت، من حيث قضيّة الإمكان والاستحالة. ولكنّ الله سبحانه يثير أمامهم المسألة في قدرته على تحويل النطفة إلى إنسان، وفي دلالة ذلك على أنّه يملك الحياة الآخرة في إعطاء الجسد الترابي أو العظامي عناصر الحياة، من خلال نفخ الروح في داخله، منذ خلق آدم الذي كان أوّل أمره قبضةً من الطين، فنفخ الله فيه من روحه، فتمثّل بشراً سويّاً.

وهكذا أراد الله لهم أن يفكّروا في المسألة تفكيراً علميّاً، ليعرفوا أنّ الذي أنشأ الخلق بقدرته قادرٌ على أن يعيده من جديد؛ لأنّ أساس القدرة هو الذي يجمع بين الأمرين في صياغة الدليل الوجداني. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ*الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ*أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ*إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ*فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(1). فنحن نجد في هذه الآيات دعوةً إلى الإنسان الكافر بالآخرة، أن لا يستغرق في النظرة إلى العظام النخرة ـــ في تفكيره بما قد تؤول إليه من الحياة في حال البعث ـــ بل عليه أن ينفتح على شموليّة الخلق، في مظاهر الوجود التي تمثّل عظمة القدرة المطلقة التي لا يُعجزها شيء؛ لأنّها تملك كلّ الوجود في حدوثه وامتداده ونهاياته، فكيف يتماسك هذا الاستبعاد أمام المنطق الإلهيّ القادر على كلّ شيء؟!

وينطلق القرآن ليربط الإنسان بالظاهرة الوجوديّة، في مشاهد خلقه، منذ تكوّنه إلى مرحلة نموّه، وصولاً إلى تكامل وجوده في عناصره الجسديّة، وهذا ما يتمّ أيضاً في المشهد الزراعي الذي تبدأ الأرض معه ميتةً، ثمّ تأخذ تدريجياً في حركة الحياة عندما ينزل عليها الماء فيتفاعل مع البذور التي تهتزّ فتنتج كلّ الثمرات؛ ليكون ذلك دليلاً على واقعيّة نجدّد الخلق في تحوّل الموت إلى حياة، فلا يعود للاستبعاد الرافض أيّ معنى أمام التجربة الحيّة في الواقع، في مظهر حيويّة الخلق في قضيّة الحياة والموت.

وهذا ما يتمثّل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ*ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ}(1).

وهكذا تؤكّد هذه الآيات أنّ حركة الحياة في تطوّر حالات الجنين حتّى يبلغ أشدّه، وفي إحياء الأرض بعد موتها، هي نفسها حركة الحياة في إحياء الناس بعد الموت، وإن اختلفت أوضاعها ومظاهرها، ما يوحي إلى الإنسان بأنّ عليه أن يأخذ من هذا التنوّع دليلاً على واقعيّة المبدأ، وهو القدرة الإلهية على إنتاج الحياة بعد الموت في كلّ مواقعها.

3 ـــ استبعاد فكرة الإله الواحد

ونلتقي أيضاً بذهنية الاستبعاد الذي تحوّل إلى رفضٍ وإنكارٍ وكُفرٍ بالمبدأ؛ وهؤلاء هم المشركون الذين يعبدون الأصنام، ويعتبرونها آلهةً، سواء أكانوا يعتقدون بألوهيّتها على الاستقلال، أو باعتبار قربها من الله سبحانه، كما جاء في قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(2)، حيث يرون أنّ لها صلةً بالخلق، وأنّ في داخلها أسراراً إلهيّة ترفع الصنم إلى مستوى القابليّة للعبادة. وهذا ما كانوا يمارسونه في تعدادهم للأوثان، كما جاء في قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى}(3)، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً}(4)، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ}(5).

وقد اختلف هذا الشرك لديهم بين شرك في العقيدة وشرك في العبادة، انطلاقاً من التزامهم ما كان يلتزمه آباؤهم من عقيدة وعبادة، بعيداً عن دراسة المسألة دراسة علميّة. وقد أشارت الآيات الكريمة إلى فقدان هذه الآلهة أيّ إحساس أو شعور أو قدرةٍ على أيّ نفعٍ أو ضرر أو أيّ سمعٍ أو بصرٍ، وغير ذلك من مظاهر القدرة أو الحياة، بقدر ما يتعلّق الأمر بالآلهة الوثنية التي يصنعونها بأيديهم ويعبدونها بجهالتهم.

أمّا الآلهة التي يعتقدون أنّها تملك القدرة المطلقة التي يتميّز بها الله، فإنّ الحُجّة القرآنيّة ترفضها من خلال الدليل القاطع، كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(1)، وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}(2)، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(3).

وهكذا كان الرسل يقدّمون لهم الحُجّة على الخطأ الذي وقعوا فيه، والانحراف الفكريّ الذي أزاحهم عن مواقعهم، ولكنّهم كانوا يغلقون تفكيرهم عن الاستماع إلى الرسل، كما قال الله سبحانه عنهم: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ*خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ}(4). وهكذا عاشوا الجاهليّة الجهلاء، وخضعوا لأوهامها في مسألة تعدّد الآلهة، انطلاقاً من تشبّثهم بعاداتهم وتقاليدهم المتخلّفة. ولذلك كان استبعادهم لدعوة التوحيد من قبل الرسل في الإيمان بالله الواحد، فكان ردّ فعلهم التعجّب من هذه الدعوة، لا مناقشة مضمونها العقيدي الفكري. وهذا ما تحدّث الله عنه في قوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ*أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(5).

وفي ختام هذا الفصل، نؤكّد  من خلال القرآن الكريم في آياته، أنّ مسألة الكفر ليست مسألة فكريّة خاضعة لمعادلات الفكر السليم، وللحجج القويّة، بل هي منطلقة من حالات غير علميّة أو عقليّة، فيبقى الإنسان على السطح من الشعور، ولا ينفذ منه إلى العمق في الفكر. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 المحاضرة التاسعة والعشرون

27 شوّال 1427 هـــ ـــ 18/11/2006م

 

 

الشكّ في الأصول العقيديّة

 

الشكّ العقيديّ هو الحيرةُ والتردّد من خلال الشبهات الطارئة.

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

الشكّ في العقيدة

من المسائل الفكرية التي سنتناولها في هذا البحث، هي مسألة الشكّ في الأصول العقيديّة، بحيث لا يرفضها الإنسان ولا يقبلها، بل يبقى في موقع الحيرة أو التردّد من خلال بعض الشبهات الطارئة التي تبعده عن الوضوح، على أساس أنّ لديه أكثر من علامة استفهام حول وجود الله، أو رسالة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو الالتزام باليوم الآخر. فهل الشاكّ كافر؟

ربّما يتصوّر البعض ذلك انطلاقاً من أنّ الكفر مفهوم عدمي يختزن عدم الاعتقاد، ما يجعل الشكّ حالةً سلبية في الجانب العقيدي. ولكن قد نتوقّف أمام هذه الملاحظة، فنجد أنّ الكفر في مفهوميه اللّغوي والعرفي، يمثّل عنواناً إيجابياً، فهو يمثّل جحود الفكرة والالتزام برفضها، وهذا ما نستوحيه من تفسيره في اللّغة، بأنّه ستر الشيء الذي يعني إبعاده عن الرؤية والتصوّر، بحيث لا يبدو أمام الناظر أو الملتزم، ولذلك قيل إنّ كفران النعمة هو جحودها. ولكن حالة الشكّ قد تتمثّل في صورتين:

الصورة الأولى: صورة اختيار الشكّ، بحيث يتطوّر إلى حالة جحود، لأنّه لا ينفتح على البحث عن الحقيقة ليصل إليها من خلال ذلك، فينكر الإيمان يرفضه ويتبنّى الكفر، كما في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(1). ولعلّ ذلك، كما أشرنا في أحاديثنا، إنّما هو في العمق، حال كلّ الملحدين في العالم، لأنّ الملحد الذي يُنكر وجود الله لا يملك حُجّة على نفي الوجود.

الصورة الثانية: وهي صورة الوقوف مع الشكّ في انفتاح منهجي يستهدف دراسة المسألة في عناصرها الدقيقة التي ربّما يصل من خلالها إلى الإيمان.

ولعلّ الحديث الوارد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يشير إلى الصورة الأولى، فقد روي عنه أنّه قال: "مَنْ شكّ في الله وفي رسوله فهو كافر"(1). وقد أوضح الإمام ذلك في رواية محمّد بن مسلم عنه، قال: "كنتُ عند أبي عبد الله، فدخل عليه أبو بصير، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول فيمن شكّ في الله؟ فقال (عليه السلام): كافر يا أبا محمّد، قال: فشكّ في رسول الله؟ قال (عليه السلام): كافر، قال: ثمّ التفت إلى زرارة فقال: إنّما يكفر إذا جحد. وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام): لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا"(2)، وهذا ما يدلّ على أنّ الصورة الثانية لا تلتقي مع الكفر.

وقد روي عن الإمام محمّد الباقر أو الصّادق (عليه السلام)، في قول إبراهيم (عليه السلام) عندما رأى كوكباً: قال "هذا ربّي"، قال: "إنّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً، وإنّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته"(3). ويؤيّد ذلك ما ورد في الكتاب والسُنّة من الدعوة إلى التفكير والتدبُّر والبحث في رحلة الإنسان إلى الإيمان، فإنّه يبدأ من الجهل، ثمّ ينفتح على الشكّ الذي يقوده إلى دراسة العناصر الإيمانية من خلال التفكير الذاتي أو الحوار مع الآخرين. وربّما نستوحي هذا الأسلوب من الآية الكريمة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(4)، فإنّه يطرح المسألة كما لو كانت موضع شكّ بينه وبين الكافر، ليقوده إلى الشكّ فيما هو عليه من الاعتقاد، ليكون الحوار حركة إيجابية في رحلة البحث عن الحقيقة.

وفي ضوء ذلك، نصل إلى الموقف المتوازن، وهو أنّ عدم الإيمان ليس كفراً إذا لم تستتبعه حالة جحود، لأنّ الكفر هو الجحود نفسه، وهذا ما جاء عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): "كلّ شيء يجرّه الإقرار والتسليم فهو الإيمان، وكلّ شيء يجرّه الإنكار والجحود فهو الكفر"(5).

الالتزام الشكلي بالإيمان

وقد تُطرح مسألة أخرى، وهي مسألة إظهار الإيمان واستبطان الكفر.

من الطبيعي أنّ الشخص الشاكّ ليس مسلماً ولا كافراً؛ لكن لو كان هذا الإنسان مسلم اللّسان كافر القلب، كالكثيرين من الذين دخلوا في الإسلام رغبةً وطمعاً، أو رهبةً وخوفاً، فشهدوا الشهادتين، لا من خلال قناعة بمضمونهما، بل أعلنوا التزامهم بالإسلام بحيث أسلموا أمرهم إلى الواقع الإسلامي ليكونوا جزءاً من المسلمين ينطبق عليهم ما ينطبق على المسلمين. وبعبارة أخرى: هم يلتزمون بالقوانين الإسلامية وبالانخراط في واقعهم الاجتماعي، ولكنّهم لا يلتزمون بالقاعدة الفكرية للإسلام، فما هو حكمهم؟ هل يُعدّون من المسلمين مراعاةً لما أعلنوه؟ أو يُعتبرون من الكافرين انطلاقاً من كُفرهم الذي عقدوا عليه قلوبهم؟

هذا النموذج من الناس شكّل واقعاً بارزاً في مجتمع الدعوة الإسلامية الأوّل. وقد تحدّث القرآن الكريم عن المنافقين، فقال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}(1)، بل إنّه قد أفرد لهم سورةً من سُوره. والمنافقون هم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، فهم ليسوا مؤمنين؛ لأنّ الإيمان يرتكز على تبنّي العقيدة الإسلامية، كما أنّهم ليسوا كافرين؛ لأنّ الكفر هو الجحود بالإسلام والمفروض أنّهم لم يجحدوا.

لقد حكم الإسلام على مثل هؤلاء بالإسلام، فأعطاهم الجنسية الإسلامية ـــ إذا صحّ التعبير ـــ؛ ولذلك كان المؤمنون يتزوّجون منهم ويزوّجونهم، وكان يُرتّب عليهم أحكام الإسلام في كلّ القوانين الإسلامية، خصوصاً أنّ السياسة الإسلامية التي تحرّك بها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كانت تقضي بتحييد المشركين عن مجتمع الشرك، ولذا قيل أن يدخل الناس كلّهم في الإسلام القانوني، وفي الإسلام الاجتماعي، كان (عليه السلام) يقول: "مَنْ قال لا إله إلاّ الله محمدٌ رسول الله حقن بها ماله ودمه وعرضه"(2)، ونقرأ قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}(3)، أيْ: دعْهُ يسمع هذا الفكر في ذهنه ثمّ أبلغه مأمَنَه.

ولعلّ أوضح آية تدلّ على هذا النوع من اعتبار هؤلاء الناس مسلمين، بمعنى أنّ الإسلام أعطاهم ـــ بحسب مصطلحنا في هذه الأيام ـــ الجنسية الإسلامية، كما تعطي كلّ بلدان العالم اليوم الجنسية لمن يؤمن بقضية البلد ولمن لا يؤمن؛ إذ تمنحها لكلّ من ولد في البلد أو كان أجداده فيها، وقد يكون أحد ما ضدّ البلد، أو قد يكون متآمراً مع الأجنبي على بلده، ولا يلتزم بالتزامات البلد. تلك الآية تقول: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا}(1)، لأنّ الإيمان ينطلق من خلال حركة العقل بالاقتناع بمضمون الإيمان وكذلك حركة القلب وحركة العمل، {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، أي أسلمنا أمرنا لنظام الإسلام وللمجتمع الإسلامي، ولكنّهم في واقع الأمر ليسوا مؤمنين.

وعلى ضوء هذا المعنى، يمكن لنا أن نتعامل مع الذين يريدون أن يدخلوا في الإسلام تحت تأثير حالات معينة وأوضاع معيّنة ورغبات معيّنة، كما في بعض الناس من غير المؤمنين ممّن يريد أن يتزوّج من مسلمة، ومن المعلوم أنّه لا يجوز للمسلمة الزواج من غير المسلم، فربّما يأتي هذا الإنسان ويقول أنا مستعد أن أشهد الشهادتين، فهل نكتفي منه بذلك أو لا؟

هنا حالتان؛ فتارة يتلفّظ بالشهادتين ولكن يبقى على وضعه الاجتماعي السابق في مسألة الانتماء الديني، كأن يرتاد الكنيسة إذا كان مسيحيّاً، فهذا لا يُقبل إسلامه؛ لأنّ الإسلام عنده مجرّد كلمات أجراها على لسانه من دون أن تعكس واقعاً عمليّاً.

نحن لا نقصد هنا أنّه لا بدّ من أن يكون ملتزماً بالإسلام حتى يحكَم بإسلامه، كأن يصلّي ويصوم ويحجّ ويقوم بسائر العبادات، فهناك مسلمون غير ملتزمين بذلك، ومع ذلك يُعتبرون مسلمين. إنّ ما نقصده هو أن يكون إظهاره للشهادتين معبّراً عن التزامٍ بالانخراط في إطار المجتمع الإسلامي، بحيث يكون له ما لهم وعليه ما عليهم، وإنْ لم يكن معبّراً عن التزام فكريّ بالمضمون العقيدي للإسلام.

ففي الحالة الثانية يكون مسلماً، ويجوز لنا أن نجري عليه أحكام الإسلام، فيتزوّج مسلمةً أو ما أشبه ذلك.

ولذا يجب ملاحظة هذه النقطة، لأنّ بعض الناس قد يشتبه الأمر عليهم في ذلك فيكتفون بالشهادة، مع أنّه لا بدّ من أن يتابع نطقه بالشهادتين ليكون جزءاً من المجتمع الإسلامي، بحيث يدخل في النسيج الإسلامي من ناحية الالتزام العملي. ولذلك يمكن أن نعتبر الإنسان الذي يُعلن الشهادتين رغبةً أو رهبةً، ولا يعقد قلبه على الإيمان بهما، بل يُسلم وضعه وأمره إلى الواقع الإسلامي، يمكن اعتباره مسلماً، ولكن لا نعتبره مؤمناً. هذا خلاصة المسألة في هذه النقطة.

الشكّ الطارئ على الإيمان

وفي مقابل ذلك، هناك شكٌّ يداخل الإيمان، كما في الشكّ الذي يدخل على معظم المسلمين في التوحيد والمعاد أو غيرهما من العقائد، ويساورهم نتيجة بعض الوسوسات، أو بعض الحالات النفسيّة الطارئة، ولكنّهم يلتزمون الإسلام حقيقةً؛ هذا الشكّ لا يؤثّر على إيمانهم وإسلامهم، لأنّه شكّ غير مستقرّ.

ويبقى عندنا بعض الأبحاث التي تتناول الكفر، ومن بين هذه الأبحاث حديث للإمام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي يُفصل فيه كيف تعامل القرآن مع كلمة الكفر في تنوّعات معانيها في هذا المجال، وهذا ما نرجو أن نتحدّث عنه في الأسبوع القادم إنْ شاء الله.

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثلاثون

4 ذو القعدة 1427 هـــ ـــ 25/11/2006م

 

 

وجوهُ الكفرِ وأشكاله

 

الكفرُ ظلمٌ للعقيدة واستعلاءٌ على الحقّ وأهله.

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

وجوه الكفر

الكفر مفهوم نسبي قد يصدق على الجحود في المسألة العقيديّة في تنوّعاتها، كما في جحود التوحيد الذي يتمثّل في الملحدين الذين ينكرون وجود الله، وفي المشركين الذين يلتزمون عبادة غير الله، وكما في جحود الرسالة والرسول الذي يتمثّل في أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالرسول وبالقرآن والإسلام كلّه، وكما في جحود اليوم الآخر الذي يتمثّل في إنكار البعث والقيامة، وما إلى ذلك.. وقد جاء في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) تفصيل ذلك، عندما سُئل عن وجوه الكفر في كتاب الله، فقال: "الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النِّعَم. فأمّا كفر الجحود، فهو الجحود بالربوبيّة، وهو قول مَن يقول: لا ربّ ولا جنّة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية، وهم يقولون: وما يهلكنا إلاّ الدهر. وهو دين وصفوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبّت منهم ولا تحقيق لشيء ممّا يقولون، قال الله عزّ وجلّ: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(1)، إنّ ذلك كما يقولون، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}(2)، يعني بتوحيد الله تعالى: فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر من الجحود، فهو الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد بأمرٍ وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده، وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}(3)، وقال الله عزّ وجلّ: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}(4)، فهذا تفسير وَجْهَي الجحود...".

ولذا نلاحظ أنّ الجحود قد ينطلق من الاستحسان الذاتي المرتكز على الحسّ الذي يعتمد على مشاهدة حالة الموت في الإنسان، في تغيّر صورته، وتقطيع مفاصله، وتمزيق أعضائه بفعل العوامل الطبيعيّة للفناء، من دون تدخّل أيّة حالة غيبيّة في رأيهم، لأنّهم لا يبحثون عن شيء وراء الحسّ، ممّا قد يفسّر الأمور تفسيراً يتجاوز المسألة المادية إلى المسألة الثقافية الروحية التي تقود إلى الإيمان. وقد اعتبرت الآية أنّهم يعتمدون على الظنّ، وهو الاحتمال الذي لا يرتكز على حجّة، ويتعاظم في الذّات حتى يتحوّل إلى حالة عناد متخلّف لا ينفتح على حوار، ولا ينطلق إلى فكر ممّا ينذر به المنذرون، لأنّ الله قد ختم على قلوبهم، فلم ينفتحوا على التفكير، وعلى سمعهم الذي أغلقوه عن الاستماع، فلم ينفتحوا على الموعظة والنصيحة وآيات الله، وعلى أبصارهم التي أطلقت عليها الغشاوة، فلم يبصروا الأمور التي تثير في عقولهم الاعتبار والدلائل التي تصل بهم إلى الحقيقة، وهذه هي صورة الإنسان الذي لا يحترم ذاته ولا عقله ولا مصيره، بل يخضع لنزواته الذاتية وأهوائه الخاصّة.

الكفر استعلاءً

أمّا الفريق الثاني الذي يمثّل الوجه الثاني للجحود، فهو الذي انفتح على الحقيقة في وعيه وثقافته ومشاعره الداخلية، ولكنّه رفض الالتزام بها في مسألة الانتماء، استعلاءً على الحقّ وأهله، وظلماً للعقيدة التي تفرض على الإنسان الذي يؤمن بها في نفسه على صعيد اليقين، أن ينتميَ إليها ويلتزمها ويدافع عنها، ولكنّه يرفض ذلك عندما يواجه الأوضاع السلبية التي قد تحيط به في صراعه مع فريق الإيمان، لأنّه لا يريد أن يمنحهم الشهادة على صدقهم في الموقف. وهذا ما كان عليه يهود المدينة، الذين كانوا يعلنون نبوّة الرسول القادم إلى المدينة في لقاءاتهم مع المشركين، ويهدّدونهم بأنّه سوف يقف إلى جانبهم في التزامهم الديني، ولكنّهم كفروا به عندما جاء إلى يثرب ودخل أهل المدينة في الإسلام أفواجاً، ما أدّى إلى خسارتهم الموقف الذي كانوا يتصوّرونه لحسابهم.

وهكذا تمثّلت فيهم صورة الإنسان الذي يعيش مع عصبيّته بعيداً عن اقتناعاته، لأنّه لا يصير إلى قاعدة من الإخلاص لله ولرسالاته التي أكّدها القرآن الكريم عندما جاء مصدقاً لما بين يديه.

كفر النعم

ونتابع حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي قال: "... الوجه الثالث من الكفر كفر النِّعم، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان (عليه السلام): {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}(1). وقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(2). وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}(3)..".

وهذا الوجه من وجوه الكفر يعكس صورة الإنسان الذي يفيض الله عليه بالنِّعَم التي تمتدّ إلى كلّ مفاصل حياته، بحيث تكون حياته كلّها في مواقع نِعَم الله، كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}(4)، و{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}(5). ولكنّه يجحد النِّعمة ويتنكّر لها، ولا يتحرّك بالأساليب والوسائل التي تمثّل الشكر القولي والعملي الذي يجعله منفتحاً على الله في لطفه وكرمه ورحمته، فيظلم نفسه في جحود النِّعمة، ويظلم ربّه في عدم الشكر له، ولاسيّما أنّ كفر النِّعمة قد يمتد بلحاظ بعض الحالات إلى الكفر بالله من ناحية عملية، ما قد يتحوّل إلى حالة من الجحود الذي يجعله في غيبوبة فكرية عن الله.

ونتابع الحديث الصادقي: "والوجه الرابع من الكفر، ترك ما أمر الله عزّ وجلّ به، وهو قول الله عزّ وجلّ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ*ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ}(6). فكفرهم بترك ما أمر الله عزّ وجلّ به، ونسبهم إلى الإيمان، ولم يقبله الله منهم، ولم ينفعهم عنده، فقال: {فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(1)..".

الالتزام الشامل

إنّ إطلاق الكفر على هذا النوع من ترك ما أمر الله عزّ وجلّ به، يرتكز على أساس القاعدة الإسلامية الشموليّة التي تفرض الإيمان بالكتاب كلّه، في حرامه وحلاله ومفاهيمه المتنوّعة في العقيدة وفي الحياة، فمن كفر ببعض الكتاب وآمن ببعضه، كان منحرفاً عن الخطّ الإسلاميّ الذي يمثّل الكيان المتكامل في مواقعه، المتواصل في تشريعاته، المنفتح على قضايا الإنسان كلّه، من دون حاجة إلى استعارة أيِّ حكم أو مفهوم أو عقيدة من أيّ اتجاه آخر.

ولذلك كانت مسألة الحكم بالكفر للسائرين في هذا المسار، تنطلق من رفضهم الجزئيّ لبعض هذا الإسلام، الذي قد يؤدّي إلى رفضه بطريقة وبأخرى للكلّ في النتيجة، لأنّ الإسلام كلّ مترابط وليس شيئاً منفصلاً بعضه عن بعض، وهذا ما ينبغي أن يلتفت إليه الدّعاة المسلمون، في أن يؤكّدوا وحدة الإيمان في العقيدة والشريعة والمفاهيم، لأنّ ذلك هو الذي يمنح الإسلام وحدة في تحقيق أهدافه في الحياة.

براءة من الكفر

ونتابع حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، وذلك قوله عزّ وجلّ يحكي قول إبراهيم (عليه السلام): {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}(2)، يعني تبرّأنا منكم. وقال يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الإنس يوم القيامة: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}(3)، وقال: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}(1)، يعني يتبرّأ بعضكم من بعض"(2).

فإنّنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم يؤكّد استعمال كلمة الكفر في البراءة التي يعلنها المؤمنون ضدّ الكافرين، كما يعلنها إبليس من أوليائه، والكفّار بعضهم من بعض، ما يوحي بأنّ مسألة البراءة هي من المسائل التي تؤكّد الالتزام بالمبدأ الإيماني في مقابل الخطّ الكافر، كما يمثّله موقف الكافرين والمضلّين في كفر بعضهم ببعض في عملية البراءة الرافضة أمام النتائج السلبية التي يواجهونها في مواقع المسؤولية في الدنيا والآخرة.

ولعلّ هذه المسألة هي التي ترتكز عليها العقيدة التي تخضع للجانب الإيجابي في الالتزام بمضمونها، وللجانب السلبي في التبرّي من كلّ مفهوم يخالف الفكر الإيماني، الأمر الذي يجعل من البراءة في الخطّ الإيماني أمراً حيوياً وأساسياً لا بدّ من تمثّله في مسألة صفاء الالتزام وخلوصه من كلّ خلل انحرافي.

وفي نهاية المطاف، نجد أنّ القرآن الكريم قد استعمل كلمة الكفر فيما يتجاوز المسألة العقيديّة إلى المسألة العملية والانتمائية، ولكن تبقى كلمة الكافر في إطلاقها العام تمثّل الجحود في الإيمان بالله. ولذلك نجد أنّ البعض من أهل الكتاب يتعقّد من وصفهم بها، لأنّهم يقولون إنّهم يؤمنون بالله، وهذا ما أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}(3)، وفي قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(4).

فنلاحظ أنّ صفة الكفر التي أطلقها القرآن عليهم، هو الكفر بالرسول والرسالة، باعتبار أنّ كلمة الكفر تمثّل كلمة نسبية تختلف باختلاف متعلّقها، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}(1)، فلم يعتبرهم من المشركين، لأنّهم يؤمنون بالله الواحد ـــ مع اختلافهم في شخصية الإله ـــ بل اعتبرهم من الكافرين، لأنّهم كفروا بالرسول وبالإسلام كلّه.

ولذلك ـــ ومن الجانب الجنسي ـــ قد تطلق صفة الكافر على من يكفر بالطاغوت. وفي ضوء ذلك، لا بدّ من التحفّظ في إطلاق كلمة الكفر على هذا الفريق، كما جاء في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}(2)، أو ذاك الفريق من خلال بعض التفاصيل العقيديّة أو الشرعية أو بعض الأوضاع العملية، لما قد يوحي به ذلك من التعقيدات في إطلاق الكلام وعدم توضيح التفاصيل، ما قد يؤدّي إلى نتائج سلبية على صعيد الحوار بين الديانات الذي قد يطرحه بعض الذين يتحرّكون في حوار الحضارات، أو مسألة التقارب بين الشعوب المتنوّعة في التزاماتها الدينية. وهذه مسألة مهمّة، ويجب أن يكون التعبير فيها دقيقاً، للابتعاد عن إثارة الحساسيّات الذاتية بفعل سوء التفاهم حول مدلول الكلمات. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

باب المسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأوّل

المسائل القرآنية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليم الإنسان:

 يقول الله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً}(1). هل هذه الآية تشمل النبيّ أيضاً.

ــــ هذه الآية تشمل كلّ الناس؛ لأنّ ما يملكه النبيّ من علم، إنّما هو ممّا علّمه إيّاه الله، والله قال له: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(2)، ولكنّ الله جعله نوراً في عقله، وفي قلبه، من خلال الوحي الذي أنزله إليه، وممّا أفاض عليه من الإلهام. ولذلك، فإنّ هذه الآية تبيّن واقع الإنسان كلّه، في أنّه عندما ولد كان لا يملك علماً ولا يملك أيّ شيء، ولكنّ الله سبحانه وتعالى {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(3)، باعتبار أنّه هو الذي أعطى الإنسان وسائل العلم، وهيّأ له الأجواء والظروف التي يستطيع من خلالها أن يحصل عليه، وهو ما يؤكّده ذيل الآية، حيث تقول: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(4).

النَّفس الأمّارة:

يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}(5)، لماذا هذه الصفة المميّزة للنفس؟

ــــ لأنّ نفس الإنسان، بما هي ذات الإنسان، تشتمل على الغرائز التي يمكن أن تتحرّك من خلال ما يحيط بها، أو من خلال ما يلقي إليها من بعض الأفكار ومن بعض الأوضاع التي تقود الإنسان إلى الأخذ بأسباب إيحاءات الغريزة التي تثير فيه بعض الشهوات السلبية، إلاّ أن ينفتح على عقله. فالله خلق للإنسان عقلاً وشهوة، وأراد له أن يربّي شهوته بإيحاءات عقله، لتتوازن الشهوة. ولذلك، فإنّ إبليس عندما قال لله سبحانه وتعالى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(1)، عندما هدّد بأنْ يغوي الإنسان، وأن يخرجه من الجنّة كما أخرج آدم منها، وذلك باستغلال غرائزه التي يحرّكها باتجاه سلبي يساهم في إضلال الناس، قال الله له: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ}، فعبادي الذين ينتسبون إليَّ والذين يؤمنون بي والذين يعبدونني، هؤلاء لن تستطيع السيطرة عليهم؛ لأنّهم ينطلقون من خلال التزامهم بالعقل الروحي والإرادة القويّة التي ينفتحون بها على الله عندما يحاول الشيطان أن يوسوس لهم(2).

المستثنون من سلطان الشيطان:

قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}(3). مَنْ هم المستثنون في هاتين الآيتين؟

ــــ المستثنون هم الذين ينفتحون على الإيمان، وهم الذين ينفتحون على التقوى، وهم الذين يعيشون منطق العقل، ويتحرّكون من خلال الإرادة القويّة التي لا تضعف أمام وساوس الشيطان، أمّا الآخرون، فهم الذين يخضعون للشيطان، ويتحرّكون في طريق النفس الأمّارة بالسوء، ولا ينفتحون على الله ولا على الوحي ولا على الأنبياء(4).

 

حرّية الإنسان ومشيئة الله:

كيف تنسجم حرّية الإنسان واختياره مع القضاء والمشيئة الإلهية، كما في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}، والظاهر من الآية، أنّ المشيئة الإنسانية متوقّفة في حدود الاختيار على المشيئة الإلهية، أليس ذلك إشعاراً بالجبر؟

ــــ هذا الأمر يتوقّف على معرفة ما هو المراد من المشيئة الإلهية. المشيئة الإلهية قد تفسّر بعلم الله، فيكون المعنى أنّ الإنسان لا يعمل شيئاً ولا يشاء شيئاً إلاّ والله يعلمه. وهذا ليس جبراً، بل إنّ الله يعلم ما يفعله الإنسان وما يقوم به بإرادته واختياره؛ لأنّ الله يعلم المستقبل كما يعلم الماضي والحاضر. وربّما يراد من قوله تعالى: {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} الوسائل التكوينيّة التي هيّأها الله للإنسان {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1)، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}(2)، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(3)، فالله سبحانه وتعالى هيّأ للإنسان كلّ الوسائل التي تقوده إلى الهدى، أو التي يمكن أن تصل به باختياره إلى الضلال، ولكنّ الإنسان يأخذ بالوسائل التي تضلّه وهو قادر على أن يأخذ بالوسائل التي تهديه. فقوله: {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} يختصّ بالجانب التكويني الذي يقود إمّا نحو الهدى وإمّا يقود نحو الضلال، وكِلا الأمرين بإرادة الإنسان وباختياره. وفي كِلا المعنيين، ليس هناك أيّ جبر في هذا المجال.

وقد يكون ذلك للإشارة إلى أنّ كلّ هذا الكون إنّما يتحرّك بإرادة الله، فهو قائمٌ به، والله هو مسبّب الأسباب، والإنسان إنّما يتحرّك من خلال السنن الكونيّة التي أودعها الله في حركة الكون وفيه، وبهذا المعنى تكون مشيئة الإنسان تابعة لمشيئة الله في كلّ أمورها. وقد يكون بهذا المعنى، ما ورد من أحاديث في عقيدتنا، أنّه "لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين"(4)؛ لأنّ حركة الإنسان تبقى خاضعة للسنن الإلهيّة، وليست مستقلّة عنها، والله العالِم بحقائق آياته.

سلطان العقل:

قال الله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً}(1). ما معنى هذه الآية الشريفة؟ وما هو المراد من قوله (سلطاناً)؟

ــــ أن يدعو الإنسان الله بأنْ يوفّقه ويهديه في أيِّ موقع يدخل فيه، ليكون هذا المدخل مدخل صدق، والصدق يمثّل الحقّ والاستقامة، وأن يخرجه أيضاً من المخرج الذي يقوده إلى الصدق، {وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً}، وهو سلطان العقل وسلطان التقوى الذي ينصر الإنسان على شيطانه وعلى نفسه الأمّارة بالسوء.

التسريع بالميّت إلى القبر:

يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}(2). البعض يعتمدون على هذه الآية ليقولوا إنّ الدفن لا بدّ من أن يكون فورياً، أي بسرعة، لأنّ الفاء هي فاء العطف. ما رأي سماحتكم في ذلك؟

ــــ الآية لا تدلّ على ذلك، بل الحديث فيها عن مآل الإنسان، لأنّ نهاية الإنسان إلى الموت، وتبيّن الآية أنّ الإقبار إنّما هو بعد الموت، فلا يقبر الإنسان وهو حيّ، وليس من الضروري أن تكون هناك فورية، بل كلّ شيء يعقب شيئاً إنّما يعقبه بحسبه.

أسماء مكّة:

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ}(3). ما المقصود من هذه الآية؟

ــــ بكّة اسم لمكّة، لا فرق بين كلمة بكّة ومكّة، وهما اسمان لهذا المكان، وتدلاّن على معنى واحد، وقد قيل إنّ العرب تبدّل الباء ميماً. وتذكر بعض التفاسير، أنّ بكّة هي خصوص المسجد، ومكّة هي الحرم كلّه. وقال بعضهم إنْ بكّة هي بطن مكّة، وقال بعضهم إنّ بكّة موضع البيت والمطاف، مأخوذ من البكّ وهو الزحم؛ لأنّ الطواف فيه زحم.

اتّباع سنّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

ما معنى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1)؟

ــــ تؤكّد هذه الآية شرعية السنَّة في كلّ ما جاء به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّا أمر به أو ممّا نهى عنه. وبذلك تبطل تساؤلات بعض الناس عن بعض تفاصيل التشريعات أو عن بعض المفاهيم، عندما يقولون إنّ هذا ليس موجوداً في القرآن؛ ولكنّنا نقول لهم إنّه موجود في القرآن، وذلك من خلال تأكيد القرآن أن نتّبع ما جاء به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فنحن مكلَّفون بأن نتبع كتاب الله ونتبع سنّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما أمرنا الله به من ذلك، وهذا ممّا نقرأه في القرآن الكريم: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2)، وأيضاً نقرأ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(3)، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}(4).

إبراهيم من شيعة نوح:

ما معنى قوله تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}(5)؟

ــــ الهاء في (شيعته) راجعة إلى نوح (عليه السلام؛ إذ إنّه تقدّم ذكره في الآيات السابقة على ذكر إبراهيم (عليه السلام).

 

 

معنى "المقرَّبون"

قال تعالى: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ*كِتَابٌ مَّرْقُومٌ*يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}(1)، ما معنى المقرَّبون؟

ــــ البعض يقول إنّهم الملائكة، مع أنّ تتمّة الآيات تقول: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ*عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}(2)، والمقرَّبون هم الذين أطاعوا الله حقّ طاعته، وعبدوه حقّ عبادته، وانطلقوا في خطّ مواقع رضاه(3).

الصلاة على المنافقين:

ما هو المقصود من قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}(4)؟

ــــ هذا موجَّه إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذلك بأن لا يصلّي على المنافقين، ولا يقوم على قبورهم تكريماً لهم.

أسماء الرسول في القرآن:

(طه) و(يس) هل هذه الكلمات من أسماء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أم أنّها حروف مثل: ألم.. ألمر...؟

ــــ الظاهر أنّها من الحروف المقطَّعة، فإنّ (طه) وكذلك (يس) ليست أسماءً، ولكن شاع جعلها من أسماء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

هاروت وماروت:

هل هاروت وماروت من الملائكة؟

ــــ عبّر الله عنهما بـــ (ملكين)، وذكر أنّهما ملكان. وفي الحديث عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "وأمّا هاروت وماروت فكانا ملكين، علَّما الناس السحر ليحترزوا به من سحر السحرة، ويبطلوا به كيدهم، وما علَّما أحداً من ذلك شيئاً حتّى قالا: إنّما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قومٌ باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز منه، وجعلوا يفرّقون بما تعلَّموه بين المرء وزوجه"(1).

أسبقية اللّيل والنهار:

ما هو تفسير الآية الكريمة من سورة يس {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}، علماً أنّ الليل في بلادنا يأتي قبل النهار؟

ــــ إنّ مسألة اللّيل والنهار، في تقدّم أحدهما على الآخر، هي مسألة نسبيّة، حسب لحاظ حركة كلّ منهما. وهذا ما قد يوحي به قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}(2)، بمعنى: يدخل كلّ واحد منهما في صاحبه. وعلى ضوء هذا، لا يصحّ إطلاق القول بأنّ الليل يأتي قبل النهار، فهما يخضعان لمسألة توارد شروق الشمس وغروبها في أفق واحد، من خلال النظام الكوني الذي خلقه الله للزمن. وعليه، لا يكون المقصود بالسبق ـــ في الآية ـــ السبق بحسب الوجود ـــ وإن احتمله بعضهم ـــ، بل كناية عن سيطرة الليل على النهار بحيث يلغي وجوده، فيتقدّمه ليكون هناك ليلان متعاقبان، والله العالِم!

تحريف القرآن:

لماذا نتَّهم أهل السنّة بتحريف القرآن، خصوصاً حول آية الرجم، مع أنّ الأحاديث أثبتت أنّها نسخت ولكن بقي حكمها؟

ــــ نحن لا نتّهم أهل السنّة، بل إنّ المشكلة أنّهم يتّهموننا بتحريف القرآن. نعم، نقول لهم إنّه وردت عندكم آية الرجم، فإذا كنتم تؤوّلونها فنحن كذلك، فكلّ ما نسب إلى الشيعة في قضية التحريف، هو واردٌ في مقام التفسير للآيات، فمثلاً قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}(1)، ورد: بعليّ، فكلمة (بعليّ) ليست جزءاً من القرآن، بل هي من باب التفسير، بمعنى: انتصر المسلمون في واقعة الخندق بعليّ (عليه السلام).

الطاعة والإكراه:

كيف نجمع بين هاتين الآيتين في قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}، وقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؟

ــــ هل إطاعة الله هي إكراه؟! إنّ قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(2) يعني الالتزام بالإسلام وبالشهادتين، بأن يعبد الله سبحانه وتعالى، وأن يؤمن برسالة الرسول وما يتّصل بها، والله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(3)، وهذا ليس من الإكراه في الدّين. فالله يخاطب الإنسان ليؤكّد مسؤوليّته فيما التزمه وفيما اقتنع به وآمن به. والمقصود من عدم الإكراه في الدّين، أن لا يُضغط على الإنسان في التزامه في الدّين، لأنّه لا بدّ من أن يكون التزامه نابعاً من إرادته واقتناعه به من خلال الإيمان بالإسلام، والله العالِم.

التصديق في التلاوة:

هل صدرت كلمة (صدق الله العظيم) أو (العليّ العظيم) من الرسول أو أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؟

ــــ لم يُعهد ذلك عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو عن الأئمّة (عليهم السلام)، وهي من باب التأدّب والتسليم والتصديق برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والإيمان بالقرآن بأنّه وحي الله، وأنّه هو الصدق الذي أنزله الله على رسوله. كما أنّه لا يوجد فرق بين (صدق الله العظيم) و(صدق الله العليّ العظيم) و(صدق الله الرحيم العظيم)، فكلّها من صفات الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وصف نفسه ـــ في القرآن الكريم ـــ بالعظيم؛ فقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}(1)، وبالعليّ العظيم؛ فقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(2)، كما وصف نفسه بصفات أخرى.

الاستعاذة بالله:

ما هو تفسير قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ*وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}(3)؟

ــــ {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} يعني من الظلام الشديد الذي إذا دخله الإنسان فربّما يواجه بعض الأخطار، إذ تتخفّى بعض الحيوانات وبعض الحشرات في الظلام، ولا يستطيع الإنسان أن يحمي نفسه منها. أمّا {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}، فإنّ بعضهم يقول إنّها واردة في النساء اللواتي يعقدن الخيوط أو الأشياء بطريقة سحرية وينفخن فيها. ويمكن أن يفسّر هذا أنّه ليس لها تأثير في ذاته، ولكن من خلال ما يحدث للناس من الأوهام في تأثير هذا عليهم، فيسقطون أمام ذلك، والله العالِم.

التوبة لإبليس:

هل هناك توبة لإبليس عند الله سبحانه وتعالى، مثلما هناك توبة للنفس الأمّارة بالسوء؟

ــــ الظاهر أنّ إبليس لا تتحرّك في نفسه التوبة؛ إذ إنّ الكبرياء عنده أصبح عقدة، تحوّلت من كبرياء ضدّ آدم، إلى كبرياء ضدّ الله تعالى، باعتبار أنّ الذي يعصي الله ويُصِرّ على معصيّته، ويتابع حركة إضلال الناس بهذه الطريقة، لا يعيش ذهنية التوبة. وقد ورد في بعض الأحاديث: "أنّ لله رحمةً يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس"(4).

 

 

 

نقباء بني إسرائيل:

قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ...}(1). ما تفسير هذه الآية؟

ــــ تفسير هذه الآية واضح، بمعنى أنّ الله بعث من بني إسرائيل أشخاصاً مقرَّبين منهم، وأراد لهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، كما قال تعالى في آيةٍ أخرى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}(2)، ولكنّهم لم يطيعوه فيما أمرهم به.

الفرق بين الكفّار والفجّار المجرمين:

قال تعالى في سورة (المطفّفين): {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}(3)، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}(4)، وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}(5)، هل هناك فرق بين المجرمين والكفّار والفجّار؟

ــــ ليس هناك من فرق بين كلّ هؤلاء، باعتبار أنّ الكفّار أجرموا في حقّ الله سبحانه وتعالى، وكانوا من الفاجرين الذين تجاوزوا الحدود وتمرّدوا عليه.

تقديم ذكر الإبل على ذكر السماء:

قال تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ*وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ}(6)، لماذا سبقت الإبل السماء؟

ــــ لأنّ الإبل موجودة في حياتهم، فهي سفينة الصحراء، وكانوا معتادين عليها، ويعرفون خصائصها، وهذا ما يجعلهم يعرفون عظمة الله سبحانه وتعالى في العناصر التي يتميّز بها الجمل، بينما هم لا يعرفون مِنَ السّماء إلاّ ما يرونه منها، فلذلك اقتضى الأمر ربطهم بما يعرفونه، ليعرفوا عظمة الله من خلال ذلك، ثمّ بعد ذلك ربطهم بما يمكن أن يعرفوه معرفةً سطحية.

المراد بالإمام:

قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}(1). ما هو دور الإمام في اليوم الآخر؟

ــــ الظاهر أنّ المراد بالإمام هو الكتاب والأعمال، ولذا قال الله بعد ذلك: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}، وهو ما يؤكّد هذا المعنى، فليس المراد بالإمام الإمام المصطلح، لأنّ كلّ إنسان يحشر بكتابه(2).

الأحرف السبعة:

وردت روايات عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، ما المراد من السبعة أحرف؟ وهل هذه الروايات معتبرة عندنا؟

ــــ لقد جاء في بعض الأخبار، أنّ المقصود بالأحرف السبعة، أنّ القرآن نزل على سبعة أقسام من الخطاب: أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل، وفي بعض الأخبار: زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، وفي الرواية عن عليّ (عليه السلام): "أنّ الله أنزل القرآن على سبعة أقسام، كلّ منها كافٍ شافٍ، وهي: أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص"(3).

 

العدّة للصغيرة؟

يرى البعض في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}(1)، دليلاً على أنّ كلاً من الصغيرة والبالغة سنّ اليأس يجب أن تعتدَّ ثلاثة أشهر، وهذا ما يخالف فتوى الفقهاء الذين يرون أن لا عدّة للصغيرة واليائسة. ما مدى صحّة هذا الإشكال؟

ــــ هذه الآية مفسّرة باللائي في سنّ الحيض ولم يحضن، ولذا عبَّر بقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ}، وكأنّ الحكم مرتبط بالارتياب بالحمل.

قوامة الرجال على النساء:

ما المراد من قول الله سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء}(2)؟

ــــ ليس المراد من القوامة الرئاسة والولاية، بل المقصود منها الإدارة؛ لأنّها واردة في مسألة تنظيم الحياة الزوجية، فالرجل هو الذي يتحمَّل مسؤولية الحياة الزوجية، وتُكمل الآية فتقول: {بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، باعتبار أنّ الرجل لديه القدرة على مواجهة الظروف المحيطة به أكثر من المرأة؛ فالأبوّة في الرجل لا تعطِّل حركته أبداً في جسده، بينما الأمومة بالنسبة إلى المرأة تثقل جسدها، والتي تظهر من الحمل، والولادة، والرضاع، والحضانة. والجانب الآخر، هو أنّ حركة الرجل بمقتضى هذه الحريّة ربّما تعطيه خبرةً أكثر. ثمّ إنّ الرجل هو الذي ينفق على هذه الحياة الزوجية: {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}؛ إذ يجب على الرجل أن يدفع للمرأة المهر وينفق عليها حتّى ولو كانت غنيّة، وإذا رزقا بأولاد، فهو مَنْ يتحمَّل مسؤوليّتهم.

أمّا في الجوانب الأخرى، فليست هناك سيطرة للرجل على المرأة؛ إذ لا يجب على المرأة القيام بأيِّ عمل من أعمال البيت، إلاّ إذا اشترط عليها الرجل ذلك في ضمن العقد، فإنّه يدخل عندئذٍ في مسألة الاشتراط، و"المؤمنون عند شروطهم"(1). أمّا إذا لم يشترط عليها، ذلك فلا يجب عليها. حتّى الرضاع، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول إذا أرادت أن ترضع ولدها وطلبت أجرة على ذلك، فإنّ عليه أن يعطيها أجرتها {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}(2)، وذلك في حال طلبت أجراً أكثر. كما أنّها ليست مسؤولة ـــ من الناحية القانونية ـــ عن تربية الأولاد والطبخ وتنظيف البيت. ولذا يقول ـــ على سبيل الطرفة ـــ إنّ الرجال هم مَن ينبغي أن يطالبوا بالمساواة وليس النساء، لأنّ الرجل ملزمٌ بالإنفاق عليها وبجلب خادمة لها. ونحن أكّدنا في تفسيرنا (من وحي القرآن)، أنّ هذه الآية مختصّة بحال الزواج، خلافاً لما ذكره السيّد الطباطبائي في تفسيره (الميزان) من أنّه يشمل كلّ حالات الرجال والنساء، بحيث يكون المعنى أنّ الرجل بما هو رجل قوّام على المرأة بما هي امرأة.

خوف الشيطان:

جاء في القرآن الكريم أنّ الشيطان يقول يوم القيامة: {إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}(3). فما هو هذا الخوف؟ هل هو على سبيل الاستهزاء والسخرية أم أنّه يخاف فعلاً عندما يرى نفسه في العذاب؟

ــــ هو يخاف من الله، ويعرف عذابه وقوّته سبحانه وتعالى؛ ولكنّ المشكلة هي أنّ هذا الخوف عندما لا يتحوّل إلى طاعة وإلى استقامة، فلا قيمة له.

تعليم آدم الأسماء كلّها:

قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ}(4). قال بعض المفسّرين إنّ الأسماء هي حقائق الأمور وعلم الملكوت، فأين كان حينما أكلا من الشجرة؟

ــــ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه علَّمه مفردات الخلافة الموجودة في الأرض التي يمارس من خلالها خلافته، لكن لا نعلم متى كان هذا التعليم، هل كان بعد تجربته مع إبليس أم قبلها؟ هذا أمر لا يفصَّل في الأخبار. على أنّ هذا التعليم لا يقدّم ولا يؤخّر في مسألة التجربة في الأكل من الشجرة؛ لأنّ هناك نهياً خاصّاً من الله عن الأكل منها على كلّ حال.

مَنْ هم أهل البيت (عليهم السلام)؟

يقول أهل السنّة، إنَّ آية التطهير مختصّة بزوجات الرسول، إذ يصدق على ذلك كلمة الأهل، مستدلّين على ذلك بقوله تعالى في سورة يوسف: {قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً}(1)، فما رأيكم في ذلك؟

ــــ بالنسبة إلى هذه المسألة، لعلّ أكثر الرواة من السنّة وجميع الشيعة، يقولون إنّها نزلت في أهل البيت (عليهم السلام)، يعني في عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، وذلك عندما ضمّهم النبيّ بالكساء، وكانت أُم سلمة موجودة معهم، فلمّا نزل جبرائيل بهذه الآية، قالت: يا رسول الله، هل أنا منهم؟ قال: لا، ولكنّك على خير، فلو كان المقصود غير هؤلاء بالخصوص، لكان من الطبيعي أن تدخل أمّ سلمة معهم. وحسب رواية أخرى، فإنّه عندما كان النبيّ يمرّ على بيت فاطمة، كان يقول: السلام عليكم يا أهل البيت. فأهل البيت هم هؤلاء الذين وردت فيهم الروايات. وهذا أمر قد اتّفق عليه أكثر المسلمين، حتّى إنّنا عندما نقول أهل البيت، فإنّها تدلّ على (عليّ وفاطمة والحسن والحسين)، وأصبحت كلمة أهل البيت تمثّل أهل بيت النبوّة عند السنّة والشيعة على حدٍّ سواء.

إحياء الموتى:

يقول الله تعالى: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}(2). لماذا قدّم الله كلمة التراب على كلمة العظام، ونحن نعلم أن جسد الميّت يتحوّل إلى عظام ومن ثمّ إلى تراب؟

ــــ هذه الآية لا تريد أن تؤكّد المسألة على أساس ما يسبق من تحوُّل الجسد من عظام إلى تراب، بل تريد أن تستدرج هؤلاء الذين يستبعدون فكرة أن يبعث الإنسان من جديد بعد أن تتحوّل عظامه النّخرة إلى تراب إلى التأمّل في هذا الخلق وبداياته، وأنّ من كان قادراً عليه أوّل الأمر، هو قادر عليه مرةً بعد مرة. على أنّه قد يكون تقديم التراب باعتبار إبراز الحدّ الأقصى للتعجّب، وذلك أنّ إعادة الإحياء من خلال ما هو أقرب إلى الإنسان، وهو العظام، أبعد عن التعجّب من إعادة الإحياء من خلال ما هو أبعد، وهو التراب، والله العالِم.

هاروت وماروت:

يقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}(1) فأين هي بابل؟ ومَن هم الملكان؟

ــــ بابل منطقة موجودة في العراق، وهي قريبة من الحلَّة، وقد كانت موقعاً حضارياً في التاريخ. أمّا مَنْ هما الملكان؟ فلا يُعرف عنهما شيء كثير سوى ما ذكره القرآن، وقد سمّاهما الله هاروت وماروت، وذكر لنا أنّهما عندما كانا يعلِّمان الناس السّحر، كانا يطلبان منهم أن لا يأخذوا بهذا السحر حتّى لا يُضرّ به أحد.

الصَّفح الجميل:

ما المقصود ممّا جاء في الآية الكريمة: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(2)؟

ــــ الظاهر أنّ المقصود بها أن يبادر الإنسان بالصَّفْح، وهو العفو والتسامح بطريقة إنسانيّة(3).

 

 

توفية الملائكة:

ما المقصود من قوله تعالى: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ}(1)؟

ــــ المقصود هو الوفاة بالطريقة التي تنفتح على الرّضا والاحترام، لإيمانهم ورفع درجتهم.

الرّبط بين الحديد والعدل:

قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}(2). ما المغزى من ذكر الحديد في آية واحدة مع الكتاب والميزان والقسط؟

ــــ في الفقرة الأولى، يريد الله تعالى أن يبيِّن للناس أنَّ أساس الرسالات فيما أنزله الله سبحانه وتعالى من كتبه، وأساس الميزان الذي أراد الله لهم أن يزنوا به أمورهم، في ميزان الحقّ والباطل، هو إقامة العدل بين الناس، لأنّ العدل هو الذي يبني الإنسان المتوازن في الحياة، في كلّ الأمور الفردية والاجتماعية، وفي كلّ الخطط والمشاريع والعلاقات، فالحياة تقوم على أساس العدل، ولذلك فإنّ كلّ الرسالات قائمة على العدل.

أمّا ذكر الحديد، فباعتبار أنّ العدل بحاجة إلى قوّة تنشره في كثير من الحالات، ومن الطبيعي أنّ الحديد بما يختزن من القوّة في كلّ الصناعات التي يدخل فيها، يمنح العاملين على تصنيعه القوّة والبأس الشديد، كما يمنحهم الكثير من المنافع التي يمكن أن يحصل عليها الناس. فقد أراد الله للناس أن ينتفعوا بالعدل في حركة الحياة بكلّ مواقعها وجوانبها، كما أراد لهم أن ينتفعوا بما أنزله الله سبحانه وتعالى ممّا يمنحهم القوّة من جهة، ويمنحهم المنافع الأخرى التي يحصلون عليها من جهةٍ أخرى. والله أعلم بحقائق آياته.

 

معنى السكينة:

يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(1). هل السكينة هي الحبّ؟

ــــ السكينة هي الطمأنينة التي يسكن فيها كلّ واحد إلى الآخر، فيطمئن ويشعر بالهدوء النفسي. والمودّة هي المحبّة، بما تمثّل من عاطفة في علاقة الزوجين بحيث يشعر كلّ واحدٍ منهما بأنّ الآخر هو جزؤه المكمِّل له، فيبنيان معاً وجوداً روحياً وشعورياً في عملية تناغم وانسجام في الأحاسيس والتطلُّعات التي يتعدّى فيها الجوانب المادية إلى السكن الروحي الذي يعزِّز العلاقة ويمتّنها للوصول معاً إلى الهناء والاستقرار والسعادة. أمّا الرحمة في العلاقات الزوجية، فهي أن يقدِّر كلّ من الرجل والمرأة ظروف الآخر، فيرحم نقاط الضعف عنده، ويتجاوز هفواته، ليعيشا معاً روحية التنازل التي لا تعني الانهزام بقدر ما تصوّب وتشير إلى الأخطاء بكلّ المحبّة لإرشاده إلى ما هو أحسن وأفضل.

الاختيار الإلهي:

قال تعالى على لسان موسى (عليه السلام): {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء}(2)، الرجاء أن تعطينا التفسير الصحيح لمعنى الفتنة هنا؟

ــــ عندما أنزل الله الصدمة على الذين كانوا مع موسى (عليه السلام) في مقام التضرّع لله، وكأنّ موسى (عليه السلام) يقول لله: صحيح أنّ هناك من السفهاء من عصوك، فهل تهلكنا بسببهم وأنتَ العادل، ولم يكن ذلك اعتراضاً من موسى (عليه السلام) على الله تعالى، ولكنّه كان تضرّعاً وتساؤلاً... وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ}. الفتنة هنا تعني الاختبار أي أنّ الله اختبر قوم موسى، أكثر من مرّة وسقط الكثيرون من أبناء قومه في الامتحان، ولعلّ الذين جاءوا مع موسى كانوا ممّن سقطوا في الامتحان، والله العالِم(1).

الطاعة الكونية:

يقول تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(2). فما معنى الإتيان طوعاً؟

ــــ هذا وارد مورد الكناية وليس معناها أنّ للسماء أو الأرض عقلاً ووعياً حتّى يخاطبهما الله بهما وكأنّه أراد أن يبيّن أنّ السماء والأرض مزوّدتان بنظم وبقوانين تتحرّكان على ضوئها تماماً كما لو كان لهما عقل فتطيعان الله في ذلك، وهذه الإطاعة هي إطاعة تكوينيّة وليست إطاعة اختيارية، وهي واردة على نحو الكناية أو التصوير كما في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ}. فليس معنى ذلك أنّه  تحدّث مع الجبال والسماوات والأرض، إنّما أراد سبحانه أن يبيّن أنّ الأمانة فيما لو عرضها على السماوات والأرض والجبال لتتحمّل مسؤولية أنفسها وتحاسب أمام اله لَأَبَتْ. أمّا الإنسان فقال إنّي أستطيع أن أحمل هذه الأمانة، ولكنّه فشل في حملها {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}(3).

 

 

 

مَنْ هم الصادقون؟

قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}(1)، الخطاب موجّه إلى المؤمنين، فما هي درجة إيمانهم، ومَنْ هم الصادقون الذين أمر المؤمنين باتّباعهم؟

ــــ المراد بالذين آمنوا الذين أسلموا عن إيمان، وهم الذين انتموا إلى خطّ الإيمان وانفتحوا عليه في عقائدهم، أمّا الصادقون، فهم الذين يتحرّكون بالصدق في الكلمة وفي الموقع، وفي المسؤولية وفي كلّ قضايا الناس. ولذلك أنظر مَن تجعله أمامك تأتمر بأمره، وتجعله مثلَك الأعلى فليكن الصادق الذي لا يخونك، والصادق الذي لا يؤدّي بك إلى الضياع. ولذلك ورد أيضاً تفسيرها في الأئمّة (عليهم السلام)، وذلك من باب التفسير بالمصداق الأكمل.

المصطلح القرآني والآخر:

هناك بعض المصطلحات الواردة في القرآن توحي بمعانٍ قد تستعدي الآخر ولا تجلب ردّه، من قبيل الكافر والمستكبر؟

ــــ أمّا مصطلح الكافر، فهو موجود في كلّ الأديان، بل في كلِّ المبادئ والتّارات، فالكفر هو الجحود، وهو، كما غيره من المصطلحات، أمر نسبيّ، فقد يكون إنسان كافراً بالله وبكلّ ما يتّصل به، وقد يكون مؤمناً بالله ولكنّه كافر بالرسول وبالرسالة أو كافر باليوم الآخر، فالكفر إذاً نسبي، وعندما نقول إنّا مؤمنون ومسلمون، فهذا يعني أنّنا كفرة أيضاً، ولكنّنا نكفر بالطاغوت {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا}(2). ألاَ نكفر بالطاغوت؟ ألاَ نكفر بكلّ اتجاه غير الإسلام؟ فلماذا يتعقّد الآخرون عندما نقول عنهم كفرة ونحن نتحدّث عمّا هم فيه.

ولذلك، فعندما نفهم بأنّ الكفر جحود، فإنّ الجحود قد يتعلّق بمفردة وقد يتعلّق بجميع المفردات، فقد يكون الإنسان مؤمناً من جهة وكافراً من جهةٍ أخرى، ولكنّ الكفر هنا يتعلّق بشيء، والكفر هناك يتعلّق بشيءٍ آخر.

أمّا مصطلح المستكبر، فلا أدري مَنْ يتعقّد منه فالمستكبر هو الذي يرى نفسه ربّاً أو إلهاً أو نصف إله، وينظر إلى الناس من فوق، ويتعامل معهم باعتبار أنّه أكبر منهم، ولكنّ بعض النّاس لا يرتاحون للكلمات القرآنية، فلو قلت: (يسقط الاستعمار)، فإنّ هذا يعتبر كلاماً سياسياً جيداً، أمّا إذا قلت (يسقط الاستكبار)، فإنّ هذا سيعتبر استعداءً للآخرين. ولذلك نعتبر أنّ قيمة الإمام الخميني (قدّس سرّه)، هو أنّه أتى بكلّ الكلمات القرآنية وحوّلها إلى مصطلحات متداولة في الساحة السياسية الإسلامية. فالاستكبار عندنا مصطلح كمثل مصطلحات الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية أو الإقطاعية عند الماركسيين، فالقرآن يركّز على أنّ مشكلة الإنسان هي مشكلة مستكبرين ومستضعفين، ولكنّ الاستكبار قد يكون مالياً وقد يكون سلطوياً، وقد يكون استكباراً من نوعٍ آخر. وهذه هي الحقيقة، فمشكلة الإنسان منذ أن وجد وحتّى الآن، هي مشكلة مستكبرين ومستضعفين، فلقد كانت مشكلة إبليس أنّه كان مستكبراً بالنسبة إلى آدم، وقابيل كان مستكبراً بالنسبة إلى هابيل وأتمنّى أن نكون في مستوى حركي، بحيث نستبدل كلّ الكلمات التي جاء بها الغرب في الحركية السياسية بكلمات إسلامية دالّة على ما نريد أكثر من دلالة تلك الكلمات المستوردة.

المجاز القرآني:

يقول البعض إنّه لا مجاز في القرآن الكريم، لأنّ المجاز في القرآن، في رأي البعض، كأنّه عجز من الله تعالى عن التعبير، فما رأيكم في ذلك؟

ــــ المجاز هو بلاغة في التعبير بحسب طبيعة اللّغة العربية، ولا بأس في قراءة الكتب التي تعالج المجازات القرآنية.

 

قوامة الرجل:

يقول الله عزّ وجلّ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ}(1). هل من الممكن أن تصبح المرأة رجل البيت إذا كانت الأفضل ثقافةً وأخلاقاً، أو كانت هي من ينفق على البيت؟

ــــ الآية تتحدّث عن القوامة في خطّ المسؤولية، فالرجل هو المسؤول عن البيت، انطلاقاً من بعض عناصر القوّة التي تتمثّل في شخصيته، ممّا لا يتمثّل في المرأة التي قد يعيقها الحمل والإرضاع وغيرهما. وعلى أساس أنّه يتحمّل مسؤولية إدارة شؤون البيت؛ فهو الذي يجب عليه أن ينفق على المرأة والأولاد، ولا يجب على المرأة ذلك. ولكن مع ذلك، فهذه المسألة تمثّل الخطّ العام، بمعنى أنّ خطّ المسؤولية التي يتحمّلها الرجل في بيت الزوجية هو ذلك، ولكن من الممكن جداً، لا على أساس التشريع، وإنّما على أساس حركة الواقع، أن تكون بعض النساء أكثر عقلاً، وأكثر قوّةً وإمكانات في إدارة البيت الزوجي وفي الإنفاق عليه. لذا تكون هذه المرأة ـــ من ناحية واقعيّة ـــ هي الإنسان الذي يملك إدارة البيت. ولكنَّ القوامة اعتبرت للرجل نتيجة كونه أكثر قوةً من المرأة ـــ غالباً ـــ وأكثر قدرةً من الناحية المالية على ذلك. ومع ذلك، فإنّ هذا المعنى يتأتّى على أساس التفاهم بين الرجل والمرأة.

الاستيحاء من القصص القرآني:

ما هي النظرية أو الفكرة التي يستوحيها سماحة السيّد من قوله تعالى: {قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}(2)، فمَنْ هو يوسف اليوم؟ ومَنْ هو الذئب كذلك؟

ــــ يوسف يمكن أن يمثّل الإنسان الذي يحاول الناس من حوله، سواء من أخوته أو من عشيرته أو من الناس الأقوياء، استضعافه واضطهاده، والذئب هو ذلك الإنسان الذي يفترس الإنسان الضعيف. وهذا ما نلاحظه في حركة المستكبرين والمستضعفين في العالم، أو في حركة الضعفاء والأقوياء، سواء في داخل البيوت أو في داخل المجتمعات وما إلى ذلك.

المسيحيّة في القرآن:

ورد في القرآن وصفان للمسيحية؛ الأوّل بأنّها كفر {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}(1)، والثاني بأنّها إيمان، حين وصف أصحاب الأخدود بالمؤمنين. كيف نفهم ذلك؟

ــــ أمّا الوصف الأول، فبلحاظ الكفر بتوحيد الله في عناصره الخالصة، فهذا كفر في صفة الله سبحانه وتعالى التي تمثّل الخطّ التوحيدي الذي انطلق الإسلام من خلاله. أمّا الثاني، فهو يشمل جماعة من المسيحيين المؤمنين الذين آمنوا بالله وآمنوا بالسيّد المسيح وبكلّ الرسالة، رسالة السيّد المسيح في الإنجيل وفي التوراة وما إلى ذلك، وعذّبوا على هذا الأساس.

معنى التأويل:

ما معنى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(2)؟

ــــ التأويل ليس حمل اللّفظ على خلاف ظاهره، بل ما يؤول إليه الشيء، وهو ما يخبر عنه القرآن الكريم ممّا يحدث غداً في يوم القيامة.

الشجرة الملعونة:

ما هي الشجرة الملعونة في القرآن الكريم: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ}(3)؟

ــــ فسِّرت بأنّها تمثّل بني أميّة، حيث رأى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في منامه بني أميّة يصعدون على منبره ويتسلّطون عليه ليضلّوا الناس من خلال موقعهم في هذا المنبر. وبعضهم قال إنّها شجرة الزقّوم التي ذكرها الله في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ*طَعَامُ الْأَثِيمِ}(4)، والمعنى: ملعونٌ آكلها. وقد روي في هذا الصدد، أنّ أبا جهل قال: إنّ محمّداً يهدّدكم بنار تحرق الحجارة، ثمّ يزعم أنّه تنبت فيها الشجرة. وقد يكون المقصود من الشجرة الجماعة من الناس ـــ كما ذكره السيّد المرتضى ـــ وهم الذين يتحرّكون ليقودوا خطّ الضلال والانحراف بعيداً عن خطّ الإسلام والاستقامة.

آية التطهير:

ألاَ تعتبر آية التطهير دليلاً على عصمة الأئمّة مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الخطأ والسهو والنسيان؟

ــــ نحن نستدلّ بآية التطهير على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) ممّن دخلوا تحت الكساء، وهم محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) أمّا بقيّة الأئمّة (عليهم السلام)، فهناك دليل آخر على عصمتهم.

أعمال فرعون!

ما معنى قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(1)؟ ما هي الأعمال السيّئة التي مارسها فرعون وطلب آسية النجاة منها؟ ولماذا تزوّجته وهي تعرف بكفره وظلمه؟

ــــ أيُّ الأعمال أعظم من أن يدّعي الربوبية، ومن أن يذبح أولاد بني إسرائيل ويستحيي نساءهم ويكفر بالله سبحانه وتعالى؟! وأمّا زواج آسية من فرعون، فإنّ الزواج في ذلك الوقت لم يكن يخضع لبعض الأحكام الشرعية التي لا يجوز معها تزوّج المسلمة المؤمنة من الكافر.

رفض الفراعنة:

ما هي نصائحكم تجاه الفراعنة الصغار من هذه الأُمّة؟

ــــ أن نعمل على أساس مواجهتهم، برفضهم وإسقاطهم ومجاهدتهم، وتعريف الناس بكلّ الجوانب السلبية التي يعيشونها.

قيمة الرؤيا في القرآن الكريم:

قال الله تبارك وتعالى في قصّة إبراهيم وإسماعيل: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}(1)، وقال في آيةٍ أخرى: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}(2)، والسؤال المطروح: ما هي قيمة الرؤيا في الحياة البشرية؟

ــــ الرؤيا على قسمين: هناك رؤيا صادقة، وهناك أضغاث أحلام. وأمّا إبراهيم (عليه السلام)، فقد كانت رؤياه رؤيا صحيحة، وكان الله يوحي إلى أنبيائه بعض ما يريد لهم أن يقوموا به ويخبرهم عنه بواسطة الرؤيا، وإبراهيم (عليه السلام) رأى في المنام أنّه يمارس القيام بمقدّمات ذبح ولده، ولم يقل إنّي ذبحتُك، ولهذا عندما قام إبراهيم بمسألة القيام بمقدّمات الذبح، فإنّ الله ناداه أنْ قد صدقت الرؤيا، لأنّ الرؤيا كانت أن يقوم بمقدّمات الذبح لا أن يذبح إسماعيل.

الإماتتان والإحياءان:

ما المراد من الإماتتين والإحيائين في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}(3)؟

ــــ فُسِّر هذا بأنّ الموتة الأولى هي موتة ما قبل الوجود؛ لأنّ الإنسان قبل أن يوجد كان ميتاً، وقد قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا}(4)، فهناك الموت الذي تمثّله حالة العدم التي كان فيها الإنسان، ثمّ بعد ذلك أحياه الله عندما خلقه، ثمّ يميته، ثمّ يحييه بالبعث.

 

 

 

المراد من الأبصار:

قال تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(1). ما معنى هذه الآية؟ وما المراد من الأبصار؟

ــــ يعني أنّ الله لا يراه أحد، فالله سبحانه فوق المادّة، والأبصار التي تنفتح على الوجود المادي، لا تدرك الله سبحانه وتعالى.

نزع الغلّ من صدور المؤمنين:

ما هو الغلُّ المذكور في القرآن الكريم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}(2)؟

ــــ الغلُّ هو الحقد، يعني أنّ الله يبيّن أنّ أهل الجنّة ليس عندهم حقد، والمقصود بــ (نزعنا)، أي جعلنا قلوبهم خالية من الحقد.

تطبيقات اجتناب الظنّ:

يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(3). كيف نطبّق هذه الآية في واقعنا؟

ــــ تؤكّد هذه الآية حقيقة، وهي أنّه إذا كنتم تتعاملون مع الناس، فعليكم أن تتعاملوا معهم ـــ سلباً أو إيجاباً، وخصوصاً في جوانب السلب ـــ من خلال ما تتيقَّنون أنّهم فعلوه؛ لأنّكم إذا اعتمدتم على الظنّ، أي الوهم، وعلى الوسائل التي لا تؤدّي إلى اليقين. فقد تقعون في الخطأ فيما تظنّونه. ولذلك عليكم أن تجتنبوا الحُكم على أساس الظنّ، وأن لا تحكموا إلاّ باليقين، أو بما ثبتت الحجّة فيه. وقد ورد في مناخ هذه الآية ما ورد عن عليّ (عليه السلام): "ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنّنَّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنتَ تجد لها في الخير محتملاً"(1).

هل عداوة الشيطان تكوينيّة؟

{قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. ما هي فلسفة هذه العداوة؟ إذ يبدو وكأنَّ هذه العداوة تكوينية؟

ــــ هذه العداوة ليست تكوينيّة، وإنّما هي باعتبار العنصر الذي على أساسه هدَّد إبليس بني آدم بأن يبعدهم عن الطريق المستقيم حتّى يضلّهم عن الله، وعن دخول الجنّة. ولذلك فإنّ عداوة إبليس كانت من خلال هذه الخلفية السيّئة التي يتوعّد من خلالها بني آدم بالإضلال. ومن الطبيعي أن يقف بنو آدم في مواجهة عداوة إبليس. وقد قال الله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(2).

وكبِّره تكبيراً:

قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}(3)، ما المقصود من {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}؟

ــــ يعني أنّ عليك أن تعتقد أنّ الله هو الأكبر، وأنّه ليس هناك أحد أكبر منه؛ لأنّه هو سرّ الوجود وسرّ الخلق وسرّ النعمة وسرّ الحياة كلّها.

 

 

 

التعبير عن القبر بالمرقد:

كيف تفسّرون قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا}(1)، ولماذا عبّروا عن القبر بالمرقد؟

ــــ أيُّ مرقد أطول من مرقد القبر؟! المرقد هو المكان الذي يرقد فيه الإنسان. ونحن نعرف أنّ الإنسان منذ أن يموت إلى أن يبعث، يرقد في القبر.

استحياء آدم وحوّاء من العورة:

لماذا استحى آدم وحوّاء من رؤية عورتَيْهما وهما زوجان ولا بشر غيرهم؟

ــــ لم يكن هناك عقد زواج، كانا في بداية الخلق، وكانا لا يعرفان من ذلك شيئاً. ولعلّ الله ألقى في نفسيهما هذا النوع من الحياء عندما انفتحا على دور هاتين العورتين في هذا المجال؟

القول الثقيل:

ما هو تفسير قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}(2)؟

ــــ الظاهر ـــ والله العالِم ـــ أنّ المراد من القول الثقيل هو الرسالة التي حمّلها الله للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، التي تثقل كلّ حياته، والتي تجعله يواجه كلّ الشرك الذي كان يعيش في مجتمعه، ويواجه كلّ التحدّيات التي يمكن أن يثيرها المشركون والكافرون. وهذا ما لاحظناه فيما أثاره المشركون من قضايا الحرب التي عطّلت الكثير من خطط الرسول في حركة الدعوة وحركة بناء الدولة.

أفضل التفاسير:

أيُّ تفاسير القرآن أنسب للخطيب أن يعتمدها؟

ــــ من التفاسير تفسير (مجمع البيان)، وهناك (الأمثل)، وهناك تفسير الشيخ محمد جواد مغنية بعنوان: (التفسير الكاشف) وهناك تفسيرنا: (من وحي القرآن) الذي يحاول أن يستجلي التفسير في حركة الحياة، بأسلوب علميّ وأدبيّ، فكريّ وروحيّ(1).

معنى التوفي:

ما المقصود من قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}(2)؟

ــــ ذكر في (مجمع البيان)، أنّ في تفسيرها أقوالاً: أحدها أنّ المراد إنّي قابضُك برفعك من الأرض إلى السماء من غير وفاةٍ بموت. وثانيها: إنّي متوفّيك وفاةَ نومٍ، ورافعُك إليّ في النوم، وثالثها: إنّي متوفّيك بالموت، والله العالِم.

أنبياء الأمم (عليهم السلام):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}(3)، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً}(4)، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}(5). ما المراد من (أخاهم)؟

ــــ يعني هو من هذه الأمم والأقوام، فإنّ شعيباً من عائلة مدين أو من مواطني مدين، وكذلك صالح من عشيرة ثمود، وهود من عشيرة عاد. ومن المتعارف عند العرب أن يقولوا إنّ فلاناً أخو العشيرة الفلانية، أي هو منها.

 

 

 

مصير أبي لهب وامرأته:

{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}(1) ما تفسير هذه السورة؟

ــــ يريد الله سبحانه وتعالى أن يبيِّن المصير الأسود الذي سيلقاه أبو لهب وامرأته، باعتبار أنّهما، وإنْ كانا يملكان المال، لكنّهما لا يملكان الخطّ المستقيم الذي ينفتح بهما على خطّ التوحيد وعلى الرسالة الإسلامية.

معنى "واصطنعتك:

ما المقصود من قوله تعالى في نبيّنا موسى (عليه السلام): {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}(2)؟

ــــ يعني أردتك أن تكون رسولاً لي، تقوم برسالتي وبالدعوة إليَّ. وربّما كان في ذلك إشارة إلى الألطاف التي حبا الله سبحانه بها موسى (عليه السلام)، عندما أنقذه من قتل فرعون، وحفظه في التابوت، بعد أن أوحى إلى أُمّه أن تلقيه في اليَمّ، ثمّ بعد ذلك عهد بتربيته إلى فرعون نفسه، وما إلى ذلك ممّا قصّه الله تعالى في كتابه.

ثواب المحسنات:

{فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}(3)، نحن نعرف أنّ الله وعد الرجال بالحور العين، فبماذا وعد النساء؟

ـــ الله يقول: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}(4)، بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى يعطي كلّ إنسان في الجنّة ما يشتهيه، ويقول: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}(5)، بحيث لا يشعر أحد في الجنّة من الرجال ومن النساء بالحرمان من أيّة حاجة، فالله يعطي كلّ إنسان في الجنّة ما يشتهيه ممّا تفرضه عليه حاجاته الجسدية. غاية ما في الأمر، أنّ الحديث عن مسألة شهوة النساء للرجال، قد لا يكون منسجماً مع الأجواء القرآنية، ولذا فإنّ الله كنّى عن ذلك.

الترتيب في التعبير القرآني:

يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}(1). لماذا قدّم الأخ ثمّ الأم؟

ــــ ليس من الضروري أن يكون للترتيب معنى محدَّد، ولكنّ طبيعة الأسلوب الأدبي في القرآن تقتضي ذلك، والله العالِم.

الوسوسة للمعصوم:

يقول الله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}(2)، مع العلم أنّ المعصوم لا يمسّه الشيطان ولا يوسوس له، فكيف وسوس الشيطان لآدم وزوجته؟

ــــ بيَّنا في حديثٍ سابق، أنّ المسألة هي أنّ الله أراد أن يدخل آدم وزوجته في التجربة، حيث أراد سبحانه أن ينزله إلى الأرض، ويعرّفه معنى إبليس، وخيانته وخداعه، وما إلى ذلك. ثمّ إنّه (عليه السلام) لم يكن نبيّاً عندما كان في الجنّة، ولكنّ الله أراد أن يربّيه في هذه الحضانة الإلهية حتّى يدخل التجربة، ويتعلّم منها ما يكلّفه الله به في المستقبل. ولذلك، فإنّ هذه الأمور لا تنافي العصمة في هذا المجال، لأنّه في موضع تعليم الله وتأديبه لآدم، وهو نوع من أنواع التعليم في هذه المسألة.

عبادة إبراهيم (عليه السلام):

قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي}(3)، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي}(4) أليس في قوله (عليه السلام) شرك ظاهر؟

ــــ هناك رأيان في تفسير قضية إبراهيم (عليه السلام)، الأوّل: أنّ إبراهيم كان يبحث عن الحقيقة أيّام طفولته، وكان في منطقته من يعبد الكواكب والشمس والقمر، ولذلك فإنّه كان يتساءل، ولكن ليس على أساس العقيدة والإيمان والاقتناع بربوبية الكوكب أو بربوبية القمر أو الشمس، كان يتساءل في الأمر، ثمّ يحاول أن يبيّنه من خلال التفكّر. فكان عندما يرى الكوكب، يتصوّره مخلوقاً عظيماً يلفت الأنظار، بحيث من الممكن أن يكون هذا ربّاً، ولكنّه عندما يأفل بطبيعة الحال يبتعد عنه، وهكذا. لذا قال في آخر الأمر: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}(1)، فاهتدى إلى الحقّ.

والرأي الثاني، هو أنّ إبراهيم كان موحِّداً منذ طفولته، ولذلك فإنّه وقف ضدّ قومه وضدّ أبيه وما إلى ذلك، ولكن في هذه القضية، أراد أن يناقش قومه بأيّ طريقة، بأنْ يستعرض كلّ عقائدهم، بحيث يستعرض عقيدة الذين يعبدون الكواكب، فيؤكّد لهم الفكرة ويقول هذا ربّي، ولكنّه بعد ذلك يرفضها ويردّها. وهكذا بالنسبة إلى القمر والشمس؛ فكان يثبت لهم الأمر بطريقة تمثيليّة، ليبيّن لهم خطأ عقائدهم، ليقودهم من خلال ذلك إلى العقيدة الحقّة، وهذا ربّما يكون أقرب من الفكرة الأولى التي يراها بعض المفسّرين من علمائنا.

اطمئنان المعصوم:

يقول الله تعالى على لسان إبراهيم (عليه السلام): {وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(2) ونحن نعلم أنّ إبراهيم (عليه السلام) وجميع المعصومين (عليهم السلام) في أعلى درجات اليقين بقدرة الله على إحياء الموتى، فكيف يقول ذلك؟

ــــ كان إبراهيم (عليه السلام) وغيره من الرسل يعيشون اليقين بالله في عقولهم، باعتبار ما تنفتح عليه عقولهم، ولكنّ الأشياء الحسّية تجعل الإنسان ينفتح على الشيء بشكلٍ حاسم، لا مكان معه للجدل، أو لا مجال فيه للأخذ والردّ.

النظريات العلمية:

ما هو موقف الإسلام من النظرية العلمية التي تفسّر منشأ الكون بأنّه نتيجة الانفجار الكبير المسمّى في اللّغة الإنكليزية بــ (بيك فانغ)؟ وهل يمكن أن نقول إنّ هذه الحادثة هي ما أشار إليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا}(1)؟

ــــ هذه مجرّد نظريات، وليست حقائق قطعيّة، فهناك من الحقائق العلمية مثل المسائل الرياضية، كالقضية القائلة: (واحد زائد واحد يساوي اثنين)، وهي لا يمكن أن يشكّ فيها أحد، وهذه من الحقائق العلميّة. أمّا النظريات العلمية، فهي تنطلق من خلال التأمّل، أو من خلال الاستقراء، وهذه أمور تبقى مجرّد نظريات تجلب الظنّ، ولا تبلغ درجة العلم. ولذلك نحن لا نستطيع أن نعتبرها حقائق، بل نعتبرها نظريات قابلة للمناقشة، ونطلب أدلّة عليها، والله يقول: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(2) فلا يكفي أنْ تفسّر أيّ شيء بتفسير معيّن، ولكن عليك أن تقيم الدليل عليه.

الفاتحة في صلاة الميّت:

يقال إنّ الفاتحة لا تقرأ في الصلاة على الميّت كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام). هل هذا صحيح؟ وما تفسير عدم قراءتها؟

ــــ لم يشرّع ذلك، بل إنّ الصلاة على الميّت مرسومة كالتالي، فيها الشهادة لله وللرسول والصلاة على النبيّ والدعاء للمؤمنين والمؤمنات والغفران والدعاء للميّت، وهي تشتمل على خمس تكبيرات. وتشريع الصلاة على الميّت يختلف عن الصلاة الواجبة أو المستحبّة، وليس فيها ركوع ولا سجود ولا قراءة وما إلى ذلك.

 

 

نفي الظلم عن الله:

نحن نعلم أنّ (ظلاّم) صيغة مبالغة، إذاً ما هو تفسير الآية: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}(1)، فهل الله سبحانه وتعالى ظالم ينفي عن نفسه كثرة الظلم؟

ــــ الآية بصدد نفي الظلم كلّه عن الله تعالى.

التعليم ثمّ الخلق:

في قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ}(2)، كيف يعلّم الله القرآن أوّلاً ثمّ يخلق الإنسان؟

ـــ هذا لا يدلّ على الترتيب، بل في مقام بيان أنّ القرآن من الله، وأنّه ليس من رسول الله، كما كان البعض يحاول أن يصوّر الأمر. ثمّ بيّن أنّه خلق الإنسان، وأنّه علّمه البيان، فهذا كلّه في مقام بيان صفات الله سبحانه وتعالى، من دون أن يكون هناك ترتيب، ولم يَرِد ما يدلّ على الترتيب، مثل الحروف التي تفيد الترتيب كالفاء.

نسبة آيات إلى امرئ القيس:

ما رأيكم بالادّعاءات التي تقول إنّ بعض آيات القرآن الكريم منقولة من أشعار لشعراء جاهلين كامرئ القيس، وخصوصاً حول الآية القرآنية: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ}(3)؟

ــــ هذه ادّعاءات باطلة ولم يدّعها فحول العرب في الشعر والبلاغة، وقد تحدّى القرآن العرب على أن يأتوا بسورة من مثله وعجزوا، وكلام القرآن ليس بالشعر ولا بالنثر الخالص، وهذا من أوجه إعجازه.

 

حمل العرش الإلهي:

جاء في الآية القرآنية الكريمة: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}(1)، فما هو المقصود بحمل العرش هنا؛ معناه الحقيقي، أم معناه المجازي؟

ــــ الحمل له معنى رمزي، وقد يُراد به إدارة شؤون الناس وتحمّل مسؤولياتهم، والعرش له معنى رمزي، وقد يراد به موقع التحكّم بحركة الوجود وتدبير أموره.

طبيعة الجنّة:

أرجو تبيان رأيكم في تفسير الآية المباركة: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}(2). هل المقصود من (بكرةً وعشيّاً) أنّ هناك ليلاً ونهاراً في الجنّة؟ وإذا سلَّمنا أنَّ هناك وقتاً للنهار ووقتاً للّيل هناك، فهل مقداره نفس مقدار اليوم واللّيل في الدّنيا؟

ــــ لعلّ المراد بذلك هو أنّ لهم ذلك متى شاؤوا، وليس المراد به مجرّد التحديد والإشارة إلى وقت معيّن، وعلى فرض وجود وقت، فاليوم هناك هو غير اليوم في عالمنا، لأنّ الزمن إنّما هو مقدار حركة فلك معيّن، ومن ثمّ ورد في قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ...}(3).

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

المسائل العقائدية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

منهج الشكّ في الإسلام:

 منهج الشكّ في الإسلام، هل هو أمر ممدوح أم مذموم؟

ــــ الشكّ في طريق اليقين هو أمر ممدوح. والإنسان عادة يشكّ في كلّ شيء يسمعه، ولكن عليه أن لا يتجمّد أمام الشكّ، وأن لا يجحد ما شكّ فيه، فقد ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): "لو أنَّ الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا"(1). وجاء في حديثٍ آخر: "ما تقول فيمن شكّ في الله؟ قال: كافر، قال: فشكّ في رسول الله؟ قال: كافر، ثمّ قال: إنّما يكفر إذا جحد"(2)، فإذا بقي واقفاً أمام الشكّ، ولم يتطوّر شكّه إلى جحود من دون دليل، وانطلق ليبحث، فهذا لا يعتبر كافراً. ولذلك نجد أنّ الأسلوب الإسلامي في مقام الحوار بين المؤمنين والكافرين، هو الأسلوب الذي يطرح الشكّ ليصل بالحوار إلى اليقين، وهذا هو قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(3)، فهل كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شاكّاً في أنّه على هدى؟! وهو كما يقول تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}(4)، وهو الذي أعطى الصدق وأعطى الحقّ وجاء بالحقّ، وانطلق في دينه على أساس الحقّ الذي أرسله الله به، ولكنّه أراد أن يجذب الإنسان الآخر الكافر إلى أنّ يتحاور معه، ولذلك قال له: قد أكون على هدى، وقد أكون على ضلال، وقد تكون أنتَ على هدى، وقد تكون أنتَ على ضلال.. هناك حقيقة ضائعة بيننا، فتعال نتحاور لنشترك في البحث عن رحلة الحقيقة.

نور محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "أوّل ما خلق الله نوري"(5)، فما صحّة هذا الحديث؟

ــــ هو حديثٌ مرويّ.

المكتشفات الأثرية والدّين:

إذا كانت مكتشفات البشر من نظريات اجتماعية وعلمية تلتقي مع الدّين في أوامره ونواهيه، فما هي فائدة الدِّين؟

ــــ من قال إنّ كلّ ما يكتشفه البشر يلتقي مع الدّين؟! ما يكتشفه البشر إنّما يكتشفونه من خلال معرفة أسرار الكون، وقد قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}(1). أمّا بالنسبة إلى المناهج الأخلاقية والمناهج الشرعية والمناهج التعبّدية، فالكثير منها ممّا لم يكتشفه البشر، وإنْ كانت هناك نظريات للبشر، فقد تكون نظريات خاطئة تختلف عن النظريات الصادقة.

التفضيل بين البشر:

في الرواية عن عليّ بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "إيّاكم ونكاح الزنج، فإنّه خلق مشوَّه"(2)؟

ــــ هذه الرواية غير موثّقة لدينا. وقد قلنا إنّ الإنسان خلقه الله سبحانه وتعالى، وقد خلق الزنج بصورة معيّنة كما خلق البيض وخلق الصفر، وليس هناك إنسان في موقع إنسانيّته مرفوضاً إسلامياً، ولذلك فالقاعدة هي قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(3)، فكلّ مَن كان من بني آدم فهو كريم عند الله. ولذلك لا نوافق من ناحية فتوائية على ما ورد في بعض الأحاديث التي تقول لا تتزوّجوا من كذا وكذا، ممّا يتّصل بالجانب السلبي لإنسانية الإنسان.

الفلسفة والدِّين:

إنّ البعض يحاول أن ينسب إليكم القول بأنّ الفلسفة عندما تدخّلت في المسائل الدينية أبعدته عن مضامينه الأصلية؟

ــــ هذا غير صحيح، بل كنت أتحدّث عن الفلسفة عندما يراد إدخالها في المناهج الاجتهادية، لأنّها تبعد الفقيه عن الفهم العرفيّ لكثير من الأحاديث.

الأجل المسمّى:

ما معنى الأجل والأجل المسمّى؟

ــــ الأجل هو عبارة عن الموعد الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لحياة الإنسان.

الشهادة بالوحدانية والنبوَّة:

هناك مَن يقول إنّ مَن قال: "لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله" سيدخل الجنّة قطعاً، ولكنّه قد يقضي فترة في النار لتنقيته من الذنوب المتعلّقة بهم، فهل هذا صحيح؟

ــــ نحن نعرف أنَّ الشهادتين هما مفتاح الدخول إلى مواقع رضا الله سبحانه وتعالى، ولكن كما ورد في حديث الإمام الرّضا (عليه السلام)، عندما استوقفه رواة الحديث وقالوا له: حدّثنا يا بن رسول الله، فقال: حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر، قال: حدّثني أبي محمّد الباقر، قال: حدّثني أبي عليّ بن الحسين، قال حدّثني أبي الحسين، قال: حدّثني أبي عليّ، عن رسول الله، عن جبريل عن الله، أنّه قال: "لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخله أَمِنَ من عذابي"(1)، وأقبل الإمام الرّضا (عليه السلام) على الناس وقال لهم: "ولكن بشروطها، وأنا من شروطها"(2)، يعني الإمامة.

لذلك، فإنّ القضية هي أن يتحرّك الإنسان في خطّ ما تفرضه كلمة التوحيد وما تفرضه الشهادة بنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لذا قال الله سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}(3)، وربّما تعني كلمة {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً}(1) الذين آمنوا بالله، ولكنّهم قاموا ببعض المعاصي التي لا يرضاها الله. ونحن على كلّ حال نقرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(2).

أميَّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهداية البشرية:

هناك مقولة فلسفية تقول إنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف يمكن النبيّ الأميّ أن يعلِّم الكتاب والحكمة؟

ــــ هو ليس فاقداً لذلك، لأنّ الله أعطاه علم الكتاب، وأعطاه المعرفة والحكمة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(3)، يعني أنّ الله أفاض على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنْ أعطاه كلّ ما يحتاجه في رسالته، وهذا هو سرُّ معجزة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ إذ إنّه لم يقرأ كتاباً ولم يكتب، ولكنّه مع ذلك جاء بالرسالة التي أعجزت القارئين والكتّاب.

البعد الغيبيّ للعصمة:

يرى البعض أنّ العصمة هي شيء غيبي لا علاقة له بالواقع ولا بالمعصوم، بينما يرى البعض الآخر أنّها باختيار المعصوم، فأيّهما الصَّحيح؟

ــــ العصمة لطفٌ من الله، بمعنى أنّ الله يعطي الإنسان قابلية ذلك مع الاختيار. ولو تكلّمنا عن الناس العاديين من الأتقياء، فضلاً عن الأنبياء (عليهم السلام)، أليس هناك لدى بعض الناس من المتديّنين من يعصم نفسه من الزنا، ويعصم نفسه من الكذب، ويعصم نفسه من أكل الحرام باختياره؟! فغاية ما هناك، أنّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) عصموا أنفسهم من خلال ما أعطاهم الله من لطفه، وانطلقت إرادتهم في ذلك، ولم يجبرهم الله على أن يعصموا أنفسهم، بل انطلقوا باختيارهم، ولكن مع لطف من الله سبحانه وتعالى(1).

حادثة شقّ الصدر للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

هل إنّ واقعة شقّ الصدر للنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التي وقعت في إرهاصات النبوّة صحيحة؟

ــــ أنا لا أؤمن بهذه القضية؛ لأنّ تزكية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليست قضية ماديّة حتى يزال ذلك من صدره بهذه الطريقة؛ ذلك الصدر الذي ينفتح على الإخلاص لله وعلى محبّته والسير في خطّ العبودية له سبحانه وتعالى، والقضية لم تصحّ عندنا لا سنداً ولا مضموناً.

الرياء والنفاق:

ما الفرق بين الرياء والنفاق؟

ــــ الرياء هو عبارة عن أن تعبد الله ليراك الناس، وهذا فيه شيء من النفاق، إذ تحاول أن تظهر نفسك أمام الناس بمظهر المتعبّد لله تعالى، وإن كنت في الواقع ممّن يعبد الناس. وأمّا النفاق ـــ كمصطلح ـــ فالمقصود به الدخول في الإسلام من وجه، والخروج منه من وجهٍ آخر.

الرياء بغية التشجيع:

هل يجوز الرياء لتشجيع الكسول في أركان الدين؟

ــــ نعم، إذا كان ذلك يشجِّع الكسول على العبادة، فإنّه لا يكون رياءً بالمعنى المصطلح، لأنّ المرائي هو الذي يمارس عبادته الواجبة ليرى الناس أنّه يعبد الله تعالى. أمّا من يأتي بواجباته الشرعية من أجل أن يشجّع غيره على الطاعة والاتّزان، مع كونه مخلصاً لله في عبادته، فهذا ليس رياءً(1).

حقيقة التقليد:

ما هو المرتكَز القرآني لمبدأ التقليد؟ ولماذا تتحوّل علاقة التقليد إلى اتّباع أعمى للمقلَّد؟

ــــ التقليد على قسمين: تقليد في العقائد، كما أشار إلى ذلك الله تعالى بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}(2)، وهنا لا يجوز التقليد والاتّباع من دون وعي وتفكير، قال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(3). وتارة يكون التقليد بالرجوع إلى أهل الخبرة، كما في رجوع المريض إلى الطبيب ليصف له دواءً يشفيه من مرضه، وعندئذٍ يعمل الإنسان برأي الطبيب. والسبب في ذلك، أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة، سواء في الطبّ أو الهندسة أو القانون أو الفقه، أمر جرت عليه سيرة العقلاء في العالَم كلّه، إذ يرجع من لا خبرة له إلى مَن له خبرة في هذا المجال أو ذاك. ومن الطبيعي أنّ الإنسان الذي ليس عنده معلومات أو معرفة، ولديه حاجة معيّنة، يرجع إلى من يملك تلك المعلومات، ولا يسمّى هذا اتّباعاً أعمى، بل هو اتّباع منفتح على من يملك العلم والخبرة التي يحتاجها الإنسان في حياته العامّة والخاصّة، وهو اتّباع مرتكز على العقل الذي يدفع الإنسان الجاهل للرجوع إلى العالم.

 

أركان الدّين:

ما معنى أركان الدّين وأركان الإسلام؟ وهل هناك فرق بينهما؟

ــــ الأركان في العقيدة، هي ما يكون بها الإنسان مسلماً، وبإنكار واحد منها يكون كافراً، وهي التوحيد والنبوّة والمعاد. أمّا الإمامة والعدل، فهما من أركان المذهب، والذي ينكرهما يخرج من دائرة المذهب. وهناك تفسير بأنّ أركان الإسلام هي الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، وهناك اصطلاح آخر للأركان، يُقصد به أنّ الإسلام يقوم بناؤه على هذه الأمور.

سهو المعصوم:

هناك مَن يقول بجواز سهو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهل هذا صحيح؟ وهل يقع السّهو عن أحد الأئمّة (عليهم السلام) أم لا؟

ــــ هناك رأيان في هذه المسألة؛ رأي يتبنّاه بعض العلماء بأنّ النبيّ كان يسهو في صلاته، مع أنّهم قالوا بأنّ الثابت هو أنّ النبيّ لا يسهو في تبليغ الرسالة.

والرأي الآخر، ونحن نتبنّاه، أنّ النبيّ لا يسهو لا في صلاته ولا في غيرها، أمّا قضية الأئمّة، وهل يقع منهم سهو أم لا، فإنّه لم يذكر ذلك تفصيلاً في الأخبار، ولم يرد فيه شيء.

شروط التوبة:

في سنواتي السابقة، مارست الفاحشة والزنا والسرقة والغصب وشرب المنكرات، والحمد لله أن منَّ الله عليَّ بالهدى واتّباع أوامره. سؤالي: هل يجب عليَّ طلب المسامحة ممّن أخطأت بحقّهم، أم أنّ طلب المسامحة يكون من الله فقط؟

ــــ أن تطلب المسامحة من الله، أمّا الآخرون الذين أسأت إليهم، فالإساءة على قسمين: فتارة تكون قد أخذت أموالهم، فعليك حينها أن ترجعها إليهم بكلّ الوسائل، وتارةً تكون قد تكلّمت عنهم بسوء، فإنّ عليك هنا أن تتسامح منهم، فإذا لم تستطع المسامحة منهم، لأنّ من الممكن أن يؤدّي ذلك إلى خلق بعض المشاكل أو ما أشبه ذلك، فاطلب من الله أن يعوّضهم، كما ورد في دعاء يوم الاثنين للإمام السجّاد (عليه السلام)(1).

قيمة الأنساب:

قال الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "لا فرق بين عربي وأعجميّ، ولا بين أبيض وأسود إلاّ بالتقوى"(2)، ومع ذلك نرى بعض الناس يفتخرون بأنّهم من نسبٍ معيّن، كأن يرجع نسبهم إلى الرسول؟

ــــ عندنا حديث مرويّ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "أيا بني هاشم، لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالنسب"(3)، وفي الحديث عن الإمام (عليه السلام) في (نهج البلاغة) يقول: "إنّ ولي محمّد مَنْ أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنّ عدو محمّد مَنْ عصى الله وإن قربت قرابته"(4)، ثمّ قرأ قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}(5)، ويقول الشاعر أبو فراس الحمداني:

كانت مودّة سلمانٍ له رحماً               ولم يكن بين نوحٍ وابنِهِ رحمُ

وأبو لهب كان عمَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومع ذلك أنزل الله فيه سورة المسد، ولم تنزل سورة بأبي جهل رغم شدّة عدائه وإيذائه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذلك حتّى يُفهم أنّ القرابة لا قيمة لها، وأنّ علاقة النبيّ بقرابته إنّما هي علاقة رسالية وليست علاقة نسبية.

أفضلية آدم على حوّاء:

هل أسبقيّة آدم في الخلق يدلّ على أنّه أفضل من حوّاء؟

ــــ السبق في الخلق لا يدلّ على أفضلية السابق وعدم أفضلية اللاّحق، وإنّما هي حكمة الله سبحانه وتعالى في ذلك.

قصّة الغرانيق:

هل قصّة الغرانيق صحيحة أم لا؟

ــــ هي قصّة غير صحيحة، وهي مختلفة تماماً، ولا يمكن قبولها، وما ورد في الروايات من تطبيقها على سورة (النجم) لا يصحّ مطلقاً، وهي قصّة تتنافى مع عصمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووعيه لقضية التوحيد، ورفضه للأوثان، ممّا هو عنوان الرسالة وسرّ العقيدة، ممّا لا يمكن له الغفلة عنه، تحت أيّ اعتبار طارئ.

امتداد غضب الله في النسل:

هل صحيح أنّ غضب الله يمتد إلى سابع ولد حسب بعض الأحاديث؟

ــــ هذا غير صحيح؛ لأنّ غضب الله لا يتعلّق إلاّ بمن عصى الله، أو بمن انحرف عن طريقه، والله يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(1).

اتّخاذ الشيطان ملاكاً:

في خطبة للإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة في ذمِّ قوم: "اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتّخذتم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم..."(2) ما تفسير ذلك؟

ــــ يعني هؤلاء الذين جعلوا الشيطان ملاكاً يقدّسونه وجعلوه شريكاً لله، والشيطان ـــ بطبيعة الحال ـــ باض وفرَّخ في صدورهم، وجعل أفكارهم وأحاسيسهم ومشاعرهم شيطانية.

بنات للنبيّ غير فاطمة؟

هل يوجد للنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنات غير فاطمة الزهراء (عليها السلام)؟

ــــ القرآن يقول، والتاريخ كذلك، إنّه لديه أربع بنات. فالله يقول: {قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ}(1)، فلو كان له بنت واحدة، لكان لا معنى لأن يقول وبناتك. وإنْ كان أحمد شوقي يقول:

ما تمنّى غيرها نسلاً وَمَنْ          يَلِدِ الزّهراءَ يزهدْ في سواها

العمامة السوداء شعار أم نسب؟

هل إنّ العمامة السوداء شعار أم نسب؟ وهل يستطيع رجل الدِّين العامّي ارتداءها؟

ــــ هي مجرّد شعار؛ فقد كانت العمامة السوداء شعار كلٍّ من العبّاسيين، والعلويين، يعني أبناء عليّ (عليه السلام)، ولكنّ التقاليد تغيّرت، بحيث أصبح الشخص الذي ينتسب إلى ذرّية الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) يلبس السواد، والذي لا ينتمي إليهما يلبس البياض، ولكنّ هذا كلّه من التقاليد، وإلاّ فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان في بعض الأوقات يلبس عمامةً حمراء، وفي أوقات أخرى يلبس عمامة بيضاء، ولم يكن هناك نوع محدّد من اللّباس.

حركة جنود إبليس من الإنس:

جنود إبليس هم مَنْ يأتمرون بأمره، والجنّ يتلقّون الأمر المباشر منه، إذاً كيف يأتمر جنود إبليس من الإنس بأمره؛ هل يكون ذلك بالسلوك الشيطاني، أم بالابتعاد عن العمل الصالح؟

ــــ يكون ذلك بالإيحاءات التي تجعل تفكيرهم تفكيراً شيطانياً، بحيث يتعمّق إبليس في إضلالهم وفي السيطرة على أفكارهم ومشاعرهم(1).

ادّعاء الإمامة من أصحاب الثورات:

نجد في تاريخ الإسلام، أنَّ كثيراً من ذرّية السيّدة فاطمة (عليها السلام) ثاروا ضدّ الأمويين والعبّاسيين، مثل زيد الشهيد، وعبد الله الكامل، والنفس الزكيّة، ولكنّنا نجد أنّ بعض علماء الإمامية يعتبر أنّ هؤلاء مذمومون وأنّهم ادّعوا الإمامة بغير حقّ؟

ــــ أوّلاً زيد لم يدَّعِ الإمامة لنفسه، بل كان يدعو للرّضا من آل محمّد، وبعض مَن ثار كان على حقّ، وبعضهم لم يكن على حقّ. ولذلك لا نستطيع أن نقول إنّهم كانوا بأجمعهم منحرفين.

الشّهادة بحبّ آل البيت (عليهم السلام):

ما هو رأيكم في هذا الحديث: "مَنْ مات على حبّ آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مات شهيداً"(2)؟

ــــ ليس المقصود بالحبّ الحالة العاطفية، بل المقصود هو الحالة الولائية، والولاية تقتضي العمل، كما ورد في الحديث القدسيّ الذي رواه الإمام الرّضا (عليه السلام) عن آبائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن جبريل: "كلمة لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أَمِنَ مِنْ عذابي"(3) ثمّ قال: "بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها"(4)، كما أنّ الله سبحانه وتعالى بيّن لنا في هذا المقام: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}(5)، وقد جاء عن عليّ (عليه السلام) في (نهج البلاغة): "إنّ وليّ محمّد مَن أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنّ عدوَّ محمّد مَنْ عصى الله وإنْ قربت قرابته"(1)، ثمّ قرأ قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ}(2). وقد حدّثنا الله عندما دعاه نوح إلى أن ينجّي ولده، قائلاً: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ*قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}(3). ولذلك، فمسألة النسب لا قيمة لها إلاّ بمقدار ما يحقّق صاحبه القِيَم التي يمثّلها أساس النسب.

تمكّن إبليس من آدم في الجنّة:

كيف وصل إبليس إلى آدم وهو في الجنّة؟ وهل له مقدرة في الوصول إلى هذا المقام وهو مطرود من رحمة الله؟

ــــ الله أخرجه من سكن الجنّة، ولكن لا يبعد أنّه كان باستطاعته في ذلك الوقت التردّد على الجنّة.

معنى: "عليّ مع الحقّ

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ"(4). ما معنى هذا الحديث؟

ــــ معناه أنّ علياً (عليه السلام) لا يحيد عن الحقّ، لأنّ الحقّ عاش عقلاً في عقله، وروحاً وعاطفة في قلبه، وحركة ومنهجاً في منهجه وحركته، وأنّ الباطل لا يقترب منه (عليه السلام) بل إنّه والحقّ في موقع واحد، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر. وهذا ما عبَّر عنه عليّ (عليه السلام) عندما قال: "ما تَرَكَ لي الحقّ من صديق"(5). وكان يقول: "وأيم الله، لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته"(1). وقد كانت مشكلة عليّ أنّه إنسان الحقّ في كلّ الأمور؛ في فكره، وأخلاقه، وحركته، وفي حربه وسلمه.

ولذا نقول إنّ الذين يعيشون مع الباطل لا يمكن أن يقتربوا من عليّ؛ لأنّه لا يوجد فاصل بين عليّ والحقّ. 

عدم تجسّد إبليس للإنسان:

يروى أنّ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أخذ المواثيق من إبليس أن لا يتجسّد للإنسان؟ فما رأيكم في هذا؟

ــــ إنّ هذا كلام لا معنى له ولا قيمة.

حديث أم تعبير شائع؟!

يقال عادة، الأقربون أولى بالمعروف، هل هو حديث مرويّ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أهل بيته (عليهم السلام)، أم أنّه مجرّد تعبير شائع؟

ــــ بعضهم يقول إنّه ليس بحديث، وإنّما هو مشهور على الألسنة، وربّما كان متصيّداً من مفهوم بعض الأحاديث، من أنّه لا صدقة وذو رحم محتاج.

بروز المذاهب بعد الإمام الصادق (عليه السلام):

لماذا لم تكن هناك مذاهب إلاّ بعد زمن الإمام الصادق (عليه السلام)؟

ــــ كان هناك مذاهب في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) وليس بعده. حيث كان هناك أشخاص يتبنّون اجتهاداً آخر، منهم أبو حنيفة ومالك وآخرون. والمذاهب ليست أربعة، هي تسعة أو عشرة، فقد كان هناك إلى جانب المذاهب الأربعة، المذهب الظاهري، والمذهب الأوزاعي، كما توجد مذاهب كثيرة قبل الإمام الصادق (عليه السلام)، كالمذهب الزيدي مثلاً.

خلق الشّيطان ودوره:

إنّ الشيطان هو القائل في القرآن: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}(1)، فَلِمَ لا يكون الشيطان موظَّفاً من قِبَل الله سبحانه وتعالى، وإلاّ لماذا خلق الله الجنّة والنار حتى يثيب الإنسان أو يعاقبه؟

ــــ أراد الله أن يوظّفه لأن يكون مطيعاً له، ولكنّه عصاه في أوّل تجربة له عندما أمره بالسجود لآدم، وعندئذٍ {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}(2). إنّ وجود الشيطان يخلق حالةً يستطيع الإنسان من خلالها أن يركِّز إرادته بما ينفتح به عقله ليميّز بين الخير والشرّ. وعلى كلّ حال، فالله سبحانه لم يجبر الشيطان على المعصية، ولم يخلقْه ليعصيه، بل كانت المعصية وحركة التمرّد من نتائج تلك المعصية للأمر الإلهي بالسجود لآدم، والله العالِم.

حجّية المنامات في الاعتقادات:

ماذا تقولون للأشخاص الذين يستدلّون على بعض الأمور الدينيّة، وخصوصاً في المجال العقائدي، بالأحلام والمنامات؟

ــــ لم يجعل الله سبحانه وتعالى المنامات أو الأحلام وسيلةً من وسائل الحُجّة التي تثبت بها الحقائق. ربّما يكون في بعض المنامات خير، ولكن قد تكون أضغاث أحلام، لا تمثّل شيئاً من الواقع والحقيقة. وأمّا الإنسان الذي يتعصّب للمنامات، فهذا إنسان لا ثقافة له، ولا يعرف الموقع الذي يمثّله المنام، حيث ليس هناك دليل شرعي على كونه يمثّل الحقيقة دائماً.

 

 

معنى الزهد:

قدّم الله سبحانه وتعالى المال على البنين، وكثيراً ما نسمع من الخطباء، أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) رفض المال بقوله: "يا حمراء ويا صفراء غرِّي غيري"(1)، فهل هذا صحيح؟

ـــ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يبيّن لنا أنّه لا يخضع للمال، لا يخضع للذهب أو للفضّة، وأنّ إيمانه أقوى من ذلك. ولكن ليس معنى ذلك أنّه يرفض البنين.

إمكان سهو المعصوم:

ذكرتم في كتاب العقائد (ص79)، أنّ من الممكن أن ينسى النبيّ أو يسهو في غير التبليغ، وقلتم إنّ هذا لا ينافي العصمة؟

ــــ هذه المسألة تحرّر من جانبين؛ فتارة نتحدّث عمّا يحكم به العقل، بغضِّ النظر عن الأدلّة الأخرى، فهنا يقول السيّد الخوئي (رحمه الله) إنّ العقل لا يحكم بامتناع السهو والنسيان في غير التبليغ. أمّا المقام الثاني، وهو النظر في أدلّة العصمة، فهي تدلّ على العصمة حتّى بالنسبة إلى ذلك.

الدليل العقلي على وجود المهدي (عليه السلام):

هل هناك دليل عقلي على أنّ الإمام المهدي يعيش معنا في هذه الأرض؟

ــــ الدليل هو دليلٌ شرعي، لأنّ الله سبحانه وتعالى أخبر نبيّه بذلك، وأخبرنا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك، وهو الصادق المصدّق على أمر ممكن، وليس مستحيلاً.

 

 

 

أولو العزم:

مَنْ هم أولو العزم؟

ــــ أولو العزم هم أصحاب الرسالات العامّة، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

معنى النّاصبيّ:

هل يستحقّ الناصبيّ هذه التسمية بمجرّد مناصبته العداء لأحد المعصومين حتّى بلحاظ عدم ثبوت إمامته عنده؟

ــــ الناصبيّ هو المعادي، لا الشخص الذي عنده شبهة، لأنّ مَنْ عنده شبهة يسأل أهل الذكر حتّى يزيلوا شبهته، ولا ينطلق من موقع العداء.

الإرادة ضدّ الشيطان:

ما هي الطرق التي تجعل الإنسان قويّ الإرادة في كلّ أموره، خصوصاً أمام شياطين الجنّ والإنس؟

ــــ الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}(1)، وقد أعطى الله للإنسان العقل ليحرّكه، وأعطاه الإرادة ليرتّب عليها أموره، وهيّأ له كلّ الوسائل، سواء تلك التي تحيط به، أو من خلال الوحي الذي أنزله عليه. ثمّ دفعه إلى التأمّل في كلّ الأمور، وعلى الإنسان أن يأخذ بأسباب البرهان والدليل، حتّى يصل إلى الحقيقة.

 

 

الشياطين الأنسيّة:

يوجد في وقتنا الحاضر شياطين أنسية كثيرة، فماذا علينا أن نفعل ضدّهم؟

ــــ نحاربهم جميعاً، فالله يقول: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(1)، وقد أكّد الله عداوة الشيطان لنا في كلّ الأمور. ولذلك علينا أن ننفتح على ثقافتنا الإسلامية، وأن ننفتح على وسائل الشيطان التي عرّفنا الله سبحانه وتعالى إيّاها، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}(2)، فإنّ الله أعطانا الوسائل التي نحارب بها الشيطان، ولكنّ بعضنا لا يحاول استخدامها.

الولاء والاقتداء:

ما الفرق بين الولاء والاقتداء؟ وهل يصحّ أحدهما بدون الآخر؟

ــــ الاقتداء ينطلق عادةً من الاعتقاد بشيء من خلال الإيمان به ومحبته، وهذا لا يبتعد عن الولاء. ولذا قد يكون الاقتداء بالشرّ، وقد يكون بالخير. وربّما يكون هناك شخص يوالي مَنْ عادى الله، وشخص يوالي مَنْ والى الله، فقد ورد عندنا في الحديث: "إذا أردت أن تعرف أنّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبك، فإنْ كان يحبّ أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَنْ أحبّ"(3).

محاربة الغلوّ:

تدور في الأوساط الحوزوية والثقافية الشيعية فكرة أنّ هناك إرهاصات لتأسيس تيّار إصلاحي يساهم في انتشال الحالة الإسلامية ممّا لحق بها من الغلوّ والخرافة، ماذا تقولون حول هذا الموضوع؟

ــــ نحن ندعو إلى حركة إصلاحية تبعد الواقع الإسلامي عن الغلوّ الذي انتشر، سواء في بعض أوساط الحوزات العلمية ـــ مع الأسف ـــ أو لدى المسلمين من عامّة الناس، كذلك بالنسبة إلى الخرافات التي حاول بعض الناس أن يخلطوا بينها وبين الغيب، وعلينا أن نقف مع ما بيّنه الله لنا في القرآن الكريم من موقع الأنبياء، وما بُيّن لنا من موقع الأئمّة (عليهم السلام)، وأنْ لا نتجاوز ذلك. ولذلك فنحن نشجّع أيّة حركة إصلاحية في مواجهة كلّ ما يدور الآن من الغلوّ والخرافات، وهو كثير.

التطيُّر والتشاؤم:

أنا في العاشرة من عمري، كان عندي سلحفاة صغيرة وقد ماتت. سمعت أنّها تجلب الفقر وتموّت أحد أفراد العائلة، فما صحّة هذا القول؟

ــــ هذا القول خرافة ولا قيمة له، وعليك أن لا تخاف من ذلك.

حقّ التشريع:

هل للأئمّة (عليهم السلام) حقّ التشريع؟ وهل إنّ قول المعصوم ينسخ القرآن؟ وكيف نفسّر قضية الرجم للزاني المحصن بينما في القرآن تحبس المحصنة في دارها؟

ــــ أوّلاً، ليس لأحد حقّ التشريع بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1)، وقد جاء في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي... وحديث جدّي حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن جبرائيل عن الله سبحانه وتعالى"(2)، لذلك، ليس للأئمة ولا لغير الأئمة حقّ التشريع أو حقّ نسخ النصّ القرآني.

أمّا بالنسبة إلى الرّجم، فقد ورد في السُنّة ولم يرد في القرآن، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نأخذ بالسُنّة كما نأخذ بالقرآن، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1)، وإلاّ، فكثير من الأحكام لم ترد في القرآن، وإنّما وردت في السُنّة، وتفاصيل الزكاة، فإنّها لم تذكر في القرآن الكريم، فإنّ الله أوحى إلى النبيّ بشيء وأوكل إليه التشريع، وأمّا بعد النبيّ فلا تشريع لأحد. أمّا الآية التي تتحدّث عن حبس الزانية في البيت، فليست واردة في المحصنة، كما أنّها كانت تمثّل البداية التشريعيّة في عقاب الزانية قبل أن ينزل العقاب الحاسم، وذلك في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}(2).

لماذا حرّفت التوراة والإنجيل؟

لماذا لم يحمِ الله التوراة والإنجيل من التحريف كما فعل بالنسبة إلى القرآن؟

ــــ ربّما كان السبب في ذلك أنّ للقرآن خصوصيّة، باعتبار أنّ إعجازه في نصوص آياته هو السبب في ذلك، بحيث إنّ الله سبحانه أودع في القرآن من العناصر الذاتية ما يعصمه من التحريف، ولم تكن المسألة كذلك بالنسبة إلى الكتابين. وعلى كلّ حال، فإنّ الله {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(3)، وهو أعرف بالحكمة في ذلك.

العودة إلى الذنب:

ارتكبتُ ذنوباً معيّنة مراراً في حياتي، وأصبحتُ أُمارسها بشكلٍ اعتيادي، حاولت الإقلاع عنها والتوبة إلى الله منها، حتّى وُفّقت لأنْ أتركها مدّة طويلة، ولكنّي عدت في النهاية إلى ارتكاب الذنب. فماذا عليّ أن أفعل؟

ــــ إنّ قدرتك على الامتناع عن الذنوب، يدلّ على أنّك تملك الإرادة للامتناع الكلّي، فإذا نازعتك نفسك إلى الحرام، فاذكر الله وحاجتك إلى رضاه، ولاسيّما عند القدوم عليه في يوم القيامة، وعليك أن تدعوه لأنْ يوفّقك للطاعة وترك المعصية. وقد يكون من المفيد المحاولة في أن تشغل نفسك بأمور أخرى بحيث لا تسمح للفراغ بأن يسيطر عليك؛ لأنّ هذا الفراغ هو الذي يفسح في المجال لتسويلات الشيطان وتزيينه، والله الموفّق.

الصلاة المقبولة:

ماذا يفعل الإنسان لتكون صلاته مقبولة؟

ــــ عليه أن يتوجّه بقلبه إلى الله، في موقفه بين يديه, وتفكّره في أقوال الصلاة، ووعيه لمعاني أفعالها في إيحاءاتها، حتّى يصل إلى مرحلة استحضار عبادته بين يديّ الله في موقع العبودية له، وبذلك يمكن أن تكون صلاته مقبولة، ويحقّق من خلالها الخير الكبير(1).

التبليغ النبوي:

هل بلَّغ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسالته بشكلٍ كامل، أم ترك جزءاً منها للأئمّة عليهم السلام ليبلّغوها للمسلمين؟

ــــ لقد بلّغ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسالته بشكلٍ تام وكامل، ولاسيّما أنّ الله قد أكّد ذلك في كتابه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(2)، ولكنّه أودع ذلك كلّه، ما حفظه الناس وما غاب عنهم، عند الإمام عليّ (عليه السلام)، الذي أخذ الأئمة عنه بالرجوع إلى كتابه أو إلى ما رووه عنه، للرجوع إليهم عند الحاجة، وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّ كلّ ما حدَّث به هو من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بالحديث الذي رواه عن آبائه (عليهم السلام).

 

الشفاعة والعدالة الإلهية:

يقول البعض، إنّ الشفاعة تتنافى مع العدالة الإلهية، فكيف يتساوى المذنب والمسيء عند ربّ العالمين بسبب الشفاعة؟ ثمّ أليس الإيمان بالشفاعة مدّعاة للتملّص من الأحكام الإلهية؟

ــــ الشفاعة هي نوع من العفو عن المذنبين، وهي بذاتها لا تنافي العدل الإلهي، إلاّ أنْ نقول إنّ العفو عن المذنب أساساً هو خلاف العدل، ولكنّ الشفاعة لا تشمل كلّ مذنب، لأنّ لها أسبابها التي لا يستحقّها من خلالها إلاّ أهلها، وهي من هذه الجهة مثل التوبة التي لن تشمل كلّ مذنب.

سيّدة نساء العالمين:

هل فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي سيّدة نساء العالمين؟

ــــ هي سيّدة نساء العالمين بنصّ حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

الموقف من التناسخ:

ما هو التناسخ؟ وهل توجد أدلّة من القرآن أو السُنّة تبطل هذا الاعتقاد؟

ــــ التناسخ هو حلول روح الإنسان عند موته بجسد كائن حيٍّ آخر، وهذا ممّا لا دليل عليه، إضافةً إلى أنّه يؤدّي إلى إنكار البعث. أمّا بطلانه فيدلّ عليه كلّ ما جاء في الكتاب والسُنّة من حديث عن الحساب والعقاب والثواب يوم القيامة، وإلاّ لزم أن تحاسب روح واحدة على عمل شخصين أو أكثر.

رزق الله:

كيف يرزق الله عبده؟ وهل يأتي الرزق من طريق عباده؟

ــــ لقد نسب الله تعالى الرّزق إلى نفسه المقدّسة، مثلما نسب كلّ ما يجري في هذا الوجود إليه، وهذا أمر واضح في القرآن الكريم، غير أنّ هذه النسبة إليه إنّما هي من حيث إنّه تعالى هو المبدأ الأول والعلّة الأولى التي بها قوام جميع الأمور، وهذا لا يلغي توسّط أسباب أخرى ضرورية لتحقّق إرادته تعالى في مختلف الشؤون، والرزق من أبرز الأمثلة على ذلك، إذ لا بدّ لكلّ إنسان من العمل والسعي والكدح لتحصيل لقمة العيش التي وفّر الله تعالى أسبابها في الطبيعة وفي قدرات الإنسان، وفي علاقاته مع غيره من الناس الذين سخَّر بعضهم لبعض ليتبادلوا المنافع والأعمال.

بين العدل والفقر:

نحن نعلم علم اليقين، أنّ الله عادل بين الناس، فلماذا نرى بعض الناس فقراء وبعضهم الآخر أغنياء؟

ــــ سؤالك يجرّنا إلى عشرات الأسئلة المماثلة:

لماذا بعض الناس طوال وبعضهم قصار؟ لماذا بعض الناس سود وبعضهم بيض؟ لماذا بعض الناس يتّسمون بالجمال وبعضهم ليسوا كذلك؟ وهكذا، فأوّلاً {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(1). وثانياً ما هو العدل؟ هو أن يُعطى كلّ ذي حقّ حقّه، بقطع النظر عن اللون والشكل والنسب، والظلم أن لا يعطى لصاحب الحقّ حقّه، وأيّ حقّ لنا عند الله، فهو الذي يجعل لنا الحقّ، فيعطي الإنسان بحسب حكمته ما يصلحه، سواء كان فقيراً أو غنيّاً {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}(2) في بعض الحالات، فالله يعلم أنّك محدود في فهمك للأشياء وهو المطلق، فهل تريد أن تفرض فهمك على الله سبحانه وتعالى؟

إنّ على الإنسان أن يتواضع لله وأن يسلّم له أمره {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(3). ثمّ إنّ كثيراً من السلبيات جاءت بسبب البشر أنفسهم، فلا تنسب إلى الله سبحانه وتعالى، وقد يدخل في ذلك الفقر والجهل والمرض.

 

 

أهل الكتاب والشرك:

بعض العلماء يقولون إنّ أهل الكتاب مشركون أو كفّار، والقرآن يقول: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}(1). فأين يقع أهل الكتاب؟ وما هو الفرق بين الكفر والشرك؟

ــــ أهل الكتاب كافرون لأنّهم يكفرون بصفة الله {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}(2). {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}(3). فهو كفر باعتباره أنّ الإيمان يفرض التوحيد والإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(4). فكلّ مَنْ لم يلتزم بهذه الوحدانية فهو كافر بهذه العقيدة, وهم كافرون بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبالقرآن أيضاً، لأنّهم لا يعتبرونه كتاب الله. لكنّهم بحسب المصطلح القرآني ليسوا مشركين، وهذه الآية التي أشرت إليها دليل على ذلك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}. فالعطف هنا عطف مغايرة، كما أنّ أحكام القرآن في الحرب مع أهل الكتاب تختلف عن أحكامه في الحرب مع المشركين.

علاقة البلاء بالذنوب:

هل البلاء الذي ينزله الله سبحانه على عباده ليختبرهم ويمتحنهم بقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ}(5)، هو بما كسبت أيدي الناس، أو أنّه لا علاقة لهذا بالذنوب؟

ــــ إنّ البلاء في الدنيا قد ينطلق ممّا كسبت أيدي الناس {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(6)، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1)، {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(2).

وقد يأتي البلاء من خلال طبيعة النظام الكوني، أي أنّ من حكمة الله في الكون أن تحدث العواصف والرعود والفيضانات والزلازل والأمراض والكوارث، لأنّ طبيعة هذا النظام تجعل من هذه الظواهر ذات صلة بالكثير من المصالح التي أودعها الله في الكون. فليس هناك في الدنيا خير مطلق وليس هناك شرّ مطلق، فإذا غلبت المصلحة المفسدة كان الخير، وإذا غلبت المفسدة المصلحة كان الشرّ، ومن الطبيعي أنّ الإيجابيات تختزن في داخلها بعض السلبيات، والعكس صحيح.

الحكمة في الآفات الطبيعيّة:

ما الحكمة في الآفات الطبيعية؟ وإذا كان العذاب للكفّار، فما ذنب المسلمين يموتون من جرّاء هذه الآفات وخصوصاً الأطفال؟

ــــ أوّلاً: الآفات الطبيعية ـــ ليست كما يتصوّر البعض من الناس ـــ عقاباً دائماً، وإلاّ، إذا أخذنا بهذه النظرة، فإنّ الموت أيضاً هو مأساة، في حين أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الكون على أساس سنن وقوانين مودعة في كلّ الظواهر الكونية الثابتة والمتحرّكة. ولما كان عالمنا عالم المحدود ضمن القانون الطبيعي، فلا بدّ أن تنتج هذه الظواهر بعض السلبيات، وليس من الضروري أن تكون هذه السلبيات مطلقة، ففي الفيضانات سلبيات لكنّها تغمر الأراضي التي لا يأتيها الماء بالمياه، وكذلك الزلازل والبراكين لها فوائد، وهكذا.

والله تعالى أجرى أمور الكون بحكمة، وغاية ما هناك أنّنا لا نستطيع أن نفهم حكمة الله فيما يمكننا أن نكتشفه منها إلاّ بدراسة الأمور من جميع الجهات، لا من جهة السلب فقط. ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى يقول لك إذا صبرت على البلاء فالدنيا ليست نهاية المطاف، فهناك الدار الآخرة وفيها: {يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(1). {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(2).

عصمة الأنبياء (عليهم السلام):

هل إنّ جميع الأنبياء (عليهم السلام) معصومون؟ أم أنّ العصمة مقصورة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟

ــــ كلّهم معصومون بلا استثناء، لأنّ دور الأنبياء (عليهم السلام) هو أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ولا يمكن أن يرسل الله تعالى نبيّاً يعطي الناس النور وفي عقله أو قلبه أو حياته شيء من الظلمة. ثمّ إنّ علينا أن نتّبع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي جمع الرسالات كلّها، لأنّ ما يهمّنا الآن هو عصمته باعتباره خاتم  الأنبياء والمرسلين، خاصة وأنّنا ندين بالدّين الذي جاء به.

التشيّع الواعي:

ماذا يعني التشيّع بالوراثة؟ وهل هو أقل شأناً من التشيّع بالعقل؟

ــــ التشيّع بالوراثة يعني تقليد الأهل والبيئة فيما هم عليه من عقائده، وهو ما يحصل لمعظم الناس المؤمنين بسائر الأديان والمذاهب، ورغم أنّ معظم الناس كذلك، فإنّ الموجّهين والدّعاة يجهدون لتعليم الناس وتبصيرهم بعقائدهم عن دليل وبرهان، ويؤكّدون لهم وجوب البحث والسؤال ليصير إيمانهم عن قناعة لا عن تقليد ووراثة. ورغم أنّ المطلوب ذلك، فإنّ الله تعالى قد يعذر المستضعفين الذين قد يفوتهم الحقّ قصوراً منهم عن إدراكه وطلبه، كما يعذرهم في قصورهم هذا لو أصابوا الحقّ واعتقدوا به، لكنّه سيكون أقل ثباتاً وقيمةً وثواباً ممّا لو كان عن وعي وعلم.

 

التدخُّل الإلهي لعقاب المفسدين:

إنّ الله تعالى كان إذا قام قومٌ بالشرِّ والفساد، خسف الأرض وأنجى الصالحين من ذلك، فلماذا لا نرى مثل ذلك اليوم؟

ــــ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(1)... فالله هو الحكيم الخبير، وهو تعالى لم يجرِ الأمور بالمعجزة؛ إذ كانت قضايا الخسف من حوادث العصور السابقة التي هي وقائع خاصة. أمّا الآن، فإنّ الله أجرى الأمور وفق السنن التي ركّزها في الحياة، بحيث يعاقب الذين يصنعون الشرّ والفساد من خلالها، ولا يريد الله للمؤمنين أن يكونوا كسالى فيطلبوا النصر بمجرّد الدعاء، ومن دون أن يحرّكوا سلاحاً، بل لا بدّ لهم من أن يعدُّوا العدّة، ثمّ يطلبوا من الله التوفيق والنصر.

غاية الخلق:

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2) ، هل يعني أنّه خلق الكون بما فيه للعبادة، وهو الغنيّ عن العباد؟

ـــ ليس المراد بالعبادة هو مجرّد الصلاة والصوم والحجّ، بل المراد منها أن يلتزم الجنّ والإنس بإرادة الله في كلّ ما شرّعه الله سبحانه وتعالى في ما أمر به ونهى عنه، في إعمار الكون، وفي رفع مستوى الناس. وقد ورد في الحديث: "العبادة عشرة أجزاء ـــ أو سبعون جزءاً ـــ أفضلها طلب الحلال"(3).

وورد في الحديث أنّ "طلب العلم عبادة"(4) وأنّ "الجهاد عبادة"(5). ولذلك، فالعبادة تشمل كلّ ما أراد الله للناس أن يتحمّلوا مسؤوليته، في بناء الحياة على الصورة التي يريد سبحانه وتعالى أن تكون عليها، لتكون على صورة إرادته وصورة رضاه، وإلاّ فإنّ الله غنيٌّ عن عباده، وهو لا يستفيد لا من صلاتنا، ولا من صومنا، ولا يتضرَّر من معاصينا، ولكن كلّ ما أراد سبحانه لنا أن نتحمّل مسؤوليته، هو ممّا يُصلح أمورنا ويبعدنا عمّا يفسدها.

التمهيد للظهور:

قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "لو لم يبقَ من الدُّنيا إلاّ يوم واحد، لطوَّل الله ذلك اليوم، حتّى يبعث الله رجلاً صالحاً من أهل بيتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً"(1). إذا كانت رسالة أهل البيت مناهضة للظلم، فلماذا لا نُريح أنفسنا ونربّيها ونبرمجها على ردّ المظالم لنكون نواةً حقيقيّة لدولتنا؟

ــــ علينا أن نقف ضدّ الظلم كلّه وضدّ الاستكبار كلّه، وأن نعدَّ أنفسنا لذلك، وفي الحديث: "مَنْ رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(2)، وقال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(3)، وتكليفنا هو أن نعمل على أن نُهيّئ أنفسنا للمواجهة، سواء كانت المواجهة سياسية أو عسكرية أو ثقافية أو اجتماعية أو ما إلى ذلك، كلٌّ بحسبه في هذا المجال. ونحن نواجه الآن محور الشرّ في العالم المتمثّل بأميركا وإسرائيل وبكلّ الظَّلَمة الذين يتحالفون معهما لظلم الناس وقهرهم.

عقيدة الإمامة والديمقراطية:

من بين الشّبهات الحديثة التي توجَّه حول الإمامة، هو أنّ افتراض وجوبها من الله لا ينسجم مع طبيعة العصر بديمقراطيّته وحرّيته، فكيف تردّون على ذلك؟

ــــ السؤال يقول بأنّه كان يجب على الله أن يطلب من الناس أن يُجروا انتخابات ليختاروا الإمام. هل هذا ما يقوله السؤال؟

أذكر أنّ بعض المثقّفين والمفكّرين، سمع بعض العلماء من إخواننا المسلمين السنّة يقول، إنّه لو كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد فرض عليّاً خليفةً على المسلمين، فأنا أشكّك في النبيّ، أي أنّ هذا لا يتناسب مع عدالة النبيّ وعصمته وأخلاقياته. فأجابه: إذا كانت المسألة عندك بهذا المقياس، فعلينا أن نشكِّك في الله لأنّه فرض النبيّ على الناس، فالله يقول: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}(1)، فالله سبحانه وتعالى لم يسأل أحداً في اختيار إبراهيم أو موسى أو عيسى (عليهم السلام) أو النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّما عرف الله ما يُصلح الناس في هذا المجال، ورأى أنّ هؤلاء الأنبياء يحملون رسالته بكلّ صدق وبكلّ أمانة، فاصطفاهم واجتباهم على خلقه، وكان هذا الجواب مسكتاً. وإذا عرفنا أنّ الله حكيم في وحيه وفي قضائه وقدره، عرفنا أنّه لا يتصرّف إلاّ بما فيه الحكمة والخير لعباده والرحمة لهم واللّطف بهم في ما يقرّبهم من مصالحهم العامّة والخاصّة.

هل الإمامة غير واجبة؟

يقول الشيعة إنّ الإمامة لطفٌ من الله تعالى، ولكنّ واقع الأمر يبيِّن عكس ذلك، فإذا الأمر كذلك، فهل يمكن اعتبار الإمامة غير واجبة؟

ــــ وظيفة الإمام هي أن يتابع حراسة الخطّ الإسلامي والمنهج الإسلامي بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنّ النبيّ لم تتح له الظروف أن يبسط الإسلام في العالم كلّه وأن يحمي الإسلام ممّن يسيء إليه أو ينحرف به، ليبقى الإسلام مصوناً من الخلل والتحريف. وبهذا تكون الإمامة واجبة؛ لأنّ الإمامة تمثّل الامتداد العملي للنبوّة، وهي ليست نبوّةً. وقد ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حقّ عليّ (عليه السلام): "أمَا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي"(2).

 

وجوب الإمامة وانتقاص العقل:

إنّ القول بالإمامة يوجب الوصاية على العقل البشري، والوصاية توجب الانتقاص في العقل. ما الردّ على ذلك؟

ــــ الإمامة تتحرّك على أساس توجيه الناس نحو العقل؛ فالإمام ليس بديلاً عن العقل، ولكنّه يوجّه الناس إلى أن يأخذوا بالعقل القطعي الخالص. وقد ورد في الحديث أنّ الحجّة بين الله وبين عباده هي العقل، وهكذا كان الأئمّة (عليهم السلام) يحدّثون الناس، وأنّ الله عندما خلق العقل قال له أقْبِل فأقْبَل، ثمّ قال له أدْبِر فأدبر، ثمّ قال: "وعزّتي وجلالي، ما خلقتُ خلقاً أعزَّ عليَّ منك، إيّاك آمر وإيّاك أنهى، وبك أُثيب وبكَ أُعاقِب" والأئمّة سلام الله عليهم تماماً كما هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما هو القرآن، دعوا إلى الأخذ بالعقل فيما يمكن أن يدركه العقل. ونحن كما ندرك الله بالعقل وندرك النبيّ بالعقل في هذا المقام، إلاّ أنّ هناك أموراً تشريعية يستقلّ بها التشريع، وهي من الأمور التي قد لا يدركها العقل، لأنّنا لا نملك أدوات معرفتها، فيأتي الوحي من أجل أن يساعد العقل على السير في الخطِّ المستقيم.

الأمر بين التفويض والجبر:

قال الإمام الصادق (عليه السلام): "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين"(1)، ما المقصود بهذا الحديث؟ وهل سنده متوافر أم لا؟

ــــ هذا الحديث صحيح، والمقصود به أنّنا عندما نتحرّك في حياتنا، فإنّ الله لا يجبرنا على ما نفعل، فنحن نملك الاختيار في كلّ حركة نتحرّكها، حيث قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}(2)، ولكنّ الله سبحانه وتعالى لم يعزل نفسه عن مواقع القوّة والتأثير، فالله قادر على أن يشلّ قدرة الإنسان، ولكنّه بحكمته ترك للإنسان حرّيته، فليس هناك جبر بمعنى قهر، بل هناك اختيار، وليس هناك تفويض بمعنى أنّ الله فوَّض للإنسان كلّ أمره وعزل نفسه عن التأثير في قدرات الإنسان وفي مواقع اختياراته، بل يبقى الله تعالى هو المهيمن على الأمر كلّه.

علامات ظهور المهديّ (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف):

ما هي علامات ظهور المهدي المنتظر (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف)؟ وهل من توقيت محدَّد حسب رأيكم لظهوره؟

ــــ ظهور المهديّ المنتظر هو غيب من غيب الله، فكما كانت غيبته من غيب الله، فإنّ ظهوره من غيب الله، وما يأخذ به الناس غالبُه لا يستند إلى أساس معتبر للقول بعلامات مباشرة، وإلاّ فكلّ ما يجري في العالم يُهيّئ الأجواء للتغيير العالمي في نهاية الزمان. علينا أن نقوم بمسؤولياتنا في الالتزام بالإسلام كلّه، حتّى نهيّئ لمسألة الظهور، فنهيّئ جوّاً إسلامياً في هذا البلد أو ذاك البلد، حتّى نكون من جنوده ومن أنصاره ومن أتباعه عندما يظهر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.

طبيعة اللّوح المحفوظ:

هل اللّوح المحفوظ مادّي أو معنوي؟

ــــ لا نعلم حقيقته، وهو من أسرار الغيب، فلا نتكلّف علمه.

أهل البيت واللّغات:

هل صحيح أنّ أهل البيت (عليهم السلام) يتكلّمون كلّ اللّغات؟

ــــ لا نعلم إلاّ أنّهم يتكلمون العربية، وقد ورد في بعض الروايات أنّهم يتكلّمون بغيرها في حالة احتياجهم إلى ذلك من موقع الإمامة لذلك.

 

 

ظهور الزهراء (عليها السلام) في البرتغال:

هل صحيح أنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) ظهرت في البرتغال، وإذا كان ذلك صحيحاً، فهل دعت البرتغاليين إلى اعتناق الإسلام؟

ــــ ليس بين أيدينا ما يؤكّد ذلك، ووجود قدّيسة عند المسيحيين باسم (فاتيما) لا يعني أنّها الزهراء (عليها السلام) فعلاً.

حقيقة السحر:

ذهبت منذ فترة إلى امرأة تقرأ القرآن وتمارس السحر، وأخبرتني أنّ هناك سحراً لقطع رزقي، وطلبت منّي مبلغاً من المال لإجراء اللازم لفكّ السحر؟ فما الحكم في ذلك؟

ــــ لا واقعية لهذه الأمور، ويحرم التعامل بها، وعليك اجتنابها، والحلّ هو التوكّل على الله تعالى، والاستعاذة به من الشيطان الرجيم، والتفكير بعقل ووعي، والسعي والعمل.

الحظّ والقدر:

هل هناك وجود لما يسمّى (الحظّ)؟ وفي حال عدم وجوده، هل يجوز أن نقول الحظّ بدل القدر؟

ــــ القدر والحظّ اسمان متشابهان في المعنى في العرف العام، ويراد بهما ما يحدث على الإنسان من خير أو شرّ من دون بروز لسبب حصول هذا الأمر أو ذاك. والإنسان هو الذي يصنع أعماله في مختلف مجالات حياته؛ في التجارة والتعليم والزواج والعلاج والتنزّه والرياضة والتسلية والجهاد، فينجح أو يفشل، يسعد أو يشقى، يسلّم أو يمرض، وهو في جميع ذلك مخيَّر ومريدٌ وحرّ، وهو الذي اختار هذا ففعله، واختار أنْ يترك ذاك فتركه، وحين يقال (نصيبه هذا) أو حظّه أو قدره، فالمراد هو تسمية ما اختاره وما جرى عليه، ليس أكثر من ذلك. أمّا ربّنا عزّ وجلّ، فهو الذي يرى كلّ شيء، ويسمع كلّ شيء ويلطف بالعبد في جميع مساره، لكنّه لا يجبره على شيء من أفعاله.

فائدة عصمة الزهراء (عليها السلام):

ما الغرض من العصمة؟ وإذا كان الغرض منها لأجل تبليغ الحكم الشرعي، فهل إنّ الزهراء (عليها السلام) كانت إماماً مثلاً أو مرجعاً للفتيا كمثل الأئمّة (عليهم السلام)؟

ــــ الأصل في العصمة أن تكون لتبليغ الدِّين في إطار النبوّة والإمامة، بالدرجة التي لا يحتمل فيها الخطأ في القول أو العمل، ولاسيّما أنّ السُنّة هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره، ولكن لا يمنع أن يفيضها الله تعالى على غيرهما لغرض معيّن قد لا نعلمه، كما هو الحال في السيّدتين مريم والزهراء (عليهما السلام).

حول تفضيل الأئمّة على الأنبياء:

هناك مَنْ يناقش في مسألة تفضيل الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) على سائر الأنبياء (عليهم السلام) باستثناء الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكيف نردّ على ذلك؟

ــــ المعرفة المطلوبة هي بمعرفة مرتبتهم من الإمامة والعصمة والولاية على المؤمنين ووجوب طاعتهم وكونهم الحجج على الخلق، أمّا زائداً على ذلك، فليس من العقيدة الواجبة، كما أنّه لا مستند لنا واضح لإثباته.

صحّة دعاء الفرج:

يوجد مقطع من دعاء الفرج نقول فيه: "يا محمّد يا عليّ، يا عليّ يا محمّد"، إلى نهاية الدعاء. لماذا هذا التخصيص بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والإمام عليّ (عليه السلامولمن ينسب هذا الدعاء، علماً أنّ الأخوان السُنّة يقولون إنّ هذا غلوّ؟

ــــ  نعم، يشتمل هذا الدعاء على شيء من الغلوّ، وليس له سند صحيح في الحديث المأثور عندنا، ولذا فإنّنا لا نستحسن قراءته.

 

 حديث: قولوا فينا ما شئتم:

ما صحّة هذه الرواية من حيث السند أو المتن: (قولوا فينا ما شئتم ونزِّهونا عن الربوبيّة)؟

ــــ الرواية غير صحيحة، ومتنها غير سليم، فما معنى أن نقول فيهم ما شئنا، فإنّ ما ثبت لأهل البيت (عليهم السلام) هو العصمة والإمامة والولاية ووجوب الطاعة والعلم والحكمة وغير ذلك ممّا هو من صفات الإمام (عليه السلام) الذي يمثّل الامتداد للنبوّة من دون نبوّة، أمّا أن نقول فيهم ما نشاء، فكيف يصدر هذا الكلام من الإمام، وهو يعرف أنّ هناك المغالين والوضّاعين والذين ليسوا أهلاً للخوض في الكلام، وهل نقول مثلاً إنّهم أنبياء يوحى إليهم؟! والسيّد الخوئي (رحمه الله) عندما سئل عن هذه الرواية، قال ما ملخّصه إنّه لا يُحتاج إلى البحث في رواية تثبت عصمتهم وكمالهم في الصفات التي يمكن أن تنالها البشرية وتنزيههم عن صفات الرب. ويمكنك مراجعة كلامه في صراط النجاة.

أسئلة عن المسيحيّة:

قرأت منذ عامين رواية للكاتب الأميركي (دان براون) بعنوان (رمز دافنشي) وقد أثارتني المعلومات الواردة فيها عن أصل الدّين المسيحي، حيث يذكر أنّ للسيّد المسيح زوجة اسمها (مريم المجدلية) أنجب منها فتاة، ولا تزال سلالته قائمة إلى يومنا هذا على الرغم من ملاحقة الكنيسة واضطهادها لهم. أمّا بالنسبة لألوهية المسيح عند المسيحيين، فحسب قول (دان براون) إنّما يعود ذلك إلى أيام الإمبراطور قسطنطين، حيث عقد رجال الدّين المسيحيون مؤتمراً في مدينة نيقيا (في تركيا) في القرن الخامس الميلادي، وقالوا بإلغاء الإنجيل واعتماد الأناجيل المزوّرة التي تلغي فكرة نبوّة المسيح وكونه إنساناً، وتتبنّى فكرة الثالوث المقدّس، وقد فرض هذه الأفكار الجديدة على الشعب وقام بالكثير من عمليات الاغتيال والتنكيل بالمسيحيين لفرض الدّين الجديد. أرجو أن تزوّدوني ببعض المعلومات عن رأي الإسلام بهذا الموضوع؟

ــــ ما ذكره عن مجمع نيقيا هو المتداول بين المؤرّخين، فإنّ المسلمين يعتقدون بأنّ الإنجيل المتداول ليس هو الإنجيل الصحيح، كما أنّ فكرة التثليث فكرة وثنيّة لا علاقة لها بالديانة المسيحية الحقّة، فالمسيح هو عبد الله تعالى ورسوله، أمّا أنّه تزوّج من مريم المجدلية وأنّ له ابنة، فلا نعلم شيئاً حول ذلك، لكنّ القرآن الكريم يؤكّد أنّ أمّه امرأة طاهرة معصومة اسمها مريم، وأنّه وُلِدَ منها من دون أب.

أسماء شرك:

سألني أحد الأخوة، أنّ بعض أسمائنا مثل (عبد الحسين وعبد الرضا وعبد الحسن وعبد عليّ)، هي أسماء غير صحيحة، لأنّ العبودية لله وحده، وأنا أعرف أنّ هذه الأسماء لا تمثّل العبودية للإمام (عليه السلام)، ولكن ليس لدي الجواب المقنع لكي أجيب عن هذا السؤال؟

ــــ يستخدم الناس هذه الأسماء كنوع من الاحترام لأهل البيت (عليهم السلام)، وهو لا يتنافى مع العبودية لله تعالى، لكن رغم ذلك، فإنّنا لا نشجِّع عليها، ولاسيّما أنّ الحديث المشهور يحثّ على جعل العبودية لله، حيث ورد أنّ خير الأسماء ما حُمِّد وعُبِّد.

عالَم البرزخ:

أودّ أن أعرف ما هو عالَم البرزخ؟ ومتى يكون؟

ــــ هو عالَم ما بعد الحياة الدّنيا وما قبل حياة الآخرة، قال تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(1)، وفيه حساب القبر والتمهيد لحساب الآخرة وجزائها.

الأئمّة علّة للخلق:

هل يصحّ وصف المعصومين ــ سلام الله عليهم ــ بأنّهم علّة للخلق؟ وهل النسيان جائز على الأئمّة (عليهم السلام)؟

ــــ وصفهم بهذا الوصف غير صحيح، بل هم جزء ممّا خلق، وقد أرادهم الله تعالى هداةً للخلق الذين يعاصرونهم والذين يلون عصرهم. وأمّا النسيان، فهو ينافي العصمة، وحيث إنّ الأئمّة (عليهم السلام) معصومون، فالنسيان غير جائز في حقّهم.

الكوارث واقتراب ظهور المهديّ (عليه السلام):

هل يمكننا الجزم نتيجة لما يجري في العالَم من كوارث وحروب ومجاعات وانتشار للفساد الأخلاقي والظلم والجور في كلّ مكان تقريباً، بأنّ ظهور صاحب العصر والزمان (عليه السلام) قد اقترب جدّاً، أو على الأقلّ أن ما مضى من غيبته أكثر بكثير ممّا بقي؟

ــــ لا يمكن الجزم بذلك، وظهوره غيب من غيب الله تعالى، كما أنّ غيبته كذلك، والمهمّ أن نعرف تكاليفنا ونقوم بمسؤولياتنا تجاه ما يحدث.

دعاء التوسّل:

ما رأي سماحتكم بدعاء التوسُّل بالأئمّة؟ وكيف نفهم الدعاء من وجهة نظر عقائدية؟

ــــ التوسُّل بالأئمّة (عليهم السلام) جائز ونافع، وهذا لا إشكال فيه، وأمّا دعاء التوسّل المعروف، فغير ثابت سنداً عن الأئمّة (عليهم السلام)، فضلاً عن الملاحظة في أسلوبه، وهو التوجُّه بالخطاب وطلب الشفاعة لغير الله تعالى ممّا لا يرجَّح أن يكون صحيحاً بحسب المفهوم الإسلامي ومنهج أهل البيت (عليهم السلام). وخير ما يدلّ على منهجهم، دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): "واجعل توسّلي به شافعاً، يوم القيامة نافعاً".

المسلم وقراءة الإنجيل:

هل يحرم على المسلم قراءة الإنجيل لحبّ المعرفة عن معتقدات الآخرين؟

ــــ لا يحرم ذلك، لكن يفضّل أن لا يفعل ذلك إلاّ بعد أن يكون قد اطّلع جيداً على عقيدته الإسلامية، ليتحصّن بها ممّا قد تثيره الأفكار الضالّة في الإنجيل وغيره من شبهات في ذهنه.

معرفة النبيّ للّغات:

هل كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعرف اللّغات الموجودة حالياً، وخصوصاً اللّغة الانجليزية؟

ــــ لا نعلم ما هي اللّغات التي كان يعرفها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لكنّ الظاهر أنّه لم يكن بحاجة إليها في حياته، لأنّ أتباعه كانوا جميعاً من العرب، ما عدا قلّة غير عربية كانت تعرف العربية، كبلال الحبشي وصهيب الرومي.     

التناسخ والحلول:

ما هي حقيقة التناسخ والحلول؟ وما هو رأي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك، مع ذكر الأدلّة العقلانية والقرآنية؟ وما حقيقة كتاب الهفت الشريف المنسوب إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، وقد ذُكِر فيه شيء من ذلك، علماً أنّ الطائفة التي تأخذ بالتناسخ والحلول محسوبة على الشيعة؟

ــــ التناسخ هو قول لإحدى الفرق ويسمّون بالناسخة أو التناسخيّة، ومعناه أن تتكرّر الأدوار إلى ما لا نهاية، وأنّ الثواب والعقاب يكون في هذه الدار لا في دار أخرى لا عمل فيها، وأنّ أعمالنا التي نحن فيها إنّما هي جزاء على أعمال سلفت منّا في الأدوار الماضية؛ فالراحة والسرور والفرح هي جزاءٌ لأعمال البرّ التي سلفت منّا... والقهر والحزن جزاء على أعمال الفجور التي سلفت.. وقد أبطل هؤلاء جميع الشرائع والسنن، وزعموا أنّ هذا هو مذهب جابر بن عبد الله الأنصاري وجابر بن يزيد الجعفي. والمراد بالحلول، قيام موجود بموجود آخر على سبيل التبعيّة، وهذان المعنيان غير صحيحين، ولا يقول بهما الشيعة. أمّا كتاب الهفت، فهو مكذوب عن الإمام الصادق (عليه السلام).

 

 

تنجّس المعصوم:

هل تعرض للمعصومين النجاسة كغيرهم من الناس؟

ــــ هم بشر كسائر البشر في هذا المجال، وعصمتهم هي في مجال الطهارة من الذنوب والمعاصي والآفات الخلقية والتعرّض للانحراف والأخطاء ونحو ذلك. قال تعالى عن نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}(1)، {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً}(2)، {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}(3).

آية التطهير والنجاسة المادّية:

هل ترون أنّ آية التطهير تفيد رفع النجاسة العارضة عن المعصومين، كما تفيد رفع وقوع الذنب معهم؟

ــــ لا نرى ذلك، والقول به هو من الغلوّ، وتعارضه الأدلة كما ذكرنا.

رؤية الزهراء (عليها السلام) للدم:

هل توافقون من يذهب إلى أنّ الزهراء لا تحيض ولم ترَ دم النّفاس كما هو منطوق بعض الروايات؟

ــــ لا نوافق هذا الرأي، ولا دليل معتبر عليه، بل الدليل على خلافه.

خلق حوّاء من ضلع آدم:

هل صحيح أنّ الله عزّ وجلّ خلق حوّاء من ضلع آدم (عليه السلام)؟ وهل صحيح ما يشاع أيضاً من أنّ أولاد آدم (عليه السلام) وبناته تزوّجوا من بعضهم البعض حتّى كانت ذرّية آدم؟

ــــ لم يثبت أنّ الله خلق حوّاء من ضلع آدم. وقد ورد أنّه تعالى خلقها من فاضل طينة آدم. أمّا تزاوج أولاد آدم وحوّاء وبناتهما، فهو صحيح وفق الروايات الواردة، وأنّ ذلك لم يكن محرَّماً، ثمّ حُرِّم بعد ذلك.

العصمة وبعض أفعال الأنبياء:

كيف يكون الأنبياء معصومين، وفي الوقت نفسه، تصدر منهم بعض التصرّفات مثل قتل موسى لشخص، وقصّة نبي الله يونس الذي بقي في داخل بطن الحوت؟

ــــ هذه التصرّفات لا تعبّر عن ذنوبٍ ومعاصٍ، فلا تضرّ بالعصمة الواجبة للأنبياء، فموسى (عليه السلام) لم يكن في نيّته وقصده القتل، ويونس (عليه السلام) ابتلاه الله بالدخول في بطن الحوت.

معلومات عن أمّ البنين:

كثيراً ما نسمع عن المرأة الفاضلة أمّ البنين (عليها السلام) زوجة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام). هل توجد أحاديث واضحة وصحيحة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أو أحد الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في مدحها أو الثناء عليها، أو ذكرها في موضع مدح؟

ــــ المعروف في التاريخ أنّها من الصالحات في رضاها بشهادة أولادها بين يديّ الإمام الحسين (عليه السلام) وولائها للإمام (عليه السلام).

جزاء النساء في الجنّة:

في الجنّة يحصل المؤمنون الفائزون على الحور العين. فماذا عن النساء؟

ــــ قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}(1). وورد في الحديث: "فيها ما لا عين رأت ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلبِ بشر"(2). فالمؤمن في الجنّة يحصل على ما يشتهي.

أدلّة أفضليّة الزهراء على مريم (عليهما السلام):

ما هي أدلة أفضلية السيّدة الزهراء سلام الله عليها على السيّدة مريم سلام الله عليها؟

ــــ لا داعي للمفاضلة بينهما، والسيّدة الزهراء (عليها السلام) هي سيّدة نساء العالمين بنص حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهي ممّن أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، كما أنّ السيّدة مريم بنص القرآن الكريم مصطفاة على نساء العالمين أيضاً.

العلماء وتحريف القرآن:

هل صحيح قول الشيخ المفيد وأبي الحسن العاملي والسيّد نعمة الله الجزائري والمجلسي وغيرهم ـــ مع ما لهم من الفضل والدرجة الرفيعة ـــ بتحريف القرآن؟

ــــ غير صحيح، فالعلماء مجمعون على عدم تحريف القرآن الكريم، والقول الشاذّ لا يعبأ به، سواء عند أهل السُنّة أو عند الشيعة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

المسائل الفكرية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

آفاق الوحدة الإسلامية:

إذا كنّا قد اختلفنا في الأذان والإقامة وفي النوافل، وفي الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعشنا الحقد والكره في مجتمعاتنا، واختلفنا في التاريخ وما إلى ذلك، فأين وكيف ومتى نلتقي؟

ــــ هذه ليست من الأُسس، فكما عندنا اجتهادات مختلفة نختلف فيها مع السُنّة، فالسُنّة عندهم أيضاً اجتهادات يختلفون فيها مع بعضهم البعض، وهم قد تنوّعوا في ذلك مذاهب؛ فهناك إلى جانب المذاهب الأربعة الكبرى، مذهب الأوزاعي والمذهب الظاهري وما إلى ذلك، فهذه الأمور لا تمنع الوحدة الإسلامية؛ لأنّ ذلك يمثّل حالات جزئية من الاجتهادات أو من الأشياء التي ليست أساسية في الاجتهاد، فمثلاً السُنّة عندما يتكتّفون فإنّ هذا التكتُّف ليس واجباً عندهم، بل هو مستحبّ، فالشخص يستطيع أن يصلّي ويبقى على التزامه في الأحكام الصلاتية من دون أن يتكتّف، وكذلك قول (آمين) ليست جزءاً أيضاً من الصلاة.

ونحن مثلاً نختلف مع السُنّة لأنّهم لا يقولون (حيَّ على خير العمل) ونحن نقولها، إذ ثبت عندنا أنّها وردت عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بينما هم يقولون (الصلاة خير من النوم) وهي لم تثبت عندنا. وبعضنا يأتي في الإقامة والأذان بالشهادة الثالثة، أيْ: (أشهد أنّ علياً وليُّ الله)، ولم تثبت لا في الأذان ولا في الإقامة، وإنْ كانت من أركان الإيمان، وإنّما تقال تبرُّكاً. لهذا، فإنّ هذه أمور لا تضرّ بالوحدة الإسلامية. والوحدة الإسلامية هي أن يلتقي المسلمون على ما اتّفقوا عليه من الأُسس والقضايا الكبرى، لينطلقوا في ذلك من خلال وحدة الهدف والمصير تجاهها، أمّا ما يختلفون فيه، فيُمكن لهم أن يتحاوروا حوله.   

 

 

 

استقامة الدّين بتضحية الحسين (عليه السلام):

قيل على لسان حال الإمام الحسين: "إنْ كان دين محمّد لم يستقمْ إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني"(1) ما تفسير هذا القول؟

ــــ إنَّ الإمام (عليه السلام) لم يأتِ طالباً القتل، ولكنّه عندما عرض عليه أن ينزل على حكم يزيد وابن زياد، قال: "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقِرّ لكم إقرار العبيد"(2)، "ألاَ وإنّ الدَّعيّ ابن الدَّعيّ قد رَكَزَ بين اثنتين؛ بين السِّلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله لنا ذلك والمؤمنون، وحجور طابت، وجدود طهرت من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام"(3). وهذا الشعر هو لسان حال الحسين (عليه السلام)، وليس قولاً انطلق منه (عليه السلام).

وفي المناسبة، فإنّ كثيراً من الناس يتحدّثون عن لسان الحال من دون عمق، ومن دون تفكير في هذه المسألة، كما أنّ جماعة كثيرين يتحدّثون على لسان حال زينب (عليها السلام)، فيصوّرون زينب (عليها السلام) امرأة بدوية، مع أنّ ذلك ممّا لا يتناسب مع مقام زينب (عليها السلام)، وهي التي تخاطب يزيد بقولها: "فكد كيدك، واسع سعيك، وناصِب جهدك"(1). لذلك نقول لكلّ الأخوان الذين يتحدّثون عن لسان الحال، إنّ عليهم أن يدرسوا الحال، أن يدرسوا شخصيّة هذا الشخص الذي ينسب إليه قولاً أو ينسب إليه فعلاً وما إلى ذلك.

المنهج الحركيّ أو المنهج الصوفيّ؟!

أيُّهما أفضل؛ المنهج الحركي أم المنهج الصوفي؟

ــــ المنهج الحركي هو الأساس، المنهج الحركي المنفتح على معرفة الله، والمنفتح على الإخلاص لله سبحانه وتعالى. والتصوّف يمثّل عدّة مدارس، وليس ثمّة مانع من أن يكون الإنسان حركياً وصوفياً، إذا أردنا من التصوّف معرفة الله وعبادته والإخلاص له.

ظاهرة التسوّل:

انتشرت في الفترة الأخيرة ظاهرة جديدة في منطقتنا بشكلٍ ملحوظ، وهي ظاهرة التسوّل، وأنا أقف أمامها حائراً بين محذورين: الأوّل النصوص التي حضَّت على إعطاء السائل شيئاً ولو قليلاً، ومنها "أعطِ السائل ولو جاء على فرس"(1)، والثاني أنّنا نعلم من ظاهر حالهم أنّهم اعتادوا هذا العمل، فما هو موقفنا أمام هذه الظاهرة؟

ــــ هناك الفقراء الذين لا يسألون الناس، وهم الذين يصفهم القرآن الكريم: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}(2)، فهو يعطى بكلّ تأكيد، أمّا الذين يسألون الناس على الطرقات، فهؤلاء غالباً ما يكونون متسوّلين،. ونحن في لبنان حاولنا أن نعطي المتسوّلين الذين يقفون على أبواب المساجد راتباً شهرياً، على أن يقلعوا عن تسوّلهم، لكنّهم لم يوافقوا، لأنّ الذي يكسبونه من خلال التسوّل أكثر ممّا نعطيه لهم.

الفقر بين الذمّ والمدح:

قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "الفقر فخري"(3)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"(4). ما المقصود من هذين القولين؟ وما هي الرابط بينهما إذا كانا صحيحين؟

ــــ قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "الفقر فخري"، ربّما يكون باعتبار الصبر الذي يعيشه الإنسان فيما لو افتقر، بحيث لا يدفعه فقره إلى الطّمع، بل يتحرّك في فقره من خلال طاعة الله سبحانه وتعالى. وأمّا كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد أراد أن يبيِّن من خلالها النتائج السلبية التي يمكن أن يحدثها الفقر من خلال توفيره القابلية للانحراف، بل والكفر أيضاً، وما إلى ذلك، بسبب الظروف القاسية التي يعيشها الإنسان الفقير.

فكرة المجتمع المدنيّ:

هل لفكرة المجتمع المدني سلبيات كثيرة تتعارض مع الفكر الإسلامي في جوهرها؟

ــــ المجتمع المدني هو المجتمع الذي يرتكز على الديمقراطية في جميع المواقع، والإسلام يختلف في بعض الجوانب عن بعض مفردات الديمقراطية التي تبالغ في إعطاء الإنسان دور التشريع في المجتمع.

العلاقة الزوجية:

أنا أشعر دائماً أنّ زوجي يميل إلى امرأة أخرى، خصوصاً أنّه ما عاد يهتمّ بي، ولا يسمع حتى كلامي. جرّبت أن أُخاطبه بذلك، ولكنّني أشعر أنّه يتهرّب مني دائماً، ولا يريد الاعتراف بي، فماذا أفعل؟ خصوصاً أنّي أشعر بالحزن الشديد والوحدة، وأهلي غير موجودين معي؟

ــــ هذا رجل لا يتحمّل المسؤولية؛ إذ لا مانع شرعيّاً من أن يتزوّج، ولكن بشرط أن لا يسيء إلى زوجته الأولى؛ فالله تعالى يقول في كتابه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}(1)، {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً  كَثِيراً}(2)، فهذا الرجل في موقفه لا ينسجم مع ما أراده الله سبحانه وتعالى من معاشرة المرأة بالمعروف. ولذلك نقول، إذا أراد التعدُّد، فعليه أن لا يهجر المرأة أو ما أشبه ذلك، بل لا بدّ له من أن يعيش معها بحسب الحقوق الزوجية التي فرضها الله.

ضرب الزوجة:

كيف نقول إنّ الإسلام يحترم المرأة، في الوقت الذي يُبيح ضرب الزوجة؟

ــــ الله لم يبح ضرب الزوجة إلاّ في حالة واحدة، وهي حالة ما إذا تمرّدت على زوجها، بحيث لم تعد تقوم بالحقّ الذي فرضته على نفسها عند قبولها الزواج، وقد قال تعالى في ذلك: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}، فعلى الزوج أوّلاً أن يتكلّم مع زوجته بكلّ الأساليب التي تُعرِّفها مسؤوليتها، فإذا لم ينفع معها ذلك، هجرها، وهذا من التأديب النفسي، فإذا لم يعط نتيجة، يقول تعالى حينها: {وَاضْرِبُوهُنَّ} وأراد به الضرب التأديبي، وهو الضرب غير المبرّح الذي لا يدمي لحماً ولا يكسر عظماً. وربّما نُعبّر عن هذا الضرب بالضرب الإنساني، إذا صحّ أن يكون الضرب إنسانياً في هذا المجال، ثمّ يقول الله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}(1).

ونحن نعلم أنّ هذه المسألة لا يمكن أن تُعالج في المحاكم، لأنّ الشخص إذا كانت زوجته غير مستعدة أن تتجاوب معه في الجانب الجنسي مثلاً فهل يأتي بمخفر الشرطة إلى غرفة النوم! هذه أمور لا بدّ من أن تُعالَج داخلياً، ولكن بطريقة إنسانية واقعية(2).

التقليد الأعمى:

يقولون: إنّ الإسلام يعيب على مَن يتبع آباءه في العقيدة، بينما لا تجيزون للمسلم أن يغيّر عقيدته؟

ــــ نحن نقول إنّ المسلم اختار الإسلام على أساس قناعته، وعندما تثور عنده شكوك فلا بدّ من أن يقول له العلماء: تعال إلينا ونحن نناقشك في كلّ شيء، فإذا أقنعوه فليس له أن يغيّر عقيدته. وأمّا إذا لم يقنعوه، فعليه أن يستمرّ في السعي حتى يحصل على العلم في أموره، ولاسيّما العقائد الأساسية التي يُسأل عنها الإنسان، والتي تنسجم مع الفطرة والعقل السليم، والله الهادي إلى سواء السبيل.

 

 

الحرمان من الإرث:

توفي والدي وجدّي على قيد الحياة، وأصبحنا وأخي برعاية جدّي، وبعد عدد من السنين توفي جدّي وتمّ تقسيم التركة بين أعمامي الثلاثة، وأصبحنا أنا وأخي خارج التركة، ولم نحصل سوى على اسم العائلة، فما هي العلّة في عدم انتقال الإرث من الجدّ إلى الحفيد؟

ــــ لأنّ قضية الإرث تقوم على طبقات، الطبقة الأولى: وهم الأب والأم والأولاد، أمّا أبناء الأولاد، فهم في الطبقة الثانية، كما أنّ الأخوة في الطبقة الثانية، فلو فرضنا أنّ شخصاً لديه أخوة فقراء توفّي فإنّهم لا يرثونه، وهذه مسألة تنطلق من خلال طبيعة تنظيم الإرث. نعم، كان من المناسب للجدّ أن يوصي لحفيديه، لأنّهما لم يحصلا على شيء بواسطة الإرث، خصوصاً أنّ الله فتح باب الوصية.

الجمعيات الخيرية:

حصل بعض الشباب المسلمين على ترخيص لإنشاء جمعية خيرية، وهم يريدون أن يكون الانتساب إلى الجمعية محصوراً بأبناء مذهبهم، خوفاً على مستقبل الجمعية. فما رأيكم في ذلك؟

ــــ عليهم أن يلاحظوا المصلحة الإسلامية في ذلك، وليسوا مقيّدين بطبيعة الناس الذين ينتمون إلى هذه الجمعية، بل لا بدّ من أن يلاحظوا ما هي المصلحة الإسلامية في ذلك كلّه.

واجبات المرجعية:

ما هو واجب المرجع الديني في هذا العصر في نظركم؛ هل هو مقتصر على استنباط الأحكام والردّ على الاستفسارات الدينية، أم يتعدّاه إلى طرح الفكر الإسلامي الصحيح من عقائد وأخلاق وعلاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية؟

ــــ إنّ رأينا هو ضرورة انفتاح المرجع الديني على قضايا العصر التي تتّصل بالحركة الفكرية والسياسية والاجتماعية في مختلف القضايا التي تهمّ الواقع المعاصر، سواء قضايا المرأة أو قضايا الشباب أو غيرها من القضايا، من أجل أن يجيب عن كلّ سؤال يخطر في أذهان الجيل المسلم المعاصر، كما هو الحال في سيرة الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، الذين كانوا يعالجون كلّ القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية في عصرهم، بما لا يترك فراغاً في أذهان الجيل المعاصر لهم.

الإسلام والديمقراطية:

هل هناك مجال في الإسلام للتوافق مع الديمقراطية؟

ــــ مصطلح الديمقراطية صار ضبابياً إلى درجة غياب المعالم الحادّة، ومهما كان مصير هذا المصطلح، فلو اعتبرنا أنّ المراد بها شكل الحكم القائم على التشاور والانتخاب ومشاركة الجميع فيه، فهو بهذا المقدار وبهذا المعنى مطلب إسلامي، وبخاصة إن كان الدستور والقانون اللّذان سيسعى ذلك الحكم لتنفيذهما مستمدّين من الإسلام.

التعدُّدية السياسية:

ما هو حكم الإسلام في التعدّدية السياسية: داخل الإطار الإسلامي وبين الجهات الإسلامية؟ خارج الإطار الإسلامي مع إشراك جهات غير إسلامية؟

ــــ يجب أن تبقى التعدّدية السياسية داخل الإطار الإسلامي محصورة في إطار اختلاف أساليب العمل، وسقفها أن لا يلزم منها التمرّد على الفقيه المبسوط اليد، ولا توقع الفرقة والبغضاء بين المؤمنين. أمّا تحالف القوى الإسلامية مع قوى غير إسلامية لتحقيق أهداف سياسية وطنية نافعة، فلا مانع منه، بل قد يكون واجباً، وبخاصّة إذا لم تكن له آثار ضارّة على المسيرة الإسلامية.

مواجهة الانحراف:

كيف نعالج الانحراف الفكري والتطرّف؟

ــــ يحتاج ذلك لجهود العلماء والمفكّرين والمثقّفين فيما يطرحون ويكتبون، ولتوعية شاملة لأنّ التطرّف ينشأ من شبهات وسوء فهم للفكر أو الدّين، أو من مصالح وعوامل سياسية وغير ذلك.

العزاء في غير مناسبات العزاء:

يقوم بعض المؤمنين بإحياء مناسبات العزاء على أهل البيت (عليهم السلام) عن طريق مآتمهم ومواكبهم. ويتحدّثون فيها عن بعض القضايا التي تهمّ مجتمعنا الإسلامي، فما حكم ذلك؟

ــــ لا مشكلة في مثل هذه التقاليد إذا كانت تطرح الإسلام بكلّ مفاهيمه الصافية، وتساهم في تقريب الناس منه، وتعمل على تثقيفهم بالحقّ، وتقريبهم من العدل، بل نحن نرى أن لا مانع من استغلال أيّ مناسبة لطرح الإسلام بالطريقة الحضاريّة التي تنسجم مع الأسلوب الإسلامي في إثارة الذكرى، سواء كانت ذكريات أحزان أو أفراح. ولعلّه يحسن هنا أن نؤكّد، أنّ من المفيد للمجتمع الإسلامي أن يفرح في مناسبات الفرح بالأسلوب المتوازن، كما أنّ المطلوب هو التوازن في مناسبات الحزن والحماسة وما إلى ذلك.

إفشاء السرّ:

يأتمنني صديق لي، في بعض الأحيان، على حديث خاص، وبعد ذلك يأتي صديق آخر ويريد منّي أن أخبره بما أخبرني به صديقي الأوّل، في هذه الحالة ماذا يكون ردّي؟

ــــ لا بدّ لك من الوفاء بوعدك لصديقك الأوّل؛ لأنّ السرّ أمانة لا بدّ للمؤمن من الحفاظ عليها، وحاول أن تتخلّص من الجواب للآخر عن طريق التورية إنْ اضطررت إلى ذلك.

إشكاليّة كلمات الزيارة:

هناك من يشكل على بعض الكلمات الواردة في زيارة وارث، مثل كلمتي عبد وابن عبد، وكلمة المقرّ بالرقّ. وقد وضّحت له أنّها تعني الخدمة، لكنّه لم يقتنع بذلك، قائلاً إنّ العبودية لله وحده، وإنّ الإسلام نهى عن الرقّ.. فما نصيحتك له في ذلك؟

ــــ إنّ هذه الكلمات ليست جزءاً من زيارة وارث، بل أضيفت إليها من قبل بعض الناس. ونحن لا نشجّع على مثل هذه الكلمات، حتّى لو قصد بها المتكلّم الخدمة أو التواضع للإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّ الخطّ الإسلاميّ الأصيل يرتكز على أنّ العبودية لله وحده في الشّكل والمضمون، وليست لأحد غيره، مهما علت شخصيّته عند الله. ونلاحظ في هذا المجال، أنّنا عندما نتشهّد في الصلاة، نؤكّد عبودية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لله وأنّه رسولٌ له فنقول: (وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله)، ما يوحي بأنّ علينا أن نذكره بالعبوديّة التي هي سرّ عظمته.

الخطبة الإفتخارية والتنطيجيّة:

لقد تراود إلى مسمعي اسم خطبتين منسوبتين إلى الإمام عليّ (عليه السلام) باسم الخطبة الافتخارية والخطبة التنطيجية، وبحثت عنهما في نهج البلاغة ولم أجدهما، فهل هاتان الخطبتان للإمام (عليه السلام)؟

ــــ الخطبتان مكذوبتان على الإمام عليّ (عليه السلام)، ولا قيمة لهما، وعلينا أن نضرِب بهما عرض الحائط.

هل الرسول إمام؟

هل يعتبر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إماماً كبقيّة الأئمّة (عليهم السلام) أم لا؟

ــــ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو أفضل من كلّ الأئمّة (عليهم السلام)، وهو معلِّمهم وقائدهم، وهم خلفاؤه وعلمهم من علمه.

الرجوع إلى الصحيحين:

لماذا لا يرجع الشيعة إلى صحيحي مسلم والبخاري في الأحاديث النبويّة الشريفة؟

ــــ لقد أخذ علماؤنا بأحاديث رويت من طريق السُنّة، ولكنّنا لا نعتقد أنّ كلّ كتب الحديث التي يرويها مسلم والبخاري وغيرهما هي كتب صحاح، كما لا نعتقد صحّة كلّ ما في كتب الحديث لدينا، كالكافي والتهذيب وغيرهما، بل لا بدّ من دراسة كلّ حديث تبعاً للمعايير المعتمدة في تصحيح سند الحديث.

السجود على الحجر:

لماذا يسجد الشيعة على الحجر؟

ــــ لا خصوصيّة للسجود على الحجر، إنّما السجود عليه هو بلحاظ أنّه من التراب؛ لأنّ الرأي الذي يتبنّاه فقهاء الإماميّة، هو عدم جواز السجود إلاّ على الأرض وما أنبتت ممّا لا يؤكل ولا يُلبَس، ومنه ما يعتبر من المواد الأوّلية للّبس، كالسجّاد والموكيت ونحوهما.

حقّ الطلاق للمرأة:

لماذا اختصّ الإسلام الرجل بحقّ الطلاق، ولم يعطه للرجل والمرأة معاً، طالما أنّ العلاقة الزوجية بدأت بموافقة الطرفين؟ وكيف يمكن حماية المرأة في الحالات التي يستعمل فيها الرجل حقّ الطلاق بشكلٍ تعسّفي؟

ــــ ربّما كان الأساس في ذلك، أنّ الإسلام حمّل الرجل مسؤولية الحياة الزوجية، ولاسيّما المسؤولية المالية، أمّا الزوجة، فبإمكانها الاشتراط بأنْ يكون لها حقّ التوكيل في الطلاق من قِبَل الزوج في ضمن العقد، فيكون لها الفرصة لطلاق نفسها، كما أنّ هناك بعض الحالات التي يملك فيها الحاكم الشرعي طلاق المرأة بدون رضا الزوج، كما في حالة التعسّف في السلوك وعدم قيام الزوج بحقوق الزوجة.

رأي الإسلام في الرقّ:

يعتبر بعض المفكّرين والناس، أنّ الإسلام لم يحرّم الرقّ بشكلٍ قطعي وجازم كما حرّم كثيراً من الأمور بشكل قطعي، كالخمر مثلاً، وهذا ما اعتبروه ثغرةً ونقصاً في الإسلام. فكيف نردُّ عليهم، خصوصاً أنّ قوانين تحريم الرقّ قد تأخرت كثيراً حتّى في البلدان الإسلامية، حيث دام الرقّ في بعضها أكثر من ألف عام؟

ــــ كان الرقّ يمثّل مسألة تتّصل بالنسيج الاجتماعي وبالقضايا الاجتماعية، وليس مجرّد عادة من العادات، وقد سلك الإسلام وسائل واقعية في تجفيف منابعه. ولذلك نجد أنّ الرقّ ابتعد عن الواقع الإسلامي بدون حاجة إلى ثورة لتحرير الرقيق. وإذا كانت المسألة مرتبطة بالجانب الاجتماعي، فإنّ الواقع إذا ما انفتح على الرقّ في أيّ زمنٍ أو مرحلة، فإنّ التشريع جاهزٌ ليجفّف منابعه كما حصل سابقاً. فالمسألة إذاً مرتبطة بواقع، وليست مرتبطة بتقييم أو تَبَنٍّ.

هجران المضجع:

لقد أجاز الله تعالى للرجل أن يهجر زوجته في المضجع، فمتى يجوز له ذلك؟ وما هي حدود الهجران؟

ــــ المراد بالمضاجعة النوم مع الزوجة في فراشٍ واحد أو في فراش آخر مجاور لفراشها، مع الإقبال عليها والمواجهة لها، سواء اقترن بالعمل الجنسي أو لم يقترن. وهجر الزوجة في المضجع هو خيار استثنائي غير إلزامي لمعالجة نشوز الزوجة عن أداء الحقّ الوحيد الواجب للزوج، وهو حقّ الاستمتاع، وامتناعها عن القيام به من دون عذر، وذلك بعد أن يعظها ويحثّها على أداء حقّه إلى أن ييأس من  تأثير الموعظة فيها. والهجر في المضجع هو رمز العزوف عنها مؤقتاً بترك النوم بجانبها أو بمواجهتها كتعبير عن انزعاجه منها، ليستحثّها على الإقبال عليه من موقع حبّه لها وتمسّكه بها. وليس للزوج أن يستخدم هذا الأسلوب في غير هذه الحالة، كما في حال حصول نزاع بين الزوجين على أمور أخرى، هي ليست من الحقوق الواجبة له حتّى يلزم المرأة بالمضاجعة.

انتشار الإسلام:

هل تتصوّرون أنّ الإسلام الحنيف انتشر في أنحاء العالم؟ وما هو الدليل على انتشاره؟

ــــ لقد انتشر الإسلام بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومنذ العهود القديمة في بلاد كثيرة، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى دليل.

مخالفة خيرة الزواج:

ما حكم مَنْ يستخير في أمر الزواج ثمّ يتخلّف عن الخيرة؟

ــــ مورد الاستخارة هو عند بقاء التحيّر والتردّد بعد دراسة الأمر والتفكير فيه والاستشارة لأهل الرأي، فإنْ لم يصل الإنسان إلى نتيجة، أمكن الاستخارة مع عدم لزومها أو لزوم العمل بها من ناحية شرعية، لكن من الطبيعي أنّه عندما يلجأ الإنسان إلى الاستخارة، فإنّه يكون ناوياً للعمل بها مراعاةً لمصلحته.

حوار الحضارات:

ما رأيكم بحوار الحضارات؟

ــــ هو أمر ضروري في ظلّ تعدّد العقائد والأفكار وتنوّعها، وكلّما تعاظم الحوار وترسّخ بين أهل الملل المختلفة، أمكن حدوث فهم أفضل وقيام تعاون واعٍ بين الشعوب على أمور كثيرة، الأمر الذي يساعد على رجحان كفّة السلام والمحبّة على التنافر والعنف.

ثقافة المراهق:

ما هي الثقافة التي يحتاجها المراهق؟

ــــ أن تعطيه عناوين الخير وعناوين الالتزام بما يتناسب مع عقله لتجنّبه فترة المراهقة.

منهج الأئمّة (عليهم السلام) في التعامل:

ما هو المنهج العقلائي الذي سلكه أهل البيت (عليهم السلام) في التعامل مع غير المسلمين؟

ــــ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يفتحون عقولهم للمسلمين وغيرهم، وخصوصاً لأهل الكتاب، وحتّى للملحدين والزنادقة، كما ينقل لنا كتاب (الاحتجاج) للطبرسي، وفي (الكافي)، إذ إنّ الإمام كان يفتح عقله للزنادقة، ويجيب عن كلّ شبهاتهم، ويعطيهم الفرصة للكلام الذي لا يستطيع أن يسمعه الكثيرون في واقعنا، ومع ذلك، كان لا يتعقّد منهم، ولم يكن لدى الأئمّة (عليهم السلام) مسألة (هذا سُنّي وهذا شيعي) ـــ كما هو الحال اليوم ـــ وإن كان خطّهم (عليهم السلام) مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تربّى الكثير من أئمّة أهل السُنّة في مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث كانت مدرسته مفتوحة لكلّ الناس شيعةً وسُنّةً، وحتى لغير المسلمين من الناس.

وعندما ندرس حياة الأئمّة (عليهم السلام)، نجد أنّ أسلوبهم هو أسلوب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي قيل عنه: "كان فينا كأحدنا"، وحتى الطفل أو الشخص العادي عندما كان يسأل أسئلةً تافهةً ـــ كان ـــ مثلاً الإمام (عليه السلام) يجيبه.

ونلاحظ في (علل الأحكام) للإمام الرضا (عليه السلام)، أنّه كان يجيب عن كلّ سؤال، كما نلاحظ في القرآن الكريم، حيث يعلّل بعض الأشياء {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}(1)، لأنّ أسلوب الأئمّة (عليهم السلام) هو أسلوب القرآن، فالعلم لا بدّ من أن يُقدَّم إلى الناس كافّة، وقد ورد الحديث: "إذا ظهرت البِدَع فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله"(2)، لأنّ العلم هو أمانة الله عند العلماء.

التأثُّر بالعادات الغربية:

ابني في مدرسة غربية، والمطلوب منه في المدرسة أن يمشي مع رفاقه حاملين فوانيس صغيرة إحياءً لذكرى قدّيس كان يعمل خيراً حسب روايتهم، فهل هنالك من إشكال شرعي في مشاركته بهذا التقليد، مع علمي بأنّه سيشارك ليس بنيّة إحياء ذكرى هذا القدّيس وإنّما بناءً على طلب المعلّمة، كما يجري فيه توزيع الحلويات للأطفال، ومراسيمه تجري ليلاً في شكل جميل يغري الطفل في التمتُّع بالأجواء أكثر من كونه إحياءً دينياً؟

ــــ لا يحرم ذلك لكن لا بدّ من تنبيه الولد وإرشاده من ناحية شرعية للتمسّك بمفاهيم الدّين الإسلامي ومناسباته، وعدم الاستغراق والتأثُر في عادات غير المسلمين.

تحديد النسل:

يقول البعض أنّ سوء الأحوال الاقتصادية للمكلّف المسلم ومحدودية الراتب تجعله يفكّر في تحديد النسل خوفاً من عدم القدرة على توفير المستلزمات المالية لهذا الطفل من تدريس ورعاية وغيرها. فهل يتنافى هذا القصد مع الروح الإعتقادية بتكفّل الله سبحانه وتعالى برزق عباده؟

ــــ ليس ذلك منافياً للروح الاعتقادية بالثقة بالله، ولكنّه قد يدخل في نطاق مراعاة الأسباب العادية.

حقّ الولد على أبيه:

هل الإنسان حرّ في اختيار دينه أم لا؟ وإن كان الجواب نعم، فلماذا إذاً نختار نحن لأطفالنا الإسلام؟ ألاَ تشكّل هذه الخطوة تعدّياً على حقوقهم وانتهاكاً لحريّتهم؟

ــــ تربية الأطفال على الدّين الحقّ وهدايتهم إلى الطريق المستقيم لا تعتبر انتهاكاً لحقوقهم، وإلاّ لكان إرسالهم إلى المدرسة وإجبارهم على التعلُّم من انتهاك الحقوق، وكلّ عمل يكون لصالح الطفل لا يكون انتهاكاً لحقوقه، بل هو من حقوقه على والديه، إذ من حقوق الولد على والديه حسن التربية.

ضرب الصغار:

لديّ عدد من الأولاد تتراوح أعمارهم بين الأربع سنوات والإحدى عشرة سنة، أضربهم كثيراً بسبب كثرة الحركة، والألفاظ السيّئة عند الناس، وعدم احترامهم للآخرين، وتصرّفاتهم  الطائشة. فماذا أفعل، خصوصاً أنّي أندم كثيراً بعد ضربهم؟

ــــ عليكِ أن تتَّبعي أسلوباً آخر من الترغيب والترهيب وأن تخلقي أجواء جديدة(1).

تهذيب النفس:

ما هي الطريقة الناجعة لتهذيب النفس لإبعادها عن الوقوع في المعاصي، ولتقريبها من طاعة الله سبحانه وتعالى؟

ــــ على الإنسان أن يدرس ما أراد الله منه، وما يرضى سبحانه به عنه، وما يقرّبه إليه، وأن يعرف بماذا كلّفه الله سبحانه وتعالى في شريعته، سواء كان ذلك في الجوانب العباديّة أو في المعاملات أو في العلاقات أو في المواقف، بحيث ـــ كما ورد في الحديث ـــ: "لا يُقَدِّم رِجْلاً ولا يؤخّر أُخرى حتّى يعلم أنّ ذلك لله رضا"(2)، فلا يتكلّم الإنسان بأيّة كلمة، ولا يقف موقفاً، ولا يقوم بأيِّ عمل، حتّى يدرس هل هو في رضا الله أم في غير رضاه؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

المسائل الفقهيّة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أوّلاً: المرجعية والتقليد:

الترخيص في التقليد

بعض مقلّديكم يقول إنّ حلق اللّحية يجوز عندكم، ولهذا السبب هو يحلق لحيته، وهناك فتوى أخرى لسماحتكم في حرمة التدخين، ومع ذلك هو مشغول بالتدخين، فما هو رأيكم في هذا المقلِّد؟

ــــ نحن نحرِّم التدخين، والتبعيض في الفتوى إنّما هو في حالات الحاجة، ولعلّ هذا ليس منها، خصوصاً وأنّ فيه ضرراً للجسد.

السُنّة والاستحباب:

ما الفرق بين المستحبّ والسُنّة:

ــــ قد تطلق السُنّة على المستحبّ، فيقال هذا فريضة وهذا سُنّة، فتكون السُنّة ـــ على هذا المعنى ـــ في مقابل الفريضة، كما هو شائع في المصطلحات الفقهية. وبعض الاصطلاحات تستعمل السُنّة لتقصد به ما ثبت دليله في السُنّة الشريفة في مقابل ما ثبت في كتاب الله، فعلى هذا المعنى، قد يكون المقصود بها الواجب أيضاً.

رأي السيّد الحكيم في تقليد المرأة:

ذكرتم في الندوة السابقة، أنّ السيّد محسن الحكيم يقول بجواز تقليد المرأة، وقد رجعنا إلى رسالته، فوجدناه يشترط الذكورة في مرجع التقليد، فأين نجد ما نسبتموه إلى سماحة السيّد؟

ــــ قلت إنّ ذلك رأيه علمياً، وذلك في كتابه (مستمسك العروة الوثقى) الذي بحث فيه عن مسألة الأدلّة على التقليد، إذ يقول ليس عندنا دليل على عدم جواز تقليد المرأة إذا كانت لها الكفاءة. أمّا الفتوى، فلها اعتبارات أخرى، قد يكون أحدها الاحتياط، والمعروف بين العلماء هو القول بعدم جواز تقليدها.

جواز التبعيض:

الظاهر أنّ فتواكم في الرسالة العمليّة هي جواز التبعيض على إطلاقه، فلماذا لا تُجوِّزون التبعيض في مسألة الدخان؟

ــــ نحن نقول إنّ التبعيض هو في القضايا المحرجة أو الضرورية للإنسان، ونقول إذا كان الشخص مقلِّداً لمرجع يُجَوِّز التدخين فلا يوجد أيّ مانع، ولكن هناك نقطة يجب أن تعرف، وهي أنّ الأبحاث التي يجريها علماء الطبّ في التدخين، وخصوصاً فيما يتعلّق بالنرجيلة، تشير بشكلٍ أساسي إلى أنّ التدخين مسؤول عن سرطان الرئة وسرطان الفم وسرطان الحنجرة بنسبة كبيرة، ويقولون إنّ التدخين يؤدّي إلى التهلكة ولو بعد حين. وعليه، فإذا ثبت أنّ التدخين يؤدّي إلى التهلكة، فإنّه حرام؛ إذ ليس هناك عالِم يفتي بجواز ارتكاب ما يؤدّي إلى التهلكة، لأنّ الله يقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)، ولذلك فإنّ العالَم الآن يتّجه إلى تحريم التدخين كالمخدّرات. وأنا أقول للكثير من إخواننا، إنّه إذا دار الأمر بين حياتك ومزاجك، فأيُّهما تفضِّل؟

قيمة رأي المرجع:

هل المرجع دائماً على حقّ في كلّ الأشياء التي يتّخذها؟

ــــ المرجع هو مجتهد يملك اجتهاداً في الشريعة، ويملك اجتهاداً في التصرّفات العامّة في القيادة، وقد يخطئ وقد يصيب. وفي المأثور: للمجتهد أجران إنْ أصاب، وأجر واحد إنْ أخطأ.

 

 

قضاء القاضي بعلمه:

هل يقضي القاضي بعلمه؟

ــــ رأينا أنّ القاضي لا بدّ من أن يقضي على حسب البيِّنات والأيمان، لا أن يقضي بعلمه؛ وفي حال كان لديه علم بالقضية، فإنّ عليه أن يتنحَّى، ويحوِّل القضية إلى قاضٍ آخر، ويتحوّل هو إلى شاهد فيشهد في هذا المقام.

مضمون الرسائل العملية:

لماذا يكتب المراجع في آخر رسالتهم أنّ العمل بهذه الرسالة مُبرئ إنْ شاء الله، ثمّ إنّ الأحكام لم تصل إلى مرحلة اليقين؟

ــــ هي على مستوى العمل كافية للإجزاء وإبراء الذمّة.

سنّ الرشد:

ما هو العمر المفترض لشخص حتّى نقول إنّه قد وصل إلى سنّ الرشد؟

ــــ ليس له سن معيّنة، بل المهم هو النضج النفسي والاجتماعي من حيث القدرة على التصرّف الصحيح في الأمور العادية.

تعرّف الأعلم:

كيف نعرف الأعلم بين المجتهدين والمراجع، مع العلم أنّ آراء أهل الخبرة والعلماء تختلف؟

ــــ لا يوجد في العالَم كلّه مَنْ هو أعلم بشكلٍ مطلق، لا في الطبّ ولا في الهندسة ولا في الفقه ولا في غير ذلك، وإنّما الأمر على طريقة: (لكلّ وردٍ رائحة). أمّا الذين يشهدون بالأعلمية لهذا أو لذاك، فهم لا يشهدون على أساس اليقين، لأنّهم في معظمهم لم يطَّلعوا على رسالات ومعارف جميع الفقهاء من هو مورد للخلاف والاعتبار. ولذلك نقول إنّه ليست هناك واقعية لافتراض الأعلمية في العلوم كلّها، فضلاً عن الأعلمية في العلوم الدينيّة. ولذا نقول إنّه يكفي في صحّة التقليد أن يكون مجتهداً عادلاً ممارساً.

تشخيص الموضوعات:

كثيراً ما نُخطئ في تحديد الموضوع، ما يجعلنا نخطئ في الحكم، فكيف يمكننا تحديد المواضيع في قضايانا الخاصّة؟

ــــ تحديد المواضيع يحتاج إلى خبرة، ويحتاج إلى دراسة ومعرفة العناصر التي تمثّل هذا الموضوع أو ذاك، ولذلك فالمسألة ليست بسيطة، وخصوصاً أنّ هناك مواضيع معقّدة، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الأديان، أو ما إلى ذلك.

معنى المراهقة في الشرع:

ما هو المعنى الشرعي للمراهقة؟

ــــ ليس هناك معنى شرعي على نحو المصطلح، ولكنّ المراهقة هي مرحلة تحوّل في جسم الإنسان، وتمتاز بأنّها المرحلة التي تستيقظ فيها غرائزه بالمستوى الذي قد لا يملك فيه التوازن في حركة غرائزه أو فكره. وهذه المرحلة تحتاج من أولياء أمور المراهق إلى الكثير من الدقّة في التعامل كي تمرّ من دون سلبيّات إذا أمكن.

تحديد الأعلم:

كيف نعرف الأعلم من بين المجتهدين والمراجع، مع العلم بأنَّ آراء الحوزات العلميّة وأهل الخبرة تختلف في ذلك، والكثير من المراجع الأجلاّء يشترط الأعلميّة للانتقال أو التحوّل من مرجع إلى آخر؟ وماذا لو رغب المقلِّد بالتحوّل إلى مرجعٍ آخر، لشعوره بأنّ فتاواه أقرب إليه؛ هل يجوز له الانتقال؟

ــــ من المتعسّر تحديد مَنْ هو الأعلم، علماً بأنّ الأعلم بقول مطلق لا وجود له واقعاً، ولا يملك أحد الشهادة به ـــ لو كان ـــ إلاّ بعد اطّلاعه على أبحاث جميع العلماء المتصدّين أو المرشّحين للمرجعية، وهو ممّا لم يتيسّر لأيّ شاهد بالأعلمية، والعلماء ـــ بحسب خبرتنا ـــ يتمايزون على أساس أنّ لكلّ ورد رائحة. وعلى كلّ حال، فإذا حصل الاطمئنان للمكلّف بمجتهد ما وتميّزه عمَّن عداه، فيجوز له تقليده، كما يجوز ـــ في رأينا ـــ العدول من مجتهد إلى آخر جامع للشرائط المعتبرة في مرجع التقليد.

لماذا التقليد لمرجع واحد؟

هل يجب على المكلّف أن يقلّد المرجع نفسه في كلّ الأمور، أم أنّه يجوز له أن يقلّد جميع المراجع في فقههم؟

ــــ الأحوط وجوباً الالتزام بتقليد مرجع معيّن وعدم جواز الرجوع إلى غيره إلاّ مع وجود الحاجة الملحّة دفعاً للحرج، وذلك من جهة انتظام أمر التقليد والالتزام الديني.

تقليد الميّت ابتداءً:

قلتم في كتاب (الفتاوى الواضحة) إنّه يجوز الرجوع إلى المجتهد الميّت ابتداءً، والأحوط استحباباً الرجوع إلى الحيّ، أمّا في كتاب (فقه الشريعة)، ففي المسألة ذاتها، هناك عبارة الأحوط وجوباً، فهل هذا عدول عن الاحتياط الاستحبابي؟

ــــ هذا صحيح بلحاظ بعض العناوين الثانوية التي تقتضي ذلك.

مرجعيّة المرأة:

قرأت في كتابكم (فقه الشريعة) أنّ من شروط المجتهد المرجع الذكورة، ولكنّني سمعت في إحدى المحاضرات، أنّه إذا كانت امرأة تملك من التفقّه والعلم ما يؤهّلها للمرجعية فلا بأس. لذا حصل التباس عندي، وأرجو من حضرتكم تبسيط الأمر لي؟

ــــ اشتراط الذكورة مبني على الاحتياط، لكن الرأي الفقهي على عدم ثبوت الدليل على اشتراط الذكورة، فلا مانع من تصدّي المرأة للمرجعية فيما لو توفّرت فيها كافة الشروط المعتبرة، ولكن هذا ليس واقعياً حالياً.

الاجتهاد في القضايا المستجدّة:

كان لاجتهاد الشيعة في الفقه وتبصّرهم فيه غنىً كبير وتراث عظيم، واليوم نعيش في عصر أصبحنا فيه بأمسّ الحاجة إلى فتح أبواب الاجتهاد في كلّ مجال من مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فلكي نرسم منهاج الحياة الكامل لتعريف الناس بالرسالة الإلهية، علينا أن نعرض ذلك تلك المناهج لتعيشها البشرية فكراً وواقعاً، ولو قدّر الله للمجتمع الغربي أن يلمّ بنظام الضريبة في الإسلام، فهل هناك إمكانية لتطبيقه؟

ــــ أعتقد أنّ هناك إمكانية لذلك، خصوصاً أنّ هناك تجارب جديدة تحاول أن تجتهد في القضايا المستجدّة التي يواجهها الناس في النظام الإداري والسياسي والاجتماعي، ولكنّها لم تستكمل بعد.

الفرق بين القياس والاجتهاد:

ما هو الفرق بين القياس والاجتهاد، وإذا كان كلّ شيء موجوداً في الكتاب والسُنّة فلماذا الاجتهاد؟

ــــ ضرورة الاجتهاد نابعة من الحاجة إلى فهم الكتاب والسُنّة. أمّا القياس، فهو إلحاق موضوع حكم بموضوع آخر، ظنّاً بأنّ ملاكه هو نفس الملاك، وهو عمل بالظنّ، والظنّ ليس اجتهاداً.

ثانياً: النجاسات والطهارات:

تطهير الثياب:

كيف يتمّ تطهير الثياب من النجاسة؟

ــــ بغسلها بالماء المطلق الطاهر مع إزالة النجاسة عنها، فإذا كان الماء كثيراً، فإنّه يعصرها احتياطاً، أمّا إذا كان الماء قليلاً، فإنّه يحتاج إلى أن يعصر الثوب وجوباً، حتّى تخرج بقية غسالة الماء.

الصلاة بثوب نجس:

هل تجوز الصلاة في الثوب وعليه نجاسة؟

ــــ إذا كانت عليه نجاسة مثل الدم بمقدار أقل من الدرهم فيجوز، والحكم مختصّ بالدم عدا دم الحيض والنفاس ودم نجس العين.

الشكّ في التذكية:

أُهديت حذاءً من بعض البلدان الأوروبية، ولا أعرف هل هو جلد طبيعي أم لا، وعلى فرض أنّه جلد طبيعي، لا أعلم هل هو مذكَّى أم لا، فما الحكم من ناحية النجاسة والطهارة؟

ــــ إذا عرفنا أنّه جلد طبيعي، واحتملنا أنّه مذكَّى، بسبب وجود المسلمين في البلدان الأوروبية، حيث يذبحون على الطريقة الشرعية، فيحكم بطهارته.

حكم الجلاتين:

لي صديق يعمل في شركة أوروبية للأدوية منذ أربعة أسابيع، وقد كانت تستعمل الجلاتين البقري، ولكن بعد ظهور جنون البقر، تمّ استعمال جيلاتين الخنزير. فما حكم هذه البضاعة؟

ــــ من خلال بعض أهل الخبرة، أنّ الجلاتين من خلال صناعته يستحيل، ولذلك يطهر بالاستحالة، وإلاّ فهو نجس في مفروض السؤال.

حكم الوزغ:

هل الوزغ (أبو بريص) حيوان نجس؟

ــــ لا، ليس نجساً.

الغسل للجمعة:

نويت في وقت الظهر، أن أغتسل الغسل المستحب للجمعة على أن أُؤدّيه قبل الزوال، ولكنّني نسيت النيّة عندما اغتسلت، فهل هذا الغسل صحيح؟

ــــ إذا كانت النيّة حاضرة في النفس، بحيث لو سئلت عن الغسل الذي أنتَ بصدده لأجبت أنّه الغسل الفلاني، كفى ذلك.

مسّ الميّت:

أنا طالب طبّ، أردت أن أسألكم، هل لمس الجثث في التشريح يوجب الغسل؟

ــــ إذا كانت الجثّة لم تُغسّل غسل الميّت وهي باردة ـــ كما هو مفروض السؤال ـــ، فعليك إذا لمستها أن تغتسل غسل مسّ الميّت، إلاّ إذا لبست قفازاً.

السؤال عن التذكية:

يوجد في السويد دجاج عليه ختم (حلال) وختم المركز الإسلامي الدانماركي، مع وجود توقيع الشخص المسؤول، فهل تثق بذلك؟

ــــ عليكم أن تسألوا العلماء الموجودين في السويد عن ذلك، لأنّ مجرّد الكتابة عليها أنّه حلال لا يكفي في جواز أكله.

وجوب الغسل مع الواقي الذكري:

إذا استعمل الواقي الذكري عند الجماع، فهل يجب على المرأة غسل الجنابة، مع العلم بأنّه لم يصبها أيّ رطوبة من السائل المنوي.

ــــ يجب عليها غسل الجنابة بمجرّد إدخال العضو حتّى مع استعمال الواقي الذكري، سواء أصابها المنيّ أم لم يصبها.

الشكّ في الأغسال السابقة:

بدأت الصلاة في وقت مبكر من حياتي، ولا أعرف إذا ما كنت أؤدّي غسل الجنابة منذ بلوغي، أو أنّني أدّيته بعد فترة من بلوغي. فما هو الحكم؟ هل أقضي بعضها أو كلّها أو أبني على الصحّة؟

ــــ مع عدم العلم بفوات بعض الصلوات عليك، فلا يجب عليك القضاء.

ثالثاً: الوضوء والصلاة

معرفة خطيب الجمعة بالعربية:

هل لعدم فصاحة إمام الجمعة في الخطبة مدخلية في عدم وجوبها، علماً أنّه فصيح في قراءة القرآن؟

ــــ ليس شرطاً أن يكون الخطيب فصيحاً في قراءته الخطبة، بل المهم أن يكون فصيحاً عندما يقرأ للصلاة.

التكبير للصلاة:

هل يشترط في الصلاة التكبير قبل القيام بالعمل، أم يجوز التكبير مقترناً به؟

ــــ لا بدّ للإنسان من أن يُكبِّر تكبيرة الإحرام قبل أن يبدأ بالقراءة، وهذا هو التكبير الواجب، أمّا بالنسبة إلى التكبير المستحبّ، كالتكبير قبل الركوع، أو قبل السجود، أو غير ذلك، فإنّ المستحبّ أن يكبّر قبل العمل، أو حين العمل، ولا مشكلة في ذلك؛ لأنّه مستحبّ وليس واجباً على كلّ حال.

 

 

 

اختلاف الفرض بين المأموم والإمام:

هل يمكن أن أنوي صلاة العصر مثلاً مع إمام يصلّي صلاة الظهر؟

ــــ لا مانع من أن يصلّي هو الظهر وأنتَ تأتمّ به للعصر.

نواقض الوضوء:

ما الدليل الشرعي على أنّ المذي لا ينقض الوضوء؟

ــــ وما الدليل الشرعي على أنّه ينقض الوضوء؟! الذي ينقض الوضوء مع المني، أمّا المذي فهو طاهر مثل بقيّة الإفرازات التي تحصل للإنسان، وهذا ما ورد في الروايات.

أسباب التيمُّم:

مَن تيمَّم بدلاً من الغسل لعذر، ثمّ أحدث بالأصغر، فهل يتيمَّم بدلاً من الوضوء للدخول في الصلاة مع وجود ما يكفي للوضوء دون الغسل؟

ــــ يجب عليه أن يتوضّأ للصلاة إذا لم يكن ممّن يتضرّر من استعمال الماء، لأنّ التيمّم إنّما يجزئ عن الوضوء فيما لو بقي الإنسان محافظاً على الطهارة، أمّا لو أحدث المتيمّم، فيجب عليه أن يتوضّأ، كما أنّ من يغتسل بالماء ويحدث بعد ذلك يجب عليه الوضوء.

كثرة السفر:

صديقي إمام جماعة، يسافر كلّ أسبوع لإمامة صلاة الجمعة مسافة (300) كم، فهل يعتبر كثير السفر، أم لا؟

ــــ نعم، إذا سافر أربع مرّات في الشهر أو أكثر، فإنّه يعتبر كثير السفر.

 

زيادة الأذكار في الصلاة:

هل زيادة بعض الأذكار، كالاستغفار والصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وغيرهما في أيّ موضع من مواضع الصلاة، مبطل لهما؟

ــــ لا تبطل الصلاة بذلك، ويجوز للإنسان أن يذكر الله في كلّ حالة من حالات الصلاة، ويمكن له أن يستغفر الله، وأن يصلّي على النبيّ. نعم، لا بدّ من أن يكون ذلك في مواقع الذكر.

الانتظار لمتابعة الإمام:

الإمام في ركعته الثانية، وأنا في الركعة الأولى، فهل يجوز لي الجلوس معه تماماً من دون التشهُّد، أم لا بدّ من التهيّؤ للقيام للركعة الثانية؟

ــــ لا بدّ له من التهيّؤ للقيام.

التّسليم في الصلاة مع الالتفات:

هل من الواجب التسليم مع الالتفات يميناً مرةً ويساراً مرةً أخرى؟

ــــ إذا سلّم فقد خرج من الصلاة، وحلّ له كلّ ما ينافيها.

حكم صلاة الفجر بعد شروق الشمس:

ما حكم تأخير الصلاة، خاصة صلاة الفجر، إلى ما بعد ظهور الشمس؟

ــــ إذا كان الإنسان مستيقظاً عند الفجر وقبل ظهور الشمس، يحرم عليه أن يؤخّر صلاته. أمّا إذا غلب عليه النوم، فــ (ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر).

 

 

الصلاة جماعة بأهل المنزل:

هل في الإمكان إقامة صلاة الجماعة في أهل بيتي، وذلك لما لها من أثر في تقوية الروابط العائلية والروحانية، أم أنّها تتطلّب شروطاً لا تتمّ بدونها؟

ــــ إذا كان الإنسان عادلاً، وكان أهل بيته يعتقدون بعدالته، فلا مانع في أن تقوم الجماعة، وأن يصلّي أولاده وزوجته وراءه. أمّا إذا كانوا لا يعتقدون بعدالته، فيمكن أن تقام الجماعة بالشكل، بحيث تكون صلاتهم فرادى، ولكن متابعةً في شكل جماعة.

المسح أكثر من مرّة:

المسح أكثر من مرّة أثناء الوضوء، هل يبطل الوضوء؟

ــــ إذا مسح الإنسان على رجله، وأحبَّ أن يتأكّد من صحّة المسح مرةً ثانية للاحتياط فلا توجد مشكلة.

الصلاة خلف المخالف في المذهب:

هل يصحُّ لي أن أُصلّي مأموماً إذا كان الإمام على مذهب غيرنا فقهاً، ولكنّه محبٌّ لآل البيت (عليهم السلام)؟

ــــ نحن قلنا إنّه يجوز للإنسان أن يصلّي وراء أتباع المذاهب الأخرى بشرط أن يسجد على ما يصحّ السجود عليه.

انشغال الذّهن أثناء الصلاة:

ينشغل ذهني أثناء إقامتي للصلاة، فهل هناك إشكال في صحّتها؟

ــــ الصلاة صحيحة حتّى مع شرود الذهن، وعلى الإنسان أن يحاول أن لا يشرد ذهنه، وقد ورد في الحديث، أنّ الله لا يقبل من صلاة العبد إلاّ ما أقبل بقلبه عليه.

الغفوة اللاإرادية:

عمري أكثر من 70 سنة، مصاب بجلطة دماغية. أثناء الصلاة، وأنا جالس، تأخذني غفوة بدون إرادتي، فما هو حكم الوضوء في هذه الحالة؟ وما حكم صلاتي؟

ــــ إذا كان هذا ممّا يحصل دائماً، فتكمل صلاتك ولا شيء عليك، ولكن إذا كان هذا يحصل في بعض الأوقات دون بعض، فعلي أن تجدّد وضوءك وتعيد صلاتك.

الصلاة تقيّةً:

أحياناً أُصلّي مع جماعة من أهل السُنّة تقيةً منفرداً متابعاً للجماعة، فهل من فضيلة أو أجر لي في هذه الصلاة؟

ــــ إذا كان الإنسان يريد أن يصلّي ولو متابعةً من أجل أن يعطي فكرةً عن الوحدة الإسلامية، فلا يبعد أن يعطيه الله هذا الأجر من خلال هذا العنوان. وفي رأينا أنّه يجوز نيّة الجماعة في الصلاة معهم، ولكن لا بدّ من توفير كلّ شروط الصلاة ممّا هو مذكور في رسالتنا العملية، فليُراجع.

السجود على المأكول:

هل يجوز، في هذه الحال، أنْ أُصلّي وأسجد على ملبوس ومأكول؟ وهل أعيد الصلاة إذا صلّيت تقيّةً؟

ــــ لا يجوز ذلك إلاّ في حال الاضطرار وحال الخوف الذي تتمثّل به التقيّة. وإذا صلّيت تقيّةً، بمعنى أنّك كنت تخاف على نفسك أن تسجد على ما يجوز السجود عليه، فليس عليك الإعادة.

قراءة المأموم في الجماعة:

هل يجوز للمأموم أن يقرأ إذا لم يسمع صوت الإمام في الصلاة، سواء أكانت الصلاة جهراً أم إخفاتاً؟

ــــ في الصلاة الجهرية، إذا كانت الصفوف طويلة جداً، بحيث لا يسمع المأموم صوت الإمام، يجوز له ذلك. ولكن في الصلاة الإخفاتيّة لا يجوز، بل عليه أن يذكر الله سبحانه وتعالى.

نيّة الإقامة:

أتينا زائرين إلى دمشق، ونحن في تنقّل دائم بين السيّدة زينب (عليها السلام) والمناطق الأخرى، مثل الحميدية، مخيّم اليرموك.. الخ. فما هو حكم صلاتنا؟

ــــ إذا كنتم تنامون في محلّ إقامتكم وتبيتون في منطقة السيّدة زينب (عليها السلام)، وفي النهار تذهبون إلى الحميديّة وغيرها، فالإقامة عشرة أيام صحيحة. أمّا إذا كنتم تبيتون في منطقة السيّدة زينب (عليها السلام) يوماً، وتبيتون يوماً بدمشق، بحيث إنّ إقامتكم تتردّد بينهما، فلا تعتبر إقامتكم إقامة عشرة أيّام في هذا المجال صحيحة، وعليه فلا بدّ من القصر.

إقامة الزائرين:

لقد نويت الإقامة لمدّة شهرين في منطقة السيّد زينب (عليها السلام)، ولكنّني بعد ثلاثة أيام، ذهبت إلى مطار دمشق لحالة اضطرارية، فهل تبقى الإقامة صحيحة؟

ــــ إذا كانت هناك مسافة شرعيّة بين منطقة السيّد زينب (عليها السلام) وبين المطار، فإنّ الإقامة تلغى.

القنوت في صلاة الجمعة:

هل القنوت واجب في صلاة الجمعة؟

ــــ القنوت ليس واجباً حتّى في صلاة الجمعة.

السجود على الأظافر:

هل يجوز السجود على الأظافر أو على البلاط الذي يبدو فيه الحصاة أو الحديد؟

ــــ بالنسبة إلى الأظافر، لا يجوز السجود عليهما، أمّا السجود على البلاط، فإنّه جائز إذا كان من الأرض.

 الجماعة بين القصر والتمام:

هناك مَنْ يقول إنّه لا يجوز لشخصٍ يصلّي قصراً أن يصلّي مع إمام يصلّي تماماً؟

ــــ يجوز ذلك، ويقوم كلّ بوظيفته في هذا المجال.

الشكّ في الركعات:

أشكّ في عدد الركعات أثناء الصلاة، وفي بعض الأحيان أصلّي ثلاث ركعات، وأحياناً أخرى أصلّي خمس ركعات، فكيف تكون سجدة السهو، حيث إنّي لا أعرف كيفية القيام بها وأحكامها؟

ــــ كثير الشكّ لا يعتني بشكّه، ومع العلم بالزيادة في الركعات تبطل الصلاة، ومع النقصان إنْ لم يتدارك أيضاً تبطل. وللشكّ علاج في بعض موارده، كالشكّ بين الثلاث والأربع، أو الاثنين والثلاث بعد السجدتين، أو الثلاث والخمس أثناء القيام، وذلك مفصَّل في الرسالة العملية. وسجود السهو يؤتى به في مورد الكلام ساهياً ونقصان التشهُّد، أو في السجدة الواحدة وللقيام الزائد أو التسليم الزائد، وبناءً عليه، يجب سجود السهو للشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين. وللشكّ بين الخمس والستّ وهو قائم. وسجود السهو عبارة عن سجدتين مع تشهّد وتسليم يقول في سجوده: بسم الله وبالله السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.

الصلاة استحباباً مع انشغال الذمّة:

إذا كان في ذمّتي ثلاث سنوات من الصلاة الواجبة، هل يجوز لي أن أُصلّي صلوات مستحبّة؟

ــــ يجوز ذلك، ولكنّ الأفضل الاشتغال بالقضاء إبراءً للذمّة.

الوضوء مع الكحل:

هل يجوز الوضوء للصلاة مع وجود كحل في العين؟

ــــ يجوز ذلك إذا لم يكن الكحل خارج العين، بحيث يكون حاجباً عن وصول الماء إلى البشرة.

شروط إقامة صلاة الجمعة:

أرجو أن تبيّن لنا شروط صلاة الجمعة، وأين تقام؟

ــــ صلاة الجمعة تحتاج إلى عدد معيّن من المصلّين، إضافةً إلى ضرورة أن يكون الإمام عادلاً في دينه مستقيماً، ومن شروطها أن لا تقلّ عن خمسة أشخاص أحدهم الإمام، وأن لا تكون هناك جمعة أخرى تبعد في مسافتها عن هذه الجمعة أقلّ من خمسة كيلومترات ونصف تقريباً، أمّا إذا فرضنا أنّ هناك جمعتين والمسافة بينهما أقلّ من ذلك، فإنّ الجمعة الأولى تصحّ والجمعة الثانية لا تصحّ.

الشكّ تجاه الآخرين:

أنا شاب ملتزم، ولكنّ هناك رجل دين أشكّ في مدى صدقه، فما الذي يتوجّب عليّ عمله، لكي لا أظلم هذا الرجل؟

ــــ إذا كنت غير مطمئن لعدالته، فعليك أن لا تصلّي خلفه، أمّا إذا لم يثبت لديك الجانب الآخر، وهو الانحراف، فعليك أن لا تذكره بسوء.

المسح في الوضوء:

رجل كان يمسح في وضوئه بكلتا يديه على رأسه، ثم يمسح باليد اليمنى على الرِّجل اليمنى، وبعد ذلك يمسح باليد اليسرى على الرِّجل اليسرى، فما حكم وضوئه وصلاته في هذه الفترة؟

ــــ الظاهر صحّة الوضوء المذكور، ولذا لا حاجة إلى إعادة الصلوات التي صلاّها كذلك.

 

نيّة الصلاة:

هل هذه النيّات صحيحة: أ ـــ نويت أن أُصلّي صلاة الصبح ركعتين حبّاً له وإيماناً بأنّه أهل للطاعة قربةً إلى الله تعالى. ب ـــ نويت أن أُصلّي صلاة الصبح ركعتين طاعة إنْ شاء الله تعالى. ج ـــ نويت أن أصوم شهر رمضان خوفاً من عقابه ورجاء ثوابه قربة إلى الله تعالى؟

ــــ ما دام يقصد بذلك التقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى، فالعمل العبادي يقع صحيحاً، ولا يعتبر التلفُّظ بالنيّة، لأنّ النيّة هي القصد إلى الفعل متقرّباً به إلى الله، ومحلّ القصد إنّما هو القلب.

إشكال في الوضوء:

ما حكم استعمال الكهرباء المسروقة في سحب المياه؟ وما حكم الصلاة بالنسبة إلى الأولاد؟

ــــ لا يجوز استعمال ذلك، ولكن لا يكون ذلك موجباً لبطلان الوضوء، لأنّ الماء في هذه الحالة ليس مغصوباً، وإنْ كان المستعمل لآلة سحب الماء بالطريقة المذكورة آثماً لعدم جواز استعمال الكهرباء بالطريقة المذكورة.

اللّحن في القراءة:

هل تبطل الصلاة لو أنّي قمت بتحريك كلمة في الآية بطريقة غير صحيحة، مثلاً، الكسر بدل الضمّ؟

ــــ مع عدم تعمُّد ذلك لا تبطل به الصلاة.

الالتفات بعد التسليم:

سمعت منذ فترة أنّه في الركعة الأخيرة، وبعد قول الشهادة، لا يجب التلفُّت يميناً ولا يساراً عند التسليم، فهل هذا صحيح؟

ــــ التلفّت بعد التسليم مستحبّ وليس واجباً.

السجود على الورق:

إذا لم أجد ما يصلّى عليه من المسموح به، فهل يمكن استعمال الورق الأبيض أو السجود على البلاط النقي؟

ــــ يجوز ذلك بالنسبة إلى الورق، وأمّا بالنسبة إلى البلاط فإنّه إنْ كان طبيعياً من الأرض فلا إشكال، وكذلك يجوز إذا كان مطبوخاً من الأرض ما لم يخرج عن اسم الأرض، وإنْ كان الأحوط استحباباً ترك السجود على المطبوخ مطلقاً.

مسح القدمين في الوضوء:

لماذا نمسح القدمين للوضوء بدلاً من أنْ نغسلهما؟

ــــ لما كان الوضوء والصلاة وغيرهما من العبادات التي أمر الله سبحانه وتعالى عباده بلزوم الإتيان بها والمحافظة عليها، وكان أنْ بيّن الله من خلال الكتاب أو من خلال نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كيفية ذلك، فلا بدّ عندئذٍ من الالتزام بذلك. ومن المعروف أنّ الآية القرآنية واضحة الدلالة في أنّ المطلوب مسح القدمين لا غسلهما، حتّى لو قرئت الآية: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} بنصب {أَرْجُلَكُمْ}، لأنّ الآية في مقام تحديد ما يجب غسله وما يجب المسح عليه، وقد بدأت أولاً بما يجب فيه الغسل وعقبت بما يجب فيه المسح، فلو قلنا إنّ المفروض غسل القدمين، لفصلت بين الفعل ـــ وهو اغسلوا على الفرض ـــ وبين المفعول به ـــ وهو أرجلكم ـــ بجملة جديدة مستأنفة ـــ وهي {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ}، وهو أسلوب غير بلاغي، بل لعلّه خلاف قواعد اللّغة، وأمّا نصب (أرجلكم) في الوقت الذي لو كانت معطوفة على (رؤوسكم) لوجب جرّها دون النصب كما هو واضح، فهو تامّ لو كان العطف على لفظ (رؤوسكم) المجرور بالباء، ولكن يمكن في اللّغة العطف على المحل، وهو لفظ (برؤوسكم) الذي هو في محل نصب، وهو جائز بل واقع.

وثانياً: لنفرض أنّه لا دلالة للآية على شيء من ذلك، فإنْ فعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي يحدّد لنا المراد منها، وما هو الواجب غسله وما هو الواجب فيه المسح، وقد دلّت كثير من الروايات من طرقنا وطرق أهل السُنّة، أنّ الوضوء يجب فيه مسح القدمين لا غسلهما، فقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال: "الوضوء غسلتان ومسحتان"(1)، فلو كان الواجب غسل القدمين بدل مسحهما، لكان عليه أن يقول غير ذلك.

الصلاة مع محفظة من الجلد الطبيعي:

هل يجوز أن أُصلّي وفي جيبي محفظة نقود مصنوعة من الجلد، ومستوردة من بلاد الكفر؟

ــــ لا مانع من ذلك، ولاسيّما أن ما يحتمل فيه التذكية يحكم بطهارته وإنْ كان مستورداً من بلاد الكفر.. والمقصود باحتمال التذكية هو عدم العلم بكونها غير مذكاة.

انفراد المأموم في التسليم:

المشهور أنّه لا يجوز أن يتقدّم المأموم على الإمام في الأفعال، ولكن هل يجوز أن يتقدّم عليه في التسليم باعتبار خروجه من الصلاة؟

ــــ يجوز له ذلك، بمعنى أنّه يفرغ من الصلاة قبل الإمام فينفرد، والانفراد في آخر الصلاة جائز.

الحرج من أداء الصلاة في أوروبا:

في الدول الغربية نجد حرجاً كبيراً عندما نريد تأدية الصلاة بصورتها العادية في الأماكن العامّة، فهل يجوز أداؤها مثلاً ونحن جالسون على كرسي؟ وكيف نؤدّي الصلاة إذا حضرت ونحن في الطائرة أو في القطار؟

ــــ لو كان ذلك في بلادنا العربية المملوءة بالفضول، حيث الناس يتدخّلون فيما لا يعنيهم كثيراً، فقد نرى في ذلك حرجاً، ولكن في أوروبا، حيث يؤمن الناس بالحريّة الفردية، الأمر الذي يسمح لأيّ مسلم أن يفرش سجّادته في الأماكن المسموح بها ويصلّي، ولا يعتبرون هذا الأمر مستهجناً أو مستغرباً، بل قد يعتبرونه تقليداً من التقاليد أو عادةً من العادات، لكنّنا نحرج لأنّ عندنا ضعفاً في الشخصية. ولذا على الإنسان أن لا يشعر بالحرج في نفسه من أداء الصلاة، لأنّ هذا الحرج ناشئ من إحساسك بأنّ الناس في الغرب كمثل الناس في الشرق، فضوليون، وربّما ينتقدون ممارساتك العباديّة.

أمّا بالنسبة إلى الطائرة، فلقد سافرت سفرات طويلة ولم أشعر بأيّة مشكلة، فقد كنت أتوضّأ وأحمل معي سجّادة من قشّ، وكنت أجد دائماً أماكن في الطائرة للصلاة، وهكذا فأيّ مسافر يمكنه أن يصلّي ويقتصر على الواجبات، وهذا ممكن أيضاً حتّى في القطار، لكن إذا كان لا يتمكّن من أن يصلّي من وقوف، فيمكن أن يصلّي وهو جالس، ولكن يجب أن يكبّر وهو واقف ويقرأ وهو واقف وفي حال السجود يسجد وهو جالس.

الصلاة عند الأذان:

هل تجوز إقامة الصلاة عند بدء الأذان مباشرة، أم الانتظار إلى ما بعد الانتهاء منه؟

ــــ يمكن الصلاة بمجرّد دخول الوقت، وإذا كان المؤذّن موثوقاً، فإنّك تستطيع أداءها من حين دخوله في الأذان.

تقسيم صلاة اللّيل:

هل يجوز تأخير صلاة الليل إلى ما قبل أذان الفجر بقليل؟ وما هو المقدار المسموح به من التأخير، وهل يجب الإتيان بها كاملةً أم الاقتصار على جزءٍ منها؟

ــــ بإمكان الإنسان أن يأتي بصلاة الليل كاملةً، بحيث يجعل المقدار القريب إلى الفجر الجزء الذي يمثّل الأداء، ثمّ يقضي المتبقّي منها بعد الفجر، حيث يستحبّ للإنسان أن يقضي صلاة الليل في النهار إذا لم يدرك صلاة اللّيل. الصلاة خارج الوقت:

شخصٌ صلّى صلاة الصبح بعد الشروق واجباً، ولم يكن يعلم أنّه لم يعد الوقت وقت الصلاة الواجبة، فهل يجب عليه إعادة الصلاة؟

ــــ لا يجب عليه الإعادة.

رابعاً: الصيام والكفّارات

القضاء احتياطاً:

امرأة في السبعين من العمر، كانت تصوم في صغرها، ولكنّها نوت الآن أن تعيد هذا الصيام احتياطاً عن مدّة أربع سنوات، فهل يجب دفع كفّارة مع هذا الصيام؟

ــــ إذا كانت تعرف حالها، وأنّها كانت تصوم، فليس عليها الصيام والكفّارة، والاحتياط حسن على كلّ حال.

الحقن المغذّية للصائم:

هل يجوز استعمال الحقن المقويّة والمغذّية بالنسبة إلى الصائم؟

ــــ الحقن التي تكون مغذّية، بحيث تكون هي غذاءً، لا يجوز استعمالها، أمّا الأشياء التي تعتبر دواءً أو ما أشبه ذلك فيجوز.

تأثير بخَّاخ الربو على الصوم:

هل استعمال البخَّاخ المستخدم في معالجة الربو مفطر أم لا؟

ــــ إذا كان هذا البخّاخ يشتمل على سائل فإنّه يفطر، أمّا إذا كان مجرّد أوكسجين، فإنّه لا يُفطر.

دعوة غير الصائمين إلى الإفطار:

ينوي نادٍ إسلامي اجتماعي الدعوة إلى إفطار رمضاني، فهل يجوز دعوة أصدقاء للنادي لا ينتمون إلى التيّار الإسلامي وقد لا يصومون؟

ــــ لا مانع من ذلك، وهو جائز، ولاسيّما أنّ انخراطهم في الأجواء الإسلاميّة قد يقرّبهم ويجعلهم أكثر معرفةً بالإسلام، وأكثر التزاماً به.

حرمة التدخين وعدم مفطريّته:

أفتيتم بحرمة التدخين، ولكنّكم أفتيتم أيضاً بعدم إفساده للصوم؟

ــــ نعم، التدخين حرام ولكنّه لا يفطّر، ولا ملازمة بين الحرمة وبين الإفطار، فهناك كثير من الأشياء محرّمة ولكنّها لا تُفطر، كالغيبة مثلاً. وكلّ فتوى ترتكز إلى دليلها، فحرمة التدخين باعتبار أنّه يشكّل ضرراً للنفس، ولكن بما أنّه لا يندرج تحت عنوان الأكل أو الشرب، فقد دلّ الدليل على عدم مفطّريّته أيضاً. 

تأخير قضاء الصيام:

زوجتي لم تصم شهر رمضان بسبب الحمل، ولكنّها دفعت كفّارة الإفطار وصامت 15 يوماً، إلاّ أنّها لم تستطع إكمال الباقي بسبب مرضها، فهل عليها شيء قبل رمضان؟

ــــ إذا كانت قادرة على إكمال الصيام فعليها ذلك، وإلاّ تؤجّله إلى ما بعد شهر رمضان، مع دفع الفدية.

عدم القدرة على الصوم:

زوجتي مريضة لا تستطيع أن تصوم في شهر رمضان، بناءً على استشارة الطبيب، فماذا ينبغي أن تفعل؟

ــــ إذا حصل لها الخوف بأنّ الصوم يوجب لها الضرر، أيّ الزيادة في المرض أو طول مدّة التماثل للشفاء، فلا بدّ من الإفطار حينئذٍ، والقضاء بعد ذلك يكون عند التمكُّن من الصوم بعد انتهاء شهر رمضان.

كفّارة إفطار العجوز:

إذا كانت المرأة كبيرة السنّ، ولا تستطيع الصوم، ما هي كفّارتها؟

ــــ لا كفّارة عليها، بل تدفع الفدية عن كلّ يوم، وتقدّر بثلاثة أرباع الكيلو من الخبز أو الحنطة.

نيّة الصيام:

نويت في إحدى الليالي صيام اليوم التالي صوم قضاء، ولم أستيقظ إلاّ وقت الظهر، فأردت أن أُلغي الصيام، هل يجوز لي ذلك؟

ــــ إذا كنت مستمراً على نيّتك فعليك الصيام.

الكحل والصيام:

هل وضع الكحل داخل العيون يفطر إذا كانت المرأة صائمة في شهر رمضان وغيره من الأشهر؟

ــــ لا يفطر الصائم بالكحل.

قطرة الأذن في رمضان:

هل القطرة في الأذن من المفطرات أم لا؟ علماً بأنّه يستخدم لإذابة الشمع من الأذن؟

ــــ ليس من المفطرات.

الإفطار بسبب الإرضاع:

لم أصم شهر رمضان لعدّة سنوات بسبب إرضاعي لطفلي أوّلاً، ولأنّني في السنة التالية حملت بطفلتي، فكان جسمي ضعيفاً، وكنت أتقيّأ بشدّة، فمضت السنة بين حملٍ ورضاعة، فهل يترتّب عليّ القضاء مع الكفّارة أو الفدية؟

ــــ عليك القضاء مع دفع الفدية مكرّرة بسبب تأخير القضاء، وبسبب كون الإفطار لأجل الرضاعة.

التقيّؤ حال الصيام:

تقيّأت في نهار رمضان بغير عمد، فاعتقدت أنّي مفطرة بذلك، وقد شربت الماء بعدها، فهل تجب عليّ الكفّارة؟

ــــ ليس عليك كفّارة بسبب شرب الماء. نعم، يبطل صومك وعليك قضاؤه.

تعمّد الاغتسال بعد الفجر:

ما حكم مَنْ تعمَّد الاغتسال بعد الفجر في شهر رمضان، علماً بأنّه استيقظ قبل الفجر ولم يغتسل تكاسلاً، فما حكم صومه؟

ــــ يجب عليه القضاء والكفّارة على الأحوط.

وجوب الكفّارة على العجوز:

امرأة كبيرة في السنّ ولا تستطيع الصوم ولا القضاء، هل تجب عليها الكفّارة؟

ــــ مع كون الصوم متعذّراً عليها أو خطراً لها، فلا يتوجّب عليها الكفّارة.

قضاء صوم:

في رمضان الماضي، نويت السفر إلى خارج البلاد بالطائرة، وفي يوم السفر، فطرت عند استيقاظي صباحاً من النوم، ولم أنتظر حتّى وصولي إلى المطار نسياناً للحكم الشرعي، فهل يجب القضاء والكفّارة أو القضاء فقط؟

ــــ يجب القضاء فقط إذا كنت ناسياً أو جاهلاً.

خامساً: الخمس والزكاة

إغناء الضرائب عن الزكاة:

ــــ هناك أموال تؤخذ من الفلاّح مِنْ قِبَل الدولة من محصولي القمح والشعير، هل يجزي هذا عن الزكاة؟

ــــ لا يغني عن الزكاة، لأنّ الزكاة لها مصارف معيّنة لا بدّ للإنسان من أن يتقيّد بها.

تخميس المال المتراكم:

أعمل على جمع راتبي من الوظيفة منذ أكثر من سنتين، وذلك كي أستطيع شراء منزل للزواج، فهل عليّ تخميس هذا المال رغم حاجتي له؟

ــــ الظاهر أنّه يجب عليك تخميس المال.

خمس المصوغات الذهبية:

عند تسفيرنا من العراق سنة 1980، لم أستطع اصطحاب بعض المصوغات (الذهب) التي أمتلكها، وقد حصلت عليها الآن بعد سقوط نظام صدّام، أي بعد 25 سنة، فهل عليّ خمسها، مع العلم أنّها هدية من والدتي لي، ولا أعلم إنْ كانت مخمّسة أو لا؟

ــــ إذا كانت هذه المصوغات ممّا تحتاجه المرأة في مناسباتها فلا خمس فيها، أمّا إذا لم تكن بحاجة إليها فيجب الخمس فيها.

حكم العقيقة:

مشهور عندنا، أنّه عندما يموت شخصٌ، فإنّ أهل الميّت يعملون له العقيقة، وإذا لم يفعلوا فقد يأتي البلاء عليهم؟

ــــ العقيقة معروفة للحيّ وليس للميّت، يعني إذا ولد الشخص ولد يعمل له عقيقة، ويوزّع لحمها على الفقراء، ولا يأكل منها هو. وإذا لم يعمل له أهله عقيقة يستحبّ له أن يعمل لنفسه عقيقة، لأنّها زكاة البدن كما يقال. أمّا للميّت، فلم يرد عندنا أن يعقّ عنه.

الخمس للمقاومة وإعادة الإعمار:

هل يجوز دفع الخمس للمقاومة في لبنان؟ وهل يجوز دفعه أيضاً للمساعدة في إعمار ما دمّره العدوان الصهيوني؟ وكم هي النسبة إذا كان يجوز دفعه؟

ــــ يجوز ذلك بمقدار النصف من سهم الإمام (عليه السلام).

عدم دفع الخمس:

أنا شاب، منذ بلوغي إلى الآن لم أخمّس بسبب الجهل بالحكم، حيث إنّي حديث الالتزام بالإسلام، ولا أعلم ما هي المصالحة بيني وبين المرجع، فهل يمكن أن تفيدوني بالواجب الشرعي؟

ــــ ما تعلّق به الخمس من الأرباح الفاضلة عن مؤنة السنة الأعيان التي لم تكن من مؤنة السنة كذلك، فيجب دفع خمسه، ومع عدم القدرة، يمكن التأجيل أو التقسيط بإذن الحاكم الشرعي.

طرق تحديد السنة الخمسيّة:

هل يجوز تحديد سنة خمسية لمبلغ من المال غير اليوم الذي حدّدته ليوم خمسي؟

ــــ لا يجوز ذلك، فلا يصحّ أن يجعل لكلّ جزء من الربح رأس سنة مستقلّ، ولا يجوز جعل رأس سنة آخر إلاّ إذا كان هناك مصادر متعدّدة للإنتاج كالزراعة والصناعة وما شاكل، فيجوز أن يجعل لكلّ منها رأس سنة خاص.

 

 

عدم التخميس سابقاً:

أنا الآن متزوّجة ولم أدفع الخمس في حياتي السابقة، فما هي الأمور التي يجب الخمس فيها؟ وما هو حكم المبالغ التي دفعت في تجارة الأسهم البنكية؟

ــــ يجب الخمس فيما يفضل من الأرباح عن مؤونة السنة، كالمال المدّخر الذي لم يصرف في المؤونة ومرّ عليه سنة، والأرباح تشمل ما يُعطى من هديّة ونفقة الزوجة التي تدّخرها مثلاً وغير ذلك، ولا يجب الخمس في المهر وفي الإرث.

كسبٌ بعد الخمس:

على فرض أنّي أخرجت الخمس في اليوم المقرَّر فيه إخراج الخمس، وبعد هذا الإخراج بساعة أو ساعتين من اليوم نفسه، حصلت على مبلغ بطريقة ما، فهل يجب عليَّ تخميس هذا المبلغ الذي حصلت عليه أم لا يشمله الخمس؟

ــــ بعد حلول يوم رأس سنتك، لا يجب تخميس المبالغ المستجدة، لأنّها من أرباح السنة الجديدة.

الفرق بين الزكاة والخمس:

ما هو الفرق بين الأموال التي تجب فيها الزكاة وتلك الأموال التي يجب فيها الخمس؟

ــــ الأعيان الزكوية هي الغلاّت الأربع والأنعام والنقدان الذهب والفضّة بشروط خاصة، والأحوط وجوباً إخراجها عن الأموال الورقية أيضاً، أمّا الخمس، فهو نسبة العشرين بالمائة من الأرباح التي تفضل عن مؤونة السنة وأشياء أخرى كالمعدن وغيره.

 

 

زكاة مال التوفير:

شخصٌ يضع أمواله في البنك كمصاريف لاحقة لتأمين مستقبله. هل يجب عليه الزكاة والخمس؟

ــــ يجب عليه الخمس فيه ويغنيه عن الزكاة، مع العمل برأي المرجع الجامع للشرائط الذي لا يوجب الزكاة فيه.

سادساً: الحجّ والعمرة

ترك طواف النساء:

رجل لم يطف طواف النساء، وعقد على امرأة ودخل عليها، فهل العقد صحيح؟

ــــ العقد صحيح، ولكنّ الدخول غير جائز في هذا المقام، وعليه، إذا كان جاهلاً، أن يستغفر الله من ذلك، وأن يطوف طواف النساء، أو يجعل شخصاً ينوب عنه في ذلك إذا لم يستطع بنفسه.

طواف النساء واجب، فإذا تزوّج رجل من أهل السُنّة بامرأة من أهل الشيعة، وذهبا إلى الحج، وطافت المرأة طواف النساء، ولم يطف زوجها. فما الحكم في هذه المسألة؟ وإذا كانت المرأة من أهل السُنّة والرجل من الموالين، وطاف هو ولم تطف هي أيضاً، ما هو الحكم؟

ــــ زواجهما صحيح، وما دامت المرأة طافت طواف النساء والرجل لم يطف، فهذا لا يعطّل زواج المرأة، وكذلك العكس كما هو مفروض السؤال.

نيابة السنّي عن الشيعي في الحجّ:

هل يجوز للمسلم الشيعي أن يعطي نيابة الحجّ للمسلم السنّي؟

ــــ إذا قلنا إنّ الولاية شرط في قبول العمل، فهذا الأمر مشكل.

 

الطواف حال الاستحاضة:

امرأة أحرمت بالعمرة المفردة، وبعد ذلك دخلت في حالة استحاضة، ما هي وظيفتها بالنسبة إلى الطواف ودخول المسجد الحرام؟

ــــ تعمل أعمال المستحاضة، ويكون حكمها حكم الطاهرة، ويجوز لها أن تقوم بأيّ عمل يشترط فيه الطهارة.

الإحرام للعمرة:

هل يجوز للشخص الذي يحرم من التنعيم وهو متوجّه إلى مكّة لأداء العمرة الثانية، الركوب في السيارة المسقفة بالنهار أم يقتصر على اللّيل فقط؟

ــــ لا يجوز له الاستظلال في النهار، ويقتصر على اللّيل ما لم يدخل مكّة، وإلاّ جاز له الاستظلال ليلاً أو نهاراً.

من الأحقّ بالحجّ:

إذا أراد الرّجل أن يرسل أحداً إلى الحجّ، فمن الأحقّ في ذلك؛ والداه أم زوجته، خصوصاً أنّ أهله لا يملكون المال للحجّ؟

ــــ لا يجب عليه أن يرسل أحداً، فإنّما الحجّ واجب على المكلّف نفسه عند استطاعته، ولو أراد بذل المال للحجّ، فلعلّ الأولى في ذلك الوالدان ثمّ الزوجة.

سابعاً: الزواج والطلاق

زواج المسلمة بغير المسلم:

ما هو الوجه الشرعي لحرمة زواج المسلمة من الكتابي؟ خصوصاً أنّ هناك دعوات من بعض مَن يتزيّى علماء الدّين، بجواز ذلك، لعدم وجود الحرمة حسب ادّعائهم؟

ــــ قضية زواج المسلمة من غير المسلم الكتابي أمر متسالَم عليه بين المسلمين، وقد أكّد القرآن فقط زواج المسلم من الكتابية، ولم يشر إلى زواج المسلمة من الكتابي، ولعلّ السبب في ذلك، هو أنّ المسلم إذا تزوّج الكتابية، فإنّه يحترم التزامها الديني، لأنّ الإسلام يؤمن بالمسيحية واليهودية، بينما إذا تزوّجت المسلمة الكتابي، فالكتابي لا يؤمن بدينها ولا يحترمه. لذا، من الصعب أن تعيش حياةً تلتزم فيها بالخطّ الديني في حياتها الزوجية، وربّما كان هذا أحد الأسباب، والله العالِم.

إذن الولي في الزواج:

بنت بكر تزوّجت من دون إذن وليّها، ولم تخبره بذلك كون العقد تمّ بدون معرفته، والمعلوم أنّ العقد يبقى موقوفاً على حصول إذن الولي، فإذا بقيت البنت ساكتة ولم تخبر وليّها بذلك، فهل يجوز لها أن تتزوَّج من شخصٍ آخر إذا تقدّم لها؟ وما حكم زواجها الأوّل؟

ــــ رأينا، كما هو رأي الكثير من العلماء، أنّ البنت البالغة الرشيدة حتّى لو كانت بكراً، فإنّ لها أن تستقلّ في زواجها كما تستقلّ في حالها، ولا يجب عليها استئذان أبيها أو جدّها لأبيها، وهما الوليّان؛ لأنّ الولاية ترتفع عنها عندما تبلغ وترشد. ولذلك فزواجها صحيح، وعلى هذا الأساس، لا يجوز لها أن تتزوَّج بشخصٍ آخر.

الخلع وشروطه:

ما هو الخلع أو المخالعة؟ وما هي شروطها؟

ــــ الخلع هو أن تكره المرأة زوجها، بحيث تؤدّي هذه الكراهة إلى أنْ لا تقوم بحقوقه في هذا المجال، ولذلك تبذل له المال ليخلعها ويطلّقها على أساس البذل.

استحالة العشرة الزوجية:

ما معنى استحالة العشرة الزوجية ـــ حسب الشرع ـــ؟ وهل كراهية أحد الطرفين للآخر تسمح للحاكم الشرعي بإنهاء العلاقة الزوجية؟

ــــ هناك كلام في أنّه هل يجبر الحاكم الشرعي الزوجة على طلاقها في هذه الحالة أم لا؟ المعروف بين السُنّة والشيعة أنّه لا يجبره، وهناك قول بأنّه يجوز له ذلك.

حكم ولد الزنا بعد الزواج من أُمّه:

إذا أقام رجل علاقة غير شرعية مع امرأة، وحملت من هذه العلاقة بولد، وبعد ثلاثة أشهر تزوَّجها بصورة شرعية، ما هو حكم الولد في هذه الحالة؟

ــــ الولد ابن زنا، لأنّه وُلِدَ من نطفة حرام، ولذلك يترتّب عليه آثار الزنا حتّى لو تزوّج أمّه بعد ذلك.

زواج المتعة بفتاة غير شريفة:

هل يجوز زواج المتعة بفتاة يعرف عنها بأنّها غير شريفة؟

ــــ إذا كانت تمتهن الزنا وكانت من المشهورات بالزنا، فالأحوط وجوباً الترك، وخصوصاً في نقطة واحدة، وهي أنّ المشهورة بالزنا لا تقصد معنى الزواج، وإذا لم تقصد معنى الزواج، فمعناه أنّه لم يحصل زواج لتصبح العلاقة حلالاً.

شروط عدّة الوفاة:

ما هي الشروط التي يجب أن تلتزم بها الزوجة في العدّة عند وفاة زوجها؟

ــــ أن لا تتزيّن، ولكن يمكنها أن تخرج من بيتها إلى حاجياتها وعلاقاتها، ويمكن أن تتحدّث مع بعض الناس بالحديث العادي، فلا يوجد إشكال إلاّ فيما ينافي الحداد.

الحرمة بالرّضاع:

ما هي عدد الرّضعات التي تجعل ولديْن أخوين في الرّضاعة؟

ــــ المعروف هو رضاع يوم وليلة، أو رضاع خمس عشرة رضعة لا يفصل بينها برضاع امرأة أخرى، أو الرضاع الكثير الذي ينبت اللّحم ويشدُّ العظم.

زواج المتعة من العاهرات:

في أوروبا، كثير من الأخوة يمارسون زواج المتعة، وذلك بالتردّد إلى أماكن الدعارة، فما هي الحدود الشرعية التي ينبغي أن تُحتَرَم في الزواج المنقطع؟ ومَنْ هنَّ النسوة اللاتي يجوز إقامة العلاقة معهنّ؟

ــــ لا يجوز الزواج ـــ بما في ذلك زواج المتعة ـــ مع اللاتي يمتهنَّ الدعارة على الأحوط وجوباً، وذلك من ناحية مبدئية.

 ثمّ إنّ ثمّة مشكلة في الزواج من تلك النساء، وذلك أنّهن لا يقصدن ـــ غالباً ـــ معنى الزواج بالعقد، بل يتكلّمن به من دون قصد جدّي إرضاءً للزبون، وبذلك يكون العقد ـــ لو قلنا بجواز الزواج منهن ـــ باطلاً؛ لأنّه يُشترط فيه التعاقد الجدّي بالمعنى الحقيقي للزواج من الطرفين، ما يجعل العلاقة بينهما علاقة زنى وليست علاقة شرعية، والله العالِم.

حكم ختان النساء:

ما هو رأيكم بالنسبة إلى ختان النساء؟

ــــ إذا أدّى إلى ضرر المرأة، ولو من ناحية الإحساس غير الطبيعي لها من الناحية الجنسيّة، فلا يجوز. وقد ورد في بعض الأحاديث، أنّ ختان النساء ليس من السُنّة، بمعنى عدم كونه مستحبّاً، وإنّما هو عادة من العادات المتعارف عليها عند العرب آنذاك، ممّا كان يُعدّ من الزينة لديهم.

الزواج من غير مذهب الزوج:

أنا شاب في مطلع عمري، أحببت فتاةً من غير مذهبنا، فهل تنصحونني بالزواج منها؟

ــــ لا بدّ للزواج من أن يقوم على أساس التفاهم فيما بين الزوج والزوجة، ولذلك ينبغي دراسة الأمر فيما يصلح أمر هذه الحياة الزوجية.

حدود الكلام بين الخطيبين:

هناك شخصان مخطوبان من دون عقد، وأحياناً يكون الشاب في بلد غير بلده. فهل يجوز له أن يكلّم خطيبته في التلفون؟

ــــ يجوز ذلك بعيداً عن الكلام الجنسي.

النظر إلى شعر فتاة:

هل من الجائز رؤية شعر الفتاة التي ينوي الشخص الزواج بها؟ وما هي شروط ذلك؟ وكم مرّة يمكن له ذلك؟

ــــ يجوز ذلك بمقدار الضرورة مع موافقتها عليه.

شروط الطلاق:

إذا تزوّج السنّي من شيعيّة أو طلّقها، فهل يُشترط الشهود في العقد والطلاق، أم في أحدهما خاصّة؟

ــــ لا يشترط عند الشيعة الشهود في العقد، ولكنّ السُنّة يشترطون الشاهدين في هذا المجال. ولذلك، بالنسبة إلى السُنّي الذي تزوّج شيعيّة ولم يكن هناك شهود، فإنّ الزواج بحسب مذهبه باطل، وإنْ كان الزواج بحسب مذهبها صحيح. أمّا بالنسبة إلى الطلاق، فإنّهم لا يشترطون فيه وجود شاهدين عدلين، ويرونه صحيحاً إذا طلَّق الرجل زوجته بدون شهود، وبذلك يصحّ طلاق السُنّي للشيعيّة، حتّى لو لم يكن هناك شهود، لأنّها تأخذه بحسب مذهبه، على قاعدة {أَلْزِمُوهُم بِمَا أَلْزَموا بِهِ أنْفُسَهُمْ}.

 

الزواج المؤقّت:

أعيش في كندا وحيداً، وهي، كما تعلمون، بلد مفتوحة، ويتمتّع الإنسان فيها بحرّية كبيرة على كافّة الصعد، ومنها الحرّية الجنسيّة، فهل يجوز لي العقد على مسيحيّة مؤقّتاً لأنّي أجد حرجاً شديداً في طلب ذلك من المسلمين عامّة، والشيعة خاصّة؟

ــــ يجوز ذلك مع مراعاة اقتناعها بهذا الزواج، وأن تقصد هي العقد قصداً جدّياً.

تنظيم النسل:

ما هو حكم العمل الذي تقوم به المرأة من ربط صمَّام على عنق الرحم كي لا تحمل مرّةً أخرى؟ وهل الحكم ذاته في حال رضا الزوج، أو في حال عدم رضاه؟

ــــ كلُّ وسيلة منع حمل لا توجب العقم، بحيث يمكن رفعها عند الحاجة إليها، هي جائزة، أمّا الوسيلة التي تؤدّي إلى العقم التامّ والنهائي، فلا تجوز.

أمّا مسألة أن تتصرَّف المرأة بجسدها، فهو شأن المرأة نفسها. ولذلك، لو فرضنا أنّها أرادت أن تستعمل مانعاً للحمل، وذلك بعد أن تكون قد أنجبت ولدين أو أكثر ـــ إذ ليس من حقّها أن تمتنع عن الإنجاب نهائياً، وذلك بسبب وجوب شرط ضمني أنّه لا بدّ من الحمل ـــ وكان الأب مثلاً يريد عشرة أولاد، وهي لا تريد، فلا يجب عليها إطاعته، ولا يحرم عليها استعمال موانع الحمل في هذا المجال. إذاً في هذه المسألة، لا علاقة للزوج بقضية موانع الحمل التي تأخذها المرأة، بشرط أن يكون هناك أولاد بالمقدار المتعارف عليه في هذه المسألة. ولا يجب أن تستجيب للزوج في حال طلب عدداً كبيراً من الأولاد.

أمّا إذا كانت الوسيلة تؤدّي إلى العقم، بحيث لا تعود باستطاعتها الحمل بعد ذلك، ولا يكون بالإمكان إزالة هذا المانع، فلا يجوز وضع هذه الموانع حينئذٍ.

 

الزواج من أجنبية مؤقّتاً:

لو عقد على امرأة أجنبية عقداً منقطعاً، لكنّه يعلم بعدم التزامها بلوازم العقد، فما هو حكم العقد؟

ــــ لا يضرّ ذلك في صحّة عقده، إلاّ إذا كانت في عدّة شخص آخر من زواج سابق.

رفض المخطوبة للجنس:

هل يجوز للمخطوبة (معقود عليها بعقد زواج دائم مع خطيبها) أن ترفض الممارسة الجنسية مع خطيبها عندما يطلب منها ذلك؟

ــــ لا يجوز لها الرفض بما لا يشمل الدخول، إلاّ مع وجود العذر كالمرض، وعلى الشاب أن يكون لبقاً وحكيماً في أسلوبه في التعامل مع خطيبته.

الحلف بالطلاق:

تحدث خلافات كثيرة بيني وبين زوجتي، حتّى إني أفقد أعصابي في أغلب الأوقات، بما يجعلني أحلف بأنّي سوف أطلّقها إذا تكرّرت أخطاؤها، وقد علمت مؤخراً أنّه من حلف بالطلاق مرّةً واحدة يوشك أن يأثم، حتّى لو كان صادقاً. فما هو رأيكم في ذلك؟

ــــ لا يحدث الطلاق بمجرّد الحلف عليه، كذلك لا إثم عليك في يمينك هذا، وهو لاغٍ وباطل ولا قيمة له، لكن ينبغي لك ترك ذلك.

الغزل قبل عقد الزواج:

أحببتُ فتاةً وتقدَّمت لخطبتها، وإنْ شاء الله سوف يتم العقد عليها بعد أسبوعين، فهل يجوز لي في هذه الفترة أن أتحدّث معها في أمور الحبّ وأن أتغزّل بها؟

ــــ لا يجوز لك التغزّل بها قبل عقد الزواج، ولا التكلّم بما يثير العواطف والشهوات.

زواج المسلم من الكافرة:

هل يجوز للمسلم أن يتزوّج الكافرة؟ وهل هناك فرق بين الكتابيّة وغيرها؟ وبين الزواج المنقطع والدائم؟

ــــ يجوز للمسلم التزوّج من المسلمة والكتابية، أمّا التزوّج من الكافرة غير الكتابية فهو محرّم بلا فرق بين الدائم والمنقطع.

ثامناً: أموال وبنوك

الوفاء بالنذر:

امرأة نذرت أن تضع مبلغاً من المال في مقام العبد الصالح الخضر (عليه السلام)، وبعد ثلاثة أشهر عادت إلى الزيارة، فوجدت أنّ الأغراض التي كانت موضوعة في القفص قد سُرِقَت، فهل يجوز لها أن تضع المبلغ المنذور في المسجد؟

ــــ قضية الوضع في القفص ليس راجحاً، ولذلك على الإنسان الذي ينذر للعبد الصالح أو للإمام أو للنبيّ، أن ينذر عن روحه، وأن يبعث بثواب نذره إلى روحه، ويعطيه للفقراء بهذه النيّة.

العثور على لقطة:

مَنْ اشترى شيئاً كعلبة، ووجد فيها نقوداً، فما حكمها في رأيكم؟

ــــ إذا كانت القرائن تفيد أنّ البائع لا يعرف ذلك، أو إذا احتمل أنّ هذه النقود ليست داخلة في المعاملة، فعليه أن يسأل البائع عنها.

 

 

 

شراء الأسهم:

ما رأي سماحتكم في شراء الأسهم والمشاركة في أسواق الأسهم؟

ــــ إذا كانت الشركة تتضمّن الأمور المحرّمة، فلا يجوز شراء الأسهم منها، أمّا إذا كانت أموراً محلَّلة، فيجوز شراء الأسهم.

اشتراط الربا:

ما رأيكم في أخذ فائدة البنوك المتعدّدة في البلاد؟

ــــ لا يجوز الاتفاق على المعاملة الربوية. أمّا إذا وضع الإنسان ماله في البنك، ولم يشترط أخذ الفائدة، وأعطاه البنك إيّاها، فلا مانع من ذلك.

فوائد البريد:

هل يجوز أخذ الفائدة التي يعطيها توفير البريد؟

ــــ إذا كانت بنحو الجائزة وليست بنحو الفائدة، فلا مانع من ذلك.

إرجاع ديْن مع فائدة؟!

ماتت أم صديقي، وكانت قد استدانت قبل موتها مبلغ (50,000) ليرة سورية مع الفائدة، أي بعقد ربوي. هل يجب على الولد إعادة المبلغ إلى المرابي، علماً بأنّه صرّح أنّه لا يريد الفوائد بعد موت الأم، لأنّه يملك الكثير من المال، وصديقي يعاني من قلّة المال؟

ــــ ليس عليه أن يعطيه إلاّ المبلغ نفسه، ولا يعطيه الفائدة، خصوصاً وأنّه قد تنازل عنها.

 

 

دفع الحقوق لواجبي النفقة:

والدي أخرج الخمس، وأنا محتاج للمال لقضاء حاجتي، فهل يجوز لي أن آخذ من مال الخمس، أم لا؟

ــــ لا يجوز ذلك على الأحوط، لأنّ على الأب أن يدفع النفقة لولده. نعم، في قضية قضاء الدّين أو ما شابه، يمكنه أن يأخذ من الخمس، لأنّ الواجب على الأب هو النفقات الواجبة لابنه، والدّين ممّا لا يدخل فيه.

بطلان النذر:

زوجتي نذرت نذراً بدفع مال كصدقة أو غيره، فلو تحقَّق هذا النذر، ولم تكن الزوجة تملك المال للوفاء به، فهل يجب على الزوج أن يفي لها بنذرها؟

ــــ إذا كانت غير قادرة على الوفاء بالنذر ونذرت، فنذرها غير صحيح، أمّا إذا كانت قادرة على الوفاء به ولو بعد حين، ولم يكن وقت النذر محدوداً بظرف عدم القدرة، فيجب عليها الوفاء بالنذر حين القدرة.

التصرّف بلقطة:

رجل وجد سواراً من الفضّة في مكان غير آهل بالسكان، وباع السوار وأخذ ثمنه واشترى به عقداً من الفضّة، فما حكم هذا العقد؟ هل لبسه في الصلاة حرام أم ماذا؟

ــــ إذا كان يائساً من إيصاله إلى صاحبه، ولم يكن لديه إمكانية للإعلام عنه، فعليه أن يتصدّق به، فإذا كان فقيراً، فيمكنه أن يتصدّق به على نفسه، وإذا لم يكن فقيراً، فعليه أن يتصدّق به على الفقراء عن صاحبه.

 

حكم بيع الدخان:

هل يجوز لمقلّدكم أن يبيع الدخان؟

ــــ نحن لا نجوِّز بيعه، لكن إذا فرضنا أنّه قلَّد غيرنا، فيجوز له بمقتضى تقليده. ولا بدّ لنا من أن نشير هنا إلى أنّ العالَم كلّه أصبح يتّجه إلى تحريم التدخين في القوانين كتحريم المخدّرات.

العثور على لقطة:

وجدت محفظةً فيها 1000 ليرة، هل أسلّمها للشرطة، أو أبقيها معي حتّى يأتي صاحبها وأعطيه إيّاها، أو آخذها وأعطيها لفقراء؟

ــــ عليك أن تبقيها معك؛ لأنّك إذا أعطيتها للشرطة، قد لا يقومون بما فرضه الله من ذلك، وعليك ما أمكنك أن تعرّف بها، فإذا لم تصل إلى صاحبها، تتصدَّق بها على الفقراء.

شراء بمال حرام:

حصَّل شخص مبلغاً من المال من مصدر غير مشروع، وقد تاب إلى الله عزّ وجلّ، فماذا يفعل بالمال الذي حصل عليه، علماً أنّه استخدم بعضه في شراء منزل وشراء بعض الأشياء المنزلية؟

ــــ عليه أن يرجع المال إلى صاحبه إذا كان له صاحب، أو إلى جهته إذا كان له جهة. أمّا ملكيّته للمنزل وللأشياء المنزليّة فهي ثابتة.

شراء سيّارة:

شخص اشترى سيارة جديدة، عبر قرض من البنك على أن يسدِّد المبلغ أقساطاً شهرية مع الفوائد وتكون السيارة كضمان للمبلغ إلاّ أنّه لم يستطع السداد بعد ذلك وقام البنك بسحب السيارة ثمّ ببيعها إلى شخص آخر. ما الحكم في هذه المسألة؟

ــــ يجوز شراء السيارة من البنك في هذه الحالة ولا تكون مغصوبة.

التسويق لأعمال محرّمة:

أعمل في شركة لخدمات الاستثمار، وقد يتطلّب منّي العمل في بعض الأحيان التسويق لاستثمارات في شركات تعمل في مجالات غير إسلامية كالبنوك مثلاً، فما هو حكم ذلك؟ وهل يجوز لي إدارة أموال المستثمرين كالبيع والشراء في مثل هذه الشركات؟

ــــ يجوز ذلك في غير المحرّم من المعاملات.

الاستثمار في الأسهم:

أنوي استثمار مبلغ من المال في مكتب لاستثمار الأسهم، وقد عرض عليّ المكتب ضمان رأس المال في حالة الخسارة. فهل يجوز لي استثمار هذا المكتب في حال استطاع المكتب تحقيق ربح؟

ــــ يجوز الاستثمار في المعاملات المحلّلة مع الاتفاق على نسبة من الربح، ولا مانع من الاتفاق على ضمان رأس المال عند الخسارة.

الربا المعاملي:

نريد أن نعرف الحكم الشرعي في ما يلي، في الحالة الأولى: إذا أعطيت شخصاً مبلغاً من المال واتّفقت معه بعد فترة أن يرجع لي أصل المال ومعه مبلغ معيّن حسب الاتفاق. في الحالة الثانية: أن يعطيني بضاعة وسعرها أرخص من سعرها الاعتيادي بدلاً من أصل المال الذي أعطيته له؟

ــــ في الحالة الأولى إنْ كان على نحو القرض فهو من القرض الربوي المحرّم إلاّ إذا كان تشغيلاً للمال في التجارة، فلا بدّ من الاتفاق على نسبة معيّنة من الربح. وفي الحالة الثانية يجوز الاتفاق على إرجاع بدل المال بضاعة ولو احتسبها الطرف الآخر بسعر أقلّ من سعرها الاعتيادي. ولكن إذا كان الاتفاق الأساس هو المعاملة الربوية وكانت هذه الشكليات وسيلة لذلك فقد تكون المعاملة محرّمة لأنّ القضية تلاحظ بحسب ما قصده المتعاملان.

حكم التأمين:

هل التأمين حلال؟

ــــ التأمين جائز.

نسيان تسديد الدّين:

أنا مواطن بحريني أسكن في البحرين، عملت منذ 10 سنوات في السعودية واستدنت مبلغاً وقدره (10 ريال) من الشخص الذي أعمل لديه، ونسيت تسديده في وقته، وبقي في ذمّتي، وأريد حجّ بيت الله في هذا العام، فكيف أدفع هذا المبلغ؟

ــــ مع عدم القدرة على إيصال المال إليه فيدفع صدقة عنه.

حكم فسخ العقد:

إذا تمّ الاتفاق مع عامل على عمل ومدّة الاتفاق، وقد تمّ فسخ هذا العقد من العامل نفسه قبل أن تنقضي مدّة الاتّفاق، فهل يجب إعطاؤه حقّ هذه الأيام التي عملها، أم ليس له شيء؟

ــــ ليس له حقّ بذلك.

انتهاء العقد:

هل يجوز لصاحب المحل أن يخرج المستأجر من محله بعد انتهاء العقد وعدم تجديده له، مع أنّ المستأجر لا يريد أن يخلّي المحل لأنّه يكسب منه الرزق؟

ــــ بانتهاء مدّة عقد الإيجار فللمالك الحقّ في الإخلاص، ولا يجوز للمستأجر الرفض والبقاء فيه إلاّ إذا كان هناك شرط في ضمن العقد أو بشكلٍ ضمني أن لا يخرجه إلاّ برضاه ما دام ملتزماً بدفع الإيجار كما هو متعارف في بعض البلدان بفعل الالتزام بالقانون المتضمّن لذلك.

الالتزام العقدي:

تعرض إحدى شركات الاتصالات في إحدى البلدان خدمة الانترنت بمبلغ رمزي شهرياً يلجأ بعض المواطنين للاستفادة من هذه الخدمة، وذلك بأن تؤجّرها على الجيران مقابل مبلغ 5 دينار أمّا للربح وأمّا لاقتسام المبلغ الشهري (40 ديناراً). فهل يجوز هذا؟ شرعاً إذا لم تكن الشركة تعلم بذلك؟ وما حكمه إذا كانت تعلم بذلك مسبقاً؟

ــــ المهم أن لا يكون المشترك الأوّل قد اتّفق مع الشركة حين اشتراكه بأنّه لا يحقّ له أن يشارك أحد معه في ذلك، لأنّه عندئذٍ لا بدّ له من الالتزام بما اتّفق عليه مع الشركة.

الرجوع بالهبة:

تنازلت أخواتنا لنا عن ما لهن من حصّة أو حقّ من بيت والدنا المتوفي، الآن وبعد مضي بضع سنين رجعن فيما وهبن لنا من حصّتهن في البيت ويطالبن بها الآن.. فهل لهنّ حقّ في ذلك؟

ــــ ليس لهنّ الحقّ بذلك لكون هبة ذي الرحم لازمة.

التصرّف بالأمانات:

جمعت من المؤمنين تبرّعات للأعمال الخيرية، فاستخدمتها لأغراضي الشخصية مضطراً، والآن أريد أن أرجع هذه الأموال، ولكن لا أدري كم أخذت منها، فماذا أفعل وما هو واجبي؟

ــــ عليك أن تستغفر الله ممّا فعلت، لأنّ الناس ائتمنوك على ما يريدون أن يتقرّبوا به إلى الله، ومن الطبيعي أنّهم لم يقصدوك إلاّ من خلال أنّك تريد أن تقوم بعمل خيري وفي سبيل الله، لأنّ الذي يدفع التبرّعات عادةً لا يقصد شيئاً آخر. وعلى أيّة حال، لا بدّ أن تبرّئ ذمّتك بعد أن تستغفر ربّك، فإذا أردت براءة الذمّة بما هو واجب عليك، فيمكن أن تكتفي بالأقلّ، ولكن إذا أردت الاحتياط، فعليك أن تدفع الأكثر.

شراء أرض مغصوبة:

أرض معروضة للبيع، وقد علمت أنّ بعضها مغصوب ولكن دون معرفة الجزء المغصوب، فهل يجوز شراؤها أم لا؟

ــــ لا يجوز الشراء، فما دمتَ تعلم أنّها مغصوبة في بعض أجزائها، ولا تعرف أيّها المغصوب، فلا يجوز لك شرعاً شراؤها.

تاسعاً: السلوك والمعاملات

حكم اللّعب بالورق:

هل اللّعب بالورق (الشدّة) محرّم؟

ــــ في رأينا ورأي كثير من العلماء، أنّ اللّعب للتسلية ليس قماراً، فرأينا أنّه حلال، ولكن على الإنسان أن لا يصرف وقته في اللّعب.

ممارسة الرياضة:

هل يجوز لشاب عمره 25 عاماً أن يلعب كرة القدم بعد أن حجّ بيت الله الحرام؟

ــــ وهل إنّ لعب كرة القدم حرام؟!! إنّه أمرٌ جائز، فحتّى لو كان عمر الإنسان 50 سنة أو أكثر، فإنّه يجوز له أن يلعب كرة القدم وغير كرة القدم.

وجوب الختان للذكر:

متى يجب الختان للذكر؟

ــــ يجب الختان للذكر على أهله عندما يكون صغيراً، فإذا بلغ ولم يختنوه، فعليه أن يختن نفسه بعملية جراحية.

الالتزام بالحجاب:

ماذا تقول للفتاة المسلمة غير المحجّبة؟

ــــ أقول إنّ الحجاب هو حكم إلزامي يجب على الفتاة المسلمة الالتزام به كما تلتزم بالأحكام الإسلامية العبادية كالصلاة والصوم وما إلى ذلك، والحجاب لا يمثّل مشكلة للمرأة، ولا حبساً لحرّيتها، بل إنّه يمثّل كراهة لها، حيث إنّها تنطلق إلى المجتمع كإنسانة لا كأنثى تثير الغرائز.

استعمال العنف:

هل يجوز لأيّ جماعة إسلامية استعمال العنف، أي التصفية الجسدية، ضدّ معارضيهم؟

ــــ لا يجوز للإنسان أن يمارس العنف مع أي إنسانٍ آخر إلاّ بواسطة الوسائل الشرعية {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}(1) على أساس القواعد الشرعية التي يحدّدها المؤتمنون عليها.

حديث حبّ بين الجنسين:

هل يجوز للشاب أن يتكلّم مع الفتاة كلام حبّ مع صيانة نفسه من الحرام؟

ــــ كلّ كلام يثير الشهوة لا يجوز للإنسان أن يتحدّث به مع الفتاة.

حكم اللّباس غير المألوف:

هل يوجد إشكال في أن يكون اللّباس غير مألوف في البلد الذي أسكنه ما دام في حدود الحجاب الشرعي؟ وهل باستطاعة طالب العِلْم تشخيص هذا اللّباس؟

ــــ المهمّ أن يستر اللّباس الجسد، وأن لا يكون مصداقاً للتبرّج، ولا من لباس الشهرة الذي يؤدّي إلى هتك الحرمة. وطالب العِلْم مثل بقيّة الناس في تشخيص ذلك؛ لأنّ ذلك يتبع أن يكون المشخّص من أهل الخبرة.

دليل حرمة العادة السرّية للرجل:

ما هو الدّليل على حرمة ممارسة العادة السرّية للرجال؟

ــــ لأنّه وردت أحاديث كثيرة في حرمة الاستمناء بالنسبة إلى الرجل.

لبس الساعة الذهبيّة:

ما هو رأيكم في لبس الرجل للساعة المصنوعة من الذهب؟

ــــ لا يجوز للرجل أن يلبس الذهب، سواء كان ساعةً أو خاتماً أو ما إلى ذلك.

صنع توابيت عليها صلبان:

أعمل في مجال تصنيع قوالب (القايبر كلاس)، وقد طلب منّي تصنيع توابيت تشتمل على علامة الصليب للمسيحيين، فهل يجوز ذلك؟

ــــ الأفضل أن لا تفعل ذلك؛ لأنّ الصليب من هياكل العبادة الباطلة عندنا.

حكم العمل في محلات الإنترنت:

هل يجوز العمل في محلات الانترنت بما يوجد فيها من حرمة؟

ــــ يعمل فيها في الحلال، أمّا في الحرام فلا.

 

 

حكم ملامسة الأعضاء:

أعمل في مختبر للتشريح المرضي، وعند الانتهاء من دراسة العيّنات النسيجيّة المرسلة إلينا من ضمن الأعضاء البشرية (كالأمعاء ـــ المعدة ـــ...الخ)، يبقى بعضها. فهل ملامسة هذه الأعضاء يتطلّب الغسل أو إعادة الوضوء أو أنّه لا يحتاج إلى شيء؟

ــــ إذا كانت هذه الأعضاء مشتملة على عظم، فعلى الإنسان أن يغتسل غسل الميّت إذا لم يكن قد سبق الغسل فيها.

رمي أعضاء التشريح:

تقوم المستشفى بأخذ ما تبقّى من الأعضاء، ولكنّني لا أعلم هل تُرمى أو تُحرَق، فهل عليّ أي إشكال شرعي في ذلك؟

ــــ إذا كنتَ قادراً على أن تدفنها فعليك أن تقوم بذلك.

ارتداء البنطلون القصير:

ما حكم لبس (الشورت) البنطال القصير فوق الركبة على شاطئ البحر مثلاً؟ وما مقدار العورة بالنسبة إلى الرجل؟

ــــ مقدار العورة هو القبل والدّبر، ويجوز للإنسان أن يلبس (الشورت) مثلاً على شاطئ البحر، ولكنّ الأفضل، وخصوصاً إذا كان هناك نساء، أن يلبس الإنسان ما يستر ما بين الركبة والسرّة.

شعائر مسيحيّة في الدولة الإسلامية:

هل يجوز إقامة شعائر الدّين المسيحي في الدولة الإسلامية القائمة على نظام الإسلام؟

ــــ هذا يتبع المصلحة الإسلامية ومصلحة الدولة الإسلامية التي تختلف فيها الأديان، فالاختلاف قد يجعل من واجبات الدولة الإسلامية أنْ ترعى كلّ الذين يتبعون أدياناً أخرى في عباداتهم ومعاملاتهم.

حلاقة اللّحية بالشّفرة:

هل يحرم حلاقة اللّحية بالشفرة؟

ــــ المعروف بين علمائنا أنّ ذلك حرام، وبعضهم ـــ كالسيّد الخوئي (رحمه الله) ـــ يقول بالاحتياط الوجوبي بالترك، ونحن نرى أنّها جائزة، ولكنّ الأفضل أن يبقيها الإنسان، لأنّها شعار المؤمنين.

عدم القدرة على الوفاء بالنذر:

رجل نذر نذراً ولم يستطع الوفاء به، فماذا يتوجّب عليه؟

ــــ إذا كان غير مقدور له، فلا يجب عليه ذلك.

ممارسة الرياضة للنساء:

هل يجوز للنسوة المسلمات اللواتي يلعبن في المباراة الرياضيّة لباس (الشورت)؟

ــــ المرأة عندما تكون موجودة مع النساء في مكان مغلق لا يطّلع عليه الرجال، فإنّه يجوز لهنّ أن يمارسن الرياضة بهذه الصورة، باعتبار أنّ ما يحرم على المرأة كشفه للمرأة هو العورة، وهي القبل والدّبر.

ألبسة عليها صلبان:

هناك ثلاث دول غربية في أعلامها صليب، وأنا أرتدي ملابس هذه الدول، فهل يجوز لبسها وبدون تشهير أو ترويج للصليب؟

ــــ على الإنسان أن يبتعد عن لبس ما يشير إلى بعض هياكل العبادة وبعض رموز العبادة غير الإسلامية.

ونحن لا نفتي بحرمة ذلك، ولكنّنا نقول إنّه ينبغي للمسلم أن لا يلبس شيئاً ينتسب إلى ما يناقض عقيدته وأفكاره.

حكم شراء الكوكا كولا:

هل صحيح عندكم أنّ شرب الكوكا كولا حرام؟

ــــ إذا لم يكن فيه ما يحرم فهو حلال. نعم، نحن نفتي بأنّ علينا أن نقاطع البضائع الأميركية، ولكنّنا فرّقنا أخيراً بين الشركات الوطنية التي تأخذ رخصة لصناعة هذه المرطّبات، ولا تكون داعمةً للكيان الغاصب، فيجوز شراؤها إذا لم يكن فيها شيء من الحرام كما ذكرنا، وبين الشركات الأميركية، وفي مثل هذه الحالة، لا يجوز شراؤها بالعنوان الثانوي، إذا أمكن الاستغناء عنها، كبادرة للاحتجاج على سياسة الإدارة الأميركية ضدّ قضايا المسلمين والمستضعفين.

تحفيظ آيات السجود:

هل يجوز في تحفيظ الأولاد آيات السجود الواجبة عدم السجود كلّما تكرّرت؟ وإذا كان لا يجوز، فما هي الوسيلة في تحفيظهم هذه الآيات؟

ــــ إذا استمع إليها المكلّف فعليه أن يسجد، وأمّا السؤال الثاني، فإنّه يمكن تحفيظهم عن طريق (المسجّلة).

برّ الوالدين:

إذا كان الأب لا يصل أبناءه لمدّة سنوات، ولا ينفق عليهم، ولا يهتمّ لأمورهم. فما واجبهم تجاهه؟

ــــ مع ذلك، فإنّه يجب عليهم أن يصِلوه ويبرّوا به.

حكم اللّحوم في المغتربات:

أودّ أنْ أُسافر إلى أوروبا، ولا أعرف، هل يجوز أكل اللّحوم والطيور المذبوحة هناك؟

ــــ لا يجوز أكل اللّحوم التي لم يحرز تذكيتها، أو أحرز عدم تذكيتها. ولكن يجوز أكل اللّحوم التي يذبحها اليهود المتديّنون، لأنّها تتطابق مع الشروط الشرعية عندنا، وخصوصاً التسمية عند الذبح ـــ كما هو المعروف عنهم ـــ ولا بأس من التأكّد من ذلك.

لمس الجدّة زوج حفيدتها:

هل يجوز لجدّة المرأة أن تلمس زوج هذه المرأة؟

ــــ يجوز لها لمس زوج ابنتها أو زوج ابنة ابنتها أو ابنة ابنها.

حكم مادّة الجيلاتين:

هل من المسموح تناول الأطعمة التي تحتوي على مادّة الجيلاتين الموجودة في معظم أطعمة الأطفال وحلوياتهم أم لا؟

ــــ لقد شهد لنا أهل الخبرة من الاختصاصيّين، حصول الاستحالة من العنصر الأصلي للجيلاتين إلى عنصر آخر، ولذلك حكمنا بحلّيتها. وعلى هذا الأساس يجوز تناولها.

حكم سرطان البحر:

هل يجوز أكل سرطان البحر؟ وإذا كان لا يجوز، فهل يجوز بيعه لغير المسلمين أو للمسلمين الذين يرون حلّية أكله؟

ــــ الأحوط الاقتصار في حيوان البحر على السمك الذي له فلس، وأمّا ما ليس له فلس فالأحوط تركه، ولكن يجوز بيعه لمن يستحلّه من المذاهب الإسلامية الأخرى أو لغير المسلمين.

حكم التصفيق والتصفير:

ما حكم التصفيق والتصفير في الاحتفالات التي تجري بمناسبة مواليد الأئمّة (عليهم السلام)؟

ــــ يجوز ذلك ولا إشكال فيه.

اشتراط القبلة في التذكية:

هل القِبلة شرطٌ في التذكية؟ وماذا لو ذبح الإنسان شاةً وتبيّن أنّها كانت في غير اتّجاه القبلة؟

ــــ القِبلة شرط مع العلم، أمّا مع الجهل، فالذبيحة حلال إنْ شاء الله.

تحديد الحواجب:

ما هو حكم تحديد شعر الحواجب فوق العين لغرض إزالة بعض التشويه فيها وتجميلها؟

ــــ لا مانع من ذلك.

حكم سمك القرش:

ما هو حكم سمك القرش؟

ــــ على الاحتياط الوجوبي نقول: كلّ سمك ليس فيه قشر أو فلس، ولو كان القشر مثل ما على القريدس أو المسمّى الروبيان، فلا يجوز أكله، وهذا كلّه يرجع إلى أهل الخبرة، وهم يدرسون سمك القرش، هل هو من هذه الفصيلة أم تلك.

 

 

تحويل النذر لدعم المجاهدين:

نذرت نذراً هو عبارة عن ذبيحة نوزّعها على الفقراء، ولكن بعد الحرب الأخيرة على لبنان، أفكّر في العدول عن الذبيحة، وإرسال ثمنها إلى هيئة دعم المقاومة والإعمار، فهل يجوز لنا ذلك؟

ــــ إذا كان النذر شرعيّاً، فلا بدّ من الوفاء به بحسب التزامك به في مضمونه، ولا يجوز لك تبديله بموردٍ آخر.

لعب الورق للتسلية:

هل يجوز لعب الورق للتسلية فقط؟

ــــ يجوز ذلك إذا كان بدون رهن، وعلى اللاعب أن لا يستغرق وقته في اللّعب بحيث يتخلّى عن مسؤوليّاته العائليّة والمعيشيّة والإسلاميّة.

حكم اللّحوم في أوروبا:

هل يجوز أكل اللّحوم والطيور المذبوحة في أوروبا؟

ــــ لا يجوز أكل الذبائح، طيوراً كانت أو غيرها، إذا لم نتيقّن من كونها مذكّاة، ويجوز الأكل من ذبائح اليهود المتديّنين؛ لأنّ الظاهر أنّ شروط الذبح عندهم هي نفسها عندنا، ولاسيّما ذكر اسم الله على الذبيحة، فإذا ثبت ذلك جاز الأكل منها.

وشم أسماء آل البيت (عليهم السلام):

هل يجوز القيام بوشم أسماء آل البيت (عليهم السلام) واسم الله، والأمور الدينية الأخرى؟

ــــ لا نشجّع على هذه العادات غير الحضاريّة، ونريد أن يكون الوشم في العقل والعمل، لا مجرّد رسم على الجسد، فإنّه الأوفق بالخطّ  الإسلامي الحضاري، كما أنّ الوشم إذا أوجب هتكاً للحرمة ـــ كما لو كان على بعض المواضع التي هي مظنّة إصابة النجاسة عادةً ـــ فإنّه يحرم شرعاً.

قشر السمك:

لماذا أكل السمك الذي هو بدون قشر مثل الحوت، محرّم؟ لو سمحتم، أُريد أن تكون الإجابة مقرونة بآية من القرآن الكريم وحديث نبوي شريف؟

ــــ ما دلَّ على ذلك هو السُنّة الشريفة، حيث ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): "كُل من السمك ما له قشر ولا تأكل ما ليس له قشر"(1)، ولكن لعدم تماميّة الأدلّة من جهة وجود إطلاق قرآني، فالقول بحرمة ما ليس له قشر هو على نحو الاحتياط الوجوبي.

لعن المسلم:

ما رأي سماحتكم في مقولة: (لعن الله الشاكّ في آل بيت رسول الله "صلّى الله عليه وآله وسلّم")؟ ما المقصود بالشاكّ؟ وما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في الشخص حتّى يكون شاكّاً؟ وهل فعلاً تجوز اللّعنة على الشاكّ مع العلم بأنّه لا تجوز اللّعنة على مسلم؟

ــــ لا يجوز لعن المسلم ولا أساس لهذه المقولة، والشكّ غير الجحود.

اختيار اللّون الأسود:

هل إنّ ارتداء اللّون الأسود دليل على التديّن للمرأة المسلمة أو شرط للالتزام بالدّين الإسلامي؟

ــــ ليس ذلك دليلاً ولا شرطاً للحجاب، ولا يشترط في الحجاب سواد اللّون.

تعليم الأبناء الأحكام الشرعية:

في أيِّ سنّ يجب على الأب والأم تعليم أولادهما الأحكام الشرعية والعبادات؟

ــــ يجب تعليمه الأحكام التي يبتلى بها قبل سنّ البلوغ، بحيث يكون عند بلوغه يعلم أحكامه التي يمكن ان يبتلى بها.

التحاور بين الجنسين:

هل الدخول إلى الدردشة (التّشات) حرام؟

ــــ لا يحرم ذلك، إلاّ مع تعدّي الحدود الشرعية من الكلام المثير بين الجنسين، والأفضل اجتنابه في كلّ حال.

مشاهدة برامج مخلّة بالأخلاق:

ما حكم مشاهدة بعض البرامج الثقافية التي تناقش بعض الأغاني التي تثير الشذوذ الجنسي؟

ــــ لا يجوز الاستماع إلى الأغاني المثيرة للغريزة الجنسية.

هل يجوز للمرأة مشاهدة فيلم فيه لقطات مخلّة بالآداب؟

ــــ إذا كانت مخلّة بالآداب وتوجب فقدان المناعة الأخلاقية، فلا يجوز ذلك.

دراسة الموسيقى:

هل هناك إشكال شرعي في دراسة مادّة الموسيقى كمادّة اختيارية، علماً بأنّنا مضطرون لدراستها لعدم توافر مواد اختيارية بديلة مناسبة لنا؟

ــــ لا يحرم ذلك إذا كان الغرض منه العزف بما يجوز.

 

 

حكم التدخين:

إنّي أُدخِّن السجائر ولا أستطيع تركها، مع العلم أنّي أُدخّن في الأسبوع بين 5 و7 سجائر، فهل هذا حرام؟

ــــ التدخين محرَّم مهما كان قليلاً، ومَنْ يدخّن بهذه القلّة حريّ به تركها بتاتاً ما دام ليس مدمناً.

خروج المعتدّة:

هل يجوز للمرأة المعتدّة لوفاة زوجها أن تخرج للاحتفالات التي تقام بمناسبات ولادة الأئمّة الأطهار، مع العلم أنّ الاحتفالات تقام دائماً في اللّيل؟

ــــ لا يحرم ذلك، والأفضل اجتنابه، فيُكْرَه لها الخروج من بيتها لغير ضرورة.

منتديات الإنترنت وكشف الأسرار:

أنشأ أحد الأشخاص موقعاً على الإنترنت بهدف التنفيس عمّا يدور في خلد الأعضاء من مشاكل أو ما يتعرّضون له في حياتهم اليومية، ولكنّ البعض بدأ يكتب فيه مواقف ربّما تسيء إلى البعض الآخر، فما هو رأي سماحتكم في هذا الموضوع؟

ــــ مع اشتمال الأمر على ذكر عيوب الآخرين وما يسيء إليهم ويكرهون إعلانه، هو من الغيبة المحرّمة.

حكم الوشم:

ما هو حكم وضع التاتو (الوشم)؟

ــــ ليس محرّماً ما لم يكن بالشعارات الباطلة، والأفضل اجتنابه على كلّ حال.

 

وضع الماكياج:

ما حكم وضع الماكياج الذي لا يلفت النظر فوق العين، وكذلك في وضعه على الوجه لجعله نضراً بعد التعب؟

ــــ يجوز وضع الكحل في داخل العين وفوقها ما دام ليس مثيراً ولا صارخاً، مع الالتفات إلى أنّه يجب إزالته عند الوضوء أو الغسل الواجب إنْ كان سميكاً.

التلاعب بعدّاد الماء والكهرباء:

هل يجوز لنا التلاعب بعدّاد الكهرباء أو الماء من أجل تخفيض أجور الفاتورة؟

ــــ لا يجوز ذلك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



(1) غرر الحكم ودرر الكلم.

(2) ن.م.

(3) ق. 37.

(4) بحار الأنوار: ج1، ص137.

(1) بحار الأنوار: ج1، ص99.

(*) في غير محاضرة وإجابة عن سؤال أوضح سماحة السيّد أنّ القلب هو منطقة الكيان الداخلي للإنسان وليس العضو البيولوجيّ.

(2) غرر الحكم والدرر الكلم.

(1) بحار الأنوار: ج1، ص94.

(2) نهج البلاغة: قصار الحكم 145.

(3) أصول الكافي: ج1، ص26.

(4) ن.م. ص26.

(1) الندوة: ج17، ص305.

(1) التوبة: 34.

(1) وسائل الشيعة: ج27، ح33382، ص124.

(2) الفاتحة: الآية 5.

(1) الحج: 46.

(1) التوبة: الآية34.

(1) من الذين اعترضوا على تفسير الآية على الهوى الأمويّ واحتجّوا على تأويلها بخلاف المراد منها (أبو الدرداء) الذي ترك الشام بعد ذلك لهذا السبب. (المعد).

 

 

(1) الحديد: الآية 7.

(2) النور: الآية 33.

(1) أمالي الطوسي: ج2، ص256 ـ 257.

(2) آل عمران: الآية 21.

(3) التوبة: الآية 35.

(1) الأنعام: الآية 112.

(2) البقرة: الآية 30.

(3) الكهف: الآية 50.

(1) الأعراف: الآية 11.

(2) ص: الآية 71.

(3) الحجر: الآية 28.

(4) السجدة: الآية 7.

(5) الأعراف: الآية 11.

(6) البقرة: الآية 30.

(1) يوسف: الآية 100.

(2) يوسف: الآية 4.

(1) الأعراف: الآية 11.

(2) الأعراف: الآية 12.

(1) أصول الكافي: ج1، ص57، ح15.

(2) الأنبياء: الآية 23.

(1) الأعراف: الآية 13.

(2) الأعراف: الآية 14.

(3) الأعراف: الآية 15.

(1) الإنسان: الآية 3.

(2) البلد: الآية 10.

(3) الأعراف: الآية 16.

(4) الأعراف: الآية 17.

(5) النساء: الآية 117 ـ 120.

(1) الإسراء: الآية 70.

(2) الأعراف: الآية 14.

(1) الأنفال: الآية 42.

(2) الحجر: الآية 42.

(3) النحل: الآية 98 ـ 100.

(1) الزلزلة: الآية 7 ـ 8.

(2) إبراهيم: الآية 22.

(3) طه: الآية 117.

(4) يوسف: الآية 5.

(5) يس: الآية 60 ـ 62.

(6) فاطر: الآية 6.

(7) الحشر: الآية 16.

(8) إبراهيم: الآية 22.

(9) الحجر: الآية 42.

(1) النساء: 119 ـ 120.

(1) البقرة: الآية 268.

(2) الأعراف: الآية 18.

(3) البقرة: 35.

(4) طه: الآية 117 ـ 119.

(5) الرعد: الآية 35.

(1) الأعراف: الآية 19.

(1) الأعراف: الآية 20.

(2) نهج البلاغة: الحكمة 420.

(3) الأعراف: الآية 21.

(1) الأعراف: الآية 22 ـ 23.

(1) البقرة: الآية 35.

(2) طه: الآية 117.

(3) الأعراف: الآية 20.

(1) الأعراف: الآية 21.

(1) الأعراف: الآية 22.

(2) الأعراف: الآية 23.

(3) طه: الآية 121.

(4) طه: الآية 122.

(5) البقرة: الآية 30.

(1) الأعراف: الآية 24.

(2) الأعراف: الآية 25.

(3) طه: الآية 123.

(1) طه: الآية 124 ـ 126.

(2) طه: الآية 121.

(3) الجمعة: الآية 2.

(4) الأحزاب: الآية 45 ـ 46.

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/318.

(1) الأعراف: الآية 23.

(2) طه: الآية 115.

(3) النور: الآية 2.

(4) المائدة: الآية 38.

(1) آل عمران: الآية 195.

(2) الأحزاب: الآية 35.

(3) التحريم: الآية 10.

(4) التحريم: الآية 12.

(1) البقرة: الآية 31.

(2) طه: الآية 115.

(1) المائدة: الآية 5.

(2) البقرة: الآية 173.

(1) الأعراف: الآية 22.

(1) الأنفال: الآية 60.

(1) الأعراف: الآية 26.

(1) الكافي: ج2، ص55، ح2.

(2) الأعراف: الآية 26.

(1) السجدة: الآية 13.

(2) الأنعام: الآية 112.

(3) الأعراف: الآية 27.

(1) يوسف: الآية 111.

(1) الحجر: الآية 42.

(2) الأعراف: الآية 27.

(1) الإنسان: الآية 3.

(2) البلد: الآية 10.

(3) الكهف: الآية 29.

(4) الأعراف: الآية 28.

(1) المائدة: الآية 104.

(2) الزخرف: الآية 24.

(3) الأعراف: الآية 28.

(1) الأعراف: الآية 29.

(2) النحل: الآية 90.

(1) الأعراف: الآية 29.

(2) الأعراف: الآية 30.

(1) الذاريات: الآية 56.

(2) البيّنة: الآية 5.

(3) الكافي: ج2، ص147.

(4) معاني الأخبار: 367/1.

(1) البحار: ج68، ص360.

(2) النساء: الآية 36.

(3) الأعراف: الآية 59.

(1) يس: الآية 60.

(2) الأعراف: الآية 27.

(3) الأعراف: الآية 16 ـ 17.

(1) البقرة: الآية 168.

(2) طه: الآية 117.

(3) البقرة: الآية 36.

(4) الإسراء: الآية 53.

(5) فاطر: الآية 5.

(1) فاطر: الآية 6.

(2) يوف: الآية 4.

(3) يوسف: الآية 5.

(1) يس: الآية 61.

(2) آل عمران: الآية 26.

(3) النحل: الآية 53.

(4) النحل: الآية 18.

(1) يس: الآية 62.

(2) يوسف: الآية 111.

(3) البقرة: الآية 134.

(1) يس: الآية 64.

(1) النساء: الآية 117.

(2) النساء: الآية 118.

(3) الأعراف: الآية 16 ـ 17.

(1) النساء: الآية 119.

(2) يونس: الآية 59.

(3) النساء: الآية 119.

(1) الروم: الآية 30.

(2) البحار: ج60، ص219.

(3) نفسه. ص226.

(4) النساء: الآية 119.

(5) النساء: الآية 120.

(6) النساء: الآية 121.

(1) البقرة: 267 ـ 268.

(2) يس: الآية 47.

(3) البقرة: الآية 268.

(1) البقرة: الآية 261.

(1) وسائل الشيعة: ج64، ص329.

(2) الإسراء: الآية 62 ـ 65.

(1) الحشر: الآية 11 ـ 17.

(2) الزلزلة: 7 ـ 8.

(3) فاطر: الآية 6.

(1) إبراهيم: الآية 22.

(1) النمل: الآية 20 ـ 24.

(2) الأنعام: الآية 78.

(3) النمل: الآية 25 ـ 26.

(1) البحار: ج58، ص236.

(2) الروم: الآية 30.

(3) العنكبوت: الآية 38.

(4) الفجر: 6 ـ 12.

(1) العنكبوت: الآية 38 ـ 40.

(2) الأعراف: الآية 16 ـ 17.

(1) الأنعام: الآية 42 ـ 69.

(2) هذا المعنى مستفاد اليوم على الصعيد السياسي حيث يترك المحتجّون قاعة الاجتماع أو المؤتمرات إذا تحدّث أحد المتحدّثين بما يسيء إليهم فيقاطعون الجلسة. (المعدّ).

(3) النساء: 140.

(1) الأعراف: الآية 175 ـ 176.

(1) النساء: الآية 28.

(1) آل عمران: الآية 172 ـ 175.

(2) البقرة: الآية 249.

(1) النساء: الآية 76.

(1) آل عمران: الآية 140.

(1) النساء: الآية 60.

(2) النحل: 36.

(1) النساء: الآية 60 ـ 65.

(2) النساء: الآية 59.

(1) المائدة: الآية 90 ـ 91.

(2) البحار: ج47، ص39.

(1) البقرة: الآية 219.

(2) النساء: الآية 43.

(3) المائدة: الآية 93.

(4) مسند أحمد: 8266.

(1) البحار: ج2، ص198 ـ 199.

(2) وسائل الشيعة: ج17، ح4.

(3) تفسير العياشي: ج1، ص341.

(1) البحار: ج76، ص664.

(2) جامع الأخبار: ص179.

(1) البقرة: الآية 219.

(2) النساء: الآية 43.

(1) المائدة: الآية 91.

(1) البقرة: الآية 168 ـ 169.

(2) مجمع البيان: ج4، ص299.

(3) البحار: ج71، ص343.

(1) فاطر: الآية 6.

(1) البقرة: الآية 13.

(2) الحج: الآية 71.

(3) البقرة: الآية 113.

(1) البقرة: الآية 208 ـ 212.

(1) آل عمران: الآية 103.

(2) الأنفال: الآية 61.

(3) محمّد: الآية 35.

(1) الإسراء: الآية 53.

(1) فاطر: الآية 6.

(1) المجادلة: الآية 14 ـ 19.

(1) المجادلة: الآية 22.

(1) الحجرات: الآية 14.

(1) المائدة: الآية 55 ـ 56.

(1) القمر: الآية 49.

(2) الطلاق: الآية 3.

(3) الرعد: الآية 11.

(4) الأنفال: الآية 53.

(5) الروم: الآية 41.

(6) النحل: الآية 112.

(7) التوبة: الآية 40.

(1) آل عمران: الآية 35 ـ 36.

(1) آل عمران: الآية 37.

(1) الناس: الآية 1ـ 6.

(2) المؤمنون: الآية 97 ـ  98.

(3) النحل: الآية 98 ـ 100.

(1) الأعراف: الآية 199 ـ 202.

(1) النساء: الآية 36 ـ 38.

(1) النساء: الآية 36.

(1) البقرة: الآية 268.

(1) الأنعام: الآية 162 ـ 163.

(2) الأنعام: الآية 112 ـ 113.

(1) البقرة: الآية 258.

(1) المائدة: الآية 54.

(1) الإنسان: الآية 8 ـ 9.

(2) آل عمران: 134 ـ 135.

(1) الحديد: الآية 25.

(2) التوبة: الآية 111.

(1) البقرة: الآية 165.

(2) آل عمران: الآية 31.

(3) النحل: الآية 53.

(4) المنافقون: الآية 8.

(5) آل عمران: الآية 139.

(1) المائدة: الآية 54.

(1) المؤمنون: الآية 51 ـ 52.

(1) النحل: الآية 36.

(2) الأعراف: الآية 59.

(1) الأعراف: الآية 65.

(2) الأعراف: الآية 73.

(3) الأعراف: الآية 85.

(4) العنكبوت: الآية 16.

(5) الأنبياء: الآية 25.

(6) البقرة: الآية 136.

(1) الحج: الآية 40.

(2) الأنفال: الآية 17.

(1) آل عمران: الآية 19.

(2) لقمان: الآية 22.

(1) آل عمران: الآية 83.

(2) نهج البلاغة. قصار الحكم 125.

(1) آل عمران: الآية 19.

(1) آل عمران: الآية 8.

(2) آل عمران: الآية 19.

(1) النحل: الآية 111.

(2) آل عمران: الآية 20.

(1) آل عمران: الآية 20.

(1) البقرة: الآية 127.

(2) الحج: الآية 26.

(1) البقرة: الآية 128 ـ 130.

(2) النساء: الآية 69.

(3) البقرة: الآية 131.

(4) الأنعام: الآية 77.

(5) الأنبياء: الآية 59.

(6) الأنبياء: الآية 63.

(1) مريم: الآية 44 ـ 48.

(1) البقرة: الآية 131.

(2) الزمر: الآية 12.

(3) الأنعام: الآية 14.

(4) آل عمران: الآية 20.

(5) يونس: الآية 72.

(6) الأنعام: الآية 163.

(7) فصّلت: الآية 33.

(8) آل عمران: الآية 64.

(9) الأنعام: الآية 162 ـ 163.

(1) البقرة: الآية 132.

(2) البقرة: الآية 133.

(3) البقرة: الآية 258.

(4) الأنبياء: الآية 69.

(5) النحل: الآية 120 ـ 122.

(1) الحج: الآية 78.

(2) النساء: الآية 125.

(1) البقرة: الآية 111.

(2) الأنبياء: الآية 24.

(3) الأنبياء: الآية 21 ـ 22.

(4) النساء: الآية 173.

(5) النمل: الآية 64.

(6) المؤمنون: الآية 117.

(7) آل عمران: الآية 66.

(1) القصص: الآية 75.

(2) الأنعام: الآية 80 ـ 83.

(3) المؤمنون: الآية 91.

(1) البقرة: الآية 111.

(1) القمر: الآية 49.

(2) الأحزاب: الآية 62.

(3) البقرة: الآية 190.

(4) النساء: الآية 75.

(5) الأنفال: الآية 58.

(1) البقرة: الآية 193.

(2) الحجرات: الآية 9.

(3) الممتحنة: الآية 8 ـ 9.

(4) البقرة: الآية 256.

(1) الطلاق: الآية 1.

(2) البقرة: الآية 229.

(3) النازعات: الآية 37 ـ 39.

(1) النازعات: الآية 40.

(2) الكافي: ج2، ص70، ح10.

(1) الشمس: الآية 11 ـ 14.

(2) نهج البلاغة: 2/207.

(3) بحار الأنوار: ج97، ص96.

(4) الشمس: الآية 14 ـ 15.

(1) الفجر: الآية 6 ـ 9.

(2) الشعراء: الآية 149.

(3) الفجر: الآية 10.

(4) طه: الآية 71.

(5) الفجر: الآية 11 ـ 12.

(1) البقرة: الآية 11 ـ 12.

(1) الفجر: الآية 13 ـ 14.

(2) طه: الآية 81.

(3) ص: الآية 55 ـ 56.

(4) غرر الحكم ودرر الكلم: 5784.

(1) النحل: الآية 36.

(2) النساء: الآية 65.

(1) النحل: الآية 36.

(2) الزمر: الآية 17 ـ 18.

(1) البقرة: الآية 256.

(1) الزمر: الآية 17.

(1) البقرة: الآية 257.

(1) المائدة: 15 ـ 16.

(2) إبراهيم: الآية 1.

(3) إبراهيم: الآية 5.

(4) الأحزاب: الآية 43.

(5) الحديد: الآية 9.

(6) الطلاق: الآية 10 ـ 11.

(7) المائدة: الآية 44.

(1) المائدة: الآية 46.

(2) النساء: الآية 51 ـ 52.

(1) نهج البلاغة: خ192.

(2) نفسه: خ226.

(3) نفسه: خ201.

(1) النساء: الآية 60.

(1) الأحزاب: الآية 36.

(2) النساء: الآية 60.

(3) مجمع البيان: ج2، ص66.

(1) النساء: الآية 61.

(2) النساء: الآية 62 ـ 63.

(3) الأحزاب: الآية 45 ـ 46.

(1) المائدة: الآية 92.

(2) آل عمران: الآية 31.

(3) النساء: الآية 64.

(4) الشورى: الآية 25.

(1) المائدة: الآية 45.

(2) المائدة: الآية 47.

(1) النساء: الآية 136 ـ 137.

(1) الحجرات: الآية 15.

(1) الحجر: الآية 99.

(1) النجم: الآية 28.

(2) يونس: الآية 36.

(3) الأنعام: الآية 116.

(1) البقرة: الآية 170.

(2) المائدة: الآية 104.

(1) هود: الآية 62.

(2) هود: الآية 87.

(3) إبراهيم: الآية 10.

(1) الأنعام: الآية 149.

(1) الإسراء: الآية 95.

(2) إبراهيم: الآية 10 ـ 11.

(3) الأنبياء: الآية 23.

(4) الكهف: الآية 110.

(1) الإسراء: الآية 90 ـ 93.

(2) النمل: الآية 67.

(3) المؤمنون: الآية 34 ـ 37.

(4) سبأ: الآية 7 ـ 8.

(1) يس: الآية 78 ـ 83.

(1) الحجّ: الآية 5 ـ 7.

(2) الزّمر: الآية 3.

(3) الأنعام: الآية 19.

(4) مريم: الآية 81.

(5) يس: الآية 74.

(1) الأنبياء: الآية 22.

(2) الإسراء: الآية 42.

(3) المؤمنون: الآية 91.

(4) البقرة: الآية 6 ـ 7.

(5) ص: الآية 4 ـ 5.

(1) النمل: الآية 14.

(1) الكافي: ج2، ص386.

(2) وسائل الشيعة: ج28، ص356.

(3) البرهان: ج1، ص535.

(4) سبأ: الآية 24.

(5) الكافي: ج2، ص387.

(1) البقرة: الآية 14.

(2) البحار: ج57، ص157.

(3) التوبة: الآية 6.

(1) الحجرات: الآية 14.

(1) الجاثية: الآية 24.

(2) البقرة: الآية 6.

(3) النمل: الآية 14.

(4) البقرة: الآية 89.

(1) النمل: الآية 40.

(2) إبراهيم: الآية 7.

(3) البقرة: الآية 152.

(4) النحل: الآية 53.

(5) النحل: الآية 18.

(6) البقرة: الآية 84 ـ 85.

(1) البقرة: الآية 85.

(2) الممتحنة: الآية 4.

(3) إبراهيم: الآية 22.

(1) العنكبوت: الآية 25.

(2) الكافي: ج2، ص389 ـ 392.

(3) آل عمران: الآية 64.

(4) العنكبوت: الآية 46.

(1) البيّنة: الآية 1.

(2) البقرة: الآية 256.

(1) النحل: الآية 78.

(2) الشورى: الآية 52.

(3) العلق: الآية 5.

(4) النحل: الآية 78.

(5) يوسف: الآية 53.

(1) الأعراف: الآية 16 ـ 17.

(2) لا يخفى على القارئ الكريم أنّ القرآن الكريم ذكر ثلاثة أنواع للنفس: (الأمّارة بالسوء) وهي أسوأها و(اللّوامة) وهي نفسٌ خيّرة تلوم ذاتها إذا أخطأت فتتوب وتثوب وتأوب، و(نفس مطمئنة) هي نفوس الأولياء الصالحين، ولذلك وصفت النفس الأولى بالأمّارة بالسوء الآمرة به والدافعة إليه والمغرية به بهذا الوصف لأنّها نفس شيطانية تستمع إلى ما يأمرها الشيطان به، والله العالِم. (المعدّ).

(3) الحجر: الآية 42.

(4) الواضح أنّ سلطانه على أوليائه، كما يقول تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل : 100]، وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران : 175]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ : 21]. وواضح أيضاً من الروايات أنّ المستثنى من سلطان الشيطان من لا يحكم هواه ويطيعه، ففي (نهج البلاغة) عن عليّ (عليه السلام) "إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى" (الخطبة 50). (المعدّ)

 

 

(1) الأنفال: الآية 42.

(2) الإنسان: الآية 3.

(3) البلد: الآية 10.

(4) التوحيد. ص362.

(1) الإسراء: الآية 80.

(2) عبس: الآية 21.

(3) آل عمران: الآية 96.

(1) الحشر: الآية 7.

(2) آل عمران: الآية 31.

(3) النساء: الآية 59.

(4) التغابن: الآية 12.

(5) الصافات: الآية 83.

(1) المطفّفين: الآية 18 ـ 21.

(2) المطففين: الآية 27 ـ 28.

(3) يقول تعالى في التعريف بالمقرّبين {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ*أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة : 10 ــ 11]. (المعد).

(4) التوبة: الآية 84.

(1) الكافي: ج2، ص358.

(2) الحجّ: الآية 61.

(1) الأحزاب: الآية 25.

(2) المائدة: الآية 92.

(3) الحشر: الآية 7.

(1) الحاقة: الآية 33.

(2) البقرة: الآية 255.

(3) الفلق: الآية 3 ـ 4.

(4) البحار. ج58، ص169.

(1) المائدة: الآية 12.

(2) البقرة: الآية 40.

(3) المطفّفين: الآية 29.

(4) المطفّفين: الآية 7.

(5) المطفّفين: الآية 34.

(6) الغاشية: الآية 17 ـ 18.

(1) الإسراء: الآية 71.

(2) الآيات الدالّة على أنّ (الإمام) المراد به (الكتاب) هي قوله تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [الحجر : 79]، وقوله عزّ وجلّ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس : 12]. (المعدّ).

(3) مجمع الزوائد. ج7، ص152.

 

 

 

(1) الطلاق: الآية 4.

(2) النساء: الآية 34.

(1) تهذيب الأحكام. ج7، ص371.

(2) الطلاق: الآية 6.

(3) المائدة: الآية 28.

(4) البقرة: الآية 31.

(1) يوسف: الآية 25.

(2) المؤمنون: الآية 82.

(1) البقرة: الآية 102.

(2) الحجر: الآية 85.

(3) تعبير القرآن بــ (الجميل) كصفة للمواقف الصعبة، جميل ومعبّر ودقيق فــ (صبر جميل) و(هجر جميل) و(سراح جميل) و(صفح جميل). فهناك صبر عادي أو اضطراري، وهجر عادي أو دارج فيه جفاء، وهناك سراح غير جميل لا يخلو من إبعاد ترافقه قسوة، وهناك صفح فيه منّة، ولذلك كانت دعوة القرآن إلى الجميل من ذلك كلّه، وهو ما أوضحه سماحته بــ (الإنساني) الذي يشعر بالرأفة والرحمة. (المعدّ).

(1) النحل: الآية 28.

(2) الحديد: الآية 25.

(1) الروم: الآية 21.

(2) الأعراف: الآية 155.

(1) الفتنة بمعنى الاختبار والامتحان وردت مراراً في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت : 2 ــ 3].

(2) فصّلت: الآية 11.

(3) الأحزاب: الآية 72.

 

 

(1) في تفسير البرهان عن ابن شهر أشوب من تفسير أبي يوسف بن يعقوب بن سفيان: حدّثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ} قال أمر الصحابة أن يخافوا الله، ثمّ قال: {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: الآية 119] يعني محمّد وأهل بيته (عليهم السلام). "(المعدّ).

 

(2) البقرة: الآية 256.

(1) النساء: الآية 34.

(2) يوسف: الآية 17.

(1) المائدة: الآية 73.

(2) آل عمران: الآية 7.

(3) الإسراء: الآية 60.

(4) الدخان: الآية 43 ـ 44.

(1) التحريم: الآية 11.

(1) الصافات: الآية 102.

(2) يوسف: الآية 5.

(3) غافر: الآية 11.

(4) يس: الآية 33.

(1) الأنعام: الآية 103.

(2) الأعراف: الآية 43.

(3) الحجرات: الآية 11.

(1) الكافي: ج2، ص362.

(2) فاطر: الآية 6.

(3) الإسراء: الآية 111.

(1) يس: الآية 52.

(2) المزّمِّل: الآية 5.

(1) لا يخفى أنّ (تفسير الميزان) للعلامة الطباطبائي (رحمه الله) من التفاسير المعتبرة أيضاً في هذا المضمار لاعتماده على تفسير القرآن بالقرآن، واعتماده البحث الروائي أيضاً فضلاً عن بحوثه الفلسفية والكلامية. (المعدّ).

(2) آل عمران: الآية 55.

(3) الأعراف: الآية 85.

(4) الأعراف: الآية 73.

(5) الأعراف: الآية 65.

(1) المسد: الآية 1 ـ 5.

(2) طه: الآية 41.

(3) الأحزاب: الآية 29.

(4) الزخرف: الآية 71.

(5) السجدة: الآية 17.

(1) عبس: الآية 34 ـ 36.

(2) الأعراف: الآية 20.

(3) الأنعام: الآية 76 77.

 

(1) الأنعام: الآية 77.

(2) البقرة: الآية 260.

(1) الأنبياء: الآية 30.

(2) البقرة: الآية 111.

(1) فصّلت: الآية 46.

(2) الرحمن: الآية 1 ـ 3.

(3) القمر: الآية 1.

(1) الحاقة: الآية 17.

(2) مريم: الآية 62.

(3) الحجّ: الآية 47.

(1) وسائل الشيعة. ج1، ص32.

(2) الكافي. ج2، ص399.

(3) سبأ: الآية 24.

(4) الزّمر: الآية 33.

(5) بحار الأنوار: ج1، ص97.

(1) آل عمران: الآية 91.

(2) وسائل الشيعة. ج20، ص82.

(3) الإسراء: الآية 70.

(1) عيون أخبار الرضا. ج2، ص134.

(2) نفسه.

(3) النساء: الآية 123.

(1) النبأ: الآية 23.

(2) النساء: الآية 48.

(3) الجمعة: الآية 2.

(1) العصمة من الزلاّت كلّها والفواحش كلّها، والطهارة من الذنوب كلّها، والبراءة من العيوب كلّها ملكة ذاتية وتأييد ربّاني.

عن حسين الأشقر، قال: قلت لهشام بن الحكم: ما معنى قولكم (إنّ الإمام لا يكون إلاّ معصوماً؟) فقال: سألت أبا عبد الله (عليهم السلام) عن ذلك فقال:

"المعصوم هو الممتنع بالله من جميع المحارم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران : 101]، البحار. ج25، ص192.

وعن عليّ بن الحسين (عليه السلام)، قال: "الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، فلذلك لا يكون إلاّ منصوصاً، فقيل له: يا بن رسول الله، فما معنى المعصوم؟ فقال: هو المعتصم بحبل الله، حبل الله هو القرآن، لا يفترقان إلى يوم القيامة، والإمام يهدي إلى القرآن، والقرآن يهدي إلى الإمام، وذلك قول الله عزّ وجلّ {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء : 9]. (ن.م) (المعدّ).

 

 

(1) كمن يتصدّق علانية ليشجّع الآخرين المحجمين عن العطاء على العطاء، فصدقة السرّ خيرٌ من صدقة العلن، لكن في هذا المورد تكون صدقة العلن أفضل، والأعمال بالنيّات. (المعدّ).

(2) الزخرف: الآية 23.

(3) المائدة: الآية 104.

 

(1) يقصد سماحته المقطع التالي من الدعاء المذكور:

 "أَللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَغْفِرُكَ لِكُلِّ نَذْر نَذَرْتُهُ، وَلِكُلِّ وَعْد وَعَدْتُهُ، وَلِكُلِّ عَهْد عاهَدْتُهُ، ثُمَّ لَمْ أَفِ لَكَ بِهِ.

وَأَسْأَلُكَ فِي مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدِي، فَأَيُّما عَبْد مِنْ عَبِيدِكَ، أَوْ أَمَة مِنْ إمآئِكَ، كَانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظْلَمَةٌ ظَلَمْتُها إيَّاهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي عِرْضِهِ، أَوْ فِي مالِهِ، أَوْ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، أَوْ غَيْبَةٌ اغْتَبْتَهُ بِها، أَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْل أَوْ هَوَىً، أَوْ أَنَفَة، أَوْ حَمِيَّة، أَوْ رِيآء، أَوْ عَصَبِيَّة غائِباً كانَ أَوْ شاهِداً، وَحَيّاً كانَ أَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدِي، وَضاقَ وُسْعِي عَنْ رَدِّها إلَيْهِ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْهُ. فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِ، وَهِيَ مُسْتَجِيبَةٌ بِمَشِيَّتِهِ، وَمُسْرِعَةٌ إلى إرادَتِهِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأَنْ تُرْضِيَهُ عَنِّي بِما شِئْتَ، وَتَهَبَ لِي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً، إنَّهُ لا تَنْقُصُكَ الْمَغْفِرَةُ، وَلا تَضُرُّكَ المَوْهِبَةُ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ". (من ملحقات الصحيفة السجّادية).

 

(2) البحار: ج6، ص287.

(3) نفسه: ص135.

(4) نهج البلاغة: الحكمة 95.

(5) آل عمران: الآية 68.

(1) الأنعام: الآية 164.

(2) نهج البلاغة. خطبة 7.

(1) الأحزاب: الآية 59.

(1) في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام):

"مَنْ لم يبال ما قال وما قيل فهو شرك شيطان، ومن لم يُبال أن يراه الناس مسيئاً فهو شرك شيطان. ومن اغتاب أخاه المؤمن من غير ترة بينهما فهو شرك شيطان، ومن شغف بمحبّة الحرام وشهوة الزنا فهو شرك شيطان" (البحار. ج37. ص356).

(2) البحار: ج68. ص137.

(3) المحجّة البيضاء. ص274.

(4) عيون أخبار الرضا. ج2. ص134.

(5) النساء: الآية 123.

(1) نهج البلاغة: الحكمة 95.

(2) آل عمران: الآية 68.

(3) هود: الآية 45 ـ 46.

(4) كنز العمّال: ج6. ص157.

(5) البحار: ج3. ص258.

(1) نهج البلاغة: خطبة 104.

(1) الحشر: الآية 16.

(2) الحجر: الآية 34 ـ 35.

(1) بحار الأنوار. ج5. ص190.

(1) الإسراء: الآية 65.

(1) فاطر: الآية 6.

(2) الحشر: الآية 16.

(3) الكافي. ج2، ص126.

(1) المائدة: الآية 3.

(2) الكافي. ج1، ص53.

(1) الحشر: الآية 7.

(2) النور: الآية 2.

(3) الأنبياء: الآية 23.

(1) في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "مَن صلّى ركعتين ولم يحدّث فيهما نفسه بشيء من أمور الدنيا غفر الله له ذنوبه"، (البحار. ج84، ص249).

(2) المائدة: الآية 3.

 

(1) الأنبياء: الآية 23.

(2) الشورى: الآية 27.

(3) الأنعام: الآية 162ـ 163.

(1) البيّنة: الآية 1.

(2) المائدة: الآية 17.

(3) المائدة: الآية 73.

(4) الإخلاص: الآية 1 ـ 4.

(5) البقرة: الآية 155.

(6) الروم: الآية 41.

(1) الأنفال: الآية 53.

(2) النحل: الآية 112.

(1) الزمر: الآية 10.

(2) البقرة: الآية 155 ـ 157.

(1) الأنبياء: الآية 23.

(2) الذاريات: الآية 56.

(3) بحار الأنوار: ج100، ص8.

(4) بحار الأنوار: ج58، ص152.

(5) نفسه: ص158.

(1) بحار الأنوار: ج36، ص370.

(2) نفسه: ج48، ص128.

(3) هود: الآية 113.

(1) آل عمران: الآية 33.

(2) ذخائر العقبى: ص63.

(1) بحار الأنوار: ج5، ص17.

(2) الإنسان: الآية 3.

(1) المؤمنون: الآية 100.

(1) الكهف: الآية 110.

(2) الفرقان: الآية 7.

(3) الإسراء: الآية 93.

(1) فصّلت: الآية 31.

(2) بحار الأنوار. ج98، ص25.

(1) أصول الكافي: ج2، ص599.

(2) بحار الأنوار: ج45، ص7.

(3) الملهوف على قتلى الطفوف. ص155.

(1) بحار الأنوار: ج45، ص158.

(1) من لا يحضره الفقيه: ج2، ص69.

(2) البقرة: الآية 273.

(3) بحار الأنوار: ج69، ص55.

(4) المحاسن: ج1، ص218.

(1) البقرة: الآية 229.

(2) النساء: الآية 19.

(1) النساء: الآية 34.

(2) في الحديث المروي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "من لطم خد امرئ مسلم أو وجهه بدَّد الله عظامه يوم القيامة وحشر مغلولاً حتى يدخل جهنّم إلاّ أن يتوب"، (وسائل الشيعة: ج19، ص12).

 

(1) البقرة: الآية 219.

(2) الكافي: ج1، ص54.

(1) ورد في (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ العاقل يتّعظّ بالآداب، والبهائم لا تتّعظ إلاّ بالضرب"، (الكتاب/31).

(2) بحار الأنوار: ج15، ص79.

(1) البقرة: الآية 195.

(1) كنز العمّال: ج5، ص103.

(1) الإسراء: الآية 33.

(1) الهداية: ص 307.