من عرفان القرآن

سماحة آية الله العظمى

السيّد محمّد حسين فضل الله

 

 

حقوق الطبع محفوظة للناشر

الطبعة الثانية

1419 هــ ـــ 1998م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدّمة الطبعة الثانية

"من عرفان القرآن" هذا الكتاب الذي نفذت نسخه من الأسواق سريعاً، لِما لاقى من رواج، وهو قد شكّل ركيزة أساسية في تشكيل الوعي للحقيقة القرآنية، هذه الحقيقة تحمل الحركيّة التي تدفع بالإنسان المسلم ليعرف عمق التوجّه القرآني الذي يأخذ به نحو المدى المفتوح على النور، فينفتح على وحي الله وعظمته، وعندها يعيش إيمانه التزاماً ومساراً وخطّاً للحياة تكمن فيه الاستقامة في الأخلاق، وفاعلية الحركة في مواجهة التحدّيات التي دأبت على استلاب هُويّة المسلم، ومصادرة حاضره وتضييع مستقبله..

بالقرآن نتحصّن من كلّ الاختراقات النفسيّة والثقافية والاجتماعية، ونقي أنفسنا من مخاطر الانزلاق إلى أودية الانحراف والضلال، ومن هنا كان هذا الكتاب واحداً من معالم المعرفة الإسلامية ساهمت في صياغة وتثبيت مشروعنا الإسلاميّ.

نشكر للقرّاء تشجيعهم واهتمامهم، سائلين المولى تعالى أن يحفظ العاملين في سبيل الله، إنّه سميعٌ مجيب.

            الناشر

الأول من جمادى الأولى 1419 هــ

         23 آب 1998م

 

 

 

مقدّمة

هي الكلمة بكلّ قيمتها الحضاريّة ..إسلامية الوجه، قرآنية النبض، رساليّة الخطّ "تبني ولا تهدم، توحّد ولا تفرّق، تهدي ولا تضلّ، تؤكّد الحقّ وتتنكّر للباطل" وإلى الله تتطلّع في قوّة مضمونها، وجرس إيقاع توجّهها، وحركيّة فكرها..

على مدى ردح من السنوات، أطلقها سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله ـــ دام ظلّه الشريف ـــ لتشكّل ركيزة الانبعاث الإسلاميّ في صياغة الشخصيّة الإسلامية التي لا تقدّم رِجلاً ولا تؤخّر أخرى إلاّ أن تعلم أنّ في ذلك لله رضىْ.. أطلقها قطرة ماء تختزن قدسية الإشراق القرآني، فاهتزّت الأرض وربت وأنبتت من كلّ زوجٍ بهيج يرفدها عذْبُ السواقي بألقِ الصحوة والتجدّد، فينتج عزائم خرجت من ظلام الداخل فيها، إلى نور الوجود الإلهيّ يغمر الكيان بكلّ الفرح الرساليّ.

هاجت أشواقنا صوبَ الحبيب الأوحد، فأسقطنا الغربة، بيننا وبين عظمة الله، فقمنا نغزُّ السير نبحث في أنفسنا والحياة والكون عن نِعَمٍ ظاهرةٍ وباطنة أودعت في الحياة لنحسّ بفضل الله علينا وحاجتنا إليه، فكان القرآن رزمة النور تفتح قلوبنا على الحقّ، وكان الحبيب المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهلُ بيته الأطهار (عليهم السلام) عِدْلَ القرآن يتحرّك بيننا تصويباً للمسيرة، وتوجيهاً لحركة حدّدت بدقّة نقطة النجاة تلتجأ إليها، لترسم على جبين العاملين في سبيل الله عزّة الإيمان، وفخر الانتماء.

"من عرفان القرآن" تذكيرٌ بالبداية والنهاية، البداية مسؤولية، والنهاية وقوفٌ في ساحة المسؤولية للحساب، وهي كلماتٌ نَثَرَها سماحته فوق مسامع قلوبنا لتكون طريقنا إلى الله فيما نحبّ ونبغض، وفيما نوالي ونعادي، انطلقت من نهج قرآني صافٍ كصفاء الحقّ، كان لي شرفُ الإصغاء إليها، فجمعتها ورتّبتها ونسّقتها واستخرجت آياتها وأحاديثها، فكانت بحمد الله وعونه وتسديده سلسلة أولى من مجموعةٍ ستصدر تباعاً بمشيئة المولى ليعمّ نفعها، ولتكون لي ذخيرة يوم أقف بين يديّ ربّ العالمين، وهي وإنْ جاءت عفو خاطر سماحته ألقاها في ليالي الجمعة على جمهور المؤمنين في مسجد الإمام الرضا (عليه السلام) في بئر العبد، فإنّها كوّنت أساس الطريق لمعرفة الحقّ تبارك وتعالى.

أسأل المولى أن يديم ظلَّ سماحته ليبعث الحيويّة والقوّة فينا، في ظرفٍ شَهَرَ الكفر كلّ أسلحته لمواجهة الإسلام، ويبقى سلاحنا قرآناً ينظّم أوضاع ساحتنا ويجعلنا في مستوى المواجهة والتحدّي.

والله نِعْمَ المولى ونِعْمَ النصير

 شفيق محمد الموسوي

الإثنين 6 رمضان 1418 هــ

5  كانون الثاني 1998 م

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة السلام على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين وأصحابه المنتجبين وعلى الأنبياء المرسلين.

وبعد:

فهذه مجموعة من الأحاديث الوعظية الإرشادية المستوحاة من الآيات القرآنية التي كنت ألقيها ارتجالاً على جموع المصلّين في ليالي الجمعة في مسجد الإمام الرضا (عليه السلام) في الضاحية الجنوبية، ببيروت في بئر العبد.

وقد جمعها الأستاذ الفاضل السيّد شفيق الموسوي ونسّقها ورتّبها وأخرجها بهذا الإخراج الجيّد على مستوى الشكل والمضمون.

وقد رأيت أنّ عنوان "من عرفان القرآن" هو العنوان الملائم لهذه المجموعة باعتبار أنّها تتضمّن الكثير من الإيحاءات القرآنية التي تقود الإنسان إلى معرفة الله ووعي دينه، والسير به في خطّ العرفان الإلهي الذي يمثّل القرآن الكريم الكتاب الذي يؤصّل قواعده ومناهجه وخطوطه الفكرية والعملية.

والله المسؤول أن ينفع به القرّاء وأن يوفّق الأستاذ شفيق الموسوي للمزيد من العطاء، وأن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ مَن أتى الله بقلبٍ سليم والله الموفّق وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.

  محمّد حسين فضل الله

2 شهر رمضان 1418 هــ

12/10/1993م

الدعوة القرآنية

لاتباع سبيل الله

 

الإيمان بالله إيمانٌ بخطّ الرسالة

إنَّها دعوة القرآن الدائمة للإيمان بالله تعالى {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8] ودعوة القرآن للإيمان به سبحانه موجّهة للإنسان الذي ينبغي عليه أن يوحّد كلَّ جوانب حياته في اتّجاه واحد لا في اتّجاهات متعدّدة، حتّى لا تتعدّد آلهته في الحياة، فيتّخذ لنفسه دون الله آلهة للمال والسلطة، وآلهة للقوّة والشهوة، كما كان فريقٌ من الناس القدامى يتّخذون آلهة للظلمة والنور، وآلهة للحبّ والشهوة، وما إلى ذلك.

وعندما تتعدّد اتّجاهات الناس في العبادة، فإنَّ حياتهم وأوضاعهم ترتبك، باعتبار أنَّ لكلّ إلهٍ مشاريعه وقضاياه وأساليبه وأوامره ونواهيه، فأصحاب المال الذين يعتبرون أنفسهم آلهة، لهم خططٌ في الحياة ترتبط بتنمية أموالهم، وهكذا أصحاب السلطة، لهم مشاريع خاصة ترتبط بسلطتهم، وكذلك أصحاب الشهوات وغيرهم.

فإذا اتّخذ الإنسان أكثر من جهة يخضع لها وينجذب إليها، فإنَّه سيصطدم بالرغبات والخطط المتناقضة، ولكنّه إذا آمن بالله وحده، فإنَّه يستطيع توحيد أموره وقضاياه وتطلّعاته والطرق التي يسلكها، لتلتقيَ بأجمعها عند أوامر الله ونواهيه، فيكون همّه في الحياة أن يرضى الله عنه ولا يسخط عليه، فينطلق في صراط الله بكلّ ثقة وصدق {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام : 153] هناك طريقٌ واحد، فإذا ما انحرف الإنسان عن هذا الطريق، واتّبع الطرق الأخرى التي تتنوّع، فإنَّه سيرتبك في كلِّ خطواته. وعلى هذا كان الخطاب القرآني للناس {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} [الأعراف : 158] ومع الإيمان بالله، هناك الإيمان بالرسول، لأنّه يمثّل حركة الامتداد للإيمان بالله، فالرسول ينطلق من خلال أنّه يحمل رسالة إلينا، ودور الرسول يبرز في تأكيد إرادة الله فيما يريده لنا في طريقة عبادتنا له، وفي مأكلنا ومشربنا ولذائذنا وعلاقاتنا ومواقفنا، وفي رفضنا وتأييدنا، لنؤمن بالله على أساس الطاعة والسير في خطِّ رضاه. فدور النبيّ ينطلق من إرشادنا إلى الطريق الذي نستطيع من خلاله أن نرتبط بالله، ولذا، فإنّ الإيمان بالرسالة هو من شؤون الإيمان بالله سبحانه. وقد جعل الله علامة حبّنا له سبحانه اتباعَ رسوله، فقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران : 31] فحبّ الرسول وطاعته هي حبٌّ وطاعةٌ لله سبحانه.

نورٌ للعقول والقلوب

وإضافة إلى الإيمان بالله والرسول، هنالك الإيمان بالقرآن {وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن : 8] وهو يمثّل نور المعرفة والإيمان والهدى والتقوى في كلّ حركتنا في هذه الحياة، وقد قال الله تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ} [المائدة : 15] فالقرآن هو النور الذي إذا استزدنا منه أضاء لنا عقولنا وقلوبنا، وأضاء لنا مناطق الإحساس والشعور فينا، وكلَّ دروبنا في الحياة. فالله تعالى أرسل رسوله بهذا القرآن ليطهّر نفوسنا، ويعلّم عقولنا طريق الحقّ والهدى. وإذا انطلقنا في هذا الخطّ، أي إذا آمنّا بالله ورسوله وبالنور الذي أُنزل عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنّ معنى ذلك أن ننفصل عن كلّ شيء لا ينسجم مع هذا الإيمان.

وعندما يؤمن الإنسان بالله، لا بدَّ أن يكفر بالطاغوت {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 257] فالإيمان بالله يفرض الكفر بالشيطان وبكلّ طاغوت يُعبد من دون الله، والإيمان بالرسول يقتضي الكفر بكلِّ مَن يحمل لنا قانوناً وشريعة غير شريعة الإسلام، والإيمان بالقرآن، هو الكفر بما عداه من الكتب التي تختلف عنه وتضادّه وتبتعد عن مفاهيمه وشرائعه. ولهذا، لا يجتمع في قلب إنسان مؤمن حبُّ الله وحبُّ الشيطان، أو يجتمع الإيمان بالله والإيمان بالطاغوت، والطاغوت كما قلنا هو كلُّ ما يُعبَد ويُطاع ويُتَّبع من دون الله. وعلى هذا الأساس ينبغي للإنسان أن يؤكّد حركة وصدق إيمانه، فليس للمؤمن أن ينتميَ إلى الإسلام، وينتمي في الوقت ذاته إلى أيّ تيار أو حزب أو اتجاه يختلف عن الخطّ الذي يمثّله الإيمان والإسلام. والإنسان عندما تتعدّد انتماءاتُه، فإنّه يناقش نفسه، لأنّه ليس من الممكن الانتماء إلى شيئين متناقضين. وهناك من الناس مَنْ لا يعتبر انتماءه إلى الإسلام مسألة تتّصل بعقله وقلبه وحركته، بحيث يكون عقله عقلاً إسلامياً وقلبه قلباً إسلامياً وحركته حركة إسلاميّة، ولذا، لا يمكن على الإطلاق أن يجمع الإنسان في قلبه إسلاماً وكفراً {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة : 85] فليست هناك مساومةٌ في هذا المجال على الإطلاق، إمّا إيمانٌ بالمطلق وجزاؤه الجنّة، وإمّا كفرٌ بالمطلق وعقابه جهنّم. إذاً {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن : 8] وكأنّ الله تعالى يقول: عش الإيمان الذي يتجسّد في حياتك فكراً من وحي النور، وإيماناً من إشراقة الضياء بحيث يتحوّل إلى عمل، وسينظر الله إلى صدق إيمانك به وبالرسول وبالقرآن، لأنّه تعالى الخبير بكلّ ما تعمل.

كي لا يضيع العمر سدىً

والأعمال تُقدّم هناك {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن : 9] ويجتمع البشر يوم القيامة بين يديّ الله. يجتمع الأوّلون والآخرون منذ خلق الله آدم إلى أن يأتيَ ذلك اليوم {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} إذا كنتم متفرّقين في بلدانكم وفي ألوانكم ولغاتكم وأوضاعكم، فإنّكم ستجتمعون ولا صفة لكم إلاّ أنّكم عباد الله، الذين تقفون بين يديه ليحاسبكم وليسألكم عن أعمالكم {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} أي يوم الشعور بالغبن، فالكافر والمنافق والضالّ في هذا اليوم يشعر بالغبن لأنّه ضيّع عمره في معاصي الله، والمؤمن يشعر بأنّه قصّر في عمله، ولذلك عندما يواجه الإنسان ذلك الموقف، ويرى قيمة العمل وكيف ترك هذه القيمة، فإنّه يشعر بمرارة نفسه وقد غبنها، فهو كان يستطيع أن يستفيد من الفرص التي هيّأها الله له في حياته، ويحصل من الله على الأجر الكبير والموقع العظيم، فيما لو استثمر هذه الفرص ووظّفها في العمل الصالح.

ومن هنا، فالكثيرون في حياتهم يعيشون الاسترخاء، ويضيّعون أوقاتهم دون أن يستفيدوا منها في رضى الله سبحانه، وكثيرون هم الذين ليسوا مستعدّين للقيام بأيّ عمل إسلامي إلاّ بثمن، وإذا طُلب منهم القيام به فيسألون عن مردوده الشخصيّ عليهم، دون الالتفات إلى نيل الأجر من الله. وقد قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في وصيّته لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام): "قولا الحقّ واعملا للأجر"(*) أي فليعمل الإنسان لينال الأجر من الله سبحانه، فإذا كان موظّفاً في عمل إسلاميّ عليه أن يخلص في عمله ويتّقنه ويزيد على ما هو موكلٌ إليه من الجهد قربةً إلى الله تعالى، حتّى وإن كان موظّفاً في دائرة حكومية، فإنّه لا يجوز له أن يتغيّب من دون عذر شرعي، ولا يجوز له أن يقدّم تقريراً طبّياً كاذباً، فهو يقع في الحرام، والطبيب الذي أعطى التقرير الكاذب يشاركه في هذا الحرام.

ويندم الإنسان على ما ضيّعه من عمره دون العمل الصالح {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر : 56] وفي ذلك اليوم يرحم الله بعض مَن قصّر عن سهو وغفلة ونسيان {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن : 9] إذا كان عنده سيّئات مع أعماله الصالحة {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن : 9] فأيُّ فوز أعظم من أن تتعب في هذه الدنيا وتشقى وتتألم في جنب الله، وبعد ذلك تنال الراحة الكبرى والخالدة، وهي نعيم الجنّة وخيراتها؟ هؤلاء هم المؤمنون، ولكن {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن : 10] يعيشون في الدنيا مُنَعَّمين مرفّهين، يصفّق الناس ويهتفون لهم ويمجّدونهم، ويسيرون خلفهم، ولكن عندما يصلون إلى يوم القيامة {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فأين ذهبت الراحة والنِّعَم والأمجاد والهتافات؟ "ما خير بخير بعده النار وما شرٌّ بشرّ بعده الجنّة".

ويعيش الإنسان في هذه الحياة ويُبتلى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن : 11] فالإنسان يعيش في نطاق نظام للحياة ينطلق من خلال تخطيط الله، ولذلك، فإنَّ المصائب التي تصيبه في نفسه وماله وأهله وأوضاعه، إنّما تتمُّ بإذن الله، وليس معنى أنّها تتمّ بإذن الله، أنّه سبحانه يوقعها على الإنسان من دون مناسبة وسبب، بل إنّ المصائب التي تأتي إلينا، إنّما تكون بسبب أعمالنا {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل : 112] بأيديهم وبالظروف التي أوجدوها في حياتهم {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم : 41] فهذه قضايا مرتبطةٌ بأسبابها المتّصلة بحياة الإنسان. يقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال : 53] فأنتَ غيّرت، والله تعالى ربط بين ما في نفسك وبين ما في واقعك، فأنتَ مسيطرٌ على المسألة، فإذا غيّرت ما في نفسك وانقلب الخير عندك إلى شرّ، فأنتَ تصنع مصائبك في هذا المجال، والله يربط بين هذه المصائب وبين أسبابها، ولذا، فهي بإذن الله، من خلال أنّ الله ربط بين الأسباب والمسبّبات، بين المقدّمات وبين النتائج.. فكما تزرع فإنّك تحصد، تزرع المشكلة، فتحصل على الآلام، تنحرف، فتهتزَّ حياتك العامّة والخاصّة، تأكل طعاماً فاسداً، فإنّك لا محالة تمرض، فكما أنَّ هناك مرضاً جسدياً، هناك مرضٌ روحيٌّ واجتماعي وسياسي واقتصادي وأخلاقي {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن : 11] إذا ملأت قلبك بالإيمان بالله فإنّ قلبك سيشرق، وإذا أشرق قلبك بنور الإيمان، فستنفتح لك كلُّ الطرق، وينطلق انطلاقة هادية، وعندها لا يحبّ قلبُك إلاّ مَنْ أحبَّ الله، ولا يبغض إلاّ مَن أبغض الله { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعلم خفايا النفوس وهدف الأعمال، ويعلم خفايا العلاقات {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن : 12] فأطيعوا الله في خطّ الإيمان العمليّ {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} فأعرضتم {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ليس من مهمّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يضغط على قلوب الناس {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29] فالإنسان يعمل لنفسه وسينال جزاء عمله عند الله {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن : 13] افتحوا قلوبكم وعقولكم على الله، لا تنشغلوا بفلان وفلان، ولا تستغرقوا بعظمة هذه القوّة وجبروت تلك القوّة {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هو الإله وحده، وكلُّ الموجودات مخلوقة وخاضعة له، استمدَّت وجودها وقوّتها منه وحده، فأين أنتم مِنَ الله {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف : 194]، فالله وحده القادر والقاهر فوق عباده {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

عدم الاستغراق في العواطف منجاة من الهلكة

ويأتي التحذير القرآني واضحاً للمؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن : 14] إنّ الله تعالى لا يحذّرنا من أولادنا وأزواجنا على أنّهم أعداءٌ لنا، بل يرمي التحذير إلى عدم الاستغراق فيهم، بحيث تدفعنا عواطفنا لأن نعمل ما يُرضيهم ويُغضب الله.. فأن نحذر، أي أن لا نسلّم للولد في كلّ ما يريد ونذوب في عاطفتنا تجاهه، ونلبّي له ما يريد من دون أيّة دراسة لطلباته، هل هي في خطّ الله أم في خطّ الشيطان؟

وهكذا الأزواج مع الزوجات وبالعكس، فإذا طلبت هي أو طلب هو أمراً، ويريد الله عكسه، ونُفّذ ما خالف أمر الله، فهذا سقوطٌ فيما لا يرضاه الله، فليست العداوة والصداقة قضية كلمات ومشاعر وعواطف، هي قضية مبدأ، فالصديق هو مَنْ يريد لك الخير، والعدوّ هو مَنْ يريد لك الشرّ، ابناً كان أو زوجاً وزوجة، أو أخاً وأباً، لذلك قال الله عن الشيطان: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ولماذا هو عدوّ؟ {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر : 6] فالعدوّ الشيطاني قد يكون ولَدَك أو زوجَك من حيث تريد أو لا تريد فيقودانك من خلال وسوسة الشيطان لهما إلى غضب لله. وعلى هذا، يطلب القرآن من الناس ألاّ يستغرقوا في عواطفهم لتُرضِيَ الزوجةُ زوجَها، وبالعكس، وليرضيَ الأب ابنه وبالعكس أيضاً.. العاطفة ضرورية، ولكن على الإنسان أن يعطيَ عاطفته شيئاً من الحذر، ولهذا نقول دائماً: أعطوا العاطفة جرعة من العقل، وأعطوا العقل جرعة من العاطفة حتّى يلين ويرقّ ولا يكون جامداً. فإذاً، الحذر أمرٌ أساسيٌّ في العلاقة، ومعناه أن تراقب حركة العاطفة في قلبك وعلاقاتك ومواقفك وخطواتك في الحياة. لذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن : 14] وعندما تكتشفون بعض أخطائهم، فليس من الضروري أن تمارسوا العنف معهم {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن : 14] ليكن هناك مجالٌ للصّفح فربّما يبدّلون ويغيّرون {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن : 15] الفتنة هي الاختبار، والله تعالى يختبرنا بأموالنا، فيعطينا المال حتّى يختبر حركتنا في طاعته، ويرزقنا الأولاد ليختبر استخدام ولايتنا عليهم في أن نجعلهم عباد الله الصالحين.. وليس المال هو الأساس، أو الولد هو الأساس، فكلاهما زينة {وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فكِّر بالله الذي أعطاك المال والولد، وبأنّ ما ينتظرك عنده سبحانه أكبر من الولد والمال {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} نداءَ الله في طاعته وأوامره ونواهيه {وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ} فما تعطونه، إنّما تعطونه لأنفسكم { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن : 16].

 

30/11/1995م

الرقابة الإلهية

في حياة الإنسان

 

الكلُّ مكشوف أمام الله في سرّه وعلانيّته

يحثّنا القرآن الكريم على الدوام أن نضع في عقولنا وقلوبنا الإحساس بالرقابة الإلهية، وألاَّ نعتبر أنَّ أسرارنا مودَعةٌ في صندوق مقفل داخل صدورنا بحيث لا يستطيع أن يطّلع عليها أحد، فيقول سبحانه: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 284]. فإذا كنت تستطيع أن تُغلق صدرك عمّا في داخله عن الناس، فهل تستطيع أن تُغلقه وتحجبه عن الله تعالى؟ فالله تعالى مطّلعٌ على الإنسان في خفاياه، كما هو يعرف علانيّته {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى : 7] والله سبحانه يستر على الإنسان في الدنيا، أمّا في يوم القيامة {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9] فتتمزّق السرائر ويظهر كلُّ ما يكمن فيها، فإن كان في القلب ممّا يشكّل فضيحة نتيجة الإيغال في المعاصي، فإنّ الله يفضح الإنسان الذي خالف أوامره على رؤوس الأشهاد، وإن كان في القلب ما يشكِّل قيمة إيمانيّة وعمليّة، فإنَّ الله يجزي صاحب هذه القيمة على رؤوس الأشهاد، ولذلك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "ألاَ إنَّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة"(*)، لأنَّ يوم الآخرة {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} كما يبلى الثوب ويتمزّق ويظهر الجسد عارياً، هكذا تظهر الأسرار وتنكشف أمام الخلائق يوم القيامة.

وعلى هذا، فإنَّ على الإنسان أن يربّي نفسه على أنّه مراقَب في كلّ أعماله وأسراره وخفاياه، فلا يشعر بالأمان والاطمئنان، ويأخذ حريّته في التخطيط لضرب فلان وهتك حرمة فلان، أو النيل من كرامته وماله وعِرضه {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء : 108] يجلسون في غرفة مغلقة يخطّطون ويرسمون المؤامرات ليُلْصِقوا التهمة ببريء، وليدمّروا شخصية رسالية يطلقون حولها الإشاعات والأكاذيب، ويحسبون أن لا رقيب عليهم ولا حسيب، وينسون أنَّ عين الله ترى ما يخطِّطون وكيف يتحرّكون {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة : 7] فليس هناك شعورٌ بالأمان، وذاك الشاعر يقول:

إذا ما خلوتَ الدّهرَ يوماً فلا تَقُل           خلوتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ

فالله تعالى هو الرقيب "وكنتَ أنتَ الرقيبَ عليَّ من ورائهم، والشاهدَ لِمَا خَفِيَ عَنْهم" فإذا ربّينا رقابة الله في نفوسنا، فسيمنعنا ذلك من استغلال خلوّ المكان للقيام بالجريمة والإقدام على المعصية. ويحدّثنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك الرجل الذي أحسَّ برقابة الله، وهو يُقْدِم على المعصية، فمنعه ذلك من الوقوع في الحرام، فيقول (عليه السلام)(*) لأبي حمزة الثمالي: "إنّ رجلاً ركب البحر بأهله فَكُسِرَ بهم، فلم ينجُ ممّن كان في السفينة إلاّ امرأة الرجل، فإنّها نجت على لوح من ألواح السفينة حتّى لجأت إلى جزيرة من جزائر البحر؛ وكان في تلك الجزيرة رجلٌ يقطع الطريق، ولم يَدَعْ لله حرمة إلاّ انتهكها، فلم يعلم إلاّ والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها، فقال: إنسيّة أم جنّية؟ فقالت: إنسيّة، فلم يكلّمها كلمةً حتّى جلس منها مجلس الرجل من أهله ـــ أي حاول الاعتداء عليها ـــ فلمَّا أنْ هَمَّ بها اضطربت، فقال: ما لَكِ تضطّربين؟ قالت: أَفْرُقُ من هذا ـــ وأومأت بيدها إلى السماء، أي أنا أخاف الله من هذا العمل ـــ قال: فصنعتِ من هذا شيئاً ـــ هل لك عهدٌ بحالة الزنا ـــ قالت: لا وعزّته ـــ كلّ حياتي حياة طاعة وعفّة وخوف من الله. قال: فأنتِ تفرقين منه هذا الفَرَق ولم تصنعي من هذا شيئاً وإنّما أسْتَكْرِهُكِ استكراهاً ـــ مع أنّي بالإكراه أحاول فعل الفاحشة معك، ومع ذلك تخافين من الله، وأنتِ في ذلك معذورة ــــ فأنا والله أولى بهذا الفَرَق والخوف ـــ أنا مَنْ يجب أن أخاف من الله، لأنّني ما تركت معصية إلاّ وعملتها ـــ وأحقُّ منكِ ـــ موقف هذه المرأة هزَّ هذا الرجل من أعماقه، ولذلك ـــ قام ولم يُحْدِثْ شيئاً ـــ ترك فعل الزنا ـــ ورجع إلى أهله، وليست له همّةٌ إلاّ التوبة والمراجعة، فبينما هو يمشي إذ صادفه راهبٌ يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشّاب: ادعُ اللهَ يُظلّنا بغمامة فقد حميت علينا الشمس، فقال الشّاب: ما أعلم أنّ لي عند ربّي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئاً، قال: فأدعو أنا وتؤمّن أنت ـــ أي تقول: آمين ـــ قال: نعم، فأقبل الراهب يدعو والشاب يؤمّن، فما كان بأسرعَ من أن أظلّتهما غمامة فمشيا تحتها مليّاً من النهار، فتفرّقت الجادة جادّتين ـــ أي أخذ كلٌّ من الراهب والشاب طريقاً ـــ فأخذ الشّاب في واحدة وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشّاب، فقال الراهب: أنتَ خيرٌ منّي، لكَ اسْتُجِيب ولم يُسْتَجَبْ لي، فأخبرني ما قصّتك؟ فأخبره بخبر المرأة، فقال: غُفِرَ لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل".

فإحساس هذا الشاب بالرقابة الإلهيّة من خلال ما أيقظته فيه هذه المرأة، هو الذي جعله يمتنع عن الاعتداء وفعل الحرام.

 

 

 

من لنا بالحماية غير الله؟

وهذه الآية تركّز في شعورنا هذه المسألة {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} كلّ ما في السموات والأرض، هو ملكٌ لله، وكلّ الوجود والخلق مملوكون له.. وإذا ما اقتنع الإنسان بذلك، هل له أن يفكّر بأنَّ أحداً يحميه من الله؟ {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} إن تُظهروه {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} فالإنسان عندما يعي في داخله التفكير السيّء، ويعلم الله منه الإساءة، فإنّه سيحاسبه على ذلك، لأنّه "يُحْشَر الناس على نيّاتهم يوم القيامة" وعندما يأتي الحساب {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} وعلى هذا الأساس لا يمكن للإنسان أن يطمئن للأمن والضمانة أنّهما بيده، فكما أنَّ الله غفورٌ رحيم، هو أيضاً شديد العقاب، وفي دعاء الافتتاح نقرأ: "وأيقنتُ أنَّكَ أرحم الراحمين في موضع العفو والرّحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النّكال والنَّقِمة" فهناك توازن {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 284] هو القادر قدرة مطلقة، لا يستطيع أحدٌ أن ينصرني من دون الله، وهذه هي الحقيقة، وما عداها وَهمٌ وخيال.

وهذا ما يجب أن نربّيَ أنفسنا عليه، حتّى تبقى النفس في حالة تذكّر دائم لله، وبأنّه مطّلع علينا وعلى أسرارنا، فيمنعنا ذلك عن الدخول في معاصي الله في الخلوات، كما يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "اتّقوا معاصي الله في الخَلَوات، فإنَّ الشاهد هو الحاكم"(*) فالله تعالى هو الذي يشهد علينا فيما نفعله ونفكّر به ونخطّط له، فلنحذر.

شمولية الإيمان

وهناك نقطةٌ أخرى لا بدّ للمسلم أن يعيشها في عقله ووجدانه، وهي الاعتقاد بالإيمان الشمولي {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة : 285] فالمسلم يؤمن بالأنبياء جميعاً ولا يفرّق بينهم، ويؤمن بالملائكة وكُتُب الله وصُحُف إبراهيم وموسى وإنجيل عيسى وتوراة موسى، وزَبور داود، وليس كغيره من أتباع الديانات الأخرى، يؤمن ببعض ويكفر ببعض. ومن هنا، عندما كنّا نُسأل لماذا تجوّزون زواج المسلم من الكتابيّة مسيحيّة أو يهوديّة، ولا تجوّزون زواج المسلمة من المسيحيّ أو اليهوديّ؟ كنّا نقول: بأنَّ المسلم عندما يتزوّج يهودية أو نصرانية، فإنّها تأمن على مقدّساتها، لأنّ زوجها لن يسيء إليها، لأنّه يؤمن بعيسى وموسى أنّهما من أنبياء الله، وكُتُبهما كتب الله التي أنزلها عليهما، أمّا المسلمة إذا تزوّجت من الكتابيّ فلن تأمن على دينها ومقدّساتها، لأنّ هذا الكتابي لا يعيش اليقين بنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبالقرآن، وبالتالي لن يحترمهما ويقدّسهما، وإذا صادف أنّ هذا الكتابي لم يتناول مقدّسات المسلمة بالإساءة، فإنَّ ذلك ناشئ من حالة أدبية ذاتية مهذّبة، لا من خلال ما ينطلق فيه من إيمان بعقيدته التي لا تعترف بنبوّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبأنّ القرآن مُنْزَلٌ من عند الله تعالى.

فالمسلم، إذاً يؤمن بالأنبياء جميعاً {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} لأنَّ ذلك أمرُ الله الذي لا يحيد عنه {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} المسلم المؤمن مطيعٌ لله في كلِّ ما أمر وما نهى، وليس له حريّةٌ على الإطلاق أمام حرّية الله {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة : 285] اغفر لنا ما أسلفنا من السيّئات، فنحن سنعود إليك ومصيرنا بين يديك، فعندما نعود إليك، نطلب منك أن نأتيَ بين يديك وقد غفرت كلَّ ذنوبنا.

ويأتيهم الجواب من الله {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 286] ولأنّهم يعيشون الضعف أمام الله، وقد ينساقون وراء شهواتهم وغرائزهم فتغلبهم مطامعهم، ويوسوس لهم الوسواس الخنّاس، ولكنّهم يعودون إلى الله {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} فالإصْر هو الحِمْل الثقيل، وذلك كناية عن المسؤوليات الثقيلة الصعبة، ولأنّهم يثقون بالله ويؤمنون به، وإنْ كانت في بعض مراحل حياتهم قد سيطرت عليهم أطماعُهم، يطلبون منه سبحانه أن يخفّف عنهم ذلك ولا يرهقهم {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} اجعلنا نحمل الأشياء التي نستطيع حملها {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا} لا مولى لنا غيرك، ووحدك تنصرنا وتعيننا وتسدّد خطواتنا {فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} عندما نستعدّ لهم ونواجههم، لتبقى كلمة الله هي العليا.

هذا الذّكر الدّائم لله تعالى هو الذي يربّي عقولنا على الحقّ وقلوبنا على الخير، هو الذي يربّي حياتنا على التقوى وطاعة الله، حتّى لا نسمح للشيطان أن يمرح في ساحات شهواتنا وملذّاتنا ومنازعاتنا وخلافاتنا. فالشيطان لا يقترب من مواقع الذاكرين الذين لا يعيشون الغفلة، ولا يخضعون لغرائزهم، ولا ينسحقون في حزبيّاتهم وعصبيّاتهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

14/12/1995م

الحذر من

وساوس الشيطان

 

الحصانة من وساوس الشيطان

ويبقى لنا في كلِّ موقع من مواقع القرآن حديثٌ جديد، يتحدّث به الله سبحانه وتعالى عن الشيطان، وعن إبليس بالذات، فنلاحظ أنّه تعالى كرَّر الحديث في القرآن عن الشيطان بمختلف الأساليب، لأنّه يريد أن يوحي للإنسان دائماً أن يكون حَذِراً واعياً لوساوس الشيطان كلِّها ولحبائله وغروره، فيقول تعالى عنه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف : 27] فالإنسان مكشوفٌ أمام الشيطان، وهو خفيٌّ عنه لا يستطيع أن يعرفه إلاّ من خلال آثاره وأفكاره، فإذا لم يكن الإنسان حَذِراً وواعياً، فإنَّ الشيطان يُزَيِّنُ له الحقَّ بصورة الباطل ليرفضه، والباطل بصورة الحقّ ليقبله. ومن هنا، يجب على الإنسان أن يملك معرفة كلٍّ من الحقّ والباطل، لأنّه إذا لم يعرف حدودهما، فقد يُخدَع في ذلك.

ولذا، كانت ضرورة معرفة الثقافة الإسلاميّة، فإذا أُقيم درسٌ قرآنيّ، على الإنسان أن يعتبر ذلك فرصة كبيرة له، لأنَّ القرآن إذا دخل عقله، فإنّه ينير واقعه وإذا دخل قلبَه، فإنّه ينير حياته.. وهكذا، على الإنسان أن يعرف أحكامه الشرعية، فيما هو الواجب وما هو الحرام، وإذا لم يعرف الواجب والحرام، فإنَّ الأمور تختلط عليه، فقد يتصوّر الواجب حراماً والحرام واجباً. وبهذا لا بدّ لأيّ واحدٍ منّا أن يعيش مسؤولية ثقافة الإسلام، لأنّه كيف يكون الإنسان مسلماً، إذا لم يعرف ما هو الإسلام؟ وكيف يكون قرآنياً إذا لم يتعلّم آيات القرآن ويفهم إيحاءاتها.. ومن المؤسف أنّ الكثيرين من الناس يصرفون أوقاتهم في مشاهدة فيلم طويل أو قصير قد لا يحمل أيّة ثقافة وأدنى فكرة مفيدة، ويستنكفون عن حضور جلسة أو ندوة أو درس للقرآن والفقه، حيث لا يرون ذلك ضرورياً.. ونحن نتساءل: هل أنَّ مسألة المصير عندهم ليست ضروريّة، ومسألة أن تكون النهاية، الجنّة أو النار ليست ضروريّة؟

فإذا كنتم بحاجة إلى الجنّة، فعليكم أن تحضّروا كلَّ ما يفتح لكم أبواب الجنّة، وإذا كنتم تخافون من النار، فعليكم أن تبتعدوا عن كلِّ ما يفتح لكم أبواب النار، تريدون الجنّة ولا تعملون لها، وتخافون من النّار وتعملون للدخول فيها، فأيّة جنّة هي التي تريدون، وأيّ نار هي التي تخافون؟ ولذا، علينا أن نربّيَ عقولنا بكلمات الله، وقلوبنا بإيحاءات كتاب الله، وحياتنا بشريعة الله.

التمرّد الإبليسي وإغراءاته

ونعود إلى بحثنا في الحديث عن إبليس من خلال قصّة آدم (عليه السلام)، فبعد أن خلقه الله أمَرَ الملائكة بالسجود له، وكان إبليس مُلْحَقاً بالملائكة وليس بِمَلَك {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف : 50] فآدم (عليه السلام) يمثّل الإنسان الأوّل الذي خلقه الله، والذي تجمّعت كلّ ذرّيته في وجوده، فكانت منه انطلاقة الوجود البشري.. ويخضع الملائكة لأمر الله فيسجدون له على أساس ما يمثّل هذا المخلوق من إبداع الخالق {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف : 11] فالملائكة على عكس إبليس لا يحملون أيّة عقدة {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 ـــ 27] فليس عند المَلَك الذي يأمره الله بأمر أيُّ اعتراض، ولا يتوانى في تنفيذ ما يطلبه الله سبحانه {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم : 6]. أمّا إبليس فقد كان يعيش غريزة الشهوة {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف : 12] ويعلن إبليس تمرّده، ولسان حاله يقول: أنا لم أرَ مبرّراً للسجود لهذا الإنسان، سواءً كان السجود تحيّة له، أو كان السجود احتراماً لما أبدعتَه فيه، فإذا كان يمثّل العظمة في خِلْقَتِه، فأنا أمثّل العظمة أكثرَ منه، لأنّي أقوى منه، فعنصري أعظم من عنصره، فهو مخلوقٌ من التراب، وأنا مخلوقٌ من النّار، والنار تُفني التراب وتحرقه، ولهذا، فلا بدّ أن تأمر الملائكة بالسجود لي، لا أن تأمرني بأن أسجد لهذا المخلوق الطينيّ.

هكذا طغى عليه إحساسُه بالكبرياء نتيجة اعتداده بقوّة عنصره، فعمل على إضلال آدم (عليه السلام) {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} اهبط من الجنّة {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} ليس لك ذلك، لأنّ الذين يعيشون في الجنّة، يعيشون العبوديّة المطلقة لله، فليس لهم أمام الله أيّ موقف أو كلمة {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف : 13] إنَّ تكبّرك الذي انتفخت فيه شخصيّتك، وصوّر لك هذا الانتفاخ بأنّك تملك الموقع الأكبر أمام آدم وأمام الآخرين، حوّلك إلى مخلوق ذليل حقير، ولذا، لا بدّ لك أن تهبط من عليائك، لأنّ الإنسان كلّما تكبَّر أكثر كلّما سقط أكثر، وكلّما تواضع أكثر، كلّما علا أكثر، فالمتواضع عندما يتواضع، فإنّه يتواضع لربّه، والمتكبِّر عندما يتكبّر، يتكبّر على ربّه، لأنّ الله سبحانه هو الذي خلق للآخرين خصائصهم، وأودع فيهم عناصرهم، وميّز بينهم، وخالف بين خلقتهم، فإذا رأيت نفسك أكبر من حجمك لأنَّ عنصرك أقوى، لا تنسَ أنَّ الله تعالى هو الذي خلقك وأراد لكَ أن تخضع.

ويردّ إبليس على ذلك {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف : 14] سآخذ بثأري من آدم، أعطني مهلة إلى يوم يُبعثون أرافق آدم وَوِلْدَه {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الأعراف : 15] ولحكمة من الله تعالى يُمهله، وذلك ليعرّف الله تعالى الإنسان كيف يعيش الإنسان الصراع بين الخير الذي هو في فطرته، وبين الشرّ الذي يوسوس به الشيطان، حتّى يختار الإنسان طريق الحقّ من موقع إرادته {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف : 16]  الإغواء هنا، أي الابتعاد عن رحمة الله تعالى، ولأنّه خرج من جنّة الله، فإنّه يتوعّد آدم وذرّيته، بأنّه سيأخذ بثأره، لأنَّ آدم كان السبب بإخراجه من الجنّة، وعلى هذا سيعمل على إضلال أولاد آدم ليحرم منهم مَن ينساق وراء ضلاله من الدخول إلى الجنّة، وسينصب لهم الحواجز ليصدّهم عن السير في الطريق المستقيم {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف : 17] لن أدع لهم فرصة للتفكير والاختيار، وسأطوّقهم من كلِّ الجهات بالطوق الشيطاني الإبليسي، سأطوّقهم بغرائزهم التي أوجّهها للشرّ، وبأطماعهم التي أحرّكها نحو الباطل، وبأنانيّتهم وعصبيّاتهم حتّى لا يجدوا مجالاً ليشكروك بطاعتهم وعبادتهم واستقامتهم. ويأتيه الردّ الإلهي {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف : 18] اخرج من الجنّة مطروداً ذليلاً بسبب نواياك وخططك، وهذه جهنّم حاضرة أمامك، ولكلّ مَن يتّبعك في كفرك وضلالك وانحرافك.

التحذير الإلهي من مخطّطات المشروع الشيطاني

ثمّ يتوجّه الخطاب لآدم (عليه السلام): {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف : 19] خذْ حرّيتك أنتَ وزوجك، اذهب أينما تشاء فيها، اشرب من أيّ ينبوع، كُلْ من ثمر كلِّ شجرة {وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} فقط هذه الشجرة لا تقرب منها أبداً، حتّى لا تكون أنتَ وحوّاء من الذين يظلمون أنفسهم بالخروج من الجنّة.. ولأنَّ آدم (عليه السلام) لم يكن يملك التجربة، ولم يكن يعرف أن يراوغ أو يكذب أو يخدع، فلقد نسي أمر الله {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} فلا يمكن لآدم أن يُقدم على معصية الله وهو مدركٌ للمسألة من جميع جهاتها {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه : 115] ليست لديه إرادة في هذا الموضوع، بحيث يعزم عزماً قوياً للإقدام عليه {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف : 20] كانا يسيران في الجنّة عاريين، وكان لا يخطر في بالهما أيُّ شيء حول هذه المسألة، لأنّهما كانا يعيشان الطهارة المطلقة في فكرهما وجسديهما، لذلك لم يكن عندهما أيّ إحساس غير طبيعي بالنسبة لسوءاتهما، فأتى إبليس ليعقّد لهما حياتهما من خلال ما أقدما عليه من أكل ثمرة الشجرة التي نهاهما الله عن الاقتراب منها، حيث أقدما على هذا الفعل، لا من منطلق التمرّد على الله سبحانه، بل لنقصان في التجربة عندهما {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} فزيَّن لهما أنَّ الذي يأكل من هذه الشجرة لا يموت أبداً بل يبقى خالداً، أو يصير مَلَكاً يطير بجناحيه {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف : 21] وإنّي أُسدي لكما النصح بذلك، لأنّ الله يريد لكما أن تبقيا بشراً، وباستطاعتكما أن تكونا ملائكة، وأن تخلدا حيث لا يزحف الموت إليكما {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأعراف : 22] غرّهما وخدعهما وجعلهما يميلان للسقوط، فلَّما أكلا من الشجرة، التفتا إلى الجوّ الجديد {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} وهنا شعرا بالحياء من العري، وصارا يغطّيان سوءاتهما من أوراق شجر الجنّة، ويناديهما ربُّهما مذكّراً بنهيه لهما عن عدم الرضوخ لتسويلات إبليس {إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ولكنّهما كانا طَيّبَيْن مؤمنين، لم ينطلقا في مخالفة أمر الله من موقع تمرّد، ولكن من حالة غفلة ونسيان وخديعة من إبليس. وهذا ما جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي: "إلهي ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بربوبيّتك جاحدٌ، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا بأمرك مستخفّ، ولا لوعيدك متهاون، ولكنْ خطيئةٌ عَرَضت وسوَّلت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانتني عليها شقوتي، وغرّني سترُك المُرْخَى عليَّ، فقد عصيتك وخالفتك بجهدي، فالآنَ من عذابك مَنْ يستنقذني ومن أيدي الخصماء غداً مَنْ يخلّصني، وبحبلِ مَنْ أتّصل إنْ أنتَ قطعتَ حبلك عنّي" هذا لسان حال المؤمن الذي قد يقع في بعض المعاصي، مخالفاً أوامر مولاه، لا عن تمرّد وكِبْر، بل عن حالة طارئة، سرعان ما يعود إلى ربِّه خائفاً وتائباً.

اللّجوء إلى الله

{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف : 23] نسينا، فظلمنا أنفسنا، فوقعنا في التجربة الصعبة، ونطلب منك المغرفة والرحمة، لأنْ ليس هناك مَن يغفر لنا غيرك، وليس هناكَ مَن يرحمنا إلاّ أنت، وإنْ لم تغفر لنا وترحمنا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ويطلب الله منهما ومن إبليس أن يخرجوا جميعاً من الجنّة {قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف : 24] فإبليس هبط بالتكبّر، وأنتما هبطّتما بالمعصية، ومعصيتهما كما يقول علماء الكلام ليست معصية دينيّة، وهي معصية، تسمّى بمعصية النَّهْي الإرشادي. والله تعالى أراد لآدم (عليه السلام) أن يكون خليفة في الأرض، فأُدخل في هذه التجربة ليعيشها، حتّى عندما ينزل إلى الأرض، يكون عنده وعي التجربة في مقابل الآخر. وفي الأرض، برزت العداوة بين الإنسان والشيطان، حيث حذّر الله تعالى من مكائده {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر : 6] ويبدأ الصراع {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة : 36] كلّ واحد له عمرٌ معيّن سيعيشه على هذه الأرض {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف : 25]. وينتقل الخطاب الإلهيّ من آدم وحوّاء إلينا نحن بني آدم، فمن الأرض وترابها خُلقنا، وفيها موتنا، ومنها نُبعث من جديد في يوم القيامة {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف : 26] هيّأ لكم من الصوف والقطن وما شابه ما تصنعون به لباسكم الذي يستر عوراتكم.. وإذا كان هذا اللّباس يواري ويستر عورات الجسد، فهناك لباسٌ يواري عورات الروح وعورات الداخل في النفس، فيواريها ويسترها.. وما هو إلاّ لباس التقوى {ذَلِكَ خَيْرٌ} إنّه خير لباس.. فكما تهتمّ بلباسك وثيابك، كيف تفصّلها وتنظّفها، اهتم بلباس التقوى، حتّى يكون عقلك تقيّاً وعاطفتك تقيّة ومواقفك تتحرّك في مجال التقوى.. إنّك تحتاج إلى اللّباس الخارجي ليقيك من البرد والحرّ، وبحاجة أكبر إلى لباس التقوى الذي يقيك من النار وغضب الجبّار {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ} التي أنزلها على رُسُله {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيُخرِجون أنفسهم من الغفلة والنسيان ويتذكّرون نِعَم الله وما أمرهم به ونهاهم عنه.

الحذر واليقظة

ونداءٌ آخر من الله {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 27] فانتبهوا يا بني آدم، كونوا واعين يقظين، لا تدَعوا الشيطان يقدّم لكم زخارف الدنيا ويحسّن لكم معصية الله، ويقبّح لكم طاعة الله، لا تغفلوا عن أنفسكم، حاسبوها، واعرفوا كلَّ ما يحيط بكم، لتعرفوا مَنْ الذي ينصحكم ومَن الذي يغشّكم، ومَن الذي يريد لكم أن تصلوا إلى الجنّة، أو الذي يريد أن يُوقِعكم في النار {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} فيخرجكم من الجنّةِ {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} فالشيطان يرصدكم هو وجنوده، ويحاول على الدوام أن يبعدكم عن الصراط المستقيم، فمن والاه، كان من الذين جحدوا الله {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف : 28] بعض الناس يسيرون في العصبيّات والمعاصي ويشرّعون غير ما شرّع الله {قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا} إنّهم يكذّبون على الله {قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} فآباؤكم كفرة فَسَقة، يأخذون بالفحشاء وينطلقون مع الكفر، وحاشا لله ذلك {أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} تنسبون إلى الله تعالى شيئاً ليس لكم حُجّةٌ فيه.. أتعرفون ماذا أمر الله؟ {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف : 29] فالله تعالى أمر بالعدل ولم يأمر بالظلم، وأمر أن تكون عادلاً فتوفي لربّك حقّه، وتكون عادلاً مع نفسك، فلا تظلمها بالكفر والمعصية، أن تكون عادلاً مع زوجتك وأولادك وجيرانك، فلا تعتدي على الناس وأموالهم وأعراضهم وحياتهم {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} وكلمة القسط تلخّص للإنسان كلّ العناوين التي أراد الله له أن يتحرّك فيها، فالشريعة كلّها حركة عدل، وبمقدار ما تكون عادلاً في حياتك، بمقدار ما تكون تقيّاً في خطّ الشريعة {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أقيموا وجوهكم وانطلقوا بها إلى الله، ومعنى ذلك، أن يكون كلّ اتجاهكم في الحياة نحو الله لا لغيره، فلا تلتفتوا إلى فلانٍ حتّى يرضى، أو إلى فلان حتّى يقبلكم، إنّكم بذلك تحرفونها عن الصراط المستقيم.. وأنتم عندما تكونون في المساجد، فأنتم بين يديّ ربّكم، ربّكم الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، القاهر فوق عباده، الذي يملك حياتكم وموتكم، ضرّكم ونفعكم.. ففي المساجد توجّهوا إليه بأدعيتكم وطلباتكم وإخلاصكم، وضعوا بين يديه سبحانه أحلامكم وآمالكم وآلامكم وحاجاتكم ومشاكلكم، فهو أقرب إليكم من حبل الوريد {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فهو سبحانه أخذ عهداً على نفسه {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] فأنتم بيده وتحت رقابة عينه {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف : 29] كما بدأكم وأنشأكم من التراب، ستعودون إليه من التراب {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف : 30] هما فريقان من الناس، فريقٌ سار في خطّ الهدى، وفريقٌ اختار الضلالة، وأفراد هذا الفريق جعلوا الشياطين أولياء لهم، وسيقف الفريقان بين يديّ الله، ليقدّم كلُّ فريق أعماله في محكمة العدل الإلهيّة، حيث لا ينفع مالٌ ولا بنون.

 

 

 

 

 

22/7/1993م

ذكر الله

 

عندما نعيش ذكر الله في كلّ حركة الحياة

يطلب القرآن الكريم من النّاس أن يعيشوا الأسلوب التربويّ الإيماني الذي يريد الله لهم أن يأخذوا به، فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً*وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب : 41 ـــ 42]، وأن يذكروا الله تعالى، هو أن يعيشوا مع الله سبحانه، فيذكروه في عقولهم وقلوبهم وألسنتهم في كلِّ حركة حياتهم، لأنَّ مشكلة الإنسان في ضلاله وكفره وفسقه وفجوره، هي نسيانه لله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر : 19] فالإنسان الذي ينسى الله ويغفل عنه ولا يذكره، هو إنسانٌ ينسى خطَّ التوازن في حياته، وينسى الضوابط التي تضبط حركته، ولكنّه عندما يذكر الله في عقله في كلِّ مواقع عظمته، فإنَّ عقله يمتلئ بعظمة الله، وعندما يتذكّر الله في مواقع نعمته، فإنَّ قلبه يمتلئ بشكر الله، وعندما يتذكّر الله في كلِّ ما يريده منه ممّا يأمره به ليفعله، وممّا ينهاه عنه ليجتنبه، فإنَّ حياته تطفح بحبّ الله تعالى، وهذا هو ما يجعله إنسانَ الله الذي يعيش إنسانيّته من حيث إنّها هبة من الله له في وجوده، ويجعله يتحسّس عبوديّته لله، فإذا ما أحسَّ بذلك، فإنّه يدرك بأنّ الله يملك وجوده كلَّه.

وعلى هذا، فالإنسان يأخذ حريّته فيما يملكه، أمّا فيما لا يملكه، فكيف له أن يأخذ حريّته فيه؟ فأنتَ كإنسان، هل تستطيع أن تأخذ حريّتك في أملاك الناس فتشعر بقدرتك على أن تتصرّف بأموالهم كما تريد؟ إنَّ الناسَ يقولون لك، تصرّف في ملكك، أمّا في أموال الناس، فأنتَ لا تملك الحريّة في ذلك، لأنّك لا تملك شرعية التصرّف بما يملكون، وإذا كنت لا تشعر بحريّتك أن تتصرّف في أموال الناس، فكيف تملك حريّتك في أن تتصرّف بمال الله؟ فعيناك وأُذناك ويداك ورجلان وكلُّ أجهزة جسمك هي مُلك الله، فكيف تسخِّر مُلْكَ الله بمعصية الله؟ وقد قلناها مراراً على لسان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "أقلّ ما يَلْزَمُكُمْ لله ألا تستعينوا بِنِعْمَتِه على معاصيه"(*) إنْ أردت أن تعصيَ الله فاعصِ اللهَ بشيء لم يمنحك الله عطاءه، أمّا أن تعصيه بما أعطاك سبحانه، فإنَّ ذلك يمثّل منتهى الوحشية والتمرّد على الله. ولذلك، فإنّنا عندما نذكر الله، نذكر أنّه خلقنا ورزقنا، وأنَّه هو المهيمن علينا في كلِّ أمورنا، وهو الذي يُحيينا ويُميتُنا، وأنّنا لا نملك من أمرنا شيئاً إلاّ بما ملَّكنا.

فوعي الذكر لله، هو الذي يجعلك تتحسَّس وجودك لتعرف معنى هذا الوجود ومعنى مسؤوليته، ولتعرف حركة الوجود كلّه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون : 115]  تذكّر أنّ الله تعالى لم يخلقك لتعبث وتشتهي ولتأكل وتشرب ثمّ تموت، ولكن لتعيش مسؤوليتك تجاه الله وتجاه نفسك وتجاه الحياة من حولك.

فمسألة ذكر الله هي التي تجعلك تذكر كلَّ حركة حياتك من حيث هي مشدودةٌ إلى مسؤوليتك بين يديّ الله، وأن تذكر كلَّ ما تُقبل عليه في آخرتك، من حيث إنّها الساحة التي تقف فيها لتواجه كلَّ حسابات حياتك التي مضت بين يديّ الله، ولتواجه مصيرك من خلال حساباتك.

وعندما يؤكّد القرآن الكريم على ذكر الله {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب : 41] فليس هو الذّكي اللّساني والذّكر القلبيّ فقط، بل هو أيضاً الذكر العمليّ، وذلك كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) فيما رُويَ عنه أنَّه قال: "ليس سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، ولكنْ أن تذكر الله عند كلّ حرام فتتركه، وأن تذكر الله عند كلّ واجب فتفعله" فالمقصود بالذّكر هو الذي يجعلك تشعر بأنَّ الله مسيطرٌ على كلِّ كيانك، هو الذكر الذي يهزُّ عقلك ليفتح قلبك ويركّز جوارحك، ويمهّد دربك، ويحدّد لك هدفك، لتكون بكلِّك مع الله سبحانه وتعالى.

عندما يكون يومك إحساساً مستمرّاً بعظمة الله

ولهذا، يريد الله سبحانه من الإنسان أن يبدأ صباحه بالتسبيح، ويبدأ مساءه بالتسبيح {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب : 42] فالتسبيح هو استشعارك لعظمة الله، وبذلك تكون ساعات يومك حركة في الإحساس بعظمة الله، بحيث تفقد الإحساس بعظمة غيره، ولا يبقى في قلبك إلاّ حبّ الله {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة : 165] على أساس ما يتّصف به سبحانه من صفات العظمة التي يمتلئ بها العقل، ويخشع لها القلب، وتنحني لها الإرادة. وهكذا فإنَّ تمثُّلَ الإنسان لعظمة الله سبحانه يمنعه من أن يعصيَ ربَّه وينحرف عن دربه في أن يطيع غيره في معصيته، أو يسحق إرادته الشخصية تحت إرادة غيره بتمرّده على إرادة الله. فمسألة الإحساس بعظمة الله لها دور حركيّ وعمليٌّ في حياتنا، فهي ليست مجرّد حالة نفسيّة أو قلبيّة نتحسّسها، بل هي حركة ننضبط ونتوازن من خلالها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً*وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب :41 ـــ 42] اذكروه تعالى وأنتم في أعمالكم وأشغالكم، أذكروه وأنتم في لذّاتكم، أذكروه دائماً حتّى يشرق نوره سبحانه في عقولكم وقلوبكم وحياتكم، لتسيروا على أساس النور الذي يجريه من خلال ذكره في حياتكم، وهكذا في التسبيح {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب : 43] فإذا كنتَ المؤمن الذي يذكر الله ويسبّحه، فإنَّ الله يصلّي عليك، تماماً كما يصلّي على رسوله، فالله يصلّي على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّه بلّغ الرسالة وأخلص في تبليغها، ولأنّه عبدُه الذي عبدَه وأطاعه، كما لم يعبده ويُطعه أحد. ولأنّه جاهد في سبيل الله، كما لم يجاهد في سبيله أحد، فإذا كنت المؤمن الذي يذكر الله فيطيعه، ويسبّح الله فيخضع له، فإنّ الله يصلّي عليك، وصلاة الله عليك، هي غفرانه لك ورضوانه عليك وارتفاع درجتك عنده في الدنيا والآخرة. فالله، هو الذي يصلّي عليك أيّها المؤمن إذا سرت في خطّ الإيمان، وملائكته يصلّون عليك أيضاً {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} ما هو هدف هذه الصلاة ومهمّتها؟ إنَّ الله تعالى إذا أنعم بصلاته عليك، وبمغفرته ورضوانه ورحمته ولطفه، فإنّه يلقي في عقلك وقلبك وحياتك نوراً، فتخرج من الظلمات إلى النور. لهذا، أن تكون مؤمناً وتبقى في الظلمات، ذلك معناه أنَّ هناك خللاً وضعفاً في إيمانك، فبمقدار ما تكون مؤمناً، بمقدار ما تكون مشرقَ العقل والقلب والروح بالله. فالله سبحانه وتعالى أراد للمؤمنين أن يتحرّكوا في خطّ الإيمان من أجل أن يعيشوا في نورٍ من إيمانهم، نور يُشرق في الدنيا، فيدلُّهم على الطريق الواضح، ونور يشرق في الآخرة فيهديهم إلى طريق الجنّة.

وفي آيةٍ أخرى يحدّثنا القرآن أنّ الله يصلّي على جماعة من الناس لميزة في أنفسهم لا ميزة مثلها {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155] الصابرين على نقاط ضعفهم وعلى شهواتهم، والصّابرين على ما يُساء إليهم، وعلى الضغوط التي توجّه لهم، والصّابرين في البأساء والضرّاء، والصّابرين على طاعة الله وعن معصيته، والصّابرين على البلاء والمصائب {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة : 156 ـــ 157] كلّما كنت صابراً أكثر، كلّما صلّى الله عليك أكثر {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب : 43] هناك صلوات ورحمة، وهنا أيضاً يصلّي على المؤمنين ويرحمهم في كلِّ أمورهم، في الدنيا وفي الآخرة. لذلك، نحن كمؤمنين إذا أحْسَنَّا الإيمان، فإنّنا لا نخاف من القبر ولا نسقط أمام خوف المحشر، لأنّنا نوقن برحمة الله، فنحن في الحياة ورغم ما يصادفنا من عقبات ومشاكل، نشعر بأنّنا نتقلّب في رحمة الله، لأنَّ رحمته سبقت غضبَه، وليست رحمة الله في الدنيا وحسب، بل في القبر والمحشر والحساب رحمته. وبهذا تنفتح كلُّ حياتنا لرحمته، وتخشع كلّ قلوبنا للخوف من نقمته، لأنّنا يجب أن تعيش التوازن في هذه المسألة.

وهؤلاء الذين يصلّي الله عليهم ويرحمهم {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} [الأحزاب : 44] هذا لقاء العبد مع سيّده، ولقاء الدّنيا، ويعطيهم السلام تحيّة منه في الآخرة {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد : 24] فالسلام من الله، والسعادة والنِّعمة والرضوان من الله {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} الأجر الكريم الذي ينطلق من خلال طبيعته من كرم الله الذي لا حدَّ له في كلِّ رضوانه ورحمته.

المهمّة النبويّة

ثمّ يخاطب الله تعالى نبيّه ليعيَ المؤمنون طبيعة مهمّته وليتحرّكوا معه في كلِّ حركته ورسالته {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب : 45] تشهد على أمّتك في حركتها في طاعة الله {وَمُبَشِّراً} تبشّر ممّا للمؤمنين من أجر حَسَنٍ وهم يسيرون في خطّ الدعوة إلى الله {وَنَذِيراً} تنذر الناس عذاب الله {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} لتقرّب الناس إلى الله وإلى رسالته وطاعته وإلى القرب منه وإلى العبوديّة له {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب : 46] والنبيّ سراج نور يضيء على أُمّته من خلال ما يقدّمه لها من نور الإيمان والتقوى ونور الحياة كلِّها.

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب : 47] بشِّرْهم يا محمّد، وأنتَ المبشِّر، لأنّهم إذا آمنوا وساروا في خطّ الإيمان، فإنَّ لهم الفضل الذي لا يُدرَك كنهُه ولا يُعرف حجمُه {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب : 48] لا تطعهم فيما يريدونه من الكفر. وكما الخطاب موجّه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فالمؤمن الرساليّ معنيٌّ بهذا الخطاب، ففي مواجهة الكافرين ومخطّطاتهم ليس له إلاّ أن يواجههم بقوّة ما يؤمن به {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ*لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 ـــ 6] وقل للمنافقين مثل ذلك، لأنّ المنافقين إذا أسلموا باللّسان، فقد كفروا بالقلب والجنان، فهم والكافرون سواء {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140] ولذا {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب : 48] لا تتوقّف في تبليغ دعوتك إذا أرادوا أذيّتك، ولا تنسحب من الساحة عندما يضطهدونك، تابع سيرك، لا تلتفت إلى أذاهم، لا تتعقّد ولا تحزن {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فإنَّ الله سوف يزيل عنك كلَّ أذى الكافرين والمنافقين ولو بعد حين {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أن نجعل الله وكيلاً عنّا في كلِّ ما يغني حياتنا، وفي ما يحفظنا ويركّز حياتنا وأمورنا، ولنعش مع الله دائماً فيما يريده لنا من الثبات والتوكُّل عليه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران : 173].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

29/8/1991م

وحده من

يستحقّ الذكر

 

ذكر الله

لا بدّ للإنسان المؤمن عندما يذكر اسمَ ربِّه، ألا يذكره وقلبه غافلٌ، أو يذكره سبحانه كما يذكُر أيَّ اسم من الأسماء، وذلك ليعرف مقامَ ربِّه ولينزّهه عن كلِّ صفةٍ من صفات المخلوق، فلا يحاول أن يساويَ بينه سبحانه وبين أيِّ مخلوقٍ آخر ممّن يعيش معه في أيِّ صفةٍ من الصفات، فإذا ذُكِرَ العلم، عليه أن يعرف أنَّ ربّه الأعلم، وإذا ذُكِرت القدرة، فإنَّ الله تعالى هو الأقدر، وإذا ذُكِرَ أيُّ شيء، فالله سبحانه يمثّل أعلى الدرجات في كلّ شيءٍ، بحيث لا يساويه شيءٌ مهما كانت عظمته، لأنّ كلَّ شيءٍ يستمدّ وجوده من الله، وإذا كانت الأشياء تستمدُّ وجودها من الله، وتستمدّ عظمتها وقوّتها وغناها منه سبحانه، فكيف يمكن للإنسان أن يساويَ بين الله وبينها؟

فإذا ذكرتَ الله، عليك ألا تذكر أحداً معه، ولذا جاء في القرآن الكريم {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن : 18]، عندما تريد أن تذكرَ الله، فإنَّ عليك أن تذكرَه وحدَه، وإذا ذكرتَ غيره، يجب أن يُذْكرَ على أساس أنّه عبدٌ ومخلوقٌ له ومحتاجٌ إليه. ومع كلِّ التعظيم والتقديس لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبأنَّه أفضلُ خلق الله، فعندما نذكر ونشهد لله بالوحدانية (أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَ الله) ونشهد للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالرسالة (وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسوله)، فإنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع عظمته وعلوّ درجته وشأنه يبقى عبداً لله، وعظمةُ عبوديّته لله، بمقدار إخلاصه في هذه العبودية.

ارتباط الذكر بمعرفة عظمة الله

ونعود إلى ذكر الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى*الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى*وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى*وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى*فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} [الأعلى: 1 ـــ 5] نزِّه اسمَ ربِّك عن كلِّ صفةٍ من صفات المخلوقين، وكلِّ شأنٍ من شؤونهم.. وكأنَّ الخطابَ القرآني يتوجّه للإنسان متسائلاً: أتعرف مقامَ ربّك ومنزلته تعالى؟ والنصّ القرآني ليس بحاجةٍ للجواب.. فربُّك هو الأعلى، بحيث إِنَّ كلّ شيءٍ تتصوّره، فإنَّه في مقارنته بالله سبحانه، يكون هو الأسفل في كلّ شيءٍ، والله هو الأعلى في كلّ شيءٍ. وهذه الفكرة كما عرضنا في كثيرٍ من أبحاثنا وأحاديثنا عن الله سبحانه، يجب أن نربِّيَ أنفسنا عليها، فلا يكفي أن نُدخلها في عقولنا، فنشعر أنّ الله هو الأعلى، بل لا بدّ أن ندخلها في قلوبنا، فلا تخفق إلاّ له سبحانه وتعالى، وإذا خفقت لغيره فمن خلاله وَحْدَهُ.

النظام الموزون

وما هي صفة ربِّك فيما له من صفات قدسية؟ {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} فالله سبحانه فوق كلِّ شيءٍ، لأنّه لا يساويه ولا يعادله ولا يماثله شيء، فخلق كلّ شيءٍ فسوّاه وأوجده وجعله مستقيماً سويّاً في خِلْقَته، فلا تجد مخلوقاً في الكون إلاّ وهو خَلْقُ الله {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} قدّر لكلِّ شيءٍ حجمه ودوره وعلاقته التي تتكامل مع نظام الكون، فيصبح الوجود متوازناً، لا اختلال فيه {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر : 49] فادرس ـــ أيُّها الإنسان ـــ المخلوقات الجامدة والحيّة، ادرسها في شكلها وطبيعتها وحركاتها وخصائصها وعلاقاتها مع بعضها، فإنّك تجد حدوداً لكلّ شيءٍ فيها، بحيث لا تنقص ولا تزيد عن طبيعة الحدّ الذي حدّده الله تعالى، وعلى هذا، فإنّه {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه : 50] بمعنى أنّه سخّره لدورٍ محدّد ووظيفة معيّنة، ووجّهه للدور الذي أعطاه إيّاه.. ولذلك لو أردت أن تدرس علومَ الطبيعة والنبات والحيوان والإنسان، وكلَّ خصائص الكون، لرأيت أنَّ كلَّ موجودٍ فيه ينطلق في نظام موزون يتحرّك على قاعدة إكمال دوره في الحياة. ومعنى الهداية في الآية المباركة، أنَّ الله سبحانه أوكل لكلّ موجود دوراً بحسب طبيعته، فهدى الشمس والقمر مثلاً لأن ينتجا النور والضياء والدفء والحرارة {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس : 40] وهكذا في الإنسان الذي هداه لمسؤولياته، وفي الحيوان والجماد والنبات {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى : 4] ومَنْ يجب عليك أن تذكره وتسبّحه، هو الله تعالى الذي أخرج كلّ هذا العشب والخُضرة، التي ترعاها المواشي فتتغذّى بها, وتستفيد أنتَ من لحمها وصوفها وما يُستخرَجُ منها {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل : 80] وهكذا يبدأ المرعى أخضرَ طيِّباً يُبْهِرُ الأنظار، ثمّ يُصبح يابساً {فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} [الأعلى : 5] يتحوّل إلى هشيمٍ يابس {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف : 45] فالغثاء هو ما صار من العشب يابساً {أَحْوَى} أي أسود، أو مائلاً إلى السُّمرة.

وكأنَّ الله تعالى يُوحي للإنسان بأنّه يخلق الأشياء فيُحييها ثمّ يُميتها إظهاراً لعظمته وقدرته، فيتحسَّس علوّه في كلّ ما حوله من الموجودات التي تحيط به، وربّما ذكَرَ القرآن "المرعى" وحده كونه يرتبط بالأرض، باعتبار أنّه يمثّل التجربة الحيّة التي توحي له بمسألة الحياة والموت {وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل : 65] فما أنَّ الله سبحانه قادرٌ على إحياء الأرض بعد موتها، قادرٌ على إحياء الموتى {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت : 39].

ثمّ تنطلق الآيات القرآنية مُوجّهة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} [الأعلى : 6] نُقرئك القرآن وآيات الله ووحيه قراءةً تستقرُّ في عقلك وقلبك وكيانك لتستوعب القرآن في كلّ عناصر هذا الكيان، فلا تنسى ذلك أبداً {إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ} [الأعلى : 7] إلاّ إذا شاء الله لك أن تنسى، ونحن نعرف أنّ الله تعالى لم يُرِد للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن ينسى أبداً، ولكن ذكر ذلك حتى يُوحيَ إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ أمره بيد الله، وهو القادر على أن يُقرِأَه فلا ينسى {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى : 7] فعندما يُقرئك الله ذلك، ويريد منك أن تبلّغه وتعلّمه وتعمل به وتطبّقه في حياتك وحياة الآخرين، تذكّر هذه الحقيقة، وهي أنّه سبحانه لا يخفى عليه شيء، فكذلك يعلمه، فالجهر والسِّرُ عنده سواء. أمّا البشر فيختلف عندهم حال الإعلان عن حال الخفاء، أمّا هو سبحانه، فالأمر عنده حالٌ واحد، لأنّه يعرف عُمقَ الأمور وخفاياها، كما يعلم سطحها وظواهرها. وهذه نقطةٌ إيمانية، من الضروريّ أن تعيش في وعي المؤمن، فكما أنَّ عليه أن يتّقي الله في الجهر، عليه أن يتّقيه في الإخفات.

وبعد أن يُقْرِئَ الله نبيَّه قرآنه، فإنّه يسدّده {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى : 8] نُيسِّر خطواتك ـــ يا محمّد ـــ ودربك وحياتك ونهجك وكلَّ أمرٍ تتحرّك فيه. واليسرى مفسّرةٌ بالجنّة، أي نيسِّرُك للجنّة بتيسير خطواتك نحو مواضع رضى الله وطاعته التي تؤدّي بك إلى الجنّة.

مسؤولية التذكير بالله

وبعد هذا العرض القرآني لقدرة الله وعلمه، ما هي مهمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومسؤوليته أمام ذلك؟ {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى : 9] وكما أنّ هذا الخطاب يطلب من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يذكّر النّاس بالله تعالى، فكذلك يحمِّل المسلم مسؤولية الدعوة إلى الله، ومسؤولية التذكير بثواب الله وعذابه.. لأنّ عليه كمسلم يحمل الإسلام في عقله وحياته ـــ أن يقول كلمة الحقّ في أن يوقظ وعي النّاس نحو الحقّ، ويوظّف في ذلك كلَّ إمكانياته وقدراته، ولا يُثبط عزيمته تمرُّدهم وابتعادُهُم، كما يفعل الكثيرون الذين يتخلّون عن دورهم في الدعوة، فيبرّرون انسحابهم من السّاحة بسبب أنَّ الله ختم على قلوب البعض وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فما فائدة أن ندعو؟ فالجوُّ من حولنا يهزأ بنا ويسخر منّا، فلماذا نُتعب أنفسنا، خصوصاً وأنّ النتائج معروفة هذا منطق اليائسين الذين يهربون من مواجهة مسؤولياتهم، لأنَّ الله يأمرنا أن نذكِّر حتّى ولو وضعوا أيديهم في آذانهم، فلعلَّ الكلمة تدخل إلى الأذن وتأخذ طريقها إلى العقل والقلب، ثمّ قد تأتي الكلمة الثانية والثالثة والرابعة، وربما تُوجِد في شخصية من نذكِّره بالله خزّاناً من المواعظ، فيعود إلى الله، كما المطر ينزل خفيفاً خفيفاً، أو نقطة نقطة، فيأخذها الهواء ويجفّفها، ولكنّها تُبقي في الأرض شيئاً من الرطوبة، فتأتي النقطة الثانية والثالثة تنزل إلى الأرض فتتحوّل إلى خزّان. لذلك، إنّ علينا أن نذكِّر مَنْ يقبل منّا ومَنْ لا يقبل حتّى نعذر إلى الله {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى : 10] مَنْ عاش في قلبه الخوف من الله وحَسِبَ حساب المصير، وفكّر بيوم القيامة. وإذا سمع كلمة الله أولاً وثانياً، وكانت الغفلة تحيط بعقله وقلبه، فسوف تفتح كلمات الله ثغرةً هنا في عقله، وثغرةً هناك في قلبه، وثغرةً هنالك في شعوره، وستنفتح نفسه كلُّها على الله تعالى. وأمّا مَنْ عطَّل سَمْعَ الأذن والقلب {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى : 11] ولم يبدِ أيِّ استعداد ليفتح قلبه على الحقّ، وأعلن التمرّد، وأظهر الكِبْرَ والاستعلاء والاستكبار، وأظهر عدم استعداده لأن يسمع أو يفهم أو يفكّر، فما النتائج التي يتحمّلها؟ {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى*ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 12 ـــ 13] جزاء ضلالهم وفجورهم وفسقهم أنّهم يدخلون إلى النار ويأكلون الزقّوم ولا يطيقون العذاب، فيتمنّون الموت ظنّاً منهم أنّهم يتخلّصون من هذا العذاب {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} خلّصنا فليقضِ ربُّك علينا بالموت. ويأتيهم الجواب سريعاً {قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} [الزخرف : 77] لا، {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى : 13] لا يُحِسُّ براحة الموت، ولا يُحِسُّ بطعم الحياة.

هذا الشقيّ، وأمّا السعيد {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى : 14] الناجح المفلح الذي تظهرُ علاماتُ النجاح في دروبه ونهايات أمره، والمطمئن للنتائج الإيجابية في حياته، هو الذي يزكِّي نفسه ويطهِّرُها، وينمِّي الطاقات الحيّة الإيجابية فيها على خطِّ الورع والتقوى، وهذا السعيد، مَنْ بقي ذكر ربِّه حاضراً في وعيه {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى : 15] لم يذكره باللّسان وحسب، بل ذَكَرَه حضوراً في وعيه في كلّ منطلقات حياته، ولذلك فإنّه يصلّي، لا من خلال العادة، ولكن من خلال وعيه لمقام ربِّه وإحساسه بعبوديّته له، وإيمانه بأنَّ عليه أن يقوم لربِّه في ليله ونهاره.. وهذا هو سرُّ الفلاح وسرُّ النجاح.

ولكن، ما مشكلة هؤلاء الذين لم يخشوا مقام ربِّهم فطغوا واستكبروا وانحرفوا وضلُّوا؟ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى : 16] تفضّلون الحياة الدنيا على الآخرة، كما لو أنَّ الدنيا خالدةٌ لا تفنى، وكما لو أنّها مطلوبة لنفسها، بينما هذه الحياة الدنيا مطلوبةٌ لغيرها {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص : 77] لك حظٌّ في الدنيا، لكنَّ الدنيا ليست كلَّ حظِّك "الدنيا مزرعةُ الآخرة"(*)، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى : 17]، خيرٌ من الدنيا وأبقى، لأنَّ نعيمها يختلف عن نعيم الدنيا، ومدى الآخرة غير مدى الدنيا، مدى الدنيا هو مدى عمرك، ومدى الآخرة هو مدى الخلود، ونِعَمُ الدنيا ممزوجةٌ بالشقاء والراحة والفرح والحزن، أمّا نِعَمُ الآخرة، ففرحٌ لا حزنَ معه، وراحةٌ لا تعب معها، ولذا هي خيرٌ وأبقى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف : 46].

وهذا الحديث الذي يتلوه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الله تبارك وتعالى، ليس حديثه وحده، إنَّما هو حديث الأنبياء (عليه السلام) الذين أرسلهم الله ليذكِّروا الناس بالله، ليتّخذوا طريق الفلاح، بأن يزكّوا أنفسهم ويذكروا اسمَ ربِّهم ويصلُّوا له {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى : 18 ـــ 19] كي يسيروا على ما سار عليه الأنبياء، وينطلقوا في الخطّ الذي انطلق فيه الأنبياء ليصلوا إلى الله من أقرب طريق.

 

 

18/11/1993م

آيات الله

في الخلق

 

وحده مَن يستحقّ التسبيح والحمد

يحثّ القرآن الكريم الناس على أن يسبّحوا الله تعالى انفتاحاً على مواقع عظمته، فيقول سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم : 17] سبّحوا الله عندما تصبحون حين يشرق الصباح من خلال طلوع الشمس، وحين تنفتح الحياة على كلِّ ما فيها من عظمة الله وجماله وجلاله، حيث تتعرّفون وأنتم تتحرّكون في الصباح إلى مواقع رزق الله ونِعَمِه، وتستشعرون بذلك عظمة الله في رحمته وفي خلقه، فتنطلقون بالتسبيح، حيث يقول كلُّ واحدٍ منكم تعبيراً عمّا يُحسّه في نفسه بعظمة الله: "سبحان الله".. وهكذا سبِّحوا الله حين تمسون، وإذا بالشمس التي كانت تنير وجودكم قد غابت، ليحلّ الظلام، ويأتي المساء مشرقاً بالقمر والنجوم، فتستسلمون لراحة الليل في سكون الأعصاب وهدوء الجسد، وعند ذلك تستشعرون عظمة الله في ظلام الليل، كما استشعرتم ذلك في إشراقه النهار، وتعيشون نعمة الله في راحتكم بالليل، كما عشتموها في حركتكم في النهار {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} في بداية المساء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم : 17] في بداية الصباح {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم : 18] له الحمد ولا حمد لغيره، لأنَّ كلّ حَمْدٍ مستمَدٌّ من حمده، فهو الذي أعطى كلَّ خلقه ما يُحْمَدَون عليه، فالخلق يُحمد من خلال ما فيه من خصائص وعناصر وأخلاق وأقوال وأعمال، وكلُّ ذلك من عطاء الله، فهو المحمود بحمد خلقه، من خلال أنَّه المحمود في ذاته {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ} في عظمة خلقه في السموات {وَالْأَرْضِ} وفي عظمة خلقه في الأرض {وَعَشِيّاً} في بداية الليل {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وفي وقت الظهيرة، فكلُّ وقت ينطق بحمده، وكلّ خلق يلهج بحمده، وكلّ وجود يتحرّك من خلال حمده، فله الحمد كلُّه في السموات والأرض وفي كلّ آنٍ وزمان {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم : 19] فقد يموت الإنسان الجنين داخل رَحم أُمّه وهي حيّةٌ، وقد تموت البذرة في عمق الأرض وهي تهتزّ بالحياة {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} يتصرّف في الأمور بإرادته، فليس من الضروريّ للميّت أن يُخرج ميتاً، ولا للحيّ أن يُخرج حيّاً {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} لأنّه سبحانه يتصرّف في خلقه بقدرته التي لا يحدُّها ولا يحكمها شيء {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أتعرفون كيف يكون البعث؟ قد تستبعدون أن يُبعث الإنسان بعد موته، وقد تعجبون كيف أنَّ الله تعالى يعطي هذا التراب الذي كنتم أنتم حركته في الحياة، كيف يعطيه الله الحياة، وكيف يُحيي العظام وهي رميم، وكيف يُحيي الأرض بعد موتها {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس : 33] كانت الأرض ميتة، فأنزل عليها الماء، {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج : 5] تكون الأرض ميتة، فتنبعث فيها الحياة بقدرة الله، وتكون العظام ميتة فَتُبْعث فيها الحياة بقدرة الله {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} فالقادر على أن يُبدع الشيء من اللاشيء، قادرٌ على أن يُبدع شيئاً من الشيء.

ويتوجّه الخطاب القرآني للبشر: أنتم الذين تضجُّ الحياة في كلّ أجسادكم، فتتحرّك عقولكم بالفكر، وألسنتكم بالكلمة، وعيونكم بالنظر، وآذانكم بالسماع، وأيديكم وأرجلكم بالحركة، كيف خُلقتم قبل أن تكونوا نطفة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم : 20] فكيف كنتم؟ كنتم تراباً، ثمّ كانت النطفة دماً، وقبلها كانت غذاءً، وكان الغذاء نباتاً، وقبل أن يكون نباتاً، كان تراباً {ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} فإذا بالدنيا تمتلئ بكم.. وهذا التراب المنتشر في الصَّحارى وفي كلِّ مكان، في الجبال والسهول، هذا التراب هو أنتم، تحوّل من تراب إلى نبتة إلى نطفة ودم، ثمّ انطلقت فيكم رحلة الحياة {وَمِنْ آيَاتِهِ} كيف أعطى الله النبتة سرَّ الغذاء، وكيف أعطى الغذاء القدرة على أن يتحوّل دماً، كيف؟ ففي التراب الحنطة وكلُّ الغذاء، ما علاقة النطفة بالدم؟ وكيف صار الدم علقة تحمل عناصر الأنوثة والذكورة، تحمل ملامح الوجه والشخصية، ما العلاقة بين هذا وذاك؟ ومَن الذي أعطى النطفة حركة النموّ فتطوّرت وصارت عَلَقة؟ مَن الذي أعطى العلقة النموّ فصارت مضغة، مَن الذي أعطى المضْغَة النموّ فصارت عظاماً، وكسا العظام لحماً، فصار خلقاً آخر؟ هو الله، وهذا سرّ عظمة آياته. فالله تعالى أعطى للعلاقة الحركة بين التراب والبشر، والحركة بين التراب والحياة، فقدرته هي سرُّ كلِّ ما في خلقه من عناصر وقدرات وإمكانات.

السَكَنُ والمودّة والرحمة في العلاقة الزوجية

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم : 21] وخلق الزوجين الذَّكر والأنثى، ولا يحصل الالتئام والسكن والطمأنينة والهدوء والراحة إلاّ أن يتزوّج الإنسان من جنسه، لذلك لم يخلق للإنسان أزواجاً من الجنّ أو الملائكة. وقد أراد الله للزوجية في حياة الإنسان أن تكون عنصر راحة وسكينة، حيث يرتاح فيها إنسانٌ مع إنسان، ويخلو فيها إنسانٌ مع إنسان {وَمِنْ آيَاتِهِ} من معاجزه وأسراره {أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} لا من غيركم، بل من إنسانيّتكم {أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} لتطمئنوا وترتاحوا، وهذا ممّا يدلُّ على أنّ دور الزواج لا ينحصر في المسألة التي تتعلّق بالجسد، فيما هو الجانب الغريزي، بل إنّ له دوراً كبيراً يتعلّق بالروح والشعور والإحساس، لأنّه كي يطمئن الإنسان، لا بدَّ له من الانفتاح على إنسان آخر بروحه وفكره وقلبه {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً} جعل كلَّ واحد منكم يودُّ الآخر ويرحمه بالعاطفة والمحبّة {وَرَحْمَةً} وأن يرحم الواحد الآخر، وتتمثّل الرحمة بأن يشاركه آلامه ومشاكله وهمومه، ويتعهّد ظروفه فلا يُثقلها عليه، أو يضغط عليه بما يسقط واقعه وحياته، وهكذا نفهم أنَّ الحياة الزوجية بعيدة عن الديكتاتورية، بمعنى أنَّ الرجل سيّد المرأة، هو يأمر وهي تطيع أو بالعكس، وبعيدة عن الروح "القانونية"، أي أنّها تثبت حقّها من خلال مطالبته بتطبيق المادة القانونية التي تنصّ على أمر معيّن، أو هو يثبت حقَّه بالمطالبة بتطبيق القوانين التي تحفظ حقّه.. فالله جعل القوانين الشرعيّة لتنظيم الحياة الزوجية عندما تتحوّل إلى واقعٍ من اللامسؤولية، عند ذلك على كلِّ واحدٍ منهما أن يقف عند حدّه، لكن عندما تجري الحياة الزوجية في مسارها الطبيعي، فإنّ الرحمة والمودّة تكون عنواناً للعلاقة بين الزوجين، فيتصرّف الرجل مع المرأة بما يرحمها فيه، وتتصرّف المرأة مع الرجل بما تودّه فيه، فلا مجال للاضطهاد والضغط والتخويف، فالعلاقات الإنسانية يجب أن تُبنى على الدوام على المعنى الإنساني، الذي يعيش فيه الإنسان مع الآخر بكلّ الصفاء والهناء. وهنا يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) عندما يحدّثنا عن الإنسان المؤمن: "الناس منه في راحة"(*) يعيش معه الناس بكلّ الراحة، "وبدنه منه في تعب" يُثقل بدنه بالعبادة والمسؤولية، وبحمله لهموم الآخرين، وللآلام التي يعيشونها من خلال تضحياته في سبيلهم، فالمؤمن لا يُثقل على مَنْ يعيش معهم، فلا يكون ثقيل الواقع وثقيل الظلّ "المؤمن حَسَنُ المعونة" كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) و"خفيف المؤونة" لا يكون ثقيلاً على زوجته وأولاده، ولا تكون هي متطلّبة وثقيلة على زوجها وأولادها، وفي الحديث "لا يكن أهلك أشقى الناس بك"(**) وورد أيضاً عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"(***). إذاً، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم : 21] علينا أن نستوحي هذه الآية في تصوّرنا للعنوان الكبير للحياة الزوجية في الإسلام، لكي نربّي أنفسنا على أساس أن نكون أزواجاً مسلمين، ننفتح بالإسلام على معنى الزوجيّة.

 

 

استشعار عظمة الله

{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم : 22] إنَّكم تعتادون رؤية السموات في ظاهرها، وهكذا الأرض، ولا تعرفون ما في داخلها، ومعرفة ظواهر السموات والأرض تعطيكم هذا الشعور بالعظمة، فكيف إذا نفذتم إلى داخلها، فأيَّ شعور بعظمة الله تعيشونه؟ وهذه الألسنة باختلاف لغاتها، مَنْ علّمكم النطق بها، هل غير الله الخالق المدبّر؟ وهكذا ألوان بَشَرتِكم، لقد خلقكم الله من تراب، فكيف صارت ألوان وجوهكم بيضاء وسوداء وصفراء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} الذين ينطلقون بالعلم وينفتحون عليه، فالعالم يعرف سرَّ الأشياء، ولذلك يعرف عظمة مَنْ أودع هذا السرّ في مكانه.

ويظلُّ الخطاب القرآني مُذكّراً للإنسان بِنِعَم الله {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم : 23] جسمك الذي يدبُّ بالحركة والنشاط، كيف تشعر بالخَدَر يدبُّ إليه. إلى عينيك فتنام، في الليل تارة وفي النهار، ما هو سرُّ عالَم النوم في حياتك، إنّك تغيب بالنوم عن الحياة، وإذ بك تدخل في جولة حول العالم تختصر فيها كلَّ المسافات، فتخترق وأنتَ نائم البلدان من بلد إلى بلد، ومن موقع إلى موقع، في لحظاتٍ معدودة، فمن أودع فيك كلَّ هذا، غيرُ الله؟ {وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ} فهذه هي حركتكم في ابتغاء ما أولاكم الله من فضله ورزقه، فكيف انطلقت الحوافز لذلك في كيانكم وذواتكم؟ كيف عرفتم ساحات الحركة وأدركتم الآفاق التي يفتحها الله لكم لتنالوا من فضله ورزقه؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} بعض النّاس يغلقون آذانهم عن سماع الحقائق وعمّا يربطهم بالله سبحانه، لذلك يقول الله لهم: افتحوا آذانكم جيّداً لتسمعوا ذلك، لأنّكم ستكتشفون اللهَ في ذلك كلّه.

 

 

7/4/1994م

عباد الرحمن

 

العبودية لله أساس حريّة الإنسان

مَنْ هم عبادُ الرحمن الذين اختصّهم الله سبحانه بأن نسبهم إلى نفسه، واختصّهم بانتسابهم إليه من خلال صفة الرحمة في ذاته، مَنْ هم هؤلاء الذين يمثّلون عمقَ العبوديّة لله؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، نقول: أن يكون الإنسان عبداً لله، معناه أن يعيش الخضوع له سبحانه في عقله وقلبه وأحاسيسه ومشاعره وفي كلِّ حركته في الحياة، ولا يقدّم رِجْلاً ولا يؤخّر أخرى إلاّ بعد أن يعرف أنَّ في ذلك لله رضىً. ونقرأ في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) فيما طلبه من ربّه: "واجْعل همسات قلوبنا وحركات أعضائنا ولمحات أعيننا ولهجات ألسنتنا في موجبات ثوابك"(*)، بحيث لا يخضع عقل وقلب الإنسان إلاّ لله، فلا يكون له فكرٌ إلاّ الفكر الذي يرضاه ربّه، ولا يحرّك عاطفته وأعضاءه في كلِّ أوضاعه وعلاقاته إلاّ بما يرى رضى الله في ذلك.. ولكنَّ بعض الناس يريدون أن يكونوا أحراراً أمام الله وعبيداً لشهواتهم وللعباد. فإذا ما قيل لواحد من هؤلاء: أطِعْ ربَّك ولا تعصه، فإنَّه يجيب بأنّه حرٌّ في أن يطيع الله أو يعصيه، ولكن إذا قال له عبدٌ من عبيد الله، ممّن يملك بعض ما أعطاه الله من قوّة سلطان ومال وجاه، فإنّه ينحني له، وهو إذا لم يسجد أمامه بجبهته، فإنّه يسجد بعقله وقلبه وإرادته له.

كنْ الحرَّ أمام الناس، وكن العبدَ لله وحده، فإنَّ عبوديتك لله هي أساس حريّتك، لأنَّ عبوديتك لله تنطلق من طبيعة وجودك، ووجودك مُلْكٌ لله، وإذا كنتَ مملوكاً لله، فإنَّك بذلك عبدٌ له سبحانه، لأنّ السيّد يملك عبده، أمّا الآخرون فهم مثلك، حتّى لو كانوا في أعلى الدرجات {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف : 194] فإذا كان الخلق أمثالكم فلماذا تخضعون لهم وتعبدونهم، وتدعون لهم من دون الله.

التواضع أمام عظمة الله

وعلى هذا، مَنْ هم عباد الرحمن؟ هم الذين يجسّدون في حياتهم الأخلاق التي يريد الله للنّاس أن يتخلّقوا بها، ويقوموا بالأعمال التي يحثّ الله على القيام بها، وحتّى أحلامهم التي يحلمون بها، فهي أحلامٌ مغسولةٌ برضا ومحبّة الله، فلا يعيشون الأماني، إلاّ إذا عبّرت عن معنى الإيمان في عقولهم، فلا يتمنّون أمنية فيها حرام أو معصيةٌ لله سبحانه.

ومن هنا، نقول لكلّ شاب: الحياة أمامك وفيها الكثير من حاجاتك، والله يقول لك، لكَ أن تحلم، لأنَّ للشباب أمنياته وأحلامه، ولكن لا تقرب الحرام، كلْ ما تشاء وتلذّذ بما تشاء وتمنَّ ما تريد، ولكن إيّاك أن يسيطر الحرام على تفكيرك في كلّ ذلك. والمشكلة التي تعترض طريقنا أنّنا نحبس أنفسنا أحياناً في زنزانة الحرام، مع وجود الساحات الواسعة للحلال، ونحن عندما نحبس أنفسنا في زنزانة الحرام، فسينتهي بنا الأمر إلى أن يحبسنا الله في زنزانةٍ من زنازين جهنّم.

ونعود للجواب عن السؤال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63] هؤلاء الذين إذا ساروا على الأرض، فإنَّ الأرض لا تشكو من خطواتهم، لأنّها خطوات المتواضعين الذين لا يكون سيرهم على الأرض استعراضاً يعبّرون فيه عن انتفاخ شخصيّاتهم استكباراً وعُلُوّاً حيث يعيشون في ذلك الورم ولا يعيشون الصحّة، على طريقة قول المتنبّي وهو يشير إلى بعض الناس:

أُعيذُها نظراتٍ منكَ صادِقةً                أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فيمن شحمُهُ وَرَمُ

بعض الناس يشعر أنَّ جسده مملوءٌ بالشحم، ولكنّه ليس شحماً، بل هو ورمٌ وانتفاخ، وكثيرون الذين يستعرضون أنفسهم وهم يسيرون أو يجلسون أو يتحدّثون، حيث ينتفخون بشخصياتهم ويدقّون الأرض بأقدامهم، هؤلاء يمثّلون ورم الشخصية وليس صحّة الشخصية وسلامتها، لذلك نبّه الله تعالى للإنسان {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [لقمان : 18] لا تمشِ مشيَ الخُيلاء والانتفاخ {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء : 37] لماذا تدقّ الأرض بقدمك، وترفع أكتافك كِبْرَاً، إنّك لن تفعل شيئاً مع الأرض مهما دققت برجلك، فالأرض قويّةٌ صلبةٌ ولن تترك أيّ أثر على سطحها {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان : 18] فالله تعالى يبغض الذين يختالون في مَشْيِهم وسلوكهم، وهم وإنْ حسبوا ذلك مظهر عظمة، ولكنّه في الواقع هو مظهر ضعف، حيث يقول الإمام الباقر (عليه السلام)(*): "ما من أحدٍ يتيه" والتيه هو الخُيلاء "إلاّ من ذِلّةٍ يجدها في نفسه" وهذا النوع من الاستكبار عند البعض ليس ناشئاً عن قوّةٍ في الشخصية، ولكنّه ناشىءٌ عن نقطة ضعف وعقدة نقص، يريد أن يغطّيَ ذلك ويستره بهذه الطريقة. لذلك، فإنّ الله يريدنا عندما نمشي أن نمشيَ مشياً طبيعياً لنصل إلى أهدافنا بكلّ طموح وتواضع، والأرض ليست للاستعراض، بل لننطلق على سطحها إلى مقاصدنا من دون أن نعيش الخُيَلاء والعلوّ.

الإعراض عن الجاهلين

ونعود إلى مواصفات عباد الرحمن {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63] وإذا اعترضهم الجاهلون ليفتحوا معهم معركة ليست في مصلحتهم، بل ليثيروا أمامهم المشاكل ويُربكوا واقعهم ويهزّوا توازنهم ويحرّكوا انفعالهم، فإنّهم لا يقعون فيما يُخطّط لهم. فالعاقل العاقل عندما يسمع كلمة الجاهل، فإنّه يدرسها ويدرس خلفيّاتها ونتائجها وظروفها، ويرى أنّ كلمة الجهل تريد إثارة انفعاله، فإنّه يقول للجاهل، أنا قادرٌ أن أردَّ على جهلك بجهل، ولكنّي أردُّ على جهلك بالسلام، لأُغلِقَ بابَ الحرب، لا من خلال ضعف في مواجهتك، ولكن من خلال قوّة عقل أُطلقها في مواجهة جهلك، ليعرف جهلُك حجمَه. وهذا هو السلوك الطبيعي للإنسان، حيث لا تكون أعصابه تحت رحمة الذين يملكون عناصر الإثارة، ولا تثور هذه الأعصاب إلاّ في الوقت الذي ترى فيه مصلحة للمواجهة، أمّا أن يثيره الآخرون فيفقد أعصابه وموقعه وتوازنه، ليدخل في معركة يسقط فيها داخل بئر حفروه له، فهذا ما لا يحدث، لأنّ العقل عنده يتحكّم بكلّ مناطق الشعور.

ولذا، نقول لمن يحاول الآخرون إسقاطه من خلال إثارته، لا تجعل أعصابك بيد الآخرين، اجعل نفسك سيِّدَ أعصابك، حرّكها عندما تشاء وأوقف حركتها عندما تشاء، وذلك عندما تعرف أنَّ الخير في إيقافها أو في حركتها، ولذلك حدَّثنا الله تعالى بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199] وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص : 55] فكن الإنسان الذي يعطي السلام للجاهلين لا من موقع ضعف، ولكن من موقع القوّة وموقع انفتاحك على الخير لتردعهم وتردّهم، وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "عاتب أخاك بالإحسان إليه"(*) لا تتحدّث معه بالكلام الكثير، إبعث إليه هديّة، أررد شرّه بالإنعام عليه "احصد الشرَّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(**). ومن الطبيعي أن تدرس ظروف مواجهتك للجاهل، لأنَّ الموقف في بعض الأحيان قد يحتاج إلى عملية جراحية تنقذ هذا الجاهل من أن يتحوّل إلى مجرم، كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام)(***): "وَأَمَّا حَقُّ مَنْ ساءك فأَنْ تعفوَ عنه، فإنْ رأيتَ أنَّ العفو يضرّه انتصرت"، انتصرت لنفسك، لأنَّك بذلك تعاقبه على أساس أنَّك تحميه من نفسه، لأنَّه إذا استسلم لعفو الناس عنه، فإنَّه سيزداد إجراماً يعود بالضرر عليه وعلى المجتمع.

 

عبّاد اللّيل

وصفةٌ أخرى من صفات عباد الرحمن يستعرضها القرآن الكريم، فيقول سبحانه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً} [السجدة : 16] يعيشون اللّيل، فيأخذون بعض قوّة وراحة فينامون، ولكن {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات : 17 ــ 18] واللّيل هو زمن الصفاء، الناس نائمون والكون هادئ، وإذا هدأ الكون من حول الإنسان هدأ عقله، لأنَّ الضجيج يفترس العقول، وفي هذا الهدوء يفهم الأشياء في وضوحٍ من رؤية، لأنَّ قلبه هدأ، وإذا هدأ الكون من حوله زالت الحواجز الكثيرة التي تفصله عن ربّه، فنفسه تصفو كلّما صفا الكون، وقلبه يسمو كلّما استسلم الكون لأجواء الروحانية. ولذلك، ليجلس واحدنا في اللّيل ليناجيَ ربَّه خصوصاً إذا ما أثقلته الهموم، ليضعها بين يديه سبحانه لأنّه وحده يفرّج الهمّ. وإذا جلسنا في اللّيل وحدنا، فلنحدّث الله عن آلامنا التي لا يستطيع أحدٌ أن يخفّفها إلاّ هو، لأنّه الرحمن الرحيم الذي عرّفنا من فضله ما يجعل حياتنا من فضله، وأعطانا مِن نِعَمِهِ ما يجعل حياتنا كلَّها في أجواء نِعَمِه. فالله عوّدنا الجميل، لنذكر تاريخنا معه، عندما كان واحدنا نطفة فعلقة فمضغة، وتحوّلت المضغة عظاماً، وكُسِيَت العظام لحماً فأنشأها خَلْقاً آخر فتبارك الله أحسنُ الخالِقين، لنتذكّر مَنْ أودع الحنان في قلب أبوينا غير الله؟ مَنْ الذي هيّأ لنا كلَّ ظروف العيش غير الله؟ الله عوّدنا الجميل، فإذا كان سبحانه عوّدنا ذلك، وأعطانا كلّ رحمته وحنانه، فلنقس المستقبل على الماضي. ولذلك علينا ألاّ نتعقّد أمام المشاكل التي تواجهنا، وألاّ نسقط ونيأس أمام الصدمات وننهزم، فلنثق بالله.

كنْ عن أمورك معرضا                    وَكِلِ الأمورَ إلى القَضَا

اللهُ عوّدك الجميـــ                         لَ فَقِسْ على ما قد مضى

 

إذا واجهك الحرمان فافتقرت، فتيقّن بأنَّ الله الذي رزقك في الماضي سيرزقك في المستقبل، فكما أعطاك في مرحلتك السابقة سيعطيك في مرحلتك الحالية أو اللاحقة، فلماذا اليأس؟ {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ} [يوسف : 87] فتحسّسوا أحلامكم وقضاياكم وتمنّياتكم، ولا تيأسوا، وخصوصاً نقولها للشباب، لأنّ الشباب قليل التجربة، فإذا اصطدم بالمشكلة اختنق فيها، وصار يتصوّر أنَّ الحياة إنّما تعيش داخل هذه المشكلة.. لماذا تحبسون أنفسكم في قمقم تجربة صغيرة محدودة؟ تطلَّعوا إلى السماء في سَعَتِها، إلى الأرض في امتدادها، وإلى الحياة في تجدّدها. لماذا تفرضون أنَّ مشكلتكم هي وحدها المشكلة المعقّدة، ادرسوا ظروف الآخرين ومشاكلهم، فستصغر أمامكم مشاكلُكُم وظروفكم، لذلك لا تيأسوا ولا تقنطوا من روح الله. وعندما تُحاصَرون بالمشاكل افتحوا قلوبكم لله، فالله القادر والعالم بكلّ شيء، والذي وسعت رحمته كلَّ شيء، سيعطيكم من رحمته وحنانه، ويفتح الآفاق أمامكم واسعة. أحبُّوا الله الذي عنده مفاتح الغيب، وهو الذي أعطى كلَّ ذي علم علماً. قبل أن تحبُّوا الأقوياء، أحبّوا الله، لأنَّ القوّة والعزّة لله جميعاً.. إنّكم عندما تسجدون وتقومون لله في اللّيل والنهار، ستجدون عنده كلَّ حنان الرحمة، وكلَّ ما يشدُّكم إلى الحياة، وما يجعل قلوبكم مملوءةً بالدنيا والآخرة، حيث السعادة كلُّ السعادة في لحظة مناجاة تنفتح فيها قلوبكم على الله، السعادة كلُّ السعادة في كلمات المحبّة والصّدق مع الله، تشعرون فيها بمحبّته. وما قيمة أن يحبّنا الناس كلُّهم إذا أبْغَضَنا ربُّنا، أو ما قيمة أن يبغضنا الناس كلّهم ويحبّنا ربّنا؟ فحبّه هو الحبّ، ولذلك، علينا أن نحبّ الله ونصادقه ونعيش معه لا على الطريقة الرسمية التي يطلب فيها بعض الناس منكم أن تجلسوا مع الله كما تجلسون مع سلطان.. وأقول لكم عندما تجلسون مع الله، اجلسوا بعفويّتكم، تحدّثوا مع الله وأنتم جالسون، وأنتم نائمون وفي كلِّ حالاتكم، اشعروا بسقوط كلّ الحواجز عندما تجلسون بين يديه سبحانه، لأنّه الرحمن الرحيم، وقد جاء في دعاء الافتتاح: "اللّهم إنَّ عفْوَكَ عن ذَنْبِي وَتَجَاوُزَكَ عن خَطِيئَتِي وَصَفْحَكَ عن ظُلْمِي وسَتْرَكَ علَى قَبيحِ عَمَلي عندَما كانَ مِنْ خطئي وعَمْدي أطْمَعَنِي في أنْ أسألَكَ ما لا أسْتَوْجِبُهُ مِنْكَ الذي رَزَقْتَني مِنْ رَحْمَتِكَ وأرَيْتَني مِنْ قُدْرَتِك وعَرَّفْتَني مِنْ إِجابَتِك، فَصِرْتُ أدْعُوكَ آمِناً وأسألُكَ مُسْتَأنِساً لا خائِفاً ولا وَجِلاً، مُدِلاًّ عليكَ فيما قَصَدْتُ فيه إليكَ، فإنْ أبْطَأَ عَنّي عَتَبْتُ بِجَهْلِي عليك، ولَعَلَّ الذي أبْطَأَ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لي لِعِلْمِكَ بِعَاقِبَةِ الأمور".

يجب أن نعيش محبّة الله كما يعيشها عباد الرحمن {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان : 64] في صفاء الليل {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان : 65] يقولون ذلك وهم يتذكَّرون جهنَّم من خلال تذكُّرهم لسيّئاتهم ومعاصيهم، يقولونها في سجودهم وقيامهم، يتوسّلون إلى ربّهم {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} إنَّ عذابها لا ينقضي بين لحظةٍ وأخرى {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان : 66] إنَّ جهنَّم ليست المقام الطيّب، أو المستقرّ الطيّب إنّها تحيط بمن يستحقّها من كلِّ جانب.

بهذه المشاعر الصادقة مع الله يعيش عباد الرحمن، فهل ننطلق في خطِّ عباد الرحمن؟

 

 

 

 

 

 

 

 

25/1/1996م

المال وسيلة

أم هدف؟

 

ذهنيّتان مختلفتان

في عددٍ من آيات القرآن الكريم تُطرح بعض الأفكار للنّاس من خلال حوارٍ معيّن تظهر فيه الفكرة التي يريد الله تعالى للنّاس أن يعوها ويأخذوا العِبرة منها، فيقول سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً*كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً} [الكهف : 32 ــ 33] قبل أن ندخل في شرح معالِم الحوار، نشير إلى المثل الذي يضربه الله تعالى عن هذين الرجلين حيث لكلّ واحدٍ منهما طريقته الخاصة في الحياة، فرجلٌ يعتبر المال كلّ شيءٍ في معنى القيمة التي ترتفع بمستوى الإنسان، فالذي يملك المال ـــ حسب زعمه ـــ يملك كلَّ شيء، ويستحقّ من الله ـــ هذا إذا كان سبحانه موجوداً في وعيه ـــ كلَّ كرامة، أمّا مَنْ لا يحوز على المال، فليس له قيمة، لا في الدّنيا ولا في الآخرة. والآخر يرى في المال وسيلة يقضي بها حاجاته، لأنَّ القرب من الله تعالى لا يخضع لامتلاك الإنسان للمال، بل للعلم والإيمان والتقوى والجهاد.

إنَّ التفكير الأول بعيدٌ عن الصحّة، لأنّ الذي يفكِّر بهذه الطريقة يعيش الغفلة عن عالَم الزوال والفناء، ولا يفكّر بالأحداث التي يمكن أن تطرأ لتأخذ منه كلّ شيء، فيبقى صِفر اليدين. ومع ذلك، فإنَّه يظنّ أنّه خالدٌ في ماله ومواقعه، وينظر إلى الناس من عليائه، حيث يعتبر قيمة الناس بما يملكون من مال وثروة. وأمّا صاحب التفكير الثاني، فإنَّه يحدِّد قيمة الناس بقدر علمهم ووعيهم وإيمانهم، لأنّ المال ليس قيمة ترتفع بالإنسان لتعطيه المكانة المتقدّمة. وعلى هذا، فإنَّ المال لا يمنح الإنسان إنسانيّته، بل إنَّ إنسانيّته تغتني بالعقل والمعرفة والإيمان وبالتوجّه إلى الله سبحانه والانفتاح عليه.

الإعتزاز بغير الله

والله سبحانه يضرب لنا هذا المثل لنعرف قيمة المال، وأنّ الإنسان لا يستطيع أن يجعل المال أساساً في الحياة الدنيا وفي الآخرة {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً} فالمثل في القرآن، إنّما هو لتوضيح وتقريب الفكرة إلى أذهان الناس، بطريقة ربط الأمر المعنوي بالأمر الحسّي، فنحاول فهم الجانب المعنوي على مستوى الفكرة، من خلال الجانب الحسّي على مستوى الواقع، فنستوحي من الواقع الفكرة التي يفترض أن يحملها وجداننا {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} رزقه بستانين من العنب {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} والنخل يحيط بهذين البستانيْن {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} والزرع يحمل الثمار الطيّبة والمتنوّعة داخلهما {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} فكلّ بستانٍ منهما يفيض بالثمار التي نضجت وصارت جاهزة للأكل {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} لم يُنقص الله منه شيئاً.. فكان بستاناً جميلاً يموج بالخضرة وطيّب الثمار {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً} يروي ظمأ الأرض ويبعث فيها الحياة والتجدُّد.

وهنا يبدأ الحوار {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف : 34] كونه يملك الثمر الذي هو نتاج البساتين الوفير، وصاحبه الذي هو قريبه أو جاره أو صديقه لا يملك شيئاً، فإنَّه شعر بالاستعلاء عليه {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً} أنا صاحب المال الكثير والقيمة العليا {وَأَعَزُّ نَفَراً} عندي الأولاد والأصحاب والمؤيّدون، فما قيمتك أمامي؟ أنتَ لا تملك المال الذي أملكه، ولا تنال تأييد الجماعة التي تلوذ بي، فما شأنك ومنزلتك أمام شأني ومنزلتي؟

وهذا يعطينا صورة الإنسان الذي يعتدُّ بماله وجماعته ويحتقر الآخرين، حيث يعتبر أنّه يعلو مقامه بكثرة ماله وشعبيته، وتبرز شخصيّته من خلالهما. وهنا نقول: إنَّ المال ليس جزءاً منك، فهو ليس عقلك وقلبك، المال ليس شيئاً منسوباً إليك حتى يكون هو كلّ إرادتك، حتّى إِنّ الناس الذين يؤيّدونك هم ليسوا أنت، كلُّ واحد له وجوده المستقلّ، فهم لا يكبّرونك إذا كنت صغيراً في نفسك، ولا يعظّمونك إذا كنتَ حقيراً في ذاتك، فالمال والناس من حولك وجوداتٌ خارج طاقتك.. فما يرفعك هو عقلك وعلمك وخبرتك وإيمانك، وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "قيمة كلِّ امرئ ما يُحسنه"(*).

الاستغراق في الشهوات

ويدخل ... كما كثير من أصحاب الأموال إلى أملاكه متبختراً مستعلياً شامخاً بأنفه {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [الكهف : 35] من خلال عدم إيمانه بالله, ومن خلال المفاهيم الخاطئة التي يحملها في عقله، ومن خلال هذا الأسلوب الذي يعامل فيه النّاس الذين لا يملكون ما يملك، حيث لا يسمع نداءَ الله وتحذيره {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء : 37] ولأنّه أصمَّ أذُنيه عن سماع الحقّ وتملّكَتْه العزّة بالإثم {قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} [الكهف : 35] فهذه الأشجار والثمار والنخيل والأعناب والمياه الوفيرة الغزيرة، هل من المعقول أن تذهب أن تفنى؟ إنَّها ستبقى مرتفعة وفيرة طيّبة، ولن يتسلّل إليها الفناء أو الموت. وهذه مواقف مَنْ يستغرق في ماله فينسى ربَّه ومصيره، وينسى الحياة في تقلّباتها وتغييراتها وأحداثها المتلاحقة والمتطوّرة وغير الثابتة. والإنسان إذا حبس فكره في الجانب المادي، فإنّه ينسى ما حوله ويصبح عقله عقلاً مادّياً، لا مكان فيه للجانب الروحي والفكري، وتصبح الأموال والشيكات والسندات وأوراق الاستملاك جزءاً أساسياً من عقله، إذا لم تكن كلّ عقله، فيتحوّل إلى كائن مادّي ليس فيه أيّة ميزة خيرة.. فيتكبّر على الناس، وعلى الله تعالى {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً} [الكهف : 36] لن يكون هناك يوم قيامة وحساب وجزاء، انتهى الأمر، هي الدنيا المستمرة ونحن مستمرّون بها. هكذا يفكّر من استولى المال على وجوده، وأكثر من ذلك {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً} ولو فرضنا أنَّ هناك موتاً، فسأطلب من الله أن يُرجعني إليه، وسوف أجدُ خيراً من هذه البساتين والأموال، لأنَّ لي وجاهة وامتداداً كبيرين وسأكون من أصحاب الأملاك في الآخرة، كما كنت من أصحاب الأملاك في الدنيا، لأنَّ للأغنياء شأناً كبيراً عند الله، لا يناله الفقراء والمستضعفون والمعدمون.

قناعات الثبات على الدِّين

هذا ما حاور به هذا الغنيّ المتكبّر صاحبه الفقير المؤمن الواعي، الذي يعيش قناعات مغايرة لقناعاته.. ومع ذلك لم يشعر أمامه بالضعف ولم يعش الإحباط في ذاته ولم يتصاغر أبداً، بقي ثابتاً قوّياً في دينه وإرادته، فذاك يحاوره بالاستعلاء والاعتداد بالنفس والتمسّك بما يفنى، وهذا يحاوره بكلمة العقل والإيمان {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف : 37] كم من فرق بين الاثنين، ذاك يحدّثه بالمال والوجاهات والزعامات ويحدّق في التراب، وهذا يخاطبه بمنطق الخوف من الله، حيث يحدّق في السماء ولا ينظر إلى مادّيات الأرض {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} أنتَ تزهو بنفسك، ولكن عُد إلى وجودك، لستَ إلاّ حفنة تراب لا تساوي شيئاً، أنتَ كهذا التراب الذي تضع رجليك عليه {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} فالله هو الذي خلقك، وذلك بعد أن تحوّل التراب إلى غذاء والغذاء إلى دم، والدم إلى نطفة، ومرّت بأدوارها حتّى صرت رجلاً.. فالله هو الذي خلقك، فأنتَ لا تخلق نفسك، ولا تملك من أمرك شيئاً، وما تملكه، فإنَّ الله ملّكك إيّاه، فأين هي عظمتك؟ في جسدك الماديّ، أم في مالك، أم فيمن حولك؟ فأنتَ تكفر بالله وتعلو على عباده، وتظنّ أنَّ الدنيا ستبقى خالدة لك {لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف : 38] ذاك تفكيرك، أمّا أنا، فإنّ الله، هو ربّي، أعرف مقامه، وأعرف موقعي منه، وأدرك عظمته ونِعَمَه وآياته، فأنتَ تنظر بهذا المال الذي تملكه لتستغرق فيه ولتحوّله إلى إله تخضع له، ولكنّي أرفع رأسي إلى ربّي، حيث لا أشرك به أحداً. فلو كنتَ إنساناً متوازناً واعياً يعرف حقائق الأشياء، لكان منطقك مغايراً لما تتحدّث به {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف : 39] فلولا إذ دخلت بستانك وشكرت الله تعالى على ما أعطاك لكان أوْلى لك، لأنَّ ما حصلت عليه كان بمشيئة الله، وأنَّه سبحانه إذا شاء أمراً تحقّق {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس : 82] فعليك أن تتذكّر قوّة الله التي وهبتك هذه النِّعَم، لا أن تشعر أنَّ قوّتك هي من ذاك لا من الله.

وهذه النقطة تمثّل منطقاً تربويّاً رفيعاً، وهي تحذِّر الإنسان الذي يستغرق في المادّة وينسى ربّه، حيث عليه عندما يشعر بالقوّة ويمتلك الوسائل المادّية أن يربط ذلك بالله، فهو وحده الذي أعطى القوّة والمال، وهو القادر على سلبهما من الإنسان الذي يجب عليه ألاّ يطغى، بل أنْ يتواضع لله الذي خلقه وأعطاه القوّة. وإنَّ كلمة (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم) توحي للإنسان بأنّ قوّته وإمكاناته هي من الله.

ومن هنا خاطبه هذا المؤمن {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف : 39] صحيحٌ أنَّك تراني أقلَّ منك مالاً وولداً، ولستُ أملك ما تملك على المستوى المادّي، ولكنّي أملك الثقة بالله، وإن كنت أقلَّ منك في المال والأولاد والبساتين {فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف : 40] فربّي يرزقني كما رزقك، ويعطيني خيراً ممّا أعطاك، وبساتينك هذه قد تأتيها بأمر الله عاصفةٌ أو موجة برد أو حرّ أو أيّة حالة من حالات المناخ غير الطبيعيّة، فتصبح {صَعِيداً زَلَقاً} جرداء لا تنبت ولا تُثمر، تزلق قدم مَن يسير عليها {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} [الكهف : 41] أو تغور مياهُها في الأرض فتجفّ ولن تفيدك بشيء.

وماذا ينفع الندم؟

وهنا ينتهي الحوار.. وماذا كانت النتائج؟ {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف : 42] جاءت العواصف والرياح والأمراض الزراعية وما إلى ذلك، فإذا لا ثمر ولا أشجار ولا بساتين {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} يجلس حزيناً مغموماً وقد خسر كلَّ شيء، يقلّب كفّيه جزعاً على ما صرف من أموال واهتمام وعناية ورعاية لنموّ بساتينه {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف : 42] يقف أمام الخراب الذي حلَّ بأملاكه، ويتمنّى لو أنَّه عرفَ الله ولم يشرك به شيئاً {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً} [الكهف : 43] ليس من قوّة تدعمه أو فئة تنصره، أو جماعة تؤيّده، فكلّ قوى هؤلاء لا تشكّل ذرّة أمام قوّة الله {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} [الكهف : 44] فهو تعالى وحده يملك الأمر كلّه في الدّنيا والآخرة، فلا ثواب خير من ثوابه، والعاقبة الخيّرة من الله هي لمن أصلح ما بينه وبين الله تعالى، حيث هناك السعادة كلّ السعادة.

ما يبقى وما يفنى

وننتهي من هذا الموقف الخاص، لندخل في الموقف العام، ندخل إلى الدّنيا، هذه التي نتنازع عليها، نتحاسد ونتباغض.. فما هو مثَلُها وما هي قيمتها؟ {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} [الكهف : 45] فهذه الدّنيا أمامك، يختصرها خريف وشتاء، ربيعٌ وصيف، هي { كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} وينزل الماء من السماء إلى الأرض، تختلط البذور به، فتخضرّ وتتزيّن، ثمّ تصفرّ وتتساقط وتموت {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} تتكسَّر أوراقها اليابسة فتحملها الريح في كلِّ الاتجاهات.. وهكذا، هي أعمارنا، نبدأ أجنّةً، فنولد، ثمّ بعد الطفولة نصير شباباً، فشيوخاً وكهولاً {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} [النحل : 70] ومن ثمَّ إلى القبر، هي الصورة نفسها في الكون بين المخلوقات في البدايات والنهايات {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} [الكهف : 45] فهو القادر على أن يعطيك الحياة، وأن يسلبها منك، هو الذي يُحيي ويميت، والقادر على كلِّ شيء، وهو الثقة والأمل، وليس الأملُ بما يفنى ولا يبقى.

وبعد ذلك يعطينا القرآن وصفاً لما هي عليه الحياة، وما هو الأفضل والأبقى فيها {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف : 46] المال زينةٌ تتمثّلها في لباسك وجسدك وبيتك وفي كلِّ ما تتحرّك فيه، والبنون زينةٌ، تزهو بهم، يمشون معك، يلعبون أمام ناظريك، وتشعر أنّ الدنيا لن تسعك فرحاً بهم.. ولكن، المال يزول عنك وأنتَ في الحياة، وتزول عنه في لحظة الموت، وأبناؤك قد يرحلون إلى الله قبلك، وقد ترحل قبلهم، موتٌ هنا، وموتٌ هناك.. كلّ شيءٍ يفنى، تُطفأ عيناك ولا ضوء فيهما، تتجمّد أذناك ولسانك عن السمع والنطق، وتتوقّف يداك عن الحركة، ورجلاك عن الانطلاق، وتجفُّ خضرة الحياة ونضرتها فيك، وتصبح مجرّد لحم وعظم يدفع على الاشمئزاز من رائحته إذا لم تُدفن، وبعد ذلك تتحوّل إلى تراب.. وماذا يبقى منك؟ يبقى العمل وحده {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} فالأعمال الصالحة، وما قدّمت من عمل في عبادة ربِّك، وفي نصرة المظلومين في حياتك، ومساعدة المحرومين ممّا رزقك الله، ومن رفع مستوى الأُمّة بعلمك وخبرتك، ومن تعزيز مواقعها بجهدك وجهادك، هو الذي يبقى {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} فيما يعطيك ربُّكَ من ثواب {وَخَيْرٌ أَمَلاً} فليس الأمل مالَك وولدَك، بل هو عملُك الذي ينجيك، فانظر كيف تُحسن عمَلك وتُتقِنُه {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة : 105].

30/11/1995م

إلى الله نتوجّه

لا إلى غيره

 

سرُّ العظمة

في القرآن الكريم حديثٌ دائمٌ عن الله تعالى يوجِّه الإنسان من خلاله إلى أن يستجلي عظمة الله في نفسه، فعندما ينظر إلى حركة الكون من حوله، لا بدّ أن يكتشف سرَّ عظمة الله في حركة الكون، وعندما يتطلَّع إلى حركة النّاس والحياة من حوله، فإنّه يدرك عظمة الله في تدبيره للأمور بالطريقة التي يحرّكها على حسب حكمته.. وهكذا في حركة الشمس والقمر واللّيل والنهار، وفي النظام الإنساني في سقوط الدول ورقيّها، وفي عزّة الناس وذلّهم {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26] الأمر كلُّه بيد الله سبحانه، حتّى الأمور التي يتحرّك فيها الناس ويُخيَّلُ إلينا أنّهم يصنعونها ويقومون بها، هي والنّاس بمثابة الأدوات والآلات والوسائل التي ينفّذ الله بها إرادته. وهذا ما قاله الله تعالى لنبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معركة بدر {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} [الأنفال : 17] من الطبيعيّ أنَّ هذا التعبير ليس على سبيل الحقيقة، بل هو على سبيل المجاز، فالله سبحانه لا يرمي، ولكنّه عندما دبَّر الأمور ووجّهها ونظَّمها وأدارها بقدرته لتحقيق النّصر على يدّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأيدي أصحابه، فكأنّه تعالى هو الذي رمى، والآخرون أدوات.. وهكذا نحن في الحياة، أدواتٌ سخّرها الله لتنفيذ إرادته وحكمته تبعاً لما يراه من مصلحة الكون والحياة والإنسان، حتّى تخضع الحياة كلُّها في الواقع الكوني والإنساني للسنن والقوانين التي ركَّزها سبحانه في الكون. ولذا يتحدّث القرآن عن عظمة وسُنّة الله {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 62] فركّز في الكون قوانينه ونُظُمَه وطبيعتَه التي لا تتبدّل، لأنّ ما يتبدّل هو الذي يتغيّر جانب الصلاح فيه، ولكنَّ الله تعالى أودع في هذه السُنَن جانب الصلاح الدائم والمستمرّ فيها.

لكلٍّ سبب

وهو تعالى عندما يريد أن ينفِّذ أمراً، فإنَّما ينفِّذه بأسبابه، ونحن عندما نطلب منه الرزق والصحّة وما شاكل ذلك، لا بدّ أن نلحظ أنّه سبحانه وتعالى جعل لكلِّ شيءٍ سبباً {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق : 3] فهناك نطاق محدّد ومنظَّم {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر : 49] ففي الكون نظامٌ لحركته وحركة النّاس، الذين مع اختلافهم فيما يفعلون، لكنّهم محكومون لنظامٍ معيّن في الخطوط العامّة لحركتهم.

ومن خلال ما نقرأه في القرآن {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء} نفهم أنَّ الله يحذّرنا من الاستغراق في الذين يملكون الدُّنيا، فليس المَلِك يُسقِط مَلِكاً، ولا الدولة تُسقِط دولة، ولكنّه النظام الذي أداره سبحانه في ولادة الدول وسقوطها من خلال أسباب القوّة والضعف، وأسباب النهوض والانحطاط، تماماً كولادة الإنسان وموته، أو فقره وغناه، أو صحّته وسقمه، وهكذا الدول تنطلق من عناصر القوّة ثمّ تضعف وتسقط لأنَّ عمرها انتهى. فكما يموت الأشخاص، هكذا الأُمم والدول تموت، باعتبار أنَّ كُلَّ موجودٍ حيّ، سواءً كان موجوداً مادّياً أو معنوياً يختزن في داخله عناصر قوّة وضعف، وعناصر حياةٍ وموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء : 35] هذه النفس تموت {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس : 49] والأُمم أيضاً. وكما أنَّ الإنسان إذا جاء أجلُه لا يستقدم ساعة ولا يستأخر، كذلك الأُمم {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس : 49]. وقد جعل لكلِّ فردٍ حساباً {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14] وجعل للأُمّة حساباً {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية : 28] فالكلُّ ينتظم في نظام وضعه الله سبحانه وتعالى، حيث لا تحويل ولا تبديل فيه.

بيده الخير وحده

وعندما يذكر القرآن لنا ذلك، ينبِّهنا ألاّ ننسى الله تعالى عندما نقف أمام دولة عظمى أو ضعيفة، أو دولة تنهض وأخرى تسقط، وألاّ نذوب في الأشخاص والرموز الذين يمثّلون هذه الدول أو تلك، لأنّهم بأجمعهم خاضعون في حركتهم الإيجابيّة أو السلبية للنظام الكوني في ولادة الأُمم وموتها، وفي نهوض الدول وضعفها {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} فأنتَ عندما تقف بين يديّ ربِّك، وتتطلّع إلى كلّ الزعماء والملوك من حولك والدول والممالك، فلا يسقطنّ ذلك نفسك ولا يأخذنَّ بمجامع قلبك، ولا تأخذك الرهبة من هذا أو ذاك، ولكن ارتفع بعقلك وقلبك وروحك إلى ربِّك، وتصوَّر أنّ كلّ هؤلاء يتحرّكون من خلال إرادة الله سبحانه، لا بمعنى أنّ الله يحبّهم ويصطفيهم، بل بمعنى إدراك ومعرفة إرادة الله في تنظيم الكون وحركته. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} كلُّ المُلْك بيدك وخلقتَ ذلك كلّه، ولو أبعدتَ إرادتك عنه لَمَا استقرَّ لحظةً واحدة، فهو بإرادتك وجِدَ ويستمرّ ويموت {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء} من خلال الأسباب التي تُودِعُها في الكون لولادة الممالك، وارتفاع الملوك {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء} كما تنزع الروح ممّن تشاء، يأتي أجَلُ المُلْك كما يأتي أجَلُ النّفس، فتموت الممالك كما يموت الناس {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} بعض النّاس يُولَدون أعزّاء ويموتون أذلاّء، وبعضهم يولَدون أذلاّء ويموتون أعزّاء، وهذا ينطلق من خلال العناصر التي أودعها الله في الحياة، ممّا هي داخلةٌ في ذواتهم أو مقتبسةٌ من غيرهم، فيعزّون أو يذلّون {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} فكلُّ خير هو بيدك، لأنَّ الوجود بيدك، وما فيه من خير، حرّكته وصنعته أنت، لأنَّ الوجود لا يملكه غيرُك {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل : 53] فهو سبحانه يقلِّب الأمور كما يشاء، لأنّها طوعُ يديه، وهي خَلْقُه، والذي خلق يستطيع أن يُميت، والذي أعزَّ يستطيع أن يُذِلْ {إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26].

هذا ما يجب أن يعيشه المؤمنون في نفوسهم وهم يعيشون عبوديةَ الله، فتجعلهم يتّجهون إليه سبحانه عندما يفكِّرون في العزّ والذُّلِّ ولا يتّجهون إلى الناس، وبذلك يستجلّون عظمة الله في نفوسهم، لأنّه سبحانه خالق كلّ شيءٍ وهو أمامه ووراءه، فتتحرَّر نفوسهم من الخضوع للنّاس الذين يعتبرون أنفسهم كباراً وأعزّاء وملوكاً، تتحرَّر وتبقى العبودية عندهم لله وحده.

لنرتفع إلى الله بعقولنا

ومشكلتنا أنّنا نستغرق في استجلاء عظمة الناس من حولنا، ونبتعد عن عظمة الله في نفوسنا، وبذلك ننحني بقلوبنا وعقولنا وإرادتنا أمام بشر مثلنا فنجعلها أقلَّ شأناً منه، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف : 194]، فلماذا تؤلّهونهم وتعظّمونهم وتسقطون أمامهم؟ فإذا عشتم عظمة الله في أنفسكم، وجدتم أنفسكم، ووجدتم عزّتها وحرّيتها وقوّتها، وقلتم للنفس، ها نحن أناسٌ كما هؤلاء، نحن مخلوقون لله، كما هم مخلوقون، نحن عبادٌ لله كما هم، وإذا جَعَلنا اللهُ أضعفَ منهم الآن، فقد يجعلنا غداً أقوى منهم، وإذا جَعَلنا بعيدين عن المُلْك والقوّة والسلطة الآن، فقد يُصَيِّرُ غداً كلَّ ذلك لنا. ولهذا يقول سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140] فيومٌ نُسَاءُ ويومٌ نُسَرّ، وهذه نقطة أساسية تجعلنا نواصل العمل والتخطيط والتقدّم والجهاد في كلّ مواقع حياتنا.. وإنّنا عندما نرى الظُّلمَ مُطْبقاً على الكون، ونظنّ بأنّه لا مجال للخروج من الظُّلمة، هل نقبل بالاستسلام؟ لا، إنّنا عندما نرى اللّيل مدلهماً مظلماً، نرفع رؤوسنا قليلاً، فنرى الكواكب المنتشرة في السماء، فندرك أنَّ الدّنيا ليست كلّها ظلاماً، هذه نجمة تلمع من بعيد، وتلك أقلُّ لمعاناً، وتلك أكثر، فنتلمّس النور لنخرج من ظلمتنا، وعندها نحدِّق بمن حولنا، فلا نعيش اليأس، بل نرتفع بعقولنا إلى الله، حيث هناك الأمل كلُّ الأمل.

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 ــ 27].

الدّقة والنظام

ما أدقّ هذه الحركة المستمرة منذ خلق الله الكون بنظام لا ينحرف درجة واحدة {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} يُنقص من النهار لحساب اللّيل وبالعكس، يأخذ قطعة من النهار ويجعلها حصّة للّيل فيُنقص النهار ويُطيل اللّيل فيجعلها مظلمة في فصل، ويأخذ حصةً من اللّيل ويعطيها للنّهار فيطيل النهار وينقص الليل، فيجعلها مشرقة بعد أن كانت مظلمةً في فصلٍ آخر.. هو وحده القادر {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} فبإرادته يتحوّل الموت إلى حياة {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج : 5]، {وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} يُولَد ميّتٌ من حَيّ، كما يُولَد حيٌّ من ميّت {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} يرزق الناس بكرمه، ينظّم أمورَهم ويعطي بلا حساب، ويقدّر لكلِّ إنسان رزقه حسبما يراه من مصلحة {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ*وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 ــ 16] فليس إعطاء المال للإنسان كرامة، وحرمانه منه إهانة، إنَّها طبيعة تقديره للأمور ومعرفته سبحانه بما يُصلح الإنسان أو يُفسده.

الحبّ والبغض في الله

إذاً، المُلْك والعِزُّ والحياة والموت والرزق وكلُّ نظام الكون بيد الله تعالى، فأين تبتعدون وإلى مَنْ تذهبون؟ ولأنّ كلَّ ذلك بيده، في ليلكم ونهاركم وحركة واقعكم الذي تعيشون فيه، كونوا مع الله سبحانه، وإذا كنتم معه فلا بدَّ أن تكونوا مع أولياء الله. لأنّه لا يمكن للإنسان أن يكون مع الله ومع أعدائه في الوقت ذاته. لذا، إذا كان مع الله، فموقعه مع أوليائه، وإذا كان موقعه مع أعدائه، فأحبَّهم وأحبُّوه وأعطاهم الولاية، يجب عليه أن يعيد النظر في إيمانه، لأنّه كلَّما اقترب بقلبه من أعداء الله، كلَّما فَقَد شيئاً من إيمانه، لأنَّ من علامة الإيمان التولّي والتبرّي، أن نوالي أولياء الله ونعادي أعداءه.. وفي كلمة للإمام الصادق وهو يفسِّر قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} [الحجرات : 7]، قال (عليه السلام): "وهل الدّين إلاّ الحبُّ"(*).

الدّين يختصر ذلك، أن تحبَّ اللهَ وأولياءَه، وتعادي الشيطان وأولياءَه، ليس هناك من علاقات دبلوماسيّة قلبيّة، هناك مقاطعة دائمة، مقاطعة في القلوب والعقول والمواقف والمواقع. وهناك فرقٌ بين المعاشرة وبين الموالاة، المعاشرة في حركة الحياة، لا تحمل في داخلها الطاعة، أمّا الموالاة فهي الطاعة والخضوع، ولهذا، قال الله سبحانه: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 28] فإذا وصلت المسألة إلى حدِّ تأييد المواقف، وإلى الانتماء والنُّصرة والمعونة وإعلان العاطفة، وكان النّاس على قسمين، فهناك مؤمنون يتحرّكون في خطّ الله، وكافرون يتحرّكون في خطِّ الشيطان، وهناك مؤمنون يريدون ولاية أمور الناس، وكافرون يريدون الأمرَ نفسه.. فالسؤال، مع مَنْ تكون أيّها المؤمن؟ الآية الكريمة واضحة، فهي تنهى عن استبدال ولاية المؤمنين بالكافرين، بمعنى أن يصبحوا رؤوساءَهم وزعماءَهم وقادتهم وأولياءَ أمورهم.. وإذا ما حدث ذلك فما النتيجة عند الله؟ {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} مَنْ يتّخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين {فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} فإذا انتمى إليهم وربط نفسه بهم وفضّلهم على المؤمنين في الولاية، فإنَّ الله سيقاطعه، ولن يكون له ارتباطٌ به لا من قريب ولا من بعيد {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران : 28] ولكن إذا اشتدّت حالة الحصار والضغط عليكم، بحيث إِنّكم قد تُضطرّون لاتّخاذ بعض المواقف التي تفرض عليكم مماشاةَ الذين يكفرون بالله، فلا بأس بالتقيّة، والحال في ذلك كحال عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) الذي عُذِّب وقُتِل أبواه فاضطُّرَّ للنطق بكلمة الكفر، وجاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخبره بأنَّه هلك، لأنّه نطق بكلمة الكفر تحت الضغط والتعذيب، فما كان من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ أنْ هدّأ من روعه وبشَّره بأنَّ قرآناً نزل به {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل : 106] وقال له: "يا عمّار إنْ عَادوا فَعُدْ"(*) في حال الإكراه والشدّة. وقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: "سَتُدْعَوْنَ إلى سَبِّي والبراءة منّي، أما السَبُّ فسبُّوني فإنَّه لي زكاةٌ ولَكُم نجاةٌ، وأمّا البراءة فلا تتبرّأوا منّي، فإنّي وُلدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة"(**)، فالبراءة منّي ـــ كما يقول الإمام (عليه السلام) براءةٌ من الإيمان {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} إذاً، في هذه الحالة وحسب، وانتبهوا فلا تقلِّلوا من قيمة التنبيه الإلهي، ولا تستصغروا مقام الله، ولا تحدِّقوا بعظمة الكافرين وتنسوا ربَّكم {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران : 28] يحذّركم سبحانه أن تسحقوا رؤوسكم تحت أقدام الطغاة، وتفتحوا قلوبكم لهم، وتسلّموهم أموركم وأمور النّاس من حولكم بجهودكم، وتقولوا بأنَّ الله غفورٌ رحيم، أبداً {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف : 99]، فإذاً {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} قد يطولُ بنا العمر، قد نختبئ ونتحصّن ونذهب إلى هذا الكهف أو ذاك، ولكن {وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} فآخر الأمر عائدون إليه وسنقف للحساب بين يديه.

ومن أين لكم أن تفرّوا من قوّة الله وعلمه في الصغير والكبير من أموركم {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ} [آل عمران : 29]، مع الآخرين قد نُخفي أسرارنا في قلوبنا ولا يعرف بها أحدٌ، قد نخبّئ حبَّ الكافرين وموالاتهم في قلوبنا، ولكن إذا أخفينا ذلك عن الناس، لا نستطيع أن نُخفيَه عن الله تعالى، لأنّه يعلم ما في قلوبنا وصدورنا، وأكثر من ذلك {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 29] في اكتشافه ومعرفته وعلمه وقدرته.

الحذَر الحذَر

وتنتهي الحياة، ومعها تتوقّف هتافاتنا وانتماءاتُنا وتحزّباتُنا وموالاتنا، وينتهي الفصل الأول، ليُرفع الستار عن الفصل الثاني، وحياتنا فصلان، دنيا وآخرة، ولّت الدّنيا، وبدأت حياة الآخرة، فماذا في المشهد الأول من هذا الفصل؟ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} الملائكة بالانتظار، فإذا ما فعلت الخير في الدّنيا يُحَضَّر لك كلّ ما يُريح نفسَك.. ولكن، إذا ما كنت قد ارتكبت المعاصي والجرائم، فما الذي حُضِّر لك؟ {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} في يوم القيامة يوضع عملُك السيّئ بين يديك، الذي تتمنّى أن تبتعد عنه وتفصلك عنه المسافات البعيدة {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران : 30] أيُّها العاملون بالسوء، انتبهوا لأنفسكم، لأنّكم ستقفون بين يديّ الله سبحانه، وهو عندما يحذِّركم نفسه، فلتتوازنوا وتعيشوا الحذر، في كلِّ كلمةٍ تقولونها، وكلِّ عملٍ تعملونه، وكلِّ خطوةٍ تخطونها، وكلِّ علاقةٍ ترتبطون بها. فقيمة الحذر أنّه يدفعنا للتفكير بالنتائج، وبالخطِّ الذي يختزن النتائج الجيّدة أو السيّئة، لأنَّ الشيطان لغَّم أوضاعنا وعقولنا وقلوبنا وأعصابنا، وهذا ما يستوجب أن نسير في حقول الألغام بكلِّ وعيٍ وصبر حتّى لا نقع في شراك الشيطان وننسى ربَّ العالمين الذي يهدينا إذا سرنا في طريق الهداية، وقد أخذ على نفسه ذلك {وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} فليس ظالماً ينتقم منّا إذا حَذِرناه وتبنا إليه، فهو تعالى يرأف بنا ويرحمنا.. ونبقى في رحلة الحياة مع الله نعظِّمُه ونفتح قلوبنا له، لنقف يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنون بين يديه على طاعته وتقواه.

 

 

 

24/11/1994م

إفساد

حياة النّاس

 

نموذج الفساد

من النماذج البشرية التي يتناول القرآن الكريم الحديث عنها، تلك النماذج التي عاشت دور الإفساد في الحياة الاجتماعية، فأفسدت حياة الناس سياسياً، ونشرت فيها الظلم والاستبداد والانحراف، وأكرهت الناس على اتّباع الباطل وتأييد الظالم، وأثارت الفتن بين أفراد المجتمع، وقطّعت العلاقات التي توثّق الصلة بينهم، ووظّفت الأموال في شراء الضمائر والمواقف، فعمَّ الفساد في الحياة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.

وواحدٌ من هذه النماذج (قارون) الذي كان من بني إسرائيل. هذا الإنسان الغنيّ الذي اتّسع في غناه، فوظّف ماله في الاعتداء على الناس والبغي عليهم، وإفساد حياتهم وإبعادهم عن الله سبحانه وتعالى، فاستغلَّ نفوذه الماليّ في تأكيد نفوذه الاجتماعيّ، فكان مثال الإنسان المستكبر والمفسد في الأرض.

وقد حدّثنا القرآن الكريم عن بعض شأنه وعن نفسيّته وسلوكه بين الناس، وعن موقف الناس منه وردّ فعله عليه، وكيف كانت نهايته.

يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص : 76].

فكان يسلك مع قومه مسلك البغي والظلم والعدوان مستغلاًّ موقعه في التعدّي عليهم، وكان يملك من الثروة الموجودة في أكثر من مكان، بحيث أنَّ مفاتيح خزائن هذه الثروات يعصب على الأقوياء أن يحملوها لكثرتها وتعدّدها وانتشارها {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} من الذهب والفضّة والثروات {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ} تثقل هذه الثروات بالشكل الذي لا تستطيع هذه العصبة حملها لثقلها {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}.

وبسبب ما يملك من مال وثروات كان فَرِحاً بالشكل الذي كانت تنتفخ فيه شخصيّته استعلاءً واستكباراً {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} من العقلاء المعتدلين الذي يعرفون حقائق الأشياء {لَا تَفْرَحْ} لا تأخذك الفرحة، والفرح هنا بمعنى البطر. وليس المقصود الفرح الطبيعي، كفرح الشهداء الذين هم أحياءٌ عند ربّهم {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} [آل عمران : 170] أو كفرح النّصر {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم : 4] فالله تعالى يحبّ للإنسان أن يعيش الفرح الروحيّ القائم على طاعة الله، ويبغض له الفرح الذي يؤدّي إلى الخُيَلاء والتكبّر ومن ثمّ إلى الاستعلاء على النّاس {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} فالله سبحانه لا يحبُّ الذين تمتلأ أوداجهم بالضحك، ضحك البطر والاستعلاء والتجبُّر. وإذا كان الله تعالى منح الإنسان منصباً أو أعطاه مالاً، فإنَّ عليه أن يعرف وظيفة المال الذي لم يجعله الله غاية، بل هو وسيلةٌ للإنفاق على نفسه وعلى الآخرين.  

 

 

التوازن

ويحدّد القرآن طبيعة الحركة للإنسان في الحياة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 77] يتوجّه الخطاب القرآني للإنسان: إنَّ الدنيا لن تدوم لك مهما طال عمرك فيها، ولن تحمل مالك إلى الآخرة، سوف تفارق مالك قبل أن تموت إذا خسرته، وسوف يفارقك مالُك عندما ينتهي عمرك. فالمال لن يشكّل الخلود لك ولن تستطيع أن تعطيه الخلود. صحيح أنّك تعيش في الدُّنيا، ولكنّ الدار الحقيقية الخالدة هي في الآخرة. فأنت تعيش في هذه الحياة الدّنيا بشكلٍ مُسْتَعار:

وتراكضوا خيلَ الشباب وبادروا                    أن تُستَردّ فإنّهنّ عوارِ

فالشابّ عندما ينطلق بطاقته وحيويّته، فكأنّه يركب فرسَ الشباب مختالاً بأحلامه وأمانيه وشهواته وغرائزه وانفعالاته واندفاعاته، ولكن، فلينتبه فإنَّ هذا الشباب الذي يركب عليه، سيُسْتَردُّ يوماً، فالشباب مُسْتَعار، وهكذا البدن والعمر والطاقات كلُّها مستعارَة وستعود يوماً إلى مَنْ أعارها.. فأين الشباب الذين أصبحوا شيوخاً وكهولاً؟ أين كلُّ هذه الحيويّة والأموال والثروات والمناصب، كلُّها ذهبت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن : 26 ـــ 27] يزهو الإنسان بصحّته وماله وأولاده وبكلّ زينة هذه الدّنيا وزخارفها، ولكن لن تدوم له الدّنيا {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق : 19] وقد كان مستسلماً لسكرة الشباب والشهوة والمال والأولاد والأصحاب والمؤيّدين {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ*وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 20 ــ 21] فأين المفرّ والمهرب؟ {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق : 22] لقد كانت عيونك مغطّاة بسحر المال والشهوات، أمّا الآن، فإنّك ترى الأمور جيّداً، فأين المال والبنون، وما الذي بقي لك؟ فأولادك الذين أفنيت عمرك في سبيل رعايتهم وتأمين مستقبلهم، وأهملت حقوق الله وحقوق الناس بسببهم، لن يشيّعوك إلاّ إلى القبر. ومالُك الذي أسهرت عيونك في جمعه، وأتعبت بدنك في الحصول عليه، وقطعت الفيافي والبحار والصحارى، وجمعته من حِلٍّ وحرام، لن يردَّ لك الجميل إلاَّ بثمن الكفن والقبر. وعملُك سيخاطبك بالقول: لقد كنتَ بغيضاً إليَّ، ولا صلاة ولا صيام ولا حجّ، وما أنفعُك؟ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران : 30].

ولذلك {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} وظِّف أموالك في الأعمال والمشاريع التي تفيدك في الآخرة. وهذا ما قاله العقلاء لقارون {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} كُلْ أفضل الأكل، إلبس أحسن الثياب، اسكن في أفضل مكان، ولكن فليكن ذلك بالحلال {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص : 77] أحسن الله إليك، لا لتختزن ما عندك في داخل شخصك، بل أحسن سبحانه إليك لتعطف وتشفق على مَنْ يحتاجون إليك، فالله جعل رزق غيرك في رزقك فلا تبخل عليهم {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات : 19] فالذي لا يُخرج الحقوق الشرعية من مال الخمس والزكاة لتُدفع للفقراء والمحتاجين إليها، هو إنسانٌ سارقٌ غاصب، والذي لا يراعي حقّ الأيتام في ماله، توعّده الله بالعذاب {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء : 10].

إذاً، عليك أن تحسن إلى مَنْ أمرك الله بالإحسان إليه {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} ككثير من الناس الذين أعطاهم الله المال، فبذلوه في فتح نوادي القمار والفساد والانحراف، نشراً للميوعة والخلاعة والزنا، أو وظّفوه في إفساد الحياة العامة للنّاس في المجال السياسي والاقتصادي والأمني {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 77] وإذا رفع الله محبّته عن إنسان، فما يكون مصيره؟ وماذا لدينا غير رحمة الله؟ وُلِدْنا ووُجِدْنا برحمته، ونتقلّب ونموت في رحمته، ونُبعَث ونُحشَر بين يديه برحمته. فإذا أزال سبحانه عنّا رحمته، فأين نكون؟ ومَنْ الذي يرعانا بعد ذلك من دون الله؟ لذلك قبل أن نفكّر بمحبّة الزعماء والوجهاء لنا، يجب أن نعمل للحصول على محبّة الله. وعندما يحبّنا الله، فإنَّ قلوبنا وأرواحنا تنتعش بهذا الحبّ، ونشعر بالسكينة والطمأنينة والأمن والفرح الروحيّ. ومن هنا، ما قيمة أن يحبّنا الناس، ويبغضنا الله, وما قيمة محبّة الله وبغض النّاس لنا؟ "ماذا فَقَد مَنْ وَجَدَك" الذي وجد الله لم يفقد شيئاً على الإطلاق "وماذا وَجَدَ مَنْ فقدَك" ماذا تنفع الدّنيا كلُّها إنساناً فقد علاقته بربّه وبرحمته وعطفه؟.

ذكران فضل الله

هذا كلام قوم قارون من العقلاء والمؤمنين، وكم من شخصيات تشبه قارون تعرفونها وترونها، عندما نعظ الواحد منهم بأن يحسب حساب الله، ليبتعد عن إفساد حياة الناس، ويستعدّ لآخرته، ويُحسن إلى عباد الله، ويؤمن بأنَّ ما بين يديه مِنْ نِعَم ومال وجاه وأولاد، هو من الله تعالى، فإنَّه يجيب كما أجاب قارون {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص : 78] ما اكتسبتُه من مال وما كوّنته من ثروة، وما أنجبته من أولاد، وجمعت من أنصار ومؤيّدين يهتفون باسمي، إنَّما كلُّ ذلك بخبرتي ومهارتي وحيلتي وشطارتي وعلمي.. ويأتيه الجواب {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} مَنْ أنتَ حتّى تتضخّم شخصيّتك، وهل تحسب أنَّ شيئاً من المال سيُكسبك الخلود لتخرج من ولاية الله وتدخل في ولاية نفسك؟ إقرأ التاريخ، أين آباؤك وأجدادك، أين الجبابرة والأكاسرة والأباطرة؟ أين مَنْ امتلكوا الدنيا، أين كلُّ هؤلاء؟ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ} من مئات وآلاف السنين {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} أين عاد وأين ثمود وأين كلُّ العمالقة الذين تمرّدوا على الله وعصوه واستندوا إلى قوّتهم وجبروتهم واستكبارهم؟ {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص : 78] هم إلى النار فوراً، فكتاب أعمالهم لا يتضمّن أيّة نقطة بيضاء، فكلٌ حروفه وصفحاته ملوّنةٌ بالسواد.

ويرفض هذا المتجبّر أن يستمع إلى نداء العقل {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} خرج يشمخ بأنفه في جولةٍ استعراضية، لا يقيم وزناً واحتراماً لأحد، يتباهى بخَدَمِه وحشمه وخيله ورجاله وكنوز الذهب والفضّة التي يمتلكها {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا} ويراه هؤلاء الذين يعيشون للدّنيا ولا يفكّرون بالآخرة، وهو بكلّ مظاهر العظمة {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} لو أنّنا حصلنا على مثل ما حصل عليه من هذا المال والجاه والعظمة {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص : 79].

ويراه أيضاً الذين يملكون الوعي ويعرفون حقائق وعمق الأشياء، ولا يقتصرون على ظواهرها، ويستمعون إلى مَنْ أعمت قلوبهم الزخارفُ والزينة {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} لو أنّنا حصلنا على مثل ما حصل عليه من هذا المال والجاه والعظمة {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص : 79].

ويراه أيضاً الذين يملكون الوعي ويعرفون حقائق وعمق الأشياء، ولا يقتصرون على ظواهرها، ويستمعون إلى مَنْ أعمت قلوبَهم الزخارفُ والزينة {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص : 80] المال يأتي ويذهب، ويجيء الموت، وبعد الموت جهنّم.. فماذا يفعل المال لصاحبه؟ أمّا مَنْ آمن بالله وارتبط به وعمل صالحاً، فإنَّه ينال ثوابَ الله الذي لا يعادله أيُّ مال، لأنّه استقام على خطّ الله، راقبه ولم يراقب الناس، خاف منه سبحانه ولم يخف من غيره، توكَّل عليه وحده، ولم يتوكّل على الناس، وأحبَّ الله ولم يحبّ أحداً في معصية الله.. هذا ما واجههم به: افهموا القضايا، واحسبوا حساب النتائج، فلا ترتبطوا بظواهر الأمور، ولكن ارتبطوا ببواطنها {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} الذين يصبرون على طاعة الله ويصبرون عن معصيته، هؤلاء يهذّبون شهواتهم وعواطفهم ويضغطون على مواقع الانحراف في ذاتهم... فالدّنيا تتطلّب صبراً، والصبر هو القيمة الكبرى التي يقول عنها أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): "واعلم أنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسدٍ لا رأس معه، لا خير في إيمان لا صبر معه"(*).

نتائج الطغيان والاستعلاء

وماذا بعدُ في حساب النتائج، وما المصير الذي استحقّه قارون {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} [القصص : 81] جاء وقت العذاب في الدّنيا قبل الآخرة، لقد تكبَّر وتجبَّر وأفسد في الأرض واغترّ بماله وكنوزه وزينته، فما كان من الله تعالى، وكما جاء في بعض المرويّات، إلاّ أنْ زلزل الأرض وخسفها به، فنزل برجليه في الأرض، تطلَّع إلى ماله وأعوانه علَّهم ينقذونه، هبط إلى داخل الأرض أكثر وضغطت على صدره، الرجال والأعوان والكنوز كلّهم من حوله، ولا يستطيعون أن يحولوا بينه وبين الموت، ثمّ طوته الأرض، وكأنَّ شيئاً لم يكن.

وكان يراه وهو ينال جزاءه من العذاب، أولئك الذي تمنّوا ثروةً كثروته، وجاهاً كجاهه {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص : 82] لا يأتي الرزق بشطارتنا وحِيَلِنا، الله هو الذي يوزّع الأرزاق، كما يوزّع الأعمار والأدوار {وَيْكَأَنَّ} يمكن أن يعطينا الله، ولكن قد يكون ذلك نقمة علينا، وعندما يحرمنا، فقد يكون الحرمان نعمة لنا، لأنَّ القضايا بعواقبها ونتائجها.. فالحمد لله الذي لم يعطنا كما أعطى قارون، لأنَّ نهايتنا ستكون كنهايته {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} المؤمنون هم المفلحون وحدهم لأنّهم قدّروا العواقب وعرفوا النتائج.

ويرسم الله الخطَّ {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص : 83] الدار الآخرة هي للّذين لا يريدون الاستعلاء والتكبّر والتجبّر على الناس.. فإذا كنتم تريدونها، ابتعدوا عن أن تكونوا ممّن يريدون الفساد في حياتهم وحياة النّاس.. وسيروا في خطِّ الحسنة {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص : 84].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6/5/1993م

البلاء في حياة الإنسان

 

الالتجاء إلى الله في الشدّة والبعد عنه في الرخاء

يتناول القرآن الكريم طبيعة القلق الإنسانيّ الذي يعيشه الإنسان أمام البلاء، فهو عندما يواجه المصائب في حياته، فإنّه يتحوّل إلى إنسان خائف حائر مستجير، يحاول أن يتخلّص ممّا هو فيه بأيّة طريقة كانت. وبذلك يكتشف الله في وعيه عندما يضيق به الأمر وتشتدّ عليه الظروف وتحاصره الآلام، خصوصاً عندما يدرك أن ليس هناك أحدٌ يمكن أن يُخرِجه من هذه المصاعب، فيلجأ إلى الله، ويستعيد ما أسلف في ماضيه من الخطايا والذنوب والكفر بالله ونعمه، ويخاطب الله نادماً مستغفراً: يا ربّنا لئن أنجيتنا من هذه الشدّة وخرجنا منها إلى العافية والسلامة، فإنّنا سنعبدك ونطيعك ولن نخالف أمرك. وهذا ما جاء في كتاب الله، حيث يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ*وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 31 ــ 32] ويرفع الله عنهم البلاء، ثمّ بعد ذلك يعودون لِما كانوا عليه، وإنْ بقي منهم البعض في خطّ الاعتدال والاستقامة، ولكنّ الكثيرين في هذه الحالة يغدرون بمواثيقهم وعهودهم وينقضونها.. وهذه حالة عامةٌ نعيشها في كلّ وضع يشتدّ بنا فيحاصرنا، حتّى إذا فرّج الله عنّا ذلك، فإنَّ بعضنا ينسى الله. ولذا، فإنّ الله سبحانه يريد من الإنسان أن يعمّق إيمانه بالله في نفسه في حال الرَّخاء كما في حال الشدّة، لأنَّ الإنسان إذا كان في حالة الأمن والرّخاء والصحّة، فمن الذي يُؤمنه من مكر الله الذي يزيل عنه كلَّ ذلك في لحظة واحدة لو أراد بها فكما أنَّه محتاجٌ إلى الله في حال الشدّة ليزيلها عنه، كذلك هو في حال النّعمة محتاجٌ إليه حتّى يحفظها له. فبعض الناس يغفلون ويُخَيّل إليهم أنّهم ما داموا في عافية وأمن ورفاه، فإنّ الأقدار لن تقترب منهم، والبلايا لن تزحف إليهم، وأنّهم يملكون القدرة على البقاء والاستمرار في النِّعَم والعافية. ولكنَّ التجربة التي عاشها الإنسان في كلِّ مراحل حياته تثبت له أنَّ العسر يأتي بعد اليسر، تماماً كما هو اليسر يأتي بعد العسر، وأنّ الأيام بيد الله تعالى يداولها بين الناس، فيومٌ لك ويومٌ عليك، ويومٌ يُسعد فيه الإنسان، ويومٌ يشقى فيه. لذلك يريد الله للإنسان ألاَّ يغترّ بِنِعَم الله عليه، فيأمن من مكره وبلائه {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ*الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ*فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} [الإنفطار: 6 ــ 8] فكما أنَّ الله أوجدك من نطفة فتحوّلت إلى عَلَقة ثمّ مضغة، ثمّ خلق الله العظام فكساها لحماً، فصرت خلقاً آخر، تنقّلتَ من الطفولة إلى الشباب ثمّ الشيخوخة والكهولة، وكما أنّه يركبك في أيّة حالة حسب مشيئته، فإنّه كذلك يضعك في يومٍ تغنى فيه، وفي آخر تفتقر، أو في يوم تمرض وفي آخر تشفى. فالإنسان في كلِّ هذه الحالات يبقى في حياته معلَّقاً بإرادة الله، فالنِّعمة بيد الله، والشِّدّة بيد الله، ومن هنا على الإنسان أن يربّيَ إيمانه في عقله، ويربّيَ وعيه لآخرته ولمسؤوليّته بحيث يثبت الإيمان عنده كثبات الحياة في جسده، فالحياة في مدى العمر المحدود للإنسان تبقى موجودة في حال الصحّة وفي حال المرض، كذلك الإيمان ينبغي أن يبقى في عقل ووجدان الإنسان في حال الشدّة والرّخاء، وفي هذا يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في بعض أدعيته: "واجعلني ممّن يدعونك مخلصاً في الرّخاء دعاءَ المخلصينَ المضطرين لكَ في الدّعاء"(*) فإنّي أدعوك في حال الرخاء، حال الصحّة والسَّعة والأمن والغنى، مثلما أدعوك في حال الفقر والخوف والبلاء. وهذه الحالة تنمو في نفس الإنسان من خلال التفكير الدائم بالله، والجلوس بين يديه في الصلاة والخشوع والابتهال، وذلك حتّى لا يكون الإيمان لدى الإنسان إيماناً طارئاً {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فحال هذه العبادة المهتزّة والطارئة، حال مَنْ يقف على حافة الجبل أو الحائط، فإذا ما مرّت الريح فإنّها ترميه إلى الهاوية {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} مشت الدّنيا معه وأقبلت عليه وحصل على الخير الوفير {اطْمَأَنَّ بِهِ} اطمأنّت نفسه وارتاحت، فنسي الله {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي بلاء وشدّة {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11] قد يبتلينا الله بأنفسنا فيحرمنا من بعض ما نحن فيه، أو بأولادنا فيسلبنا ما نحبّه منهم، أو يبتلينا بأوضاعنا فيحجب عنّا الجاه والأمن.. أو يبتلينا أيضاً فيوسّع علينا في الرّزق والنِّعَم والأولاد والجاه الكبير، وفي كلتا الحالتين يحتاج الأمر إلى دقّة في الملاحظة وإلى وعي في التجربة، حتّى لا يسقط الإنسان في امتحان الغنى، كما لا يسقط في امتحان الفقر، فالله يطلب من الغنيّ أن ينضبط فلا يسرف، بل أن يشكر ويعطي ممّا أعطاه الله، ويطلب من الفقير ألاَّ ييأس وينحرف بسبب فقره، بل أن يصبر، فلعلّ الله يبدّل حاله بأحسن منها. ولذلك، أن تنجح في بلاء الفقر، أن تصبر فلا تعصي الله نتيجة فقرك، وأن تنجح في بلاء الغنى، أن تشكر الله فتصبر على غناك، فلا يجرّك غناك إلى معصية الله، بل أن تطيعه سبحانه فيما أعطاك.

صورٌ من البلاء

هذه هي إحدى الصور التي يكرّر القرآن استعراضها، وهي صورة البلاء الذي يلاقيه الإنسان عندما يركب البحر، أو يكون في الجوّ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} بحسب ما سهَّل الله لهذه السفن وألهم الإنسان المعرفة التي يستطيع من خلالها أن ينظّم حركتها، بمعرفة طبيعة الأمواج وعناصر القوّة التي يمكن أن تسير بها السفينة {لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ} فالإنسان عندما يبحر، فإنَّه يرى الكثير من آيات الله، وذلك في طبيعة البحر، وعلوّ الأمواج وانخفاضها، وما في البحر من كنوز وحيوانات مائية وأثمار بحريّة، وما إلى ذلك {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما يعيشه الإنسان من نَظَرٍ إلى آيات الله في البحر من خلال إبحاره على ظهر السفن {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} على وجود الله وعظمته وتدبيره ورحمته وحكمته {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} لأنَّ السير في البحر يحتاج إلى صبر لفهم نعمة الله وعظمته، والإنسان بحاجة لأن يصبر على ما أراد الله له أن يصبر فيه من خلال بلائه، أو من خلال فهم أسرار عظمته {شَكُورٍ} [لقمان : 31] فالإنسان الذي يشكر الله، هو الذي ينفتح على نِعَمِ الله وأسرار عظمته سبحانه.

وهؤلاء الذين يكونون على ظهر السفن {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ} كانوا في السفينة وانطلقت الأمواج كالجبال، وشكّلت ما يُشبه المظلّة الضخمة التي تغطّي السفينة كلَّها ومن جميع جوانبها، وبدأت تترنَّح بسبب قوّة الأمواج فتأخذها يميناً ويساراً وتكاد أن تنقلب {دَعَوُا اللَّهَ} فليس هناك من ملجأ ولا منجىً، ولا أحد يمكن أن ينقذهم من ورطتهم. عندها توجّهوا بفطرتهم إلى الله {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس : 22] ويختصر القرآن المسألة {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} عادت الأمواج إلى طبيعتها، وسكنت ثورة البحر، ووصلوا إلى الشاطئ الآمن، واستقبلهم الناس يهنّئونهم على نجاتهم {فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} يسير في خطّ الاعتدال {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان : 32] فالذي يجحد بآيات الله هو الذي يركب رأسه وينسى ما عاهد الله عليه، فيغدر بكلمته وميثاقه ويكفر بنعمة الله.

وهذه نقطة يجب أن نفهمها، حتّى نجاهد من أجل تنمية إيماننا، لأنَّ الإيمان على قسمين، إيمانٌ مستودَعٌ وإيمانٌ مستقرّ. فالإيمان المستقرّ هو الذي يجري في كيانك كما يجري الدم في عروقك، وهناك إيمانٌ يعيش في قلبك كما تكون الوديعة في خزانة بيتك، تخرجها عندما تحتاج إليها فقط. فالإيمان المستودَع يزول نتيجة أيّة هزّة تطرأ على حياة الإنسان، لأنّه لم يرسخ ولم يثبت في العقل والقلب.

حذارِ من ذلك اليوم

ولذلك، فإنَّ القرآن ينبّه الإنسان على ذلك ويحثّه على الارتباط الدائم بالله، لأنَّ هناك يوماً سيقف فيه بين يديه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان : 33] فخافوا اللهَ وراقبوه واتّقوا عذابَه، فسوف يأتيكم يومٌ تلتقون فيه بالله سبحانه.. وخصوصيات هذا اليوم ليست كخصوصيات أيّامكم في الدّنيا.. إنَّكم في الدنيا قد تلوذون وتلجأون إلى بعضكم في الشدائد، فالأب يعطف على ابنه ويحوطه بالعطف والحنان، ويقدّم كلَّ إمكاناته حتّى ينقذه من قسوة الحياة، والابن يوقّر ويحترم أباه، والأخ يعطف على أخيه، والناس تتوادّ وتتواصل مع بعضها في المحنة والشدّة، لكن يوم القيامة {وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} يمرُّ الوالد بولده فلا يلتفت إليه، وهكذا الولد، لأنَّ أهوال يوم القيامة والشدائد التي تحدث فيها، تدفع كلَّ إنسان ليقول: يا ربّ نفسي {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس : 37] فما وعدكم الله به هو الحقيقة {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ليس وعداً خيالياً ووهميّاً وباطلاً، كلّكم سائرون إلى هذا الوعد {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق : 6] وآخر الأمر ستصل إلى هذا اليوم الموعود {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فمهما أعطتكم من زخارف، فإنَّ زخارفها ستزول، ومهما منحتكم من شهوات، فإنَّ شهواتها ستتبخّر، ومهما وهبتكم من أمجادها، فإنَّ أمجادها ستسقط، ومهما ضخّمت لكم شخصيّاتكم، فإنَّها ستذوب كلّ شخصياتكم، ومعها أجسامكم هذه التي تخدمونها وتزيّنونها وتعطّرونها وتجمّلونها وتبتعدون بها عن كلّ تعب، حتّى هذه الأجساد سوف تتقطّع "وارحمني عند تغيّر صورتي وحالي، إذا بَلِيَ جسمي وتفرّقت أعضائي"(*) كلّ عضو في مكان "وتقطّعت أوصالي" كلّ جزء في مكان.. هذه هي النهاية.

يقف ذلك الشاعر العراقي في مقبرة وادي السلام في النَّجف الأشرف، حيث يتمنّى المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها أن يُدفنوا فيها بجوار أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، فيقول:

 

عبرتُ على الوادي فَسُفَّتْ عُجَاجَةٌ                فكم من بلاد في غبارٍ وكم نادِ

وأبقيتُ لم أنفضْ عن الرأس تُرْبَهُ                 لأرفعَ تكريماً على الرأسِ أجدادي

فيا مُنبِتَ الأجسادِ عُشْباً على الثَّرى              أهَل تُطْلِعُ الأرواحَ مطلعَ أورادِ؟

محالٌ على الأرواحِ دفنٌ بتربةٍ                    ولكنّما هذي القبورُ لأجسادِ

هذه هي نهاية الأمر {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر : 5] الشيطان يأتي ويخدعكم، ويقول للواحد منكم، الله غفورٌ رحيم. أنتَ شابٌّ والدّنيا أمامك واسعة، أنتِ صبيّة والسّنونَ أمامك مفتوحة، أنتَ إنسانٌ تعيش الغنى والمجد والجاه، والله سبحانه وتعالى لا يعذّب الوجهاء بالنار.. هكذا يأتيكم الشيطان، فإذا اتّجهتم بقلوبكم إلى الله حاول هذا الشيطان أن ينسيكم الله، وإذا توجّهتم نحو التوبة، فإنّه يسوّف لكم التوبة، ويُغريكم بأنّكم غداً ستتوبون حتّى تموتوا بلا توبة.

هكذا يحذّرنا الله تعالى وينبّهنا حتّى لا نندم في وقت لا ينفع فيه الندم {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان : 34] فهو تعالى وحده يعلم ساعة القيامة، وساعة موت كلِّ إنسان، وهو الذي يملك قوانين إنزال المطر من خلال خلقه لهذه القوانين، ويعرف ما يستقرّ في الأرحام لأنّه خلق ما في داخلها {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} هل تعرف ماذا سيأتيك في الغد؟ ومَنْ الذي يضمن يومه القادم وما يحدث له فيه؟ {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً*إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 ــ 24] لذلك، نحن لا نستطيع أن نملك تقدير أمر الغد بشكلٍ حتميّ، ومن هنا، فمقتضى إيماننا ومعرفتنا بتدبير الله في الكون، أن نقول إنْ شاء الله، أي إنْ أراد هو سبحانه، لأنّه قد لا يريد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} بعض الناس يحضّر قبره في بلدته أو قريته، ولكن ربّما يكون قبره في بطون السّمك {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران : 154] لذلك {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} هو العليم بالإنسان في كلِّ أموره، وهو الخبير بما يصلحه ويفسده، فانفتحوا على كلمات الله وارجعوا إليه، ولتكن كلُّ حياتكم بين يديه حتّى تضمنوا لأنفسكم سعادة الدّنيا في نعيم الله، وسعادة الآخرة في رضوان الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

12/8/1993م

التقوى والأمانة

 

التّقوى والقول السديد

يختصر القرآن الكريم للإنسان حركته في الحياة التي تقرّبه إلى الله وترفع درجته عنده سبحانه. فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70 ـــ 71].. فهناك في الخطاب القرآني كلمةٌ تتّصل بحركة الإنسان في الحياة من حيث انسجامها مع طاعة الله وابتعادها عن معصية الله، وهناك كلمة أخرى تتّصل بالخطّ الذي يركّز الإنسان عليه قولَه ممّا يتّصل بشؤون العقيدة والشريعة، وشؤون العلاقات الإنسانية، عندما يريد الإنسان أن يعبّر عن فكره ورأيه، وأن يحرّك الكلمة لتفعل فعلها في حياة الناس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} والنداءات التي تنطلق في القرآن بــ (أيُّها الذين آمنوا) ترمي إلى توعية الناس وتنبيههم، بأنّ ما يخاطبهم الله به، له علاقةٌ بالإيمان، بحيث إِنّ الإنسان إذا لم يأخذ بذلك، فكأنّه لم يأخذ بالإيمان ولم يسر على خطِّه.. والتقوى تمثّل حركة الإيمان الذي يتجسَّد في واقع الإنسان.

فالإيمان بالله في عمقه وامتداده يمثّل الامتداد في خطِّ الله، ويمثّل شعور الإنسان بحضوره ورقابته سبحانه عليه، بحيث يحسّ بوجود الله معه، كما لو كان يراه، ويحسّ أيضاً بحضور الله معه، أكثر من إحساسه بحضور الناس معه، ولذلك جاء في الحديث: "تعبد الله كأنَّك تراهُ، فإنْ لم تكُن تراه فإنَّه يراك"(*)، وعلى هذا، فإحساس الإنسان بوجود الأشياء من حوله، هو إحساسٌ بوجود الله سبحانه، فهو لا يستطيع أن يتصوّر سماءً وأرضاً وجبالاً وأنهاراً وسهولاً وبحاراً وأشجاراً تصوّراً مفصولاً عن تصوّره لله سبحانه، لأنَّ وجود الكون يمثِّل ظلَّ وجود الله سبحانه، فالله سبحانه هو الحقيقة، وكلّ الكون هو أثر وجوده تعالى. ومن هنا، فإنَّ الله لا يريد لنا أن يكون الإيمان عندنا مجرّد فكرة في العقل أو كلمة في اللّسان، وإنّما يكون حضوراً في العقل والقلب والحركة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال : 2] ومثل هذا الإيمان يفتح حياة الإنسان على التقوى، لأنّ التقوى تمثّل شعور الإنسان برقابة الله عليه، فالإنسان الذي يتّقي الله، فإنَّه يخافه ويحسب حسابه، وحساب الوقوف بين يديه ومساءلته له. وعلى هذا، فالمؤمن بالله عليه أن يمارس الحياة من خلال المسؤولية، ويتحرّك فيها ليبتغيَ الوسيلة إليه، ولا بدّ له أن يقرن الإيمان مع التقوى، لأنّ إيماناً بلا تقوى لا معنى له، ما يصدق الفكرة هو العمل، فعلامة الصّدق في الفكر والإيمان، هي العمل.

تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حُبَّهُ                     هذا لعمُرك في الفعالِ بديعُ

لو كان حُبُّك صادقاً لأطعتَهُ                إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ

وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال، وهو يجيب سائلاً عن جماعة من الناس يقولون: إنّنا نخاف النار ونرجو الجنّة، قال (عليه السلام): "كذبوا ليسوا براجين ولا خائفين، مَنْ رجا شيئاً طلبه، ومَنْ خاف من شيءٍ هرب منه"(*) فإذا كنت تطلب الجنّة، فعليك أن تطلب الجنّة بكلِّ ما يمهّد الطريق إلى الجنّة، وإذا كنت تخاف من النار، فعليك أن تهرب من كلِّ ما يدفعك إلى النار، أمّا أن تخاف النار وترجو الجنّة، وتعمل كلَّ ما فيه معصية لله، إنَّك تكون كمثل من خاطبهم أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "أبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا اللهَ في دار قدسه هيهات لا يُخدَعُ اللهُ عن جنّته" فالجنّة لا تُوهَب مجّاناً "الجنّة محفوفة بالمكاره والنار محفوفة بالشهوات"(**).

ولذا، كان الخطاب القرآني {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الأحزاب : 70] راقبوا الله في كلِّ أعمالكم، فإذا رأيتم واجباً فافعلوه، وإذا رأيتم حراماً فاتركوه، وإذا رأيتم شبهة فقفوا عندها، فإنّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكة {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} ليكن قولكم قولَ الصواب والحقِّ والعدل، لأنّ السّداد في القول، يعني استقامة القول على الخطّ الذي يرتبط بالحقيقة والواقع وبالنتائج الكبرى التي يرتفع بها مستوى الإنسان في الدّنيا والآخرة. لذلك، لا تكن كلماتك كلمات انفعالية، أو ارتجالية، أو كلمات طائرة في الهواء، تلقي الكلمة كيفما طرأت على فكرك. لذلك فكِّر أولاً فيما يمكن أن تثيره الكلمة في حياة الناس من إيحاءات سلبيّة أو إيجابيّة، وفكّر في معنى الكلمة ومضمونها، هل تعطي هذه الكلمة معنىً يرتبط بالله وبمصلحة الإنسان، وبما يحبّه الله للحياة، أم لا؟ لتكن كلمتُك الكلمةَ التي تبني ولا تهدم، والكلمة التي توحِّد ولا تفرِّق.. لتكن كلمتك الكلمة التي تهدي ولا تضلّ، والكلمة التي تؤكّد الحقّ وتتنكّر للباطل، الكلمة التي تؤكّد العدل وترفض الظلم، لأنَّ كلمتك جزء من عملك. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) أنّه قال: "مَنْ لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه"(*) فإذا لم تركّز على كلماتك فإنَّ أخطاءك تكثُر، ولذا، فإنَّ عليّاً (عليه السلام) يعطي للإنسان إيحاءً بطبيعة حركة الكلمات في موقفه من الله تعالى، فقد رأى إنساناً يتكلّم كثيراً، قال له: "يا هذا إنّك تُملي على كاتبيك"(**) ـــ وفي رواية على حافظيك ـــ "كتاباً إلى ربِّك" فكلماتك هي عبارةٌ عن رسائل ترسلها إلى ربِّك. فأنت عندما تشتم، فذلك رسالةٌ منك إلى الله، وهكذا عندما تفحش في القول، أو تشهد شهادة زور، أو تؤيّد إنساناً يريد الله منك أن ترفضه، وترفض إنساناً يريد الله منك أن تؤيّده وتقف معه.. إنَّ هذه رسائل يوميّة تكتبها إلى الله {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق : 18] فالكلمات التي تطلقها، هي تقارير يوميّة يقدّمها الملكان عنك إلى الله سبحانه.. فكيف تواجه المسألة؟ وإذا كنت تخجل من الناس عندما يسمعونك تشتم زوجتك أو أولادك أو جيرانك أو مَنْ هم تحت يديك من عمّال وما شاكل، وتستحي أن يسمعوك متلبّساً بالكلام البذيء أو الفاحش، ألاَ يجدر بك أن تستحيَ من الله في ذلك؟ لنتعلّم قول الكلمة المركّزة {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} لنعش الكلمة المنطلقة من موقع الفكر، ومن حسابات المسؤولية، الكلمة التي لها دور في بناء المجتمع والحياة، الكلمة المسدّدة والبعيدة عن الخطأ والانحراف.

نتائج التقوى وثمرات القول السديد

وهكذا، يريد الله للمجتمع المسلم، والفرد المسلم، والأُمّة المسلمة أن يكون قولها في كلِّ خطاباتها وحركاتها، القول السديد الذي ينتج الخير ولا ينتج الشرّ، فإذا ما فعلتم ذلك {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} باعتبار أنَّ الأعمال عادة تختزن بعض الخلل بنسب معيّنة، فإذا كنتم تتّقون الله وتقولون القول السديد، فإنَّ الله يتمّم لكم أعمالكم الصالحة ويتقبّلها كما لو أنَّها تامّة، فإذا تقبّل الله العمل كعمل صالح وكامل، فإنَّ الله يعطيكم الأجرَ الكبير والعظيم الذي تستحقّونه {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فالتقوى وإنْ جاءت متأخّرة، فإنّها سببٌ من أسباب غفران الذنوب المتقدّمة.. فإذا عصى الإنسان فيما مضى وأسرف على نفسه، ولكن عاد وأحسن عمله واتّقى الله وأصلح طريقه، فإنَّ الله يغفر له ذنوبه بعد أن عاش عمق التوبة في حركته {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب : 71] وللإنسان أن يتصوّر عظمة الفوز في رضوان الله ونعيمه ورحمته {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت : 31].

 

 

ضخامة المسؤولية وقبول الإنسان لها

وبعد الحديث عن الإيمان والعمل والتقوى والقول السديد، يصوِّر لنا القرآن الكريم مسؤولية الإنسان مقارنةً بكلّ القوى الضخمة في الحياة.. فكم هي السموات والأرض واسعة وضخمةٌ وممتدّة، فإذا قاس الإنسان نفسه إلى السموات هل يكون إلاّ ذرّة ضائعة، أو إلى الأرض، هل يحسب نفسه أكثر من حبّة تراب، أو إلى الجبال، هل يكون إلاّ حصاة من صخرة في صخورها؟. ومع ذلك يقارن القرآن بين مسؤولية الإنسان وبين حجم هذا الكون {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72] ، والأمانة هي التكليف والمسؤولية، وكأنَّ الله يصوّر السموات والأرض والجبال كأنَّها مخلوقاتٌ عاقلة، ويخاطبها مخاطبة السيّد للعبد العاقل الواعي: أيّتها السموات إنّني أحمّلك مسؤولية حركتك في كلِّ الظواهر الموجودة في داخلك وعليك أن تقدّمي الحساب، وأنتِ أيّتها الأرض، أحمّلك مسؤولية كلَّ ما في داخلك وعلى سطحك وفي أعماقك في كلِّ هذه المخلوقات الجامدة والحيّة والنامية، وفي كلّ البحار والأنهار والأشجار، فتحمّلي مسؤوليتك ومارسي دورك في كلّ ما لله إرادةٌ فيه، وأنت أيّتها الجبال الشامخة في الفضاء، الممتدّة في الأرض، والواسعة الأبعاد، إنَّ في داخل وجودك حركة وقوانين وأوضاعاً، ولك دورٌ في طبيعة حركة الحياة ونظامها، فتحمّلي مسؤوليتك في حركة الوجود.. وكان جواب هذه المخلوقات العظيمة {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} وتتوسّل إلى الله: ربَّنا، الأمانة ثقيلةٌ، صحيحٌ أنّ الجبال تحمل ما تحمل، والأرض تختزن ما تختزن، والسموات تحوي ما تحوي، ولكنْ يا ربّنا لا نستطيع تحمُّل الأمانة، لأنّنا سنقف بين يديك لنقدّم الحساب، ولا قدرة لنا على تقديم الحسابات بدقّة، ربّما ينحرف وضعٌ هنا أو هناك، أو ينحرف قانون في هذا المجال أو ذاك، وعندها نقع في خطأ إدارته. وهكذا {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} فالخطأ يعرّضنا لعذاب الله وسخطه وغضبه، وكما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء كميل "وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض" ولأنّها لا تستطيع تحمّل غضب الله، تركت لله وحده أمر تنظيم القوانين والسنن فيها، وليس لها إلاّ أن تطيع من خلال وجودها التكويني.

أمّا الإنسان، فقد وقف بعنفوانه، وقال: أنا الإنسان صاحب العقل الذي يدير الكون، أنا الذي أملك حريّة الإرادة والحركة بالمستوى الذي أستطيع فيه أن أكتشف أسرار الكون وأُديره. أنا للمسؤولية جدير، فحمِّلني يا ربّ كلّ المسؤوليات، لكَ أن تأمر وسأُطيع أوامرك، إنهني ولن أعصيك فيما نهيتني، حدِّد لي البرامج والخطوط، وسأنفّذ كلَّ هذه البرامج {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} حمل الأمانة بكلّ غروره وكبريائه وجهله {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} ظلم نفسه ولم يفكّر بحجم المسؤولية، فجهل النتائج وغفل عن دوره، ولم يتحرّك في طريق الاستقامة..

وماذا كانت النتائج؟ {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب : 73] هؤلاء الذين يُبطنون شيئاً ويُظهرون شيئاً آخر {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة : 14] فسيعذِّبُ الله هؤلاء {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} لأنّهم عبدوا غير الله {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الذين يتحرّكون في خطِّ حفظ الأمانة، وهم قد يخطئون قليلاً، ولكنّهم يرجعون إلى الصواب والاستقامة {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201] سيرحمهم لأنّهم يعيشون ذكر الله عملاً وبعداً عن معصيته {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب : 73] فهو تعالى غفورٌ لمن استغفره وانفتح بإيمانه عليه، ورحيمٌ لمن استرحمه. إنَّ الله ما زال يطرح علينا الأمانة، فلنكن الأمناء على حلال الله وحرامه، ولنكن الأمناء على بلاد الله وعباده، ولنكن الأمناء على الإيمان والإسلام، والأمناء على حاضر المسلمين ومستقبلهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119].

 

 

17/9/1992 م

الإحتجاج

كأسلوب للرفض

 

إعلان الاحتجاج في مجلس الظالمين

في حياتنا العامّة نعيش مسألة يكثُر الابتلاء بها عند النّاس، وقد تناول القرآن الكريم هذه المسألة بقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام : 68 ــ 69]، قد يجلس البعض في مجلس فيه طغاةٌ ومنحرفون أو ممّن يملكون قوّة في خطِّ الضلال، ويدور حديثٌ في هذا المجلس بطريقة تسيء إلى موقع الإسلام، من خلال الاستهزاء بآيات الله أو أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو يُسْتَهْزَأ بأولياء الله وبالقيادات التي تنفتح على الله، أو يتحدّث المتحدّثون في أمرٍ لا يرضى الله به، كأن يغتابوا شخصاً تقيّاً وَرِعاً، أو عالِماً مُجاهِداً، أو ينالوا من جهةٍ إسلاميّة مخلصة بطريقة غير لائقة.. في هذا المجلس، يريد الله للمؤمنين إذا لم يستطيعوا أن يواجهوا الموقف بالدفاع عن الله وحرمات المؤمنين، بأن تكون الكلمة في مواجهة الكلمة، والعنف في مقابل العنف، يريد لهم في هذه الحالة ألاّ يجلسوا مع هؤلاء، وأن يُعلِنوا احتجاجهم على ذلك بطريقة الانسحاب من المجلس إلى أن ينتهيَ الحديث، ويبدأ حديثٌ آخر، يمكنهم بعد ذلك أن يعودوا إلى المجلس إذا كانت لهم حاجةٌ في ذلك. وعلى هذا، فالإنسان الذي يبقى في المجلس ولا يردّ أو ينسحب، فإنَّ بقاءه يوحي برضاه والاعتراف بهذا الواقع.

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} أي يتحدّثون عن هذه الآيات حديثاً غير مركّز، تماماً كما يخوض الإنسان في الوحول {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الإعراض يكون، إمّا أن تخرج مستنكراً، أو أن تُشغِل نفسك بالحديث مع شخصٍ آخر، أو تقطّب وجهك، دلالةً على تأذّيك من كلامهم والاحتجاج عليهم، وهذا إنَّما يكون إذا لم تتوفّر لك فرصةٌ في الخروج {حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} ويمكنك أن تُقبِل عليهم في الأحاديث الأخرى التي لا تحمل أيّة نقاط سلبيّة {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} فإذا بقيت جالساً بسبب الغفلة عن الحكم الشرعيّ والنتائج السلبيّة التي تحدث من خلال موقفك أو سكوتك أو جلوسك {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام : 68] إذا تذكّرت ذلك فلا تقعد مع الذين ظلموا أنفسهم بالضلال بالانحراف والفسق والكفر وبمعاداة أولياء الله، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في آيةٍ أخرى، حيث يقول سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140]، وفي هذه الآية يظهر التهديد أكثر من الآية السابقة التي تطلب الإعراض عن كلامهم، أمّا في هذه الآية، فهنا طلبٌ بالانسحاب من المجلس احتجاجاً إذا لم يغيّروا وجهة الحديث، لأنَّ بقاءكم معهم والسكوت على كلامهم، يعني الرضا به "والراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم"(*) كما يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140] أي لا فرق بين مَن يعلن الكفر صراحة، ومَن يجامِل الكافر ولا يحتجّ على إساءته للدّين.

وهذه نقطةٌ تنطلق من خطٍّ إسلاميّ إيمانيّ روحيّ، وعلى الإنسان في هذا أن يحترم ويدافع عن انتمائه الإسلاميّ في الحالات التي يستطيع فيها أن ينتصر لله ولرسوله، وإذا كان يملك القوّة في الدفاع، فإنَّه يجب عليه ذلك، ليشعر الآخرون بأنّ ربَّه ونبيّه وقرآنه وإسلامه ومذهبه، يمثّلون قيمة كبرى عنده، بحيث أنّه يحدّد علاقته بالناس من خلال احترامهم لدينه. ولا يكفي أن يؤكّد الإنسان احترامه لدينه في نفسه، ولكن أنْ يؤكّد ذلك أمام النّاس من خلال موقفه ضدّ الذين يحتقرون ويكيدون لهذا الدّين. وفي هذا الموقف تذكير لمن يخوض ويكفر ويستهزئ بآيات الله، بأنَّ هناك مَن يرفض كلامه، إنْ كان بإقامة الحُجّة أو بإعراض الوجه أو بالخروج من المجلس استنكاراً واحتجاجاً، حتّى يتراجع عن موقفه ويتوقّف عن حديثه ويشعر بالذّنب والخطأ فيما تحدّث به. وبهذا {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام : 69]، أنتَ لا تُحاسَبُ عنهم ولا تتحمّل مسؤولية مواقفهم، ولكن ذكّرهم لتوجّه إليهم صدمة تهزّ حالة الغرور واللامبالاة الموجودة داخل أنفسهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فالإنسان المنحرف والذي يسخر من آيات الله وعباده المؤمنين ويهزأ بالمعتقدات المقدّسة، إذا لم يجد من يقف أمامه ويردعه، فإنّه يزداد في طغيانه ويتصوّر أنّه على حقّ، ولكن إذا سمع ردّاً من هذا وإعراضاً منه، ورأى صدمةً من ذاك، فإنَّه قد يعيد النظر في موقفه {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} هم يتحمّلون مسؤولية أعمالهم {وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فذكّرهم، لعلّ هذه الذكرى تقودهم إلى التفكير، فيعودون إلى التقوى في نهاية المطاف.

الذكرى ومعنى الرفض للواقع السيّىء

من خلال هذا نستطيع أن نفهم حقيقة وهي: إنّ علينا دائماً أن ننتهز كلَّ الفرص لنذكِّر الناس من حولنا عندما يغفلون عن الله وينحرفون عن طريقه.. أن نذكّر أهلنا وأولادنا وجيراننا والناس الذين نلتقي معهم في العمل وفي كلِّ المواقع، بالله وبواجباتهم تجاه دينهم وأنفسهم وحياتهم. وأن نُشغِل أنفسنا بالبحث عن أفضل الوسائل لهداية الناس وإرشادهم وكيفية استقامتهم وانطلاقهم في خطِّ الله، فهذه مسؤولية كبرى نتحمّلها أمام الله. والله تعالى لم يوجِّه الخطاب للنبيّ وحده {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى : 9] الله تعالى قالها للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بصفته داعية إلى الله، ولذلك، فإنَّ كلّ مسلم مُوجَّهٌ إليه هذا الخطاب {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى*سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى : 10] الذي يخاف ويخشع قلبه {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى : 11] الذي أغلق قلبه عن الموعظة {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى : 12].

فالذكرى أمرٌ ضروريٌّ وهامٌّ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات : 55] الذين يعيشون في قلوبهم الإيمان، ولكنّهم قد يغفلون وينسون أوامر الله تعالى ونواهيه. ونستوحي من هذه الآية جوّاً آخر، وقد يكون محلّ ابتلاء بعض المؤمنين، حيث قد يُدعى البعض إلى حفلات اللهو والخلاعة وشرب الخمر، تلبيةً لدعوة قريب أو صديق يريد أن يتزوّج أو يزوّج ولده أو ابنته، أو تلبية لدعوة وجيه أو زعيم أو ما شاكل ذلك، فيلبّي هذا البعض الدَّعوة تحت عنوان أنّه مُحْرَجٌ ومضطرٌ. فقد يعتب القريب أو الزعيم، فيذهب ويمنّي النفسَ بأنّه لن يستمع إلى أغاني الميوعة ولن يلتفت إلى أجواء الخلاعة، ولكن من أين له ذلك؟ إضافة إلى أنَّ وجوده في هذه الأجواء يشكِّل اعترافاً وإقراراً بها، فيخفت صوت الإنكار ويعلو صوت الفجور. ولكن أمام كلِّ هذا، لا بدَّ من الرَّفض ومن التذكير بأنَّ هذه الأجواء لا ترضي الله وتجلب السخط منه سبحانه على مَنْ يحييها ويقيمها.

ومن هنا جاء التحذير الإلهي {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [الأنعام : 70] اترك هؤلاء الذين يقولون عن أنفسهم إنَّهم مؤمنون مسلمون، ولكنّهم يلهون ويلعبون، فكان اللّعب دينَهم ومنهجهم وطريقتهم وأسلوبهم في الحياة، فسقطوا أمام زخارف الدنيا وشهواتها وبهارجها، فأصبحوا يتحرّكون من موقع ووهج هذه الزخارف، ولا يتحرّكون من موقع الإيمان وتقوى الله {وَذَكِّرْ بِهِ} لا تَسِرْ معهم ولا تخُضْ فيما يخوضون، ولا توافق على مواقفهم، بل حاول أن تواجههم بالذكرى {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي أن تُرْتَهَنَ نفس الإنسان عند الله بما كسبت، فإن كان كسبه خيراً فكَّ الله رهنه وأدخله الجنّة، وإنْ كان كسبه شرّاً بقي مُقيّداً ليُقاد به إلى النار {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} فليس لهذه النفس يوم القيامة شفيعٌ ينصرها من الله أو يشفع لها {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} فلو دُفِع عنها ما دُفِع بدلَ ما اقترفت وعَصَتْ وتمرّدت فلن ينفعها كلُّ ذلك {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} ارتهنوا، ونتيجة الرهن {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} من كفر عقيديّ وعمليّ.

الولاء لله وحده

وهناك في واقعنا ذهنية تربط مصيرها بمصير مَنْ هم بعيدون عن الله تعالى، فكثيرون هم الذين يأتون إليك طالبين منك أن تطيعهم في الذهاب إلى شيخ البلد ورئيسها، وإلى زعيم المنطقة ومسؤولها تقديماً للولاء له، وتنفيذاً لأوامره، طمعاً بمال تحصل عليه أو منصب أو مركز تكسبه، وليس لك إلاّ أن تطيعه وتدافع عنه وتجمع المؤيّدين والمناصرين حوله. هذه الذهنية، واجهها القرآن الكريم بالقول: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام : 71] مَنْ تدعوننا إليه لا يملك شيئاً إلاّ ما مَلَّكه الله، أنقبل بذلك {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ} هدانا الله إلى الحقّ والتزمنا طاعته وهو الذي أنعم علينا مِن نِعَمه ورحمته ولطفه، أتريدوننا أن نعود ضالّين مضلِّين {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} ولن يكون حالنا حالَ الذين سقطوا تحت تأثير شياطين المال والسياسة ولا ندري هدفنا وطريقنا في الدنيا والآخرة، لن نكون في حيرة، لأنَّ الشياطين لن يدلّونا على الطريق المستقيم {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} وهذا الذي جاءه الشيطان فعجَّل له المعصية وسوّف التوبة، يأتيه أصحابه المؤمنون ناصحين له مشفقين عليه، طالبين منه البُعد عن طريق الشيطان والعودة إلى طريق الرحمن {قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إسلام القلب واليد واللّسان، بحيث نسلّم إلى الله في كلِّ أمورنا، وإذا أراد منّا شيئاً، فإنَّ علينا أن نسرع فيما أراده سبحانه. وما طاعتنا له إلاّ لأنّه ربُّنا وخالقنا ومُحيينا ومميتنا {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام : 73] فالله تعالى أقام السموات والأرض على الحقّ، فليست هناك ظاهرةٌ في الكون إلاّ وفيها سرٌّ ينسجم مع مصلحة هذا الكون في كلِّ مخلوقاته {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} كلُّ هذا الكون وبأمرٍ منه يتبدَّل إلى كونٍ وعالمٍ آخر {قَوْلُهُ الْحَقُّ} فكلّ ما يدعون من دونه باطل {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} وتنطلق الصيحة يوم القيامة ليُبعَث مَنْ في القبور {عَالِمُ الْغَيْبِ} الذي لا يعيش الناسُ الإحساسَ به في العلن {وَالشَّهَادَةِ} الحضور {وَهُوَ الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء في مواضعها بكلّ دقّة وحكمة {الْخَبِيرُ} الذي يعلم مَن خلق.

وهذا هو الطريق الذي نحتاج أن نسلكه في حياتنا، لنبدأ مع الله ونسير مع الله وننتهيَ إلى الله، لنقف بين يديه بقلبٍ سليم ونيّة صادقة وعملٍ مقبول.

 

 

 

 

 

 

1/10/1992م

الجدال من غير علم

 

الوجود المسخّر للإنسان

يوجّه الله تعالى الإنسان لينظر ببصره وقلبه إلى كلّ مَنْ حوله وما حوله، فيقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان : 20] والله تعالى عندما يوجّه الإنسان إلى ذلك، فليرى وهو يتحرّك في الحياة منذ بداية خلقه كيف أنَّ الله سخَّر له كلّ الأشياء التي يحتاجها في وجوده.. فسخّر له أمّه وأباه يحضنانه ويتعهّدانه ويشقيان ليُسعداه، ويتعبان ليريحاه، ويواجها الأخطار حتّى يؤمّناه، ثمّ عندما تأتي ظروفٌ يفقد فيها والديه، فإنَّ الله سبحانه يهيّئ له مَنْ يرعاه ويفتح له أبواب الحياة.. وهكذا عندما يبدأ الإنسان حركته في الحياة تأميناً لرزقه، فالله تعالى يسخّر له الأرض لتنبت وتنتج كلّ ما يحقّق له الكفاية في طعامه ومشربه وملبسه ومسكنه، وفجَّر له الينابيع ليستفيد من الماء في ارتوائه ونظافته.. وهكذا في الشمس حيث تعطيه الدفء والحرارة والإشراق وما يحقّق له شروط الاستمرار في حياته، وكذلك في الحيوان والقمر والكواكب، وفي كلّ ما خلقه الله حيث كلُّ ذلك مسخَّر له ولخدمته.

ونحن قد لا نتحسّس عظمة هذه المخلوقات التي أوجدها الله تعالى لراحة النّاس، لأنّنا اعتدنا على رؤيتها وملامستها وألفنا وجودها، والإنسان لا يعرف عظمة ما اعتاده وما ألفه، وحتّى لا نستغرق في الغربة بيننا وبين هذه العظمة، يريدنا سبحانه أن ننظر بعيون قلوبنا ونطيل النظر حتّى نتعرّف على ما أفاضه الله علينا من نِعَمه الظاهرة والباطنة وفي كلّ ما أودعه في الحياة، وعندما نعيش ذلك، فإنّنا نُحِسُّ بفضل الله علينا وبحاجتنا إليه.. فلو أنّ الله جعل الليل سرمداً فمن الذي يأتينا بالضياء؟ ولو أنَّ الله جعل النهار سرمداً فمن الذي يأتينا بالليل لنسنكن فيه؟ وإذا أطفأ نور الشمس، فكيف ننعم بالدفء والحرارة وحركة الحياة؟ ولو جعل سبحانه الأرض جدباء، فكيف لنا أن نحقّق ظروف وشروط العيش؟ وهكذا في كلّ الأمور في الحياة. ومن هنا، فإنّ الإنسان يشعر بالارتباط بربّه من خلال ارتباط حاجته به تعالى، وبما لا يشعر فيه بأيّ حاجة لأحد. فنحن نستغني عن آبائنا وأُمّهاتنا، فتستمرّ حياتنا حتّى عندما نفقدهم، ونستغني عن هذا الذي يُعيننا في بعض مواقع الحياة وعن ذاك. ولكن مَنْ الذي يستغني عن الله؟ الله الذي خلقنا وحرّك لنا كلَّ الأجهزة في أجسامنا، ولو رفع عنايته عن حركة هذه الأجهزة التي تنظّم حياتنا، فكيف يمكن أن نبقى على قيد الحياة؟

إنَّ الله تعالى يريدنا أن نعيش التفكيرَ بنعمه علينا كي لا نغفل عنه ونبقى على ارتباط به، فنحن غالباً ما نرتبط بالناس من خلال حاجاتنا، هذا يوظّفنا، وذاك يعطينا مالاً، وآخر يحلُّ لنا مشكلة أو يعطينا لذّة. ولكنّ الله أعطانا وجودَنا كلّه وحقَّق لنا شروط هذا الوجود وحرّكه لمصلحتنا، وتدخّل في كلّ تفاصيل وجودنا، لذلك كيف للإنسان أن ينسى ربَّه ويغفل عنه، فهو سبحانه الحاضر في وجوده من خلال كلِّ شيء، فإذا نظر بعينيه فليعرف أنّه ينظر بعين الله، وإذا سمع فليعتبر أنَّ السمع نعمة الله عليه، وإذا شمَّ أو تذوّق أو فكّر فليتيقَّن أنَّ ذلك من الله.

نكران النِّعَم والجدال بغير علم والتقليد الأعمى

ولذلك، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ} الشمس تشرق، المطر ينزل، القمر ينير، الكواكب تحقّق الكثير ممّا له علاقةٌ بحركة الكون التي تعود بالنفع على الوجود كلّه {وَمَا فِي الْأَرْضِ} من حيوان ونباتٍ وجماد، ومن كافة الثروات الطبيعيّة التي تختزنها الأرض، وهي لكم جميعاً {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} أفاض عليكم {نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} ومع كلّ ذلك، هناك من النّاس مَنْ يتنكّر لذلك، وأيضاً {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} يجادل في وجود الله وتوحيده وعدله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} وجدالُه ليس خاضعاً للمنطق، وليس لديه وضوح في الرؤية أو يملك حظّاً من علم {وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} فهو فاقد للمعرفة والدراسة والتفكير. والله تعالى لم يمنعنا أن ندخل في جدال، ولكن على الإنسان عندما يناقش في شيء أن يملك ثقافة هذا الشيء، أمّا إذا كان لا يملك الثقافة في هذا المجال، فكيف يجادل فيه؟ ولذلك يقول الله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران : 66] وعلى هذا، فالقرآن يطلب من الإنسان أن يمتلك القاعدة الثقافية والفكريّة ليرفض ما يريد رفضه، وليقتنع بما يريد الاقتناع به، وعندما يمتلك الإنسان هذه القاعدة، فإنَّه يمكن له أن يتحاور مع الناس من موقع الأساس.

ودائماً يتوجّه الخطاب القرآني لمن يعيشون روح التقليد الأعمى من الكافرين والمشركين والذين لم ينفتحوا على الحقّ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان : 21] يوحي القرآن للإنسان سواءً كان فرداً أو جماعة: أيّها الإنسان، إنّ الله خلق لك عينين تنظر بهما، وأذنين تسمع بهما، ولساناً تنطق به، وعقلاً تفكّر به، وخلق لك إرادة تستطيع أن تؤكّدها، فاسمع كلَّ ما ينطلق في حياتك من كلام، وانظر إلى كلّ مَنْ حولك وما حولك، ولكن فكّر في كلّ ذلك، ولا تكن صدىً للآخرين، وارفض لحياتك وشخصيّتك أن تكون كمثل الظلّ إلى الضوء، أو كمثل الصدى بالنسبة للصوت.. لذلك، فالقرآن ينادي في الناس: إنّكم الحقيقة في وجودكم، فكونوا الحقيقة في انتمائكم، لا تكونوا ظِلاًّ أو هامشاً للآخرين. الآخرون فكّروا وقرّروا، فلماذا لا تفكّرون أنتم ويكون قراركم من خلال تفكيركم؟ ولنفرض أنَّ آباءنا وأجدادنا فكّروا لأنفسهم وركّزوا حياتهم في هذا الخطّ الفكريّ أو ذاك، هم عاشوا مرحلتهم سواء أصابوا أم أخطأوا، ولكن نحن غيرهم، صحيحٌ أنّنا نتاجهم، لكنّنا نحن نتاجهم الماديّ، أمّا المعنويّ، فنحن نتاج أنفسنا، نتاج إرادتنا وعقولنا. ولذا، فإنَّ دعوة الله لنا أن نفكّر فيما عند آبائنا وأجدادنا والناس من حولنا، لأنَّ لنا فكراً فلماذا نجمّده؟ وإنّ لنا إرادة فلماذا نسحقها؟ وإنَّ لنا آذاناً فلماذا نسدُّها؟ وإنَّ لنا ألسنةً، فلماذا لا ننطق بها؟

ومن هنا، فإنّ مسألة التقليد بالفكر والاتجاه والتيّار مرفوضةٌ إسلاميّاً، أمّا تقليد المجتهدين في الفقه فهذا من قبيل الرجوع إلى أهل الخبرة، تماماً كما نرجع إلى المهندس في شؤون البناء، وإلى الطبيب في أمور الصحّة، ولذلك قال الله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل : 43] فهذا يعني أخذ العلم من ذي علم، وليس معناه تقليداً. أمّا أن يسوق الإنسان شخصيّته وعقله وأوضاعه مع التيّار، سواءً كان تيّاراً اجتماعياً أو سياسيّاً أو أخلاقياً أو ثقافياً، فهذا تعطيل لإرادة وعقل الإنسان، لأنَّ عليه قبل أن يندفع مع التيار وينجذب معه، أن يدرس اندفاعات هذا التيّار والمدى الذي يمكن أن يصل إليه. ولذا، قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ} فكّروا بما أنزله واقتنعوا به، لأنَّه الحقّ {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ} ونحن في حياتنا الآن نتّبع الآباء والأجداد أكثر ما نتَّبع الله، وعلاقتنا بالمستكبرين والظالمين أكثر من علاقتنا بالله، فالله ينهانا عن فعل أمر فلا نلتزم، أمّا "الحضارة" الغربيّة والأوضاع الاجتماعية والزعماء الفاسدون، فإنّهم يأمروننا بشيء، فإنّنا نتّبع هؤلاء ونتمرّد على الله {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} يردّ عليهم بأنَّ هذا المنطق هو منطق الشيطان، لأنَّ قضيّة ما وجدتم عليه آباءكم يتّصل بالجانب الغريزيّ والعاطفيّ، ولا يتّصل بالجانب الفكري.. فآباؤكم ليسوا حُجّة من الله عليكم، وأنتم بهذا التقليد تسيرون إلى النّار {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان : 21] أنتم تتّبعون خطوات الشيطان الذي سيُرْديكم في العذاب لأنَّكم جمّدتم عقولكم، وانطلقتم في خطِّ تقليد آبائكم وأجدادكم الذين فسقوا وكفروا وضلّوا سواء السبيل.

الاستمساك بحبل الله

ثمّ يعطينا القرآن الكريم الفكرة التي تُطمئِن القلب وتريح النفس، ويعيش فيها الإنسان الجوَّ الذي ينفتح به على الله، فيقول سبحانه: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان : 22] فكّر أيّها الإنسان بالذي خلقك وسخَّر لك ما في السَّموات وما في الأرض، وأسبغ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة، فكّر بمن يملك حياتك وموتك، ويملك ضرَّك ونفعَك، فهل هناك غير الله؟ فالله تعالى بيده حركة وجودنا كلُّها، وهذا ما نقرأه في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام)، حيث أُوصي نفسي وإخواني وأخواتي بقراءته في كلِّ صباحٍ ومساء: "أصبحنا وأصبحت الأشياء كلُّها بجملتها لك، سماؤها وأرضها وما بثثت في كلِّ واحد منهما، ساكنه ومتحرّكه، مقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء، وما كَنَّ تحت الثَّرى، أصبحنا في قبضتك، يحوينا ملكُك وسلطانُك، وتضمّنا مشيّتك، ونتصرّف عن أمرك، ونتقلّب في تدبيرك، ليس من الأمر إلاّ ما قضيت، ولا من الخير إلاّ ما أعطيت"(*) فهو سبحانه يرعانا في كلّ شيء، والحكيم في كلِّ ما يفعل ويقضي ويدبّر {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} والوجه هنا يعني الذّات والكيان، والمؤمن هو الذي يقدّم خضوعه لله، مُسلّماً وجودَه له، معترفاً بأنّه في إرادته وقبضته، وهو بذلك يعيش الإسلامَ بقلبه وعقله وحياته على اعتبار أنّه عبدٌ لله، لا يملك شيئاً أمامه ولا يقدر على شيء خارج إرادته، يعيش هذا الإيمان والتسليم له {وَهُوَ مُحْسِنٌ} ويُحسن في عبادته وعمله وعلاقاته ومواقفه ومواقعه {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} لا تأتيه حالات الاهتزاز على الإطلاق، بل يشعر على الدوام بالثبات والقوّة، لأنَّه حقَّق لنفسه التسليم في كلّ شيء لله مقروناً بالعمل والطاعة {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وسيعود إلى ربِّه ويقف بين يديه ليعطيه جزاء تسليمه له وإحسانه في حياته، جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ورضواناً من الله أكبر.

 

 

 

 

31/1/1991م

حاجتنا إلى

ما يملأ عقولنا بالنور

 

بين الفكر النظري والإيمان العمليّ

في القرآن الكريم حديثٌ عن نماذج من النّاس، يُوجَدون في كلّ زمانٍ ومكان.. وهذه النماذج عندما تدرس حاضرها أو ماضيها، فإنَّك تجد أنَّها تملك العلمَ الذي قد لا يرقى إليه علم، والمعرفة الدينية الواسعة في حلال الله وحرامه. وإذا ما انفتح الإنسان على آفاق علمهم، فإنَّه قد يرتفع إلى الله ويقترب منه سبحانه، ولكنَّ مثل هؤلاء قد تأتيهم في مستقبلهم حالاتٌ ضاغطةٌ صادرةٌ من غرائزهم وأطماعهم ومن الناس الذين يوسوسون، فنراهم يتركون كلَّ عملهم وراء ظهورهم، ويلتفتون إلى الشيطان، فيستمعون إلى وسوسته، ويتحرّكون خلف خطواته، وينقادون إليه في نداءاته، فتتحوّل أفكارهم من أفكار رحمانية إلى أفكار شيطانية، وتتبدّل خطواتهم من خطوات في الطريق المستقيم إلى خطوات في الطريق المنحرف، وتصبح أمانيّهم التي كانت تبحث عن رضى الله للحصول على الجنّة، إلى أماني تبحث عن رضى المستكبرين طمعاً في عَرَضٍ زائل يستمتعون به في الدّنيا.

هؤلاء، لم يصبح العلم عندهم حالةً إيمانية في كيانهم، وإنَّما كان مجرّد حالة عاشت في الفكر وقتاً ما، ولكن لم تثبت وتستقرّ في مشاعرهم وأحاسيسهم ووجدانهم وحياتهم. حيث هناك فرقٌ بين أن يعرف الإنسان الشيء وبين أن يعيشه، وهناك فرقٌ بين أن يعرف ربَّه وبين أن يحبَّ ربَّه، وبينَ أن يعرف الخير، ويعيش في مشاعره معاني الخير.. وهكذا، هناك فرقٌ بين الفكر النظري وبين الإيمان العمليّ.

ولذا، فإنّنا نحتاج إلى علمٍ يملأ عقولنا وينير الطريق أمامنا، وإلى إيمانٍ ينطلق من إرادتنا ووجداننا ليملأ كلّ كياننا، فيكون كلُّ واحدٍ منّا، مسلماً بكلّ وجوده وحياته وكيانه، بحيث إذا رآه الناس، رأوا الإسلام، تماماً كما نعرف عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنَّه كان الكتاب الناطق، والقرآن هو الكتاب الصامت، وكذلك ما نعرفه عن عليٍّ (عليه السلام) والأئمّة (عليهم السلام) من بعده، بأنّهم الكتاب الناطق والقرآن، الكتاب الصامت. لأنَّ سيرتهم وحياتهم مثّلت القرآن بكلِّ معانيه، ولذلك، فإنْ نطقوا (عليهم السلام)، فكأنَّ القرآن نطق من خلالهم، وإذا تحرّكوا، فكأنَّ القرآن تحرّك من خلالهم.

نموذجٌ ضالّ

ونعود إلى القرآن الكريم، لنستعرض واقع النموذج الذي تحدّث الله تعالى عنه، والذي لم يحوِّل العِلْم إلى حالة إيمانية وجدانية، فخسر الدّنيا والآخرة. يقول سبحانه {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 ــ 176].

جاء في التفاسير أنَّ شخصاً في التاريخ يدعى (بلعم بن باعوراء) أعطاه الله تعالى الاسم الأعظم، ولكنّه ترك هذا الاسم الأعظم، واتّبع شهواته وأطماعه. وأيّاً كان هذا الشخص، فإنَّه نموذجٌ موجودٌ في كلّ زمانٍ ومكان، وعلينا عندما نواجه هذا النموذج الذي يملك علم الدّين والمعرفة بالله، ألاَّ نستسلم له ونكتفي بذلك، لكي نُقبل عليه ونسير وراءه، بل ينبغي أن نرصد موقع علمه من حياته، وموقع معرفته بالله من وجدانه وروحه، لنتساءل، هل يجسّد علمَه في عمله، وهل تتجسّد معرفته بالله في علاقته مع النّاس، فيعيش على أساس محبّة الله والخوف منه، أم يعيش على أساس الخوف من الشيطان والمحبّة له؟ وذلك لنحميَ أنفسنا من الذين يعلمون ولا يعملون، ومن الذين يقولون ولا يفعلون، وهؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون، يملكون علم ما يقولون، ولكنّهم لا يحوّلونه إلى عمل، وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 ــ 3] فالله تعالى يمقت الإنسان الذي تعارض قولُه مع عمله، مقتا يمثّل أكبرَ المقت.

ونأتي الآن إلى هذا النموذج الذي حدّثنا عنه القرآن الكريم، لنتعرّف من خلاله إلى كثير من الناس، ولنعرف ميزان الحقّ والباطل حتّى نستطيع أن نحكم على الناس {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} أعطيناه آياتنا التي تدلُّ على الله وتشير إلى الرسالة التي تتحرّك في ساحات التقوى، وتقود الإنسان إلى الخطّ المستقيم.. آتيناه هذه الآيات، {فَانسَلَخَ مِنْهَا}، كما ينسلخ الإنسان من ثوبه، أو كما تُسلَخ الشاة من جلدها، ومعنى انسلخ منها، أنَّه لم يحتضنها ولم يعشها في حياته {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} إنَّ الشيطان كالعدوِّ تماماً، فالعدوّ عندما يرى الإنسان الآخر مُسَلَّحاً وحَذِراً وتكون عيونه راصدةً لكلِّ ما يتحرّك حوله، فإنَّه لا يقترب منه، ولكن إذا غفل الإنسان عن سلاحه، واسترخى، واضعاً الحذرَ والانتباه والترصّد جانباً، فإنَّ العدوّ يدخل إليه من هذه الثغرة فيتبعه لينال منه.. ومن هنا، فإنَّ التعبير القرآني لم يقل، فاتّبع الشيطان، بل قال: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} فهذا الإنسان عندما انسلخ عن آيات الله، تَبِعه الشيطان ليأخذه في النهاية، تماماً كما يتبع الإنسان إنساناً آخر فيأخذه في طريق يغويه ويضلّه {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف : 175] وقع في حضن الشيطان وشِراكه، وسار في طريق الغيّ والضلال.

 

 

ويخلد إلى الأرض

وعن هذا النموذج يقول سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فلو أراد الله تعالى أن يجعل هذا الإنسان رفيع المستوى بآياته سبحانه لرفعه، ولكنّه أبى ذلك، وهذه الآيات، هي التي تدفعه لأن يرتفع بأخلاقه، لتكون له الأخلاق العليا، ولأن ترتفع بروحه، لتكون روحه في مواقع السموّ، ولأن يرتفع بدرجته، لتكون درجته قريبة من الله، فآيات الله تعالى تفعل ذلك بالإنسان لو أراد استخدامها {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} استراح للأرض واستغرق في شهواتها ونزواتها وأطماعها. والإنسان عندما يستغرق في أجواء المادّة والأرض، فإنّ من الصَّعب أن يرتفع إلى السماء، لأنَّ السماء تبارك للعقل الذي يفكّر في الأعالي، وللروح التي تفكّر بالله والجنّة. وعلى هذا، فالإنسان الذي تكون جنّته بستاناً يملكه في الدّنيا، وتكون طموحاته محصورة في رضى الناس عنه، كيف يمكن له أن يرتفع إلى السماء.

وهكذا نلاحظ عمق التعبير القرآني {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} اعتبر أنّ الأرض كلُّ شيء ولم يرفع عينيه إلى السماء ليرى الآفاق الواسعة، بقي في الحضيض {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} انحصر حلمه وهدفه في الحياة في أن يحقّق لنفسه هواها ومشتهياتها، خاضعاً لانفعالاته من دون قاعدةٍ ثابتة راسخة يقف عليها، يميل مع الريح كيفما مالَت، ويظلُّ مهتزّاً في كلّ جوانب حياته، بعيداً عن قاعدة الإيمان بالله تعالى، هذه القاعدة التي إذا ارتكز عليها الإنسان، فإنَّ الأحوال وإنْ تغيّرت، والرياح وإنْ اشتدّت، فإنّه يبقى ثابتاً عند مواقفه من دون اهتزاز.

وهذا الذي اتّبع هواه {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} عندما استحوذ عليه الشيطان ومشى في طريقه، وترك علمه ودينه، صار مثل الكلب الذي إنْ تحمل عليه ينبح أو تتركه ينبح، لأنَّ النباح جزءٌ من طبيعته، وهكذا بعض الناس الذي يتطبّعون بالنباح، بنباح أهوائهم وشهواتهم وأحقادهم وضغائنهم هؤلاء {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة : 7] وإنّما صاروا على هذه الحال لأنّهم {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة : 6] فحال هذا الذي يلهث كحال هؤلاء الذين أغلقوا قلوبهم أبَوْا أن ينفتحوا على الهداية.

الحالات المشابهة

ثم تتحدّث الآيات المباركة عن حالة الجماعة المشابهة لحالة هذا الفرد {مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} لم يكذّبوا انطلاقاً من واقع جهلٍ يعيشونه، ولكنّهم كذّبوا بآيات الله بعد العلم بها ومعرفتها، فأخلدوا من بعد ذلك إلى الأرض واتّبعوا أهواءهم وشهواتهم {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف : 176] قصَّ عليهم ـــ يا محمّد ـــ أخبار الذين مضوا، إنْ كانوا في الدائرة الفردية أو في دائرة الجماعة، لا ليقضوا وقتاً من الله في استعراض القصّة، ولكن ليأخذوا من القصّة الفكرة والعِبرة {سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [الأعراف : 177] فأيُّ مَثَلٍ سَيّء هو مَثَلُهم عندما كذّبوا بآيات الله، وظلموا أنفسهم عندما أساؤوا إليها {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف : 177].

ويعطينا القرآن الخطَّ الواضح في مقابل خطوط الضلال {مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} عندما يرى الله تعالى صدق النيّة عند الإنسان في الرغبة للهداية، فإنّه سبحانه يمدّه بهدايته. وهداية الله للإنسان تتمّ بتوفير سُبُل الهداية له، فتثمر في نفسه الرغبة في الهدى من خلال ما يقدّمه له من رغبات في هذا الهدى الذي يهتدي به {وَمَن يُضْلِلْ} اللهُ تعالى لا يُضِلُّ الإنسان جبراً وقهراً، بل يفتح للإنسان باب الهدى، ولكنَّ هذا الإنسان يغلق هذا الباب ليتّبع هواه، وعندما يتركه تعالى لنفسه، فلا يتدخّل ليمنعه بالقوّة {وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف : 178] وما هي النتائج التي تنتظر هؤلاء {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15].

علينا أن نعيش هذه الفكرة في عقولنا وأنفسنا فيما نعيشه من علمٍ عن الله والإسلام، فنلبسه ونعيشه ولا ننسلخ منه لنسير مع الشيطان كي يحتضنّا ويغوينا. فلنحاول أن نأخذ هذا المثل حتّى نعمل بما عملنا، ونوجّه أنفسنا في خطِّ ما عملنا، مع مراقبة الناس من حولنا، فلا نتّبع أحداً ولا نثق به لمجرّد أنّه يعلم، بل لا بدَّ أن ندرك ونتيقّن بأنّه ممّن يعمل بعلمه ويتحرّك في خطِّ الهدى من خلال علمه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

22/9/1995م

العطاء

ومعادلة العبادة

 

روحيّة العطاء

يريد الله تعالى للإنسان سواءً كان رجلاً أو امرأةً أن يعيش روحيّة العطاء، وذلك بما تمثّله كلمة الصدقة من مفهوم العطاء قربةً إلى الله تعالى، فيقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد : 18] يُحثّ الله الإنسان على أن يوظّف بعض القدرة المالية في أن ينفق الآن، لأنّه قد يملك الفرصة في أن يتصدّق على الفقراء والمحرومين، ويقول له، بأنَّ الصدقة عبادة، فأنتَ إذا أعطيت إنساناً فقيراً محروماً قربةً إلى الله تعالى، فإنَّ عطاءك هذا صلاةٌ تصلّيها، فكما أنَّ الصلاة تكون بالأذكار والحركات من ركوع وسجود، فإنَّها تكون بالصدقات. وهذا هو الذي جعل عليّاً (عليه السلام) يتصدّق بخاتمه وهو في حال الركوع، لأنَّه (عليه السلام) كان لا يرى فرقاً بين الصدقة والصلاة، فهو عندما يركع ويسجد بين يديّ الله، فإنَّه في حالة صلاة. وعندما يتصدّق، فهو في حالة صلاةٍ أيضاً، فهناك صلاة الركوع، وصلاة الصدقة.

ثمّ إنَّ الله تعالى يقول: لا تعتبر الصدقة عندما تتصدّق بها ـــ أيّها الرجل وأيّتها المرأة ـــ خسارةً، لأنّه سبحانه يعتبر صدقة المتصدّقين والمتصدّقات قرضاً حسناً في حساباته، والصدقة عندما تعطيها للفقير، فإنّها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، كما جاء في بعض الأحاديث، فالله يستقرض منك بالفائدة، والفائدة عند الله ليست كفوائدنا نحن، بل يعطيها مضاعفة، أي مئة بالمئة.

{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} هي دَيْنٌ في ذمّة الله، يوفيه الله مُضاعَفاً يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 ــ 89] وليس هذا الدَّيْن يُضَاعَفُ مئة بالمئة وحسب للإنسان، بل {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد : 18] أي هناك ما فوق المُضَاعف. وهذا هو الذي يدفعنا لأن نفكّر دائماً بانتهاز فرصة إمكاناتنا حتّى نُعين الناسَ الذين يحتاجون إلى معونتنا. وقد يعتبر الكثيرون منّا حاجة الناس إليهم عبئاً عليهم، ولكن جاء في الحديث: "إنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عليكم حاجة الناس إليكم" لأنّ الناس عندما يحتاجونك وتعطيهم ممّا أنعم الله به عليك، فإنَّ ذلك يرفع درجتك عنده سبحانه. وقد ورد في الأحاديث عن بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم إذا جاءهم سائلٌ أو صاحب حاجة، استعجلوا قضاءَ حاجته، ولذا ورد عن الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام): "أخاف أن يستغني عنّي قبل أنْ أقضي حاجته" وقد ورد أيضاً: "داووا مرضاكم بالصدقة"(*) فمع ذهاب المريض إلى الطبيب، فليحاول أن يتصدّق، فلعلَّ بركة هذه الصَّدقة تُسرع في شفائه. وفي الحديث عن عليٍّ (عليه السلام) أيضاً: "سوسوا إيمانكم بالصدقة"(**) أي احفظوا إيمانَكم بالصدقة، كيف؟ تسوس إيمانك بالصدقة كي لا يضعف وينحرف ويضلّ عن الخطّ المستقيم. لذلك، فبذل الصدقة فرصةٌ، كلٌّ بحسب استطاعته، وإذا كان البذل إيثاراً، فهو فوق الفوق {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر : 9].

 

 

النموذج الأمثل في العطاء

وقد مدح اله تعالى أهل البيت (عليهم السلام) عليّاً وفاطمة والحسن والحسين ــ سلام الله عليهم ـــ حيث قال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً*إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}  [الإنسان: 8 ــ 10]. وماذا كانت النتيجة لعطائهم وصدقتهم {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً*وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان: 11 ــ 12]. ولو لم يكن للصّدقة دورٌ في قرب الإنسان إلى الله لما تحدَّث سبحانه عن هذه المكرمة لعليٍّ (عليه السلام) عندما أراد أن يكلّف الناسَ بولايته {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55] والمراد بالزكاة، الصدقة، حيث كان عليٌّ (عليه السلام) راكعاً في الصلاة وجاءه سائلٌ، فأخرج الإمام (عليه السلام) خاتمه من إصبعه وأعطاه إيّاه ثمّ أكمل صلاته، فنزلت الآية المباركة.

إذاً، {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ*وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد : 18ـــ 19] هذه درجة المؤمنين عند الله، أن تؤمن بالله الواحد أنّه ربُّك ولا ربَّ لك غيره، وأنْ تؤمن برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّ الله بعثه برسالته ليبلِّغها للنّاس، ليتلوَ عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة بعد أنْ كانوا في ضلالٍ مبين.. أن تؤمن بالله ورسوله إيماناً عميقاً جدّياً.. أنْ تؤمن بالكلمة تنطق بها، وبالعقل تفكّر به وتقتنع، وأن تؤمن بالقلب الذي ينفتح على الله ورسوله، وأن تؤمن بحركتك في جسدك، عندما تجسّد الإيمان عملاً، فتقوم بما أمرك الله، وتترك ما نهاك عنه، لأنَّ الإيمان عقيدةٌ في العقل، وكلمةٌ في اللّسان، وحركةٌ في الجسد، فليس الإيمان مجرّد كلمة من دون مضمون، أو أنّ الإيمان في القلب وحسب كما يقول بعض الناس.

والدعاوى إنْ لم تقيموا عليها                     بيّناتٍ أصحابُهَا أدْعِيَاءُ

كلٌّ يدّعي، وبعد ذلك تُعرف الحقيقة ويُكشف العمل.

تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهر حبَّهُ                     هذا لعمرُك في الفعال بديعُ

لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَهُ                إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ

فالمؤمنون {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال : 2] فليس إيمانهم إيمان الكلمة. وعلى هذا، فإنّنا نعرف عمق الإيمان من خلال مواقعه، في العقل واللّسان وفي حركة الجسم، أي أن يكون عقلك عقلاً مؤمناً ولسانك لساناً مؤمناً، وجسدك جسداً مؤمناً، يتحرّك كما يحبّ الله له أن يتحرّك، ويقف كما يريد الله له أن يقف.. وإذا كنتَ كذلك، فما هي صفتُك عند الله؟ {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد : 19] الصِّدِّيق أكثر من الصادق، وهؤلاء صدقوا اللهَ بعقولهم وألسنتهم وحركتهم في الحياة، فليست هناك كذبةٌ في خفقات القلب، ولا في فلتات اللّسان، ولا في حركة الجسد {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء} الذين يجعلهم الله شهوداً على أمّتهم. وكلّما عظم إيمان الإنسان، كلّما استقام طريقه وانفتح على ربِّه، وكان شاهداً عند الله على المجتمع الذي عاش فيه، لأنّه يُطِلُّ على مجتمعه من موقع استقامته في الخطّ {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد : 19] فالله يعطيهم أجرَهم، ويحوِّل إيمانهم إلى نور في وجوههم يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد : 12] وهؤلاء يطلبون من الله {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم : 8] أكمله لنا، لأنَّ النّور قد يَنتقص بفعل بعض السيّئات والمعاصي.

هؤلاء هم المؤمنون، وأمّا الكافرون والكاذبون، فما مصيرهم؟ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد : 19]. هكذا باختصار ومن دون تفاصيل.

الدّنيا الغرور

والآن نعود إلى الدّنيا، وما هي صفاتها {اعْلَمُوا} اعلموا، تيقّنوا من خلال التفكير والدراسة وملاحقة الحياة في كلِّ أحداثها ومراحلها وطبيعتها، ما هي صورة الحياة الدنيا في العمق؟ {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} وتتطوّر "الألعاب" حسب تطوّر العصر، فنرى بعضاً من الرجال تأنّث، وبعضاً تذكّر، ويظهر التفاخر بين الناس، هذا يدّعي بأنّه صاحب المجد الرفيع، وذاك يفخر بالنسب العظيم، وذلك يعلن اعتزازه بكثرة المال والأولاد {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} يتفاخرون على طريقة "صاحب الجنّتين" {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف : 34] وكانت نتيجة افتخاره {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف : 42].

الدّنيا في سطحها سائرة على هذا الأساس، والنّاس عادة يهتمّون بالسطح ويصرفون نظرهم عن العمق.. وما الدّنيا فيما لو أردنا المقارنة؟ {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ليس المقصود بكلمة الكفّار، الجاحدين في مقابل المؤمنين، الكفّار يعني الفلاحين، لأنّ الكفر لغوياً هو الستر، والفلاّح يستر البذرة بأن يجعلها في عمق الأرض ويضع التراب فوقها. لذا، سُمّي الكافر كافراً لأنّه يستر الحقّ، مثلما يستر الفلاّح البذرة {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} فأعجب الفلاحين {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} فهذه الخضرة في النبات، وهذا التنوّع في الأشجار والأثمار. لا يبقى على حاله، يأتي الخريف فتتساقط وتصفّر {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} يتفتَّت ويتحطّم على الأرض.. وحال النبات، حال الإنسان، يبدأ جنيناً ثمّ طفلاً وبعدها شاباً، ثم ينتقل إلى الكهولة والشيخوخة، فالموت.

 

هذه هي الدّنيا، وماذا في الآخرة {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لمن كفر وانحرف عن خطّ الله {وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} تستطيع أن تحصل على الرضوان، إذا كان لعبك ولهوك وزينتك حلالاً، وإذا كان فخرك بالحق، وتكاثرك بالعمل الصالح والخدمات والمشاريع العامّة، وهكذا تستطيع أن تحصل على الجنّة، أمّا إذا كان لهوك حراماً وزينتك حراماً وتفاخرك بالباطل، فإنَّ العذاب الشديد بانتظارك {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد : 20] فهي متاع الخداع، لأنّه مَنْ هو الذي صفت له الحياة الدّنيا، أو خلّد فيها واستراح. ففي الحديث: "مَنْ كانت مطيّته اللّيل والنهار، فإنّه يُسار به وإنْ كان واقفاً"(*).

وهكذا العمر يمشي وأنتَ واقف، لأنَّ لكلّ شيءٍ حركته وللعمر حركته، ولذلك يجب على الشباب أن يستغلّوا الفرصة، فالشباب قوّة وحيويّة وعزيمة وصلابة، فليكن لديكم شباب العمل وشباب الطاعة وشباب الجنّة.

وتراكضوا خيلَ الشباب وبادروا             أن تُسْتَردَّ فإنّهنَّ عَوَارِ

فالحياة كما أخذت آباءكم وأجدادكم ستأخذكم، فلا تغتروا بها، وانظروا إليها نظركم إلى رحلة تقطعونها لتهيّئوا لمرحلةٍ جديدة، وعلى هذا {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} انزلوا إلى ساحة السباق، وليس سباق الخيل، بل السباق نحو الهدف وهو رضى الله تعالى لتحصلوا على مغفرته {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} وليس هنا العرض مقابل الطول، حتّى يُقال: إذا كان عرضها عرض السموات والأرض، فكم يبلغ طولها؟ المقصود بالعَرْض هنا، السَّعة، أي أنَّ سَعة هذه الجنّة كسَعة السموات والأرض {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} لهؤلاء الذين آمنوا بعقولهم وألسنتهم وحركة أجسادهم، كما شرحنا ذلك في بداية البحث {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد : 21] فالمغفرة والجنّة فضلٌ من أفضال الله، يتفضّل به على مَنْ يشاء من عباده الذين وفّقهم للإيمان والطاعة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5/8/1993م

التمسُّك بالحقّ

 

حاجة الدعوة إلى الوعي والمعرفة ودعم الدُّعاة

هناك نموذجٌ من النّاس قد لا يكون مؤهّلاً بحسب ثقافته وموقعه للقيام بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الدعوة إلى الله لاسيّما في المجتمع الذي يحمل كثيراً من التحدّيات، تحتاج إلى المزيد من الثقافة والمعرفة، وهذا النموذج مع إيمانه وصدقه قد لا يملك الإمكانات الذاتية العلميّة للقيام بهذه المهمّة، ولكنّه يشعر بمسؤوليته في دعم الدّعاة إلى الله وتقوية مواقعهم، وفي تشجيع النّاس للالتفاف حولهم، ومواجهة كلّ الدعوات ضدّهم.

وهذا ما نحتاجه في كلِّ مجال من مجالات الدعوة إلى الله، وفي كلِّ موقع من مواقع الإصلاح. فهناك مصلحون يدعون إلى الله، ولا بدَّ أن يكون هناك أُناسٌ يؤيّدونهم ويدعمونهم ويدفعون الضغوط التي يمكن أن تُوجَّه إليهم. فالإنسان الداعية إلى الله قد لا يملك القوّة في ذاته بالمستوى الذي يستطيع أن يواجه فيه خصوم الدّين وأعداءَ الله، لذا، علينا أن نلتفَّ حوله، وهكذا إذا وجدنا جماعة من النّاس تدعو إلى الله وتجاهد في سبيله، فالواجب يفرض علينا أن  نقوّيها وندعمها، وأن نقف ضدّ الأساليب التي تحاول أن تضعفها.. فإذا لم نستطع الجهاد فلندعم المجاهدين، وإذا لم نقدر على الإصلاح، فلنقف مع المصلحين.

ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ*اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 20 ــ 21] جاء هذا الرجل لينصحَ الناس باتّباع جماعة تهدي إلى الخير، يُقال عن أفرادها بأنّهم من تلامذة عيسى (عليه السلام)، حيث حدّثنا الله عنهم قبل هذه الآيات {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس : 13] لم يكونوا أنبياء، ولكنّهم كانوا من تلاميذ عيسى (عليه السلام) كما يُقال، حيث حملوا رسالته إلى النّاس {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس : 14] جاءهم اثنان في البداية ولحق بهم ثالث، ولكنَّ الموقف من دعوتهم كان سلبياً، حيث إِنّ بعض الجماعات كانوا لا يتصوّرون الجمع بين الرسالة وبين بشريّة الرسول، لأنّهم يرون أنّ الرسول يجب أن يكون من الملائكة أو من الجنّ، والرسالة تعني العلاقة بالله، والبشر لا علاقة ولا تواصل لهم مع الله سبحانه، لذلك {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس : 15] وكان الردُّ عليهم: ليس لدينا ما نقدّمه على صدقنا من الشواهد الماديّة، ولكنّنا صادقون مقتنعون واثقون بدعوتنا {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس : 16] يمكنكم أن تسألونا وتناقشونا وتحاورونا، أمّا أن ترفضونا بمجرّد أنّه لم يعجبكم هذا الطرح الذي نقدّمه إليكم، فهذا ليس منطقاً {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [يس : 17] هذا البلاغ من الله بين أيديكم.. ولكنّ هذا المجتمع ليس مستعداً أن يحاور ويدخل في نقاش، باعتبار أنَّ طبيعة أوضاعه التي انطلق فيها من دون قاعدة وأساس، تجعله يواجه كلّ وضعٍ جديد وطرحٍ جديد، بأسلوب القوّة وبروحيّة التهديد، وما إلى ذلك {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس : 18] لقد تشاءمنا بوجودكم بيننا، فإذا لم تكفّوا عن طرح هذه المقولات الجديدة سنرجمكم وننزل بكم أقسى القصاص {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس : 19] هذا التشاؤم ينطلق من طبيعة واقعكم، وطبيعة السلوك السيّء الذي تسلكونه.. فليس الرسل هم الذين يجلبون التشاؤم للأُمّة، ولكنّ الأوضاع السيّئة التي تعيشها هي التي تجلب هذا الشعور. تشاؤمكم ينبع من داخلكم، من نقاط ضعفكم، من أخلاقكم السيّئة، من تجاوزكم للحدود الطبيعيّة في تصرّفاتكم ومواقفكم وتمسّككم بكلِّ ما يعود عليكم بالشرّ والنتائج السلبيّة.

النصح والإشفاق

في خضّم هذا الحوار جاء شخصٌ كان يكتم إيمانه عن قومه وأطلق نصيحته {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ*اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 20 ــ 21] هؤلاء الدّعاة لم يأتوا إليكم ليطلبوا مالاً وجاهاً أو ليحصلوا على امتيازات، وإنّما جاؤوكم ليذكّروكم بالله وليدلّوكم إلى طريقه، وليعرّفوكم كيف تحرّكون حياتكم في خطّ المسؤولية والتوازن {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} وهو بحديثه هذا يدعم هؤلاء المرسلين موظِّفاً موقعه ووجاهته في قومه من أجل إيقاف الحملة الظالمة عليهم، وليجدوا أنَّ هناك صوتاً آخر يختلف عن الأصوات الحاقدة والمهدّدة والمتوعّدة التي تنطلق من أفواه هؤلاء المتمرّدين.. تكلّم هذا الرجل بكلامه، وكأنّه عاد إلى نفسه متأمّلاً في محاولةٍ منه لدفعهم إلى التأمّل أيضاً {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] كأنّه يريد أن يقول لهم: ما لكم لا تعبدون الله، فهؤلاء المرسلون يدعونكم إلى عبادة الله الذي فطركم وخلقكم وأعطاكم كلَّ شيء، إنّهم لا يدعونكم إلى عبادة مَنْ لا يملك لنفسه نفعاً أو ضرّاً، وإنّما يدعونكم إلى مَنْ هو سرُّ وجودكم.. وهو بهذا يعبّر عن هذه المسألة وكأنّه يناجي نفسه ليدفع الآخرين إلى الاستغراب، فينتقل من حال الخطاب إلى حال التحدّث مع نفسه ليجذبهم نحو التأمّل بالمسألة أكثر {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} هو الذي خلقني {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أرجع وترجعون إليه سبحانه ليحاسبنا جميعاً على أعمالنا {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ} [يس: 23] هل يمكن أن أتّخذ آلهةً من دون الله؟ لا بدّ للآلهة من امتلاك القوّة ليستطيعوا دفعَ الضُّرِ عن النّاس الذين يتّبعونهم أو يجلبوا النفع لهم. أمّا هذه الآلهة التي تعبدونها، فلو فرضنا أنّ الله أرادني بضرّ، فإنّها لا تستطيع أن تكشف الضُّرَ عنّي، وأيّة آلهة، هذه الآلهة التي لا تملك الدفاع عن أتباعها في مقابل ربٍّ قادر يريد أن يضرّها؟ {إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يس: 24] وهنا يحاول أن يثير الشكّ في أنفسهم ليزلزل عقائدهم المنحرفة، ويدفعهم للتفكير فيما يحدّث به نفسه وفيما يقوله.

إعلان الموقف الرساليّ

وبعد أن أثار فيهم الحيرة والشكّ يعلن موقفه، يتوجّه إلى الرسل وإليهم {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25] أعلنت انتمائي لهؤلاء الرسل، وليرضَ مَنْ يرضى، وليغضب مَنْ يغضب، لأنَّ هذه هي قناعتي، ولذلك أُعلن التحدّي {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} فإنّني أعلن موقفي من دون خوفٍ من أحد.. وهذا الموقف قد يحتاج أن يتّخذه كلُّ واحدٍ منّا عندما يعيش في مجتمعٍ ينتشر فيه الضلال والفسق والفجور، ويُقبل فيه الناس على خذلان المؤمنين والوقوف ضدّ الدّعاة إلى الله، بحيث إِنّ الصوت الوحيد، هو صوت الفجور والانحراف، هنا على كلّ واحدٍ أن يرفع للحقّ صوتاً، بالأسلوب الواعي الذي يحسب حسابات الأشياء بدقّة، لأنّ المجتمع إذا رفض الهدى وتبنّى الضلال، ولم يرتفع صوتٌ يخترق هذا الواقع، فإنَّ معنى ذلك أنَّ الضلال سوف ينتشر، وأنَّ الحقّ سوف يضعف ويزول، لأنَّ الحقّ إنّما يقوى بالناس وبالمواقف التي تنطلق من قاعدة الحقّ، فإذا لم يكن للحقّ أنصار يدافعون عنه ومواقع تتركّز في قلب المجتمع، فإنَّ الساحة سوف تكون للباطل، والله تعالى لا يريد ذلك، بل لا بدَّ أن يقاوم هذا الظلامَ نقطةُ نور، ويخترق هذا الواقعَ كلمةُ حقّ.

وهذا النموذج يقدّمه القرآن لنا، لأنّ الله سبحانه يريد أن تتعزَّز هذه الروحية عند المؤمن، حيث يريد له أن يعيش همَّ قومه ولو كانوا ضّالين، فيفكّر عندما يحصل على الرحمة التي وهبه الله إيّاها، كيف أنَّ قومه لم يشاركوه في هذه الرحمة ولم يهتدوا ويسيروا في الخطّ الصحيح.

المواقف المشرّفة في الدّنيا جزاؤها الجنّة

وتمرّ الأيام ويموت هذا الإنسان ويقف بين يديّ الله سبحانه، فيأتيه النداء: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فينال النِّعمة الإلهيّة على موقفه المشرّف في الدّنيا {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26] إنَّه يتمنّى لو أنّ قومه يعلمون الحقيقة التي تدفعهم إلى الإيمان {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 27] ليتعرّفوا أنَّ طريق الهدى يؤدّي إلى الجنّة، وطريق الضلال يؤدّي إلى النّار {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} [يس: 28] لا تحتاج المسألة بأن يرسل الله لهم جيشاً من الملائكة ليقضوا عليهم، فحكمة الله تعالى تقتضي أحياناً أن يمدَّ للكافرين والظالمين {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] لا يحتاج الأمر إلاّ أن يقول كنْ فيكون، وكلُّ شيءٍ خاضعٌ لمشيئته سبحانه، وهكذا نقرأ في الدّعاء: "فهي بمشيّتك دون قولِك مُؤْتَمِرة وبإرادَتِكَ دون نهْيِكَ مُنْزَجِرة" فمشيئة الله هي التي تعطي للوجود معناه، وتعطي للعدم واقعه. ومشيئة الله هنا قضت أن يموتوا بصرخة واحدة {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} فانطفأت نار شبابهم وحيويّتهم وحركتهم، هذه النار التي مثَّلت وجودهم انطفأت مباشرة.

ثمّ يتحدّث سبحانه عن الناس بأسلوب العطف والإشفاق {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [يس: 30] يا حسرةً عليهم لماذا يتصرّفون بهذه الطريقة؟ لماذا يكون ردّ فعلهم على الرّسول من خلال إحساسهم باستكبارهم وقوّتهم وبضعف الرسول؟ لماذا لا يواجهون الموقف بالتفكير والدراسة والحوار، بل بالتحدّي والاستهزاء؟ إنّهم ليسوا أوّل مَنْ أهلكهم الله بظلمهم {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [يس: 31] ولن يكونوا آخر مَنْ يهلكهم، فلماذا لم يعتبروا بمن هَلَك قبلهم؟ {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] فهم ومَنْ قبلهم ومَنْ سيجيء بعدهم، ومنذ خلق الله الأرض ومَنْ عليها إلى أن يرثها سيعودون إلى الله للحساب.

دليلٌ واقعيّ

وهؤلاء أينكرون البعث والمعاد؟ فهم إذا أرادوا أن يفهموا المسألة على الطبيعة، فإنّهم لا يحتاجون إلى برهان وتحليل وفلسفة، بل ليفكّروا في خلق الله {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] ألم تكن الأرض فراغاً، لا نبتةَ فيها ولا خضرة ولا حياة، فكيف اهتزّت ورَبَتْ وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيج.. إذا أرادوا أن يعرفوا كيف يُحيي الله الموتى، فلينظروا كيف يحيي الله الأرض بعد موتها، فللأرض حياة بحسب طبيعتها، وللإنسان حياة بحسب طبيعته، فالله القادر على أن يعطي الحياة للأرض بعد الموت، قادرٌ أن يعطي للجسد حياته بعد الموت.

إذاً {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أحييناها وأنعمنا عليكم من خلال حركة الحياة في الأرض، ما أنبتت من حبٍّ يشكّل الغذاء لكم {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ} [يس: 34] فكلّ هذه النِّعَم لكم {لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 35] ألاَ يستحقّ تعالى الشكرَ منهم؟ وشكر الله، ليس كلمة تقال، ولكن شكر الله، أن يسخّر الإنسان ما أنعم به عليه في طاعة الله، وألاّ يعصي الله بما أنعم به عليه، وقد قال أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "أقلُّ ما يلزمكم لله ألاّ تستعينوا بنِعَمِه على معاصيه"(*).

 

 

 

 

 

 

 

 

قيمة العودة

إلى الله

 

التأثير السلبي للذنوب

للذنوب التي يمارسها الإنسان في حياته عندما يعصي ربَّه تأثيرُها السلبيُّ عليه، حيث يعيش ثِقْل هذه الذنوب في فكره، لأنّه يشعر دائماً أنَّ حياته عاشت تحت ضغط أعماله السيّئة وتاريخه الذي عصى فيه ربَّه، فتتركّز في نفسه عقدة اليأس من غفران الله، لاسيّما إذا كان قد عاش فترةً طويلة من حياته في أجواء الذنوب وخصوصاً الكبيرة منها. وقد عالج القرآن الكريم هذه المسألة، فقال سبحانه:

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53]، الكثيرون من النّاس يُخَيَّلُ إليهم أنَّ الله لن يغفر لهم، وأنَّ ذنوبهم تبقى ثِقْلاً على أفكارهم وظهورهم، لأنَّهم عندما يفكِّرون بربّهم، يتصوّرونه سبحانه، كما لو كان سلطاناً من سلاطين الدّنيا، أو قويّاً من الأقوياء يرهبه النّاسُ ويخافونه، لأنَّ هؤلاء السلاطين والأقوياء لا يغفرون الأخطاء ولا يسامحون في كثيرٍ ممّا يقوم به النّاس ضدَّهم. ولذلك فهم يتصوّرون أنّه سبحانه يعاملهم بما يعاملهم به هؤلاء السلاطين والأقوياء، فيضغط عليهم اليأس، تماماً كما لو أنَّ إنساناً أجرم جريمة كبيرة، فإنَّه يهرب من الأرض التي يعيش فيها أهل الضحيّة أو صاحب القوّة التي كانت الجريمة موجّهةً إليه، لأنّه يشعر بأنَّ جريمته تلاحقه من خلال القوى التي تريد إنزال العقاب به بسبب جريمته، فينطلق هارباً يائساً، وقد يؤدّي به ذلك إلى الانتحار عندما يرى أنَّ جريمته تستوجب عقاباً يفضح أمره ويُسقطه من أعين النّاس.

وللذنوب تأثير آخر في قلب الإنسان وإيحاءاتٌ في النفس، لأنَّ الذنب ليس مجرّد عمل يعمله، فهو إذا سرق، فليست السرقة تمثّل استيلاءً على مال إنسانٍ آخر وحَسْب، بل إنَّها تحمل معنى التجرّؤ على الله، وهذه الجرأة فيما قام به من سرقة أو قتل للنفس المحترمة أو ما شابه ذلك تترك تأثيرها في النفس فتضعف إيمانه، لأنّ الإنسان كلّما تجرّأ على ربِّه أكثر، كلّما تمرّد أكثر وفَقَدَ إحساسه بعظمة ربِّه.

ولذلك، فإنَّ الكثيرين الذين يرتكبون الذنوب والمعاصي يفقدون معنى روحية إيمانهم وإسلامهم، ولا يتحسّسون الانفتاح على الله، بل إنّهم ينسون الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر : 19] فمن بين الأسباب التي تُنسي الإنسان ربَّه وتُغلق قلبَه على الله كثرة الذنوب، لهذا، ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتةٌ سوداء، فإنْ تاب انمحت، وإنْ زاد زادت حتّى تغلبَ على قلبه فلا يُفلح بعدها أبداً"(*).

إذاً، إذا تتالَت الذنوب اسودّ القلب وانتكس وصار أعلاه أسفلَه، وأسفلُه أعلاه، بحيث يشاهد الأمور والأشياء معكوسة، وهذا ما نلاحظه عند كثيرٍ من الناس الذين يمتدّون في المعاصي، فتنقلب طريقة رؤيتهم للأمور، وهذا ما عرّفنا إيّاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث قال: "ما بالكم إذا فسدت نساؤُكم وفسق شبّانُّكم؟ قالوا: أو يكونُ ذلك يا رسول الله؟ قال: كيف بكم إذا تركتم المعروف ونهيتم عن المنكر؟ قالوا: أوَ يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً؟"(*). فإذا كثر الفساد وانتشر الفسق، فإنَّ ذلك يصبح مألوفاً، وإذا ما أصبح مألوفاً، فإنَّه سيمثّل قِيَماً جديدة في حياة النّاس، وعلى هذا، يصبح الأمر بالمنكر مألوفاً، والنهي عن المعروف غير المألوف.

وهذا ما نلاحظه في موضوع حجاب المرأة، فإنَّ بعض الناس وحتّى الذين حجُّوا بيت الله الحرام، فإنّهم ينهون بناتهم عن الحجاب لأنّه غير مألوف، فإذا ما تحجّبت الفتاة فإنّهم يهزأون بها أو يؤذونها ويضايقونها فيأمرونها بالسّفور وينهونها عن الحجاب، وهكذا بالنسبة إلى كثيرٍ من الشباب الذين يرتادون المساجد ويطيعون اللهَ ورسوله، وقد يكون آباؤهم مؤمنين بالمعنى التقليدي للإيمان، ولكنْ لأنَّ المنكر انتشر، ولا يرغبون لأولادهم أن يسيروا في غير الطريق المألوف، فإنَّهم ينْهون أولادَهم عن المعروف. وعلى هذا، فالقِيَم تتبدّل، بحيث يصبح القبيح حسَناً، والحَسَنُ قبيحاً. وهذا واقعٌ نعيشه في حياتنا، بحيث تنفذ هذه الإيحاءات السلبيّة إلى القلب والعقل والشخصية، فتغيّر طريقة التفكير فيصبح ما هو رديء جيِّداً، والجيِّد رديئاً.

إذا كان الله قد رحمهم فلماذا نلاحقهم بأخطائهم؟

وهناك نقطةٌ أخرى لا بدّ من الإشارة إليها، وهي التي تترك تأثيرها في الواقع الاجتماعي في حياة النّاس، فالمجتمع لا يغفر للإنسان تاريخَه. بل يبقى مصِرّاً على تذكيره بتاريخه.. فقد تخطئ امرأة، وليس من الضروري أن يصل الخطأ إلى حدِّ الزنا، بل يكون الخطأ في الأمور غير المتعارفة، فلو تزوّجت برجل، وصارت من الصالحات، يظلُّ المجتمع والنّاس يلاحقونها ويذكّرونها بما قامت به. وهكذا نرى الكثيرين الذين كان لهم تاريخ أسود، ولكنّهم صلحوا وانطلقوا في خطِّ الإيمان والاستقامة، تبقى الألسنة تتناولهم وتتحدّث عن سلبياتهم التي صارت من الماضي.

في النظرية الإسلامية نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى حرَّر الإنسان من كلِّ ماضيه، بحيث يخرج من الذنوب وآثارها حرّاً، وذلك من خلال فَتْحِ باب التوبة له بأوسعَ ممّا بين السماء والأرض، لأنَّ التوبة تنطلق من رحمة إلهيّة، والرحمة الإلهية لا تتحرّك في فراغ، وإنَّما من خلال معرفة الله بما عليه عبادُه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك : 14] فالله يعلم أنَّه خلقنا من ضعف {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء : 28] وأراد لنا أن نقوِّيَ هذا الضعف، فخلق للإنسان عقلاً يستطيع به أن يحوِّل نقاط الضعف إلى قوّة ويميِّز بين الحَسَن والقبيح وينظِّم له غرائزه، ويخفِّف من سرعة اندفاعه، وأعطاه الإرادة التي تصاحب العقل، فتركّز له المواقف على أساس ما يريده عقلُه. والله تعالى يعرف أنَّ الإنسان قد يضعف عندما تضرى شهواته، وتضغط عليه ظروفه، وتتحرّك نفسه الأمّارة بالسوء، وقد تصرع شهوتُه عقلَه.

لذلك نظر سبحانه إلى عباده بالرحمة، وعرف أنَّهم قد يخطئون من حيث لا يشعرون، أو يُذنبون من حيث لا يريدون، وقد يقعون تحت تأثير التيّارات التي تضغط على مشاعرهم وأحاسيسهم، فقال لعباده: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} أوحى لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يخاطب عباده، أنّكم عندما تخطئون، حتّى لو امتدَّ بكم الخطأ مسافة بعيدة فإنّني أترك لكم فرصة أن تعودوا إلى الصواب، وعندما تذنبون وتعصون، فإنِّي أترك لكم الفرصة أن تعودوا إلى التوبة، لذلك إذا عدتم إلى التوبة وانفتحتم على الصواب، ورجعتم إليَّ واستقمتم في طريقكم، فإنَّ كلَّ آثار الذنوب تُمحى عنكم، ولا يبقى في قلوبكم وواقعكم وماضيكم أيُّ أثَر، لأنَّ "الإسلام يَجُبُّ ما قبله"(*) يخرج الإنسان من الذنب بالتوبة كيوم ولدته أُمُّه، يكون بالذنب مبغوضاً عند الله، فيتحوّل بالتوبة محبوباً، والله يمنحه محبَّته، ومحبّة الله هي السعادة كلُّها التي تفيض على قلبه كلَّ طُمأنينة، وعلى حياته كلَّ إشراق، وعلى شخصيّته كلَّ لطفٍ وقوّة، فأيّة سعادة أعظم من أن يكون الإنسان محبوباً من ربِّه؟.

نحن نعيش السعادة إذا أحبَّنا بعضُ المخلوقين الذين نجد عندهم ما نرغب فيه، أو يملكون بعض مواقع القوّة، ويقول بعضنا لبعض وبالطريقة الشعبية "هنيئاً لفلان" يحبُّه فلان الكبير والعظيم، لكن هل يحبُّه الله؟ لذلك، ليس المهمّ محبّة النّاس، بل محبّة الله، فأمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) بلغ أرقى محبّة لله تعالى، فيقول في دعائه، المعروف بدعاء كُميل: "فهبني يا إلهي صبرتُ على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني يا إلهي صبرتُ على حرِّ نارِك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك" العاشقون يكتبون لمن يحبُّون قصائد، ولكنَّ عليّاً (عليه السلام) يكتب لله تعالى، فخاطب ربَّه بما مُفَاده؛ ليست مشكلتي العذاب ـــ وهو (عليه السلام) الذي لا يُعذَّب ـــ، عذِّب جسدي بالنّار، فإحساسي بألم العذاب ليس مشكلة، ولكنَّ مشكلتي يا ربّ أنَّ العذاب يفصلني عنك، فأنا أتألّم لانفصالي عنك وفراقي لك أكثر ممّا أتألَّم بعذابك، دعْ جسمي يحترق بنارك، فليس ذلك مشكلة، ولكنَّ المشكلة، أنَّك عندما تُدخلني النّار، فإنَّك تُبْعِدُني عن موقع كرمك.. وهذا هو الحبُّ.

نحن نتحدّث عن حبّ الله، ولكن لا نعيش ذلك كشعور، أو كما يُحسُّ  الإنسان بلفحة الحبّ عندما يحبُّ إنساناً آخر.. الأساس أن نحبَّ الله لأنَّ كلَّ محبوبٍ يتساقط ويموت ونفقد الإحساس بحبِّه، فلنتعلّم من عليٍّ (عليه السلام) كيفية حُبِّ الله، وهو يطلب من الله أن يجعل كلَّ أوقاته في اللّيل والنهار "بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة حتّى تكون أعمالي وأورادي كلُّها وِرْداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً". إذاً، أهمية دور التوبة أنَّها تمنح الإنسان حبَّ الله، وتلغي له كلَّ التاريخ الشيطانيِّ الأسود، وهذا ما قاله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى : 25] ويقول أيضاً: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة : 222] وفي الحديث أيضاً عن الإمام الباقر (عليه السلام): "إنَّ الله يحبّ من عباده المُفْتَنَّ ـــ الذي عاش الفتنة في حياته وسقط فيها ـــ التوّاب".

 

ساحات التوبة مفتوحة للعائدين إلى الله

والنقطة الأساسية في الآيات والأحاديث التي تحثّ على التوبة، تؤكّد على الإنسان ألاَّ ييأس، وألاَّ يتعقّد ولو كان ارتكب ألف معصية، لأنَّ المسألة ما هو قراره الآن؟ فليست ما هو حجم معاصيه، ولكن ما هو حجم إيمانه الآن، وما نظرته إلى معاصيه السابقة، هل هو راضٍ عن تاريخه مع ربِّه أم لا؟

فالخطاب لهذا الإنسان: إذا كنتَ غيرَ راضٍ عن تاريخك مع ربِّك، فندِمْتَ على ما أسلفت وأسرفتَ، وفكَّرت بأنْ تبدأ في إيمانك بالانفتاح على الخير في طاعة ربِّك لتكتب تاريخاً جديداً لك، فإنَّ حياتَك تتحوّل إلى صفحة بيضاء، ويُفتَح لك دفترٌ جديد، وتُمَزَّق كلُّ الدفاتر السابقة.

ومن هنا، كان النداء لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {قُلْ يَا عِبَادِيَ} قل ـــ يا محمّد ـــ لكلِّ هؤلاء النّاس الذين التقيت بهم، وكان بعضهم مشركاً وكافراً وفاسقاً ومتمرّداً وعاصياً، وشعروا بالإحباط واليأس عندما تحدّثهم عن جنّة الله وناره، وتذكّروا تاريخهم الماضي البعيد عن الله هؤلاء {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} والإسراف، تجاوز الحدّ، قل لهم {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} فلا تيأسوا {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ومَنْ يغفر الذنوب إلاّ الله {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص : 16].

لا أُساوي بينك وبين غيرك في ذلك {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53] الغفران صفةُ ذاته تعالى، والرحمة سرُّ ألوهيّته {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}، الإنابة تعني الرجوع، فإذا ابتعدت أيُّها العاصي عن  الله، ارجع إليه، والرجوع إلى الله لا يحتاج إلى قطع المسافات ذاتها التي ابتعدت فيها، فإذا ما كنت في بحار العصيان، ووطّنت النفس على الخروج منها، فإنَّ الله يحملك في سفينة نجاةٍ تعيدك إليه، وأنتَ عندما تعود إلى الله، فليس لك إلاّ أن تقول، لا أمْرَ لي مع أمرك، ولا حكم لي مع حكمك، ولا كلمة لي مع كلمتك، ولا شريعة لي مع شريعتك.

{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر : 54] فإذا ما بقيت على عصيانك وتمرّدك وذنوبك، فسيأتيك الموت. ومَنْ مات على غير توبة، فإنّه عندما يلتقي بالموت، يلتقي بالعذاب، ويتحوّل قبره إلى حفرة من حُفَر النيران.. فإذا رجعت إلى الله وأسلمت أمرك إليه {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} فاتِّباع القرآن هو علامة التوبة {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً} وإذا جاءك العذاب، مَنْ يخلِّصُك منه؟ أهلك، عشيرتك، أصحابك، حزبك، جماعتك؟ {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر : 55].

ويأمرنا الله أن نعيش التوبة استقامة وعودةً إليه، وبتحويل مسار حياتنا من الخطّ المنحرف إلى الخطِّ المستقيم، ولنتذكّر وقوفنا غداً بين يديّ الله، ونرى النّاس في المحشر زرافاتٍ، ووحداناً حيث {لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان : 33] وكلٌّ يطلب نجاةَ نفسه، فبعضٌ مسرعٌ لأخذ الامتياز، وآخرُ يسير ببطءٍ، كما يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه: "ويلي إذا قِيلَ للمُخِفِّين ـــ الذين لا يحملون أثقال الذنوب على ظهورهم ـــ جوزوا، وللمُثْقَلِين ـــ والذين يحملون الذنوب فوقَ ظهورهم ـــ حُطُّوا، أمَعَ المُخِفِّين أَجُوزُ، أم مع المثقَلين أحطُّ، ويلي كلّما كَبُرَ عمري، كثُرَتْ خطاياي، أمَا آنَ لي أنْ أستحي من ربِّي، وهو يزيدني نعمةً وأنا أزيده معصيةً" الله تعالى يعطي الإنسان فرصة التوبة، ولكن تبقى الأعذار والتبريرات والتمنّيات، ويموت الإنسان بلا توبة {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر : 56] هذا لسان حال المذنب: يا حسرتاه على الفرص التي مرَّت عليَّ، والمجالات التي كنت أملكها، وكنتُ أستطيع أن أربح بها الجنّة ورضوانَ الله، كنتُ عندما يأتيني المؤمنون المتّقون ويقولون، صَلِّ يا فلان، فإنَّ الصلاة تقرّبك إلى الله، صُمْ يا فلان، لا تشرب الخمر، لا تلعب القِمار، إتَّقِّ النّارَ التي أُعِدَّتْ للكافرين، كنتُ أسخر وأضحك، وأُرسل "النكتة" تلو "النكتة" على هؤلاء الذين يعظون، وأعمل على إضحاك النّاس من حولي.

{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر : 57] وكنتُ أقول لو أنَّ الله هداني ـــ والهداية من الله حسب التعبير الشعبي ـــ تشكِّل هروباً من الهداية، فالله لم يهدني، ولو هداني لسرتُ في خطِّ التقوى.. وبينما هو على هذه الحال من الحسرة والندم، إذ بلهب جهنّم يتصاعد، فيقول: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 58] يتمنّى أن يعود إلى الدّنيا ليحصل على فرصة جديدة، ويأتيه الجواب: {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 59] فكنت من العاصين والفاسقين والمنافقين الذين يلتقون جميعاً في مواقع التمرّد على الله. وفي هذا الموقف بين يدي الله تبارك وتعالى، يظهر موقف المستكبرين وموقف المتّقين {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] سواد قلوبهم وأعمالهم وتاريخهم ونواياهم تحوّل إلى سواد في الوجه، وأضافت النار سواداً على سوادهم من خلال لفحات النار، جزاءً لاستكبارهم وعصيانهم وسخريتهم. وفي قبال هؤلاء {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61] ويفوز الذين اتّقوا وتابوا وآمنوا وعملوا الصالحات، وفتحوا قلوبهم لله وأنابوا إليه، وأسلموا له أمرَهم، واتّبعوا أحسن ما أُنزلَ إليهم من ربِّهم، ففازوا بالنتائج الطيِّبة لأعمالهم، وحصلوا على الفرح والخير كلِّه، وعلى الطمأنينة والرضوان كلِّه.

    

 

 

 

 

فلنرحم ضعفهم

 

الأسلوب الرسالي في احتضان الغافلين

يوجِّه الله تعالى رسولَه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكلَّ الذين يتَّبعون النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خطِّ الرسالة إلى طريقة التعامل مع المؤمنين الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، ولكنّهم قد تغلبهم أنفسُهم فيعصون الله، وقد تشتبه عليهم الأمور فينحرفون عن خطِّ الاستقامة، وقد يُسْرِفون على أنفسهم فيمتدّون في معصية الله طويلاً، ثمّ ينتبهون إلى أنفسهم ويحاولون العودة إلى الدرب المستقيم، فيتوبون إلى الله سبحانه ويعودون إليه.. هؤلاء كيف نقابلُهم؟ يوجّه الله تعالى نبيِّه إلى طريقة التعامل معهم، فيقول سبحانه: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام : 54].

كيف يقابلهم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخلفاء النبيّ من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) أو الفقهاء الذين يتحمَّلون مسؤولية الولاية في كلِّ مواقعها، هل يرفضونهم، لأنَّ تاريخهم يغلبُ عليه السواد، هل يقولون لهم، لا مرحباً، لأنَّكم كنتم تشربون الخمر، وتلعبون القمار، وتتحرّكون في مجتمعات الضلال؟ أم أنَّ الموقف يتطلَّب من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن بعده الدّعاة إلى الله مقابلة هؤلاء بالقلب المفتوح انطلاقاً من الرحمة الإلهيّة المفتوحة على كلِّ العباد؟ الآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهذا أمرٌ يجب أن ينتبه إليه كلُّ الرساليين والعاملين في سبيل الله.. فإذا كنت ممّن يدعو إلى الله ويعمل في سبيله ويتحمّل مسؤولية رسالته، فقلبك ليس ملكَك، ومزاجُك ليس ملكَك في هذا المجال، لأنَّ قلبك هو قلب الرسالة، ومزاجك هو مزاج الرسالة، وإذا كان الله سبحانه فتح للنّاس بابَ الرحمة، فكيف يمكن أن تغلقها عليهم؟ وإذا كان الله كتب على نفسه الرحمة، فكيف تكتب على نفسك القسوة، وأنتَ تنطلق باسم الله فيما تدّعيه لنفسك من موقع؟

ولذلك قال الله لنبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} إذا دخل عليك المؤمنون، سواءً كانوا أغنياء أم فقراء، أو كانوا من الطبقات العليا في المجتمع أو السفلى، وكيفما كانوا {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} بادرهم بالسلام، وأعطهم كلمة السّلام، وأشعرهم بروحية السّلام، وانفتح عليهم من خلال علاقة السلام، قل لهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} ليس بيني وبينكم أيّةُ علاقة فيها شيءٌ من التعقيد والسلبيّة، لأنّكم جئتم من موقع الإيمان.

كلُّ إنسانٍ يأتي من موقع الإيمان، فعلى المؤمنين أن يرحِّبوا به، ويفتحوا له الباب، إذا أراد أن يدخل بابَ السلام مع الله والرسول، ويفتحوا له الآفاق التي تُطِلُّ على مواقع رضى الله سبحانه {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ما دمتم جئتم تطلبون رحمة الله، فمرحباً بالذين يطلبون رحمته، لا على أساس التمنّيات، ولكن على أساس أنَّ هناك موقفاً خاطئاً يُرادُ تصحيحُه، وطريقاً منحرفاً يُراد تبديله إلى طريق مستقيم، وما دمتم كذلك اسمعوا كيف تُطِلُّ رحمة الله على مَنْ يتطلّبها لتشير إلى خطّ الرحمة: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} بعدم علم أو بطيش وسَفَهٍ أو بحالة عناد لا تختزن الكفر، ولكنّها تختزن تأثيرات البيئة التي جعلت منه إنساناً معانداً، غافلاً عمّا تختزنه الغفلة من معنى البُعد عن الله.

والجهالة كلمة تشمل الجاهل البسيط وهو الذي يعلم أنَّه يجهل، والجاهل المركّب الذي يجهل ويعتقد أنَّه عالِم، فالجاهل الذي يعلم الجهلَ من نفسه فإنَّه يتعلّم، أمّا الجاهل الذي يعتبر نفسه عالِماً فإنّه لا يمكن أن يتعلَّم، وعلى هذا فإنّك عندما تدعو بعض الضّالين لتناقشهم، فإنّهم لا يُبدون أيَّ استعدادٍ لذلك، معتبرين أنَّ عقلهم لا يغيّره أحد، فيعيشون الغرور وانتفاخَ الشخصية، بحيث يتصوّرون أنَّ عقولهم في المستوى الذي لا يدانيه أحد.

أحدُهم(*) نظّم بيتي شعر على لسان الحمار في روايته (حمار الحكيم) يحكيان حال الجاهل المركّب، فقال:

قال حمارُ الحكيم يوماً             لو أنصف الدّهرُ كنتُ أركبْ

(ليس صاحبي هو الذي يركبني، أنا أركب عليه، لماذا)؟

لأنّني جاهلٌ بسيطٌ                 وصاحبي جاهِلٌ مُرَكَّبْ

إذاً، هناك مَنْ يعمل السوء بجهالة ويعرف أنَّه جاهل ويعترف بخطئه، وآخر يعمل السوء بجهالة وهو يجهل أنَّه يجهل، ويظنُّ أنّه على الخطِّ الصحيح {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 ــ 104].

كُنْ جاهلاً بسيطاً أو مركّباً، فإذا اكتشفت نفسَك أنَّك سائرٌ في خطِّ الجهل والضلال، وقرّرت أن ترجع إلى ربِّك، فإنّ الله تعالى يستقبلك في كلِّ مرحلة إذا تُبت إليه، ولذلك يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "مَنْ تابَ، تاب الله عليه وأُمرت جوارحه أن تستر عليه، وبقاع الأرض أن تكتم عليه، وأُنْسِيَتْ الحَفَظَةُ ـــ الملائكة ـــ ما كانت تكتب عليه"(*) والتائب يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمّه، ما عدا حقوق النّاس وهي من شروط التوبة.

 

 

 

أدب القرآن

فالآية الكريمة تعطي للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولمن سيأتي من بعده من الدُّعاة خطّاً يكوِّن ذهنيةً تحمل أدب القرآن، فإذا جاء الجاهلون ليتوبوا، رَحِّبْ بهم وقل {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} عرِّفهم خطَّ الرجوع إلى الله وشجِّعهم، وكوِّن ذهنية احتوائهم ليعيشوا الإيمان والحقّ. فإذاً، بعد أنْ عاد عن جهله {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام : 54] تاب وانطلق في خطِّ التوبة العمليّ من خلال العمل الصالح الذي يؤكّد توبتَه وإيمانَه والخطَّ الجديد السائر باتّجاه مرضاة الله تعالى.

وهكذا يبيِّن جلّ وعلا الطريق {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ} يوضح النهج الذي يريد سبحانه أن يسيروا عليه في حياتهم {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام : 55] لتتميّز طريق المجرمين من طريق المتّقين، فطريق المجرمين هو الذي يمتدُّ في المعصية، ويُصِرُّ فيه الإنسان على الكفر والضلال والانحراف، أمّا سبيل المتّقين والتائبين {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201]، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ} هؤلاء المُتّقون ليسوا معصومين، قد يخطئون، ولكن {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} إذا طاف بهم الشيطان فحاول أن يعميَ عيونَهم، ويجعل على أبصارهم غشاوة {تَذَكَّرُواْ} اكتشفوا شيطنته وألاعيبه {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} عرفوا خطَّ الحقّ ففتح الله لهم بابَ النور.

وهؤلاء الذين يعودون إلى الله، يتقبّلهم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويرسم لهم الخطَّ، ويجلس إليهم من دون أن يُشعرهم بأيّ استعلاء وفوقيّة.. وهنا، نلاحظ خطّ الأسلوب القرآني في احترامه للنّاس، بحيث إِنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكلَّ مَنْ كان في خطّه ومِنْ حَمَلَة الرسالة، لا يجعل من نفسه عندما يتحدّث مع الناس عنصراً فوقياً، يتحدّث مع النّاس من فوق، اعملوا هكذا وافعلوا ذلك، فأنا أعمل هذا، أبداً إنَّه لا يمارس هذه الطريقة في خطابه مع النّاس، لذلك فهو يؤكّد المبدأ في عمله، ليقول للنّاس إنّني أعمل بهذه الطريقة وأحبّ لكم أن تعملوا مثلي: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ} [الأنعام : 56] إنّي أحملُ رسالةً من ربّي، أؤمن به وأعبده وحده. لذلك، فالموقف حاسم ولا أعبد كُلَّ مَنْ تدعونه من دون الله من أصنام حجريّة أو خشبيّة أو بشريّة {قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} [الأنعام : 56] أنتم تسيرون في طريق لا تملكون الحُجّة عليه لأناقشكم أو تناقشوني فيما هي الحُجّة على الرفض والقبول، أنتم تنطلقون على أساسٍ من أهوائكم وعواطفكم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف : 22] ليس عندكم حُجّة، سوى أنَّ آباءكم يفعلون ذلك، فأنتم تنطلقون من خلال الهوى، لذا {لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} أتَّبعُ الحُجّةَ والبرهان فيما أقبله وأرفضه، فإذا اتّبعت أهواءكم أكون {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] فأهواؤكم تجعلني أسير في المتاهات، والهوى لا يمكن أن يعطيَ نوراً للإنسان، وما يعطي النورَ، هو البيّنة والبرهان والحُجّة وما ينفتح عليه العقل من الحقّ.

التزام الحقّ والبيّنة في مواجهة المضلِّين

{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} [الأنعام : 57] عندما أدعو إلى الله وأنطلق في خطِّه، فأنا أملك البيِّنة من ربّي التي تُوضح ليَ الحقيقة وتعرّفني حجم هؤلاء الآلهة والشّركاء ومدى حقارتهم وَضَعَتِهم أمام الله الذي خلقهم وخلق كلَّ شيء. ومع ذلك رفضتم دعوتي {وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام : 57] أنتم تقولون إنْ كان هذا هو الحقُّ من ربِّك {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} [الأنفال : 32] ليس بيدي أن يخسف الله بكم الأرض، أو يمطر عليكم حجارة، أو يهلككم، ليس بيدي ذلك، لأنَّ دوري أن أدعوكم إلى الله وأبيِّنَ لكم الحقيقة، ولست ديّاناً لأعاقبكم حتّى تستعجلوا العذاب {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [الأنعام : 57] في كلِّ هذه الأمور {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام : 57] هو الذي يفصل بين النّاس فيما يختلفون فيه.

ويؤكّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على موقفه {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}  لو كان بيدي أن أُهلككم أو أُميتكم، أو أُنزِلَ عليكم صاعقةً من السّماء، أو أخسفَ بكم الأرض {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام : 58] لانتهت المسألة، لكنَّ المسألة أنَّ الله تبارك وتعالى أراد أن يمدَّ الحياة، لتكون قضية الهدى والضلال خاضعة للصراع والحُجّة والبيّنة.

وهذه هي الأجواء التي ينبغي للإنسان المؤمن أن يعيشها في مقابلة الآخرين، حتّى إذا جاءه مَنْ يريد أن يحرفه ويبعده عن خطِّ الهدى، طالباً منه اتّباع فلان وتأييد هذه الجهة أو تلك، ما عليه إلاّ أن يقول: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} عندي وضوحٌ في الرؤية، وأرى الخطأ في طريقكم، أفكارُكم أفكارٌ غير حقيقيّة، لذلك لا يمكن أن اتّبع أهواءَكم.. هذا منطق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنطق كلِّ إنسان ينطلق من موقع الإيمان، حيث يكون له الموقفُ الحازمُ غير المتردِّد وغير الشّاكّ في مواجهة الذين يريدون إبعاده عن طريق الله سبحانه، لأنَّه يعرف ربَّه وهم غافلون عنه.

أين هم من عظمة الله؟

وهؤلاء الغافلون ماذا يمثِّلون في علمهم وسلطتهم وقوّتهم أمامَ علم الله ومعرفته وسلطته وقوّته؟ والآيات التالية تجيب عن هذا التساؤل، حيث تصوِّر عظمة الله وتقارن بين الله تعالى وبين غيره، وهذه مسألة ضرورية، لأنّنا عندما نعيش حياتنا الحسِّيّة والماديّة نستغرق فيمن حولنا، فنرى شخصاً تحوطه مظاهر الهيبة والعظمة والسلطة والمال، فنخاف منه ونطيعه من دون الله، لكن ما موقع فلان أو مقدار علمه من الله؟ فنحن نرى الحالات التي نُحِسُّها وحسب، لأنّنا لا نملك مفتاح المعرفة المطلقة، فعيوننا مفاتيح المعرفة لِما يُبْصر، وآذانُنا مفاتيحُ المعرفة لِما يُسْمَع، وأيدينا مفاتيح المعرفة لِما يُلْمَس، فوسائل المعرفة عندنا، هي حواسنا الخمس فقط، ولكنَّ هناك غيباً خفيّاً في السموات والأرض هو بيد الله تبارك وتعالى {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام : 59] وهذا كناية عن علمه تعالى، ولذا، فأين يمكن أن تجد من كلِّ ما يدعو النّاس من دون الله مَنْ يملك هذه المعرفة وهذا العلم؟

بيده العلم المطلق والغيب وأسراره {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام : 60] عليكم أن تعرفوا أنَّ الله يتوفّاكم باللّيل عندما تنامون، وقد يمتدُّ بكم النوم إلى الأبد، فنومكم في اللّيل، موتٌ مع وقف التنفيذ، أو حالةٌ بين موت وحياة "لكَ الحمد أنْ بَعَثْتَني مِنْ مرقدي، ولو شئتَ جعلتهُ سَرْمَداً"(*) وأنّه سبحانه الذي يرعاكم في النهار، فكما يرعاكم وأنتم نائمون، يرعاكم وأنتم مستيقظون، وهو وحده الذي يمدُّ لكم في آجالكم حتّى تنقضيَ حياتكم وترجعوا إليه لينبِّئكم بما عملتم في الحياة الدّنيا، فحضِّروا أنفسكم لوقفة الحساب، واضبطوا حساباتكم في الدّنيا قبل أن يأتيكم الأجل.

وتتوالى الآيات الكريمة كي يعظمَ الله في نفوسنا وعقولنا، ويصغرَ العباد في أعيننا، فَمَنْ هم هؤلاء العباد الذين نطيعهم وننفِّذ أوامرهم على أوامر الله؟ هل هم مَنْ ألقوا علينا النوم في اللّيل وأعطونا سرَّ اليقظة في النهار؟ هل هم الذين وهبوا أعضاءنا الطاقة التي تمدُّ حياتنا بالقوّة والعمل والنشاط، أو حدّدوا لنا الأجلَ الذي نعيشه؟ هل هم الذين يبعثوننا بعد الموت وإليهم نقدِّم الحساب؟.

ما حجم هؤلاء الذين نُخلِص لهم ونطيعهم، ونخضع لهم ونعصي اللهَ من أجلهم؟ ما حجمهم في نفوسنا ويقظتنا وحركة أعضائنا وامتداد عمرنا وبعثنا وحسابنا؟ هؤلاء ليس لهم شأنٌ في كلّ ذلك، وإذا لم يكن لهم شأنٌ، فكيف نترك مَنْ كان الشأن والأمر والتدبير بيده؟ ونتَّبع مَنْ هو مثلنا، وخاضعٌ لتدبيره سبحانه.. فلنفكّر بالقوّة الحنونة والحافظة لنا {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] لأنَّ كلَّ عباده خاضعون لإرادته، فلا إرادة لأحد أمام إرادته، هو القاهر المهيمن المسيطر الذي تُلغى كلُّ الإرادات أمام إرادته، فكلُّ الخلق فقراء إليه {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} [الأنفال : 17] ففعلك ونصرُك هو فعل الله ونصره {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ولكنَّ قهره المسيطر على عباده لا يدمّر حياتهم، بل هو قهرٌ من موقع القوّة المدبّرة {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام : 61] يرسل علينا ملائكة يحفظوننا من كلِّ ما في اللّيل والنهار، ويبقى الأجل حارساً لنا، وإذا لم يأتِ الأجل، فلو أنَّ الدّنيا أطبقت علينا لم تستطع أن تلغي حياتنا.. ولكن عندما ينتهي الأجل يأتي المرافقون لِملَك الموت لقبض أرواحنا وتسليمها له، وينفّذون التعليمات الإلهيّة بكلّ دقّة {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء : 27] ويعود الخلق إلى الله للوقوف بين يديه للحساب {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام : 62].

 

 

 

 

 

 

 

 

التفاضل

 

العقل ودوره في تحديد الأهداف الخيّرة

قيمة العقل تكمن في أنَّه يعطي الإنسانَ الفكرَ الأفضل، ويوجّهه نحو الطريق والغايات الأحسن، ولهذا، فإنَّ الله سبحانه يخاطب عقلنا ويريد له أن يفتح كلَّ آفاقه على الموازنة بين موقعين، موقع الدّنيا وموقع الآخرة، ليقارن بين العطائين أيَّهما أبقى وأنفع وأكثر خيراً.. وللعقل دوره الكبير في هذا المجال.

والنّاس تميّز عادةً بين العاقل والجاهل، فتترك رأي الجاهل، وتعود إلى العاقل باعتبار أنَّ العقل الذي يملكه يُعطي الرأي الأصوب الذي يُنقذ من الهلاك، ويجنّب المتاعب ويدفع إلى المواقع الطيّبة. ومن هنا، طلب الله من الإنسان أن يحكِّم ويستحضر عقله دائماً حتّى لا يستسلم لشهواته وغرائزه ونداءات حسِّه التي ترميه في التهلكة وهو لا يعلم. فقال سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص : 60] يخاطب الله تعالى عباده، أن ادرسوا كلَّ ما عندكم في الدّنيا، ممّا تأكلون وتشربون وتلبسون وتسكنون وتتزيّنون به، ادرسوه، هل يحمل عنصر الخلود والقوّة الحقيقيّة أم لا؟ وهنا يخاطب العاقلُ نفسَه: تأكل، تستلذّ بالأكل، يتفاعل الأكل مع جسمك ويغذّيه، ثمّ يتحوّل ذلك إلى فضلات تذهب خارج الجسم، تلبس، تظهر بشكلٍ جيّد، ثمّ يبلى المظهر، تلتذُّ بأعلى الشهوات التي تهزُّ جسدَك، ثمّ يذهب إحساسك بالشهوة، لأنَّ قيمتها لحظة، تزيِّنُ وجهك وشعرك وتعطِّر نفسَك، يأتي الغبار، يتصبَّبُ العرق، ثمّ لا يبقى عليك شيءٌ من الزينة، تسكن بيتاً تفني عمرَك أحياناً في بنائه، ثمّ بعد ذلك تذهب إلى القبر.

ينبغي للإنسان أمام كلِّ هذا أن يقوم بجردة حساب، حسابات دقيقة، وبالعقل البارد، من دون أيّة انفعالات، فيدرس بدقّة علاقته بالأشياء، فيما يبنيه من علاقات، وفيما يأكله ويشربه ويسكنه ويشتهيه ويمارسه، ويفكِّر باللّذّات الفانية وليقارن بينها وبين اللّذّات الباقية، بين اللّذّة العميقة والسطحيّة، بين اللّذّة التي تملك حجماً معيّناً وبين التي لا يُحيط بها عقل {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة : 17].

لذلك تنطلق الآية السابقة لتحثَّ النّاسَ على أن يحضّروا عقولهم، ليعيشوا المقارنة بين ما يبقى وبين ما يفنى، حتّى لا يسقطوا أمام غرائزهم وحواسهم، لأنّ الحواس تأخذهم وتشغلهم باللّذّات عن الحقائق {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ} من كلِّ ما أُوتِيتموه من رزق وخيرات ومساكن وما شاكل ذلك {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} المَتَاعُ هو الشيء الذي نحتاجه فترةً من الزمن، ثمّ نستغني عنه باستغنائنا عن حاجته، كما يستغني المسافر عن متاعه الذي يحتاجه في الطريق عندما يصل إلى مقصده، وهكذا فمتاع الدّنيا طريق {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} خيرٌ، لأنَّ لذّة الآخرة أعمق من لذّة الدّنيا وأخْلَد {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص : 60] حكِّموا عقولكم في ذلك.. ويُتْرَك للإنسان أن يجيب عن هذا السؤال بعمله لا بكلامه.

تمييز الطيِّب من غيره

ثمّ يعطينا القرآن الكريم صورة ثانية للتفاضل والمقارنة، فيقول سبحانه: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص : 61] أُدرسوا الفرق بين النموذجين من النّاس، نموذج الذي عمل صالحاً فوعدَه الله رضوانَه وجنَّته، فوصل إلى يوم القيامة {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء : 103]، {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ*نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت : 31 ــ 32] فأعطاهم الله الوعد ووفى لهم بوعدهم.. ونموذج الذي لم يكن له من الدّنيا إلاَّ شهوات الدُّنيا {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ليس له من الدّنيا إلاَّ ما حصل عليه من مالٍ ولذّات، ولم ينتهز الفرصة في الدّنيا ليعمل صالحاً ولينالَ جزاءَه وثوابَه من خلال عمله {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} يقف يوم القيامة {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات : 24] ويُسْأل عن كلِّ أعماله، وإذ ليس بيده شيءٌ.

يطرح القرآن الكريم هذا الاستفهام الإنكاري لندخل في عملية مقارنة وتفاضل بين النموذجين، ويتساءل من دون حاجة لمعرفة جوابنا: كيف تقدِّمون متاع الحياة وزينتها، عمّا عند الله؟ كيف يمكن أن تفضّلوا الإنسان الذي أعطاه الله متاعَ الحياة الدّنيا ولم يدّخر شيئاً لآخرته، وبين الذي خاف الله فاتّقاه وعمل صالحاً، فوعده الله وعداً حسناً في الآخرة.. فالله تعالى يُنكر علينا أن نساوي بين هذا وذاك، وأمثلة هذا الاستفهام الإنكاري كثيرةٌ في القرآن، منها {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 ـــ 36]، {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة : 18] فالله تعالى لا يستفهم ليعرف الحقيقة، فالله عالمٌ بكلِّ شيء، ولكنّه سبحانه يُطلق الاستفهام في مقام الإنكار.

تنوّع الشركاء

ونأتي إلى مَنْ يتركون اللهَ ويلجأون إلى غيره، هؤلاء الذين وُضعوا في منصب الشركاء لله تعالى. ومسألة الشركاء قديمة قِدَم التاريخ، ففي الماضي صنعوا آلهةً من أحجار وخشب، ورضخوا لآلهةٍ تمثّل ما هو موجودٌ في الظواهر الكونية والطبيعيّة فكانوا يعبدون مثلاً إلَهَ النور وإلَه الجمال وإلَه الظلمة والنور وما إلى هناك، كما في أساطير الأوّلين من اليونان والإغريق وغيرهم، وعندما جاء الأنبياء برسالات الله لِيُسقِطوا كلَّ هذه الآلهة ويوجِّهوا النّاسَ لعبادة الله تعالى، استنكروا وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صـ : 5] وما زالت مسألة الشركاء لله قائمة حتّى اليوم وهي متنوّعة، فمن النّاس مَنْ يتّخذ لنفسه رمزاً يطيعه من دون الله، فينتمي إلى حزبٍ كافر بعقيدته ونهجه وخطِّه، وينكر رسالة الأنبياء واليوم الآخر، ويعتبر أنَّ ذلك من الخرافات، وأنَّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مجرّد مصلح.. وهذه الطاعة للحزب تدفعه لأنْ يلتزم بأوامر المشرفين على هذا الحزب، ولا ينطلق من أوامر الله ونواهيه، وهؤلاء ينطلقون من أهوائهم، فيطيعهم في ذلك، ويصبح الحزب هنا شريكاً لله، لأنَّ الله يقول له، إفعل، والحزب يقول، لا تفعل، الحزب يقول اقتل، والله تعالى يقول، لا تقتل، وإذا ما سُئِلَ فيجيب بأنَّه مجبرٌ على الالتزام بأوامر الحزب، لأنَّ له الولاية عليه. والله سبحانه يقول: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف : 44] هو تعالى وليُّ الكون كلِّه، وقد ميَّز بين النّاس {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة : 257] فإذا كان الطّاغوت وليّاً لهذا الإنسان فهو مُلْحَقٌ بالكافرين {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140]ـ ومن النّاس أيضاً مَنْ يتّخذ عشيرتَه شريكاً لله، فتقاليد العشيرة تفرض عليه أن يلتزم بما تأمره، وبما يراه الآباءُ والأجداد {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة : 170] وينطلق من القاعدة السيّئة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف : 22] ويُقِرُّ بأنَّ الشريعة تأمر بأمرٍ ما، ولكنَّ العشيرة تخالف ذلك، فهو يُنفِّذ أمرَ العشرة، ولكن عندما يأمر الله ويترك أمرَه ليرضخ لقرار العشيرة، فقد جعل العشيرة شريكاً لله تعالى. والبعض قد تكون زوجته شريكاً لله، أو يكون زوجها شريكاً لله، فالله يأمرها بالحجاب وزوجها يرفض ذلك، فتطيع زوجها، والله ينهاه عن فعلٍ ما، وزوجته تأمره بمخالفته، فيطيع زوجته، هنا يصبح الزوج والزوجة شريكين لله. ولا تعني الشراكة في كلِّ ذلك الدخولَ مع الله في عمليات مالية أو تجارية، بل تعني أن نطيعَ الله ونطيع غيرَه في الوقت عينه.

وهكذا نجد بعض النّاس يرتبط بالزعامات الإقطاعية والاجتماعية وينفّذ تعليماتها وأوامرها على خلاف ما أمر الله، فيتجسَّس ويقتل ويوالي ويعادي حسب ما يحبّون ويشتهون، فهو بذلك يجعلهم شركاء لله تعالى.

عندما يتنكّرون لبعضهم

وتنتهي الحياة ونُقدِم جميعاً على الله، ويُنادى علينا {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين : 6]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19]، {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه : 108]، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه : 111] ويُنادى على كلِّ هؤلاء الذي اتّخذوا لله شركاء في الحياة الدّنيا {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص : 62] أين هؤلاء الذين كنتم تعبدونهم من دوني وتطيعونهم وتخضعون لهم {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص : 63] جاء زعماء الأحزاب والعشائر، جاء الأزواج والزوجات، كلُّهم اجتمعوا، بماذا أجابوا {رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص : 63] نحن لا نتحمَّل المسؤولية، لم نقل أنْ يتّخذونا شركاء لك، ولم نعتبر أنفسنا آلهة يعبدوننا من دونك. وطريقتهم في الجواب كطريقة الشيطان {إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر : 16] صار الشيطان "تقيّاً". فإذا سرتَ خلف الشيطان، فإنّه يوم الحساب يعلن بأنَّه يخاف اللهَ، وأنتَ لا تخافه، معنى ذلك أنّك شيطان أكبر من الشيطان.

ويقف الجميع أذلاّء {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} نادوهم ليخلّصوكم ويساعدوكم {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص : 64] ووجهاً لوجه أمام العذاب ينطلق التمنّي، لو أنَّهم اهتدوا منذ البداية من خلال عقلهم ووعيهم {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص : 65] أرسلتُ لكم الرُّسلَ ومعهم التعليمات الموجَّهة من قِبَلي إليكم، فماذا أجبتموهم؟ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ} [القصص: 66] نسوا كلَّ شيء ولا يسأل بعضهم بعضاً شيئاً.. وليست المسألة في أن يتذكّروا أو لا يتذكّروا، المسألة في النتائج {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] وكم هي القضية صعبة، تاب وآمن وعمل صالحاً وفيها {عَسَى} يعني قد يكون من النَّاجين المفلحين ولكن هذا ليس تقريراً نهائياً، لأنَّ للعمل حساباته، وللإيمان حساباته، وللتوبة حساباتها، فهو يعمل صالحاً، ولكن قد يكون مغشوشاً، وقد يتوب، ولكن قد تكون توبة غير نصوح، قد يؤمن، ولكن قد يمتزج هذا الإيمان بالشرك، لذلك، على الإنسان أن يبقى خائفاً على مصيره {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون : 60] لأنَّ المؤمن لا يعرف نتائج عمله، صحيحٌ أنَّه يصلّي ويصوم ويحجّ، ولكن لا يدري حقيقة المصير {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص : 68] هو سبحانه يفعل ما يريد، لذا، فعلى العبد أن يفهم موقعه من ربّه، لأنَّه تعالى يملك الأمرَ كلَّه، والإنسان لا يملك شيئاً إلاَّ ما ملَّكه الله إيّاه، فهو يخلق ما يشاء ويختار، وليس للإنسان اختيار أمر نفسه وحياته فيما قضاه له وقدّره عليه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : 36] ليس له اختيار عمله أمام الله، أو أنْ يكون حرّاً أمامه، هو حرٌّ أمام النّاس، أمّا أمام الله فهو عبدٌ، ما عليه إلاَّ أن يطيع {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص : 68] عَظُمَ الله في كلِّ مواقع عظمته، وتعالى عن كلِّ ما ينسبه إليه عباده من الشركاء، لأنَّه أسمى وأعلى من كلِّ شيء {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص : 69] السِرُّ والعلن عنده سواء، أمّا السرُّ والعلانية ففي علاقات النّاس مع بعضهم ولكن عند الله لا يختلف السرُّ والعلانية، بل هما يتساويان في علمه {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه : 7] فالله سبحانه يلاحق طريقة تفكير الإنسان، ويرصد مشاعرَه وأحاسيسه الخفيّة، فهو مكشوف له تعالى، وصحيحٌ أنَّه يستر عليه في الدّنيا، ولكن في يوم القيامة {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9] تُمَزَّق السرائر وتنكشف.

مالك الحقيقة وحده

{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص : 70] هو الحقيقة المطلقة التي تفرض نفسها على العقل والقلب والإحساس والكون كلِّه، والكون كلُّه ناطقٌ بوجود الله تعالى، كما يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "ما رأيتُ شيئاً إلاَّ ورأيْتُ اللهَ قبله وبعده". لا نستطيع أن نتصوَّر شيئاً دون أن نتصوّر اللهَ معه {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} لأنَّه هو الذي أعطى كلَّ شيءٍ ما يُحْمَدُ به، فصفات الحمد له، وكلُّ حمدٍ مستمدّ من حمده {وَلَهُ الْحُكْمُ} لأنَّ الذي يملك الأمرَ كلَّه، يملك الحُكم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص : 70] وتُحَاسَبُون على كلِّ أعمالكم {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8].

ويريد الله منّا أن نفكّر بطريقة واعية، فها أنتم في اللّيل مثلاً، فاللّيل مهما امتدَّ، فإنَّ الصباح سيُشرِق، ولكن ما رأيكم لو أنَّ الله سبحانه لم يرد للشمس أنْ تطلع على الوجود، ويجعل اللّيل عليكم أبدياً، فلتجتمع كلُّ قوى الدُّنيا ولتقرّر غير ذلك، فإنَّها لا تستطيع أن تغيّر من أمر الله شيئاً {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص : 71] وهنا يطرح القرآن القضية ليحذِّر النّاس الذين يستغرقون بعظمة الأشخاص فيعصون الله ويطيعونهم، يتمرّدون عليه سبحانه ويخضعون لهم، فلو أنَّ الله أراد أن يجعل اللّيل مظلماً دائماً مستمرّاً، فهل يستطيع هؤلاء الذين رضختم لهم أن يُعيدوا لكم الضياء؟ ويعكس المسألة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [القصص : 72] عندما ننظر في الكون ندرك أنَّ الله نظَّمه بطريقة لا يستطيع البشر منذ خلقهم وإلى أن يرثَ الأرضَ ومَنْ عليها أن يغيِّروا ذرّة واحدة في نظام الكون، لأنَّه مركّز على أساس قدرته سبحانه، وكلّ ما فعله البشر في الكون أنَّهم اكتشفوا أسرار خَلْقِ الله فيه، واهتدوا إلى القوانين التي خلقها، وليس بمقدورهم أن يغيّروا أو يبدِّلوا أيّ قانون من القوانين، وعلى هذا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} ترتاحون وتتخفَّفون من أثقال النهار {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [القصص : 72] وهذا التقسيم لليوم جعله متناسباً مع طبيعة حياتكم، ولولاه لما استمرّت بكم الحياة، لذلك عندما يأتيكم اللّيل والنهار، فكِّروا بسرِّ علاقتكم بهما في امتداد حياتكم، لتعيشوا الشّكرَ العمليّ لله بطاعتكم له وسيركم على نهجه.

ويبقى المتمرّدون في دائرة الملاحقة {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص : 74] استدعوا كلَّ مَنْ جعلتم منهم آلهة {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أتينا بالشهود الذين يشهدون على الأُمّة ويتولّون قيادتها {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص : 75] لقد أنكرتم وجود الله والتوحيد، وكذّبتم رسلَه وقلتم عن كلِّ ذلك {إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [الأنفال : 31] وها أنتم تقفون أمام الحقيقة، فما دليلكم على ما كنتم فيه؟ أقيموا الدليل، هل تمرّدتم من خلال قناعات ترتكز على دليل وبرهان، أم من خلال أهوائكم وشهواتكم؟ هذه هي الحقيقة أمامكم وما كان عندكم أباطيل.

وهكذا، لا بدَّ لنا أن نعيش الحقيقة، والله تعالى هو الحقيقة {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص : 70].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التقوى

 

منهج الخوف من الله

في القرآن الكريم نداءات متنوّعةٌ للمؤمنين، ومن هذه النداءات، نداءٌ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريد الحقُّ تبارك وتعالى أن يبلِّغه للنّاس، ويحمل الحثَّ على الخوف من الله، فيقول سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10].

أيُّها المؤمنون لا يكفي أن تعلنوا إيمانكم بالله لتقولوا، إنَّنا نشهد ألاَّ إلَهَ إلاَّ الله، وأنَّ محمّداً رسول الله، وأنَّ الله يبعث النّاس يوم القيامة ليجزيهم على أعمالهم، إنْ خيراً فخيرٌ، وإنْ شرّاً فشَرٌّ، لا يكفي ذلك، بل لا بدّ لكم من أن تستشعروا في قلوبكم وعقولكم وأحاسيسكم الخوفَ من ربِّكم. والخوف ليس حالة شعورية تعيشونها وتتجمّدون أمامها، بل يجب أن تجعلوها حالة في الموقف والعمل، بحيث عندما تخافون منه سبحانه، فإنَّكم تتجنّبون مواقع غضبه، تماماً كما هي حالات الخوف الطبيعيّة في حياتكم.

فالإنسان عندما يخاف من الموت، فإنَّه يبتعد عن كلِّ الأجواء التي تتحرّك فيها أسباب الموت، وهكذا عندما يخاف من السلطة، فإنَّه يهرب من المواقع التي يمكن أن تلاحقه فيها السلطة، أو عندما يخاف من العدوّ، فإنَّه يختفي عن أنظار عدوِّه. ولكن، إذا خاف من الله هل يستطيع أن يهرب منه كما يهرب من حالةٍ يخاف منها؟ {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف : 84] ففي السماء عظمتُه وفي الأرض ملكُه، وفي البحار والكهوف والأعماق سلطتُه، فأين يهرب من ربِّه؟ وهو إذا ما عصى اللهَ وتمرّد على رسالاته وأنبيائه، فهو لن يستطيع الهرب في الدّنيا ولا في الآخرة.

إذاً، كيف نؤمِّن أنفسنا من الخوف؟ هناك طريقٌ واحد، هو أن نطيع الله ولا نعصيه، وهذا هو الطريق الذي يُعَبَّرُ عنه بالتّقوى {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر : 10] خافوه، احسبوا حسابه في كلِّ أوضاعكم وأعمالكم، فإذا أردتم أن تقوموا بعمل، فاحسبوا حسابَه سبحانه قبل أن تحسبوا حساب البشر، وهذه هي التقوى "ألاَّ يجدَك اللهُ حيثُ نهاك، وألاَّ يفقدَك حيثُ أمرك"(*).

وهنا، من الضروري أن نستوعب مسألة مهمّة جداً، وهي أن يتحرّك القرآن في كلِّ مفردات حياتنا، فنفتح قلوبنا له قبل أن نفتح أسماعنا، لأنَّ قيمة الأُذُن أن تكون واعية، ولن تعيَ الأُذُن ما تسمع إلاَّ إذا كان ما سمعته أخذ طريقه إلى القلب {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة : 12]، والوعي ليس من حالات الأُذُن، بل هو من حالات العقل الذي يُعَبّر عنه بالقلب، باعتبار أنَّ هذه الأُذُن تمثِّل طريقاً إلى العقل، فالإنسان عندما يسمع، ينبغي أن يسمع بطريقةٍ واعية، لا أن يسمع كما هو حال الكثيرين يسمعون ولا يسمعون {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف : 179].

جزاء التقوى

إذاً، {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر : 10] فجزاء التقوى {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [آل عمران : 195] ستنالون الجزاء الأوفى من الله إذا سرتم في خطِّ التقوى التي تفرض عليكم أن تقفوا موقفاً أو تعملوا عملاً فيه رضىً لله، أو تبنوا علاقة يحبُّها الله، أو رفضتم حالة أو علاقة يريدكم الله أن ترفضوها وتبتعدوا عنها، أو عملاً تتركونه، لأنَّ الله يأمركم بتركه، وسيعطيكم الله حسنةً على ذلك. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر : 10] فإذا فعلتم ما يريده الله تعالى، فإنَّ ذلك يشكِّل الإحسانَ لأنفسكم وللحياة من حولكم، لأنَّكم إذا عشتم الضوابطَ الشرعية التي نظَّم الله الحياة على أساسها، فإنَّ هذه الحياة تعيش في توازن وخير وبركة. وهذه الفقرة من الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} تلتقي بالآية الكريمة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة : 7] وتلتقي كذلك مع الآية المباركة {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى*وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى*ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} [النجم: 39 ــ 41] مفهومٌ قرآنيٌ واحدٌ بعباراتٍ متعدّدة.

وهذه التقوى تفرض على الإنسان إذا ما صدّه النّاس عن طاعة الله، أن يبتعد إلى مكانٍ آخر ليحفظ دينه {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر : 10] إذا لم تستطع أنْ تعبد الله في مكانٍ فانتقل إلى مكان تستطيع أن تعبد الله فيه، وإذا حاصرك الناس في موقع، فهناك ألف موقع تستطيع أن تطيع الله فيه، لذلك، لست معذوراً أن تبقى في مكان تُضطّر فيه أن تعصي اللهَ وتترك طاعته سبحانه، وإلاَّ كنت مثلَ أولئك {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ظلموا أنفسهم بالكفر الذي فرضه عليهم الأقوياء {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً*إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً*فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 79 ــ 99].

ومن الذين رفضوا الرضوخ للأقوياء الذين عملوا على تطويقهم ومحاصرتهم وإجبارهم على المعصية والكفر، أولئك الذين فرّوا بدينهم {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100].

إنَّ الله لم يضيّق عليك كلَّ الساحات، فإذا استطعت أن تتحرَّر من الضغط الذي يَفرُضُ عليك معصية الله ويمنعك من طاعة الله، وتقدر على أن تنتقل من أرض، إلى أرض، فلا يجوز لك أن تقيم في مكان تُفْرَضُ عليك فيه المعصية، أو تهاجر إلى أرض يَضْعُفُ فيها دينُك {أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً}.

ضريبة التقوى

ومن هنا، علينا أن نعرف أنَّ التقوى تكلِّفنا شيئاً من مزاجنا ومَالِنا وجهدنا ومصالحنا، قد تُضطرّنا التقوى أن نترك المال الحرام ونحن أحوج النّاس إليه، وقد تفرض علينا التقوى أن نرفض الجاه الحرام وهو بين أيدينا، والشهوةَ الحرام وأنفسنا تهوى إليها، أو نترك أرضاً ونحن بحاجة للعيش فيها.. هناك آلامٌ في هذا الطريق يجب أن نتحمّلها، لأنَّ الإصرار على حقِّ الإيمان يُلزمنا بذلك.

وهذا ما توضحه بعض الآيات المباركة: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران : 186].

ويقول سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد : 31] وقال تعالى أيضاً: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155] وهنا تشعر ـــ أيُّها الإنسان ـــ أنَّ التقوى تكلّفك كثيراً، لأنَّك تتحرّك بها ضدَّ تيار المجتمع الذي تعيش فيه، وضدَّ الواقع الاجتماعي والسياسيّ والاقتصادي الذي تواجهه، ولذلك فإنَّ موقف التقوى يحاصرُك بكثيرٍ من الآلام، ويحرمك الكثير من اللّذّات، ويفوِّت عليك الكثير من الحاجات.. وهنا، ماذا تصنع؟ {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان : 17].

وما جزاءُ الصبر؟ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10] الذي يقرِّر ذلك، هو ربُّك الذي خلقك وأنعم عليك، ورعاك في نومك ويقظتك، في طفولتك وشبابك وكهولتك، ربُّك يقول لك، لقد وعدتك بالأجر العظيم، وها أنتَ تجد ربَّك أصدقَ مَنْ وعد، وأنا أعدُك إذا صبرت، سأعطيك أجرَك بغير حساب {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت : 31] تَمَنَّ على الله كلَّ ما تريد، اضبط أعصابَك، انتصر على غرائزك، ثَبِّتْ نفسَك في حالات الاهتزاز، ولذلك اطلب ما تشاء، لأنَّك صبرتَ {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد : 24].

رسول الله المثال والقدوة

هناك مَنْ عاش التّقوى وأحسن وانتقل من أرض إلى أرض، وتألَّم أشدَّ الآلام فوجدَ عند الله كلَّ خير، مَنْ هو؟ هو الذي جاء بالقرآن، محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسول الله {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر : 33] كيف كان موقفه؟ التيّار كلُّه ضدّه، أقرب النّاس إليه يعاديه، كلُّ المجتمع بفقرائه وأغنيائه ووجهائه، مجتمع مكّة والجزيرة لا يرى رأيه، تماماً كما يأتي الداعية الرساليّ إلى واقع النّاس ليجد أنَّ أغلب المجتمع ضدَّ خطِّ الإيمان بالله والالتزام بالإسلام، وإذا لم يكن ضدّه بالأخلاق فهو ضدّه بالاقتصاد والسياسة.. كلُّ مؤمن يتحرّك في أيِّ موقع، هناك حاجزٌ ينتصب أمامه، حاجزٌ يقول له، لماذا تتحرّك بأخلاقك بهذه الطريقة، وأخلاق الناس شكلٌ آخر؟ لماذا تمتنع عن هذه المعاملة المحرّمة وتلك؟ الاقتصاد له نهجٌ آخر، لماذا تؤيّد هذا الفريق وترفض ذاك؟ السياسة لها اتّجاهٌ آخر، لماذا تقيم علاقة مع هذا الجانب ولا تقيمها مع ذلك الجانب؟ المجتمع له رأي آخر.. وكم من حاجز تلتقي به في حياتك حتّى من أقرب الناس إليك؟ هكذا، انطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسألة التي واجهته لم تكن مسألة حواجز، كان هناك جدران منصوبة في كلِّ موقعٍ يتحرّك فيه، ولكنَّه وقف أمامهم وتحدَّاهم {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} [الزمر : 11] لا يمكن أن أعبد الأصنام والأوثان، هكذا أمرني الله الذي آمنت به عن وعي ومعرفة وعقل، أمرني أن أعبده وأُخلِصَ له في عبادتي، وعلامة الإخلاص أن أطرد من نفسي كلَّ خضوعٍ لغير الله، وكلَّ التزام بكلام لا يرضاه، أو التزام بشخصٍ من دون الله {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} هذا أمرٌ أساس، والأمر الآخر {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر : 12] لقد فتحت للنّاس بابَ الإسلام على مصراعيه ليسجّلوا أسماءهم فيه وليدخلوا إليه، لأنَّ دخول الجنّة مرتبطٌ بدخول الإسلام {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران : 85] لذلك {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ} [الحجر : 46] متى تدخل؟ تدخل إذا كنتَ تعي السلامَ مع الله، أمّا إذا كنتَ تعيش الحرب معه سبحانه، فهل يمكن أن تدخل الجنّة؟ عند وقوفك على باب الجنّة، تُطلَب منك بطاقتُك، مَنْ أنت؟ هل كنت ممّن يعيش السّلام مع الله والنّاس؟ والسلام أن تعيش في الحياة، مطيعاً مسلماً لله، وهذا ما يجعل بينك وبين الله علاقة سلام.. فالنبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سجَّل اسمه قبل أن يدعو النّاس إلى الإسلام، طبَّقَ الإسلام على نفسه، قبل أن يطلب من النّاس أن يطبِّقوه على أنفسهم، صدَّق بالعقيدة، قبل أن يطلب من النّاس أن يصدِّقوا بها {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر : 12] عندما دعوت النّاس للتقوى، فقد دعوت نفسي للتقوى قبلكم {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر : 13] إنَّكم تدعونني إلى المعصية، وأنا أخاف من عذاب يومٍ عظيم إذا عصيت {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود : 63] مَنْ يؤمنني من عذاب الله؟ هكذا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخاطب قومه، لنتعلّم منه أن نخاطب بذلك مَنْ يدعوننا إلى الانحراف عن خطِّ الله، من أقوامنا وآبائنا وأُمّهاتنا وأزواجنا وزوجاتنا وإخواننا وأصدقائنا وزعمائنا وأحزابنا. ونقول لهم جميعاً: {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام : 15].

وأمام كلِّ هذا الحشد من الشرك والضلال والانحراف، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واقفٌ وحده مع جماعةٍ صغيرة مُسْتَضْعَفَة، يُوحي لنفسه بالقوّة المستمدّة من الله تعالى، ويرفض كلَّ أوامر الكفر مجسِّداً موقفه بالطاعة للخالق {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي} [الزمر : 14] والفرق بين التعبير في هذه الآية، والآية السابقة {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} [الزمر : 11] أنَّ التعبير في الآية الأولى قدّم المفعول على الفعل، وهذا يفيد الحصر، يعني اللهَ أعبد ولا أعبدُ غيرَه {مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي} هذا هو موقفي، إنّني أُخلِص لله ولا أُخلِصُ لغيره، أمّا أنتم فقد بلّغتكم رسالات ربّي وهذه مسؤوليتي، ولكم مسؤوليتكم وحرّيتكم في أن تختاروا مصيرَكم {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ} [الزمر : 15] أعبدوا أصناماً من حجر أو خشب أو ذهب، أو أصناماً من لحم ودم، هذا ليس شأني، لأنَّ مصيري لا يرتبط بمصيركم، دوري أن أبلّغكم وقد بلّغتكم، ولكنّي أُحذّركم، مَنْ يعبد الله يربح نفسَه، ومَنْ يأمر أهلَه بعبادة الله يربح أهله، ومَنْ يعبد غير الله ويربِّي أهله على عبادة غير الله، يخسر نفسَه ويخسر أهلَه {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15] وقد نبّهنا الله تعالى إلى نتائج الخسارة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم : 6] نحن نهتمّ بمستقبل الولد وبوظيفته وبوضعه المالي، ولكن إلى أيِّ مدىً نفكّر ونهتمّ بِدِين الولد، فإذا تعارَض المال مع الدِّين، كم نغلّب الدِّين على المال؟ صحيحٌ أنَّ الله جعل من مسؤولياتنا الاهتمامَ بشؤون معيشة أولادنا، ولكنَّ الصحيح أيضاً أنَّه سبحانه جعل من مسؤولياتنا أن نربّيهم على تقوى الله.

مظاهر الخسارة والرّبح في الآخرة

وهكذا، فالإنسان مسؤولٌ أن يَقِيَ نفسَه وأهلَه من نار جهنّم، ويربح نفسَه وأهله يوم القيامة.. وأمّا مظاهر الخسارة يوم القيامة {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ} [الزمر : 16] فإذا كفرتَ وتمرّدت، وكفرت زوجتك وأولادُك وتمرّدوا على الله، فهذه النار من فوقهم تحاصرُهم بلهبها وتشكِّل ظلالاً لتسيطر على كلِّ الجوّ {وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر : 16] ليخافوا عذاب جهنّم وليتّقوه.. ورغم ذلك يخاطبهم، لماذا تدمّرون وتخسرون وتحرقون أنفسكم، فاتعبوا قليلاً في طاعة الله ولكم الجنّة، امتنعوا عن شهوة محرّمة ولكم النعيم الخالد، ولماذا تخسرون كلَّ ذلك بلذّةٍ عابرةٍ لا تدوم. وهذا أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) يقول: "ما لِعَليٍّ ولنعيمٍ يفنى ولذَّةٍ لا تبقى"(*) ونداء ربّاني حنون {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر : 16] أطيعوني والتزموا أوامري ونواهيَّ، ولا تتّبعوا آباءَكم وعشائركم، لأنّهم لا ينفعونكم شيئاً.

ويبقى الخطاب لهؤلاء الذين ابتعدوا عن الخوف من الله وأصرّوا على التمرُّد والمعصية، فأنتم الذين تكفرون وتضلُّون وتنحرفون، أنتم تعبدون الطاغوت، سواءً كان ملكاً أو رئيساً أو دولة أو خطّاً، أو شهوةً، وعبادتكم للطاغوت تضرّكم ولا تنفعكم {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة : 257]، وكلُّ شريعة غير شريعة الله، أو دولة غير دولة الله، أو قائد لا يتحرّك في خطِّ الله فهو طاغوت.. ويبشِّر الله تعالى مَنْ يواجهون الطاغوت بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر : 17] هؤلاء لهم كلّ ما يتمنّونَه، وهنا يبرز معنى الوعي في حياتهم {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة : 12] ما يسمعونه يدخل إلى عقولهم لأنّهم من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر : 18] هم أصحاب العقول، ومَنْ يملك عقلَه، يملك فكره وطريقَه وقرارَه في كلِّ شيء.

أمَّا الذين أغلقوا مسامع قلوبهم فلا يمكن الحديث معهم {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} [الزمر : 19].

وماذا للمتّقين؟ {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر : 20].

وهذا خطابُ الله لنا: ماذا تريدون؟ هل ظُلَلٌ من النار من فوقكم وتحتكم، أم غُرَفٌ فوقها غرَفٌ مَبْنِيّةٌ تجري من تحتها الأنهار؟ حدِّدوا تمنّياتكم، لكي تحدِّدوا الطريق الذي يحقّق لكم أمانيكم في الدُّنيا والآخرة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

آداب المخاطبة

مع الله

 

رعاية الله في تركيز الخطوات

ما أعظمَ حوارُ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع ربِّه، فيما يُعلّمه كيف يخاطبه ويستجيبُ له، وتلك هي النبوّة في كلِّ عظمتها وحيويّتها ورفعتها.. فالله تعالى يختار بشراً كبقية البشر، ولكنّه يُودِع فيه من القدرات الروحيّة ما يجعله متميِّزاً عن بقيّة البشر روحاً وفكراً وقوّةً وصلابة وحكمة، ثمّ ينطلق مع البشر كبشر، ولكنّه فيما يعلو به من مواقع بشريّته، ليوجّههم ولينذرهم.

وفي إحدى الحوارات القرآنية العظيمة، يعلِّم الله رسولَه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أسلوب الدعاء، ويبيِّن له النقاط التي يريد له أن يتحدّث بها معه في حالة الابتهال ليركِّز ذلك في شخصيّته، وشخصيّة كلِّ مَنْ يتَّبعُ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ليعيش الجوّ الذي يشعر فيه أنَّ الله تعالى بعظمتِه يُوجّهه ويُعلّمه كيفية تركيز خطواته على الطريق المستقيم، وعندها يدرك الإنسان عظمة إنسانيّته من خلال ما يرفع له ربُّه من مستوى إنسانيّته.. وذلك هو سرُّ المعنى العميق الذي ينبغي للمؤمن أن يدركه عندما يحدّثه الله سبحانه من خلال حديثه لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيحسُّ بأنَّ ربَّه يُوجّهه ويخاطبه ويتحبَّب إليه ويراقب خطواتِه ويرعاها. وعندها كيف يمكن له أن يفكِّر بالابتعاد عنه وعن توجيهاته وأوامره ونواهيه، ليزحف إلى شخص ليس له من العلم شيءٌ، وإنْ كان لديه شيءٌ من العلم، فإنَّه لا يملك طهارة العلم، ولا يملك سموَّ الروح في العلم، لأنَّ الله يعطي العلم مع الروحانية، ويعطي الروحانية مع الوعي.

الرغبة في الطلب وتنفيذ الوعد

ونأتي إلى حوار وحديث الله تعالى مع رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول سبحانه: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ*رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 93 ــ 95].

(قل) ـــ يا محمّد ـــ ويا مَنْ يتّبعُ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} هؤلاء الكافرون المشركون الذين كفروا بك وبعبادتك وانحرفوا عن خطِّك وتوعّدتهم بأنَّك ستوقفهم موقف الخزي يوم القيامة وستدخلهم نارَك، إنْ شئت أن تُريَنِّي ما وعدتهم، فأعرف كيف يُحشرون.

الله تعالى، يقول لنبيّه، اطلب هذا الطلب، اطلبه لتعيشه في نفسِك قبل أن تطلبه منّي، لأنَّ الإنسان عندما يطلبُ شيئاً، فإنَّ من الطبيعي أن يكون راغباً فيما يطلبه، أو يطلبُ الابتعاد عن شيء، فمعنى ذلك أنَّه غير راغبٍ فيه. ولذلك فإنَّ الدّعاء ليس مجرّد حالةٍ نفسيّةٍ روحيّةٍ يطلبُ الإنسان فيها شيئاً من ربِّه، كما يطلب أيَّ شيءٍ من غيره، لأنَّ الدعاء معنىً يعيش فيه الإنسان الطلبَ الذي يطلبه ليعمّقه في نفسه، لاسيّما إذا كان من الأمور التي تتّصل باستقامته على الخطّ، وهو عندما يطلبُ من الله شيئاً، فكأنّه يقول، أُحبّ يا ربِّ هذا الشيء، لكنْ أُريدك أن تعاونني وتساعدَني في تحقيقه {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون : 94] ما أُريده منك ـــ يا ربّ ـــ ألاّ تجعلني جزءاً من هذا المجتمع، أو عنصراً يمتزج بِقِيَمِه وأفكاره وخُططه ومشاريعه وحركته، اجعلني مفصولاً عن هؤلاء وخارجَ نهجهم وتوجّهاتهم ومعتقداتهم.

وهو عندما يطلبُ ذلك من ربِّه، فليس على أساس أن يُبعده عن المنطقة الجغرافية التي يعيش فيها هؤلاء الظالمون، لأنَّ الإنسان المؤمن قد يعيش في منطقة جغرافية معيّنة يتواجد فيها الظالمون والمشركون والمنافقون، ولكنْ ما يطلبُه منه سبحانه ألاّ يجعله منهم فكراً، بحيث يكون فكرُه فكرَ الظالمين، وألاّ يجعله فيهم روحاً، كي لا تكونَ روحه روحَ المجرمين، وألاّ يجعله فيهم أخلاقاً، حتّى لا تصيرَ أخلاقه أخلاق الكافرين، وألاّ يجعله فيهم عملاً، فيصبح عمله عمل المنافقين، وفي الحديث: "بَايِنْ أهلَ الشَّرِ تَبِنْ عَنْهُم"(*).

ولهذا، فإنَّ القضايا التي تتعلّق بالعقيدة والانتماء لا تحتاجُ دائماً إلى الانفصال الجسدي والجغرافي عن الذين يرفضون هذه العقيدة، بل تحتاج إلى الانفصال الفكريّ والروحيّ والشعوريّ والعمليّ عنهم، ولذا، فإنَّ الإيمان لا بدَّ أن يُترجم في تولِّي أولياء الله، والتبرِّي من أعداء الله، والتبرِّي منهم لا يكون إلاّ برفضِ قِيَمِهم ومعتقداتهم. وهذا ما يعلّمه الله تعالى لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وليس بصفتِهِ الذاتية، بل بصفتِه الرسالية، حتّى يتعلّم ذلك كلُّ مَنْ أُرسل إليهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهذا التعليم هو تعليم الرسالة وليس تعليم الذّات.

إذاً، {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} حتّى لا يكون مصيري مصيرَهم، لأنَّه يُقال: قل لي ما هو مجتمعك الذي تنفتح عليه وينفتح عليك؟ أقلْ لكَ مَنْ أنت، إنْ كان مجتمعك مجتمعَ الظالمين، فإنَّك ستُحشر مع الظالمين في الآخرة، ومجتمعك في الدّنيا هو مجتمعُك في الآخرة.. فصداقات الدّنيا القائمة على التقوى هي التي تبقى، أمّا الصداقات القائمة على غير التقوى فهي تزول {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف : 67].

وبعد أن طلبَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الله سبحانه أن يريَه وعدَه بالظالمين، يقول تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون : 95] نحن سوف نُرِيكَ غداً ما نعِدهم نتيجةً لظلمهم وكُفرهم وتمرّدهم من عذابٍ وعارٍ وخزي، لأنّنا قادرون على ذلك.

 

الخطّة القرآنية في المواجهة

يضع القرآن الكريم الخطّة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حركة الدعوة التي يقوم بها في المجتمع، ويُبيِّن له أسلوب الدخول إلى المجتمع، ليغيِّر له فكره وسلوكه وعاداتِه وتقاليدَه، رغم مواجهةِ القوم له بكلِّ الشتائم والسُّباب والأساليب الحاقدة والاتّهامات الباطلة وأنواعِ الاضطهاد الكثيرة، إنْ كانت حصاراً يقومون به للقضاء عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَو تعسُّفاً يواجهون به أتباعه يُفضي في أحيانٍ كثيرة إلى القتل. وفي مواجهة كلِّ ذلك، ما هي الخطّة القرآنية {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون : 96] أنتَ لم تأتِ البلاد فاتحاً لها كهدف، وإنّما جئت فاتحاً للعقول والقلوب، لأنَّ دور الداعية، ليس في قتل النّاس الذين يكفرون بالله، وإنّما دوره أن يقتل الكفر في عقولهم، حتّى إذا تحوَّل الكفر إلى عقدة، وتحوّلتِ العقدة إلى خطر، عندئذٍ يقابل الداعية الكافر ليقتلَه، وحينذاك لا يكون قتلُ الكفر إلاّ بقتل الكافر.. ومن هنا، فإنَّ نوحاً (عليه السلام) عندما دعا ربَّه للانتقام من الكافرين لم يَدْعُ من موقع عقدة: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح : 26] هل مَلَّ منهم، أو تعب من دعوتهم إلى الله؟ كلاّ {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح : 27] مشكلة هؤلاء بأنَّ الكفر تعاظم في عقولهم وقلوبهم وعداواتهم وتقاليدهم وواقعهم، بحيث إنّهم عملوا على إضلال النّاس، وإذا أنجبوا أولاداً، فإنَّهم لا يسمحون لأحد أن ينفذ إليهم ليهديهم سُبُلَ الرّشاد، ولهذا، فإنّهم إذا امتدوا في الحياة، فستكون الحياة كلُّها كفراً.

ومن هنا، فإنَّ الإسلام يريدُ من الإنسان الداعية إلى الله، سواءً كان رسولاً أو إماماً أو عالِماً فقيهاً أو مبلِّغاً، أن يعيش العقلَ المفتوح والقلب المفتوح، والكلمة الحُلوةَ والأسلوبَ الطيِّب والوجه المبتسم، والأجواء التي تحتضنُ الإنسان الآخرَ بكلِّ المعاني الطيِّبة ليُحسَّ بقيمةِ الأجواء الخيّرةِ قبل الحديث معه عن المعاني الرساليّة، ويريدُ الإسلامُ أيضاً من الإنسان الداعية ألاّ يتعقَّد أو يسقُطَ عندما يُسيء الكافرون إليه، وألاّ يتعقّد عندما يشتمه الضّالون، بل يعتبر أنَّ ذلك جزءٌ من ضريبة الرِّسالة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالطريقةِ الأحسن {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} التي يواجهك بها الآخرون {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون : 96] نحن نعلم بما يصفون من الشرك والضَّلال، ومهمّتُك أن تصبر على عنف الآخرين حتى تقود مَنْ يبادرُك بالعنف إلى أن يكون من عبادِ الله المُخْلَصين، فتثأر بذلك من شيطانه وتَهديه إلى طريق الرحمن، وهذا هو الثأر لله، وليس الثأر أن تقتله.

وإذا جاءتك تخيّلات الشيطان وخيولُه لتقول لك، كيف تصبر؟ مَنْ فلان حتّى يتجرّأ عليك؟ صبرُك عليه ذلٌّ، فإذا لم تُرِدّ الكلمة بأقسى منها، أو السيّئة بالسيّئة فإنَّك تعيش المهانة، وكيف ترضى بذلك، والله يريد العزّة للمؤمنين، ويريدُ للمؤمن أن يكون شجاعاً وليس جباناً؟.. ومِنْ هذا الطريق يأتي الشيطان إلى الداعية إلى الله، حتّى يدخل في مشكلة العنف مع الآخرين الذين لم يدخلوا منه في عنف جسدي، بل بقيت المسألة في إطار الرفض لما يَطْرَح ويدعو إليه، فتضيعُ الهداية وتذهب الجهود سدىً، ولذلك، قال الله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون : 97] وهذا تعليمٌ آخر يعلِّمه الله سبحانه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكلِّ من يسير على خطاه، فإذا جاءكَ الشيطان، وأراد أن يدخل إلى عقلِك ومشاعرك وأحاسيسك لتنتفخ أوداجُك ويحمّر وجهُك وتتوتَّر أعصابُك وتنفعل بكلّ كيانك {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} استعذْ بالله من الدوافع والهزّات التي تجعلك مُسْتَنْفِراً، كما تُهمَز الخيل لِيُسْتَفزّ وتُدْفَع لتجمحَ وتتمرَّد، خوفاً من أن يستقوي الشيطان وتَحِلُّ مشاريعه محلَّ مشاريع وخطط الإيمان. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} [المؤمنون : 98] والجأ إلى الله عندما يحاول الشياطين أن يأتوا لتطويقِك ويُحيطوا بك من كلِّ جانب.. تماماً كما يأتي بعضُ شياطين الجنّ ليزرعوا في قلب الإنسان شكّاً من هنا ووسوسةً من هناك وخيالاتٍ وأوهاماً من هنالك، أو شياطين من أصحابِه ليُحيطوا به، هذا يُخَوِّفه ويُبعده وآخر يشوّشه، فيضيع وينحرف ويَضِلّ.

وكثيرون هم الشياطين من الرجال والنّساء، الرجل يتحدّث بطريقةٍ عاطفية معيّنة، والمرأة تجري دموعها بسرعة، فينكسر قلبُ الإنسان وتجيش به العاطفة.. هذه أُمُّه أو زوجته وهذا أبوه وتلك أخته. وأولئك أبناؤه، وهكذا بين دموعٍ من هنا، وعاطفةٍ من هناك، فإذا بالشيطان قد سرَقَ كلَّ دينه وإيمانه {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن : 14] وليست العداوة بالمعنى المباشر، بل تكون العداوة بقيام الزوج بأمر فيه معصية الله بطلبٍ من زوجته، وبالعكس عندما تنفّذ الزوجة رغبة زوجها، إذا كان في تنفيذ هذه الرغبة غضب الله.. وهكذا في رضوخ الأولاد لرغبات آبائهم وأُمّهاتهم أو بالعكس.

عندما تُنْشَر الصُحف بين يديّ الله

وهؤلاء العاصون والمتمرّدون والضّالون، يعطينا القرآن صورة عن موقفهم يوم القيامة ليحذّرنا من أن ننساق في الدّنيا وراءَ مفاهيمهم أو نكون مثلَهم، كي لا نقف موقفهم، ونعيشَ الحِيرةَ التي يتحيّرونها، والحسرةَ التي يتحسّرونها.. وما هي هذه الصورة {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [المؤمنون : 99] ورأى ما بعد الموت، من عذاب القبر وحسابه، ومن الحشر وأهواله، ورأى الموقفَ العظيم يوم القيامة، وأدرك أنَّ ما سمعه في حياته من الأنبياء وأوصيائهم وأتباعهم، حقٌّ وصواب، وأحسَّ بأنَّ العذاب يحيط به من كلِّ جانب، وأنّه صفر اليدين، ليس هناك أيُّ عملٍ صالحٍ في يديه، وكتابُه صفحةٌ سوداء مليئةٌ بالمعاصي، حيث {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف : 49] في هذا الموقف الصعب، ماذا يقول؟ {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99 ـــ 100]، إسمحوا لي بفرصةٍ جديدة، فلقد أعطيتني يا ربّ ستّين سنة أو سبعين، ارجعني وانظرْ ماذا سأفعل؟ يقول ذلك وهو يرى الخسارة أمام عينيه {كَلَّا} لا مجالَ لذلك، هذا هو الجواب {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} لا قيمة ولا اعتبار لكلامه {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] منطقة (برزخ) بين الدّنيا والآخرة، وهناك روايات كثيرة تفيد أنَّ هناك جنَّةً في البرزخ هي مقدّمة لجنّة الآخرة، وأنَّ هناك ناراً مقدّمةٌ لنار الآخرة {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون: 101] في الدّنيا، كلُّ إنسانٍ يحمل نَسَباً معيّناً، هذا يقول أنا ابن فلان، وذاك يقول أنا ابن فلان، أمّا في الآخرة، فإنَّ المسألة تنتهي، تنتهي علاقات الدّنيا النَسَبِيّة، وتبقى علاقة الإيمان والتقوى {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر : 47] نَسَبٌ واحدٌ يبقى، نَسَبُ الأخوّة الإيمانية.. وإنّنا نفهم من الآية السابقة أنَّ العلاقات العائلية إذا هدفت لتحطيم مصير الإنسان المؤمن، فإنَّه لا يخضع لمعايير النَسَب، لأنَّ المسألة، مسألةُ طاعةِ الله وحسابِ الآخرة، وإنَّ علاقته بأهله في الدّنيا تظلُّ متحرِّكة في خطِّ الرعاية والإحسان فحسب، حتّى إذا أراد أهلُه أن يَحْرِفوه عن طاعة الله ترك صلتَه بهم وأبقى على صلته بالله سبحانه. وفي ذلك اليوم {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ*تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 102ـــ 104] ويأتي المؤمنون بأعمالهم الصالحة لينالوا ثوابَ ما عملوا، والمجرمون الذين خسروا أنفسهم إلى جهنّم يدخلون مُسوَدَّةً وجوهُهُم خاسئين.

ويخاطبهم اللهُ مذكِّراً لهم بتاريخهم في الدُّنيا {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ*قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ*رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 105ـــ 107] جَرِّبْنا يا ربّ مرّة ثانية، ونعدُك بألاّ نعود إلى ما كنّا عليه.. ولكنَّ الفرصة فاتت، والمُهلة انقضت {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ*إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 108 ـــ 109] وكان فريقٌ من عبادي يتعبَّدون ويخشعون لي ويدعونني ويبتهلون إليَّ، وكنتم عندما تنظرون إليهم تستهزئون منهم {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون: 110] وليس هؤلاء يسخرون من المؤمنين وحسب، بل أيضاً مَن اتّخذوا صفة الإيمان وتزيُّوا بِزَيِّه يسخرون أيضاً منهم، وخصوصاً إذا ما رأوا الرساليِّين يدافعون عن الإسلام وقضاياه، ويعيشون الحماس الواعي لمشاكل المسلمين والتحدّيات التي تواجههم، فإنّهم يضحكون منهم، لأنَّهم مثلاً لا يتحرَّكون في حياتهم العامّة أو الخاصّة إلاّ بفتوى شرعية، فتدور الضحكات والقهقهات والانتقادات. وهنا نقول لهؤلاء: إنَّ شرف الإنسان المؤمن ألاّ يسير في الحياة إلاّ بفتوى صادرة ممّن يمكن أن يكون محلّ الثقة بفتواه، ألاَ نقرأ في القرآن {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء : 65] وفي الحديث عن النّاس الذين "يُظلُّهم اللهُ تحتَ عرشه يومَ لا ظلَّ إلاّ ظِلُّه، رَجُلٌ لم يُقَدِّم رِجْلاً ولا يؤخِّر أُخرى حتّى يَعْلَمَ أنَّ في ذلك لله رضى"(*) كثيرون هُمُ الذين يسخرون من المؤمنين لالتزامهم ويهزأون بطريقتهم في العمل، وينالون منهم بألسنتهم، هؤلاء لا يريدون إلاّ تجميد الإسلامِ وحركتِه، وهذا ما لا يرضاه الله تعالى لأنَّه سبحانه وعد هؤلاء المؤمنين بالفوز العظيم يوم القيامة على ما عملوه من خير في الدُّنيا {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111] لأنّهم أطاعوا الله وساروا في خطِّه.

ويصوِّر لنا القرآن الكريم المنحرفين عن الخطّ يوم القيامة، كالضائعين الذين لا يفهمون من الأمور شيئاً، ويريد لنا أن نعرف ذلك حتّى لا نستغرقَ في تعظيم شخصياتهم، أو تنطلق كلماتنا في تمجيدهم، فلانٌ ناجحٌ عظيم، وفلانٌ صاحب منزلة وثروة، فننبهر بثرواتهم ومناصبهم. الله تعالى يُعرِّيهم أمامنا، بحيث لا نتصوّرهم إلاّ وهم ضائعون {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون: 112] كم سنةً عشتم في الأرض وامتدّت بكم الحياة {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113] لا يهتدون إلى جواب، وكأنّهم يقولون، يا ربّ لقد عشنا العمر في غفلة، حتّى إنّنا لم نتوقّف أمام أيِّ سنة تمضي، أو أيّ مرحلة تمرّ. وهم عندما يقولون بأنّهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، فلأنّهم لم يعيشوا المسؤوليّة في حياتهم، ولم يحسُّوا بالزمن. ولذا يصوّرهم القرآن بأنّهم كانوا لا يحسُّون بالزمن لأنّهم لم يتحسَّسوا أنَّ وجودهم في الحياة يمثّل المسؤوليّة {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 114] وهذا العمر مهما طال بكم في مرحلة محدودة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ*فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ*وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ*وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 115 ـــ 118].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

19/9/1996م

الصلابة في

وجه التحدّيات

 

الثبات أمام الإغراءات والتخويف

رغم كلِّ المحاولات الرامية لإسقاط عزيمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصدّه عن الدعوة إلى الله تعالى، فإنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يَهِنْ ولم تهتزّ مواقفه. والقرآن الكريم يُظهِر في كثيرٍ من آياته صلابة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في دعوته ومواجهته للمشركين، فيقولُ سبحانه على لسانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر : 64] هذا هو خطاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمر الله للذين كانوا يفكِّرون ويعملون على أن يتوقَّف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن دعوته بإغراءاتهم وتخويفاتهم، ليترك عبادة ربِّه، ولينضمَّ إليهم في عبادتهم للأصنام والأوثان. وهذا الخطاب القرآني موجَّهٌ إلى كلِّ مؤمنٍ موحِّد يتعرَّض للإغراء من جهة، وللإرهاب من جهةٍ أخرى، ليقدّم تنازلاتِه ولينفتح على غير الله من بشر أو حجر. فالنبيّ أو الداعية ينظر إلى النّاس الذين يَعرُضون إغراءاتهم ويعلنون تخويفاتهم، نظرتَه إلى النّاس الخاسرين الجاهلين الذين لا يعرفون الحقيقة، وكيف يمكن ألاّ يجهلَ الحقيقة مَنْ هو جاهلٌ بالله الذي هو سرُّ الوجودِ كلِّه، لأنّه لا وجود إلاّ من خلال وجوده. ولذلك، فالإنسان المؤمن الواعي والعارف، يرى في كلِّ إنسان بعيد عن الله، صورة الإنسان الجاهل الخاسر، وعلى هذا {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وقد عشتُ المعرفة بالله، فكيف يمكن للعارف أن يخضَع للجاهل فيما يريدُه منه؟

ثمّ يتدخَّلُ الأسلوب القرآنيّ في حديث الله لرسوله ليؤكّد التوحيد، وبأنّه هو وحي الله لكلّ الرسل، وأنَّ الله تعالى لا يقبل الشرك من أيِّ إنسان، ولا يقبله، من باب فرض المستحيل ـــ حتّى من الرسل الذين إنْ أشركوا ـــ وهم لن يُشركوا ـــ فسيسقط عملهم. ولذا، قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر : 65] فإذا كان الرسل بهذه المثابة، فكيف بالآخرين؟ فليس بين الله وبين أحد من خلقه قرابة. فالنّاس يَقْرُبون إليه سبحانه بأعمالهم، فرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأنبياء جميعاً والأئمّة (عليهم السلام) إنّما قَرُبُوا إلى الله من خلال سيرهم في خطّه، ولأنّهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 ـــ 27]. يسيرون مع قوله، ويتحرّكون من خلال أمره في أعمالهم كلِّها {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر : 66] الذين يشكرون الله بالعبادة، فعبادةُ الإنسان لله في صلاته وصومه وحجّه وخُمُسه وزكاته ودعائه، هي أسلوبٌ من أساليب الشكر. وإنَّ وقوف الإنسان أمام النِّعَم التي أفاضها الله عليه تقتضي منه أن يخضع لله ويعبدَه ويُخلِص له.

غفلتهم أوقعتهم في معصية الله

ويقول تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر : 67] هؤلاء الجاهلون الذين يساوون اللهَ بغيرِه، ويريدون من النّاس أن يعبدوا غيرَ الله، هل عرفوا قدرتَه سبحانه في عظمته؟ فلينظُروا إلى الأرض في كلِّ رحابتها وسَعتها وفي كلِّ ما فيها من مخلوقات جامدة ومتحرِّكة، نامية أو جارية أو ثابتة، فإنّهم سيدركون أنّها كلّها بيد الله {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي أنّها تحت سيطرته وبأمره {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فكيف أنَّ شيئاً ليّناً تَطويه بيدك بكلِّ سهولة، هكذا هي السموات بكلِّ ما فيها تُطوى بيد الله سبحانه.. فأين هي قدرة البشر من قدرة الله؟ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} مَنْ هم هؤلاء الذين يُشركونهم بالله ويتّخذونهم أنداداً من دونه، مَنْ هم؟ هم خلقٌ من خلق الله، ضِعافٌ لا يملكون من أمرهم شيئاً إلاّ ما ملَّكهم سبحانه. وبعد أن يعيش الإنسان عمره المحدود بعددٍ من السنين، تأتي اللحظة الحاسمة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] الظاهر القرآني يوحي بأنَّ هناك بوقاً يُنفَخ فيه، وذهب بعض المفسِّرين بأنَّ البوق كناية عن الصوت القويّ، فإذا ما انطلق هذا الصوت {فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} وتتجمَّد الحياةُ في الكون كلِّه {إِلَّا مَنْ شَاء اللَّهُ} له سبحانه أن يبقى.. {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} ويعودُ الصوتُ مرّةً أخرى، فإذا النّاس جميعاً بين يديّ الله تعالى.

العاقبة

{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزّمر: 69] ويُطِلُّ النّور الإلهي على الكون {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} وتُنشرُ أعمال كلّ إنسان عملها في الدّنيا {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} الذين أرسلهم الله لِيُقيموا الحجَّة على النّاس وليبلِّغوهم رسالته، ولينذرُوهم لقاءَ يومهم هذا، ويأتي النبيُّون {وَالشُّهَدَاء} الذين يشهدون على أُمَمِهم بما فعلوا وعملوا {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} كلٌّ ينال جزاءه، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشرّ {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر: 70] كلُّ واحدٍ أخذ جزاءه بعد أن وقف للحساب أمام الله الذي أحصى ما عَمِلُوه، {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] وتسوقهم الملائكة إلى جهنّم جماعات جماعات، وتُفتَح أبوابُها لهم من دون أن يسجِّلوا أيّ اعتراض بأنّهم مظلومون، وليس لهم حجّة في ذلك، فقد جاءت رُسُل الله وحذّرتهم من عاقبة هذا اليوم، فكانت الحجّة قائمةً عليهم ولا سبيل لهم لردِّها {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72] وليس الكِبْرُ نوعاً واحداً، فهناك تكبّرٌ على الله أو الناس، أو تكبّرٌ على الحقيقة، وكيفما كان نوع الكِبْر، فإنَّ مثوى صاحبه ومصيره جهنّم خالداً فيها.

وتُقفَل أبواب جهنّم، وجاء دور المتّقين {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] وبكلّ الاحترام تأتي الملائكة بالمتّقين إلى الجنّة، ترحّب بهم في دار السلام، لأنّهم عاشوا السلام مع الله، وكانوا طيّبين في إيمانهم وأعمالهم ونواياهم، وكانوا الطيِّبين في علاقاتهم وأوضاعهم، يحكم كلَّ ذلك تقواهُم، والتقوى هي مخافة الله، حيث يراقب التقيُّ ربَّه في سرِّه وعلانيّته، حتّى لا يَفْقُدَه اللهُ حيث أمره ولا يَجِدَه حيث نهاه. وعندما ينال المتّقون ثواب الله ورحمته يفرحون بما آتاهم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] فرأوا جمالَ الجنّة ونعيمها بما يفتح العقل والقلب والإحساس والشعور، فحمدوا الله على نِعَمه حيث صَدَقَهُم وعده وبوّأهم مقاعد الصّدقِ ينعمون فيها.

فأهل النّار دخلوا النار، وأهل الجنّة دخلوا الجنّة.. وماذا بعد {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75].

فلننفتح على هذا الجوّ، ولنراجع حساباتنا مع الله، من أجل أن نمحوَ السيّئات بالتوبة {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر : 20].

 

9/9/1993م

الخوف من

مقام الله

 

ما قيمة ضعفكم أمام قوّة الله؟

يخاطبُ القرآنُ الكريم الذين يتمرّدون على الله ويتكبّرون عليه ويتحرّكون بعيداً عن مواقع رضاه: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء} [النازعات : 27] أيُّها النّاس الذين لا تقفون مع الله سبحانه وقفةَ الإنسان الذي يخاف ربَّه ويخشعُ لعظمة ربّه، ما هو حجمُكم، حجمُكم في الجسد، وحجمُكم في المعرفة أمام علم الله؟ إنَّكم لا تستطيعون أن تحصلوا على المعرفة إلاّ بما تصلُ إليه أبصارُكم، وتتحرّك فيه حواسُكم، ولذا، ما هي قدراتكم وقوّتكم أمام قوّة وقدرة الله؟ {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} ارجِعوا إلى خَلْقِكم، وانظروا في نقاط ضعفِكم، إنَّ الشوكة تُدميكم، وقبضة التراب في الأرض اللاهبة تُحرق أقدامكم، إنَّ أقلَّ شيء في هذا الوجود يمكن أن يُنهيَ حياتَكم، فالبَقَّةُ تُؤلمكم والشرقة تقتلكم، مَنْ أنتم لكي تتمرّدوا على الله؟ {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء} انظروا إلى السماء بكلّ ظواهرها هذه التي بناها في عالم غَيبِه، ونَثَر كواكبها في الفضاء، هل أنتم أكبر منها، وما حجمُكم بالقياس إلى حجمها؟ {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا*رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 ـــ 28] رفع بناءها بكلّ العناصر التي تجعلها متماسكة، فسوَّاها بالطريقة التي تحقّق لها كلّ ما يريده من حكمةٍ في خلقها، ومن نظامٍ في وجودها وحركتها وبقائِها {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 29] جعل ليلها خفيّاً من خلال هذا الظلام، ثمّ أضاءها بالشمس التي تُشرِق على الكون {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] مهَّدها لكم حتّى تستطيعوا أن تعيشوا فيها {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31] فجَّر لكم هذه الينابيع هنا وهناك حتّى تستمرَّ حياتُكم، وأنبتَ هذا العُشب وكلَّ ما يمكن أن يقتاتَ منه الإنسان والحيوان {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] وتطلَّعوا إلى هذه الجبال كيف أرساها على هذه الأرض التي لا قرار لها، وأعطاها قوانينها فحفظ توازنها. فهذه الأرضُ والينابيعُ والمراعي والجبالُ جعلها الله {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 33] تلك هي الدّنيا التي تعيشونها في أرضها وسمائها وجبالها ومائها ومرعاها ومتاعها وزينتها، تنطلقون بها وتنطلق بكم.. ولكنْ، ماذا بعد ذلك، هل هناك خلودٌ؟ هل تَخْلد في هذه الدّنيا أيُّها الإنسان الذي ترى نفسَك أنَّك في الموقع العظيم؟ وهل تبقى هذه الجبال والمراعي؟ وهل تبقى هذه الأرض والسموات، كلُّ ذلك مجرَّدُ مرحلة {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات: 34] هذا الحدثُ العظيم الذي يطمُّ كلَّ شيءٍ تحتَه، لا يبقى هناك شيء {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم : 48] وأمّا الجبالُ بضخامتها {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً*فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً*لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} [طه: 105 ـــ 107] وهكذا {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} وكان الإنسانُ قد عاش مع أحلامِه ولذائِذه وشهواته، واستقامَ في بعض حياته وانحرفَ في بعضها الآخر، أطاع الله هنا وعصاه هناك، آمن به في فترة وكفر به في أخرى {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى} [النازعات : 35] أنتَ الآن غافلٌ عن سعيك وعملك، هل يُدخلك الجنّة أم النّار؟ ماذا عملت، وما نظامُ عملك وخطّ عملك ونهايات عملك؟ هل فكّرت بذلك؟ أم أنَّ الأمر عندك، أنْ تأكل وتشرب وتتلذَّذ وتشتهي؟ هل منّا مَنْ يقفُ في كلِّ صباح ومساء ليتذكَّر ما سعى؟ كم لنا من السعيِّ في كلِّ يوم، ما هو عددُ كلماتنا فيما يُرضي اللهَ أو يُسخطه؟ كم نتحرّك في أيدينا وأرجلنا وألسنتنا فيما نرى فيه مصلحةً للإيمان أو مصلحةً للشيطان؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر : 18] أنْ تنظر هذه النّفس لغد الآخرة، للغدِ الذي تقفُ فيه بين يديّ الله، حيث سيسألُها الله عن كلِّ ما قدَّمَتْ، وستقرأ كتابها عندما يُوجّه إليها السؤال عن كلِّ ما عملت {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى}.

يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون

ويقف النّاسُ جميعاً في هذا اليوم {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} [النازعات : 36] وفي يوم القيامة تبرُز الجحيمُ واضحةً، وتنطلقُ الصَرخات {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء} [الأعراف : 50] ومن أين لهم أن ينالوا ذلك وقد كانوا يسخرون منهم ويضحكون عليهم ويستهزأون من إيمانهم بالله واليوم الآخر {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد : 13] وها هي النتائج {فَأَمَّا مَن طَغَى} الطغيان كلمةٌ نُطلقها عادةً على الحاكمين المستكبرين، ولكنَّ المقصود منها هنا، تجاوز الحدَّ {فَأَمَّا مَن طَغَى} [النازعات : 37] أي تجاوز الحدود التي رسمها الله للإنسان فيما يجب أن يأخذ به، أو فيما يجب أن يتركه، فالله تعالى حدَّ لنا حدوداً، حدَّ لنا الحلال، وقال للإنسان: اشرب ما تشاء، ولكن لا تشرب الخمر، وكُلْ ما شئت ولكن لا تأكل كلَّ ما حرَّم الله {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} [البقرة : 173] وهكذا أيِّد مَنْ شئت وارفض مَنْ شئت، ولكن بشرط أن يكون هذا التأييد في خطِّ رضى الله سبحانه، فالله وضع للحلال والحرام حدّاً {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة : 229] الذين يتجاوزون الحدَّ ويحرّكون شهواتهم فيما يُغضب الله.

ومن هنا، فإنَّ القرآن الكريم لم يمنع التمتّع بالمشتهيات، لكن ضمن الحدود التي رسمها الله تبارك {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 32] "فالدُّنيا إذا أقبلت فإنَّ أحقَّ الناس بها أخيارها لا أشرارُها وأبرارُها لا فجَّارها" ولذا، "فليس الزهد ألاّ تملك شيئاً ولكنّ الزهد ألاَّ يملكك شيء"(*)، وعليه، فإنَّ الله لم يحرِّم علينا طعاماً أو شراباً أو لذّة أو طيِّبات ضمن الحدود المرسومة.

"فأمّا مَنْ طغى" وفي يوم القيامة يسأل هذا الذي تعدّى حدود الله، عن تاريخه فيما قضاه وعن مواقفه ومأكله ومشربه ولذائذه {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف : 49]، وهذا الذي طغى يُسأل عن تاريخه، فإذا كان منطلقاً على أساس تجاوز الحدود التي رسمها الله له {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات : 38] فالذي يُقدّم الدُّنيا على الآخرة هو الذي تعدّى حدود الله مُؤْثِراً الدُّنيا على الآخرة، أمّا المؤمن، فإنَّه يردّد مع الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه: "اللّهم ومتى وقفنا بين نقصين في دين أو دنيا فَأوْقعِ النّقصَ بأسرعهما فناءً واجعلِ التوبةَ في أطولهما بقاء"(*) قلْ: يا ربّ اجعل النقص فيما يزول، واجعل التوبة والثبات فيما يبقى "وإذا هممنا بهمّين يُرضيك أحدُهُما عنَّا ويُسخطك الآخرُ علينا. فَمِلْ بنا إلى ما يُرضيك عنَّا، وأوْهِنْ قُوَّتنا عَمَّا يُسخطك علينا، ولا تُخَلِّ في ذلك بين نفوسنا واختيارها، فإنَّها مختارةٌ للباطل إلاّ ما وفَّقتَ، أمّارةٌ بالسُّوءِ إلاّ ما رحمت"(**).

إذاً {فَأَمَّا مَنْ طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 ـــ 39] فهذا الذي طغى وتجاوز في تاريخه وحياته حدودَ الله، وكانت الدّنيا همَّه دون الآخرة، يُقال له: لقد حفروا لك في الآخرة مكاناً ملتهباً بالنيران، تجتمع فيه مع أصحابك في الدُّنيا ممّن كانوا من الطَّاغين والمستكبرين.

 

مقاومة النّفس الأمّارة بالسوء

هذه هي نهاية هؤلاء، وهناك نهايةٌ أخرى لمن يقفون معهم على طرفي نقيض {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] فقد عرف الله في عظمته ونعمته، وهو من المؤمنين {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] فمن خاف مقامَ ربِّه فيما يُقْدِمُ عليه بين يديّ ربِّه، خاف من سخط الله وغضبه، لذلك {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} يقفُ بينه وبين نفسه عندما تخاطبه: إنّني أشتهي المالَ الحرام، فاسرُقْ فلاناً في غفلاته، وانطلق في التجارة الحرام، وكُلْ أموال الناس بالباطل، فيجيبها: يا نفس، إنّي أخاف الله، وأنتِ عندما تطلبين منّي القيام بالشهوة الحرام التي يهتزّ لها الإحساس ويرتاح لها الجسد، فمعنى ذلك أنّك تدفعين بي للاحتراق في نار جهنَّم {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} [النساء : 56] ما قيمة هذه الشهوات، أمام ما سيعانيه الجسد من عذاب وآلامٍ في يوم القيامة؟ وهكذا، فليحدّث الواحدُ منّا نفسه حديثاً موضوعياً على الدوام، فإذا طلبتْ منه النفس شيئاً فليدرسْ طبيعة هذا الشيء من ناحية الأرباح والخسائر، لا على مستوى الدّنيا وحسب، بل على مستوى الآخرة. ادرسْ مع نفسك ذلك، لأنَّ النفس أمّارة بالسوء واطلبْ رحمة الله في ذلك، وقل: "اللّهمَّ أَعِنِّي على نفسي بما تُعين به الصالحين على أنفسهم"(*) إِنْهَ نفسَك عن الهوى المحرّم، ولكن ليس معنى ذلك أنْ تخنق نفسك في كلّ ما تشتهيه، أطْلِقْ لنفسك شهوتَها ولذَّتَها في الحلال، وعندما توجّهها نحو الحلال في لذّتها، أطلق لها شهوتها ولذّتها في هذا الحلال، وعندما توجّهها نحو الحلال في لذّتها، فإنَّك تصرفها عن الحرام فيما تريده، والله تعالى يثيبك على ذلك، وقل لمن يريد أن يوقعك في المعصية: {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام : 15] قل لمن يريد أن يَشْغَلَك عن ربِّك في ذلك: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات : 41] هذا ما تناله عندما تعيشُ الاستقامة في طريق الله، فلا تستحضر إلاّ اللهَ وَحْدَهُ في كلّ حركتك، فلا تخضع لأحدٍ في معصية الله، كما قال الإمام عليٌّ (عليه السلام) عن المتّقين "عَظُمَ الخالق في أنفسهم، فَصَغُرَ ما دونه في أعينهم"(**) فلم يروا شيئاً إلاّ ورأوا الله معه وبعده وقبله.  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وحده المالك

 

تساؤلات للوصول إلى الحقيقة

يتميَّز الأسلوب القرآني في حديثه عن تركيز العقيدة في النفس بإثارة أسلوب التساؤل الذي يدفع الإنسان ليقف أمام الكون بكلِّ ظواهره على أساس أنَّ هناك مَنْ يسأله عن خالق كلِّ الظواهر الكونية، فيقول سبحانه وتعالى: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ*قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ*سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ*قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون : 84 ـــ 89] لا بدَّ لكلّ إنسانٍ عندما يُطرَح عليه سؤال، أو عندما يَطرح على نفسه سؤالاً أن يطوف بعقله في كلِّ الاحتمالات التي تصلُح أن تكون جواباً على هذا السؤال أو ذاك، ثمّ يبدأ لينفي هذا الاحتمال أو ذاك، لتقفَ النتائج على الجواب الحاسم الذي ما بعده احتمال. هنا، عندما يقف الإنسان على الأرض ويرى ما فيها من مخلوقات حيّة كجنسه من بني البشر، أو من حيوانات أو حشرات موجودة على الأرض أو في الهواء وفي أعماق الأرض والبحار، أو من نبات يملك حياة النموّ وإنْ لم يملك حياة الوعي، ويرى الجمادات من صخور وجبال، والماء الذي يتفجَّر من الينابيع ويتحوّل إلى أنهار وبحار، ويرى الكواكبَ من شمسٍ وقمر وما إلى ذلك. وبعد هذا التطواف يتساءل: لمن الأرض؟ هل هي لهذا الزعيم ولذاك الرئيس؟ هذا لا يملك الأرض، ولا يملك تكوين الأرض، وإنّما يملك سلطة فيها. هل هي لتلك القوّة أو تلك؟ يأتيه الجواب بالنفي. وتسطعُ أمامَه الحقيقة، لتجيبَه بأنَّ الأرض ومَنْ وما فيها هي لله الذي خلق كلَّ شيء. وبعد أن يقتنع من خلال جولته الفكريّة بأنَّ الأرض وكلّ ما فيها هي لله وليس لغيره، أفلا يتذكّر ما هي مسؤوليّته؟ فإذا كان هو وما مَنْ حوله لله، ألاَ يتذكّرُ ربَّه ومسؤولياتِه أمامه؟ لماذا يبقى غافلاً وناسياً لِما أمره به سبحانه ولِما نهاه عنه. فالإنسان عندما يواجه الحقيقة الإلهيّة من خلال ما يعيشُ في الأرض ممّا يثبُت ويتحرّك، فإنَّه لا بدَّ أن يشعر بأنَّ الله لم يَخْلُقه عبثاً، ولذا عليه أن يعرف موقعَ ربَّه من نفسه، وموقعَه من ربّه ليحدّد لنفسه من خلال ذلك كيفيّة تحرّكهِ وسيرِه على هُدى الله {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وإذا قالوها قل {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} لماذا تعيشون الغفلة عن الله تعالى {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} مَنْ الذي خلق السموات وما فيها من كواكب وعوالمَ ومخلوقات، مَنْ هو ربُّ العرش العظيم؟ مَنْ؟ وهنا يطوف ذهنُك من جديد لتقول، فلانٌ ربُّ السموات، فلانٌ ربُّ الأرض، ويطوف مع ذهنه، كما طاف إبراهيم (عليه السلام) في جولته الذهنية والفكريّة {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ*فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ*فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ*إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 67 ـــ 79]. وعند ذلك عرف ربَّه، وأدرك أنَّ كلَّ كبير مهما كانت عظمته فليس هو الله، ولا يمكن أن يكون ربّاً للإنسان أو للكون.

نداء الفطرة

وهنا تنطلق فطرة الإنسان من أعماقه لتصرُخ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} إذا كان الله سبحانه بهذه العظمة وهو ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم، وهو ربُّ الأرض ومَنْ فيها أفلا يدفعكم ذلك إلى أنْ تخافوا هذا الربَّ من موقع عظمته وقدرته وحكمته، ومن موقع علمه وتدبيره، ألاَ يُشعركم ذلك بالتضاؤل والتصاغر أمامه {أَفَلَا تَتَّقُونَ} ألاَ تحسبون حسابَه في أعمالكم وتخافون عقابه عندما تنحرفون عن خطِّه وتبتعدون عن أوامره ونواهيه؟.

ويعود السؤال مجدّداً {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} كان التساؤل في البداية {لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا} وثانياً {مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وثالثاً {مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ولن يأتيك جواب الحقيقة إلاّ بأنَّ الله وحده هو الربُّ والخالق والقادر والمهيمنُ على الأمر كلِّه لا سواه، فكلُّ شيءٍ مخلوقٌ ومملوكٌ له {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فهو سبحانه الذي يُغيث ولا يستطيع أحدٌ أن يُغيثَ منه، وهو وحده يكفي ولا يقدر أحدٌ أن يكفيَ منه، ووحده الذي ينصر، ولا ينتصر أحدٌ منه على الإطلاق، وهو تعالى الذي يحمي ويُجير برحمته مَنْ يشاء، ولا يستطيع أحدٌ هاربٌ منه سبحانه أن يُجيره أحدٌ آخر..

وبعد سيل هذه التساؤلات يكون الردّ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ليس هناك غير الله مَنْ يملك كلَّ شيء، لأنَّ الناس الذين يملكون إنَّما يملكون ما ملَّكهم الله {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} فإذا انجلت الحقائق أمامكم وأدركتم بأنَّ الله بيده مُلْكُ السموات والأرض، وبأنّه يُجير ولا يُجار عليه، فكيف تتعامون عن الحقيقة وتتصرّفون عن الله إلى غيره بفعل السّحر الذي يترك تأثيره على وعيكم وبصائركم.

وقد ألقى الله تعالى عليهم الحجّة من خلال عقولهم التي يجب أن تُدرك الحقَّ، وكان ذلك ببعث الأنبياء الذين حملوا إليهم رسالة الحقّ من خلال وحي الحقّ {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون : 90] فيما يتحدّثون به وما يعلنون من الكفر والشرك {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون : 91] وهنا يدخل القرآن الكريم في إبراز معتقدات التيّارات المضادّة التي جعلت لله ولداً شريكاً له.. وما حاجة الله إلى الولد؟ البشر هم بحاجة للولد لأنّه يمثّل امتداداً وقوّة لهم، أمّا الله الذي خلق الكون كلَّه فما حاجته للولد؟ {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} فلو كان معه شريكٌ {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} ولكان لكلّ إله موقعه وعظمته ولوقع الصراع وخرَّب الكون {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ولكنّنا نرى أنَّ المخلوقات كلّها تخضع لإله واحد، وليس هناك علوٌّ لإله على إله، لأنّه لو كان هناك علوٌّ لفسدت السموات والأرض، ولكنّنا نرى السموات والأرض في منتهى الصلاح والدقّة من ناحية الخلق {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} عمَّا يصفون له من الولد أو الشريك {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون : 92] هو الذي يعلم الغيب كما يعلم الحسَّ ويعلم الشهادة، لأنَّ كلّ شيء حاضرٌ أمامه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك : 14].

فالإنسان الواعي الذي يعي التصوّر الحقيقي عن الله، هو الذي يختزن في داخل نفسه عظمة الله من خلال دراسته لطبيعة الكون، وإذا اختزن في نفسه ذلك تذكَّر الله واتّقاه وانفتح عليه، وعندما تمتلأ نفسُه بالله، فُرِغت من كلِّ شيء غيرِ الله سبحانه وتعالى، وهذا هو المعنى والأساس في قوّة إيمان المؤمن، والقاعدة في توازنه وتربية عقله وشخصيّته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

24/12/1992م

المثل الصالح

 

الإخلاص الإبراهيميّ

في القرآن الكريم دعاءٌ لنبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) إلى الله تعالى، يقول فيه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء*رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 40 ـــ 41] يدعو إبراهيمُ (عليه السلام) بهذا الدعاء عندما ركَّز قواعدَ البيت الحرام في مكّة، حيث يترك أهلَه هناك ويُفارقُهم. وقد انفتح على الله بعقلِه وقلبِه ليدعوه في خصوصيّاته وفي كلّ القضايا العامّة التي يفكّر بها. فكان يستولي على تفكيره بأنْ يجعله الله مقيم الصلاة. فهو نبيّ الله الذي عرف اللهَ معرفةً واسعةً شاملة، منطلقة من الفكر والتأمّل ومن لطف الله عليه في ذلك. وكان (عليه السلام) يشعُر ومن شدّة صلته بالله وقُربه إليه بالدّالة عليه سبحانه، باعتبار أنَّ الله اتّخذه خليلاً، فهو يتحدّث مع الله كما يتحدّث الحبيب لحبيبه، ولذا ورد في القرآن قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة : 260] فإيمانُ الحسّ إلى جانب الغيب يعطي القلب استقراراً وطمأنينة وسكوناً، بحيث لا يمكن أن يُفسح المجال لأيّة خاطرة من خطرات الوهم والشكّ أن تدخل إلى القلب. ويحدّثنا الله تعالى عن إبراهيم (عليه السلام) {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل : 120] وهو النبيّ الذي أسلم بكُلِّه إلى الله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131] فلم يكن عنده لنفسه شيءٌ، فكلّ ما عنده لله سبحانه، حتّى إِنَّ القرآن أخبرنا بأنَّ صفة المسلمين التي نتّصف بها، إنّما انطلقت من إبراهيم (عليه السلام) {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} [الحج : 78] فهو خطٌّ لكلِّ مَنْ جاء بعده من المسلمين والمؤمنين في كلّ الديانات {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} وفي ذلك ردٌّ على اليهود والنصارى الذين ادّعوا انتساب إبراهيم إليهم {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً} [آل عمران : 67]. والقرآنُ عندما يُثير الحديث عن إبراهيم (عليه السلام) فلكي يوحي بالقيمة الكبيرة لإبراهيم عند الله {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء : 125] وتلك صفةٌ عظيمةٌ لإبراهيم (عليه السلام) أنْ يتّخذه سبحانه خليلاً له.

طلباً للصفاء والنقاء

وهنا يقابل إبراهيم ذلك بمحبّته العظيمة لله تعالى فيطلب من ربّه {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ} [إبراهيم : 40] باعتبار أنَّ الصلاة تمثّل مظهر العبودية الخالصة لله سبحانه، حيث يركع ويسجد الإنسان فيها ويقف بين يديّ الله بكلّ الاستسلام. فالسجود يمثّل المظهر الحيّ للخضوع الكامل، حيث يطرح الإنسان نفسَه أمام الله بعيداً عن أيّ عنفوان وكبرياء. ولذا، ورد في المأثور أنَّ الإنسان أقرب ما يكون إلى الله وهو ساجد، ومن هنا يُستحب للإنسان أن يطلب حوائجه من ربّه عند السجود. وقد ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خطبته التي يستقبل بها شهر رمضان "إنَّ ظهوركم ثقيلة فخفِّفوا عنها بطول سجودكم، فإنَّ الله أقسم بعزّته ألاَّ يعذّب الساجدين يوم يقوم النّاس لربّ العالمين" والصلاة أيضاً هي معراجُ روح المؤمن إلى الله، فنحن لا نعرجُ إلى الله بأجسادنا، بل بأرواحنا، ولذلك يجب أن نعيشَ في الصلاة حالة التوجّه الكامل إلى الله، بعيداً عن أحقادنا وضغائننا، لنفتحَ له قلوبنا، نشكو إليه همومنا ولنغسلها من كلّ الأدران والموبقات، حتّى تكون صلاتنا الحِصن الذي نلجأ إليه، الذي يصدّ الفحشاء والمنكر عن الدخول إلى هذه القلوب {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت : 45] وقد ورد أنَّ الإنسان إذا صلّى صلاة مقبولةً، فإنّه يُغفر له ما قبلها من ذنوب {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} [هود : 114]. وقد جاء في بعض التفاسير أنَّ الحسنات هي الصلوات التي تُذهب ما قبلها من السيّئات. ونلاحظ أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: "حُبِّب إليكم من دنياكم ثلاث، الطيب والنساء وقُرّة عينيَ الصلاة"(*) فذكر الأمرين الأوّلين بشكلٍ طبيعي، وعبَّر عن الصلاة بقرّة العين، أي أنَّ هذه الصلاة التي نتوجّه فيها إلى ربّنا في هذه الدّنيا هي قرّة العين التي يشعر فيها الإنسان بالسعادة. وبعبارةٍ أخرى، تُقَرُّ العين بالصلاة، حيث تنفتح نفسُ الإنسان على خالقها فترتاح وتطمئن بما تشعرُ فيه من سعادة ورضىً. وعلى هذا، فالذين لا يصلُّون هم الذين يعيشون ظلمة العقل والروح والقلب والحياة، فهم في ظلماتٍ من أوهامهم وأنانيّاتهم وكبريائهم وجحودهم، ولو نَفَذْتَ إلى داخلهم لرأيت أنَّ هناك ظلماتٍ فوقها ظلمات، لأنّهم لم يستضيئوا بنور الله، ولم يعيشوا إشراقةَ المحبّة لله والمعرفةِ به سبحانه، لهذا، من الصعب أن تجدَ صفاء الخير في مَنْ لا يصلّي، لأنَّ الصفاء والنقاء لا يحصلان عند الإنسان إلاَّ من خلال التوجّه إلى الله تعالى.

إبعاداً لذرّيتنا عن النار

وهذا ما طلبه إبراهيم (عليه السلام) من ربّه بأنْ يجعلهُ مقيمَ الصلاة {وَمِن ذُرِّيَّتِي} فهو (عليه السلام) يطلب كذلك من الله أن يجعل ذرّيته ممّن يقيمون الصلاة. ودعاء إبراهيم يعطينا إيحاءً مهماً وأساسياً في مسألةِ علاقتِنا وعلاقةِ ذرّيتنا بالله تعالى، فنحن عندما نفكّر بمستقبل أولادنا، علينا أن نفكّر بمستقبلهم الذي يرتبطُ بالله في وعيهم وشعورهم وحياتهم. لنا أنْ نفكّر بمستقبل ولدنا أو ابنتنا، ومن حقّنا ذلك بل من واجبنا، ولكنْ أوّلُ خطواتِ هذا المستقبل، هو أن نفتح عقل الواحد منهم وقلبَه على الله، بحيث نعرّفه ربَّه، ونركّز علاقته به سبحانه من خلال الصلاة. فكما نحن مسؤولون عن أنفسنا في خطِّ البُعد عن النار كذلك نحن مسؤولون عن أولادنا في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم : 6] ولذا، لا بدَّ للإنسان أن يُربّي ولدَه على الصلاة حتّى يكون من الذين يتحرّكون في اتّجاه إيحاءاتِ الصلاة، فيعيشُ مع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنّة الإطلالة على مَنْ في النار وسؤالُهم {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ*عَنِ الْمُجْرِمِينَ*مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ*وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ*حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ*فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدّثر: 40 ـــ 48].

الأمل بقبول الدعاء

وبعد ذلك يطلب إبراهيم (عليه السلام) من ربِّه بعد أن يجعلَه وذرّيته من المصلّين {وَتَقَبَّلْ دُعَاء} فإنّي محتاجٌ إليك في كشف همومي وغمومي وإزالة المشاكل والصعاب من طريقي.. وهذا ما يتوجَّه فيه المؤمن إلى الله على الدوام متوسّلاً إليه مستغيثاً به، لأنَّ ثقته به لا بغيره {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] ولأنَّ المؤمن لا يُخرِج نفسَه عن حدِّ التقصير، فإنَّه يطلب من ربِّه ألاَّ تَحولَ ذنوبُه بينه وبين استجابة الدعاء، فيلحّ عليه بالطلب ليرحمه ويلطف به ويقضي حوائجه.

ويتجدَّد الدعاء الإبراهيمي {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} علَّمنا الله تعالى أنْ نستغفر لوالدَيْنا ونطلب لهما الرحمة لما قدّماه من تضحية وبذلٍ في سبيل رعايتنا، وقد جعلهما الله سرَّ وجودنا بشكلٍ مباشر بعد أنْ كان هو سرَّ الوجود كلّه {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} كلّ المؤمنين {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم : 41] قد يختلف المؤمنون مع بعضهم البعض، في أمور الدّنيا أو في أمور الفكر، ولكنَّ الله تعالى لا يريد لهم أنْ يحملوا الحقد في نفوسهم وقلوبهم على بعضهم البعض، لأنَّ المشاكل التي قد تطرأ بينهم قد تأتي من خلال وساوس الشيطان وتهاويله. وهذا ما يجب أن نتنبَّه له، فإذا ما اختلف مؤمن مع مؤمن لأنَّه يخالفه في نظرته الفكريّة أو الاجتماعية، أو في أسلوبه، وعاش الحِقْدَ بينهما، فإنَّهما ينشغلان ببعضهما بحيث يدمّران واقعَهما، والعدوّ واقفٌ يقهقه ضاحكاً من حولهما.

ومن هنا، علينا أن نحمل بعضنا على الأحسن دائماً لا على الأسوأ، لأنَّ الشيطان يقفُ في دروبنا {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} [الأعراف : 16 ـــ 17] سأشغلُ لهم فكرهم وهم يُصلُّون، سأُربك واقعَهم حتّى وهم يدعون إلى الله.. هذه روحيّةُ الشيطان التي يجب أن نُسقطها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات : 12] والمؤمنون الذين هم أهلُ الجنّة، صفتُهم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر : 47] وينبغي على الإنسان أن يجاهد نفسه ويحاسبها، وينظّف عقله وقلبه، لأنَّ الشيطان سوف يتحرّك بكلّ أساليبه ووسائله وَخيله ورجله وأشياعه وأتباعه في سبيل أن ينحرف بنا عن الخطِّ المستقيم، ويمزّق العلاقات بين المؤمنين التي إذا تمزّقت صار بعضُهم يشكُّ في بعضه ويسبّه ويتّهمه ويعطّل حركته. وبهذا يتلوّث القلب ويتّسخ ويحقِّق الشيطان أمانيه وآمالَه من خلال حِقدنا وبغضائنا. ولذلك، نحن بحاجة إلى أن نغسل قلوبنا من الحقد والكيد لبعضنا كما نهتمّ بغسل ثيابنا. وهذا أبو العلاء المعرّي يقول:

ثوبيَ محتاجٌ إلى غاسلٍ                   وليتَ قلبي مثلُه في النَّقَاءْ

فلنتعلّم أنْ نفتح قلوبنا للمؤمنين بحيث نستشعر أنّ إيمانهم يمثّل القيمة العالية في واقعنا، لا أنْ ننساق وراء غرائزنا ونتحدّثَ بما لا يرضاه الله، فنفضّل الكافرين على المؤمنين، تماماً كما يقول البعض، المؤمنون ليس لهم دين، أخطأوا في كذا وفعلوا كذا، فيمكن أن يكون الكافرون أفضل منهم. بعض النّاس يعيشون هذا المنطق غير السليم، والله تعالى يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 ـــ 36] ربّما كانت هذه المسألة غائبةً عن أذهاننا ونحن ننالُ من بعضنا، ولذا، فإنَّ إطلاق الاتهامات وتحكيم الظنّ السيّئ والحكمَ بغير علم، أمرٌ لا يجوز من الناحية الشرعية، والله تعالى سيحاسب مَنْ يعيش هذه الذهنية. ومن هنا، فإنَّ الواجب يحتّم علينا أن نجعل دروبنا دروباً آمنة، وعلاقاتنا علاقاتٍ منفتحة وواعية، حتّى نملك الموقف الموحّد الذي نستطيع بواسِطته أن نقفَ أمامَ أعدائنا وأعداء الله من موقعٍ واحد وموقفٍ واحد، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات : 10] حتّى نحميَ ساحتنا ونمنع اختراقها والقضاء عليها، وهذا لا يكون إلاَّ من خلال محبّة وقوّة الإيمان بين المؤمنين. وممّا جاء في الرواية أنَّ أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) رآه صاحبٌ له يدعو في يوم عرفة وعيناه كعلقتي دم من الإحمرار بسبب البكاء، وبعد أن انتهى من دعائه، قال له: رأيتُ مظهراً حسناً فيك، فأتمنّى أن يحصل لي هذا الخشوع، فلعلّك دعوتَ لنفسك فيما يهُمّك. قال: لا والله، ما دعوتُ إلاّ لإخواني، وقد قال سيّدي الإمام الصادق (عليه السلام): "إنَّ المؤمن إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، قالت له الملائكة: ولكَ مثلاه"(*) فدعاؤك لأخيك بأنْ يغفرَ اللهُ ذنبه ويقضيَ حوائجه ويخفّف عنه أحزانه، فإنَّ ذلك يُدخل المحبّة إلى قلبك، وتشتدّ العلاقة بينك وبينه.

فلنحاول أن نقتديَ بسيرة الأنبياء (عليهم السلام) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ولنرفع أيدينا إلى الله كما رفع إبراهيم (عليه السلام) يديه {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم : 41] اجعلنا نقف بين يديك مغفوراً لنا، حتّى لا تُثقل علينا الحساب، ولا نواجهَ في الآخرة الخوف من عذابك ونارك.. هذا هو دعاء إبراهيم (عليه السلام) ودعاء كلِّ مؤمن، فهل لنا أن ننطلق في هذه الاتّجاه؟

 

 

 

 

14/4/1994م

العمل

للقاء الله

 

وعي الإنسان لمسؤوليّته أمام الله

يريد اللهُ تعالى للإنسان أن يحسمَ أمرَه في تقرير مصيره فيما ينتظرُه في المستقبل عندما يلتقي في الآخرة مع حساب الله، ويريدُ للإنسان أن يكون واقعياً في وعيِه لمسؤوليَّته، ولكلِّ ما يعانيه في حركة المسؤوليّة. ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 5 ـــ 6] فإذا كان الإنسانُ يرجو لقاءَ ربِّه، لأنّه يؤمنُ بالله واليوم الآخر، ويرى أنَّ لكلِّ مخلوقٍ أجلاً لا بدَّ أنْ يَبْلغه صاحبُه فيما قُدِّر له، فإنَّ عليه أن يستعدَّ ويتهيّأ لأجلِه، ويوحي لنفسه على الدوام عندما يُصبح ويُمسي بأنَّ أجَلَ الله لآت. فالأجل قد يأتيه صباحاً أو مساءً، وقد يأتيه نائماً أو في حالة اليقظة. ولذا، عليه ألاَّ ينسَى أجله، لأنّه إذا نسيَه أطالَ أملَه ونسيَ عملَه. والإنسان الواعي لمسؤوليّاتِه أمام الله، يعرف أنَّ هناك حساباً ينتظره، وأنَّ هناك عقاباً أو ثواباً سينالُه، أمّا الإنسان الذي ينسى الموتَ والآخرة، فإنَّه يترُك العمل ويفكِّر في العمر والأمدِ الطويل، ويؤخِّر عمل اليوم إلى الغد، وعملَ الغدِ إلى ما بعدَ الغدّ.

وعلى هذا {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ} في أيّ وقت {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} وهذا الأجلُ لن يَضِيعَ وسيأتي فيما قدَّره الله {وَهُوَ السَّمِيعُ} الذي يسمع كلَّ كلماتِكم {الْعَلِيمُ} الذي يعلم كلَّ نيّاتِكم وأعمالِكم وعلاقاتِكم. وإذا كان سبحانه يسمع كلَّ شيء، فكيف تتكلّمون بكلامٍ لا يرضاه؟

وإذا كان سبحانه يعلم كلَّ شيء، فكيف تُفكِّرون فيما لا يرضاه وتعملون ما لا يرضاه؟

{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ} فعليه أن يستعدَّ للقائِه لأنَّ أجلَ الله سيأتي، ومَنْ كان يعرفُ أنَّ الله هو السميعُ العليم، عليه أنْ يتحفَّظ في أفكارِه وأعمالِه وخطواتِه وعلاقاتِه، ولا يُقْدِم على أيّ أمر لا يُرضي الله سبحانه وتعالى {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} فمن جاهدَ في عمله ونشاطه وفكرِه وعبادتِه، فإنَّ عليه ألا يُمَنِّن ربَّه في ذلك، بل عليه أن يعتبر أنَّ عمله الذي يعمله، فإنَّ مردوده لنفسه وعلى نفسه {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الزمر : 41] فإذا جاهدتَ في الخير والعبادة والعلم فإنَّك تجاهد لنفسك، وحاول أن تزداد ممّا تعمل لتزيد حصّة نفسك من ثواب الله ورضوانه {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت : 6] فالله لا يحتاج إلى صلاتكم لتزيد صلاتكم في مُلكه، ولا إلى حَجّكم وصومكم ليرفع ذلك من شأنه، ولا إلى زكاتِكم وخُمُسِكم ليزيد ذلك في ماله. فالله تعالى خلَقكم وخلقَ ما تُرْزَقُون وما تنتجون، فكلّكم لله وكلُّ ما عندكم لله، فما حاجة الله بكلِّ ما تقدّمونه؟ فالإنسان ما يعمل من خير أو شرّ يراه، فهو يَجني خيرَه ويجني شرّه، وهو يحملُ على ظهره جنّته حيث يصنعُها من خلال عمله، ويحمل على ظهره نارَه من خلال ما يُحرِق به حياته بسبب العمل الذي يُقدِم عليه.

ثواب الله ورضاه

وينطلق الخطاب القرآني بالبشرى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 7] أيُّها النّاس، آمنوا بالله، فالإيمانُ بالله هو حقيقةُ الحقائق، واعملوا صالحاً، فإنَّ العملَ الصالح هو معنى الحياة ومعنى المسؤولية فيها، فإذا آمَنتم بالله كما يجبُ الإيمان، وعملتم الصالحات كما يُحِبُّ الله، أتعرفون ما الجائزة {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ويَغفرُها لكم باعتبار أنّ العمل الصالح يطردُ السيّئ، وزيادةً على ذلك {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} ليضاعفَ لهم أجرَهم وثوابهم {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام : 160]. وعلى هذا، فلماذا يزهد الإنسان في ثواب الله، ويرغب في ثواب عباد الله؟ وما قيمةُ ثواب العباد؟ إنّ ثوابَ الله هو الذي يَخْلُد، فلماذا يرغب الإنسان في الفاني ويترك الخالد الباقي؟

ويوجّه القرآن الكريم الإنسان لرعاية والديه {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8] فأحسنْ لوالديك كما أحْسَنَا لك، وبرّهما كما برّا بك، وأعْطِهِما الحنانَ والعاطفة والرعاية، كما أعطياك ذلك كلَّه.. ولكنْ هناك مسألةٌ، وهي أنَّ هناك فَرقاً بين الإحسان وبين الطاعة، فالطاعة هي لله، فإذا أمرَك والداكَ بطاعةِ الله فأطعهما بطاعةِ الله، أو أمراك بما لا معصيةَ لله فيه، فلك أن تُحْسِنَ إليهما، وتقدّم لهما ما لا يجبُ عليك شخصياً وليس محرَّماً. ولكن إذا أمراك بأنْ تعصي الله لتفعلَ مُحرَّماً هنا ومحرَّماً هناك، أو أن تُعين ظالماً وتؤيّده وتخذِلَ مؤمناً وتحاربه، أو {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لتنطلق للإشراك بالله، بحيثُ تُطيعُ ظالماً أو كافراً بمعصية الله، أو تُطيعُ طاغية في الإضرار بعباد الله {فَلَا تُطِعْهُمَا} لأنّه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. وإنّك عندما تقول: يا رضا الله ورضا الوالدين، فبشرط أن يكون رضا الوالدين في رضا الله، أمّا إذا كان رضا الوالدين في معصيةِ الله، فإنَّ عليك أن تُغضب والديك، خصوصاً إذا كانا يتأذّيان من صلاتِك وصومِك وحجِّك وبذلك ما عليك من حقّ الله، لأنَّ القضية هي أن يرضى الله، والأمرُ عندما يدور بين الوالدين وبين الله، فالله أولى أن يرضى، لأنّه ربُّنا وربُّ والِدَيْنا.

{إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ستقفُ أيّها الإنسان أمام الله، وكذلك سيقفُ والداكَ وستُجزى بعملك، ولن يدافع عنك أبواك ولن تدافع عنهما {لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان : 33] وعند الوقوف بين يديّ الله، فإنَّه سبحانه يقدّم للنّاس كلَّ ما فعلوه من سرٍّ أو جهر، لأنَّه مطّلعٌ على كلّ ما يعملون {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت : 9] إذا أطعتُمُ اللهَ وعملتم صالحاً فسيدخلُكم اللهُ في مجتمع الصالحين، ونحن نعرف أنَّ مجتمع الصالحين هو مجتمعُ أهل الجنّة، فأيّةُ جائزة تنالُها في نهاية المطاف على كلِّ أتعابك وصبرك وإيمانك، أعظمُ من جائزة الدخول إلى الجنّة، التي عَرْضُها عَرْضُ السموات والأرض أُعِدّت للمتّقين؟

يهربون عند الشدّة ويعودون عند المكاسب

ويُحدّثنا الله تعالى عن بعض الناس الذين يدخلون مجتمعَ المؤمنين، ولكنّهم من الذين لم يَثْبُتِ الإيمانُ في قلوبهم، فيقول سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت : 10] وهذا النوع من النّاس بمجرّد أن يُؤذَى في جنب الله بسبب إيمانه، أو يُضْغَطَ عليه ويُحاصَرَ، يجعلُ فتنة النّاس كعذاب الله، ويحاولُ أن يُعَظِّم البلاء الذي وقع فيه بسبب محاصرة النّاس، كما لو أنَّ عذاب الله وقعَ عليه، وكما أنَّه يهرب من عذاب الله، فإنّه يهرب من عذاب النّاس، فيقدّم التنازلات ويعصي الله.. وذلك ككثيرٍ من الذين ينطلقون في خطِّ الإيمان، فإذا ما ابْتُلوا بسبب انتمائهم للإيمان، وحدثتْ بعضُ الخسارات في أوضاعِهم، فإنّهم يتركون الإيمانَ جانباً ليحافظوا على هذه الأوضاع. وهؤلاء ينحازون ويلجأون إلى المؤمنين من جديد في اللّحظة التي يَكتبُ فيها الله تعالى النصرَ للمؤمنين على كلّ الذّين حاصروهم وسبَّبوا لهم المتاعب {وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ} أتى وقت الانتصارات، وعندها {لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} في وقت الشدّة والمواجهة يتنكّرون للمؤمنين، أمّا في وقت النصر فيعلنون انتماءهم إلى خطِّ الإيمان.. ولكن على مَنْ يضحكون؟ {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} اللهُ تعالى يعرف المنافق تماماً، ويعرف من يحملُ ازدواجيةً في شخصيّته ومواقِفه، ومَنْ يعيش في قلبه خالصَ الإيمان، ومَنْ هو مُكَدَّر الإيمان..

وإذا انطلت حِيَلُ هذا المنافق على النّاس، واستترتْ عنهم خفاياهُ وأسرارُه، فإنَّها لن تنطليَ على الله تعالى {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11] فهو تعالى يُميِّز ويعرفُ حقائق الأشخاص، ولذلك يعلمُ المنافقَ حتّى ولو ظهر بأوضحِ صُور الإيمان، ويعلمُ اللهُ المؤمن حتّى لو لم يظهر من أمر إيمانه شيءٌ للنّاس.

ويقف الكافرون للمؤمنين بالمرصاد ليُزلزلوا إيمانهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12] امشوا في طريقنا، ونحن نحملُ على ظهورنا كلَّ خطاياكم وذنوبكم وسيّئاتكم، أنتم خائفون من يوم القيامة، نحن يوم القيامة.. هذه كلماتٌ سيتحمّلون مسؤوليتها، هم أضعف من أن يحملُوا خطاياهم، وأضعفُ من أن يَهرُبوا من عذاب الله {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} يحاولون إغراءَكم وإيقاعَكم في الخطيئة، فإذا وقعتم في الخطيئة ووقفتهم أمام حسابِ المسؤولية هربوا من كلّ ما تعهّدوا به، فهم لا يقدِرون أن يَضْمَنُوا أنفسهم، فكيف يمكن أن يضمنوكم؟.

ولأنّهم يسيرون في طريق الضلال {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13] فعلى أيّ أساس تحمّلتم المسؤولية، ومَنْ أنتم حتّى تَضْمَنوا على الله؟ فقضيّةُ العقاب والثواب بيد الله تعالى وحده. وما هي قيمتُكم وموقعُكم عنده سبحانه، وكيف لكم أن تَكْفَلُوا الناسَ أمام الله؟.

وهذه المسألة يجب أن نعيَها جيداً في حياتنا، وذلك عندما نريد أن ننطلق في أيِّ موقع، فيأتينا إنسانٌ لا يملك أيَّ أساسٍ للثقة، وأيَّ موقع للاطمئنان ليدعونا للسير معه مدّعياً تحمّله لكافة المسؤوليات، علينا أن نرفض ذلك، لأنّنا مسؤولون عن أنفسِنا أمامَ الله يوم القيامة فيما أخذنا به.. إنّنا لا نستطيع الدفاعَ عن أنفسنا يوم القيامة إلاّ إذا كنّا نملك الحُجّة أمام الله، ولذلك، لنوفِّرْ على أنفسنا ذلَّ يوم القيامة عندما لا نستطيع جواباً عند السؤال.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

منهجيّة الرّسل

في الدعوة إلى الله

 

خطُّ الرّسالات

في القرآن الكريم تتّضحُ لنا معالمُ الخطوطِ العامّة لدعوةِ نبيّ الله عيسى (عليه السلام) عندما بعثّه الله رسولاً إلى بني إسرائيل، حيث يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ*إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 63 ـــ 64] إنَّه (عليه السلام) قدَّم لهم البيّنات التي تثبت لهم أنَّه رسولٌ من الله تعالى {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] جاءهُم بالبيّنات التي توضِح لهم أنّه ليس مجرَّد شخصٍ عاديٍّ يحملُ رسالة، ولكنّه رسولٌ من الله يؤدّي إليهم وحيه.. ولذلك أعلنَ لهم بأنّه قد جاءهُم بالحكمةِ وبالرسالةِ التي تجعل منهم حكماءَ يتحرّكون بحساب، ويقفون بحساب، ويتصرّفون في حياتهم على أساس دراسة الأمور بحسب توازنات المصلحة والمفسدة، ليتعرّفوا الحَسَن فيعملوه والقبيحَ فيتركوه. وهذه هي طبيعةُ الحكمة التي جاء بها أنبياءُ الله ليعلّموها للإنسان كي لا يُخطئ أو لِيُقِلّ خَطَأه، وليعملَ الشيء على طِبق طبيعة الأمور السليمة والمصلحة النافعة، فيضَعُ الأشياء في مواضعها ويحسب للأمور حساباتِها بدقّة.

فالخطُّ الأول الذي جاء به عيسى (عليه السلام) هو خطُّ الحكمة، وأمّا الخطُّ الثاني {وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهذا خطُّ جميعِ الرسالات، حيث يوضِح الرّسول للنّاس حقائقَ الأمور، لأنَّ النّاس قد لا يعرفون الحقيقة، أو قد يختلفون في فهم هذه الحقيقة، وفي فهم القضايا الأساسيّة التي تختلف حولها الآراء. ولذلك، فإنَّ دور الأنبياء الذين يتحدّثون عن الله في كلِّ ما يفيضون فيه وما يريدونه للنّاس أن يتحرّكوا فيه، أنّهم يُبيّنون لهم الحقيقة من النبع الصافي الذي هو وحيُّ الله، حيث سبحانه خلقَ الأشياءَ كلَّها ويعرف مَنْ خلق وما خَلق، ويعرف كيف تُدار وتتحرّك الأمور لأنّها مِنْ صُنْعِه {فَاتَّقُوا اللَّهَ} راقبوه في حساباتِكم وسرِّكم وعلانيّتِكم، واحْسَبُوا حسابَه في كلِّ ما تريدون أن تأخذوا به وما تريدون أن تتركوه، ولا تَحْسَبوا حساباتِ النّاس، وما هو رأيُهم في الأمور والقضايا، ولكن احْسِبُوا حساباتِ الله، وما هي إرادتُه في هذا الأمر وذاك الأمر {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} لأنَّ طاعة الرّسول هي طاعة الله، والرّسولُ عندما يتحدّث فإنّه يتحدّث بكلمة الله، وعندما يتحرّك فإنَّما يتحرَّكُ بأمرِ ووحيّ الله، فمن أطاعَ الرسول فقد أطاعَ الله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} لستُ إلَهاً لتعبدوني من دون الله، وإذا كنتم تَروْن أنّي أخْلق مِنَ الطّين كهيئة الطير فأنفخُ فيه فتكونُ طيراً بإذن الله وأنّي أبريءُ الأكْمَه والأبرص وأُحيي الموتى، بإذن الله، فإنّي أعمل ذلك لا من جهة قدرتي الشخصيّة، ولكن من خلال إرادةِ وإذنِ الله، فلو أنّ الله سبحانه لم يُمكنّي من ذلك، وهو القادر على كلِّ شيء لما استطعتُ من ذلك شيئاً، فاللهُ هو ربّي وربُّكم {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} فالطريق المستقيم هو الإيمان بالله والاعترافُ بربوبيّته في كلِّ ما يريده من أمرٍ ونهي.

التنكّر للحقّ رغم وجود البيّنات

ورغم وجود البيّنات التي يضعُها الأنبياء (عليهم السلام) بين أيدي النّاس فإنّهم يختلفون في موالاةِ الحقّ {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف : 65] فهناك مَنْ آمَن، وهناك مَن كفر، والذين كفروا ظلموا أنفسَهم بهذا الكفر، فظلمُوا الحقيقة، وسينالون على ظلمهم عذاباً عظيماً يوم القيامة.

ثمّ يتوجّه القرآن بالحديث عن هؤلاء الذين يظلمون أنفسَهم فيكفرون، أو يظلمون أنفسهم فَيفْسُقون، أو الذين يظلمون النّاسَ فيعتدون عليهم، أو الذين يَظْلِمون ربَّهم فيُشركون به ويَعْصُونه، هؤلاء ألاَ يفكّرون أنَّ حياتهم الدّنيا ليست خالدةً في وجودهم؟ ألاَ ينظرون إلى مَنْ سبقهم من النّاسِ كيف عاشُوا وماتوا، وإلى الطغاة والظالمين، كيف أماتَهم الموتُ فُجأة؟ ألاَ ينتظرُ هؤلاء أن يأتيَهم الموت بغتة ليواجهوا الحسابَ أمامَ الله يوم القيامة؟ {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الزخرف : 66] وتأتيهم الساعةُ، والساعةُ يوم القيامة، والقيامةُ هي يوم الفصل {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ : 17] ويومُ الفصل هو يومُ التغابن {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن : 9] حيث يشعرُ الإنسان بالغَبْن لأنَّه ضيَّع حياتَه فيما لا يُرضي الله، ويلتقي هناك الذين كانوا يتصادقون على لهوٍ وعبثٍ وشرابٍ حرام وشهوةٍ محرَّمة، وعلى موقفٍ وموقعٍ حرام، فهؤلاء الذين كانت صداقاتُهم قائمةً على الفجور، وكانوا ينفتحون على بعضهم بالمحبّةِ والصداقةِ، هؤلاء إذا وقفوا يومَ القيامة، فإنَّ الصداقة تتحوَّلُ إلى عداوة، حيث يحمِّل بعضُهم بعضاً المسؤوليةَ فيما وصلوا إليه وفيما واجهوه، ويُلقي بعضُهم على بعضٍ اللّوم، ولولاكم لكنّا مؤمنين، ويتلاقون في النار فيتحاجُّون ويتحدّثُ المستضعفون مع المستكبرين الذي أضلُّوهم بسبب استضعافهم و{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف : 38] وينطلقُ الجيلُ المتأخِّر ليحمِّل الجيلَ المتقدِّم المسؤولية في ذلك كلِّه، فتتقطَّعُ الأنسابُ وتتقطَّعُ العلاقات.. ووحدَها تبقى الصداقاتُ التي انطلقت في الدّنيا على أساسِ حبِّ الله ورسالتِه والدعوة إليه والجهادِ في سبيله، وحدَها تبقى إلى يوم القيامة، الصداقاتُ القائمةُ على الحبِّ في الله والبُغضِ في الله. فالصداقةُ التي تستمدُّ حركتها في الله سوف تبقى عندما يُعْرَضُ النّاس على الله يوم القيامة {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف : 67] فكلُّ علاقة ترتكز على رضى الله فهي علاقة تمتدّ للآخرة، وكلُّ علاقة تستند على الشيطان، فإنَّها تتقطَّع يوم القيامة.

 

 

الأمن الكبير

ويُنادي اللهُ عباده الذين آمنوا به وعَمِلوا صالحاً واستقاموا على طريق الله وتوحيدِه، واستقاموا على كلمة الله {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف : 67] إذا كنتم فقدتُم العَوْن في الدّنيا، وتنكَّر لكم أهلُكم وأصدقاؤكم ورفضوا قناعاتكم، فإنّي أنا ربُّكم ووليُّكم.. ومَنْ كان اللهُ وليَّه في يوم القيامة فإنّه يدبّر أمرَه، ولذا، فمن أيِّ شيءٍ يخافُ وعلى أيّ شيءٍ يحزن؟.. فالإنسانُ المؤمنُ يحظى بالأمن الكبير عندما يكون مع الله، وعندما يكونُ الله معه، فهناك الفرحُ الكبير الذي لا حُزْنَ معه، والأمنُ العظيم الذي لا خوف معه.

{يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} مَنْ هم عبادُه؟ {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف : 69] آمنوا بما أنزَلَ اللهُ على رُسله ولم يُفرِّقوا بين أحدٍ منهم، وسلَّموا أمرَهم إلى الله في كلّ ما أمرهم فلم يعترضوا {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف : 70] ادخُلوا الجنّة أيّها المؤمنون من الرّجال والنساء. فلتدخُلِ المرأةُ مع مَنِ ارتضته زوجاً لها وليدخُلِ الرّجلُ مع زوجته، حيث تجدون الفرحَ الكبير وتتلقوْن السرور {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف : 71] هناك السعادة كلُّ السعادة حيث لا تَعَبٌ ولا مَرَضٌ، بل الراحةُ والخلودُ في النعيم {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف : 72] فأورثكَم اللهُ تعالى الجنَّةَ بعملكم. ولا تُعطى الجنَّةُ مجاناً، بل للجنّةِ ثمنُها وجُهدُها وتَعبُها، وعلى الإنسان الذي يطمحُ للوصول إلى الجنّة أن يكابدَ في خطِّ الاستقامة ويعيشَ الحركةَ في طاعة الله {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف : 73] وهذه هي النتيجةُ التي يحصُلُ عليها المؤمنون بإيمانهم، والعاملون بعملِهم الصالح.

 

 

يطلبون الموت تخفُّفاً من العذاب

وكما أنَّ المؤمنين في نعيمِ الجنّة خالدون، فالمجرمون في جهنّم خالدون {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ*لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف : 74 ـــ 75] فالعذابُ لا ينفصلُ عنهم، فهم في عذابٍ دائم، لذلك هم مُتعَبون متألِّمون {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف : 76] فظلمُوا أنفسهم عندما اختاروا الكفرَ على الإيمان، والمعصية على الطاعة، واختاروا الانحراف على الطاعة.

وهم في شدّة العذاب ينادون {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} لقد عشنا الألمَ كأقصى ما يكون الألم، ولا قدرةَ لنا على البقاء في هذا العذاب، فليقضِ علينا ربُّك بالموت حتّى نتخفَّف من عذاب وآلامِ جهنَّم {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} [الزخرف : 77] ويأتيهُم الجواب، هذا مقامُكم الذي لا خروجَ لكم منه {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف : 78] وما تنالُونه من عذاب، فلأنّكم رفضتُم الحقّ الذي جاءكم به الرّسل من عند الله، وهذا الحقّ تمثّل في العقيدةِ والشريعة، وفي حركةِ الحياة، وفي علاقات النّاس، ولكنّكم كرهتم هذا الحقّ وتصدّيتم له {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف : 79] وفي مواجهتِكم للحقّ وضَعتم الخُطَط، وأبرمتُم أموراً من خلال ما كنتم تتحرّكون في الدّنيا لتُفْتِنوا النّاس ولتصدُّوا عن سبيل الله، ولكنّ الله تعالى كان لكم بالمرصاد، فإنَّه سبحانه عندما يُبرم الأمور يُبرمها بأقوى ممّا يُبرمها النّاسُ ويُخطّط بأقوى ممّا يخطّطون {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف : 80] إنْ كانوا يظنُّون أنَّ الله تعالى لا يكتشفُ خطَطهم ومؤامراتِهم وانحرافاتِهم فإنّهم واهمون، لأنَّ الله سبحانه، يعرف خطَطهم السرّية ويسمعُ سرَّهم عندما يستبطنون السرّ الذي يتحرّك في خطّ الخطيئةِ والظلمِ والانحراف، ويعلمُ نجواهم عندما يتناجوْن ويُحدِّثون بعضَهم بالشرّ، فاللهُ تعالى يعلمُ كلَّ ذلك، وملائكتُه المرسلونَ يكتُبون عليهم كلَّ ما يتحرّكون فيه {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

ويُنكر عليهم القرآن الكريم اعتقادَهم الخاطئ عن الله سبحانه {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف : 81] فأنا أكفرُ بقولكم بأنَّ لله ولداً، وأنا أوّلُ العابدين لله أعبدُه ولا أُشرِكُ به شيئاً فهو الواحدُ الأحدُ الصَمَد الذي لم يلدْ ولم يولَدْ ولم يكُنْ لهُ كُفُواً أَحَدْ {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف : 82] فتنزَّه سبحانَه عمّا يَصِفون له من أولاد أو من شركاء، فهو تعالى الذي يتنزّهُ عن ذلك ويملُك العَظَمة التي تعلو فوق ذلك.

دعهم فسيندمون

ويتوجّه الخطاب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف : 83] قل ـــ يا محمّد ـــ كلمتَك وأبلغْ رسالتك واعملْ بكلِّ ما لديك من جهدٍ في سبيل أن ينفتحَ لهُمُ الطريقُ على الحقّ، وإذا لم يَسيروا معك، اتركْهم يخوضوا في أحاديثِهم الباطلة ويلعبوا ويُلْهِهُم الأملُ حتّى يَصِلوا إلى يوم القيامة وليس لهم رصيدٌ من عمل ولا أساسٌ من حياة {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف : 84] إذا عشتم في الأرض فاعرِفوا أنَّ الله معكم يُهيمن عليكم ويَرحمُكم ويَرصُدُكم ويحاسبُكم، وإذا عِشتُم في السماء فاعرُفوا أنَّ الله معكم أيضاً، لأنّه سبحانه لا يخلُو منه مكانٌ فهو فوق المكان، ولا يخلُو منه زمانٌ فهو فوق الزمان {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} الذي خلق الأشياء ودبّرها بحكمته، فليس هناك شيءٌ إلاَّ ولله فيه سرٌّ وقانون، وهو العليم الذي يعلمُ كلّ شيء في الظاهر والباطن {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف : 85].

 

28/6/1991م

المستبشرون والخائفون

 

حالتان ونوعان

في القرآن الكريم حديثٌ عن حالِ قسمينِ من النّاس كيف يكونُ عندما تأتيهم الملائكةُ لتتوفَّاهم، فهناك قسمٌ تتوفّاهم الملائكة بأسلوب يشعرون فيه بالخزي والعار، من خلال حديثِ الملائكة معهم، وما يشاهدونه ممّا يَقْدِمون عليه من مصير. وهناك أُناسٌ يشعرون بالانفتاحِ والسرور من خلال حديث الملائكة معهم، وما ينظُرون إليه ممّا يفتحُ لهم أبواب المصير بشكلٍ يؤدّي بهم إلى رضوان الله.

ومن الطبيعيّ أنَّ سلوك الملائكة مع هؤلاء وأولئك ليس ناشئاً من فراغ، أو خاضعاً لمزاج الملائكة، لأنّ الملائكة لا يتحرّكون كما يتحرّك بعض البشر من حالات مزاجية ذاتيّة أو انفعالية شهوانية، لكنّهم عبادٌ مُكْرَمون يتلقّون أمر الله، فلا يسبقونه بالقول ولأمره يخضعون ويعملون.. والله سبحانه وتعالى عندما يُعطي النّاس ما يُعطيهم، أو عندما يُعاقبهم بما يعاقبهم، فإنَّ ذلك خاضعٌ لسنّته تعالى التي أجراها في الكون، حيث تنطلق على أساس تاريخ النّاس، فإذا كان تاريخهم مشرقاً في طاعة الله، فإنَّ مصيرهم عند الله سيكون مشرقاً، وإذا كان تاريخُهم مُستغرِقاً في معصية الله، فإنَّ مصيرهم عند الله سيكون مصيراً أسود.

ولذلك، لا بدَّ لنا ونحن نقرأ الآيات التي سنسردها في سياق البحث، أن نفكّر بالحالة التي نحبّ أنْ تتوفّانا عليها الملائكة، ونحن لا ندري متّى يأتينا اليوم الذي يدعونا الله فيه إلى لقائه، ويُرسلُ الملائكةَ لتأخذَ أرواحنا. وعلى هذا، نسير مع الجوّ القرآني لنحدّد لأنفسنا مصيرَها قبل أن تفوتنا الفرصة، ومنّا مَنْ يملك فرصة شهرٍ أو شهور، سنة أو سنين، يومٍ أو أيّام، قد يستطيع بذلك أن يغيّر تاريخه، لأنَّ الله سبحانه جعل لنا من رحمته، أنَّ باستطاعتنا أن نغيّر الصفحة السوداء إلى بيضاء بالتوبة والإنابة إليه..

موقف الخزي

يقول سبحانه وتعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل : 27] يقفُ بعضُ النّاس يوم القيامة بين يديّ الله تعالى، وقد كانوا ممّن أشرَك بالله.. والشركُ ليس فقط شركُ العبادة والعقيدة، ولكنّه قد يكونُ شركَ الطاعة، فأنتَ عندما تستغرقُ في إنسان وتُعطيه كلَّ حبِّك وطاعتِك، وتجعلُ إرادتكَ منحنيةً أمام أوامره ونواهيه، مبتعداً عن إرادة الله إذا تعارضت مع إرادته، فإنَّك بذلك تجعلُ لله شريكاً من خلقه.. وقد يكون الشركُ بالله في طاعة النّاس الذين يتحرّكون على خلاف طريقِ الله، أخطر من الشركِ بالله في عبادة الأصنام، لأنَّ عبادة الأصنام مسألةٌ تتّصل بطقوسٍ خاصّةٍ محدودة، فتسجدُ للصّنم وتطلبُ منه ما تريد، من دون أن يتدخّل الصنمُ في حياتك، لأنَّ الصنم لا يأكلُ ولا يُبصر ولا يتعب، ولذلك فإنَّ مسألة الصّنميّة، مسألةٌ تتّصل بمشاعرك الذاتية وبانفعالاتِك الخاصّة وطقوسِك العمليّة التي تعيش في دائرة محرابِ الصنم. أمّا عندما يكون الصنم من لحم ودم ويملُك موقعاً سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً منحرفاً، ثمّ يبدأ ليخطّط للفساد من خلال سلطته التي يأمر من خلالها وينهى، فإنَّ عبادتَك وطاعتَك وخضوعَك لهذا الصَّنم البشريّ تمثّل خطورة على مستوى الحياة كلّها، لأنَّك عندما تأتمر بأوامره التي هي على خلاف أوامر الله، وتنتهي بنواهيه التي هي على خلاف نواهي الله، وتركّز حياتك على أساس مناهجِه وشرائِعه ومفاهيمِه ووسائله وغاياته، فمعنى ذلك، أنَّك تجعلُ لهذا الصّنم البشريّ حجم إدارةِ الحياة كلّها، وبذلك تكونُ عبادتُك العملية لهذا الصّنم خَطراً على الحياةِ كلِّها من حولك وليس خطراً على نفسك وحسب.

ولذا، فإذا سمعنا حديث الله عن المشركين، علينا ألاَّ نتجمَّد أمام صورة الإشراك في عبادة الوثن على الطريقة البدائية في الخضوعِ للأصنام الحجريّة والخشبيّة وما إلى ذلك، بل أن ننطلق لندرسَ وثنيّة وصنميّة مَنْ يؤمنُ بالله في ذهنِه وعقلِه، ولكنّه يعبدُ الصنمَ في سلوكه وعمله.

ومن هنا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يطلب من هؤلاء الذين اتّخذوا من دون الله أرباباً من لحم ودم {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أين هم الذين كنتم تتنازعون فيهم وتَجعلونهم شركاءَ لله، وتتحرّكون في المنازعة، عندما تُفضّلون زعيماً على زعيم، وتتسابقون إلى رضاه، أو عندما تنحازون إلى دولة على أنّها الأفضل والأحسنُ والأكبر، على اعتبار أنَّ هناك صَنَماً أكبر وصَنَماً أصغر؟ هذا هو النداء: أين شركائي، إجلبوهُم لتوقفوهم أمام العظمة الإلهيّة، ولِتَجْرُوا المقارنةَ بين العزّة الربّانية وعزّتهم، أين هم الذين كنتم تُفضّلونهم في الطاعة، ويَحْدُث لأجلهم الشّقاقُ والنزاع بينكم؟ ولا جواب، وعندها {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

خطُّ الهلاك

وهؤلاء الكافرون كيف يموتون؟ {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل : 28] تمتدُّ بهم الحياة، وكلُّ حياتهم لهو وعَبَثٌ وفجورٌ وفسقٌ وتمرّدٌ على الله تعالى وطاعةٌ للشيطان، تسيرُ بهم الحياة، وتسيرُ معهم المعاصي، ويأتيهم الموتُ وقد ظلَموا أنفسهم. وظلمُ النفس، إنَّما يحدُث عندما يُورِّط الإنسانُ نفسَه في الخطِّ الذي يؤدّي به إلى الهلاك، فيعيش الكفر بكلّ تفاصيله، والكفرُ نهايتُه جهنَّم، أو يورّط نفسَه بالنفاق، والنفاقُ أيضاً، نهايتُه جهنَّم، أو يورّط نفسَه بارتكاب الكبائر التي حرَّمها الله، وذلك نهايته جهنَّم {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} تتوفّاهم الملائكةُ وهم جالسون على طاولة قمار، أو أثناءَ شربِ كأس خمر، أو في حالة رقصٍ فاجر أو لهوٍ فاسق، أو ركونٍ أو إعانةٍ لظلم {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ} استسلموا لأنَّهم لا يستطيعون أنْ يواجهوا الملائكة، استسلموا وتحدّثوا على الطريقة التي كانوا يتحدّثون بها في الدّنيا عندما يضبطهم المسؤولون وهم متلبّسون بمخالفة القانون أو بمخالفة رغبات الأقوياء، هؤلاء بمجرّد أن تأتيَهم الملائكة في حالة كونهم {ظَالِمِي أَنفُسِهِم} يُلقون السَّلَم {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} ما كنّا نمارس السّوء على الإطلاق. وهم بهذا يحاولون كما كانوا يحاولون في الدُّنيا استعمال الطرق الملتوية وإبراز العاطفة في محاولة للصفح عنهم، فلربّما تلين القلوب. ولكنَّ هذه الطريقة لا تنفع مع الملائكة {بَلَى} مع مَنْ تتكلّمون أنتم؟ أنتم تتكلّمون مع الملائكة، وهم رُسُل الله الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر : 19] فمع مَنْ تتكلّمون؟ {بَلَى} كنتم تعملون السوء {إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} هذه قضيةٌ لا تحتاج لأنْ يشهد فيها أحد، لأنَّ الشاهد هو الحاكم.. فالله تعالى وهو الحاكم العدل، لا يحتاج إلى شهود، ولذا، فإنَّه يحكم في المسألة مباشرة {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل : 29].

الفئة الناجية

هذا فريقٌ من النّاس الذين تتوفّاهم الملائكة، وهناك فريقٌ آخر {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: 30] يُراد إقرارَهم، لا ليُعرفَ ماذا لديهم، ولكن لتظهر أمامَ الخلائق في يوم  القيامة طبيعةُ هذه الفئة المؤمنة من الناس، والتي عاشت في حياتها الخوفَ من الله {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} الله تعالى لا يُنزل إلاَّ الخير، وما هو الخير الذي أنزله الله {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] فالله سبحانه وَعَدَ الذين يُحسِنون في أعمالهم حسنةً في الدّنيا وحسنة في الآخرة أفضلَ منها، فحسنةُ الدّنيا هي ما يمارسُه الإنسان من نعيمِ الدّنيا هي شهواتِها ولذّاتِها المحلّلة، ولِما يرتاح إليه، ثمّ يموتُ وتموت كلُّ هذه الأشياء، أمّا في الآخرة، فهي دار خلود {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] اطلب من ربّك حاجاتك الدنيوية على ألاَّ تُنسيك حاجاتك الأُخرويّة.

فالذين يحصلون على حسنات ربّهم في الآخرة، لهم {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ} [النحل : 31] ويحقِّق الله للإنسان المؤمن أمنياته في الآخرة، حيث يعطيه ما تشتهي الأنفس وتَلَذُّ الأعين، فتتحوّل أمنياته إلى وقائع وحقائق {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ} يعني أيّها الإنسان المؤمن إذا سلكت سبيل التقوى، واستطعت أن تُخضِع نفسك لمواقع خوف الله، فإنَّ جزاء الله يعلو كلَّ جزاء {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ}.

وكيف يموت المتّقون؟ وما هو الجوُّ الذي يعيشون فيه عندما تأتيهم الملائكة لتدعوَهم إلى لقاء الله؟ عرفنا كيف تتوفّى الملائكةُ الكافرين والمُلْحَقِين بهم سياسياً وثقافياً واقتصادياً من المنافقين والعاصين.. أمّا المتّقون {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل : 32] يعيشون طيبةً في قلوبهم وعقولهم ومشاعرهم وفي كلِّ حياتهم.. وعندما تأتيهم الملائكة لتتوفّاهم تحمل إليهم البشرى {سَلامٌ عَلَيْكُمُ} فأوّل ما يُطلّون بوعيهم على الحياة الآخرة لا يشعرون بالغربة والوحدة، بل يشعرون بالسلام يُحيط بهم من كلِّ جانب {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ} لم نعطكم الجنّة من موقع فراغ، وإنّما حصلتم على ذلك {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أنتم تستحقّون الجنّة بما عملتم، والله تعالى أخذ على نفسه العهد {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [النساء : 124].

هذا هو الجوّ الذي يعيشه الناس عندما تأتي الملائكة لتتوفّاهم، فريقٌ يقال لهم {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} وفريقٌ يقال لهم {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ} هاتان الحالتان سنواجههما فيما نستقبل من نهايات حياتنا، وللإنسان أن يحدّد طريقة موته من خلال ما يحدّده من حركة حياته.. الدّنيا أمامنا ولننتهز الفرصة قبل أن تكون غُصّة "عجِّلوا بالتوبة قبل الموت" فذلك هو طريق النجاة في الدّنيا والآخرة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

16/11/1995م

الخسران

 

الرّبح والخسارة

يوجّه القرآن الكريم الإنسان إلى أن يفهمَ قضيّةَ الربح والخسارة في حياته بغيرِ الطريقةِ المادية التي يسير عليها الكثيرُ من النّاس في حياتهم، فيقول سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً*أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 103 ـــ 105].

نحن نفهمُ قضيّة الرّبح والخَسارة بما يتعلّق بالذي نحصل عليه، أو بالذي نخسرُه من الدّنيا، فالبعضُ يعتقد بأنَّ الرابح هو الذي يربحُ دنياه، والخاسرُ هو الذي يخسرُها، وهكذا تكون القيمة مجرّدة عن الله.. ولكنَّ الله تعالى ينبّهنا إلى أنَّ قضيّة ربح الدّنيا وخسارتِها هي من الأمور التي لا امتدادَ لها بحسب طبيعتها، فحدودُ ربح الدّنيا، نهايةُ الدّنيا في عمر الإنسان، وحدودُ الخسارة في آلامها هي نهايةُ الدّنيا في عمره، ولذا، لن يكونَ الرّبحُ رِبحاً بالمطلق، ولن تكونَ الخسارة خسارة بالمطلق. فقد يكون الرابحون في الدّنيا خاسرين يوم القيامة، وقد يكون الخاسرون في الدّنيا رابحين يوم القيامة، فالربح والخسارة الحقيقيّان هناك في الآخرة. فالإنسان الواعي لكلِّ حياته يبحثُ عن نهايات الأمور، فما قيمةُ أن يضحَك أولاً، ثم تكون عيونُه ملأى بالدموع في نهايةِ المطاف. وفي الحديث الشريف: "ما خيرٌ بخير بعدَه النّار"(*) لو حصلتَ على الخير كلِّه، ولكن كانت النهاية في النار، فإنَّها تَحْرِقُ ذلك كلَّه، "وما شرٌّ بشرّ بعده الجنّة" فلو كانت حياتك الدّنيا تضجُّ بالآلام والمصائب، ولكنَّ الحصول على الجنّة يُنسيك ذلك كلَّه.

القرارات الصعبة والنهايات السعيدة

ولعلّ قيمة شهداء كربلاء أنّهم كانوا يعيشون شعورَ الرّبحِ الحقيقي في الحصول على الجنّة، رغم كلِّ خسارات الدّنيا، وقد جَسَّد قِمّة هذا الشعور الحرُّ بن يزيد الرياحيّ (رضي الله عنه)، هذا الإنسان الذي كانت الدّنيا تُحيط به من كلِّ جانب، فهو زعيمٌ في عشيرته، وقائدُ فِرقة في الجيش الأموي، والمستقبل أمامه، حيث يمكن له أن يحصُل على المزيد من الجاه والمواقع المتقدّمة في السلطة حينذاك، ولكنَّ الرجل نظر بعيداً وحدَّق في المدى الذي أمامه، فرأى الفرحَ والربحَ في طريقه، ولكنّه أدرك أنَّ في نهاية الطريق ناراً ستلتهم كلَّ ما حصل عليه وتَحْرِقُ كلَّ ما انطلق فيه، ولذلك وقف ليؤكّد قراره، ومن أصعب المواقع على الإنسان، هو الموقع الذي يقف فيه لكي يُعطي قراراً مصيرياً قد يكلِّفُه ذلك حياتَه، ويهزُّ عقلَه وقلبَه وكلَّ حياته. ومن هنا، فإنَّه عندما سَمِع كلام الحسين (عليه السلام) "لعمرِ بن سعد"، وإنَّه لن يفرح بدنيا ولا آخرة، ولن يهنأ بِمُلْك الرّي بعد مقتله (عليه السلام) أخذته رجفةٌ ورعدة، فظنَّ صاحبه "المهاجر بن أوس" أنَّ جُبناً أصابه، فقال له: لو قيل لي مَنْ أشجعُ أهلِ الكوفة لمَا عَدَوْتُك، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحرّ: إنِّي أُخَيِّرُ نفسي بين الجنّة والنار، والله لا أختار على الجنّة شيئا لو أُحْرِقت، ثمّ ضرب جواده نحو الحسين رافعاً صوته: "اللّهمَّ إليكَ أُنيب فَتُبْ عليَّ، يا أبا عبد الله إنّي تائبٌ فهل لي من توبة؟ فقال الحسين (عليه السلام): نعم يتوب الله عليك"، وحسم قراره النّهائي، وطأطأ رأسَه أمام الله، وهو الذي كان يرفع رأسه باسم السلطة، واستُشهِدَ بين يديّ الحسين (عليه السلام) حيث قال فيه: "أنتَ الحرُّ كما سمّتك أمُّك وأنتَ الحرّ في الدّنيا والآخرة"، حرٌّ لأنّه استطاع أن يأخذ القرارَ الصَّعب، والقليلون من النّاس هم الذين يعيشون حرّية القرار والإرادة، وذلك لأنّهم يخضعون لمغريات الدّنيا، وفي ذلك قال الإمام الحسين: "النّاس عبيدُ الدّنيا والدِّين لَعْقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت عليه معايشهم، فإذا مُحصُّوا بالبلاء قَلَّ الدّيّانون"(*).

وهكذا الحال مع زهير بن القَيْن (رضي الله عنه) الذي كان عثمانياً معادياً لأهل البيت (عليهم السلام)، وعندما طلب الحسين (عليه السلام) نُصرته صار حسينياً، ثمّ عندما حرَّرَه ليلة عاشوراء من بيعته له، قال له: "لوددتُ لو أنّي قُتلت ثمّ أُحييت ثمّ أُحرِقت ثمّ قُتلت وأُحييت وأُحرِقت يُفعل بي ذلك سبعين مرّة وأنَّ الله يدفعُ القتل عنك ما تراجعتُ عن ذلك أبداً".. هذه هي روح الرساليّين الذين يحدّقون بالآخرة ويعتبرون الدّنيا مجرّد ساحة للمسؤولية.

طبيعة الخسارة الحقيقيّة

ويبيّن الله تعالى في آيةٍ أخرى صورة المصير {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15] أنْ تخسَرَ نفسَك فلا تَرْبَحُها يوم القيامة، وتخسَرَ أهلَك عندما تُبعدهم عن طريق الله أو لا توجّههم للسير عليه. فالرابحون يوم القيامة، هم الذين صلُحُوا في حياتهم {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 ـــ 24] والأخسر، هو الذي يمشي في الطريق، فلا يدقّق ولا يسأل فيخيّل إليه أنَّه سائرٌ في الطريق الصواب، وإذ به سائرٌ في الطريق الخطأ.. وهكذا هم الذين لا يدقّقون في مواقفهم، فيُحبّون، وقد يكون من الحقّ أن يَبغُضوا، أو يَبغضون وقد يكون من الحقّ أن يُحِبُّوا.

إذاً {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف : 103 ـــ 104] تاهت حركتهم وسعيُهم وضاعوا {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف : 104] هم يُسيئون ويُخيَّل إليهم أنّهم يُحسِنون صنعاً، وهؤلاء كيف يتمثّلون؟ هؤلاء الذين تركوا ربَّهم وجحدوا به ولم يفكِّروا بالآخرة {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف : 105] فلا عمل لهم، لأنَّ قيمة العمل أن يرتبط بالله سبحانه، فأنتَ عندما تعمل لكسب رضى النّاس، ستقف بين يديّ الله تعالى لتقول، يا ربّ أعطني جزاء عملي، قد عملتُ الخير الكثير في الدّنيا، فسيأتيك الجواب، لقد عملت ليمدحك النّاس وقد أخذتَ جزاءك منهم، فهل عملت لله؟ لقد عملتَ لتلبية نداء شهواتِك ولإرضاءِ مزاجك، فكيف تطلبُ من الله العِوَض عن ذلك؟ ولذا، فإنّ قيمة الأعمال، إنّما تكون بقدر ارتباطها بالله. ونلاحظ في القرآن الكريم أنَّ الآيات التي تتحدَّث عن العمل الصالح تقترن بالحديث عن الإيمان قبله {وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1ـــ3] فَعَمَلُ الصالحات من دون إيمان لا يعطي لهذا العمل أيّة قيمة {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً*ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} [الكهف: 105 ـــ 106] وكما تنطبقُ هذه الآية على الكافرين الذين يتنكّرون لخطّ الإيمان، فقد تنطبق على الكافرين من خلال العمل، لأنّهم عاشوا الإيمان مجرّد فكرةٍ في عقولهم، ولم تتحوَّل في إحساسهم وشعورهم وحركتهم في الحياة إلى خطٍّ عمليّ، ولذا، فإنَّ إيمانهم لا قيمةَ له، كونه لم يقترن بالعمل، فهم بمنزلةِ الكافرين في كثيرٍ من النتائج، وإنْ لم يكونوا كافرين من حيث المبدأ.

وما هي النتيجة التي يحصُل عليها الذين عاشوا الإيمان وترجموه عملاً؟ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف: 107] عَمِلوا وأخلَصوا لله، وكانت حياتُهم في طريقه تعالى، وبذلك وَصلُوا إليه راضين مطمئنين {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر : 27 ــ 30] وهم يتنعَّمون في جنّاتِ الله {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف: 108] لا يتحوَّلون عنها إلى غيرها، لأنّهم وجدوا فيها من النعيم ما لا يمكن أن يجدوه في أيِّ مكانٍ آخر.

نِعَم الله لا تقع تحت عين الحصر

ويرسّخ القرآن عظمة الله في عقل الإنسان، فيقول سبحانه: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} كلماتُه في مجال الوعي الذي يعطيه للنّاس، وكلماته، هي آياته في الكون، والنِّعَم التي ينشرها للخلق {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} كلُّ موجود محدودٌ في قدرته وإمكاناته، محدودٌ في عمره وامتداده، يمكن أن تُحصي لكلّ إنسان صفاتِه وقدراته ونتائجَ حياتِه وعمله، ولكنَّ الواجدَ الخالق لا يمكن أن تخضع قدرته لأيِّ إحصاء، فلو كتبت عن نِعَم الله بحجم البحار كلّها، وضممت البحرَ إلى بحر، والبحار إلى بحار، فإنَّها تجفّ قبل أنْ تُحيط بالكتابة عن قدرة الله وعظمته {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف : 109] وتبقى الكلمات عن الله تحتاج إلى بحار جديدة وأقلام جديدة وكلمات جديدة {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].

التوحيد والعمل الصالح

وفي ردّ القرآن على الذين عجبوا من بعث الله لبشر أن يكون نبيّاً {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} قل لهؤلاء يا محمّد، إنَّ الله تعالى لم يبعثني مَلَكاً، بل بعثني بَشَراً أجُوع كما تجوعون، وأَعْطَشُ كما تَعْطَشُون، وأنامُ كما تنامون، وأَمْرَضُ كما تمْرَضون، خلَقني جَسداً بشرّياً، ولكنّه ارتفع بهذا الجسدِ البشريّ بروحيّته عندما أنزل عليه وحيه، وجعله يعيش في آفاق الله {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} بكلمة التوحيد {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فوحِّدوه في عقيدتكم وعبادتكم وطاعتكم، وفي مواقفكم وأحلامكم وأمانيكم، لأنّه وحده الذي يُقْصَد، ووحدَه الذي يستحقُّ العبادة، ووحدَه الذي تَبدأون منه وتَرْجِعُون إليه، وإذا كنتم تُحبُّون أن تلتقوه وهو راضٍ عنكم، وقد حصلتم على محبّته، ومحبّةُ الله غفرانُه ورضوانُه ورحمته ولطفه، أتريدون ذلك؟ {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف : 110] فلا يشرِك البشر في عبادةِ ربّه ليطيعَهم ويعصي الله، وليخضعَ لهم ويتمرَّد على الله، وليتحرَّك معهم ويبتعد عن طريق الله. فتوحيدُ الله والعمل الصالح يُشكّلان الطريق الذي ينطلق فيه الإنسان ليكون الرابحَ في الدُّنيا في طاعة الله، والرابح في الآخرة في رضوان الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

13/10/1995م

عقدة الكبر

 

عقدة الكبرياء

يحدِّثنا الله تعالى عن العُقدة التي يعيشها الذين يكفرون بالله، ويبتعدون عنه، وينحرفون عن خطّه، وهم لا ينطلقون في ذلك من فكرةٍ مضادّة يملكون الدليلَ عليها، ولا يتحرّكون انطلاقاً من شُبهة اشتبه الأمر فيها عليهم، ولكنّهم ينطلقون من عقدة الكبرياء التي يعيشونها في أنفسهم من خلال هذا الإحساس المَرَضيّ بانتفاخ الشخصيّة وتضخّم الذّات، لأنَّ مشكلة الإنسان أنّه قد يُصاب بالتهابٍ يتورَّم فيه جسده، وقد يُصاب بالتهاب معنويّ تتورّم فيه شخصيّته، وإذا كان لورم الجسد مضادّات حيويّة، يمكن أن تخفّف الالتهاب أو تزيله، فإنّ تورّم الشخصيّة قد يكون من الالتهابات النفسيّة المستعصية التي قد لا يملك الإنسان لها أيّة مضادّات إلاّ بجهدٍ كبير من جهاد النفس، ومن فهم الذّات، ومن المعاناة.. يقول سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان : 21] هؤلاء النّاس شعروا بأنّهم أكبر من أن يستجيبوا لدعوة الأنبياء (عليهم السلام)، لأنّهم يرون الأشياء بَشَراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان : 7] وعندما يريدون قياس الأنبياء، فإنّهم يقيسونهم بالمقياس المادّي، أو بما يملكون هم من مالٍ وجاه، ومن متاع الحياة الدّنيا، ولذلك فإنّهم يرون أنفسهم أنّهم أعظم وأكبر من الأشياء.

فالقوّة المادّية التي قد يملكُها إنسانٌ ما قد تُصيبه بتورّم الشخصيّة إذا استغرقَ فيها، ومشكلةُ الإنسان الذي تنتفخ شخصيّته ويَعْظُمُ شأنه عند نفسه، أنّه يبدأ باحتقار النّاس من حوله، باحتقارِ فكرِهم ودعوتهم، واحتقارِ الدعوة إلى الحوارِ معهم، ليرى نفسَه أكبرَ من أن يحاوِر الآخرين، وأعظمَ من أن يستجيبَ لدعوة الحقّ عندهم.. وهكذا تتحرَّك هذه الكبرياء في داخل نفسه لتظهرَ في حياته تَمرُّداً على الحقّ وانحرافاً عنه واعتزازاً بالإثم والضلال. وقد قصَّ اللهُ علينا بعضَ أفكار هؤلاء، فهم عندما دعاهُم النبيّ الذي أُرسل إليهم ليؤمنوا به وليحاوروه فيما يقدّمه إليهم من أفكار وآراء ممّا أوحى الله به إليه، فإنّهم قالوا، إنّنا لن نؤمن لك، أنتَ رجلٌ مثلنا، أنزلْ علينا ملائكةً حتّى يتحدّث الملائكة معنا، مَنْ أنت حتّى تحاورَنا ونحاورَك؟ أنتَ مثلُنا، بل أنتَ أقلّ منّا. يقولون ذلك وهم يعيشون العلوّ والاستكبار في ذواتهم، ويتدرّجون في تحدّيهم إلى أن يطلُبوا من هذا النبيّ أن ينزل الله إليهم ليحدِّثهم ويحدِّثوه.

ضعف القوّة المستعارة

القرآن الكريم يعلّق على هذه المسألة بقول الله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} لقد طلبوا الكبرياء في أنفسهم من حيث لا يملكونها. والكِبْر في الشخصية ينطلقُ من أصالة عناصر العظمة في الداخل، أمّا عندما تكون الشخصية مستعارَة والقوّة مستعارَة، يعطاها الإنسان الآن لتذهب غداً بسبب أيّ طارئٍ أو عارض، فما معنى أنْ يشعرَ الإنسان بأنَّه الكبير، وهو في ذاته مخلوقٌ ضعيف؟ فالقوّة تأتيه من الخارج وليس من ذاته، فأيُّ فرق بين صاحب المال وبين غيره في دائرة الإنسانيّة، هل أنَّ صاحب المال مخلوقٌ من ذهب، ومَنْ لا يملك المال مخلوقٌ من تراب؟ هل صاحب المال يملك دماغاً من الألماس والفضّة، وذاك يملك دماغاً من حَصى؟ أيُّ فرقٍ بين إنسانٍ وإنسان في دائرة وجوده الإنسانيّ؟ فالمال شيءٌ يُضاف إلى صاحبه، فليس جُزءاً من عقله أو قلبه أو من طاقتِه الذاتية، هو شيءٌ يأتيه من خارج شخصيّته ولا يجعله متميّزاً عن غيره، وهكذا بالنسبة إلى الجاه والمنصب، وما إلى ذلك.

النّاس من جهة التمثال أكْفَاءُ                    أبوهمُ آدمٌ والأُمُّ حوّاءُ

وقول الله أصدق من كلِّ قول: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات : 13] ليس هناك من فرق بين بشر وبشر.

ولذا، يقول الله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} هم ليسوا كباراً، ولكنّهم مثَّلوا الكِبْرَ وتحرَّكوا فيه من دون أن يملكوا أيَّ عنصرٍ ذاتيّ في ذلك {وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان : 21] وانطلقوا في روحية عاتية عدوانية تنظر إلى النّاس بحقارةٍ ومن فوق.. وإلاَّ لو فرضنا أنَّهم عاشوا إنسانيّتهم في فكرهم، فإنَّ عليهم أن يفكِّروا: هذا النبيّ يعرُضُ عليهم فكراً فليناقشوا فكرَه، هو يريد محاورتِهم فليحاوروه، ليصلوا إلى النتيجة سلباً أو إيجاباً. فأنْ يَرَوْا ربّهم أو تتنزَّل عليهم الملائكة، هل هذا يغيّر من الأمر شيئاً؟ لكنّهم يعتبرون أنفسهم أنّهم أعظم من هذا الإنسان، وعلى هذا فشأنهم وعظمتهم تفرضان أن تنزل إليهم الملائكة ويُحَدّثهم ربُّهم مباشرة وعَياناً.

وإذا كان القرآن الكريم يحدّثنا عن هؤلاء في الماضي، فنحن نرى الكثير من هؤلاء في الحاضر، هؤلاء الذين يستكبرون على النّاس بمالهم وجاههم وأنسابهم، وبما يملكون من سلطة، فهم يقولون لك، مَنْ فلانٌ حتّى نسمع له، وما يمثّل فلانٌ لنتحاور معه؟ هم يستكبرون على أنْ يحادثوا ويُحاوروا، لأنّهم يَرَوْنَ أنفسَهم أكبرَ من أن يؤمنوا بما يقدّمه لهم الآخرون.

نعيش بأخلاقنا ونُحشر بأخلاقنا

ولهذا، علينا أن ندرس هذه النماذج التي نقرأ عنها أو نراها لتكون درساً لنا، فإذا رأينا المتكبِّرين في صورتهم المشوّهة التي يمثّلها الاستكبار، فعلينا أن ننزلَ إلى داخل أنفسنا، لنكتشف هل أنّنا نختزن بذورَ هذا الاستكبار في داخل شخصيّتنا، وأنّنا نعيش وَرَمَ الشخصيّة وانتفاخها أم لا؟ وهنا علينا، أن نتواضعَ للحقّ وللنّاس انطلاقاً من تواضعنا لله سبحانه وتعالى.. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام): "كفاكَ أدباً لنفسك اجتنابُك ما تكرهه من غيرك"(*) اجتنب ما تكرهه من الآخرين، فذلك هو الذي تستطيع من خلاله أن تؤدّب نفسك.

والمسألة هي أنّنا نعيش بأخلاقنا، ونُحشر يوم القيامة بأخلاقنا، ونحن عندما نعيش حياتنا الاجتماعية مع بعضنا البعض، فإنَّما نعيشُ بأخلاقنا وليس بأجسادنا، كلماتنا هي السفير بيننا وبين الآخرين، طريقتُنا في الحياة وفي إدارة الأمور وبناءِ العلاقات هي التي تَرْبِطُنا بِمَنْ حولنا من النّاس، فالإنسان الرساليّ المؤمن يمثِّلُ العقل والعاطفة واللّياقة واللّباقة والرحمة والعفَّة والتواضع والانفتاح، فإذا جرّدتَ الإنسان عن كلِّ هذه المعاني، فهو مجرَّد لحمٍ ودمٍ وعظمٍ، وهذه المواد هي وسائل للحياة، ولكن ليس هي كلّ الإنسان.. ومن هنا، فإنّنا نحتاج دائماً أن نُعيدَ النظر بأنفسنا، وبطريقتنا في العلاقات، ونُعيد النَّظَرَ في عواطفنا عندما نؤيّدُ أو نعارضُ، ونُشْغِلَ أنفسَنا بأنفسِنا قبل أن نُشْغِلَ أنفسنا بالآخرين، لأنَّ الإنسان عندما يُشغل نفسَه بنفسه فإنَّه يستطيع أن يصنع نفسَه.. ولكنَّ مشكلتنا أنَّ الآخرين يصنعون نفوسنا، فنحن صورةٌ للبيئة التي نعيش فيها، وصورةٌ للأوضاع التي تتحرّك في داخلها، فقد تُفرض علينا أخلاقنا من دون أن نختارها، ويُفرض علينا مزاجُنا من دون أن يكون لنا دورٌ في صنعه. لذلك لو خسرنا أموالَنا يمكن أن نعوِّضها، وهكذا إذا خسرنا جاهنا، ولكن لو خسرنا أنفسنا فبأيّ شيءٍ نعوّضه؟ لو أنَّ العالم كلَّه صفَّق لنا، ولكننا نشعر في داخلنا بالخَواءِ والفَراغ، فما قيمةُ كلِّ ذلك؟ إنَّ احترامَنا لأنفسِنا يكونُ بالنظرِ إلى نقاطِ الضعف التي تَحكُمنا لنبدّلها إلى نقاط قوّة. وقد علَّمنا الإمام زينَ العابدين (عليه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق، أن نقولَ: "اللّهمَّ لا ترفعني في النّاس درجةً إلاَّ حَطَطَّتني عند نفسي مثلها" فالمؤمنُ يطلبُ من الله أن يساعده في أن ينزِل إلى أعماق نفسه ليكتشفَ نقاطَ ضعفه التي لا يعرفُها النّاس "ولا تُحْدِث لي عِزّاً ظاهراً إلاَّ أحدثتَ لي ذِلّةً باطنة عند نفسي بِقَدَرِها" هذا هو التوازن، فعندما يصعُد الإنسان إلى فوق فلينظرْ إلى تحت، وعندما يتمدّد جاهُه ويعلو فلينزلْ إلى نفسه، حيث قد يجِدُ نقاطَ ضعفٍ كثيرةً، وبذلك يحقّقُ التوازن. لهذا، فلنقرأ على الدوام قولَ الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 ـــ 104] فهم جماعة ضائعون يتخيّلون أنفسَهم أنّهم على خير، ولكن لا يدقّقون في مواقعِهم ولا يتأمّلون في أعمالهم، أو يفكِّرون فيها أو يُحَاسِبون أنفسهم {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} [يونس: 15] نلاحظ هنا أنّه لم يَقُل الذين كفروا، قال الذين لا يرجون لقاءنا، يعني لا يفكِّرون بالآخرة.. والإنسانُ الذي لا يفكِّر بالآخرة يستغرقُ في الدّنيا ويعيشُ الكِبْر في نفسه، كمن يعيشُ الحالةَ النرجسيّة، حيث يقف أمام المرآة ينظرُ إلى نفسه مزهوّاً عاشقاً نفسه.

رفضاً لحبّ الذّات وعشقاً لخير الآخرة

على الإنسان ألاَّ يعشقَ نفسَه، إنَّما عليه أن يُركّز نفسَه ويستحضرَ الآخرة، حتّى يعرفَ أنّه ليس إنساناً يتعبَّدُ لنفسه، وإنَّما يتعبّد لربّه ويقدّم حسابه إليه {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان : 21] هم يطلبون اللّقاءَ بالملائكة، وسيلتقون بهم يوماً، ولكن لن يكون هذا اللّقاء سعيداً {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان : 22] دورُ الملائكة أن يحملُوا البشرى للمؤمنين {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت : 30] هذا بالنسبة للمؤمنين المتّقين، أمّا المجرمون {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} فلهم في الآخرة سجنُ النّار يُسجنون فيه {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان : 23] وكان ذلك لأنَّ عملهم لم يكن مرتكزاً على الإيمان، وأيُّ عمل لا يرتكز على قاعدة الإيمان فهو عملٌ لا ثباتَ له، تماماً كالأشياء التي تتطاير في الهواء.

أمّا أصحاب الجنّة {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان : 24] فلهم في الجنّة أمكنةٌ للقيلولةِ والراحة والاستقرار. ثمّ يحدّثنا الله تعالى عن يوم القيامة {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان : 25] تشقّقُ السّماءُ بالغمام أي بالسحاب الأبيض، ويتولّى كلّ فردٍ من الملائكة دوره، ويقوم بوظيفته بأمرٍ من الله سبحانه {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان : 26] وكلمةُ الرحمان هنا تعني أنَّ مُلك الله لا يبتعد عن رحمته، وأنَّ سيطرته لا تبتعدُ عن رحمته، وفي هذا اليوم، كانت الصعوبةُ والمشقّة والعُسر على الكافرين، لأنّهم خرجوا من رحمته وأنكروا قدرته وقطعوا كلَّ علاقة به سبحانه.

وفي هذا اليوم أيضاً يحدّثنا سبحانه عن موقف الظَّالمين، الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً*يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} [الفرقان : 27 ـــ 28] وهذه الآيات تحدّثنا عن الصداقات التي تضلّنا وتنحرف بنا عن السبيل وتبتعد بنا عن الله، فتزيّن لنا المعصية وتقبّح لنا الطاعة.. والظالم في ذلك الموقف العظيم يتساءل: كيف صادقت وصاحبت فلاناً، وكيف قاطعت فلاناً، وكيف استغلّ فلانٌ نقاط ضعفي وحرّك غرائزي وأنساني الله تعالى؟ {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً*لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان : 28 ـــ 29] سواء كان الشيطان، شيطانَ الإنس أو الجنّ.

وما تزالُ عندنا بقيةٌ من عمر، التوبةُ ممكنةٌ، والتراجعُ ممكن، تغيير الواقع ممكن، والإنسانُ لا يملك إلاَّ نفسَه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ*لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 ـــ 37] هناك مجالٌ لأن نتوب ونصحِّح، وندرسُ أصدقاءنا، فقد يكون بعضُ أصدقائنا أعداءَنا، قد يكونون أصدقاءَ الشهوات، ولكنّهم أعداءُ المبادئ والطاعات وأعداء المصير.. علينا أن نعيد النظر في ذلك كلّه حتّى نحدّد لأنفسِنا طريقَ الجنّة لنعرف كيف نسلكه.

4/5/1995م

يوم تزلزل الساعة

 

اليوم الحاسم

يتوجّه القرآن الكريم إلى النّاس، جميعاً طالباً منهم أن يَتّقُوا اللهَ ويُطيعوه في أوامره ونواهيه، وأن يتحرّكوا في خطّ طاعته ويبتعدوا عن معصيته، لأنَّ مصيرهم في يوم القيامة ينطلقُ من سلوكهم في الدّنيا، فمن كان سلوكُه منفتحاً على الله، فإنّه سيلتقي برضوانِ الله ورحمته في يوم القيامة ليدخلَ جنَّةَ الله ويعيشَ في جنب الله، ومَنْ كانت حياتُه مع الشيطان في فكرِه الشيطانيّ وعاطفتِه الشيطانية وعلاقاتِه الشيطانية، فإنَّ من الطبيعي أن يلتقي بالشيطان في يوم القيامة، وأن يكون مصيرُهما واحداً، لأنّ أصحاب الإنسان في الدّنيا هم أصحابُه في الآخرة، وقادته في الدّنيا هم قادته في الآخرة.. ولذلك، لا بدّ للإنسان أنْ يتّقي ربَّه في كلامه، فلا يتكلَّم إلاَّ بما فيه رضىً لله، وأنْ يتّقي ربَّه في أعماله فلا يقومنَّ بعملٍ إلاَّ إذا عرف أنّ هذا العملَ يرضاه الله، ولا بدَّ له أنْ يتّقي اللهَ في علاقاته، فلا يُنشئ أيَّة علاقة مع أيّ إنسان إلاَّ إذا تيقَّن أنَّ هذه العلاقة يرضى اللهُ عنها.. ولذا، عليه أن يدرس موقعه من ربِّه في موقعه من حياته، وبأنْ يكون الله تعالى هو النورُ الذي يُشرق في عقله، وقلبه ومشاعره ليرى من خلال كلَّ شيء، وليكتشفَ به الطريق المستقيم.

ومن هنا، فإنّ الله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2].

يومُ القيامة يمثِّلُ اليومَ الحاسم، وليست أيّامُ الدّنيا هي الحاسمة، ربّما تمرّ علينا أيامٌ في الدّنيا فيها الكثيرُ من الجُهد والتعب والعناء والألم، ولكنَّ هذه الأيام مهما بلغتْ صعوباتها، فإنّها أيامٌ تذهبُ وتزولُ وقد نلاقي الخيرَ من خلال صعوباتها.. فنحن عندما نعيشُ الواقعَ الصعبَ من خلال إيماننا بربّنا والتزامنا بشريعته وموالاتنا لأوليائِه ومعاداتِنا لأعدائه، فإنّنا ننتظرُ من وراء ذلك الجهدِ والصبرِ الدرجةَ الرفيعةَ والنعيمَ الخالدَ عند الله، ولذلك، فإنّنا عندما نواجهُ يومَ القيامة على أساسٍ من الصبر على طاعةِ اللهِ والصبرِ على معصيةِ الله، والصبرِ على بلائه، فإنَّ الملائكة تتلقّانا كما حدَّث اللهُ سبحانه {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 ـــ 24] فالملائكةُ يسلّمون علينا بسبب صبرِنا على الآلامِ التي نتحمّلُها في طريق الله وفي طريق طاعته، سواءً كانت آلاماً نفسيةً أو جسديّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو ما إلى ذلك. فالأيّام الصعبة في الدّنيا قد تُنتِج لكَ أيّاماً حلوة سهلة ليّنة في الآخرة.

يوم الدّنيا يحدِّد يوم الآخرة

ويأتي الإنسان إلى الآخرة حيث يلاقي اليومَ الصعب، والله تعالى يحدّثنا عن ذلك {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} والزلزلةُ كنايةٌ عن يوم القيامة، فالإنسانُ يعيش زِلزالاً في ذلك اليوم، لأنّه اليومُ الحاسمُ الذي يتحدَّد فيه مصيرُه، إمّا إلى جنّة خالدةٍ وإمّا إلى نارٍ خالدةٍ، وليس هناك مستقبلٌ آخر.. فإذا فقدت طموحاتِك وأحلامك في مستقبل الدّنيا، فإنّك تأمَلُ في مستقبل الآخرة، ولكنّك إذا فقدت طموحاتِك وآمالك وأمنياتك في مستقبل الآخرة، فأيُّ مستقبل آخر بعده؟ هو اليوم الآخر، ليس هناك يومٌ آخرُ غيره. إذاً، إنَّ يومك في الدّنيا، هو الذي يحدّد يومَك في الآخرة، فإذا كان يومُك يومَ طاعة، فيومُك في الآخرة يومُ راحة، وإنْ كان يومُك يومَ معصية، فيومُك في الآخرة، يومُ تعب، وقد حدّثنا الله تعالى عن ذلك فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} [طه: 124 ـــ 125] فمن يُعْرِضْ عن ذكر الله وشريعتِه فإنَّه يتخبَّطُ ولا يهتدي طريقَه. لذلك يجب على الإنسان أن ينظر إلى اليوم الذي يتحدَّدُ فيه مصيره، حيث يُؤْمَر بهذا إلى النار وبذاك إلى الجنّة، وكلٌّ مشغولٌ في ذلك اليوم العظيمِ بنفسه، كما يعبّر الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك في دعائه: "وَمَالي لا أبكي، ولا أدري إلى ما يكونُ إليهِ مصيري وأرى نفسي تُخادِعني وأيّامي تُخاتلني وقد خَفَقَتْ فوقَ رأسي أجنحةُ الموت، فمالي لا أبكي، أبكي لخروجِ نفسي، أبكي لظُلمةِ قبري، أبكي لضيقِ لحدي، أبكي لسؤالِ منكرٍ ونكيرٍ إيّاي، أبكي لخروجي من قبري عُرياناً ذليلاً حامِلاً ثِقلي على ظهري، أنظُرُ مرّةً عن يميني وأُخرى عن شمالي، إذِ الخلائق في شأنٍ غيرِ شأني، لكلّ امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه، وجوهٌ يومئذٍ مُسْفِرَة ضاحكةٌ مُسْتَبْشِرة ووجوهٌ عليها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرةٌ وذِلّةٌ"(*).

هذا هو الجوُّ الذي يهتزُّ الإنسان فيه، وأيُّ زلزالٍ أعظم من زلزال يوم القيامة؟ إنّه زلزال النفس، ويحدّثنا الله عن الزلزال الذي عاشه المسلمون في وقعة الأحزاب {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا*هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 10 ـــ 11] هذا هو زلزال الحِيرة والخوفِ والقلق، وإذا كان هذا الزلزال يسيطر على الإنسان حال مواجهته للعدوّ، فكيف بزلزال يوم القيامة؟

الوقاية من الزلزال

ومع هول هذا الزلزال، فإنّ الإنسان قادرٌ على أن يتفاداه يوم القيامة إذا ما اتّقى الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج : 1] وتقوى الله تعني ألاَّ يَفْقِدَك سبحانه حيث أمرك ولا يَجِدَك حيث نهاك، وأن تكونَ في الموقع الذي يُحبُّ الله لك فيه أن تكون. إذا اتّقيت ربَّك وراقبتَه وحَسِبْتَ حسابه في كلِّ موقف وموقع وعلاقة، فإنَّك بذلك تتفادى الزلزالَ النفسي يوم القيامة وتعيشُ الطُمأنينة في مقابل القلق والإحساس بالضياع والتمزّق النفسي، والطُمأنينة لا تكونُ إلاَّ بالله، وهذا ما تعيشه النّفسُ المُطمئنّة التقيّةُ الوَرِعة المنفتحةُ على الله، وصاحبها يقول: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ*إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} [الحاقة: 19 ـــ 20] عندما كنتُ في الدّنيا كنتُ أحسبُ حسابَ الله {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ*فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ*قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 21 ـــ 24].

هي سكينةُ التقوى في نفس الإنسان التي تجعلُه في الدّنيا والآخرة مطمئناً.. وهذا رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعيش أسمى سكينةٍ داخلية، حيث قريشٌ تعمل على قتله ليلة الهجرة، فيهربُ بعد أن ينام عليٌّ (عليه السلام) في فراشه، فتلاحقُه قريشٌ لتقتله، فيدخُل الغار، وبينه وبينهم أشبار، وهم يفكِّرون بالدخول إليه، وهو يمتلئ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هدوءاً وثقةً بالله سبحانه {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

وفي آيةٍ أخرى {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] ما دام المؤمنُ مع الله تغمُره السكينةُ فإنّه لا يبالي، وهذا ما قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إنْ لم يكن بكَ غَضَبٌ عليَّ فلا أُبالي"(*) اضطهده النّاسُ أو لاحقوه وفعلوا ما يشاؤون، فطالما أنَّ الله يراه وهو راضٍ عنه فلا مشكلة. وهذا ما عاشه الحسين (عليه السلام) يوم كربلاء حيث قال: "هَوَّن ما نَزَلَ بي أنَّه بعينِ الله"(**).

فالذي تسكنُ الطُمأنينةُ في قلبه لا يرى شيئاً إلاَّ ويرى اللهَ تعالى أمامَه وخلفَه، وباستمرارٍ يتوجّه إلى ربِّه قائلاً: "يا عُدّتي في كربتي، ويا صاحبي في شدَّتي"(***) فعندما يعيشُ الشدَّةَ والضِيقَ والضغط، لا يشعرُ بأنّه وحده مستفرَد، بل يُحسُّ بأنَّه سبحانه يرعى خطواته لأنَّه يَعتدُّ به ويلجأ إليه إذا كان في حال كُربة، وإذا ضغطتْ عليه الشدائد فإنّه سبحانه يقوِّيه "ويا ولييِّ في نعمتي" فعندما يحصلُ على النعمة، فإنَّه يقدّم الشكرَ لخالقه، وإذا فقدَها، فإنّه لا يشعرُ بالقلق لأنّها ستأتيه في يومٍ آخر، كون الله سبحانه وليّاً له في نعمته.

فالإيمانُ والتقوى يجعلان منك إنساناً تعيشُ كلَّ الأمل في قلبك، وتعيشُ كلَّ الثبات في موقفك.

ونعودُ إلى الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} لا يوجد مَنْ هو أكثرُ حناناً من إنسان على إنسان، كما هو حنانُ المُرضعة على رضيعها، ومع ذلك، فإنّها في ذلك اليوم ومن سكرة القلقِ والخوفِ والحِيرة، تترك كلُّ أمٍ وليدَها {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} من الخوف والرعب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} ليس من شرب الخمر، بل من الزلزال النفسيِّ القاسي الذي يعيشونه {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.

هذه هي المسألة التي يجب أن نفكِّر بها عندما نضع رؤوسنا على الوسادة، ألاَ نقرأ في الدّعاء: "وإذا انْقَضَتْ أيّامُ حياتنا وتَصَرَّمَتْ مُدَدُ أعمالنا واستحضرتنا دعوتُك التي لا بدَّ منها ومن إجابتها فصلِّ على محمَّدٍ وآله واجعل ختام ما تُحصي علينا كَتَبةُ أعمالنا توبةً مقبولة، لا تُوقفنا بعدَها على ذنبٍ اجترحناه ولا معصيةٍ اقترفناها، ولا تكشفْ عنّا ستراً سترتَه على رؤوس الأشهاد يوم تبلو أخبارَ عبادك إنّك رحيمٌ بمن دَعَاك، ومستجيبٌ لمن ناداك"(*) كلُّ واحدٍ منّا عندما ينامُ فليجعل توبَته تحت رأسه، لأنّه يمكن أن يموت وهو نائم، فليتذكّرْ ذنوبَه وسيّئاتِه ويفتحْ قلبه لله "اللّهمَّ إنّي أتوبُ إليكَ في مقامي هذا من كبائرِ ذنوبي وصغائرها وبواطن سيّئاتي وظواهرها وسوالِفِ زلاّتي وحوادِثها توبة مَنْ لا يحدّث نفسه بمعصية ولا يُضمر أن يعودَ في خطيئة وقد قلتَ في محكم كتابك إنَّك تقبلُ التوبةَ عن عبادك وتعفو عن السيّئات وتحبّ التوّابين فاقْبَلْ توبتي كما وعدت واعْفُ عن سيّئاتي كما ضمنت وأوجب لي محبّتك كما شرطت"(**) فليستحضر الإنسانُ التوبة في نفسه حتّى يكون في حال استعداد دائم بحيث إذا جاءت الموت يكون مستعدّاً، لذلك {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين : 26].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

10/1/1991م

يوم لا ينفع

مالٌ ولا بنون

 

الآخرة ونتائج الأعمال

نحن بحاجةٍ دائماً إلى أن نعيش في عقولنا وقلوبنا أجواءَ يوم القيامة، قبل أن نلتقيَ بيومِ القيامة، وذلك حتّى نستطيعَ أن نتوازَن في كلِّ خطواتنا في الحياة الدّنيا، ولنعرفَ أنَّ صورتنا في الآخرة هي صورتُنا في الحياة الدّنيا، ولندركَ أنَّ الآخرة هي مسألةُ النتائج التي تظهر من خلال أعمالنا في الدّنيا.

ونحن في الدّنيا نعيشُ في ساحة عملٍ نأخذ فيها كلَّ حرّيتنا، فليس هناك أيّةُ قوّة تمنعنا من أن نعمل ما نريد. واللهُ تعالى لم يشأْ أن يضغطَ علينا في دنيانا، وإنّما ترك لنا أن نختار عملنا بأنفسنا، لتكون نتائج هذا العمل منطلقةً من اختيارِنا حيث في يوم القيامة {تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر : 17] فالإنسان في الدّنيا يملكُ الحريّةَ في إرادته من خلال حرّيته فيما يفكّر فيه، ولكنَّ الله سبحانه ومع إعطائه الحرّية للنّاس في اختياراتهم، أحبَّ لهم أن يختاروا الخيرَ بدلاً من الشرّ، وأراد لهم اختيارَ الإيمان على الكفر، مع إعطاءِ عقولِهم التوجيهَ الكاملَ لتتحرّك بالطريقة التي تُرشد إرادتهم وحركتهم في الحياة.

ولذلك عَرَض علينا القرآن يوم القيامة بعدّةِ صُوَرٍ ومشاهدَ لنستحضرَ في وعينا على الدوام يوم القيامة عندما نحدِّد خياراتنا وننطلق بأعمالنا. فإذا غابَ عن وعينا الاهتمام بالنتائج التي تترتّب على أعمالنا والتي نحصُدها يومَ القيامة، فإنَّ الشيطان قد يأتي إلى الواحد منّا ليقتحمَ عليه وحدتَه، وليوحيَ إليه بأنّه حرٌّ فيما يصنعه بعيداً عمّا أحلَّ الله وحرَّم، فيزني مثلاً ويرتكب الفواحشَ ويقومُ بكلّ الأعمال التي لا يرضاها، لأنَّ الشيطان يعمل على أن يَصدَّه عن الحقّ ويوحي إليه بأنَّه في مأمنٍ من ملاحقةِ الناس ومعاقبتِهم.. ولكن إذا عاش في وعيه وقوفَ النّاس أمام الله في يومِ القيامة للحساب، فإنَّ وعيَه يُطالبُه بأنَّه إذا كان في أمانٍ من النّاس، فكيف يمكن أن يكون في أمانٍ من الله؟

وهكذا عندما يعيش جوَّ السيطرة في بيته فينادي فيه الشيطان أن يظلمَ زوجتَه وأولادَه وأبوَيه العاجزيْن، أو يظلمَ إخوتَه اليتامي فيأكلُ أموالهم ويعتدي على حقوقهم منطلقاً في ذلك من إيحاءاتِ الشيطان الذي يُزيّن له أعماله فيُحسّ بأنَّه القويّ الذي لا تقفُ أيّةُ قوّة في وجهه، ولا يجروُ أحدٌ أن يتعرّض له بسوء، لأنَّ القانون بجانبه، والناسّ تؤيّده وتخافُ منه.. هذا إذا لم يعش في أعماقه جوَّ يومِ القيامة وأهوالِه، أمّا إذا استحضرَ هذا اليوم، لا بدَّ له أن يرتدعَ عندما يعرفُ أنَّ الله سبحانه وتعالى سيقتصُّ لكلّ مظلومٍ من ظالمه، وسيفكِّر بأنّه إذا كان قويّاً في دنياه، فهل يستطيعُ أن يكون قويّاً أمام الله في يوم القيامة؟ وبالتالي سوف يقف أمام الشيطان عندما يطلبُ منه أن يضغطَ على حرّيات النّاس ويظلمَهم كونه يملك موقعاً سياسياً أو اجتماعياً، هذا الشيطان الذي يقول له، خذْ حرّيتك، أنتَ أكبرُ من القانون، القانون للضعفاء وأنتَ القويّ، القانون للمستضعفين وأنتَ المستكبر.. خذْ حرّيتك، القانون في خدمتك، والعهد عهدُك، وقوّةُ الجماعة الآن قوّتك، أنتَ تحكم، وليس هناك حاكمٌ عليك. كلُّ هذه الإيحاءات تسقط، عندما يعي حقيقة المصير يوم القيامة، ويعرف أنَّ القانون ورجالَ القانون ومواقعَ القوّة كلّها لن تَحميه {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام : 15] وإذا جاءته تهاويلُ الشيطان يردّد في نفسه {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود : 63].

تحذيرٌ من قساوة القلب

ومن هنا، كانت مسألةُ يوم القيامة من المسائل التي أبرزَها القرآن، ولذلك، قلَّما نجد سورةً لا تُشير إلى يوم القيامة بآية أو أكثر، حتّى تلينَ قلوبُنا وتخشع {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} ويقول سبحانه محذّراً المؤمنين: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد : 16] فالقلب إذا قسا، فإنَّه لن يعطيكَ روحاً، ولا أيّةَ حركةٍ في اتّجاه الخير، ولهذا، فإنّنا نحتاجُ دائماً أن نتذكّر الجنّة والنّار. وأميرُ المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) يصوّر لنا واقع المتّقين فيقول (عليه السلام): "فهم والجنّةِ كمن قد رآها فهم فيها مُنَعّمون، وهم والنّار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون"(*).

وبعض النّاس يقولون، ليس من المستحسن أنْ نتحدّث عن الجنّة والنّار ويوم القيامة، بل يجب أن نتحدّث عن فلسفة الإسلام في غيرِ ذلك من الشؤون والقضايا. هذا صحيح، لكنَّ الفلسفة عملُ العقل، والموعظةُ عملُ القلب، فكما نحتاج إلى ما يُغذّي عقولنا، نحتاجُ إلى ما يُغذّي قلوبنا، ويجعلُها تخشعُ وتلينُ وتنفتحُ على الروحانية. ومن هنا، فإنَّ الصلاة والصومَ والحجّ والأدعية والأذكار والتسبيحات، إنّما يبرز دورها في توجيهِ القلب وتنقيتِه وتطهيره، والبعضُ من النّاس قد يكون عقلُه مفتوحاً على حقائق الحياة، ولكنَّ قلبه مغلقٌ عنها. وعندما تحدّثه عن الله، فإنَّه يحدّثك عن فلسفة وجود الله، وعندما تأتي لتقييم عمله، فإنَّك لا تجدُ عملاً على الإطلاق. ولذا، فإنّه لا يكفي أن يكون العقل مفتوحاً، بينما القلبُ مغلقٌ. وكما أنَّ هناك وسائلَ لانفتاح العقل، هناك وسائلُ لانفتاح القلب. فقد يأتينا مَنْ يُلقي علينا محاضرة، فلا شيء يتحرّك فينا، وقد يأتي آخر بأسلوب معيّن، يستطيع من خلال كلماته أن يلامس قلوبنا ومشاعرنا فننفتح على ما يريد أن يُقنعنا به.

فكما نحتاج في عالم الهداية إلى استخدام الوسائل العقليةِ للهداية، كذلك نحتاج إلى استخدام الوسائلِ العاطفيّة، ومن هنا جاء الأسلوبُ القرآنيُّ قويّاً في بيانه في الحديث عن يوم القيامة، فيقولُ سبحانه وتعالى: {وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ*وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 27 ـــ 29].

هناك أناسٌ في الدّنيا يسيرون في خطِّ الباطل، ويشعرون بأنَّهم يملكون مقوّمات النجاح في الحياة، لأنَّهم يملكون مواقعَ القوّة ومقاليدَ الأمور، ويستغرقُ البعضُ في نجاحهم في وقت يروْن أنَّ أهل الحقّ هم الفاشلون، لأنَّ الإيمان لم يُعطهم شيئاً، ولم يوفّر لهم مالاً ولا منصباً ولا موقعاً، فهم خاسرون لأنَّهم يسيرون عكس التيّار، أمّا الآخرون فقد مالُوا مع الريح حيث مالَت، فاكتسبوا المواقع المهمّة في الحياة، وحقّقوا ما رغبت فيه شهواتُهم وأهواؤُهم. هؤلاء عاشوا البدايات ولم يفكّروا في النهايات، وليس مهمّاً أن يكسبوا في بداياتهم، فهم قد ينجحون في بدايات أمورِهم، ولكنّهم سيواجهون الفشلَ في النهايات {وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} في النهاية، عندما يقفُ النّاس بين يَدَي الله تعالى، سيخسر كلُّ الذين عاشوا مع الباطل، سواء كان باطلاً في الفكر أو العمل أو العلاقات، لأنَّ الباطل لا يمنحُ صاحبه فرصةً عند الله تعالى، وهو إنْ منحَه فرصةً عند النّاس المُبطلين، ولكن عند الله لن يحصل على شيءٍ مطلقاً {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] فكلُّ باطلٍ لا يلتقي بالله أبداً.

الموقف العظيم

{وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ*وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} وتأتي الطوائفُ والجماعات والعشائر، وكلٌّ جَاثٍ على ركبتيه ينتظر {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية : 27 ـــ 28]. ويُنادى على كلّ طائفة وأُمّة، تعالوا، هذا كتابُكم، فيه ما فعلتم وما قُلتم وما تمرّدتم، وهذا الكتاب يحدّد لكم مصيرَكم في هذا اليوم العظيم بما يشتملُ من أعمالكم، فاقرأوه لتتذكّروا ما عملتم وما أسلفتم {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية : 29] فتتحوّل أعمالُكم إلى تقاريرَ تُقدّم إليكم يوم الحساب. أمّا حال الذين اهتدوا {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية : 30] ينطلق هؤلاء إلى جنّتهم {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} فإنّهم يُوقَفون لِتُتلى الحجّةُ عليهم {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [الجاثية : 31] سمعتم المواعظ والنصائح، سمعتم آياتِ الله تُتلى عليكم، قامتِ الحُجّة عليكم من الله، فاستكبرتم، رفضتم كما يرفضُ المستكبرون أن يكونوا مع المؤمنين في مساجدهم، لأنَّ المساجد بزعمهم، هي للطبقة المستضعفة في المجتمع، فهم "كبار"، ومكانُ الكبار، ليس المساجد، بل الصالونات المخمليّةُ الفاخرة. هذا منطقُ الذين يفكِّرون استكباراً {فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} هؤلاء يأتيهم التقريرُ يوم القيامة مفصَّلاً عن حياتهم، فهم الذين مارسوا الجريمة، وعاشوها في معصيتهم لله وظلمِهم للنّاس وفي إساءتهم للحياة كلِّها، فيما حرَّكوه من قوى الشرّ، وفيما أسقطوه من قِيَم الخير والعدل والحريّة.

وهم عندما كانت الموعظة والنصيحة تُتلى عليهم {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية : 32] وعندما جاءهم الدّعاة والمؤمنون يحذّرونهم بأنَّ الله سيجمع الخلق، وسيحاسبُهم على أعمالهم، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشرّ، حاولوا إبعادَ الأمور، رافضين أن يعيشوا حالةَ اليقين في ذلك، معتبرين أنَّ الحديث عن يوم القيامة ما هو إلاَّ حالةٌ تخويفيّة {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الجاثية : 33] وظهرت لهم الحقائق، وبان الحقّ وقُدِّمت أعمالهم السيّئة بين أيديهم في يوم المحشر.. فما كانت النتائج؟ {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} الله لا ينسى، ولكنّه يُهملهم ككميّة ملقاةٍ بلا اعتناء، فهم يُنْسَونْ مثلما نَسُوا يوم القيامة، وأهملوا الاستعدادَ له، واستسلموا لشهواتهم، وتركوا كلَّ ما أنزل الله من آيات على رُسُله {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [الجاثية: 34] ويدخلون النّار ويواجهون المصير {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} وأطلقتم الضحكاتِ الساخرة الفاجرة بوجهِ آيات الله في كتبه وشرائعه، واستهزأتم بالمؤمنين والمؤمنات {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} رأيتم المال بين أيديكم، والجاهَ يُحيط بكم، وعشتم القوّة في أجسادكم، وكانت الحياة مفتوحة أمامكم، ولكن لم تفكّروا في حجم هذه الحياة وفي مداها ونهايتها فغرّتكم واستسلمتم لها {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35] لا يُسمح لهم بأنْ يدخلوا في عتابٍ أو حوارٍ ليبرّروا مواقفَهم، لأنَّ العمرَ الذي وُهِبوه من الله، كان كافياً لأنْ تُفتَح لهم فيه أبوابُ الحوارِ والتامّلِ والتفكيرِ، فليس في النّار مجالٌ للحوار والنقاش، لأنّها نهاية المصير الحتميّ لهم.

ويدخل أهلُ الجنّة إلى الجنّة، وأهلُ النّار إلى النّار، وماذا يبقى؟

{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 36 ـــ 37].

الكلُّ صغارٌ أمامه وفقراءٌ إليه، هو العزيز الذي لا يُنتقَص من عزَّته، والحكيمُ الذي يضعُ الأمور في مواضعها، فلماذا يختارون ربّاً غيرَ الله؟

 

 

 

 

 

 

16/7/1992م

حسن الاختيار

 

ما بين الدُّنيا والجنّة

إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد للنّاس دائماً أن يرتبطوا بالآخرة ويُفكِّروا فيها وبها، وذلك هو السبيلُ الأقومُ للتوازن الذي يجبُ أن يعيشَه الإنسانُ بين الدّنيا والآخرة. ولكن في مشكلاتنا التي نعيشُها في التزاماتنا الدينيّة فيما يريدنا الله أن نلتزمه، أنّنا نرتبط بالدّنيا ارتباطاً نشعر فيه أنّنا مقيَّدون بها بحيث لا نستطيع الفكاكَ عنها، ونعتبرُ السعادة كلَّ السعادة فيما نحصل على ما فيها من مُتَع وملذّات ومواقع ودرجات. ولذلك، فإنّنا قد نَغْفَلُ عن كثيرٍ من واجباتنا الدينيّة عندما تقفُ هذه الواجبات أمام ملذّاتنا وشهواتِنا، وهذا ما نلاحظُه عند بعضنا الذي قد يتركُ الصّلاة أو يؤخِّرُها عن وقتها، لأنَّ هناك عملاً طارئاً شَغله، أو "ظروفاً" يخجلُ فيها أن يصلّي، كما لو كان في مكان عام، أو بين جمعٍ من النّاس قد لا يكونون مسلمين، فيخشى من نظراتهم أن تتوجَّه إليه بالسخريةِ أو الاستغراب، وهكذا نجد أنَّ الكثيرين منّا أيضاً قد تشغلهم "أوضاعهم" عن ترك ما حرَّم الله، حيث يرتكبون المعاصي والذنوب، انطلاقاً من بيئتهم وأوضاعهم الاجتماعية وغير الاجتماعية. وهذا الاستغراق في الدّنيا هو الذي يجعلنا نشعر بعدم أهميّةِ الحصولِ على رضى الله وعلى جنّته تعالى.

أمام هذا، لا بدَّ لنا أن نُطلِق التفكير لعقولنا، فلو خُيِّرْنا أن نحصل في الدّنيا على شقّةٍ مثلاً بشرط أن نقومَ بعملٍ لا يُرضي الله، ونتركَ غُرُفات الجنّة، فماذا نختار؟ إنّنا إذا كنّا نشعرُ أنَّ موقع الله تعالى لا يمثّل في نفوسنا الموقعَ الكبيرَ والعظيمَ الذي يُفترَض أن نخشاه ونخافَه ونحْسِبَ حسابَه، فإنَّنا نُغضِبُ الله لنحصلَ على ما نريد.. أمَّا إذا كنّا نخشى الله على قاعدة {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 ـــ 41] فإنَّنا لا نبيعُ ما يبقى بما يفنى، لأنَّ النفسَ عندما تشعر بعظمةِ موقعِ الله، فإنَّها لا تتوجّهُ إلى ما حرَّم الله، فتخشاهُ ولا تخشى النّاسَ {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] وهذا ما نحتاج فيه إلى أنْ نربّي عظمةَ الله في أنفسنا، لنرتبطَ بالجنّة بما تمثِّلُ من قيمةٍ ونتيجةٍ لأعمالِنا في الدّنيا.

ومن هنا، فإنَّ الله تبارك وتعالى يحدّثنا دائماً في القرآن الكريم عن الجنّة والنّار، حتّى تتركّز في عقولِنا وقلوبِنا هذه الحالةُ النفسيّة التي ينفتحُ فيها الإنسانُ على الآخرة في نعيمِها وجحيمها، كما ينفتحُ على الدّنيا، حتّى يسيرَ في خطِّ التوازن {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

وهذا ما يدعونا لأنْ نعيش الآيات القرآنية التي تذكّرنا بالجنّةِ والنّار، لندخل في حوارٍ مع أنفسنا، هل نتحمّلّ عذابَ النار؟ ولأنّنا لا نتحمّلُ هذا العذاب، علينا أن نُلجمَ أنفسنا عن الاندفاع فيما يُورِّطها في هذا العذاب.. وإذا كنّا نحبُّ الجنّة فلندفعْ بأنفسنا صَوب ما يمنحنا دخول الجنّة.

مصير المتّقين ومصير الكافرين

يقول الله تبارك وتعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35] تتميَّز جنّة الآخرة عن جنّة الدّنيا بنعيمها الدائم وظلالها الدائمة، فثمرُها لا ينقطع، وأُكُلها دائم، فهناك حالةُ اكتفاءٍ دائمةٌ في الغَذاء والانتعاشِ والرّاحة، ولذا فإنَّ في الجنّة {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ*نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [الرعد: 31 ـــ 32] وقد وُعِدَ المتَّقون الذين يخافون الله بكلِّ هذه النِّعَم في الآخرة، فهم يُقْدِمُون على الله تعالى، وكُتُب أعمالهم بأيْمانِهم {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ*إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ*فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ*قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 19 ـــ 24] وأمّا الذين كفروا وتمرّدوا وعصوا، فماذا سيُلاقون عندما يَقْدِمون على الله تعالى {وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} وهناك سيقفون موقفَ الحسرةِ والندامة والذُّل {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ*يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ*مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ*هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ*خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ*إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ*وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ*لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة: 25 ـــ 37].

مجتمعان

وكما في الآخرة يختلفُ مجتمع المؤمنين عن مجتمع الكافرين، فهو مختلفٌ في الدّنيا {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} فآمنوا بالرسالات من قَبْلَك، وفَرِحوا برسالتك لأنَّها توافق ما عرفوه من الرسالات السابقة وما أُنْزِل على رُسُله ممّن جاء قبلَك {وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد : 36] وستواجه ـــ يا محمّد ـــ مَنْ يختلفون معك، ممّن يؤمنون بما هو خارجُ نطاق الحقيقة. فإذا رأيتَ الناس ـــ والخطاب مُوجَّه أيضاً لكلِّ داعية في سبيل الله ـــ تُنْكِرُ عليك ما جاء من عند ربّك، وترفضُ ما تدعو إليه من الحقّ، فلا تتراجع ولا تسقط، عندما تكون مقتنعاً بالحقّ، ومنفتحاً على الإيمان بصدق. كُنِ القويَّ الذي يعلنُ إيمانه من دون خوف ولا يَضْعُفُ أمام إنكار المنكرين وسخرية السّاخرين {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} إنْ تُنكروا أو لا، وإنْ تَقبلوا أو لا، ذلك شأنكم لأنّني أقمتُ عليكم الحجّة.. ورفضُكم لِما أدعوكم إليه لا يُغَيِّرُ شيئاً من موقفي، لأنَّ الحقيقة عندي واضحة، فإنّي أُوَحِّدُ الله وأعبدُه و{إِلَيْهِ أَدْعُو} وليس الأمرُ متوقّفاً على إيماني وحدي، بل إنّني أدعو النّاس معي ليؤمنوا به سبحانه، ويُطيعوه ويَستقيموا على دربه.. فأدعو إلى الله تعالى ليرتبطَ النّاسُ بالأهداف التي يريدُها سبحانه في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة، فالطريقُ الذي يؤدي إلى الله، سائرٌ فيه، والكلمات التي تعبِّر عن الله، فأنا أتحدّث عنها {وَإِلَيْهِ مَآبِ} وإنّني مُوقنٌ بالنتائج، وسأعود إليه سبحانه مطمئناً راضياً.

وفي الحديث عن العودة إلى الله للوقوف بين يديه، تسمع النّفسُ المطمئنّةُ نداءَ ربِّها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30] هي المطمئنة من خلال أعمالها، والمطمئنة بثواب الله على هذه الأعمال، وتعملُ لأنْ تسمع هذا النّداءَ الأخيرَ المُطْمَئِن عندما ترجع إلى ربِّها.

فيه تبيانٌ لكلِّ شيء فلا تسقط

وما ينكرونه إنَّما هو حُكْمٌ أُنْزِل بلغة العرب {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [الرعد: 37] وهو يمتدُّ إلى حياة النّاس وأوضاعهم، حيث لله في كلِّ واقعة حُكْم، فلم يتركْ سبحانه في الخطوط العامّة أو الخاصّة فراغاً في التشريع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3] فلا فراغ في تشريعاته على الإطلاق {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} فالتزم به واتّبعْه {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] فخطُّك خطٌّ مستقيم يعالج واقعك وواقعَ مَنْ حولك، ولذا فلا تخضع لأهوائهم، لأنَّه لو حدث ذلك {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد: 37] فلقد حاول طغاةُ قريش أنْ يجذبوا رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليهم، ليتراجعَ عن مواقفه، من خلال ما قدَّموه من إغراءات، وما استعملوه من أساليبَ ووسائل، وقد قال الله تعالى في ذلك: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً*وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً*إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء : 73 ـــ 75] ولقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يملك من القوّة بما أفاض اللهُ عليه من لطفه، ما يستطيعُ أن يواجه بها كلّ إغراءاتهم وضغوطهم، ولقد حاولوا وجَرَّبوا أن يجتذبوه إليهم ليميلَ معهم، لأنَّهم كانوا يعتبرونه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنساناً عادياً وليس نبيّاً، له طموحاتٌ وأطماعٌ وحاجات، ومن هنا حاولوا تطويقَه بكلِّ ذلك، ولكنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أطلق موقفين حاسمين في وجه إغراءاتهم، الأوّل من كتاب الله {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ*لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 ــ 6]. والثاني، فيما قاله لعمِّه أبي طالب (رضي الله عنه) عندما حمل إليه مقترحات قريش: "وَاللهِ يا عَم لَوْ وَضَعوا الشّمسَ في يميني والقمرَ في يساري على أنْ أتْرُكَ هذا الأمر ما تركته أو أُهْلَكَ دونه"(*). فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يملكُ الوعي في هذا الأمر، لم يكن ضعيفَ الموقف، أو الإنسان الذي يسقطُ أمام الإغراءاتِ والأساليبِ العاطفيّة. ولكنَّ الله تعالى أراد أن يوحيَ للمسلمين بأنَّ مسألة الانحراف عن الخطّ واتّباعِ الأهواء التي يُطلِقها المنحرفون، إذا ما حاول النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن ينساقَ معها ـــ وهو لن ينساق مطلقاً ـــ ولو أنَّه في أعلى درجات القُرب من الله، فإنَّه سبحانه سيفوِّت عليه أيّة فرصة للنجاة وسيُنزل به عقابه، فكيف إذا فعلتم ذلك أنتم؟

وهنا نقطة لا بدَّ من التوقّف عندها، وهي أنَّ البعض يُقدِم على ارتكاب المعاصي والفواحش والذنوب، معتقداً أنّه سينجو من عقاب الله، لأنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليّاً والزهراء (عليها السلام) يشفعون له يوم القيامة لأنّه يُحبّهم أو ينتسب إليهم. هذا منطقٌ تبريريٌّ لا يقبله الله تعالى، لأنَّ ما يُدخِل الإنسانَ إلى الجنّة، هو سيرُه على الخطّ المستقيم فيما رسمه الله سبحانه، وأمرَ باتباعه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام). وهذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: "خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النّارَ لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً"(**).

إذاً، ينطلق التهديد القرآني بعدم السقوط أمام الإغراءات والأهواء لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على طريقة "إيّاك أعْنِي واسْمعي يا جارة"، أي أنَّه تعالى يحذِّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى نسمعَ ونحذَر نحن {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} بعدما عرَّفك الله حقائق الإيمان ونتائج الأعمال، وأقام عليك الحجّة من خلال عقلك ووعيك {مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد : 37] لن تجد من أوليائك من ينتشلك من الله، ولن يقيكَ أحدٌ من البشر من عذاب الله تعالى.

نتائج المقارنة

ماذا نفهم من هذا الخطاب القرآني ونحن أمام جملة من التحدّيات؟ إنّنا ولا شكّ نشعر بالاعتزاز والعنفوان والقوّة بهذا الجيل الإسلاميّ الذي يقف بثبات أمام قوى الكفر والشرّ والاستكبار في كلِّ العالَم الإسلاميّ، هذا الجيل عندما يُخَيَّرُ بين الله والنّاس، فإنَّه يختارُ موقفَ الله. ومن هنا، فإنَّ علينا أن نوحيَ لأنفسنا بالقوّة دائماً، وندخل في مقارنة بين الله وبين النّاس، وبالتالي بين دنيا دنِيَّةٍ تؤدّي بنا إلى النّار، وبين الآخرة التي تؤدّي بنا إلى الجنّة، حتّى نثبّت أقدامنا ومواقعنا ونحصِّن مشاعرَنا وعواطفنا من الانزلاق فيما لا يرضي اللهَ تعالى، وبذلك لا يستطيع الشيطان أن يغشَّنا، ولا يقدر الذين يخوِّفوننا أن يخدعونا عن ديننا وإيماننا وربّنا.. إنَّ مقارنتنا ما بين الجنّة والنّار لا توقعنا في الغفلة ولا تنسينا ذكرَ الله، وبذلك تستقيم أعمالنا وأقوالنا وخطوطنا وأهدافنا في كلِّ مجالات الحياة.

 

 

 

 

31/10/1991م

في مواجهة النداء

 

دعوة للتفكُّر والاستنتاج

في القرآن الكريم تركيزٌ دائمٌ على مسألةِ توحيدِ الله وانفتاحِ الإنسان على عظمة هذه الوحدانية، لأنَّ الإنسان إذا امتلأ قلبُه وعقلُه بمعرفة الله سبحانه، استقامَ إيمانُه وحركتُه في خطِّ التقوى، وفي القرآن أيضاً تركيزٌ على يوم القيامة، لأنَّ الإنسان إذا نسيَ يوم القيامة، أخذ حرّيته في الانحراف عن طريق الله، ولكنْ إذا تذكّر يوم القيامة، تذكّر المسؤوليّة والموقف بين يديّ الله سبحانه، وتذكّر النهاية الخالدة بين أن تكون نهايةً في دائرة النعيم، وبين أن تكون نهايةً في دائرة الجحيم. وهذا ما يدعوه لأنْ ينفتح على الله في النِّعَم الجليلة والعظيمة التي سخّرها له، ليدركَ رحمتَه وعظمتَه ولطفَه في ذلك {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر : 13] يريكم آياته في البرِّ والبحر والسماء والأرض، وفي خَلْق الإنسان والحيوان والنبات، فعليكم أن تُلاحقوا هذه الآياتِ بالنّظرِ والتأمّلِ والتفكّر والاستنتاج، لتعرفوا من خلال عظمةِ آياته في الكون، عظمةَ ذاتِه في مقام الألوهيّة {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} يُنزل المطرَ من السّماء فيُحيي به الأرضَ بعد موتها {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس : 24] ولذلك، فإنَّ المطرَ النَّازلَ من السماء هو رزقٌ بشكلٍ مباشر فيما يحتاجُه الإنسانُ من الشراب، وهو رزقٌ بشكلٍ غير مباشر، فيما يُحيي به الأرض، فيُنبت النباتَ بقدرته، ويتغذّى به الإنسانُ والحيوان {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} ولا يتذكَّر اللهَ والمصيرَ والدارَ الآخرة، إلاّ مَنْ يرجعُ بقلبه إلى الله، وعندما يصبحُ القلبُ مرتبطاً به سبحانه، فإنَّ صاحبه لن يكون الإنسانَ الغافلَ، لأنَّه سيذكر ربَّه، وإذا ذكر الإنسانُ ربَّه ذكرَ نفسَه، وإذا نسي ربَّه نسيَ نفسه، فضلَّ وَهوى.

وليّ الوجود وحده

{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر : 14] فإذا كان اللهُ وليَّ وجودكم ووليَّ النِّعمة في هذا الوجود وإذا شعرتم بالحاجة في حالة الجوع والعطش وفي حالة الفقر والخوف، فادعوا اللهَ سبحانه وتعالى في ذلك، لأنَّ حاجاتكم كلَّها بيد الله. حتّى إِنَّكم عندما تحصلون على الحاجات من النّاس الذين من حولكم فيما يعطونكم إيّاه، ويحقِّقونه لكم من نتائج في حاجاتكم، فإنَّ الله تعالى هو ملَّكهم ما أعْطَوْكُم، وهو الذي ألهمهم أن يُعطوكم، وذلك قول الله سبحانه {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل : 53] سواء حصلتُم على هذه النعمة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، فالله هو الأوّل والآخر في كلِّ ما أنعم به عليكم.

{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ويوجِّهُ القرآنُ المؤمنين إلى أدبِ الدّعاء، إنَّكم عندما تَدْعُون الله وتبتهلون إليه وتطلبون منه ما تحتاجونه، فرِّغوا قلوبَكم من كلِّ شكّ وريب، ومن كلِّ غاية دنيويّةٍ، أَخْلِصوا بقلوبكم له، حتّى يطّلع سبحانه على هذه القلوب فيرى فيها صدقَ النيّة والتوجّه والإخلاص في العقيدة والخطِّ والالتزام {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} إذا كانت الحقيقةُ واضحةً أمام أعينكم وضوحَ الشمس، فإنَّكم ترتبطون بهذه الحقيقة وتقتنعون بها سواء رضيَ الآخرون أم كرهوا.. وهذا هو شأنُ الإنسانِ المؤمن الذي إذا عَرف ربَّه وخاف مقامه وعاشَ المصيرَ بوجدانِه وروحِه وعقلِه، وعرف أنَّ كلّ شيءٍ في وجوده مرتبطٌ بربِّه، فقيرٌ إليه، وأنَّ الناس محتاجون إلى الله كما هو ـــ الإنسان ـــ محتاجٌ إليه، فإنَّه عند ذلك لا يَحْسَبُ حسابَ النّاس أمام حساب الله، وإنَّما يجعلُ النظرَ متوجِّهاً لله، والقلبَ خائفاً من الله، محبّاً له وحده {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ولو كره الكافرون منكم هذا الإخلاصَ في دينكم، وهذه الدعوةَ لربِّكم، أُبقوا على هذا الإخلاص ولو أرادوا منكم أن تؤلِّهوا الرموز التي يؤلِّهونها، أو تعظِّموا القوى التي يعظِّمونها، لأنَّ قلب المؤمن لا يتّسع إلاّ لله، ولذلك فإنَّه يطرد من داخله كلَّ الشياطين، ويطرد كلَّ مَنْ يعبده النّاسُ من دون الله.

المقام الأعلى

وإنّنا نقدّم هذا الإخلاص لله تعالى، فلأنَّ عظمته تسيطر على كلِّ هذا الوجود {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر : 15] أيُّ درجة، بل أيُّ موجود أعظمُ في درجته ورِفْعَة مقامِه من الله سبحانه وتعالى، الذي لا يمكن أنْ يقترب منه أحدٌ في سموِّه وعلوِّه {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} ذو السلطة المهيمنة على العرشِ كلِّه، فليس هناك مَنْ يملك سلطةً مع سلطته، أو أن يعلو بعرشه فوق عرشِه سبحانه {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقد فُسِّر (الروح) بالقرآن وبالوحي وبجبرائيل (عليه السلام)، فإمَّا أنَّه يُلقي القرآن فيما يُنزله على مَنْ يختارُه من عباده وهو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو يُلقي الوحي الذي يُنزله على رُسُله الذين يُرسلهم إلى النّاس، أو يبعث جبرائيل فينزله على مَنْ يشاء من عباده {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} فيما يريده من شؤون التكوين أو التشريع، لأنَّ أمره قد يكون أمراً تكوينياً {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس : 82] وقد يكون أمره تشريعياً فيما يشرّعه من أحكام للنّاس ليعملوا بها {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية : 18] والعودة على الدوام إلى يوم القيامة {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} لينذرهم بذلك اليوم الذي يلتقي فيه الآخرون بالأوّلين، ويلتقي فيه الأصدقاء بالأعداء، ويلتقي فيه النّاس كلّهم بربِّ العالمين.. وهذا اليوم يحمل فيه رهبته وعظمته الكثير {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر : 16] جميعُ الخلق بارزون، لا جبال ولا كهوف ولا ظلمة ولا أستار، كلُّهم على أرضٍ واحدة في يوم القيامة، وهم واضحون في أشكالهم وملامحهم {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} يُطِلُّ سبحانه عليهم بعلمه، يعرفهم ويشاهدهم واحداً واحداً في كلِّ ملامحهم، حيث هم واقفون شاخصون بأبصارهم خائفون حائرون، وبارزون بكلِّ ما في داخلهم من مشاعر، كما هم بارزون في كلِّ ما في أجسادهم من ملامح.. ويُنادي المنادي في يوم الحشر {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية : 28] الكلُّ ساكتون، وينطلق النداء {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} هل المُلْكُ لمن كنتم تعطونهم صفة المُلْك في الدّنيا؟ أم لهؤلاء الذين كانوا يملكون الشرق والغرب ومصائرَ النّاس ومقاديرَ الأمور وقرارات الحرب والسلم؟ هكذا يتوجّه إليهم النداء، ولكنّهم جميعاً واقفون عاجزون حائرون لا يملكون من أمرهم وأمر غيرهم شيئاً.. في هذا اليوم لا سلطة ولا قدرة أمام سلطته وقدرته {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} الذي قهر عباده بالموت والفناء فهم لا يملكونه أيّة قوّة أمامه، لأنَّها مقهورةٌ بقوّة الله سبحانه {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19].

أيُّ نداءٍ أعظم من هذا النداء؟ تصوّروا الموقف العظيم بين يَدَي الله يوم القيامة، وانطلقوا من خلال الدّنيا بعقولكم ومشاعركم وأفكاركم إلى موقع هذا النداء.. النّاس كلُّهم مجتمعون، الجبابرة والطغاة والسلاطين والأمراء والعظماء والفقراء والضعفاء، كلُّهم واقفون شاخصون، فليس من مَالِك ولا زعيم ولا كبير إلاّ الله، وقارنوا بين كلِّ هؤلاء وبين الله، وعندها فكِّروا ودقِّقوا في حساباتكم، وتساءلوا، لماذا تربطون مصيركم بمن لا يملك شيئاً لنفسه، فتطيعونه وتعصون الله، وعندها تدركون أنَّ الذي يملك الآخرة يملك الدّنيا. هذه المفاهيم، لا بدَّ للإنسان المؤمن أن يحتويها في عقله وقلبه وشعوره، وهو إذا لم يركِّز هذه المفاهيم العقيدية في نفسه، فإنَّ الشيطان يجتذبه حتى ينحنيَ بعقله وقلبه تحت تأثير الذين يعتبرون أنفسهم آلهةً من دون الله.

في محكمة الآخرة

وإذ هم شاخصون حائرون يأتيهم النداء الآخر {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر : 17] كلُّ إنسانٍ يأخذ حقَّه ويُجازى بعمله، فيكون غنيّاً بحسب رصيده من الأعمال الصالحات، ويكون فقيراً بحسب أعمالِه الصالحات، فلا تعسّفٌ ولا ظلمٌ يصدرانِ منه سبحانه، لأنَّه لا يحتاج أن يظلمَ عباده، وأيُّ حاجة له بظلم عباده، وهو ليس محتاجاً إلى وجودهم، فهو القائل سبحانه: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء : 133] فلماذا يظلمُكم الله؟ الذي يظلمُكم ويخاف منكم فهو الضعيف، وقد ورد في الدعاء: "وقد علمتُ أنْ ليس في حُكمك ظلمٌ ولا في نَقمَتِك عجلة، وإنَّما يَعْجَلُ مَنْ يخافُ الفَوْت، وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف وقد تعاليتَ يا إلهي عن ذلك عُلُوّاً كبيراً"(*) فالله تعالى لا يحتاجُ أن يظلمَ عباده، لأنَّ الذي يظلمُ الآخر هو الضعيف الذي يخاف من هذا الآخر، فيبادرُ إلى ظُلمه قبل أن يسيطر عليه ويأخذَ قوّةً جديدة، وهكذا الحكّام فإنّهم يظلمون شعوبَهم لأنَّهم يخافون أن يثُوروا عليهم ويصادروا السلطةَ منهم.

إذاً، {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وقد ورد أنَّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) وكان يريد أن يُعجزه، فسأله: كيف يحاسِبُ اللهُ النّاسَ على كثرتهم؟ فأجابه (عليه السلام): "كما يرزُقُهم على كثرتهم"(**) فإرادةُ الله غيرُ إرادتك، وقدرةُ الله غيرُ قدرتك، وآفاقه سبحانه غيرُ آفاق البشر، فكما يرزُقهم جميعاً قادرٌ سبحانه أن يحاسبهم جميعاً كلمح البصر {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر : 18] وأزف الموعد، وعُبِّر عن ذلك بيوم القيامة، باعتبار قُرْب موعده {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج: 6 ـــ 7] فمهما تعتبرون أنَّ هذا اليوم بعيد، ولكنّه قريبٌ بعلم الله.. وفي هذا اليوم، يقف الخلق {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} تصل قلوبهم إلى حناجرهم بسبب الخوف، ويصلون إلى حالة من القلق والاضطراب على مصيرهم بحيث تكاد قلوبُهم تتقطّع في مواقعها، ويُخيَّل إليهم أنَّها وصلت إلى حناجرهم {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} فهذا الألمُ والخوفُ والمشاعرُ القلِقة مكبوتةٌ في نفوسهم، لا يستطيعون أن يعبِّروا عنها، لأنَّهم لا يجدون مَنْ يستمع إليهم، حيث كلُّ إنسانٍ مشغولٌ بنفسه {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس : 37]، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} هؤلاء الذين ظلموا أنفسَهم، وكان النّاس يتزلّفون إليهم في الدّنيا لما لهم من قوّة، ويتقرّبون إليهم لما لهم من جاهٍ، وينافقونهم ويمدحونهم بغير الحقّ لِما لهم من سطوة وسلطة.. هؤلاء وفي يوم القيامة لا أحدَ حولَهم من النّاس الذين كانوا يعظّمونهم، وليس لهم صديقٌ أبداً {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وليس لهم هناك أيّةُ شخصيةٍ نافذةٍ متقدّمة، كما كانت لهم في الدّنيا، يُطاع أمرُها، وتنفّذ كلمتُها.

وهذا هو التحذير الذي يُطلقه القرآن الكريم، فإذا كنتَ ظالماً لنفسك بالكفر بالفسق أو بالانحراف عن خطِّ الله، فاعرفْ أنَّك ستدخل القبر وحدك، وستُحشَر وحدَك، وستقفُ بين يَدَي الله وحدك، ليس لك هناك أحدٌ، لا من صديق ولا من شفيع {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم : 95] فإذا سُئلت عن أيّ عملٍ عملته في الدّنيا، لا بدَّ لك أن تجيب بالحقيقة، لأنَّ لسانك إذا انطلق بغير الحقيقة، فإنَّ من أعضائك مَنْ يشهدُ عليك {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس : 65] حتّى أنَّ جلودهم تصرُخُ بالحقيقة {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت : 21] ومن أين لكم أن تكذّبوا على الله، بأنّكم لم تظلموا وتقتلوا وتكيدوا للمؤمنين وهو تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر : 19] فالله سبحانه يطّلع على نظرة العين الخائنة وهي تحدِّق إلى ما حرَّمه، وعلى وسوسة الصدر وهي تضمر الشرّ.

ونتيجة لكلِّ المكاشفة والمساءلة {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر : 20] هو الحاكم سبحانه يوم القيامة، فيقضي بالحقّ، وليس في حكمه إلاّ الحقّ، أمّا {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} لماذا؟ لأنَّهم لا يملكون شيئاً، هم ضعافٌ أمام قدرتِه وقوّتِه وعظمتِه.. لذلك، انتبهوا جيّداً عندما تتكلّمون وتعملون {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فإذا كان سميعاً بصيراً بكلّ شيء، فكيف تأمن ـــ أيّها الإنسان ـــ على نفسك أن تتكلّم بما لا يُرضي الله، أو تنظر إلى ما حرَّم؟ إنَّ عليك أن تعرف {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة : 7].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

10/10/1991م

مسؤوليّتنا أمام الله

 

العلاقة مع الآخر وارتباطها بالهدف والمصير

في القرآن الكريم أكثر من آيةٍ تتحدّث عن أكثر من نموذجٍ من النّاس، من الذين ساروا على خطِّ الاستقامة، أو من الذين ساروا على خطِّ الانحراف، لأنَّ الله سبحانه يريد من الإنسان المؤمن أن يكون على وعيٍ من طبيعة الناس الذين من حولِه، ليفهمَ المجتمع والأشخاص الذين يعاشرُهم ويتعاملُ معهم في علاقاته، لأنَّ مسألة العلاقة مع إنسانٍ آخر تتّصلُ بمسألة الهدف والمصير، فيقول سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ*كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 3 ـــ 4] قد تنفتح على شخصٍ وتعطيه قلبك، وتسلّطه على عقلك، وتمكِّنه من التدخّل في حياتك انطلاقاً من نظرةٍ خاطئة أو عاطفة ساذجة. فإذا بهذا الشخص يعمل على أن يضلّك وينحرف بك عن الطريق، ويدمّر لك مصيرَك في الدّنيا والآخرة. ونحن نعرف أنَّ الكثيرين من النّاس الطيّبين قد سقطوا نتيجة سذاجتهم في معرفةِ النّاس، ودُمِّرت حياتُهم بسبب طيبتهم، لأنَّ الذين يعرفون سياسة اللّعب على الحبال، واللّف والدوران، وسياسةِ استثارة العواطفِ ومخاطبةِ الغرائز، استطاعوا أن يُضلّوهم عن سواء السبيل، فظلموا أنفسَهم والحياةَ من حولهم، وهذا ما عبَّر عنه اللهُ تعالى بقوله الكريم: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً*يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} [الفرقان: 27 ــ 28] يتمنّى وهو يواجهُ عذابَ الله تعالى في الآخرة، لو أنَّه لم يظلمْ نفسَه بالكفرِ والانحراف والتمرّد على الله، ويتحسَّرْ لماذا لم يجعلْ لنفسه طريقاً ينسجمُ مع طريق الرسول، بعيداً عن مصادقةِ فلانٍ ومشاركتِه والخضوعِ له في الخطِّ السياسي والاجتماعي وما إلى ذلك. ومنشأ هذا التحسّر هو ما آلَتْ إليه نتائجُ العلاقة بينه وبين فلان {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً}  [الفرقان: 29].

جاءني ذكرُ الله ووحيُه ومواعظُه، ولكنَّ هذا الصديقَ أو الرفيقَ أو الشريكَ أو القائد أضلّني عن الذكر وجعلني أعيشُ الغفلةَ بإيحاءٍ من الشيطان، وهذا الشيطانُ نفسُه لا يتحمّلُ مسؤولية ما عملت {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] عندما يعملُ الإنسان على أن يحمِّل الشيطانَ المسؤولية، فإنَّه يعلن خوفَه من الله، ولكن {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} [الحشر: 17].

الجدال بغير علم

ونعود إلى الآية التي تصدّرت هذا البحث {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} هناك مِنَ النّاس مَنْ لا يملك معرفةً ولا ثقافةً ولا علماً، ويدخلُ معك في الجدالِ بطريقة سطحيّة غوغائيةٍ وعاطفيّةٍ، ويناقشُ في الله والدّين والشريعة والسياسة وكلِّ شيء، ولكنّه يناقش نقاشَ الإنسان الذي لا يُدرك لِما يُناقش. وفي الوقت الذي أباحَ اللهُ تعالى لنا فيه الحوارَ والحِجاجَ والجدال، اشترط سبحانه علينا معرفةَ علم ما نحاورُ أو نجادلُ فيه، فقال سبحانه {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران : 66] لماذا تدخُلون في الحوار حول القضايا التي لا تملكون المعرفة بها؟ وهكذا، فإنَّ الإنسان الذي لا يملِكُ المعرفة في قضيّةٍ من القضايا ستحوّل حديثُه مع الطرف الآخر إلى غوغائية، وقد يتحوّلُ إلى شتائمَ وسُباب، لكنّه إذا كان عالماً بالقضية التي يجادلُ فيها، فإنَّك تستطيع أن تدخلَ معه في حوارٍ بشكلٍ علميّ ومركّز {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} هذا إنسانٌ يتولّى غيرَ طريق الله سبحانه، ويسيرُ في طريق الكفر والضلال، وليس على أساسٍ من علم، بل من خلال جهله وأهوائه وشهواته {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم : 29] ثمّ عندما يتحرّك في حياته يتحرّك في الضلال {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} غاوٍ يُزيِّن له طريقَ الانحراف عن الله تعالى. وكلمة الشيطان في القرآن الكريم لا تنحصر في الجنّ، فيقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام : 112] فكم من قيادات تتمثّل في زعماء ورؤساء وأمراء وملوك ومسؤولي أحزاب وتنظيمات سياسيّة تتأثّر بالتيّارات الشيطانية، فتعيش حالة شيطانية في أفكارها وخطواتها وأوضاعها، ولإبليس تلاميذ من الإنس والجنّ ينفّذون خططه ويلتزمون بأوامره ليصدّوا النّاس عن سبيل الله تعالى.

فإذاً، إنَّ الإنسان الذي يعيشُ الجهلَ ويسيرُ مقتدياً بالشيطان {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4] فمن سارَ خلفَ زعامته وتبنّى تعاليمه، فإنَّه سيُضلّه وسيسير به نحو الهاوية في الدّنيا والآخرة.

إنَّ الله تعالى عندما قدّم لنا هذا النموذجَ من النّاس، فلكي نتحمّل مسؤوليتنا أمامه سبحانه وتعالى فيما نفكّر فيه وننتمي إليه، لأنَّ النّاس غالباً ما يستغرقون في أوضاعِهم السياسية والاجتماعية، فيُعادون فلاناً، ويُوالون فلاناً، تحت تأثير شهواتِهم ومصالِحهم الدنيويّة، فيَنْسَوْن الله تعالى ويتّبعون خطواتِ الشيطان، ولذلك، فإنَّه سبحانه يحذّرنا مِنْ هذه النماذج من النّاس حتّى نتحسَّس مسؤوليتنا في الآخرة، فلا نقفُ موقفَ الحسرة والندامة، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2] وهكذا نفهمُ قولَ الله تعالى الذي يتضمَّنُ التحذيرَ من الانتماء إلى الذي يجادلُ بغير علم ويتَّبع كلَّ شيطانٍ غاوٍ، حتّى لا نكونَ في موقع الزلزال والعذابِ الشديد يوم القيامة الذي لا ريب ولا شكّ فيه.

 

واهب الحياة

وعن هذا اليوم الذي لا ريب فيه، حيث يقوم النّاس لربِّ العالمين، ولكي تتعمَّق في نفوسنا فكرةُ البعث بعد الموت، يقول تبارك وتعالى في الآية الخامسة من سورة الحجّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ} إنْ كنتم تشكُّون بأنّ الله تعالى سيبعثكم من جديد بعد الموت على طريقة مَنْ قال {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 ــ 79] فإذا كان الله تعالى قادراً على أن يُعطي الحياةَ للعظام ولم يكن فيها حياة، ولم تكن موجودةً أصلاً، فهو سبحانه قادرٌ على أن يُعيدها كما خلقها أوّل مرّةٍ، فلماذا تشكُّون في ذلك {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ} وهذا إمَّا إشارةٌ إلى آدم (عليه السلام) الذي خلقه اللهُ من ترابٍ بشكلٍ مباشر، ثمّ أجرى الله التناسل في الحياة على أساس النطفة {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71 ـــ 72] وإمَّا إشارةٌ إلى أنَّ كلَّ مخلوقٍ بشريّ مكوَّنٌ من نطفة، ولكنّ النطفة من أين أتَتْ؟ أتَتْ من الدّم، والدّم من أين أتى؟ أتى من الغذاء، وما أساس الغذاء؟ فكلُّ غذاءٍ أساسه التراب، إذاً، كلُّ إنسانٍ هو من التراب {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} تحوّل التراب إلى نطفةٍ تحملُ كلَّ خصائص الآباء والأجداد {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} التي تتحوّل إلى قطعة دم {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} وبعد ذلك تصبحُ قطعةَ لحم {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} مصوّرة وغير مصوّرة {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} كيف أنّ الله سبحانه يصوّر ويخلق طبيعة الوجود من مرحلةٍ إلى مرحلة {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} تصبحون في مرحلة الشدّة والشباب {وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى} في المراحل الأولى من حياته {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} هي الشيخوخة التي يفقد فيها الوعي حتّى لا يعيَ شيئاً {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} وكما الإنسان، كذلك الأرض، فمن موتٍ إلى حياةٍ بقدرته {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج : 5] في لحظة سكونها، يُنزِلُ الله تعالى الماءَ عليها، تهتزّ البذورُ الموجودة في داخلها، وتتفاعلُ مع الماءِ والتربةِ فتنطلقُ النبتةُ مرتفعةً فوق الأرض من كلِّ زوج من الفواكه والورود والخضرة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6] منه تعالى تصدُر حقائقُ الأشياء، وهو القادرُ على أن يُوجِد الأشياءَ من عَدَم، وقادرٌ في الوقت ذاته وبعد أن يُميتها أن يُعيدَ الحياة إليها، وما ذلك إلاَّ بقدرته، فقدرتُه الشاملة هي الأساس، وهو مسبِّب الأسباب ومنظِّم الكون، القادرُ على كلِّ شيء {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7] وهذه الآية تذكِّرُ الإنسان حتّى يعيش مسؤوليته انفتاحاً على الله ووعياً لدوره في الحياة.

نماذج ضالّة أخرى

ثمّ يحدّثنا القرآن الكريم عن نموذجٍ آخرَ من النّاس، فالنموذجُ الذي سبقَ الحديثُ عنه، نموذجٌ ضّال اتّبعَ نهجَ الشيطان، أمّا النموذجُ الثاني، بالإضافة إلى ضلالِه فهو يتّصف بالتكبُّر {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج : 8] لا يملُك علماً ذاتياً في نفسه، ولا يعرفُ طريقاً واضحاً يسير فيه، ولم يقرأ الكتبَ التي تتضمَّنُ الحقيقة {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج : 9] يسيرُ في الأرضِ بكلّ الخُيلاء والزّهو والتكبُّر مُستعلياً على النّاس ليسيطرَ عليهم وليضلَّهم عن طريق الله، وليس له في الدّنيا إلاَّ الذلُّ، وأمّا في الآخرة ففي جهنّم وبئسَ المصير {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [الحج : 10] فنلتَ من الذلِّ والحريق في الدّنيا والآخرة، لأنَّك ظلمتَ النّاس وطغيت واستكبرت وعملت ما لا يريده الله من عباده.

ونموذجٌ ضالٌّ آخر {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11] ورد في تفسير {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي عنده حَرْفٌ من الإيمان، ودلالة ذلك أنَّه لا يملك عُمقاً في الإيمان والعبادة، ومعرفته بذلك معرفةٌ سطحيّة جدّاً، هذا وجهٌ للتفسير، ووجهٌ آخر، كأنَّ هذا الإنسان واقفٌ على حرف الجبل، فإذا ما جاءت الريح، فإنَّه يسقطُ إلى الأسفل فوراً. فهذا الذي يعبدُ اللهَ على حرف، يعبدُه سبحانه ما دام الهواء هادئاً، فإذا ما قَوِيَ واشتدَّ فإنَّه يقعُ، لأنَّه لا يملكُ رصيداً إيمانياً عالياً، ولا ثقافةً تقوائية مركّزةً، ولا قاعدة صُلبة يرتكزُ عليها، لذلك {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} يحمد اللهَ ما دامت أمورُه ميسَّرة {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} يحمدُ أيّام الهدوء والراحة، وبدأت أيّامُ الشدّة والاختبار {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} لأنَّه يقف على حرب الجبل، فهو لم يعرف أن يميّز بين الخبيث والطيّب، وبين المستقيم والمنحرف، وبين الحقِّ والباطل، وبين الضالّ والمهتدي {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11] وهذه أصعب الخسارات وأدهاها.

ومن صفات هذا النموذج الضّال {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [الحج : 12] فأيُّ ضلال أكثرُ بُعْداً من أن يتركَ اللهَ الذي هو مالِكُ الضُّر والنفع، ومالك الحياة والموت؟ {يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج : 13] هو يلجأ إلى مَنْ يُدخِلونه في العداواتِ والمخاصماتِ والمشاكل، وينحرفون به عن خطِّ الاستقامة، إلى هؤلاء الطغاةِ الذين تحصلُ المضارُ باتّباعهم في الدّنيا والآخرة، ولو قايس بين المضارِ التي تحصُلُ له من خلال اتّباعهم وبين المنافع، لرأى أنَّ المضار أكثر من المنافع، فلبئس ما اتّخذ من مولىً ونصير.

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج : 14] إذاً، اجتنبوا خطَّ أولئك، وانطلقُوا مع خطِّ الله تعالى، هذا الخطُّ الذي يحملُ الإيمان والعمل الصالح، وجزاؤهُ جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهار، وهي لمن يرغب في الجنّة، فآمن بالله وعَمِلَ صالحاً.

 

 

14/11/1991م

ثمن الجنّة

 

الحقُّ الذي لا يأتيه الباطل

العقيدةُ الأساسيّةُ التي يجب على المسلم أن يحملها في عقله، وهي أنَّ القرآن الذي أنزله اللهُ على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الحقُّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الحقُّ في كلّ مفاهيمه التي بيَّنها وأوضحها في العقيدة والشريعة وفي الكون والحياة وكلّ القضايا التي أثارها والقصص التي تحدّث عنها، بحيث إنَّ المسلم إذا توقّف عند أيّة فكرة في القرآن، وأيّةِ عقيدةٍ وتفسيرٍ وقصّة، لا بدَّ أن يعتبرَ أنَّ ذلك كلَّه هو الحقّ الذي لا ريب ولا شكّ فيه {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر : 31].

وهناك نقطةٌ أساسية في الحقيقة القرآنية، وهي أنَّ القرآن جاء مصدِّقاً لما بين يديه، حيث لم يتنزّل ليكذب التوراة والإنجيل، بل ليقولَ للنّاس إنَّ الله أنزلَ التوراةَ على موسى وهي الحقّ، وأنزل الإنجيلَ على عيسى وهو الحقّ، وأنّه ـــ القرآن ـــ جاء ليصدِّق هذا وذاك، وليُضيف إليهما ما استجدَّ من قضايا، وما تحتاجُه الحياةُ من أحكام، تماماً كما هي وظيفة كلِّ رسول، أنَّه أتى ليُكْمِل ما بدأه الرسول الذي سبقه، فقد يأتي الرسولُ لِيُحِلّ للنّاس بعض ما حُرِّم عليهم، لأنّ التحريم قد انتهى وقته وأصبحت المصلحة في الحِليّةِ أو بالعكس.

ومن هنا، فإنَّ كلَّ رسولٍ يأتي مبشِّراً بالرسول الذي بعده ومصدِّقاً للذي قبله وللكتب التي أُنزِلَتْ قبله. وقد تحدّث القرآن الكريم عمّا جاء في التوراة والإنجيل، ولم يتحدّث عنهما بطريقةٍ سلبيّة، بل كلُّ ما هناك أنَّه تناول الحديثَ عن التحريفات على أيدي أهل الكتاب في التوراة والإنجيل، ولم يقتصرْ على هذين الكتابين السماويين، بل تحدّث عن صُحُف إبراهيم وزبور داود {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18 ـــ 19]، {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء : 163].

والإسلامُ هو الدِّين الوحيد الذي يعلِّم أتباعه أن ينفتحوا على كلِّ الأنبياء {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة : 136] وفي آيةٍ أخرى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة : 285] بمعنى أنَّ كلَّ الرُّسل الذين أرسلهم اللهُ تعالى، سواءً آمن بهم اليهود والنّصارى أو لم يؤمنوا بهم، فإنَّ المسلم يؤمن بهم جميعاً، وفي الوقت الذي قد يُسي فيه النصارى إلى النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالحديث عنه بطريقةٍ سلبيّة، أو يُسيءُ فيه اليهود إلى عيسى (عليه السلام) والنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنَّ المسلم لا يملك في أيّة حالةٍ من الحالات أن يتحدّث بطريقة سلبيّة عن أيِّ نبيٍّ من الأنبياء، لأنّهم في عقيدته رسلٌ من عند الله سبحانه.

فإذاً، إنَّ المسلم يختزنُ في عقيدته أنَّ القرآن وما جاء به هو الحقُّ من الله. وهنا نلاحظ أنَّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وعندما كثُر الكَذَبَةُ عليهم، والوضَّاعون الذين ينسبون إليهم أحاديثَ غيرَ صحيحةٍ عن لسانهم، قالوا لنا: "ما جاءكم من حديث من بَرٍّ أو فاجر فاعْرُضوه على كتاب الله، فما وافقَ كتابَ الله فخذوه، وما خالَفَ كتابَ الله فاضربوا به عرض الحائط" فإذا كان الحديثُ المرويُّ عن أهل البيت (عليهم السلام) لا يتناسب مع الحقائق القرآنية، نرفضُ الحديثَ ونعتبرُ أنّ الإمام لم يَقُل هذا الحديث، ولذا، قال الإمام الصادق (عليه السلام): "ما خالَفَ قولَ رَبِّنا لم نَقُلْه" فكان القرآن الكريم هو الأساس في معرفتنا بصحّة هذا الحديث أو فساده.

ظالمٌ ومقتصدٌ ومسارعٌ في الخيرات

ونعود إلى الآية الكريمة {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر : 31] خبيرٌ بعباده يعرفُ ما يحتاجونه فيما يبيّن لهم قاعدته الفكريةَ والنفسيّة والحياتية، فيُنزل عليهم الكُتبَ بشكلٍ تدريجيٍّ، ويَبعثُ إليهم الرُسل، حتّى يُلبِّي كلُّ رسولٍ حاجاتِ المرحلة التي تتحرّك فيها رسالته، وليقدّم كلُّ كتاب ما يحتاجه النّاس من الحلول والمفاهيم {بِعِبَادِهِ بَصِيراً} يعرف كلَّ ما يحتاجونه ويعيشونه.

وقد تنوَّع النّاس في تلقّيهم لدور الرسل والرسالات {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر : 32].

في مواجهة الكتاب الذي يتضمَّن العقائد والشرائع، انقسمَ النّاسُ في القبول بهذا الكتاب إلى عدّة اتّجاهات {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} اخترناهم وجعلناهم الجيلَ الذي يتحرّك في خطِّ الرسالة {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أنكرَ عقيدةَ الكتابِ ورسالةَ الرسول من دون حجّة ولا برهان، فظلمَ نفسَه التي سارت في طريقٍ يؤدّي إلى سَخَط الله تعالى وإلى عذاب النّار {وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} لم يتحرّك في ظلم نفسه بعيداً، ولم يتحرّك في الخير بعيداً {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} فاستجابوا لربّهم {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون : 61] ولبُّوا النداء {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 133] وذلك السَبْقُ الكبيرُ إنَّما يكون {بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فالخيرات أو الكتاب هو الفضل الكبير.

ولهؤلاء السابقين إلى الخيرات {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر : 33] ما جزاءُ هؤلاء الذين كانوا يتنافسون على رضا الله أكثرَ ممّا يتنافسون على رضا النّاس، ويتنافسون في الخير أكثرَ ممّا يتنافسون على جمع المال، هؤلاء أعطاهم اللهُ الفضلَ الكبير، وما هو هذا الفضل {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} في الدّنيا يُحرَّم على الرجال لبسُ الذهب، ولكن في الآخرة يُبيحُ الله لهم ذلك، جزاءً لقلوبهم وأفكارهم وخُطواتهم الذهبيّة، وذلك عندما جعلوا حياتَهم أصيلةً كأصالة الذهب، صافيةً كصفائه، لامعةً كلمعانه. أعطاهم ذلك، لأنّهم عاشوا في حياتهم بعيداً عن الزيف، وتحرّكوا في المعدن الأصيل الذي يمثّل الأصالة في جوهره وطبيعته. وإضافة إلى ما يُحَلَّوْنَ به من الذهب يهبهُم الله {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} فيعيشون في الآخرة جوَّ الرّخاء بعيداً عن التعب والألم والبلاء والمشاكل، فيتزيّنون باللؤلؤ والحرير، حيث تُحيطُ بهم الزينةُ من كلِّ مكان، فحرّيتهم في الآخرة حريّةٌ مطلقةٌ وبلا حدود. وعند دخولهم إلى الجنّة توجّهوا إلى الله {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر : 34] كان لا يمرُّ يومٌ في الدّنيا إلاّ ونحزن، نحزن على أكلةٍ لم نأكلها، أو شربةٍ لم نشربها، أو بيتٍ لم نسكنه، أو شهوةٍ لم نَنَلْها، أو مركزٍ لم نحصل عليه. وهكذا، الدّنيا دار الحزن، يحزنُ الإنسانُ فيها على الصغير والكبير، ففي أعمال الإنسان وعلاقاته وأوضاعه كثيرٌ من الألم والمصائب والحزن، حتّى السرور، يأتيه ممزوجاً بالحزن، فاللّذة والراحة والسعادة تأتي محمَّلة بالتعب والهمّ والجهد:

طُبِعَت على كَدَرٍ وأنتَ تريدُها              صَفْوَاً مِنَ الأقْذَاءِ وَالأكْدارِ

فهذا غير ممكن

ومُكَلِّفُ الأيّام ضِدّ طباعها                 مُتَطلِّبٌ في الماء جَذوةَ نارِ

 

فالإنسانُ يريدُ الدّنيا صافيةً وفَرِحة تماماً، كمن يطلبُ الماءَ من داخل الجمر، وهذا غير ممكن أيضاً.  

هذا في الدّنيا، أمّا في الآخرة فكلُّ الألمِ والحزن يزول {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} وصلنا إلى مرحلة لا حزنَ ولا ألمَ فيها، وليس هناك ممّا كان يعاني منه الإنسان في الدّنيا {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} أخطأنا في حياتنا، فتُبنا وغفَر لنا اللهُ هذه الخطايا، فَعَمِلْنَا بما يُرضيه، فشكرَ سبحانه لنا ذلك، وكان من علامةِ شكرِه لنا أنْ أدخلنا في رحمته ووهَبنا الجنّة، فهو الوهّاب {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر : 35] فأقمنا في جنّته حيث لا تعب ولا حزن ولا نَصَب.

وأخذهم الله بكفرهم

هؤلاء هم أهل الجنّة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36] في مقابل الذين سابقوا في الخيرات وآمنوا بالله وبرسله، يقف الذين كفروا بالله ورسله ورسالاته، كفراً عقيديّاً وكفراً عملياً. فكان للمؤمنين الجنّة، ولهؤلاء كانت جهنّم، لا يموتون فَيُخَفَّف عنهم، ويبقى العذاب نازلاً بهم جزاء ما كسبت أيديهم.. وهذه نهاية كلّ جاحد كافر بالله ورسالاته ونِعَمِه.

ويصوّر القرآن ذلَّهم وحالَهم في جهنّم {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} ويطلبون فرصةً جديدة تسمحُ لهم بالعودة من جديد ليعملوا صالحاً غيرَ ما عملوه من سوء وآثام.. فهم مهما توسّلوا لن ينالوا مرادهم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37] فلا فائدة من طلبكم، لقد أخذتُم فرصتَكم كاملةً في الدّنيا، فما استمعتم للمنذرِين الذين ينذرونكم بعذاب الله، فتمرّدتم واستهزأتم، ففشلتم في كلِّ التجارب، وعلى هذا، فذوقوا العذابَ ولن تجدوا مَنْ ينصرُكم أو يشفعُ لكم.

ويأتي التحذير للنّاس {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فاطر: 38] لا تأخذوا حريّتكم في المعاصي، ولا تحسُّوا بالأمن عندما تَرَوْنَ أنّكم وَحْدَكُم {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} غيبَ القبور والمغاورِ والبحارِ والجبالِ والسموات {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} عندما تفكِّر ولا تشعر بالأمن، ولا تظنُّ أنَّك عندما تفكّر بقتل فلان وهتك حرمة فلان، أو تخطِّطُ للفتنة والظلم، أنَّك بعيدٌ عن علم الله.

ولا تنسوا أنَّ الله {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً} [فاطر: 39].

أيُّها الذين يريدون ربحَ الدّنيا، تأكّدوا أنّكم مهما جنيتم من أرباح، فسوف يزولُ كلُّ الرّبح، فاعملوا لتربحوا في الآخرة وتتاجروا اللهَ تجارةً لن تبور.

 

 

 

 

 

 

 

 

5/9/1991م

إنّك ميّت

وإنّهم ميّتون

 

الحقيقة الحتميّة

هناك حقيقةٌ تفرض علينا وجودها، ولا مجال لعدم الإقرار بها، وتشكِّل النهاية الحتميّة لوجودنا في الحياة، وهذه الحقيقة هي الموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران : 185] هذه الآية تلخِّص للإنسان طبيعة الحياة وأهدافها.. وهناك مِنَ النّاس مَنْ يعيشون الحياةَ ويستغرقون فيها ويُشغِلون أنفسهم بكلِّ ملذّاتها وشهواتها وأطماعها من دون أن يفكِّروا أنَّ هناك نهايةً لكلّ ذلك. فنحن نأكلُ لأنّنا نشتهي الأكل، وننام لأنّنا نشعر بالتعب، ونعملُ كما لو كانت الحياة خالدةً باقيةً لنا، ولذلك فلا نُحسُّ بصدمة الموت في أنفسنا، بل نحسُّها بالآخرين، فنحن عندما نسمع أنَّ فلاناً من أقاربنا أو أصدقائنا ومعارفنا، مات، نُفاجَأ ونُصدَم، ونطرحُ الأسئلة حول موتِه وكيف مات، وما سيترك موته من آثارٍ سلبيّة أو إيجابيّة على حياتنا وحياة النّاس من حولنا، أمّا أن نشعر بلذعة الموت في أنفسنا، فهذا ما لا يستشعره الكثيرون منّا.

استشعار الموت والروحانيّة

ومن هنا، وحتّى يعيش الإنسان هذا الشعور في ذاته، فقد ورد في المستحبّات الشرعية أن يقول الإنسان أثناء تشييع الجنازة: "سبحانَ مَنْ تعزَّز بالقدرة والبقاء وقهر عباده بالموت والفناء" هذه كلماتٌ يردِّدها المشيِّعون خلف الجنازة، فهم عندما يشعرون أنَّ فلاناً مات، يدركون أنَّ الموت هو مظهرٌ لقدرة الله، وأنَّه سبحانه كما يُحيي، كذلك يميت، فهو الخالد وكلُّ النّاس إلى فناء، لأنّهم خاضعون له، مقهورون لإرادته. وهذا ما يدفعُ الإنسان لأن يستشعر وهو خلف الجنازة أنَّه فانٍ، كما هو هذا الميّت فانٍ، وأنَّه سيموت غداً، كما مات هذا بالأمس.

وهكذا عندما نقول أيضاً: "هذا ما وعد اللهُ ورسولُهُ، وصدق اللهُ ورسولُه، وما زادنا إلاَّ إيماناً وتسليماً" هذا ما وعد الله سبحانه، لأنَّه يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} ويقول تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30] وصدق اللهُ ورسولُه بالوعد، لأنّنا نرى أنَّ الحياة تتحرّك في طريق الموت، وأنَّ النّاس يولَدون ويموتون ويُبعثون. ونحن أمام هذا الوعد الإلهيّ، وهذا الوعد الرسوليّ، نؤمنُ بالله ونُسَلِّم أمرَنا إليه، لأنَّه ربُّنا الذي خلقنا. وعندما نسلِّم بالموت، فلأنَّنا نقتنع بأنَّ الله تعالى أعرف بالمصالح.. صحيحٌ أنَّ فلاناً الذي مات كان قائداً ومجاهداً وعبقريّاً، وأنَّ فلانة التي ماتت كانت مؤمنة صالحة، ولكنَّ الصحيح أيضاً أنَّ الأنبياء يموتون، والأولياءَ والعلماءَ يموتون، والله تعالى يعرف ما يُصلِح أمورنا وما يُفْسِدُها، وهو أولى بنا من أنفسنا، لأنَّه خالقُنا ومالكُنا. لذلك كان التوجيه الإلهيّ واضحاً في مسألة الصبر على ما يُصيبنا من موت وغيره، فيقول سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة: 155 ـــ 156] فنحن مملوكون لله، وسنرجع إليه كما رجَع غيرُنا، وسنؤدّي حسابَنا بين يديه سبحانه، والذين أقرّوا بالعبودية لله وصبروا {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] فهؤلاء الذين يقولون {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} الذين يسلّمون أمورهم لله، ويذكِّرون أنفسهم بأنّهم وما يملكون مُلْكٌ لله، وأنَّهم ليسوا خالدين في الدّنيا، هؤلاء عبادُ الله المهتدون، الذين تتنزَّل عليهم الصلواتُ والرَّحمةُ من الله ربِّ العالمين.

ومن الكلمات التي تهذِّب النفس وتُقال أثناء السير خلف الجَنازة "الحمد لله الذي لم يجعلني من السواد المخترم"(*) هذا الذي يتَّعِظ بالموت، يطلب من الله سبحانه ألاَّ يموت على غير هدىً وبصيرة، كما هم الكثيرون الذي ينتقلون من هذه الدّنيا على غير الهدى والتُّقى والإيمان ورضا الله. ولذا، فإنَّنا نؤكِّد على ضرورة أن نعيش هذه الأفكار ونحن نشيِّع جَنازة ميِّت لنعيشَ عمقَ الإسلام في الانفتاح على اليوم الآخر، فنحن إذا لم نَعِش هذه الأجواء أثناء التشييع، أو أثناء الجلوس عند قبور الأموات، فمتى نتذكَّر يومَ القيامة والحساب؟ إنَّ الله تعالى يريدنا ألاَّ ننسى يوم القيامة، لأنَّنا إذا نسيناه، فقد أهملنا كلَّ القواعد الأساسيّة التي تجعلنا نثبت على أساس الحقّ.. وبقدر ما ننفتح على فكرة الوقوف أمام الله في يوم القيامة، نصبح أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة متسلّحين بالحقّ والإيمان {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] فنحن ناجحون على كُلِّ حال، إمّا النّصر وإمّا الشهادة، وإنَّما تكون الشهادة نصراً باعتبار أنَّها تنطلق من الدفاع عن شرع الله تعالى وعن أرض المسلمين، وما يجده الشهيد عند ربِّه من فوزٍ عظيم في جنّات النعيم. وإذا لم نَعِش الروحانيّة والخشية من الله، فكيف يمكن أن نفكِّر بشهادة مفتوحة على الله، أو نصرٍ مفتوح على الله؟

ولذا، يجب ألاَّ نُغفل دور الروحانية في حياتنا، لأنَّ ذلك ينسينا الله تعالى، ولنا في النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أسوةٌ حسنة، فهذا الحسين (عليه السلام) لم ينسَ الله في أشدّ الساعات، وهذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما ينقله أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) بأنَّ المسلمين عندما كانوا في موقعة بدر، وكان عليٌّ يحارب ويقاتل، كان يعود إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين ساعةٍ وأخرى، فيجده ساجداً يقول: "يا عليُّ يا عظيم".

 

الفوز الحقيقي

ونعود إلى الحقيقة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء : 35]، إذاً سنموت، وعلينا دائماً أن نذكِّر أنفسَنا بالموت، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إنَّ القلوب لَتَصْدَأُ كما يصدأُ الحديد، قالوا: يا رسول الله، وما جَلاؤُها؟ قال: قراءةُ القرآن وذكرُ الموت" فكلّما ذكرتَ الموتَ أكثر، كلّما انفتحتْ عيون قلبك أكثر، وانفتحتْ نوافذُ قلبك على الله والآخرة أكثر، وهكذا في قراءتك للقرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحجّ: 1 ـــ 2].

نقرأ القرآن فنلتقي بما يُذكِّرنا بالله والحسابِ واليوم الآخر، وبما يُذكّرنا بالموت، وعندها نستعجلُ العملَ قبل أن تفوتَ الفرصة، فنؤدّي لله تعالى حقّه، وللنّاس حقوقَهم، ونتصوّر الموتَ فيما دعا به الإمام زين العابدين (عليه السلام) "اللَّهمَّ اكفنا طولَ الأمل وقصّره عنّا بصدق العمل حتّى لا نؤمِّل استتمامَ ساعةٍ بعد ساعة ولا استيفاءَ يومٍ بعد يوم، ولا اتّصالَ نَفَسٍ بِنَفَس ولا لحوق قَدَمٍ بِقَدَم وسلّمنا من غروره وآمِنَّا من شروره وانْصِبِ الموتَ بين أيدينا نصباً ولا تجعل ذكرنا له غِبّاً"(*) نحن لا نتذكّر الموتَ قبل أن يَحين الأجلُ لنموت، وإنّما نتذكّر الموت لنعرف كيف نواكب حياتنا لتكونَ في طريق الله، وكي لا نكونَ كأولئك الذين يعيشون ويموتون كما تموت الأنعام بلا غايةٍ ولا هدف، بل ننطلقُ في الحياة على أساس الخطوط التي رسمها الله، بحيث يكون مأكلُنا ومشربُنا وملبسُنا وعلاقاتنا الاجتماعية والسياسيّة ليس فيها شيءٌ من الحرام أملاً برضى الله تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فالعمل في الدّنيا مدّخَر للآخرة {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} وهذا هو النجاح، عندما تصل إلى النار تُزَحْزَحُ عنها وتذهب إلى الجنّة. وهذا ما يدفعك في الدّنيا لأنْ تفكّر في كلِّ عملٍ تعمله، هل يأخُذك إلى الجنّة، أم إلى النار؟ فإنْ رأيت النّارَ فيه فاتركه، حتّى ولو كانت لذّتُك أو مصلحتُك الخاصّة فيه، وإنْ رأيتَ الجنّة فيه فاتّبعْه، حتّى ولو تألّمتَ وخسرتَ الكثير. وفي ذلك يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "ما خيرٌ بخيرٍ بعدَه النّار، وما شرَّ بشرٍّ بعده الجنّة"(**). وإنّ نظرة فاحصة على هذه الدّنيا تُرينا كم فيها من أوهام {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران : 185]. كم مِنْ أُناس ضجَّت الدّنيا بهم، هذا يؤيّدهم، وذاك يناصرهم، ولكن عندما ماتوا ضاع ذكرُهم "مولاي يا مولاي، وارحمني إذا انقطع مِنَ الدّنيا أثري، وامحّى من المخلوقين ذِكْري وكنت من المنسيين كَمَنْ قد نُسِي، وارحمني عند تغيِّر صورتي وحالي إذا بَلِيَ جسمي، وتفرّقت أعضائي وتقطّعت أوصالي يا غفلتي عمّا يُراد بي ـــ إنَّا كنّا غافلين ـــ وارحمني في حشري ونشري واجعل في ذلك اليوم مع أوليائك موقفي وفي أحبّائك مصدري وفي جوارك مسكني يا ربَّ العالمين"(*). علينا أن نفكِّر بالموت دائماً، وأن نعيشَ حياتَنا على أساس أن تكونَ الدّنيا مزرعة الآخرة، فلنعملْ لله تعالى حتّى نلقاه ونحن على طاعته.

 

 

 

 

 

 

28/11/1991م

وحبطت أعمالهم

 

عندما يُعرَضون على جهنَّم

مشاهد يوم القيامة كثيرة ومتنوّعة في القرآن الكريم، حيث في هذا اليوم يقدم النّاس بين يديه تعالى ليحاسبهم على أعمالهم، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشرّ. ونتوقّف عند مشهد من مشاهد هذا اليوم العظيم، حيث يقول سبحانه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً*الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف: 100 ـــ 101].

يجمع الله الكافرين الذين يتميّزون يوم القيامة بملامحهم القاسية العابسة، وبوجوههم الكالحة، وبقلقهم الحائر في أعينهم، وبخوفهم الذي يسيطر عليهم، منفردين منعزلين {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] قفوا في موقفٍ يميّزكم عن المؤمنين حتّى يبدأ حسابُكم ولتنالوا جزاء ما كسبت أيديكم.

ووجهاً لوجه يقفون أمام جهنَّم {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} بحيث إِنَّهم يرونها أمامهم، تُعْرَض عليهم بكلِّ تفاصيلها وزفيرها {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقّة: 18]. وما الذي جعل هؤلاء المتمرّدين الكافرين في هذا الموقف؟ إنّهم في الدّنيا امتدّوا في كفرهم وطغيانهم {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} فكانت الغشاوة على أعينهم، وكان في سمعهم وَقْرٌ.. ومن الطبيعيّ أنَّ الله تعالى لا يريد أنْ يحدّثنا عن الكافرين أنّهم كانوا عمياً في الدّنيا، فأكثرهم مبصرون، أو أنّهم صُمٌّ لا يسمعون، لأنَّ أغلب الكافرين كانوا ممّن يسمعون. ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يعرّفنا حجم غياب أعينهم التي يبصرون بها، وآذانهم التي يسمعون بها عن الوعي والإدراك والمسؤولية. ولذلك، فإنَّه تعالى شبَّه الغشاوة التي تحدث في العين فتحجب عنها البصر وتمنعها من رؤية النور، بالغشاوة التي تحدث في العقل والقلب فتمنعهما عن الوعي ووضوح الرّؤية في الأشياء {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 46] هؤلاء، هم الذين عميت قلوبهم في الدّنيا وفي الآخرة {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 125 ـــ 126] فعاشت قلوبهم في الدّنيا داخل غطاء من شهواتهم وأنانيّاتهم وغفلتهم {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين : 14] الرّين هو هذه القذارة التي تحصل في القلب فتتحوّل إلى غشاءٍ يصدُّ القلب عن الحقّ.

وعلى هذا، فإنَّ الذين يُعْرَضون على جهنّم هم {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} فكانوا يعيشون الصَّمَمَ الداخليّ الذي يتمثّل في الرفض للسماع. والله تعالى جعل السَّمْعَ نافذةً تُطِلُّ على العقل، تنقل إلى الإنسان ما يمكن أن تبيِّنه، فيسمع الكلمة لِيُدخلها إلى عقله حتى يفكِّر بها. ولكنّ، إذا أغلق الإنسان أُذُنيه ورفض أن يستمع ويعي، فأيُّ فرق بين أن يكون له سَمْعٌ وهو يُغلق أُذُنيه ووعيه عن المعرفة، وبين ألاّ يكون له سَمْعٌ مطلقاً؟ ولذا، تحدَّث الله عزَّ وجلّ عن الذين يكون لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها ولهم أعينٌ لا يُبصِرون بها. أي لا يستخدمون قلوبهم وآذانهم وأعينهم في معرفة ما يجهلون.

وهم عُرِضوا على جهنّم لأنّهم عبدوا النّاس من دون الله {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} [الكهف : 102] أحسب هؤلاء الكفّار ومَنْ سار سيرهم وقلّدهم وعاونهم وأيّدهم، أنَّهم يملكون القوّة والحريّة والسّاحة الواسعة، ليتصرّفوا على حسب مزاجهم وأهوائهم، ليتّخذوا هذا القويَّ إلَهاً من دون الله، فيأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه ويؤيّدونه في مواقفه ويُقوّون مواقعه، ويعصون أوامر الله ويتركون منهجه وأولياءَه، أَحَسِبَ هؤلاء أنّهم سيُمارسون ذلك ولا يتحمّلون المسؤولية في مواجهة العذاب؟ ولماذا خلق الله جهنّم؟ {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} جعلها منزلاً للكافرين وأفرد لكلّ كافر مكاناً يجلس فيه هناك.

الأخسرون أعمالاً

ويحدّثنا القرآن الكريم عن نماذجَ من البشر قد نصادفهم في حياتنا، يقول عنهم تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 ــ 104] إنَّهم يعيشون أقسى وأشدَّ الخَسارة، خَسارة العمر وخَسارة المصير وذلك عندما يقعون في جهنّم {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15] وحَسْرَةُ الخسارة التي يعيشونها نشأت من خلال الواقع الذي تحرَّكوا فيه، وحالُهُم كحال مَنْ ينطلقُ وقلبُه مطمئن بأنَّه رابح، وعقلُه ممتلئ بأنَّه فائز، والنّاس من حوله يتحدّثون عن أنّه الرابح الأكبر، ويعيش في نفسه هذا الأمل الكبير لأنَّه يرى نفسه أنَّه يسير في خطِّ الربح، فإذا بالنتائج تأتي على غير ما يتمنّى.. تماماً كمن يعمل في المجال التجاري فيُنشئ مصانعَ ويوظِّفُ عمَّالاً، ويتحرّك في مختلف الاتّجاهات، وهو يرى أنَّ هذا الطريق هو الذي يحقِّق له الربح. ثمّ إنَّه عندما يصل إلى نهاية المطاف ليحصد ما زرع، ويحصُل على ما أنتج، وكان يُخَيَّلُ إليه أنَّه في طريق الربح. وإذا بالصدمة الكبرى، فالخَسارة مئة بالمئة، وهنا تكون الخَسارة من جهتين، خسارةً من واقع الخَسارةِ المادّية، وخسارةً من خلال الصدمة النفسيّة التي يشعر فيها بعمق الخَسارةِ في عقله وقلبه وأعصابه وكلِّ حياته. والفرق كبير بين مَنْ يحتمل الخَسارة، فتأتي النتائج طبيعيّة، وبين مَنْ يحتمل الربح مئة بالمئة، وتأتي النتائج محمّلة بالخسارة، وهنا يكون وقعُها أصعبَ على النّفس.

وهذا ما يشابهُ واقعَ الذين يتحرّكون في الحياة الدّنيا في منهج منحرفٍ وفي خطٍّ بعيدٍ عن خطّ الله، أو في مشاريعَ بعيدةٍ عن محبّة الله وأحكامِه، فيؤيّدون ويتّبعون جماعاتٍ وقياداتٍ يظنّون أنّها تحقِّق لهم الربحَ في الحياة، ولكنّهم يكتشفون بأنَّ هؤلاء النّاس الذين اعتبروهم رأسَ مال لهم في حياتهم، في كلِّ أجوائهم ومشاريعهم وخطوطهم لا قيمة لها ولا تؤدّي إلى شيء {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} ضاعَ سعيُهم هباءً في هذه الحياة، وأمّا في الآخرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة : 167].

هذه هي الخَسارة العظمى في حياة الإنسان، وهذا ما يعيشه الذين يتولّون الكافرين من دون المؤمنين {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء: 138 ـــ 139].

وقد نبَّهنا الله سبحانه وحذّرنا من أن نسيرَ مع أهوائهم حتّى لا يصيبَنا ما أصابهم من ذُلٍّ وهوان {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء: 140] فهؤلاء الذين يتّخذون الكافرينَ أولياءَ من دون المؤمنين ليحصلوا على العزّة من خلالهم، سيقعون في الذلِّ معهم في نارِ جهنّم، هؤلاء هم الذين رهنوا حياتَهم للحصول على المال ولو على حساب تقواهُم ودينهِم ومصيرهم في الآخرة، وهم الذين باعوا دينَهم ومواقِفَهم ومواقِعَهم للحصول على الجاه.. هؤلاء سيأتيهم الموتُ، وسيفارقون أموالَهم وجاهَهم وشهواتِهم ويخسرون الدّنيا والآخرة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.

حتّى لا يستشري المرض

وهنا نقطة يجب التنبُّه لها، قد يكون الإنسان سائراً في خطٍّ يظنُّ أنَّه مستقيم، ويقيم علاقاتٍ يرى أنّها جيّدة، ويتّبع أُناساً يعتقد بطيبتهم وسلامة نواياهم، ولكنّه في ذلك قد يكون خاضعاً لتأثيرٍ معيّن من خلال ظروف وبيئةٍ وأفكارٍ خاصة، وبذلك يرى أنَّه يسير في الخطّ السليم، وبعد ذلك يكتشف أنَّ ما كان يراه حقيقة ما هو إلاّ وهمٌ وتخيُّلات، فيندم حيث لا ينفع الندم. ولذلك، على الإنسان أن يحاسب نفسَه دائماً في علاقاته بالآخرين، وأن يعيد النظر في مشاريعه وأعماله وأقواله حتّى يعيش عملية النقد الذاتي بصورة مستمرّة، ليستطيع أن يفهم نفسه فهماً جيِّداً وحقيقيّاً، حتّى يكتشف أخطاءه قبل فوات الأوان.

ألا يقول الأطباء إنَّ على الإنسان أن يقوم كلَّ سنة بإجراء فحوصات عامّة لجسده؟ لماذا؟ لأنَّ هناك كثيراً من الأمراض لا تظهر عند ولادتها في الجسد، فتبقى تصارع الجسد ويصارعها إلى أن تتغلّب عليه، وعندها تظهر الآلام والأوجاع بعد أن تكون قد استحكمت بالجسد بالمستوى الذي لا يمكن معالجتها أو ومقاومتها. ولكن إذا أُجريت الفحوصات واكتُشِف المرض أثناء ولادته فيُمكن معالجته منذ البداية.. وكذلك الأمراض الروحيّة والاجتماعية والسياسيّة فإذا لم نكتشفها في حياتنا ونعالجها، فإنّها ستشتدّ وتفتك بنا وعند ذلك تقع الخسارة. ومثال مَنْ فتكت بهم هذه الأمراض، الذين ضلَّ سعيهم وانحرفوا وخسروا الدّنيا والآخرة {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف : 105] إضافةً إلى أنّهم لم يكتشفوا سوء تقديرهم للأمور، وعاشوا الغفلة في أقوالهم وعلاقاتهم وشؤونهم، فإنّهم أيضاً كفروا بلقاء الله، واعتبروا أنَّ الدّنيا هي الفرصة الأولى والأخيرة التي لا مجال بعدها لحياة {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} سقطت كلُّ أعمالهم، ولم ينالوا من نتائجها شيئاً ينفعهم، حتّى الأعمال التي ينطبق عليها عنوان الخير ـــ إذا كانوا يعملون ما هو خير ـــ فإنَّ اللهَ لا يقدّرها، لأنَّ العمل الصالح يرتكز على الإيمان، والله تعالى يقول: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه : 112] فالإنسان الذي يقوم بالعمل الصالح، ولا ينطلق من إيمانه بالله، فليس له على الله شيء، لأنَّه لم يعمل لله حتّى يطلب منه سبحانه جزاء عمله في ذلك {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} فإنَّ الله يهملهم حسب تعبير الآية الكريمة {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه : 126] يصبح كميّة مُهمَلة يوم القيامة لا يلتفت إليه أحد {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} [الكهف : 106] وما عاملهم الله سبحانه بهذه المعاملة، إلاّ لأنَّهم واجهوا الرُّسل بالسخرية والاستهزاء، وواجهوا آيات الله بالتمرّد والنكران. وقد أراد لهم الأنبياء (عليهم السلام) أن يفكِّروا ويتأمّلوا ويحاوروا ويُناقشوا، فرفضوا ذلك واستعملوا أساليب الهزء في مواجهة دعوة الأنبياء {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ*وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ*وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ} [المطففين: 29 ـــ 31] هذا في الدّنيا، وأمّا في الآخرة {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين : 34].

وعلى جانب خطّ الكفر وبموازاته، هناك خطُّ النفاق {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140] المنافقون هم الذين يظهرون الإسلام، ولكنّهم يُبطنون في عقولهم وقلوبهم الكفرَ، وهم الذين يتولّون الطاغوت ويتحاكمون إليه، ويعيشون تحت تأثير سلطته قبولاً ورضىً بهذه السلطة، فيقبلون حكمه ويؤيّدون سلطته ويدعمونه، هؤلاء مُلْحَقُون بالكافرين، تماماً كما هناك ملحقون، فبعضهم مُلْحقٌ سياسيّ أو اقتصاديّ أو عسكريّ أو إعلاميٌّ بالكافرين.. هؤلاء الذين يعيشون على هامش واقع الكفر والاستكبار، فيصبحون مخابرات وعملاء للكافرين أو يصيرون أدوات سياسية لإضعاف القوّة السياسيّة للمسلمين، وهم مسلمون بالهُويّة، ولكنّهم كافرون في العمق {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء} [النساء : 143].

الإيمان والعمل

وكما يتحدّث اللهُ تبارك وتعالى في القرآن عن مصير الكافرين في الدّنيا والآخرة يتحدّثُ عن مصير المؤمنين، فيقولُ سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف : 107] فالجنّةُ وما فيها لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات. والله تعالى يذكر الإيمان في القرآن مقروناً بالعمل الصالح، وعلى هذا لا ينفع إيمانُ العبد إذا لم يعمل العمل الصالح في حياته، فلا يكفي أنْ يُحبَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهلَ بيته (عليهم السلام) من دون أن يُقرن هذا الحبّ بالتقوى، ولذلك ورد في الحديث: "واللهِ ما شيعتُنا إلاّ مَن اتّقى اللهَ وأطاعه وكانوا يُعْرَفُون بالتواضع والتخشُّع وصدق الحديث وأداء الأمانة وكانوا أُمناءَ عشائرهم"(*) وفي الحديث أيضاً: "مَنْ كان لله مطيعاً فهو لنا وليٌّ ومَنْ كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ"(**) فكلُّ النّاس تحت "الغربال" إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهذا رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُنقل عنه: "أيُّها النّاس لا يتمنّى مُتَمَنٍّ ولا يَدَّعي مُدَّعٍ والذي بعثني بالحقّ نبيّاً إنّه لا يُنجي إلاّ عَمَلٌ مع رحمة"(***) الرحمة تأتي بعد العمل.

إذاً، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات أعدَّ الله لهم في جنّات الفردوس منازلَ ينزِلون فيها يوم القيامة {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف : 108] يبقون فيها ولا يتحوّلون إلى مكان غيرها.

وهؤلاء المؤمنون عرفوا الله حقَّ معرفته فعبدوه، أمّا أولئك الكافرون والمنافقون، فإنَّ الله تبارك وتعالى يطلب من نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يُوضح لهم عظمةَ القدرة الإلهية {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف: 109] قل لهؤلاء الغافلين الذين لم ينفتحوا على الله ليعرفوا قدرته، فعبدوا النّاسَ من دونه، قل أتعرفون خزائنَ الله ونِعَمَه ومُلكَه؟ فإليكم هذه الصورةَ المصغّرةَ {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} نكتب ونكتب عن كلمات الله، أي عن خزائن رحمته وخَلْقِه ومُلكه {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} لانتهى حبر البحر، وبقيت كلمات الله التي يجب أن تُكتَب عن قدرته تعالى {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} فلو أضفنا إلى  البحر بحراً آخر ليكتب عن ذلك لَمَا كفى.

فإذا كانت كلمة الله التي هي نعَمُه وآلاؤُه بهذا الحجم، فكيف يمكن أنْ تتّجهوا إلى غيره سبحانه؟

وبعد أن يخبرهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك، يُعلن لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] فخُلقتُ كما يُخْلَقُ البشر، وأموت كما يموتون، وآكُل وأشربُ وأُمارسُ حياتي العاديّة، ولكنَّ الفرقَ بيني وبين بقيّة البشر أنّني معصومٌ يُوحى إليَّ، ووحيُّ الله فيما يمثّل القاعدة الأساسية للإيمان {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فعليكم أن تُخطِّطوا للطريق التي توصلكم إليه سبحانه، وللنهج الذي يَربطكم بالله، وإذا أردتم ورجوتم التقرُّب من الله الواحد الأحد {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} فلا تُشْرِكوا بربّكم في عقيدتكم وعبادتِكم واعملوا عمَلاً صالحاً، بأنْ تسيروا في المنهج العملي الذي يريدُه اللهُ منكم، وتأتمروا بأوامرِه وتَنْتَهوا عن نواهيه، لِتَخْشَوْا مقامه، وتوالُوا أولياءه.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

18/1/1990م

ما يبقى

وما يفنى

 

الثابت والزائل

يركِّز القرآن الكريم في وعي الإنسان الفرقَ بين الثابت الذي لا بدَّ له من أن يقف عنده، لأنَّه الباقي له، والذي يحقِّق النتائج الطيّبة، وبين المتغيّر الذي ينبغي للإنسان ألاّ يربط مصيره به لأنَّه زائل. وعلى هذا، فالذي يربط مصيره وحياته وأوضاعه، بما يزول، فمعنى ذلك أنّه يربط وجوده بالهواء، بينما إذا ارتبطت حياتُه بما يبقى، فإنَّه يربط مصيره بأرضٍ ثابتة.

ومن هنا يقول تبارك وتعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] هكذا يتوجّه الخطاب القرآني للإنسان: حاول أن تدرس كلَّ ما عندك، فماذا عندك؟ أنتَ تملك جمالاً ومالاً وأولاداً وجاهاً وقوّة وأمثالَ ذلك ممّا يملكه الآخرون ويتنافسون عليه.. فكِّر في كلِّ ما عندك، في جمالك ومالِك وجاهك وقوّتك ومركزك، وادرس حجمَ هذه الأمور وعمرَها. ما هو عمرُ جسدك، هل يبقى بكلِّ ما فيه من طاقات؟ ما هو عمر جاهك، وأنتَ الرجل العظيم الكبير الذي يخضع النّاس ويصفّقون له، هل يدوم لك ذلك؟ إنَّ كلَّ هذا سيزول عنك، وذلك عندما يودّعك النّاس وينقلونك إلى قبرك، حيث هناك الظلمات والحشرات والديدان التي ستصبح مجتمعاً جديداً لك.. فالموت يفتك بكلِّ جسدك ولن يبقى لك إلاّ عملُك. إذاً، عندما تكون في الدّنيا، فأنت قويُّ العضلات والسلاح وكثير الأتباع، ولكن هل يبقى لك ذلك عندما تموت؟ وفي حياتك قد تملك الدّنيا، ولكنّك عندما تفارقُها، فلن يبقى لك إلاّ كفنُك.

ما عند الله خيرٌ وأبقى

إذاً، كلُّ هذه الأمور: المال والبنون والجاه والقوّة والمجد، هي متاع، أي حاجةٌ وحالةٌ طارئةٌ في حياتك، تماماً كما هو الشيء الذي تستمتع به ثمّ تُهمله، أو كما في المتاع الذي تحمله في سفرك، وبعد ذلك تستغني عنه، فإذا كان كلُّ ما أوتيتَه كثيراً أو قليلاً مجرّدَ متاع، فهل يمكن لك أن تركّز حياتك عليه؟ فتجعل كلَّ جهدك وفكرك وصراعك من أجله، أو تجعل كلّ أحلامك وآمالك وآلامك وهمومك في دائرته {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وهو الشيء الزائل والمتغيّر والمتحوّل لأنَّه متاع.. ولكن ما هو الثابت؟ {وَمَا عِندَ اللَّهِ} وماذا عند الله؟ عند الله رضوانه ورحمته وجنّته وكلُّ شيءٍ يحقِّق لك السعادة المطلقة، التي لا خوف ولا حزن ولا هموم ولا مشاكل فيها {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} قارن بين نعيم الدّنيا ونعيم الآخرة، وبين سعادة الدّنيا وسعادة الآخرة، قارن بين القرب إلى الله والقرب إلى النّاس، فأيّهما خيرٌ لك؟ من الطبيعيّ أنَّ ما عند الله خير، لأنَّ ما عنده سبحانه يعطيك رحمته ورضوانه، ويمنحك نعيمَ الله في جنّته {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل : 96] وكلُّ هذه النِّعَم هي {لِلَّذِينَ آمَنُوا} لأنَّ غير المؤمنين لا ينالون رحمة الله ورضوانه، ولا يحصلون على شيء ممّا عند الله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى : 36] ومعنى أن يتوكّل الإنسان على الله أن يجعل أموره في كلِّ ما يُهمّه ويرغب أو يفكِّر فيه في دائرة الانفتاح على الله، أن يَكِلَ الأمورَ إلى الله فيما لم يجعل الله له قدرة عليه، أو فيما لم يمكّنه من القيام به.

وعلى هذا، فالمؤمن عندما يواجه الحياة بكلِّ تعقيداتها، يشعر أنَّ الله هو كلُّ شيء في الحياة، وأنَّه يعيش في تدبير الله ورعايته وبعينه، وخصوصاً عندما يواجه ما لا يستطيع أن يعمله.. وهذا هو التوكّل الحقّ، فلا يُحسّ باليأس، لأنَّ الله في اعتقاده قادرٌ على كلِّ شيء، ولا يعيش الإحباط، لأنَّ الله لن يتخلَّى عن عباده المؤمنين {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يسيرون في حياتهم على خطِّ الله، يَكِلُون أمرهم إليه سبحانه، فكلُّ ما يشتدّ عليهم ضغطه ويكبر عندهم خطرُه ولا يستطيعون مواجهته، فإنَّهم لا يسقطون أمامه يائسين، وإنَّما ينفتحون على الله متّكلين عليه في إزالة ضغطه وإبعاد خطره.

من صفات الإيمان

هذا ما يحصل عليه هؤلاء المتوكّلون على الله، وهذه هي صفتهم الأولى، وما هي صفتهم الثانية؟ {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى : 37] وصفتُهم أنَّهم لا يمارسون المعاصي الكبيرة كمثل الزِّنا وشرب الخمر ولعب القمار والظلم وإعانة الظالمين وأكل أموال الناس بالباطل والغيبة والنميمة وقتل النفس التي حرَّم الله إلاّ بالحقّ، وكلِّ ما يُعَدُّ من الكبائر.

{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} هذه من شروط الحصول على الجنّة، أن تكون ممّن يجتنب الكبائر، بحيث لا تموت وأنتَ مقيمٌ على كبيرة من كبائر الإثم، فإذا كنت مارست فعلَ الكبيرة في حياتك، فلا بدَّ لك أن تتوب وتطلب المغفرة من الله قبل موتك، لتموت على التوبة مغفوراً لك {وَالْفَوَاحِشَ} إمّا أن يكون المقصود من كلمة (الفواحش) ما يتّصل بالمعاصي التي تلتقي بالجانب الجنسيّ من حياة الإنسان كالزِّنا واللّواط والسُحاق وما إلى ذلك، أو أن يكون المراد بالفواحش كلَّ ما تجاوز الحدَّ من المعاصي.. فهؤلاء المؤمنون هم الذين لم يرتكبوا هذه المعاصي والآثام {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} فأهل الجنّة لا يحقدون ولا يتعقّدون ممّن أساء إليهم، بل إنّهم يعيشون في أنفسهم القلبَ الكبير والصدرَ الواسع، فيعفون عمّن أساء إليهم، إذا كانوا من أولادهم وأزواجهم أو من النّاس الآخرين، فلا يفجِّرون غيظهم بمن أغاظهم، ولا يحرِّكون غضبهم بكلام سيِّئ أو عملٍ قاسٍ، بل إنّهم يتخلّقون بأخلاق الله سبحانه الذي يغفر لعباده إذا قاموا بما يغضبه ويسخطه، فرحمتُه سبقت غضبَه، حيث يترك لعباده باب التوبة مفتوحاً أمامهم، ولذا، فإنَّ المؤمنين الذين يحبُّون أن يعفوَ الله عنهم، فإنَّهم يعفون عن النّاس، لتزيد درجتهم عنده وطلباً لمرضاته سبحانه.

بين الانتقام والعفو

إنَّ الإنسان المؤمن إذا وقف أمام الغضب بين أن يعفو ويسامح في مجال يكون في التسامح مصلحة، وبين أن يشفيَ غيظَه، فماذا يفعل؟ هل يقف لينتقم أم يقف ليعفو؟ فلو سار في طريق الانتقام وكان من حقِّه أن ينتقم، فما الربح من ذلك؟ قد يرتاح نفسيّاً فيفجِّر غيظه ويشعر بالراحة والكرامة والعزّة، وخصوصاً عندما يُبعد عن أذهان النّاس أنّه لم يعش المهانة والاحتقار.. هذا كلّ شيء، ولكن إذا عفا طلباً لما عند الله فسيمنحه سبحانه عفوَه ومحبّته، لأنَّ الله يحبُّ الكاظمين الغيظ والعافّين عن النّاس، وسيحصل على الخير ويكون قريباً للتقوى {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237].

إنَّ المؤمن لا يندفع وراء غضبه، لأنَّه لا يتحرّك بوحي الانفعال، يغضب، فيُمسك غضبه، ثمّ يناقش المسألة: هل إذا انتقمت أحصل على كسب كبير، أم إذا عفوت أحصل على الكسب الكبير؟ في الجواب، نعود إلى كلمات أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) حيث يقول: "متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام، فيُقال لي: لو صبرت، أم حين أقدر عليه، فيقال لي: لو عفوت"(*) وفي صفه الله تعالى يقول (عليه السلام): "الَّذي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعفَا وَعَدَلَ في كُلِّ ما قَضَى"(**) فإذاً، هؤلاء الذين يعفون يأملون بما عند الله، لأنَّ الجنّة لا تُعطى مجاناً، فهم يعيشون شروط الحصول عليها داخل أنفسهم التي يربّونها على ذلك، ليعيشوا في الدّنيا أخلاق أهل الجنّة، فيكظمون غيظهم ويعفون عمّن أساء إليهم.

الاستجابة لنداء الله

وتتوالى الآيات في عرض صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى : 38] يناديهم ربّهم ليقرُبوا إليه سبحانه بأفكارهم وأقوالهم وأعمالهم، ويُجيبون النداء: لبّيك وسَعْدَيْك فيما أمرتنا من الصلاة والزكاة والخمس والصوم والجهاد والحجّ واجتناب المحرّم، لبيك في اجتناب الظنّ والتجسُّس، لبّيك في رفض الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وكافّة ألوان الرّجس.. وكان من مظاهر استجابتهم لربّهم {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} لأنَّ الصلاة عمود الدّين، ومعراج روح المؤمن إلى ربِّه، فمن لا يصلّي لا يعيش معنى الخضوع لربِّه، ولا معنى العبودية له سبحانه، وهو بالتالي يتكبّر على خالقه، ومَنْ يتكبّر على ربِّه يكون كإبليس، إبليس الذي كانت مشكلته أنّه لم يسجد بأمر الله لآدم (عليه السلام)، {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ*قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 12 ـــ 13] إبليس خرج من الجنّة بسبب رفضه لسجدة واحدة {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34 ـــ 35] فهل يأمل الذين لا يصلّون أن يدخلوا الجنّة؟ الصلاة هويّة المسلم، فالمسلم الذي لا يصلّي، صحيحٌ أنَّه مسلمٌ، ولكنّه يفتقد الهويّة الحقيقيّة "الصلاة عمود الدِّين إنْ قُبِلَتْ قُبِلَ ما سواها، وإنْ رُدَّتْ رُدَّ ما سِواها" ففي الصلاة، يعيش الإنسان معنى خضوعه لله سبحانه، وهذا ينعكس على كلِّ أعماله. والله تعالى يقول: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ*الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ*وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 ـــ 7] الويل لهؤلاء الأشخاص الذين يصلّون، ولكن يؤخّرون الصلاة إلى خارج وقتها، أو الذين يصلّون ليُراؤوا بذلك النّاسَ أنَّهم يُصلّون، أو الذين يصلّون ويمنعون الطعام عن الذين يحتاجون إليه وهم قادرون عليه، هؤلاء لهم الويل، فكيف بالذين لا يصلّون أبداً؟ ويقول سبحانه أيضاً: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ*إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ*فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ*عَنِ الْمُجْرِمِينَ*مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ*وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثّر: 38 ـــ 46] هذا لسان حال تاركي الصلاة: كنّا نملك ولا نعطي المساكين، وننساق وراء الهتافات، فإذا مشى النّاس في الوحل مشينا في الوحل. وإذا مشوا على الماء الصافي مشينا معهم، لم يكن لدينا موقف، ولم نملك التقوى، وكنّا ننكر يوم القيامة مستهزئين، وهم يردّدون: مَنْ ذهب إلى الآخرة وعاد ليخبر ما رأى؟ ولذلك، علينا أن نملأ ذهنيّتنا بثقافة القرآن، ونرفض كثيراً من المواقف التي تتستّر على الذين لا يصلّون، ولا نقبل بتلك المقولات بأنَّ فلاناً "آدميّ" وطيِّبٌ، وليس من مشكلة صلّى أم لم يُصلِّ. إنّنا نقول، كيف يكون طيِّباً ويتمرّد على الله، أو كيف يكون خَيِّراً ويتكبّر على الله، وكيف يكون كريماً، ويترفّع عن الخضوع لله؟ إنَّ مسألة تقويم النّاس لا نأخذها من الآراء الشعبيّة، إنَّما نأخذها من القرآن الكريم الذي يحدِّد لنا خطَّ السير والمنهج الأصوب، لتكون حياتنا كلُّها لله وفي سبيله.

عقلية الانفتاح

ونعود إلى الذين {اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى : 38] مجتمع هؤلاء، مجتمع الجنّة وهم في الدّنيا، فليس مجتمعُهم مجتمعَ الاستبداد، الذي يتفرّد فيه الإنسان برأيه، ولا يفكِّر أحدهم بأنَّه هو الذي يفهم، وأمّا الآخرون فمحتاجون إلى عقله، وليس بحاجة إلى عقل أحد. فالذي هو من أهل الجنّة يعتبر أنَّ له عقلاً وللآخرين عقولهم، له طريقته، وللآخرين طريقتهم في فهم الأمور، ولا يدّعي بأنَّه يعرف الحقيقة كلَّها، بل يعرف جزءاً من الحقيقة، والآخرون يعرفون الأجزاء الأخرى. ومن هنا، أراد الله لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يشاور المسلمين، وهو الغنيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن المشاورة والرأي، ولكن لينبّهنا نحن ويعلّمنا كيف نُكوِّن فهمنا في معرفة الأشياء وحقيقتها، فقال سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران : 159] فيا أيُّها الإنسان عليك في كلِّ أمرٍ يتعلّق بحياتك الشخصية أو العائلية أو الاجتماعية أو السياسيّة أو أيّ أمر ترى فيه مصلحة حياتك، ولم تصل إلى الرأي السديد في ذلك، أن تستشير النّاسَ من حولك لتجمع آراءَها "مَنْ شاور الرّجال شاركها في عقولها"(*) فكما أنَّه إذا كنت تملك رأسَ مالٍ صغيراً وشاركت فيه جماعة فإنّه ينتج ويتحرّك بشكلٍ أقوى، وإذا بقي مجمّداً عندك فإنّه لا يُنتج شيئاً، كذلك عقلك، فإذا ضممته إلى عقول الآخرين، فإنَّك تحصل على عقلٍ كبير، وتستطيع أن تدرك الحقائق أكثر.

إذاً {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى : 38] فأهل الجنّة ليسوا في الدّنيا بخلاء {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء} [محمد : 38] فهؤلاء يبذلون ممّا رزقهم الله إلى مَنْ يحتاج إلى الرزق، فينفقون على الآخرين كما ينفقون على أنفسهم.

عندما يكون في العفو مصلحة كبرى

وإضافة إلى ما يتميَّز به هؤلاء المؤمنون، فإنّهم يعيشون الوعي في حياتهم حتّى في أقسى حالات الضيق {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى : 39] وهذا ما يبيّن حالة التوازن في موقف المؤمن إزاء الاعتداء عليه، حيث من حقِّه أن ينتصر لنفسه، ولكن ليس بأكثر ممّا أُعْتُدِيَ عليه {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى : 40] يرُدُّ على الكلمة بكلمة، وعلى الضربة الواحدة بضربة واحدة وفي المكان نفسه، أمَّا أن يكلّمنا الآخر كلمةً فَيُطلق عليه الرّصاص، هذا ليس ردَّ اعتداء، هذا عدوانٌ، لأنَّ الله لم يسلّطك على الإنسان الذي سبَّك أن تقتله، لقد سلّطك عليه أن تسبَّه، كذلك إذا ضربك إنسان، فليس لك أن تجرحه، بل لك أن تضربه فقط في الموضع الذي ضربك عليه.

ولذلك، علينا أن نرفض العقلية الجاهلية في القتل، فإذا ما قَتَلَ فلانٌ فلاناً، فالعائلة والعشيرة كلُّها تذهب وتحرق بيوت العائلة الأخرى وتشرّد أفرادَها، هذه عقلية مقتها الإسلام ورفضها. ولنا في هذه القصّة التي تُروى عن أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) خيرَ شاهد لرفض الإسلام هذه الذهنية. فقد كان (عليه السلام) جالساً بين أصحابه وكان معهم أحد الخوارج الذين تمرّدوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) وحاربوه وصادف أنْ مرّت امرأة من أمامهم، فرفعها القوم بأبصارهم وبدأوا التحديق بجمالها، فما كان من أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) إلى أن وجّههم إلى سوء ما يفعلون بطريقةٍ تحمل عمق الأدب الإسلاميّ، فقال لهم(*): "إنَّ أبصار هذه الفحول طوامح" ـــ الفحولة تعبير عن الحالة الجنسية عندما تُثار فيطمح الإنسان إلى تلبية حاجتها ورغبتها وغريزتها ـــ "وإنَّ ذلك سَبَبُ هَبَابِها" ـــ يعني سبب سقوطها وانحرافها وهيجانها ـــ "فإذا نظر أحدُكم إلى امرأةٍ تُعجبه" ـــ وحدثت عنده حالة شهوانية ـــ "فليلامس أهله، فإنّما هي امرأةٌ كامرأته" فلا يتطلّع إلى نساء النّاس. وعندما سمع هذا الخارجيّ الموجود بينهم كلامَ الإمام (عليه السلام) قال: "قاتله الله كافراً ما أفقهَه"، عندها تحرّك أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ليقتلوه بعد أنْ ثارت أعصابهم، تماماً عندما نثور بشخص يتحدّى قياداتنا ومقدّساتنا، فإنّنا ننطلق لننال منه. ولكنَّ الإمام (عليه السلام) لم ينفعل وهدّأ من ثورة أصحابه قائلاً: "رويداً، إنَّما هو سَبٌّ بسبّ، أو عفوٌ عن ذنب". وهنا تظهر عظمة القيادة، هذه القيادة التي لا تسقط لحظة الانفعال، تزول الجبال وهي لا تزول، وتبقى مع الله مهما واجهت من تحدّيات.

ولذا، فإنَّ ميزان الإنسان المسلم بيده، فيجعل مزاجه منسجماً مع رسالته وخطِّه وتكاليفه الشرعية {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} فمن يتنازل عن أخذ حقّه، يدّخر الله له ذلك، ويضاعف له الأجر، وذلك عندما يتجاوز الإنسان لحظة الغيظ والغضب فيعفو ويتجاوز. وهذا عندما يكون في العفو مصلحةٌ كبيرة {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الذين يزيدون في الحدّ {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى : 41] فالمظلوم الذي يحبّ أن يأخذ حقَّه ليس عليه من مسؤولية، لأنَّ له الحقّ في أن ينتصر على مَنْ ظلمه بمقدار ما جعل له الله من حقِّ الانتصار {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى : 42] فالله تعالى لا بدَّ أن يأخذ للمظلوم حقَّه من الظالم {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى : 43] إنَّ الله يقول لمن يصبرون ويغفرون، لا تظنُّوا أنَّ الصبر ضعف والمغفرة مهانة، بل إنَّ الصبر مظهر قوّة، لأنّكم انتصرتم على غرائزكم وعلى روح الانتقام في أنفسكم، واستطعتم أن تكظموا غيظكم في وقت يتفجّر فيه الغيظ. وهذا يدلُّ على أنّكم تملكون القوّة النفسيّة والعزم الكبير، فأنتم الأقوياء الصابرون، ولستم الضعفاء المنتقمين.

 

 

 

 

 



(*)  نهج البلاغة: الكتاب 47.

(*)  شرح نهج البلاغة: ج13، باب230، ص29.

(*) الكافي: ج2، ص69، رواية 8.

(*)  بحار الأنوار: ج73، ص364، رواية 96، باب 137.

(*)  شرح نهج البلاغة، ج19، باب336، ص242.

(*)  بحار الأنوار: ج73، ص148، رواية 1، باب124.

(*)  الكافي: ج2، ص47، رواية 1.

(**)  شرح نهج البلاغة: ج16، باب31، ص112.

(***)  من لا يحضره الفقيه: ج3، ص555.

 دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الإشتياق.(*)

(*)  الكافي ج2، ص312، رواية 17.

(*)  بحار الأنوار: 71 ص:427، رواية: 76 باب: 93.

(**)  بحار الأنوار: ج75، ص212، رواية: 10 باب:64.

(***)  رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام).

(*)  نهج البلاغة: ج:18، باب: 78، ص:240.

(*)  بحار الأنوار: ج27، ص95، رواية 57، باب 4.

(*)  بحار الأنوار: ج19، ص90، رواية 46، باب 6.

(**)  نهج البلاغة: ج4، باب 56، ص 54.

(*)  بحار الأنوار: ج 78، ص75، رواية 45، باب 16.

(*)  دعاؤه عند الشدّة.

(*)  دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في التذلّل لله عزّ وجلّ.

(*)  شرح نهج البلاغة: ج11، باب 217، ص203.

(*)  بحار الأنوار: ج7، ص357، رواية 4، باب 59.

(**)  بحار الأنوار: ج1، ص142، رواية 30، باب 4.

(*)  بحار الأنوار: ج71، ص304، رواية 79، باب 78.

(**)  بحار الأنوار: ج5، ص327، رواية 21، باب 17.

(*)  نهج البلاغة: قصار الحكم 154.

(*)  بحار الأنوار: ج97، ص307، رواية 5، باب1.

(*)  شرح نهج البلاغة: ج18، باب 11، ص101.

(**)  شرح نهج البلاغة: ج18، باب 142، ص345.

(*)  شرح نهج البلاغة: ج16، باب31، ص93.

(*)  شرح نهج البلاغة: ج19، باب336، ص242.

(*)  الكافي: ج2، ص270، رواية13.

(*)  التهذيب: ج6، ص177، رواية8، باب22.

(*)  شرح نهج البلاغة: ج20، باب413، ص10.

(*)  توفيق الحكيم.

(*)  بحار الأنوار: ج6، باب20، ص22، رواية32.

(*)  من دعاء يوم الأربعاء للإمام زين العابدين (عليه السلام).

 

(*)  شرح نهج البلاغة: ج2، باب28، ص94.

 

(*)  نهج البلاغة: الخطبة 224.

(*)  شرح نهج البلاغة: ج16، باب31، ص97.

(*)  الكافي: ج2، ص147، رواية 16.

(*)  نهج البلاغة: الكتاب 31.

(*)  دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الاشتياق.

(**)  المصدر نفسه.

(*)  من دعاء أبي حمزة الثمالي.

(**)  نهج البلاغة: الخطبة 193.

(*)  شرح نهج البلاغة: ج19، باب399، ص341.

(*)  بحار الأنوار: ج93، ص317، رواية21، باب17.

(*)  الكافي: ج8، ص24، رواية4.

(*)  بحار الأنوار: ج44، ص383، رواية2، باب37.

(*)  بحار الأنوار: ج69، ص407، رواية115، باب38.

(*)  بحار الأنوار: ج98، ص89، رواية2، باب6.

(*)  بحار الأنوار: ج19، ص22، رواية11، باب5.

(**)  بحار الأنوار: ج45، ص46، باب37.

 

(***)  بحار الأنوار: ج87، ص87، رواية1، باب3.

(*)  دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) بخواتم الخير.

(**)  دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالتوبة.

(*)  نهج البلاغة: الخطبة 193.

(*)  بحار الأنوار: ج180، ص182، رواية12، باب1.

(**)  بحار الأنوار: ج460، ص82، رواية750، باب5.

(*)  من دعاء الإمام زين العابدين في الأضحى والجمعة.

(**)  نهج البلاغة، قصار الحكم 300.

(*)  من لا يحضره الفقيه: ج1، ص177، رواية 525.

(*)  دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) عند ذكر الموت.

(**)  الكافي: ج8، ص24، رواية 4.

(*)  بحار الأنوار: ج94، ص99، رواية14، باب32.

(*)  الكافي: ج2، ص74، رواية3.

(**)  المصدر نفسه.

(***)  بحار الأنوار: ج22، ص467، رواية19.

(*)  نهج البلاغة: قصار الحكم 194.

(**)  نهج البلاغة: الخطبة 191.

(*)  نهج البلاغة: قصار الحكم 161.

(*)  نهج البلاغة: قصار الحكم 420.