النــــــــدوة
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة
إعداد عادل القاضي
الجزء الرابع
دار الملاك
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الثانية
1421هـ ـ 2000م
المدخـــل
هذا الكتاب... المكتبة
يكاد يكون كتاب (الندوة) فريداً في بابه وموضوعه، فيما يشتمل عليه من محارات تعالج ـ بالنظرة الموضوعية والحركية الأصيلة ـ مسائل حيوية هي اليوم قضايا وهموم معاصرة تلحّ على الفكر الإسلامي في جانبه العملي الذي يتحاشى التنظير التجريدي أو الترفيّ ما أمكنه ذلك.
وفيما ينطوي عليه من مسائل عديدة وغنيّة في مضامير الثقافة القرآنية والعقيدية والفقهية والتربوية وسواها، فهو ـ في أجزائه التي تصدر تباعاً ـ يغطي حاجة جماهيرية تجعل منه مرجعاً سهل التناول في أبوابه وفصوله، خاصة وأنه يجيب على أسئلة منوّعة هي ـ في الأعم الأغلب ـ مشاكل فكرية وثقافية واجتماعية وشرعية يعيشها إنسان اليوم، سواء في موطنه أو مهجره.. أو في ساحة علاقاته وعمله.
هذا الكتاب ـ المكتب يلاحق حركة التطوّر إن من خلال إشكالية فكرية يقرأها السائل في كتاب أو مطبوعة فلا يعثر لها على ردّ مناسب، أو من خلال مشكلات حياتية أو حركية تعترضه، أو من خلال استفتاء شرعي في عبادة أو معاملة أو جهادٍ أو حركة عمل..
والندوة في مشروعها الثلاثي: اللقاء الحيّ المباشر..وصحيفة (فكر وثقافة) ومرحلته الأخيرة (الكتاب) يلبّي أكثر من حاجة إلى إجابات تتقصّى الرصانة في الفكرة والجرأة في الموقف والاستنباط القرآني في الفتيا. ولقد تلقّى القائمون عليه شهادات منصفة تعزّز القناعة بالأثر الذي يتركه (الندوة) في الوسط الاجتماعي الذي يتداوله.
ومن أجل إعداد أفضل.. بُذل الوسع في إفراد فصل بـ(مسائل السيرة) مستقل عن (المسائل العقيدية) كما تم اعتماد طريقة اللافتات في التأشير على المقاطع التي تسهّل على القارئ القراءة الأولية لأهم مضامين المحاضرات أو الإجابات ذات الإثارات المهمة ـ حسب تقدير المعدّ ـ فضلاً عن لمسات فنية أخرى لا تخفى على القارئ الكريم.
يتضمّن هذا الجزء (28 محاضرة و(38) مسألة قرآنية، و(31) مسألة عقيدية و(41) مسالة فكرية و(60) مسألة تربوية و(223) مسألة فقهية، و(37) مسألة في السيرة النبوية، أي ما مجموعه (430) مسألة.
والله الموفّق الهادي إلى سُبله نسأل أن يديم ويمدّ ظل آية الله العظمى السيد محمد حسين لفضل الله، راعياً للفكر الإسلامي الأصيل ورائداً من روّاده المغيّرين، وملبياً لحاجات الأمة الثقافية والفقهية والحركية، وأن يتقبّل ـ بأحسن القبول ـ من الأخوة العاملين وأخصّ بالذكر الأستاذ الفاضل محمد الحسيني، الذي راجع مسودات الكتاب، والأخوة الأحبّة في المركز الإسلامي الثقافي في بيروت بما قدّموه من خدمة للكتاب تُذكر فتُشكر.
وأولُ وآخرُ دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
عادل القاضي
دمق في 17 ربيع الأول 1419هـ
الموافق لـ 8 تموز 1998م
البـــــاب الأول
المحاضرات
المحاضرة الأولى: 18 جمادى الأولى 1418هـ الموافق 20 – 9 – 1997م
الإيمان الحقّ
"المؤمن هو الذي لا يسقط أمام العقبات، ولا يتزلزل أمام الضغوط، ولا يرتجف أمام الزلازل الاجتماعية والسياسية والنفسية، بل يظلّ ثابتاً من خلال التوكّل على الله"...
ـ مصطلح المؤمن.
ـ مفهوم الإيمان في القرآن.
ـ المعرفة زيادة في الإيمان.
ـ عنوان التوحيد.
ـ صفة التوكل.
ـ بين التوكل والتواكل.
ـ الشرك العملي.
ـ ربط الإيمان بالتسليم.
ـ مقوّيات الإيمان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
مصطلح المؤمن:
ربما نستعمل بعض المصطلحات الإسلامية بطريقة ساذجة، وربما تتحول هذه السذاجة في الاستعمال إلى سذاجة في التصور مما يجعلنا نعيش هذه العناوين أو المصطلحات أو المفاهيم من دون التعمق في حقيقتها وفي خطوطها وفي آفاقها وامتداداتها في حركة الإسلام.
ومن بين هذه المصطلحات مصطلح "المؤمن" فإن الفكرة الساذجة تربط هذا المفهوم بأداء العبادات والامتناع عن المحرمات بطريقة وبأخرى، أما الآفاق العامة التي يتحرك فيها الإيمان في نفس الإنسان المؤمن، وأما الخطوط العميقة الواقعية التي يتحرك فيها هذا المفهوم في حياة الإنسان فإنها قد تكون بعيدة عن التصوّر، وبذلك تصبح بعيدة عن حركة الواقع.
ونحن لا نريد أن نتحدث بشكل كامل حول هذا الموضوع، بل إننا نعمل على أساس أن نلتقط بعض اللقطات القرآنية وبعض اللقطات الحديثية، فلعلنا ننطلق منها إلى الآيات والأحاديث الأخرى من خلال أننا نعي في كل هذه الكلمات أن مفهوم الإيمان أعمق مما نتصوره، وأنه يشمل كل الإسلام في العقيدة وآقاقها، وفي الشريعة وخطوطها، وفي القيم الإسلامية المتحركة في الحياة وتفاصيلها.
مفهوم الإيمان في القرآن:
نقرأ في القرآن قوله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}( ).
فالمؤمنون هم هؤلاء، ومن خلال أداة الحصر (إنما) فإن من لا يتصف بهذه الصفات فليس مؤمناً في عمق الإيمان. فأن تؤمن بالله هو أن تتجلى عظمة الله في نفسك في كل مواقع العظمة في صفاته، وفي كل آفاق العظمة في ذاته. وأن تؤمن بالله يعني أن ينفتح فكرك وقلبك وإحساسك على أنعم الله لتتحسّس ارتباط وجودك به في كل تفاصيله من خلال ارتباطه بالنعم التي أسبغها الله عليك.
ومن هنا، فإن صدقك في الإيمان هو أن لا تذكر الله عندما تذكره، أو تسمع ذكر الله عندما تسمعه، تماماً كما تذكر أي اسم لأي إنسان أو لأي شيء، أو كما تسمع أي اسم فلا يهتز قلبك ولا يخشع عقلك، ولا يخضع كيانك، فالله تعالى يقول: {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم} كما توجل القلوب عندما تخضع لذكر العظيم، وهذا ما نلاحظه أمام الذين نتمثل عظمتهم في القوة في الواقع حيث نشعر بالرهبة وبالخوف وبالوجل عندما يذكرون، ألا يقال بأن فلاناً يرتجف الناس من ذكر اسمه وبالخوف وبالوجل عندما يذكرون، ألا يقال بأن فلاناً يرتجف الناس من ذكر اسمه من جهة بطشه وقوته وقدرته؟.
ولكننا استهلكنا ذكر الله بحيث لا يوحي لنا بشيء، وقد قال سبحانه وتعالى وهو يصوّر لنا هذه الحالة فينا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}( ) وقد عبّر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) عن هؤلاء المؤمنين الذين يعيشون هذا الإحساس بالوجل أمام الله من خلال الشعور بعظمة الله، حيث يقول: "عظُم الخالق في أنفسهم فصغُر ما دونه في أعينهم"( ) فلقد تمثله عظمة الله في النفس بحيث ملأت كل وجدان الإنسان فلم ير أحداً عظيماً قبال عظمة الله سبحانه وتعالى، بل عندما دخل في مجال المقارنة رأى أن الآخرين صغار صغار.
فإذا كان الله يحصر المؤمنين في هؤلاء فعلينا ـ أيها الأحبة ـ أن نعمل على تربية عظمة الله في نفوسنا بالتفكّر في مواقع العظمة وفي مواقع النعمة وفي الإحساس بالفقر المطلق فينا إلى الله الغني المطلق عنا، وأن نمارس ذلك ذكراً وعبادةً وفكراً وما إلى ذلك.
المعرفة زيادة في الإيمان:
{وإذا تُلِيَت عليهم آياته زادتهُم إيماناً} إذا تليت عليهم آياته الكونية وآياته القرآنية، بحيث أن إيمانهم يتحرك ويتطوّر ويزيد من خلال زيادة المعرفة، فكلّما عرفت الله من خلال آياته أكثر، عرفت عظمته على أساس ما تفهمه من أسرار هذه الآيات أكثر، وهذا ما عبّر عنه الله تعالى في قوله: {يتفكرون في خلق السماوات والأرض} وينتهون إلى النتيجة {ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك} فنحن نستوحي من ذلك عظمتك ونستوحي عبادتك {فقِنا عذاب النار}( ).
وهكذا {إذا تليت عليهم آياته} آيات القرآن من خلال النور الذي يشرق من كل آية {قد جاءكم من الله نور}( )، {يخرجهم من الظلمات إلى النور}( ) وهو الهدى، فعندما تُتلى عليهم آياته فإنها تزيدهم إيماناً لأنها تزيدهم معرفة بالله سبحانه وتعالى ومحبةً له وخوفاً منه.
من هنا ـ أيها الأحبة ـ جاء القرآن وجاءت السنّة الشريفة بالحثّ على قراءة القرآن {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}( ) وهكذا نلتقي بالأحاديث الواردة في فضل قراءة القرآن لأن العقيدة ترتكز على الله في توحيده، وجاء القرآن من أجل أن يعمّقب توحيد الله في نفوس الناس.
عنوان "التوحيد":
لذلك، فلو قرأنا القرآن من أوله إلى آخره لرأينا العنوان الكبير الذي يحكم كل سورة وكلّ آية هو "توحيد الله" إما بشكل مباشر أو بشكل غاير مباشر، فقيمة القرآن أنه يفتح عقولنا على الله من خلال ما في القرآن من موعظة ومن وعي ومن انفتاح ومن حركة نحو التفكير في آفاق الله سبحانه وتعالى.
وهذا ما يدفعنا ـ ايها الأحبة ـ إلى أن نقرأ القرآن لنتثقف به ولتكون لنا الثقافة التوحيدية في تصورنا لوحدانية الله، والثقافة الإيمانية في تصورنا لكل خطوط الإيمان به، وفي تصورنا لمسؤولياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية والحركية في كل مواقع الحياة، لأنّ القرآن يختصر لنا كل ما جاء به، وما جاء به هو "الحياة" {يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكُم لما يحييكم}( ) لما يحيي قلوبكم وعقولكم وحركتكم في الحياة، ولذلك فإن ما جاء به القرآن هو "الدعوة إلى الحياة" أن نعيش حياتنا، فالله تعالى لا يريد لنا أن نهمل حياتنا، ولكن أن نعيشها كما يجب لنا أن نصنعها وأن نحرّكها وأن نغنيها وأن نوجّهها وأن نفتح كل آفاقها لله سبحانه وتعالى لتكون حياتنا كلّها ذكراً لله في الفكر وفي العاطفة وفي الحركة والممارسة والمسؤولية.
صفة "التوكّل":
{وعلى ربهم يتوكلون}( ) وهذه هي الصفة الثالثة للمؤمن فهو القرآن الذي لا يسقط أمام العقبات، ولا يتزلزل أمام الضعوط، ولا يرتجف أمام الزلازل الاجتماعية والسياسية والنفسية، بل يظلّ ثابتاً من خلال هذه الفكرة التي تمثل القيمة الكبرى للإنسان المؤمن: "التوكل على الله".
والتوكل على الله تعالى هو أن تُرجِع كل أمورك لله، وأن تعتقد في نفسك أن الله قادر على أن يحميك، وقادرٌ على أن ينقذك ويخفف عنك كل الضغوط التي تحيط بك، والله سبحانه أرادنا أن نتوكل عليه، وقال لنا إن الإنسن الذي يتوكل عليه فإنه يكفيه {ومن يتوكّل على الله فهو حسبه}، فلا نقول أنه ليس قادراً، بل {إن الله بالغ أمره} فإذا أراد شيئاً كان، ولكنه جعل للحياة موازين {قد جعل الله لكل شيءٍ قدرا}( ) وقد جعل هذه الأقدار في الحياة لمصلحة الإنسان، فالله يكفيك من خلال ما يرى أنه مصلحة لك سواء في وجودك الخاص أو في الوجود العام الذي أنت جزء منه.
وقال الله تعالى: {إنّه يحب المتوكلين}( ) والتوكل صفة تمثل روح الإيمان، لأن معناه أن تعتقد في نفسك {أن القوة لله جميعاً}( ) وأن الله لا غيره القادر على أن يستجيب لك في كل أمورك ولكن من موقع الحرمة والحكمة.
بين "التوكل" و"التواكل":
وليس معنى التوكل التواكل، ولكن هو أن تعمل بكل جهد وبما يرتبط بقدرتك، ثم إذا استنفدت كلّ قوتك من خلال الوسائل الموجودة بين يديك ووقفت أمام المستقبل تخاف من خفاياه وزواياه ومن مفاجاءاته، عند ذلك قل: "توكلت على الله" وقل "يا رب هذا ما أستطيع أما الغيب فليس بيديّ.. إنك وحدك الذي عندك مفاتح الغيب"، وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) وهو يقرّب لنا التوكل من خلال شخصية المتوكل على الله حتى نفهم من خلال الصورة الواقعية الفرق بين "التوكّل" وبين "التواكل": "المتوكلون هم الزرّاعون".
فعندما ندرس الفلاّح، فهل تراه يقف أمام الأرض ليقول: توكلت على الله لتُخرج الأرض حنطةً وشعيراً ونخلاً وتفاحاً؟! إن الفلاّح لا يصنع ذلك، بل يأتي إلى الأرض ليدرسها، ثم يحاول أن ينقيها من كل ما فيها مما يمنع الزراعة ثم يحرثها ثم يلقي البذور فيها ثم يسقيها ثم يتعهدها من كل الطوارئ التي يمكن أن تسيء إلى البذرة أو التربية وما إلى ذلك، ويهيئ كل العناصر الطبيعية التي يمكن أن تحقق الإنتاج، ثم يقف ليفكر، فقد تأتي رياح عاصفة أو ثلوج أو أمراض، وقد يأتي المستقبل ولا يعرف ما يخبئه له، بل لقد هيّأ الأرض لكي تنتج بقدر ما يتعلق الأمر به، أما هل تنتج أو لا تنتج؟ هل يأتي الغيب المستقبلي بما يعطل حركة الإنتاج؟ إنه يقف أمام أرضه يقول لربه في منطق التوكّل "يا رب هذا كل ما أستطيع وإني أتوكل عليك فيما لا أستطيع".
وبذلك يمثل التوكل موقف الإنسان أمام المجهول، وهو يحمي الإنسان من القلق الذي يدمّر نفسه، كما يحمي الإنسان من الاهتزازات النفسية أمام الهواجس فيما يخبئه المستقبل. ولذلك فإن عنصر التوكل بالإضافة إلى كونه عنصراً يعمّق إحساسك بالإيمان، هو عنصر يعمق إحساسك بالثقة، ويطرد القلق، ويبعثك على الاطمئنان لأنك تشعر أنك في حياتك تعيش بعين ربّك التي لا تنام وتحت ظلّه الوارق وتحت رحمته الواسعة، ربّك الذي كلّفك بما تستطيع وضمِن أن يهيّئ لك من خلال الحكمة ما لا تستطيع.
وعلى هذا، فالتوكل ليس تواكلاً، فالتواكل هو أن تجلس في بيتك من دون أن تقدم أي جهد فيما تطلب من الله أن يحقق لك ما تتمنى. ولقد ورد أن الذين يفكرون بهذه الطريق ويتعاملون بهذا الأسلوب لا يستجيب الله دعاءهم، لأنه يقول لك لقد هيأت لك الوسائل التي تمثل الشروط لتهيئة الوسائل الأخرى في الغيب، فلماذا لم تعمل على أساس الأخذ بهذه الأسباب، وقد جعلت الحياة بحكمتي خاضعة للأسباب، فلمن لا يزرع لا يحصد، ومن ؤزرع البطالة يحصد الجوع والفقر والضياع تماماً كما هو المثل الذي يقول (من يزرع الريح يحصد العاصفة) لهذا فنحن، على ضوء الفهم الإسلامي للتوكّل، المتوكلون ولسنا المتواكلين.
الشرك العملي:
وهناك نقطة أحببت أن أنبّه إليها في تعبيرنا بأن الله يريدنا أن نكون موحّدين عملياً كما أننا موحدون في العقيدة، وذلك أن لا ننطلق بكلمة ظاهرها شرك وإن لم نقصد الشرك فيها، فهناك بعض الناس عندما يطلب منك خدمة تقول له سأسعى لإنجازها إن شاء الله فيردّ عليك "إنني أتكل على الله وعليك" فمن المؤكد أن هذا الشخص لا يقصد أن يجعلك في حساب الله بل يعتبرك وسيلة من وسائل قضاء حاجاته، ولكن عليك أن لا تتحدث بهذه الطريقة بأنم تجعل إنساناً سواءً مع الله {فلا تدعوا مع الله أحداً}( ) فنحن نعتقد كمسلمين بأن رسول الله(ص) سيد ولد آدم، ولكننا نقول نشهد أن محمداص عبده ورسوله فلا يجوز أن تذكر أحداً مع الله تعالى، ذلك أن الله وحده والكل عباده، الأنبياء عباده المقربون، والملائكة عباده المقربون، والأولياء عباده المقربون، ولكن يبقى الله وحده لاشريك له.
وقد ذكرت لكم في حديث سابق أن شخصاً سأل الإمام جعفر الصادق(ع) عن قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}( ) يعني أن أغلب الناس قد يدخلون الشرك من حيث لا يشعرون، قال: كيف؟ قال: أن تقول مثلاً للطبيب الذي عمل لك عملية جراحية وكنت في حال خطرة "لولا فلان لهلكت" فلان عافاني ونجّاني من خطر محدق، فلولا فلان لما عوفيت، قال له "إذن كيف نقول؟" إذ لا بد أن نقول للمحسنين بما يعبر عن إحساسنا، قال: أن تقول "لولا أن منّ الله عليّ بك لهلكت" بحيث تعتبر الإنسان الذي خدمك هو آلة بيد الله تعالى وقد سخرّها لخدمتك، وإنه سبحانه هو الذي منّ عليك به، وعند ذلك تكون قد حفظت حق هذا الإنسان وعبّرت له عن الجميل الذي تحس به، وقد رأيت أن ذلك هو من الله، وهكذا تقول للطبيب لولا أن منّ الله سبحانه وتعالى عليك بأن ألهمك معرفة المرض لما كُتبت لي النجاة، بعبارة أخرى أن لا نجعل شيئاً للمخلوق حتى لو كان من أقرب الناس إلى الله تعالى، بل نجعل كل ما يصدر من المخلوقين هو بسبب من لطف الله تعالى، لأنه أعطاهم ولأنه هداهم ولأنه أقدرهم على فعل ذلك.
فلنحاول إذاً أن تكون تعبيراتنا توحيدية {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}( ) ذلك أن الكل وراء الله وليسوا مع الله سواءً بسواء.. فمن الصعب إذاً أن يصبح الإنسان مؤمناً وأن يصف نفسه بالإيمان وهو يشرك بالله هذا الشرك العملي.
ربط الإيمان بالتسليم:
ونأتي للآية الثانية التي تربط الإيمان بالتسليم للشرع {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم} ـ الشجال: النزاع ـ {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً}( ) فالله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية بأنّ الإيمان الحق هو أن ينطلق الناس فيما يتنازعون فيه سواء كان النزاع في تفاصيل العقيدة أو في الشريعة، أو النزاع فيما يختلف فيه الناس من أمورهم بحيث أنك تقبل على رسوله(ص) عندما تكون في عصره، أو تقبل على شريعة رسول الله(ص) التي يمثلها القائمون الأمناء على الرسول الذين هم ورثة الأنبياء المؤتمنون "العلماء ورثة الأنبياء ما لم يدخلوا في الدنيا، قالوا وما دخولهم في الدنيا؟ قال اتّباع السلطان، فإذا وجدتم العالم محباً لدنياه فاتّهموه على دينكم" بحيث يبيع آخرته بدنيا غيره، فهذا هو حب الدنيا، فالعلماء أمناء الرسل، ومن مقتضيات الإيمان أن ترجع في غياب رسول الله(ص) إلى العلماء الأمناء الذين لا يبيعون آخرتهم بدنياهم عندما يقدمونها للسلطان الذي يعملون على أن يبرّروا ظلمه وأن يتّبعوه في كثير من أمورهم.
هنا يقول المولى عزّ وجل: {فلا وربّك لا يؤمنون} فإذا قال لك شخص تعال لأفضّ نزاعك على رأيي، قل له كما قال الله {فإن تنازعتُم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}( )، {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريقٌ منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ}( ) ذلك أن بعض الناس عندما يعاني من مشكلة فإنه يذهب ليسأل العالم قائلاً إني اختلفت مع آخرين في قضية، فمع من يكون الحق، فإذا قال له إن الحق معك يأتي ليقول نحن ليس لنا إلا الشرع والإسلام وأنا لا أقبل الذهاب إلى أية جهة أخرى، لكن إذا قال له إن الحق ليس معك، قال أنا لا أتصرّف وفقاً للشرع بل أمشي وفق القانون {وإن يكن لهم الحق يأتوا مذعنين* أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون}( )، {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا}( ).
هذا هو المؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله، فعندما يحصل أي نزاع في مفهوم فكري أو عقيدي أو شرعي أو سياسي أو اجتماعي يرجع فيه إلى الله تعالى ورسوله(ص) {إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} لأن التزامنا بالله ورسوله، من خلال التزامنا بالإسلام، يفرض علينا أن نخضع لله ولرسوله فيما يقوله الله في كتابه وفيما يقوله النبي في سنّته {فلا وربك لا يؤمنون}.
فليصلّوا ما يشاؤون وليصوموا ما يشاؤون وليحجوا ما يشاؤون، فإنه إذا فقدوا التسليم لله ولرسوله فيما يتنازعون فيه فلا إيمان لهم، لأن الإيمان إنما ينطلق من عمق القضية التي تهز اهتمامك لا من خلال القضايا السطحية الطارئة التي لا تكلفك شيئاً. فالمهم هو أنك عندما يمكن أن تخسر القضية ويكون الحكم ضدك ويتعين عليك أن تدفع الألوف أو الملايين تقول أسلّم أمري إلى الله تسليماً. أما إذا كنت مؤمناً ولا تريد أن تخسر شيئاً لأن الإيمان قد يخسرك بعض الأشياء من خلال التزاماتك مع الآخرين، فقد تتراجع، والمتنبي يقول:
إذا اشتبكت دموعٌ في خدود تبيّن مَن بكى ممّن تباكى
فالذي يحزن بشكل جدي لا يمسك دموعه بحيث تشتبك بعضها ببعض، ولكن الذي لم يحزن بشكل جدي فإنه يعصر عيونه لإنزال الدموع، وهو متباكٍ يبكي بصوته أكثر من دموعه، كذلك يُعرف المؤمن بالتجربة عندما تكون هناك قضية يمكن أن يخسر فيها {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم} ثم لم لو كان الحق عليك فلا تنزعج، بل لا بد أن تتقبل الأمر برحابة صدر، لأن هذا هو حكم الله وأنت تطيع الله في تنفيذ حكمه، وقد استطعت أن تعرف الحق والباطل من خلال ما عندك وعند الآخر {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً}( ) هذا هو الإسلام وهذا هو الإيمان.
ثم أن الله سبحانه وتعالى يعبّر عن ذلك بطريقة أخرى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}( ) فقد تقول لبعض الناس افعل كذا فيقول لك أنا حرّ، وتقول له: أترك هذا فيقول لك أنا حرّ، لكن الله يقول لك إذا كنت مؤمناً كرجل، أو كنتِ مؤمنةً كامرأة فليس من حقكما أن تعيشا الحرية أمام ما قضاه الله ورسوله، ذلك أن بعض الناس يقول أنا مؤمن لكنني لست مقتنعاً بالصلاة، وأنا مؤمنة ولكنني لست مقتنعة بالحجاب. فأن تقتنع أو لا تقتنع فذلك نابع من اقتناعك بالإسلام، فعليك أن تقتنع بكل أحكام الإسلام بعد فهمها، وإن لم تفهمها فارجع الأمر إلى الله، وفي المحصة عليك أن تطيع الله {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا}( ).
مقوّيات الإيمان:
فلنعم ـ أيها الأحبة ـ على أن نجد إيماننا في هذه الآيات وفي هذه الخطوط وفي هذه القيم، وعلينا أن نربي هذا الإيمان أكثر مما نربي أجسادنا، لأننا قد نجد لفقر الدم دواءً ولكن فقر الإيمان إذا استمرّ بك إلى يوم القيامة فأي دواء يجديك هناك. لذلك نحن نحتاج إلى فيتامينات إيمانية قرآنية نبوية وإمامية، حتى نستطيع أن نعمّق هذا الإيمان لنقف بين يدي ربنا ونقول له: ربنا إننا آمنا بك لتغفر لنا ولكي لا يقول لنا سبحانه أين إيمانكم، فأنا لا أنظر إلى وجوهكم ولكن أنظر إلى قلوبكم وأرى قلوبكم فارغة من الإيمان.
يُقال أن أحد الأئمة(ع) عندما كان يبدأ التلبية بالحج كان يرتجف عندما يقول "لبيك اللهم لبيك" فلقد كان يقولها وهو يهتز ويرتعد خشوعاً لله تعالى، فقيل له في ذلك، كما تقول الرواية فقال "أخاف أن يقول لا لبيك ولا سعديك" وهو يريد أن يعظنا بذلك، فهو يريد أن يقول ـ بلسان الإنسان لا الإمام المعصوم المخلص لله ـ أخاف أن يطّلع الله على قلبي فيرى أن التلبية تنطلق من لساني ولا تنطلق من قلبي، فالمهم أن تلبي الله بقلبك وأن ينبض قلبك بالتلبية وأن ينبض عقلك بالتلبية وأن ينبض إحساسك بالتلبية، فتكون أنت بكلك، بعقلك وقلبك وإحساسك تلبيةً لله، وعند ذلك يتقبلك الله في الدنيا برحمته وفي الآخرة بجنته {وفي ذلك فلتنافس المتنافسون}( ).
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثانية:25 جمادى الأولى 1418هـ الموافق 28– 9 – 1997م
الإيمان الصادق
"لا بدّ للمؤمن بالله ورسوله أن يسهر على إيمانه ليدرسه ويفكّر فيه وليعمّقه وينفتح على كل الأسس التي يرتكز عليها ليستحضرها دائماً في وجدانه".
ـ العناصر الحيوية في مصطلح "المؤمن".
ـ الإيمان وعدم الارتياب.
ـ الجهاد في سبيل الله.
ـ الجهاد العقلي.
ـ العالم مبادر.
ـ الجهاد العلمي.
ـ مفهوم الأمة والمجتمع.
ـ الراحة حرام.
ـ الجيهاد بالقوة.
ـ الجهاد بالنفس.
ـ صدق الإيمان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
العناصر الحيوية في مصطلح المؤمن:
لا نزال نحاول اكتشاف العناصر الحيوية التي تمثل مفاصل المفهوم الإسلامي في مصطلح المؤمن.. وقد تحدثنا، سابقاً، بعض الحديث عن بعض آيات الله في القرآن، ونتابع مع القرآن اكتشاف العناصر الحيّة لمفهوم المؤمن {إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}( )، ففي هذه الآية يؤكد الله سبحانه وتعالى على مسأل تعميق اليقين فيما يتمثله الإنسان في إيمانه، فلا بد له عندما يؤمن بالله ورسوله أن يسهر على إيمانه ليدرسه ويفكر فيه وليعمّقه ولينفتح على كل الأسس التي يرتكز عليها ليستحضرها دائماً في وجدانه، وليعمل على أساس أن يعيش الحقيقة للإيمان في عمله، لأن الإنسان عندما يعيش مع الإيمان في عالم التجريد البعيد عن الواقع كالذين يعيشون الإيمان في عالم الفلسفة، فإنه قد يغرق في الكثير من حالات الريب والشك لأنه قد يضيّع، في هذا الجو، الدرب إلى الله، ولكن الإنسان عندما يلتقي بالله في كل ما حوله ومن حوله {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}( )، وعندما يعيش مع الله إذا تألم وإذا تلذّذ وإذا فرح وإذا حزن،وعندما يعيش حاجاته ومشاكله في اللجوء إلى الله والاستعانة به، وعندما يتحدث مع ربّه ويتعبّد له ويناجيه، عند ذلك يزداد في كل نظرة إلى أية ظاهرة كونية، وفي أية تسبيحة وتحميدة وتكبيرة وتهليلة، معرفة بربه، لأن الله لا يُعرف بالفلسفة فحسب، ولكنه يُعرف بحركة الكون وحركة الحياة وحركة الوجدان الذي يطلّ عليه.
الإيمان وعدم الارتياب:
{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا}( )، أي لم يشكّوا ولم يهتز إيمانهم أمام أي طارئ من شبهة هنا وإشكال هناك، لأنهم يبقون يحدثون في الحقيقة لينطلقوا مع الكلمة المشرقة كما في الدعاء المأثور: "يا مَن دلّ على ذاته بذاته".
وهكذا عندما يؤمنون بالرسول، فإن الإيمان به لا ينطلق من الطريقة التقليدية في حدود المعجزة فحسب، بل من دراسة شخصية الرسول(ص)، فأنت عندما تدرسه قبل أن يبعث نبياً، وعندما تدرسه(ص) بعد أن بعث نبياً، فإنك لا تملك وأنت تتأمل في كل كلمة من كلماته، وكل حركة من حركاته، وكل ابتهال من ابتهالاته، إلا أن تتيقن وتؤمن بأنه رسول الله، لأن الرسالة كانت كلّ عقله، كل قلبه، ولقد كان قلبه يحتوي بعاطفته الرسالية العالم بأسره.
وعندما تتمثله في خلقه وفي علاقاته وفي تعامله مع كل الناس، فأنت لا تستطيع أن تؤمن أنه رسول الله، ذلك أن مشكلة بعض الناس أنهم غرقوا في الجوانب الفلسفية في علم الكلام فضاعوا أو ارتابوا {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون}( )، فهذا الإنسان الذي لم يقرأ في كتاب ولم يكتب كتاباً، جاء بما لا يزال العالم يبحث ويبحث فيه ليعرف معنى الكتاب الذي جاء به، وليعرف آفاق السنّة التي انطلق بها.. فلو درسنا شخصيته مقارنةً بما جاء به لكانت شخصيته هي المعجزة، وكانت رسالته هي المعجزة، وأما القرآن فهو المعجزة التي تحتاج إلى دراسة مستفيضة، لكن معجزة النبي(ص) في شخصيته وفي رسالته هي التي يمكن أن ينفتح عليها كل الناس، ولذلك نجد أن من أساليب النبي(ص) في مواجهته لمن أنكروا رسالته، أنه كان يقول بكل وثوق واطمئنان {قل الله شهيدٌ بيني وبينكم}( ).
فهذه الكلمة تعني أن الله يدخل في وجدانكم من خلال ما أعيشه، وأنا أدعو إلى الله ـ والكلام لرسول الله(ص) لتكون كل هذه الرسالة مني، وكل هذا الوجود شاهداً من الله يعرّفكم أن هذا هو رسول الله.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ أدعو نفسي وأدعوكم إلى أن ندرس التوحيد من خلال الكون كله {ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً}( ) وأن ندرس رسول الله(ص) في سيرته وفي رسالته لأننا كلما درسنا ذلك أكثر آمنا برسوليته أكثر.
الجهاد في سبيل الله:
{إنما المؤمنون الذين آمنوا} بالله وبرسوله {ثم لم يرتابوا} وبعد هذا وذاك فإن المؤمن لا يعيش الانعزال عن الواقع وعن كفر الواقع واستكباره وعن ظلم الواقع وانحرافه وعن آلامه وأحلامه، فأن تكون مؤمناً يساوي أن تكون مجاهداً بكل طاقاتك {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}( )، فإذا كنت مؤمناً وأعطاك الله مالاً وكانت الساحة تحتاج إلى مالك فأعطِ الساحة من مالك، فذلك هو جهادك من مالك، {لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها}( )، لأن مالك الذي أعطاك الله ليس ملكك إنما هو أمانة الله عندك، فأنت ـ في واقع الأمر ـ وكيل الله في المال {وأنفقوا مما جعلكُم مستخلفين فيه}( )، أي وكلاء فيه، حيث حدّد الله لكم كيف تحركونه لتنفقوه على أنفسكم وأهلكم، ثم على من أراد لكم أن تنفقوه عليه أو فيه {وآتوهم من مال الله الذي آتاكُم}( )، {والذين في أموالهم حقٌ معلوم* للسائل والمحروم}( ).
حاجات الأمة الأساسية:
فمن واجب الأمة إذا عاشت حاجاتها الحيوية، سواء كانت صحية تحتاج إلى من يتخصص بالطب، أو تربوية تحتاج إلى من يتخصص في التعليم، أو عمرنية تحتاج إلى من يتخصص في الهندسة وفي العمران، أو حاجات جهادية أو سياسية أو اجتماعية، ولم تكن هناك قدرة على تلبية الإمكانات المالية، على الأمة ـ في هذه الحال ـ أن تدفع من مالها على نحو الوجوب الكفائي، بل حتى من غير الحقوق الشرعية، للمجاهدين وللمتخصصين في كل الشؤون التي تبني للمجتمع نظامه وللأمة حضارتها.
لذلك فإن الجهاد بالمال ليس مجرد حالة تقتصر على الحقوق الشرعية، بل تتصل بكل الحاجات النظامية التي يحتاج إليها نظام المجتمع، وعلى المجتمع أن يعطي من طاقته المالية ما يلبّي هذه الحاجة، وقد الزم بعض فقهائنا بالقول بوجوب دفع الأمة من مالها للمتخصصين في الطب والهندسة والعمران، وكل القضايا التي تحتاجها في نظامها إذا كانت غير قادرة على ذلك، وعلى هؤلاء ـ في مقابل ذلك ـ أن يعطوا الأمة من جهدهم ما أعطتهم من جهدها.
الجهاد العقلي:
{وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} والجهاد ـ عندما تكون مؤمناً ـ هو أن تجاهد بنفسك، والجهاد بالنفس يتنوّع، وهو في عنوانه الشامل أن تعطي من نفسك في سبيل الله، فمن الجهاد بالنفس أن تعطي الأمة عقلك وكل ما ينتجه عقلك، فهو جهاد النفس، لأن العقل يقف في القمة من خصائص النفس، فلذلك لا يجوز للعالم في أي موقع من مواقع العلم ولا سيما علم الإسلام أن يكتم علمه، بل يجب عليه أن يبذله "ما أخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يُعلّموا" ويقول سبحانه وتعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}( )..
فالبعض يرى أنّ "يكتمون" تعني إذا سألهم الناس فلا بدّ لهم أن يجيبوا، والحقيقة ليست كذلك، فان تكتم تعني أن لا تبادر إلى نشر ذلك، فقد يرى بعض الناس أن العالم كالشجرة لا بد أن تهزها إذا أردت أن تأكل منها، وإذا لم تهزها فليس واجباً عليه أن يبادرك بالعلم، فماذا ـ يا ترى ـ عن الناس الذين لا يفهمون مفاهيم الإسلام ولا الحلول المناسبة للمشاكل الفكرية والاجتماعية التي يعيشونها.
فعلى العالم أن ينطلق ويدرس كل المشاكل الموجودة في العالم سواء في المفاهيم الإسلامية أو الأحكام الشرعية أو في الواقع السياسي أو الواقع الاجتماعي، عليه أن يدرس ذلك ويبيّنه للأمة، وأن يبيّن ما هو حكم الإسلام في ذلك كله.. وقد ورد عن النبي(ص): "إذا ظهرت البدع" ـ كل البدع سواء التي تتعلق بالأحكام أو المفاهيم أو بالعقائد أو بالواقع ـ "فعلى العالم أن يظهر علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة الله"، فالعلم أمانة، وجهاد العالم أن يجاهد في بذل علمه.
العالم مبادر:
فأنا أفهم ـ وقد يحتمل فهمي الخطأ والصواب ـ أنه يجب على العالم أن يبادر، وأعطيكم على ذلك مثلاً، فلو انتشر وباء ما ـ أجاركم الله وجميع المسلمين، فالدولة حينئذٍ تطلب من الأطباء أن يستنفروا جهودهم وأن يقفوا عل مفارق الطرق وأن يدخلوا البيوت ليقوموا بتلقيح الناس ضد الوباء المستشري ولو بالقوة، فالشخص الذي يرفض التلقيح وكان يُخاف منه على المجتمع يجب أن يلقّح بالقوة، وكذلك الحال في العلم، ففي بعض الحالات لا بد من تعليم الناس بالقوة، ولا أعني بالتعسّف فلا تعليم بهذه الطريقة، ولكن من باب ما جاء عن الإمام الصادق(ع): "لوددتُ أن السياط على رؤوس شيعتي كي يتفقهوا في الدين" ومعنى ذلك أنه عند انتشار البدع والخرافات التي تأكل روح الإسلام وحيويّته، حتى تصبح ديناً يُدان به، لا بد هنا للعالِم من أن يُظهر علمه.. والإمام علي(ع) يقول: "الناس ثلاثة: فعالمٌ ربانيّ، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور الحق ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق".
الجهاد العلمي:
لذلك فإن من شعب الجهاد بالنفس هو الجهاد بالعلم بأن تقدم علمك وخبرتك للناس، وليس المراد بذاك العلم الديني فقط، بل كل علم يحتاجه الناس، لأنك إذا لم تعط علمك للمجتمع فسوف يحتاج إلى الآخرين، وأنت تعرف أن أية دولة من الدول لا تعطيك خبرة إلا إذا أعطيتها شيئاً من عزّتك وحريتك وكرامتك، فهناك ـ مثلاً ـ معاهدات ثقافية وأخرى تربوية وثالثة اجتماعية لا توقّع إلا في مقابل شروط سياسية، وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين(ع) فيما ينسب إليه "احتج إلى من شئت تكُن أسيره، واستغن عمّن شئت تكُن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكُن أميره"، فالحاجة هي أساس الذلّ، فبمقدار ما تملك حاجاتك تملك حريتك وعزّتك وتقرير مصيرك بنفسك.
لذلك نقول لكل شبابنا في كل الأم الإسلامية: خذوا بكل أسباب العلم، فقد يكون واجباً أن ترتقوا في درجات العلم، لأن الصراع الآن ليس صراع البندقية فقط، بل حتى صراع البندقية والمدفع والصاروخ وغيرها من الأسلحة يحتاج إلى علم، وإذا لم يكن لديك علم فإنك لا تستطيع أن تطوّر هذه الأسلحة فضلاً عن أن تنتجها، فنحن نحتاج إلى أمة تنتج سلاحها، وإلى أمة تنتج غذاءها، وإلى أمة تنتج ما يلبي حاجاتها حتى تستطيع أن تكون الأمة التي يحتاجها الآخرون ولا تحتاج الآخرين في القضايا الحيوية، وبطبيعة الحال، فإننا لا يمكن أن لا نحتاج إلى أحد، لكن في الأمور الحيوية علينا أن نعمل وفقاً لسياسة الاكتفاء الذاتي والثقافي والعلمي والاقتصادي والاجتماعي.
مفهوم "الأمة" و"المجتمع":
فالعالم ايوم يعيش الصراع في العلم، فلذلك نقول ـ في كثير من الحلاات ـ إن الإنسان الذي يصرف وقته بدون أن يعلّم ويتعلّم هو إنسان يخون نفسه ويخون أمته، وهذه نقطة مهمة تحتاج إلى أن نفهمها جيداً، فلدينا مفاهيم "أمة" و"مجتمع" ولكن هل خلق الله شيئاً اسمه الأمة أو المجتمع؟ إنه لم يخلق شيئاً مميزاً اسمه المجتمع، فمن هو يا تُرى المجتمع؟ إنه أنا وأنت والآخرون، ومن هي الأمة: إنها أنا وأنت وهذا الشعب وذاك.. إذاً فطاقات الأمة موزّعة في طاقات أفرادها، وقوة المجتمع موزعة في قوى أفراده، إنه عقلي وعقلك وعقل الآخر، وطاقتي وطاقتك وطاقة الاخر، وعلمي وعلمك وعلم الآخر، هذه هي طاقة الأمة التي تجتمع لتتكامل وتتداخل وتتحرك وتتوازن، وعند ذلك يمكن أن نقول بأن تلك هي طاقة الأمة. لذلك ففي عقل كل واحد منّا شيء من عقل الأمة، وفي طاقة أي واحد منا شيء من طاقات الأمة، وفي موقع كلٍّ منا موقع للأمة، فمن حجب عن الأمة طاقته وحجب عنها علمه وجهده وجاهه وموقعه، فهو سارق للأمة خائنٌ لها، إنه يسرق طاقاتها ويرميها في الفراغ.
الراحة حرام:
لذلك، فإن الله لا يريدنا أن نكون البطّالين، بل يريدنا أن نكون العاملين المتعلمين المعلِّمين، فهذا هو لون من ألوان الجهاد ـ وهو بحسب عطائه ـ كما في الأحاديث، قد يكون أفضل من جهاد المجاهدين بالدم "مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء" صحيح أن "الجود بالنفس أقصى غاية الجود" لكن دم الشهيد يمكن أن يركّز وضعاً في نطاق معين، أما مداد العالم إذا كتب ما يحتاجه الناس فإنه يحرّر عقل الأمة في مدى مئات السنين من دون أن نقلّل من قيمة دم الشهداء، لأنهم هم الذين قد يعطون الفرصة للعالم أن يعلّم وأن يتعلّم، لكن امتداد النتائج الإيجابية من مداد العلماء أكثر من النتائج الإيجابية من دماء الشهداء بحسب حركة امتداد هذه أو تلك.
لذلك ـ فيا أيها الشباب ـ لا تعيشوا الفراغ، فأمتكُم تحتاجكم في أن تتعلّموا جيداً في أعلى درجات العلم، وتحتاجكم أن تعلّموا جيداً، وأن تخدموها بعلمكم جيداً، ولقد قلت فيما سبق أننا في عصرٍ الراحة فيه حرام إلا تلك التي تحتاجها من أجل تجديد نشاطك، أما الراحة الاسترخاء فهي التي تذهب فيها الساعات والساعات سدى وأنت عاطل تضحك وتلهو، وبذلك تقتل عمرك من دون أن يعطي عمرك شيئاً لحياتك وحياة الناس.
فيا أيها الشباب، عليكم أن تعصروا كل دقيقة حتى تستنفروا كل ما فيها من طاقة لتنتجوا حياة جديدة وعقلاً جديداً وروحاً جديدة.
الجهاد بالقوة:
ومن شُعَبْ الجهاد بالنفس أيضاً، أن تعطي قوتك للأمة في سبيل الله، فإنها قد تحتاج إلى قوة جسدك، وقد تحتاج إلى قوة جاهك وقوة موقعك، فقوتك ليست ملكك بل هي ملك الأمة، فلا بد لنا أن نجاهد لنعطي قوتنا للأمة فنحمي الأمة بقوتنا ونحمي أرضها، لأن الأرض الحرّة هي التي تحمي الإنسان الحرّ، ونحني حرية إنسانها وحرية سياستها وحرية اقتصادها وتقرير مصيرها، فهذا هو الذي نحتاجه عندما نعطي من قوتنا لأمتنا، وعندما نقول الأمة فإن إعطاءها القوة هو في سبيل الله الذي يريد للأمة التي تؤمن به وبرسوله أن تكون الأمة القوية لأنه تعالى يريد لنا القوة والعزّة {ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين}( )، فأن تكون مؤمناً يساوي أن تكون عزيزاً.
ولقد ذكرت أكثر من مرة أن الإمام الصادق(ع) استوحى هذه الآية، فقال: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً" وإذا أردت أن تكون عزيزاً فلا بد أن تكون قوياً، فالله تعالى يقول في القرآن الكريم في تعبيرين منفصلين متصلين {أن القوة لله جميعاً}( )، و{فإن العزة لله جميعاً}( )، فالعزة لله جميعاً من حيث أن القوة له جميعاً، فعندما تكون القوة كلها له فلن يستطيع أحد أن ينتقص من عزته شيئاً، ولذلك فبمقدار ما تكون قوياً تكون عزيزاً.
الجهاد بالنفس:
ولقد أرادنا الله أن نجاهد في سبيله وأن نتحمل الأذى في ذلك {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون}( )، فو عز وجل لا يريدنا أن نكون المقتولين دائماً، لا يريدنا أن نكون المهزومين الخانعين ولا من الذين يجبّنون بعضهم بعضاً، ويضعفون بعضهم بعضاً، فالله يقول لك كُن المقتول القاتل، فإذا أردت أن تكون المقتول فحرّك قوتك أولاً واقتل عدوّك واستقبل الشهادة بعد ذلك، أي أن تكون روحك روح الإنسان الذي يريد أن ينال من عدوِّه، ولقد قال لنا {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} والفرق بينكم وبينهم {وترجون من الله مالا يرجون}( )، {إن يمسسكُم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}( )، فليست هناك قوة خالدة في الأرض وليس هناك ضعف خالد {قُل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قدير}( ) لذلك يقول تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}( ).
صدق الإيمان:
فعندما يشير ألله تعالى إلى هؤلاء بأنهم الصادقون، فإن معنى ذلك أنالذين لا يعيشون الإيمان بعمق اليقين ولا الجهاد بالمال وبالنفس ولا يتحملون مسؤولية سبيل الله في كل موقع له فيه سبيل، فهؤلاء ليسوا الصادقين. فأن تكون صادقاً في إيمانك يعني أن يتحرك إيمانك كمثل النور في عقلك وقلبك فلا ظلمة فيه، وأن يتحرك إيمانك قوياً بحركتك في الحياة، ليكون إيمانك الإيمان المسؤول الذي يراقب سبيل الله أين هو لينفتح عليه وليتحرك فيه وليحميه من كل من يريد إسقاطه أو اهتزازه أو أي شيء من هذا القبيل.
أيها الأحبة، هذا هو مفهوم الإيمان الذي يريدنا الله أن نأخذ به {إنّما المؤمنون} أي أنهم هم هؤلاء وليسوا غير هؤلاء، فلا بد أن ندرس إيماننا كما ندرس الفقر بالدم والحيوية، حتى نعطيه فيتامينات فكرية وروحية وعملية وقد لا نجدها عند الصيادلة ولكننا نجدها عند "الصيدلي" الأكبر محمد رسول الله(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته(ع) {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}( )، والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثالثة: 3 جمادى الآخرة 1418هـ الموافق4 - 10 – 1997م
صفات المؤمن في سورة (المؤمنون)
"إذا لم يمارس الإنسان إيمانه جمد ومات، فالممارسة تجعل الإيمان يعيش معك ويتأصّل في وجودك".
ـ مفهوم الإيمان مرةً أخرى.
ـ سرّ الفلاح.
ـ الصلاة مدرسة داخلية.
ـ الممارسة اليومية للإيمان.
ـ من موانع التفكير.
ـ أم الكتاب.
ـ الإعراض عن اللغو.
ـ فعل الزكاة.
ـ المؤمن عفيف.
ـ مراعاة الأمانة والعهد.
ـ الابتداء والانتهاء بالصلاة.
ـ من همّ الوارثون.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
مفهوم الإيمان.. مرة أخرى:
كنا نتحدث حول مفهوم الإيمان في واقعه الحركي في حياة الإنسان المسلم، لأن قصة الإيمان في الواقع العام ربما يحملها الكثير من الناس على أن تكون مجرد فكرة في العقل أو نبضة في القلب أو حركة في اللسان، لا أن تكون حياة وحركة في الواقع تحدد للإسنان دوره وعلاقاته وأوضاعه ليكون الإيمان شيئاً يتجسد فيه لا مجرد شيء يتمثله.
وقد تحدثنا فيما سبق من أحاديث عن بعض آيات الله سبحانه وتعالى التي تحدّث فيها عن العناصر الحيوية في شخصية الإنسان المؤمن عندما يعيش إيمانه، ونحن في هذه الجلسة نحاول أن نستنطق بعض آيات الله التي حدثنا فيها عن الإيمان عندما يعيشه الإنسان في الداخل وعندما يتمثله في بعض سلوكه في الخارج.
سرّ الفلاح:
وهذا الذي يمثله الإيمان في الداخل والخارج في بعض امتداداته هو سرّ فلاح الإنسان.
والله عندما يطلق الفلاح فإنه يطلقه للدنيا وللآخرة {قد أفلح المؤمنون}( )، هؤلاء الذين عاش إيمانهم في عقولهم وقلوبهم حتى تحول إلى عنوان لشخصياتهم في معناها الإنساني الذي يمثل علاقة الإنسان بالله تعالى فيما يتمثله من عظمة الله فيتحول ذلك إلى خشوع وخضوع وإحساس بمقام الله نومقام الإنسان أمامه.
الصلاة مدرسة داخلية:
{الذين هم في صلاتهم خاشعون}( )، وقصة الصلاة ـ أيها الأحبة ـ كما قدّمها الله لنا هي أنها مدرسة داخلية تخاطب عقل الإنسان وقلبه ومشاعره وأحاسيسه لتصنع منه شيئاً في الداخل ينظّم للإنسان خط السير في الاتجاه المستقيم في الخارج. ومن هنا كانت الصلاة في القرآن شيئاً يتحرك مع الإيمان حتت كأنه يمثل عمقه ويمثل أصالته، وكأن الإنسان الذي لا صلاة له هو إنسان لا إيمان له، لأن الإيمان إذا كفّ عن أن يجعلك تعيش عبوديتك لربك في ممارساتك العضوية والروحية فإنه يبقى مجرد شيء ليس فيه روح وليس فيه يحاة تماماً كما لو كان الإيمان معادلة فكرية ترقد في زاوية من العقل ولا تلامس الروح ولا تعيش في الشعور والفكر. وإنما تكون إيماناً إذا نزلت إلى القلب وإلى الإحساس وإلى الشعور، بحيث يهتز القلب معها كما قرأنا في الآية الكريمة التي تقول: {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِر الله وجِلت قلوبهم}( ) اهتزوا واهتزّت قلوبهم جرّاء إحساسهم بعظمة ربهم.
الممارسة اليومية للإيمان:
والصلاة ـ أيها الأحبة ـ تمثل الممارسة اليومية للإيمان، فالإنسان إذا لم يمارس إيمانه يجمد ويموت روحياً، في حين أن الممارسة التي يشارك فيها العقل والقلب واللسان والحركة تجعل الإيمان يعيش معك بكلّك وبذلك يتأصل في وجودك، وهذا ما تعطيه الصلاة في دلالاتها. فعندما تبدأ صلاتك بتكبيرة الإحرام "الله أكبر" فإن الأكبر يختزن في داخله النظر إلى الأصغر، ولذلك فإن الصلاة تحمل لك معنىً إيحائياً أن كل ما عداه أصغر، فإذا كان ما دونه الأصغر فكيف يمكن لك أن تهمل الأكبر في وحيه والأكبر في عظمته والأكبر في نعمه، كيف يمكن أن تهمله لتسقط أمام الأصغر، وعندما تنفتح بك كلمة "الله أكبر" في الآفاق فإنك ستأخذ منها روحاً في معنى الروح لتتصور الله سبحانه وتعالى في كل صفاته التي لا يقترب منها أحد، ولتعيش الله سبحانه وتعالى في أسرار قدرته التي لا يمكن أن يدنو منها أحد، ولتتصور الله في نعمه التي لا يمكن أن يعطيها أحد غيره، فهو الأكبر في الصفات، وهو الأكبر في الخلق والقدرة، وهو الأكبر في النعم التي ينعمها على الإنسان.
وعندما تعيش ما يعيشه الناس من قوىً يمكن لها أن تسقط نفسك، ويمكن لها أن تسقط موقفك، عند ذلك تلتفت إلى الله سبحانه وتعالى لتقول "الله أكبر" وإن الآخرين مهما بلغوا من قوة فـ{أن القوّة لله جميعاً}، و{فإن العزّة لله جميعاً}، وبذلك تحفظ لك هذه الكلمة بمعناها الرحب والخصب توازنك أمام الكبار، لأنك عندما تلتفت إليهم وتدخل في مقارنة بينهم ويبن الله فإنك تتصورهم صغاراً وبذلك تتوازن حركتك في الحياة، وعندما تتوازن تفكّر، وعندما تفكّر، تخطّط، وعندما تخطّط، تتحرك.
من موانع التفكير:
إن مشكلة الذين يخافون هي أن الخوف يمنعهم من أن يفكروا، لأن الخوف يُطبق على كل عقولهم فلا تملك عقولهم أن تتوازن وتستقر، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن الخوف {إنّما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} فالشيطان هو الذي يخلق في نفوسكم الخوف وهو الذي يسقطكم من خلال هذا الخوف، يسقط فكركم كما يسقط حياتكم ويسقط مواقفكم {فلا تخافوهم وخافون}( )، وحده خوف الله هو الذي يجعلك تتوازن في عقلك عندما تشعر بأن نور الله يشرق في عقلك، فأنت عندما تخافه فإنك تتحمل المسؤولية، إنك تخافه فتفكّر فيما لا يغضبه عليك، ذلك أن التفكير الحق هو الذي يجعلك تبذل جهدك في أن يكون حقاً حتى لا يغضب الله عليك، وتفتح عاطفتك لتكون عاطفة الحق حتى لا يغضب الله عليك، وتفتح حياتك لتسير في طريق الحق حتى لا يغضب الله عليك. وفي المحصّلة فإن الله هو الذي يحرّرك من كل خوف آخر وهو الذي يؤمنك من كل ما تخافه في الدنيا والآخرة، لذلك فإن هذه الكلمة يمكن أن تعطي الكثير كل ما اتسعت آفاقك وامتدت معها.
أمّ الكتاب:
وهكذا عندما تقرأ سورة الفاتحة، وما أدراك ما الفاتحة إنها أم الكتاب، لأنها اختصرت الكتاب كله فاختصرت معنى الله {رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين}( )، هو المعبود وحده، وهو المستعان وحده، وهو الهادي إلى الصراط المستقيم وحده، وهو الذي يمنعك من أن تنحرف مع المغضوب عليهم لتجحد الحق أو تسير مع الظالمين لتضيّع طريق الحق.
ومن ثمّ تأتي آيات الله والسور الأخرى، وتسبّح ربك العظيم وليتجسّد إحساسك بالعظمة وأنت تركع، ويتعاظم إحساسك بالعظمة وأنت تسجد. وهكذا تظلّ في الصلاة من تكبير إلى تكبير ومن قراءة إلى ذكر ومن ركوع إلى ركوع، وفي النهاية تعيش السلام، لأنك في الصلاة عشت السلام مع نفسك والسلام مع ربك والسلام مع الناس، ولذلك تقول "السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته" لأنه هو الذي شقّ لنا طريق السلام من خلال وحي الله، وتقول بعد ذلك "السلام علينا" لتعيش السلام مع نفسك فلا تحارب الخير والعدل والحق في نفسك وتسلّم على عباد الله الصالحين باعتبار أنهم فريقك، ثم تنطلق لتسلّم على الملائكة وتسلّم على الناس جميعاً لتنطلق الصلاة في سائر الأرجاء، والأجواء وليكون تحريمها التكبير لتعيش في أجواء التكبير، وليكون تحليلها التسليم لتكون الصلاة بالتالي حركة في العقل وفي القلب وفي الجسد، بل حركة من أجل السلام: السلام مع النفس ومع الله ومع الناس.
{إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}( )، وبذلك تعني الصلاة شيئاً كثيراً للإنسان، فهي ليست شيئاً على الهامش ولكنها شيء في عمق العمق، ويروى عن سول الله(ص) أنه قال: "إن الصلاة عمود الدين وإنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من الأعمال، وأول ما يُسأل عنه العبد بعد المعرفة، فإن قُبِلَت قُبِل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها"( ) ذلك أن الدين يرتكز على الإيمان بالله والصلاة هي "معراج المؤمن"( ) إلى الله وكلّما عرج الإنسان إلى الله بروحه في صلاته عرف الله أكثر وقرب من الله أكثر {الذين هم في صلاتهم خاشعون}( )، لأنهم تمثلوا صلاتهم فيما يذكرون ويقرأون ويفعلون وبذلك جسّدوا الإيمان في الممارس الصلاتية.
الإعراض عن اللغو:
{والذين هم عن اللغو معرضون} واللغو هو كل ما لا ينفع، وكل الكلمات التي لا معنى لها، وكل الأفعال التي لا مضمون لها، وكل العلاقات التي لا جدوى منها، وكل المواقف التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، فأنت في الحياة طاقة لا بدّ أن تعطي الحياة شيئاً، أما أن يكون كلامك لغواً لا معنى له، وأن يكون عملك ونشاطك لغواً لا نتيجة له، وأن تكون علاقاتك لغواً لا فائدة منه، وأن تكون مواقفك شيئاً لا يحقق لك ولا للحياة شيئاً، فإن معنى ذلك أنك أعطيت شيئاً من الحياة موتاً، لأن الحياة هي بمقدار ما تنتج من خير وبمقدار ما تعطي منه {وآيةٌ لهم الأرض الميتةُ أحييناها وأخرجنا منها ح باً فمنه يأكلون}( )، {وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربَت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج}( )، فالبطالة موت واللغو موت والجمود موت، ولذلك فأنت تعيش من أجل أن تعطي الفكر أفقاً جديداً، وأن تعطي الحياة حركة جديدة وأن تعطي الواقع شيئاً جديداً من خلال انطلاق روحك في كل روح الحياة، وعقلك في كل عقل الحياة، وحركتك في كل حركة الحياة، حتى إذا جاءك الأجل ومتّ بقي منك للحياة شيء بقدر طاقتك {والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملا}( )، {والباقيات الصالحات} وهي ما يبقى لك مما ينفع الناس ويبقى لك مما يرفع الله به درجتك ويرضى به عنك.
لذلك فالمؤمن هو الذي يعرض عن اللغو، لا سيما وأن من يعيش اللغو يفقد شيئاً كبيراً من الإيمان ويعيش ضعف إيمانه وفقر إيمانه، فالحقيقة هي أن المؤمن لا يفرغ للّهو وللعبث ولكنه يفرغ للعمل، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في مناجاته لربه عندما قال "يا من ذكره شرف للذاكرين، ويا من شكره فوزٌ للشاكرين، ويا من طاعته نجاةٌ للمطيعين، صلّ على محمدٍ وآل محمد واشغل قلوبنا ـ قبل ألسنتناـ بذكرك عن كل ذكر، وألسنتنا بشكرك عن كل شكر، وجوارحنا بطاعتك عن كل طاع، فإن قدّرت لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة لا تدركنا فيه تبعة ولا تلحقنا فيه سآمة، حتى ينصرف عنا كتّاب السيئات بصحيفة خالية من ذكر سيئاتنا ويتولى كتّاب الحسنات عنا مسرورين" بما كتبوا من حسنات لأننا لم نفعل إلا خيراً ولأننا لم نترك إلا شراً، أما الشيء الذي لا خير فيه فلماذا تستهلك طاقتك فيه؟!
فعل الزكاة:
{والذين هم للزكاة فاعلون}( )، والزكاة في القرآن لا تختص بالزكاة الفقهية فحسب، ولكنها تشمل كل ما يزكي المال والنفس من صدقة تتصدّق بها وهديّة تهديها وحقٍ تعطيه وما إلى ذلك، فالمؤمن هو الذي يعيش روح العطاء وهو الذي لا يبخل بشيء، لأنه إذ بخل فإنما يبخل على نفسه، أما إذا أعطى فإن العطاء ينطلق منه إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يتقبل عطاءنا وهو الذي يجزينا على ذلك، لذلك فالمؤمن ليس بخيلاً وهو ليس إنساناً لا يتحسس حاجات الناس الذين تثقلهم حاجاتهم والذين تؤلمهم معاناتهم.
المؤمن عفيف:
{والذين هم لفروجهم حافظون}( )، والمؤمن عفيف يعيش العفّة في شهواته، فالله سبحانه وتعالى عندما خلق شهواتنا لم يرد منّا أن نقتل شهواتنا وأن نجمّدها، بل أراد للإنسان أن يعيش حياته بشكل طبيعي جداً شريطة أن يتوازن. كل ما شئت من الطيبات ولكن من حلال، واشرب ما شئت ولكن من حلال، واسكن حيث شئت ولكن في الحلات، والبس ما شئت واعمل أي شيء ولكن في الحلال..
وكذلك الجنس الذي هو غريزة حيوية أساسية تشبع للإنسان حاجته في أحاسيسه الجسدية وتحقق له امتداده في الزمن، ولكن الله قال لك ليس الجنس مجرد شيء تتلهى به وتطلق فيه حريتك، بل لا بد من أن تنظّم غريزتك من خلال طهارتك النفسية، ومن خلال نظام المجتمع الذي حولك، لأن الجنس عندما يعيش الفوضى فستكون الأنساب فوضى، وستكون العلاقات فوضى، وسوف يفقد المجتمع هذا السكن الذي يوحي بالطمأنينة والذي يقيم العلاقات حتى لو كانت الشهوة في داخلها على أساس المودة والرحمة {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة}( )، لذلك قال الله لك إن عليك أن تحفظ فرجك إلا في المواقع المباحة.
والخطاب قد يكون في شكله اللفظي للرجال ولكنه يشمل النساء أيضاً بلحاظ التغليب، ولأن مسألة الحديث عن الجنس بالنسبة للنساء قد يكون شيئاً غير مألوف، ولذلك كان الحديث دائماً مع الرجل ولم يكن مع المرأة، وغلا فإن كلاً من الرجل والمرأة سواء في عالم العفة أو في عالم الانحراف، ولذلك جعل عقابهما سواء بسواء وجعل ثوابهما سواء بسواء {والحافظين فروجهم والحافظات}( )، {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة}( )، {والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}( )، ذلك بأن الله أباح لهم ذلك {فمن ابتغى وراء ذلك} في أية ممارسة لم يأذن بها الله سواء كانت زنى أو كانت لواطاً أو كانت سحاقاً أو حتى كانت كما في بعض الروايات استمناءً {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}( )، ولقد ورد في بعض الكلمات المأثورة أن العفّة عبادة "ما عُبد الله بشيء أفضل من عفّة بطنٍ وفرج"( )، "يكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة"، {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} هم المنحرفون عن خط الله المتعدّون لحدود الله.
مراعاة الأمانة والعهد:
{والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}( )، {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}( )، {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها}( )، وهكذا {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}( )، وعندما تكبر الأمانة فتكون بحجم المسؤولية كلها {إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحمِلْنَها وأشفقن منها وحملها الإنسان}( )، والأمانة هي المسؤولية عن المال والعرض والنفس والبيئة والوحدة والحياة كلها، {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها}( )، {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم}( ).
{والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}( ) يرعون أمانتهم فلا يخونون ويرعون عهدهم فلا ينقضون هذا العهد، فالله تعالى يريد أن يقول لنا، إن كلمتك لا بد أن تكون قانونك، ولقد قالها علي(ع) "الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه"( )، فأنت كلمة وعندما تقبل الأمانة فأنت موقف أيضاً، وهي تعني إنسانيتك،والكلمة عهدٌ وهي موقف وتعني إنسانيتك أيضاً، فمن احترم إنسانيته احترم كلمته وعهده وموقفه وأمانته.
الابتداء والانتهاء بالصلاة:
لقد بدأ الله تعالى بالصلاة خشوعاً حتى يعيش الإنسان روحية الصلاة مع الله، وبدأ بالصلاة التزاماً حتى يحافظ الإنسان عليها من كل ما يشغله عنها من علاقاته وأعماله وأوضاعه {والذي هم على صلواتهم يحافظون}( )، كُن الإنسان الذي يحافظ على صلاته ليحافظ بالتالي على أوقاتها وعلى إخلاصها {فويلٌ للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون* الذين هم يراؤون* ويمنعون الماعون}( ).
مَن هم الوارثون؟
{أولئك هم الوارثون}( )، هؤلاء هم الذين يورثهم الله أرضه ليجعلهم قادة أرضه وطليعة الحركة في أرضه والذين يديرونها ويصنعون فيها الكثير مما يريده ومما جاء به وحيه حقاً وعدلاً وخيراً ورحمةً وبركةً في كل المجالات.. {الذين يرثون الفردوس}( ).
أيها الأحبة، غن الهل يقول لكم، إن الفردوس هو إرث هؤلاء فيما يعيشون من عمق هذه العناوين وفيما يتحركون في واقعها.. أتحبون الفردوس؟ والفردوس ليس مجرد نعيم فيه الحور والولدان وما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ولكنه النعيم الكبير {ورضوانٌ من الله أكبر}( )، هذه المتعة الروحية، وهذا العنفوان الكبير الذي يعيشه الإنسان عندما يحسّ بأن الله راضٍ عن عقله عندما كان عقله يفكّر، وراضٍ عن قلبه عندما كان قلبه ينبض ويخفق بالعاطفة، وراضٍ عن حياته عندما تتحرّك حياته في الحق والعدل والخير، وذلك ما يمثله هذا النداء الحبيب الذي يتمنى كل واجد منا أن يكون هو المناديه، وهو الذي عانى تعب الحياة في الخمسين والستين والسبعين، وأثقلت ظهره الأعباء وبدأ يستعد للقاء ربّه، كل واحدٍ منا ينتظر هذه الهمسة الربانية الروحية الحبيبة {يا أيتها النفس المطمئنة* ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضية* فادخلي في عبادي ـ الذين رضيت عنهم ـ وادخلي جنّتي}( ).
هل نعمل من أجل تحصيل هذه الطمأنينة؟ هل نعمل على أن نكون الراضين بالله بكل قضائه وقدره وكل وحيه، المرضيين عنده بإيماننا وعملنا الصالح؟ هل نطمع في أن نتحرك في هذا الاتجاه {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}( ). والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الرابعة: 10 جمادى الآخرة 1418هـ الموافق 11 - 10 – 1997م
ولاية الكافرين
"إذا كنت مؤمناً بلسانك ولكنك منفتحٌ بالولاية على الكفر خطاً ومجتمعاً فإنك منافق".
.عوداً على بدء.
ـ الموالاة لمن؟.
ـ لون من ألوان النفاق.
ـ ابتغاء العزّة.
ـ تشديد النكير.
ـ الفكرة في إطار التجربة.
ـ التقية مسألة إنسانية.
ـ وحي الانفعال.
ـ التحذير من الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
عوداً على بدء:
لا نزال نستجلي من كتاب الله العناصر الحيوية للإيمان في شخصية المؤمن كفرد وفي شخصية المؤمنين كمجتمع، لأن مسألة الإيمان هي مسألة كيان فكري أو كيان ثقافي وروحي وعملي، بحيث إذا دخل في عمق شخصية الإنسان حوّلها إلى طاقة منفتحة على الله وعلى الحياة من خلال الله سبحانه وتعالى، فالإنسان المؤمن ليس حيادياً وليس الإنسان اللامنتمي بل هو الإنسان الذي يملك موقفاً في كل شيء، وهو الإنسان الذي يرتبط في علاقاته بالإنسان الآخر على أساس منهج، وهو الإنسان الذي يتحرك في الحياة على أساس مسؤوليته عن إغناء الحياة بحيث إذا فارق الحياة فإنه يترك شيئاً من عقله في عقلها، ومن قلبه في قلبها، ومن طاقاته في طاقاتها.
الموالاة لمن؟:
لننطلق إلى كتاب الله سبحانه وتعالى لنجد بعض الخصائص الحية في واقع المؤمنين، فالإنسان المؤمن يرتبط بالمجتمع الإيماني على أساس أنه هو مجتمعه، ولا يمكن له أن يوالي أي مجتمع آخر لا يعيش الإيمان، بحيث يكون موقف الإنسان المؤمن مع المؤمنين في ولايته لهم وضد الكافرين في الجانب السلبي في ولايته لهم، فهو مع المؤمنين وهم أولياؤه، والكافرون ليسوا أولياءه، فقد يعاشرهم وقد يعاملهم وقد يعيش معهم، ولكن مسألة أن يجعلهم أولياءه تتنافى مع الإيمان ومع علاقتهم بالله سبحانه وتعالى.
لنقرأ الآيات التي تحدثت عن هذا العنوان اكبير ثم ندخل في تفاصيلها، يقول تعالى: {بشّر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً* الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}( )، بحيث يعتبرون الكافرين هم القيادة وهم المجتمع الذي يتعاونون معه ويتعاطفون معه ويتفاعلون معه ويتركون مجتمع المؤمنين، إما بطريقة سلبية بمعنى أنهم لا يتفاعلون مع مجتمع المؤمنين، وإما بطريقة مضادة في أن يكونوا ضد المؤمنين كالذين يلتزمون المناهج الفكرية والسياسية والقانونية التي يؤكدها الكافرون، ويبتعدون عن المناهج القانونية الشرعية والسياسية والاجتماعيةفي العادات وفي التقاليد التي يؤكدها المؤمنون {بشِّر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً الذين يتخذون الكافرين أولياء} ـ والولاية هنا تعني كل الالتزام وكل التعاطف وكل التفاعل وكل التعاون وكل التحرك مع الخط وفي خدمة الخط.
لون من ألوان النفاق:
{الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} ـ هؤلاء منافقون، لماذا؟ لأن الإيمان هو أن يكون خطك في إيمانك هو الذي حدد لك برنامج حياتك، وهو الذي يحدد لك أولياءك وأعداءك، ذلك لأن معنى أن تؤمن بأن هذا هو المنهج الحق فإن هذا يختزن أن غيره هو الباطل {ذلك بأن الله هو الحقّ وأن ما يدعون من دونه هو الباطل}( )، {الله وليُّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}( )، إذاً أنت عندما تؤمن بمعنى ذلك أن إيمانك هو الفكر الحق وهو العاطفة الحق والشعور الحق والمنهج الحق، فإذا كنت مؤمناً بلسانك ولكنك منفتح بالولاية على الكفر خطاً ومجتمعاً فإنك منافق، لأنك وإن كنت مؤمناً لسانياً لكنك كافر شعورياً وكافر عملياً بقدر ما ترتبط بالكفر من هذا الجانب أو ذاك.
ابتغاء العزّة:
ثم أن الله سبحانه وتعالى يثير الاستفهام على طريقة الإنكار {أيبتغون عندهم العزّة}، لماذا يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، هل لأن الكافرين يملكون قوة فهم يريدون شيئاً من قوتهم يحصلون بها على العزة، أو لأن الكافرين يملكون المال أو يملكون القوة أو ما إلى ذلك {أيبتغون عندهم العزة} ثم يقول الله سبحانه وتعالى تقريراً للحقيقة إنّ أحداً من عباد الله لا يملك العزة في نفسه لأن الله وحده هو العزيز وكل عزيز يعتز بعزّه ويستمد عزته منه {فإنّ العزّة لله جميعاً}( ) من حيث {أن القوة لله جميعاً}( )، {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك على كل شيء قدير}( )، فليس هناك عزيز في ذاته إلا الله لأنه ليس هناك قوي في ذاته إلا الله، فالله وحده الذي يعطي القوة وهو وحده الذي يعطي العزة.
قد تكون العزة من خلال قوة العزيز، وقد تكون من خلال ألطاف الله، كما ورد في الحديث: "من أراد عزاً بلا عشيرة، وغنىً بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"( )، وهكذا نقرأ في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): "فإنّ الشريف من شرفته طاعتك، والعزيز من أعزّته عبادتك" {أيبتغون عندهم العزّة فإن العزة لله جميعاً} ثم يقول الله بعد ذلك في آية أخرى {لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} هنا يصوّرهم بصورة النفاق ويحدثهم عن طبيعة المسألة في أنهم مخطئون في تصورهم أنهم يحصلون من هؤلاء على عزة إذا والوهم من دون المؤمنين، فلقد تحدّث سبحانه وتعالى عن القضية في إطارها الفكري وبيذن لهم أنهم مخطئون في ذلك، وبعد أن قال لهم إنه منهج من مناهج النفاق أعطى التحذير ـ أي أن هذا ممنوع تحت أي طائل ـ {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} فأن تفضّل كافراً على مؤمن، وأن توالي كافراً أو تترك موالاة المؤمن هذا ممنوع منعاً باتاً، ذلك أنك إذا كنت مؤمناً حقاً فلا تتخذ غير المؤمنين أولياء، فالله هنا لم يقل {يا أيها الناس} لأنه أراد أن يبين مسؤولية المؤمنين وليعتبر ذلك من عناصر الإيمان، فإذا كنت مؤمناً فوالِ المؤمنين ولا توالي الكافرين {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} ثم يأتي التهديد {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}( ) أي يبرء الله منه فيقطع علاقته به ويمنع عنه لطفه ورحمته فلا شيء بينه وبين الله، ولم أجد تهديداً أو تحذيراً في القرآن من اله أبلغ من هذا، لأن الله ربما يقول مثلاً {مأواهم جهنم وساءت مصيراً}( )، وهذا نوع من أنواع العقاب، لكنه سبحانه وتعالى عندما يؤكد على هذه المسألة {من يفعل ذلك فليس من الله في شيء} فإن الله يعني أن تنقطع كل العلاقات بينه وبين الله.
تشديد النكير:
وقد نتساءل: لماذا يعطي الله سبحانه وتعالى هذا الحجم الكبير لهذا الخط الانحرافي؟! إن ذلك يعني أن الانحراف هنا أعظم من شرب الخمر وأعظم من الزنا وأعظم من الغيبة وأعظم من كل الانحرافات الأخرى، لأن لكل واحد من هذه عقاباً معيناً، أما هنا فتنقطع العلاقات بينك وبين ربك، لأنإقامة المجتمع المؤمن في الأرض من أجل أن يجسد إرادة الله وينفذ شريعته ويحوّل الإسلام إلى قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة، متوقف على هذا النوع من الارتباط الإيماني للمؤمن بخط الإيمان وارتباط الفرد المؤمن بمجتمع المؤمنين، إذ ما قيمة إيمان المؤمنين إذا كانوا يخضعون لقيادة الكافرين دون المؤمنين.
الفكرة في إطار التجربة:
وهذا ما قد نلاحظه ـ أيها الأحبة ـ في بعض المؤمنين الذين قد يلتقون بتجربة إسلامية إيمانية فيها البعض من الخطأ وفيها ابعض من التعقيدات التي قد تكون مذهبية وقد تكون شخصية، فيقومون بالهجمة على هذه القيادة الإيمانية أو هذه السلطة الإيمانية أو هذا الخط الإيماني ليقولوا كما قال اليهود عن المؤمنين للمشركين عندما جاء المشركون إلى اليهود وهم يعتقدون أنهم أهل الكتاب الأول، قالوا لهم: (هل نحن أهدى أم محمد؟) قالوا: بل أنتم. في الوقت الذي كان النبي(ص) يؤمن بالكتاب كله وكان يؤمن بموسى وعيسى ويصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وكان هؤلاء يعبدون الأصنام، ولقد حدثنا الله عنهم بقوله {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً}( )، بحيث دفعتهم العصبية والتعقيدات الذاتية والفئوية إلى أن يقولوا بأن المشركين الذين يعبدون الأصنام أهدى من المؤمنين الذي يعبدون الله وحده ويؤمنون بالكتاب كله.
هنا ربما نجد بعض التعقيدات التي تحصل لدى بعض المؤمنين من فريق إيماني معين يتحرك في موقع سلطة أو يتحرك في موقع قيادة، أو يتحرك في موقع حركة، ليشيروا إلى الكافرين بالقول {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} وليتحالفوا مع الكافرين ضد المؤمنين وليوالوا الكافرين ضد المؤمنين على أساس أن هؤلاء فعلوا كذا أو انحرفوا في بعض الخطوط العملية، وذلك أمرٌ سيِّئ ولكنه لا يمثل الخطر الكبير، ذلك أن الانحراف في بعض المسائل الشخصية قد يكون سيئاً، ولكنه لا يمثل خطراً كبيراً ماحقاً، لكن الانحراف عن خط الإيمان وعن خط الإسلام وعن خط الله ورسوله يعني الخطر الكبير على الإسلام، لذلك لا بد للعاملين في الخط الإسلامي، وللمنفتحين على الخط الإيماني أن يراعوا الدقة في مواقفهم السياسية والاجتماعية والشخصية وانسجامها مع الخطوط الإسلامية حتى لا يفضّلوا كافراً على مسلم {لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة}( ) إلا أن تعيشوا في ضغوط قاسية تطبق عليكم بكل ثقلها وبكل قوتها بحيث لا تترك لكم مجالاً لأي تحرك ولا مجالاً لأي إعلان بالالتزام بهذا الخط أو بذاك، ففي هذه الحال يقول الله لا مانع من أن تتقوا، وقد أباح الله لعمّار أن يتقي {إلا من أُكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان}( ).
التقية مسألة إنسانية:
وفي هذا السياق لا بد أن نعرف أن مسألة التقية ليست مذهبية ولكنها إنسانية إيمانية، لأن التقية تكون في الحالات التي لا تملك فيها أن تعلن موقفك، لأنك إذا أعلنته أسقطت حياتك أو أسقطت خطك، وهذا هو الخطر في بعض الحالات، فقد يضحي الإنسان بحياته عندما يعلن موقفه، ولكن ربما تتحول هذه التضحية إلى خطر على الخط بحيث يكون موقفه نابعاً من الظروف الموضوعية المحيطة بالمسألة، بحيث تجعل للعدو مبرراً لإسقاط المسيرة كلها من خلال تلك الظروف.. فمثلاً قد يكون هناك كمين للمجاهدين لينال من العدو نيلاً، ويمر جندي من جنود العدو يمكن أن يقتلوه في الأثناء لكنهم لو قتلوه نبّهوا العدو إلى الكمين، فإما أن يقضي العدو على الكمين، وإما أن يسقط الخطة، في حين أن باستطاعة الكمين أن يقتل كثيراً من الأعداء وهنا يحرم على الكمين أن يقتل هذا الجندي لأنه إذا قتله فإنه يفسد الخطة كلها أو ربما يقضي على أفراد الكمين كلهم.
وحي الانفعال:
إن مشكلة الكثير من الناس العاملين في سبيل الله أنهم يتحركون بوحي الانفعال وبوحي الحماس ليقول أحدهم لا بد أن نقول كلمة الحق حتى لو كلّفنا ذلك قطع الأعناق، هذه مسألة من حيث دلالاتها على الإيمان وعلى التوت الروحي جيدة جداً، ولكن ثمة فرق بين أن تعيش مشاعرك وبين أن تؤكد موقفك، فلربما تتحول مشاعرك لتكون خطراً على موقفك، لذلك عندما أكد أهل البيت(ع) مسألة التقية فإنهم لم يؤكدوها جبناً وخوفاً من ناحيةٍ ذاتية، ولكنه أكدوها للحفاظ على الخط المستقيم لأن بعض الانفعالات وبعض الأساليب الحماسية ربما تتحول إلى خطر على الخط كله، لذلك نجد أن أهل البيت(ع) عندما نادوا بالتقية حدّدوها من غير استفسادٍ في الدين، بمعنى أن لا تتحول إلى أسلوب يوجب تضليل الناس عن الحقيقة وإسقاط الدين في الساحات العامة، لكنها حالة مرحلية تحددها طبيعة الأخطار التي قد تترتب على الشخص وقد تترتب على الخط كله، هنا يقول الله: {إلا أن تتقوا منهم تقاة}( ).
لذا أحببت أن أؤكد أن المؤمنين في جميع أنحاء الأرض، سواء كانوا سنّة أو شيعة، قد أباح الله لهم أن يعملوا بالتقية أمام الظالم وأمام الكافر، عندما لا تكون الساحة مهيّأة لإعلان الموقف بصراحة، وعندما تكون عندك خطة وتريد حمايتها حتى تصل إلى نتائج إيجابية حاسمة في نهاية المطاف، وأنا أعتقد أنه ما من إسلامي في الخط الحركي سواء كان سنياً أو شيعياً إلا وهو يستعمل التقية بأكثر مما كان الشيعة يستعملونها، ولذلك علينا أن نعتبر التقية أسلوباً حركياً إسلامياً يمثل المرونة في التحرك من أجل حماية الدين تارة أو من أجل حماية الخطة أخرى، ولا يجب أن نتراشق بالكلمات اللامسؤولة ليتهم السنة الشيعة بذلك أو ليسجّلوا نقطة عليهم، لأن القضية ليست سنيّة ولا شيعية ولكنها قضية قرآنية {إلا مَن أُكرِه وقلبه مطمئنٌ بالإيمان}( )، {إلا أن تتقوا منهم تقاة}.
التحذير من الله:
ثم لا يكتفي الله سبحانه وتعالى بهذا الموقف الحاسم في النهي والرفض، بل يقول: {ويحذّركُم الله نفسه} وهذه الصيغة من التحذير لم يستعملها الله إلا مرتين أو ثلاثة في القرآن، أي أنه يقول لا تتساهلوا في الأمر، ولا تقل إن لي مصلحة هنا ولي مصلحة هناك، لا تقل ذلك فإنك بذلك تتنازل عن خطك الإيماني ضد المؤمنين لتقف مع الكافرين، ولا بد أن تكون دقيقاً في ممارستك للتقية إذا أردت أن تمارس التقية، ولا بد أن تكون دقيقاً في تأكيدك على منهج الحق عندما تمارسه، أي أن تحذر الله، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يراقبك بكل دقة {ويحذّركم الله نفسه} فلا تستسلموا لما أنتم فيه من سعة ومن حرية ومن حركة، لأنكم مهما بعدتم ومها قربتم فإلى الله المصير، ولذا فكّروا دائماً بهذه الحقيقة {وإلى الله المصير}( )، {إن إلينا إيابهم* ثم إنّ علينا حسابهم}( )، {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}( ).
وهذا ـ أيها الأحبة ـ ما ينبغي لنا كمؤمنين أن نتعلمه وأن نمارسه وأن نعيشه وأن ننفتح عليه وأن نثقف بعضنا بعضاً به، وهو أن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء من دون المؤمنين هو من المسائل التي تتصل بسلامة الخط الإيماني وبسلامة المجتمع الإيماني.
ولقد قال بعض أئمة أهل البيت(ع) وهو يعبّر عن الولاية بأنها خط السير والمصير "إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك ـ وقلبك هنا عقلك وإحساسك وشعورك ـ فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيتك ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعته ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع من أحب"( )، فإن الناس يحشرون يوم القيامة من خلال نبضات قلوبهم وحركات عقولهم. فلنهيّئ أنفسنا لذلك الموقف {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلبٍ سليم} من موالاة الكافرين ومن معاداة المؤمنين. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الخامسة:16 جمادى الآخرة 1418هـ الموافق 18 - 10 – 1997م
الأخوّة الإيمانية
"علاقة الإيمان تعني أنك ترتبط بأخيك من خلال الله، فالله الذي تؤمن به ويؤمن به هو ما يوحدّه بك ويوحّدك به".
ـ الأخوّة الإيمانية.
ـ العلاقة النسبية.
ـ مشتركات الإيمان.
ـ حقّ الأخوّة.
ـ العلاقات الأخرى.
ـ احترام الخصوصيات.
ـ منهج عقلي.
ـ التدريب على أخلاق الجنّة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
الأخوّة الإيمانية:
ونبقى مع القرآن في العناصر الحيوية لشخصية الإنسان المؤمن التي تمثل عمق الإيمان في معناه في الشخصية وفي معناه في العلاقات من خلال ما تختزنه الشخصية من هذه القاعدة الروحية، فنلتقي بقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}( )، هذه الفقرة من الآية تؤكد أن من العناصر الأساسية لشخصية المؤمن هي أن يعيش الإحساس بالأخوة مع المؤمن الآخر بحيث يدرس ما هي علاقته النسبية بأخيه، ويستعرض طبيعة هذه العلاقة.
العلاقة النسبية:
ونحن نعرف أن العلاقة في معناها المادي هي النسب، وعلاقة الدم الذي يشترك فيه الناس في علاقة القرابة، أما العناصر الأخرى التي ينفتح فيها الإنسان على أخيه عاطفياً أو التي يألف فيها الإنسان أخاه، أو التي يشعر فيها بالعلاقة الواقعية التي تربطه بأخيه، فهي عناصر طارئة وليست عميقة، فالبيت الواحد الذي يضمّ الأخوة هو الذي يصنع الإلفة فيما بينهم، والمصير الواحد ـ بحسب الظروف الموضوعية ـ هو الذي يجمع الأخوة على التناصر والتعاون، وتلعب الأجواء العائلية البيتية دوراً في التماس بين اخ وأخيه تحت ظلال الوالدين اللذين يحشدان في مشاعرهم معنى المحبة والعاطفة.
هذا هو الذي يجعل علاقة الدم منفتحة على علاقة القلب والواقع، فلا بد للإنسان أن يدرس ذلك، وأن يعرف بأن علاقة الدم تختزن في داخلها معنى يربط الطرفين، ولكنها لا تعني علاقة الروح والقلب والحياة إلا من خلال ما تحيط به الظروف الموضوعية هنا وهناك.
مشتركات الإيمان:
أما علاقة الإيمان فإنها راسخة في وعي الإنسان عندما يتمثلها في وجدانه الإيماني، ذلك أن علاقة الإيمان تعني أنك ترتبط بأخيك من خلال الله، فالله الذي تؤمن به ويؤمن به، هو ما يوحّده بك ويوحّدك به باعتبار أن إيمانكما به ينبع من كونه الخالق والمنعم والمحيي والمميت، ومن حيث هو سرّ وجودك وسرّ وجود أبويك الذين ارتبط بهما وجودك، وسرّ الدم الذي يجري في عروقك وعروق أخوانك.
فعندما تعتبر أن الله هو الذي يجمعك بأخيك وأن هذا الإحساس المشترك بالله من خلال إيمانك به، الإيمان الذي يعيش في عقلك وقلبك ومشاعرك وأحاسيسك ومواقفك كما يعيش في الآخر، فإن الموقف من العلاقة يختلف.
وإذاً، فالإيمان هو الذي يجمعكما من خلال سرّ الوجود ومن خلال كل معانيه العقلية والعاطفية والشعورية والحركية في الحياة، بحيث تشعر أنك هو ويشعر أنه أنت من خلال هذا الإيمان الذي يجري في مفاصل عقلك وقلبك وحياتك.
وتمتد العلاقة بعد ذلك لتشعر أنك ترتبط به من خلال رسول الله(ص) ومن خلال رسالة الله التي تنفتح على كل أنبياء الله وكل رسالات الله، كما تلتقيان على كتاب الله وعلى بيت الله في القبلة وعلى كل ما يفرضه الإيمان عليك في كل عملك وعلاقاتك ومواقفك.
عمق العلاقة الإيمانية:
هنا، عندما تتعمّق في الإحساس بذلك فإنك تشعر بأن علاقتك بك علاقة عقل بعقل، وإحساس بإحساس، وحركة بحركة، وخط بخط، وغاية بغاية، وانفتاح على اليوم الآخر على اليوم الآخر من خلال ما يؤدي إليه هذا الإيمان في ذلك الحلم الكبير الذي تعيشه أنت كما يعيشه هو من حيث التطلّع إلى رضا الله ونعيمه.
إذاً، فالعلاقة الإيمانية تنطلق في كل كيانك، بينما العلاقة النسبية تتحرك من خلال الجانب المادي في جسدك، وبهذا كانت علاقة الأخوّة الإيمانية أعمق من علاقة الأخوة النسبية، وهذا ما نلاحظه في علاقة أعمق من علاقة الأخوّة وهي علاقة الأب بابنه وعلاقة الابن بأبيه، فنحن نقرا في القرآن الكريم في حديث الله عن "نوح" عندما قال: {ربّ إنّ ابني من أهلي وإن وعدك الحق}( )، وقد وعدتني أن تنقذ أهلي معي، {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح}( )، فعندما اصطدمت علاقة النسب بعلاقة الإيمان سقطت علاقة النسب وألغتها علاقة الإيمان {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}.
وفي المقابل نلتقي بالحديث الشريف الذي يقول: "سلمان منّا أهل البيت" فما أبعد العلاقة النسبية بين "سلمان" وبين أهل البيت(ع) ولكن العلاقة الإيمانية جعلته يرتبط ارتباطاً عضوياً بأهل البيت:
كانت مودّة سلمان لهم رحماً ولم يكن بين نوح وابنه رحمُ
وهذه العلاقة هي التي أراد الله لكل مؤمن ومؤمنة أن يتحمّل مسؤولياتها، بحيث تبقى الأخوّة ممتدة في حياتهم حتى أنها إذا تعرّضت لأي اهتزاز كانت مسؤولية المؤمنين أن ينفروا جميعاً من أجل أن يثبّتوها وأن يمنعوا هذا الاهتزاز.
حقّ الأخوّة:
من هنا نعرف لماذا اقتصر الله سبحانه وتعالى على نقطة واحدة في توجيه المؤمنين إلى حقّ المؤمن على المؤمن، فما أكثر حقوق المؤمنين على بعضهم البعض، فهي تتسع لكل حياتهم، ولكنه جرى الحديث هنا عن الأخوّة، والله يريد من خلال الإيحاء بها أن يجعل حركيتها وحيويتها وعمقها ممتدة في المؤمنين يا ترى؟ إنه النزاع والخلاف فيما بينهم، لأن النزاع والخلاف ـ كما ورد في بعض التعابير النبوية الشريفة ـ "حالقة الدين"، فهذا التباغض والتباعد هو حالقة الدين الذي لا يبقي منه شيئاً.
{إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم} فإذا كان هناك أي نوع من أنواع الخلاف والنزاع والعداوة بين المؤمنين فإن عليكم أن تتحمّلوا مسؤولية الإصلاح بين أخويكم حتى لا تدمّر هذه النزاعات والخلافات تلك الأخوّة.
نستنتج من هاتين الفقرتين أن الله يريدنا أن نعيش الإحساس بالأخوة الإيمانية فيما بيننا، ويريدنا أن نتحمّل مسؤولية رعاية هذه الأخوّة وامتدادها في حياتنا، بحيث نتحمّل جميعاً مسؤولية الإصلاح بين الأخوّة لتبقى الأخوّة في واقعها الفعلي والعملي كما هي في خطها الفكري الإيماني.
العلاقات الأخرى:
فلا بد لنا ـ أيها الأحبة ـ كمؤمنين أن نعيش هذه الأخوّة الإيمانية كأساس وقاعدة، وأن نطرح كل العلاقات الأخرى جانباً.. فهناك علاقات عائلية يختلف فيها الناس، وهناك علاقات جغرافية يختلف فيها الناس، وهناك علاقات قومية يختلف فيها الناس، وهناك علاقات عرقية يختلف فيها الناس كما هي العلاقات اللونية وما إلى ذلك.
وقد تنطلق بعض العلاقات الطارئة السياسية والاجتماعية وغيرها، إلا أن التأكيد على الأخوّة الإيمانية يعني أن لا يعتبر المؤمن أخاه المؤمن غريباً حتى لو كانت العلاقة المادية ـ من العلاقات المشار إليها ـ تبعده عن الآخر، أي لا يمكن أن يتعقّد المؤمن الأبيض من الأسود، ولا يمكن أن يتعقّد المؤمن العربي من غير العربي، ولا يمكن أن يتعقّد المؤمن الذي هو من جغرافية معينة من شخص من جغرافية أخرى، وهكذا ينبغي أن لا تعتبر المؤمن أجنبياً عنك أو أنه غريب عنك، وبذلك تلتقي المسألة الإيمانية بالمسألة الإنسانية، فأنت بقدر ما تؤكد الجانب الإنساني الذي يخترق كل الفوارق ليقف عند قاعدة الإيمان، لا بد لك من أن تنفتح على الإنسان كلّه وعلى المؤمن في المجال العام من حيث إنسانيته ومن حيث إيمانه.
احترام الخصوصيات:
فلا بد أن نلاحظ هذا الجانب في عمق إحساسنا بإيماننا، لأنك عندما تعيش إيمانك بالله وبرسوله وكتبه واليوم الآخر، فإن معنى ذلك أن الناس الذين يلتقون معك في الإيمان كلهم سواسية. وهنا لا بد أن نؤكد على أنه ليس معنى ذلك أن الإسلام يتعقّد من الخصوصيات، لأننا نعيش حياتنا في ظلّها، فهذا أسود والآخر أبيض وهذا عربي وهذا أعجمي، فالخصوصيات واقعية، ولكن الله يقول إن هذه الخصوصيات خلقها الله لتنوّع للإنسان مواقعه وخبراته وتجاربه، لا لتكون حواجز بين الإنسان وأخيه، فالخصوصيات المتنوعة في الإنسان تغني الإنسان من خلال التعارف {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل}( )، فالإسلام اعترف بأن هناك شعوباً من خلال الخصوصية التي يتميّز بها شعب عن شعب، واعترف بأن هناك قبائل من خلال الخصوصية التي تتميز بها قبيلة عن قبيلة، ولكنه قال إن هذه الميزات لا تمثل حواجز بل تمثل خصوصيات تنفتح على بعضها البعض، وتغني بعضها البعض، فالخصوصيات هنا لا تتعادى ولا تتنافر بل لتتعارف {لتعارفوا} ليعطي كل واحد منكم الآخر ما يختزنه من معرفة ومن تجربة ومن كثير من عناصر الخصوصية التي تكمن في داخل شخصيته حتى يشعر كل شعب من الشعوب بأنه بحاجة إلى الشعب الآخر فينفتح عليه، كما يشعر ذلك الشعب بنفس الشعور.
وإذاً، فالذي يقول نحن كمسلمين وكإسلاميين لا نعترف بالعروبة ولا بالفارسية أو بالطورانية وغيرها، نقول له إننا نعترف بها كخصوصيات إنسانية، ونحن ننكرها كحواجز تفصل الإنسان عن الإنسان، ونحن ننكرها عندما تتحوّل إلى أيديولوجية بحيث تكون القومية ديناً يدين به الإنسان. إن هناك عروبة إنسانية، وفارسية إنسانية، وتركية إنسانية، بحيث أنها لا تنغلق على نفسها، بل يمكن أن تمثل هذه الخصوصيات الإنسانية المتفرقة مثل الدوائر المنفتحة على بعضها البعض، أي أن القبيلة مثلاً منفتحة على الوطن، والوطن منفتح على لأم، والأمة منفتحة على الإنسان كله، وهكذا، فلا مانع أن تكون لكل واحد منا دائرته ولكن بشرط أن تكون منفتحة على الدوائر الأوسع الأخرى، حتى تنفتح الدوائر الصغرى على الأخرى المتوسطة وهذه على الكبرى الإنسانية التي إذا ما التقينا عليها نكون قد التقينا على كل الدوائر الأخرى، كما هي السواقي عندما تنطلق لتصب في البحر الكبير، ولمّا كانت الإنسانية لا تتعمّق إلا بالإيمان بالله الواحد، لذلك كانت قيمة الإنسانية بمقدار ما تختزن من قيمة الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
منهج للعقل:
أيها الأحبة، هذه الآية تعطينا منهجاً للعقل، فحتى عقلانيتنا تعيش العلاقة الإيمانية، كعلاقة عقل بعقل، وفي الوقت نفسه تعطينا علاقة في القلب، فهناك عاطفة تشدّ المؤمن إلى المؤمن الآخر "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"( )، وتعطينا أيضاً علاقة حركية حياتية في كل المشاكل التي تعيش في حياة المسلمين، بحيث تكون اهتمامات كل مسلم منفتحة على اهتمامات المسلم الآخر "من أصبح لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"( ).
وعلى ذلك، فهي علاقة في العقل من خلال عقلية الإيمان، وعلاقة في القلب من خلال روحية الإيمان، وعلاقة في الحركة من خلال حركية الإيمان في مشكلات المؤمنين وفي مواقع الصراع مع الآخرين، وعلى هذا فإن الأخوّة لا تعود مجرد نبضة قلب ولكنها تتحول إلى عقل يتآخى وقلب يتآخى وحياة تتآخى.
أيها الأحبة، هذه هي إيحاءات الآية الكريمة، فهل نحن في واقعنا الإسلامي الذي يكفّر فيه المسلمون ليحاربوا بعضهم بعضاً، وليدمروا مصالح بعضهم البعض، هل هذه ـ يا ترى ـ هي الأخوّة الإيمانية؟
في الحقيقة، إننا ابتعدنا كثيراً عن الإسلام وأصبحنا نقتل بعضنا البعض بالإسلام، ونكفّر بعضنا بعضاً باسم الإسلام، ونلعن بعضنا البعض باسم الإسلام، فأي إسلام هو هذا، والهل يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}( )، وقد سمعناه تعالى يقول: {إنما المؤمنون إخوةٌ فأصلحوا بين أخويكم} وقد سمعنا الرسول(ص) يقول: "مَن أصبح لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم" لذلك تعالوا من جديد حتى نتآخى في الله في الدنيا، لأن مسألة الحب في الله والبغض في الله هي عمق الإيمان، وعندما نطلب الجنة فلنتذكر أنه لن يعيش فيها إلا الذين عاشوا الأخوّة التي لا غلّ فيها ولا حقد ولا عداوة {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ}، لا أنها كانت تعيش الغلّ ونزعها الله، ولكنه جعلهم في حركة الإيمان به لا يعيشون الغلّ {إخواناً على سررٍ متقابلين}( ).
التدرّب على أخلاق الجنّة:
أيها الأحبة، فلنتدرّب على أخلاق أهل الجنة حتى نستحق الجنة، لأننا نخشى أن الذي يعيش مثل هذه الأخلاق إذا دخل الجنة فإنه سوف يخرّبها ويجعلها شيعاً وأحزاباً، والله لا يخدع عن جنّته، وهو ليس مستعداً لأن يخرّب جنّته، فعلينا أن نحوّل الدنيا إلى جنّة مصغّرة على الأرض لنتعلم فيها كيف نعيش روحية أهل الجنة في الجنة التي نرجو الله أن يرزقنا إياها {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة}، لا يستويان في أخلاقهم وفي أفكارهم وكل حركتهم، هناك فرق بين أخلاق أهل الجنة وأخلاق أهل النار، والفوز لأهل الجنة الذين عاشوا أخلاق الجنة {أصحاب الجنة هم الفائزون}( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السادسة: 23 جمادى الآخرة 1418هـ الموافق 25 - 10 – 1997م
الأخوّة الإيمانية
"الولاية بين المؤمنين والمؤمنات تعطي الاندماج الروحي والعقلي والحركية"
ـ المؤمنون والمؤمنات.
ـ الولاية بين المؤمنين.
ـ نتائج الولاية.
ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـ نماذج نسوية مشرّفة.
ـ الدور الحركي للمرأة.
ـ مهمة التغيير مشتركة.
ـ مثلان.
ـ الحجاب ليس حاجباً.
ـ أهمية دور الأمومة.
ـ الجزاء والجائزة.
ـ الالتفات إلى حركة الواقع.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
المؤمنون والمؤمنات:
لا نزال نتابع في القرآن العناصر التي يريد الله للفرد المؤمن أن يتصف بها وللمجتمع المؤمن أن يعيشها، ومن بين الآيات التي تتحدث عن ذلك قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيزٌ حكيم}( )، ففي هذه الآية يتحدث الله عز وجل عن المجتمع المؤمن كيف يتحرك في مسؤولياته لينصر بعضه بعضه الآخر وليدعمه وليؤكد القيم المنفتحة على طاعة الله في الخط العام للطاعات وفي بعض التفاصيل المتصلة بحرك الواقع الإسلامي.
الولاية بين المؤمنين:
فالفقرة الأولى من الآية تتحدث عن الولاية بين المؤمنين والمؤمنات الذين يمثلون فريقين إنسانيين يختلفان في خصائصهما الإنسانية النوعية فلكل واحد، أو لكل فريق منهما خصائص تختلف عن خصائص الفريق الآخر ولكنهما يتكاملان من أجل أن يجمعا، كلٌ بحسب خصوصيته، وكل بحسب موقعه وكل بحسب ساحته ما يحتاجه الواقع في عملية التغيير {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} وكلمة الولاية عندما تتحرك في الواقع الإسلامي، فإنها تعطي هذا الاندماج الروحي والعقلي والحركي بين فريق وفريق آخر باعتبار أن الولاية لا تكون إلا من خلال شعور بالقاعدة المشتركة وبالوحدة التي تضم الطريفين ليكون كل واحد ولي الآخر بأن يرعاه وينصره ويساعده ويدافع عنه ويتكامل ويتفاعل معه.
نتائج الولاية:
هذه هي الولاية في بُعدها الروحي وفي بعدها العملي في الواقع، وعندما نستنطق نتائجها فإننا نجد أنها توحي إلينا بأن حركة التغيير في المجتمع وحركة الانفتاح على الله في المجتمع، وحركة العطاء في المجتمع، وحركة الانضباط في المجتمع، لا بد أن تشمل المجتمع كله في عملية تفاعل، فلا ينعزل أحد عن الساحة، بل هو مسؤول عن أن يلتقي بالآخر وأن يندمج في، وأن يعيش معه، إذ ليس للمؤمن أن يعيش وحده بل لا بد له أن يندمج في المجتمع، وليس لمؤمنة أن تعيش وحدها، فلا بد أن تندمج في المجتمع، وفي هذا الإطار نجد أن هذا النص القرآني استطاع أن يعطي للمجتمع الإسلامي الصورة الحركية في خط التغيير وفي خط الطاعة وفي خط الانفتاح على الله والعطاء، بالدرحة التي يجعل فيها المرأة تسير جنباً إلى جنب في هذه الأهداف مع الرجل.
فكما أن الله لا يريد للمؤمن أن ينعزل عن الساحة العامة لتحقيق الأهداف، كذلك لا يريد للمرأة المؤمنة أن تنعزل عن الساحة العامة في تحقيق الأهداف، بل إنه يرفع القضية إلى المستوى الأرفع، فلا يريد للمؤمنين أن يشتغلوا وحدهم، ولا يريد للمؤمنات أن يشتغلن وحدهن، بل أن يندمج المؤمنون والمؤمنات في ساحة الدعوة وفي ساحة اسياسة وفي ساحة الحركة، أن يندمجوا ليتوزعوا الأدوار وليتكاملوا في أدوارهم وليعطي كل واحد منهم قوة من دوره للآخر، وليساعد كل واحد منهم الآخر، وقد فتحت هذه الآية للنساء المسلمات كل الخط الحركي في الواقع الاجتماعي عندما يصيب هذا الواقع خلل في الالتزام يجاباً وسلباً، وفي الواقع السياسي عندما يصاب هذا الواقع ببعض الانحراف أو ببعض الاهتزاز، وهكذا بالنسبة إلى الواقع الاقتصادي وحتى الواقع الأمني، ومع أن الله لم يكلف المرأة بأن تحمل البندقية لتجاهد ولكنه أراد لها أن تعيش في هذه الأجواء لتقدم جهداً وقد لا يكون جهدها مباشراً بل غير مباشر.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
كيف نستوحي ذلك من هذه الفقرة في الآية: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} المعروف والمنكر، هاتان الكلمتان تشملان كل المواقع الإيجابية في الإسلام وكل المواقع السلبية، ولهذا نجد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صفة الأنبياء {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر}، فرسالة النبي في الجانب الحركي منها تقف تحت عنوانين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما قوله تعالى: {ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}( )، فهذه مفردات تمثل تفاصيل مهمة المعروف والمنكر ومعناهما في الواقع التفصيلي فلي الحياة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما العنوانان اللذان يمثلان الإسلام كله، فالظلم ـ مثلاً ـ هو قمة المنكر، والعدل هو قمة المعروف، وكل النشاطات السلبية فيما يعتدي به إنسان على إنسان هو المنكر، لذلك فالمؤمنون {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} يحملون رسالة الإسلام في خط الدعوة وفي خط الحركة وفي خط المواجهة وفي ساحة الصراع بحيث يدخلون معاً فيعطي كل واحد منهم للآخر فكراً من فكره وعاطفةً من عاطفته وطاقةً من طاقته وحركةً من حركته.
نماذج نسويّة مشرّفة:
وهذا ما نلاحظه في بداية الدعوة الإسلامية، فنحن نجد أن النساء كُنّ يعملن في خط الدعوة تماماً كالرجال، فكما كان الرجال الذين دخلوا في الإسلام أفراداً يعملون على أساس دعوة من يلتقونهم من المشركين إلى الإسلام، كانت النساء يقمن بنفس الدور. وينقل التاريخ عن "أم سليم" أن رجلاً خطبها فوافقت بشرط أن يكون مهرها إسلامه، وامتنع في البداية ولكنها استثمرت ميله إليها حتى أدخلته في الإسلام.
ولاحظنا أيضاً أن المسلمات تعذّبن على أيدي المشركين كما تعذّب المسلمون، واستشهدت "سمية" كما استشهد "ياسر" وهاجر النساء إلى الحبشة كما هاجر الرجال، وانطلقت النساء اللاتي بقين في مكة ليهاجرن إلى المدينة فراراً بدينهن، ونزلت فيهنّ سورة، كما أن الرجال أيضاً هاجروا فراراً بدينهم.
وهكذا عندما نأتي في بداية الدعوة إلى رسول الله(ص) نجد أن أم المؤمنين "خديجة" تقف إلى جانبه لتعطيه من جهدها ومن مالها ومن موقعها الاجتماعي من أجل الدعوة والحركة الإسلامية. وهكذا وجدنا كيف وقفت فاطمة الزهراء(ع) مع علي(ع) تتكلم وتدافع وتتحدث وتنتقل من مكانٍ إلى مكان باعتبار أنها تريد أن تشاركه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا رأينا أيضاً كيف انطلقت زينب(ع) مع الإمام الحسين لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في كربلاء وفي الكوفة وفي الشام.
الدور الحركي للمرأة:
من خلال ذلك نعرف أن دور المسلمات الحركي كان مبكراً منذ بداية الدعوة، وفي امتداد الواقع الإسلامي عندما كان المسلمون والمسلمات يعيشون ساحة الصراع كأقوى ما يكون، حتى أن تاريخ السيرة ينقل لنا أن رسول الله(ص) كان يخرج النساء معه في الحرب ليسقين العطشى ويداوين الجرحى، مما نفهم منمه أن المرأة في مرحلة الدعوة الأولى ومرحلة حركة الإسلام في المدينة كانت تعيش في قلب ساحة الصراع، وكانت تتحرك في خط المسؤولية. وإذا أردنا أن نقارن بين ذلك المجتمع وبين مجتمعنا الآن الذي تعزل فيه المرأة عن ساحة المجتمع وعن كل مواقع الصراع، فإننا نجد أن ذلك المجتمع كان أكثر وعياً وأكثر إحساساً بالمسؤولية وأكثر التزاماً بالخط القرأني الإسلامي.
مهمة التغيير مشتركة:
إن مسألة تغيير المجتمع لا يمكن أن يقوم بها الرجال وحدهم، لأن الرجال مهما أعطوا فإنهم لا يستطيعون العطاء الذي يمكن أن يسدّ الثغرة، بل لا بد للمرأة أن تكون كذلك، ومن هنا فإننا بحاجة إلى مؤمنات مثقفات متعلمات يعرفن الإسلام ويعرفن الفقه ويعرفن السياسة ويعرفن كل عناصر الواقع الاجتماعي، ويعرفن كل الأوضاع التي يعيشها المسلمون في السلبيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وما إلى ذلك.. وإذا كان البعض يتحدث عن أخلاقية المرأة دون الرجل، وإذا كان الله يريد للمرأة أن تكون عفيفة فقد أراد للرجل أن يكون عفيفاً، وإذا أراد للمرأة أن تقف عند حدود الله سبحانه وتعالى فيما حرّم فإنه أراد للرجل كذلك، فلم يفرّق سبحانه وتعالى بين رجل وامرأة في الجانب الإيجابي أو السلبي.
المساواة بين الجنسين:
فنحن نقرأ في سورة الأحزاب: {إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لم مغفرةً وأجراً عظيماً}( )، فهو لم يفرق في الجانب الأخلاقي بين رجل وامرأة، فما هو مطلوب من الرجل في الجانب الإيجابي، وما يعطيه الله له في انسجامه مع هذه العناوين الأخلاقية والعملية في الإسلام أعطاه للمرأة وطلبه منها أيضاً.
وعندما أراد للإنسان المسلم أن يلتزم فإنه قال بعد هذه الآية: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}( )، وهكذا نرى أن الله عندما يتحدث عن النتائج العملية في الآخرة فإنه يقول: {لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى}( )، فلا فرق بينهما في هذا المجال، وعندما تحدث عن الجانب السلبي تحدث عن {الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحدٍ منهما مئة جلدة}( )، وتحدث عن السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}( ).
إذاً، نلاحظ أن الله سبحانه لم يفرض أخلاقاً على المرأة أكثر مما فرضه على الرجل، فعندما نقول إن على الرجل أن يدخل ساحة الصراع الاجتماعي وساحة الصراع السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي فإنه لا بد أن يدخله بأخلاقية الإسلام، لا بعيداً عن تلك الأخلاقية.
مثـلان:
وهكذا أراد الله سبحانه تعالى للمرأة أن تكون كذلك، بأن تدخل الساحة أيضاً بأخلاقية الإسلام، وعندما أراد سبحانه وتعالى أن يعطي للناس القدوة، وأراد أن يعطيهم المثل في السلبيات ونتائجها، والمثل في الإيجابيات ونتائجها قال {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما ـ خيانة الرسالة ـ فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين}( )، ضرب الله هاتين المرأتين مثلاً للرجال والنساء من الكافرين والكافرات، وأن أية قرابة لأي إنسان قريب من الله سبحانه وتعالى لا تجدي نفعا.. فالمرأة المنحرفة ـ الخائنة للرسالة ـ هي مثلٌ سلبي للكافرين والكافرات، والمرأة المؤمنة مثلٌ إيجابي للنساء والرجال {وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنّة ونجِّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين}( )، هذه المرأة التي رفست وداست كل النعيم الدنيوي بقدمها وانفتحت ورجعت إلى الله طالبةً أن يبدلها بجنة الأرض جنة السماء لأنها تريد رضاه ولا تريد غير رضاه.
وضرب هذا المثل للرجال وللنساء على أنهم إذا وقفوا بين الدنيا وهي مقبلة عليهم وبين الآخرة، فإن عليهم أن يضحّوا بالدنيا أمام الآخرة، وأن يبتهلوا إلى الله سبحانه وتعالى بأن يثبتهم على ذلك {مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين}( )، فهي المثل باعتبار أن العفة تأتي في أعلى درجاتها، وهي المثل في أنها صدّقت بكلمات ربها، وهي المثل في أنها صدّقت بكتب ربها، وهي المثل في أنها كانت من القانتين، لذلك من يقول: بأن على المرأة أن تنكفئ في البيت وأن تبتعد عن كل ساحات الصراع على أساس الجانب الأخلاقي، فإننا نقول أن الجانب الأخلاقي في المرأة هو نفسه الجانب الأخلاقي للرجل، فإذا كانت ساحة الصراع لا تمنع الرجل من أن يكون الملتزم أخلاقياً فإنها لا تمنع المرأة من أن تكون الملتزمة أخلاقياً.
الحجاب ليس حاجباً:
وإذا كانت المرأة ملتزمة بالحجاب فإن الحجاب لم يمنع النساء المسلمات من أن يدخلنّ ساحة الصراع في المجتمع ولم يمنع سيدة النساء فاطمة(ع) أن تدخل إلى ساحة الصراع فتخطب في مسجد رسول الله(ص) وتتحدث هنا وهناك بالطريقة التي ترى فيها أنها تبلّغ رسالات الله وأنها تواجه ساحة الباطل وما إلى ذلك.
وهكذا لم يمنع الحجاب السيدة زينب(ع) من أن تقف في كربلاء تلك الوقفات البطولية الشجاعة المبتهلة إلى الله، وتقف في الكوفة في مجلس ابن زياد وتخطب في أهل الكوفة، وتقف أيضاً في مجلس يزيد، لم يمنعها حجابها من ذلك، والظاهر أن المسلمين كانوا لا يعيشون عقدة في هذا الأمر، وإلا لكان لمعارضيهم أن يقولوا أن هذا يخالف الخط الإسلامي في أن على المرأة أن تلزم بيتها.
أهمية دور الأمومة:
وعندما نتحدث بأن على المؤمنات أن يكنّ مع المؤمنين جنباً إلى جنب ليكون كل فريق منهم ولياً للآخر وقوة له، فإننا لا نتحدّث بسلبية عن دور الأمومة ودور الزوجية في حياة المرأة.. ونحن نعرف أن الأمومة تتصل بجسد المرأة بينما لا تتصل بجسد الرجل، ولكن كما أن الأبوّة في كل تعقيداتها المادية لا تمنع الرجل من أن يتحمّل مسؤوليته عن الإسلام وأهله، فإن الأمومة لا تمنع المرأة من ذلك، وربما كان وقت المرأة أضيق من وقت الرجل، وربما كانت أعباء المرأة أكثر فيما يتصل بحركيتها الذاتية من جهة أطفالها، ولكن يبقى لها هامش في الواقع تستطيع من خلاله أن تقوم بدورها الإسلامي لتدعو إلى الله وتواجه الظلم كله والانحراف كله والشر كله في الحدود الشرعية المرسومة، أي أن لا تكون المرأة شيئاً معزولاً عن ساحة الصراع.
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة}( )، ينطلقون معاً من أجل إقامة الصلاة حتى تنفتح بهم على الله لتزيدهم إيماناً وروحانيةً ولتقوّي دوافعهم ضد المنكر، لأنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر {ويؤتون الزكاة} التي تمثل العطاء الإنساني المؤمّن للناس الذين يحتاجون إلى العطاء {ويطيعون الله ورسوله} ثم تنطلق الآية لتمثل الخط العام الذي يجعل المؤمنين والمؤمنات في حالة تكامل في طاعة الله ورسوله.
الجزاء والجائزة:
ثم يقول تعالى: {أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيزٌ حكيم* وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طبيبة في جنات عدنٍ ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم}( ).
وهكذا تنطلق هذه المسيرة الإيمانية إلى الله سبحانه وتعالى لتتحول المسيرة في الدنيا إلى مسيرة في الآخرة، والله يحدثنا عن ذلك في سورة "الحديد" عن المظاهرة الإيمانية التي يتحرك فيها المؤمنون والمؤمنات في ساحة القيادة ليتحول هذا النور الإيماني الذي كان يشرق في عقولهم ويشرق في قلوبهم وفي حياتهم ليتحوّل إلى نور ماديّ يتحرك أمامهم يوم القيامة {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم}، باعتبار أن اليمين هو العضو الذي يحركه الإنسان بالعطاء والجهاد وكتابة الخير وإعانة الضعيف.
{بشراكم اليوم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم}( )، كما يحدثنا الله عن ذلك في سورة (التحريم) {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبيّ والذين آمنوا معه نورهُم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمِم لنا نورنا} إذا كانت هناك بعض الظلما في أعمالنا {واغفر لنا إنك ى كل شيءٍ قدير}( ).
الالتفات إلى حركة الواقع:
أيها الأحبة، في هذا الواقع الذي يعيش فيه المؤمنون والمؤمنات والمسلمون والمسلمات التحديات، هذا الواقع الذي يواجه فيه الإسلام ـ في المواقع المتقدمة ـ الكافرين والمستكبرين، ويواجه في داخل مجتمعاته سيطرة الانحراف الفكري والأخلاقي والعملي، نحتاج إل أن نجمّد كل السلبيات التي بدأت تأكل إيماننا من الداخل وتأكل كل قوة الإيمان في الخارج، وأن نجمّد كل الهوامش لننطلق إلى عمق الساحة لنرى كيف يعلن الكفر كله الحرب على الإسلام كله، وكيف يعلن الاستكبار الحرب على المستضعفين كلهم، لنعرف كيف تتضخم مسؤولياتنا وكيف ترتفع كل هذه المسؤوليات إلى الآفاق الكبيرة حتى ينطلق المؤمنون والمؤمنات معاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معاً في مواجهة الطغيان والاستكبار، معاً في الدعوة إلى الله والعمل في سبيله.
أيها الأحبة، إن هذه المرحلة تفرض علينا المسؤولية في أعلى درجاتها وسوف يحاسبنا الله عليها، كيف استرخيتم، وكيف هربتم من الساحة، وكيف فررتم من الزحف، وكيف بخلتم بطاقتكم على الإيمان والمؤمنين والإسلام والمسلمين.
أكرّر كلامي لكل المؤمنين والمؤمنات، الراحة في هذه المرحلة حرامٌ حرام، إلا التي تريد أ تجدّد فيها نشاطك، أما أن تسترخي وأما أن تقول ما لنا وللدخول بين السلاطين، وأما أن تقول إن علينا أن نعيش في بيوتنا ونقول ربنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا، فأنت من الذين يعيشون الحياد، ومن يعيشون الحيادية في وقت احتدام المعركة هم أعداء الله ورسوله لأنهم يحجبون قوتهم فيعطون للعدو قوة سلبية، إذا لم يعطوه قوة إيجابية.
فكل قوّتنا لا بد أن تكون للإسلام وللمسلمين، وكل طاقتنا لا بد أن تكون في مواجهة الاستكبار العالمي وفي مواجهة إسرائيل ومواجهة أنواع الظلم وكل حالات الانحراف، ويبقى النداء نداء الله لنا الذي صمّت أسماعنا عنه {وقل اعملوا فسيرى الله علمكم ورسوله والمؤمنون}( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السابعة: 1 رجب 1418هـ الموافق 1 - 11 – 1997م
في واحة السلام (رجب)
وذكرى إمام السلام"الباقر"(ع)
"سلام الإنسان المسلم الواعي هو الذي يحرّم على عقله أن يكون عقل حرب، وعلى قلبه أن تكون نبضاته نبضات حقدٍ وعلى لسانه أن تكون كلماته كلمات عدوان"
ـ مناسبتان كريمتان.
ـ واحة سلام.
ـ روحية السلام.
ـ الدخول الواعي في رجب.
ـ مولد الإمام الباقر(ع).
ـ الدنيا سوق.
ـ اتّقِ الله.
ـ عمق الإيمان.
ـ الرفق قفل الإيمان.
ـ تعريف المؤمن.
ـ صفة الشيعة.
ـ معنى استعادة الذكرى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
مناسبتان كريمتان:
في هذه الليلة نلتقي بمناسبتين تنفتحان على الإنسان كله في خط الوعي والسلام والانفتاح على مسؤولية الإنسان عن الإنسان الآخر بأن لا يتحرك معه في موقع العقدة وفي موقع الضغينة بل أن يتحرك معه في موقع السلام والمحبة.
المناسبة الأولى، هي بداية شهر رجب الحرام، هذا الشهر الذي جعله الله أحد الأشهر الأربعة الحرم {إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرُم}( ). والثانية، مولد الإمام محمد الباقر(ع).
واحة سلام:
وإذا أردنا أن نعبّر عن الأشهر الحرم فإنها تمثل الواحة الزمنية للسلام، فقد أراد الله أن تكون هناك واحة سلام في المكان، وهي الحرم الذي يشمل مكة ومنى والمشعر الحرام وما يقرب منهما، فهذه المنطقة أراد الله للناس أن يعيشوا فيها السلام من حيث المبدأ، فليس لإنسان أن يقاتل إنساناً في داخلها حتى لو كان له ثأر عليه، بل إن الإنسان لا يقتل الصيد هناك، فالصيد فيها حرام، فالمطلوب هو أن يعيش الإنسان في سلام مع نفسه ومع ربه ومع الإنسان الآخر ومع الحياة وربما مع البيئة ليتنفّس الناس في هذا المكان روح السلام ليراجعوا حساباتهم فيما يتحركون به في الأمكنة الأخرى، فلعلّهم يستطيعون أن يأخذوا من روحية السلام في البلد الحرام روحية السلام في بلد آخر..
وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هناك واحة سلامة في الزمن، فلا تكون لك الحرية في حركة الزمن، أن تنفتح على عداواتك وخصوماتك مع الآخرين، لأن الله الذي هو السلام يريد للحياة أن تعيش السلام في خطه وفي لطفه، ولذلك أراد للناس أن يأخذوا هدنة طبيعية شرعية في كل حروبهم ومنازعاتهم ومشاكلهم وثاراتهم حتى يملك الإنسان نفسه ليهدّئ كل هذه الضراوة الداخلية التي تدفعه إلى أن يقتل أو يقاتل ثأراً كان أو غير ثأر، حتى فيما لك فيه حق طبيعي، لكن الله استثنى حالة العدوان، فلك الحق إذا اعتدي عليك في البلد الحرام أو في الشهر الحرام أن تدافع عن نفسهك لأنه لا خيار لك إذا هاجمك الآخرون واخترقوا حرمة الشهر أو حرمة البلد،إلا أن تدافع عن نفسك وعن قضيتك وعن طريقك بمقدار الضرورة.
روحية السلام:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ نحن نريد أن نعيش روحية السلام في شهر السلام الذي هو الشهر الحرام، أن نعيشها في حياتنا الاجتماعية وفي حياتنا السياسية، فإذا كان الله قد أراد لنا في الدائرة الإسلامية أن لا نقاتل بعضنا بعضاً على مستوى حركة السلام، فإن الله لا يريد لنا في هذا الشهر الحرام أن نعيش التعقيدات النفسية العدوانية التي تهيّئ العقل والقلب والحركة للدخول في حرب قد لا يأتي وقتها في نفس الشهر ولكنه يمكن أن يأتي في شهر آخر.
إن قضية أن نعيش السلام في داخل الواقع الإسلامي هي أن نهيِّئ للناس أن يعيشوا هذه الروحية لتتحول إلى سلام في الواقع، لأن الخطة الإسلامية هي أن يعيش الناس في سلام من خلال فكر السلام الذي ينطلق على أساس الحكم الشرعي، فالله سبحانه وتعالى قد حرّم القتال من خلال ما تحدثنا عنه لمصلحة السلام، وهذا ما نحتاج أن نعيشه في أنفسنا لتنطلق في هذا الشهر الذي يتميز عن الأشهر الحرم الأخرى بأنه يختزن في داخله الكثير من أجواء العبادة ومن روحية العمل التي تتقرب به إلى الله صلاةً وصياماً وابتهالاً ودعاءً وتسبيحاً وما إلى ذلك، مما يقوّي في روحك علاقتك بالله، فكلّما قويت علاقة الإنسان بالله أكثر تحسس مسؤوليته عن عباد الله أكثر، وكلما انفتح عقله على الحق أكثر، وقلبه على الخير أكثر، وحركته على العدل أكثر، كان أقرب إلى الله تعالى.
الدخول الواعي في رجب:
لهذا لا بد لنا أن ندخل هذا الشهر دخول المسلم الواعي المنفتح الذي يحرّم فيه الإنسان على عقله أن يكون عقل حرب، وعلى قلبه أن تكون نبضاته نبضات حقد، وعلى لسانه أن تكون كلماته كلمات عدوان، وعلى حياته أن تكون حياة حرب وقتال وما إلى ذلك.. لا تدخلوا في رجب دخول الناس الذين لا يتحسسون الزمن فيما يمتلئ في الزمن من القيم التي يريد الله للزمن أن يتمثلها بل ادخلوا فيه دخول وعيٍ تتمثلون فيه السلام روحاً وفكراً وحركةً في كل أوضاعكم وعلاقاتكم في الحياة.
وتبقى هناك حرب واحدة هي حربنا مع الصهيونية لأنهم فرضوا الحرب علينا باحتلالهم أراضينا، وبعدوانهم علينا في شهر حرام أو في غير شهر حرام، ولذلك، فإننا عندما نقاتل الكيان الصهيوني في هذا الشهر وفي غيره من الشهور فإننا ندافع عن أنفسنا وعن أرضنا وعن قيمنا وعن مقدساتنا وعن حاضرنا ومستقبلنا، ونحن عندما نواجه الاستكبار العالمي وفي مقدمته الاستكبار الأمريكي فإننا ندافع عن شرف أمتنا وسياستنا وأمننا واقتصادنا وكل قيمنا التي يريد الاستكبار أن يسقطها وهذا هو ما نستوحيه من هذه المناسبة.
مولد الإمام الباقر(ع):
أما المناسبة الأخرى، فنحن نلتقي في هذه الليلة بذكرى مولد الإمام محمد بن علي الباقر(ع)، ونحن عندما نلتقي أي إمام من أئمة أهل البيت(ع) في التاريخ فإننا نلتقي بالفكر الذي يريد أن يشيع السلام في العالم من خلال الإسلام، وأن يحرِّك السلام في عقل الإنسان وفي روحه وفي حركته من خلال علاقة الإنسان بالله فيما شرّع الله من شرائع، وفيما ركّز من قيم وفيما أنزل من وحي، وفيما أطلق من مفاهيم حتى يتحسس الإنسان الحياة على أساس أنها ليست الحياة التي يتحرك فيها الهوى، وتنطلق فيها نقاط الضعف، ولكنها الحياة التي يتحرك فيها الخط الإسلامي في العقيدة والشريعة والمنهج والحركة والمفاهيم.
التراث الغنيّ الواسع:
وعندما نلتقي بالإمام محمد الباقر(ع) ونطلّ على المرحلة الواسعة التي عاش فيها فملأ الواقع الإسلامي في عقله بما أعطاه من ثمرات العقل، وفي روحه بما انفتح عليه من سموّ الروح، وفي حركته من خلال كل الخطوط التي تتحرك بالإنسان نحو الحياة المثلى، وفي منهجه من خلال ما خطط له من المناهج التي تتحرك مع منهج الإسلام في كل مواقعه.
عندما ندرس هذا التراث الكبير الواسع الذي تركه الإمام الباقر(ع) وولده الإمام الصادق(ع)، فإننا نجد أننا نلتقي بالآفاق الفلسفية في حركة العقيدة الإسلامية، ونلتقي بالآفاق الفقهية في كل ما انفتح عليه في الشريعة الإسلامية، ونلتقي بالقيم الإسلامية المتحركة في السلوك وفي العلاقات وفي المواقف وفي الأوضاع الداخلية التي يعيشها الإنسان مع ربه ومع الإنسان الآخر.
إننا نستطيع من خلال هذه الثروة أن نرى في عقل هذا الإمام ثقافة واسعة منفتحة على الله من خلال الألطاف التي أغدقها الله عليه، ونرى فيه ثقافة واسعة منفتحة على كل الواقع الإسلامي في كل المشاكل التي أحاطت بالواقع، وفي كل التحديات التي قفزت لتطبق على الواقع الإسلامي. لقد كانت كلمته متحركة في كل المجالات، ومن هنا نأخذ الدرس من حياة هؤلاء الأئمة(ع) أنهم كانوا يحدّقون بكل ما يحدث في واقع الإسلام والمسلمين من قضايا تتصل بالسياسة وتتصل بالثقافة وتتصل بالاجتماع وتتصل بحرك الإنسان في كل قضاياه الخاصة والعامة، لنعرف أن علينا أن نسير في هذا الخط وأن لا نكون معزولين عن الواقع كله، فأن تكون الإنسان المسلم يعني أن يكون همك العقلي والعاطفي والروحي والحركي همّ الإسلام والمسلمين. عن أبي عبدالله(ع) قال: "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"( )، هذه هي الملامح العامة لما نتمثله من حياة هذا الإمام فيما نستنطقه من مفردات هذه الحياة.
الدنيا سوق:
ونريد أن ندخل في بعض التفاصيل، فلنستمع إليه وهو يتحدث في مواعظه ويخطط لمنهج إيمان المؤمن وإسلام المسلم والعلاقات بين المسلمين مع بعضهم البعض. فنلتقي في البداية بالحديث الذي جرى بينه وبين "عمر بن عبد العزيز" أحد الخلفاء الأمويين، وكان الإمام فيه واعظاً وموجهاً. فلنقرأ تاريخ هذه القصة، ينقل (الصدوق) في (الخصال) بسند مفصّل في الحديث عن "هشام بن معاذ" قال: "كنت جالساً لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة فأمر مناديه فنادى: من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأتِ الباب، فأتى محمد بن علي، يعني الباقر(ع)، فدخل إليه مولاه (مزاحم) فقال: إن محمد بن علي بالباب، فقال له: أدخله يا مزاحم، قال: فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع، فقال له محمد بن علي(ع): ما أبكاك يا عمر؟ فقال: أبكاني كذا وكذا يابن رسول الله، فقال محمد بن علي ـ وكأنه سمع منه أن ما أبكاه هو شأن من شؤون الدنيا التي تبعث الألم في النفس ـ يا عمر إنما الدنيا ـ وهذا الحديث لنا أيضاً ـ سوق من الأسواق ـ ولكننا دخلنا هذه السوق كما ندخل السوق العادية ـ منها خرج قوم بما ينفعهم ومنها خرجوا بما يضرّهم ـ كمن يشتري الأشياء التي تتصل بها عاداته ولكنها تضره في صحته أو التي تضره في عقله كمن يدخل السوق ليشتري الخمر أو ما إلى ذلك ـ وكم من قوم قد غرّتهم ـ بمثل الذي أصبحنا فيه من الغفلة ـ حتى أتاهم الموت فاستوعبوا فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا مما أحبوا من الآخرة عدّةً ولا مما كرهو جُنةً ـ درعاً يقيهم من النار ـ قسّم ما جمعوا من لا يحمدهم ـ قد جمعوا المال وقسمه الورثة، الذين لا يحمدونهم لأنهم لم يتركوا لهم شيئاً كبيراً وما إلى ذلك ـ وصاروا إلى مَن لا يعذرهم ـ صاروا إلى الله الذي أقام عليهم الحجة وكانت له الحجة عليهم ـ فنحن والله محقوقون ـ يعني أن الحق علينا في ـ أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نغبطهم بها فنوافقهم فيها ـ أي عندما يموتون ويذهبون فعلينا أن ندرس واقعهم فنوافقهم في الصالحات من الأعمال ـ وننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نتخوف عليهم منها فنكفّ عنها".
اتّقِ الله:
"فاتّقِ الله واجعل في قلبك اثنتين: تنظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك بين يديك ـ أي عندما تعيش صداقاتك وانتماءاتك أو عندما تعيش أعمالك فكّر: من هو الذي تحب أن يكون معك في حشرك ليحشر معك وتحشر معه، وأي عمل تحب أن يرافقكم في موقفك يوم القيامة فاعمله ولا تستغرق فيما تحبه وفيمن تحبّه في دنياك، لأنك قد تواجه واقعاً ليس مريحاً فانظر الذي تحب أن يكون معك فقدمه بين يديك ـ وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك ـ فلو فرضنا أن أحدهم قال لك أتحب أن تحشر مع فلان أم لا؟! فلا بد أن تعرف أن للارتباط انتماءات سياسية وأخرى شخصية، فهناك من الناس الظلمة ممن يعيش الإنسان الانحراف معهم، فلو قال لك هل تحب أن تحشر مع هذا الإنسان الظالم المنحرف فإنك ـ بالتأكيد ـ تكره ذلك، وإذاً فعليك أن تتحفظ في علاقاتك ـ وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت على ربك فابتغِ به البدل، ولا تذهبنَ إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك ـ أي أنك لا تحاول أن تأخذ السلعة التي بارت عند غيرك حتى تجوز عندك ـ واتق الله يا عمر ـ هنا تحدث الإمام مع عمر المسؤول، وفيما سبق تحدّث عم عمر الإنسان ـ واتق الله يا عمر وافتح الأبواب وسهّل الحجاب وانصر المظلوم وردّ المظالم ـ لأن موقعك يفرض عليك أن تنفتح على الناس ـ ولا تغلق بابك عنهم وأن تردّ ظلامة كل مظلوم".
عمق الإيمان:
ثم قال ـ وقد أراد أن يعطيه صورة عن عمق المؤمن في حركته مع الآخرين، لأنه يتحدث عن صفات المؤمن، حيث أن هناك صفات داخلية وأخرى تتصل بعلاقته مع الآخرين وعلاقته مع عواطفه السلبية والإيجابية، وعلاقاته مع قدراته التي قد تنطلق في داخل السلب أو الإيجاب. يقول ـ ثم قال: "ثلاث من كُنّ فيه استكمل الإيمان بالله ـ بحيث تمثل العناصر الأساسية في عمق الإحساس الإنساني الإيماني بحركة الإيمان في علاقته مع الأخمرين أو مع قدراته ـ فجثا عمر على ركبتيه وقال: إيه يا أهل بيت النبوة: فقال: نعم يا عمر، مَا إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل"، أن تكون عواطفك مع الآخرين ممن تحب من أقربائك وأصدقائك أو الناس الآخرين الذين تنتمي إليهم إذا أحببتهم أو رضيت عنهم، فليكن رضاك عنهم متوازناً بحيث تقف عند الحق ولا تتجاوزه إلى الباطل، فلا تقل فيمن تح أكثر مما يستحق ولا تضخّم شخصيته، ولا تعطه الصفات التي لا يملكها لأنك عندما تعطيه ذلك فقد واجهت ثلاثة انحرافات:
الانحراف الأول؛ تُغرّه بنفسه، لأنه قد يتصور نفسه من خلال ما تعطيه من ضخامة ليست موجودة فيه.
الانحراف الثاني؛ أن تغش الناس به ممن يستمع إلى قولك فيتبعونه على أساس شهادتك فيه.
والانحراف الثالث؛ أنك تسيء إلى الحقيقة عندما تتحدث عن إنسان بالباطل فتقتل الحق في كلامك، والله يريد للإنسان أن يعيش الحق ح تى مع من يحب {وإذا قتلم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}( ).
وهكذا الثاني، "وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق ـ فإذا غضبت على إنسان أو عاديت إنساناً أو اختلفت مع إنسان فلا تنسب إليه من السوء ما ليس بحق.. تحدّث عمّا يملك من الحق من الإيجابيات ولا تتحدث عنه من خلال نظرتك السوداء كما لو كان شراً كله {ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}( ) ـ ومن إذا قدر لم يتنازل ما ليس له ـ أي إذ كان يملك طاقة يستطيع من خلالها أن يتناول كل شيء مما حوله فعليه أن لا يستغل قدرته في أن يتناول ما ليس له بحق.
ولم يطلب منه الإمام شيئاً، ولكنه بعد أن سمع هذه الموعظة وهذا التوجيه ـ فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب، بسم الله الرحمن الرحين، هذا ما ردّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي(ع) في فدك"( ).
ونحن نستوحي من هذه الرواية أن مسألة فدك وعلاقة الزهراء(ع) أم الأئمة بها، كانت من المسائل الواضحة حتى لدى الخلفاء، وهذا ما دعا عمر بن عبد العزيز ـ على تقدير صحة الرواية ـ أن يكتب ليرد على الإمام الباقر(ع) فدك، باعتباره من أبناء الزهراء(ع) ولم يطلبها منه. وهذا ما لاحظناه لدى خلفاء بني العباس، ولعله المهدي أو الهادي، حينما طلب من الإمام الكاظم(ع) أن يحدد له فدك ليردها عليه فحدد له الإمام آنذاك فدك في الدولة افسلامية كلها ليقول له ليست فدك المنطقة هي ما نستحق، ولكن فدك التي هي الأرض الإسلامية كلها هو ما نستحقه.
هذه الكلمات هي الكلمات التي لا بد لنا أن نعيشها موعظةً لنستعدّ للقاء الله سبحانه وتعالى، لنقدم بين أيدينا ما ينفعنا وما يبعدنا عن الخطر هناك، ولننفتح على الله سبحانه وتعالى في كل أعمالنا وأقوالنا من موقع أننا مسؤولون في ذلك كله أمام الله سبحانه وتعالى.
وهكذا علينا أن نوازن عواطفنا فلا تنحرف نتيجة هوى النفس من خلال حبنا لشخص فنعطيه أكثر مما يستحق، أو بغضنا لشخص فننسب إليه من اشلر ما لا يستحق، وأن تتوازن قدراتنا فتكون متحركة في خط العدل فلا تأخذ ما ليس لها بل تقتصر على ما لها.
ثم نطل مع الإمام الباقر(ع) على ما يعيشه الناس من الجدل ولا سيما فيما ينسبه الغرب إلى الإسلام والمسلمين من أن الإسلام دين العنف وأن المسمين لا سيما الحركيين يعتبرون العنف هو الوسيلة الوحيدة لتغيير الواقع وللتعامل مع الناس الآخرين.
الرفق قفل الإيمان:
إن الإمام الباقر(ع) يريد أن يؤكد في هذه الكلمات التي نتلوها عليكم، أن الرفق هو أساس الإيمان، وأنه هو الأصل في حركة الإنسان المسلم على مستوى الدعوى الحركة والعلاقات مع الآخرين. فوحده العنف ينطلق في مواجهة العنف الذي يتوجّه إليك بطريقة دفاعية في حالة الاعتداء الفعلي، وبطريقة وقائية في حالة الاعتداء الشأني الذي يمكن أن يطل عليك لو لم تبادر بدفعه عنك.
لقد قال الإمام الباقر(ع): "إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق" ، والرفق كما هو معلوم ضد العنف ـ إنه اللين ـ وحلّ الأمور بالطرق السلمية. وهنا قد يبدو هذا التعبير غريباً بأن يكون الرفق قفلاً للإيمان، ولكن (الملاّ محسن الفيض) يقول في الوافي تعقيباً على ذلك: "لأن من لم يرفق يعنف" فمن الطبيعي أن الإنسان الذي لا يتناول الرفق كوسيلة فلا بد له أن يكون العنف وسيلته، فيعنف عليه فيغضب فيحمله الغضب على قول أو فعل يخرج الإيمان من قلبه، فالرفق قفل للإيمان يحفظه، فإذا أنت التزمت الرفق فالرفق يبعد عنك كل مواقع السلوك التي قد تؤدي إلى ما يغضب الله وإلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
ولقد قال رسول الله(ص): "إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ـ يعني لو وضع على الكلمات ووضع على الأفعال وعلى العلاقات وعلى المواقف فإنه يزيّنها ويحسّنها ويجعلها في صورة جميلة تجذب الناظر ـ ولا نُزع من شيء إلا شانه"( )، يعني لو تحرك الإنسان في بيته مع زوجته وأولاده أو مع جيرانه أو مع الناس أو في خط الدعوة إلى الله أو في خط التعامل مع الناس بالعنف بحيث رفع الرفق وأعلن بدلاً عنه العنف، فإن ذلك مما يعيبه لأنه يجعله يحمل بعض المواصفات الي لا تتناغسب مع خط التوازن والخير في حياة الناس الآخرين.
فإذاً نفهم من هذا ـ أيها الأحبة ـ أنكم عندما تدخلون في الجدل الذي يوجهه الاستكبار الكافر والاستكبار الظالم في أن الإسلام دين العنف، قولوا إن الإسلام دين الرفق، وإنّ ما جاء في القرآن وفي أحاديث النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) تؤكد أن الرفق هو الأصل وأن العنف إنما يكون في مواجهة من يفرض العنف عليك، تماماً كمثل العملية الجراحية التي تقوم بها عندما يتحداك الخطر الصحي الذي يسقط حياتك أو يتهددها بالهلاك، وإن ما يتحرك به المسلمون في حرك المقاومة كما في فلسطين وفي لبنان وفي حركة التحدي كما في أكثر من موقع هو دفاع عن النفس ضد عنف الظلمة وضد عنف المستكبرين، فالعنف الإسلامي إذا صحّ مثل هذا التعبير ـ هو ردّ فعل لعنف الآخرين عندما لم يستطع الإسلاميون أن يدافعوا عن أنفسهم وعن حريتهم إلا بهذه الطريقة.
تعريف المؤمن:
وفي العنوان الآخر نقرأ تعريف المؤمن عند الإمام، وتعريف المسلم وتعريف المهاجر، وهذا مما يرويه الإمام الباقر(ع) عن رسول الله(ص)، قال، قال رسول الله(ص): "ألا أنبئكم بالمؤمن، من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم ـ فمن لم يكن أميناً على الناس في أنفسهم وفي أموالهم فإن الإيمان يسلب منه، لأن مسألة الأمانة هي الأساس، وقد ورد في الحديث عن النبي(ص) فيما روي عنه "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ولا صلاة لمن لا يتم ركوعها وسجودها"( )، ـ ألا أنبئكم بالمسلم، من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر ـ ليس هو الذي يقطع المسافات، بل هو ـ من هجر اليسئات وترك ما حرّم الله، والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة"( ) يعني بحيث يضعف معه لأن الواجب أن يرفق به.
فمعنى ذلك إذاً هو أننا نستطيع التعرف على هوية المؤمن والمسلم، فهو الإنسان الذي يعيش مع الناس، وهو أمين على أموالهم وأنفسهم وكرامتهم وأوضاعهم، فلا يسيء لأحد في قولٍ ولا فعلٍ ولا يخون أحداً في مالٍ أو نفسٍ أو عرض، وأن الهجرة ليست هجرة الجسد من مكان إلى مكان ولكنها هجرة العمل، وهي أن تهاجر من السيئات إلى الحسنات، وأن تهاجر من الشر إلى الخير، فتلك هي المسافة التي تجعلك مهاجراً تحمل روحية المهاجر لأن الذين هاجروا مع النبي(ص) إنما هاجروا من الشرك إلى الإيمان وهاجروا من كل قيم الشرك إلى قيم الإيمان، وكأن السبيل الوحيد لذلك هو أن يهاجروا مع رسول الله(ص) لتأكيد قيم الإيمان في الموقع الجديد وإسقاط قيم الشرك في الموقع القديم.
صفة الشيعة:
ونختم هذه الكلمات بحديث الإمام(ع) عن صفة الشيعة فيما يريده من الشيعة، ففي الخط الإسلامي الأصيل نجد أن التشيّع ليس حالة منفصلة عن الإسلام، بل هو الإسلام في كل أخلاقيته وفي كل إحساس الإنسان بالمسؤولية عن الإنسان الآخر. يقول الإمام عن أبي اسماعيل قال: "قلت لأبي جعفر محمد الباقر(ع)، جعلت فداك، إن الشيعة عندنا كثير، فقال(ع): فهل يعطف الغني على الفقير وهل يتجاوز المحسن على المسيء، ويتواسون؟ فقلت: لا، فقال: ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا"( )، لأن الشيعي هو الذي يتحرك في خط أخلاقية الإسلام في المسألة الاجتماعية، وهو أن يعطف على الفقير وأن يحسن مع المسيء، وأن يواسي أخاه بنفسه وبماله، فمن لم يفعل ذلك فإنه ينحرف عن خط الإسلام، وبذلك ينحرف عن خط التشيع.
وفي حديث آخر عن شخص يسمى "خيثمة" قال: "دخلت على أبي جعفر أودّعه، فقال: يا خيثمة، أبلغ من ترى من مواينا السلام وأوصهم ـ والوصية لنا جميعاً ـ بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيِّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم ـ أي يتزاورون ـ فإن لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرهم، رحم الله عبداً أحيا أمرنا ـ لأن أمرهم كما قلنا هو الإسلام كله بكل عقائده وشرائعه وقيمه وأخلاقه ـ وأنهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع ـ فقضية الولاية ليست قضية نبضة قلب وخفقة حساس ولكن الولاية هي أن توالي الله تعالى فتطيعه، وأن توالي رسول الله(ص) فتتبعه، وأن توالي أهل البيت(ع) فتتحرك مع منهجهم في طاعة الله سبحانه وتعالى ومحبته في ذلك كله.
وإن أشد الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره"( )، فإنكم عندما تلتزمون ولايتنا التي هي الولاية في خط الله ورسوله، وعندما تنتمون إلينا ونحن نمثل الإمامة في خط الإسلام، فمعنى ذلك أنكم تتحدثون مع الناس عن العدل الذي تمثله هذه الولاية وعن الحق الذي تنطلق فيه، فإذا خالفتم ذلك فستكونون أشد الناس حسرةً يوم القيامة لأنكم تحدثتم عن عدل وكنتم أول من خالفه، فدخل الناس الذين أخذوا بكلامكم في العدل الجنة، ودخلتم أنتم الذين وعظتم الناس النار لأنكم لم تعملوا بالعدل الذي وصفتموه.
معنى استعادة الذكرى:
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ عندما نستعيد ذكرى هذا الإمام فعلينا أن ننفتح على علمه وعلى وصاياه وعلى تعاليمه، وأن نعيش معه في حياتنا، لأن ما تحدث به ليس حديث مرحلة مضت لتموت مع موت المرحلة، ولكنه حديث الإسلام كله، والإسلام باقٍ ما بقي الإنسان في الحياة، لأن "حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة"( ).
أيها المؤمنون هذا هو الإمام الباقر(ع) في مواعظه ووصاياه وتعاليمه فإذا أردتم أن تحتفلوا بمولده فاحتفلوا في أنفسكم بأن تعيشوا كل هذا الأفق الواسع الذي ينفتح على الله تعالى، وكل هذه الروح الواسعة التي تنفتح على الإنسان، وكل هذا المنهج الواسع الذي يغير الحياة من الشرّ إلى الخير ومن الباطل إلى الحق ومن الظلم إلى العدل.
هذا هو منهج الأئمة(ع) فهل تسيرون في هذا المنهج؟ إنّ التحدي ينشر في الساحة، وعليكم أن تكونوا في مستوى التحدي.
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبُّه بالكرام فلاحُ
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثامنة: 8 رجب 1418هـ الموافق 8 - 11 – 1997م
في ذكرى
وفاة الإمام الهادي(ع)
"الأئمة(ع) هم الدُعاة إلى الله، الأدلاّء على سبيله، المؤتمنون على الإسلام"
ـ ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع).
ـ ليس في الإسلام طبقية.
ـ العقدة من الأئمة(ع).
ـ الهادي المرشد.
ـ السلسلة الذهبية.
ـ استيحاءات النص.
ـ حقيقةوجوهر الإيمان.
ـ قيمة العقل.
ـ العقل حجة.
ـ العقل مقياس.
ـ تأويل القرآن بغير معناه.
ـ نسبة الأحاديث لأهل البيت(ع).
ـ الموقف الصارم الحازم.
ـ الزمن البريء.
ـ القرآن المتجدد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع):
تحلّ هذه الأيام ذكرى وفاة الإمام العاشر من أئمة أهل البيت(ع) وهو الإمام علي بن محمد الهادي(ع)، ونحن عندما نريد أن نثير ذكرى أي إمام من أئمة أهل البيت(ع) فإننا نريد أن نعيش الإسلام في صفائه ونقائه، لأنهم كانوا الدعاة إلى الله، الأدلاء على سبيله، المؤتمنين على الإسلام ليصححوا ما انحرف فيه المسلمون، وليصوبوا ما أخطأوا فيه، لأن تلك هي مهمة كل إمام يراقب الواقع ويعمل علتى أن يجعله مستمراً في الخط المستقيم.
ليس في الإسلام طبقية:
كانت مشكلة أي إمام من أئمة أهل البيت(ع) مع خلفاء زمانه الذين انحرفوا عن الخط فكراً وعملاً، بحيث تحوّلت الخلافة عندهم إلى ملكٍ يمارسون فيها كل ذهنيات الملك وكل تقاليده بدلاً من أن تكون الخلافة عنواناً لحركة الإسلام فيما ائتمن الله عليه المسمين من هذه الأمانة الفكرية والروحية والقولية والعملية.
لأن مسألة الإسلام ليست طبقية يتحمل فريق مسؤوليتها دون فريق، فليس في الإسلام كهنوت، ولكن في الإسلام قيادة شرعية تحمل المسؤولية لتتعاون معها الأمة على ممارسة هذه المسؤولية. ولذلك لا بد أن يحمل القائد الرسالة كلها، ولا بد أن يعيش الناس الذين يتحركون معه في قيادته الإسلامية الرسالة كلها. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى وهو يحدثنا عن رسوله وعن الصفوة الطيبة من أصحابه {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل}( )، وهذا يعني أن تنطلق القيادة لتحتوي القاعدة وأن تتحرك القاعدة، لتعطي كل قوتها وجهدها للقيادة. وهذا ما عاشه الأئمة من أهل البيت(ع) مع الناس كما لو كان الإمام أحدهم، حيث عاشوا معهم كل تطلعاتهم فيما يتطلع فيه الناس إلى مستقبلهم، وعاشوا معهم كل مشاكلهم فيما يتخطب فيه الناس من المشاكل بحاضرهم، وأجابوا عن كل سؤال يطوف في وجدان الناس، وواجهوا كل التحديات التي كان يوجهها الكفر والضلال للواقع الإسلامي .الثقافي والعملي: كانوا لا يهدأون ولذلك كانوا يعيشون الامتداد في ساحة الأمة، وكانت لهم مواقعهم، وكان لهم وكلاؤهم الذين لم يكونوا مجرد جباة أموال ولكنهم كانوا الوسطاء بينهم وبين الأمة فيما يرسلونه إليهم من أسئلة وفيما يخبرونهم به من مشاكل وأوضاع وتحديات.
العقدة من الأئمة(ع):
كان الأئمة(ع) يعيشون مع القاعدة في الساحة، ولم يعش أحد منهم في برجٍ عاجي، ولذلك كان الخلفاء يحملون العقدة ضدهم من خلال هذا الامتداد الشعبي الذي يملكونه في الأمة، لأن أمثال هؤلاء الخلفاء لا سيما من بني العباس لا يريدون لأي رمز إسلامي كبير أن يحصل على هذه الثقة الممتدة في الواقع الإسلامي، سيما إذا كان الرمز ممن يعتقد فريق من الأمة بإمامته. إن المسألة تتحول عند ذلك إلى خطر على الكرسي وعلى الملك.
ولذلك، لو درسنا تاريخ أكثر الأئمة(ع) لرأينا الجواسيس تحيط بهم من كل جانب ممن قد يخبرون صدقاً وممن قد يفترون كذباً، ورأينا أن الحاكمين آنذاك يعملون على التعسف في تصرفاتهم معهم، فقد يسجنون إماماً هنا، وقد يحصرون في بيته هناك، وقد يستقدمونه من بلده إلى أماكن سلطتهم ليكون تحت رقابتهم، حتى أنهم كانوا يبعثون بجماعتهم أو بموظفيهم ليهجموا عليهم في منتصف الليل، كما فعلوا ذلك مع الإمام الهادي(ع*، حيث وُشِيَ به إلى المتوكل بأن لديه أموالاً وأسلحة.. ودخل الزبانية عليه في الليل وكان يصلي لربه في صحن الدار، وعندما أحس بهم تحدث معهم برفق كأنه خاف عليهم أن يسقطوا وقد جاءوا متسلقين الجدار، فقال لهم اصبروا حتى أبعث إليكم سراجاً، ثم قال لهم دونكم البيوت ـ أن الغرف ـ ففتشوها ولم يجدوا إلا كتب العلم والمصاحف وما إلى ذلك.
وهكذا عانى الإمام الهادي(ع) الكثير من خلفاء بني العباس، فقد عاش مع المعتصم في بقية خلافته، ثم بعد ذلك عاش مع أكثر من شخص من هؤلاء كما يتحدث "ابن الصباغ المالكي" في "الفصول المهمة" إنه عاش مدة في بقية ملك "المعتصم" ثم مع "الواثق" خمس سنين وتسعة أشهر ثم مع "المتوكل" أربعة عشر سن، ثم مع ابنه "المنتصر" ستة أشهر، ثم مع "المستعين" ابن أخ المتوكل ثلاث سنين وتسعة أشهر، ثم مع "المعتز" وهو ابن الزبير بن المتوكل، وقد استشهد في آخر ملكه لأنه(ع) كما في "الفصول المهمة" مات مسموماً.
الهادي المرشد:
عاش الإمام كل حياته تلك معلماً هادياً مرشداً يحتضن الناس كلهم في كل مواقع بؤسهم ليساعدهم، ولذلك لما جاء رسول الله المتوكل إلى المدينة ليحمله إلى بغداد. قال المؤرخون وهم ينقلون عن الشخص الذي أرسله المتوكل "ضجّت المدينة ضجةً واحدة لأنهم خافوا على الإمام" وكان يتحدث في ذلك فيقول عن ترحيل الإمام "كما لو كانت السماء قد أطبقت على الأرض"، وحاول أن يطمئنهم بطريقة وبأخرى، وعمل المتوكل ـ كما أشرنا ـ على أن يتعسف به بين سجن تارة وبين محاولة إضعاف موقعه وما إلى ذلك.
سلسلة ذهبية وحديث ذهبيّ:
ونريد في هذا اللقاء ـ أيها الأحبة ـ أن نعيش مع الإمام المفاهيم الإسلامية التي قد توحي إلينا بالكثير مما قد نختلف فيه وقد تصحح لنا الكثير مما أخطأنا فيه، ذلك بأن قيمة هذه الكلمات أنها كلمات النور والحق الذي يضيء للناس الطريق في كل زمان ومكان، لن الإمام لم يتحدث عن فكر ذاتي يمكن أن يخطئ فيه المفكر أو يصيب، بل تحدث عن إسلام نقي صافٍ يتحرك فيه من خلال ما قاله الشاعر:
ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
وينقل بعض الذين عاصروه كما يذكر ذلك "المسعودي" في"مروج الذهب" في مسألة هذا الإسناد المتسلسل الذي يربط الفكرة برسول الله(ص) عل أساس أن الكلام كلامه وأن الفكرة فكرته {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى}( ). قال المسعودي "حدثني محمد بن الفرج بمدينة جرجان في المحلة المعروفة ببئر أبو عناب، قال حدثني أبو دعامة، قال أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى،عائداً في علّته التي كات وفاته منها في هذه السنة"، لاحظ أن الإمام وهو في مرض الموت لم يكن ليترك الفرصة في أن يعلّم الناس الذين يعودونه، وهذا ما كان عليه علي(ع) كما يروى أنه عندما ضربه (عبد الرحمن بن ملجم) وكان يعاني من ضربته تلك كان يقولك "سلوني قبل أن تفقدوني" وهو يعاني مما يقرب من سكرات الموت وهو المضروب بسيف مسموم على رأسه والسم يسري في جسده، فلقد كان يريد أن لا تمضي اللحظات الأخيرة من حياته إلا وهو يعلّم الناس علماً يضيء لهم الفكر وينفتح بهم على الحق.
وهكذا كان الإمام علي الهادي(ع) كما يقول هذا الشخص "فلما هممت بالانصراف، قال لي: يا أبا دعامة، قد وجب عليّ حقك أحدثك بحديث تسرُّ به، قال: فقلت: ما أحوجني إلى ذلك يابن رسول الله، قال حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن موسى، قال حدثني أبي موسى بن جعفر، قال حدثني أبي جعفر بن محمد، قال حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن الحسين، قال حدثني أبي الحسين بن علي، قال حدثني علي بن أبي طالب(ع)، قال: قال لي رسول الله: يا علي، أكتب، قال: فقلت ما أكتب؟ فقال: أكتب "بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكحة".. قال أبو دعامة فقلت يابن رسول الله، والله ما أدري أيهما أحسن، الحديث أم الإسناد؟ فقال إنها لصحيفة بخط علي بن أبي طالب(ع) وإملاء رسول الله(ص) نتوارثها صاغراً عن كابر"( ).
استيحاءات النصّ:
عندما ندرس هذا النص فإننا كما ذكرنا نأخذ منه ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: وهي أن الأئمة(ع) كانوا يتحدثون بحديث رسول الله(ص) من خلال هذه السلسلة المباركة، وهذا الإسناد الطاهر الذي قال عنه (أحمد بن حنبل) في بعض كلماته "لو أُلقي على المجنون لأفاق".
والنقطة الثانية: إن الأئمة(ع) كانوا لا يتركون فرصة لتعليم الناس إلا وانتهزوها حتى في مرض الموت، كما ذكرنا ذلك.
والنقطة الثالثة: إنهم كانوا يتوارثون كتاب علي(ع) وهو الذي كتبه(ع) بإملاء رسول الله(ص) مما لم يروه الكثير من الصحابة.
ونقف على هاتين الكلمتين "الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى عل اللسان وحلّت به المناكحة" فالإسلام كلمة وحرك ظاهرية في اتجاه الكلمة، وذلك بأن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أن تقولها سواء كانت منطلقة من قلبك ولسانك، أو كانت منطلقة من لسانك. وأن تتحرك في المجرى العام في الحياة الإسلامية لتكون مسلماً تعيش الانتماء إل الإسلام وتكون مسلماً كبقية المسلمين في المسألة القانونية الظاهرية.
حقيقة وجوهر الإيمان:
أما الإيمان فهو ليس مجرد فكرة تنطلق من العقل لينفتح لها القلب، ولكنها فكرة تتعمق في الذات بأن يكون الإيمان عقلاً من عقلك وقلباً من قلبك وإحساساً من إحساسك وكلمة تنطق بها بلسانك، ولست مؤمناً إذا اكتفيت بذلك، ولكن أن يكون هناك دليل على هذا الإيمان، ودليل الإيمان أن تكون عيناك مؤمنتين فلا تنظران إلا لما أحلّ الله ولا تتحركان إلا من خلال المعرفة التي تطوف في آفاق الله، وأن تكون أذناك مؤمنتين لا تسمعان إلا ما أحلّ الله ولا تتخذان طاقة السمع إلا من أجل معرفة يمكن لها أن تغني عقلك عندما يتحول السمع إلى قناة تطل عل عقلك، وأن يكون لسانك مؤمناً فلا ينطق إلا بالحق، وأن تكون يداك مؤمنتين فلا تتحركان إلا بما أحلّ الله، وأن تكون رجلاك مؤمنتين فلا تنطلقان إلا في الدروب التي يرضاها الله، وأن يكون كل جسدك مؤمناً فيما تأكل بأن يكون حلالاً وفيما تشرب بأن يكون حلالاً وفيما تستلذ من شهواتك بأن تكون من حلال وفيما تلعب وتلهو بأن يكون لهوك حلالاً ولعبك حلالاً.
وتستمر المسألة لتمتد في مواقفك بأن تكون مواقفك عندما تؤيد وعندما ترفض صورة لإيمانك، فلا تقف أي موقف تأييد إلا إذا كان الإيمان ينسجم مع هذا الموقف، ولا تقف موقف رفض إلا إذا كان الإيمان يتطلب منك ذلك.
أن تكون مؤمن العقل والقلب والإحساس والشعور والحركة، لأن ذلك هو الدليل على إيمانك، وهذا ما تحدث به الإمام الصادق(ع) فيما روي عنه أنهم قالوا له: إن هناك من يقول إننا نرجو الجنة ونخاف من النار، قال: "كذبوا ليسوا بِراجين إنّ من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شيء هرب منه"( ) فالذين يتجهون إلى ما يدخلهم النار كيف يقولون إننا نخاف النار، والذين يبتعدون عن ما يؤدّي بهم إلى الجنة كيف يقولون إننا نرجو الجنة، إن هذه الكلمة تؤكد على أساس أن يكون الإيمان كل كيانك وأن لا يكون مجرد خطرات في الفكر ونبضات في القلب وبعض ما تلمّ به من هنا وهناك.
قيمة العقل:
ثم ننطلق إلى فكرة أخرى يؤكد فيها الإمام قيمة العقل، كما يشرح لنا فيها عن هذا التنوّع في معاجز الأنبياء، لماذا جاء موسى بالعصا وباليد البيضاء، ولماذا جاء عيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ولماذا جاء محمد(ص) بمعجزة القرآن في عالم البلاغة.
يروي (الكليني) في (الكافي) عن الحسين بن محمد عن أحمد بن محمد السياري عن أبي يعقوب البغدادي، قال: "قال ابن السكيت، وكان من علماء اللغة العربية، لأبي الحسن علي الهادي(ع): لماذا بعث الله موس بن عمران(ع) بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب وبعث محمداً(ص) على جميع الأنبياء(ع) بالكلام والخطب.
فقال أبو الحسن: إن الله لما بعث موسى(ع) كان الغالب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم، أن الله بعث عيسى(ع) في وقت ظهرت فيه الزمانات ـ أي الأمراض المزمنة ـ واحتاج الناس إل الطب فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة عليهم، أن الله بعث محمداً(ص) في وقت كان الغالب عل أهل عصره الخطب والكلام وأظنه قال الشعر، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل قولهم وأثبت به الحجة عليهم".
العقل حجّة:
قال فقال ابن السكيت: تالله ما رأيت مثلك قط، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال: فقال(ع): "العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب"( ).
ولاحظوا هنا، أن الإمام يريد أن يؤكد ما أكده الإسلام في القرآن وفي بعض الأحاديث القدسية من أن العقل هو حجة الله على الإنسان، وأن الله يأمر بالعقل بما يأمر به وينهى العقل بما ينهى عنه، وأنه يثيب الإنسان ويعاقبه على قدر عقله.
فعندما تحدّث (ابن السكيت) عما هو الحجة اليوم، فإن الإمام الهادي(ع) لم يُشِر إلى الحجة بصرحة، ولكنه قال له: إن هناك الصادقين الذين يصدقون على الله فيما ينطلقون به من الرسال وفيما يجلسون به من الموقع، وفيما يتحركون به مما يأمرون الناس أو ينهونهم عنه، وعليك أن تستنطلق عقلك ثم دعه يدرس كل الذين يتحركون في الساحة، فالعقل عندما يملك العناصر الأساسية التي يمكن له أن يتحرك فيها بإشراقة الفكر وصفائه ونقائه، يمكن عندئذٍ أن يكتشف الحجة وهو الصادق الذي يعرف من خلال صدقه أنه يصدق عن الله، ويعرف الكاذب الذي يمكن أن يكتشف كذبه عندما يكذب على الله ليصدّق الصادق فيتبعه ويسير معه.
العقل مقياس:
وهذا هو ـ أيها الأحبة ـ المقياس الذي لا بد لنا أن نقيس به الأشياء، فالعقل قادنا إلى أن نؤمن برسول الله(ص) وإلى أن نؤمن بالقرآن وبالإسلام، والعقل يقودنا الآن إلى أن يكون تصديقنا لمن نصدقه منطلقاً من الحجة التي يتمتع بها هذا الإنسان الذي يريد أن يكون حجة علينا في ذلك، وأن لا يكون انتماؤنا لأيّ إنسان من خلال قرابة أو صداقة أو حالة سطحية، بل أن تستنطق عقلك في كل من يتحرك في الساحة لتعرف من الصادق على الله لتصدّقه ومن الكاذب عليه لتكذّبه، وإذا استنطقت عقلك وتجردت عن كل هواك وكل ما ورثته وألفته فسينطلق العقل ليعرّفك الحجة في كل زمان ومكان.
ولعلّ مشكلتنا ـ أيها الأحبة ـ في كثير مما ننحرف فيه ونخطئ أننا عاطفيون وانفعاليون ولسنا عقلانيين. فنحن نخاطب بعضنا بعضاً بهوى النفس، ونرتبط ببعضنا بعضاً من خلال حالات الانفعال وندمّر بعضنا بعضاً على أساس الانفعال، فوحدها الأمة التي تعقل، وحدها الأمة التي تفكّر، وحدها الأمة التي تعالج كل قضاياها بالحوار العقلاني الموضوعي، هي الأمة التي يمكن أن تعرف الله جيداً وتعرف رسالاته ورسله جيداً، وتعرف كيف تكتشف الحسن لترتبط به وكيف تكتشف القبيح لتنأى عنه.
لذلك فإذا أردتم أن تنفتحوا على المصير الذي ينجيكم عند الله فاسنطقوا عقلكم، لأن الله كما في الحديث القدسي المروي عن أئمة أهل البيت(ع): "لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبِل فأقبل، ثم قال له: أدبِر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً هو أحبّ إليَّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب"( ).
تأويل القرآن بغير معناه:
وننتقل إلى نقطة ثالثة، وهي أنه في زمن الإمام المهدي(ع) كما في كثير من الأزمنة كان بعض الناس من أهل الأهواء يحاولون أن يفسّروا القرآن بغير معناه الظاهري، وكانوا يتأولونه بغير معناه من دون أساس للتأويل، لأن التأويل في عمق اللغة العربية، فعندما تستعمل لفظاً في معنى مجازي أو عندما تستعير لفظاً موضوعاً لمعنى آخر، أو عندما تستعمل الكناية، فهذه كلها قد تقترب من معنى التأويل، ولكنه تأويل ينطلق من قواعد اللغة.
أما أن تفسّر الكلمة على هواك، بحيث لا تجد المعنى المراد فيها، فإن ذلك يعني الفوضى، لأن بإمكان أي إنسان أن يفسّر أي كلام بما يحب دون أن يرتكز على قاعدة، وهذا ما حدث في زمن الإمام المهدي(ع)، من بعض الذين ينتسبون إلى التشيّع زوراً ويحاولون أن يتقربوا إلى الناس في هذاالفكر المنحرف باسم أهل البيت(ع).
نسبة الأحاديث لأهل البيت(ع):
وجاء من يكتب إلى الإمام الهادي(ع) بذلك، يقول "الكشي" وهو من علماء الرجال، حدّثني موسى بن جعفر بن وهب عن إبراهيم بن شيبة قال: كتبت إليه، جعلت فداك، أن عندنا قوماً يختلفون في معرفة فضلكم بأقاويل مختلف تشمئز منها القلوب وتضيق لها الصدور، ويروون في ذلك الأحاديث، لا يجوز لنا الإقرار بنا لما فيها من القول العظيم ولا يجوز ردها ولا الجحود لها إذ نسبت إلى آبائك، فنحن وقوف عليها من ذلك لأنهم يقولون ويتأولون معنىقوله عز وجل {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وقوله عز وجل {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، معناها رجل لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء تشبهها من الفرائض والسنن والمعاصي تأولوها وصيّروها على هذا الحد الذي ذكرت، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من الأقاويل التي تصيّرهم إلى العطب والهلاك، والذين ادّعوا هذه الأشياء ادّعوا أنهم أولياء ودعوا إلى طاعتهم، منهم علي بن حسكة والقاسم اليقطيني، فما تقول بالقبول منهم جميعاً؟".
الموقف الصارم الحازم:
فكتب إليه: "وليس هذا ديننا فاعتزله"، إن ديننا هو أن تأخذ بالقرآن،كما نزل وكما فهمه الناس بحسب قواعد اللغة العربية التي هي أساس التفاهم بين الناس في هذا أو في ذاك، أما كل هذا فهو ليس من ديننا، ولذلك فإن هؤلاء لا يمثلوننا وليسوا منا ولسنا منهم.
لقد وقف الإمام أمام هذه الفئةالتي تحوّلت إلى فئة تغلو في الدين وحاربهم حرباً لا هوادة فيها حتى أنه أمر بقتل بعض هؤلاء إذا لم يرتدعوا عن ذلك باعتبار أنهم أصبحوا مفسدين في الأرض على مستوى العقيدة، والفساد فيها أخطر من الفساد في العمل.
الزمن البريء:
ويبقى ثمة حديث يمكن أن يستفيد منه الكثير من الناس الذي اعتادوا أن ينسبوا المشاكل إلى الزمن كما يقول قائلهم أن اليوم يوم شؤم، وأن اليوم يوم نحس، وإذا حصل له مكروه قال: اللهم العن هذا اليوم، بحيث نحمّل الأيام ما يصيبنا ونتشاءممنها، فالبعض لا يسافر إذا كان اليوم آخر أربعاء من الشهر وما إلى ذلك.
فتعالوا إلى الإمام الهادي(ع) لنرى كيف يخاطب الناس الذين يتحدثون بهذه الطريقة، يقولالحسن بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد(ع) وقد نكبت إصبعي وتلقاني راكب وصدم كتفي ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك من يوم فما أشأمك ـ أي ما أكثر شؤمك ـ فقال لي(ع): "يا حسن هذا وأنت تغشانا، ترمي بذنبك من لا ذنب له"؟! قال الحسن: فأثاب إليّ عقلي وتبيّنت خطأي، فقلت: مولاي استغفر الله، فقال: يا حسن ما ذنب الأيام حتى صرتُم تتشاءمون بها، إذا جوزيتم بأعمالكم فيها، فما تواجهونه هو نتيجة طبيعية للأعمال {ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا}( )، قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً وهي توبتي يابن رسول الله، قال: "والله ما ينفعكم، ولكن الله يعاقبكم بذمّها عل مالا ذمّ عليها فيه، أما علمت يا حسن أن الله هو المعاقب والمجازي بالأعمال عاجلاً وجلاً، قلت: بلى يا مولاي، قال(ع) لا تعد ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله"( ).
فكم نحمّل الأيام من عاداتنا وتقاليدنا وما ألفناه، حتى أن هناك بعض الأحاديث تقول أن في كوامل الأيام وكوامل الأسبوع وكوامل الشهور وكوامل السنة، لا يحبّذ العمل، وهذا يعني أن لا نعمل طوال السنة إذا كانت الأيام كلها نحس وشؤم، في حين أن لدينا حديث يقول: "لا تعادوا الأيام فتعاديكُم"( )، فالإمام يركّز على أن الشؤم شؤمنا والسعد سعدنا، فنحن نتفاءل من خلال ما نتحرك فيه من ظروف محيطة بما يمكن أن يحقق لنا النتائج الطيبة، ونتشاءم بما يصدر منا من خلال هذه الظروف الصعبة.
القرآن المتجدِّد:
ونختم بالقرآن، فعن (يعقوب ابن السكيت) النحوي قال سمعت أبا الحسن بن علي بن محمد يقول: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة ـ يعني إلا جدّة من الغضّ أي النضارة ـ فمع قدم القرآن ومنذ أكثر من 1400 سنة، كلما قرأناه أكثر يعطينا إيحاءات أكثر وينفتح على قضايانا أكثر، فكل جيل وكل زمان يجد في القرآن الكثير مما يعالج حياته، ومما يضيء إليه طريقه قال "إن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة" ومن خلال ذلك نعرف أن علينا أن ننطلق في كل زمان لنفسر القرآن من خلال حركة الإنسان في هذا الزمان بمعنى أن يطل علينا من خلال إيحاءاته وآفاقه لنحركه في واقعنا ومشاكلنا وقضايانا، فإننا إذا درسنا القرآن بوعي وبعقلانية وانفتاح وإيحاء، فإننا نستطيع أن نجد فيه دواء أمراضنا وحلّ مشاكلنا والنور الذي يضيء فكرنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وحركتنا.
أيها الأخوة، القرآن كتاب الله للحياة كلها، فعينا أن لا نجمّده في زاوية ضيقة، وأن لا نحشره في جماعة خاصة، لأنه كما يقول الإمام الباقر(ع): "يجري مجرى الشمس والقمر والليل والنهار"، فكما أن الشمس والقمر يتجددان ليعطيا النور في كل زمان ومكان، وكما أن الليل والنهار يتحركان من أجل أن يعطيا السكينة في جانب الليل والحركة والإضاءة في جانب النهار، فالقرآن هو الذي يعطينا النور والطمأنينة والحركة والانفتاح والوعي وهو الذي إذا اختلفنا فإننا نرجع إليه وإلى الرسول لنرى ما هو الحق هنا وما هو الباطل هناك. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة التاسعة: 15 رجب 1418هـ الموافق 15 - 11 – 1997م
كيف نولد في مولد الإمام علي(ع)؟!
"ليس هناك في علي(ع) غير الإسلام... فإذا أردت أن تكون معه فاختصر المسافة: كُن مسلماً"
ـ علي وابنته.
ـ وليد الكعبة.
ـ أول بيت في الإسلام.
ـ جهاد موصول.
ـ في بيت الله ثانيةً.
ـ كيف يفكر علي(ع).
ـ السياسة في فهم علي(ع).
ـ الحق الممزوج بالباطل.
ـ في واقعنا الراهن.
ـ نشوء الفتنة.
ـ ختامها موعظة.
ـ معه في مناجاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
عليّ وابنته(ع):
في هذا اللقاء نلتقي بشخصيتين إسلاميتين كبيرتين كان لهما أكبر الأثر في الواقع الإسلامي وإن كان هناك فرق كبير بينهما في الموقع والمنزلة والدور، ولكن أحدهما ينطلق من الآخر عقلاً وروحاً وشجاعةً ورساليةً وموقفاً.
فلقد التقينا في هذا الأسبوع بذكرى مولد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وهو مَن هو في الإسلام في كل ما يعنيه الإسلام من فكر وروح وإخلاص وحركة وثقافة ومنهج وزهدٍ وانفتاح على الحياة وعلى الإنسان كله من خلال الانفتاح على الله تعالى.
كما التقينا في هذا اليوم بذكرى ابنته السيدة زينب(ع) في ذكرى وفاتها، ولكننا نحاول في هذا اللقاء أن نقف مع الأب بعض اللحظات، وسنرجئ الحديث عن البنت إلى لقاء آخر.
وليد الكعبة:
فإذا التقينا بعلي(ع) فإننا نقرأ في تأريخه أنه فتح عينيه أول ما فتحها على الحياة في الكعبة، فقد ولدته أمه في قلب الكعبة، وتوحي هذه الولادة التي تهيّأت ضمن ظروف أراد الله لها أن تعطي الفكرة والإيحاء في مستقبل هذا الوليد أنه الإنسان الذي احتضنه بيت الله الذي أراد الله له أن يكون البيت الطاهر الذي يعطي الطهر للناس كلهم عندما يتعبّدون فيه وعندما يطوفون حوله.. ولم يكن مع رسول الله(ص) إلا عليّ يتعبّد في فتوتّه التي كبرت برسول الله(ص)، عقلاً من عقله وروحاً من روحه وابتهالاً من ابتهالاته، كان معه يلازمه حتى إذا جاء الوحي وسمع رنّة الشيطان وسأل عليٌّ رسول الله ما هذه الرنّة: فقال له: إنها رنة الشيطان، أي صرخته لأنه أيس من أن يُعبد عندما جاءت الرسالة، ورأى الوحي ينزل فقال له رسول الله(ص) كما في (نهج البلاغة) "إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبيّ ولكنك لوزير وإنك لعل خير"( ).
أول بيت في الإسلام:
وعندما صدع رسول الله(ص) بالرسالة حفظها عليّ في عقله، لأنه كان واثقاً بأن عقله قد بلغ من النضج بحيث يمكن له أن يفهم معنى الرسالة ويقتنع بها ويلتزمها، ورأيناه يقول: "لم يجمع بيت واحد يومئذٍ غير رسول الله(ص) وخديجة وأنا ثالثهما"( )، حتى عندما انطلق رسول الله(ص) في الصلاة كان يذهب إلى المسجد الحرام وعلي خلفه إل يمينه وخديجة ثالثتهما تقف خلف علي، ومرّ أبو طالب وقال لولده جعفر: صِل جناح عمّك، وهكذا انتقل منبيت الله طفلاً وليداً إلى بيت رسول الله الذي هو بيت الله، بيت وحيه لأنه البيت الذي تنزل فيه الملائكة ويتحرك فيه الوحي.
وكان يجلس إلى رسول الله(ص) في الليل والنهار تلميذاً في القسم الداخلي ـ كما نعبّر في هذه الأيام ـ وكان يقول: "ما من آية نزلت في رجل من قريش ولا في برٍ ولا بحرٍ ولا سهلٍ ولا جبلٍ إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أي يوم وفي أي ساعة نزلت"( )، وقال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب"( )، فلقد كان علم رسول الله(ص) عنده ولم يكن مجرد تلميذ يحفظ العلم ولكنه كان تلميذاً ينتج من العلم علماً.
وهكذا جاءت الكلمة النبوية الشريفة التي يرويها الفريقان "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"( ).
جهادٌ موصول:
أما جهاده فلم يغب الإمام علي(ع) عن أية معركة كان فيها رسول الله(ص) يرفع سيفه ضد الذين يرفعون سيوفهم في وجهه، وكان في كل موقع من مواقع الإسلام يتحرك حيث رسول الله(ص)، وينطلق حيث ينطلق، حتى أنه عندما لم يأخذه معه في (تبوك) شعر علي بالغبن آنذاك، وأعطاه رسول الله(ص) كلمته لأنه عرف أنه ليس له دور فيها، لأن تبوك لم تنطلق في قتال "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي"( ).
وعاش الكثير من مواقف الإسلام ومن آلامه، وكان يختزن في داخله حب الله كأعظم ما يكون الحبّ، وكانت ابتهالاته ودعواته تصعّد من روحه وقلبه "فكيف تعذبني وحبّك في قلبي"، "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي، صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك"( ).
كان يحب الله حباً بحيث كان يتحسس لهيب النار بل كان مستعداً أن يتقبل العذاب، ولكنه لا يطيق مفارقة الله أو أن يفارق كرامته، يقول ذلك ـ وهو المعصوم ـ هذا الإنسان الذي باع نفسه لله حيث لم يبقَ لنفسه شيئاً بل أعطى كل علمه وقلبه وجهاده وحياته لله.
في بيت الله ثانيةً:
وكانت نهاية المطاف كبدايته في بيت اله، فلقد ولد في بيت الله وأطلق الصرخة فيه عندما جاءته الضربة وهو في المحراب "بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله" وكان الفرح الروحي يملأ قلبه عندما هتف"فزتُ وربّ الكعبة" لأنه عرف أن حياته كانت لله ومع الله، في المسجد وفي الكعبة، وكانت حياته كلها مسجداً يعبد الله فيه بالجهاد وبالعلم وبالزهد وبالرأي يعطيه وبالحركة وبالصلاة، حتى عاش ذلك الفوز الروحي.
ونحن ـ أيها الأحبة ـ عندما نلتقيه في يوم مولده فإننا نريد أن نولد بولادته، أن نولد فكراً في خط فكره، وروحاً في انفتاحات روحه، وجهاداً في كل امتدادات جهاده، وإخلاصاً لله مما يمكن أن يعمّق إحساسنا بعبوديتنا لله تعالى، لأنه كان عبد الله كأفضل ما تكون العبودية.
كيف يفكّر علي(ع):
لنقرأ كيف كان علي يفكر، وكيف كان يعالج بعض القضايا في زمنه، فلقد كان الناس يقولون له: إن هناك ساحة تكثر فيها أساليب المكر والحيلة والخداع، ومن الصعب عليه أن ينجح في الحكم إذا لم يأخذ بأسباب الحيلة، ومن الصعب أن ينجح حاكم إذا لم يتلوّث ولم يخدع ويخادع، وكانوا يقولون: يا علي إذا أردت أن ينجح حكمك فحاول أن تأخذ بأسباب الحيلة.. كُن ضبابياً.. أعطِ الواقع الذي تتحرك فيه عنوان الإسلام من دون أن يكون الإسلام في عمقك، أعطِ كلماتك بعض خطوط الإسلام، ولكن فرّغها من داخل الإسلام لأن السياسة التي تتبعها لا تنجح، فإذا لم تكن سياسياً كما هي السياسة ستفشل، فكيف علّق علي(ع) على هذه الدعوة؟
اسمعوا ردّه: "أيها الناس، إن الوفاء توأم الصدق ـ فعندما تكون صادقاً لا بد أن تكون وفياً، لأن الصدق يفرض عليك بأن تكون صادقاً مع نفسك، وصادقاً مع ربك، وصادقاً مع كل الناس الذين أعطوك ثقتم من موقع إحساسهم بصدقك، كُن وياً لهم ـ أيها الناس إن الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جُنّة ـ وقايةً ودرعاً ـ أوقى منه، وما يغادر من علم كيف المرجع"، فكيف تغدر وقد أعطيت العهد، وكيف تغدر وقد أعطيت الثقة من نفسك؟! ربما تحصل في غدرك على بعض الأرباح والمكاسب ولكن الغدر ليس له قيمة عند الله، بل هو ضد القيمة، أتعرف كيف هو المرجع عندما يأتي النداء {وقفوهم إنهم مسؤولون}( )، {إن إلينا إيابهم* ثم إن علينا حسابهم}( ).
السياسة في فهم علي(ع):
ويقول(ع): "ولقد أصبحنا في زمان ـ وكأنه يحدثنا عن زماننا أيضاً، والأزمنة تتلاقى في كل الذين ينحرفون عن الخط باسم الله ـ ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله كيساً ـ يعني فطنةً وذكاء، فالذين يغدر في مفهوم هؤلاء ذكي، الا يقال فلان شاطر وداهية لأنه يلعب على أكثر من حبل، ألا نتحدث عن كثير منالناس الذين يغدرون ويلفّون ويدورون بإعظام، ونعتبر ذلك ذكاءً وفطنةً، بينما هؤلاء هم أهل اجهل لنهم لا يعرفون عمق الأشياء، ولأن الغدر يعش في السطح ـ ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة مالهم، قاتلهم الله ـ لأنهم ابتعدوا عن الله ـ قد يرى الحوّل ـ وهويتحدث عن نفسه ـ القلّب ـ وهو البصير الذي يحول الأمور يقلبها ـ وجه الحيلة ـ فهل أن علي بن أبي طالب(ع) الذي أعطى الفكر عمقه وامتداده وسموّه لا يفهم اللعب على الحبال؟ ولا اللف والدوران؟ إنه يفهم ذلك، ولكن الفرق بينه وبين الآخرين أنهم إذا رأوا الحيلة أخذوها بقطع النظر عن أية نتائج سلبية أو إيجابية إزاء تكليفهم والتزامهم، ولسان حال علي يقول: أنا أسير وأسير والحيلة أمامي، وأمر الله أمامي يقول لي قف، ونهي الله أمامي يقول لا تتحرك، فأقف وأنا أعرف الحيلة جيداً ـ قد يرى الحوّل القُلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين"( ).
إذاً علي(ع) يقول أنا أفهم السياسة جيداً وأفهم كل ألعاب السياسة، وأفهم غدر السياسة وانحراف السياسة، ولكن مشكلتي هي أنني ولدت على الحق وجاهدت من أجله، وأريد أن أموت على الحق، فلا يمكن أن يقترب الباطل مني، ولا يمكن أن أقترب للباطل حتى لو كان ربحاً، إنه يقول أنا مع السياسة، سياة الحق وسياسة العدل، لا سياسة الجور ولا سياسة الباطل، لأن الإنسان المسلم المسؤول هو الذي يدير أمور الناس من خلال ما يصلح أمرهم في العمق وفي السطح وفي الامتداد، فلا يستبطن إسلامهم كفراً ولا تختزن استقامتهم انحرافاً في داخلها، هذا هو علي(ع) في السياسة.
الحق الممزوج بالباطل:
وكان يقول عندما سمع قول الخوارج "لا حكم إلا لله" عندما أُريد له تحت ضغط ظروف المعركة الصعبة التي هدّدت بالكارثة، وعندما اختلطت الأمور واضطربت المفاهيم وتحرك الضباب حتى لم يعد أحد يبصر شيئاً حتى في فريق علي(ع) نفسه بعدما رفع الجميع المصاحف وانطلت الحيلة عل الكثيرين من الناس الذين ينظرون إلى القضايا من خلال الشكل لا من خلال المضمون، فلم يسألوا: هل هؤلاءالذين رفعوا المصاحف يقرأون المصحف تدبراً ووعياً وفهماً؟ فلو كانوا كذلك لما قاتلوا علياً، ولكنهم كانوا يرفعون المصحف من دون أن يعقلوه، وانطلت الحيلة لأن القوم لم يصلوا إلى رشدهم بعد، وقبِلَ عليّ بالتحكيم حفاظاً على كل الواقع لئلا يتمزّق كله، وانطلق هؤلاء الذين هم أصحاب الجباه السود والذين يعيشون في الأفق الضيّق ولا يفهمون الإسلام في رحابته وفي صفائه وفي تفاصيله التي يتحرك فيها العنوان في الواقع، وقد قبل عليّ بالحكمين أن يحكما في هذه القضية، وقال في خطبة أخرى: "لقد قلنا لهما أن يحكما على كتاب الله وسنّة رسوله، فإذا لم يحكما بذلك فلا حكم لهما"، فليس الحكم لهما كشخصين ولكن الحكم لهما من خلال ما يقرآنه من كتاب الله ويعقلانه منه ومن خلال الرقابة عليهما في ذلك.
ولكن هؤلاء لم يفهموا القضية جيداً كالكثير ممن نعايش وممن يرتبطون بالسطح لا بالعمق، وممن لا يعيشون معنى الشعار، بل يطلقونه من دون وعي لموارده ومصادره، سمعهم يقولون "لا حكم إلا لله لقد كفرتَ يا علي كيف تحكّم الرجال في دين الله" هؤلاء الذين يستسهلون أن يكفّروا الناس أو يضلّلوهم أو يفسقوهم لأنهم لا يعرفون جيداً موازين الكفر والتضليل والتفسيق، ولأنهم يعيشون في زاوية مغلقة من إطارهم الذهني المحدود، فيبادرون إلى التضليل والتكفير والتفسيق من دون أن يكون لهم وعي ذلك قالوا "لا حكم إلا لله" وقال علي "كلمة حق" ذلك أن "الحكم لله الواحد القهار" لكن الله يحكم م خلال عباده فهي "كلمة حق يُراد بها باطل"( )، لأن المراد بها إسقاط الذين يتحركون في الساحة من أجل أن يحركوا حكم الله في الواقع على أساس الوسائل الموجودة في حركة حكم الله، لأن الله لا ينزل من عليائه ليحكم بنفسه، ولكنه يحكم من خلال أنبيائه ومن خلال أوليائه، وقد يعطي القوة لغير أوليائه من خلال حكمة هنا وحكمة هناك، وإذاً فهي "كلمة حق يُراد بها باطل".
في واقعنا الراهن:
وكم نجد ـ أيها الأحبة ـ في واقعنا من كلمات الحق التي تطلق من أجل الباطل، كلمات حق في مفهومها ولكن يراد لها أن تطبّق على أساس الباطل، وكم من الناس يطلقون من الكلمات باسم الإسلام وهم يعيشون معاني الكفر، وكم من الناس يطلقون من الكلمات باسم محبة رسول الله وأهل بيته وهم يتحركون في غير خط الاستقامة، في خط رسول الله وخط أهل بيته، فليست الكلمات مجرد شيء تطلقه في الهواء، ولكن لكل كلمة معناها في القاموس ومعناها في الواقع، إذ لا يكفي أن تحرك الكلمة في القاموس لتطلقها في الهواء، ولكن عليك أن تطلق الكلمة وتأخذ معناها في اللغة، ثم بعد ذلك ترى كيف تتحرك في الواقع، لأن بعض الناس قد يحرّكون الكلمات في معناها اللغوي بعيداً عن معناها في حركة الواقع، وتلك هي الكلمات والشعارات التي تطلق وهي حق، لكن الذين يقولونها يخططون لها من أجل أن تتحول إلى باطل في عالم التطبيق.
هذه هي المساحة ـ أيها الأحبة ـ بين النظرية وبين التطبيق "كلمة حق يُراد بها باطل" نعم يقول علي إنه "لا حكم إلا لله"، ولكن هؤلاء يقولون "لا إمرة إلا لله" ولكن لا بد للحكم من أمير يحكم كما جاء في (نهج البلاغة): "وأنه لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر ـ ليقوم به النظام ـ يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلّغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء" وهو ما يمثل ميزانية الأمة " ويقاتل به العدو وتؤمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بَرٌّ ويُستراح من فاجر".
وفي رواية قال: "أما الإمرة البرّة فيعمل فيها التقي وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي إلى أن تنقطع مدته وتدركه منيته"( )، فلقد فرّق بين "لا حكم إلا لله" وبين "لا إمرة إلا لله" فالمفهوم هنا يختلف عن التطبيق هناك، ولا بد لكل مفهوم إذ أردناه أن يتحرك في الواقع، أن يتحرك مع التطبيق حتى يمكن أن يتعمّق في الواقع.
نشوء الفتنة:
وقال علي(ع) في بعض كلماته وهو يحدّثنا كيف تحصل الفتن، وهذه قضية مهمة جداً في كل فتنة تحدث، وهذه كلمة توجهنا إلى أن نعي حركة الفتنة كيف تنطلق، وإرادة الفتنة كيف تُحاط، ونتائج الفتنة كيف تتحرك، فكيف تبدأ الفتنة؟ يقول(ع): "إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخفَ على المرتادين ـ الطالبين للحقيقة ـ ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغثٌ ـ والضغث قبضة من حشيش يختلط فيها الرطب باليابس ـ فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو {الذين سبقت لهم منّا الحسنى}"( )، فهو يريد أن يقول بأن الفتنة تنشأ من اختلاط الأمور على الناس حيث يمزج فيها الحق في الباطل والباطل بالحق، وهذا المزيج بين الحق والباطل يجعلك تتصور الباطل من خلال ملامح الحق والتي أعطيت كمزاج كما تمزج السم بالدسم.
ولذلك كان الإمام علي(ع) يريد أن يقول عندما تنطلق الشعارات، وعندما تطلق الكلمات وعندما يتحرك الناس في الفتنة لا تنجذبوا إيها من خلال ملامح الحق فيها ولكن ادرسوا ما فيها من الباطل.. ادرسوا عمقها.. دققوا في اللمات.. دققوا في الأجواء.. دققوا في الأشخاص الذين يطلقونها، هل هم من أهل الحق؟ وإذا كانوا من أهل الحق فهل يملكون وعي الحق وانفتاح الحق أو لا.. لذلك عندما تنطلق الفتنة فإن عليك أن تواجهها بعقلك وبقلبك وبإيمانك وبمسؤوليتك حتى تفهم عندما تريد أن تطلق الكلمة أين تضع كلمتك، وحتى تفهم عندما تريد أن تحرك خطاك في أي درب تحركها.
وبهذا الوعي للفتنة يضعنا علي(ع) في خط النور الذي لا بد أن نسلطه على كل مفردات الفتنة، وعلى كل شخصيات الفتنة، وعلى كل ظروف الفتنة، لأننا عندما نعيش واقعنا فهناك المستكبرون بكل إعلامهم وبكل مخابراتهم وبكل خططهم يدرسون خطوط الفتنـ كيف تنطلق فتنة طائفية وفتنة مذهبية وفتنة سياسية وفتنة اجتماعية وما إلى ذلك من الفتن.. لذلك لا تكونوا جمهور الفتنة من خلال انفعالاتكم العاطفية، ومن خلال سذاجاتكم الفكرية ولكن كونوا جمهور الحق الذي يضرب قلب الفتنة بسيف الوعي.
ختامها موعظة:
والحديث طويل مع علي(ع)، لكننا نختم بالموعظة لأننا نحتاج ـ أيها الأحبة ـ إلى ما يليّن قلوبنا القاسية ونحتاج إلى ما يعرّفنا معنى الدنيا ومعنى الآخرة، لأن الدنيا تشغلنا وتخدعنا وتغرنا وتتلاعب بنا وتنسينا الله وتنسينا الآخرة "وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى ـ كل شهوات النفس وكل هواها الذي ينطلق من غرائزها ومن نقاط ضعفها ولا ينطلق من قاعدة تدل الإنسان على ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك وما ينبغي أن يحب وما ينبغي أن يبغض ـ فأما اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ـ لأنه لا ينطلق من الحق، بل ينطلق من ضد الحق ـ وأما طول الأمل فينسي الآخرة ـ لأنه كلما امتدّ عمرك فهناك أمل في عمر جديد، وعندما ينطلق الأمل مع الأمل فإنك تتصور أنك خالد وأنه ليس هناك موت، وإذا نسيت الموت نسيت الآخرة ونسيت الله ونسيت الوقوف غداً بين يدي الله ـ ألا وإن الدنيا قد ولّت حذّاء ـ يعني سريعة، ونحن نحس بهذه السرعة والليل والنهار يطويان كل عمرنا، فنحن نأكل عمرنا ثانية ثانية وساعة ساعة ويوماً يوماً، ولا ندري متى يقف عقرب الساعة عن الساعة الأخيرة ـ فلم يبقى منها إلا صُبابة ـ وهي البقية، فكأس كل واحد منا أول ما يولد يكون ملآناً ثم يبدأ يشرب منه وربما يستطيع أن تنهي الكأس وقد يبقى بعض الصُبابات فيها ـ كصبابة الإناء اصطبّها صابُها، ألا وإن الآخرة قد أقبلت ولكل فيهما بنون ـ للدنيا بنون يستغرقون فيها وللآخرة بنون يستغرقون فيها ـ فكونوا من أبناء الآخرة ولا تغرنكم الدنيا {فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}( ).
كونوا من أبناء الآخرة ـ اعملوا لها، لتكن هدفكم في كل ما تعملون وفي كل ما تقولون، قد تحصلون على المال وتختزنونه، وقد تحصلون على الأرض تسكنونها وقد تحصلون على الشهوات تستغرقون فيها ولكن {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد* ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد* وجاءت كل نفسٍ معها سائقٍ وشهيد* لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}( ) ـ فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأبيه يوم القيامة ـ فإذا لحقنا بالدنيا فماذا يبقى من الدنيا في اليوم الآخر، ولكننا إذا لحقنا بالآخرة وكنا من أبناء الآخرة فهناك الخلود ـ وإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حسابٌ ولا عمل"( )، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}( )، {وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى}( )، {أني لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى}( )، وغداً يغلق كل باب العمل{اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}( )، {ووضِع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً}( ).
معه في مناجاته:
ونبقى مع علي(ع) وهو يناجي ربه "فإليك يا ربّ نصبتُ وجهي وإليك يا ربّ مددتُ يدي، فبعزّتك استجب لي دعائي وبلّغني مناي ولا تقطع من فضلك رجائي واكفني شرّ الجنّ والإنس من أعدائي يا سريع الرضا اغفر لمن لا يملك إلا الدعاء فإنك فعّالٌ لما تشاء يا من اسمه دواء وذكره شفاء وطاعته غنى، ارحم من رأس ماله الرجاء وسلاحه البكا".
ونبقى مع علي ننطلق مع الإسلام فكراً من فكره، وروحاً من روحه وحركةً من حركته، وجهاداً من جهاده، وابتهالاً من ابتهالاته، ونبقى مع علي لأنه كان مع الله وعظمته هي في أنه كان عبدا لله، وعظمته أنه كان تلميذ رسول الله وأخا رسول الله، فعلينا أن ننطلق مع علي في هذا الاتجاه، بأن لا يكون حبنا لعلي نبضة قلب وخفقة شعور فحسب، ولكن أن يكون حبنا لعلي كما قال لنا "ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكُم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ ـ عن الحرام ـ واجتهاد ـ في طاعة الله وفي معرفة الله ـ وعفةٍ ـ عن كل ما يسخط الله ـ وسداد" في الرأي وفي الموقف وفي الوسيلة وفي الهدف.
هذا هو علي، علي الإسلام وليس هناك شيء في علي غير الإسلام، وليس هناك في علي شيء زائد عن الإسلام، لذلك إذا أردت أن تكون مع علي فاختصر المسافة.. كُن مسلماً كما أن الله اختصر للنبي الكلمة {وأُمِرتُ لأن أكون أوّل المسلمين}( )، أن ت كون من المسلمين وأول المسلمين يعني أن لا تزيد على الإسلام شيئاً، فالإسلام يختزن كل الحقيقة في ذاته، فإذا أردتم أن تدخلوا أي شيء فانظروا هل هذا الشيء في داخل الإسلام فخذوه أو هو في خارج الإسلام فارفضوه. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة العاشرة: 22 رجب 1418هـ الموافق 22 - 11 – 1997م
زينب(ع).. نموذج التحدي من أجل الحقّ
"نتعلّم من زينب(ع) أن ننطق بكلمات الله لتكون هي الأصل والفصل، لأنها الحق الذي لا يأتيه الباطل"
ـ لماذا ذكرى زينب(ع)؟.
ـ الحاجة إلى النماذج النسوية.
ـ زينب(ع) قيمةٌ إسلامية.
ـ كربلاء نموذج حركي.
ـ لقطات من حركة السيد زينب(ع).
ـ موقفها الجهادي في الكوفة.
ـ المحاججة القاطعة.
ـ الروح الكبيرة.
ـ ذروة الموقف في الشام.
ـ ظاهرة السبي.
ـ الانتصار المادي.
ـ الطعن في عدالة يزيد.
ـ التأثير في الجمهور.
ـ استصغار يزيد وتحقيره.
ـ درس زينب(ع).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
لماذا ذكرى السيدة زينب(ع):
كنا نتحدث في الأسبوع الماضي عن مناسبة ذكرى السيدة زينب(ع)، وعندما نريد أن نثير ذكراها فإننا نستهدف من ذلك عدة نقاط:
النقطة الأولى: هي أن تبقى هذه العلاقة الشعورية بهذه الشخصيات الإسلامية التي استطاعت أن تعطي الكثير من الحركية في التاريخ الإسلامي بما يؤكد ويؤصل المفاهيم الإسلامية، لأن مسألة الارتباط العاطفي بالشخصيات ذات الأثر الإسلامي يجعلنا نرتبط عاطفياً بنفس الحالة الإسلامية التي يمثلها هذا الشخص أو ذاك، ونحن بحاجة إلى أن نعطي الجانب الفكري شيئاً من العاطفة لأنه هو الذي يعمّق هذا الفكر في الوجدان، ولأن الإنسان تتعمق فيه ـ عادة ـ كل الأشياء التي يحبها وكل الأشخاص الذين يحبهم من جهة أن منطقة الشعور في الإنسان تترك تأثيرها عليه أكثر من منطقة العقل، ولذلك فنحن نعمل على أن نزاوج بين العقل وبين الإحساس حتى يرقّ العقل ويدخل إلى الوجدان كما ينطلق الإحساس ليفتح القلب على الأفكار والأشخاص.
الحاجة إلى النماذج النسوية:
النقطة الثانية: هي أن تاريخنا الإسلامي يفتقد الكثير من النماذج الإسلامية النسوية الفاعلة التي تعطي حركتها معنى القيمة الإسلامية، فنحن نملك في تاريخنا الإسلامي الكثير من الرجال الذين جاهدوا في الدعوة وفي الجهاد وفي العلم وفي كثير من مضامير الحياة الإنسانية، لأن المجتمع في مدى التاريخ هو مجتمع الرجل، فالمرأة لم تكن تملك الكثير من الساحات التي تعطي فيها عبقريتها وفكرها وحركتها، بل كانت تعيش على هامش الرجل..
لذلك فإننا عندما نرى في تاريخنا الإسلامي بعض النماذج النسوية التي قامت بالكثير من الحركة في ساحة الصراع على خط القيم الإسلامية، فإننا بحاجة إلى أن نستعيدها دائماً من أجل أن نعطي للمرأة المعاصرة التي دخلت الساحة والتي عاشت قضايا الصراع، والتي انفتحت على كثير من الأوضاع السلبية على المستوى الأخلاقي أو الاجتماعي، نماذج تقدم صورة المرأة المجاهدة الشجاعة الواعية المسلمة التي عاشت في الصراع كأقسى ما يكون الصراع، وبقيت على الخط المستقيم في درب الحق ودرب العدل.
زينب(ع) قيمة إسلامية:
وزينت(ع) هي من هذه النماذج النسوية التي تمثل هذه القيمة الإسلامية الرسالية الرائدة في عالم النساء، ونحن نعرف من خلال القرآن أن الله يضرب المثل بالمرأة الصالحة للرجال وللنساء معاً، لأن القيمة الروحية أو الأخلاقية أو الهادية عندما تتمثل في المرأة ـ كما تتمثل في الرجل ـ فهي القيمة الإنسانية المتحركة في خط الإسلام والتي يحتاجها الرجال والنساء معاً.
كربلاء نموذج حركي صراعي:
والنقطة الثالثة:هي أن كربلاء الملحمة الإسلامية الحسينية الرائدة استطاعت أن تحتوي في حركيتها، على مستوى المأساة والمواجهة ،كل النماذج البشرية، فهناك الشيخ التسعيني إلى جانب الشاب العشريني، وهناك الطفل إلى جانب الشخص الكبير، وهناك المرأة إلى جانب الرجل، مما نلحظ فيه أنك عندما تنفتح على المأساة تراها متمثلة في كل هذه النماذج، وعندما تنفتح على الحركة فإنك تجد الحركية متمثلة فيها أيضاً، مما يجعل من كربلاء نموذجاً حركياً صراعياً ثورياً فذاً قد لا تجد ـ في مدى التاريخ ـ مثل هذا التنوع في النماذج بين طفل يجاهد وشاب يتحدى وشيخ يقف في خط المواجهة، وامرأة تخطب وتبكي وتشجّع وتقوّي.
لقطات من حركة السيدة زينب(ع):
فمن خلال زينب(ع) نستطيع أن نعرف دور المرأة المسلمة في ساحة الصراع التي امتزج فيها جانب المأساة إلى جانب الجهاد، وامتدّ الجهاد بعد كربلاء من خلالها فاستطاعت أن تتحدث مع الذين صنعوا مأساة كربلاء بما لم تأتِ الفرصة بنظير له..
وهذا ما نلاحظه في عدة لقطات في حركة السيدة زينب(ع)، فنحن عندما نلتقيها في مسيرة السبي الذي لم تكن له سابقة في الإسلام، مما يمكن اعتباره الجريمة القدوة التي اقتدى بها الطغاة الآخرون.. فالمعروف في الحروب التي يخضوها المسلمون أن السبي إنما هو شأن غير المسلمات وغير المسلمين، إذ لم يعهد في التشريع الإسلامي أن مسلماً يسبي مسلمة في حالة حرب، فنحن نعرف أن الإمام علي(ع) عندما انتصر في معرك الجمل في البصرة، أرسل أم المؤمنين عائشة مكرّمة في غاية التكريم مع نساء يحطنها ويحفظن مكانتها بالرغم من كل ما قامت به ضده، ولم يحدث في أية مرحلة تاريخية قبل كربلاء أن النساء المسلمات يسبين وأن الأطفال والرجال من آل بيت النبوة يسبون.
من هنا يمكن القول أن مسألة السبي التي بدأها يزيد وابن زياد كانت الجريمة التي لم تسبقها جريمة مماثلة في الواقع الإسلامي، وهذه من المآخذ الكبرى التي تسجّل على حكم بني أمية في بدايته.
وقد كانت زينب(ع) سبيّة مع كل نساء بني هاشم وبعض نساء الأنصار، وكان الإمام علي بن الحسين(ع) أسيراً وسبياً، وكانوا يُعرضون على الناس، بحيث عندما يذهبون إلى أي بلد فإن الناس كانوا يخرجون لمشاهدتهم، وإذا أضفنا إلى ذلك الوحشية التي تمثلت في وضع رؤوس الشهداء وفي مقدمتها رأس الحسين(ع) فيما بين النسوة والأطفال، عرفنا كم هي هذه الوحشية التي تمثلت في مأساة كربلاء بحلقتها الثانية "السبي" أكثر مما تمثلت في طبيعة المأساة ذاتها.
موقفها الجهادي في الكوفة:
وحينما وصلت زينب(ع) الكوفة في مسيرتها التي كانت تختزن في داخلها كل آلامها لأنها مسؤولة عن رعاية كل هؤلاء الأطفال والنسوة حتى وهي الأسيرة والسبيّة، كانت تتحرك بعقلية قيادية لا تملك أن تبكي معها أو أن تصرخ، وربما كانت تغتصب الابتسامة اغتصاباً عندما تحتاج إلى أن تحنو على طفل أو تكفكف دموع امرأة.
وصلت(ع) إلى الكوفة، وكانت أول تجربة تحدٍ عاشتها في مجلس ابن زياد، فلم تحاول أن تبرز بل كما ينقل كتّاب السيرة الحسينية كانت تتخفّى، ولمحها ابن زياد فقال: من هذه؟ فقيل له إنها زينب ابنة علي، وكان عبيد الله يعيش عقدة النقص في نسبه الذي اختلف الناس فيه، وفي تربية لا تمثل أية قيمة، فعندما يجد نفسه منتصراً على أقدس شخصية في الإسلام آنذاك وهو الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله(ص) الذي كان يحبّه رسول الله ويحتضنه مع أخيه فيقول إنهما "سيدا شباب أهل الجنة"، أراد أن يثأر لهذه الوضاعة ولعقدة النقص في داخله، ولم يكن الحسين أمامه بل كانت زينب التي خلفت الحسين في خط الحركة الجهادية، فأخذ يتفوّه بكلمات الحقد والوحشية حيث قال: "الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم"( ).
فكيف ردّت زينب التي كانت الإنسان المسلم الذي يتحرك حتى مع عدوّه على نهج الله {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}( )، فلقد وقفت بكل شموخ هذا النسب الذي يختزن الرسالة في داخله، وهذا الحاضر الذي يجمع الماضي الرسالي في كل وجدانه لتصدع بالحق: "الحمدلله الذي أكرمنا بنبيّه محمد(ص)" وكانت تتحدث عن كرامة النسب في معنى الرسالة "وطهّرنا من الرجس تطهيراً" وهي تشير ضمناً إلى القذارة التي يعيش فيها ابن زياد وتقارنها بالطهارة التي عليها أهل البيت(ع) فكأنها تقول إن هناك إنساناً قذراً يتكلم بقذارته أمام إنسان طاهر تفيض منه كل الطهارة التي فاضت من الله سبحانه وتعالى، ولم تتحرك من خلال حالة خاصة خاصة في البشرية.
ثم قالت: "إنما يفتضح الفاسق( ) ويكذّب الفاجر وهو غيرنا والحمدلله" إنها استطاعت أن تواجهه بأقسى الكلام ولكن بكل تهذيب وكل معنى يفهمه هو ومن حوله، فكأنها تقول له أنت الفاسق وأنت الكاذب، ونحن الذين طهَّرنا الله من الرجس، فلا يمكن أن يقترب منا الكذب أو الفسق.
فقال ـ ولم يشفه ما قال من حقد ـ "كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟" وكأنه ينسب المسألة إلى الله، وكأنه وكيل الله في قتل هذه الصفوة الطيبة التي لم يعبد الله تعالى أحد كما عبدوه، ولم يخلص له أحد كما أخلصوا له.
فقالت: "ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل فبرزوا إل مضاجعهم"( )، إنما هي آجالهم التي يكتبها الله لعباده لا من خلال عقوبة أو غضب، بل هي سنّة الله في الحياة أن يموت كلإنسان بأجله من خلال السبب الذي تقتضيه ظروف حياته، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ إليه وتُخاصم "وانظر لمن الفلج"( ) من الذي يستطيع أن ينطق بالحق أمام الله ومن يعيش الخرس والهزيمة أمام الله،فمن كان الحق معه فسوف ينفتح لسانه بالحق أمام الله، ومن لم يكن الحق معه فسوف يتلجلج "ثكلتك أمك يابن مرجانة" وثارت أعصاب الرجل وأراد أن يقتلها لولا أن بعض معاونيه نصحوه بغير ذلك.
ثم قال لها: "لقد شفى الله قلبي من طاغيتك" وهنا بدأ يشتم وينفّس عن حقده "والعصاة المردة من أهل بيتك" فرقت زينب(ع) وبكت، وللعاطفة هنا قداستها، فقالت "لعمري لقد قتلت كهلي" فلقد شفيت غيظك حقاً وحقيقةً "وقطعت فرعي" قتلت أولادي "واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاؤك لقد اشتفيت"( ).
الروح الكبيرة:
هذا الموقف الزينبي في مجلس ابن زياد يعبر عن هذه الروح الكبيرة التي لا تخاف وتعرف كيف تطلق الكلمة، وكيف تحرك العاطفة في موقع العاطفة، وكيف تردّ الكلام بكلام أقسى منه ولكنه أكثر تهذيباً وإيلاماً في لك الموقف الصعبت على قلبها، فلم تفقد كبريائها ولا وعيها ولا صبرها، وهذا نموذج للمرأة المسلمة التي تقف أمام الطاغية فلا تسقط أمام طغيانه، ولكنها تبقى في موقع التحدي وردّ التحدي، وتنطلق زينب(ع) بعد ذلك إلى أهل الكوفة لتؤنّبهم وتوبّخهم وتعرّفهم حجم الجريمة التي قاموا بها سواء الذين قاتلوا الحسين أو الذين خذلوه، ويروي أصحاب السيرة أن القول كانوا يبكون، وكانت زينب(ع) لا تحترم بكائهم لأنها اعتبرته بكاءً لا يحمل طهر الحزن في الأعمال ولكنه يحمل معنى هذا التأنيب السريع للنفس الذي لا يسكن طويلاً في داخلها.
ذروة الموقف في الشام:
وقمة الموقف الزينبي كان في الشام عندما دخلت مجلس يزيد وسمعته يتمثل بأبيات ابن الزبعرى:
ليست أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهــــــــــــلّـــوا واســـــــــتهلّـــوا فـــرحــــاً ثم قالـــوا: يا يزيـــــــد لا تُشـــلّ
وسمعته يتحدث حديث الشامتين، فوقفت لترد عليه في موقف التحدي، وهنا تبرز زينب القرآنية التي يعيش القرآن في وعيها لتحركه في الواقع، ومن هذا نتعلم من زينب(ع) أننا إذا انطلقنا في أي موقف من المواقف سواء كان موقف التحدي أو الدعوة أو الجهاد فعلينا أن ننطق بكلمات اله لتكون كلماته هي الأصل وهي الفصل، لأنها الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فمهما تطوّر الزمن وتنوعت الثقافات يبقى القرآن ثقافتنا ويبقى أساس مفاهيمنا، وهذا درس نتعلمه من زينب(ع) التي استنطقت القرآن في كل ما أرادت أن تحدّث به يزيد.
نقد ظاهرة السبي:
ولننطلق مع الفصل الأول من خطبتها التي انتقدت فيه ما قام به من سبي للنساء "الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين.. صدر الله إذ يقول {ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون}( ) ـ فلقد أطلقت الآية في وجهه، لتقول له إنك أنت من مارس السوء وكذّب بآيات الله في الواقع إن لم تكن كذّبت بها في الوجدان {وكانوا بها يستهزئون}.
لأن الاستهزاء بآيات الله يتحرك في خطين: هناك خط تستهزأ فيه بالآية مفهوماً، وهناك خط تستهزأ فيه بالآية واقعاً بأن تقف أمام الذي تجسده الآية في القيمة التي تتحرك في حياة الذين يمثلون رموز القيمة لتعمل عمل المستهزئ ـ أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى أن بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلانَ مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلاً مهلاً ـ.
الانتصار المادي:
إنها تقول له: إنك تتصور أن المنتصر بالوسائل المادية هو المنتصر وهو الكريم عند الله، عنده، وهو الذي يرضى الله عنه، وأن الذي لا يسجل الانتصار من خلال طبيعة الظروف الموضوعية به هوان عند الله، إن هذا التصور سقيم لأن هناك آية تتحدث عن هؤلاء الذين يمدّ الله لهم الحبل ليبتليهم ويملي لهم من أجل أن يخرجوا كل ما في أنفسهم ليقيم عليهم الحجة من خلال أنه أعطاهم كل شيء ليستقيموا ولكنهم استخدموا ذلك في الانحراف {ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً}( ) نعطيهم كل الفرصة فلا يستفيدون منها فيزدادون إثماً فيسقطون تحت التجربة {ولهم عذابٌ مهين} فكأنها تقول: يا يزيد أدرس هذه الآية في تجربتك الوحشية التي قمت بها فستحسب أن الله أملى لك من أجل أن يختبر إسلامك ـ الذي لم تؤمن به ـ وإنسانيتك، وقد سقطت كما سقط الذين ازدادوا إثماً ولهم عذابٌ أليم.
الطعن في "عدالة" يزيد:
ثم تقول له: إنك تقف في موقع المسؤولية عن المسلمين جميعاً، هكذا تزعم لنفسك، أو هكذا يزعم بعض الناس لك، ومن كان مسؤولاً عن المسلمين فعليه أن ينظر إليهم بعين السواسية، بأن ينظر إلى رجال المسلمين كالرجال القريبين إليه، وإلى نساء المسلمين كالنساء القريبات منه، ويغار على نساء المسلمين كما يغار على نسائه، ويحفظ نساء المسلمين كما يحفظ نساءه، هكذا هو عدل الإسلام من خلال شخصية المسلم في مسؤوليته، وشخصية المسؤول الأول عن الواقع الإسلامي كله.
قالت له: "يابن الطلقاء ـ يا ابن الذين وقفوا أمام جدي رسول الله(ص) وقال لهم: ما تروني فاعل بكم؟! قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم"، وانطلقت رسوليته ورسالته وروحه التي تريد أن تمنح هؤلاء الناس عفو الرسالة وعفو الإنسانية ونموذج الخلق العظيم، قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، لقد كانت تجربتكم قاسية وها أنا أعطيكم تجربة جديدة لتجربوا كيف تؤمنون بالله بعد أن كفرتم به، وكيف تطيعون الله بعد أن عصيتموه.
إنها تقول له: "أمن العدل ـ والعدل صفة الحاكم الذي يتولى مسؤولية المسلمين ـ ياابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههنّ يحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهُن أهل المناقل ويبرزن لأهل المناهل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والغائب والشهيد والشريف والوضيع والدنيء والرفيع، ليس معهن من رجالهن وليّ ولا من حماتهن حميم، عتوّاً منك على الله وجحوداً لرسول اله ودفعاً لما جاء به من عند الله ولا غرو منك ولا عجب من فعلك وأنى يُرتجى مراقبة من لفظ أكباد الشهداء؟؟ ـ لتذكّره بجدّته "هند" التي علكت كبد حمزة ثم لفظته.
ونبت لحمه بدماء السعداء ـ لأن تاريخه كان تاريخ النسب الذي خاض الحروب ضد رسول الله(ص) وقتل الكثير من الشهداء ـ وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والأحن والأضغان، ثم تقول غير متأثّم ولا مستعظم: وأهلّوا واستهلّوا فرحاً.. ثم قالوا يا يزيد لا تُشل ـ إنها تؤنّبه وتوبخه واستطاعت زينب(ع) أن تعطي الجمهور الذي كان يستمع إليها كل تاريخه الذي كانت له الهجمات الكبيرة على الإسلام والمسلمين.
ثم تتحدث عن الجانب العاطفي، فيما كان يزيد يضع رأس الحسين(ع) بين يديه وينكت شفتيه بقضيب كان بيده منتحياً على ثناي أبي عبدالله سيد شباب أهل الجنة ـ تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشافة ـ وهذا أسلوب منطلق من العاطفة ـ بإراقتك دماء ذرية محمد(ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك ـ زعمت أنك تناديهم ـ فلتردنّ وشيكاً موردهم ولتودنّ أنك شللت وبكمت ولم يكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت ـ.
التأثير في الجمهور:
ثم انطلقت زينب(ع) في تأثيرها على الجمهور الذي كان يستمع إليها بعد أن خاطبت يزيد وكأنها نسيت كل الآلام وكل الواقع وانفتحت على اله ـ اللهم خُذ بحقنا وانتقم من ظالمنا وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا ـ وكأن زينب(ع) أرادت أن تترك تأثيرها النفسي من خلال قولها له أنك قد تكون القوي ونحن الضعفاء فلا نستطيع أن نأخذ حقنا منك ولكن الله سوف يأخذ لنا بحقنا وسوف ينتقم لنا منك لأنك ظلمتنا وسوف يحل غضبه بك لأنه يغضب لدماء الأزكياء، ثم تقول له ـ فوالله ما فريت إلا جلدك ولا جززت إلا لحمك ـ لأن جلدك هو الذي سوف يفرى من خلال ما فريبت ولأن لحمك هو الذي يحزّ من خلال ما حززت، وربما كانت تنطلق من مسألة القرابة ـ المدعاة على الأقل ـ ولكنني أستبعد ذلك لأنها لا تريد أن توحي إليه بأية قرابة بعد أن طعن هذه القرابة في الأعماق.
ولتردنّ على رسول الله(ص) بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهحت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقهم ـ ثم جاء القرآن على لسانها ـ {ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون}( ) لتقول له: إن هؤلاء الذين قتلتهم انطلقوا في سبيل الله بينما انطلقت في سبيل الشيطان، وكل من ينطلق في سبيل الله فهو يحيا عند ربه برضوانه وبكرامته وبكل نعيمه وهذا هو رزقه لكل الشهداء ـ حسبك بالله حاكماً ـ فهو الحكم العدل ـ وبمحمد(ص) خصيماً ـ فكأنها تقول له: سيقف رسول الله وتقف أنت ومن معك يوم القيامة، وإذا كان الله هو الحاكم وكان رسول الله(ص) هو الخصم، وهو عندما يخاصم لا يخاصم إلا بالحق وبالعدل، ويعرف أن محكمة يوم القيامة هي محكم العدل لأن الله يقول: {اليوم تُجزى كل نفسٍ بما كسبت لا ظلم اليوم}( )، وتمضي هادرة ـ وبجبرئيل ظهيراً ـ ناصراً ـ وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ـ وهو يعرف أنك لست الكفوء ويعرف أنك المنحرف عن خط الله ورسوله ـ بئس للظالمين بدلاً وأيكم شراً مكاناً وأضعف جندا ـ.
استصغاره وتحقيره:
ثم برزت بكبريائها وبعظمتها التي تستمدها من إيمانها بربها ومن رسالتها ومن عزتها التي تعيش فيها ـ ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك ـ فمن أنت في حقارتك لأخاطبك، لكن الظروف قد تجبر الإنسان على أن يخاطب من لا يستحق الخطاب ـ إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ـ عندما تقرّعني فإني أعتبر ذلك جريمة كبيرة ـ وأستكبر توبيخك ـ ولكن هذه هي الظروف والمأساة التي تدخل الإنسانن في غير المداخل التي من شأنه أن يدخلها ـ ولكن العيون عبرى والصدور حرّى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حز//ب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ـ وكأنها أرادت أن تثقف الجمهور الذي يستمع إليها، فمن لم يستحضر كربلاء في وجدانه ولم يتعرف إلى طبيعتها، وربما كان من الذين انطلت عليهم الدعاية اليزيدية بأن هؤلاء قوم من الترك أو الديلم، فأرادت أن تقول له: نحن حز//ب الله وأنتم حزب الشيطان ـ فهذه الأيدي تنطلف من دمائنا والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفوها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً ـ اعتبرتنا غنيمة لك ـ لتجدنا وشيكاً مغرماً ـ تواجه المسؤولية أمام الله ـ حين لا تجد إلا ما قدّمت، وما ربك بظلاّمٍ للعبيد فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل ـ.
ثم بدأت تتحداه ـ فكِد كيدك ـ ماذا بوسعك أن تعمل فاعمل، فمعك الجيوش والأموال والسلطة والخطط ـ واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ـ فإن ذكرنا ينطلق ما انطلق الأذان ـ .
ولا تميت وحينا ـ فنحن الذين نزل الوحي في بيوتنا، لا نقولها فخراً بل لأننا التزمنا الوحي ولأن خلفياتك الجاهلية تعمل بأن تميت الوحي ولكن الله يحفظ وحيه كما يحفظ كتابه ـ ولا ترحض عنك عارها ـ إذ يبقى العار يلاحقك في مدى التاريخ وستعيش لعنات التاريخ ـ وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين"( ).
درس زينب:
هذه هي زينب(ع) في كبريائها الإسلامي.. وهذه هي زينب في عظمتها الروحية الإيمانية وهذه هي زينب في ثقافتها القرآنية.. وهذه هي زينب في بلاغتها الأدبية وهذه هي زينب في مواقفها البطولية.
ففي ذكرى السيدةزينب(ع) نريد أن تعيش المرأة في حياتنا بعدما أُريد لها أن تكون على هامش الحياة، وأن تعيش الضعف في مواقفها ومواقعها وعقلها وروحها، وأن تبتعد عن المسؤولية وعن ساحة الصراع.. إن زينب تقول للمرأة المسلمة تعالي إليّ فقد انطلقت من خلال أمي التي كانت القمة في الموقف الحق، ومن خلال جدتي التي كانت المرأة التي أعطت رسول الله كلها، عقلها وروحها وعاطفتها ومالها وجاهها، وكل شيء حتى بقيت فقيرة معه.
أنا زينب التي أحمل تاريخ حركة المرأة في ساحة الصراع من أجل الحق في كل تاريخي.. أنا زينب التي أريد أن تنطلق مسيرة المرأة المسلمة من أجل أن تقف مع الحق في أصعب المواقف، وأن تتمرد على كل قساوة المأساة في مواقع الصبر، وأن تبقى مع الإسلام كله فكراً وكلمةً وحركةً وموقفاً.. فهذا هو نداء زينب للمرأة المسلمة وعلى المرأة المسلمة أن تستجيب لهذا النداء بأن لا تعتبر أن إسلامها يمثل تخلفها وأنه يعزلها عن الحياة وأنه يجعلها تعيش في زاوية مغلقة.
فلقد كانت زينب(ع) في الساحة الواسعة من الجهاد والدماء تسيل أنهاراً من حولها.. وتبقى تفكر بهدف حركة هذه الدماء مع أن الآلام تعصف بكل روحها وقلبها، ولكنها كانت تعيش آلام الرسالة وآلام الإسلام.. فلنأخذ من زينب(ع) هذا الألم الرسالي الذي يمكن له أن يستوعب الألم الإنساني..تلك هي زينب فلا تضعوها في مواقع الدموع فحسب، بل ضعوها ي مواقع الجهاد والصراع بين الحق والباطل، فنحن نريد للمرأة المسلمة أن تكون زينب ولو بنسبة العشرة بالمئة أو العشرين بالمئة.
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّه بالكرام فلاحُ
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الحادية عشرة: 29 رجب 1418هـ الموافق 29 - 11 – 1997م
في ذكرى المبعث
السيرة النبوية في القرآن
"إنّ الدعوة إلى الإسلام واجبٌ عينيّ على كل مسلم ومسلمة"
ـ المبعث والإسراء والمعراج.
ـ مهمة الرسول(ص) الأساس.
ـ الجو القرآني.
ـ مهمة الحكم بين الناس.
ـ صفة النبي(ص) الإنسانية.
ـ ربط الناس بالرسالة.
ـ حديثه مع الناس.
ـ الأنبياء أرسلوا بالعقل.
ـ السراج المنير.
ـ أخلاقه العملية.
ـ حرصه على الناس.
ـ صبره على الناس.
ـ صبره على الأذى.
ـ التحديات الراهنة.
ـ تعلّموا دينكم.
ـ الراحة حرام.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
المبعث والإسراء والمعراج:
في هذه الأيام نلتقي بذكرى رسول الله(ص)، في مبعثه على بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت(ع) وفي إسرائه ومعراجه.
ونحن لا نريد أن نفعل كما تتحرك التقاليد من تفريغ الذكرى من مضمونها لتبقى مجرد تاريخ نستذكره ومناسبة نعيشها من دون أن نعرف ماذا هناك ومن دون أن نستوحي ماذا هناك.
إننا عندما نستعيد ذكرى رسول الله(ص) فإننا نريد أن نفهمه ونعرفه ونتابعه ونستغرق في كل حياته لأن حياته بمجملها رسالة، لأنه الرسول الذي تجسدت الرسالة في كل حركة كيانه، فهو رسالة متحركة وهو قرآن ناطق.
فكلما فهمنا رسول الله(ص) أكثر فهمنا الإسلام أكثر، ومن هنا تأتي أهمية معرفة السيرة النبوية الشريفة، وربما كانت أفضل سيرة للنبي هي سيرته في القرآن، لأن الله حدثنا عن حركة الرسالة في الرسول، وعن صفات الرسول بالأسلوب الذي يتجسد في كل ما يتحرك فيه.
مهمة الرسول(ص) الأساس:
في البداية، ونحن في ذكرى المبعث نحاول أن نستوحي من القرآن ما هي المهمة الأساس للنبي(ص) في حركة الرسالة.. فنحن نقرأ في القرآن {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكُم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون}( ).
فالدور الذي يقوم به أولاً: هو أن يتلو على الناس آيات الله كما نزلت لا يزيد فيها ولا ينقص {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه بالوتين* ثم لقطعنا منه الوتين}( ).
الجو القرآني:
وقد حدثنا الله على لسان رسوله أنه قال {وأن أتلو القرآن}، فالقرآن هو مهمة الرسول الأساس بأن يتلوه ليسمعه الناس ويفكروا فيه تلقائياً، ويعيشوا مع، وهذا ما تحدثنا عنه سيرته في أنه كان يتلو القرآن في مكة والقوم يأتون متخفّين يستمعون إليه كأبي سفيان وأبي ج هل وغيرهما، وكانوا يحاولون أن لا يفتضح سرّهم إلا أنهم كشفوا بعضهم بعضاً في نهاية المطاف، وكانوا يتأثرون به وينفعلون.
وهنا نستوحي أن تلاوة القرآن لا بد أن تكون برنامجاً تربوياً في كل الواقع الإسلامي، وذلك بأن نعيش القرآن في أنفسنا وليعيشه الناس من حولنا، وأن نجعل الجو من حولنا قرآنياً، ولذلك فلا بد أن نتابع التعليم الإلهي الذي يريدنا أن نقرأ القرآن وأن ننقله من جيل إلى جيل ليبقى كتاب الله حياً في كلماته، ولا يكفي أن يبقى حياً في عيوننا عندما تحدّق فيه أو في أسماعنا عندما تستمع إليه.. إقرأه واسمعه وتدبّره.. فهذا هو عمق القرآن.
مهمة التزكية:
{يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم} وهذه هي المهمة الثانية وهي مهمة "التزكية" التي تمثل معنى التربية والتطهير والتنمية، فدور النبي(ص) هو أن ينمّي النفس الإنسانية على أساس الطهر والنقاء بحيث يجعل الإنسان الذي يعيش معه أو الذي ينطلق من خلاله إلى الحق، إنساناً نامياً في عقله وقلبه وروحه وكل طاقاته على أساس النقاء والطهارة.
{ويعلمكم الكتاب والحكمة} وتعليم الكتاب هو بأن يجعله عقلاً من خلال مايطلق فيه عقله النبوي الذي يمنح الإنسان عقلاً قرآنياً، ويعلّم القلب كيف ينفتح على القرآن ليضم القيمة العاطفية القرآنية فلا يحب القلب إلا من أحبه الله وما أحبّه الله، ولا يبغض إلا من أبغضه الله وما أبغضه الله.
فالنبي(ص) يعلمنا الكتاب كفكر وبرنامج ومنهج وخط في الحياة، سواء الخط العام أو التفصيلي، والله تعالى يريد أن نعلم علم الكتاب وعلم الواقع وكيف نوفق بين الكتاب وبين الواقع.. ويبقى من علم رسول الله(ص) وفكره الكثير {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} فهو المعلم للحياة من خلال ما يلهمه الله من معرفة للحياة، ومن هنا كانت سنّته فيما لم يفصّله الكتاب هي ما ألهمه الله من معرفة حاجة الحياة إلى الشريعة.
مهمة الحكم بين الناس:
وهناك مهمة أخرى وهي مهمة الحكم بين الناس {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} فدورهن هو أن يحكم بين الناس في منازعاتهم وخصوماتهم إن في الفكر أو في الواقع، بما أراه من الحق، وأراد من خلال تأديبه له {ولا تكن للخائنين خصيماً}( ) أن يكون مع الحق وأن لا يدافع عن الخائنين.
وقد جعل الله الحكم بالحق الذي يتسع لكل قضايا الحياة من مهمات الخلافة في الأرض {يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكُم بين الناس بالحقّ}( )، وقد ربط الله سبحانه وتعالى بين الإيمان وبين تحكيم النبي(ص) فلا يكفي في الإيمان أن تشهد بالوحدانية أولاً، وبالرسالة ثانياً، ولكن أن تحكّم النبي(ص) عندما يكون في الحيا، وأن تحكّم شريعته عندما يغيب عن الحياة ليرضى عقلك وقلبك كل كيانك بما حكم {فلا وربّك لا يؤمنونحتى يحكّموك فيما شجر بينهم} وإذا حكمت {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً}( ).
ثم يتحدث الله إلى أهل الكتاب أن هذا الرسول يعلم علم الكتا، ولذلك فإنكم لا تستطيعون إخفاء شيء من الكتاب لأنه يعلمه، {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيِّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير}( )، مما يوحي بأن النبي(ص) جاء يحمل الكتاب كلّه لأنه جاء مصدقاً لما بين يديه فهو يملك ثقافة الكتاب كله، فإذا أخفوا ما يرثونه منه فإن النبي يعرف ذلك ويعلمه.
ثم يركّز الله للنبي والقول أنه سينتصر ويقضي على الشرك {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدني كله ولو كره المشركون}( ) وهكذا استتمّت للنبي(ص) النصرة على المشركين في نهاية المطاف.
صفة النبي الإنسانية:
كما يحدثنا الله سبحانه وتعالى عن صفة النبي(ص) من خلال ما يثيره في النفس الإنسانية من البشارة والخوف من خلال صفته كبشير ونذير {يا أيها النبيّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}( ) فهو الداعي إلى الله برسالته، وهو المبشر بالجنة لمن آمن وأطاع، وهو المنذر بالنار لم كفر وعصى، وهو الشاهد على الناس فيما يتحركون فيه على خط الاستقامة أو الانحراف ليشهد أمام الله بكل ما رآه.
وهو السراج الذي يضيء للناس برسالته من خلال الرسالة التي كلها نور وضياء، ولذا كان دوره أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور لأنه السراج المنير بعقله وقلبه وروحه وحياته.
ربط الناس بالرسالة:
ويصوّر لنا القرآن أيضاً كيف كان النبي(ص) يتحدث مع الناس ليربطهم بالرسالة بعيداً عن أي تأثير آخر، لأنه لو جاء وبيده خزائن الأرض لقيل إن الناس اتبعوه لماله، ولو حدّث الناس بالغيب لقيل إنه استلب وجدانهم من خلال الغيب الذي يترك تأثيره على نفوسهم، ولو كان ملكاً لقيل إن ملائكيته هي التي تركت تأثيرها عليهم.
ففي الحقيقة، إن الله أراد للنبي أن يترك الناس مع الرسالة بعيداً عن أي تأثير آخر، وأن يقول للإنسان بأن لك عقلاً تفكر فيه، وأن لك عينين تبصر بهما وأذنين تسمع بهما، ففكر بعيداً عن أية مؤثرات خارجية وعن أية أوضاع غيبية.
فالنبوة غيب لأنها مرتبطة بمعنى غيبي وهوالوحي الذي ينزل من السماء، ولكن النبي(ص) لم يرد للناس أن يؤمنوا به من أجل وضع غيبي، بل أن يؤمنوا به من خلال عقل يفكر، فالله يحدثنا عن النبي(ص) أنه قال {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ـ لا أمنّيكُم بخزائن الدنيا ـ ولا أعلم الغيب ـ إلا بما يلقيه الله إليّ من شؤون غيبية ـ ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ}( )، {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ}( ) لذلك خاطبوني بما تخاطبون به البشر وإنني أتحرك فيكم برسالتي على أساس أنني بشر ألقي إليكم الرسالة لتفكروا فيها ولتقتنعوا بها، ولتكون قناعتكم من خلال وعيكم الوجداني، لا من خلال مؤثرات أخرى في شخصية الرسول خارجة عن الطبيعة.
ولقد رأيناه يحدث الناس في طبيعة مهمته بأن الرسالة لا تخضع للأشياء المادية الخارجة عن بشريته، {فلعلّك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أُنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل}( ).
من هنا نرى أن الله كان يحدّث الناس في أن الرسالة هي التي أعطت النبي(ص) كل ما جاء به ولم تكن هناك معرفة سابقة بها {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنتَ ولا قومك من قبل هذا فاصبر إنّ العاقبلة للمتقين}( ) وفي آية أخرى {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} فكل معرفتك التفصيلية كانت ناجمة عن وحي الله إليك..
ولقد كرر الله تعالى هذه المسألة في أكثر من جانب عندما قصّ عليه كثيراً من القصص سواء في قصة مريم أو في قصة يوسف أو غير ذلك ليؤكد سبحانه بأنه هو الذي أنزل عليه ذلك {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}( ).
حديثه مع الناس:
وأما عن حديث النبي(ص) مع الناس فهو {قل ما كنت بدعاً نم الرسل} ألا تعرفون الرسل الذين جاءوا من قبلي؟ ألم تقرأوا عنهم؟ أنا واحد منهم {وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ وما أنا إلا نديرٌ مبين}( ) والله يعطي رسوله ما يريد وما يمكن أن يفتح له كل الغيب والطاقات، ولكنه سبحانه أراد لأنبيائه أن يدخلوا إلى الناس من خلال رسالتهم بحيث لا يكون هناك إلا الرسالة والإنسان، لأن أي نوع من أنواع المؤثرات الخارجية التي تجعل الإنسان يؤمن بشيء سوف تزول عندما تزول المؤثرات، ولكن عندما تقتنع عقلياً بشيء فلن يضيرك إن تغيرت الأمور أو لم تتغير لأن وعي عقلك للأمر يجعلك مستمراً في الخط.
الأنبياء أرسلوا بالعقل:
ولقد تحدّثت مراراً أنّ الأنبياء جميعاً لم يرسلوا إلا بالعقل أي بالوحي الذي يخاطب عقل الإنسان، وليست المعجزة أساس الدعوة، بل كان العقل أساسها، لأن المعجزات إنما جاءت لردّ التحدي لا لإثبات الرسالة، الله أراد للناس أن يؤمنوا بالرسول وبالرسالة من خلال ما يفكرون فيه بعقولهم في مضمون الرسالة وشخصية الرسول، لذلك نجد أن الرسول(ص) يؤكد دائماً أن الله هو الشهيد، فعندما يسألونه من الذي يشهد لك يقول {كفى بالله شهيداً بيني وبينكم}( ) لأن معنى ذلك هو أن رسالتي هي التي يوحي بها الله إليكم في حركة عقولكم ومنطق فطرتكم فلست بحاجة لغير هذا.
فكما أن الله أشهد الناس على أنفسهم من جهة شهادة فطرتهم، كذلك يشهد النبي لله على أنه الرسول من خلال فطرة الناس، فعندما تقرأ قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم قالوا بلى}( ) فمتى أشهدنا الله على ذلك، ومن منا يتذكر تلك الشهادة التي يذهب بعض العلماء أنها كانت في عالم الذر، فإذا كنا لا نتذكر ذلك فكيف يحتجّ الله علينا بما لا نتذكره. لذلك يقول المفسرون أن الله أشهدهم على أنفسهم بأن ركّب في داخل شخصيتهم وفطرتهم وعقولهم ما لو أشهدهم على أنفسهم لنطقوا من خلال عمق الفطرة وأصالة العقل أن الله هو ربّهم.
فقوله تعالى: {كفى بالله شهيداً} يعني أن الله يشهد لرسوله بالرسالة من خلال حقائقها التي تفرض نفسها على عقل الإنسان وجدانه فيما لو كان عقله مفتوحاً ووجدانه مستقيماً.
فمنذ أن بعث الله الرسل أراد للإيمان أن ينطلق من عقل الإنسان لا أن يكون صدمة تصدم ذاته ليؤمن من منطلق الصدمة، لذلك قال سبحانه {إنما يتذكر أولو الألباب}( ) وكان يتحدث عن الكافرين أن لهم قلوباً لا يعقلون بها ولهم آذاناً لا يسمعون بها وأن لهم عيوناً لا يبصرون بها، كما كان يخاطب في المؤمنين عقولهم لأنها هي التي تقودهم إلى الإيمان، مثلما كان يخاطب في الكافرين انحرافهم عن خطّ العقل والحسّ الذي يتحركون فيه.
السراج المنير:
فدور النبي إذاً هو بأن يكون نوراً، ولا بد لهذا السراج المنير وللآيات التي تنزل عليه كنور {هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور}( ) من أن تؤكد معنى العصمة لأن من كان نوراً كله كيف يكون الباطل في عقله والباطل ظلام، وكيف يكون الباطل في قلبه والباطل ظلام، وكيف يكون في قوله وفعله والباطل ظلام؟ فمن عاش الظلام في قلبه وعقله وحركته وكلامه كيف يكون سراجاً منيراً؟! فالسراج هو الذي يحمل النور ولا ظلمة فيه، وكيف يبعث الله رسولاً ليخرج الناس من الظلمات إلى النور إن لم يكن نوراً، فمن لا يكون زكيّاً كيف يا ترى يزكّي الناس؟ ومن لا يكون ذاكراً كيف يذكّر الناس، ومن لا يكون حقاً كلّه ونوراً كله كيف يمكن أن يغيّر العالم على أساس الحق وكيف يبدّل ظلمات الإنسان فيما يفكر فيه وفيما يعيشه.
وهذا ما نستدلّ به على عصمة النبي(ص) في كل مواقعه لأنه كما أكدنا مراراً ليس مجرد ساعي بريد يأتي بالرسالة ويقدمها إلينا، بل جاء ليعلّم الناس الكتاب والحكمة ويعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون، وليزكيهم وليخرجهم من الظلمات إلى النور، فلا يمكن إلا أن يكون معصوماً لا في التبليغ فحسب، بل في كل حياته لأنه رسالة في مفردات حياته كما هو رسالة في كل الآيات.
أخلاقه العملية:
هذه ـ أيها الأحبة ـ بعض الصور القرآنية التي يمكن نستجلي منها صورة النبي، وإذا أردنا أن نأتي إلى أخلاقه العملية فكيف نتمثلها؟ يقول تعالى: {فبما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}( )، فلقد كان اللين في قلبه الذي يفيض بالسماحة فلا يحمل سوءاً ولا قسوةً لأحد، واللين في لسانه بكلماته العذبة التي تفتح قلوب الناس عليه وعلى رسالته.
{الذين يتّبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} فما هي عناوين حركته الرسالية: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر}( ) ليدفع الحياة في خط الاستقامة التي يمثلها المعروف ويبعدها عن خط الانحراف الذي يمثله المنكر.
{ويحلّ لهم الطيّبات} فكل ما أحلّه لهم هو ما تستطيبه أذواقهم وأجسادهم وحياتهم بكل مفرداتها.
{ويحرّم عليهم الخبائث} فكل حرام خبيث من خلال ما يحدثه من خباثة ومفاسد في العقل أو الجسد.
{ويضع عنهم إصرهم} والإصر هو الثقل {والأغلال التي كانت عليهم}( ) فلقد جاء من أجل أن يحطّم كل أغلال الحقد والبغضاء والشرك والكفر والتخلّف والجهل وغيرها.
وفي الجانب الشعوري من النبي(ص) يقول الله تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم} يتفاعل معكم ويحسّ بما تحسّون ويشعر بما تشعرون ويتألم كما تتألمون ويفرح لما تفرحون {عزيزٌ عليه ما عنتّم} والعنت المشقة، فكل ما تواجهونه من مشقات يثقله ويؤلمه، إنه التفاعل الإنساني الروحي مع ما يعيشه الناس من حوله.
حرصه على الناس:
{حريصٌ عليكم} بأن لا تسقطوا ولا تضلّوا ولا تضيعوا تماماً كما تحرص الأم على أولادها.
و{بالمؤمنين رؤوف} يرأف بهم {رحيم}( ) يرحمهم في كل أوضاعهم وكل حياتهم.. {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}( ) فهو الرحمة في خلقه وفي رسالته وكل حركته في الحياة.
ويعطينا الله أيضاً الخط العام للرسالة في أنها لا تثقل الناس، وهو قوله تعالى {وما جعل عليكم في الدين من حرج}( ) فلقد أراد أن يمنحهم رسالة ميسّرة {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}( ) وإذا أثقلت الرسال بعض الناس فإن هذا الثقل لم يأتِ من الرسالة وإنما جاء من خلال عبثهم الذي حوّل اليسر إلى عسر والانفتاح إلى انغلاق.
كان النبي(ص) ـ أيها الأحبة ـ يحب الناس، ولذلك كان يحزن على الذين يسارعون في الكفر، فهو لا يحزن على نفسه ولكنه يحزن رأفةً بهم، {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر}( ) كان يتألم لأن الناس لا ينفتحون على الهدى وقد أنزل الله آيات ليفتح فيها قلبه على الواقع {قد نعلم إنه ليحزنك الذين يقولون فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}( ).
ويقول القرآن له وهو الذي نزل على طريقة :إياك أعني واسمعي يا جارة"( ) {فلعلّك تارك بعض ما يوحي إليك وضائقٌ به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير}( ) فالآيات هنا لتنبّه الناس من خلال النبي(ص) أن الدعاة إلى الله ربما يضيق صدرهم من خلال التحديات التي تواجههم وبعض الاتهامات التي توجه إيهم وبعض الأوضاع القلقة التي تحيط بهم، فيحاولون الابتعاد عن الرسالة، والله تعالى يبيّن أن مهمتهم هي أن ينذروا وليقل الناس ما يقولون.
وفي آية أخرى {وإن كان كبُر عليك إعراضهم} والخطاب لناس من خلال النبي(ص) {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلّماً في السماء فتأتيهم بآية ول شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكوننّ من الجاهلين}( ) فلا يضيق صدرك لأن هذه التحديات لم تنطلق من حقيقة وإنما من حالة عناد وتمرّد، فلو أراد الله لجمعهم على الهدى بشكلٍ معجز ولكنه أراد للرسالة أن تسير من خلال الأسباب الطبيعية.
صبره على الأذى:
وأراد الله تعالى منه ان يصبر كما يريد من الدعاة كلهم أن يصبروا، ولقد كان النبي(ص) نبي المستضعفين وكان الله يريد له أن يجالسهم، وكانت قريش تريد منه أن يطردهم لأنهم لا يمثلون المستوى العالي في المجتمع، لكن الله يقول له إن هؤلاء هم أقرب الناس للتفاعل مع الرسالة لأنهم لا يزالون يعيشون الفطرة ولم تتلوث عقولهم ولا نفوسهم بكل مغريات الحياة الدنيا {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين} فإن من يطرد المستضعفين من مجلسه يحتقرهم ويميز الأغنياء عليهم من خلال غنى هؤلاء فإنه ظالم لأن الله يخاطب الناس من خلال النبي {فتطردهم فتكون من الظالمين}( ).
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ عشنا مع الني(ص) في القرآن، وعلينا أن نعيش روحه وخلقه ومنهجه وإخلاصه في الدعوة لربه وللناس وأن نعيش رحمته ورأفته للمؤمنين وحرصنا عليهم وتألمنا لآلامهم {وما محمد إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتِل انقلبتُم على أعقابكم ومن ينقلِب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}( ) فلا بد أن نتابع الطريق وأن نتحرك في خط الرسالة.
لقد حمل رسالته وقال "ما أوذيَ نبيّ مثل ما أوذيت"( )، وواجه الكثير من الكلمات السلبية والأفعال السلبية والاضطهاد والاتهام حتى في عقله، وبقي مصراً على الرسالة من أجل أن يبلّغها للناس حتى أكمل الله للمؤمنين دينهم وأتمّ عليه وعليهم نعمته ورضي لهم الإسلام ديناً {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً}( ).
التحديات الراهنة:
والإسلام ـ أيها الأحبة ـ لا سيما في هذه المرحلة يواجه حرباً عالمية على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والأمني، بحيث أن أعداء الله يحيطون به من كل جان ويعملون على إضعافه في نفوس المسلمين.. فيا أيها المسلمون.. كلكم مسؤولون عن الإسلام، وإذا كان بعض الفقهاء يقول إن الدعوة إلى الإسلام واجب كفائي وإذا قام بها البعض سقطت عن الكل، فأنا أقول لكم: إنها واجب عيني على كل مسلم ومسلمة، لأنّ مستوى الحرب الثقافية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية بلغ من القوة بحيث لو أن المسلمين بأجمعهم وقفوا لما استطاعوا أن يقوموا بما يواجه مثل هذا التحدي، فكيف إذا لم يقم به إلا القليل القليل.
فبعض الناس يقولون إن الإسلام مهمة المشايخ، والبعض يقول إن الواجب عليّ أن أجلس في بيتي وإذا سألني الناس أجبت وإذا لم يسألني أحد فلا يجب عليّ ذلك، وكل إنسان يقول: أنا مشغول بعملي.. فيما كان المسلمون حتى التجار منهم يسافرون إلى أقاصي الأرض، وكان كل واحد يحمل في نفسه همّ إسلامه ليبلّغه إلى الشعوب التي يذهب إليها كما يحمل همّ تجارته.
تعلّموا دينكم:
فيا أيها الأحبة: تعلّموا دينكم.. افرضوا على كل العلماء والمثقفين أن يعلّموكم.. اسألوهم حتى تتعلموا كل ما يدور في ذهنكم، ولا تتركوا شيئاً في عقولكم يبحث عن حقيقة إلا وتسألون عنه، فلا تخافوا من السؤال، لأن من واجب أهل العلم أن يجيبوا على كل سؤال يعرفونه وأن يدرسوا ما لا يعرفونه ليجيبوا عنه، خاصة وأن الساحة مملوءة بالشبهات والإشكالات والتحديات.
الحرب كبيرة واسعة.. ودين الله يستصرخكم، وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): "لوددت أنّ السياط على رؤوس شيعتي لكي يتفقهوا في الدين" وورد أيضاً "أفٍ لشخص لا يفرّغ نفسه لدينه ليتعلّمه" قد تقولون بأننا مشغولون، ولكن قولوا لي كم ساعة تجلسون إلى التلفاز لمشاهدة فيلم أجنبي، وكم من الساعات تصرفونها في سهرات الشتاء في كلام لا يسمن ولا يغني من جوع.. اجعلوا ساعة من الأربع والعشرين ساعة تتعلمون فيها دينكم في العقيدة والشريعة والخط، لتكونوا جميعاً دعاة إلى الله، ألا تقرأون في دعاء الافتتاح "اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيل"؟ وذلك بأن يكون كل مسلم داعية إلى الله وأن يصنع كل مسلم من نفسه في ثقافته وتجربته وحركته مشروع قائد {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}( ).
الراحة حرام:
قلتها مراراً: (الراحة حرام) إلا بمقدار ما يمسك عليكم حياتكم وما عدا ذلك يحرم، لا سيما على أهل العلم أن يكون لهم وقت فراغ للّهو والعبث وأن يبتعدوا عن المسؤولية، ولو كان بإمكاننا أن ندخل إلى بيوت الناس لندعوهم إلى الله فلنفعل {يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم ناراً} فعلى الأقل أنذر عشيرتك الأقربين.. ألا تحبون أولادكم وبناتكم وزوجاتكم.. فلو قيل لك أن ابنك أو ابنتك أو زوجتك تحترق في النار.. فكيف تكون مشاعرك حينها؟ كيف والنار نار الله {وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}( ).
{يا أيها الناس اتقوا ربكم إنّ زلزلة الساعة شيءٌ عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد}( ).
نسأله تبارك وتعالى أن يعيننا بما يعين به الصالحين على أنفسهم، وأن يسلك بنا مسالك الصالحين، وأن يوفقنا للقيام بما يجب علينا من مسؤوليات.. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثانية عشرة: 6 شعبان 1418هـ الموافق 6 - 12 – 1997م
التوافق بين قول المؤمن وفعله
"تنطلق الازدواجية في خطين:
الأول: إنك تزيّف نفسك فتتحرك في خط الضياع، والثاني: إنك تخدع الناس فتساهم في إضلالهم"
ـ عودة إلى عناصر الإيمان.
ـ تطابق القول والفعل.
ـ عقل واحد وقلب واحد.
ـ مقت الله.
ـ التربية من أجل التوافق.
ـ نموذجان.
ـ النموذج الآخر.
ـ في الخطين: الاجتماعي والعملي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
عودة إلى عناصر الإيمان:
كنا نتحدث قبل عدة أسابيع حول عناصر الإيمان الأساسية في المفهوم القرآني، ومن بين هذه العناصر الخطوط التي يرسمها الله سبحانه وتعالى في كتابه للمؤمنين من حيث هم مؤمنون بحيث تشعر وأنت تقرأ الآية أن الله يريد أن يقول للمؤمنين أن علامة إيمانكم هي أن تنفتحوا على هذا أو تجتنبوا ذاك، لأن الانفتاح على هذا يمثل انفتاحاً على قاعدة من قواعد الإيمان والابتعاد عن ذاك يمثل في الوقت نفسه ابتعاداً عما ينافي الإيمان بشكل أساسي.
تطابق القول والفعل:
ومن بين هذه الآيات التي تمثل قضية مهمة جداً في كل واقعنا على جميع المستويات، سواء كان هذا الواقع أخلاقياً في العلاقات الأخلاقية العامة، أو كان تبليغياً بما يبلّغ به الناس، أو سياسياً فيما يطلقه العاملون في السياسة من شعارات، أو في غير ذلك مما يريد الله للناس أن يأخذوا به أو يتركوه.. والآية الكريمة هي {يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون* كبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}( ) هاتان الآيتان تؤكدان على ردم المسافة بين القول والفعل، لأن الإنسان ـ فيما يتحرك به ـ يملك تعبيرين عمّا في داخله مما يعتقده أو مما يتعاطف به أو مما ينهج به من نهج القول والفعل، فهما علامتان عما في داخلك، فقولك هو صورة عما تفكر به وعما تحسّه وفعلك صورة عما تعيشه في داخل نفسك.
ومن هناك يحكم على الناس بأقوالهم وأفعالهم، حتى أن الفقهاء جعلوا ظاهر الفعل علامة على عدالة الإنسان عندما يتحرك في خط الاستقامة أو على فسقه عندما ينحرف عن هذا الخط، فكما أن القول كاشف عن عمقك، فالفعل أيضاً كاشف عن عمقك.. والإسلام يعتبر الإنسان في داخله وحدة واحدة، فأنت لست شيئين بل أنت شيء واحد في وجودك، وهكذا أنت فكر واحد في عقلك الذي يفترض أن يؤكد الرأي المحدد الذي لا يتلوّن في أية قضية من القضايا، كما لا يملك الإنسان قلبين لأنه لا يمكن أن يؤمن بالشيء وضده في الآن نفسه، أو أن يشعر بالشيء وضده في ذات الوقت، وربما نستوحي ذلك في الجانب الفكري والعاطفي من قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}( ).
عقل واحد وقلب واحد:
فأنت عقل واحد وقلب واحد، فإذا كنت واحداً في منطق عقلك وكنت واحداً في منطق قلبك وإحساسك فلا بد أن يكون التعبير واحداً، وإذا كانت لديك وسيلتان للتعبير فلا بد أن تتطابقا وأن لا يختلف أحدهما عن الآخر وغلا كنت كاذباً في أحاديثك، لأن مسألة أن يتفقا معاً في التعبير عنك وهما متناقضان يعد مفارقة غريبة، إذ لا يمكن أن تكون متناقضاً في ذاتك يتجاذبك النقيضان، لأن معنى ذلك أنك تكذب إما في قولك إن كان قولك مخالفاً لما تؤمن به، أو في فعلك عندما يخالف فعلك ما تؤمن به.
فلذلك يخاطب الله المؤمنين بقوله {يا أيها الذين آمنوا} والإيمان حق والإيمان صدق والإيمان وحدة، لذلك عندما تكون مؤمناً فإن معنى ذلك أن يصبح عقلك عقل الإيمان وقلبك قلب الإيمان ونهجك نهج الإيمان، وعند ذاك كيف يمكن أن تكون هناك مسافة بين القول والفعل {يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون* كبُر مقتاً...}( ).
مقت الله:
هنا نلاحظ أن هذا التعبير القرآني يوحي بخطورة موقف الإنسان أمام الله، فإذا كان الله يمقتنا فتلك الكارثة، وإذا كان الله يمقتنا أكبر المقت فهناك الموت الروحي بكل معناه، ولذلك لم نجد القرآن الكريم قد عبّر مثل هذا التعبير إلا في المواقع التي تمثل الخطورة كل الخطورة {كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} وعندما ندرس هذه المسألة فإن إيحاءاتها وخطورتها تنطلق من أنها تتحرك في خطين كلاهما خطر، الخط الأول وهو أنك تزيّف نفسك لأنك تجعلها في حالة التناقض والازدواجية، وبذلك تضيع لأن قولك حينذاك يعني شيئاً وفعلك يعني شيئاً آخر، وأنت تريد أن تنطلق في الحياة انطلاقة سوية، فهل تنطلق من موقع فعلك أو من منطق قولك؟!
إنك عندما تعيش هذه الازدواجية في موقفٍ ما، فإن هذه الازدواجية التي هي خُلق طارئ عندك تعني أنك يمكن أن تقول قولك اليوم وتفعل ما يناقضه غداً، ثم تقول قولاً آخر وتفعل ما يناقضه بعد غد، مما يعني أنك تتحرك في خط الضياع، فلا تجد نفسك التائهة، لأن الإنسان يجد نفسه حيث هو في العمق، وحيث هو في العقل، وحيث هو في القلب، وحيث هو في الكيان والإحساس والشعور، وعندما يتحرك ليعبّر عن نفسه بطريق ثم يعبر عنها بطريقة مناقضة أخرى فإنه يعيش القلق واللاإستقرار، وهكذا يبقى يتحرك في خط التناقض بحيث يصل إلى مرحلة لا يعرف فيها من هو عند نفسه قبل أن يفكر الآخرون به.
والخط الثاني الذي يمثل الخطورة أيضاً هو أنك عندما تباعد ما بين قولك وبين فعلك فإنك تخدع الناس في ذلك عندما يكون قولك، وهذا هو الغالب في دائرة الإيجاب وفعلك في دائرة السلب، بحيث يعطي قولك الناس أحلاماً ويعطيهم اطمئناناً وثقة، ولكن فعلك على العكس من ذلك، وبذلك فأنت تساهم في إضلال الناس عندما يتحركون مع أقوالك فتخدعهم بذلك، وعندما تأتي أفعالك لتناقض أقوالك يكون الناس قد وقعوا في التجربة الصعبة وهلكوا من حيث لا يعلمون.
التربية من أجل التوافق:
ولهذا ـ أيها الأحبة ـ لا بد لنا أن نربي أنفسنا على أساس أن يكون الصدق في العقل وفي القلب وفي الكلمة وفي العمل حيث يعيش الإنسان ليكون صدقاً كله، لا سيما وأن الإمام علي(ع) كان قد عرّف الإيمان بعناصر ثلاثة:
العنصر الأول: "الإيمان معرفة بالقلب ـ والقلب هنا العقل، فالقلب في القرآن الكريم يمثل طاقة الوعي في الإنسان التي قد تشمل القلب والعقل معاً بحسب المصطلح العام للقلب والعقل ـ وإقرار باللسان وعمل بالأركان"( )، يعني بالأعضاء، فأنت عندما تكفّ عن الصدق في أي جان فإنك تفقد إيمانك، لأن الإيمان كما ذكرنا أكثر من مرة ليس خفقة قلب وليس نبضة إحساس، بل هو كلّك، عقلك وقلبك وإحساسك وحركتك في الواقع.
ولذلك لا بد لنا أن نربي أنفسنا على أن نقول الحق وأن نجعل أفعالنا ما أمكن مطابقة لأقوالنا، بحيث إذا انحرف الفعل عن القول في موقف بادرنا إلى الرجوع إليه، وهذا هو الذي تحدّث به الله سبحانه وتعالى عن المتقين {إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون}( )، أي عندما يطوف بهم الشيطان فيبتعد بهم عن خط الاستقامة فإن طوافه بهم لا يطول كثيراً، لأن الوعي في الداخل يستيقظ ويفتح عينيه على الحقيقة ليدفع الإنسان إلى خط الاستقامة.
نموذجــــان:
ويحدثنا الله سبحانه وتعالى عن نموذجين من الناس من الذين يخالف فعلهم قولهم، ففي آية يقول كما ي سورة النساء {ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}( ) وهذا الزعم لا بد أن يتحرك من منطق القول، حيث يقولون نحن مؤمنون بالله وبرسوله وبرسالاته، والإيمان بالله وبالرسول وبالرسالات مما يفرض عليهم أن يسيروا في هذا الخط إلى النهاية {إن الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا}( ) على هذا الخط ولكنهم وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبل {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} والطاغوت هو كل نهج أو قوة أو خط يبتعد عن خط الله ورسوله.
فأنت عندما تكون مؤمناً فلا بد أن تتحاكم إلى الإيمان {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم} في كل ما اختلفوا فيه من شؤون العقيدة والشريعة والحياة {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً}( )، فمنطق الإيمان يفرض عليك أن يكون رسول الله بنفسه وبشريعته هو الحكم بينك وبين الآخرين، ولكنك تتحاكم إلى الطاغوت خطاً ومنهجاص وبرنامجاً وجهداً وشخصاً {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً}( ) عندما يربطهم في واقعهم العملي بأطماعهم وشهواتهم التي قد يجدونها لدى الطاغوت ولا يجدونها إذا كانت منحرفة وخبيثة عند الله ورسوله {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً}( ) لأنهم يتحركون في خط هذه الازدواجية بين القول وبين الفعل.
النموذج الآخر:
ونقرأ نموذجاً آخر أيضاً في دائرة الحكم، ولكنه بشكل يختلف عن هذه الصورة ويتبيّن أكثر تفصيلاً، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا} ويعلنون الطاعة {ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك} ثم يعرضون عن شعار الإيمان الذي أطلقوه وخط الإيمان الذي أعلنوا أنهم ينهجون فيه وإليه {وما أولئك بالمؤمنين}( )، لأن المؤمن لا يعرض عما يعلنه وعما يُقرّ ويعترف به {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريقٌ منهم معرضون}( ) لا يتجاوبون مع دعوة الله ورسوله {وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين}( ) فقد يبادر بعضهم ليذهب ويسأل بعض العلماء وبعض الفقهاء فيما لو كان هناك خلاف بين شخص وشخص لمن يكون الحق ولمن عليه الحق، فإذا عرف بأن الحق سوف يكون إلى جانبه فسوف يأتي مرحّباً بالحق {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} لكنهم عندما يعرفون أن الحق ليس معهم بل عليهم فإنهم يبتعدون عن الانسجام معه {أفي قلوبهم مرض} وهو مرض النفاق الذي يمثل الازدواجية بين الكلمة والفعل {أم ارتابوا} شكّوا في دينهم فوقفوا موقف الذي لا يدري هل هو على الحق أو على الباطل {أم يخافون أنيحيف الله عليهم ورسوله} أم أنهم يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم بالحكم {بل أولئك هم الظالمون}( ) الذين ظلموا أنفسهم وهذا هو الخط {إنما كان قول المؤمين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}( )، {ومن يطع الله ورسوله} وهذه هي القاعدة {ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}( ).
في الخطين الاجتماعي والعملي:
هذا هو الخط في الانسجام بين ما تؤمن به في عقلك وبين ما تتحرك به في حياتك، وعندما تنطلق في الفرعيات فإن عليك أن تلائم بين القول وبين الفعل حتى في بيتك، وذلك بأن لا تعد أولادك أو عيالك بأنك سوف تهيِّئ لهم كذا وكذا ثم يكون فعلك على خلاف ذلك.. وقد ورد في الحديث "إذا وعدتُم الصبيان ففوا لهم، فإنهم يرون أنكم الذين ترزقونهم"( )، وهكذا عندما تكون واعظاً مرشداً، فإن عليك أن تعمل قبل أن تقول كلمة الوعظ وكلمة الإرشاد، أن تعيشها في نفسك، وأن لا تتحرك بها من خلال أنها تمثل عقلك وإيمانك وأحساسك، لأن القضية هي أن بعض الناس قد يدخل الجنة بسببك وأنت تدخل النار، فإن "أشد الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره، ورجل وعظ أناساً بشيء فعملوا به فدخلوا الجنة ولم يعمل به فدخل النار"( ).
وهذا ما ينبغي أيضاً أن يأخذ به العاملون في الحقل الاجتماعي وفي الحقل السياسي وفي كل الحقول العامة، بأن يطلقوا الشعار والكلمة والوعد ليعملوا بعد ذلك على أن يكون الواقع الحركي صورة ما رفعوه من شعار أو لما وعدوا به من منهج وما إلى ذلك.
أيها الأحبة، أن نكون المؤمنين يعني أن نجسّد الإيمان في عقولنا فكرة وفي ألسنتنا كلمة وفي واقعنا حركة ومنهجاً، لأن ذلك هو الصدق، وقد قال الله لنا في محكم كتابه {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}( ) فلقد كانت كلمات رسول الله(ص) شريعة وسنة وديناً، وكان عمله شريعةً وسنّةً وديناً، وكان تقريره الناس على ما يراه ولا يعترض عليه شريعةً وسنةً وديناً، فعلى كل واحد منا أن يكون، وهذه مرتبة عظيمة تحتاج إلى الكثير من جهاد النفس ومن المعاناة ـ أسلاماً يتحرك ـ وأن ينطق بعمله قبل لسانه {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثالثة عشرة: 13 شعبان 1418هـ الموافق 13 - 12 – 1997م
في ذكرى مولد الإمام المهدي(ع)
معطيات الغَيبَة
"حركتنا في أسلمة العالم
لا تتجمّد بانتظار أن يغيّر الإمام العالم إسلامياً"
ـ مولد الإمام المنتظر(عج).
ـ الإيمان بالمهدي(ع).
ـ طول العمر.
ـ دورنا في الغيبة.
ـ هل نجمّد الإسلام؟.
ـ دراسة الساحة.
ـ شمولية الإسلام.
ـ العدل الشامل.
ـ العدل على صعيد الحركات.
ـ الدعوة إلى الانفتاح.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
مولد الإمام المنتظر(عج):
نلتقي في الخامس عشر من شهر شعبان بمناسبة ذكرى ولادة الإمام الحجة المهدي(عج) ونحن أمام مسألة إسلامية يلتقي المسلمون عليها وإن حاول بعض المسلمين في السنين المتأخرة بفعل وضع سياسي معين في منطقة معينة أن يطلقوا الحديث حول إنكار مسألة المهدي، ولكنها مما تواتر الحديث فيه عند المسلمين جميعاً وإن اختلفوا في بعض التفاصيل في أنه هل ولد، وهو ما يلتقي عليه الإمامية الإثنا عشرية، أو لم يولد، وهو ما يذهب إليه غالبية المسلمين من أهل السنّة، وقد نقل المرحوم السيد (محسن الأمين) في كتابه (أعيان الشيعة) أنه هناك من علماء السنّة من يقول أنه ولد، ويلتقي مع الشيعة في اسمه واسم أبيه.
الإيمان بالمهدي:
ونحن نؤمن بالمهدوية لأن الصادق المصدّق الذي جاء بالصدق وصدّق به، أخبرنا بذلك في خطين من الحديث: حديث الثقلين الذي يقول: "إني مخلّف فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما تمسكتُم بهما، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"( )، ويستوحي الكثير من العلماء من هذا الحديث أنه في كل وقت يكون الكتاب فيه موجوداً، وهو موجود على مدى الزمن، لا بد أن يكون هناك شخص من العترة موجود معه بفعل الحديث عن عدم الافتراق.
وهناك حديث أيضاً يرويه الفريقان "لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله تعالى رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي وكنيته كنيتي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"( ).
غيب من غيب الله:
وعلى أية حال فإن قضية الإمام(عج) غيب من غيب الله على أساس عقيدة الإمامية في المسألة باعتبار طول الزمن وضبابية التفسيرات في هذا المجال، أو في غير عقيدة الإمامية، لأن مسألة أن يظهر شخص ينشر العدل ليكون عالمياً هي مسألة غيب وليست مسألة عادية، فهي غيب من غيب الله تعالى علينا أن نرجع أمره إليه في طبيعة أحداثه، فالله هو القادر عل كل شيء وهو الذي يختص برحمته من يشاء.. ولذل تبقى التفسيرات لغيبته عاجزة عن إدراك الواقع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
طول العمر:
أما مسألة طول العمر فلا يثبت استبعادها أمام النقد، لأن التاريخ الديني والقرآني بشكل خاص يحدثنا عن نوع(ع) أنه عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً مع قومه، وربما عاش بعد ذلك طويلاً لأن القرآن لم يحدثنا عن نوح بعد الطوفان، وإذا أمكن للإنسان أن يعيش ألف سنة فلماذا لا يمكن أن يعيش ألفي سنة أو أكثر من ذلك، كما أن العلم فيما يتحدث فيه العلماء الآن لا يمانع من أن يعيش الإنسان آلاف السنين إذا اكتشف سرّ تجدد الخلايات، لذلك فالمسألة من ناحية التأريخ الديني ومن ناحية الحكم العقلي من حيث الإمكان والاستحالة ومن حيث الإمكان العلمي فيما يعرفه العلم أو فيما يفرضه من فرضيات هي من المسائل التي لا مشكلة فيها من هذه الجهة.
دورنا في الغيبة:
إنّ علينا أمام هذه القضية أن ندرس ما هو دورنا؟ فكما قلنا إنّ دور الإمام المهدي(ع) رساليّ غيبيّ، ولسوف يظهر ليقدم لنا إسلاماً أصيلاً واضحاً لا لبس فيه ولا مجال فيه لاختلاف المذاهب وتنوّع الاجتهادات، حتى يخيل للناس كما ورد في بعض الأحاديث أنه جاء بدين جديد وليس بعد رسول الله(ص) دين جديد كما يؤكد القرآن الكريم ذلك {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}( )، وفي الحديث "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة"( )، فلا يملك أحد أن يبدّل أو يغير، لكن ابتعاد الناس عن الإسلام واختلاف الاجتهادات التي أضاعت الكثير من ملامح الإسلام تدعو إلى الحاجة لمثل الإمام المعصوم ليعيد الأمور إلى نصابها، لأنك عندما تجد في مسألة واحدة عشرة آراء أو أكثر فلا يمكن أن تحكم بكونها كلها إسلاماً، إذ لا بد أن يكون بعضها أو واحداً منها إسلاماً ويكون الباقي بعيداً عن الإسلام لأن حقيقة الإسلام واحدة.
فعندما يعيش الناس في كل هذا المدى الطويل إسلام المذاهب وإسلام المجتهدين فقد يبتعدون عن الصورة المشرقة الوضيئةللإسلام المحمدي الأصيل، لذلك يخيّل للإنسان أن ما يراه هو دين جديد، وإن كنا نستغرب مثل هذا التعبير ولا نتبنّاه، ولكن فيما يخيّل للناس في هذه الأيام وفي غيرها عندما يرون بعض الفتاوى التي لم يألفها الناس فيما هو مشهور الفقهاء، فإنهم يقولون إن هذا فقه جديد وهو ليس فقهاً جديداً ولكنه فهم جديد للفقه، وثمة فرق بين أن تأتي بفقه جديد لم يكن في عهد الرسالة، وبين أن تأتي بفهم جديد للفقه الذي كان في عهد الرسالة.
هل نجمِّد الإسلام؟
فما هو دورنا في هذا المجال، هل نجمّد كل الإسلام ونجمّد كل الحركة ونصادر كل أحلامنا ومشاريعنا في التغيير لأنه سيأتي يوم يتغير فيه العالم كل العالم، هل نطرح شعارنا في أسلمة العالم على أساس أنه سيأتي شخص مميز سوف يملأ العالم إسلاماً؟
إن القرآن يرفض ذلك، لأن الله تعالى لم يوقّت الدعوة إلى الله بوقت، ولم يوقّت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوقت، ولم يوقّت الجهاد بوقت، ذلك أن الناس بأجمعهم مسؤولون عن الإسلام كله بأن يحملوه أمانة في أعناقهم، أمانة من الله وأمانة من رسول الله {أفإن مات أو قُتِل انقلبتُم على أعقابكم}( ) بل لا بد لكم أن تستمروا وتتابعوا المسيرة جيلاً بعد جيل {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}( ).
لذلك ـ أيها الأحبة ـ في مرحلته التي ينتظرها العالم سيكون دوره هو هذا، وإذا بلغنا ذلك الزمن فإن دورنا يكون على هامش دوره لنكون من جنوده ومن أنصاره، أما الآن فإن دوره في مدى الزمن لا يلغي دورنا الراهن، بل لا بد أن نؤكد ولا بد أن نأخذ من هذا الوعد الإلهي بأن العدل في خط الإسلام سوف يشمل العالم وأن نأخذ من ذلك فكرة واقعية في أن نتحرك من أجل العدل ومن أجل الإسلام.
وقد يكون هناك فرق بين تلك المرحلة من حيث الشمولية في إسلام العدل أو عدل الإسلام العالمي، لكن المسألة على مستوى الجزئيات تصبح ممكنة، لأن الإنسان هو الإنسان، فالإنسان هناك سوف يفتح الله عقله وقلبه وربما يصل إلى مرحلة، من خلال تتابع الحضارات ومن خلال تطور العلم ومن خلال اتساع المعرفة، إلى المستوى الفكري والروحي، بحيث تنفتح الحقيقة أمامه دون ضباب، وربما يكون إنسان تلك المرحلة مميزاً وليس من الضروري أن يكون كل الإنسان كذلك، ولكن علينا أن نفهم من خلال الانتصار الشامل أن هناك قسماً كبيراً من الناس يبلغ درجة من الوعي والمعرفة والعقل بالمستوى الذي يستطيع فيه أن يدرك الحقيقة، وإذا كان إنساننا الآن لا يملك هذا الأفق الواسع من معرفة الحقيقة لأن هناك ضباباً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً وغرائزياً يمكن أن يحجب الحقيقة عن الإنسان، فإن هناك أكثر من نافذة في عقل الإنسان على المعرفة، فإذا أحسنّا فتحها والإطلالة منها وتحريك الإنسان نحوها كان من الممكن جداً أن نصنع إسلاماً ضمن منطقة أو ضمن مجموعة أو في محور وما إلى ذلك.
وأمامنا تجربة رسول الله(ص) الذيعاش الدعوة من خلال بشريته، فقد حرّكها بطاقاته البشرية ولم يحرّكها بطريقة غيبية وإن كان الغيب قد أطل عليه بين فترة وأخرى ليحمي الله المسيرة عندما تتعرض للخطر كما في (بدر) ولكنه نجح في أن يفتح العالم على الإسلام وإن لم يستطع بقدرته البشرية أن يستكمل التجربة ليكون العالم كله مسلماً.. لذلك قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة}( )، فلقد دعا رسول الله(ص) بالوسائل الإنسانية وجاهد بالوسائل المتوفرة لديه مما يتوفر لدينا مثلها أو أكثر منها.
دراسة الساحة:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ يتمثل دورنا في هذه المرحلة من حياتنا بأن نقف في الساحة لندرسها في كل مواقعها، ساحة الإنسان وساحة التحديات وساحة الصراع لندخلها مسلمين بكل السلاح الذي تفرضه علينا هذه المرحلة، وعلينا ونحن نتطلّع إلى القمّة الواقعية للإسلام أن نسعى إليها بكل جهدنا، وعلينا أن نعرف أن الله أنزل كل الرسالات لا لتطبق في زمان النبي(ص) فقط، فكل نبي دعا وجاهد وعانى وتألم واستطاع أن يحصل على مجموعة من المؤمنين في زمانه ثم اتسعت دعوته وأخذت حجماً معيناً، لكنها لم تلغِ الكفر ولم تلغِ الانحراف ولم تلغِ الاستكبار.
ولذلك نقول أن الله تعلى أرسل رسالاته لتكون للإنسان قمة يتطلع إيها ويحاول كل جيل أن يزحف إليها ويقترب منها، وقد أراد الله للبشرية أن تصل إلى مرحلة تطبّق فيها كل رسالة الإسلام التي تجمّعت كل الرسالات في داخلها وهي مرحلة الظهور، التي أراد الله للحياة أن لا تغيب عن الدنيا قبل أن تطبّق الرسالة بالكامل.. وقال لنا لا تعتبروا الإسلام الذي أنزلته عليكم ديناً مثالياً بحيث يبقى مجرد حلم كبير تحلمون أنه قد يتحقق، ولكنه لن يتحقق، أو مجرد قمة تتطلعون إليها في الأعالي دون أن تستطيعوا بلوغها، ولكنه واقعي في أحكامه وفي حلوله لمشاكل الإنسان، ولن يبلغ هذه الفعلية في الواقعية إلا إذا توفرت الظروف الموضوعية.
لذلك عليكم وأنتم تتحركون في خط المسيرة أن توفروا ظرفاً موضوعياً هنا ليدخل الناس في الإسلام، وظرفاً موضوعياً هناك ليعيش الناس الإسلام، وأن تعملوا على أن تفهموا الإسلام في كل جيل من الأجيال، لأن فهم الإسلام مسؤولية الجميع.
شمولية الإسلام:
لهذا ـ أيها الأحبة ـ فإن دورنا في هذه المرحلة هو أن نستوحي من هذه الشمولية الواقعية الفعلية للإسلام في المرحلة التي سيظهر فيها الإمام(ص) وذلك بأن يظل الواحد منا سائراً بهذا الاتجاه ليكون ارتباطه بهذه النتيجة الحاسمة الشاملة ارتباطاً طبيعياً تماماً كما هي السواقي التي تنطلق من هنا وهناك لتؤلف النهر الكبير، والذي عندما تهطل الأمطار بعد ذلك تملؤه بما لم تستطع السواقي أن تملأه.. لذلك فلا ينبغي أن نتخذّر بالمستقبل ولا ينبغي أن نتجمّد من خلال الضغوط والمشاكل التي تحيط بنا، بل لا بد أن نبدع الفكرة في الخط الاجتهادي السليم، والحركة في التجربة الإسلامية الرائدة، وأن نبدع في فهم الواقع لأن من لم يفهم الواقع لا يستطيع أن يتحرك في خط الاستقامة، ولعل مشكلة الكثيرين من الذين ينظّرون أو من الذين يجتهدون أو من الذين يتحركون أنهم يحدّقون في الكتاب ـ اي كتاب ـ أكثر مما يحدّقون في الواقع، فيما الكتاب كتبه أناس عاشوا الواقع من خلال ظروفهم، فلماذا لا ندرس كتاب الواقع من أجل أن نصنع للمستقبل كتاباً جديداً ينطلق من تجربة جديدة.
العدل الشامل:
إذاً فلنتفق بأن علينا أن نتحرك في كل الاتجاهات بوعي ويقظة وشجاعة وتخطيط.. ثم هناك عنوان كبير وهو العدل الشامل الذي يشير الحديث إليه "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً"( )، ومعنى ذلك أن العدل الشامل هو هدف للحياة كلها، وهو في الوقت نفسه خط الإسلام.. وإذا استنطقنا الآية التي نقرأها دائماً في سورة الحديد {لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}( )، والقسط هو العدل، فمنذ آدم حتى نبينا محمد(ص) كانت الرسالات حركة عدل، عدل في العقيدة وفي الشريعة وفي المفاهيم، وفي الواقع في علاقة الإنسان بنفسه وبربه وبالناس من حوله وبالحياة، نرى أن مسألة العدل هي مسألة القاعدة التي يرتكز عليها الإسلام، ولا بد أن نحمله في أنفسنا فيعدل الإنسان مع نفسه فلا يظلم نفسه بالكفر والانحلال والانحراف، وأن يعدل مع ربه فيوحّده ولا يشرك به شيئاً ويطيعه ولا يعصيه، والعدل مع الناس فلا يظلم أحداً، والعدل مع الحياة فلا يبغي في الأرض بغير الحق، وأن يتحرك العدل في حياتنا كشعار ننطلق به في كل مواقعنا بأن نعيش العدل في أنفسنا وفي علاقاتنا مع بعضنا البعض وفي علاقاتنا بالواقع.
ولعل مشكلة أكثر الحركات الإسلامية وغير الإسلامية مما يتحرك في عملية التغيير السياسي أنهم يطرحون العدل السياسي في مستوى الحكم ولا يطرحون العدل الفردي والعدل الاجتماعي، ونحن نعرف أن العدل الفردي يؤسس للعدل الاجتماعي، والعدل الاجتماعي يؤسس للعدل السياسي، لأن مسألة التغيير هي مسألة الإنسان {إن الله لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم}، فإذا لم تغير نفسك لمصلحة العدل فكيف يمكن أن يتغير الواقع، فأنت في الحقيقة صانع الواقع، لأن الله أوكل إليك مهمة صنعه، ولأن الله أراد للإنسان وهو خليفته في الأرض أن يرتب الأرض بحسب قدرته وإرادته ووعيه على الخط الذي أراده في رسالاته.
العدل على صعيد الحركات:
أتعرفون ـ أيها الأحبة ـ لماذا لم تنجح أكثر الدعوات الإسلامية وأكثر الدعوات غير الإسلامية، سواء الإصلاحية أو التغييرية؟! لأن الذين يطلقونها ليسوا عادلين، ولأنهم يعيشون العصبية الشخصية وإذا تجاوزوا العصبية الشخصية، فإنهم يعيشون العصبية الفئوية، فبدلاً من أن تنطلق الحركة لتنفتح على الناس كلهم لأنهم هم مسؤوليتها فإنها تنغلق على نفسها وتعتبر نفسها العنصر المميز الذي ينظر إلى الناس من فوق، والذي يبدأ وهو يحدّق في داخله في التآكل من الداخل لسبب بسيط وهو أن الإنسان عندما يمنع غرفة من تنسّم الهواء فإن الغرفة تبدأ بالتعفّن، وإذا منعت نفسك من أن تتنفس الهواء في الفضاء الواسع وعشت في داخل زاوية ضيقة من نفسك، فإنك سوف تتعفّن، وهكذا تتعفّن حركتك وسوف يتعفّن واقعك..
وعلى هذا فلا بد لنا دائماً كأفراد وجماعات وحركات من أن نعيش في الهواء الطلق وأن لا نحبس أنفسنا في زاوية شخصانية أو في زاوية فئوية أو في زاوية عائلية أو في زاوية طائفية أو مذهبية، بل أن ننفتح على الهواء الطلق لنكون للناس كلهم، ولنكون للإسلام كله ولنكون للإنسان كله، فانظر إلى الإسلام كله واختر مذهبك من الإسلام.
الدعوة إلى الانفتاح:
لهذا ـ أيها الأحبة ـ إذا أردنا للواقع أن يتغيّر فعلينا أن نخرج أفكارنا وعواطفنا ومشاعرنا من هذه الزنزانة الضيقة.. أتعرفون لماذا يملأ الإمام الأرض قسطاً وعدلاً؟ لأن عقله سوف يكون عقل العالم ولأن قلبه سوف يكون مفتوحاً للعالم، ولأن حركته لن تتجمّد في زاوية عرقية أو إقليمية أو قومية أو ما إلى ذلك، بل تكون للإنسان كله، فالله ربّ العالمين، والرسول رسول للعالمين، ولإمام إمام للعالمين، ولا بد أن يكون المصلح للعالمين جميعاً، وعندما تقرأون كلمة ربّ العالمين عليكم أن تعرفوا أن الله إذا كان يطلّ برحمته وبعفوه وبكرمه وعطائه على العالمين جميعاً فالحديث الشريف يقول: "تخلّقوا بأخلاق الله"( ).
لتكن رحمتنا للعالمين، وحركتنا للعالمين، وتفكيرنا بآلام العالمين، وإذا استطعت أن تحصل على هذا الأفق الواسع فسوف تحل مشكلة عالمك الصغير هنا وعالمك الصغير هناك، لأنها لن تحلّ، لا سيما في هذه الأزمنة، مشكلة شعب إذا لم تحل مشكلة الإنسان كله، لأن المشاكل أصبحت مترابطة والعالم قرية واحدة، لذلك إذا كنت تريد أن تكون مسلماً في حجم ما عاشه رسول الله(ص) فتذكر قوله تعالى {وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً}( )، وقوله: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}( )، إذا كنت تريد أن تعيش ذلك فكن إنسان العالم الذي يفكر بحجم العالم بمستوى قدرته من أجل أسلمة العالم بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد بحجم الظروف.
أيها الأحبة، الساحة مفتوحة للجميع وهي تتحرك في الهواء الطلق وفي إشراقة الشمس، فلا تحبسوا أنفسكم في الغرف المغلقة، ولا تحبسوا عقولكم في الزنزانات الضيقة، ولا تحبسوا قلوبكم في الأحقاد القاسية لأن الله أعطانا شمساً مشرقة، شمساً تشرق علينا بالنور لتضيء لنا الأرض، وشمساً هي رسول الله(ص) تشرق بالإسلام، فعلينا أن تابع تلك الشمس المعنوية لنعيش معها الدفء والنور والحرارة ولننطلق مع هذا الهواء الصافي النقي، هواء الرسالة.. فلعلنا نعدّ أنفسنا لنكون من أنصار المسيرة الكبرى التي يرسم معالمها الدعاء الذي ندعوه دائماً في شهر رمضان في (دعاء الافتتاح) "اللهم إنا نرغم إليك في دولةٍ كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك ـ أن يكون كل واحد منا داعية ـ والقادة إلى سبيلك ـ أن يصنع كل واحد من نفسه مشروع قائد ـ وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة"( ).
أيها الأحبة: هذا هو الطريق ومن هنا المنطلق وإلى الله المسير، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الرابعة عشرة: 21 شعبان 1418هـ الموافق 20 - 12 – 1997م
المجاملة في الدين
"علينا أن لا نجامل أحداً في الدين مهما كانت صلة القربى، لأننا مسؤولون مسؤولية فردية يوم القيامة"
ـ في القيامة: المسؤولية فردية.
ـ لا أنساب يومئذٍ.
ـ العصبية.
ـ الحالة الصنمية.
ـ راقبوا الله.
ـ تزيين الشيطان.
ـ هاجس الموت.
ـ رضوان الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
ونبقى في حديث الإيمان، لأنقضيتنا دائماً هي كيف نحوّل الإيمان من كلمة إلى موقف، وكيف نحوّل الموقف إلى عمق في الوجدان وعمق في الشخصية، وحديث القرآن في ذلك، حديث يطوف بنا في أكثر من موقع في لدنيا والآخرة ليشير إل المؤمن كيف يمكن أن يستوحي من الخطاب القرآني ما يعمِّق إحساسه بمفهوم إيماني هنا ومفهوم إيماني هناك.
في الآية التي نريد أن نبدأ بها الحديث تأكيد على أن المسؤولية فردية أمام الله، فالإنسان عندما يقف أمام الله فإن عليه أن يحسب أن لا أحد معه حتى الأقرب، وأي قربى أقرب من قربى الأب لولده والولد لأبيه، حتى أن مسألة القرابات والصداقات قد يلمّ بها الإنسان في حياته لتحكم حركة علاقاته، فيما يريد الله للإنسان أن يتحرك به في هذه العلاقات.
ولكن عندما تكون أنت نفسك مؤمناً أو كافراً في فكرك وفي عملك وكلامك من عملك، فيما يتحرك في خط الاستقامة أو الانحراف، فأنت وحدك في لقائك بالله يوم القيامة، وهو وحده {يا أيها الذين آمنوا} وهو يؤكد هنا على خط التقوى الذي يختزن الإيمان {اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً}( )، فإن هناك تقطّعاً في صلات القربى عندما تتعلق المسألة بالمسؤولية، ولقد عبّر القرآن عن هذا المعنى بأكثر من آية ومنها قوله تعالى: {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون}( )، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}( )، وقوله: {وكلّهم آتيه يوم القيامة فرداً}( )، وقوله: {يوم تأتي كلُّ نفسٍ تجادل عن نفسها}( )، وقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يُرى}( )، وقوله عزّ وجل: {ولا تزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى}( ).
إن حقيقة هذا المعنى أو هذه الفكرة هي حقيقة إيمانية ولكن ما هي إيحاءاتها في حركتنا في الواقع.. إن إيحاءات هذه الفكرة الإيمانية تلخص في أن لا تجامل احداً في الدين، سواء كان هذا الإنسان أباك أو أخاك أو صديقك.
لا أنسابَ يومئذٍ:
ولربما تفرض عليك هذه العلاقات أن تقدم تنازلاً من مالك، أو تقدم تنازلاً من مزاجك أو تقدم تنازلاً من بعض أوضاعك، أما أن تقدم تنازلاً من دينك فتشهد لمصلحة من لا حق له لأنه قريبك، أ تشهد على إنسان له الحق لمصلحة صديقك، أو تتخذ موقفاً مؤيداً لمشروع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي لأن صاحب المشروع يتصل بك بصلة القربى أو بصلة الصداقة، فإن هذه الآية تقول لك عندما تتحرك في الحياة فعليك دائماً أن تراقب في حركتك موقفك ذلك اليوم فلا تنظر إلى الواقع الاجتماعي من حولك كيف تراقبه وكيف تجامله، ولكن راقب موقفك وأنت في اللامجتمع، فحتى المجتمع في يوم القيامة ـ والله يحشر الناس كلهم هناك ـ حتى المجتمع يفقد صفته الاجتماعية هناك، لأن المسألة هي أن كل واحد يعيش فرديته ي حساب المسؤولية، وذها ما عبّرت عنه الآيات {فلا أنساب بينهم يومئذٍ}.
وهكذا عندما يحدثنا الله عن أجواء القيامة، فإننا نستوحي من ذلك وجود مجتمع متضامن تبقى علاقاته اتي كانت في الدنيا لتمتد إلى الآخرة وهو مجتمع المتقين، لأن العلاقة في الدنيا قد انطلقت من خلال الآخرة ولأنها ارتكزت على أساس العلاقة بالله {الأخلاّء يومئذٍ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين}( ) فالمتقون يتلاقون ويعيشون في جو متضامن إذا صحّ التعبير عن العلاقة آنذاك لأن الحب كان في الله، ولأن البغض كان في الله ولم تكن الصداقة صداقة ذات تبحث عن علاقة مع الذات، ولكنها كانت علاقة إيمانٍ يبحث عن إيمانٍ يتكامل معه ويقوى به ويقويه.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ إن علينا أن نفكّر في هدي هذه الآية، ذلك أن قضية أن يجامل الوالد ولده في معصية الله، أو أن يجامل الولد والده في معصية الله، فهذه قضية ليست واردة في الحساب، وقضية إبراهيم(ع) بكل تلك العاطفة التي كان يعيشها إبراهيم هي أنه عندما انطلق وجرّب وحاول أن يفجّر الإيمان في قلب أبيه ورأى أن التجربة قد فشلت في ذلك {فلمّا تبيّن له أنه عدوّ الله تبرأ منه}( ).
وهكذا رأينا مثلاً آخر في قصة إبراهيم(ع) مع ولده فإن ما أوحى الله إليه كان يهز عاطفته في الأعماق، وأيّ جرح للعاطفة وأي شكل للعاطفة أعظم وأقسى من أن يكلف الأب في أن يقدّم ولده للحرب، ولكن أن يذبحه وأن يكلف الولد لا أن يدخل في معركة قد يقتل فيها او قد ينجو منها، ولكن أن يقدم نفسه للذبح، ولذلك ـ ففي قصة إبراهيم وإسماعيل ـ لم تكن هناك علاقة أب وابن ولم يكن هناك للعاطفة دور، ولكن المسألة كانت أن هناك مؤمناً رسولاً أوحى الله إليه بالذبح، وأن هناك مؤمناً عرف وحي الله فيما يتعلق بحياته واستسلما لله.
العصبيــــة:
وهذه مسألة ـ أيها الأحبة ـ قد نحتاجها في حياتنا السياسية وفي حياتنا الاجتماعية وفي أكثر من لون من ألوان الحياة عندما نلتقي بالعصبية الكامنة في أعماقنا، فنحن لا سيما في الشرق عاطفيون والعاطفة ليست شيئاً طارئاً في حياتنا، والعاطفة أمرٌ مقدس، فليس سلبياً أن تكون لك عاطفة بل السلبية أن لا تكون لك عاطفة، لأن الله يذمّ قسوة القلب، ولكن المسألة هي أن العاطفة عندما تتحول إلى عصبية وعندما تتحجّر فلا تكون مجرد نبضة قلب وخفقة إحساس وعندما تتحول العاطفة إلى موقف ضد مبادئك، وعندما تتحول إلى حركة في طريقك، وعندما تسيء إلى الهدف فإنها عاطفة مرفوضة.
إن الكثير من الناس متعصبون عاطفياً، أما الإنسان المفكر فلا يمكن أن يكون متعصباً، ذلك أن العصبية لا تقترب من الفكر بل هي أن تغمض عينيك وتتحرك، أما الفكر فهو أن تلتزم بفكرك، ولكنك تظل مفتوح العينين تتأمل في فكرك دائماً، فلعلك تكتشف فيه بعض الخطأ وتتأمل في فكر الآخر فلعلك تجد فيه بعض الضوء الذي يثير لك بعض الظلمات التي تواجهها في فكرك.. إننا متعصبون نتعصب للشخص ونتعصّب للطائفة ونتعصّب للحزب ونتعصّب للعشيرة ونتعصب للذات.
الحالة الصنمية:
أيها الأحبة، إن هذه حالة صنمية لأنك تحوّل من تتعصب له إلى وثن تعبده، وقد لا يكون هو وثناً ولكن إحساسك بعلاقتك به تشبه الوثنية، ولقد كان المشركون يتعبّدون للملائكة والملائكة براء من ذلك، لكن نفس هذا الاستغراق في الذات يمثل نوعاً من أنواع الصنمية، لأنك لا تفكر بالشخص الذي تتعصب له من خلال ما يمثل من قيمة، ولكنك تتعصب له من خلال ما يمثل من جانب الذات، وهكذا بالنسبة إلى الطائفة التي تنطلق من خلال قيم ومبادئ ومفاهيم، ولكنك قد تبدأ من هذه القيم تم تتحول بعد ذلك إلى أن تبتعد عن كل ما في الطائفة من قيم ليكون موقفك أنك تتعصب لمجموعة بشرية ولمجتمع بشري بعيداً عن خط الاستقامة والانحراف كما يروى عن الإمام علي بن الحسين(ع): "العصبية التي يأثم عيها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"( ).
إنك عندما تتعصب لقومك حتى لو كانوا منحرفين، وحتى لو كانوا مبتعدين عن العنوان الذي أعطاهم معنى القيمة فإنك تأثم، لذلك فإن أول ما ينبغي للمؤمن عمله إذا كان يخاف الله ويخشى ذلك اليوم أن يعرف أن من يتعصب له لن ينفعه يوم القيامة، وأن عليه أن يخفف تعصبه، وقد كررنا كلامنا في هذه الندوة وفي غيرها أن هناك فرقاً بين التعصب والالتزام، التعصب أعمى والالتزام مبصر، التعصب يغلق عقلك وقلبك عن الآخر، والالتزام ينفتح على الآخر حتى لو اختلف معه.. التعصب ينطلق من خلال عبودية لمن تتعصب له وحقد ضد من تتعصب عليه، والالتزام يبقى مع الفكر ويلتزم مع من التزم به في خط الفكر، ويختلف مع الآخر وهو يدرس فكره من خلال حوار الفكر.. وربما كانت مشكلتنا في الوسط الديني السياسي الاجتماعي هي هذه العصبية التي تغلق عقلك عن عقول الآخرين، وتغلق قلبك عن قلوب الآخرين وتجعلك إنساناً يتحرك كما لو كان وحده.
راقبوا الله:
وهذه نقطة لا بد أن نعيشها في كل لحظاتنا {يا أيها الناس اتقوا ربكم} وهي مراقبة الله تعالى.. راقبوه واحسبوا حسابه، عيشوا حضوره لأن حضوره هو أعمق من كل حضور، ولأن حضوره أوضح من كل حضور، فهو الحاضر أبداً بكل عمق والحاضرون غائبون، ولذلك نحتاج إلى الخوف منه "خف الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك"( ) راقب ربك واحسب حسابه وخفّ ذلك اليوم العصيب لأنه اليوم الذي تواجه فيه نتائج المسؤولية {لا يجزي والد عن ولده} بالرغم من عمق العلاقة بين الولد وبين الوالد وبالرغم من كل التضحية التي يقدمها الوالد اتجاه ولده {ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} ولا تهتز ثقتكم بيوم القيامة {إن وعد الله حق} فسيأتي إن عاجلاً أو آجلاً، وكل من سبقك من أهلك وأصدقائك هم رسول الله إليك، فلقد انطلقوا نحو هذا الوعد وعليك أن تنطلق نحوه {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً}، {إن وعد الله حق فلا تغرنّكم الحياة الدنيا}، بكل شهواتها وبكل أطماعها وبكل أشغالها، لا تخدعكم فيخيل إليكم أنها السعادة وأنها الخلود، لأن الحياة الدنيا تمثل مرحلة، وهذه المرحلة تمثل فرصة بأن تراقبوا مسؤولياتكم في كل طاقاتكم التي تملكونها.
تزيين الشيطان:
{ولا يغرنّكم بالله الغرور}( ) وهو اشيطان الذي يزيّن لكم ويحسّن لكم القبيح ويقبّح لكم الحسن، لأنه يريد أن يجركم إلى عذاب السعير {ولا يغرنّكم بالله الغرور}، وقد حدثنا الله عنه في أكثر من آية، حدثنا عن شيطان الأنس وعن شيطان الجن {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفُر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين}( )، {ويوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً* يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً* لق أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا}( )، وهذه تجربة عاشها الناس من قبلنا {ولقد اضلّ منك جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون}( ) فعلينا نحن أيضاً أن نواجهها.
علّم الإنسان:
{وأنّ الله عنده علم الساعة} فهو الذي يعلمها لأنه هو الذي قدّرها، وهو الذي يعلم الذين يحشرون إلى الساحة، لأنه هو الذي خلقهم وينزل الغيب، فالله هو الذي يعطينا الحياة {وجعلنا من الماء كل شيءٍ حيّ} ، {ويعلم ما في الأرحام}، لأنه هو الذي أودع ما في الأرحام.
وقد يتساءل البعض عن أن بعض الناس قد يعلم الساعة إذا فسّرنا الساعة بالموت، وقد يخلق بعض الظروف التي تنزل الغيث {ويعلم ما في الأرحام} وقد يخبر الإنسان عما في الأرحام ولكنه يعلمه من خلال ما ألهمه الله من العلم، إنه يعلمه بالوسائل التي وضعها الله تعالى والتي ألهمهم إياها، أما رب العزّة فإنه يعلمه من خلال ذلك كله فهو الذي خلقه وهو الذي صنعه. أما نحن فعلمنا بما في الأرحام من خلال الوسائل الي هيّأها الله لنا. وأما إنزالنا الغيث كما في المطر الصناعي فهو ليس إنزالاً للغيث ولكنه يحصل في بعض الحالات من خلال بعض الأجهزة أو بعض الأشياء التي هي خلق الله، ومن خلال خلق الله يتحرك هذا الواقع، ونحن نعرف ـ أيها الأحبة ـ أن الله أطلع الإنسان على بعض القوانين التي أودعها في عالم السببية، فإذا اكتشف الإنسان هذه القوانين واستطاع أن يصنّعها بما مكّنه من فكر فإنه يكون منسجماً مع ما أودعه فيه من القوانين ولا يكون خالقاً لها.
هاجس الموت:
{وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً}( )، فلا بد للإنسان من أن يعيش الهاجس بأن الموت يمكن أن يأتيه في كل لحظة، وقد يفكر بعض الناس أننا عندما نستحضر الموت فقد تتعطل الحياة، لأن من يفكّر بالموت كيف يعمّر الحياة، ولكن الله أراد لك أن تفكّر بالموت لتعرف كيف تواجه الحياة بمسؤولية ولتعرف كيف تتحرك مسؤولياتك بدقّة وحذر.
وقد دعا الإمام علي(ع) وهو العارفل بالقرآن الذي لم يعرفه أحدٌ مثله إلا رسول الله(ص) لأنه هو الذي علّمه فهو أستاذه "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ـ إن الله كلفك أن تعمّر الدنيا وجعلك خليفته بكل ما لكلمة الخلافة من سعة تتسع لعمران الدنيا وعمران أهلها، وأراد لك أن تبقى بهذا الاتجاه، ولكن إذا فكّرت في المسؤولية وفي حركة الدنيا في خط الآخرة على أساس {وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا}( )، فلا تستغرق في الدنيا استغراق الذي يعتبرها نهاية المطاف، بل خُذ منها حاجتك، وإذا كانت حاجتك أن تعمّر فهذا نصيبك من الدنيا، وإذا كانت حاجتك من الدنيا أن تتحرك وأن تجاهد فهذا نصيبك من الدنيا، ولكن عندما تحرّك نصيبك من الدنيا أعطِ الدنيا معنى الآخرة في معنى المسؤولية وفي معنى تقوى الله ـ واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".
وهذا هو الذي يتحرك في خط التوازن في المفاهيم الإسلامية بين أن تعيش الأمل من خلال حركتك في الحياة، وأن تعيش التقوى ومراقبة الله في كل مفردات هذا الأمر {وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت} إن الله عليم بكل ما في الكون، عليم بسرّكم وعلانيتكم، وخبير بما يحدث لكم، وإذا انطلقتم في هذا الاتجاه فهناك الوعي الذي لا بد لكم أن تعيشوه في كل مسؤوليتكم، وذكر الله الذي لا بد أن يفارقكم، وهناك أن يصبح كل إنسان وتوبته معه، وأن يمسي وتوبته معه، لأنه لا يدري مع اصباح هل يمسي عليه المساء ولا يدري مع المساء هل يصبح عليه الصباح، كم من أهلنا وأصدقائنا ومعارفنا من عاشوا في المساء ولم يصبحوا، ومن عاشوا في الصباح ولم يمسوا.
رضوان الله تعالى:
أيها الأحبة، بعضاً من الوعي، بعضاً من التقوى، بعضاً من الإحساس بمعنى هذه الإنسانية التي لا تكبر إلا عندما تمتلئ بالله وبدين الله، ولا تعيشوا السعادة إلا من خلال الإحساس برضوان الله تعالى، ورضوان الله في الآخرة هو السعادة، فالله حدّثنا عن الجنة وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ به الأعين، فقال: {ورضوان من الله أكبر}( )، وهذا ما عبّر عنه في سورة الفجر حيث أنه قدّم الرضا على الجنة {يا أيتها النفس المطمئنة* ارجعي إلى ربّك راضيةً ـ بالله ـ مرضيّة* ـ عند الله ـ فادخُلي في عبادي* وادخلي جنتي}( ).
أيها الأحبة، قال رسول الله(ص) فيما روي عنه: "إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ـ وقلوبنا صدئة بكل هذا الصدأ الذي نجمعه من هنا وهناك، ومما نخوض فيه ومما نلمّ به ومما نعيشه ـ قالوا: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: قراءة القرآن وذكر الموت"( )، والله تعالى يقول: {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها}( )، إيجابياً لا سلبياً، روحياً ومعنوياً لا لفظياً. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الخامسة عشرة: 27 شعبان 1418هـ الموافق 26 - 12 – 1997م
شهر رمضان
شهر الانفتاح على السنة كلّها
"تتحرك العبادة من أجل أن تطلق كل العناصر الخيِّرة في نفس الإنسان، وتؤكد الثقة بنفسه، وتثبّت له أقدامه في كل ساحات الصراع"
ـ لماذا العبادة؟.
ـ لا ضياع ولا عبث.
ـ الاتصال بالله رب العالمين.
ـ الصلاةحركة ثقافية.
ـ تأصيل الرفض.
ـ الرفض السياسي.
ـ الصوم كإرادة.
ـ عبادة الله.
ـ الحج حركة جامعة للعبادات.
ـ الدعاء حديث مع الله.
ـ في رحاب الضيافة الربانية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
لماذا العبادة؟
لماذا العبادة؟ هل يعبد الناس ربهم من خلال ما تفرضه العبودية من خضوع وإذلال وما إلى ذلك مما يعبّر فيه الإنسان المؤمن عن هذا الذوبان في الله تعالى، بحيث يفقد ذاته أمامه؟ وهل العبادة شيء متصل بالله فيما يعبّر به الإنسان عن طبيعة علاقته بالله، أو أن في العبادة معنى في حركة الإنسان في الحياة، بحيث تتداخل علاقة الإنسان بربه بالإيجابيات التي تؤصّل في داخله معنى إنسانيته وتحرّك علاقته بغيره وبالحياة؟
قال الله سبحانه وتعالى: {وما خلقتُ الجنّ والإنسَ إلا ليعبدون}( )، وكانت كل دعوات الأنبياء تتجه بهذا الاتجاه {اعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً}، ونحن نقرأ في تراثنا أن الله "لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه"( )، فمن الطبيعي أن يعبّر الإنسان عن عبوديته لربه بكل مظاهر العبودية، ولكننا نفهم من أكثر من آية ومن أكثر من امتداد لمعنى العبادة في نداءات الأنبياء(ع) إن العبادة تتحرك من أجل الإنسان ومن أجل أن تطلق كل عناصر الخير في نفسه ومن حيث أنها تؤكد له الثقة بنفسه وتثبّت له أقدامه في كل ساحات الصراع.
لا ضياع ولا عبث:
فكيف نفهم ذلك؟ إننا نفهم ذلك من خلال أن قيمة كل حركة في خط التوازن هي الإلأحساس بوجود قوة ترعى كل الحياة بحيث تمثل الحياة وحدة في داخل وحدتها، وتنفتح عليها لتوحي لها دائماً بأنها لا تعيش الضياع، ففي الدين كلّه وفي الإسلام بشكل خاص لا معنى لما أثاره الغرب من كلمات الضياع وكلمات العبث وما إلى ذلك، لأن الضياع إنما يكون عندما تشعر وأنت تعيش مع الأموات أنه ليست لك أية بوصلة يمكن أن تحدد لك الطريق والغاية، فهؤلاء الملحدون أو المشككون هم الذين يعيشون معنى الضياع في الحياة، وهؤلاء هم الذين يعيشون معنى اللاجدية في الحياة، وهم الذين يعيشون الحياة ولا يعرفون من أين جاءوا وإلى أين يذهبون على طريقة "إيليا أبو ماضي" عندما يقول في لا أدريّته:
جئت لا أعلــم مـن أيـن ولكنّـي أتيـت ولقد أبصرتُ قدّامي طريقاً فمشيـت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لست أدري!!
هؤلاء هم الذين يعيشون الضياع..
الاتصال بالله رب العالمين:
أما عندما يعيش الإنسان مع الله ربّ العالمين الرحمن الرحيم الحكيم الخبير الذي لا حدّ لعلمه، والذي يحيط بالإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن أيمانه وعن شمائله ويرعاه ويملك حياته وموته، عندما يعيش الإنسان في ظلّ هذه العقيدة فإنه يشعر أنه بدأ من موقع حكمة في بدايته قد يعرف بعض أسرارها ولكنه يختزن في داخله ما لا يعرف على أساس أنه يمثل الحكمة، وهكذا يعرف أن له طريقاً يتحرك في نطاق مسؤوليته من خلال الرب الذي حدّد له ذلك، وعندما يفكر في المستقبل فإنه يعرف أن هناك نهاية لها معالم ولها ملامح ولها واقع لا بد أن يبلغه بطريقة أو بأخرى.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ فإن مسألة العبادة كلها هي أن يتصل الإنسان بربه لا اتصالاً روحياً يحلّق فيه مع أفكاره ومع أحلامه ومع آلامه، دون أن يتجذّر هذا الاتصال الروحي في حياة الإنسان المسلم ولكن أن يتصل بربه من خلال حركة عبادته وأن تتوزع عناصر هذه الحركة على كل مواقعه وخطواته وتطلعاته.
الصلاة حركة ثقافية:
فإذا جئت إلى الصلاة فإنها بحسب أوقاتها وبحسب أفعالها وأقوالها تمثل حركة ثقافية يومية تؤكد لك مفردات عقيدتك وتفتح عقلك وقلبك على رحمة ربّك ورعايته وكل ما تتصل به حياتك في مسؤوليتها وفي نتائج المسؤولية، وتجعلك تشعر وأنت بين يدي ربك بمعنى العبودية التي تتمثل في ركوعك وسجودك لتتجسد العظمة في نفسك سلوكاً مادياً، ولتتجسد النعمة في نفسك حركة في كل واقعك.
ومن هنا أكد القرآن الكريم على {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}( )، لأن الصلاة تثقفك من خلال مفرداتها سواء في التكبير أو فيما تقرأ من فاتحةالكتاب وما بعدها أو فيما تثيره في نفسك بالتسبيح والتحميد والمفردات التي تدخل في ركوعك وسجودك، وتؤكد هذه الشهادة الإسلامية بصلاتك بحيث إنك تصلي وإسلامك يعيش في عقلك وفي لسانك وتعطيك الصلاة وعي ربك، ربك الأكبر رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، الذي يعبد ولا يعبد سواه والذي يستعان به ولا يستعان بسواه، والذي يهدي الإنسان إلى الطريق العظيم الأعلى وما إلى ذلك.
لذلك فإن الصلاة ليست مجرد حركة روحية ولكنها حركة ثقافية تثقفك يومياً أو في كل وقت، تثقفك بمجمل العقيدة الإسلامية في خطوطها العامة ولا سيما في معنى ربّك في نفسك وفي حياتك وفي حياة الآخرين،ومن هنا أكدت الأحاديث كما أكدت الآيات على مسألة الخشوع في الصلاة، فقد حدثنا الله عن ذلك بقوله {قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعو}( )، وجاء في الحديث أنه "مَن لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً" وجاء الحديث أيضاً بأنه "إنما للعبد في صلاته ما أقبل عليها بقلبه" مما يعني أنك لا بد أن تصلي بقلبك وعقلك وإحساسك وحركة جسدك حتى تتمثّل في كل ذلك معاني الصلاة، لذلك فإن العبادة الصلاةتي هي مظهر من مظاهر العبودية وفي عمقها تبين حركة التربية للإنسان.
تأصيل الرفض:
فإذا جئنا إلى الصوم والصوم في معناه يمثل حالة سلبية تحمل بداخلها معنًى إيجابياً، لأن السلب عندما يكون مسؤولية فإن إرادتك في حركة السلب تمثل حالة إيجابية أيضاً، فأنت تريد أن لا تأكل وأن لا تشرب وأن لا تتلذّذ، ولذلك هو ليس سلبية طبيعية بعيدة عن إنسانية إرادتك، بل هي حركة في الإرادة أن ترفض ما لا يريده الله منك..
ومن هنا فإننا نستطيع أن نقول كما أن الصلاة تدفعك إلى أن تؤصّل الرفض في نفسك للفحشاء والمنكر فإن الصوم يدفعك إلى أن تحرك إرادتك في رفض كل ما لا يريده الله سبحانه وتعالى، وبذلك كان الصوم حركة في الإنسان من خلال هذا الخضوع الإرادي لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الصوم وهو عبادة صامتة لا يتحرك فيها شيء في جسدك ولا يتحرك فيها أي تعبير في لسانك.. فدور الصوم هو في أن يبقى في عمق إرادتك وفي عمق إحساسك وشعورك وذلك بأن تكون بالصوم الإنسان الرافض، فالصوم هو حركة رفض في الوقت الذي تتوجه في نفسك إلى القبول.
ومن هنا، فقد نعيش الصوم في هذه المفردات وربما ننحرف في ممارستنا له بأن نطوّق هذا الرفض في السحور وفي الفطور بنحو لا يحقق شيئاً فيما نستعد له من مآكل قبل أن نصوم وبعد أن نصوم، كأننا نثأر من الرفض على طريقة الحيل الشرعية التي تجعل الإنسان يضعف إرادته في مقدمة الصوم وفي نهايته فيما المطلوب من الصوم أن تكون إنساناً رافضاً لكل ما حرّمه الله، لأن هناك الصوم الصغير الذي هو مقدمة للصوم الكبير، فإذا كان الله قد حرّم علينا أن نأكل أو نشرب أو نستمتع بما نستمتع به في هذا الوقت المعيّن، فلقد أرادنا أن نصوم في كل عمرنا عمّا حرّمه من مآكل ومشارب ولذّات وما إلى ذلك.
الرفض السياسي:
وإذا انطلقت كإنسان يرفض المطاعم والمشارب والملذات في هذا الوقت المعيّن، فإنك تنطلق أيضاً لترفض سياسياً ما يحرّمه الله من حركة السياسة ولترفض اجتماعياً ما يحرّمه الله من حركة الاجتماع ولترفض أمنياً وعسكرياً ما يحرّمه الله من حركة الأمن والعسكر في هذا المجال أو ذاك، لأن الفكرة واحدة، فكُن إنسان الله الذي يحبّ ما يحبّه الله والذي يرفض ما يرفضه الله، فأنت تمتنع عن طعامك وشرابك لأن الله يرفض لك أن تأكل أو أن تشرب في هذا الوقت، ومن خلال ذلك عليك أن تعي معنى الرفض وهو أن عليك أن ترفض الظلم في كل الناس من حولك سواء الظلم الصغير أو الظلم الكبير، وأن عليك أن ترفض الانحراف في كل الخطوط التي يتحرك فيها الناس وأن ترفض كل الضلال وكل الفسق وما إلى ذلك، ولهذا ركّز الله الصوم في كلمة {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}( )، و"التقوى" كلمة تشمل كل الخطوط المستقيمة التي تنطق من إيمانك وإسلامك في الحياة، وهي "أن لا يفقدك الله حيث أمرك ـ في كل شؤون الحياة ـ ولا يجدك حيث نهاك"( ) في كل مواقعها.
الصوم كإرادة:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ نمتد بعد ذلك بالصوم كإرادة عندما يحاصرك الظالمون ويحاولون أن يضغطوا عليك في طعامك وشرابك فتجوع في سجن تكون فيه أو في واقع ضاغط، أو عندما ينطلق الاستكبار ليحاصرك كشعب وكأمة في طعامك وشرابك، وعندما يحاول الآخرون إغراءك، كالوضع الذي نعيشه الآن مع الصهيونية التي تحاول أن ترسل بضائعها بسعر ملائم أكثر من السعر الذي تشتري به ما يصنع في وطنك أو في مكان آخر ينسجم معك، عندها يقول الصيام لك: صُمْ الصوم السياسي، ارفض بضاعة العدو حتى لو كانت تتلاءم مع أوضاعك الاقتصادية، ارفض الضغط الذي يضغط فيه العدو عليك لتفشي أسرار أمتك وأسرار الناس من حولك، لأنك عندما تسقط تحت تأثير هذا الضغط فإن معنى ذلك أنك توازن بين طعامك وشرابك وبين أمتك، وتقدم طعامك وشرابك على أمتك.
إن الصوم يمثل كل هذا الجو الذي يبدأ من تجربة تعيشها في حياتك بهذه المفردات الصغيرة، ولكنه يمتد لكل ما يتصل بحياتك الخاصة والعامة وربما نحتاج إلى أن نصوم إرادياً بحيث نضغط على أنفسنا عندما تحتاج الأمة إلى مشاريع وتحتاج إلى مساعدات وربما نحتاج أن نضغط على كمالياتنا لنساعد الأمة عندما تحتاج إلى المياتم أو إل المستشفيات أو إلى أي شيء يكفل لها الحياة الكريمة، إنني أتصور أن هذا الصوم الإسلامي هو الذي جعل المسلمين الأولين يتحركون في خط الدعوة وفي خط الجهاد وهم جياع وعطاشى وهم يعانون الكثير من المشاكل المحيطة بهم.
عبادة الله:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ فإن الصوم عبادة لله "الصوم لي وأنا أجزي به"( ) هو عبادة لل، ولكنك كلما اقتربت من الله أكثر وقفت مع مسؤوليتك التي حمّلك الله إياها أكثر، ولكما اقتربت إلى الله أكثر اقتربت من الناس أكثر، لأن الخلق كلهم عيال الله وأحبّهم إلى الله منم أدخل على أهل بيته سروراً.
وهكذا تنطلق العبادة عندما تتصل بالله بخط من الله إلى الناس، لأن هناك نقطة في عقيدتنا الإسلامية وهي أن الله ربما يكون في بعض الديانات شيئاً غامضاً بحيث لا علاقة للبشرية به، أو لا علاقة له بالبشر إلا أن يتعبّدوا له، لكن تعالوا إلى ربنا في عقيدتنا، فهو الرحمن وهو الرحيم وهو المعطي وهو الكريم وهو المغيث، ومعنىذلك أن ربّك لا ينفصل عن حياتك، فأنت عندما تتحرك في كل أصعدة حياتك فإنك تشعر بأن الربّ المنعم قد أنعم بذلك عليك، وأنت عندما تفكر وتبدع في فكرك تشعر أن الرب هو الذي أنعم عليك فألهمك، وعندما تحسّ القوة في نفسك فإنك تشعر بأنك تستمد القوة منه، وهكذا هو الرحمن الرحيم وهو ربّ العالمين وهو المعطي وهو الكريم وهو الجواد وهو الحكيم الذي يمنح حياتك من حكمته.
لذلك، فكلما عرفنا الله أكثر، اقتربنا من مسؤولياتنا بالحياة أكثر، وشعرنا بالأمن أكثر، ولقد كان رسول الله(ص) في أشدّ حالات الخطر ولكنه كان يحسّ بالأمن تماماً كما لو لم يكن هناك خطر {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}( ) هذه المعيّة معيّة الله لعبده تعني أنك لو كنت في الصحراء وحدك فإنك لست وحدك لأن الله معك، وفي الدعاء عندما نقول: "يا عدّتي في كربتي ويا صاحبي في شدتي" فإنّ الله هو صاحبك الذي يصحبك في الشدة التي تهزّ كل كيانك، والله معك في شدّتك بحيث يخففها عنك ويحميك من كل تأثيراتها، فالمسألة ليست مختصّة بالنبي فحسب ولكنها مسألة المؤمنين أيضاً {الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}( ).
الحجّ حركة جامعة للعبادات:
وعندما ننطلق ـ أيها الأحبة ـ إلى الحج، وهو عبادة، نرى أنه حركة تجمع كل العبادات، فهو حركة صوم من نوع آخر فيما يحرم على المحرم أن يمارسه وهو حركة هجرة إلى الله سبحانه وتعالى عبّر عنها إبراهيم(ع) {وقال إني مهاجر إلى ربّي}، وهو وقفة تأمّل تعيش فيها مع ربّك فلا شغل لك في "عرفات"، ليس بالمعنى الإسلامي للشغل، وليس هناك أي شغل في "المشعر"، بالمعنى الإلزامي للشغل، وليس هناك أي شغل في المبيت في "منى" بالمعنى الإلزامي للشغل، بل قف في عرفات وعش مع ربّك، وقف في المشعر وادعُ ربّك {فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخمرة حسنة وقنا عذاب النار} اجلس مع ربك، فكّر وتأمل وازدد معرفة به وازدد قرباً منه، وهكذا عندما تبيت في منى فإنك لا تبيت نائماً عابثاً لاهياً، بل تقوم بحسبا كل ما تقوم به، وأن تعرف كيف تحتفظ بعلاقتك مع ربك الذي عبدته في هذا لتستقبل حجاً جديداً إلى ربّك في كل حياتك، فلقد حججت إلى بيته وطفت في بيته ليعطيك الطواف معنى طوافك في الحياة في الموقع الذي يرتبط بالله ولا تطف ببيوت الظالمين والمستكبرين والمنحرفين والفاسقين، فهو ـ أي الطواف ـ رمز لكل حركتك فيمن تتحرك حوله، وهكذا عندما تسعى فإن سعيك هو أن تكون حياتك صفاً ومروة في كل مواقعك بحيث تبدأ بالصفا قربة إلى الله وتنتهي بالمروة قربة إلى الله، لتكن كل بداياتك قربة إلى الله.
الدعاء حديث مع الله:
وعندما تجلس إلى الدعاء، والأدعية ـ أيها الأحبة ـ هي هذه الروح التي تجلس بين يدي ربها لتحدثه عن مفردات عقيدتها، ولتحدثه عن كل آلامها وكل أحلامها وكل تطلعاتها، ولذلك فإن العبادة هي معنى ينطلق في الانفتاح على الله، وإذا انفتح الإنسان على الله فإنه لا بد أن يفتح الله له، وهو رب العالمين، كل العالم بأن يفتح عقله عليه ليفكر بما يمكن أن يكون حقاً في العالم وأن يفتح قلبه عليه بما يكون خيراً في العالم، وأن يفتح حياته عليه بما يكون عدلاً في كل حركته في العالم، إنك عندما تعيش مع رب العالمين فلا يضيق أفقك في دائرة شخصية أو عائلية أو قومية أو عرقية، إنك عبد الله، والله ربّ العباد كلهم، ولذلك فلا يمكن لمؤمن يعرف الله ويعبده أن يضيّق عقله وقلبه وحركته عن أي موقع من مواقع الإنسان.
في رحاب الضيافة الربانية:
أيها الأحبة، وهذا شهر رمضان أقبل علينا وهو شهر الله وقد دعانا الله إلى ضيافته: أنفاسنا فيه تسبيح ونومنا فيه عبادة ودعاؤنا فيه مستجاب وعملنا فيه مقبول، فلنطهّر قلوبنا ولنصفّي عقولنا ولنقرأ كتاب ربنا حتى نكون الضيوف الذين يأكلون من كل هذه المائدة الروحية اللذيذة.
أيها الأحبة، شهر رمضان هو الشهر الذي أراد الله أن يكون منفتحاً عل السنة كلها تخطط فيه لسنتك كيف تتقرّب إلى ربك وكيف تؤكد إرادتك وكيف تنهى نفسك عن الفحشاء وعن المنكر وكيف تفرح الفرح الروحي الذي ينتظرك في نهايته وتأتي كلمة علي(ع) ليختصر لنا معنى العيد في حياتنا "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد"( )، فكأن علياً(ع) يقول لنا لماذا لا تجعلون أيامكم كلها أعياداً، فطاعة الله هي العيد الذي لا بد أن تحتفل به، فلماذا لا تعيش هذا الفرح الروحي في كل حياتك وليس من الضروري أن يكون عيد فطر ولكن أن يكون عيد الطاعة إلى الله والقرب منه والمسير في طريقه.. إن الساحة جاهزة والربّ يفيض علينا من رحمته وعلى كل منّا أن يعرف كيف يغترب من هذا النبع الصافي السلسبيل، ويبقى النداء {وقل اعملوا فسيرى الله عملكن ورسوله والمؤمنون}( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السادسة عشرة: 3 شوال 1418 ـ الموافق 31 – 1 – 1998م
كيف نعيش السنة في معنى رمضان؟
"قصة شهر رمضان هي أن ننفتح أكثر، ونتحرك في إسلامنا أكثر، ونحب الناس أكثر، وأن تكون مسؤوليتنا في الحياة أكثر ليحبنا الله أكثر"
ـ جولة رمضان الروحية.
ـ معراج الصلاة الروحي.
ـ صيام وقيام.
ـ أدعية شهر رمضان.
ـ استحضار الفيوضات.
ـ امتزاج الفكر بالروح.
ـ الحاجة إلى الزاد الروحي.
ـ الدعاء مسؤولية.
ـ الجذب الروحي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
جولة رمضان الروحية:
كنا في شهر رمضان نعيش في هذه الجولة الروحية التي يرتفع فيها الإنسان إلى الله ويتحرك في رحاب آياته، ويعيش حركة الحب له الذي يمتزج فيه الرجاء والخوف، باعتبار أنه ليس الحب العاطفي الذي ينبض به القلب، ولكنه الحب الذي يعيش فيه الإنسان المسؤولية أمام من يحب، ذلك أن حب الله مسؤولية وليس نبضة قلب وخفقة إحساس.
وقد حدثنا الله عن ذلك في قوله سبحانه وتعالى فيما وجّه به الخطاب إلى رسول الله(ص) {قل إن كنتُم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}( ) فحب الله حركة في العقل وانفتاح في القلب وانطلاقة في الواقع، ولذلك فإنك إذا أحببت الله فإنك تحبه في خط رسالته، والرسالة تقول لك افعل هذا ليرضى الله عنك حتى تحصل على محبته {فاتّبعوني يحببكم الله} وإذا لم تفعله فإنك تحصل على سخطه تماماً كما هو الحب في الدنيا، فإذا كنت تسيء إلى من تحب فمن الطبيعي أن يسخط عليك من تحب، وقد قال ذلك الشاعر وربما ينسب القول إلى الإمام زين العابدين(ع).
تعصـــي الله وأنت تُظــهِرُ حبّه هذا لعمرُك في الفِعـــال بديــعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَهُ إنّ المحِبَّ لمَــن يحبُّ مطيعُ
ولذلك فإن حبنا لله هو حبّ يختزن في داخله الخوف ممن نحب إذا انحرفها عن أصول الحب والرجاء لمن نحب، وإذا انسجمنا مع أصول الحب كنا في جولة الحب مع الله، نحبه فنترك طعامنا وشرابنا ولذّاتنا ليحبنا أكثر قربةً إليه سبحانه لنكون قريبين إليه أكثر.
معراج الصلاة الروحي:
ونصلي بيني يديه لنعطي أرواحنا هذا النوع من المعراج الروحي الذي يجعل الروح تصفو أولاً وتسمو وتتصاعد وتصعد إلى أن تجلس وتتمرّغ بالحب بين يدي الله لتكون الصلاة كما أرادها رسولالله(ص) حركة شكر يشكر فيها الإنسان ربه من خلال نعمة العقل التي أعطته فكرة الحق في الحياة، ونعمة القلب التي أعطته العاطفة التي تجعل حياته حياة طيبة ليّنةمنفتحة على قلوب الناس الآخرين وعلى حياتهم، وعلى كل ما أفاض الله عليه في كل حاجاته في الحياة.
إن الإنسان يصلّي فيذكر ربه ويعمل على أساس أن يكرر عقيدته في صلاته، فالشهادتان تردان في الأذان وفي الإقامة وفي التشهد وتشهد التسليم، بحيث إن هذا التأكيد للعقيدة يتجذّر في وعي المصلّي وفي وجدانه، حتى يتذكّر عمق العقيدة في توحيد الله تعالى ورسالة رسوله(ص) فيبقى في كل صلاة كما لو كان في حالة طوارئ فكرية أمام كل من يريد أن يبعده عن التوحيد، فقد التقى بالتوحيد في صلاته، أو يبعده عن الرسالة فقد أعطته الصلاة وعي رسالته.
وهكذا تتمثل ربك بأنه رب العالمين، وأنه الرحمن الرحيم وأنه مالك يوم الدين، وأنه المستعان وحده والمعوّل عليه وحده والهادي إلى الصراط المستقيم والعظيم الذي تسبّح بحمد وعظمته والأعلى وما إلى ذلك.
وفي ذلك تكون الصلاة حركة في عقلنة الحب، بحيث أنك تحب ربك من خلال ما تعيشه في صلاتك من صفات ربك، وما تؤديه في صلاتك من تجسيد عبوديتك في إسبال يديك وفي انحناء ظهرك وفي سجود جبهتك.
صيامٌ وقيام:
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ عشنا في صلوات شهر رمضان فيما أعطانا الله وفيما فرضه علينا وفيما استحبه لنا في الليل والنهار. ولذلك كان شهر رمضان شهر الصيام والقيام، فأنت تدعو ربك لتذكره فتتحدث معه، أعنّا على صيامه وقيامه لأن الصيام إذا لم ينفتح على القيام فإنه قد يكون مجرد حالة سلبية في داخل ذاتك لا تعطيك شيئاً.
أدعية شهر رمضان:
ثم تنطلق الجولة الواسعة الغنية بكل الفكر وبكل الروح وبكل الحياة وبكل المشاعر والأحاسيس والعواطف وبكل الخطوط وبكل المبادئ في أدعية شهر رمضان، هذه الثروة الفكرية الروحية الحركية التي إذا تعمّقت فيها رأيت أن الدعاء يمثل حركة ثقافية تمونك بكل تفاصيل العقيدة، وبكل امتدادات الحركة في الحياة وتمونك بأن تفهم داخيلة نفسك وهل أنت تطيع ربك أو تعصيه.
فعلى أي أساس تقوم الطاعة وعلى أي أساس تُبنى المعصية؟ هذا هو السؤال، وهكذا نجد أن الإنسان العاصي في حياته يحاول من خلال الدعاء في شهر رمضان أن يعلن أن معصيته لا تعني الابتعاد عن إيمانه وأن معصيته لا تعني التمرد على ربه، وأن معصيته لا تعني الاستهانة بربه وإنما تعني حالة من خطرات النفس وحالة طارئة من خلال ما يحدث للإنسان "إلهي لم أعصِكَ حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ولا لعقوبتك متعرّض ولا لوعيدك متهاون، ولكن خطيئة عرضت ـ ليس لها عمق في النفس، لأن عمق النفس هو الإيمان والإيمان لا يسمح للإنسان في كل جذوره في الذات أن يتكبّر على ربّه أو أن يبتعد عن طاعته ـ ولكن خطيئةٌ عرضت وسوّلت لي نفسي ـ والنفس أمّارة بالسوء ـ وغلبني هواي ـ والهوى يصدّ الإنسان عن الحق ـ وأعانني علينا شقوتي ـ هي العناصر الداخلية التي قد تجعل الإنسان شقياً من خلال كل هذه التراكمات التي تزحف إلى عقله وقلبه وحياته.
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ نلتقي في الأدعية في المعنى الذي يجعل الإنسان يتدلل عل ربه بحيث يشعر كما لو كان طفلاً يلعب بين يديه ويتدلل عليه ـ اللهم إنّ عفوك عن ذنبي وتجاوزك عن خطيئتي وصفحك عن ظلمي وسترك على قبيح عملي وحلمك عن كثير جرمي عندما كان من خطأي وعمدي، أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجبه منك، الذي رزقتني من رحمتك، وأريتني من قدرتك وعرّفتني من إجابتك، فصرتُ أدعوك آمناً ـ كما لو كنت لا أعيش أي أساس للخوف ـ وأسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدلاً عليك فيما قصدتُ فيه إليك، فإن أبطأ عني عتبتُ بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور".
استحضار الفيوضات:
وهكذا ينطلق الإنسان ليستحضر في نفسه كل فيوضات ربه في حياته الداخلية الخارجيتة وفي الناس من حوله.. تصور إنك في دعاء صغير واحد تختصر كل ما يعيشه الناس من مشاكل وآلام وأوضاع سلبية حتى إنك تفكر في الراقدين في القبور لتطلب من الله أن يعطيهم الفرح "اللهم أدخِل على أهل القبور السرور، اللهم اغنِ كل فقير، اللهم اشبع كل جائع، اللهم اكسُ كل عريان، اللهم اقضِ دين كل مدين، اللهم فرّج عن كل مكرون، اللهم ردّ كل غريب، اللهم فكّ كل أسير، اللهم أصلِح كل فاسد من أمور المسلمين، اللهم اشفِ كل مريض، اللهم سدّ فقرنا بغناك، اللهم غيِّر سوء حالنا بحسن حالك، اللهمِّ اقضِ عنّا الدين وأغننا من الفقر إنك على كل شيءٍ قدير".
ماذا يمثل هذا الدعاء؟ إنه يمثلك وأنت تستحضر في وعيك وفي وجدانك كل هموم العالم، ونلاحظ أنه لم يتحدث عن المؤمنين فحسب، بل عن كل فقير وكل جائع وكل عريان، مما يعني أنك قبل أن تدعو تفيض إنسانيتك في نفسك فتحمل هموم كل المرضى وكل الجائعين وكل المدينين وكل الغرباء وكل الذين يعانون مشكلة في الحياة، وبهذا تتربى إنسانيتك لتستحصر في نفسك كلمة الإمام علي(ع) في حديثه مع مالك الأشتر(رض): "فإن الناس صنفان، إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق"( ).
امتزاج الفكر بالروح:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ ففي كل هذه الأدعية التي تتضرع بها في النهار وفي الليل وفي السحر حامداً مسبحاً مستغفراً ذاكراً مهللاً مكبراً منفتحاً في كل آلامك تفرشها بين يدي ربك، لا بد لنا أن نختزن ذلك كله وأن نتثقف بذلك كله، لأن ذلك يمثل ثقافة يمتزج فيها الفكر بالروح وتمتزج فيها حركة الدنيا بحركة الآخرة، فأنت لا تبتعد عن دنياك عندما تطلب من الله أن يرزقك وأن يمنحك الصحة والعافية والولد والأمن وما إلى لك، ولكنك تجعل ذلك كلّه في اتجاه الآخرة، وبذلك فأنت تعيش في دنياك آخرتك كما تعيش في مادتك روحك وفي فكرك عاطفتك، وهذا هي قيمة الثقافة الإسلامية التي جاء بها القرآن، فهي ليست ثقافة معلّبة ولكنها ثقافة تقتحم الإنسان.
إقرأوا القرآن جيداً لتجدوا أن القرآن يحدّثكم عن الجانب الفكري بالأسلوب العاطفي، ويحدثكم عن الجانب العاطفي بما لا يبتعد عن حركة الفكر ويحدثك عن الله ليتقرب الله إليك في وعيك فتشعر أن الله معك في نومك ويقظتك، وأن الله معك في مرضك وفي عافيتك وإن الله معك في خوفك وأمنك {لا تحزن إن الله معنا}( )، وتشعر بأن هذا الإحساس العميق بمعيّة الله هو الذي يعطيك السكينة التي يفيضها الله عليك من خلال الاندماج في رحاب ربك.
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ لا بد لنا من أن نجعل الدعاء حالة يومية عندنا، حتى أن أغلب أدعية شهر رمضان ليست مخصوصة في معانيها ومضمونها في شهر رمضان، فعندما نقرأ (دعاء الافتتاح) مثلاً فإنه دعاء تستطيع أن تفتتح به خطوتك ويومك ورحلتك إلى ربك، وبحيث تتحرك مع الله في كل صفاته وتنفتح على الرسالة في الرسول(ص) وعلى الولاية في الأئمة(ع) وتنفتح على كل حالة الجهاد والصراع حتى تصل إلى أن تعلن رغبتك إلى الله في دولة إسلامية يعزّ الله بها الإسلام وأهله، ويذلّ بها النفاق وأهله وتتحول فيها إلى داعية إل طاعة الله، وأن تكون مشروع قائد في سبيل الله لتحصل بذلك على كرامة الله، ثم لتختم ذلك بأن تطلب من الله أن يعرّفك ولتكون كل حركة حياتك بالحق بحيث يكون الحق هو سرّ حياتك.
الحاجة إلى الزاد الروحي:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ إننا بحاجة إلى هذا الزاد الروحي، وهذا الدعاء الغنيّ بالمعطيات، لأنه ـ كما قلنا ـ فيه ثقافة الروح وفيه ثقافة العقل وفي حركية العقيدة في كل تفاصيلها، سواء كانت العقيدة بالله أو بالرسول أو باليوم الآخر أو بأولياء الله.. إننا نقرأ إسلامنا في هذا التراث من الدعاء، لذلك لا تجعلوا الدعاء مجرد موسم تدخلونه في وقت معين أو زمان معين، لأن الله قال لنا {ادعوني أستجب لكم}، ولأن الله قال لنا من دون وقت ومن دون مكان {وإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ} ولأن الله هددنا على بعض التفاسير {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاءكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً}( )، والمقصود بها الدعاء كما هو القرينة في الآية {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}( ).
والدعاء ـ أيها الأحبة ـ هو هذه العبادة اتي تختلف عن كل العبادات، لأن كل عبادة لها زمانها، ولأن بعض العبادات لها مكانها، ولكن الدعاء هو العبادة المتحركة التي تملك تحديدها من دون أن يعيّن الله لك ذلك، وإن كان يستحب لك ذلك، إنك تملك وحدك أن تدعو، فعندما تنام يمكن لك أن تودّع اليقظة بدعاء ربما يتحول إلى أحلامك وأنت نائم، وأن تنام تحت رعاية الله سبحانه وتعالى، ولتدعو عند يقظتك، ولتدعو وأنت تأكل وأنت تشرب وأنت تمارس لذاتك وأنت تتحرك مع الناس، وأنت تبدأ عملك وتتحرك في تجرابك مع الناس لتدعو لأبويك ولقرابتك ولأوليائك لمن حولك ولتعيش حركة دعائية توحي بها إلى نفسك.
الدعاء مسؤولية:
إن كل مواقع الدعاء مسؤوليتك، وإن كل ما يدعو به الإنسان لربه سواء كان شيئاً يخصه أو شيئاً يشمل الناس هو مما لا بد للإنسان أن يعيش همومه، وقد ورد عندنا في الدعاء للأخوان بظهر الغيب "من دعا لأخيه بظهر الغيب وكل الله به ملكاً يقول ولك مثلاه"، إن الأساس في ذلك ـ والله العالم ـ هو أن الله يريدنا أن نربي أنفسنا على أن نعيش هموم الآخرين في حياتنا من دون أن يعرفوا ومن دون أن يشعروا إخلاصاً منا للأخوة الإيمانية لنبسط همومهم بين يدي ربنا كما لو كانت همومنا.
إنه أسلوب تربوي إسلامي يشدك إلى الناس الآخرين ويجعلك تفكر بهم تماماً كما تفكر في نفسك، ويرتفع أهل البيت(ع) حتى عن هذا المستوى، فهذه سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع) عندما تدعو في صلاة الليل، وكانت بحاجة إل أن تدعو لنفسها، إلا أنها كانت تدعو للناس من حولها ويسألها ولدها الإمام الحسن(ع) وهو في طفولته الأولى "يا أماه لما لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار" فليست المسألة هي أ تساوي الآخرين بنفسك بل المسألة عندهم أن تقدم الآخرين على نفسك {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}( ).
الجدب الروحي:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ ففي هذا الجدب الروحي الذي نعيشه في هذه الصحراء القاحلة التي تعيش في داخل عقولنا وقلوبنا، هذه الصحراء التي ليس فيها إلا لفح السموم وليس فيها إلا غبار التراب، قد نحتاج إلى هذا الخصب الروحي، وقد نحتاج إلى هذه الينابيع الروحية، قد نحتاج إلى الإحساس بحضور الله في عقولنا ليشرق الله في عقولنا بالحق الذي يشمل العقل كله وليشرق الله في قلوبنا بالمحبة التي تنفتح على القلب كله وليشرق الله في حياتنا بالصدق والاستقامة التي تهدي حياتنا إلى الصراط المستقيم.
أيها الأحبة، إن شهر رمضان كان الخزان الذي يحتوي ذلك كله وقد مضى ومضت لياليه، والسؤال هنا: ماذا بقي لنا منه حتى لا نكون مثل من تحدث عنهم الإمام علي(ع) في نهج البلاغة "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ ـ إنه عاش الصيام جثة بلا روح وكم من قائم أو ـ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السّهر والعناء حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم"( )، لأن القضية هي أنك كلما كنت كيّساً أكثر وعاقلاً أكثر وواعياً أكثر فإنك تعرف كيف تصلي جيداً وكيف تصوم جيداً، فإذا أفطرت في طاعة، وإذا تخففت من الصلاة كان تخففك في طاعة.
أيها الأحبة، إن قصة شهر رمضان هي قصة أن ننمو أكثر وأن ننفتح أكثر، وأن نتحرك في إسلامنا أكثر وأن نحب الناس أكثر وأن تكون مسؤوليتنا في الحياة أكثر ليحبّنا الله أكثر.. وبذلك نلتقي بالعيد في مفهومه الإسلامي "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه"( ) قبله لأنه صيام الوعي ولأنه قيام العبودية، قبله لأنه الصيام الذي يعيش الإنسان فيه مع الله والقيام الذي يعرج الإنسان فيه بروحه إلى الله، وعندما نعيش مع الله فأين كل تلك الوحول الأخلاقية والنفسية والمادية في حياتنا، إننا نعيش مع الصفاء ومع النقاء ومع كل الينابيع المتدفقة من الله سبحانه وتعالى وهي ينابيع الفكر والروح والحركة والحياة، فتعالوا من أجل أن نعيش السنة رمضاناً في معن رمضان وإن ابتعد عنا زمان رمضان، والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة السابعة عشرة: 10 شوال 1418 ـ الموافق 7 – 2 – 1998م
الفرحُ الكبير
"إنّ الألم يقوّي الفرح الكبير ويغذّيه"
ـ الفرح الكبير.
ـ استنطاق القرآن.
ـ الفرح بمصائب الآخرين.
ـ الفرح الشاغل عن المسؤولية.
ـ الفرح بغير الحق.
ـ فرح الأحزاب المتقطّعة.
ـ الفرح القاروني.
ـ الزهد في الحياة.
ـ منهج السرور والحزن.
ـ الفرح الحقيقي.
ـ فرح العيد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
الفرح الكبير:
كنا في أجواء العيد،والعيد مناسبة للفرح الذي يتخفف فيه الإنسان من آلامه وأحزانه ليعطي لنفسه إجازة من بعض الألم ومن بعض الحزن، لأن الحياة بكل أحداثها وتحدياتها وتطوراتها تخترق أمن الإنسان تارة وصحته أخرى وأوضاعه الاقتصادية ثالثة، وبذلك فإنه لن يعيش الفرح الكبير، لأنه حتى إذا فرح فإن فرحه يبقى مجرد فرح ممزوج بالألم حيث قد يضحك وقلبه يعتصر من البكاء وإحساسه يعيش في عمق الألم.
استنطاق القرآن:
لذلك ربما كان من الضروري لنا كمسلمين أن نستنطق القرآن فيما يريده الله لنا من الفرح الكبير، فما هو الفرح الكبير الذي لا حزن فيه ولا يلتقي بالألم بل إن الألم يقوّيه ويغذّيه؟
لقد تحدّث القرآن الكريم في أكثر من آية عن مسألة الفرح الذي يعيشه الإنسان من دون عمق والذي يستغرق في داخله فلا يجد هناك امتداداً لمعناه في نفسه وفي حياته، وربما يفرح الإنسان ببعض الانحراف عن الخط، وربما يفرح بلذة عابرة، وربما يفرح بمكسب بسيط لا امتداد له ولا بقاء.. لهذا فإن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن هذا الفرح الذي لا عمق له وأراد للإنسان أن لا يعيش له ولم يحرّمه عليه، وحدثنا عن الفرح الذي هو الفرح الكبير ليضع الإنسان لنفسه القاعدة فيما يفرح ليكون فرحه الفرح الكبير، وليضع لنفسه القاعدة فيما يحزن ليكون حزنه الحزن الهادف.
فلنستنطق آيات الله، ففي آيات الله النور كل النور، وفي آيات الله المنهج كل المنهج {وإنا إذا أذقنا الإنسان منّا رحمةً فرح بها}( )، وقد تكون الرحمة نعمة طارئة، وقد تكون الرحمة ربحاً محدوداً، وقد تكون ظروفاً ملائمة للإنسان وقد يفرح الإنسان بآلام غيره من خلال عقدته، أو من خلال حسده، أو من خلال بعض الأوضاع القلقة التي تصيب الناس الآخرين، وهذا هو الذي يعيشه بعض الناس الذين يفقدون إحساسهم بإنسانيتهم، لأن الإنسانية ـ أيها الأحبة ـ لا يمكن أن تتجمد في ذاتك، فإذا كنت إنساناً مؤمناً فالإنسانية تتحرك في كلك، ولا يمكن أن تعيش إنسانيتك وتفرح لم غيرك أو تسرّ بحزن غيرك، لأن الإنسانية هي أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وأن تتحسّس معناه فيما تريده من معناك.
الفرح بمصائب الآخرين:
ولكن الله يحدثنا عن هؤلاء {وإن تصبكم سيئةٌ يفرحوا بها}( )، وقد لا يقتصر هذا على المشركين الذين كانوا يفرحوا بما يصيب المسلمين من آلام ونكبات ومصائب، بل إن ذلك يمتد في الجانب الشخصي، فإذا كانت هناك مشكلة بين شخص وآخر كان أحد الشخصين يفرح بما يصيب الآخر من مشاكل، وهكذا عندما تنشأ مشكلة بين عائلة وعائلة، فهذه العائلة تفرح بما يصيب العائلة الأخرى من خسائر وآلام ومشاكل.
وقد امتدّ ذلك إلى المذاهب الإسلامية، فكل أهل مذهب يفرحون بما يصيب أهل المذهب الآخر من نكبات ومشاكل وآلام وويلات، وقد امتد ذلك حتى إلى بعض فصائل الحركات الإسلامية في صراعها اللاإسلامي، عندما يفرح هذا الفصيل بمايصيب الفصيل الآخر حتى من الظالمين، لأنهم يفكرون أنهم الإسلام وحدهم وأن غيرهم لا يمثل من الإسلام شيئاً، بل وحتى على مستوى حياة المؤمنين الفردية عندما تعيش عندهم العقدة في جماعة مرجعية تختلف مع جماعة مرجعية أخرى وفي جماعة وجيهٍ تختلف مع جماعة وجيه آخر، إنهم يفرحون إذا أصابت أحدهم سيئة، ونحن نعرف أن ذلك ليس من الإسلام في شيء، إذ لا يمكن لمؤمنٍ أن يفرح بمصيبة مؤمن، ولا يمكن لمسلم أن يفرح بمصيبة مسلم، لأن الله أراد للمسلمين في توادهم وتراحمهم أن يكونوا "كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" حتى أن رسول الله(ص) وهو نبينا وإمامنا وهادينا وقائدنا يقول لكل المسلمين "من لم يهتم بأمور المسلمين ـ في أية جماعة وفي أية واقعة ـ فليس بمسلم"( ).
{وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها}، هذا هو خلق المشركين، فمن كان خلقه هذا الخلق بحيث يفرح بما يصيب المسلمين لاختلافه عنهم في مذهب، أو اختلافه عنهم في حركة أو في مرجعية أو عائلية أو مناطقية أو عرقية أو في أي شيء آخر، فهو كالمشركين خلقاً وإن لم يكن كالمشركين عقيدة، وقيمة العقيدة ـ أيها الأحبة ـ ان تتحول إلى خلق يحكم فكرك فيكون فكرك فكر الحق الذي يحتضن أهل الحق، وحتى تحتضن العقيدة قلبك فتكون عاطفتك عاطفة الحق، وحتى تحتضن العقيدة حركتك فتكون حركتك حركة الحق.
الفرح الشاغل عن المسؤولية:
ويحدثنا الله عن فرح الناس الذين يشغلهم الفرح عن النهايات وعن المسؤولية بحيث يجعلهم يعيشون الأمل الطويل فينسون الموت وينسون الآخرة {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة}( )، ويقول سبحانه وتعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان}( )، هذا الفرح الذي يشغل الإنسان عن التفكير في العواقب، والتفكير في النهايات، هذا الفرح الغبيّ، الفرح الذي يستغرق فيه الإنسان فيعيش في داخل لحظته من دون أن يفكر بالمستقبل الذي يمكن لو كان واعياً أن يأخذ احتياطاً له من خلال عِبَر الماضي، حيث يعلّمه الماضي في دروسه أن الكثير من الناس الذين فرحوا باللحظة جاءتهم الأحزان كالأمواج بعد هذه اللحظة.
ولذلك إذا جاءك الفرح فحاول أ تكون حذراً فقد يعقب الفرح حزن وألم، وإيحاء هذه الآية هو أن لا تستغرق في لحظتك، ولكن أنتعيش الحذر في مستقبلك وأن تدرس سنّة الله ي الحياة على أساس ما قاله الله {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، {وفرحوا بالحياة الدنيا}، كما لو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف هذا الفرح الذي يجعل الحياة الدنيا كل شيء، فغناها هو الغنى ولذتها هي اللذة ومجدها هو المجد، هذا الفرح في الحياة الدنيا يطغي الإنسان فينسيه معنى الحياة الدنيا لأنها تُعشي عينيه كما قال علي(ع): "من أبصَر بها ـ جعلها عيناً يبصر بها عمق الأشياء ـ بصّرته ومن أبصر إليها ـ إلى كل زخارفها ومباهجها وأضوائها ـ أعمته"( )، يقول تعالى: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}( ).
الفرح بغير الحق:
وهكذا يحدثنا الله عن بعض الناس الذين فرحوا بغير الحق {ذلكُم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق}، كنتم تفرحون بالباطل وكنتم تفرحون بالكفر وكنتم تفرحون بالسير مع الاستكبار ومع الظالمين ومع الفاسقين، لقد كنتم كذلك فرأيتم النتائج المؤسفة، لأن من يفرح بالباطل لا بد من أن يجني في نهاية المطاف كل نتائج الباطل فيما يتضمنه الباطل من عواقب سيئة.
وهكذا يحدثنا الله عن بعض الناس الذين لا يعيشون الحقيقة في أنفسهم {لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتَوا ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنّهم بمفازة من العذاب}( )، الفرح الذي لا يستحقونه لأنهم لم يفعلوا ما يؤكد ذلك، فلا تحسبنّهم فرحين، لأن هذا الفرح ليس فرح الحقيقة وإنما هو فرح الوهم.
فرح الأحزاب المتقطّعة:
وهكذا يحدثنا الله تعالى عن الأحزاب وعن الجماعات التي تتقطع بحيث تكون حزباً واحداً من خلال قضية واحدة وخطاً واحداً، ثم تلعب الأهواء فيما بينهم فيتقطّعون قطعاً قطعاً {فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون}( )، وتموت القضية ويبقى التحزّب، في حين يبدأ الحزب قضيةويبدأ الإسلام ديناً وتبدأ الأمة رسالة ثم تتقطع الأمور وينفذ الشيطان وتتحرك الأهواء وتنطلق الأطماع فتقطّعهم قطعاً قطعاً كما نعيش ذلك في حياتنا.
وهكذا نجد في مجال آخر {وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون}( )، ونجد كذلك بعض الناس الذين يعيشون بعض المشاكل ثم تزول عنهم {ليقولنّ ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور}( ).
الفرح القارونيّ:
ويحدثنا الله عن (قارون) فيقول {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه} وهو يعيش فرح البطر وفرح الاستكبار وفرح الشوة وفرح المال ويكاد فرحه يطغى على عقله وقلبه ليكون عقله حفنة من نقود، ولتكون عاطفته حفنة من نقود، ولتكون مشاريعه حفنة من نقود، ولتكون النقود كل فرحه {إذ قال له قومه} وهم المستضعفون ولكنهم كانوا من الواعين الذين عرفوا الله وعرفوا أن الدنيا مهما امتدت فلا بد أن تلتقي بالآخرة، وعرفوا أن قيمة الدنيا عند الله بمقدار ما تقدم للآخرة من حركة القيم التي تجسد أوامر الله في حياة الإنسان وتجسد سالة الله في الواقع {إذ قال له قومه لا تفرح ـ ولم يقصدوا أن لا تفرح بأن السرور محرّم، ولكنهم قصدوا فرح البطر وفرح سكرة المال ـ إن الله لا يحبّ الفرحين}( ) الذين يستغرقهم الفرح فينسيهم الآخرة وينسيهم الله وينسيهم مسؤوليتهم {وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة} بل اعتبر أنها نعمة من نعم الله عليك، وأن مسؤوليتك أمام النعمة هي أن تسخّر النعمة فيما يرضي الله سبحانه وتعالى ولا تنسى نصيبك من الدنيا، فللجسد حاجاته وللعيال حاجاتهم وللمطامح حاجاتها {وأحسن كما أحسن الله إليك} فمالك أمانة عندك {في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}( )، {ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}( ).
فلم ينتفع قارون بالموعظة وقال {إنما أوتيته على علم عندي}( ) على شطارتي، ونسي الله {فخسفنا به وبداره الأرض}( ) وانتهى كما انتهى الآخرون من قبله ومن بعده، هذا هو الفرح الذي لا يريد الله للإنسان أن يجعله كل غايته وكل طموحه.
الزهد في الحياة:
وتتحرك آية أخرى في مستوى القاعدة في فهم الحياة وفي النظرة إليها وفي تأكيد معنى الزهد فيها: {لكي لا تأسوا على ما فاتكُم ولا تفرحوا بما آتاكُم}( )، إنها تقول لك أيها الإنسان {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها}( )، إن الله نظّم الحياة على منهج وبرنامج فيه الفرح فيما تنجح في نجاحاتك وفي انتصاراتك وفي كل أوضاعك الإيجابية.
وفيه الألم لخسائرك ولهزائمك ولفشلك، فللنجاحات أسبابها في عمق سنّة الله في الكون وسنة الله في الإنسان، وللخسائر أسبابها في عمق سنّة الله في الكون وسنّة الله في الإنسان، فما آتاك الله يأتيك بشكل طبيعي لتوفّر أسبابه، وما لم يؤتك فإنه لا يحصل لعدم توفّر أسبابه، لأن الله جعل للحياةفي كل ظواهرها الكونية وفي كل حركتها التاريخية وفي كل واقع الإنسان، جعل للحياة نظاماً، وجعل لكل ظاهرة كونية أو إنسانية سبباً، تماماً كما هو الليل والنهار، فهل نعيش فرح البطر الطاغي عندما يأتي النهار، وهل نعيش الحزن الساحق عندما يأتي الليل.
نحن نتقبل النهار بشكل طبيعي باعتبار أن هذه الظاهرة وجدت سببها في نظام الكون، وهكذا بالنسبة إلى الليل {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر والا الليل سابق النهار وكل فلكٍ يسبحون}( )، وهكذا هي الحياة.. نظامك كإنسان هو نظام الحياة {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم}، تقبلوا الحياة في خسائرها وادرسوا أسباب الخسائر، فلا تسقطكم الخسائر، وتقبلوا السرور في أرباحها فلا يطغيكم السرور، بل ادرسوا أسبابه.
منهج السرور والحزن:
وقد التقط علي(ع) وهو الذي يلتقط في عقله كل حقائق الحياة كما التقط كل حقائق الإسلام من رسول الله(ص)، فقد علّق على هذا الموضوع بكلمتين، الكلمة الأولى: "الزهد كله بين كلمتين من القرآن العزيز قال الله سبحانه {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}"( )، ليس الزهد أن لا تأكل جيداً ولا تلبس جيداً، ولكن أن لا يكون قلبك متعلقاً بشؤون الحياة بحيث تسقطك الخسارة ويطغيك الربح، بحيث لو جاءتك الحياة لتقبلتها بشكل طبيعي بحسب برنامجها، ولو فقدتها تتقبل ذلك بشكل طبيعي، بل هو أن لا يكون قلبك مفعماً بالاستغراق في حب الحياة كما لو كانت الفرصة الأولى والأخيرة.
وقال في كلمة أخرى في رسالته لابن ع باس "أما بعد، فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلتَ في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق ـ ويرسم علي(ع) منهج السرور والحزن والهمّ ـ وليكُن سرورك بما قدمت ـ {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله}( )، وعلي(ع) تلميذ القرآن وشريكه ـ وأسفك ـ أن تأسف لا عن مالٍ فقدته ـ بل على ما خلّفت ـ من فرص ومن سيئات ـ وهمّك فيما بعد الموت"، ويعطينا الله الفرح الكبير {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون}( ).
الفرح الحقيقي:
فإذا أردت أن تفرح فافرح بفضل الله عليك، وافرح برحمة الله عليك، فإن ذلك يعني أن الله يحبك وأن الله يرضاك وأنه يفتح أبواب رحمته عليك، وأنه يحتضنك في مصيرك بكل حنانه وعطفه ولطفه واحتضانه، وهذا هو الفرح الكبير {هو خير مما يجمعون} لأن الله قال {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً}( )، {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى}( )، لذلك فالله يقول: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون}( ).
هذا هو الفرح الكبير، وقد جاء في القرآن وفي الحديث عن رضوان الله أمام كل نعيم الآخرة {ورضوان من الله أكبر} وهكذا يحدثنا الله سبحانه وتعالى {والذين أتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك}( )، يفرحون الفرح الروحي والمعنوي بالوحي الإلهي الذي ينزل على النبي ليفتح لهم كل آفاق الله سبحانه وتعالى.
وهكذا يحدثنا الله عن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليكم ولا هم يحزنون* يستبشرون بنعمة من الله وفضل}( )، وهكذا يحدثنا عن الذين يستمعون آيات الله {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون}( )، {ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به}( ).
فكل العلاقات هي مع الله، وكل السير هو في طريقن وكل حركة المسؤولية هي بين يدي الله، وكل الانفتاح هو على ما عند الله، وكل الطموح هو للحصول على رضوان الله، ويبقى القرب من الله هو الفرح الكبير.
فرح العيد:
ولذلك اختصر علي(ع) فرح العيد في هذا الاتجاه بقوله "إنما هو عيد لمَنْ قبِلَ الله صيامه وشكر قيامه ـ لأن الله إذا قبل صيامه وقيامه فإن ذلك يجعله مرضياً عند الله، ويجعله قريباً عند الله، ويجعله فرحاً بما عند الله ـ وكل يوم لا يُعصى الله فيه فهو يوم عيد"( ).
وعلى هذا نستطيع ـ أيها الأحبة ـ حتى لوكنا حاصرتنا الحياة بكل ضغوطها وبكل تحدياتها وبكل مشاكلها، وكان الله راضياً عنا، فتلك هي السعادة التي عاشها رسول الله(ص) ورجلاه تدميان من الحجارة رماه بها أوباش الطائف عندما زارهم هناك، وأذناه تستمعان إلى كل الكلمات غير المسؤولة من السباب والشتائم والاتهامات الباطلة، ولكنه كان فرح القلب "إن لم يكُن منك غضبٌ عليَّ فلا أبالي"( )، هذا هو الفرح الكبير الذي عاشه رسول الله في كل حياته وكان هو الذي يمنحه القوة عندما يعيش مع الله ويرى ألطاف الله تفيض عليه وتهمي {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}( )، وعاش السكينة من خلال ذلك، وهذا هو الفرح الروحي الكبير الذي عاشه أبو عبدالله الحسين(ع) عندما تلقّى بيديه دم طفله الرضيع وكان في قلب الألم الأبوي في عمق معناه يعيش امتداد الفرح الروحي في ذلك "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله"( ).
فليتُك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك تضى والأنام غضابُ
وليت الذي بينيوبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ
هذا هو الفرح كل الفرح، وعلينا أن نعيشه عقلاً وقلباً وحركة وحياة حتى نحصل على تلك الهمسة الروحية ونحن نودع هذه الحياة {يا أيتها النفس المطمئنة ـ بكل حنان الله وبكل عطف الله وبكل رحمة الله، تعالي إليَّ ـ ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضية* فادخلي في عبادي ـ بأنك عشت العبودية كأعمق ما تكون وكأرحم ما تكون وكأقوى ما تكون ـ وادخلي جنّتي}( )، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثامنة عشرة: 17 شوال 1418 ـ الموافق14 – 2 – 1998م
إيحاءات وقعة (أُحد)
"إذا انهزمنا اليوم فهناك فرصةٌ بأن ننتصر غداً"
ـ في ذكرى موقعة أحد.
ـ نصر وهزيمة.
ـ الاعتراف بنقاط الضعف.
ـ قصة الواقعة.
ـ رأي النبي(ص).
ـ سبب الهزيمة.
ـ الرأي النقدي التحليلي.
ـ المؤمن لا يضعف أمام الانكسار.
ـ الأخذ بأسباب النصر.
ـ سنّة التمحيص.
ـ حضور الرسالة.
ـ إرادة الدنيا والآخرة.
ـ الموقعة المميزة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
في ذكرى موقعة أحد:
في هذه الأيام نستذكر موقعة من مواقع الإسلام في العهد الأول للإسلام، وهي موقعة أحد، فقد حدثت في هذا الشهر (شوال) واختلفت الروايات في التوقيت بين الثالث والسابع ومنتصفه، ولعل قيمة هذه الموقعة هي أنها جمعت للمسلمين النصر والهزيمة، فلقد عاش المسلمون شروط النصر في بدايتها كما عاشوا شروط الهزيمة في نهايتها، وقد دلّ ذلك أن الله سبحانه وتعالى يجري النتائج على حسب السنن التاريخية التي أودعها في حركية الإنسان في واقع المجتمع الذي يقوده رسول الله(ص)، وهو مَن هو في القرب من الله تعالى، وهو من هو في رعاية الله له، ولكن الله أراد له كما أراد للأنبياء(ع) من قبله أن يتحركوا بالجهد الإنساني لا بالجهد الغيبي وحده، وإذا كان الغيب يتدخل أو تدخل في بعض المواقع كـ"بدر" فإنه لم يكن يتدخل إلا في المواقع التي يتعرض فيها الإسلام للسقوط وللهزيمة المطلقة والانكسار كما في موقعة الأحزاب.
نصر وهزيمة:
لذلك فقد نحتاج إلى أن نتذكر موقعة "أحد" في شروط النصر في بدايتها وفي شروط الهزيمة في نهايتها لنستوحي منها على مستوى العبرة حركتنا في النصر في واقع الصراع الآن بين الكفر ومجتمع المستكبرين من جهة، وبين الإيمان ومجتمع المستضعفين من جهة ثانية، وقليل ما هو، والهزيمة وكثير ما هي، لنعرف ما هي شروط النصر لنأخذ بها وما هي شروط الهزيمة لنتفاداها.
ونلاحظ ـ أيها الأحبة ـ أن الله سبحانه وتعالى لم يهتم في كتابه بأية موقعة من مواقع الإسلام بهذا الحجم الذي أعطى فيه الاهتمام بموقعة أحد، ولعلّ قيمة هذا الاهتمام في أن الله سبحانه وتعالى تدخل في آياته التي حشدها في "سورة آل عمران" موجهاً للمسلمين ومنبهاً على أخطائهم، وقد كانت تلك مهمة القرآن، الذي كان كتاب الحركة الإسلامية من خلال الوحي، فكان يرعى أي تحرك للمسلمين وأية مشكلة يُصاب بها المسلمون ليوجههم إلى ما فيها من إيجابيات ليأخذوا بها وإلا ما فيها من سلبيات ليتفادوها.
الاعتراف بنقاط الضعف:
ولعل قيمة القرآن في حديثه عن كل حركة المسلمين في واقع الصراع هي أن القرآن يتحدث بالصوت العالي عن نقاط الضعف في المسلمين، كما يتحدث عن نقاط القوة، والله هو المتحدث، ليعطينا الفكرة بأن علينا إذا أردنا أن نخلص لأية حركة نتحركها في خط الإسلام، وفي خط قضايا الإنسان أن نعترف بنقاط الضعف، وأن تكون لنا الشجاعة للاعتراف بنقاط الضعف في عملية النقد الذاتي، لا أن نخفي نقاط الضعف، ولتكون كل حركتنا نقاط قوة، وربما لا يكون لنقاط القوة أي موقع كبير في ذلك..
فلاحظوا مثلاً قوله تعالى في موقعة بدر {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون}( )، ومن هم أولئك إنهم البدريون {يجادلونك في الحق بعد ما تبيّن كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون}( )، كما يساق الإنسان لخشبة الإعدام {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم}( )، ضعفاً وجبناً وهزيمةً نفسية.
لاحظوا كيف يحدّثنا الله عن أول طليعة إسلامية كان انتصارها قد فتح الجزيرة العربية على الإسلام عندما توازنت القوة بين قريش وبين المسلمين، ومع ذلك لم يخشَ القرآن من أن يتحدث عن نقاط ضعف المسلمين وهم فريق القرآن.. بينما نجد أننا جميعاً على مستوى القيادات وعلى مستوى الأحزاب وعلى مستوى المجتمعات وعلى مستوى القوميات وأي مستوى من المستويات سواء كانت القيادات والأحزاب والجماعات إسلامية أو غير إسلامية، نخشى من أن نتحدث عن نقاط الضعف، ونعادي من يحدثنا عن نقاط ضعفنا، إذ ليس هناك نقد ذاتي في الهواء الطلق، وربما لا نجد نقداً ذاتياً حتى في الكواليس، بل يحاول كل واحد منا أن يزايد على الآخر، ولكن خلق القرآن ليس كذلك، إن القرآن يحدثنا عن أن الإنسان إنما يملك أن يتوازن وأن ينتصر وأن ينمو إذا انتبه لنقاط ضعفه كما ينتبه لنقاط قوته، وهذه مسألة لا بد أن تدخل في نسيجنا الفكري الثقافي وفي نسيجنا السياسي وفي نسيجنا الاجتماعي، لأننا ننتفخ بالكلمات الفضفاضة في الوقت الذي يتحول فيه هذا الانتفاخ إلى حالة ورم على طريقة "المتنبي" وهو يخاطب "سيف الدولة".
أعيذها نظراتٍ منك صادقةً أن تحسب الشحمَ فيمن شحمُه ورمُ
فكم لدينا من الذين يعيشون ورم الشخصية من دون أي شحم حقيقي، وربما اي لحم حقيقي من خلال عناصر الشخصية الحقيقية!!
قصة الواقعة:
نحن مع "معركة أُحد" وتلخّصها كتب السيرة في أن قريش عزمت على أن تثأر لهزيمتها في بدر وجمعت مالاً كان هو أرباح التجارة التي جاء بها أبو سفيان ونجا بعد أن تعرض لها المسلمون ولم يفلحوا في إيقافها، فقد سخت نفوسهم من أجل أن يقدموا كل الأرباح التي حصلوا عليها وعبّأوا كل قوتهم، فكانوا كما تقول كتب السيرة ثلاثة آلاف فارس أو شخص أخرجوا معهم النساء منم أجل أن يشجّعن المقاتلين، وانطلقوا حتى أتوا (الحليفة) وهو الميقات ـ الآن ـ "مسجد الشجرة" وعسكروا هناك وعرف النبي(ص) بالأمر من خلال عيونه التي بثّها وأدرك قوتهم وكانت طريقته أن يشاور المسلمين في حركته في الحق، وانقسم المسلمون على رأيين، الرأي الأول: أن يبقى المسلمون في المدينة، ويقاتلون قريشاً عندما تهاجمهم، وينسب إلى النبي(ص) في كتب السيرة أنه كان مع هذا الرأي لأن بعض زعماء المدينة قالوا بأننا في تاريخ الصراع مع الآخرين كنا ننتصر عندما نحارب من داخل المدينة، أما إذا خرجنا فإننا قد ننهزم ولا نحصل على الانتصار.
وكان هناك رأي آخر يرى بأن القتال في المدينة يعطي أولئك إمكانية الحصار، وأن هذا يمكن أن يشكّل نقطة ضعف، وأن النبي(ص) قبل الرأي الآخر وتعقد بعض زعماء المدينة ممن أعطوا الرأي الأول.
رأي النبي(ص):
ونحب أن نعلّق على ما ذكره أهل السيرة من أن النبي(ص) كان مع الرأي الأول ولكنه خضع للرأي الثاني، نعلّق على ذلك في أننا نتحفظ على هذه الرواية، لأن النبي(ص) كان عندما يستشير، وتلك هي طريقته، كان لا يعطي رأيه بل كان يحتفظ برأيه ورأيه هو الرأي الصواب في ذلك، لأن النبي(ص) لا يمكن أن يتحرك في رأي لا يقتنع به لا سيما أن المسألة في هذا الرأي هي مسألة دماء تسفك ومسألة هزيمة وانتصار، فهي ليست من الأمور العادية في هذا الموقع او ذاك، بل هي من الأمور التي تتصل بقضايا المصير.
والنبي هو القيادة، ولذلك لا يمكن أن يخضع في حركته القيادية ليقود المسلمين من رأي يرى فيه الضعف حتاى لو أن غالبية المسلمين أشارت به، لذلك نحن نتحفظ في القول أن النبي(ص) كان يرى الرأي الأول ولكنه خضع للرأي الثاني، فلقد كان حازماً في الرأي الآخر، ولعلنا نعرف صوابية هذا الرأي من موقعة الأحزاب فإن المشركين عندما حاصروا المدينة ضاق الأمر بالمسلمين {وإذ زاغت الأبصار وبلغتِ القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا}( )، {هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً}( )، {إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم}( )، كان من الممكن جداً أن يحاصروا المشركين حصاراً كاملاً، ولذلك فإن الخروج من المدينة والقتال هناك مع وجود إمداد يتحرك ـ ربما يكون ـ ونحن لسنا من أهل الخبرة العسكرية ـ أصوب من هذا المكان.
سبب الهزيمة:
وعلى كل حال فقد خرج النبي(ص) وعبّأ أصحابه، وكانت هناك ثغرة وضع النبي فيها بعض المقاتلين وقال لهم كما تقول كتب السيرة "اثبتوا في مكانكم" سواء رأيتمونا انتصرنا أو انهزمنا، لأنهذه الثغرة هي التي يمكن أن يقوم فيها المشركون بعملية التفاف على المسلمين. وانتصر المسلمون في الجولة الأولى ولاحقوا المشركين وانتهت المعركة، أو هكذا خيّل للجميع، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم كما هي عادة المقاتلين في ذلك الوقت، ورأى أهل هذه الثغرة أن أخوانهم قد شغلوا بالغنائن وقال بعضهم لبعض لقد انتهت المعركة بالنصر فاذهبوا بنا إل أن نأخذ حصتنا من الغنائم أسوة بإخواننا، وتنازعوا أمرهم فيما بينهم وثبت بعض وانسحب البعض الآخر، ولاحت الثغرة لبعض قيادات المشركين وفي مقدمتهم خالد بن الوليد آنذاك، فرأى ضعف هذا الموقع لأنه لم يبقَ إلا القليل، فقام بعملية التفاف وقتل من في الموقع والتفّ على المسلمين وهم مشغولون بالغنائم، وعندما رأى المشركون الفارون أن أصحابهم يقاتلون رجعوا وكانت الهزيمة على المسلمين حتى أن رسول الله(ص) شقّت جبهته وكسرت رباعيته وسقط جريحاً حتى صاح صائح "لقد مات رسول الله".
الإيحاء النقدي التحليلي:
هذه هي خلاصة الوقعة، فما هي القضايا التي أثارها القرآن أمامه؟ تعالوا لنتابع القرآن، وهو لا يتحدث بطريقة السرد التأريخي ولكنه يتحدث بطريقة الإيحاء النقدي والإيحاء التحليلي، ولعل قيمة الأسلوب القرآني أن حديثه عن مفردات المعركة في النصر والهزيمة يتحرك في الأجواء الروحانية التي تربط الأشياء بالله تعالى وتقدّم الموعظة هنا وتذكّر بالآخرة هناك، وهذا أسلوب لا بد أن نتعلمه عندما نريد أن نواجه أية قضية سياسية أو اجتماعية أوأمنية بأن لا نتحدث بمفرداتها بالطريقة الأكاديمية الجامدة، بل أن نعطيها روحاً من روح الإسلام وأن نعطيها شيئاً من الوعظ الذي يدخل قلب الإنسان كما يدخل عقله حتى نظل نعيش مع الله ومع الآخرة ومع الروحانية الفياضة عندما نبحث كل قضايانا، لأننا ـ أيها الأحبة ـ عندما نبحث قضايانا على ضوء الإسلام وتحت رعاية آيات الله ومواعظه، فإننا نبقى مسلمين في وعي هذه القضايا.
أما إذا ناقشنا قضايانا بالطريقة المادية الجامدة فسوف ننسى الله معها وسوف نستغرق في الجانب المادي منها ونبتعد عن الجانب الروحي {وإذ غدوتَ من أهلك ـ من المدينة ـ تبوِّئ المؤمنين مقاعد للقتال ـ أي تجعل كل واحد منهم في موقعه ـ والله سميع عليم}( )، لاحظوا هذه اللفتة والله يسمعك وأنت تقدم تعليماتك لهذا وهذا ـ وهو عليم ـ يعلم ما في نفسك ويعلم حركة الحرب وحركة الواقع، وهذه تعطيك فكرة وروحية أنك عندما تدخل ساحات الصراع، فإن الله يسمعك وأنت تتكلم، فليكن كلامك في الخط الذي يحبه الله، والله يعلم بك وأنت تفكر وتنوي وتتحرك، فاعلم بأنك في عين الله ورعايته ورقابته {إذ همّت طائفتان منكم ـ عشيرتان ـ أن تفشلا ـ من خلال حالة التردد وحالة التراجع والشك والهزيمة النفسية ـ والله وليُّهما ـ من خلال حالة التردد وحالة التراجع والشك والهزيمة النفسية، فإن الله يقول لهما بطريقة إيحائية كيف تتحركون في خط الفشل وفي خط التردّد والنزاع ـ والله وليّهما ـ يرعاكما ويعدكما النصر ويحفظ كل خطواتكما ومن أحسّ بأن الله وليّه فأي ضعف هو الضعف الذي يعيشه وأي خوف هو الخوف الذي يتحرك في نفسه ـ وعلى الله فليتوكّل المؤمنون}( )، ما دُمتُم في معركة تعتبرونها الأساس الشرعي لأن القائد فيها هو رسول الله، ولأنها تتحرك من أجل نصرة دين الله، فلماذا لا تتوكلون، هيئوا كل وسائلكم وتوكلوا على الله {وعلى الله فليتوكّل المؤمنون}.
المؤمن لا يضعف أمام الانكسار:
وهذا ما قاله الله لرسوله {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت ـ وركّزت عزيمتك ـ فتوكّل على الله}( )، وهذا هو درس لكل العاملين في سبيل الله في أي موقع كان العمل بأن يهيئوا كل ما لديهم من الوسائل مما أراد الله لهم أن يهيئوه ثم ليتوكلوا على الله في ذلك ويتحدث الله عن بدر وهو يحدثهم عن نصرته، ثم بعد ذلك يأتي إلى نفس الموقعة بعد أن يطوف بهم في مواقع مغفرته، وفي مواقع الحصول على جنته وما إلى ذلك.
يقول لهم بعد أن انهزموا ليحدثهم وليعطيهم القوة ثم يبيّن لهم أسباب الهزيمة {ولا تهنوا ـ لا تضعفوا ـ ولا تحزنوا ـ لا تملأ نفوسكم مشاعر الحزن عندما تعيشون هذه الهزيمة أو هذه الجراحات أو هذا الضعف ـ وأنتُم الأعلون إن كنتم مؤمنين}( )، فالمؤمن لا يضعف أمام أي انكسار، أمام أية هزيمة،لأن المؤمن يبقى مع الله ويستمد القوة من الله ويعرف {أن القوة لله جميعاً}( )، ويقول كما قال رسول الله في أشدّ ساعات الضيق {لا تحزن إن الهل معنا}، {إن يمسسكُم قرحٌ ـ سقط منكم شهداء وجرحتم، فليس بدعاً من حالات الحركة الإسلامية في ساحة الصراع ـ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله ـ والحياة بحسب سنن الله في حركة الإنسان وفي تاريخ الحياة ليست لوناً واحداً، ليس هناك انتصار على مدى الخط، وليس هناك انكسار على مدى الخط، ليس في الدنيا قوة خالدة وليس في الدنيا ضعف خالد، فالدنيا هي حركة تداول بين الحق والباطل، فقد يحكم الحق في موقع وقد يحكم الباطل في موقع ـ وتلك الأيام نداولها بين الناس}( ).
وهذه ـ أيها الأحبة ـ حقيقة روحية من جهة وتاريخية واقعية من جهة أخرى، أما الحقيقة الروحية فهي أن يستنفر المؤمن إيمانه في كل أوضاعه فلا يفقد إيمانه في كل إيحاءاته في حال الهزيمة وفي حال الانتصار وذلك بأن لا يضعف، وأن لا يحزن، وإنما يدرس الأمور بعناصرها الموضوعية التي تفسّر له معنى الهزيمة هنا ومعناى الانتصار هناك.
الأخذ بأسباب النصر:
والنقطة الثانية، هي أن يعرف أنه ليس معنى أنه مؤمن أن الله ينصره بطريقة غيبية، بل أن الله يخطط له ليأخذ بأسباب النصر، وأن لله سنناً في الكون وسنناً في الناس وسنناً في الأشياء، وربما تقتضي سنن الله التي هي في مصلحة الإنسان حتى الذي يتأثر سلبياً بسنن الله هي في مصلحة الإنسان بشكل عام.
هذه المسألة ـ أيها الأحبة ـ تجعلنا نواجه الواقع بموضوعية عندما نرى أن الله بحكمته يداول الأمور بين الناس، لذلك لا بد أن تعطين هذه القرةنظرية إسلامية دينية تطل بنا إلى أن المتغيرات في الكون حتى لو كان لها تأثير سلبي علينا فهي من سنة الله في الكون، فلا نتعقّد من المتغيرات ولا تسقطنا الهزيمة في دائرة اليأس، بل يبقى الأمل بالله من جهة وبالسنن التاريخية لتي وضعها الله من جهة أننا إذا انهزمنا اليوم فهناك فرصة بأن ننتصر غداً إذا أخذنا بأسباب النصر لأنهم إذا سيطروا علينا اليوم فيمكن أن نسيطر عليهم غداً، وهذا أمرٌ يبعد المسيرة الإسلامية والإيمانية وسيرة المستضعفين في الأرض عن كل حالات الإحباط واليأس.
ونحن نعيش في هذه الأيام ـ أيها الأحبة ـ لوناً من ألوان اليأس الذي يجبّن فيه بعضنا بعضاً، ويُضعف بعضنا بعضاً، على أساس أن أمريكا هي قائدة الكون كله التي يتحدث إعلامها عن أنواع الطائرات والبوارج والأساطيل وما إلى ذلك.. مَن يمكن أن يقف ضد أمريكا، كما يتحدث الناس بذلك، وينطلق الإعلام ليُضعف ويُضعف ويُضعف، ويهوّل ويهوّل ويهوّل، ولكن أمريكا الضخمة بكل قوتها العسكرية سقطت في فيتنام، وأمريكا القوية بكل عساكرها سقطت في لبنان، إذ استطاع استشهاديان مسلمان أن يندفعا في مواقع المارينز والمظليين الفرنسيين وفرضا من خلال الظروف الموضوعية المحيطة على أمريكا أن تنهزم من لبنان.
أيها الأحبة، إن الفيل لا يستطيع أن يدخل الزقاق، ولا يستطيع دائماً أن يهدم الزقاق، لذلك فلا تنسَ بأن للشعوب كلمة وأن للشعوب قوة وأن الكبار لا يستطيعون دائماً أن يثبتوا أمام سلاح الصغار، ولي معادلة كنت أتحدث بها دائماً، وهي أن للضعيف عنصر قوة وفي القوي عنصر ضعف، غير أن مشكلتنا أننا نقاتل القوي في نقاط قوته بنقاط ضعفنا، فيما يجب أن تكون المعادلة التي نأخذ بها أننا يجب أن نقاتل القوي في نقاط ضعفه بنقاط قوتنا وأن لا ننسى نقاط قوتنا عندما نقف أمام القوي ولا ننسى نقاط ضعفه، وأعتقد أن حركة الشعوب يمكن أن تجرح القوي إذا لم تسقطه {وتلك الأيام نداولها بين الناس}.
سنّة التمحيص:
ثم يحدثنا الله أن ما يصيبنا به فهو من خلال سنّته {وليعلَم الله ـ والله يعلم كل شيء من دون حاجة إلى أشياء مادية، لكن ليظهر الله ذلك ـ الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء}( ) وليس من الضروري أن يكون المراد الشهادة في الحرب، بل الشهداء الذين يشهدون على أمتهم بمواقف الحق وبوعي الحق {والله لا يحبّ الظالمين* وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين}( )، إن الكثير من حالات الصراع التي قد يُبتلى بها المؤمنون عندما يدخلون التجربة الصعبة هي من أجل أن الله يمحصهم، يمحص الإنسان المخلص من الإنسان غير المخلص، لأن التجارب هي التي تُظهر جوهر الإنسان {ويمحق الكافرين} من خلال الثبات الذي يثبّت به المؤمنين.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى أيضاً في خط التوعية الروحية والتوعية التي تجعل الناس حتى الذين هم في الحرب يتمنون الجنة، يقول الله لهم: إن الجنة ليست بالمجان بل لا بد أن تدفع من جهدك ومن معاناتك ومن صبرك ومن كل جراحاتك، أن تدفع ذلك كله لتحصل على الجنة، وقد حدّثنا الله تعالى عن ذلك بأسلوب مميز {أم حسبتُم ـ بحسب أمنياتكم وبحسب ظنونكم وبحسب هذه الأجواء العابثة التي يتحدث بها أحدكم عن الجنة ـ أن تدخلوا الجنّة ـ ولا تعيشون التجربة ـ ولمّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}( )، لن تدخلوا الجنة حتى تعيشوا كل معاناة الجهاد وكل ثبات الموقف في خط الجهاد، وحتى تعيشوا معاناة البلاء والمصائب وتصبروا ولا تسقطوا أمام ذلك {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذي جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}، فكثير منكم يقعد في بيته ويتمنى الوت "ألا موتٌ يُباع فأشتريه" تتمنون الموت بطريقة استهلاكية وبطريقة ذاتية، فإذا كنتم تحبون الموت فإن الله يقدم لكم الموت ولكن على خط الشهادة وعلى طبقٍ من ذهب {ولقد كنتم تمنّون الموت من قبل أن تلقوه ـ في ساحة الجهاد ـ فقد رأيتموه وأنتم تنظرون}( )، فلماذا تقاعستم والخطاب لمن يتقاعس، ولماذا ترددتم والخطاب لمن يتردد، ولماذا انهزمتم والخطاب لمن ينهزم.
حضور الرسالة:
ثم يدخل القرآن الكريم في توجيه الله للناس حيث يركز قاعدة قد تكون منطلقاتها في رسول الله(ص) ولكن امتدادها في كل قيادة تحمل رسالة وتحمل قضية، وهي أن الشخص عندما ينطلق بالرسالة أو بالقضية وينقلبوا عليها عندما يغيب الرسول أو القائد، لأن الرسول هو الذي يطلق الرسالة، ولأن القائد هو الذي يخطط لحركة القيادة، ولأن صاحب القضية هو الذي يحرك القضية، وعلى الذين يسيرون معه أن يحملوا الرسالة من بعده، وأن يصنع كل واحد منهم شخصية قائد من نفسه أو يبحث عن القائد {وما محمد إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل}( )، فالله لم يضمن له الخلود ليبقى مع كل الأجيال التي تتبعه في رسالته، ولم يعطه الأمن من الموت {وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون}( )، {إنهم ميت وإنهم ميتون}( )، تلك هي سنة الله {كل نفسٍ ذائقة الموت}( )، أفإن مات حتف أنفه أو قتل في المعركة {انقلبتم على أعقابكم} إنكم ارتبطتم بالرسالة من خلال الله عندما انطلق بها رسول الله(ص) وليست علاقتكم به علاقة الإنسان بالشخص من خلال نسبه، ولكن علاقتكم به من خلال صفة الرسالة في شخصيته وصفة الرسالة فيه هي صفة تمثّل شخصه كتجسيد للرسالة، كما تمثل كلماته وأفعاله حركة الرسالة، فإذا مات الرسول فالرسالة باقية وعليكم أن تحملوا الرسالة إذا مات القائد، وعليكم أن تواصلوا القضية التي انطلق بها..
وهكذا في كل موقع يحمل الصفة العامة للناس، لا سيما إذا كانت هذه الصفة ترتبط بالله الخالق الأزلي في كل ذاته {كلُّ مَن عليها فان* ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام}( )، إذا مات الرسول فإن الله لم يمت، وعلاقتكم بالله من خلال الرسول {أفإن مات أو قُتل انقلبتُم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه} لا تتصوروا أنكم في موضع الأهمية، بحيث يتزلزل عرش الله وتبكي ملائكته إذا انقلبتم على أعقابكم {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد* إن يشأ يذهبكُم ويأتِ بخلقٍ جديد* وما ذلك على الله بعزيز}( )، {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}( )، {وما كان لنفس ـ سواءً كانت نفس النبي(ص) أو نفس غيره ـ أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يُرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يُرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين}( ).
إرادة الدنيا والآخرة:
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ يحدثنا الله سبحانه وتعالى {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسّونهم ـ تقتلونهم ـ بإذنه ـ فالله وعدكم بالنصر عندما أخذتم بأسباب النصر ـ حتى إذا فشلتم ـ دبّ إليكم الفشل وضعفت الإرادة وسقط الوعي ـ وتنازعتم في الأمر وعصيتم ـ أمر القيادة في أن تثبتوا في هذه الثغرة ـ من بعد ما أراكم ما تحبون ـ من بعد النصر ـ منكم من يريد الدنيا}، ونعرف من خلال ذلك أن في الصحابة من كان يريد الدنيا، لذل نحن نعظّم الصحابة الذين انفتحوا على الله وأرادوا بجهادهم الدار الآخرة، ولكن ليس من الضروري أن نتحدث عن عصمة الصحابة، فقد كانت نقاط الضعف تعيش في داخل بعضهم وقد كانت نقاط القوة تعيش في بعضهم الآخر، ولكلٍّ حصته من الضعف فيما يتحمله من مسؤولية نتائج هذا الضعف، ولكلٍّ حصّته فيما يحصل من نتائج القوة بحسب ما يريده الله.
فالقرآن هو الأساس وعلينا أن نعرف كل ما جاءنا من حديث على القرآن "ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه"( )، "كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"( )، ولكن يجب أن تفهموا كتاب الله جيداً حتى تقيسوا عليه ما يأتي من أحاديث، لأن الكذّابة قد كثرت على رسول الله(ص) وعلى أئمة أهل البيت(ع)، ولذلك اجعلوا القرآن حاكماً على الأحاديث، يقول الله تعالى {منكم من يريد الدنيا} وهم الذين اهتموا بالغنائم والأسلاب ولم يهتموا بأوامر الرسول وعصوا الرسول {من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ـ وهم الذين انسحبوا ـ ومنكم من يريد الآخرة ـ وهم الذين ثبتوا ـ ثم صرفكم عنهم ـ لأنكم لم تأخذوا بأساب النصر في الاستمرار بعدما أخذتم بأسباب النصر في البداية ـ ليبتليكُم ولقد عفا عنكم ـ لأنه يعرف نقاط الضعف فيكم وعرف قسوة الموقع ورأى منكم التوبة والاستغفار ـ والله ذو فضلٍ على المؤمنين}( ).
{إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحد ـ وأنتم فارّون ـ والرسول يدعوكم في أخراكم ـ ينادي: أيها الناس تعالوا إليَّ فأنا ما زلت حيّاً ـ فأثابكم غمّاً بغمّ ـ أثابكم هذا الغمّ بسبب الغمّ الذي فرضتموه على الواقع وعلى المعركة ـ لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ـ حتى تعرفوا أن على الإنسان إذا وقع في خسارة أو في مشكلة أن لا يتجمّد فيها بل يعالجها بالتوبة والندم والتراجع لينفتح على المستقبل ـ ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون}( )، {ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنة ـ بعد الجهد والتعب ـ نُعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية ـ لا يعيشون عمق الإيمان بالله وعمق قوة الله ولطف الله والثقة بالله ورعاية الله ـ يقولون هل لنا من الأمر من شيء ـ لا نملك شيئاً ـ قل إن الأمر كله لله ـ فمَنْ له أمام الهل شيء؟ ـ يخفون في أنفسهم ـ من النفاق ـ ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا ـ هؤلاء الذين هم الطابور الخاسم الذين جاؤوا بعد المعركة حتى يستغلوا نقاط الضعف ولكي يبعدوا الناس عن الرسول يقولون ـ لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتِلنا ها هنا ـ أي لو أن القضيةلنا ولم يتسلمها النبي(ص) ما قتلنا ها هنا، قل هل أنكم تملكون آجالكم ـ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور}( ).
الموقعة المميزة:
وتبقى آيات وآيات توحي بدروسٍ وعبر، وتبقى "أُحُد" في كل التاريخ موقعة مميزة، فليس في معارك الإسلام موقعة مثلها لأنها الموقعة الوحيدة التي عاش فيها المسلمون النصر والهزيمة معاً، وعلينا أن نعتبر بها ـ أيها الأحبة ـ ونحن في معركة كبرى على مستوى العالم ضد المستكبرين وضد الكافرين، فلنأخذ من معركة "بدر" ما يجعل النصر قاعدة لنا، ولنأخذ من معركة "أُحد" الدرس في أن لا نحوّل خطة النصر إلى هزيمة، وأن لا نعصي قيادة الحق في كل ما تبشّر به وتأمر به، وذلك هو درس التأريخ.. {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يُفترى}( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة التاسعة عشرة: 24 شوال 1418 ـ الموافق21 – 2 – 1998م
في ذكرى الإمام الصادق(ع)
العلماء الواعون.. والأمة المسؤولة
"لا نملك إلا الانحناء الفكري أمام الفكر الذي مهما تقدّم الزمن فإنه يبقى في جدَته"
ـ المناسبة الكبيرة.
ـ المدرسة الصادقية.
ـ الفكر الموسوعي.
ـ مجالسة الناس.
ـ الإمام الصادق(ع) أستاذنا.
ـ الفقيه في نظر الصادق(ع).
ـ الفقيه والكاتب.
ـ التأكيد على ضرورة المعرفة.
ـ أهمية السؤال.
ـ أهمية الكتاب.
ـ العلم مسؤولية العالم.
ـ التركيز على القرآن.
ـ خالطوا الناس.
ـ نداء الإمام الصادق(ع).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
المناسبة الكبيرة:
المناسبة كبيرةٌ جداً.. كبيرة في الاسم الكبير الذي تمثله. فهذا الإمام العظيم "جعفر بن محمد الصادق(ع)" الذي ملأ الدنيا علماً وروحانيةً وحركيةً ومنهجيةً وخطاً إنسانياً، بحيث كان أستاذ كل مرحلته في العالم الإسلامي، وانطلقت عطاءاته العلمية والفكرية إلى المدى الذي تجاوز مرحلته، وما زال الناس في كل مرحلة من مراحل الزمن عندما يقرأون في كل تراثه فإنهم لا يملكون إلا الانحناء الفكري لهذا الفكر الذي مهما تقدم الزمن فإنه يبقى في جدته بحيث تشعر وأنت تعيش في هذا العصر أنه يحدثك عن مشاكل عصرك وأنه ينفتح على إنسان هذا العصر ليربي عقله وروحه وليدفع به إلى الحركة من أجل أن ت كون الحياة أغنى ويكون الإنسان أفضل، وترتفع الحياة إلى أعلى ما يريده الإسلام من مستوى.
المدرسة الصادقية:
إنه الإمام جعفر بن محمدالصادق(ع) الذي إذا قرأناه وتابعنا مدرسته فإننا نجد أنها المدرسة التي التقى الجميع عليها، سواء في خطها الفكري أو في خطها الروحي أو في خطها الحركي أو في عطاءاتها الاجتماعية أو في إيحاءاتها وخطوطها السياسية.
إنني لا أستطيع أن أتصور الإمام جعفر الصادق(ع) إنساناً عاش قبل ما يقارب (13) قرناً ولكني أشعر به كما لو كان يعيش معنا في كل العناوين التي تحدث بها، كان أصحاب المذاهب يلتقون عنده، وكانوا ينفتحون على فكره وعلى روحانيته حتى رأينا (مالك بن أنس) يحدثنا عن هذه الروحانية التي تفيض على كل جلسائه، فلقد كان أسلوبه أسلوب القرآن ولقد كان يقول التي هي أحسن ويدفع بالتي هي أحسن.
الفكر الموسوعي:
وكان يصبر على نزوات السائلين الذين يتحركون في أسئلتهم إلى مستوى الجرأة، فتصوّر الإمام(ع) جالساً إلى جانب بيت الله الحرام وهناك قائل يقول له كما لو كان يسخر وهو يشير إلى الطائفين في الكعبة: إلى كم تدوسون هذا البيدر؟! ولا ينفعل الإمام، بل إنه يتحدث معه برفق ولكن بحذر حتى يعرّفه أن كلامه ليس كلام عاقل يريد أن يحاور، ولكنه كلام معقّد يريد أن ينفّس عن عقدته.
وهكذا رأيناه يتقبّل كل سؤال، فيأتي إليه شخص يقول له: دلّني عل معبودي؟ ويتحدث معه برفق الكلمة التي يريدها أن تكون رقيقة في عمق المعنى لتدخل إلى عقله برفق ولتملأ عقله بالفكر، وكان يأتيه بعض الناس ليطرح سؤالاً أشبه بأسئلة التحدي غير العقلاني منها بالأسئلة التي تمثل جانب الحوار والتعقّل: هل يستطيع ربك أن يدخل الدنيا في بيضة فلا تكبر ولا تصغر الدنيا؟! وأراد الإمام(ع) لهذا الشخص الذي لا يتحدث بفكر وإنما يتحدث بسذاجة أن يفتح عقهل، فقال له: تطلّع بعينيك، ماذا ترى؟ فقال له: إنني ارى سماءً وأرضاً وجبالاً وأناساً وما إلى ذلك. فقال له الإمام(ع): إن الله الذي هو قادر على أن يجعل كل هذا في البؤبؤ قادر على أن يفعل كل شيء، ولكن هذا لا يكون، فالبيضة لا قابلية لها أن تحتوي الدنيا، وإذاً فالعجز ليس في القادر ولكن العجز في المقدور، قال: "إن الله قادر على كل شيء ولكن هذا لا يكون".
مجالسة الناس:
كان يجيب عن كل سؤال ولا يتعقّد من أي سؤال، كان يجلس إلى الناس ليستمع إليهم ويتحدث إليهم بكل رفق، ومن هنا ـ أيها الأحبة ـ إذا أردنا أن نتحرك في خط الإمامة فإن خط إمامته، لا سيما للعلماء وللمفكرين، أن يجلس العالم إلى الناس دائماً في كل شيء ليجيب عن كل ما يستطيع الإجابة عنه، لا يمكن أن يتحول العلماء في كل زمان ومكان إلى طبقة تعلو على الناس بحيث يهابها الناس، لا هيب العلم ولكن هيبة المركز المتعالي، بل أن يتواضع العالم للناس كما يتواضع الناس للعالم، تواضع لطالب العلم هنا، وتواضع للعالم هناك.
كان الصادق(ع) الإنسان الذي قال عنه بعض الذين يُقال عنهم أنهم من الزنادقة: "ما أقول في رجل إذا أراد أن يتجسّد تارةً ويتروّح تارة"، يعني بحيث أنه يصفو صفاءً تشعر معه أن هناك روحاً تنفتح أمامك كما لو لم يكن هناك جسد يحمل هذه الروح، وإذا أراد أن يتجسد ليبرز إليك بوجوده المادي رأيته أمامك لأنه إنسان يعيش الروح كما يعيش الجسد في وجوده.
الإمام الصادق(ع) أستاذنا:
أيها الأحبة، إن الإمام الصادق(ع) كما هو إمامنا فإنه أستاذنا، لأننا لا نزال نقرأ كل فقهه ونقرأ كل فلسفته وكل الخطوط الفكرية والعملية في مدى الأشياء التي نحتاجها في الحيا، لذلك عندما تريدون أن تنتموا إليه فعليكم أن تدخلوا إلى كل حياته وإلى كل رسالته وإلى كل تراثه، لأنه استطاع أن يعرّفنا الإسلام كأفضل ما تكون المعرفة، ونحن نريد ـ أيها الأحبة ـ أن نتوقف عند بعض كلماته لنرى، كيف كان يفكر قبل أن يكون إماماً بالمعنى العقيدي للإمامة، وكيف كان يخطط، ففي الحديث عن بعض أصحابه وهو (هشام بن سالم) حيث ينقل عن أبي عبد الله(ع) قال: لما حضرت أبي الوفاة الإمام محمد الباقر(ع) قال: "يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً" هؤلاء الذين رباهم وهؤلاء الذين كانوا يتعلمون عنده ـ قلت: جُعلت فداك، والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً"( )، أي سأعلّمهم بحيث لا يحتاجون إلى علم أحدٍ، فما هي دلالة هذا الكلام؟
إن الإمام(ع) كان قبل أن يتسلم زمام الإمامة يخطط لأن يكون الناس الذين ربّاهم أبوه والذين يعيشون معه بعد ذلك، على تربية علمية وثقافية، بحيث يملكون العلم بالمستوى الذي لا يحتاجون فيه إلى أن يسألوا أحداً.. هذا المستوى من التخطيط العالي لإغناء الناس بالثقافة، بحيث أنه لا يقتصر على أن يسألوه ليجيب، بل أنه كان يريد أن يحيط بهم نم جميع الجوانب حتى يعطيهم هذا العلم وحتى يعمل على أن يتمثلوا هذا العلم في أفكارهم وفي عقولهم.
وكان الإمام الباقر(ع) يعرف ذلك، حيث ينقل بعض أصحابه وهو (أبو الصباح الكناني) يقول: نظر أبو جعفر محمد الباقر إلى أبي عبد الله الصادق(ع)، فقال هذا والله من الذين قال الله عز وجل {ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهُم أئمةً ونجعلهُم الوارثين}( )"( ). كان يعرف طاقاته ويعرف كل إحساسه بالمسؤولية، لأن قضية أي إمام من الأئمة(ع) فيما نعتقده ليست أنه عالم يريد أن يعلّم الناس ولكنه يتمثل مسؤوليته في كونه امتداداً للرسول من دون رسولية ومن دون نبوة، بحيث يعيش همّ الإسلام وهمّ المسلمين بالدرجة التي يريد أن يحوّل الحياة كلها إسلاماً في الخط الأصيل.
الفقيه في نظر الصادق(ع):
كيف كان يتمثل الفقيه الذي يريد له أن يكون في الموقع القيادي في المجتمع، هل الفقيه مجرد إنسان يعيش في داخل فقهه ليستغرق فيه بعيداً عن حركية الرسالة في وعي الناس؟ وهل أن الفقيه هو الإنسان الذي يحفظ ما يأتي هنا دون أن يحركه في دراسة داخل الإنسان كيف ينمو نمواً طبيعياً؟ لأن القضية ليست هي أن تحفظ آية من هنا وآية من هناك وحديثاً من هنا وحديثاً من هناك، بل إن عليك أن تستوحي هذه الآية وتلك الآية لتصنع منها إنساناً متوازناً.
هنا يروي الإمام الصادق(ع) عن أمير المؤمنين(ع) في هذا المجال عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: قال أمير المؤمنين(ع): "ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه"( ) الفقيه الذي يعيش حق الفقه وحق رساليته وحركيته "من لم يقنّط الناس من رحمة الله"( ) الذي إذا أراد أن يحدث الناس عن عذاب الله فإنه لا يصوّر لهم المسألة كما لو كان الله تعالى يريد أن يرصد الإنسان ليكتشفه على معصية ليعاقبه عليها، كما يفعل بعض الناس، فإنهم عندما يمارسون أسلوب الوعظ فإنهم يصورون لك الله سبحانه وتعالى في الصورة التي تشعر فيها أن عليك أن لا تتحسس شيئاً من رحمته وأنه يحيط بك من جميع الجهات حتى يراك على معصية لتكون تلك فرصة ليعذبك بها.
"الفقير من لم يُقنِط الناس من رحمة الله" حدثهم عن عذاب الله لتثير في نفوسهم شيئاً من الخوف الذي يجعلك تنضبط أمام الإحساس بالخطر، ولكن لا بد لك من أن تتحدث عن العذاب لتتحدث ـ في الأثناء ـ عن المغفرة والرحمة حتى يتوازن الأمر "ولم يؤمنهم من عذاب الله"( ) ليتحدث إليهم عن أن الله غفور رحيم وأن عليكم أن لا تتعقّدوا من المعصية، خذوا حريتكم ـ كما يقول بعض الناس ـ عندما تحدثهم عن مسؤولياتهم بالطريقة الشعبية (ليوم الله يهوّن الله)، أي أن الله يهوّن علينا الحساب ي يوم الحساب، بحيث أنه يحاول أن يؤمنهم من عذاب الله "ولم يرخص لهم في معاصي الله" بحيث يهوّن عليهم المعاصي ويسهلها لهم "ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره"( ).
الفقيه والكتاب:
والفقيه كل الفقيه هو الذي ينطلق فقهه من كتاب الله، بحيث يحاول أن يستوحي كتاب الله باعتبار أنه الأساس، لا كما يفعل بعض الناس في أنهم يطرحون كتاب الله جانباً ليأخذوا بحديث هنا وحديث هناك، نحن لا ننكر أن علينا أن نقرأ أحاديث رسول الله(ص) لأن الله يقول {ما آتاكُم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}( )، وكان كتاب الله هو الأساس الذي تتلمذ عليه الرسول(ص) وتتلمذ عليه الأئمة(ع) وتتلمذ عليه كل الصحابة، ولا نزال نتتلمذ عليه ونستوحي منه أن كلام الله يجمع الإسلام كله من خلال الخطوط العامة "ألا لا خير في علم ليس فيه تفهُّم"، فلا بد لك من أن لا يكون مجرد حفظ واستظهار، بل أن يكون وعياً وثقافة، بحي يكون جزءاً من عقلك، وجزءاً من شعورك وشخصيتك "ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر"( )، {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها}( )، "ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه"، فلا بد أن يعبد الإنسان ربه بوعي العبادة في كل ما يتمثله في العبادة مما يفعل ومما يقرأ.
التأكيد على ضرورة المعرفة:
وهكذا نرى الإمام الصادق(ع) يؤكد على المعرفة من خلال أن تكون الإنسان الذي يملك المعرفة التي تمنحك الوعي لعبادتك والوعي لكل حركتك. عن (الحسن بن زياد الصقيل) قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "لا يقبل الله عز وجل عملاً إلا بمعرفة" فهل تريد أن يقبل الله صلاتك؟! ما هو وعيك لصلاتك، ما هو فهمك ومعرفتك لما تقرأ من سور وما تذكر من أذكار وما تفعل من ركوع وسجود ووقوف بين يدي الله؟ "لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة" لأن مسألة العبادة كالصلاة ليست حركات رياضية، إنها حركة روحية فلا بد أن تنطلق صلاتك لتهدي روحك ولتجعل إحساسك وشعورك في حالة صفاء ونقاء ولتفتح أمامك كل مواقع الصراع لتنهاك عن الفحشاء والمنكر.
وهكذا بالنسبة إلى الصوم، أن لا يظمأ أو يجوع جسدك مما تحرمه من طعام وشراب، ولكن أن يظمأ جسدك ويجوع من أكل الحرام وشراب الحرام وشهوة الحرام، إن عليك أن تحوّل هذا الظمأ إلى ريٍّ للروح عندما تصوم عمّا أراده الله لك أن تصومه في العمر كله وهو الصوم الكبير، الصوم عن الحرام "ومن لم يعمل فلا معرفة له" لأن المعرفة هي التي تقود إل العمل "إن الإيمان بعضه من بعض"( )، فالإيمان الحق هو الذي يقوّي فيه جانب الفكر جانب العمل والذي يتحرك فيه الفكر والعمل ليحدد لك الطريق وليحدد لك الأهداف في الدنيا والآخرة.
أهمية السؤال:
كان الإمام الصادق(ع) يريد للناس أن يسألوا، فإذا كنت لا تعلم فعليك أن تسأل، لا تتجمد، فإن جهلك ليس عذراً لك أمام الله ما دمت تستطيع أن تحوّل جهلك إلى علم، فالله يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}( )، والحديث يقول: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة أكنت عالماً فإن قال نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل"( )، وذلك هو معنى {فلله الحجّة البالغة}( )، إذا كنت تستطيع أن تتعلم فإن جهلك لا يمثل عذراً لك أمام الله، ولذلك قال الإمام الصادق(ع) لحمران بن أعين في شيء سأله: "إنما يهلك الناس" ودققوا في كلمة (إنما يهلك) "إنما يهلك الناس أنهم لا يسألون"( )، يهلكون لأنهم جهلوا تكاليفهم وجهلوا عقيدتهم فانحرفوا من موقع الجهل وكانوا القادرين على أن يسألوا العلماء وأن يسألوا أهل المعرفة، ولكنهم تباطؤوا عن ذلك ولم يتحسسوا أهمية ذلك فارتطموا بالمعصية من حيث أنهم عاشوا الجهل وابتعدوا عن خط الاستقامة لأنهم لم يعرفوا الصراط المستقيم ولم يميّزوا بينه وبين صراط المغضوب عليهم وصراط الضالين، فتاهوا وضاعوا وهلككوا "إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون".
أهمية الكتابة:
وكان يريد للناس أن يكتبوا، كما كان يريد لأصحابه أن يكتبوا ما يسمعونه فلربما عرض لهم النسيان وضاع العلم بالنسبة إليهم وبالنسبة للآخرين، بينما تكون الكتابة حفظاً للعلم لمنفعة النفس والآخرين، عن (المفضّل بن عمر) قال: قال أبو عبد الله الصادق(ع): "اغكتب وبثّ علمك في أخوانك فإن متّ فأورث كتبك بنيّك فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم"، لأنهم قد لا يجدون من يعلّمهم وقد تضيع عندهم الحقيقة وقد تختلف السبل أمامهم، فإذا كانت لهم كتب تحدّد لهم خطوط الاستقامة وآفاق المعرفة، فإنهم لا يضيعون.
عن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبدالله(ع): "احتفضوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها" وبهذا خطّط لأن يكتب الناس وأن يؤلفوا وأن يدرسوا وأن يحقّقوا لتمتدّ الثقافة من جيل إلى جيل بحيث يشعر الإنسان أنه مسؤول عن مستقبل الأجيال من بعده فيما يملكه من علم كما هو مسؤول عن مستقبل الأجيال التي تعيش معه. فكم من العلماء الذين كانوا يبدعون في الفكر وكانوا يرتفعون في مستوى العلم ضاع علمهم عندما دفنوا في التراب لأنهم لم يكتبوا شيئاً، ولأن من سمعهم لم يكتب عنهم شيئاً فكانت حياتهم ضياعاً.
العلم مسؤولية العالم:
لهذا، نستوحي من ذلك ـ أيها الأحبة ـ أنه لا بد لكل عالم ولكل مفكّر أن يتحمّل مسؤولية الأجيال التي تأتي من بعده ليترك لها علمه لتستفيد منه كما يهتمّ بمستقبل الجيل الذي يعيش معه، وتلك هي مسؤولية العلم أن تعيش مسؤولية علمك، فهو ليس لك، بل إن علمك للناس "إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله"( )، هذا هو حديث رسول الله(ص)، لوذلك فإن علمك ليس ملكك، ليس شيئاً يخصك، إنه يخصّ الإسلام في مواجهة كل التحديات التي تواجهه، إنه يخصّ الناس الذي يطلبون الهدى وقد لا يكون الهدى إلا عندك، لذلك ليس من حقك أن تقبع في زاوية لتحجب عن الناس علمك، بل لا بد لك أن تبذل العلم تماماً كما تبذل المال، فإن للعلم زكاته كما للمال زكاته، لا بد لنا أن نفكّر بهذه الطريقة..
وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين(ع) وعن الإمام جعفر الصادق(ع) فيما رواه عنه: "ما أخذ الله على الجهّال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا"( )، لذلك لا يمكن أن يكون العالم حيادياً أمام الجهل ولا يمكن أن يكون انعزالياً عن المجتمع إذا كان يعيش مسؤولية العلم.
التركيز على القرآن:
ثم كان الإمام(ع) يركز على القرآن، أن نقرأه، أن نستوحيه، أن نتعلّم منه، أن نتدبّره، وأن نستنبط منه مفاهيمنا وأحكامنا وخطوطنا ومناهجنا، قال لراوٍ من أصحابه اسمه (زمزم): "إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه حتى بيّنه للناس حتى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا انزل في القرآن إلا وقد أنزله الله فيه"( )، فالقرآن اشتمل على تبيان كل شيء في مستوى الخطوط العامة وفي مستوى القواعد وفي مستوى المفاهيم العامة {أفلا يتدبّرون القرآن}( ) أن لا تقرأ القرآن قراءة سطحية، بل أن تقرأ القرآن قراءة تنفتح فيها على كل حياتك وعلى كل ما يريده الله منك، بل أن تقرأ القرآن قراءة تنفتح فيها على كل حياتك وعلى كل ما يريده الله منك.
وكان يؤكد على ضرورة ان يكون القرآن أساساً للأخ بالحديث، لأن القرآن وحده في سنده هو الكتاب الذي تكفل الله بحفظه {إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون}( )، والقرآن وحده هو الكتاب الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}( )، ولذلك نقول إن كل من يقول بأن القرآن حُرِّف بأن زِيد فيه أو نقّص منه فهو كلام باطل، لأن الله تكفّل بحفظه، وقد حفظه المسلمون حتى حفظوا حركاته بالضمة والفتحة وما إلى ذلك، ولذلك نجد أن نمط الكتابة قد تغيّر ولكن بقيت الكتاب القرآنية على حالها، لأنه يقل إذا غيّرنا شيئاً في القرآن فيمكن أن تخرّب حركة التغيير القرآن.
لذلك فإن كل ما يُقال من أن القرآن حُرِّف أو زيد فيه، كما يقول بعض الناس مثلاً أن هذه سورة الولاية أو سورة أخرى، فأنا لا أقبل تلك النسبة لركاكتها.. نعم لقد ورد خلط بين الآية والحديث التفسيري، فهناك أحاديث أُدخلت في القرآن مثلاً "وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ"( )، فعلي ليست موجودة في القرآن ولكن أحدهم أراد أن يبيّن أن هذه الآية نزلت في علي(ع)، فالإمام(ع) تباعاً للرسول(ص) أكد أن كل حديث يروى اعرضه على كتاب الله، اعرض مفهومه على مفهوم كتاب الله، واعرض منطوقه على منطوق كتاب الله، فكل ما خالف ظاهر كتاب الله فلا قيمة له، استمعوا إليه من أبي عبدالله(ع)، قال: قال رسول الله(ص): "إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه"، لأنه هو الحقيقة التي تصدر الحق "وما خالف كتاب الله فدعوه"( )، يعني حاول أن تأخذ المفاهيم من كتاب الله، فإذا جاءك أي حديث فادرس مفهومه لترى هل ينفتح مع المفهوم الموجود في القرآن أو لا، فإذا كان مخالفاً له فاضرب به عرض الجدار. عن أبي عبدالله(ع) قال: "كل شيء مردود إلى الكتاب والسنّة" طبعاً السنّة الثابتة عن رسول الله(ص) "وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"( )، لأن السنّة أيضاً لا بد أن تكون في خط كتاب الله.
خالطوا الناس:
وكان يريد للناس أن يندمجوا في المجتمع ليتعلموا منه، روي عن أحد الأئمة أنه قال: "قال له رجل: جعلت فداك، قال رجل عرف هذا الأمر ـ يعني موالياً ومنتسباً إلى خط أهل البيت ـ لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من أخوانه قال: كيف يتفقّه هذا في دينه"( )، إذا انعزل عن المجتمع، كيف يتعلّم؟ وهذا معناه أن الإمام يريد للناس أن يندمجوا في المجتمع الذي يعطيهم علماً حتى يتفقهوا في الدين وحتى يكون التزامهم بالدين التزاماً واعياً لا التزاماً جاهلاً، وكان يقول: "وددتُ أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا"، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: "تفقّهوا في الدين فإنه من لم يتفقّه منكم فهو أعرابي"( )، والأعرابي كناية عن الإنسان الذي لا يعرف الدين جيداً، بل يأخذ بشكل سطحي {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}( )، إن الله تعالى يقول في كتابه: {ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون}( ).
نداء الإمام الصادق(ع):
أيها الأحبة، إن الإمام الصادق(ع) كان علماً كلّه وكان روحاً كلّه، وكان الإنسان الذي عاش مع الله كأعمق وأرحب ما يعيشه إنسان مع ربه، وكان يعيش مع الناس من موقع مسؤولية عن الناس، كان يريد للناس كلهم أن يتفقّهوا في الدين، لأنهم إذا تفقهوا في الدين استطاعوا أن يميّزوا بين الحق والباطل فلا يخلطوا بينهما من خلال تضليل المضللين الذين يقدّمون لهم الباطل ببعض ملامح الحقّ أو يقدمون لهم الحق ببعض ملامح الباطل.
إن الإمام يريدنا أن نكون مثقفين متفقّهين واعين، فعندما نلتزم الإسلام فإن علينا أن نتعلّمه جيداً، وعندما نريد أن نطيع الله فإن علينا أن نعرف عمق هذه الطاعة، وعندما نعيش في المجتمع فإن علينا أن نتحمّل مسؤولية المجتمع في كل قضاياه الصغيرة والكبيرة من موقع الوعي ومن موقع المسؤولية، هذا هو نداء الإمام جعفر الصادق(ع): كونوا اللماء ولا تكونوا الجاهلين، كونوا الواعينه لا تكونوا من الغافلين، كونوا الأمة التي تتحمل مسؤوليتها في كل قضاياها وقضايا الإنسان ولا تكونوا الأمة التي تعيش اللامبالاة في كل حياتها. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة العشرون: 2 ذو القعدة 1418هـ ـ الموافق 28 – 2 – 1998م
إيحاءات معركة (الخندق)
"المعركة اليوم مع أحزاب الاستكبار والصهاينة والنفاق والظلام"
ـ ذكرى معركة الخندق.
ـ مع سير المعركة.
ـ عقدة الفواصل.
ـ قصة التحالفات.
ـ العداوات بين المسلمين.
ـ الثقة بالله.
ـ انتهازية المنافقين.
ـ خطة المسلمين.
ـ مقتل رأس الشرك.
ـ حوار عليّ(ع) مع عمرو.
ـ عليّ الإيمان كلّه.
ـ المدد الإلهي.
ـ الدروس المستفادة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
ذكرى معركة الخندق:
في هذه الأيام، بين شوال وذي القعدة ـ حسب اختلاف الروايات ـ نلتقي بذكرى "معركة الخندق" أو معركة الأحزاب، هذه التي سمّيت السورة باسمها، مما يدل على أهميتها في حركة الإيحاء والوعي، لأن الله عندما يحدثنا عن موقعة من مواقع المسلمين في المواقع التي انتصروا فيها أو انهزموا فيها فإنه يريد أن يسير بنا في مدى الزمن لكل مواقع المسلمين في المستقبل من أجل أن نأخذ من النصر هناك دروس النصر هنا، ومن أجل أن نأخذ دروس الهزيمة هناك ما نتفادى به الهزيمة في المستقبل، ليبقى القرآن كتاباً قرآنياً يحكي للمسلمين حركة الطليعة الإسلامية في الماضي، ويريد للطليعة الإسلامية في كل زمان ومكان أن يجسّدوا حركتهم بما يرفع من مستواهم في الحاضر والمستقبل.
مع سير المعركة:
ولذلك فلا بد لنا أن نتوقف أمام مفردات معركة الخندق فنلتقي في بداياتها بجو كان ينمو ويتكامل في داخل المشركين ولا سيما مشركي قريش، وداخل اليهود بشكل أقل حدة في الجانب الحركي، فقد لاحظنا أن مشركي قريش جرّبوا أكثر من معركة من أجل أن يسقطوا بها هذه الحركة النبوية التي تتصاعد قوتها بحيث أصبح الناس في تلك المنطقة يتحدثون عن قوتين بعد أن كانوا يتحدثون عن قوة واحدة.
كان الحديث عن قوة قريش، وأصبح الحديث عن قوة قريش وقوة المسلمين من خلال انتصار المسلمين في بدر، ومن خلال حركية الحرب بين انكسار وانتصار في أُحد وفي غيرها، لذلك بدأت قريش تعيش القلق شبه المدمّر في الإسلام عندما يمتد ويقوى، فلسوف تفقد قريش قراراتها ومواقعها وامتيازاتها واحدة بعد الأخرى، لأنها القوة الي بدأت تتآكل، بينما كانت القوة الإسلامية بالرغم من النكسات التي أصابتها بين وقت وآخر تنمو وتتصاعد، لذلك تشاور القرشيون المشركون فيما بينهم في أنه لا بد من القضاء على الإسلام كله في مهده، وفكّروا كيف ينفّذون ذلك بالتخطيط له.
ويقول كتّاب السيرة النبوية أنهم ـ يعني المشركين ـ التقوا باليهود وكانوا يريدون أن يأخذوا من اليهود اعترافاً بهم كفريق أهدى من فريق الإسلام، فجاءوا يسألون بعض علماء أهل الكتاب من اليهود وقالوا لهم: أنتم من أهل العلم الأول، فهل نحن أهدى أو محمد(ص)؟ فقالوا لهم وهم يتزلفون إليهم فيما حدثنا القرآن عن ذلك {ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً}( )، في الوقت الذي نعرف فيه أن صاحب أي كتاب لا يمكن أن يفضّل الوثنيين على أهل دينٍ أياً كان، لأن صاحب الدين يلتقي بصاحب الدين الآخر، ولكنه الحسد والحقد وعقدة العداوة التي تجعل الإنسان يعيش عقدته في حالة مرضية، بحيث تخرجه عن توازن انتمائه وتوازن إيمانه، ولعل المسلمين يعيشون الآن بعض ذلك، فنحن نجد أن فريقاً من المسلمين وهم يختلفون مذاهب شتى، يقول بعضهم لبعض عن غير المسلمين إن هؤلاء أهدى من المسلمين في المذهب الثاني سبيلاً، حتى إن بعض الناس يقولون عن بعض المسلمين إنهم مشركون، ولذلك فهم ليسوا أهل ذمة، ولذلك فإن أهل الكتاب أهدى منهم سبيلاً لأنهم أهل ذمة.
عقدة الفواصل:
من أين نشأت هذه المسألة؟ لقد نشأت من العقدة التي استغرق فيها المسلمون في الفواصل ولم يقفوا على الكلمة السواء التي أراد الله لنا أن نقف عليها مع أهل الكتاب {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}( )، وهكذا نجد أن العقدة قد تتعاظم وتأكل للإنسان إيمانه وتقواه بحيث يحاول حتى في داخل المذهب الواحد أن يعمل بمنطق هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.
قصة التحالفات:
لذلك أخذ المشركون من اليهود اعترافاً ولو بهذا المقدار، وهذا هو الذي جعلهم يخاطبون اليهود باعتبار أنهم الفريق الواحد ضد النبي(ص) بأن يكونوا معهم ضد النبي(ص) وكان اليهود قد دخلوا في معاهدة مع النبي(ص) في المدينة، فعمد المشركون إلى أن يجمعوا كل أحلافهم ثم جاءوا إلى غطفان وبعض اليهود الذين هم خارج المدينة وعقدوا حلفاً بينهم وأرسلوا إلى اليهود الذين هم في المدينة فحاولوا أيضاً أن يأخذوهم بطريقة وبأخرى، كما فصّلته كتب السيرة، ولا نريد أن ندخل في التفاصيل، بحيث اجتمع اليهود والمشركون بأجمعهم فيما يحدّث عنهم التاريخ في عشرة آلاف شخص يُضاف إليهم اليهود في المدينة على أساس أن يطبقوا على المدينة إطباقاً واحداً وينتهي أمر الإسلام والمسلمين مما يعني أن قضية التحالفات في المواقع المتباينة ليست جديدة في واقعنا، بل هي مسألة تتحرك في مدى التاريخ الإنساني كله على أساس توافق العقود والمصالح في هذا المجال..
ولذلك فنحن لا نفاجأ ولا نستغرب أن يلتقي المشركون الذين يعبدون الأوثان واليهود الذين يطلقون كلمة التوحيد، وإن كان ذلك بطريقة معقدة.
وعلينا أن ندرس ذلك في بعض ما نواجهه في الواقع، ولعل القرآن يثقفنا بذلك عندما يحدثنا عن اليهود والنصارة بأن بعضهم أولياء بعض، وأن المنافقين بعضهم من بعض وما إلى ذلك، علينا أن ندرس هذه المسألة ليكون لنا وعيٌ سياسي في حركة الصراع عندما نواجه أنواعاً من الصراع من الأشخاص الذين يمثلون الطرف الآخرفي الصراع. علينا أن نضع في حساباتنا ولا سيما في الظروف الحاضرة أن من الممكن جداً أن يتفق الوصوليون مع اليهود، ولعلنا لم نفاجأ عندما التقى ـ ممن يحسب على الإسلام ـ مع اليهود ضد المسلمين كما نلاحظ ذلك في التحالف التركي الإسرائيلي. لذلك علينا أن لا نكون سذجاً في مسأل التحالفات، لأن التحالفات لا تنطلق دائماً من وحدة الخط العقيدي، وإنما قد تنطلق من خلال وحدة المصالح والعداوات.
العداوات بين المسلمين:
وهذا ما ينبغي لنا ـ أيها الأحبة ـ أن نفكر فيه كمشكلة في داخل الأمة الإسلامية من خلال نمو العداوات بين المسلمين، حيث يعادي مذهب مذهباً وعرقٌ عرقاً وقومية قوميةً، فقد نخلق من هذه العداوة في الداخل مشكلة أن من هم مسلمون في الداخل قد يتحالفون مع كافرين في الخارج ضد مسلمين آخرين، وهذا هو الذي نركّز عليه دائماً، فعندما نطلق مسألة الوحدة الإسلامية فإننا لا نتحدث على أساس أن نذوّب الخلافات بين المسلمين تلقائياً، ولكن أن يتفق المسلمون فيما بينهم على أساس الحب في الله ورسوله من خلال الإسلام، وعلى أساس أن يروا أن المسلمين أمة واحدة في مقابل أية أمرة أخرى مما يعني أن الإسلام هو الذي يعطي للأمة شخصيتها ويجعل المجتمعات المتنوعة أمة واحدة، وأن الخطوط الأخرى للأمة تعيش في داخل الأمة الإسلامية، لأن الإسلام لا يلغي الخصوصيات ولكنه لا يريد أن يجعل من الخصوصيات أساساً للوحدة في مواجهة الإسلام، هذا درس وهذه مفردة م مفردات الخندق.
الثقة بالله:
ثم يحدثنا القرآن الكريم في مفردة أخرى وهي المفردة التي تتحدث عن عناصر الضعف في لمجتمع الإسلامي، وهذا ما حدثنا الله عنه في كتابه، ولعل أروع صورة للحديث عن هذا الزلزال النفسي الذي عاشه المسلمون هي هذه الصورة القرآنية {إذ جاءوكم من فوقكم ـ وهي منطقة اليهود ـ ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار ـ ترى ولا ترى ولا تركز من شدة الخوف والرعب ـ وبلغت القلوب الحناجر ـ بحيث كانت القلوب تخفق بالرعب، حتى كادت أن تنخلع من جذورها لتصل إلى الحنجرة.
ولم تقف المسألة عند هذا الحد، بل ابتدأت بالظنّ السيِّئ بالله ـ وتظنّون بالله الظنونا* هنالك ـ في هذا الموقف الصعب ـ ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً}( )، هذه الصورة للرعب النفسي وللخوف الشعوري وللزلزال في الموقف الذي تحول إلى حالة من الظن السيئ الذي كان يطعن في الثقة بالله.
هذه الصورة تقول لنا إن الإسلام لا يعني عند الانتماء إليه أن يكون الإنسان في تجربته البشرية في موقع العصمة، فالإسلام يعطي الإنسان ثقة بالله بالمستوى الذي إذا بلغه من حيث الإيمان والثقة بالله فإنه لا يخاف من أحد، وهذا ما عبّر عنه الله في تجربة رسوله(ص): {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}( )، والذي حدثنا الله عنه في القرآن عن المسلمين {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}( )، ويؤكد الله المسألة في عملية إيحائية وهي أن الخوف حالة شيطانية وأن القوة والثقة حالة رحمانية {إنّما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين}( ).
إن علينا أن نعرف أن المؤمنين قد يهتزن وقد يزلزلون عندما تحاصرهم القوة المضادة بما لم ينتظروه وعندما تطبق عليهم الضغوط من كل جانب، وأن تعرف بأن هذه حالة إنسانية، ولكن الفرق بين المؤمن وغير المؤمن أن المؤمن إذا واجه هذه التجربة الصعبة وعاش بعض الزلزال في نفسه فإنه لا يبقى طويلاً في هذا الجو، ولكنه يصير إلى ثبات {إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا ـ واستقاموا وانفتحوا على الله فأزال الغشاوة عن عيونهم ـ فإذا هم مبصرون}( )، وهكذا نجد أن المؤمنين يفزعون إلى الله عندما يشعرون بأن التجربة تسقطهم في تحدياتها الكبرى {أم حسبتُم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ـ وهم يستغيثون، حيث شعروا بأن المسألة في الزلزال أصبحت في درجة يمكن أن تسقطهم، ولذلك لجأوا إلى الله وجاءهم النداء منه أن المسألة إذا وصلت إلى حد الزلزال فإن النصر آتٍ ـ ألا إنّ نصر الله قريب}( )، فانتظروا النصر عندما تصل التجربة إلى الحد الذي لا تستطيعون أن تتحملوا ضغوطها.
ولذلك يحدثنا الله في آخر السورة عن موقف المؤمنين من هذه المسألة في قوله تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب ـ شعروا بالصعوبة ولكن ـ قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ـ من البلاء ومن التجربة الصعبة ومن الأوضاع الخانقة باعتبار أننا نسير في طريق ذات الشوكة ـ وصدق الله ورسوله ـ ولم يسقطوا ـ وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}( ).
انتهازية المنافقين:
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ يحدثنا الله في هذه الصورة عن جماعة اخرى وهم المنافقون الذين كانوا في المدينة، والذين حاولوا أن يستغلوا هذه الفوضى النفسية التي عاشها الناس في المدينة في اللعب على الواقع من أجل أن يفقدوا الناس ثقتهم بالله ورسوله، ومن أجل أن يسقطوا روحية المجتمع {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ـ وهو عطف تفسيري ـ ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}( )، ويقال عن بعضهم أنهم كانوا يقولون إن رسول الله(ص) كان يعدنا أن نفتح مدائن كسرى وقيصر، وها نحن لا يستطيع أحدنا أن يخرج من بيته إلى الغائط، كأنهم يريدون أ يتحدثوا عن أن رسول الله(ص)لم يصدقهم الكلام، بل كان يعطيهم وعوداً غير واقعية، وبدأوا يخذّلون الناس {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ـ حتى ينفضّ الناس عن المدينة ولا يبقى معهم أحد ـ ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة ـ مكشوفة، أي ساقطة عسكرياً بحسب الاصطلاح العسكري ـ وما هي بعورة ـ بل يبحثون عن المبرّر حتى يتخلّفوا ـ إن يريدون إلا فراراً* ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سألوا الفتنة لأتوها ـ حتى يربكوا الواقع ـ وما تلبّثوا بها إلا يسيراً}( )، {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار وكان عهد الله مسؤولاً}( )، ثم يتحدث القرآن معهم حديثاً مفصلاً في محاكمة واقعهم ومنطقهم ثم عن موقف النبي(ص) في ثباته في المعركة، وفي مشاركته للمسلمين حتى في الأمور العملية العادية.
خطة المسلمين:
فنحن نقرأ في السيرة أن النبي(ص) شاور المسلمين في ماذا يعملون حتى يعطلوا اندفاع المشركين في هجومهم ليتدبر المسلمون أمرهم، وأشار سلمان الفارسي(رض) بحفر الخندق مما لم يألفه العرب آنذاك في حروبهم، وبدأ حفر الخندق، وكان النبي(ص) يشاركهم في ذلك حتى قيل أنه بلغ من جوعه أنه كان يربط حجر المجاعة على بطنه.
وهكذا ثبت النبي(ص) مع المسلمين الذين ثبتوا معن، وكان واعياً للمسألة كلها حتى أنه(ص) بدأ عملاً أمنياً عندما استدعى بعض المسلمين الذين أسلموا حديثاً ولم يكشف نفسه وهو (نعيم بن مسعود) فقد قال له ابحث عن طريقة تدخل فيها بين هؤلاء لتخذّل بعضهم عن بعض، فذهب إلى بني قريظة من اليهود وقال لهم بما مضمونه، مما فصلته كتب السيرة: إن عليكم أن تدرسوا الأمور بدقة، فهؤلاء المشركون ربما يذهبون وينكفئون ويتركونكم وحدكم، فكيف لكم أن تأمنوا أنفسكم وقد نقضتم عهدكم مع رسول الله، فهؤلاء قد لا يربطون مصيرهم بمصيركم وقد يخذلونكم، قد يرحلون من دون أن يراعوا أوضاعكم، لذلك إذا جاءوكم فقولوا لهم أعطونا رهائن منكم حتى نطمئن أنكم سوف تفون لنا.
ثم ذهب إلى المشركين وقال لهم إن بني قريظة قد لا يخلصون لكم، وقد يطلبون منكم رهائن وربما يقتلونهم إذا انسحبتم أو حدث أي شيء، ثم تركهم بعد أن رتّب الخطة كاملة مما تتحدث في تفاصيله كتب السيرة (كما في سيرة ابن هشام)، والمجال لا يسمح بأن ندخل في التفاصيل.
ولقد جاء المشركون إلى بني قريظة فقال لهم بنو قريظة إنكم قد تخذلونا، لذا أعطونا رهائن، فقالوا: صدق نعيم بن مسعود، وعند ذلك بدأ التخلخل في التحالف فيما بينهم، ومن هذا نعرف أن الإسلام يخطط في معاركه للعمل الأمني كما يخطط للعمل العسكري، وأن ما لا يجوز في الأوضاع العادية قد يجوز في الأوضاع الأمنية إذا كانت مصلحة المؤمنين تقتضي ذلك، وحُفر الخندق وفوجئ المشركون به واستطاعوا أن يجدوا ثغرة أن يجدوا مكاناً ضيقاً استطاعوا أن يقطعوه بخيولهم الأصيلة.
مقتل رأس الشرك:
ووقف (عمرو بن عبد ود) ويقال أنه كان يعد بألف فارس، وقف يتبجح ويقول للمسلمين من ذا الذي يحب أن يذهب إلى الجنة؟ أنتم تقولون من يقتل في المعركة يذهب إلى الجنة، من يشتهي الجنة فأنا أنقله إليها، والنبي(ص) يقول، كما تقول كتب السيرة، من لعمور وقد ضمنت له على الله الجنة؟ فلا يقوم إلا علي(ع) ويقول أنا له، ويقول له الرسول(ص) اجلس، ثم ينادي: من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة، ولا يقوم إلا علي(ع)، وفي الثالثة كذلك لا يقوم إلا علي، لأن الآخرين بالرغم من إسلامهم أخذ منهم الرعب من عمرو كل مأخذ حتى لم يستطيعوا القيام، أما علي(ع) فقد أنزل الله فيه قرآناً ليلة المبيت على فراش النبي(ص) {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}( )، فقيمة علي(ع) أنه باع نفسه لله، وليس لنفسه شيء من نفسه، كل نفسه لله، كل علمه وكل روحانيته وكل حركته وكل حربه وكل سلمه لله، لذلك كان ينتظر أن يأمر رسول الله ليتحرك، لا ليفكر أو يتردد، لأنه يقرأ قول الله تعالى وقد كان يعيه قبل أن ينزل الله كتابه، وذلك من خلال إيمانه الذي رباه رسول الله(ص) في عقله وقلبه {وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}( )، فلا مجال إذا قال الله تعالى أو رسوله للتفكير، بل عليك أن تنفّذ فقط، لأن المسألة هي أن تطيع الله والرسول.
وهكذا قال النبي(ص) لعلي(ع): أنت له، وتكلّم بكلمتين، الكلمة الأولى تعني كم يمثل علي(ع) لرسول الله(ص)، كم يملأ عقله ليكون شريك عقله، وكم يملأ قلبه ليكون شريك قلبه، وكم يملأ حياته ليكون حامي حياته {ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين}( )، إذ ذهب علي فليس معي أحد وإن كان الآخرون معني، لأن لعلي معنى لنفس رسول الله لم يبلغه أحد، وهوولده بالتربية وبالروح وبالعقل، لقد ربى رسول الله عقل علي منذ طفولته، وروح عليّ منذ طفولته، وأخلا علي منذ طفولته، حتى كان علي يقول وهو يفتخر: "ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل إثر أمه"( )، ثم قال(ص) كلمة تجسد الواقع "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"( )، وكان علي(ع) هو تجسيد كل قوة الإيمان في موقفه، وكان عمرو هو تجسيد كل قوة الشرك في موقفه هذا.
حوار "علي"(ع) و"عمرو":
وذكر ابن إسحاق أن عمرو بن عبد ود كان ينادي مَن يبارز؟ فقال رسول الله(ص): مَن لهذا؟ فلم يُجبه أحد، فقام علي(ع) وهو مقنَّع في الحديد، فقال: أنا له يا نبي الله، فقال إنه عمرو، إجلس، ونادى عمرو: ألا رجل، وجعل يؤنبهم ويسبّهم، ويقول أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منك دخلها؟ فقام علي(ع) فقال: أنا له يا رسول الل، فأمره النبي بالجلوس رعاية لابنته فاطمة التي كانت تبكي على جراحات علي(ع) يوم أحد،ثم نادى الثالثة فقال:
ولقد بُحِحْتُ من النداءِ
ووقفتُ إذ جبُنَ المشجع
إني كذلك لم أزل
إن السماحة والشجـــا
بجمعكُم هل من مبارز؟
موقف البطل المناجز
متسرعاً نحو الهزائز
عة في الفتى خير الغرائز
فقام علي(ع) فقال: يا رسول الله أنا، فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان عمراً وأنا علي بن أبي طالب!! فاستأذن رسول الله(ص) فأذن له، وألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعمَّمه عمامة السحاب على رأسه ثم قال له: تقدّم، فقال لما ولّى: "اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه".
ثم قال: "برز الإيمان كله إلى الشرك كله".
فمشى إليه وهو يقول:
لا تعجلنّ فلقد أتا
إني لأرجو أن أقيم
من ضربة نجلاء يبقى
ك مجيب صوتك غير عاجز
عليك نائحة الجنائز
ذكرها عند الهزائز
وما زال رسول الله(ص) آنذاك رافعاً يديه مُقحماً رأسه إلى السماء داعياً قائلاً: "اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد، فاحفظ عليَّ اليوم علياً، ربِّ لا تذرني فرداً أنت خير الوارثين"، فقال عمرو: من أنت؟ وكان عمرو شيخاً كبيراً قد جاوز الثمانين، وكان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية، فانتسب علي له.
فقال عمرو: أجل، لقد كان أبوك نديماً لي وصديقاً، فارجع فإني لا أحب قتلك! فقال عمرو: يابن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، فارجع وراءك خير لك، ما آمن ابن عمك حين بعثك إليّ أن أختطفك برمحي هذا فأتركك شايلاً بين السماء والأرض لا حيّ ولا ميت!!
فقال له علي(ع): قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلتُ الجنة وأنتَ في النار، وإن قتلتك أنت في النار وأنا في الجنة.
فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي؟ تلك إذن قسمةٌ ضيزى!! فقال علي(ع): إن قريشاً تتحدّث عنك أنك قلت: لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجيب، ولو إلى واحدة منها؟ قال: أجل. قال: فإني أدعوك إلى الإسلام، وفي رواية: أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. قال: دع هذه!! ونحّ هذا.
قال: فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن يتبعك من قريش إلى مكة، فإن يكُ محمد صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره. قال: إذن تتحدث نساء قريش عني: أن غلاماً خدعني وينشد الشعراء فيَّ أشعارها أني جبنت ورجعتُ على عقبي من الحرب، وخذلت قوماً رأسوني عليهم. قال: فإني أدعوك إلى البراز راجلاً، فجمى عمرو وقال: ما كنت أظنّ أحداً من العرب يرومها مني.
ثم نزل فعقر فرسه ـ وقيل ضرب وجه فرسه ففر ـ ثم قصد نحو علي(ع) وضربه بالسيف على رأسه، فأصاب السيف الدرقة فقطعها، ووصل السيف إلى رأس علي(ع).
فضربه علي(ع) على عاتقه فسقط، وفي رواية: فضربه على رجليه بالسيف فوقع على قفاه، وثار العجاج والغبار،وأقبل علي ليقطع رأسه فجلس على صدره، فتفل اللعينُ في وجه الإمام(ع) فغضب عليه السلام، وقام عن صدره يتمشى حتى سكن غضبه،ثم عاد إليه فقتله.
علي الإيمان كلّه:
وهكذا رأينا كيف يرتفع علي(ع) من حيث يرتفع الناس، وكيف لا يعيش عليّ حاجة نفسه ولكنه يعيش رسالة ربه وتلك ـ أيها الأحبة ـ عظمة عليّ في كل ما قاله وفي كل ما فعله، فلسنا نغلو فيه فوق البشر، ولكنه بشر مميّز عرف الله معرفة بحيث لو كشف له الغطاء ما ازداد يقيناً،كما قال، ولأنه عرف الله في مثل هذه الرحابة، لذلك كان يتحدث والله أمامه ووراءه ومن بين يديه ومن خلفه.
كان لا يرى إلا الله، وكان يرى رسول الله من خلال الله وكان يرى كل الناس من حوله من خلال الله، وقال للناس في زمن خلافته: "ليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"( )، ولم نجد هنالك من يقترب من علي(ع) فضلاً عن أن يساويه أو يتفوق عليه، لم نجد أحداً يقترب من علي،لم نجد أحداً يساوي علياً إلا علي، وتلك هي عظمة علي، ولذلك قال رسول الله(ص) كما يرويها الفريقان: "ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين"، ونزلت الآية لتقول: {وكفى الله المؤمنين القتال}( )، ويأتي التفسير ليقول بِعَلي، ويظن بعض الناس أن كلمة (بِعَليّ) جزء من الآية ليتهم من يرويها بتحريف القرآن ولكنه تفسيرٌ للآية وليس جزءٌ منها لأن القرآن {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}( ).
المدد الإلهيّ:
ويحدثنا الله عن ختام الواقعة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود ـ تجمعت من المشركين ومن حلفائهم ومن اليهود ـ فأرسلنا عليهم ريحاً ـ بعد مقتل عمرو، وبعد أن هرب من معه، جاءت الريح عاصفة بحيث اقتلعت الخيام ولم يستطع أحد أن يرى صاحبه، حتى قال أبوسفيان إن علينا أن نرحل ـ وجنوداً لم تروها ـ ويطلق الله تعالى هذه الكلمة على الملائكة ولم يكلف الله الملائك بقتال، ولكنه أراد أن يرفع الروح المعنوية للمسلمين في ساعات الشدة، ولذلك رأينا الله يحدثنا عن الملائكة في أجواء المعركة في موقعتين تعرض فيها الإسلام للخطر "إن تهلك هذه العصابة لا تعبد"( )، قالها رسول الله(ص) في بدر لأن المسلمين كانوا يعانون ضعفاً يخاف عليهم فيه من السقوط، فأرسل اله الملائكة تثبت الذين آمنوا، في أجواء معركة الأحزاب ـ وكان الله بما تعملون بصيراً}( ).
الدروس المستفادة:
هذه ـ أيها الأحبة ـ هي معركة مهمة في إيحاءاتها وفي دروسها، وكم لنا من معركة مع الأحزاب، أحزاب المستكبرين وأحزاب الصهاينة ومن مع الصهاينة وأحزاب النفاق والظلام، لذلك كونوا في الوعي الذي يمكّنكم أن تخوضوا الصراع مع كل هذه الأحزاب في مواقع الاستكبار والصهيونية حتى تثبتوا فلا تتزلزلوا، وإذا تزلزلتم فلا بد أن ترجعوا إلى الثبات ليبقى التاريخ لكم عبرة في ذلك {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}( )، ويختم الله تعالى الدرس بأن على المؤمنين أن يصدقوا عهدهم لله، وقد انطلق المؤمنون الصادقون في عهدهم مع الله {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ـ معركة الحق والباطل، معركة العدل والظلم، والقضية هي أن لا نحسن البداية فحسب، ولكن أن نحسن النهاية أيضاً ـ وما بدّلوا تبديلا}( )، هذا خطاب لكل العاملين في سبيل الله في المواقع السياسية وفي المواقع التبليغية وفي المواقع الاجتماعية وفي المواقع الأمنية، لأن المشكلة هي أن الإنسان قد يبدأ مؤمناً وينتهي كافراً، وقد يبدأ مستقيماً وينتهي منحرفاً، وربما ينطلق في بداياته وهو يفكر بالله ليفكر في نهايته بنفسه وينسى الله، ولا تكونوا أيها العلماء، أيها المثقفون، أيها الطلاب، أيها الحركيون، أيها المجاهدون {لا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}( )، هل تبحثون عن الجنة؟ من يطلب الجنة فلا يفكر إلا أنه يعمل لها من خلال طاعة الله ورسوله {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}( ). والحمدلله ربّ العالمين.
المحاضرة الحادية والعشرون: 9 ذو القعدة 1418هـ ـ الموافق 7 - 3 – 1998م
كيف يصنع الإنسان المسلم نفسه إسلامياً؟
"لقد أعطانا الله كتاب السماوات والأرض والزمن كله لنفكر في ذلك ونجرّب.. ونسأل أهل الذكر، ونجادل بالحق"
ـ صناعة الشخصية الإسلامية.
ـ مرحلة البحث والتفكير.
ـ المستضعفون الفكريون والعقيديون.
ـ الحب المعقلن والمثقّف.
ـ المنهج المتخلّف.
ـ كتاب الحياة.
ـ لنصنع أفكارنا.
ـ جلسة للفكر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
صناعة الشخصية الإسلامية:
كيف يصنع الإنسان المسلم نفسه إسلامياً؟
إن للإنسان مرحلتين من مراحل عمره فيما يمكن أن يتمثله من فكر يمثل عقيدته، أو من عاطفة تمثل إحساسه وشعوره، أو من سلوك في الحياة يمثل خط سيره، أو في الأخلاق التي تمثل أسلوب علاقته بنفسه وبالحياة وبالآخرين.
فالمرحلة الأولى هي (المرحلة التقليدية) التي يتمثل فيها الإنسان كل هذه الأمور من خلال ما يتلقنه ممن يعلمه كأبويه، أو مما يمتصه من بيئته، وبذلك ينشأ كل واحد منا وهو يحمل فكراً معيناً، لأن الأجواءالتي أحاطت به هي التي أدخلت هذا الفكر في عقله.
وهكذا يحمل عاطفة معينة، بحيث يحبّ هذا أو يبغض ذاك لأن البيئة التي عاش في داخلها أوحت إليه هذا الحب او هذا البغض، وهكذا نجد أنه يحمل أخلاقاً معينة وعادات معينة تصنع شخصيته، ولكنها شخصية ليس له أي دخل في صناعتها، فلقد صُنعت وصاغها الآخرون.
وعندما يبدأ الإنسان بالتفكير وينمو فكره بالمستوى الذي يستطيع فيه أن يتساءل وأن يبحث عن الجواب، وعندما تنفتح تجربته في الحياة ليعيد النظر فيمن يحبّ وفيمن يبغض على أساس وعيه لشخصية من أحب أو من أبغض، أو من يُراد له أن يحبه أو أن يبغضه، وعندما تتحرك العادات أمام وعيه ليتساءل: هل هي عادات خير أو شر، وعندما تبرز التقاليد، ليتساءل: هل هي تقاليد التخلف أو تقاليد التقدم، وعندما يندفع إلى الحياة ليؤيد خطاً سياسياً أو اجتماعياً أو يرفضه، فقد يبدأ فكره ـ حينذاك ـ يتساءل كيف يرفض ما أيّد،أو كيف يؤيّد ما رفض، أو كيف يقف في موقف الشك بين الرفض والتأييد.
وقد يكون الإنسان معذوراً في المرحلة الأولى، لأنه لا يملك فكراً ولا يملك شخصية مستقلة، وربما يعذر الإنسان لو امتدت به الغفلة فيما لو كان ما آمن به موافقاً للحق بالصدفة، ولكن الله لا يعذر الذي يملك أن يفكر إذا لم يفكر، ويملك أن يبحث إذا لم يعمل على البحث والتفتيش بحيث أنه لو اختار له قومه فكراً ليدخلوه في شخصيته وكان هذا الفكر خطأ، أو اختاروا له منهجاً وكان هذا المنهج منحرفاً، أو زرعوا في داخله عاطفة وكانت هذه العاطفة بعيدة عن الواقع، فإن الله لا يعذره غداً، لأن الله تعالى أراد له أن يفكر عندما ينفتح عل اختلاف الفكر.
المستضعفون الفكريون والعقيديون:
وقد ورد في بعض أحاديث أئمة أهل البيت(ع) عندما كانوا يتحدثون عن المستضعف الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً كالبهل من الناس الذين لم يملكوا أية معرفة، ولا يملكون الوسائل للوصول إلى المعرفة، عسى الله أن يعفو عنهم، فلقد حدّد الإمام الصادق(ع) المعرفة ـ كما روي عنه ـ بقوله: "من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف" أي المستضعف الفكري والمستضعف العقيدي وهو الذي عاش في بيئة لم يسمع أن هناك أدياناً متفرقة، ولم يسمع أن هناك مذاهب مختلفة، ولم يسمع أن هناك خطوطاً سياسية مختلفة تمثل مسأل المصير بالنسبة للإنسان، ولم يتعرف اختلاف مواقع العاطفة بين السلب والإيجابي حيث هو الحب والبغض، فهذا الإنسان قد أُغلقت عنه كل أبواب المعرفة، لأنك عندما لا ترى بحسب بيئتك إلا شيئاً واحداً ولم يكن هناك أي شيء آخر، فإن غفلتك قد تكون عذراً لك أمام الله، وربما لاحظنا أن الله عندما حدثنا عن المستضعفين لم يقل إن الله يعفو عنهم، قال: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم}( ) حتى لا يعطي الإنسان الحرية في ذلك ليعتبر نفسه مستضعفاً بسرعة، بل أراد له أن يدقق جيداً في شخصية الاستضعاف حتى يعرف نفسه هل هو مستضعف حقاً أو ليس بمستضعف "من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف"، إذ عرفت أن هناك وجهتي نظر، فإن فطرتك في عقلك توحي لك أن عليك أن تطّلع على وجهة النظر الأخرى كما تطّلع على وجهة نظرك، فلعل وجهة نظرك لا تكون حقاً، وهكذا الحال في كل موقع من المواقع، لأن الله أقام عليك الحجة في ذلك، وليس عذراً للضعيفل فكرياً أن يبقى على ضعفه إذا كان قادراً أن يحصل على القوة الفكرية من موقع آخر، وليس عذراً للإنسان الجاهل جهله بل لا بد له من أن يتعلم حيث يؤتى بالإنسان يوم القيامة فيُقال له "لِمَ لم تعمل؟! ـ كما في الحديث عن الأئمة(ع) ـ فيقول: لم أعلم، فيُقال له هلاّ تعلّمت؟!"، ثم يعقب الحديث بالقول: وذلك تفسير قوله تعالى: {فلله الحجة البالغة}( ).
الحب المعقلَن والمثقّف:
إذاً ـ أيها الأحبة ـ فمن خلال ما أرادنا الله سبحانه وتعالى أن نصنع عقلنا في الفكر، أو أن نصنع فكرنا في العقل، بحيث نحرك العقل ليكون الفكر الذي نؤمن به فكراً مدروساً على أساس معرفة وجهات النظر لتؤيد وجهة النظر التي تقتنع بها ولتناقش وتدحض وجهة النظر الأخرى.
وهكذا أن تفتح قلبك لتطرد منه كل شيء وقتاً ما، ثم تعيد النظر في حبك على أيّ أساس كان، فإذا وجدت الأساس تعمّق حبك بحيث يكون حباً معقلناً، وحباً مثقفاً، لأن الحب الساذج البسيط سوف يذوب بسرعة، ولكن الحب المثقف هو الذي ينطلق من الثقافة الواعية في شخصية من تحب أو في طبيعة ما تحب، والحب المعقلن هو الذي تنطلق فيه عاطفتك من خلال قاعدة عقلك بحيث يهيِّئ لك العقل عناصر الحب فيمن تحب أو عناصر البغض فيمن تبغض ليكون حبك مرتكزاً على قاعدة راسخة.
فنحن لا نفهم في الإسلام أن يكون هناك حب لا عقلي، فالله أراد لنا أن نحبه من خلال معرفته ومن خلال معرفة أسرار عظمته، ولذلك فهو يتحدث عن أولئك الناس الذين لا يحبون الله كما يجب أن يُحبّ من جهة جهلهم بالله {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله}( )، لماذا كان أولئك يحبون الأنداد كحب الله؟! لأنهم لم يعرفوا الله، أما المؤمنون فقد عرفوا الله في أسرار عظمته، وعفوا الله في امتداد نعمته فأحبوه من خلال معرفتهم به، وكلّما تعمقت المعرفة أكثر انطلق الحب أكثر، ولذلك فإن الله أراد لنا أن نعيش الحب من خلال المعرفة واعتبر مشكلة الجهل في أنها هي التي تجعل الإنسان يحب بدون قاعدة ويبغض بدون قاعدة.
وهكذا فنك عندما تريد أن تتعامل مع الآباء والأجداد فقد وضع لك القرآن منهجاً لذلك، بأن تعتقد عقيدةً وفكراً ومنهجاً وخلقاً تختاره بنفسك، أما أن الآباء كانوا يسيرون بسيرة، ويتحتم علينا أن نسير عليها، وكانوا يعتقدون عقيدةً ما، فعلينا أن نعتقدها، فربما كانت السيرة صحيحة وربما كانت العقيدة حقاً، ولكن عليك أن تأخذ بها لا لأن آباءك اعتقدوها ولكن لأنك اكتشفت أن الحق معهم فيما اعتقدوه، وإذا لم تعتقد من خلال الدليل فقد وافقت عقيدتك عقيدة الآباء لأنك ورثت العقيدة كما ترث العقارات وكما ترث المال، وهكذا بالنسبة إلى العادات والتقاليد.
المنهج المتخلف:
لذلك كانت مشكلة الأنبياء(ع) مع أممهم هي هذا المنهج المتخلّف الذي يلغي فيه الإنسان عقله ليخضع للعقل الذي سبقه، والذي يجعل الإنسان يقدّس الآباء من دون أن تكون لديهم عناصر القداسة سوى أنهم عاشوا في التاريخ وسبقوه، بل قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون}( )، وقد قابلهم الله سبحانه وتعالى بما علّم به أنبياءه {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}( )، {قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}( ).
لذلك علينا ـ أيها الأحبة ـ أن ننمي فكرنا جيداً، وقد يقول البعض منا أننا لم ندخل جامعة ولم نقرأ كتباً ولم نتثقف، ولكننا نعرف أن الطليعة الأولى الإسلامية التي كان الشرك يمثل كل بيئتها وكل تأريخها، وكان التخلف يحيط بكل عاداتها وتقاليدها، فكروا وتمردوا على البيئة والتأريخ والأجواء، وقالوا: نشهد أن لا إله غلا الله وأن محمداً رسول الله، فهم لم يكونوا مثقفين ولم يقرأوا كتاباً، وربما كان الكثير منهم أميين، ولكنهم كانوا يملكون عقولاً مفتوحة حرة تتحسس مسؤوليتها فيما تملك من عناصر القوة في هذا العقل فاستمعت إلى النبي(ص) وفكرت، وربما ناقشت وعرفت الجواب واقتنعت.
كتاب الحياة:
إننا نملك عقولاً يمكن أن تفكر، ويمكن أن أعطي شاهداً على ذلك، فهناك بعض الأميينالذين ربما ينجحون في العمل التجاري أكثر من أساتذة كلية التجارة، وإن لدينا من الفلاحين من يملكون الثقافة الزراعية أكثر من أساتذة كلية الزراعة، لماذا؟ فبالرغم من أنهم لم يقرأوا كتاباً لكنهم قرأوا في كتاب الحياة، ذلك أنالذين ألفوا الكتب هم أناس قرأوا في كتاب الحياة وسجلوا تجربتهم الثقافية في كتبهم.
وهكذا نحن، فإننا نستطيع أن نفكر وأن نعمل أذهاننا، فلا تحطّوا من قيمة أنفسهم، إذ يمكن لأي واحد منكم أن يسمع وأن يفكر وأن يتعاون مع الذين يملكون الفكر في تعميق فكره وفي امتداده، لكن مشكلتنا أننا نجهّل أنفسنا ونستضعف أنفسنا تماماً كمن يملك سلاحاً والعدو يقتحم عليه بيته ويلقي السلاح ويتحدث عن الضعف، تذكّر أن لديك سلاحاً قوياً هو عقلك، وإن لهذا السلاح عدة نوافذ يمكن أن يتحرك بها، وعدة عوامل مساعدة تعينه على التفكير {ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين} لقد جعل الله لنا عيوناً نبصر بها وآذاناً نسمع بها ولساناً ننطق به، وأعطانا من الحواس ما نشم به الأشياء التي نفهمها بالشم، وما نلمس به الأشياء التي نفهمها باللمس، وقال: أيها الإنسان فكّر وحدّثنا عن الذين يفكّرون بقوله تعالى: {ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً}( )، {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض}( ).
لنصنع أفكارنا:
فلنصنع ـ أيها الأحبة ـ أفكارنا، لأن الذين لا يصنعون أفكارهم بأنفسهم ربما يفرض عليهم الآخرون الذي يسيطرون عليهم بيئياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً فكراً ليس هو فكر الحق فيقودهم إلى جهنم وبئس المصير، لذلك فإن الإسلام يريد للإنسان أن ينتج عقيدته وعاطفته وأخلاقه وعاداته وتقاليده، وليس معنى ذلك أن نرفض تراثنا وتاريخنا ولكن أن نفهمه من خلال أن يكون لنا تراثنا الذي تركه لنا الأقدمون، وهو التراث الذي نصنعه من خلال ما نراه حقاً لدى الأقدمين، ومن خلال ما ننتجه من حق ليكون تراثاً رائداً للأجيال المقبلة.
لقد أعطانا الله كتاب السموات والأرض، وأعطانا كتاب الزمن كله، وقال لنا إن أي واحد منكم يستطيع أن يصنع نفسه بنفسه فيما يملك أن يفكر فيه وفيما يملك أن يجرّبه، وإذا أشكلت عليكم الأمور {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}( )، وحاولوا أن تجادلوا بالحق وحاولوا أن تعرفوا الحق، وربما نستوحي من الآية أن الله يريد منك ومني ومن الآخرين أن نعرف كل ما يتعلق بمسؤولياتناب المستوى الذي نستطيع أن ندافع فيه عن ذلك، أي نه لا بد لك أن تدافع عن عقيدتك فيما اعتقدته، ولا بد لك أن تدافع عن أخلاقك فيما اخترته وعن كل علاقاتك فيما ارتبطت بها، لماذا؟ لأن ركيزتها في نفسك {يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها}( )، فكيف تستطيع نفسك أن تجادل عن عقيدتك عندما يسألك الله عنها، وتجادل عن عملك عندما يسألك الله عنه وعن حبك وبغضك وكل سلوكك، هل تستطيع أن تجادل، الجدال هو أن تدافع بالحجة لا أن تعيش جدلاً عقيماً، لأن الجدل العقيم يمكن أن ينجح فيه الإنسان مع الإنسان الآخر عندما يهيمن عليه بمختلف الأساليب غير المسؤولة، ولكن أمام الله تعالى لا بد أن يكون الجدل جدل الحق.. ومن هذا نفهم أننا سنحتاج غداً أن نجادل عن كل تاريخنا وأن نقسم بكل هذا الكيان عن نفسنا العقلية، وعن نفسنا القلبية وعن نفسنا الحركية في كل م جال.
جلسة للفكر:
فما رأيكم ـ أيها لأحبة ـ في أن نبدأ من الآن.. فهذه جلسة ليست للاستهلاك، فأنا لا أحب استهلاك الكلمات، ولكنها جلسة للفكر، فلنفكّر جميعاً، خاصة وأن التحديات تواجهنا في كل مكان، فهناك تحديات الجهل الذي يفرض كل قيمه علينا، وهناك تحديات التخلف الذي لا يزال يعشش في رواسبنا وفي أوضاعنا، وهناك تحديات الكفر الذي يستغلّ الجهل والضعف فينا من أجل أن يبعدنا عن أسس العقائد والشريعة والمنهج، فإذا أردتم بقاء الإسلام فحاولوا أن تفهموه جيداً وأن تتثقفوا به جيداً، وأن لا تعتبروه مجرد شيء على هامش حياتكم، بل كل حياتكم، لأن الإسلام يدخل معنا في كل مواقعنا: يدخل في صالوناتنا كيف نفتحها للناس، ويدخل في مطابخنا ليقول هذا حلال لكم أن تأكلوه أو تشربوه، وهذا حرام لا يجوز لكم، ويدخل في غرف نومنا ليحدّد لنا الحلال والحرام في المسموح وغير المسموح، ويدخل في ساحاتنا على مستوى العلاقات والصداقات والسياسات والاجتماعيات.
لذلك، فإن الإسلام هو كل الحياة وليس بعضها، وقد حدثنا الحديث الشريف عن يوم القيامة "ثلاث يظلّهم الله بظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم، ورجل قال الحق فيما له وفيما عليه، ورجل لم يقدّم رِجلاَ ولم يؤخّر أخرى حتى يعلم أن ذلك لله رضا"، وذلك بأن نعرف بأن رضا الله فيما نعتقد بأنه الحق ورضا الله فيما نحب ونبغض على أساس أنه عاطفة الحق ورضا الله فيما نقول ونعمل لأنه قول الحق وخط الحق {وقل اعملوا ـ فكرياً وعاطفياً وحركياً ـ فسيرى الله عملكم ـ في الداخل من شخصيتكم وفي الخارج ـ ورسوله والمؤمنون}( )، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثانية والعشرون: 16 ذو القعدة 1418هـ ـ الموافق 14 - 3 – 1998م
في مولد الإمام الرضا(ع)
لا تشتغلوا بتمزيق بعضكم بعضاً
"كان الإمام الرضا(ع) يفيض بالعلم فيضاً، وكان القرآن هو القاعدة التي انطلق منها وارتكز عليها في ذلك"
ـ ولادة الإمام الرضا(ع).
ـ ولاية العهد.
ـ مكانته العلمية.
ـ استنطاق أحاديثه.
ـ تجدد القرآن الدائم.
ـ نجاة القرآن من التحريف.
ـ وصايا إلى مواليه.
ـ إقبال المؤمنين على بعضهم.
ـ حُسن الخلق.
ـ الاحتفال بالإمام الرضا(ع).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
ولاية الإمام الرضا(ع):
قبل أيام مرّت عينا ذكرى ولادة إمام من أئمة أهل البيت(ع) وهو الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، هذا الإمام الذي تميّزت حياته بأنه عاش وضعاً قد يكون معقداً من خلال وجهة نظر البعض، وقد يكون منفتحاً من خلال وجهة نظر البعض الآخر، وهو أن المأمون جعله ولي عهده ولم يكن الإمام(ع) راغباً في ذلك، كما يرغب الطامحون إلى المواقع الرسمية فيما يمكن أن يتطلبوه، وفيما يمكن أن يعرض عليهم، وليست المسألة أن الإمام(ع) لا يحمل مسؤولية السلطة عندما يكلف بها لا سيما إذا كانت سلطة تتحرك بعنوان إسلامي يمكن أن يطل من خلاله الشخص على رعاية واقع الإسلام وعلى تنفيذ حكم الله تعالى، وعلى تصحيح خط الانحراف إلى خط الاستقامة، فتلك هي مهمة أهل البيت(ع) أن يرصدوا كل الواقع، الواقع الثقافي ليصححوا المفاهيم التي يمكن أن تختلط فيها التفاسير، أو الفكري ليصححوا الكثير من الأفكار التي يمكن أن تتحداها الأفكار المضادة التي تثير الشبهات في داخلها، أو الحركي ليصححوا مسار الطريق عندما ينحرف الناس عن الطريق المسقيم.
ولاية العهد:
ولذلك قد تكون ولاية العهد فرصة، ولكننا ذكرنا هذه المسألة في أكثر من حديث، ولسنا بحاجة أن نبرر قبول الإمام لولاية العهد بضغوط كبيرة عليه، وإن وردت بعض الروايات في ذلك، لكن ذلك ليس ضرورياً بقطع النظر عما إذا كان التبرير صواباً أو خطأً، وذكرنا أن المنصب هو منصبه بالأصالة باعتبار أنه الإمام المفترض الطاعة، ولكن الإمام(ع) كان لا يرى المأمون جاداً في المسألة ولا يرى أن هذا الأمر يمكن أن يتم له، ولذلك لم يتحمس للموضوع وقبِل الأمر بشروط معينة من خلال دراسته لطبيعة الواقع.
نحن لا نريد أن نفيض في هذا الحديث كثيراً، ولكننا نريد أن نؤكد على هذه المسألة المثيرة في حياة الإمام الرضا(ع) مما لم تتوفر لأي إمام آخر من الأئمة(ع) وقد استطاع الإمام(ع) قبل ذلك وبعد ذلك أن يملأ الساحة الإسلاميثة علماً واسعاً عميقاً يواجه كل القضايا الجديدة التي طرحت في الواقع الإسلامي من قبل التيارات المضادة، وهذا ما جعله يجلس مع كل الناس الذين يمثلون مختلف التيارات الفكرية، سواء كانوا من الملحدين أو من أهل الكتاب أو من ديانات أخرى غير الكتابية.
مكانته العلمية:
ولقد واجه الإمام الكثيرين من أهل الفلسفات ومن المتصوفة، نكان يخاطب كل واحد منهم بالمستوى العلمي الذي يملكه، ورأى فيه كل هؤلاء بما فيهم المأمون الذي عقد له مجلساً دعا فيه أهل الملل والديانات والاتجاهات الفكرية إلى أن يناقشوه، ورأوا فيه الإمام الموسوعي الذي لم يتعقد من سؤال ولم يتوقف أمام أية مشكلة بل كان يفيض بالعلم فيضاً، وكان القرآن هو القاعدة التي انتطلق منها وارتكز عليها في كل ذلك.
لهذا نحن نتصور أنه لا بد من دراسة كل تراث هذا الإمام العظيم لأنه يمثل تراثاً واسعاً في الجوانب الفلسفية والفقهية والتفسيرية والأخلاقية والحركية بحيث أن الإنسان الذي يدرسه يستطيع أن يخرج بثقافة إسلامية موسوعية متنوعة الجوانب ممتدة الأبعاد.
وهذا ـ أيها الأحبة ـ ما ندعو إليه في إثارتنا لكل الأحاديث عن أهل البيت(ع) وهو أن لا تكون المأساة كل حديثنا عنهم، وأن لا يكون الغيب ـ وهو الحقيقة ـ كل حديثنا عنهم، ولكن أن يكون تراثهم الذي يغني الإنسانية والذي يمكننا إذا درسناه وإذا أوضحناه وإذا حلّلناه أن نقدمه للعصر وأن نجعل العصر يتمثل هؤلاء الأئمة كما لو كانوا حاضرين فيه يعالجون قضاياه ويحلون مشاكله وينطلقون به نحو الخط المستقيم.
استنطاق أحاديثه:
ما نريد طرحه في ذكرى ولادته(ع) هو أن نتمثل الإمام كيف كان يحدّث الناس الذين يلتقي بهم، وكيف كان يحدّث في المسجد وفي بيته، وفي كل المواقع التي كان يلتقي الناس بها.. ونبدأ بحديثه عن القرآن، لأن القرآن هو كتابنا الأساس وتأتي السنّة في خطه {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}( )، ولكن القرآن هو الذي يؤصل لنا مفاهيم السنّة، لأن الحديث جاء عن رسول الله(ص) وعن الأئمة من أهل بيته(ع).
إن علينا أن نعرض كل حديث يأتينا من أي شخص على كتاب الله، فما وافق كتاب الله نأخذ به، ما خالف كتاب الله ندعه، يقول الإمام الرضا(ع) فيما ينقل بعض أصحابه وهو (الريان بن الصلت)، قال قلت للرضا: "ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله فلا تتجاوزوه ـ أي قفوا عنده وادرسوه وتدبّروه وخذوا منه مفاهيم الفكر في العقل، وخذوا منه خطوط الحركة في الواقع، وخذوا منه مناهج الحركة فيما تتحركون به في هذا العلم أو ذاك ـ لا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا"( )، فهو الهدى وهو النور وإذا انفتحتم عليه وعرفتم كل معانيه فإنكم ستعرفون الهدى مشرقاً منيراً مضيئاً، أما إذا تجاوزتموه إلى غيره فلقد ترون ظلمات بعضها فوق بعض.
تجدّد القرآن الدائم:
ويقودنا الإمام الرضا(ع) كما يقودنا الأئمة من أهل البيت(ع) في كل أحاديثهم إلى القرآن الكريم، وقد جاء في حديث أحد أصحابه أنه قال: سمعت (إبراهيم بن العباس) يحدّث عن الرضا عن أبيه موسى بن جعفر، وكلامهم واحد، أن رجلاً سأل أبا عبدالله "ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلا غضاضة ـ أي إلا جدة، فهو قد نزل قبل 1400 سنة ونحن نقرأه بعد كل هذه القرون، فما بالنا، وهو كتاب قديم استهلك الناس قراءته ودراسته، نشعر أننا عندما ندرسه فكأننا ندرس شيئاً جديداً علينا لم نقرأه من قبل، ففي كل قراءة له نجد أن هناك جدة وحداثة وحيوية كما لو لم نكن قرأناه من قبل ـ فقال: لأن الله لم ينزله لزمان دون زمان"، ذلك أن القرآن هو كتاب الله الذي يعيش مع الزمن كله، ولذلك فقد اختزن القرآن بإيحاءات معانيه وفي الآفاق التي يمكن أن ينفتح عليها ويطل عليها ما يمكن له أن يخاطب أهل كل جيل بقضاياهم ومشاكلهم.
وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر(ع) وهو يشير إلى ما قد جاء في بعض الكتب من أسباب النزول في فلان أو فلان قال: "لو أن القرآن إذا نزل في جماعة وقف عندهم مات بموت هؤلاء ولكن القرآن يجري مجرى الليل والنهار ومجرى الشمس والقمر" لذلك فإذا نزل القرآن في واقعة، فالواقعة ليست هي معنى الآية، بل هي النموذج الذي يشير إلى كل النماذج المماثلة على مدى التاريخ، وإذا نزل في شخص فإن الشخص لا يمثل ما تدل عليه الآية فقط ولكنه يمثل العنوان الذي يمكن أن ينفتح على كل العناوين في حركة الحياة، "لأن الله لم ينزله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس" فقد خاطب الناس كلهم {يا أيها الناس اتقوا ربكم}( )، {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى}( )، وخاطب المؤمنين في كل زمان ومكان {يا أيها الذين آمنوا} لم يخاطب الناس في زمنه ولم يخاطب المؤمنين في زمنه "فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غضّ ـ يعني حيوي ـ إلى يوم القيامة"( ).
ومن خلال ذلك ـ أيها الأحبة ـ لا بد لنا عندما نقرأ القرآن وندرسه أن نستوحيه في كل ما يستجد في حياتنا لنوسع آفاقه حتى تنفتح على آفاقنا، فلا نقرأ القرآن في الأحداث التي عاشت في عهد الرسالة الأولى، بل نقرأه من خلال تلك الأحداث على أساس أن تكون هذه الأحداث أحداث الحياة، وليست أحداث زمن معين أو موقع معين.
وبهذا نستطيع أن نتحرك بالقرآن وأن يحركنا القرآن وأن نحرك القرآن في كل واقعنا.
نجاة القرآن من التحريف:
قال علي بن محمند بن موسى الرازي حدثني أبي، قال: "ذكر الرضا(ع) يوماً القرآن فعظّم الحجة فيه" يعني ما احتج الله به على عباده في كل ما لله فيه الحجة {فلله الحجة}( )، على جميع خلقه، واحتج به على الكافرين المشركين والمنافقين "والآية والمعجزة في نظمه" يعني في أسلوبه قال "هو حبلُ الله المتين وعروته الوثقى وطريقته المثلى المؤدي إلى الجنّة والمنجي من النار" باعتبار أن من أخذ به استطاع أن يكتشف طريق الجنة في كل ما يخططه القرآن للإنسان من طريق "والمنجي من النار لا يخلق" يعني لا يبلى "لا يخلق على الأزمنة ولا يفت على الألسنة لأنه لم يجعل لزمان دون زمان بل جعل دليل البرهان والحجة على كل إنسان {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}، وهذه الكلمة تشير إلى أن القرآن لا يمكن أن ينسب إليه التحريف سواء من حيث الزيادة أو من حيث النقصان.
وعلى هذا الأساس فما ينسب إلى شيعة أهل البيت(ع) بأنهم يرون تحريف القرآن فإن ذلك مما يكذّبه حديث أئمتهم {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}( )، وهكذا نرى كيف يعظم أهل البيت(ع) القرآن وكيف يريدون من الناس جميعاً أن يكون النور الذي يشرق في عقولهم، الهدى الذي يتمثل أمام عيونهم، والمنهج الذي ينتهجونه في كل ما يريدون الوصول إليه، والطريق المستقيم الذي يقود إلى الجنة ويجني من النار.
وصاياه إلى مواليه:
وننتقل إلى موقع آخر فنرى الإمام الرضا(ع) يلتقي بتلميذه (السيد عبد العظيم الحسني) الذي يزار في منطقة الريّ، ويسمى (الشاه عبد العظيم) فلقد كان يرسله ليبلّغ أولياءه ما يريد منهم، لأنه كان لا يجلس في بيته وحسب لينطلق أولياؤه بمبادرة منهم باللقاء به، ولكنه كان يفكر بهم وفي أوضاعهم وفي كل ما يعيشونه، ويراقب أوضاعهم في انحرافاتهم، لأن ذلك هو موقع القيادة في أي مكان وفي أي زمان بأن يكون القائد في موقع الراصد لكل أتباعه ولكل جنوده ليبتدأهم إذا لم يسألوه وليجيبهم إذا سألوه، قال: "يا عبد العظيم أبلغ عني أوليائي السلام وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً" أن يعرفوا خطوات الشيطان ووساوس الشيطان وحيل الشيطان وألاعيبه وأن يعملوا على أن يتفادوا ذلك كله في سلوكهم العملي فيغلقوا كل النوافذ التي يمكن أن يطل عليهم منها ويسدوا كل الطرق التي يمكن أن يأتي إليهم منها "أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً".
والوصية لكم أيضاً لأنه يوصي أولياءه وأنتم من أوليائه في كل مكان وزمان "وامرهم بالصدق في الحديث" أن لا يكونوا الكاذبين فيما يحدثون به، لأن الكذب يعطّل وضوح الحقيقة في الواقع، فعندما نعيش الواقع في جزئياته وكلياته بعيداً عن الحقيقة، فإنه سوف يصاب بالضياع وبالارتباك وبالخلل في موازينه وفي أحكامه "وأداء الأمانة" لأن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها سواء كان أهلها من الكافرين أو من المسلمين، ولأن أداء الأمانة سواء كانت أمانة مال أو أمانة سر أو أمانة مسؤولية هي التي تحافظ على توازن المجتمع وعلى تركيز قواعد الثقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع عندما يحترم كل شخص الآخر من خلال ما اؤتمن عليه في حياته مالاً كان أو أمراً سياسياً أو اجتماعياً "وامرهم بالسكوت" بالصمت الذي ينطلق به الإنسان ليفكر، لا صمت الغباء ولكن صمت الفكر، لأن الإنسان إذا لم يعطَ نفسه فرصة للصمت وللسكوت فإنه قد لا يجد فرصة للتفكير الصافي المنفتح.
لذلك نحن بحاجة ـ أيها الأحبة ـ إلى بعض الصمت وبعض السكوت حتى نستطيع من خلال صفاء الفكر وهدوئه وابتعاده عن الضجيج أن نفكر فيما عملناه وفيما قلناه وفيما خططنا له لندرس إيجابياته وسلبياته، وأن نعرف ما نريد أن نخطط له أو نقوله أو أن نفعله لندرس نقاط ضعفه ونقاط قوته في أين الصواب هنا وأين الخطأ هناك.
كيف نجادل بعضنا بعضاً؟
"وترك الجدال فيما لا يعنيهم" وهذه وصية حية مهمة رائعة وهي أنك عندما تدخل في جدال حول أمر تختلف فيه مع الآخر، فكّر في هذا الأمر الذي تثير الجدال فيه هل هو من الأمور التي تتصل بالخطوط الأساسية للعقيدة باعتبار أن عقيدتك مسؤولية فكرك الذي تقدم فيه حسابك إلى الله أو أنه يتصل بخط حيوي بالشريعة باعتبار أن الشريعة تمثل حركة حياتك في مسؤولياتك السلبية أو الإيجابية أمام الله، أو هل يتصل بشأن من شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما يتعلق بقضايا المصير.
أما إذا رأيت أن هذا الأمر لا علاقة له بالعقيدة ولا علاقة له بالشريعة ولا علاقة له بالحياة ولا علاقة له بالمصير وإنما هو مجرد شيء تجريدي سواء اعتقدته أو لا تعتقده، فإنه لن يغير من الأمر شيئاً، تماماً كما كان أهل قطسنطينية يتنازعون والفاتح يدق الأبواب يريد أن يقتحم البلاد وفلاسفتهم يتناقشون هل أن البيضة أصل الدجاجة أو الدجاجة أصل البيضة، فهذا يقول إن البيضة أصل، وذاك يقول إن الدجاجة أصل.
وهل أن الملائكة ذكور أم إناث، ويختلفون فيما بينهم ولا يلتفتون إل المهم وهو إذا أنتجت الدجاجة لنا بيضاً أن نأكل البيض لذيذاً شهياً، أو إذا أنتجت لنا البيضة دجاجة أيضاً أن نأكل الدجاجة التي أحلها الله لنا، أما الملائكة فهم عباد مكرمون سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فهل نريد أن نزوّج الملائكة إذا كانوا ذكوراً ونتزوج منهم إذا كانوا إناثاً، هذا كلام فارغ كلاكثير من الكلام الفارغ الذي يدور في القضايا التي ينطلق فيها الناس على أنه من هو أفضل ذاك أم هذا، وهذه أم تلك، في حين أن الأمور عندما لا تتصل بمسؤوليتنا أمام الله ولا بمسؤوليتنا بحركة الحياة فإنها تمثل طواحين الهواء التي تطحن وتطحن ويبقى الهواء هواءً، إذ لا يمكن أن يتحول الهواء إلى أي شيء، ولكن عندما تطحن الحنطة فإنها تتحول إلى دقيق تستطيع أن تعجنه خبزاً، ولكن المشكلة هي أننا أناس متخلّفون ـ بكل أسف ـ فنحن نحاول أن نصعد بالتخلف إلى الدرجات العليا من مواقعنا ولا نلتفت إلى الآثار المؤسفة المترتبة على هذا التخلّف، ونتنازع ونتكافر ونتضال في حين لا علاقة لقضايا الخلاف والنزاع بالدنيا ولا علاقة لها بالآخرة.
إقبال المؤمنين على بعضهم:
وهذا ما يقوله الإمام "وترك الجدال فيما لا يعنيهم" يعني في الأمور التي لا تتصل بمسؤولياتهم في الدنيا والآخرة "وإقبال بعضهم على بعض" وذلك بأن لا يتقاطعوا وأن يقبل المؤمن على المؤمن بعقله ليعطي النصيحة، وبقلبه ليعطي المحبة، وبحياته ليعطي الطاقة "والمزاورة" بأن يزور بعضهم بعضاً "فإن ذلك قربة إليّ" لأنهم بذلك يوحّدون الصف وبذلك يقوّى الموقع "ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً". في حين أن الكثيرين يزورون الإمام الرضا(ع) وهم يمزقون بعضهم بعضاً عنده أو قريباً منه أو في أجوائه على كل المستويات، والفئات تمزق بعضها بعضاً والمشايخ يمزقون بعضهم بعضاً والعوائل والأعراق كأنهم لا يشعرون بأن "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً" وكأنهم لا يعرفون "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".
"ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك" من شيعتي ومن أوليائي عمل على تمزيق الواقع الإسلامي والإيماني تحت أي اعتبار "فإتي آليت على نفسي أنه من فعل ذلك وأسخط ولياً من أوليائي"بالإساءة إليه وباتهامه بما ليس فيه وبغيبته وبتشويه صورته وبإسقاط موقعه "دعوت الله ليعذبه في الدنيا أشد العذاب وكان في الآخرة من الخاسرين".
وهذه تحتاج إلى تأمل، فلو دعا عليك شخص فالأمر هيّن، ولكن الإمام الرضا(ع) يقول أنا أخذت على نفسي عهداً أمام الله أن أدعو عليهم بأن يعذبهم الله أشد العذاب، وبذلك فعلى من لديه عقدة نفسية أو مشكلة شخصية أو وضع فئوي معين أو وضع عائلي معين أن يعرف حاله قبل أن يزور الإمام الرضا(ع) الذي يقول أنا أخذت على نفسي عهداً أمام الله أن أدعو عليهم بأن يعذبهم الله أشدّ العذاب وبذلك فكل من لديه عقدة نفسية أو مشكلة شخصية أو وضع فئوي معين أو وضع عائلي معين ليعرف حاله قبل أن يزور الإمام الرضا(ع)، هل هو ممن يدعو عليه الإمام الرضا(ع) أو ممن يرتضيه في أوليائه؟!
"وعرّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم" عندما ينطلقون من قاعدة الإسلام ومن قاعدة الخط الأصيل وهو خط الولاية في الإسلام "وتجاوز عن مسيئهم إلا من أشرك به أو آذى ولياً من أوليائي أو أضمر له سوءاً فإن الله لا يغفر له حتى يرجع عنه" أي عندما تعود القلوب مفتوحة على المحبة لبعضنا البعض، فإذا كان الشخص يؤذي ولياً أو يضمر له سوءاً "فإن الله لا يغفر له حتى يرجع عنه فإن رجع عنه" تاب الله عليه "وإلا نزع روح الإيمان من قلبه وخرج من ولايتي ولم يكن له صيب في ولايتنا وأعوذ بالله من ذلك"( ).
هذه المسألة تعطي صورة يمن أن تمثل واقعنا، فكل واحد منا يذبحها على قبلة ـ كما يُقال ـ فهذا يقول لك أفعل ما أفعل من أجل الدين، وهذا من أجل المذهب، وهذا من أجل الإسلام، وهذا من أجل الوطن، وعندما ندخل إلى داخل نفوسنا نجد أنها تقولم بكل ذلك من أجل الذات حسداً أو حقداً أو عداوةً "وأعوذ بالله من ذلك".
حُسن الخلُق:
والإمام الرضا(ع) يحدثنا في هذا عن رسول الله(ص)، حيث قال: حدثني أبي موسى بن جعفر، قال حدثني أبي جعفر بن محمد، قال حدثني أبي محمد بن علي قال حدثني أبي علي بن الحسين قال حدثني أبي الحسين بن علي قال حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال، قال رسول الله(ص): "عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة"، يعني إذا كنت مؤمناً بالله وبرسوله وسرت في خط الإيمان وكنت حسن الأخلاق مع أهلك ومع أخوانك ومع كل الناس الذين تلتقيهم فإنك في الجنة لا محالة "وإياكم وسوء الخلق، فإن سوء الخلق في النار لا محالة" فالإنسان السيّئ الخلق تتحرك به المعصية باتجاه الشيطان يضرب هذا ويسبّ هذا ويشتم ذاك ويتهم الآخر.
وبهذا الإسناد قال، قال رسول الله(ص): "إن العبد لينال بحسن الخلق درجة الصائم القائم" أي كنت تتميز بخلق حسن وكنت لا تأتي إلا بفرائضك في صوم شهر رمضان، فالله يكتبك صائماً قائماً في كل حياتك كما هو إيحاء الحديث.
وبهذا الإسناد قال، قال رسول الله(ص): "أقربكم مني مجلساً يوم القيام أحسنكم خلقاً وخيركم لأهله" وفي حديث آخر: "وأنا خيركم لأهلي".
وبهذا الإسناد قال، قال رسول الله(ص): "من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فإني سمعت جبرائيل يقول إنّ المكر والخديعة في النار"، أي من كان شأنه المكر بحيث يمكر بالناس ويتحيّل عليهم.
ثم قال: "ليس منا من يغش مسلماً وليس منا من خان مسلماً" سواء كان غشاً في الرأي، أو غشاً في المعاملة، أو غشاً في النية، أو غشاً في الكلام.
ثم قال: "إن جبرائيل الروح الأمين نزل عليّ من عند ربّ العالمين، فقال يا محمد عليك بحسن الخُلُق فإنه يذهب بخير الدنيا والآخرة"، أي يحمل خير الدنيا والآخرة "ألا وإن أشبهكم بي أحسنكم خلقاً".
الاحتفال بالإمام الرضا(ع):
أيها الأحبة، إذا أردتم أن تحتلفوا بالإمام علي بن موسى الرضا(ع) في مولده، فلا تكفي الطريقة الاحتفالية تصفيقاً وإنشاداً، بل احتفلوا به بأن يولد في عقولكم، وأن يولد في قلوبكم، وأن يولد في حياتكم بحيث تعيشون فكره وروحانيته وانفتاح قلبه على الناس جميعاً، وتعيشون هذا الخلق المتسامح المنفتح على الخير كله، وقبل لك وبعد ذلك أن تعيشوا مع الإمام في عيشه مع الله حيث ينطلق مع الله أولاً لينطلق بالتالي مع الناس من خلال محبّته لله التي توحي بالمحبة لعباد الله ولكل خلق الله. وهذا ما يجعلنا نلتزم بإمامتهم بهذا الخط "والله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وكانوا يعرفون بالتواضع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياع". وقال الإمام الباقر(ع): "من كان ولياً لله فهو لنا ولي ومن كان عدواً لله فهو لنا عدو، والله ما تُنال ولايتنا إلا بالورع". والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثالثة والعشرون: 23 ذو القعدة 1418هـ ـ الموافق 21 - 3 – 1998م
في رحاب الحج...
"في عرفات والمزدلفة ومِنى انفتاحٌ على الله وتأمّل وعبادة وخضوع وابتهال من أجل أن يبقى الله في عقولنا وقلوبنا"
ـ فريضة الحج.
ـ مشقّة تعقبها السعادة.
ـ بدايات التأسيس.
ـ صلاة إبراهيم(ع).
ـ تطهير البيت.
ـ التمنيات الإبراهيمية.
ـ الثبات على الإسلام.
ـ ملّة إبراهيم.
ـ التسليم المطلق.
ـ أمّةٌ قد خلت.
ـ البيت العالمي.
ـ ذكر الله وتقوى الله.
ـ دعاء الدنيا والآخرة.
ـ حصاد الحج.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
فريضة الحج:
في هذه الأيام ينطلق الناس إلى بيت الله الحرام ليؤدوا الحج كفريضة فرضها الله على من استطاع إليه سبيلاً، أو كمستحب استحبه الله لمن أدى هذه الفريضة، أو لمن تطوع بذلك.
ونحن نعرف أن الله عندما يكلفنا بشيء فإنه لا بد أن يشتمل على الكثير مما يصلح حياتنا ويرتفع بمستوانا سواء في الجانب الروحي أو الجانب المادي منه، لأن كل التكليف الإلهي ليس شيئاً يخص الله بمعنى أن يحصل له نفع من ذلك، بل هو من أجل أن تكون الحياة للإنسان أفضل وأغنى وأرحب وأقوم، وذلك هو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}( ).
فالإسلام كله دعوة إلى الحياة، فكل ما أمرنا الله به فهو ينطلق من عناصر حية تمنحنا روح الحياة وحركيتها وخطها المستقيم، كما تنفتح بنا على حياة أخرى أكثر خلوداً وأكثر نعيماً وأكثر سكينةً وأكثر طمأنينة {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}( ).
مشقّة تعقبها سعادة:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ عندما نريد أن ننفتح على كل ما أمرنا الله به وما نهانا عنه، فعلينا أن لا نفكر في أنه عبء ثقيل علينا، يثقل أوقاتنا أو يثقل أجسادنا أو مشاعرنا لأنه في عمق معانيه يفتح حياتنا على الأفضل، ونحن نعرف أن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على العسل، إلا من خلال أبر النحل "ولا بد دون الشهد من أبر النحل"وكذلك لا يستطيع أن يقطف الزهرة إلا إذا جرحته الأشواك المحيطة بها، ولذلك فإن الجراحات التي تجرح مشاعرنا أو أحاسيسنا أو أوضاعنا من خلال ما كلفنا الله به هنا وهناك، ما هي إلا وسيل من وسائل اقتطاف وردة الرضوان الإلهي والنعيم الإلهي والسعادة الإلهية في الدنيا والآخرة، فالناس يقصدون إلى بيت الله الحرام لعيشوا ذلك من خلال مكابدة المشاق التي تفرضها المناسك.
بدايات التأسيس:
وقد حدثنا الله عن خصوصيات هذا البيت وعن ظروف تأسيسه وعن روحية الشخص الذي أسسه وبناه، وعن الأفق الواسع الذي كان يفكر به ويحلم به ويدعو الله أن يحققه، وعن الخط الذي رسمه الله له في نهاية المطاف.
فلنبدأ مع القرآن الكريم ومع إبراهيم(ع) {وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً}( )، فالله أعده حتى يقصده الناس ويثوبوا إليه ويجلسوا عنده آمنين، كما أن الله جعله منطقة سلام في آية أخرى {ومن دخله كان آمناً}( )، فليس لأحد أن يعتدي على أحد في هذا البيت وبما يحوطه من الحرم الذي جعله الله آمناً ببركة البيت.
صلاة إبراهيم(ع):
ويقول تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى}، لأن إبراهيم هو الذي بدأ الصلاة هناك ليشير إلى الناس قائلاً: تعالوا إلى الصلاة هنا، اتخذوا هذا المقام مصلى لأنه أطلق الصلاة من خلال هذا البيت، ولذلك فإن كل صلاة تأتي من بعده تنفتح على صلاته، وصلاة إبراهيم(ع) ـ كما سيأتي ـ هي الصلاة التي ليس فيها شيء للذات وليس فيها شيء للجسد وليس فيها شيء للناس {إذ قال ربه أسلِم قال أسلمتُ لربّ العالمين}( )، {قُل إن صلاتي ونسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}( )، فهي صلاة تنفتح على الله بكل عناصرها وبكل مواقعها.
ولذلك يمكننا أن نستوحي من اتخاذ مقام إبراهيم مصلى أن صلاة إبراهيم هي النموذج الأعلى للصلاة فيما انطلقت الصلاة منه في التأريخ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} باعتبار أنهما اللذان أسّسا البيت ورفعا قواعده.
تطهير البيت:
عهدنا إليهما {أن طهّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والرُكّع السجود}( )، وليس معنى طهّرا أي من النجاسة، بل أسساه طاهراً ليكون بنيانه على أساس الطهارة، والطهارة هنا قد لا يكون المراد منها ـ والله العالم ـ الطهارة من النجاسات، ولكن الطهارة من الشرك، فطهّرا بيتي أي اجعلاه طاهراً من رجس الشرك، وبهذا قال الله تعالى: {إنما المشركون نجس}( )، باعتبار أن الشرك يمثل قذارة فكرية وقذارة روحية، وطهرا بيتي أيضاً اجعلاه طاهراً من كل رجس الأوثان، وقد عبّر الله في آية أخرى عن الأوثان بأنها الرجس {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}( ).
{ليطوّفوا بالبيت} بعيداً عن كل حالة صنمية بحيث أنهم لا يتوجهون إلى البيت كما لو كان حجراً يستغرقون فيه، ولكن أن يتوجهوا إليه من خلال كونه يمثل معنى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له {للطائفين والعاكفين} الذين يعتكفون في البيت للعبادة {والركّع السجود}.
التمنيّات الإبراهيمية:
وعندما عاش إبراهيم هذا الجوّ وهذا العهد انطلقت تمنياته وأحلامه لهذا المشروع الذي أكرمه الله ببنائه {وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً} واجعله واحةَ سلام لا يقتل الناس فيه بعضهم بعضاً، ولا يعتدي بعضهم فيه على بعض، حتى أن الناس هناك لا يعتدون حتى على الحيوان إذا لم يكن حيواناً مؤذياً.
{وارزُق أهله من الثمرات}( ) لأنه قال في آية أخرى {إني أسكنتُ من ذريّتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة}( )، لذلك أراد إبراهيم لهذا البلد الذي يقصده الناس ليطوّفوا به ويعتكفوا ويدعو أن يحصل على الثمرات التي تجذب الناس إليه أو تمثل شروط الحياة الطبيعية بالنسبة إليه {من آمن منهم بالله واليوم الآخر} لأنه لا يدعو للكافرين مع بقائهم على كفرهم {قال ومن فر فأمتعه قليلاً} فكأن الله استجاب دعاءه لكنه استثنى من كفر {فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}، وهنا أيضاً يحدثنا الله عن إبراهيم بعد هذه الجملة المعترضة {وإذ يرفع إبراهيم القواعد} الأسس {من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم}( )، فكأنهما عندما قاما ببناء هذا البيت تعبّدا إلى الله وتقرّبا إليه بهذا الجهد الذي بذلاه، وأرادا من الله أن يتقبّل منهما {ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع} الذي تسمع دعاءنا {العليم} الذي تعلم ما نخفي في سرنا.
الثبات على الإسلام:
{ربنا واجعلنا مسلمين لك} وهكذا نجد أنهما وهما المسلمان يريدان من الله سبحانه وتعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى أن يتحرك الإسلام في حياتهما إلى نهاية حياتهما، فلا يعرض عليهما شيء يختلف عن خط الإسلام {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}، وهذه هي المسألة التي نستوحيها من إبراهيم وإسماعيل، وهي أن على الإنسان أن لا يفكر فقط في أن يكون هومسلماً بل لا بد له أن يفكر بامتداد الإسلام في ذريته، لأن ذلك هو الدلالة على عمق الإسلام في شخصيته بحيث يصبح الإسلام طموحاً وهدفاً وغاية وليس مجرد شيء شخصي، ولهذا قال {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}.
{وأرنا مناسكنا} يعني الفروض العبادية التي نعبدك فيها، خطّط لنا يا رب فروض الحج ومناسك الحج {وتُب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم}( )، وكانا يفكران ربما من خلال بعض الإيحاءات التي كانا يستوحيانها مما أنزله الله عليهماأن هناك رسولاً سيُبعث حتى يحمل الرسالة {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}( )، وهذه هي التمنيات الإبراهيمية ـ الإسماعيلية التي كانا يشرفان من خلالها على العهد الذي أرسل فيه رسوله وهو من ذرية إبراهيم وإسماعيل، حيث انطلق ليتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وبذلك استجاب الله لإبراهيم(ع) كل ما طلبه مما يختص به وبذريته وبأهله وببلده وبالرسول.
ملّة إبراهيم:
لذلك اعتبر الله سبحانه وتعالى ملّة إبراهيم، هذه الملّة المنفتحة على الإسلام العقلي والقلبي والقلبي والروحي واللساني والجسدي كله، اعتبرها هي المّلة الأساسية التي خططت لكل الرسالات التي جاءت من بعده.. ولذلك أيضاً قال سبحانه وتعالى:{ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفِه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}( )، لأن الله اصطفاه نبياً ورسولاً وإماماً وخليلاً وهو في الآخرة من الصالحين {إذ قال له ربّه أسلِم قال أسلمتُ لربّ العالمين}( )، وهذا هو الإسلام العام، الإسلام المطلق الذي يفرض على الإنسان أنه عندما يقف أمام ربّه فعليه أن يسلم كله لربّه وأن لا يكون هناك شيء خارج إرادة ربه.
التسليم المطلق:
ولذلك ـ أيها الأحبة ـ فإن على الإنسان عندما يُقال له إن الله قال كذا فلا مجال أن يقول أفكّر في الأمر حتى أفعل أو أترك {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}( )، فمع الناس يمكنك أن تقول أفكّر وأراجع نفسي، وأقبل وأرفض، لكن أمام الله عليك أن تكون كإبراهيم {إذ قال له ربّه أسلِم قال أسلمتُ لربّ العالمين ـ ولم يقتصر في هذا على نفسه ـ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون}( )، {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي}، حيث كان بعض الناس يعبد الشمس وبعضهم يعبد القمر وبعضهم يعبد الكواكب والأصنام {ما تعبدون} أريد أن أطمئن قبل أن أموت على الخط الذي ستنتهجونه.
وهذا درس رائع لكل مسلم، فهو غالباً عندما يأتيه الموت يفكر كيف هي التركة وكيف يحرم فلاناً وكيف يعطي فلاناً، فتراه مشغولاً في الدنيا التي سيفارها كيف ينظمها والله قد نظمها بالإرث، في حين لا يفكر هل أن أولاده سيكونون مسلمين صالحين من بعده أو لا.. فالله يريد أن يبيّن لنا هنا هذا الدرس {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي} وقد ربيتكم على الإسلام وعلى الإيمان {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون}( ).
أمةٌ قد خلت:
ونختم هذا الفصل بآية نرددها دائماً {تلك أمةٌ قد خلت} إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وإسحاق وأولادهم، أمة انتهت، قامت بمسؤوليتها والكرة الآن في ملعبكم ـ كما نقول هذه الأيام ـ لأن الحياة أضحت لعبة، ونستعير الكرة ولو من خلال المسؤولية في هذا المجال {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} سيحاسبون على كسبهم وعليكم أن تؤكدوا كسبكم {ولا تُسألون عما كانوا يعملون}( )، فنحن أيضاً مع إبراهيم حتى نعرف روحية هذا الإنسان الذي أعطى كل روحه وكل إخلاصه وكل قلبه لله سبحانه وتعالى.
ففي سورة إبراهيم {وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام}( )، هنا قد يقول قائل كيف يطلب إبراهيم من الله سبحانه وتعالى أن يجنبه أن يعبد الأصنام، هل كان شاكاً في ذلك وهو يعرف نفسه؟ والجواب أنه دعاء الإنسان الذي يريد أن يقدم نفسه لربه والذي يريد أن تكون حياته كلها توحيداً لله من خلال مطلبه في أن يجنبه الله عبادة الأصنام حتى لو كان يحرز من نفسه أنه لا يعبدها، راهناً ومستقبلاً.. كذلك أن يكون طموحه وحلمه أن يجنب بنيه ذلك، إذ كان إبراهيم مطمئناً لنفسه ومطمئناً لعاقبته.
أما نحن ـ المسلمين الآن ـ فنخشى على أنفسنا أن يغوينا الشيطان أو تتعقد الأمور فتنحرف بنا عن الصراط المستقيم كمثل قول الله سبحانه وتعالى وهو يتحدث عن البعض {الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} فقد يكون الإنسان مسلماً في أول حياته ثم تأتيه الحياة الفاسدة لتحرفه، فلا بد للإنسان دائماً أن يفكر بأن يطلب من الله حسن العاقبة وأن يجعل أولاده بعيدين عن الانحراف {واجنبني وبنيَّ أن نعيد الأصنام}، ثم قال: {ربّ إنهنّ أضللن كثيراً} فلقد كانت الأصنام مشكلة العهد الذي عاشه إبراهيم والمجتمع الذي عاش فيه، وقد عانى من ذلك الكثير عندما خاض صراعاً مع أبيه ومع قومه، حيث كسر الأصنام بالطريقة التي يحدثنا عنها القرآن {ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني} في خط التوحيد {فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم}( )، يعني أترك أمره إليك لتهديه ليستحق الغفران والرحمة من ذلك {ربنا إني أسكنت من ذريتي} لأنه ترك زوجته وترك ولده إسماعيل هناك {ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}( ).
البيت العالمي:
وهكذا نجد أن قيمة البيت الحرام هي في أن الإنسان الذي بناه كان يعيش كل معنى الروحانية التي أفاضها على البيت حتى يعيش هذا البيت في كل مداه كل هذه الروحانية التي أراد الله للناس أن يغرفوا منها وأن يعيشوها بكل معانيها.
وهكذا رأينا كيف أن الله سبحانه وتعالى بعد أن بنى إبراهيم البيت وأراد لهذا البيت أن يكون البيت العالمي، قال الله سبحانه وتعالى في آية سابقة {إن أول بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة مباركاً}، يقال قد كانت هناك بيوت للعبادة لكن ربما كان المقصود الإشارة لقوله {إن أول بيت وضع للناس}إنه البيت العالمي، يعني هناك مساجد صغيرة، فكما عندنا مسجد محلّة أ مسجد قبيلة أو مسجد بلد، لكن هذا المسجد ـ أي البيت الحرام ـ هو المسجد العالمي الذي أراد الله للناس من الشرق والغرب أن يأتوا إليه {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} وبكة هي لغةً في مكة {مباركاً وهدىً للعالمين}( )، فالله أنزل فيه البركة وأراد للناس أن يهتدوا به {فيه آياتٌ بيّنات} مما حشده الله سبحانه وتعالى فيه من آياته {مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً}.
{ومن كفر} مفسرة ومن لم يحج، وليس المراد الكفر العقيدي، بناءً على هذا التفسير، بل الكفر العملي، وأن الإنسان الذي يؤمن بالله ولا يعمل بما كلّفه الله هو بمنزلة الكافر، لأن النتيجة واحدة، ذلك أن الكافر لا يعمل لأنه لا يؤمن، وهذا مع أنه يؤمن لكنه لا يعمل، فالنتيجة في الخط العملي هو أنه كافر عملاً وإن لم يكن كافراً عقيدةً {ومن كفر فإنّ الله غنيٌ عن العالمين}( ).
وهكذا أراد الله من إبراهيم(ع) أن يبدأ النداء إلى الحج {وأذِّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلِّ فجٍّ عميق* ليشهدوا منافع لهم}( )، باعتبار أن الله سبحانه وتعالى يريد للناس أن يجعلوا من الحج ساحة منفعة لهم، فقد تكون المنفعة في الجوانب العبادية وهي الأساس، وقد تكون في الجوانب الثقافية التي يلتقون فيها ليعطي كل واحد منهم ثقافته للآخر أو في الجوانب الاقتصادية أو السياسية أو ما إلى ذلك، حيث أنه المجمع العالمي الذي يلتقي فيه الناس من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينتفعوا من خلال هذا التعارف وهذا الترابط الذي يمكن أن يؤدي إلى نتائج كبيرة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والروحي والعبادي.
ذكر الله وتقوى الله:
وهكذا يحدثنا الله سبحانه وتعالى في آياته عن أعمال الحج وعما ينبغي للناس أن ينطلقوا به، ويؤكد سبحانه وتعالى في مسألة الحج على نقطة أساسية هي الخلاصة لكل أعمال الحج وهي ذكر الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى أراد للناس أن يخرجوا من الحج بنقطتين، إحداهما نتيجة للأخرى "ذكر الله وتقوى الله"، لاحظوا قوله تعالى {الحج أشهرٌ معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث}، والرفث كناية على العلاقة الجنسية {ولا فسوق} والمراد كل فسق سواء بسبّنا بعضنا البعض أو بغير ذلك {ولا جدال في الحج} يعني الجدال طبعاً في غير الحق، الجدال الذي يتحرك ليثير العداوة والبغضاء والتعقيدات وما إلى ذلك، لأن الله أراد للحج أن يتحرك ليثير العداوة والبغضاء والتعقيدات وما إلى ذلك، لأن الله أراد للحج أن يكون فرصة سلام لا أن يكون مناسبة يمكن أن تثير البغضاء بين الناس {وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله} حتى لا يشعر الإنسان أن هناك خيراً يفعله يمكن أن يضيع عند الله {إن الله لا يضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى}.
{وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى}، ففي الحج كما في غيره يريد الله للإنسان أن يجعل زاده في الحياة الدنيا الذي يحمله إلى الآخرة والذي يرتفع بمكانته عند الله هو التقوى لأنها الزاد الذي يحقق لك السعادة في الدنيا والآخر، والله يخاطبنا بعد أن يبيّن لنا حقيقة التقوى وقيمتها بقوله {واتّقونِ يا أولي الألباب}( )، وهذه كناية تعني يا أولي العقول، لأن عقل الإنسان يقوده إلى التقوى ويقوده إلى ما فيه نجاته ومصلحته.
ثم يقول {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم} فلا مانع من أن تنتفع مادياً هناك بما لا يشغلك عن حجك وعن عبادتك {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} أن تذكر الله عند المشعر الحرام بحيث يكون وجودك هناك مملوءاً بذكر الله، وأن تذكر الله في قلبك وأن تذكر الله في إحساسك وأن تذكر الله في عقلك، وأن تذكر الله بلسانك {واذكروه كما هداكم} يعني اذكروه شاكرين له على أساس نعمة الهداية {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} بحيث يشعر الإنسان بأن نعمة الهداية هي في الإيمان وفي توحيد الله وهي النعمة الكبرى التي لا بد أن يذكر الإنسان ربه عندما يتذكره بالشكر {واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله من الضالين}( )..
{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} ولا تنشغلوا في الحديث الذي يتعلق بأموركم الشخصية أو بلهوكم وبعبثكم، بل انطلقوا من حيث أفاض الناس في مسيرة ربانية تتجه بكم إلى ما يريد الله لكم أن تصلوا إليه من تقواه {واستغفروا الله} ولتكن إفاضتكم مملوءةً بالاستغفار {إن الله غفور رحيم}( ) {فإذا قضيتم مناسككم} وانتهيتم من ذلك كله {فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً} ويبقى ذكر الله هو الأساس في كل حركة من حركات الحج، تذكره وأنت تطوف وتذكره وأنت تسعى وتذكره وأنت تقف في عرفات وتذكره وأنت تفيض من عرفات، وتذكره وأنت تقف في المشعر، وتذكره وأنت تقف في منى، بل تذكره وأنت ترجم الشيطان، وفي المحصلة أن يكون ذكر الله هو الخط الحركي الذي تتحرك فيه {فإذا قضيتم مناسككم} وجلستم {فاذكروا الله كذكركم آباءكم} باعتبار العلاقة التي تشد الإنسان إلى أبيه بحيث تجعله يتذكره دائماً {أو أشدّ ذكراً} لأن علاقتكم بالله هي أعظم من علاقتكم بآبائكم.
دعاء الدنيا والآخرة:
ثم يحدثنا الله تعالى عن الخط الذي عندما نذكر الله فيه فإننا ندعوه، لأننا إذا ذكرنا الله شعرنا بالحاجة إليه وشعرنا بالفقر إليه، فكيف تدعو الله سبحانه وتعالى؟ وما هو مضمون الدعاء؟ إن الله يقسّم الناس على حسب عمق الإيمان في نفوسهم {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق}( )، كمن يقول: الهم اعطني أولاداً، أعطني بيتاً، اعطني مالاً، اعطني صحة، أما أن تقول اللهم أعطني جنة، أعطني رضواناً فهذا أمرٌ ثانوي لا يهمّ البعض، بحيث أنه قد لا يفكر بالآخرة كليةً، لأنه مستغرق في الدنيا، فقد تشغله دنياه حتى وهو بين يدي الله الذي قالك {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}( )، فحتى وهو ماثلٌ بين يدي الله يعيش الاستغراق في الدنيا، بحيث لا يفكر أن يطلب من الله أن يرىض عنه وأن يدخله جنته وما إلى ذلك {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلال ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة} فنحن نعيش في الدنيا ولنا حاجاتنا ولنا أمورنا ولنا قضايانا {وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}( )، {أولئك لهم نصيب ما كسبوا والله سريع الحساب}( ).
وعلى ضوء هذا فعلى الإنسان عندما يدعوه الله أن يدعو وهو منفتح عليه بحيث يضع بين يدي الله دنياه وآخرته، وليطلب من الله أن يعطيه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وأن يقيه عذاب النار ليشهد الله على قلبه أنه لم يستغرق في الدنيا بحيث تشغله عن آخرته ولم يفهم الآخرة على أنها ابتعاد عن الدنيا، فللدنيا مطالبها وللآخرة مطالبها.
حصاد الحج:
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ ينطلق الإنسان من الحج تقياً نقياً من خلال ذكر الله الذي يجعله يحسّ برقابته عليه في جميع الأمور، وهذا ما عبّر الله عنه في آية أخرى {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}( )، فالجنة أعدّت للذاكرين للمتقين للذي يجعل حياته كلها ذكراً لله في نفسه وذكراً لله في علاقته مع الآخرين وفي كل مسؤولياته في الحياة.
هذا الإنسان الذي إذا حجّ حجاً واعياً بحيث كان الله معه في عقله وفي قلبه وفي كل المجالات، هذا الإنسان يقال له استأنف العمل من جديد، لأن الحاج يخرج من الحج كيوم ولدته أمه، بحيث يُقال له لقد انتهت مرحلة كنت فيها عاصياً لله وعندما تحج إلى الله وتهاجر إليه كما هاجر إبراهيم(ع) {قال إني مهاجر إلى ربي}( )، فإنه يتقبل هجرتك إذا عرف أن هجرتك إليه لا إلى ما تعيشه في نفسك من أطماع وأوضاع معقدةت ولذا يقال له "استأنف العمل".
فيا أيها الذين تحجّون احتفظوا بحجكم ليبقى في عقولكم ذكرى، لا ذكرى كيف جلستم هنا وكيف انطلقتم هناك، ولكن ذكرى لكل عبادتكم وإخلاصكم لله فإذا جئتم من الحج حاذروا أن تطوفوا ببيوت الظالمين وبيوت المستكبرين وبيوت الفاسقين وبيوت العابثين، لأن من طاف ببيت الله لا يمكن أن يطوف ببيوت أعداء الله، وإذا سعيتم بين الصفا والمروة فعليكم أن تتذكروا أنكم أشهدتم الله على قلوبكم أنكم سعيتم بين الصفا والمروة قربة إليه فليكن سعيكم في الحياة في تجارتكم وفي سياحتكم وفي كل أوضاعكم قربة إلى الله.
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ ففي عرفات وفي المزدلفة وفي منى انفتاح على الله وتأمل وعبادة وخضوع وابتهال حتى يبقى الله في عقولنا وفي قلوبنا ومن أجل أن تبقى عواطفنا في خط الحق، وفي حياتنا من أجل أن تكون حياتنا مع الحق، وتلك هي فائدة الحج، فأين الذين يحجّون حجاً كما هو الحجّ وأن لا يكونوا كما قيل "ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج". والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الرابعة والعشرون: 21 ذو الحجة 1418هـ ـ الموافق 18 - 4 – 1998م
في بيعة الغدير:
الولاية استكمال للمشروع الرسالي
"إنّ المشروع الرسالي لا يكتمل بمجرد إمارة تفتح السلطة الإسلامية على الأرض، بل بأن تفتح الإسلام على العقل الإنساني"
ـ بيعة الغدير.
ـ آية التبليغ.
ـ الولاية استكمال للمشروع الرسالي.
ـ أهلية عليّ للخلافة.
ـ مرحلة التلقّي.
ـ حركة الرسالة أهم من الإمارة.
ـ لو وليها عليّ(ع).
ـ خسارة المسلمين بإقصاء علي(ع).
ـ رسالة لا حكم.
ـ قيمة علي(ع).
ـ دروس الغدير.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
بيعة الغدير:
ينصب الحديث في هذا اللقاء على بيعة الغدير، لأننا عشنا ذكراها في يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وقصة الغدير هي قصة تركت آثارها العميقة في الكيان الإسلامي العام بحيث أنها في كل تفاعلاتها وفي كل المواقف السلبية والإيجابية منها، استطاعت أن تختصر كل التاريخ الإسلامي، ولهذا فإننا لا نملك أن نقف منها موقفاً هامشياً أو أننا نستهلكها على أساس حالة مذهبية مختنقة في داخل عناصرها من دون أن ندرسها في كل امتداد الواقع الإسلامي التاريخي ومن خلال الطبيعة الإسلامية للمسألة في الداخل.
فعندما نريد أن ندرس مسألة الغدير فإننا نجد أن هناك تضافراً للروايات يمكن أن يبلغ حدّ التواتر في أن النبي(ص) قال يوم الغدير "من كنت مولاه فهذا علي مولاه" مع اختلاف في الروايات فيما قبل ذلك وما بعده، ويذكر صاحب (الغدير) في استقصاء علمي دقيق أن مئة وعشرة من الصحابة رووا الحديث بطرق مختلفة، وأن هناك جمعاً كبيراً من التابيعن رووا ذلك الحديث، ومن هنا فإن المنطق العلمي يرفض أن يشكك الإنسان في الحديث سنداً.
آية التبليغ:
ويذكر المفسرون ومنهم مفسرون من السنة وآخرون من الشيعة أن حادثة الغدير جاءت بعد أن أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله الآية الكريمة {يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}( )، ويلاحظون أن هذه الآية، بالرغم من وجود بعض الآراء التي تفسرها في مواقع أخرى قد تتصل بحكم شرعي يرفضه اليهود أو ما أشبه ذلك، لكنها تتحدث عن شيء لو لم يبلّغه الرسول(ص) لكان كما لو لم يبلّغ الرسالة، بحيث يكون حجمه في تأثيره في الواقع الإسلامي في تبليغ الرسول له أو عدم تبليغه، حجم تبليغ الرسالة كلها، مع ملاحظة أن هذه الآية موجودة في سورة المائدة التي كانت آخر السور نزولاً، والمعروف أن النبي كان قد بلّغ أكثر الرسالة، فما معنى أن يُقال له {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته} فذلك يعني أنك ـ يا رسول الله ـ إذا لم تبلّغ هذا الذي أنزل إليك من ربك ـ وهو غير الرسالة ـ فكأنك لم تبلغ الرسالة.
ومن الطبيعي فإن أي حكم شرعي عادي مهما كانت طبيعته لا يصل إلى هذا المستوى، لكن الولاية يمكن أن تمثل هذا الحجم من الخطورة ومن الأهمية، لأن النبي(ص) استكمل تبليغ رسالته لكنه لم يستكمل تحقيق مشروعه، لأن الواقع الذي عاشه المسلمون كان واقع انشغالهم بالتحديات التي فرضتها الحروب التي كانت تتنقل من موضع إلى آخر، كما كانت تتحرك في داخل المجتمع الإسلامي في المدينة، حيث يمثل المنافقون واليهود حجماً كبيراً فيه، ولذلك فلم تحصل هناك فرصة هادئة منفتحة يمكن للنبي(ص) أن يحقق فيها مشروعه في إنتاج المجتمع الذي يريد إنتاجه بشروطه الإسلامية القرآنية الخاصة.
الولاية استكمال للمشروع الرسالي:
لذلك فإن مسألة الولاية هي مسألة امتداد الخط الرسالي بالمستوى الذي يمكن فيه استكمال المشروع الرسالي، وإذا عرفنا أن المشروع الرسالي لا يستكمل بمجرد إمارة تفتح السلطة الإسلامية على الأرض، ولكنه كان يفرض أن تنطلق سلطة إسلامية تفتح الإسلام على العقل الإنساني، لأن القضية ليست أن يحكم المسلمون، ولكن هي أن يدخل الإسلام فكراً وعاطفةً وحركةً ومنهاجاً وشريعةً في عقول الناس.
لهذا كانت مسألة دراسة المستقبل الإسلامي بعد الني(ص) من القضايا التي تتصل بقوة الإسلام كرسالة يُراد امتدادها بنفس الأصالة التي يمثلها الرسول(ص) مما أوحى الله به في كتابه ومما أوكل إليه أمره في سنّته، وبهذا نفهم الآية {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل} وقد كان قد بلّغ أكثر الرسالة {فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس} فأي حكم شرعي مهما كانت خطورته فيما يأكل الناس وفيما يشربون وفيما يعيشون من علاقات، أي حكم يتميز بخصوصية يمكن أن توجّه فيها الاتهامات إلى رسول الله(ص) بحيث يحتاج إلى أن يعصمه الله من ذلك؟ ليس هناك إلا قضية الولاية التي تتصل بشخص قريب إلى رسول الله(ص) نسباً ومصاهرةً والتي تستشف من خلال هذا الجو.
أهليّة علي(ع) للخلافة:
لسنا في مقام استهلاك الكلام، بل في مقام إعطاء فكرة أرجو أن نتعاون في ملاحقة عناصرها، فالسؤال هنا: لماذا علي والصحابة كثر؟ هل هي القرابة والأقرباء كثر؟ لماذا علي وحده هو المؤهل لأن يعطي الموقع الإسلامي هذا المستوى، فنحن ن عرف أن الإسلام انطلق من خلال كل رسول الله، ومن خلال عقله وقلبه وأسلوبه ومنهجه وأخلاقيته، فلقد كان رسول الله(ص) عنصر الأساس في الرسالة إلى جانب الكتاب ولو أن الله أرسل أي شخص بالكتاب ليقدمه إلى الناس، مجلداً مذهباً لما استطاع أن يجتذب أحداً، ولكن كان هناك الكتاب الاصمت وكان إلى جانبه رسول الله الكتاب الناطق.
لذلك نجد أن رسول الله بكله وبخصائصه وبعناصر شخصيته وبروحانيته هو الذي استطاع أن يبعث المسيرة الإسلامية في الخط المستقيم، والسؤال مرة أخرى ـ مع الاحترام لكل الصحابة ـ من هو المؤهّل لأن يكون في الموقع الذي كان فيه رسول الله(ص)؟!
فعندما ندرس علياً بكلّه، لأن بعض الناس يدرسون علياً في الحروب ولا يدرسون علياً في الفكر وفي الموقف، عندما ندرسه في عناصر شخصيته فإننا نتصور أن علياً وحده هو المؤهل لخلافة النبي(ص)، لأن كل المسلمين آنذاك عاشوا في بيئة الشرك بطريقة وبأخرى قبل أن يسلموا، وقد تأثروا في الكثير من مفاهيمها بحيث أنها قد تمثل بعض الرواسب الخفية في الداخل مما لا يمنع أن يكونوا مخلصين للإسلام ولكن يمنع أن تكون شخصيتهم مجسّدة للإسلام.
أما علي(ع) فإنه لم يعش في أية بيئة بالمعنى الذي يعيش فيه الطفل في بيئته لتيأثر بها منذ طفولته الأولى، فلقد عاش مع رسول الله(ص) ولقد رباه رسول الله(ص) قبل أن يبعث رسولاً وأعطاه أجواءه وآفاقه وأخلاقه وروحانيته.. ولعل أفضل من يعبّر عن هذه المرحلة هو علي(ع) نفسه في (نهج البلاغة)، حيث يقول: "وقد علمتُم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة. وضعني في حِجره وأنا ولديضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عُرفه ـ رائحته الذكية ـ وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه ـ كما تلقم الأم ولدها ـ وما وجد لي كذبة قول ـ لأن رسول الله كان الصادق الذي يؤلمه أن ذكب أحد ولأن الصدق كان في عمق شخصيته ـ ولا خطلة في فعل ـ لا انحراف أو خطأ ـ ولقد قرن الله به ـ وها يتحدث عن رسول الله(ص) في أخلاقيته وفي عناصره ـ ولقد قرن الله به من لدن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاله، ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يؤمئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه(ص) فقلت يا رسول الله ما هذه الرنّة؟! فقال هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير".
مرحلة التلقي:
عندما ندرس هذه المرحلة التي يعرف الجميع أنها المرحلة التي تبنى فيها شخصية الإنسان، لأنها مرحلة التلقي، ومرحلة غرس البذور، ومرحلة تهيئة الأجواء، نرى أن علياً كان يعيش بذور الحق التي تدخل في أرض شخصيته، وكان يعيش الأجواء التي تنمي هذه البذور وتحميها.. ثم بعد أن انطلقت الرسالة كان علي(ع) أول من انفتح على الرسالة من الذكور، ولم يحتج إل أن يستشير أحداً، ولم يحتج إلى أن يفكر لأن الرسالة كانت قبل ذلك في عقله وقلبه وحياته، ولذلك وقف علي(ع) أمام رسول الله(ص) وقال له كأول إنسان مع خديجة وهما في البيت عندما جاء رسول الله من مرحلة تكليفه بالرسالة، وقف عليّ كما وقفت خديجة وقالا معاً: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله(ص)".
وبقي علي(ع) مع رسول الله ملازماً له في كل مراحل حياته، وإذا انطلقنا مع الكلمة التي وردت في حديثه في (نهج البلاغة) "إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع، ولكنك لست بنبي" نعلم أن علياً كان يعيش التجربة الحيّة لحركة الوحي في الرسالة، وكان كما يحدّث عن نفسه يقضي الليل مع رسول الله(ص) ورسول الله يحدثه عن كل آية نزلت في مبناها وفي معناها وفي آفاقها وفي امتدادها.
الملازمة:
وعندما انطلق علي(ع) مع رسول الله في مكة كان يحميه من أذى الصبيان الذين يوجهون لأذاه، وكان مبيته على الفراش دليلاً على أن رسول الله(ص) كان كل شيء عند علي(ع)، لذلك عندما كلّفه بذلك لم يحدثه عن سلامته الشخصية كشاب في مقتبل العمر، بل قال له "أو تسلم يا رسول الله؟ قال: بلى! قال: إذهب راشداً مهدياً".
وكان علي مع رسول الله مجاهداً في كل مواقع الجهاد، وكان مع رسول الله في عبادته.. وعندما تزوج علي(ع) السيدة فاطمة الزهراء(ع) كان بيت علي هو بيت رسول الله(ص) حتى أن رسول الله كان يأتي إلى بيت علي قبل أن يأتي إلى بيوت أزواجه إذا كان في سفر.. وعلى ضوء هذا نعرف أن علياً(ع) استوعب رسول الله(ص) بكلّه، استوعب عقله، واستوعب علمه، وهو القائل "علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب"، وقد نقل السنّة والشيعة الحديث المعروف عن النبي(ص) "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها" ونقلوا عنه "علي مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيث دار" ونقلوا عنه "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعد"، وعندما آخى النبي بين المهاجرين والأنصار واعترض علي على أنه لم يجعل له أخاً، قال له: "أنت أخي" وآخاه بنفسه.
فإننا عندما ندرس كل ذلك ونضع أنفسنا في موقع رسول الله(ص) بعيداً عن مسألة القرابة وهو البعيد عن كل قرابة، حيث أنزل الله عليه سورة في أبي لهب ولم ينزل سورة في أبي جهل، وربما كان أبو جهل أكثر تعسفاً وخطورة من أبي لهب {وما ينطلق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى}( ) فعندما نكون في ذلك الجو ونجرس من هو الإنسان المؤهل الذي يملك فكر الإسلام بكل امتداداته كثقافة عقيدية وشرعية ومنهجية وتجربة عملية وحركة جهادية.. من الذي يجمع ذلك كله، نرى أنه ليس هناك أحد إلا علي(ع).
حركة الرسالة أهم من الإمارة:
فالمسألة ليست في أن يكون للمسلمين أمير كيفما كان، ولا مجرد تنظيم إداري للواقع الإسلامي، بل كانت حركة الرسالة في مستواها الثقافي الذي يمثل المستوى الثقافي لرسول الله(ص) من خلال ما أعطاه لعليّ(ع)، ولم يكن هناك في المسلمين شخص ـ بحسب التاريخ ـ كعليّ(ع) في الروحانية الفيّاضة التي كان يعيشها بينه وبين ربّه وفي الجهاد.
ولعلنا نعرف عظمة عليّ(ع) في إحساسه بالمسؤولية عن الإسلام أنه عندما أُبعد عن الخلافة وهي حقهُ، لم يقف موقفاً سلبياً، لأنه كان يرى أنه مسؤول عن الإسلام والمسلمين في خارج الخلافة كما هو مسؤول في داخلها لأن قضيته هي قضية الإسلام، ولعل أبلغ نصّ في (نهج البلاغة) هو كتابه لأهل مصر حيث يقول "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه فأمسكت يدي حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص) فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصية به علي أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب، أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه".
وكان يقول "لأسالمنّ (أو لأسلمنّ) ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلا عليّ خاصة"، هذا الإنسان الذي يرتفع كما لم يرتفع أحد في هذا المستوى، إنسان يعزل ويبعد عن حق ـ وحقه هو حق الأمة لا حقه الشخصي ـ لكننا نراه عندما يحتاجه الذين أبعدوه لقضية تتصل بالواقع الإسلامي وبسلامة الإسلام يقف ليعطي المشورة والنصيحة والعلم وليجيب عن الأسئلة، حتى قال الخليفة الثاني "لولا علي لهلك عمر"، "قضية ولا أبا حسن لها" وبلغ الموقف القمة عندما استشاره عمر للشخوص بنفسه إلى قتال الفرس بعد أن أشار عليه قائد المعركة بذلك وقبل المسلمون الأمر فوقف علي(ع) رافضاً وحذّره بأن هناك خطراً عليه وأنه إذا سقط سقط الجيش وكانت الهزيمة، وقال له: "ولكن ابعث إليهم رجلاً محرباً" ابق هنا، وابعث بالجنود.. وهكذا كان.
لو وليها علي(ع):
فعندما ندرس علياً(ع) في هذا الامتداد العلمي والروحي والجهادي والأخلاقي، فهل نجد مثله؟ ولقد قالها عمر وهو يتحدث في الشورى "لو وليها عليّ لحملهم على المحجّة البيضاء" ولعلّ سرّ المشاكل التي واجهت علياً(ع) في خلافته أنه لم يكن حاكماً تقليدياً بل كان حاكماً رسالياً، وكان يريد للإسلام وللتجربة الإسلامية أن تتعمّق، وكان لا يريد الحكم بأي ثمن وهو القائل "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين".
ولقد قال لمن قال له: بيت المال بيدك أعطِ منه هؤلاء ـ أي رؤساء العشائر ـ حتى يثبّتوا حكمك، قال "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور، والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف والمال مال الله؟!".
لذلك كان علي(ع) مع الإسلام ولم يكن فيه ـ منذ أن انطلق وليداً في الكعبة وربيباً لرسول الله ـ من الباطل أو من غير الإسلام شيء، بل كان كلّه إسلاماً.
من هنا فنحن نعتقد أن المسلمين قد خسروا الكثير مما حدث بالرغم من كل الإيجابيات التي حصلت في الفتوحات، فهم قد انتصروا في الامتداد ولكنهم خسروا في العمق، ونحن نعرف أن انتصار المسلمين ليس في امتدادهم في السلطة والقوة، ولكن انتصارهم هو في امتداداتهم الفكرية التي يستطيعون أن يحوّلوا فيها العالم إلى إسلام، وأن يحوّلوا الناس إلى أناس يعيشون الإسلام فكراً وعقيدةً وعاطفةً وحركةً في الحياة.
قضية رسالة لا حكم:
فدراسة المسألة من خلال كل ذلك تقودنا إلى أن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى عندما أنزل هذه الآية {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}، فإنه كان يتحدث عن قضية الرسالة لا عن قضية الحكم والنظام الإداري للمسلمين فقط، ولا يمكن أن يقوم أو يتحرك بالرسالة إلا الرجل الذي كانت الرسالة بالنسبة إليه كل عقله وكل قلبه وكل حياته، وهو علي(ع).
فدراسة المسألة ـ من جهة التنصيب ـ تنتهي بنا إلى أن علياً كان متعيناً، وعندما ندرسها من جهة الواقع الإسلامي بعد رسول الله(ص) نجد أنه كما لو لم يكن هناك شيء إسلامي، وذلك ما عبّرت عنه كلمات المجتمعين في السقيفة "منا أمير ومنكم أمير" أي لو درسنا هذا المنطق بعيداً عن كل المفردات التي قد تثير الحساسيات، ولسنا في مقام إثارتها، ولكننا في مقام أن نفكر معاً، فهل المسألة هي أن يكون هناك أمير كيفما كان؟! وحتى عندما أغلق هذا الباب، لم يكن الباب الذي فتح يُراد منه مخاطبة الأمة فيمن يكون الأمير، فلقد كان علي(ع) مشغولاً بتجهيز رسول الله(ص)، وإذا لم يكن علي(ع) هو المتعيّن في الغدير وهو المتعيّن بذاته ـ فعلى الأقل ـ هو أحد الأشخاص البارزين في الصحبة والقرابة والجهاد والعلم، فهل من المعقول أن تطبخ مسألة الخلافة من دون أن يُقال لعلي(ع) ما رأيك فيها؟! وقد عرف علي(ع) وهو يجهّز رسول الله(ص) أن القوم قد حسموا المسألة.
ولو كنا نتحدث عن الشورى، فهل أن ما جرى في السقيفة يمثل الشورى؟! ولو أن أحداً في كل العالم المعاصر حاول أن يتحرك سياسياً بطريقة الشورى، وقد طرح الشخص المؤهل لقيادة الأمة بهذه الطريقة التي جرت في السقيفة فهل يوافق الآخرون على أن ذلك شورى حقيقية؟
قيمة علي(ع):
إن قيمة علي(ع) هي في أنه كان ا لرسول من دون رسولية، وكان الإسلام كله، وكان الإنسان كله عاش همّ الإسلام وهمّ المسلمين، وكان يتحدث ـ وهو الخليفة ـ مع ابن عباس الذي ينقل عنه الرواية المعروفة حيث يقول: "دخلت على أمير المؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة له، فقال: والله لهيَ أحبُّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".
ويقول: "ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد(ص) أني لم أرد على الله ولا على رسول ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص ـ أي تتراجع ـ فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام نجدة ـ أي شجاعة ـ أكرمني الله بها"( ).
ويحدثنا أيضاً فيما يعطي معنى تأريخياً في تعامل الصحابة مع النبي(ص): "وقد كان يكون من رسول الله(ص) الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه ولا ما عنى رسول الله(ص) فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله وليس كل أصحاب رسول الله من كان يسأله ويستفهمه حتى أنهم كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله (عليه السلام) حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي شيء من ذلك إلا سألته عنه وحفظته"( ).
وهكذا كان علي(ع) يعيش بين يدي ربه الألم الرسالي والألم الروحي، وكان يقدم حسابه لربه وهو الإنسان الذي رأينا أنه كان يقدم حسابه للناس وهو ليس مسؤولاً أمامهم، بل كان يريد لهم أن يعرفوا خلفيات فكره وحركته وحكمه، فيقول "اللهم إنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطلة من حدودك، اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة".
ثم يحدّد للأمة من هو القائد المسؤول "وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائف ـ أي الجائر ـ للدول ـ أي للمال المتداول ـ فيتخذ قوماً دون قومٍ ولا المرتشي فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنّة فيهلك الأمة".
دروس الغدير:
أيها الأحبة، هذا هو بعض من علي(ع) ونحن نعرف أن علياً(ع) كان من خلال ما نعرفه من الواقع الإسلامي ومن الظروف التي أحاطت بالنبي(ص) الذي أكمل رسالته في كل ما بلغه، ولكنه لم يحقق مشروعه، وكان الإسلام بحاجة إلى من يحقق مشروع رسول الله(ص) ولا يحقق هذا المشروع إلا من كان كل رسول الله في نفسه {فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم}( ).
من هنا فإن مسألة الغدير هي المسألة التي بلغها رسول الله(ص) للمسلمين بأمر من الله لأنه أراد أن يحفظ للإسلام خطه وامتداده وصفائه ونقائه وعمقه وقوته فيما يمثله علي(ع) من الإسلام كله، وما قول رسول الله(ص) "ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ إلا عنوان الحاكمية، قالوا: بلى اللهم اشهد، فقال: "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله وأدِر الحق معه حيثما دار".
ومرّت الأيام واختلطت الأوراق وأبعدت القضايا عن مسارها الصحيح، وتحدث من تحدث وخلط من خلط حتى قال رسول الله(ص) وهو في آأخر لحظات حياته "آتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً"، وقالوا: إنه ليهجر، ووضعوا حاجزاً أمام الكتاب، وقال لهم، وقد طلبوا منه ذلك: أبعد الذي قلتم؟!
وذلك هو سرّ ما يعيشه الإسلام من مشاكل ثقافية وفكرية، وهذا هو سرّ ما تحرّك به الواقع الإسلامي الذي تحوّل إلى ملك عضوض، وهذا هو ما نعيشه الآن أيضاً.
أيها الأحبة، إننا عندما نؤكد الغدير ونؤكد الحق في الغدير فإن علينا أن ننهج نهج علي(ع) في أن ننطلق مع الوحدة الإسلامية كما انطلق(ع) مع الوحدة الإسلامية، وأن نتحرك بالحوار كما تحرك(ع) بالحوار، وأن نسلّم ونسالم ما سلمت أمور المسلمين، لأن القضية في كل الواقع الذي نعيشه هي قضية أن هناك كفراً عالمياً يريد أن يقضي على الإسلام في جدوره وكل مواقعه. لذلك خذوا من علي(ع) وعيه للواقع، وخذوا منه مسؤوليته عن المسلمين، وخذوا كل اهتمامه بالإسلام والمسلمين.. ولنكن مع المذهبية الفكرية الثقافية التي تدرس الخلاف بعقل علمي موضوعي ولا نكون مع المذهبية الطائفية التي تتحرك بطريقة عصبية، فإن العصبية تهدم الهيكل على رؤوس الجميع، والحمدلله على إكمال الدين وإتمام النعمة.. وأغلق الستار بعد أن نزلت الآية {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الخامسة والعشرون: 28 ذو الحجة 1418هـ ـ الموافق 25 - 4 – 1998م
في رأس السنة الهجرية
وذكرى عاشوراء
"الهجرة ليست هروباً، بل خطة لتركيز القاعدة ونشر الدعوة"
ـ التقاء المناسبات.
ـ رأس السنة الهجرية.
ـ جرد حساب.
ـ في الجانب الرسالي.
ـ مراقبة الإسلام في مواقعه.
ـ الانشغال بتمزيق الإسلام.
ـ في الواقع السياسي.
ـ مشكلات عالمنا الإسلامي.
ـ أمثال يجب أن لا تُنسى.
ـ الهجرة.
ـ إيحاءات الهجرة.
ـ الحسين(ع) وكربلاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
التقاء المناسبات:
في هذه الأيام نلتقي بأكثر من مناسبة فيما نستقبله من الزمن ولا بد لنا أن نتوقف ولو وقفة قصيرة عند كل مناسبة، المناسبة الأولى هي أننا نودع في هذه الأيام سنة ونستقبل سنة أخرى، فنحن نودع السنة الثامنة عشر بعد الألف والأربعمئة من الهجرة النبوية المشرّفة، ونستقبل السنة التاسعة عشر باعتبار أن المسلمين توافقوا على أن يكون رأس السنة الهجرية أول محرم وإن كانت الهجرة وقعت في ربيع الأول كما هو المشهور لكن العرب كانوا يؤرّخون مطلع أو رأس السنة في بداية محرم.
رأس السنة الهجرية:
وعندما نعيش هذه المناسبة فلا بد لنا أن نتوقف في دائرتين، الدائرة الأولى: أن نودع سنة ونستقبل سنة ولا سيما إذا كانت هذه السنة بحسب طبيعتها سنة تحمل معنى الإسلام في الزمن من خلال حركتها في التاريخ الإسلامي الذي بدأ منذ الهجرة.
إن مسوؤليتنا في حركة الزمن في حياتنا هي أن نملك الإحساس في الزمن بحيث نعتبره مسؤوليتنا، لأنه حركة عمرنا فيما يختزن مما حمّلنا الله من مسؤولية، وقد حشد الله لنا في كل فترة من فترات هذا الزمن يوماً أو ليلة أو أسبوعاً أو شهراً أو سنة، الكثير من ألوان الحركة التي لا بد لنا أن نتحرك فيها من أجل الوصول إليه ومن أجل أن يكون العمر كله واحدٍ منا مسؤوليته بحيث تحس بعمرك، فعندما تبدأ نهارك عليك أن تحس إحساساً يشبه الرعب، أن هذا النهار سوف يموت ولن يعود إليك ولكنه سوف يبقى في حركته ليدخل كتابك وليتدخل في مصيرك، وهذا ما كان يحس به الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في دعاء الصباح والمساء عندما كان يستقبل الصباح فيقول: "اللهم وهذا يومٌ حادثٌ جديد وهو علينا شاهدق عتيد" حاضر "إن أحسنّا ودّعنا بحمد وإن أسأنا فارقنا بذمّ" أن تتصور الزمن كشاهد يحدّق بك كيف تقوم بمسؤولياتك أو كيف تنفصل عن مسؤولياتك، وكيف تطيع الله وكيف تعصيه، وأن تدرك أن لهذا الزمن الشاهد الحاضر إحساساً عميقاً بنوعية ما تقوم به "إن أحسنّا" رافقنا إلى الباب كما يرافق الإنسان زائراً عزيزاً ليقول له أهلاً وسهلاً أو نستودعك الله، ولكن عندما نسيء فإنه ينظر إلينا نظرة ازدراء بل يفارقنا غير عابئ بنا، ولاحظوا التفرقة في تعبير الإمام زين العابدين بين "ودعنا" و"فارقنا" أي أن الإقبال بحميمية وبحنان بينما المفارقة تمثل اللامبالاة.
جرد الحساب:
فعندما تمر مناسبة ما فعلينا أن ندرسها من الناحية الذاتية ومن الناحية العامة الإسلامية، أما من الناحية الذاتية فلا بد أن ندرسها في نطاق مسؤولياتنا أمام الله ومسؤولياتنا في حركتنا في الحياة، أما مسؤولياتنا أمام الله، فعلينا أن نعمل جردة حساب، كما يفعل الاقتصاديون في آخر السنة، لنرى كم كان لنا من الحسنات في أول سنة (1418هـ) وكم نملك من الحسنات في آخر سنة (1418هـ)، كم كان لنا من السيئات في تلك السنة وكم خفّفنا من السيئات أو ازددنا منها، لأن الله يريدنا أن نفكر بهذه الطريقة {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد}( )، أن تعرف ما هو حجم رصيدك عند الله سبحانه وتعالى.
ولذلك لا بد أن تكون نهايات السنين وبداياتها مرحلة تأمل وتفكير ومراجعة للنفس فإن رأيت حسناً استزدت الله منه لأن يوفقك لأمثاله ولما هو أفضل منه، وإن رأيت سيِّئاً تبت إلى الله منه وطلبت إليه أن لا يجعل مستقبلك في هذا الاتجاه، لأن الله يريد لنا أن نظل في خط تصاعدي لا أن نعيش في خط تنازي. ألا تقرأون الدعاء الذي نتلوه دائماً "اللهم اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها، وخير أيامي يوم ألقاك فيه" هذا الإحساس بالزمن لا بد لنا أن نعمّق شعورنا وحركتنا وإحساسنا به حتى إذا وقفنا أمام الله وسألنا كم لبثتم في الأرض لا نقول لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادّين، بل نتحدث عن كل العمر لأننا عشنا كل دقيقة فيه وعياً وإحساساً ومسؤولية وحركة، حتى إذا فارقنا سجلناه في الذاكرة ليكون عبرة لنا نحو المستقبل.
ولكن المشكلة هي أن الناس في نهايات وبدايات السنين تعارفوا عل أن يعيشوا غيبوبة في الحس، إنهم يشربون الخمر ويتناولون المخدرات في بداية اسن ويرقصون ويدخلون فيما يشبه الجنون، لماذا؟ لأنهم دخلوا سنة جديدة، ولو فكروا لبكوا لأن سنة من عمرهم ماتت، إلا يعرفون كيف يحاسبهم الله عليها، ولأن سنة من عمرهم تبدأ لا يرون ما هم مقبلون عليه فيها من أعمالهم.
لذلك أيها الأحبة، من الجانب الذاتي حاولوا أن تعيشوا الإحساس بالسنة الماضية شكراً لله على الحسنات واستغفاراً لله وتوبة على السيئات، ثم لتتساءلوا في الجانب الذاتي أيضاً هل ازددت علماً، والعمر قيمته بمقدار ما يختزن من علم، لأن العلم يعطي العمر إشراقه وانفتاحه على الله سبحانه وتعالى، لذلك فكّر هل استزدت علماً أو أنك انتقصت من علمك ونسيته فيما مضى، ثم اسأل نفسك أيضاً: هل شاركت أمتك قضاياها وأحداثها أو كنت تعيش اللامبالاة لتقول كما يقول ذلك الشاعر:
ما علينا إن قضى الشعب جميعاً أفلسنا في أمان
ولنتأمل قول رسول الله(ص): "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، هذا في الجانب الذاتي في حركة السنة في العمر.
في الجانب الرسالي:
أما في الجانب الرسالي في المسألة فاعلم أنها سنة إسلامية، والسؤال هنا: كيف كان حال الإسلام في أول السنة الثامنة عشر بعد الألف والأربعمئة من الهجرة، كيف كانت قوته، كيف كانت حركيته، كيف كانت التحديات التي تواجهه، كيف كانت وحدة المسلمين حوله، كيف كانت المشاكل في داخله، وهكذا أن تدرس سنة الإسلام والهجرة في السنة من خلال معنى حركة الإسلام وانتقاله من دور إلى دور.
لذلك فكّر كمسلم يحمل مسؤولية الإسلام بحجمه، فكّر كيف كان الإسلام قبل سنة وكيف هو الآن، فكّر في كل الساحات الإسلامية! كيف هي حركة الإسلام في الوعي، هل يتجه نحو حركية وعي يتصاعد ليقدم نفسه إلى الإنسان المعاصر حلاً لكل مشاكله، أو أن الإسلام يتنازل لينكفئ في زاوية يجتر فيها آلامه، وتأتي كل عناصر التخلف لتطبق عليه فتمنعه من أن يتنفس فضلاً عن أن يتحرك.
فلذلك، أيها الأحبة، لا بد لنا أن ندرس مسألة الوعي والتخلف في طرح الإسلام، لأن الإسلام عندما يطرحمن خلال الجهل والتخلّف التاريخي، فإنه يكف عن أن يدخل عقول الناس، ولكنك عندما تطرحه من خلال وعي منفتح على الله وعلى رسوله وعلى أوليائه وعلى القرآن كله، فإنك تستطيع أن تجتذب الناس تماماً كما اجتذب رسول الله(ص) الناس إلى الإسلام بكل وعيه وبكل علمه وبكل خلقه وبكل إخلاصه وبكل محبته للناس، فمن أول شروط الدعوة إلى الإسلام أن يكو الداعية محباً للناس كلهم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}( ).
مراقبة الإسلام في مواقعه:
وهكذا أيها الأحبة، لا بد أن نراقب الإسلام في كل مواقعه وأساليبه لأن العالم اليوم يطرح الإسلام كدين عنف وليس كدين رفق، وأن الإسلام دين أرهاب وليس دين سلام، وأن الإسلام يلغي الآخر ولا يتقبل الآخر، وهكذا لا بد لنا أن نعالج هذه الطروحات التي تتحدى حركة الإسلام في العالم والتي قد تشوّه صورته هنا وتحسّن صورته هناك، لا بد لنا من أن نعيش في الحاضر لنؤسس المستقبل، لأن للماضي مشاكله وقضاياه {تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون}( )، هذه هي المسألة، وهي أن ندرس النتاج الفكري الذي يعالج قضايا الإسلام عقيدةً وشريعةً وحركةً ومنهجاً، وأن ندرس النتاج الروحي والحركة العملية للإسلام في العالم..
كما استطعنا أن نجذب شخصاً إلى الإسلام وكم استطاع الآخرون أن يأخذوا منا أكثر من شخص للكفر، ذلك أن التبشير يتحرك في مستوى العالم ليبعد المسلمين عن دينهم مستغلاً كل الظروف الصعبة التي يعيشها المسلمون، ومستغلاً كل التخلف الذي يعيشه المسلمون، وأن الاستكبار العالمي تحالف مع الكفر العالمي في هذا المجال، فالمادية من جهة والنصرانية من جهة واليهودية من جهة وما إلى ذلك، مجتمعون ضدنا، ونحن نتناقش كما كنا نقول دائماً في جنس الملائكة، والعالم يهاجمنا من كل جانب، وفي كل سنة تبرز عناوين جديدة، قد يطرح النظام الدولي الجديد تارة وتطرح الآن العولمة من جديد وما إلى ذلك، ونحن مشغولون بهذه الزاويةوبتلك وبهذا الشخص وذاك، كيف نسجل على بعضنا النقاط التي تسقط كل علاقاتنا من دون أن نسجل نقطة واحدة ضد فكر الاستكبار وفكر الكفر.
الانشغال بتمزيق الإسلام:
المسلمون ـ اليوم ـ مشغولون بتمزيق الإسلام في داخلهم قبل أن يمزقوه في الخارج لأنهم مشغولون في الجدل العقيم الذي يحاول كل واحد منهم أن يسجل من خلاله نقطة على الآخر بعيداً عن التفاهم والتحاور معه وإقناعه أو الاقتناع بما يقوله.
فلا بد أن ندرس كم كتاب جديد ألفه المسلمون مما يمكن أن يعتبر إبداعاً في فهم الإسملا وفي تحليل قضاياه وفي مشاكله، وأن ننظر إلى واقع المسلمين كيف هو، فماذا نجد؟ كان الواقع الإسلامي قبل سنة متمزقاً في مذاهب المسلمين وفي داخل كل مذهب، وهو الآن أشدّ تمزقاً لأن المسمين لا يزالون يتحركون في خطط المخابرات الدولية الاستكبارية المتحالفة مع أكثر من مخابرات إقليمية ومحلية، كما لا يزالون يتحركون على أساس أن يشغلوا بعضهم البعض وأن يمزقوا بعضهم البعض في مذهب سني هنا ومذهب شيعي هنا من دون أن يعرف السنة والشيعة أنهما يلتقيان على الإسلام في أكثر قضاياه ويختلفان في أين هو الإسلام فيما ينهجه هذا أو ذاك، وقد قال الله باسطاً القضية بكل وضوح {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}( )، ونحن إذا تنازعنا في شيء نرده إلى أمريكا وبريطانيا وفرنسا وما إلى ذلك، ولعلي ذكرت لكم أكثر من مرة أنني التقيت قبل سنين بأحد سفراء فرنسا في لبنان وكان يقول لي إن مشكلتنا معكم أنكم تحدثونا عما نريد ولا تحدثونا عما تريدون، فماذا تريد أمريكا منا؟ وماذا تريد فرنسا منا؟ وماذا تريد بريطانيا منا؟ أم ماذا نريد نحن أنفسنامن الآخرين فهذا ما لا نحدّث أحداً به، لأننا كففنا عما نريد. تلك هي المسألة.
في الواقع السياسي:
وهكذا إذا نظرنا إلى واقعنا على المستوى السياسي، فهل هناك وحدة سياسية، لا أقول على مستوى الاندماجية ولكن على أساس وحدة الموقف السياسي الإسلامي للمسلمين جميعاً، إذ ليست هناك وحدة على مستوى الشعوب، وليست هناك وجدة على مستوى الدول، بل هناك شيء اسمه المؤتمر الإسلامي بين الدول الإسلامية يجتمع ويأتمر ويخطبون ويرجع كل واحد منهم إلى قواعده سالماً أو مهشماً، لأن هذا المؤتمر عندما يعقد في هذا الموقع أو ذاك، فهناك أكثر من جهة دولية تدخل وتتدخل من خلال هذا المسؤول وذاك الذين رهنوا أنفسهم للمستكبرين.. ولذلك لم يتفق المسلمون على قضية واحدة، وإذا اتفقوا إقراراً فإنهم لا يتفقون حركة، وهذا ما لاحظناه في القضية الفلسطينية التي تعتبر أمّ القضايا الإسلامية التي تتصل بالواقع الديني للمسلمين جميعاً وبالواقع السياسي والاقتصادي والأمني للمسلمين جميعاً، ولكن المسألة هي أنهم يصدرون القرار باستنكار الكيان الصهيوني فيما يروح البعض يطبّع علاقاته به ويعترف الآخر به، وينزل البعض تحت الطاولة ليصافحه هنا وهناك، فالفرق بين العرب والمسلمين والكيان الصهيوني هو أن هذا الكيان في كل تاريخه لم يتنازل عن كلمة واحدة من كلماته، ونحن نتنازل عن كل الكلمات وعن كل اللاءات، فبعد هزيمة (5 حزيران 67) اجتمعوا في الخرطوم فقالوا (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف) وصالحوا وفاوضوا واعترفوا وزحفوا. تلك هي المسألة.
مشكلات عالمنا الإسلامي:
لذلك لا بد لنا أن ندرس ـ أيها الأحبة ـ واقع المسلمين في قضاياهم، فمثلاً نجد أن قضية البوسنة والهرسك هي من أكثر القضايا مأساوية، ولم يكن للمسلمين يد في حلها، بل إن الأمريكيين والأوروبيين الذين تناولوا الحل وهم الذين رتبوه وقد اتفقوا أن لا تكون هناك دولة إسلامية في أوروبا، ولذلك جعلوا منها دولة ائتلافية بين المسلمين والصرب والكروات لأنه لا يسمح بأن تكون هناك دولة إسلامية في أوروبا، لأن أوروبا التي تعيش علاقات تصادم مع المسلمين لا تقبل أن تكون هناك دولة إسلامية بحيث تدخل الجسم الأوروبي، إذاً ما هي المشكلة بين تركيا وبين أوروبا؟! فلقد قدمت تركيا عشرات الطلبات على أن تكون جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه ترفض أوروبا طلبها، تارة بالقول أن مشكلتكم هي في حقوق الإنسان عندكم، وأخرى تقول اضبطوا اقتصادكم وما إلى ذلك، ولكن المسألة كان قد عبّر عنها رئيس وزرائهم (أوزال) عندما قال أن مشكلتنا معكم أننا مسلمون وأنتم لا تريدون للمسلمين أن يدخلوا في جسم الاتحاد الأوروبي.
وعندما نلاحظ أيضاً مسألة أفغانستان نرى أنها من المسائل التي تمثل جرح المسلمين الكبير، لأن هذا الشعب الفقير الطيب الذي كان يبحث عن قوته ويتطلع إلى أن يفتح عينيه على المستقبل تحول إلى شعب ممزق مدمّر اقتصادياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً وثقافياً، ولا يزال الاستكبار العالمي يلعب به ولا تزال الكثير من الدول المسماة إسلامية تلعب به.
وهكذا عندما نستعرض كل الواقع الذي يعيشه المسلمون نجد أنه واقع لا يملك المسلمون فيه لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وعندما تنطلق بعض الدول الإسلامية لتقف بعنفوان وبقوة، فإننا نجد أن الدول الإسلامية والدول العربية تعمل على إضعافه، فنحن ـ مثلاً ـ نجد الآن أن سوريا تقف موقفاً صلباً أمام إسرائيل بعد أن تنازل كل العرب عن مواقفهم، ونجد أن هناك نوعاً من الخذلان لسوريا في الموقف الذي يمكن أن يكون سلبياً إذا سرت النتائج على العرب كلهم وإيجابياً على العرب كلهم، ولكن القضية هي أن كل فريق مرتبط باخطبوط سياسي دولي مما يجعله لا يقف مع البلاد التي تريد أن تتخلص من الاحتلال وتريد أن تواجه العدو حتى لا يسقط الواقع كله.
وهذا أيضاً ما نلاحظه بالنسبة إلى الحملة الاستكبارية ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، من خلال الحصار الاقتصادي والسياسي ومن خلال حركة المخابرات الدولية التي تريد أن تربك الواقع الداخلي والخارجي، وليس ذلك إلا لأنها لم تُرِد أن تكون رهينة بيد الاستكبار الأمريكي، فيما نبقى نختلف على هذه الدولة وتلك، في الوقت الذي نعرف، أيها الأحبة، أنه ما من دولة مسلمة وما من شعب مسلم أو عربي إلا ولديه مشاكل في الداخل، وأن هناك مشاكل بينه وبين شعب آخر، لكن مشكلتنا أننا إذا عشنا مشكلة مع دولة فإننا نرى أن الحل أن نسطقها أو يحلّون لنا مشاكلنا الخاصة، أو ندمرها أو نضعفها غير ملتفتين إلى العدو الأكبر الذي يحاول أن يستفيد من تعقيداتنا ومن خلافاتنا من أجل أن يسقط بعضنا بعضاً أو نضعف بعضنا بعضاً، والله تعالى يقول: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}( ).
مثال يجب أن لا يُنسى:
هذا هو الواقع الإسلامي الذي نعيشه، ولقد مثلت لكم مرة مثلاً يجب أن لا يُنس وهو أن شخصاً وقع في بئر فتعلّق بغصن والتفت فإذا هناك تنين فاغراً فاه ينتظر متى يسقط حتى يلتهمه، وهناك جرذ يقرض الغصن وحانت منه التفاتة فرأى هناك قارورة عسل فوضع إصبعه فرآه عسلاً طيباً فشغلته حلاوة العسل عن التفكير في الجرذ الذي يقرض الغصن وفي التنين الذي ينتظره ليلتهمه.
ونحن كذلك، فهناك "عسل" الخلافات الطائفية والحزبية والمذهبية والإقليمية وما إلى ذلك و"عسل" الأنانيات والذاتيات، ونحن نعرف أن هناك جرذاً قرض شيئاً من بلادنا ويريد أن يقرضها على مستوى الجغرافيا، وهنا الجرذان الكبيرة تقرض اقتصادنا وتقرض أمننا وسياستنا وما إلى ذلك، والتنين الأكبر الأمريكي فاغراً فاه حتى يلتهم كل اقتصادنا وكل سياستنا وكل أمننا وكل ثقافتنا، أليس كذلك؟! فعنوان العولمة الآن عندما يتحدثون به يريدون من خلاله إلغاء هويتنا تماماً حتى لا يبقى لدينا خصوصية ثقافية وخصوصية سياسية وخصوصية اقتصادية واجتماعية، بل تذوب كلها وتصبح جزءاً من العولمة في جو العالم الذي يسيطر عليه المستكبرون.
لذلك علينا عندما تنتهي هذه السنة أن نستعرض كيف كان المسلمون في كل أوضاعهم السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، وكيف هم المسلمون الآن، ونخرج من هذه الدراسة إلى أن نفكر في ما هي مسؤوليتنا نحن في الدوائر المذهبية الإسلامية؟ هل نبقى على هذا الشعار العصبي والمذهبي، أم أننا نتخفف لنرجع إلى الله وإلى الرسول(ص)؟ أو ندرس خلافاتنا الحزبية لنعرف هل أن على الأحزاب أن يدمر بعضها بعضاً أو أن تتكامل مع بعضها بعضاً لتتوزع الأدوار أو لتتحاور فيما بينها؟!
وهكذا في الجوانب العشائرية والإقليمية وما إلى ذلك، لأن الاستكبار يريد رأس الإسلام كله ولا يريد رأس السنّة أو الشيعة، ولذلك عندما كان اشيعة في وقت من الأوقات مائدة دسمة أكلها الاستكبار والتهمها، وعندما كان السنّة كذلك أكلهم والتهمهم، فليكن لنا وعي ذلك، وأنا أؤكد دائماً على الوعي الشامل، فكما لا بد أن يكون لنا وعي إسلامي ثقافي، لا بد أن يكون لنا كذلك وعي إسلامي سياسي، لأن مشكلة الكثيرين من المسلمين الذين لا يملكون الوعي الإسلامي السياسي، أنهم يحطمون الإسلام من حيث يقولون أنهم يريدون أن يخدموه، ويسقطون الحقائق الإسمية من موقع أنهم يريدون أن يثبتوها.
هذه هي قصة السنة الثامنة عشر بعد الألف والأربعمائة والسنة التاسعة عشرة بعد الألف والأربعمائة، فكيف نودع تلك السنة ذاتياً وإسلامياً، وكيف نستقبل هذه السنة ذاتياً وإسلامياً؟ ذلك سؤال متروك جوابه لنا جميعاً أفراداً ومؤسسات.
الهجـــرة:
وعندما ننلفذ إلى المناسبة الثانية وهي (الهجرة) فإننا نرى أنها لم تكن كما يصورها البعض هروباً وخوفاً ليحصل النبي(ص) على أمنه، وإن كنت الظروف توحي بذلك، لكنها كانت خطة، فلقد عمل النبي(ص) مدة ثلاث عشرة سنة على تركيز القاعدة ونشر الدعوة واتخذ من يثرب قاعدة لحركة دينية، وبعد أن استكمل ذلك كله وكانت الظروف الموضوعية مهيئة، هاجر(ص).
فالله تعالى يحدثنا عن خطة لا عن فرار {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}( )، وهذا يعني أن هناك خطة في مقابل خطة، فلقد كانت خطتهم أن يهدموا الإسلام، فيما كانت الخطة الإلهية ـ التي أوحى بها الله إلى نبيه(ص) إلى أن يبني الإسلام ويهدم الكفر ـ تحتاج إلى وقت طويل حتى يمكن أن يستكمل كل عناصر الخطة.
إيحاءات الهجرة:
ولذلك فأول إيحاءات الهجرة هي أن علينا عندما نواجه أي هدف من أهدافنا المرحلية أو الاستراتيجية أن نخطط له، وأن نتوزع الأدوار، وأن نصبر على استكمال الخطة بكل موضوعية وعقلانية واتزان، وأن نعمل على أساس الضغط على كل مشاعرنا، لأن من الصعب جداً أن يفارق الإنسان وطنه وملاعب صباه، ولكنه عندما يقف بين رسالته وبين مزاجه فلا بد أن يتجمّد المزاج أمام الرسالة، وهذا خط إسلامي لا بد لنا أن نعيشه بأن لا يكون مزاجنا ضاغطاً على رسالتنا، بل أن يكون مزاجنا جندياً من جنود رسالتنا، بحيث أن الرسالة هي التي تقود المزاج بدلاً من أن يقود المزاج الرسالة.
ومشكلة الكثيرين منا أنهم يفرضون مزاجهم على رسالتهم، ولذلك يعملون على أن تنتصر الرسالة إذا وافقت المزاج، أما إذا لم توافق المزاج فلا بد أن تسقط الرسالة لينتصر المزاج، وإن كانوا يغلفونها بالظروف والأوضاع والتعقيدات وما إلى ذلك، ولكن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ويقول تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره}( ).
ومن هنا ـ أيها الأحبة ـ كانت الهجرة جزءاً من خطة، وانتقالاً من موقع يشعر الإنسان فيه بالضغط في حركته الرسالية إلى موقع يشعر فيه بمساحة الحرية في ذلك، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم الذي رفض انحناء المسلمين المستضعفين للمستكبرين نتيجة ضغوط الواقع المحلي عليهم {إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}( )، فالضعف ليس مبرراً للخضوع إذا كنت تستطيع أن تتخفف من ضعفك بأن تنتقل إلى موقع قوة جديد.
الحسين(ع) وكربلاء:
وتبقى لدينا في نهاية المطاف قصة الحسين(ع) وقصة كربلاء وقصة عاشوراء التي انطلقت من أجل الرسالة، وتحركت من أجل أن نعيش كل الصراع في ساحة حرب الرسالة مع الكفر، وعملت على أساس أن تحشّد كل العناصر العاطفية والعقلانية والروحية والحركية في هذه الثلّة الطيبة من أهل بيت الحسين(ع) ومن أصحابه، وكان العنوان الكبير الذي يحكم هؤلاء هو {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا}( ).
فإنسان كربلاء هو إنسان عهد الله، فمن أراد أن يكون كربلائياً فليعرف كيف يصدق الله في عهده، بأن يكون المسلم الرسالي المجاهد والمنفتح على كل قضايا الإسلام والمسلمين.
أيها الأحبة، إن الحسين(ع) هو صريح الدمعة الساكبة وصاحب المصيبة الراتبة، ولكن الحسين(ع) هو إلى جانب ذلك إنسان الرسالة وإنسان الإنسانية كلها، وإنسان الحق والثبات والجهاد.
فعندما تستنزفون عيونكم بدموعكم تذكروا أن الحسين(ع) كان يبكي على الإنسان من حوله، وعلى مأساة الضلال في الذين جاءوا يحاربونه، وكان يبكي لأن الله سوف يعذب هؤلاء لأنهم وقفوا ضده.
كان الحسين(ع) يبكي في قلبه دماً على الإنسان الذي يعيش تحت ضغط يزيد وأمثاله، كان يبكي على الإنسان كله، فليتسع الحسين(ع) في عقولنا ولا يبقى مجرد جراحات، وإن كانت جراحاته تأكل كل الحزن في داخلنا، ولكن ليكن الحسين جرح الإسلام وجرح الإنسان، ولتكن كربلاء إسلامية إنسانية حركية توتي أكُلها كل حين بإذن ربها، ولتكن مثلاً {ويضرب الله الأمثال للناس}( ) مثل الحق ومثل الباطل، الحق الذي يتعمق في الأرض ليكون شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وليكون مثل الباطل الشجرة التي ليس لها أي عمق اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
أيها الأحبة، في هذه الذكريات نلتقي بالدنيا والآخرة، بالإنسان في ذاتنا وفي أمتنا وبالحسين(ع) وبأهل بيته وأصحابه وبجده وأبيه وأمه وأخته والتسعة المعصومين من بنيه لنقول له: السلام عليك وعلى جدك وأبيك، السلام عليك وعلى أمك وأخيك، السلام عليك وعلى الأئمة من بنيك، ونبقى في خط الحسين(ع)، خط الإسلام فكراً وحركةً وحياةً، ويبقى النداء {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السادسة والعشرون: 13 محرم 1419هـ ـ الموافق 9 - 5 – 1998م
الإمام الحسين(ع)
رسالةٌ شاملة ورمزٌ للوحدة
"الإمام الحسين(ع) لا يعيش في الجو الشيعي فقط، ولكن ينفتح على الجو الإسلامي والإنساني كلّه"
ـ مأساة كربلاء،
ـ المأساة في خط القضية.
ـ قراءة في وثائق الثورة.
ـ الظالم ومشروع الظالم.
ـ السلطان الجائر في الواقع.
ـ تغيير الإمام الحسين(ع) للواقع.
ـ مواقف الإمام الحسين(ع) الوعظية.
ـ نموذج (عمر بن سعد).
ـ نموذج (الحر الرياحي.
ـ الحياة لأجل الرسالة.
ـ الحسين(ع) رسالةٌ شاملة.
ـ عاشوراء لكل المسلمين.
ـ الحسين(ع) رمز الوحدة الإسلامية.
ـ وصية الحسين(ع) الأخيرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
مأساة كربلاء:
كنا في هذا الموسم مع الحسين(ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه(رض) وكان الجو في غالبه جو المأساة، لأن الحسين(ع) هو صريع الدمعة الساكبة، ولكن المأساة على قسمين: هناك المأساة الإنسانية التي تتحرك من خلال عناصر الواقع التي يضطهد أو يظلم فيها الإنسان، مأساة الضحايات الذين يسقطون ضحية قهر وظلم واستكبار سقوطاً سلبياً، وهناك مأساة تتحرك في خط القضية بحيث يقف الإنسان الذي يحمل قضية ورسالة ليتحدى الواقع المنحرف في ساحات الخطر وليهجم على المأساة لا حباً بالموت ولا من خلال ما قد يعيشه من مزاج الشهادة، بل من خلال إرادة التغيير وحركية الرسالة.
ونحن نعرف أن الأنبياء عاشوا المأساة بكل تنوعاتها لأنهم واجهوا القوى المضادة التي كانت تعيش الكفر والضلال، وتحدوا كل قيمها، في الوقت الذي كانوا لا يملكون فيه إلا قوة فكرهم، ولا يعيشون أي عنصر من عناصر الصلابة في الساحة، فكان البعض منهم يقتل، والبعض منهم يضرب، والبعض منهم يهجّر ويشرّد.. وهكذا عاشوا المأساة في داخل القضية، وبذلك انتصرت القضية من خلال كل الآلام التي احتشدت في حركتها لأن الإنسان المصلح الثائر الداعية إذا لم يعش الألم في قلب قضيته فإن قضيته لا تتجذّر في عمق الواقع، فكلما كانت الجراحات أعمق استطاعت أن تكون أكثر تأثيراً في المجتمع.
ولذلكنرى أن الكثير من الناس ومن الأنبياء والأولياء خلدوا في وجدان الإنسانية من خلال هذا التزاوج بين الرسالة وبين الألم.
المأساة في خط القضية:
وعلى ضوء هذا فإن الحسين(ع) عاش المأساة ولكن في خط حركة القضية، فالحسين(ع) لم يخرج كما يتصور الكثيرون ليموت أو ليكون الموت مزاجه ولتكون الشهادة هي عنوان حركته، ولكنه انطلق من أجل الرسالة التي تكون الشهادة نتيجة فيها للحركة، لا نتيجة فيها للمزاج، لأن الشهادة لا يمكن أن تكون شهادة إذا كانت مجرد مزاج ذاتي يحب فيها الإنسان أن يموت، ولكن الشهادة إنما تكون شهادة إذا كانت حركة في مواجهة التحدي وكانت رسالة في خط الواقع الإنساني، وكان إخلاصاً لله سبحانه وتعالى، بحيث أن الرسالة في تحدياتها تفرض الشهادة لا أن الشهادة تتحرك بطريقة ذاتية تتبع المزاجية.
كما أن تصوير قضية الإمام الحسين(ع) على أنها مسألة استشهادية قد لا يكون دقيقاً لأن الحسين(ع) لم يخرج استشهادياً فحسب، بل خرج مصلحاً مغيراً للواقع في ساحة يمكن أن تطل على الشهادة بحسب طبيعة العناصر الموجودة في الواقع، كما خرج رسول الله(ص)، فإن رسول الله(ص) انطلق بالرسالة في ساحة تحاصرها كل الأخطار، وكان يتحرك في الطريق التي يمكن أن تنتهي بالشهادة، وكان(ص) الشهيد الحي، فلقد كان يقول: "ما أوذِيَ نبيّ مثل ما أوذيت"( )، وقد استشهد الكثير من الصحابة معه من أهل بيته ومن غيرهم لكنه كان صاحب رسالة وكانت الرسالة كل همّه وكان الناس همه وشغله الشاغل لأنهم ساحة الرسالة.
قراءة في وثائق الثورة:
ولذلك، عندما ندرس حركة الإمام الحسين نجد أنه أطلق الخط وحدّث عن الواقع وانطلق في حركة الفعل الثورة، ففي هذا النص الذي نقرأه في موقعين من مواقف الإمام الحسين تتبين حقيقة ذلك، ففي رسالته إلى أشراف أهل الكوفة، يقول: أيها الناس إن رسول الله(ص) قال: "من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير عليه، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله"( )، ففي هذا النص أعطى للناس شروط الثورة على الحاكم الجائر وبين ما هي صفة ذلك الحاكم التي ينبغي للمسلمين أن يثوروا عليه إذا تحققت في واقعهم، فالحاكم الجائر هو الذي يظلم الناس ولا يعطي أحداً حقه ويستحل حرم الله، كل الحرمات التي جعلها الله للناس في قضاياهم الخاصة والعامة، فإذا كان هذا ممن يستحل حرمات الله ناكثاً بعهده يعطي العهد وينقضه وينكث ولا يفي به، مخالفاً لسنّة رسول الله(ص) فيما شرّعه فلا يتبع شريعة الإسلام، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، أي أنه يتحرك في سيرته مع الناس بمعصية الله وبالعدوان عليهم في كل قضاياهم، إذا كان الحاكم بهذه الصورة فإن النيب(ص) ـ حسب هذه الرواية ـ يقول يجب على الأمة أن تثور عليه ومن لم يثُر عليه ولم يتحرك في خط التغيير على مستوى المواجهة فإن الله سوف يدخله مدخله.
الظالم ومشروع ظالم:
وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) تلميذ رسول الله(ص) بقوله: "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان، إثم العمل به وإثم الرضا به"( )، أي أن هناك إنساناً ظالماً وآخر هو مشروع ظالم، فالظالم هو الذي يمارس الظلم في الواقع، أما مشروع ظالم فهو الذي يعذر الظالمين، وهو الذي يسكت عن ظلمهم فهو يعتبر مشروع ظالم، فهو ليس ظالماً الآن لأنه لا يملك عناصر القوة التي تدفعه إلى الظلم، وليس لديه الفرصة لممارسة الظلم، لكنه بمجرد أن تأتيه فرصة تراه يظلم ويبطش ويجور كما في كثير من الناس الذي تراه صادقاً لأنه لا فرصة لديه للكذب وليس هناك ظروف تدفعه للكذب، وتراه أميناً لأنه لم يعش في ظروف الخيانة، كما أن كثيراً من الناس يحملون في داخل شخصيتهم الثقافية والنفسية مشروع المتمرد ومشروع الظالم ومشروع المستكبر، فيصبح حاله حال البذلة التي إذا وجدت ماءً ومناخاً ملائماً نمت، وإذا لم تجد جواً مناسباً فإنها تموت.
فهناك في الإسلام نوع من المساواة بين الظالم وبين الراضي بالظلم، أو بين الساكت على الظلم الذي يقف على الحياد وبين الظالم والمظلوم، يقول الإمام علي(ع): "إنما يجمع الناس الرضا والسخط ـ فهذا هو الذي يجعل الناس أمة واحدة، يقول ـ وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا"( )، والقاتل هنا واحد لكن العشيرة كلها رضيت به، فالله قال {فعقروها فأصبحوا نادمين}( )، مع أن الذي عقرها كان شخصاً واحداً لا غير، ولربما يقوم بالجريمة شخص واحد ولكن هؤلاء الذين يؤيدونه أو الذين يرضون بفعله هم الذين هيأوا له مناخ الجريمة وأعطوه القوة النفسية والقوة الروحية لارتكاب هذه الجريمة.
ولهذا ترى الأشخاص الذين يخذلون الأنبياء والأئمة والصلحاء هم من الذين يشاركون في القوى المضادة باعتبار أنهم يسكتون على الظالم فلا يثورون عليه أو يقفون على الحياد بين الظالم والمظلوم، فهؤلاء يمثلون قوة سلبية حتى للظالم، وقد تحدث الإمام علي(ع) عن بعض الناس الذين وقفوا علىالحياد بينه وبين معاوية وقال: "إنهم خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل"( ) فهؤلاء لم ينصروا الباطل بالمعنى المادي لكنهم نصروه بشكل سلبي عندما خذلوا الحق، فلذا يقول النبي(ص) إن الإنسان الذي لا يغير ما على الظالم الذي يتصف بهذه الصفات في الواقع الإسلامي، ولم يتحرك بأية طريقة بحيث ينكر ذلك بطريقة سياسية أو بطريقة اجتماعية أو بطريقة عسكرية أو أية طريقة من الطرق التي تتوافر لديه "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
السطان الجائر في الواقع:
ثم إن الإمام الحسين(ع) بعدما رسم الخط تحدث عن الواقع، فأين هو هذا السلطان الجائر، أين هو الواقع الذي تنطبق عليه كلمة رسول الله(ص) "إنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرّموا حلال الله" هناك كان الخط العام وهنا الخط الحركي الفصيلي، فبعد أن حدد صفات الحاكم الجائر حدد الموقف منه وقال أنا لن أقف ساكتاً ولن أقف حيادياً، فأنا أملك الموقع الشرعي الذي يمنحني شرعية التحرك في تغيير هذا الواقع وفي إسقاط السلطان الذي يحكم المسلمين "وأنا أحقّ من غيّر"( )، لماذا هو أحق من غيّر؟ لأنه هو إمام الشرعية الإسلامية وهو إمام الإسلام الذي يملك الشرعية..
ولذلك انطلق الإمام الحسين(ع) من حيث انطلق رسول الله(ص) في خط تغيير الواقع على أساس فكر الإسلام وعلى أساس الخط الحركي للإسلام.. لهذا كان عند الإمام الحسين(ع) مشروع وهو ليس مشروعاً خاصاً، فنحن لا يجوز أن نتحدث عن مشروع سيسي فقط، فالحسين هو إمام الإسلام وهو يتحرك من خلال كل الإسلام، ولهذا كان في كل حركته يعظ وكان ينقد واقع الناس وكان يتحدث عن الواقع الذي يعيشه المسلمون.
تفسير الإمام الحسين(ع) للواقع:
لاحظوا مثلاً كيف كان الإمام الحسين(ع) يفسر الواقع الاجتماعي للناس ومن خلال ذلك يفسر السبب الذي جعلهم يذهبون إلى بني أمية مع أنهم يعرفون الحسين جيداً ويخذلون الحسين "الناس عبيد الدنيا" هذا الواقع الإسلامي الذي كان موجوداً في الحياة الإسلامية، فالناس يصلّون ويحجون ويوصومون ولكن هذا الدين الذي يعيشه الناس لم ينزل إل عمق الفكر وإلى عمق الانتماء وإلى عمق الممارسة "الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم" كما يلعق العسل حيث يظل اللسان يتحرك ما دامت هناك بقية باقية من حلاوة العسل، فإذا انتهت هذه الحلاوة فلم يبقَ أثر للعسل "يحوطونه ما درّت معايشهم" فهو متدين يصوم ويصلي ويحج ما دامت العبادات من الصلاة أو الصوم أو الحج لا تقترب من أطماعه ومن معايشه ومن مصالحه "فإذا مُحِّصوا بالبلاء" جاعوا أو عطشوا أو ابتعدت مصالحهم وأطماعهم في ساحة الانتماء للإسلام "قلّ الديّانون"( )، لأن الذين يبقون فوق الغربال دائماً قليلون والكثيرون يسقطون تحت الغربال {الم* أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون* ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين}( ).
مواقف الحسين(ع) الوعظية:
ونلاحظ أيضاً الموقف الوعظي وبيان للحالة النفسية التي كان يعيشها الإمام الحسين كأي رسالي يواجه الواقع الذيب يبتعد عن الرسالة وذلك عندما كان في الحر، وقد التحق الحر بالصلاة بعد جدال مع الحسين(ع) وهنا أراد الإمام(ع) أن يقوم بعملية وعظ لهؤلاء المضللين وأراد أن يعبّر بطريقة نفسية ضاغطة عن حالته النفسية كوسيلة من وسائل التأثير النفسي على هؤلاء، حيث قال: "إنه قد نمل من الأمر ما ترون" هذه الفوضى الجديدى التي عمت واستشرت، والانحراف الذي شمل كل شيء "وإن الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ولم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل" ثم ركز الفكرة الأساس "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به"( )، وهنا أرادهم أن يقوموا بجولة فكرية وميدانية حول كل الواقع الاجتماعي والواقع السياسي الموجود في تلك المرحلة ليجدوا أنه واقع يحكمه الباطل ولا يحكمه الحق "وإلى الباطل لا يُتناهى عنه" باعتبار أن النار يقفون في حالة صمت وسكون ولا مبالاة أمام الباطل ثم بيّن أن هذا المؤمن عندما يعيش هذا الواقع، وهو الذي يعتب الرسالة سر الحياة وسر السعادة عندما يواجه مثل هذا الواقع فإنه يشعر بأن الحياة لا معنى لها، لا لأنه يعيش اليأس الذاتي بل لأنه يعيش المشكلة الرسالية لا مشكلته الذاتية، ولكن مشكلة كل الناس الذين حلوه، لأن صاحب الرسالة لا يفكر بنفسه وإنما يفكر بالإنسان كله وبالحياة كلها، فثمة فرق بين الإنسان الذي يتحرك من خلال حالة شخصية والإنسان الذي يتحرك من خلال حالة رسالية، فالذي يتحرك من خلال حالة شخصية ربما يسقط الرسالة لمصلحته الشخصية.
نموذج عمر بن سعد:
فنحن نلاحظ نموذجين في كربلاء: النموذج الأول هو (عمر بن سعد) فهو كبقية المسلمين يصلي ويصوم ويحج ويحب الحسين أيضاً لقرابته للحسين(ع)، وعندما دعاه (ابن زياد) قال أبيات قد تكون له أو قد تكون مصورة لحالته، لأنه قابل ابن زياد في تلك الليلة وقال له إذا كنت غير مستعد لقتال الحسين(ع) فسأعطي ملك الري لغيرك، وكان قد وعده بولاية الريّ بمرسوم، فقال ارجع لنا المرسوم، فطلب المهلة فأمهله وكان يقول:
فــوالله مــــــا أدري وإنـــي لحــائــرٌ أفكّر في أمري علــــى خطرين
أأترك ملكَ الريّ والريّ منيتي أم أرجعُ مأثوماً بقتل حســـين
إلا أن الرجل حزم أمره وفكّر بطريقة، كثير من الناس عندنا يفكر بها:
يقولون إن الله خالقُ جنّةٍ ونـــارٍ وتعـــذيبٍ وغـــلّ يديـــنِ
فإن صــدقوا فيما يقولـــون أتوب إلى الرحمن من سنتين
أقتل الحسين وآخذ ملك الري ومن ثم أتوب والله يقبل التوبة عن عباده وتنتهي امشكلة، أليس هناك كثيرون يفكرون بهذه الطريقة؟! يرتكبون المعاصي ويقولون نذهب للحج وينتهي كل شيء! فهذا نموذج الإنسان الذي يحاول أن يعيش في سجن ذاته ويعيش في دائرة أطماعه، ولذلك تكون القضية عنده هي ذاته لا رسالته، فلا يفكر بالناس، فـ(ابن سعد) ما كان يفكر بالمشكلة الاجتماعية والإسلامية والجريمة العامة في مسألة قتل الحسين(ع)، بل كان يفكر كيف يحصل على ملك الري وحسب.
نموذج الحرّ الرياحي:
وعندنا نموذج ثانٍ وهو نموذج (الحر) وهو أول شخصية جعجع بالحسين(ع)، والحر كان قائداً ورئيس عشيرة، وكما نقول فإن مستقبله أمامه، وعندما جاءه صاحبه ورآه يرتعد في لحظة القرار الذي يمثل المصير بين أن يرفض دنيا ويقبل دنيا، فاستغرب منه ارتعاده لأنه الشجاع الذي لا يرتجف في الحرب، فكان جوابه: "إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعتُ وحُرّقت"( )، وانطلق كعنصر عادي ذليل في موقف العذر.
هذان النموذجان يتحركان في واقعنا كثيراً، فالذين إذا واجهتهم أطماعهم بحيث تجتذبهم حتى على حساب الأمة فإنهم يسقطون، فهناك بعض الناس ممن يستعمل القرار الصعب الذي يلغي له حياته من أجل الرسالة ورضا الله سبحانه وتعالى.
الحياة لأجل الرسالة:
لذلك نرى أن الإمام الحسين(ع) كان يعيش الرسالة كإمام للرسالة وكمسلم أيضاً، ويعتبر أن الرسالة تمثل رضا الله سبحانه وتعالى، وأن رضا الله فوق كل شيء، لذلك كان يعيش أزمة نفسية لا شخصية بل رسالية، ولذا عبّر عنها بقوله: "ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما"( )، فهو لا يريد أن يعبّر عن حالة يأس، ولكنه يريد أن يعبّر عن حالة رفض، وأن الموت في خط الجهاد يعتبر سعادة لأن الإنسان يؤكد رسالته ويؤكد انتماءه وموقفه وعبوديته لربه، أما الحياة مع الظالمين دون أن يواجههم ودون أن يقوم بأي عمل فإنها تمثل الحياة التي برم بها الإنسان، بمعنى أنه لا يشعر فيها بالحيوية ولا يشعر فيها بالحياة.. لذلك كان الإمام الحسين(ع) يركّز على هذا الجو من خلال تصوير المسألة في جانبها النفسي بالإضافة إلى الجانب الموضوعي "ألا ترون أن الحق لا يُعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه" ثم يقول: "ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً".
وهكذا وهكذا نجد أن الحسين(ع) وهو يتحرك كان يريد أن يعمّق الرسالة في نفوس كل الذين ينطلق معهم، فعندما كان يقف مع معسكر ابن سعد كان يعظهم بين وقت وآخر، وكان يحاول أن يضعهم في أجواء روحانية وعظية تنقلهم إلى الآخرة وتجعلهم في مواجهة حقارة الدنيا، ففي غداة يوم عاشوراء خاطبهم بقوله: "عباد الله، اتقوا الله، وكونوا من الدنيا على حذر، فإن الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحد كانت الأنبياء أحق بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالبقاء، غير أنّ الله خلق الدنيا للبلاء وخلق أهلها للفناء، فجديدها بالٍ ونعيمها مضمحلّ وسرورها مكفهرّ والمنزل بلغة والدار قلعة، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى فاتقوا الله لعلّكم تفلحون".
فلو كانت المسألة عند الحسين(ع) مجرد مسألة سياسية لكان تحدّث معهم بلغة سياسية، في حين نراه يتحدث معهم بلغة قرآنية وبلغة وعظية، لأن الحسين(ع) كان يعرف أن مشكلة المجتمع الإسلامي آنذاك، كما هي مشكلة المجتمع الإسلامي في كثير من المراحل، هي أن الناس قد أغلقت قلوبهم عن الله سبحانه وتعالى، وأنهم لا يفكرون بالآخرة وإنما يستغرقون في الدنيا، ولذلك عندما ندرس الكثير من كلمات الإمام الحسين(ع) في مسيرته من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى كربلاء نرى أن كل أحاديثه وعظية تفتح القلب وتفتح الروح، لأنه كان يريد أن ينتج مجتمعاً إسلامياً، صحيح أن الحسين(ع) كان يطلب أن يكون هو الذي يحكم، لكنه لم يكن ليطلب الحكم لذاته، بل لرسالته ليغيّر الواقع من خلال تجربة الحكم.
الحسين(ع) رسالة شاملة:
ولذلك لا بد لنا ـ أيها الأحبة ـ أن نقرأ الحسين(ع) رسالة شاملة، فلا تقرأوه في السياسة وحدها، ولا تقرأوه في المأساة وحدها، ولا تقرأوه في الكثير مما يتعارفه الناس، بل اقرأوا الحسين(ع) كما تقرأون رسول الله(ص)، مع الفارق طبيعاً، لأن رسول الله(ص) قال: "حسين منّي وأنا من حسين"( )، فهذا الاندماج بين الرسول وبين الحسين لم يكن اندماجاً نسبياً، بل كان اندماجاً رسالياً، لأن الحسين قد تحوّل إلى تجسيد لرسالة رسول الله(ص) ورسول الله هو التجسيد الحي للرسالة، لذلك فإن هناك رسالة اندمجت في رسالة، فالحسين منه باعتبار أن الحسين(ع) انطلق ن رسالة رسول الله(ص) في وجوده الرسالي "وأنا من حسين" لأن رسول الله(ص) من الرسالة التي تجسدت بالحسين في مرحلته، وهكذا يجب أن نفهم المسألة.
وعلى ضوء هذا ـ أيها الأحبة ـ فلا بد لنا أن نجعل من عاشوراء مسألة للرسالة وللإسلام ليكون الناس مسلمين أكثر، وليكونوا ملتزمين أكثر، وليكونوا حاملين لرسالة الحسين أكثر، فلو استنطق الحسين(ع): كيف تريد أن تكون المجالس التي تتحرك في ذكراك لقال(ع) تحدثوا عن الإسلام في الخط الفكري والشرعي والحركي بنسبة 90% وتحدثوا عن المأساة بنسبة 10% لأن قصة المأساة تنطلق من العاطفة، ولعل أصدق من عبّر عن ذلك، عن أن المأساة لا تحتاج إلى كثير من الجهد لينفعل بها الإنسان الذي يملك حساً إنسانياً، أحسن من عبّر عن ذلك هو ذاك الشاعر الذي يقول:
تبكي عيني لا لأجل مثوبةٍ لكنّما عيني لأجلك باكية
عاشوراء لكل المسلمين:
إن الإنسان عندما يقف أمام المأساة لا يملك إلا أن تنفجر دموعه ويحترق قلبه من خلال العناصر الحزينة، لذلك نريد لعاشوراء أنتبقى إسلامية بكل رحابة الإسلام وبكل حركية الإسلام، وبكل عمق الإسلام وبكل وحدة الإسلام، لأن قضية الوحدة الإسلامية هي أن نتحد بالإسلام حتى لو اختلفنا في فهم الإسلام هنا وهناك، لأن الله تعالى قال لنا: {فإن تنازعتُم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}( )، ولذلك حذار من أن نصوّر عاشوراء على أنها موجهة لفريق معيّن من المسلمين، لأن يزيد لا يمثل المسلمين السنّة بل إنهم يرجمونه بكل الكلمات في وحشيته، لذلك لا يجوز أن نجعل من عاشوراء ساحة للإساءة إلى الوحدة الإسلامية، بل علينا أن نحمل عناوين عاشوراء وشعارات عاشوراء للمسلمين جميعاً، وأعتقد أن المسلمين جميعاً يلتقون عند الحسين(ع)، لأن "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"( )، عند كل المسلمين ومحبة الحسين موجودة عند المسلمين جميعاً، وإن اختلفوا في خصوصية محبة هنا عن خصوصية محبة هناك.
الحسين(ع) رمز الوحدة الإسلامية:
ولذلك، فإنني أعتقد أننا نستطيع أن نقدم الحسين(ع) رمزاً للوحدة الإسلامية، لأن المسلمين أجمعهم يلتقون عليه، ولذلك أحبّ أن أنبّه على تعبير ينطلق في أدبياتنا وهو تعبير (يا لثارات الحسين) بأن علينا أن لا نجعل هذا التعبير يتحرك في المستوى الشعبي الساذج ليتصور البعض أن هناك عدداً من المسلمين يتحركون للأخذ بثأر الحسين من ظالم قتله، ولكن نحن نعمل لثارات الحسين من كل مستكبر ومن كل طاغية ومن كل منحرف ومن كل سلطان جائر يستحل حرم الله وينكث بعهده ويخالف سنّة رسول الله(ص)، ويعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فهؤلاء هم الذين نثأر للحسين منهم، لأن الحسين انطلق من خلال قضية تنطبق على الشخص الذي عاصره وعلى أمثاله، سواء كانوا من المسلمين أو من الكافرين، وحتى قولنا "السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره" فثأر الله إنما هو من خلال أن الله سبحانه وتعالى يثأر لدينه ويثأر لرسالاته ويثأل لكل أنبيائه وأوليائه، ولذلك فإن الثأر هنا لا يتصل بحالة خاصة وإنما يتصل بالخط العام في كل مواقع الحياة.
وعلينا ـ أيها الأحبة ـ أن نبقي الحسين(ع) في عقولنا في الدائرة الإسلامية الواسعة، وإذا كانت الدائرة الإسلامية الواسعة تنفتح على الدائرة الإنسانية الواسعة، فلأن الإسلام منفتح على الإنسانية كلها، وعند ذلك فإن الحسين(ع) لا يعيش في الجو الشيعي فقط، ولكنه ينفتح على الجو الإسلامي كله وعلى الجو الإنساني كله.
وصية الحسين(ع) الأخيرة:
وفي الختام أحب أن أقرأ عليكم وصية الحسين(ع) الأخيرة لولده الإمام زين العابدين(ع) لتعرفوا كيف كان الحسين(ع) يفكر، فهو لم يفكر في غربته ولم يفكر في مأساته ولم يفكر في كل الفجائع التي كانت تحيط به، بل بالحقّ.. وهناك روايتان عن الإمام محمد الباقر(ع)، قال أبو جعفر(ع): "لما حضرت أبي علي بن الحسين الوفاة ضمّني إلى صدره وقال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، يا بني اصبر على الحق وإن كان مراً"( ).. تصوّر أن الحسين(ع) قبل أن ينطلق للقتال جلس مع علي بن الحسين(ع) وأعطاه هذه الوصية فكان الحق أمامه وكان يريد لمسيرة الحق أن تتحرك، وكان يريد للذين يلتزمون الحق أن يتحملوا كل مراراته لأنه حلو في عمقه وإن كان مراً في طعمه، وهذه هي الوصية الأولى.
وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: "لما حضرت علي بن الحسين الوفاة ضمّني إلى صدره ثم قال يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، يا بني إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله"( )، فالخطورة كل الخطورة أن ت ظلم الإنسان الضعيف، أن تظلم زوجتك وهي لا تجد عليك ناصراً إلا الله وأن تظلم جارك وأنت تملك القوة وهو لا يجد عليك ناصراً إلا الله، وأن تظلم كل الناس الذين يتعاملون معك وهم ضعفاء فتنكر عليهم حقوقهم فتظلمهم.
هذه هي وصية الحسين(ع) وهو يخاطب كل واحد منذا في كلماته القصار "اصبر على ما تكره فيما يُلزمك الحق واصبر عمّا تحبّ فيما يدعوك إليه الهوى"( )، وقال لبعضهم وقد طلب من الحسين(ع) موعظة مختصرة، قال: "عظني بحرفين" فكتب إليه الحسين(ع): "من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر"( )، فإذا أردت أن تصل إلى أهدافك لتحقق أمانيك فلا تصل إليها بواسطة معصية الله تعالى، بل أن تصل إلى أهدافك بطاعة الله لأنك إذا حاولت أمراً بمعصية الله فإن الله يعاقبك على ذلك بأن يفوت عليك ما ترجوه ويسرع إليك ما تحذره.
أيها الأحبة، خذوا الحسين(ع) في عقولكم فكراً يضيء الحق للناس وخذوا الحسين في قلوبكم حباً يطرد الحقد عن الناس، وخذوا الحسين في حياتكم حركة تبقى مع الله وفي خط الله، وعندما تحبون الحسين حب الحق وحب الإسلام وحب العدل وحب الرسالة فستنفجر الدموع من دون أية إثارات هنا وهناك، لأننا عندما نحب الحسين(ع) بعمق فسنبكيه بعمق، نبكيه بدموع الرسالة، وبدموع القضية، وبدموع الولاء، وبدموع الحب. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السابعة والعشرون: 20 محرم 1419هـ ـ الموافق 16 - 5 – 1998م
النــــيــــّـــــة
"النيّة تصوغ الجوّ الداخلي للإنسان المسلم، لأنها روح العبادة وأساسها"
ـ قيمة العمل في النية.
ـ التوحيد في العقيدة.
ـ التوحيد في الطاعة.
ـ الإخلاص لله.
ـ النيّة في الأحاديث.
ـ أثر النية في القيامة.
ـ قيمة الأعمال.
ـ نيّة القربة إلى الله.
ـ النية في كل شيء.
ـ النيّة في الأدعية والوصايا.
ـ تربية الجو الداخلي للنفس.
ـ محطة قرآنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
النيــّــة:
من العناوين الإسلامية العقيدية العملية التي تتحرك مع كل ما يفكر به الإنسان وما يتحرك به في حياته مسألة النية، وهي تمثل وتجسد الدوافع التي تدفع الإنسان نحو العمل والآفاق التي يتمثلها الإنسان في انفتاحه على العمل، سواء كان هذا العمل عبادياً أو كان يتصل بعلاقة الإنسان بالإنسان وبالحياة وبكل ما يتحرك فيه ويتحرك معه.
ولعل اهتمام الإسلام بالنية في أكثر من مفردة من مفردات التراث الإسلامي، ينطلق من أن الواقع الداخلي للإنسان هو الذي يصوغ شخصية الإنسان وهو الذي يعطي لكل حياته الخارجية عنوانها الكبير، فالعمل ـ أي عمل كان ـ هو صورة نفسك وصورة فكرك وصورة قلبك وصورة أحاسيسك ومشاعرك. لهذا أراد الإسلام للإنسان بأن يركّز داخله من خلال عقله ليرتب له عقله كل علاقاته بربه وبنفسه وبالناس من حوله، وأن يعيش الإنسان كل تطلعاته وتوجهاته في الحياة، إن في خطوطه الفكرية أو في حركته العاطفية والعملية.
القيمة هي في النية:
ولذلك، فإن القيمة التي يمنحها الله سبحانه وتعالى للإنسان تتحدد بمقدار ما يعيش الإنسان داخله، فإن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلوب الناس كما ورد في بعض الأحاديث ولا ينظر إلى وجوههم باعتبار أن قلب الإنسان هو صورته الحقيقية التي تطبع شخصيته والتي تحرك كل قضاياه، ففي البداية ـ مثلاً ـ لا بد للإنسان في علاقته مع ربه أن يعيش الإخلاص له بحيث لا ينطلق في أي عمل ولا في أية علاقة ولا في أي وضع من أوضاعه إلا على أساس علاقة تلك الأمور برضا ربه، لأن الإخلاص لله سبحانه وتعالى ليس مجرد إحساس تحسه، ولكنه يمثل كل عقيدتك وكل إحساسك بمعنى وسرّ وجودك.
فالله يريد من عبده أن يكون ـ في كل معانيه ـ كل شيء عنده، بحيث لا يكون هناك أي شيء لغير الله إلا من خلال الله.
فإذا أردت أن تدخل أي إنسان في قلبك وعقلك وفي حياتك فلا بد أن تدخله من خلال الله، فحتى الأنبياء إنما نعتقد بهم ونحبهم ونتبعهم ونخلص لهم، لا من خلال أشخاصهم، بل من خلال أنهم رسل الله وأنهم حاملو رسالته، وبذلك تفقد الصلة بكل الناس، حتى أرفعهم في القيمة الروحية، معناها الشخصي لتنطلق بحسب قربهم من الله سبحانه وتعالى.
التوحيد في العقيدة:
وعلى ضوء هذا يتحدد معنى التوحيد في العقيدة وهو أن لا تشرك بالله شيئاً لتعدد الآلهة في العقيدة، وأما التوحيد في الحب فهو أن لا تحب إلا الله ليكون حبك لغير الله من الناس من خلال ارتباطهم بالله، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله}( )، فهم يحبون الله كما لم يحبوا أحداً بحيث يكون هذا الحب هو قمة الحب، فليس هناك في قلبك إلا الله، وإنما يدخل الآخرون في قلبك من الباب الذي يفتحه الله سبحانه وتعالى لهم في صفتهم به.
التوحيد في الطاعة:
وهكذا في مسألة التوحيد في الطاعة، فالله وحده هو المطاع، أما الرسول فـ{من يطع الرسول فقد أطاع الله}( )، لأن طاعة الرسول بصفة كونه رسولاً من الله ليبلغ عن الله أوامره ونواهيه، وما يرضيه وما يسخطه.. لذلك فأنت عندما تطيعه وهو الذي {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحى}( )، فأنت تطيع الله من خلاله، وهكذا عندما تطيع أولياء الله من الأئمة(ع) فإنك تطيعهم من خلال أنهم يحملون عن رسول الله(ص) ما حمله عن الله سبحانه وتعالى.. وبهذا الإخلاص الذي تجعل فيه كلك لله لا يمكن أن نقع في عبادة الشخصية مما يتعارفه الناس الذين قد يعبدون العظماء حتى الذين يمثلون القداسة في العظمة، كما نجد ذلك في عيسى(ع) وغيره.
فالإنسان الذي يعيش الإخلاص لله في العقيدة وفي الحب وفي العبادة وفي الطاعة لا يمكن أن يعظم غير الله عنده إلى جانب الله بل الكل وراء الله وبعده "أشهد أن محمداً عبده ورسوله" وعظمته(ص) أنه كان العبد لله في أعلى مواقع العبوية، وهكذا الذين يتحركون في طاعته من الملائكة {عبادٌ مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}( ).
الإخلاص لله:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ لا بد أن نتعب على أن نربي عظمة الله سبحانه وتعالى في أنفسنا حتى نعرف كيف نتعامل مع الله في الداخل، بحيث يشرق الله في عقولنا وقلوبنا وإحساسنا وشعورنا ليضيء لنا كل الطريق إلى الحق، وهذا يحتاج إلى أن يبني الإنسان نيته وأن يعيش هذه النية في كل وجوده.
النية في الأحاديث:
وقد وردت عندنا الأحاديث الشريفة التي تتحدث عن النية في علاقتها بالعمل، بحيث تكون قيمة العمل بقيمة النية، بالإضافة إلى عناصره المادية الموجودة في ذاته، ففي الحديث عن علي(ع): "النية أساس العمل"، و"الأعمال ثمار النيات"، بحيث أن النية تنمو كشجرة للمعرفة وللإحساس في داخل نفسك وبذلك تنمو وتنمو حتى تثمر الأعمال، فكلما كانت نيتك أكثر نمواً في تأثيراتها على داخل نفسك كانت أعمالك أكثر نضجاً في نتائجها.
أثر النيّة في القيامة:
وقد ورد في بعض الأحاديث كيف أن الله إذا اطّلع على نيّة الإنسان الذي يتحرك نحو العمل فتمنعه الحواجز عن العمل يعطيه الله ثواب ذلك، ففي تفسير (القمي) في قوله تعالى: {قل كلٌ يعمل على شاكلته فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً}( )، قال "على شاكلته على نيته"، عن جعفر بن إبراهيم يقول حدثني أبي عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: "إذا كان يوم القيامة أوقف المؤمن بين يديه ـ بين يدي الله ـ فيكون هو الذي يتولى حسابه فيعرض عليه عمله فينظر في صحيفته فأول ما يرى سيئاته فيتغيّر لذلك لونه وترتعش فرائصه وتفزع نفسه، ثم يرى حسناته فتقرّ عينه وتسرّ نفسه وتفرح روحه، ثم ينظر إلى ما أعطاه الله له من الثواب فيشتدّ فرحه، ثم يقول الله للملائكة: هلمّوا الصحف التي فيها الأعمال التي لم يعملوها، قال: فيقرأونها ثم يقولون: وعزّتك إنك لتعلم أنّا لم نعمل منها شيئاً، فكيف تعطينا ثوابها، فيقول صدقتم نويتموها فكتبناها لكم ثم يثابون عليها".
وهذه نقطة مهمة جداً وتعني أن نيّة الخير تدل على أن هذا الإنسان يعيش الخير كقيمة في داخل شخصيته بحيث أن شخصيته هي شخصية الخير، والله سبحانه وتعالى إنما يرفع قدر الإنسان في الطاعة ويثيبه من جهة دلالة الطاعة على إخلاصه لربه، فإذا عاش الإنسان نية الطاعة ونية الخير، وكانت هناك بعض الحواجز التي تحجزه عن العمل فإن عدم تحول النية إلى عمل لا يبطل ثوابه عند الله، لأن قيمة العمل بمقدار دلالته، وهو مطلوب من الإنسان عندما يتمكن منه، فإذا لم يعمله نتجية الظروف الطارئة التي حالت بينه وبين تنفيذ ما عنده من نية فإن الله يطّلع على نيته فيرى أن يعيش الخير والإخلاص له فيثيبه عليها، لأن النتائج هي نفس النتائج من حيث الدلالة، وهكذا نجد الأحاديث التي تقول "يُحشر الناس على نياتهم" أي يُبعث الناس على نياتهم، و"إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أحسابكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلبٌ صالح تحنن الله عليه"، فلذلك لا بد أن يتعب الإنسان على تربية قلبه بأن يربيه على الإخلاص لله وعلى القرب منه بحيث إذا اطّلع على الإنسان وهو يعمل رأى الإخلاص في داخل قلبه فيرضى عنه ويمنحه منخلال هذا الرضا ما أعدّه له من ثواب.
قيمة الأعمال:
وإذا أردنا أن نفلسف المسألة بطريقة وجدانية فإننا نقول إن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أعمالنا من ناحية ذاتية، فهو الغني عن طاعتنا وعن وجودنا، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الأعمال التي كلّفنا بها والأعمال التي نهانا عنها وسيلة من وسائل إصلاح الإنسان ليكون هذا الإنسان إنسان الله بمعنى الإنسان القريب إلى الله، الملتصق بالله سبحانه وتعالى، المنتمي إلى الله، ولذلك فإن قيمة الأعمال أنها تعمّق في الإنسان علاقته بالله أكثر وتجعله أقرب إلى الله أكثر، ومن الطبيعي فإن العمل يمثّل مجرد حركات يقوم بها الإنسان، سواء فيما يتكلم به أو فيما يحرّك به أعضاءه، وليس هناك فرق بين هذا العمل وبين أي عمل آخر إلا النية، فالنية هي التي تعطي معناه وهي التي تعطيه دلالته، وبذلك فالمطلوب هو أن تكون حبيب الله القريب منه سبحانه وتعالى.
نيّة القربة إلى الله:
ولذلك نجد أن التعليم الإلهي في كل العبادات هي أن تأتي بالعبادة قربة إلى الله، فأنت تصلّي قربة إلى الله، وتصوم قربةً إلى الله، وتحجّ وتدعو وتعتمر إلى آخر ما هنالك من العبادات قربةً إلى الله تعالى، إن هذا التعليم الإلهي، خصوصاً في الصلاة اليومية، يجعلك تعيش قلق الوصول إلى القرب من الله سبحانه وتعالى، لأن هذه عملية تدريبية يومية وسنوية في كل صلواتك وعباداتك في حجّك وفي صومك وما إلى ذلك، فليست النية في الصلاة أو في الصوم أو في الحج مجرد شرط جامد يشترطه الإسلام في صحة العبادة، ولكنه عملية إيحائية بحيث توحي إلى نفسك، عندما يقبل الصباح فتصلي صلاة الصبح، أني أريد أن أكون قريباً من الله سبحانه وتعالى، وإذا عشت هذا الإيحاء النفسي فإن نفسك تمتد معك من خلال هذا الإيحاء إلى القيام بجولة في كل ما يقرّبك إلى الله سبحانه وتعالى وفي كل ما يبعدك عنه، وبهذا لا بد أن لا تكون النية عندنا في صلاتنا وفي صومنا وفي حجنا مجرد حالة تقليدية جامدة لا تنفذ إلى أعماقنا ولا تتحرك في إيحاءاتها لتغيّرنا من الدالخ ليعيش الإنسان حياته في قلق متحرك، هل رضي الله عنه أم لم يرضَ، هذا القلق الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بقوله: {وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون}( )، بحيث يعيش قلق الحاجة إلى رضوان الله عنه وإلى قربه إل الله سبحانه وتعالى، وربما نجد في بعض الأحاديث أن الله سبحانه وتعالى، وربما نجد في بعض الأحاديث أن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن تكون له نية تقربه إلى الله في كل شيء حتى عندما يريد أن يمارس حياته اليومية بكل تفاصيلها.
النية في كل شيء:
إن هناك أحاديثاً تقول أن على الإنسان أن تكون له نية في كل شيء يعمله، فلنقرأ بعض الأحاديث بهذا الخصوص، ففي وصية النبي(ص) إل أبي ذر: "يا أباذر، ليكن لك في كل شيء نيّة حتى في النوم والأكل"، فلا بد للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون لأنه إذا لم يكن هذا المعنى فسيكون غافلاً، ترى ما هو السبب الذي يجعل الإنسان ينوي كل عمل قربة إلى الله، إنه بذلك يحاول أن يجد له نافذة تطل على الله سبحانه وتعالى، فأنت حينما تنام فلأجل أن ترتاح من تعب النهار ولتستقبل يومك وحتى تنشط لعبادة الله ولمسؤولياتك التي أراد الله لك أن تقوم بها، وبذلك يكون نومك عبادة، وهكذا تأكل وتتقوى بأكلك على القيام بكل مسؤولياتك سواء كانت مسؤوليات عبادية أو غير عبادية أن الأكل هو الذي يمكن أن يمد لك حياتك ويقويها.
وهناك نقطة في هذا الجانب، فربما يعتبر بعض الناس أن الجوع قيمة، ونقول: لا، إن الجوعت ليس بقيمة لأن مسألة الأكل والشرب ملحوظة من جهة أنها شروط امتداد حياتك وشروط قوتك فإذا امتنعت عن الأكل أو امتنعت عن الشرب فعشت الجوع وعشت الظمأ فإن ذلك قد يعطّلك عن مسؤولياتك وعن أعمالك. نعم، يمكن في بعض الحالات أن يجوع الإنسان في مقام جهاد النفس حتى يستطيع إذا تدرب على أن يجوع في بعض الحالات الاختيارية أن يجوع إذا خُيِّر بين أن يجوع وبين أن يتنازل عن مبادئه، هذا في الجانب التدريبي الوقائي فلا توجد مشكلة فيه، أما أن نعتبر أن الجوع يمثل قيمة روحية وأن الظمأ يمثّل قيمة روحية، فكلما جاع أو عطش الإنسان أكثر كان قريباً إلى الله أكثر، فليس لدينا في الإسلام هذه الروحية، بل يعتبر الإسلام أن الإنسان لا بد أن يعيش طبيعياً ولكن في الحلال {وقل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة}( )، لذلك فالإنسان يأكل بالطريقة التي أراد الله له أن يأكل بها {كلوا واشربوا ولا تسرفوا}( ) أن يأكل من الحلال ولا يأكل من الحرام.
وهكذا بالنسبة إلى النوم، فالإنسان أيضاً ينام حتى يعطي جسده غذاءه من الراحة في هذا المجال، فإذا فرضنا أن سهره يؤدي إلى ضعفه عن القيام بمسؤولياته، فعند ذلك لا يكون السهر قيمة إنما يكون قيمة في الحالات التي لا يؤثر فيها تأثيراً سلبياً على مسؤولياته في المستقبل، فقوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}( )، وارد في الناس الذين يأخذون من النوم مايحتاجونه ولكن لا يكثرون من النوم بالطريقة التي تبعدهم عن عبادة الله سبحانه تعالى وعما يعطيه قيام الليل من روحانية ومن الإقبال عليه سبحانه وتعالى، فلا بد للإنسان من أن يعيش هذا الهمس الداخلي الذي يعبّر عن النية.
النية في الأدعية والوصايا:
وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع): "اللهم فصلِّ على محمدٍ وآله، واجعل همسات قلوبنا وحركات أعضائنا ولمحات أعيننا ولهجات ألسنتنا في موجبات ثوابك حتى لا تفوتنا حسنة نستحق بها جزءاك ولا تبقى لنا سيئة نستوجب بها عقابك" أي أن يعيش الإنسان في همس داخلي، أي ما يهمس به قلبهمن خلال نية الخير في داخل نفسه بأن تكون في هذا الاتجاه، في اتجاه الخير وفي اتجاه من يحبه الله ويرضاه.
وهكذا يقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء مكارم الأخلاق: "وانتهِ بنيّتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، الله وفّر بلطفك نيّتي" بحيث يحاول الإنسان أن يربي نيّه حتى تبلغ القمة في كل مضمونها المنفتحة على الله والمنفتح على الخير، تماماً كما يحاول أن يربي عمله ليكون أحسن الأعمال. وفي كتاب أمير المؤمنين(ع) للأشتر لما ولاّه مصر: "وامضِ لكل يوم أملاً فإنّ لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام وإن كلها لله إذا صلحت فيها النيّة وسلمت منها الرعية" والشاهد هنا هو مسألة صلاح النيّة.
ونقرأ في بعض أحاديث أئمة أهل البيت(ع) قال عن أبي بصير، قال سألت أبا عبدالله(ع) عن حدّ العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤدياً لها، قال: "حسن النية بالطاعة" وهو أن تكون نيتك في عبادتك بالمستوى الذي يرفعها إلى الحد الذي يكون من النيات الحسنة "لا يكمل صالح العمل إلا بصالح النيّة".
وسأل عيسى بن عبدالله القمي أبا عبدالله(ع) وأنا حاضر، قال ما العبادة؟ فقال: "حسن النية بالطاعة" من الوجه الذي يُطاع الله منه، ويعني ذلك أن النية تختصر العبادة، فإذا كانت نيتك صالحة ومتجهة إلى الوجه الذي يُطاع الله من أن تنوي الإتيان بالعمل لامتثال أمر الله وللإخلاص لله ولمحبة الله سبحانه وتعالى، فإن نيتك تجسّد معنى عبادتك، لأن العبادة تكون حينئذٍ نتيجة للنية وتكون النية هي روح العبادة، وهي الأساس في العبادة.
وقد ورد عندنا في الحديث، والذي لا بد من شرحه كما شرحه أئمة أهل البيت(ع) في تأكيد قيمة النية في قيمة الإنسان المؤمن "نية المؤمن خير من عمله"، وهذا حديث عن رسول الله(ص)، هنا سأل السائل الإمام(ع) ما معنى ذلك؟ كيف يكون العمل هو تجسيد النية؟ فالعمل يمثل الجهد الذي يبذله الإنسان في طاعة الله سبحانه وتعالى، أما النية فقد لا تكلف الإنسان جهداً، فكيف تكون نية الإنسان خيرٌ من العمل؟
عن (زيد الشحام) قال: قلت لأبي عبدالله(ص) إني سمعتك تقول "نية المرء خير من عمله" فكيف تكون النية خير من العمل؟ قال: "لأن العمل ربما ان رياء المخلوقين" وقد تصلي ليراك الناس وقد تفعل الخير ليمدحك الناس باعتبار أن ظواهرك قد تتحرك من أجل شهواتك ومن أجل ملذاتك، ولكن النية شيء بينك وبين الله فلا يمكن أن تكون النية رياءً، لأن النية لا يطّلع عليها الناس، فالنية دائماً تكون خالصة، النية الخيّرة طبعاً، لكن عمل الخير لا يكون خالصاً دائماً، قال: "لأن العمل ربما كان رياء المخلوقين، والنية خالصة لرب العالمين، فيعطي عز وجل على النية ما لا يعطي على العمل"، وهذا ما يفسّر الحديث الوارد عن رسول الله(ص) والذي أكده الأئمة(ع).
تربية الجوّ الداخلي للنفس:
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ والحديث يطول في ذلك، لا بد لنا كما قلنا أن نعمل على أن نربّي كل هذا الجو الداخلي الذي يتصل بالفكر الذي يوحي إلينا بنيّة الحق، ويتصل بالقلب الذي يوحي إلينا بنية الخير، ويتصل بالعمل الذي يتحرك من خلال نية الإخلاص لله في العبادة وفي الحياة بشكل عام.. وقد ورد في بعض الأحاديث أن الله يوفّق الإنسان على قدر نيّته، وكلنا نطلب التوفيق من الله سبحانه وتعالى في كل الأمور، فعن علي(ع): "على قدر النيّة تكون من الله العطيّة" و"من حسن نيّته أمدّه الله بالتوفيق"، وحديث آخر عنه(ع): "إذا علم الله تعالى حُسن نية من أحدٍ اكتنفه بالعصمة" عصمه الله سبحانه وتعالى من كل ما يخافه ومن كل الذنوب أيضاً.
وهناك حديث عن الإمام الصادق(ع): "إنما قدّر الله عون العباد على قدر نيّاتهم فمن صحّت نيّته تمّ عون الله له، ومن قصرت نيّته قصر عنه العون بالقدر الذي قصر" فإذا أراد الإنسان أن يوفقه الله، فتوفيق الله هو عطاء الله، فإذا كان الله سبحانه وتعالى ينظر إلى نيّتك في رضاه عنك وفي قربك منه فلا بد لك من أن تحسن نيتك لتحصل على رضوان الله، ولتحصل على توفيقه سبحانه وتعالى.
وقد ورد في وصية أمير المؤمنين(ع) لابنه الحسن(ع): "واعلم أن الذي بيده خزائن السموات والأرض قد أذن لك في الدعاء وتكفّل لك بالإجابة فلا يقنطنّك إبطاء إجابته فإن العطية على قدر النية" ولذلك ليست المسألة عندنا أن نكثر أعمالنا بل أن نخلص نيّاتنا وأن يشرق الله سبحانه وتعالى في عقولنا ليشرق الحق فيها من خلال ذلك، وأن يشرق الله في قلوبنا ليشرق الخير فيها من خلال ذلك، وأن يشرق الله في حياتنا ليشرق الخير فيها من خلال ذلك، وأن يشرق الله في حياتنا ليشرق الصلاح والإصلاح من خلال ذلك، أن يكون الله كل شيء عندنا، وأن تكون كل أعمالنا في اتجاه رضاه، ولا شيء إلا رضاه.
محطة قرآنية:
وعندما نقرأ القرآن في مسألة الرضوان فإننا نستوحي منه أن السعادة التي يعيشها الإنسان في رضوان الله هي أعظم من سعادته في نعيم الجنة {ورضوان من الله أكبر}( )، فإذا كان رضا الله في القلب الطيب والعقل المنفتح على الحق والجسد الذي يتحرك في الخير، فعلينا أن نعدّ لذلك عدته، لأن ذلك هو الذي يعصمنا من كل ضلال ومن كل انحراف، لأن الضلال عندما يطوف بنا والانحراف عندما يلمُّ بنا إنما يأخذ حريته فينا لأننا غافلون عن الله، ولأننا نعيش مع الناس أكثر مما نعيش مع الله، ولأن نيّتنا في إرضاء الناس أكثر من نيّتنا في إرضاء الله.
أيها الأحبة، إن المسألة اللافتة هي أننا نعيش الآن في هدنة ولا ندري متى نُدعى فنجيب، فعلينا أن ننطلق كما أراد الله {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلبٍ سليم}( )، فإذا كان القلب سليماً ونظر الله في موقفنا أمامه وإلى قلب كل واحد منا فرآه سليماً من كل شرك ومن كل حقد ومن كل عداوة ومن كل بغضاء ويبنض بالحق والخير، فهناك السعادة كل السعادة والرضوان كل الرضوان، والنداء الذي يبقى مع الإنسان {يا أيتها النفس المطمئنة ـ التي عاشت طمأنينة الحق في العقل وطمأنينة الخير في القلب وطمأنينة الطاعة في الحياة ـ ارجعي إلى ربّك راضيةً ـ بما ينتظرك عند الله ـ مرضيّة ـ عند الله بعملك ـ فادخلي في عبادي* وادخلي جنتي}( )، فأية همسة أحلى من هذه الهمسة، لأننا إذا لم نحصل على هذ الهمسة الروحية الربانية وركبنا رؤوسنا وابتعدنا عن الله فسوف يأتي صوت صارخ مزعج بدلاً من ذلك {خذوه فغلّوه* ثم الجحيم صلّوه* ثم في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكون* إنه كان لا يؤمن بالله العظيم* ولا يحضّ على طعام المسكين* فليس له اليوم ها هنا حميم، ولا طعامٌ إلا من غسلين* لا يأكله إلا الخاطئون}( )، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}( ). والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الثامنة والعشرون:27 محرم 1419هـ ـ الموافق 23 - 5 – 1998م
في ذكرى وفاته..
الإمام زين العابدين(ع) الصلبُ العزيز
"لم يخضع الإمام السجاد(ع) في مواقفه لأية حالة ذلّ أو جزع.. وما يتحدث به الشعراء لم ينطلق من الواقع بل من تمثيل الجانب العاطفي"
ـ ذكرى الإمام السجاد(ع).
ـ حياته مع أبيه(ع).
ـ الصلب في مواقفه.
ـ حزن السجاد(ع).
ـ طريقته في تأجيج الحزن.
ـ خلال مدة إمامته.
ـ شهادات معاصريه.
ـ تراثه المتنوّع.
ـ منهج الدعاء.
ـ رسالة الحقوق.
ـ قرآن يتحرك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
ذكرى الإمام السجاد(ع):
نعيش هذه الأيام ذكرى الإمام علي بن الحسين(ع) الذي استوعب في أسلوبه الإمامي كل الخطوط التي تتصل بتأصيل الشخصية الإسلامية في حركة العقل والقلب والحياة في الانفتاح على الله وعلى الناس في كل خطوط المسؤولية.
فنحن عندما ننفتح على حياة هذا الإمام فماذا نرى؟ إننا نرى أنه عاش طفولته الأولى حتى بداية شبابه في أجواء الاهتزاز السياسي في الواقع الإسلامي آنذاك، فهو لم ينفتح في طفولته الأولى على الواقع الذي كان يعيشه جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، لأنه استشهد وعمره سنتان ولكنه تمثل في السنين العشر التي عاشها مع عمه الحسن(ع) كل ذلك الواقع الصعب الذي واجه الإمام الحسن(ع) وواجه التجربة آنذاك لأنه العهد الذي أحاطت فيه الظروف القاسية بالإمام الحسن(ع) من خلال كل نقاط الضعف التي عاشها المجتمع الإسلامي، وكل أوضاع التعب التي حلّت بالمسلمين آنذاك من خلال الحروب المتتالية.
التجربة الأموية:
إن المسألة كانت هي أن الخلافة سقطت وبدأت الحكم الأمور لأن الأمر حينها استتبّ لمعاوية، وبدأت الحياة الإسلامية تعيش في مخاض جديد من خلال التجربة الأموية في الحكم التي جعلت المسلمين يشعرون بأن خط الإسلام قد انحرف عن مساره الطبيعي، وأصبح يتجه إلى مسار آخر لا يرتكز على القاعدة الفكرية للإسلام ولا يتحرك في الامتداد الشرعي للواقع الإسلامي أو الحركة الإسلامية، وهكذا عاش مع أبيه الحسين(ع) ومع عمه الحسن وكان يختزن منهما كل معنى الروح وكل انفتاح الخلق وكل عمق الجراح التي كانات يعيشانها بصمت، وعن مأساة عمه الحسن(ع) الذي قضى مسموماً ثم عاش من بعد ذلك تجربة أبيه الحسين(ع) وهو ينتظر اللحظة الحاسمة التي يريد أن يقف فيها في مواجهة هذا الحكم، لأن المرحلة التي تلت وفاة الإمام الحسن(ع) وموت معاوية كانت مرحلة لم يجد الإمام الحسين(ع) خلالها أية فصة للانتفاض، باعتبار أنه كان قد وقّع مع أخيه الحسن(ع) على أن لا يتحرك أية حركة في مواجهة معاوية نتيجة الصلح أو الهدنة.
حياته مع أبيه(ع):
وقد عاش مع أبيه الإمام الحسين(ع)، ونحن نعرف وإن لم ينقل لنا التاريخ تفاصيل ذلك، أن شخصاً كعلي بن الحسين(ع) أُعدّ للإمامة من بعد أبيه، لا بد أن يعيش مع أبيه الليل والنهار في كل الآفا التي يريد أن يضعه فيها في كل جوانب مسؤوليته، ونستطيع أن نستوحي أن علي بن الحسين اختزن كل أبيه في عقله وفي قلبه، وبذلك رأينا الإمام زين العابدين(ع) في كربلاء من أكثر الرجال صلابة، فعندما نحدّق في داخل كربلاء في المصادر الموثوقة منها فإنا لا نجد أن زين العابدين(ع) واجه أي موقف بالجزع أو الحزن البارز الذي يعبر عن نفسه بهذا الطريقة الحادة، بل إننا نراه يستمع إلى أبيه وهو ينعى نفسه إلى أخته السيدة زينب(ع) وتخنقه العبرة ويحبس حزنه في صدره.
الصلب في مواقفه:
وبعد شهادة الإمام الحسين(ع) كان الصلب في مواقفه، والذي كان يتابع البقية الباقية من نساء الحسين(ع) ونساء أهل بيته وأصحابه، وإذا كانت العاطفة تدعو الذين يريدون أن يستنزفوها إلى أن يتحدثوا عن صيحة جزع أو صيحة ذلّ، فإننا نعتقد أن عليهم أن يتراجعوا عن ذلك حتى لا يخفّضوا المكانة الحقيقية لسجاد(ع).
ولذلك، فإن ما يُقال عن لسان حاله لا يمثل عندما يتحدث البعض باسمه أو عنه.
أُقادُ ذليلاً في دمشق كأنني من الروم عبدٌ ضاع عنه نصيرُ
إن الإمام السجاد(ع) في مواقفه لم يخضع لأية حال ذلّ، والشعر الذي تحدث عنه بهذه الطريقة لم يكن شعراً ينطلق من الواقع، ولكنه ينطلق من إحساس الشعراء في تمثيلهم الجانب العاطفي، إذ لم ينقل لنا التاريخ من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام أن الإمام السجاد(ع) تحدث بطريقة جازعة، فنحن نعرف أنه عندما كان في مجلس عبيد الله بن زياد واجه ذلك الطاغية بالكلمة الصلبة حينما قال: "أبالقتل تهددني يابن زياد، أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة".
وقد رأيناه في مجلس يزيد وفي الطريق إليه عندما يستمع إلى ذلك الشيخ وهو يقول: الحمدالله الذي فضحكم وخذلكم ونصر أمير المؤمنين يزيد عليكم، نراه يقف بكل هدوء وبكل عقلانية وبكل صلابة ليفتح عقل هذا الشيخ على الحقيقة التي ضاعت منه بفعل الدعاية الأموية المضادة عندما يقول له: هل قرأت هذه الآية: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}( )، فقال: نعم، قال(ع): من هم؟ فقال محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، قال: هل قرأت هذه الآية: {قل لا أسألكُم عليه أجراً إلا المودّة في القربى}( )، ويقول أيضاً إنهم هم، وينكشف الغطاء عن قلب هذا الشيخ ليعتذر للإمام زين العابدين(ع) وليبدل موقفه.
حزن السجاد(ع):
وهكذا لاحظنا أن حزن زين العابدين(ع) الذي كان يختزنه في عقله وفي قلبه أعمق ما يكون، وإنني لا أتصور حزناً لإنسان أعمق من حزن هذا الإمام، لأن القضية ليست مجرد قضية أن يقتل أبوه أو يقتل أخوه، ولكن المسألة هي أنه في عتدة ساعات تتمثل المجزرة أمامه بكل وحشيتها وبكل همجيتها وبكل أحزانها، وثمة فرق بين الإنسان الذي تأتيه المشكلة دفعة واحدة وبين من تأتيه لتأكل إحساسه لحظة لحظة بحيث أنها تأكل قلبه وتأكل إحساسه وكل مشاعره.
وهكذا عندما يرى مشهد النساء المروعات.. مشهد وحشية بني أمية ووحشية جيشهم عندما يقوم كل هؤلاء الجبناء بإحراق الخيم وفيها النساء والأطفال، ويرى بأم عينه كيف أنهن ينطلقن من خيمة إلى خيمة فتحرق الخيمة وينتقلن إلى خيمة ثانية وثالثة ويفررن على وجوههن في البيداء، ثم يتابع مسألة السبي بكل مشاعره وأحاسيسه لكنه كان الصلب في كل ذلك.
وبعد ذلك عمل على أن يخلّد هذا الحزن لكربلاء ليكون خطاً في الزمن، وأن يحركه من أجل أن يفترس كل هذه الأعماق التي شاركت في المجزرة وفي الجريمة بعقدة الضمير وأن يجعل الأمة التي خذلت الإمام الحسين(ع)، بالإضافة إلى الأمة التي حاربته تستيقظ من تلك الرقدة الشيطانية التي أحاطت بها فجعلت قلوب قومه معه وسيوفهم عليه، وجعلت قوماً يعيشون الحياد بينه وبين خصومه.
من هنا ـ أيها الأحبة ـ نفسّر حزن زين العابدين(ع) على أبيه الحسين والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه على أنه كان حزناً إنسانياً ليعبّر فيه عن إنسانيته وعن ذكرياته الأليمة لمشاهد الواقعة التي تقطّع نياط القلب "ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وذكرتُ فرارهنّ يوم كربلاء من خيمة إلى خيمة، أو "هل سمعت أذناك أو رأت عيناك هاشمية سبية لنا قبل يوم عاشوراء" فمن الطبيعي أن يحفر الحزن في قلبه، كأي إنسان يتمثل المأساة بكل أعصابه وبكل مشاعره، ولا بد أن يعيشها في نفسه، لأن الله يريد للإنسان أن يعيش عاطفته اتباعاً لسنّة رسول الله(ص) عندما مات ولده إبراهيم "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما لا يرضي الله، وإنا لفقدك يا إبراهيم لمحزونون"، هكذا كانت عاطفة زين العابدين(ع) هادئة حزينة، الحزن الذي يتمثل في بعض دموعه وفي بعض كلماته بحيث أن الذي يقف أمامه يخشع في هذا المشهد.
طريقته(ع) في تأجيج الحزن:
وكان أيضاً يحرك الحزن من أجل أن يثير الذكرى في نفوس الناس فيقف في سوق القصابين ليسأل القصّاب وهو يريد أن يذبح الكبش "هل سقيته الماء؟" فيقول إنا معاشر القصّابين لا نذبح كبشاً إلا بعد أن نسقيه الماء، ويلفت الإمام نظر الناس في السوق إلى كربلاء ليحدث أباه الحسين "ولكنك ذُبحتَ ظمآناً يا أبا عبدالله" لينبّه الناس وليثيرهم في السوق وهم مشغولون بالبيع والشراء والمماكسة، وإذا بالسوق يمتلئ بكربلاء من خلال هذه اللفتة السجادية الحزينة.
لكن المؤرخين ظلموا زين العابدين(ع) عندما تحدثوا عن أنه ما وضع بين يديه طعام أو شراب إلا وملأه بدموع عينيه، وعندما كانوا يتحدثون عن أنه كان يقضي وقته باكياً، حتى أن بعض قريباته يأتين لبعض أصحابه ليطلبن منهم أن يأتوا لينصحوا زين العابدين في الكفّ عن ذلك، فأي إهانة للإمام تلك، وهو الذي يعلّم الناس كيف يصبرون وكيف يواجهون المصيبة بكل صبرهم وبكل احتسابهم لله.
إنني لا أستطيع أن أتصور زين العابدين(ع) بهذه الصورة، فنحن نعرف أنه(ع) بكى من خلال هذه العاطفة الإنسانية وبكى من خلال أن يثير في بكائه الذكرى لتمتد في خط العاطفة من خلال البكاء، ولكنه لم يخرج عن التوازن إلى درجة أن يُقال له أنك تريد أن تقتل نفسك حتى تكون حرضاً أو ت كون من الهالكين، وربما عاتبه بعض الناس وتحدث معه فذكر لهم يعقوب ولكن يبقى الإمام إماماً في حزنه كما هو إمام في كل خطوط إمامته، لأن الإمام يمثل القدوة في الحزن في توازن الحزن، كما يمثل القدوة في الصبر في عمق الصبر في داخل حياته.
خلال مدة إمامته:
وقد بدأ الإمام زين العابدين(ع) حركة إمامته، فعمل على أن يحيط بالمشكلة الموجودة في الواقع الإسلامي من كل جوانبها، وكانت المسألة المطروحة في الساحة الإسلامية منذ بداية الحكم الأموي هي إبعاد المسلمين عن الأسس الإسلامية الفكرية الثقافية للعقيدة وللشريعة وللمفاهيم العامة للإسلام وللمنهج في التفكير والمنهج في السلوك والمنهج في حركة المسؤولية.
كان الحكم الأموي يريد أن يبعد الناس عن الجانب الثقافي، ولذلك عندما ندرس عهد معاوية وعهد يزيد ومرحلة ما بعدهم فإننا لا نجد أن هناك تخطيطاً ثقافياً للدولة بحيث أنها تشجّع الحركة الثقافية الحضارية، لذلك استطاع الأمويون بفعل هذا النوع من الحصار الثقافي جعل عقول المسلمين فارغة، حتى أن الكثيرين منهم نسوا الثقافة التي كان يثقفهم بها أمير المؤمنين علي(ع) الذي كان يتألم لأنه يملك العلم كله لقوله: "علمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب" والذي قال رسول الله فيه: "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها"، وكان يقول هو نفسه "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض"، وينطلق إنسان تافه ليقول له كم شعرة في رأسي، وكان يقول وهو يخرج إلى ظهر الكوفة وتيألم ويتأوّه "إنّ ها هنا" ويشير إلى صدره "لعلماً جماً لو وجدت له حملة".
أرجع فأقول: كانت الخطة هي تجهيل المسلمين، لأن أمثال معاوية وأمثال يزيد لا يمكن أن يسيطروا على مجتمع يملك وعي العلم وسعة المعرفة وعمق التقوى وأصالة المسؤولية وامتدادها.. للك بدأ الإمام زين العابدين(ع) حركته الفكرية العلمية كأوسع ما تكون الحركة مما يبعد الفكرة التي تقول إن أسلوب زين العابدين(ع) كان أسلوب الدعاء فحسب.
شهادات معاصريه( ):
لنقرأ شهادات الذين كانوا في عصره أو قريباً من عصره، قال (الزهري) وهو من كبار رجال الثقافة في ذلك العصر، ولم يكن شيعياً وكان مصاحباً للإمام زين العابدين(ع) حتى أنه يروي عنه الكثير، قال الزهري "ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين ولا أفقه منه"، وقال في كلام آخر "ما رأيت قرشياً أفضل منه"، وقال الإمام مالك "سمي زين العابدين لكثرة عبادته"، وقال سفيان بن عيينه "ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه"، وعدّ الإمام الشافعي علي بن الحسين "أفقه أهل المدينة" حتى أن بعض خلفاء بني أمية قالوا كما ذكر ذلك عن عبد الملك بن مروان وهو يخاطب الإمام زين العابدين "ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك من أجدادك وآبائك".
كما نجد أن بعض القرّاء يقول "كان القرّاء لا يخرجون إلى مكة إلا إذا خرج معهم زين العابدين وانتظروه في وقت حتى خرج، فخرج معه ألف راكب من القرّاء"، لذلك لم نجد في مجتمعه أو في مرحلته أي شخص يمكن أن يتحدث عنه بطريقة سلبية، وقد ذكر عنه الزهري، وقد سأله شخص يمكن أن يتحدث عنه بطريقة سلبية، وقد ذكر عنه الزهري، وقد سأله شخص هل لقيت علي بن الحسين(ع)؟ يقول: "لقيت علي بن الحسين وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانية، فقيل له وكيف ذلك؟ قال لأني لم أجد أحداً وإن كان يحبه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه".
تراثه المتنوّع:
كما لاحظنا من خلال التراث الذي تركه الإمام زين العابدين(ع) في مختلف ألوان المعرفة في ذلك العصر سواء في جوانب العقيدة أو في جوانب الفقه وفي الجوانب الأخلاقية وفيما كان يُثار من بعض المشاكل والمفاهيم القلقة في الواقع الإسلامي، لقد ملأ الحياة الإسلامية علماً، وإذا كنّا نحدّق بالناس الذين رووا عنه وأخذوا منه، فإننا نرى أن فيهم المؤرخين ومنهم (الطبري)، وأن هناك المؤلفين في المواعظ، وأن هناك الكثير من الفقهاء حتى قال (الشيخ المفيد) لقد أخذ الفقهاء من علي بن الحسين ما لم يحصَ من الفقه مما يعني أننا لو أردنا أن ندرس حجم تلامذته فإننا نجد أنهم كانوا يمثلون النخبة في تلك المرحلة من ناحيةفنون المعرفة الإسلامية، ولذلك استطاع الإمام أن يقوم بثورة ثقافية ـ كما نعبّر هذه الأيام ـ بحيث استطاع أن يجعل المجتمع الإسلامي يختزن ثقافة الإسلام من جديد، وبذلك كان الامتداد لآبائه في هذا الاتجاه.
ولاحظ(ع) من خلال التجربة التي عاشها مع الإمام الحسين(ع) في كربلاء مع هؤلاء الذين أعطوه مواثيقهم وجرّدوا سيوفهم ليقتلوه حيث عبّر عنهم الفرزدق أبلغ تعبير وقال: "إن قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، لماذا ذلك إذا كانت قلوبهم معك، فكيف سمحت قلوبهم لسيوفهم أن تجرد لتقتل هذا لمحبوب الذي يعيش في أعماق القلب حباً، ليس ذلك إلا لأن الشيطان أعمى بصيرتهم، ولأن أطماعهم جعلتهم يفضلون شهواتهم ورغباتهم على مبادئهم وليس ذلك إلا من جهة أنهم {نسوا الله فأنساهم أنفسهم}( ) وإلا من جهة أنهم ابتعدوا عن خط التقوى وأنهم لم يعيشوا روحانية الإسلام ولم يعيشوا معنى الابتهال لله والذوبان لله والإحساس بحضور الله سبحانه وتعالى.
منهج الدعاء:
وبذلك كان الدعاء هو المنهج الذي تركه الإمام زين العابدين(ع) وكان يمارسه أمام الناس، هناك فرق بين أن تكتب دعاء وتقدمه للناس وبين أنك تعيش هذا الدعاء في نفسك وتتحدث وتبتهل إلى الله به والناس من حولك، إنك بذلك تعطيهم إيحاءً من خلال هذا الجوّ الروحاني الذي ينطلق من دعاء شخص كزين العابدين(ع) كيف يكون دعاؤه كدعاء أبيه عندما دعا في يوم عرفة.. وقال الراوي لقد شعرنا أن كل من حولنا وما حولنا يبكي خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ولذلك استطاع الإمام زين العابدين(ع) أن يموّن تلك المرحلة بهذه الثروة الدعائية المتنوعة التي تقتحم على الإنسان كل حياته فنراه، في أية حالة فردية أو اجتماعية عامة أو خاصة، يدعو الله سبحانه وتعالى.
ونجد في (الصحيفة السجادية) وفيما تركه الإمام زين العابدين من الدعاء خارج الصحيفة السجادية، كدعاء أبي حمزة الثمالي وما إلى ذلك، نجد أن هذا الدعاء يغني كل حاجات الإنسان للحديث مع الله سبحانه وتعالى، ولو قرأنا أدعية الإمام زين العابدين لراينا أنها ليست مجرد أدعية ابتهالية روحية في المطلق، ولكنها أدعية مثقّفة باعتبار أنها تشتمل على الكثير من المفاهيم الإسلامية في الواقع الداخلي للإنسان، وفي الواقع الخارجي له، وفي علاقته بأقرب الناس إليه، وبأبعد الناس عنه، في نظرته إلى المال، وفي وظيفته، ونظرته إل أهل المال ومكانتهم، ونظرته إلى الفقراء وإلى الأغنياء، ونظرته إلى قضية العدل والظلم، ونظرته إلى التخطيط في الزمن، كيف يكون زمناً إسلامياً، ونظرته إلى حالة الصراع بين المسلمين وغيرهم، فيقف من أجل أن يدعو لأهل الثغور بالرغم من أنهم لم يكونوا من شيعته لأن قضيةالإسلام كانت كل قضيته.
ومن هنا، ملأ الإمام زين العابدين(ع) هذا الفراغ الروحي بكل هذا الامتلاء والغنى الروحي، ولا نزال نتغذى من مائدة هذا الإمام العظيم في الصحيفة السجادية وغيرها، ونشعر كما لو كانت هذه الأدعية هي أدعية مرحلتنا لأنها ليست أدعية زمن معين أو شخص معين، ولكنها أدعية الإنسان كله والحياة كلها.
رسالة الحقوق:
وقد عاش الإمام زين العابدين(ع) في مجتمعه فرأى أن مشكلة المجتمع هو أن الله فرض حقوقاً للناس وفرض حقوقاً على الناس، سواء في المستويات العامة أو الخاصة، كحقوق الحاكم والمحكوم، وحقوق الأب والأم والأولاد، وحقوق الجسد في كل حواسه، وحقوق المجتمع في حركته الثقافية، كحقوق المعلم والمتعلم والقاضي.
وقد أراد(ع) أن يثقف الأمة بالحقوق الشرعية التي تترتب على كل إنسان تجاه الإنسان الآخر حتى يتوازن الناس في علاقاتهم ببعضهم، بحيث يعرف كل إنسان عندما يعيش مع أبيه وأمه ومع أولاده وزوجته، والزوجة مع زوجها، والمحكوم مع الحاكم ومع القاضي والمعلم والمتعلم والمسلمين كافة ومع أهل الذمة حتى يعرف الإنسان ما له وما عليه.
ولعل مشكلة الناس ـ أيها الأحبة ـ في العالم على مستوى الدول والشعوب والعلاقات الفردية، هي أنهم لا يعيشون التوازن فيما لهم وفيما عليهم، لأن بعض الناس يرى أن له الحق على الناس وليس للناس حق عليه، ومن هنا يبدأ الاهتزاز.
ففي الحياة الزوجية قد يعتقد الزوج أن له كل الحق على زوجته وليس لزوجته حق عليه، وبذلك يختل التوازن، وقد يتصور الأب أن له كل الحق على أولاده وليس لأولاده الحق عليه، أو يتصور الحاكم أن له كل الحق على شعبه، وليس لشعبه حق عليه.. وما إلى ذلك. فمشكلة الإنسانية ـ منذ أن كانت ولحدّ الآن ـ هي مشكلة الناس الذين يعتبرون أن لهم وحدهم الحق وليس عليهم أي حق.
وعلى هذا، كان الإمام زين العابدين(ع) يحدّد في (رسالة الحقوق) لكل إنسان ما له من الحق وما عليه من الحق، وأعتقد أن من الضروري لكل إنسان ـ ولا أقول لكل مسلم أو شيعي ـ أن يعتبر رسالة الحقوق رسالته التي يقرأ فيها صباح مساء حتى يوازن حركته في المجتمع أو مع نفسه وقبل ذلك، حركته مع ربه، ليعرف حقّ ربّه عليه وحقه الذي فرضه الله على نفسه له، وحق جسده عليه وما إلى ذلك.
قرآن يتحرك:
وكان الإمام زين العابدي(ع) قرآناً يتحرك، فكان يحدّث عن العفو وكان يمارس العفو كأصفى وأعمق ما يكون، وكان يتحدث عن عتق العبيد وتحريرهم، وكان يبذل أكثر ماله في ذلك بعد أن يربيهم تربية إسلامية، وبعد أن يرتفع بإنسانيتهم وبعد أن يشعرهم أنه هو وإياهم سواء، ليس له أية ميزة عليهم وهو الذي له الميزة كلها وعلى الناس كافة من خلال قربه من الله تعالى.
أيها الأحبة، إن زين العابدين(ع) استطاع أن يملأ المرحلة التي عاشها علماً وروحاً وثقافةً وأخلاقاً وقدوةً، بحيث كان التجسيد للإسلام كله حتى أنه عندما أرادنا أن نحبّه وأن نحبّ أهل بيته قال: "أحبّونا حبّ الإسلام" وبذلك نستطيع أن نقول إن الإمام زين العابدين(ع) استطاع أن يملأ مرحلته الثقافية والروحية والفقهية والحركية بما مهّد لمرحلة الإمامين الباقر والصادق(ع)، فلم يأتِ الإمام الباقر(ع) من فراغ، ولم يأتِ الإمام الصادق(ع) من فراغ، بل جاءا وقد فرش لهما الإمام زين العابدين(ع) الأرض كلها بما يجعل مهمتهم أكثر سهولةً وواقعيةً وامتداداً، فلا تتصوروا الإمام زين العابدين(ع) في م وقع الإنسان الذي لا يعرف إلا أن يبكي، ولكن في موقع الإنسان الذي يعرف القيام بالمسؤولية كلها.
وفي نهاية المطاف، قولوا للذين يتحدثون عن زين العابدين(ع) بلهجة الذلّ أنه كان يقول "ما أحبّ أن يكون لي بذلّ نفسي حمر النعم" فلقد كان العزيز بعزّة الله، وهو القائل "واعصمني من أن أظنّ بذي عدم خساسة، أو أظنّ بصاحب ثروة فضلاً فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزّته عبادتك".
ونبقى مع زين العابدين(ع) ومع أهل البيت(ع) لأنهم أهل بيت النوبة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل، ولأنهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فتعالوا لنعيش معهم جميعاً حتى نذهب عن عقولنا الكثير من رجل الباطل، وعن قلوبنا الكثير من رجس الحقد، وعن حياتنا الكثير من رجس المعصية لله، لنعيش طهارة الإسلام في طهارتهم. والحمدلله رب العالمين.
الباب الثاني
مسائل الندوة
المسائل القرآنية
ـ أولاً: التفسير.
ـ ثانياً: مسائل عامة.
أولاً التفسير
موازنة الوجل والاطمئنان:
ـ يقول تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم}( ) ويقول أيضاً: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}( ) فكيف يمكن لنا أن نوازن بين هاتين الآيتين؟
ـ المراد بـ{وجلت قلوبهم} الإحساس بعظمة الله، فإذا أحسّ الإنسان بعظمة الله وبقوله اطمأن قلبه باعتبار أنه يعيش في رعاية الله وفي حمايته.
الهداية بعد الاستشهاد:
ـ يقول تعالى: {والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضل أعمالهم* سيهديهم ويصلح بالهم* ويدخلهم الجنة عرّفها لهم}( )، فما المقصود بالهداية بعد قتلهم؟
ـ تكون هداية إل رضوانه عز وجل، وقد تكون الهداية إلى ما يجعلهم يشعرون بالراحة والطمأنينة وما إلى ذلك، لأن هداية كل شيء بحسبه.
اللغو في الأيمان:
ـ ما معنى قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم}( )؟
ـ معناها ـ والله أعلم ـ أن الإنسان قد تصدر عنه كلمات عفوية من قبيل (والله كذا وكذا) وكذا الكلام الذي لا ينطلق من الحلف الحقيقي بل على أساس أن لسانه تعوّد ذلك من دون أن يقصد ذلك في نفسه، فالله يقول لا يؤاخذكم في ذلك.
مكر الله:
ـ ما المقصود بهذه الآية: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}( )، فهل يمكن أن يمكر الله؟
ـ ما هو المكر؟ إنه التدبير بخفاء، وليس معناه الحيلة الملتوية، ولما كان التدبير بخفاء غالباً ما يكون في الأمور السيئة، لهذا أخذت كلمة "المكر" المعنى السلبي في التدبير، وإلا فهي بحسب معناها اللغوي، التدبير بخفاء، فقد يكون تدبيراً بخير وقد يكون تدبيراً بشرّ، وقد يكون ردّ فعل للشر، وقد يكون إنتاجاً للخير.
تحريم النبي(ص) بعض الأشياء على نفسه:
ـ يقول تعالى: {يا أيها النبيّ لِمَ تحرِّم ما أحلَّ الله لك}( )، فهل يجوز للنبي أن يحرّم على نفسه بعض الأشياء، وهل يكون ذلك سنّة؟
ـ {لِمَ تحرِّم}، تعني لم تمنع نفسك، فهناك أشياء كثيرة محلّلة، لكنّ الإنسان يمنع نفسه من أكل الرزّ أو السمن أو السكر، كما أن هناك بعض النباتيين لا يأكل اللحم، فهذا ليس حراماً بمعنى الحرمة، ولكنه منع نفسه من تناولها، كما قد يصنع أحدهم (ريجيماً) ليخفف من بدانته فلا يتناول قائمة من الأطعمة المباحة.
فالنبي(ص) لا ينطق عن الهوى، ولا يحرّم ما أحلّه الله له، ولكن المقصود من {لِمَ تحرّم} لِمَ تمنع نفسك من ذلك، ففي السيرة أن إنسانية النبي(ص) كانت تمنعه من أن يقدم نفسه على أهله في بعض المأكولات التي لا تحبها زوجاته، فهو يحرم نفسه مما يشتهي لأجل أن يكون كما قال "خيركُم خيركُم لأهله، وأنا خيركُم لأهلي"( )، وفي الحديث الشريف: "المؤمن يأكل بشهوة أهله والمنافق يأكل أهله بشهوته"( ).
لسان الصدق:
ـ قال تعالى: {وجعلنا لهم لسان صدقٍ عليّا}( )، فما المقصود بلسان الصدق؟
ـ الظاهر ـ واله العالم ـ أن المصود هو ما يتحدث به الناس عن فضائلهم وعمّا يتصل بهم مما يجعل الناس يحترمونهم {واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين}( ).
الفواحش الباطنة:
ـ يقول تعالى: {قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن}( )، فأرجو توضيح معنى الآية وخاصة ما بطن من الفواحش؟
ـ تقول بعض التفسيرات أن المراد بـ{ما بطن} من الفواحش مم لم يكن متعارفاً عند الناس، كما كان يحدث في الجاهلية من زواج الإنسان بامرأة أبيه، وما إلى ذلك من الأمور التي لم تكن متعارفة عند الناس.
الموت مسلمين:
ـ يقول تعالى: {ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}( )، فما المقصود بذلك والخطاب هو للمؤمنين؟
ـ هذا صحيح، فأنت الآن مسلم ولكن من ذا الذي يضمن لك أنك سوف تمتد في إسلامك إلى نهاية حياتك، فبعض الناس قد يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ولذلك ترانا نطلب من الله سبحانه وتعالى حسن العاقبة، وفي الدعاء: "اللهم اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، واجعل خير أعمالي خواتيمها، وخير أيامي يوم ألقاك فيه"، ولقد حدثنا التاريخ عن أناس كانوا من الفضلاء في الإيمان، ثم كيف أصبحوا، فالإنسان يدعو الله دائماً بأن يحفظ له إيمانه.
انصراف "الإثم" إلى الضرر:
ـ هل هناك قرينة لغوية لصرف معنى كلمة "إثم" القرآنية إلى الضرر، وذلك في الآية المباركة {وإثمهما أكبر من نفعهما}( )؟
ـ يقول اللغويون أن المراد من كلمة "الإثم" هو الأفعال المبطّئة عن الخير أو المبطّئة عن الثواب، فكل ما يكون مبطئاً أي مانعاً عن الخير فهو يحمل في داخله معنى الضرر، ثم أن المقابلة بين المنافع والإثم قرينة أخرى تعنى أن الإثم يعني الضرر.
التوبة على النبي(ص):
ـ يقول تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار}( )، فما معنى التوبة على النبي؟
ـ إن النبي(ص) لا يذنب فهو المعصوم لأنه هو الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليهديهم إلى صراط العزيز الحميد، فلا يمكن أن يكون المنحرف عنه في قول أو فعل.
ولكن الله يتحدث عن ا لنبي(ص) في داخل مجتمعه، فالنبي لا يخطئ ولكن المهاجرين والأنصار عاشوا بعض الأخطاء، وكان النبي معهم، وربما كان ذكر النبي من خلال ذلك.
وربما كانت التوبة في معناها لا تختزن معنى الذنب، بل نتائج التوبة، لأن نتائجها هي الرضا والمحبة، كما في قوله تعالى {رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم}( )، والله العالم بحقائق آياته.
حبّ الشهوات:
ـ يقول تعالى {زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين}( )، كيف يكون المقصود من هذه الآية النساء، ع لماً أنهن من الناس وحبّ الشهوة في كل جنس إزاء الآخر؟
ـ في القرآن الكريم ـ كما هو الأمر في الواقع الذي نزل فيه القرآن ـ لا يجري الحديث عن شهوة المرأة، وإنما يُتحدث عن شهوة الرجل، ولا نزال في مجتمعاتنا المحافظة لا نرتاح للحديث عن شهوة المرأة للرجل حتى أننا نرفض أن تتقدم امرأة إلى الرجل لتقول له إنني أريد أن أتزوجك.
بينما ينطلق الواقع التقليدي في قول الرجل للمرأة أريد أن أتزوجك، ومن الطبيعي أن تطلب المرأة ذلك، إلا أن الحديث عن حبّ الشهوات من النساء والرجال معاً لم يكن مألوفا، حيث أنزل الله القرآن باللغة التي يتقبّلها الناس ولا تصدمهم في مثل هذه الأمور، فهناك وسائل أخرى تحدّث الله ونبيّه فيها عن هذا المعنى.
وربما يكون حبّ النساء وهو علاقة رجل وامرأة يختزن شيئاً من استجابة المرأة لذلك بفعل غريزتها.
المساجد لله:
ـ ما معنى قوله تعالى: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}( )؟
ـ المساجد في الظاهر منها هي مواقع السجود، فعلى الإنسان عندما يسجد أن يكون سجوده لله لا لغيره.
وهناك رواية عن الإمام الجواد(ع) في تفسيره للمساجد بأنها المساجد السبعة التي يستجد عليها الإنسان، وفي الرواية مناقشة من جهة السند.
إلباس الحق بالباطل:
يقول تعالى: {لِمَ تلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون}( )، فكيف يلبس الحق بالباطل؟
ـ ذلك بأن يمزج الحق بالباطل حيث يأخذ شيئاً من الحق وشيئاً من الباطل فيقدم للناس، بحي ثيتبعون الباطل من خلال صورة الحق، وهذا ما ينطلق في كثير من الحالات، كما توحي به مقولة الإمام علي(ع): "كلمة حقٍ يُراد بها باطل"( ).
هدىً للمتقين:
يقول تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين}( )، فلماذا يكون القرآن هدىً للمتقين تحديداً؟
ـ إنه هدىً لكل الناس، ولكن غير المتقين لا يقرأونه ولا يتدبرونه ولا يلتزمون به، وهو القائل {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}( )، أما المتقون فهم الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة ويخافون الله، ولذلك فإنهم ينفتحون على القرآن {وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربّهم يتوكلون}( ).
وإنما ذكر أن القرآن هدىً للمتقين لأنهم هم الذين يملكون الإرادة في الاهتداء بالقرآن، بينما لا يملك ذلك الكافرون المنافقون.
فرح المخلّفين:
ـ يقول الله تعالى {فرِح المخلّفون بمقعدهم خلاف رسول الله}( )، فهو يقرر فرح هؤلاء لتخلّفهم عن رسول الله، فما معنى هذا الفرح؟
ـ لأنهم كانوا يخافون من الخطر في السير مع رسول الله(ص) للتوجه نحو المعركة، وكانوا من المنافقين الذين لا يحبون طاعة رسول الله(ص)، ولذلك كانوا يلتمسون العذر، وعندما وجدوا أن هناك شيئاً من العذر فرحوا بذلك لأنهم حصلوا على السلامة من جهة، وعلى العذر من الجهة الأخرى.
علم أهل الذكر:
ـ ما هو العلم الذي يقول عنه تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}( )؟
ـ المقصود في هذه الآية ما يتصل بنبوة النبي(ص) وذلك بحسب ما يأتي بعدها {إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر}( ). ولكنها لا تختص بهذا وإن نزلت فيه، بل إن الله يريد منا أن نسأل أهل الذكر أي أهل الخبرة في القرآن بكل ما يتصل بمعلوماتنا.
ولكن الله تعالى أطلق مسألة العلم أيضاً في قوله تعالى {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}( ) سواء ما يحتاجه الإنسان في علم الدين أو علم الدنيا، وطريق الإيمان يمر بالعلم لأن الإنسان إذا عرف أسرار عظمة الله في خلق الله ازداد علمه.
أي العلماء هم؟:
ـ من هو العالم الذي نستوحيه من قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء}( )، ومن هم في قول الرسول(ص) (العلماء ورثة الأنبياء)؟
ـ هم الذين يملكون العلم الذي يعرّفهم بالله أكثر، وأما قوله: (العلماء ورثة الأنبياء) فهم الذين يحملون علم الأنبياء ورسالاتهم.
ثانياً: مسائل عامة
الاقتران بطاعة الله:
ـ ورد في النصوص الإسلامية سواء في القرآن أو في السنّة ما يظهر منه جواز قرن أسماء أخرى مع اسم الله عز وجل، كما في الآيات الآمرة بالطاعة لله وللرسول، فما هو الفرق بين هذا المورد وأمثاله وبين المورد الذي تحدثتم عنه؟
ـ لقد تحدثت عن التوجّه إلى الله في شؤوننا، بأن لا ندعو إلا الله، وأن نعتبر الجميع مكلّفين من قبل الله تعالى فيما أوكل إليهم أمره مما أعطاهم من قدرات ومن معجزات ومن كرامات وغيرها؟ بشكل لا ينافي الاختيار.
أما قوله {أطيعوا الله ورسوله}( )، فالأمر بطاعة الرسول(ص) بصفته رسولاً لله، فلم يقل (أطيعوا الله وفلاناً) فلو فرضنا أنه قال: أطيعوا الله ومحمداً(ص)، أو أطيعوا الله وموسى(ع) أو إبراهيم(ع)، بالمعنى الذاتي للمسألة بحيث كانت هناك طاعة لهذا الشخص تختلف عن طاعة الله، فعند ذلك يمكن أن يكون رداً على ما قلناه، لكنه قال {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}( ).
وفي آية أخرى يقول {من يطع الرسول فقد أطاع الله}( )، لأن الرسول لا يتحدث بشخصه ولكنه يتحدث برسالته، سواء بتلك التي أوكل الله إليه إبلاغها وهي القرآن، أو برسالته التي ألهمه الله إياها وأراد له أن يقوم بها من خلال الله وهي السنّة فيما سنّه رسول الله(ص) مما أوكله الله تعالى إليه.
فليس هناك طاعتان، إنما هي طاعة واحدة وهي طاعة الله تعالى، أما طاعة الرسول فمن خلال أنه يؤدي عن الله سبحانه وتعالى، أي أطيعوا الله في كتابه وأطيعوا الرسول في سنّته وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من موقع الولاية التي ولاّها الله له {قل إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله}( )، {فاتبعوني} تعني أنه يؤدي عن الله سبحانه وتعالى، فإذا اتبعتم الرسول(ص) فقد اتبعتم الله، وإذا اتبعتم الله فإنه يعطيكم الأجر، وهذا هو الفرق بين الأمرين.
خطاب القرآن للزوج دون الزوجة:
كثيراً ما نجد القرآن الكريم يوجه خطابه للزوج اتجاه زوجته، لكننا لا نرى آية واحدة توجه خطابها للزوجة اتجاه زوجها، فلماذا؟
ـ باعتبار أن الجانب القوي في العلاقة هو الزوج من خلال أنه قوّام {الرجال قوّامون على النساء} في الحياة الزوجية، ولأن الرجل هو الذي يراد له أن يؤدي حقوق زوجته، لأنه ـ والله العالم ـ العنصر الأقوى واقعياً في الحياة الزوجية، ولذلك توجه الله تعالى إليه حتى لا يسيء الإحساس بقوته لزوجته، أما الزوجة فهي العنصر الضعيف هنا، ومع ذلك فإن الله تعالى تحدّث أيضاً عن حق الزوجة بقوله {ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة}( )، كما تحدث عن حق الرجل إزاء زوجته، وما أكثر الأحاديث التي تحدثت عن حق الزوج على الزوجة.
الخطاب إلى المؤمنين تحديداً:
ـ من المعروف أن الله سبحانه وتعالى يخاطب في القرآن المؤمنين، فيقول: {يا أيها الذين آمنوا}، ولا ينادي الذين أسلموا، فما هي الحكمة من ذلك؟
ـ يقول سبحانه وتعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}( )، فالإسلام بحسب المعنى العام يتصل بالجانب العملي، أي أنك تلتزم بأحكام الإسلام باعتبار أن السلطة أو الدولة الإسلامية تفرض عليك ذلك، وهذا ينطبق على الذين دخلوا الإسلام رغبةً أو رهبةً فهم مسلمون بالكلمة ومسلمون بالالتزام الخارجي ولكنهم ليسوا مسلمين في العمق.
لذلك يخاطب الله الذين آمنوا لأنه يريد أن يستثير إيمانهم للالتزام بما يأمرهم به {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} فإن الإيمان هو عمق الإسلام وإلا فلا فرق بين الإسلام بمعناه العقلي والنفسي وبين الإيمان، ولذلك أراد الله لنبيّه أن يقول {وأُمرتُ أن أكون من المسلمين}( )، أول المسلمين عقلاً، وأولهم قلباً، وأولهم عملاً.
عاطفة نوح إزاء ابنه:
ـ الا نفهم من قصة نوح مع ابنه أنه لم يتخلَّ عنه حتى آخر لحظة وهو يعظه ويذكّره، وأن هذه هي وظيفة الأب التربوية رغم كفر ابنه؟
ـ بالنسبة لعاطفة الأب تجاه ابنه هي أن ينقذه من نار جهنم، وأن يخلّصه من غضب الله، وأن يخطّط له حياته على أساس أن تكون في طاعة الله سبحانه وتعالى، لأن في ذلك سعادة الدنيا والآخرة.
وقد كان نوح النبي(ع) ينطلق مع ابنه من خلال هذه العاطفة الأبوية الممتزجة بالعاطفة الرسالية، فإن الله سبحانه وتعالى يريد للأب أن يبقى مع مشاعره الأبوية حيال ولده، لكنه لا يريد لها أن تطغى على الجانب الرسالي، لذلك كان حديث نوح(ع) مع ولده حديث الأب الرسول، ولم يكن مجرد حديث الأب إلى الابن، وهذا ما ينبغي أن نعيشه بأن تكون علاقاتنا بأبنائنا علاقة دعويّة إسلامية، بالإضافة إلى العلاقة الأبوية العاطفية بأن تعيش مع ولدك كمسلم يريد أن يجعله سائراً في خط الإسلام كما يفكر كأب يريد أن يحفظ له حياته ومستقبله.
بين البيت وساحة الصراع:
ـ كيف توفقون بين نزول المرأة إلى ساحة الصراع وهذه الآية الكريمة: {وقِرْنَ في بيوتكنّ ولا تبرّجنَ تبرّج الجاهلية الأولى}( )؟
ـ أولاً إن الخطاب في الآية هو لنساء النبي(ص) وكان لذلك وضع معين من حيث علاقة المسلمين بنساء النبي(ص) وعلاقة هؤلاء النساء بالمسلمين، وهناك تفسير آخر وهو أن معنى {وقرْنَ في بيوتكُنّ ولا تبرّجن} أي لا تخرجن متبرجات، لا البقاء في البيت، وإلا فلقد كُنّ يخرجن مع النبي(ص) في الحروب وكان يقرع بينهنّ في السفر حتى تتأذّى واحدة منهنّ بتفضيل النبي لها على صاحباتها.
ولذلك يقول بعضهم أن {وقرْنَ في بيوتكُنّ} كناية عن الستر مما يدل على أنها في سياق {ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى} وكما في قوله تعالى {فلا تخضعْنَ بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض}( )، ما يدلّ على أن لهنّ أن يتحدّثن مع الرجال، ولكن بالطريقة الطبيعية التي لا توحي بعنوان الإثارة.
أقسام الوحي:
ـ استفاد أحد الأعلام من قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحى}( )، أنّ كل ما يقوله رسول الله(ص) فهو وحي، وقسّم الوحي إلى قسمين: ما هو بالنص كالقرآن، وما هو بالمعنى كالحديث الوارد عنه، فهل هذا صحيح برأيكم؟
ـ قد تكون كلمة "الوحي" في المصطلح العام ما ينزل على النبي(ص) من خلال الملك الذي هو جبرئيل، ولكن قد نعرف من القرآن الكريم أن كلمة "الوحي" تتسع لما يلهم الله به نبيّه وما يريه إياه في المنام، كما ورد بالنسبة لإبراهيم(ع)، لذلك فإن كلمة الوحي قد تتسع لأكثر من ذلك.
وإذا عرفنا أن النبي معصوم في كل ما يقوله، فقوله وفعله وتقريره سنّة، فهو الحجة في كلامه، وكلامه الحق، وهو الحجّة في فعله، وفعله هو الحق، وهو الحجة فيما يقرره مماي راه ولا يعترض عليه، فهو الحق، وإذاً فإن عصمته تعني أن كل ما جاء به فهو الحق الذي أعطاه الله إياه، إن من خلال الوحي بشكل مباشر أو من خلال الإلهام أو ما إلى ذلك.
مداولة الأيام بين الناس:
ـ يقول تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}( )، فهل يعني أن بعض الأيام تفرض على الإنسان وهي خارجة عن إرادته بحيث لو عمل بكل ما لديه من إمكانية فلا يستطيع تغيير الواقع؟
ـ إن الله لا يريد أن يبيِّن أن الناس مجبورين في ذلك، بل أراد أن يبيّن سنن الكون، وأنه سبحانه وتعالى أودع في الإنسان قوانين في حركته الإرادية والاختيارية، وأودع في الحياة سنناً كونية وأخرى تاريخية، فطبيعة هذه السنن التي قام عليها النظام الكوني والإنساني تقتضي أن لا تكون هناك قوة خالدة ولا ضعف خالد، وأن لا تكون هناك قوة مسيطرة على مدى الزمن.
التوفيق بين رأي ورواية:
ـ كيف نوفّق بين قولكم: إن القرآن لا يفهمه إلا الحركيّون، وبين ما نقل في بعض الروايات "إنما يعرف القرآن من خُوطب به"؟
ـ ليس هناك تنافٍ بين القولين، فأما القونل الأول فلأنّ القرآن هو كتاب الرسالة، ولم ينزل على شكل كتاب كامل، بل كان يواكب حركة الرسالة، فكل مشكلة تحدث في الواقع الإسلامي، كمشاكل الحرب التي عالجتها سورة "آل عمران" كما في وقعة أحد، وفي سورة "الأنفال" ثمة معالجة لوقعة بدر، فيما عالجت سورة "الأحزاب" وقعة الخندق، وقل نفس الشيء عن وقعة حنين.
وهكذا في قضية الإفك التي شغلت المسلمين بضعة أيام ثم أنزل الله فيها قرآناً يحسم الجدل الدائر حولها، فالقرآن كتاب الإسلام الحركي الذي كان يرعى حركة الدعوة وحركة الحرب وحركة السلم والمجتمع الإسلامي، فلا يمكن أن نفهمه من خلال القاموس الذي يقدم معاني الكلمات وحسب، بل من خلال الواقع، وكما أوضحنا سابقاً فالمراد بالحركيين ليس فقط الحزبيين الذين يعيشون الإسلام كقاعدة للفكر والعاطفة والحياة، بل الذين ينطلقون به على أساس الحركة في الواقع.
وأما الرواية التي تقول "لا يفهم القرآن إلا من خُوطب به" فهي واردة في مقام الفئة التي يمكن أن تفسّر ما غمض من القرآن، فهي خاصة بطبيعة الآيات لا بحركيتها، فالحركيون ينطلقون ممن خوطبوا بالقرآن وفي تفاصيل الواقع الذي يتحركون فيه.
إجابة القرآن عن الإشكالات الفلسفية:
ـ هل يستوفي القرآن الإجابة عن جميع الإشكاليات الفلسفية والعلمية؟
ـ القرآن يعطيك المنهج في الوصول إلى الحقائق، وبذلك فإنه يقودك إلى التفكير، لأن التفكير هو الذي يمكن أن يجعلك تواجه كل القضايا من موقع تحليلها ونقدها وحساباتها، ولذلك فإن القرآن قد أشار إلى بعض حركية هذا المنهج {لو كان فيما آلهة إلا الله لفسدتا}( )، {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم* قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلقٍ عليم}( )، إلى آخر ما هناك من الآيات التي تتعرض للاستدلال إلى بعض الحقائق العقيدية، ولكن القرآن فتح لنا المنهج {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً}( )، أي أطلق فكرك في السموات واكتشف ما فيها من الحقائق ومن الأسرار وأطلق فكرك في الأرض واكتشف ما فيها.
لذلك نحن لا ندّعي أن القرآن هو كتاب فلسفة أو كتاب حقائق علمية واقعية.. كلا، فقد تكون فيه بعض جوانب الفلسفة وقد تكون فيه بعض جوانب العلم أو إيحاءات العلم، ولكن القرآن يريد أن يربي الناس على المنهج، لأن هذا هو الذي يمكن أن يجعل الإنسان يمتد في تحريك طاقاته العقلية من أجل الوصول إلى الحقائق، وربما نستوحي من ذلك أن الله أراد للإنسان أن يحرك طاقاته بحرية، فهو يقول له إنني قد فتحت لك الطريق فسِر فيه فإنك تبلغ النهايات الطيبة إذا استقمت فيه، هذا هو المنهج فخذ به وستستطيع أن تصل من خلاله إلى النتائج الحاسمة.
إنّ هذا يمثل ثقة الله تعالى بالإنسان وبعقله، ذلك أن عقل الإنسان لا يحتاج إلى أن تمسك به لتقوده في كل صغيرة وكبيرة ولتقول له إن الدليل كذا وكذا، بل إن العقل يعرف طريقه إذا عرفت كيف تمنهج له طريقه، والله قد منهج لنا الطريق وما علينا إلا أن نسير عليه.
قرآن الفجر والصلاة الوسطى:
ـ لماذا التأكيد على صلاة الصبح في قوله تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً}( )، ولماذا هي مشهودة؟
ـ ربما كان الأساس في ذلك ـ والله العالم ـ أن الصبح هو الوقت الذي يخطط الإنسان فيه ليومه، حيث يريد الله منا أن نبدأ يومنا بالوقوف بين يديه والانفتاح عليه والإعلان له فيما ننوي أننا نريد أن نتقرب إليه، فأنت تصلي لا لمال، بل لتكون قريباً من الله، ومعنى ذلك أن القرب إلى الله هو غايتك لأنك تعلن ذلك لربك في عمق نيّتك، وعندما تكبّر فإن معنى ذلك أنك تقول لربّك: يا ربّ أنت أكبر من كل ما أراه وأعيشه، ولذلك فسوف يكون معنى الأكبر في ذاتك هو الذي يجعلني لا أحابي ولا أداهن الأصغر لأعصيك بطاعته.
فدور الصلاة هو أنها تعطيك عنوان يومك وهو يوم القربة إلى الله، وأنها تعطيك خطّ يومك بأن ترتبط بالله الأكبر ولا تلتفت إلى الأصغر وأن تعيش في صلاتك وقراءة الفاتحة وركوعك وسجودك حتى تبدأ يومك عبداً صادق العبودية لله، ولذلك كان قرآن الفجر مشهوداً باعتبار أنها ـ والله العالم ـ تمثل حضور حياتك في خط الله سبحانه وتعالى، وهذا الذي أراده الإمام زين العابدين(ع) فيما رسمه من خطة للإنسان في المفردات الأربعة عشر، بحيث تدخل في كل مشاريعك اليومية ليكون يومك إسلامياً: "اللهم وفِّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير وهجران الشر وشكر النعم واتّباع السنن ومجانبة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحياطة الإسلام وانتقاص الباطل وإذلاله ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال ومعاونة الضعيف وإدراك اللهيف".
بحيث تجعل كل خطوط عملك في اليوم خاضعة لهذا البرنامج الإسلامي الذي يفتح حياتك على كل منهج الإسلام وعلى كل مسؤوليتك عن الإسلام وعن الحق والوقوف ضد الباطل، وعن العناصر الإنسانية في إعانة الضعيف هنا واللهيف هناك.
ـ ولماذا التأكيد على الصلاة الوسطى في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}( )؟
ـ ربما كانت الصلاة الوسطى كما في بعض التفاسير هي صلاة الجمعة، وهناك تفسير أنها صلاة الصبح، وبذلك يكون معناها معنى الصبح، لأنها تتوسط بين الليل والنهار، وهناك من يقول أنها صلاة العصر لأنها تتوسط بين صلاتين هنا وصلاتين هناك، وقال بعضهم أن الله أخفاها حتى نعتني بكل الصلوات لندرك الصلاة الوسطى في معناها.
فإذا كانت هي صلاة الجمعة، فإن الله يريد لنا أن نهتم بهذه الصلاة الأسبوعية، لأن كل الصلوات الأخرى هي صلاة يومية، فكل يوم يشبه اليوم الآخر في الصلاة، أما صلاة الجمعة فإنها صلاة الأسبوع التي تجمع فيها حركة وعيك لدينك وحياتك من ناحية الخطبتين كما تجمع فيها إقبالك على ربّك وعبادتك له ي الركعتين، والله العالم بحقائق آياته.
تقطيع الآية الكريمة:
ـ لو قطّعنا الآية الكريمة إلى حروف، فهل يجوز مسّها عل هذه الحالة ولا تعتبر آية بالتمزيق، أو لو شطبناها بحيث لا يمكن قراءتها هل يجوز وضع اليد عليها؟
ـ بحسب ظاهر الفتوى يجوز ذلك، ولكن الأحوط الامتناع عن ذلك، لا سيما في الشطر الأول.
كتابة القرآن الإملائية:
ـ بمَ تفسّر كتابة بعض الكلمات القرآنية بطريقة إملائية غير الطريقة المعروفة؟
ـ لقد كانت قواعد الإملاء سابقاً هي ما نلحظه في الكتابة القرآنية، لكنها تغيرت فيما بعد، لكن الظاهر أن الذين يكتبون القرآن يحاولون كتابته بالطريقة القديمة للحفاظ على القرآن من التحريف حتى في شكله.
الترابط بين آيات القرآن:
ـ من المعلوم أن هناك ترابطاً محكماً بين آيات القرآن الكريم، فكيف نوفق بين هذا القول وبين خروج القرآن من موضوع إلى آخر ومن قضية إلى أخرى ومن الحديث عن قوم إلى قوم آخرين؟
ـ القرآن هو كتاب هداية وموعظة وكتاب تعليم وإرشاد وليس كتاباً أكاديمياً يعالج قضية واحدة بالطريقة العلمية المترابطة، فموضوع القرآن هو الإنسان، ولذلك فإن القرآن يحشد في كل سورة كل ما يحتاجه الإنسان في حركة عقله وفي حركة قلبه وفي حركة إحساسه وشعوره وفي حركة حياته، والرابط بين كل هذه الآيات هو مصلحة الإنسان حتى يتغير على صورة دين الله سبحانه وتعالى.
نزول القرآن إلى السماء الدنيا:
ـ هل نزل القرآن دفعة واحدة على رسول الله، أو نزل إلى السماء الدنيا مرة واحدة ثم نزل على الرسول(ص) على دفعات وحسب الحوادث، فإذا كان دفعة واحدة فهذا يعني أنه أثبت الحوادث قبل وقوعها؟
ـ ظاهر القرآن أنه نزل نجوماً أي على دفعات، ولذلك كان محل اعتراض الكفار {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدة}( ) فعيسى أنزل عليه الإنجيل دفعة واحدة، وأنزلت التوراة على موسى دفعة واحدة، فإذا كان هذا رسولاً ـ وهذا وجه الاعتراض ـ فلا بد أن ينزل عليه القرآن جملةً واحدة، ألم يقولوا: {ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه}( )؟! فالله هنا ردّ على أنه أنزل القرآن ليثبّت به فؤاد النبي(ص).. وفي آية أخرى {ليثبّت الذين آمنوا}( )، أي أن يرافق حركة النبوة في كل ساحات الصراع وفي كل المشاكل والتحديات {كذلك لنثبّت به فؤادك}( )، حتى نركز قلبك وعقلك وحركتك عندما ينزل الله تعالى تعليماته إليك في كل مواقع الاهتزازات التي يعيشها المسلمون والمشاكل التي يحتاجون إلى حلها.
الدورة الشهرية ليست عائقاً:
ـ هناك طالبة جامعية في كلية الآداب، فرع اللغة العربية، وفي فترة الامتحان جاءتها الدورة الشهرية فهل يحق لها الامتحان في مادة القرآن الكريم ومراجعته وكتابته؟
ـ يجوز لها قراءة القرآن والامتحان في مادة القرآن ومراجعته وكتابته، والتفكير فيه.
كراهة قراءة القرآن للحائض:
ـ ما معنى كراهة قراءة القرآن بالنسبة للحائض، هل هي قلة الثواب أم عدمه، وأيهما أفضل قراءته أو تركها في هذه الفترة؟
ـ نحن نتحفّظ بالنسبة إلى الحكم بالكراهة في هذا الموضوع، ولا سيما إذا فرضنا أن المرأة تحتاج أن تزداد معرفة بالقرآن وأن تعيش روحانيته، وإذا ثبتت الكراهة فالمراد منها قلّة الثواب لا عدمه كما في كل العبادات المكروهة.
المنّ على المستضعفين:
ـ كيف نوفّق بين الاستضعاف والآية الكريمة {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة}( )؟
ـ أي أن الله يمنّ على الذين استضعفهم المستكبرون، ولكنهم تمرّدوا على المستكبرين فتحركوا فجعلهم الله من خلال ما أعطاهم من العطف ومن خلال ما تحركوا به، أئمة وجعلهم الوارثين.
ـ ولماذا هذا المنّ على المستضعفين؟
ـ لأن المستضعف هو الإنسان المؤمن الذي يعيش الإيمان ويتحرك في خط الإيمان.
هل المتعة منسوخة؟
ـ إن المتعة كنصّ قرآني لا خلاف عليه، وقد وردت في سورة النساء، وكغيرها من التشريعات فقد طبقت في زمن الرسول الكريم(ص) حيث الغزوات، وكان تطبيقها عملياً بحكم الظروف، ولكن في ظلّ التطور الحالي والتقنية الحديثة أصبح هامش تطبيقها ضيقاً جداً، فهل ما تزال كما كانت؟
إن السائل يريد أن يقول إن المتعة شرّعت كضرورة تحكمها الظروف الموضوعية التي كان يعيشها الناس، أما الآن فلا ضرورة لها.
ولكن عندما نريد أن ندرس المتعة كأي تشريع، لا بد أن ندرس ما إذا كانت وردت في الشرع أو لا، ونحن متفقون مع أخواننا المسلمين من أهل اسنة أنها شرّعت، ولكننا نختلف معهم في هل أنها نسخت أم لا، كما نسخت بعض الأحكام كما في التوجه لبيت المقدس، حيث كانت القبلة إلى ذلك البيت ونسخها الله تعالى إلى الكعبة بعد ذلك، فهل المتعة من هذا القبيل أو لا؟
فمن خلال المصادر الموجودة عند أهل السنّة نرى أنهم يعتقدون أنها نسخت، ولكن ما نملكه من المصادر يفيد أن فكرة النسخ غير علمية باعتبار أننا نناقش ما قالوه في ذلك، لأننا لو التزمنا بما قالوا لقلنا أنها أبيحت ونسخت ثم أبيحت ونسخت، في حين أن الحكم لا ينسخ مرتين، وهذا بحث علمي لا نريد أن نثيره هنا.
أما فيما يذكره السائل فنقول له: إذا كانت المتعة في ذلك العصر ضرورة بنسبة معينة، فإنها في هذا العصر أكثر ضرورة نظراً للأوضاع الاقتصادية وأوضاع الطلبة الذين يتخصصون في الخارج، وأوضاع الطلبة الذين لا يستطيعون الزواج نتيجة ضغوط اقتصادية واجتماعيتة، وأوضاع الناس الذين يغتربون عن أهلهم ولا يجدون فرصة واقعية للزواج حتى مع تعدد الزواج، فما هو الحل لمثل هذه المشكلة؟
إن الزواج الدائم لم يحل مشكلة الجنس، لذلك نعتبر أن المتعة لو ثبتت شرعيتها وهي ثابتة لدينا نحن المسلمين الشيعة ـ هي التي تمثل حلّ الإسلام لمشكلة الجنس حلاً واقعياً شاملاً، فمن تمكن من الزواج الدائم فالزواج الدائم هو حلّ مشكلته، ومن لم يتمكن فالزواج المؤقت هو حل مشكلته، وهذا ما توحي به كلمة علي(ع) التي نرويها عن أئمة أهل البيت(ع) "لولا ما نهى عنه عمر من أمر المتعة ما زنا إلا شفا (قليل) أو شقي" ـ حسب اختلاف الرواية ـ لأنه أية حاجة للناس بالزنا والزواج المؤقت موجود، فالذين يزنون هم الذين لا يجدون في الزواج الدائم حلاً لمشكلتهم، والمتعة عقد وعدة والولد فيها شرعي مئة في المئة، وغاية الأمر أن ليس في المتعة نفقة، أي ليس فيها مسؤوليات الزواج الدائم.
فإذا كان السائل يتحدث عن الضرورة، فإنني أعتقد أن الضرورة الآن أشدّ مما كانت عليه في عهد النبي(ص)، وأعتقد أن جيل الشباب وغير الشباب في العالم يعرفون معنى الضرورة في ذلك.
أحكام التجويد لدى الرعيل الأول:
ـ عند نزول القرآن كان الرعيل الأول يتلقفونه دون ما نراه اليوم من أحكام التجويد التي عقّدت فهم الناس للقرآن، بحيث تحوّل المسلمون عن فهم روح القرآن كما أنزل إلى كيفية القراءات وعلم التجويد، فلماذا حدث ذلك؟
ـ كان الرعيل الأول عرباً يراعون ما نسميه أحكام التجويد بفطرتهم، حتى إذا اختلف الناس بعد ذلك في هذه الأحكام تعقدت المسألة، وإلا فلم يكن الناس يسألون النبي(ص) هل أننا ندغم حروف (يرملون) أو لا ندغمها، أو كيف هو المدّ وكيف هو الإقلاب.. إن اللغة هي لغتهم، وأما نحن فقد أخذنا علوم اللغة من خلال سماعنا لهم، وحتى النحويون الذين جاءوا لاحقاً إنما أخذوا قواعدهم من خلال الموروث عن ذاك الرعيل.
فالتعقيد ناشئ من ابتعادنا عن اللغة الفصحى، ولأن من تعلمنا منهم قواعد اللغة العربية اختلفوا فيما سمعوه وفيما اجتهدوا فيه منها، وهذا لا يمنعنا من أن ننفتح على القرآن لنفهم آياته وروحه ونتدبرها، وهو أمر ممكن وليس أمراً معقداً.
الحاجة إلى علم التفسير:
ـ المعروف أن القرآن الكريم فيه تبيان لكل شيء، فما هو الداعي لعلم التفسير، حيث أن التفسير إنما يكون لشيء فيه غموض، وهل في كتاب الله غموض؟
ـ كتاب الله واضح، ولكن الموضوعات التي عالجها كتاب الله واسعة ومتنوعة، فنحن نحتاج أن نتفهمها ونتفهم مواقعها وأبعادها وآفاقها، وربما يطرأ الغموض واشكال على بعض الآيات بالإضافة إلى المتشابهات التي لا بد من ردّها إلى المحكمات ونحو ذلك، وهذا هو علم التفسير.
مسائل العقيدة
ظاهر الشيعة وباطنهم:
ـ يذكر البعض أن للشيعة ظاهراً وباطناً، وهذا الذي نراه هو الظاهر، وأما الباطن فلا علم لنا به لأن الشيعة لا يظهرونه، ولعلّ التقية هي السبب في ذلك؟
ـ إن الشيعة ليسوا باطنيين، والدليل على ذلك أن كل كتبهم، حتى تلك التي نرى فيها الكثير من الأحاديث الضعيفة، منشورة في مثل "البحار" الذي فيه الغثّ والسمين، وفيه اللؤلؤ والصدف، وغير "البحار"، فكتب الشيعة معروفة وليس لديهم ظاهر وباطر، وأما التقية فقد كان لها ظرف معين، وهي حفظ النفس من الخطر أو حفظ الدين من الخطر، وهي تستند إلى القرآن في قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة}( )، وقوله تعالى: {إلا من أُكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان}( )، فلتتقية جانب ظرفي يتصل بحماية الإنسان نفسه من الباطل أو من الظالم عندما يريد قول كلمة الحق.
ولقد قلنا لبعض الناس أن العالم كلّه ـ اليوم ـ يعمل بالتقية.
الإيمان قناعةٌ أم شعور؟
ـ هل الإيمان قناعة أم شعور، وهل له صلة بالقلب أو العقل، وهل العقل هو القلب؟
ـ لا بد أن ينطلق الإيمان من العقل، ولكنه العقل الذي يتطلّع إلى الله في الآفاق وفي نفس الإنسان، وهو العقل الذي لا تفسده الفلسفة الجامدة، ولكنه العقل الذي يعرف الله في عظمة خلقه وعظمة إنسانه وعظمة كل الموجودات في نعمه، ولذلك فإن العقل الذي يعرف الله في كتاب الكون وفي حركة المخلوقات في الكون لا يمكن إلا أن يلتقي بالقلب بمعنى الإحساس والشعور، ولا بد له أن ينفتح على الواقع، فالإيمان ـ والحال هذه ـ عقلٌ يعطيك اليقين، وقلب يعطيك الخوف والرجاء، وحركة تعطيك الاستقامة {إنّ الذين قالوا ربّنا الله} وهذا هو الذي يجمع الإيمان كله {ثم استقاموا}( )، وهذا هو الذي يحرّك الإيمان فيما يأخذ به الإنسان في حياته.
وفي القرآن يغلب ذكر القلب على أن المراد به العقل، وقصة القلب والعقل فيما يتحدث به الفلاسفة أو الأدباء هي قصة في المصطلح، ففي القرآن عقلك قلبك وقلبك يمتد من عقلك، ليس هناك شيئان، عاطفة وإيمان، بل الإيمان يختزن العاطفة والعاطفة لا بد أن تنطلق من الإيمان، فقيمة العقيدة في الإسلام أنها عقيدة تنبض وليست عقيدة تجمد، ولهذا فهو عقل وقلب بحسب المتعارف.
بين الإحسان والعرفان:
ـ حدّثنا رسول الله(ص) عن الإحسان بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"( )، نرجو إلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع بمناسبة التحدث عن الصلة بين العبد وربّه في الصلاة، فهل الإحسان هو نفسه العرفان أو التصوف؟
ـ أن تكون المحسن يعني أن تفكر بطريقة تحسن فيها إلى الحق، والله هو الحق {ذلك بأنّ الله هو الحق}( )، ولذلك فإن إحسانك في عقلك وفي إحساسك وشعورك يجعلك تعرف ربّك وتعبده من خلال أن هذه المعرفة التي لا يخترقها الضباب بل تنطلق من إشراقة النور، هذه المعرفة تجعلك تحسُ بحضور الله تماماً كما لو كنت تراه.
فإذا جاءتك الفكرة أن الله {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}( )، فحاول أن تنزل إلى المرتبة الثانية، وهي أن تحسّ برقابته، فهناك فرق بين أن تحسّ بحضوره لدرجة أن يجعلك الإحساس مندمجاً معه كما لو كنت تشاهده، فإذا لم تصل إلى هذه المرتبة من المعرفة وهي مرتبة لا يصل إليها إلا المقربون فعليك أن تحسن وعيك لربّك لتحسّ بأنه يشاهدك، وكما لو أنك أحسست بوجوده في مواقع عظمته ونعمه فإنك تشعر بأن عليك أن تنضبط أمامه، فإذا شعرت بأنه يراك في إحساسك بحضوره وفي إطلالته عليك من فوق عرشه ومن تحت سبع أرضين، وحينما كنت أو تكون {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم}( )، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}( )، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. عِش دائماً في إحساس أن الله يراك ليحميك ذلك من كل إحساس برؤية الآخرين الذين قد تشعر بعظمتهم لتطيعهم ولتعصي الله.
أيها الأحبة، هذا هو الإحسان المعرفي العبادي القرآني وهو هو العرفان لا عرفان الفلسفة، وهو هو الصتوف لا تصوّف الاستهلاك.
غير أن مشكلتنا هي أننا غرقنا في مصطلحات التصوّف وفي فلسفة العرفان فشغلنا أنفسنا بتفسير المصطلحات وفي حلّ إشكالات الفلسفة ونسينا الله.. فإذا أردتم عرفاناً فهو ما جاء في القرآن، وإذا أردتم عرفاناً فهو ما جاء في السنّة الصحيحة مما ورد عن رسول الله(ص)، وعن أهل بيته(ع)، وإذا أردتم تصوّفاً فانطلقوا مع القرآن فيما يعطيكم من معنى الزهد ومعنى السلوك والسير إلى الله سبحانه وتعالى.
احترام الكتب المقدسة:
ـ بالنسبة لكتب المقدسة عند اليهود والنصارى: التوراة والإنجيل قيل أن فيها شيئاً بسيطاً من الصحّة من قول الله تعالى، فعلى هذا القول هل لها شيء من الاحترام في عقيدتنا ـ نحن المسلمين ـ أو لا احترام لها ولا قدسية؟
ـ نحن نقرأ في القرآن أن بعضها حرّف، ولكن لا دليل على أنها حرّفت بأجمعها، ولذلك يمكن أن نقول إن فيها شيئاً من كلام الله، ولكن لا نعرف بالدقّة ما هو.
ـ "التولّي" و"التبرّي":
ـ ما هو دور "التولّي" و"التبرّي" في صنع قاعدة الإيمان الأساسية، وما هو مصبّهما؟
ـ بدأ "التولّي" و"التبرّي" من الكلمة الأولى في الشهادة (لا إله إلا الله) أن تتولى الله وحده وأن تتبرأ من كل ما عداه، ممن يعتبرهم الناس أو يعتبرون أنفسهم آلهة من دون الله.
وهكذا تمتد مسألة التبرّي في خطين تحدث عنهما القرآن في رسالة كل رسول {أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}( )، وعبادة الله تختزن في داخلها كل ما أراد الله أن يُعبد به في الفكر والقلب وفي الحركة والحياة، لأن عبادة الله تعني الخضوع له، والصلاة والصوم، هما عبادتنا لأنهما تمثلان الخضوع لله سبحانه وتعالى.
فعبادة الله تمثّل الخضوع لله في كل شيء {واجتنبوا الطاغوت} اجتنبوا عبادته وشريعته وحكمه وخططه ومنهجه وحركته.
فالتولّي هو أن تتولّى الله فيما يوحي به التولّي له من التزام خط الله بكل ما يرتبط به، وأن تتجنب الطاغوت في كل ما يمثل طاغوت الشخص والقانون والحكم وتفاصيل الحياة.. ولذلك لاحظنا أن الله سبحانه وتعالى تحدّث في القرآن عن ولاية الطاغوت وولاية الله، أي أن في الحياة ولايتين {الله وليُّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}( ).
فالتولّي هو لله تعالى، فهو وليّك الذي يلي كل أمرك وعليك أن تكون وليّ الله الذي ينفتح على الإخلاص لله في كل شيء، وأن لا يكون الطاغوت وليّك في كل ما تعنيه ولاية الطاغوت من التزام فكري أو قانوني أو منهجي أو ما أشبه ذلك.
فعندما يكون الإسلام نفياً للشرك فلا بد أن تتبرّأ من الشرك، وعندما يكون نفياً للفسق فلا بد أن تتبرّأ من الفسق، وعندما يكون الإيمان والإسلام نفياً لكل من يلتزم الفسق والكفر والشرك والانحراف فلا بد أن تتبرّأ من كل من يمثّل ذلك.
وعلى هذا، جاء الحديث عن أئمة أهل البيت(ع): "إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإن كان قلبك يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خير والله يحبك، وإن كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير والله يبغضك، والمرءُ مع من أحب"( ).
شرح الصدر وتضييقه:
ـ يقول تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً}( )، أليس في ذلك دلالة واضحة في أن الهداية والضلالة من الله وهو الي يهدي وهو الذي يضل؟
ـ إن معنى أن الله هو الذي يهدي هو أن يهيِّئ للإنسان سبل الهداية، ولكن ذلك لا يمنع من أن تكون هداية الإنسان من خلال اختياره، أي أن الله يهيئ له المواد الخام ويعطيه القوة ليصنع ذلك بحسب فكره، خصوصاً إذا كان في جوّ إرادة الهداية، أما {ومن يرد أن يضلّه} فليس معناها أن يضع الضلالة في عقله، ولكن أن يهمله، لأن الله هدى الناس جميعاً بأن هيّأ لهم في عقولهم وسائل الهدى بالتفكير وأنزل إليهم وحياً يهديهم سواء السبيل، وأرسل إليهم أنبياء، لكن الذين لا يقبلون هدى الله فإنه يضلّهم بمعنى أن يرفع عنهم لطفه ويتركهم لأنفسهم، وإذا ترك الله الإنسان لنفسه فإنه يضيع، تماماً كما لو أنك تقول لإنسان يسير في الصحراء، تعالى لأدلّك على العلامات التي تهديك في سيرك، في حين أنه يرفض ذلك، فحيئذٍ تقول له اذهب كما تشاء، ومعنى ذلك أنك أضللته بأن أهملته ولم تتمسك به لتكرهه على الهداية إلى الطريق، فالشخص الذي يرفض هداية الله لا يجبره الله على أن يكون مهتدياً، بل يرفع عنه لطفه ويتركه لنفسه، وإذا تركه لنفسه فلا بد أن يضل.
الجاهل القاصر:
ـ هل يعذر الجاهل بجهله إذا كان معذوراً بشيء، فأي شيء يعذره الإسلام عنه؟
ـ الجاهل القاصر الذي لا يستطيع أن يتعلم معذور، أما الجاهر المقصِّر فحكمه حكم العامد.
ظاهرة إسلام الأوروبيين:
ـ ما هو تقييمكن لإسلام العشرات، بل المئات من الأوروبيين المسيحيين، لا سيما أن معظمهم من المثقفين ومن مختلف الاختصاصات؟
ـ لأنهم درسوا الإسلام وعرفوا الخطوط العامة له ورأوا أن ما يختزنه من المعنى الحضاري يمكن أن يعطي الإنسان السعادة في الحياة، ولذلك تنبّأ أحد الأدباء الانجليز وهو "برنارد شو" بأن المستقبل سوف يكون للإسلام لأنه اطّلع على ما يختزنه من عمق في المعرفة والخطّ والفكر وسائر جوانب الحياة..
توحيد إبراهيم الاحتجاجي:
ـ إذا كان إبراهيم موحداً قبل البعثة فلماذا ينقل عنه القرآن أنه ظلّ يبحث عن ربّه في الظواهر الكونية معتقداً أن القمر أو الشمس أو الكواكب ربه؟
ـ هذا أسلوب من أساليب إبراهيم في الاحتجاج على قومه، فلقد حاول أن يتقمّص شخصية الذي يعبد الكوكب ويعبد الشمس ويعبد القمر ثم يردّ على الفكرة بعد ذلك كما لو كان شخصاً اكتشف خطأ الفكرة والقوم يسمعونه فيكون هذا أوقع في إشعارهم بالخطأ مما لو قال لهم أنتم مخطئون، وبعبارة أخرى فإن إبراهيم تعامل بأسلوب فني للاحتجاج عليهم من دون أن يثير حساسياتهم وعصبياتهم.
العلاقة بين المبعث والإسراء والمعراج:
ـ ما هي العلاقة بين المبعث النبوي والإسراء والمعراج، ولماذا سمي مبعثاً؟
ـ إن الإسراء والمعراج من متعلقات المبعث، وإن اختُلف في سنة وقوعهما، فعندما بعث الله نبيّه أسرى به إلى بيت المقدس {ليُريَهُ من آياته} حتى يثقفه بأجواء خاصة، حتى جاء في بعض الروايات أن الله جمع له الأنبياء وصلى بهم إماماً.
كما أريد للنبي(ص) أن يعيش من خلال المعراج في آفاق الله ورحابه، فالإسراء والمعراج يعنيان أن النبي(ص) لما بعثه الله رسولاً أراد أن يثقّفه بآياته في الكون في جو الأرض وفي جوء السماء، أما لماذا سمي المبعث مبعثاً فباعتبار أن الله بعث فيه الني بالرسالة.
كفر النعم:
ـ هل من الممكن أن يكون الإنسان مؤمناً وكافراً في نفس الوقت كما لو كان يكفر بالنعم؟
ـ الكفر هنا نسبيّ، فهناك من يكفر بالله سبحانه وتعالى، وهناك من يكفر بالنعمة، وهناك كفر العمل، فقوله تعالى: {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر}( ) يفسر قوله تعالى {من كفر} أي من لم يحجّ وهو كفر العمل، فعندما يكون الكفر نسبياً فلا تناقض، فهو مؤمن بالله كافر بنعمه.
حول آدم وإبليس:
ـ هل إبليس ملاك؟ وكيف يعصي الملاك ربّه؟
ـ إن الله يقول إنه من الجنّ {إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه أفتتخذونه وذريّته أولياء}( ) فهو ليس ملاكاً بل هو ملحق بالملائكة.
ـ لقد سجدت الملائكة لآدم بأمر ربها، وقد علّمه الله الأسماء كلها فكيف يعصي ربه في الاقتراب من الشجرة التي نهي عنها؟
ـ هذه ليست معصية بالمعنى الذي يسقط الجانب الإيماني لأنه ـ والله العالم ـ لم يخلق الله آدم، ليعيش في الجنة لقوله عز وجل {إني جاعلٌ في الأرض خليفة}( )، فالله أعدّه ليعيش في الأرض.
ثم إن آدم إنسان بريء وطيب ولا تجربة له، والله يعرف أن إبليس سيعيش مع آدم وهكذا ذريته الذين لهم غرائزهم، فحسب استنتاجي فإن الله أراد أن يدخل آدم في دورة تدريبية حتى يعرّفه أن هناك من يغشّ وأن هناك من يحلف بالله كاذباً، وهي دورة ثقافية.
فحينما نهاه عن الاقتراب من الشجرة ـ وكل ممنوع مرغوب ـ جاءه إبليس بعقدته {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووريَ عنهما من سؤاتهما}، {وقال ما نهاكُما ربّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}( )، ولمّا تردّد آدم وحواء {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}( ) فأراد الله أن يعطي الفكرة {ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما أن الشيطان لكما عدو}( )، فالأمر هنا لا يراد منه الطاعة إنما شيء آخر كما في قصة ذبح إبراهيم لإسماعيل، فالله أمره بالذبح ولكنه سبحانه أراد له أن يقوم بمقدمات الذبح ولم يخبره بذلك ليعيش التجربة، وليصبحا مثلاً في التضحية والطاعة.
فهذه ليست معصية بالمعنى المصطلح للمعصية لأن الأمر لم يكن مولوياً وإنما هو إرشادي.
ـ وما هي الأسماء التي علمها الله لآدم؟
ـ في الأحاديث الواردة أنها مسميات الأشياء والشخصيات المقدسة التي تأتي في المستقبل، كما ورد عن الإمام الصادق(ع) أن الله علّمه كل مسميات الأشياء، لأنه أراد أن يثقفه للعيش في الأرض.
الفرق بين العصمة والعدالة:
ـ ما هو الفرق بين العصمة والعدالة؟ وكيف يتم تعيين الإمام المعصوم؟
ـ الفرق هو أن العصمة تعني أنك لا تخطئ وأنك تملك مناعة وقوة ولطفاً إلهياً بحيث يمنعك ذلك من الخطيئة والخطأ، بينما العدالة هي حركتك في خط الاستقامة، ولكن قد يطوف الشيطان بك فتنحرف وترجع بعد ذلك.
أما تعيين الإمام المعصوم فيتم من خلال تنصيص النبي(ص) كما هو الحال بالنسبةلأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في يوم الغدير، أو من خلال نصّ إمام على إمام، ومن خلال الأحاديث الواردة عن النبي(ص) كما في قوله: "يكون من بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش"( )، يضاف إلى ذلك ما رواه السنّة والشيعة.
التطابق والتناقض والتقية:
ـ التطابق بين القول والفعل يؤدي إلى مرضاة الله تعالى، والتناقض يؤدي إلى مقته، فهل تنسجم هذه المعادلة مع مبدأ التقية أم تتقاطع معه في بعض النقاط؟
ـ إن مبدأ التقية مبدأ إسلاميّ، وتكليفك هو التقية {إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذّركم الله نفسه}( )، فهذا من الخط الإيماني، فما من شيء إلا أحلّه الله لمن اضطر إليه {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه}( )، فالتقية هي أنه إذا توقف حفظ النفس أو الدين أو القضايا الأساسية على أن تظهر غير ما تبطن فلك أن تفعل وقلبك مطمئن بالإيمان، وذلك ليس بازدواجية وإنما يعني أنك التزمت بالحكم الشرعي ولكن بالعنوان الثانوي، فالعمل بالعنوان الثانوي هو كالعمل بالعنوان الأولي فهذا شرع وذاك شرع.
دخول النار الإراديّ:
ـ يقول تعالى: {ولقد ذرأنا الجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس}( )، فهل أنّ الله قد خلق الكفّار على طريق الكفر ويدخلهم النار بغير إرادتهم؟
ـ ليست المسألة كذلك، إنما الجنة للمطيعين بإرادتهم وأن النار للعاصين بإرادتهم، فالله كلّف الناس جميعاً، وأعطى الهدى للناس جميعاً، وعرف أنّ بعض الناس يعصون والبعض الآخر يطيعون فهيّأ الجنّة للمطيعين وهيّأ النار للعاصين.
رحمة الله تعالى:
ـ لله رحمتان، رحمة خاصة وأخرى مطلقة عامة، فما المقصود من الرحمتين؟
ـ إن الرحمة الخاصة هي في داخل الرحمة العامة، فهناك رحمة عامة وهي أن الله ينزّل الغيث، وأنه خلقنا من عدم، وأنه يرزقنا من واسع رزقه، وهناك رحمات خاصة بأن يعافي هذا الإنسان أو يزيد في رزقه أو يعطيه فرصة أو موقعاً أو ما إلى ذلك.
دعوة من الفاتيكان:
ـ هناك دعوة من الفاتيكان بالسماح للمسلمين كي يغيّروا دينهم لمن يرغب في ذلك، فما هو ردّكم على ذلك؟
ـ إن الإسلام لا يسمح للمسلمين بذلك، وهو في الوقت نفسه لا يضطهد الإنسان من أجل ذلك، لكنه يقول لكل إنسان مسلم عنده شبهة: تعال إلى أهل الذكر ـ بكل تنوعاتهم ـ وأهل العلم من أجل أن يناقشوك في ذلك.
أخذ الإسلام كله:
ـ ما هو تعليقكم على مقولة "خذ الإسلام كله أو دعه كله"؟
ـ من الطبيعي أن الإسلام عقيدة تفرض عليك أن تنفتح من خلالها على كل شرائع الإسلام وكل مفاهيمه وكل مناهجه وكل أهدافه، لأن الإسلام لا يتجزّأ، فهو أن تسلم أمرك لله بحيث تقول {قل إن صلاتي ونسُكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين* لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أول المسلمين}( ).
ولكن إذا كنت مسلماً في معنى العقيدة وعشت بعض الأوضاع التي تنحرف بك عن بعض خطوط الإسلام وبعض أحكامه، فإن عليك أن تأخذ بالباقي من ذلك، فلعل الله تعالى يعفو عنك فهو القائل {خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم}( ).
صحيحٌ أن الإسلام وحدة واحدة في العقيدة والشريعة والمفاهيم والمنهج ومن أخذه فعليه أن يأخذه كله، ولكن إذا أخذ الإنسان بالعقيدة وهي قاعدة الإسلام وفرضت عليه ظروفه النفسية في خط الانحراف أو ظروفه الاجتماعية أو بعض أهوائه أن ينحرف عن بعض خطوط الإسلام، فإن ذلك لا يعفيه أن ينسجم ويستقيم على الخطوط الأخرى.
لماذا المشاكل؟!
ـ توجد مقولة لإحدى المفكرات تقول فيها "إن الله خلق المشاكل لا ليعذبنا بها، بل لنفكر في كيفية حلها" فما هو تعليقكم على هذه المقولة؟
ـ إنها تقترب من وحينا في القرآن، فعندما يحدثنا الله عن البلاء، على أنه من أجل أن يجعلنا ننمو أكثر ونعاني أكثر فلكي يظهر جوهرنا، وهذا ما قرأناه في قوله تعالى: {أم حسبتُم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}( )، وفق قوله تعالى: {ألم* أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون ـ لا يقعون في المشاكل الصعبة والبلاء الصعب ـ ولقد فتنّا الذين من قبلهم ـ فتنّاهم في مواقع الفتنة من البلاء والمشاكل والمصائب ـ فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين}( )، فالبلاء قد يكون عقوبة، لكنه سنّة الله في الكون من أجل أن يظهر جوهر الإنسان، ومن أجل أن يعطي الإنسان الفرصة ليفكّر ولينمو من خلال التفكير، وليبادر إلى حلّ المشاكل على صورة ما يريده الله تعالى، فنحن نوافق على هذا القول.
تدخل الله في النصر:
ـ قلتم إن الله يتدخل عندما تستدعي المصلحة الإسلامية تثبيت المسلمين، فلماذا لا يتدخل في ظروف كالتي نمرّ بها الآن، حيث يعيش الكثير من المسلمين حالة اليأس؟
ـ لقد تدخّل الله تعالى هناك والمسلمون يقاتلون، ولكننا نريد لله أن يتدخل هنا ونحن نشرب الشاي ونعيش الفراغ واللهو والعبث {إن تنصروا الله ينصركم}( )، أما أن تجلس وتدعو بالنصر على القوم الكافرين، ونحن ننصر الكافرين على أنفسنا، ونحن نتمزّق ونكفّر بعضنا بعضاً، ونعيش في القضايا الصغيرة الهامشية، ونتحرك على أساس الغيبة والنميمة والكذب، فأي مجتمع هذا المجتمع الذي خذل نفسه فخذله الله، لأنه لا يريد أن يدخل المعركة، وهو مجتمع (التنابل) المتقاعسين لأن الله لا يستجيب دعاء الإنسان الذي لا يأخذ بالأسباب التي وضعها بين يديه.
علم الله بالأشياء:
ـ لو أن الله كان عالماً بما سيحصل للبشر ولغيره، بأن يكون مصير فلان إلى النار وأنه لا تفيد فيه الدعوة إلى الإسلام، وأن مصير ذلك إلى الجنة فلماذا يكلف الإنسان أصلاً، ولو كان الله يعلم بذلك فما هي الغاية إذاً من الإيجاد؟
ـ أما عن الغاية من الوجود فالله تعالى يقول: {لا يسئل عما يفعل وهم يسألون}( )، والفلاسفة يقولون إن الوجود خير محض، وإن الله كريم فإذا وجد نفساً قابلة للوجود فإنها تطلب الوجود بنفس قابليتها له فيعطيها الله ذلك.
وثانياً: إن الله يعلم أن فلاناً سوف لا يسلم أو لا يطيع، لكن معنى علمه هذا هو أنه سوف لا يسلم باختياره، لا من الذين لا قابلية لهم للإسلام في أصل تكوينه، فلو كان كذلك فالله لا يعاقبه لأنه لم يُلقِ الحجة عليه، لكن الله سبحانه وتعالى أعطاك كل الفرص لتكون مسلماً ولتكون مطيعاً، ولكنك عصيت بإرادتك واختيارك فلا ظلم منه في ذلك.
وهذا أشبه شيء بمدير مدرسة يتقدم إليه أحد الطلاب بطلب التسجيل، فيقدر المدير أنه لا يدرس وأنه يلهو ولا يؤدي تكاليفه وأنه سيسقط في صفّه، فهل يكون ذلك مبرراً لعدم تسجيله، فقد تكون في المتقدم قابلية أنه لو درس لنجح.
تجسّد الأعمال:
ـ كل المسلمين اتفقوا أن الأعمال لا تتجسد إلا أنتم الشيعة، فهل من المعقول أن يأتي الصوم الذي هو شيء معنوي ليتجسد ويحول دون العبد والنار؟
ـ أولاً: ليس كل الشيعة يقولون بذلك، فنحن ممن لا نقول بتجسد الأعمال، والكثيرون من علماء الشيعة لا يقولون به، وقد لا تكون عملية تجسد الأعمال بهذه الطريقة السطحية التي يراها الناس، فالمسألة فلسفية مثلما هو فهم القرآن، فالله تعالى يقول: {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره}( ) فالبعض يفهم من ذلك الجانب الحرفي لرؤية الخير، أما في اللغة العربية فحينما نقول رأى الخير أي رأى نتائجه.
الموت رحمة أو عذاب؟
ـ هل الموت رحمة من الله أو عذاب؟ وإذا كان رحمة فلماذا عندما يمرض الإنسان ويشفى يقول الناس إن الله رحمه وشفاه وإن الله كتب له عمراً جديداً؟
ـ الموت هو سنّة الله في الكون، وما يفعله الله في الإنسان هو رحمة، لأن رحمة الله سبحانه وتعالى تتنوّع، وربما كان موت بعض الناس رحمة أكثر من حياته، إذ لو امتدت به الحياة لعصى الله أكثر.
والله تعالى أعلم بمواقع رحمته، فنحن نقول في الدعاء "وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل يسبق مقتك إليّ أو يستحكم غضبك عليَّ".
أما ما يقوله الناس أن الله رحمه فباعتبار ما يتصورونه، ولكننا نقول إن الحياة رحمة والموت رحمة، ورحمة الله تتنوع.
ذنب ابن الزنا:
ـ المعروف هو أن ابن الزنا يمنع من التصدي لبعض الأعمال رغم التزامه بالإسلام، فلماذا ذلك، ألا يشمله قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}( )، إذ ما ذنبه إذا كان أبواه المذنبين، فلماذا لا يكون المقياس هو تقوى الله تعالى؟
ـ أولاً: عند الله لا فرق بين ابن الزنا ويبن غيره في بعض الأمور، فابن الزنا ـ كما قال الإمام الصادق(ع) ـ: "يستعمل فإن عمل خيراً جزي خيراً، وإن عمل شراً جزي شراً" فلا فرق في هذه الناحية من جهة الثواب على الخير أو دخول الجنة ـ بين ابن الزنا وغيره ـ.
والآية الكريمة تقول {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ففي ميزان الله سبحانه وتعالى لا فرق..
ثانياً: هذه القضايا تنظيمية، بمعنى أن الإسلام يريد أن يركز على وجود فوارق واقعية بين ابن الزنا وبين غيره حتى لا يتجزّأ الناس على الزنا، فهي يست عقوبة لابن الزنا وإنما هي محاولة للإيحاء بأن بعض المواقع القيادية كإمامة الجماعة والتقليد وما شاكل لا بد لها من حماية، أي لا بد أن يمثل الموقع الشرعي شخص هو نتائج علاقة شرعية او ما يصطلح عليه بـ"طهارة المولد".
وليس ابن الزنا وحده في ذلك، فالفاسق الذي لا عدالة له ولا استقامة لا يجوز له أن يصلّي جماعة.
المستضعف الفكري والعقائدي:
ـ ماذا تقصدون بالمستضعف الفكري والعقائدي؟
ـ هو الذي لا يملك القوة الفكرية التي يستطيع من خلالها أن يميّز بين الحق والباطل، والمستضعف العقائدي هو الذي عاش في بيئة ربطته بعقيدة معينة ولا يملك أية وسيلة للتعلّم، ولم تبلغه الدعوة، فالله يحتجّ عليه بما يصل إليه عقله.
فالمستضعف إذاً هو الذي لا يملك وسائل القوة، فإذا كان مستضعفاً في الفكر فإنه لا يملك وسيلة قوة فكرية، وإذا كان مستضعفاً عقيدياً فإنه لا يملك وسيلة لمعرفة العقيدة.
الدين والعقل:
ـ قرأنا في كتاب الشيخ (محمد جواد مغنية) "الشيعة في الميزان"، أن الدين في دائرة والعقل في دائرة أخرى، وهذا يعني أن بعض التشريعات الدينية لا تخضع للعقل، فلماذا لا تخضع له؟
ـ إن ذلك لا يعني أن ا لدين ينافي العقل، ولكن معناه أن الدين قد ينطلق من أسرار لا يملك العقل وسيلة لإدراكها، فتحديد ركعات الصلاة، أو الجهر ببعضها والإخفات بالأخرى أمور تعبدية ليس للعقل وسائل مادية أو فكرية يمكن بواسطتها اكتشافها، وإن كانت لدينا بعض الأحاديث عن الإمام الرضا(ع) في تبيان علل الشرائع ولكنها واردة لتقريب الفكرة.
وهناك بعض الأمور التي حرّمها الله قد لا يصل العقل إلى أساس التحريم فيها، وهناك أمور أوجبها لا يصل العقل إلى أساس الوجوب فيها، وبالتالي فليس معنى ذلك أن الدين ضد العقل، بل إن دائرة الدين هي أوسع من الدائرة العقلية لأن العقل يتحرك في الدوائر التي يملك وسائل معرفتها، أما الدوائر التي لا يملك فيها تلك الوسائل فلا يمكنه أن يتحرك فيها، فنحن مثلاً نؤمن بالله ولكننا لا نستطيع أن نفهم ذات اله، لذلك قيل: "تحدّثوا عن صفاته ولا تتحدثوا عن ذاته"، فنحن لا نقدر أن نعرف سرّ الله وذات الله وحقيقة الله، لكننا استطعنا بالعقل أن نعرف أن الله عظيم وحكيم وقادر وأنه ليس جسماً وذلك من جهة الأدلة العقلية التي قامت بذلك.
فليس المقصود من القول أن العقل في دائرة وأن الدين في دائرة، أن العقل يضاد الدين، بل معناه أن في الدين أموراً لا يملك العقل الوسيلة إلى معرفتها.
عبادات ما قبل الإسلام:
ـ كنت مسيحياً إلى أن صار عمري (35) عاماً، ثم درست الإسلام واعتنقته، فهل أنا مطلوب مني أداء عبادات اسنوات الماضية؟
ـ "الإسلام يجبّ ما قبله"، فإذا أصبح الإنسان مسلماً ولم يكن مسلماً قبل ذلك فلا يجب عليه إعادة عباداته السابقة.
عادات لا أصل لها:
ـ توجد في بعض القرىبعض العادات والتقاليد، ولا ندري هل هناك أصل شرعي لها، كإقامة ثلاث خميسات عل روح الميت، أي كل خميس ولثلاثة أسابيع تقرأ الفاتحة ويقدّم الطعام كثواب للميت، وفي أواسط نيسان من كل سنة عندما يقع الخميس في منتصف الشهر أو قبله بيوم أو يومين، يقولون إنه خميس الأموات وتجري نفس الطقوس؟
ـ لم أجد هناك أساساً شرعياً ـ فيما بين يدي أو فيما اطلعت عليه ـ لذلك.
بين الغيب والأدلة العقلية:
ـ كيف لنا أن نوفّق بين غيبية الدين في مسائله الرئيسة كيوم البعث بوجود الثواب والعقاب، وبين أن الدين بحدّ ذاته يطالبنا بأن نقتنع بالأدلة العقلية والنقلية؟
ـ صحيح أننا لا نقدر أن نفهم الغيب، لكن الدليل على الغيب عقلي، فنحن نسأل: هل يمكن عقلاً أن تكون هناك جنة ونار؟ إن العقل يقول بإمكانية ذلك "فكل ما يقرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان" كما يقول ابن سينا.
ونبوة النبي ـ كمثل ـ تثبت بالعقل، فالنبي(ص) أخبرنا بهذا وفرضنا ذلك ممكناً، فعندها اقتنعنا بالنبوة على هذا الأساس.
وكمثل على ذلك، فالذين يصعدون إلى القمر قد لا يأتون إلينا بصور منه، فعلى أي أساس يتم تصديق ما يخبروننا به وهو غيب، وربما يمكننا الاطلاع عليه بعد مائة سنة، فالشخص الذي يخبرنا ونعرف أنه صادق مصدق وواعي ويقدم الدليل والقطع على ذلك، وأخبرنا بشيء لم نره، فإننا نصدقه ونعتقد بما يقوله.
اكتشاف جهنم:
ـ أعلنت إحدى الصحف منذ فترة أنه تم اكتشاف جهنم في جوف الأرض فهل يمكن ذلك؟
ـ يمكن ذلك، فهناك عشرون جهنم ويزيد، فالبراكين التي تنطلق وتحرق الأخضر واليابس، تعني أن هناك جهنمات كثيرة، ولكن الكلام هنا هو عن جهنم الآخرة التي لا دليل على أن المكتشفة هي تلك التي سجرها جبارها لغضبه والتي أعدّها ليوم الجزاء.
هل الموت عام تثبيط؟
ـ يرى البعض أن الموت عامل تثبيط عن العمل، حيث يقولون ما الفائدة من هذا العمل أو ذاك إذا كان الموت هو المصير الحتمي؟
ـ عل العكس من ذلك، فإن الموت يجعلك تعمل أكثر حتى تستطيع أن تتم مشاريعك قبل أن يأتيك الموت.
أما ما الفائدة من الموت، فالأشخاص الذين لا يعتقدون بالآخرة يرون أن الحياة مثل فقاعة تنتفخ ثم تنفجر، لكن الذي يعتقد بقوله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره}( )، يعرف أن هناك تعويضاً لكل شيء، فلا بد من نتيجة لعمله.
مسائل السيرة
كتب السيرة النبوية:
ـ للشهيد مطهري(رض) ملاحظة حول كتب السيرة النبوية، وذلك أنها تقتصر على تسجيل حياة النبي وأحداثها، ولكنها لا تعتني لحدّ الآن بالسيرة النبوية بما هي طريقة في الحياة في كل جوانبها، فهل تتفقون معه في ذلك؟
ـ قد لا تكون كتب السيرة النبوية شاملة في هذا الاتجاه، ولكن لا نستطيع القول أن هذه الكتب لا تحمل الطريقة النبوية في الحياة، لأننا عندما نقرأ سيرة النبي(ص) في علاقاته مع أهل بيته وأزواجه وعلاقاته مع الناس وفي طريقته في الدعوة وفي الحرب وفي السلم، فإننا نقرأ طريقته في الحياة، لأنّ هذه الأحداث التي تحيط بالنبي(ص) والمواقف التي يقفها ليست متحركة في الفراغ، وليس النبي(ص) مجرد شخص عادي يمكن أن تحدثنا السيرة عن طعامه وشرابه ونومه، ولكنها تحفل بالكثير من حياته الرسالية.
وربما كان أعظم كتب السيرة على الإطلاق والتي نستطيع أن نفهم من خلالها شخصية النبي(ص) هو القرآن لأنه كتاب الله، والله عندما يحدثنا عن نبيّه وعندما يخاطبه في كل ما فعله وتركه وي كل ما تحرّك به فإنه يعطينا الصورة المشرقة للنبي(ص).
وقد نحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، لكننا لا نستطيع فيما نقرأ من السيرة أن نقول إنها لا تشتمل على ذلك.
اجتهاد النبي(ص):
ـ يدّعي البعض بأن النبي اجتهد في حياته، ويستدل على ذلك بحادثة الأسرى وغيرها؟
ـ يقول تعالى: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحى}( )، فالنبي(ص) يتحدث عن الله فيما أنزله الله عليه من آيات، وينطلق من خلال وحي الله وإلهامه فيما شرّعه من شرائع وفيما سنّه من قوانين وفيما يتحرك فيه من مواقع.
أما مسألة الأسرى في قوله تعالى: {ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا}( )، فهذا الخطاب ليس موجّهاً للنبي(ص) بالذات، ولكنه موجّه للمسلمين الذين كانوا يطالبون بذلك، ولكن القرآن كان يوجّه الخطاب للمسلمين من خلال النبي(ص) ولذلك يقول للمسلمين أنكم تطالبون النبي(ص) بأن يكون له أسرى في الوقت الذي لا يزال فيه الإسلام ضعيفاً ولا يزال أهل الشرك في موقع القوة، مما يفرض أن يقتل كل المشركين ما أمكن ذلك حتى تضعف قوة المشركين.
النبي(ص) الرسول والحاكم:
ـ قرأت كتاباً يقول الكاتب فيه: "إن أقوال وأفعال وتقريرات الرسول(ص) تارة تكون باعتباره رسولاً مبلغاً ومشرعاً عن الله فهي ملزمة لجميع المسلمين لأن "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة" وتارة أخرى تكون باعتبار أنه حاكم شرعي وبالتالي فلا يمكننا تطبيقها على كل مجتمع وفي كل عصر وزمن، فما هو تعلقيكم على هذه المقولة؟
ـ هذا الكلام صحيح، لكنه يحتاج إلى توضيح، لأن للنبي(ص) صفتين: صفة كونه مشرِّعاً، وصفة كونه حاكماً، فصفة المشرّع هي صفة المبشر والنذير وما إلى ذلك، وصفة الحاكم كما في قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}( )، أي أنه يملك من الناس ما لا يملكونه من أنفسهم، فإذا بلّغ شيئاً أن أقرّ شيئاً بصفته الرسالية فإن كل ما قرّره يمثل شريعة لا بد أن يلتزم بها الناس إلى يوم القيامة.
أما إذا أقرّ شيئاً على أساس حلّ مشكلة معينة لها عنوان وحجم وزمن خاص، فإننا لا بد أن نقتصر على موردها لا أن نسحبها على غيرها، لأن النبي(ص) حلّلها من خلال كونه حاكماً، وللحاكم أن يعفو كما لو أنه(ص) عفا عن شخص مجرم نتيجة ما يراه من مصلحة في العفو عن هذا المجرم، فلا نستطيع أن نأخذ من هذا العفو قانوناً بحيث نعفو عن كل شخص مماثل لهذا، لأن النبي(ص) قد يكون عفا عنه من جرّاء الظروف الموضوعية التي جعلت من العفو مصلحة في ذلك.
ولذلك، فإن الفقهاء يفرّقون بين ا لحكم التشريعي والحكم الولايتي الذي يمارسه النبي(ص) بصفة كونه ولياً لأمر المسلمين، ففي هذا النطاق يكون الكلام المذكور في السؤال صحيحاً.
هل يخشى الرسول(ص) أحداً؟
ـ لماذا شجّع القرآن الكريم رسول الله(ص) على تبليغ آية الولاية {بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}( )، هل كان وهو رئيس الدول ورسول الله يخشى من أمرٍ ما، فما هو هذا الأمر؟
ـ من خلال ما أستوحيه من شخصية رسول الله(ص) أنه كان لا يخشى أحداً، لأن الله تعالى حدثنا عن كل الذين يبلّغون رسالات الله {الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله} ، فلا يمكن لرسول الله أن يخشى غير الله.
لكن القرآن تحدّث عن المسألة من خلال أن طبيعتها تختزن ما يُخشى منه الإنسان العادي، أو ربما يطلّ على بعض خطوات رسول الله بما يمكن أن يمسّ رسالته من وجهة نظر الآخرين، لأن المشكلة هي أن علياً ابن عمه وصهره، وسيقول الناس إنه أعطاه الولاية بفعل القرابة والمصاهرة مما قد يضعف الموقف أو مما قد يثير الأقاويل.
فالمسألة لا تتصل بإحساس رسول الله(ص) بالخشية، ولكنها تتصل بطبيعة الموقع والقضية التي تحمل في داخلها ما يثير الخشية التي لو عاشها الإنسان العادي لوقف عندها.
وربما يثير البعض إشكال أن الله تعالى قال في قضية "زينب بنت جحش": {وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه}( )، فكذلك ليس معنى الخشية هنا أن الرسول(ص) كان يخاف أحداً، لأن الله كان قد أطلعه على أن المسألة ليست خاصة، وإلا فقد كان بإمكانه، لو كان هوىً شخصيّ بابنة عمته، أن يتزوجها لأنه هو الذي زوّجها لزيد، وإلا كيف نتصور أن النبي(ص) يخشى الناس ولا يخشى الله الذي يريد أن يؤكد الفكرة فيحدّث رسوله بشيء من القسوة التي ليست موجّهة إليه، ولكنها موجّهة لطبيعة المسألة عندما تتحرك خارج نطاق الرسول(ص)، وقد جاء عن الرسول(ص): "إن القرآن نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة".
حديث (الجهاد الأكبر):
ـ يرى أخواننا السنة أن حديث (الجهاد الأكبر) المروي عن النبي(ص) ضعيف، وأن الجهاد في القرىن جاء بخصوص القتال، وأن تسمية جهاد النفس بالأكبر توهين بهذا الجهاد وربما يدفع للاتكال والاكتفاء بجهاد النفس دون جهاد العدو، فما هو تعليقكم؟
ـ إن القول أن السنة يرون أن الحديث ضعيف ليس دقيقاً، فقد يرى بعضهم ذلك، لكنه حديث يرويه السنّة والشيعة، وهو ما تقتضيه طبيعة الأمور، فحتى لو لم يقل النبي(ص) ذلك فالسؤال هنا: ما هو جهاد النفس؟ إنه عبارة عن تربيتك لنفسك، أي أنك تواجه النفس الأمارة بالسوء إذا أرادت أن تقودك إلى ما يسخط الله عليك وما ينحرف بك عن الخط، فلا بد أن تحارب هذا الجانب الذي يريد إدخالك في جهنم.
وحتى لو أردت الذهاب إلى جهاد العدو فلا بد أن تجاهد نفسك في ترددها وقعودها وتقاعسها، فجهاد النفس هو الذي يعينك على الجهاد الأكبر.. وأما القول بأننا إذا قلنا أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر فإن الناس سوف لا يقبلون على الجهاد الأصغر، فالله تعالى كما أوجب علينا هذا أوجب علينا ذاك، ونحن إذا لم نذهب إلى الجهاد الأصغر نكون قد سخّفنا الجهاد الأكبر.
بين النبوّة والإمامة:
ـ كيف نميّز بين النبوّة والإمامة، فمثلاً كان النبي إبراهيم(ع) عبد الله ثم أصبح نبياً ثم صار رسولاً ثم خليل الله، ثم قال الله له: {إني جاعلك للناس إماماً}( )؟
ـ هو إمام من حيث هو نبيّ، ونبيّ من حيث هو رسول، وإمامته ونبوّته ورسوليته ومخاللته لله كلها ناشئة من عبوديته لله عز وجل، فليست المسألة هي هذا التسلسل، كان عبداً ثم صار نبياً فرسولاً فإماماً، لقد قال بذلك بعض المفسرين، ولكننا في تفسيرنا لم نستطع أن نفهم ذلك، لأن هذه الصفات تتداخل، فالنبي عبد الله "أشهد أن محمداً عبده ورسوله" فهو نبي الله وخاتم النبيين، وهو رسول الله وعبده وهو الإمام، لا الإمامة بالمعنى الاصطلاحي الذي يُراد به "الولاية" ولكن بمعنى القيادة، وإمامة العقل والروح والحركة، فعلى هذا الفهم فإنّ كل نبي إمام بالمعنى الواقعي للإمامة.
فقوله {إني جاعلك للناس إماماً} يعني قائداً، وإماماً من حيث أنه نبي ورسول يؤمّ الناس من خلال ما يقدمه لهم، وهو خليل الله لأنه أحبّ الله وأسلم أمره إليه، وعمق الخلّة والإمامة والرسالة هو عمق العبودية لله لأن أعلى درجة يبلغها إنسان هي أن يكون عبداً في منتهى العبودية لله سبحانه وتعالى.
والرسول(ص) إذ يقول لسيد الوصيين علي(ع): "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي"( )، لأنه إمام ووصي وإن لم يكن نبياً، فكل نبي إمام والعكس ليس صحيحاً.
أهل البيت(ع) أمان للأمة:
ـ ورد في الأحاديث المروية عن الرسول(ص) بطرق سنيّة وشيعية أنّ "أهل البيت أمان للأمة من الاختلاف"، فكيف تتحقق لهذا الحديث مصداقيته حياة المسلمين؟
ـ عندما نقرأ الحديث الذي يرويه السنّة والشيعة "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي"( )، فإن معنى ذلك أن العتر يمثلون الحجة التي يمكن أن ينطلق الناس لرؤية الحق من خلالها، ولذلك فإننا نعتبر أن أهل البيت(ع) حملوا علم رسول الله(ص) كما حمله الرسول نفسه، فكما كان الأمان من الاختف فمن يحمل علم رسول الله فإنه يكون أماناً من الاختلاف أيضاً.
ولاية المعصوم وإمامته:
ـ هل تتوقف ولاية المعصوم وإمامته على قناعة الناس بها أم أنها تتجاوز ذلك؟
ـ لو كانت المسألة تحتاج إلى انتخابات لما نجح النبي في نبوّته في أول عهد الدعوة الإسلامية، لأنه لم تكن له في ذلك الوقت الشعبية الكافية، بل لقد رفضه أكثر الناس، فإذا كان المعنى أن المعصوم ـ نبياً أو غير نبي ـ لا يصل إلى مقامه إلا بقناعة الناس لما وصل إليها أحد.
فالمسألة هنا هي أن الله سبحانه وتعالىا هو الذي يصطفي {إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}( )، فهو الذي يصطفي منهم رسلاً {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس}( ).
ولذلك إن إرسال النبي وولايته ودوره أمرٌ إلهي أراد الله سبحانه وتعالى للناس أن يطيعوه فيه.
الاقتراب من أهل البيت(ع):
ـ كثيرة هي مناسبات أهل بيت العصمة(ع) ولكن واقعنا أفراداً وأمةً بعيدٌ عن عطاءاتهم ومناهجهم، فكيف ترى الأساليب الأفضل لكي نقترب منهم في أخلاقنا وسلوكنا ومواقفنا؟
ـ لقد اختصر الإمام زين العابدين(ع) علاقتنا بأهل البيت(ع) بكلمة، وهي قوله "أحبونا محبة الإسلام"( )، ولذلك فإن علينا عندما نريد أن ننفتح على أهل البيت(ع) أن ننفتح على فكرهم الذي هو فكر الإسلام، وعلى كلماتهم التي هي كلمات الإسلام، وعلى سلوكهم الذي كان سائراً في خط الاستقامة على أساس الإسلام.
وأن نقتدي بهم كما نقتدي بجدهم رسول الله(ص) وأن لا ننشغل بالتعبير عن الحب فحسب، وإن كان له دوره، ولكن أن نعيش الحبّ حباً لما يمثلون ولما ينطلقون شطره، كما جاء عن الإمام الباقر(ع) "حسْبُ الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعالاً، فلو قال إني أحب رسول الله(ص) فرسول الله(ص) خير من علي(ع) ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه الله فهو لنا ولي، ومن كان عاصياً فهو لنا عدو، ولا تُنال ولايتنا إلا بالعمل والورع"( ).
الإقناع بآية البيعة:
ـ كيف يمكن إقناع الآخر غير الإمامي بأن آية إكمال الدين وإتمام النعمة دليل قرآني على بيعة النبي(ص) للإمام علي(ع)؟
ـ إن الآية الكريمة عامة، ولكننا عندما ندرس السنّة وكتب التفسير، والجدل الذي دار في هذا الموضوع فإننا نستطيع أن نعرف من خلال السيرة النبوية الشريفة ومن خلال الكثير من الأحاديث أن هذه الآيةنزلت في يوم الغدير بعد أن بلّغ النبي(ص) الرسالة.
فالقضية ليست قضية إمامي أو غير إمامي، بل قضية علمية لا بد أن ننطلق فيها من دراسة النصوص الواردة في هذا الموضوع، ونحاول أن نقارن بين هذه النصوص والنصوص الأخرى التي تعارضها حتى نستطيع الوصول إلى نتيجة إيجابية كأي بحث علمي يراد من خلاله الوصول إلى نتيجة حاسمة.
ونحن ندعو دائماً سواء على المستوى الإسلامي أو غير الإسلامي أن لا نبحث القضية من خلال أن الشيعة يريدون أن يؤكدوا موقفهم أو أن السنة يريدون أن يؤكدوا موقفهم، بل نبحث القضية كمسلمين يريدون أن يعرفوا ما هو رأي الإسلام في ذلك.
ومن الخطأ جداً أن ندخل الحوار على أساس أن هذا شيعي يريد أن يؤكد موقفه وأن هذا سني يريد أن يؤكد موقفه بالعقلية الذاتية الفئوية، بل علينا أن نفتح عقولنا لله سبحانه وتعالى ونقرأ الآية: {فإن تنازعتم في شيء}، أيها المسلمين وليس أيها الشيعة أو أيها السنة {فردوه إلى الله والرسول}( )، أي من خلال العقلية الإسلامية وفهم الإسلام، وأن نعذر إلى الله سبحانه وتعالى في الموقف الإسلامي، أما أن ندخل كعشائر كل يريد أن يؤكد نفسه وذاتيته فهذا خطأ لأنه يوجد عصبية تجعل الإنسان يفكر في الأشياء من دون أساس أو يفرض الأشياء من دون أساس.
وعلينا إذاً أن ننطلق بعقلية الباحث عن الحقيقة لا بعقلية الإنسان الذي يريد أن يؤكد رأيه، وقد رأينا كيف أن الله علم رسوله في أسلوب الحوار أن يقول {وإنا وإياكم لعلى هدًى أو في ضلالٍ مبين}( )، فهل كان النبي(ص) شاكاً في أنه على هدى وأنهم على باطل وهو {الذي جاء بالصدق وصدّق به}( )، لكن الله تعالى أراد في أسلوب الحوار أن توحي إلى خصمك أو إلى الآخر الذي تختلف معه أنك تريد أن تبحث القضية معه كما لو كنت شاكاً، وأن يبحث القضية معك كما لو كان شاكاً، والنتيجة في نهاية المطاف هي أنكما تترافقان في رحلة البحث عن الحقيقة، لا أنك تريد أن تؤكد نفسك ويريد هو أن يؤكد نفسه، لأن العصبية تأتي من خلال هذا.
دليل إمامة علي(ع):
ـ هل لديكم (أنتم الشيعة) دليل على إمامة علي(ع) غير النصوص، فالبعض يذكر سيرته ونهجه، فهل هذا كافٍ لإثبات الإمامة؟
ـ عندما نتحدث عن ا لحكم الإسلامي وعن إسلامية أي موقف، فمن الطبيعي أن تكون النصوص هي الأساس، فلدينا كتاب الله وسنّة رسوله، والله يقول {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}( )، فليس هناك أي معنى لأن نبحث عن عنوان إسلامي أو خط إسلامي بعيداً عن النصوص.
هذا أولاً، وثانياً، فإن ما ذكرناه مما يعطي عمقاً للمعنى الذي تمثله النصوص، بحيث لا تكون مجرد نصوص انطلقت من دون واقع يفرضها، ونستحضر في هذا المجال كلمة (الخليل بن أحمد الفراهيدي) مخترع علم العروض وصاحب أول قامون لغوي وهو (العين) عندما قيل له: لِمَ قدّمت علياً؟! قال: "احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل أنه إمام الكل".
سرّ الانجذاب السحري لعليّ(ع):
ـ ما هو السرّ في الانجذاب السحري نحو شخصية الإمام علي(ع) عند بعض الناس، وما هو السر في البغض والنصب عند البعض الآخر لنفس الشخصية المقدّسة لأمير المؤمنين(ع)؟
ـ أما كيف ينجذب الناس إيجاباً لعلي(ع) فلأنك لا تملك أمامَ عليّ إلا أنتنجذب إليه، لأنك لا تجد في عقله ولا في قلبه ولا في حياته إلا الإسلام والحق والعدل، حتى أثر عنه أنه قال: "ما ترك لي الحقّ من صديق"( ).
فأنت لا تستطيع أن تجد في عليّ نقطة ضعف ـ بغضّ النظر عن عصمته ـ بل لا تملك إلا أن تنحني إجلالاً لمواقفه، فإنه عندما يظر إلى نعله الذي يخصفه بيده يخاطب ابن عباس قائلاً "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"( ).
وكان يقول: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"( ).
فكيف لا ننجذب لعليّ الذي كان يقول بشأن كل الجدل الذي ثار حول الخلافة، وهو الذي يعتقد كما نعتقد أنه أحقّ بالخلافة، قال: "لقد علمتثم أني أحقّ الناس بها من غيري، والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه"( ).
فعندما تسمع علياً يقول: "يا دنيا يا دنيا، إليك عني، أَبِي تعرّضتِ؟ أم إليَّ تشوّقتِ؟ لا حان حينكّ هيهات! غرّي غيري لا حاجة لي فيكِ قد طقلتك ثلاثاً"( )، ألا ترى فيه إنساناً خرج من الدنيا بالمعنى المادي لها، بعقله وقلبه وروحه وحياته، وعند ذاك كيف لا تحبّه؟!
فأنت لا يمكن أن تحب علياً(ع) وأن تنجذب إليه وأن تدخل في عمق شخصيته، ما لم تفهمه، ولذلك قال الشاعر المسيحي:
يا سماء اشهدي ويا أرضُ قرّي واخشعي إنّني ذكرتُ علياً
أما الذين يبغضونه وينصبون العداوة له، فهم كمن يبغض الورد ويحبّ ا لشوك، وكمن يبغض العطر ويحبّ النتانة، وكمن يبغض النور ويحبّ الظلمة، هؤلاء لا يعيشون معنى الإنسانية، لأنك لا يمكن أن تكون إنساناً وتبغض علياً!! لا نقولها من موقع عاطفة بل من موقع عقل هادئ بارد بحسب حساب الأشياء بكلّ دقّة.
أسباب إخفاء حديث الغدير:
ـ هل هناك أسباب استدعت إخفاء حديث الغدير؟
ـ كل الأسباب والعناصر القلقة التي كانت موجودة في الواقع الإسلامي هي من بين الأسباب التي أوجبت ذلك، فعندما نسمع قول الخليفة الثاني "لو وليّها عليّ لحملهم على المحجّة البيضاء"، وعندما نسمع أن علياً(ع) لا يزال شاباً وأنه قد قتل صناديد قريش، وأن قريش لا تقبل بعلي(ع) وما إلى ذلك، نفهم كيف أخفي حديث الغدير، وكيف اختلطت الأوراق في هذا الموضوع.
ولعلنا نعرف سرّ إخفاء الغدير ـ عندما ندرس الواقع المعاصر ـ الذي كانت فيه بعض القضايا واضحة وضوح الشمس ولكنها أخفيت بطريقة قلقة دخل فيها الكثيرون على الخط.
ولقد فهمت مسألة الغدير، وكيف يمكن أن يتحول الحقّ باطلاً والباطل حقاً عند الكبار وعند الصغار وذلك عندما عرفت أنه ليس هناك من يقرأ جيداً أو يسمع جيداً أو يسأل جيداً.
فأنا أفهم سرّ إخفاء حديث الغدير جيداً، أفهم كيف يمكن أن تنقلب الأمور رأساً على عقِب في أمر واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار.
الغدير البداية أم النهاية:
ـ حديث الغدير هو البداية أم النهاية في سلسلة النصوص التي أكّدت كفاءة الإمام علي(ع) وتعيينه كوصي رسول الله(ص)؟
ـ كان الغدير النهاية، لأننا نتساءل: ما السبب الذي يدفع النبي(ص)، لأن يتحدث عن علي(ع) بهذه الطريقة وخاصة في قضايا تمسّ المسؤولية، فلماذا يقول "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها" ونحن نعرف أن الموقع الإسلامي الأساس لا بد فيه من كفاءة علمية بحيث يستطيع الإمام أن يعطي الإسلام لكل من يريده وأن يجيب عن كل مسألة وأن يحل كل مشكلة ثقافية.
ولماذا يقول(ع) "عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار"، لأن الحاكم في الإسلام لا بد أن يكون حقاً كله، وعلي(ع) هو القائل "ما ترك لي الحقّ من صديق".
ولماذا يقول(ع): "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي"، ونحن نعرف أن هارون كان وزيراً كما في القرآن {واجعل لي وزيراً من أهلي* هارون أخي* أشدد به أزري* وأشركه في أمري* كي نسبّحك كثيراً* ونذكرك كثيراً}( ).
لماذا كان يتحدث بهذه الطريقة المعبّرة عن عمق المعرفة بعلي(ع) وخصائص علي(ع) وكما أكدنا فليست المسألة هي أن النبي(ص) كان يعبّر عن عاطفته تجاه علي(ع) ولكنه كان يعبّر عن مسؤوليته في تعميق الفكرة عن علي(ع) فيما يملكه من الخصائص التي تعينه ليقود المسيرة الإسلامية من بعده.
مرض الشكّ في زمن الإمام علي(ع):
ـ كان الشهيد الصدر(ع) يرى أن أهم وأشد الأمراض التي ابتلي بها المسلمون في عصر الإمام علي(ع) هو مرض الشك، فلماذا نشأ الشك، وكيف نشأ، مع أن الإمام علي(ع) يمثل أكمل مسلم بعد رسول الله(ص)؟
ـ يبقى الإنسان إنساناً، يأخذ من الإسلام ومن الإيمان بمقدار مختلف، فقد يأخذ الإسلام كله وقد يأخذ ربعه أو نصفه أو ما إلى ذلك، وتنطلق المؤثرات لتؤثر فيه سلباً.
فالشك كان في عهد رسول الله(ص) حيث وقف (العباس بن مرداس) في (غزوة حنين) ورسول الله(ص) يقسّم الغنائم بين المقاتلين، وكانت له حكمته في ذلك، فوقف العباس بن مرداس وهو يرى أنه يستحق أكثر من ذلك، قال: "إعدل، فقال: ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل"( )؟!
وهكذا كنا نجد أن المنافقين من خلال طبيعة التعقيدات الموجودة في الواقع الإسلامي كانوا يشكّون، وقد رأينا في أواخر حياة رسول الله(ص) وبعد رسول الله(ص) كيف انطلق الكثير من الناس في تعقيد الأمور بنحوزرعوا من خلاله الشك، فلقد كان حديث (الغدير) أوضح الكلمات، ولكن رأينا كيف انطلقت كلمات تثير الهواجس من هنا وشكوكاً من هنا، وتبعد المسألة من مدلولها هناك، حتى رأى النبي(ص) أن ا لناس تبتعد عما بيّنه بوضوح لأن الناس بدأوا يتحدثون عنه بطريقة تبتعد عن الوضوح.
ولذلك قال: "إيتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً"( )، ومع ذلك قال بعض الناس: (إن النبي ليهجر) حتى يبذر الشك فيما يكتبه النبي(ص) وهذا ما قاله النبي(ص) عندما قيل له بعد ذلك، كما تنقل الرواية: هل نأتيك بالدواة والكتف؟ قال: أو بعد الذي قلتم؟! فيأتي شخص ليقول إن النبي(ص) كان غائباً عن الوعي وكان يهجر.
وهكذا عاش المسلمون مشاكل كثيرة وتعقيدات حجبت وضوح الحقيقة عندهم، وهذا ما جعل الشك يثور في عهد علي(ع) أقوى مما ثار في عهد الرسول(ص)، فليست مسألة أن يشك إنسان أو لا يشك من خلال طبيعة الشخص الذي يعيش معه، ولكن من خلال التعقيدات الاجتماعية التي تخلط الأوراق وتبعد القضية عن وضوحها، وهذا ما نلاحظه في كثير من الأوضاع والأحكام والشكوك التي قد تُثار حول الكثير من رجال الطليعة الإسلامية من خلال حقد هنا وحسد هناك ومخابرات هنا وما إلى ذلك، مما يفقد الحق معه وضوحه فيخيل للناس أن الحق باطل وأن الباطل حق، ويحاربون الحق باسم محاربتهم للباطل، ويدعمون الباطل باسم دعمهم للحق، وكم لهذه القضية من شواهد في عصرنا الحاضر؟!
هبات الأئمة(ع):
ـ نسمع كثيراً أن الإمام الفلاني(ع) قد أعطى مبلغ ألف دينار أو أكثر لشخص واحد، وهناك أكثر من رواية في ذلك، مع العلم أن هناك العديد من المحتاجين، أليس هذا وضعاً للمال في غير موضعه؟
ـ مَن قال إنه لا يعطي الألوف من الدنانير للمحتاجين من دون أن يعرف أحد من الناس عطاءه، فلقد كان بعض الأئمة(ع) يحمل الجراب على ظهره، ويطوف على بيوت الناس ليعطيهم من دون أن يكشف عن شخصه، كما كان الإمام زين العابدين(ع) يفعل ذلك.
عوامل الثورة الحسينية:
ـ ما هي عوامل خلود الثورة الحسينية، مع العلم أن الأئمة(ع) كلهم ثاروا على أئمة الكفر في زمانهم، وكان كل واحد منهم قد ثار بطريقته الخاصة؟
ـ إن ثورة الحسين(ع) لها عمق في الجانب الإنساني العاطفي من جهة، كما أن لها امتداداً في الجانب السياسي من جهة أخرى، وكما كان لها عمق في المعنى الرسالي.
فنحن عندما ندرس كربلاء نجد أن الجميع في كل مراحل العمر شاركوا في حركة الرسالة بوعي الرسالة، فإنك تجد الطفل ابن العاشرة وابن الثالثة عشر وهو الطفل الذي يتحرك بوعي قضية الحسين(ع).
وترى الأطفال الضحايا من الرضع وغيرهم، وترى الشباب الذين يعيشون في المستوى الذي يعيشه الحسين(ع)، كما ينقل عن علي الأكبر(ع): "يا أبتاه ألسنا على الحق؟! قال: إي والذي نفسي بيده، قال: إذاً لا نبالي أن نموت محقين"( ).
ونجد أيضاً الشيوخ الكبار كحبيب بن مظاهر وزهير بن القين ومسلم بن عوسجة، ممن كانوا في الثمانين والتسعين، وكانوا على درجة من الوعي عالية، فما كان يجمعهم أنهم لم ينطلقوا من خلال الحسين(ع) كشخص، بل من خلاله كرسالة وكانوا يتصورون أن عهدهم مع الحسين(ع) هو عهدهم مع الله، لأنه كان ينطلق عن الله ويتحرك في خط الله، ولذلك أعطاهم هذا الوسام حينما قال: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً}( ).. كإشارة إلى الذين بدّلوا وغيرّوا طريقهم وقد كانوا يسيرون في طريق الحسين(ع).
وكذلك عندما ندرس طبيعة الوحشية في هذه المأساة فإننا نجد أنها وحشية لا تستطيع أن تجد لها نظيراً فيما عاشه الإنسان من مآسي، فقد تضع قنبلة لتفجّر مكاناً وتقتل جماعة، أما أن توجه سهماً لطفل رضيع لا لشيء سوى لقطع نزاع القوم، فجريمة في غاية البشاعة والوحشية.
وأخذ السبايا كمثل آخر، فلم يكن في الواقع الإسلامي سبايا بالنسبة لنساء المسلمين، فلقد كان المسألة مقتصرة على نساء الكافرين، ولذا كانت مسألة السبايا بدعة أموية لم يسبقهم إليها أحد، وهُنّ مَن هُنّ؟! فلقد كُنَّ بنات رسول الله(ص) وبنات أبناء رسول الله(ص).
فقضية الحسين(ع) تمثل عناصر خلود غير موجودة في أي واقع إسلامي، فلقد اغتيل الإمام علي واستشهد في المحراب كما يستشهد الرجال، وكذا الإمام الحسن(ع) حيث قضى شهيداً بالسم، وهكذا بقية الأئمة(ع) على بشاعة الجرائم التي ارتُكِبَت بحقّهم، لكن قضية الحسين(ع) قضية متحركة بحيث انفتحت على كل الواقع الإسلامي ومثّلت التحدي الصارخ الكبير، وفي الوقت نفسه كان تحمل خطوطاً رسالية تمتد مع الزمن.
فالثورة الحسينية تمتاز بامتزاج الفكرة بالعاطفة، وهذا ما نؤكد عليه دائماً في مسألة إبقاء المواكب والمآتم، فلا يجوز الغاؤها بل علينا أن نقوم بعملية تطوير لأساليبها حسب تطور الزمن من وسائل التعبير حتى يجد كل جيل أسلوبه المعاصر فيها، فأساليب النعي وغيرها أساليب سابقة على هذا العصر الذي له أساليبه الجديدة في التعبير وتمثيل الفكر.
علينا أن نبقى في دراسة دائمة لكل وسائل الاحتفال بالذكرى، فالمسألة ليست مسألة حلال وحرام بل مسألة تخلّف ووعي.
وعلينا أن لا نجعل المأساة تأكل القضية، فليس المهم أن يقوم الخطيب بدور الإبكاء بصوت جميل، بل نريده أن يقوم بدور الموعّي والمواجه لحركة الواقع، وعلينا، كما الحسين(ع)، أن نبحث في عاشوراء قضايا الحاكم والحكم والناس، فلا بد أن تكون عاشوراء موسمنا الذي ندرس فيه قضايانا السياسية والاجتماعية والثقافية وكل التحديات التي توجه ضد الإسلام والمسلمين، فالحسين لم ينطلق لكي نبكي بل انطلق لكي نعي.
تحقيق الحسين(ع) لهدفه:
ـ أعلن الإمام الحسين(ع) عن هدف نهضته حينما قال: "إني خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي"، فهل تمكّن من تحقيق هذا الهدف أم لا؟
ـ إذا أردنا أن ندرس المسألة على مستوى المرحلة الحاضرة، وهي مرحلة الحرب، فالحسين(ع) لم يستطيع أن يحقق هذا الهدف، ولكننا عندما ننظر إلى المستقبل فإن الإمام الحسين(ع) قد استطاع بنهضته أن يهزّ كل ذلك الواقع وأن يصدمه وأن يفتح عقول الناس على الحق وأن يوجههم للثورة على الحكم الظالم.
ولهذا، فإننا نعتقد أن الحسين(ع) انتصر ولا يزال ينتصر، ونحن نتذكر كلمة الوعي التي قالها الإمام الخميني(رض): "كل ما عندنا من عاشوراء" باعتبار أنها هي التي ألهمت المجاهدين روح الثورة والتحدي للاستكبار، ونعتقد أن المقاومة الإسلامية في لبنان هي نتيجة للروح الحسينية التي تربى عليها المجاهدون.
ولذلك، فإن الحسين(ع) لا يزال ينتصر في أكثر من موقع لأنه(ع) عندما انطلق لطلب الإصلاح في أمة جده لم ينطلق لأجل أن يحارب يزيد بالذات، بل لكي يحارب كل يزيد في كل زمان ومكان، وكل كفر وضلال، وليحرك الإسلام في مواقع القوة والإصلاح في ساحة التحدي.
ثأر الله:
ـ جاء في زيارة الإمام الحسين(ع) "السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره" فما معنى ثأر الله؟
ـ إن الحسين(ع) قد انطلق وهو وليّ الله وهو حبيب الله وهو الإنسان الذي أعطى كل نفسه لله، وكان يعيش الفرح في قمة الألم مما جعله يقول وهو يتلقى دم ولده الرضيع: "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله" فقد انطلق ن أجل رضا الله لإصلاح الواقع في أمة جده رسول الله.
فقضية الحسين(ع) تتصل بالخط الإلهي بشكل مباشر، ولذلك فإن الذين قتلوا الحسين(ع) تحدوا الله سبحانه وتعالى في وليّه وحبيبه، ولذلك جاءت كلمة (ثأر الله) على نحو الكناية، فكما يثأر الإنسان من قاتل حبيبه ليقتله أو يعذبه، فإن كلمة الثأر لله تعالى استعيرت هنا، كما لو كان عذاب الله لهؤلاء الذين قتلوا الإمام الحسين(ع) ثأراً ضدهم.
وقد نستوحي من هذه الكلمة أن الحسين تحوّل إلى قضية ورسالة، وأن الذين حاربوه وقتلوه تحوّلوا إلى قيمة سلبية في معنى الظلم والانحراف، مما يجعل من المسألة مسألة ثأر للحق ضد الباطل، وللإيمان ضد الكفر، وللعدل ضد الظلم، بحيث يتحول الثأر الإلهي في مواجهة كل الذين يصنعون المأساة للحق وللإنسان.
العاطفة في النهضة الحسينية:
ـ نهضة الإمام الحسين(ع) كما تقولون في كتابكم "حديث عاشوراء" فكر وعاطفة، عِبرة وعَبرة، فكيف يمكن أن نعطي العاطفة حقها ونثير الناس ونشدهم إلى قضية سيد الشهداء دون تشويه صورة الثائر النبوي العظيم؟
ـ إن مسألة تمازج العاطفة والفكر تنطلق من كل حركة إنسانية مبدئية تختزن المأساة، لأن أية حركة تعيش ساحة الصراع وتستنزف الدماء وتعيش الجراحات فإنها تختزن المأساة في عناصر الألم التي تعيش في داخلها.
وعندما ندرسها على أنها حركة من أجل الحق، فهناك الفكر الذي يحرّكها، لذلك لا انفصال بين الفكر وبين العاطفة، لأن حركة الفكر في المطالبة بالحق انطلقت من أجل أن تعيش الجراحات التي يتحملها الثائر من أجل القضية ومن أجل الحق.
فنحن لا نحتاج إلى أن نخرج إلى الخارج لنستنزف العاطفة في قضية الحسين(ع) بل أن الانطلاق إلى داخلها في مفرداتها الحقيقية المأساوية في الشعارات التي انطلق فيها الحسين(ع) وفي العناصر الشخصية للإمام وعناصر الشخصية لكل أهل بيته وأصحابه، كل ذلك يستثير ويستجيش عواطفنا، فلا نملك ونحن نحتضن الحق الذي انطلقوا من أجله إلا أن نبكي باعتبار أن إنسانية القضية في حركة الحق والمأساة لا يمكن أن تنفصل عن بعضها البعض.
فما أريد أن أقوله هنا، هو أنه لا بد أن تبقى العاطفة أصيلة في المسألة الحسينية، ولا بد أن نثير عاطفة الإنسان عند طرح السيرة، ولكن علينا أن نحسن أساليب إثارة العاطفة، لن لكل عصر أساليبه، فقد تكون بعض الأساليب سواء في الشكل أو في المضمون التي كان الناس يعيشون الحزن من خلالها، قد استهلكت وعفا عليها الزمن، وعلينا أن نستحدث أساليب جديدة لأن العصر يتطور بأساليبه كما يتطور بأفكاره.
مبرِّر نهضة الحسين(ع):
ـ هل أن مبرر نهضة سيد الشهداء(ع) هو دعوة أهل الكوفة فقط، أم أن هناك دواعي ومبررات أخرى؟
ـ إن الثورة كانت جاهزة في عقل الحسين(ع) لأنه أطلقها قبل أن يصله أي كتاب من أهل الكوفة، عندما قال: "نحن أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة.. ـ إلى أن يقول ـ ويزيد رجلٌ فاسق وشارب الخمر قاتل النفس المحرّمة ومثلي لا يبايع مثله".
فالثورة بدأت برفضه البيعة، وإن التزم الإمام الحسين(ع) في عهد معاوية البيعة باعتبار مشاركته للإمام الحسن(ع) في ذلك، وعندما جاء يزيد رأى أن المسألة ليست مسألة أهل الكوفة فقط، بل إن رسائل أهل الكوفة أوجدت الظرف الموضوعي للتحرك بشكل طبيعي.
ثورة الحسين(ع) والفكر التغييري:
ـ بِمَ تفسِّرون غياب ثورة الإمام الحسين(ع) عن الأطروحات الموجودة في الفكر التغييري، وكيف يمكن أن نستفيد من عاشوراء في بناء نظرية الثورة في الفكر الإسلامي؟
ـ أفسر ذلك بأننا حوّلنا ثورة الإمام الحسين(ع) إلى دموع ولم تكن الدموع حارة تحرق الطغاة، وحوّلناها إلى دماء تخرج من رؤوسنا بأيدينا، ولا تنزف من رؤوس الأعداء بأيدينا، وحوّلناها إلى تعذي للنفس من دون فائدة، فلقد قلت في بعض الكلمات ولا زلت أتحمل الشتائم في ذلك، أنكم إذا أردتم مواساة الحسين(ع) بدمائكم فلقد سالت دماء الحسين(ع) وهو يجاهد في سبيل الله، فدونكم ساحة الجهاد ضد الكيان الصهيوني، والذي يحب أن يواسيه فليقف مع المقاومة الإسلامية التي تواصي الحسين(ع) بدمائها، وإذا أردتم الضرب بالحديد مواساةً لبنات وأخوات الحسين اللواتي ضربن بالسياط، فهؤلاء الطغاة يملأون الأرض، ثوروا ضدهم وليضربوكم بالسياط وأنتم سجناء مبادئكم وثورتكم.
فزينب وأخوات زينب ضربن بالسياط في خط الثورة، فهنّ لم يجلدن أنفسهنّ بالسياط.. فمشكلتنا هي أننا نعيش عصبية التخلف ولا نعيش إشراقة الوعي.
ثورة الحسين(ع) ومواجهة التحديات:
ـ كيف يمكن الاستفادة من ثورة الإمام الحسين(ع) في مواجهة تحديات الواقع المعاصر بكل أشكاله الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية؟
ـ بأن نعتبر أنفسنا جزءاً من ساحة الصراع بين الحق والباطل وأن ننزل جميعاً إلى الساحة، وأن نعرف أولوياتها، وأن نتسلح بكل ما تحتاجه، فإن كانت ساحة الصراع سياسية فلا بد أن يكون لدينا وعي سياسي، وإن كانت ثقافية فلا بد أن يكون لدينا وعي ثقافي، وإن كانت ساحة صراع عسكرية فيفترض أن يكون لدينا تدريب عسكري، وبعبارة مختصرة أن نكون أبناء الأمة التي يتحمل فيها الإنسان مسؤوليته عن أمته في خط الرسالة التي تلتزمها الأمة.
وأن لا نعيش الفردية بأن يقول كل فرد عليّ أن أرتاح ولا علاقة لي بالآخرين، بل بالعكس، أن يكون لك علاقة بهم وأن تكون جزءاً من كل، لا أن تكون مجرد فرد "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، في الوقت الذي ترانا إذا اشتكى عضو منا قطعناه وحاولنا أن نقطع الأعضاء الأخرى، فنحن مشغولون بتقطيع أوصالنا وبتمزيق أعضائنا وبإسقاط ساحتنا، كما أننا نعيش حالة من وحشية التخلف التي تجعل الإنسان يفكر في مرآة نفسه ولا يفكر في مرآة الأمة.
لماذا لم يقاتل الحسين(ع) الحرّ الرياحي؟
ـ لماذا لم يقاتل الإمام الحسين(ع) جيش الحر بن يزيد الرياحي، ويستغل فرصة عطشهم، وهل يمكن القول أن الإمام الحسين(ع) اختار المواجهة مع جيش الدولة الرسمي المتمثل بقيادة عمر بن سعد؟
ـ كان الإمام الحسين(ع) إنسانياً كأبيه أمير المؤمنين(ع)، ففي صفين حينما غلب جيش معاوية على الماء منعوا الإمام علي(ع) وجيشه من شرب الماء، وبعد أن تغلب جيش الإمام على جيش معاوية وسيطر على الماء أراد منع جيش معاوية، لكن الإمام علي(ع) رفض ذلك، لأن الفرق هو أن الإمام يفكر بذهنية إنسانية رسالية، وربما كان يتصور أنهم أناس مخدوعون، وهذا ما نراه في بعض كلماته، عندما استبطأ أصحابه إذنه في القتال في صفين، بعدما لم يقاتل لثلاثة أيام، فجرى همس بين أفراد جيشه: أكان ذلك شكاً في أهل الشام؟ أم كان ذلك كراهية للموت؟ فسمع الإمام ذلك، فقال لهم: "أما قولكم أن ذلك كان كراهية للموت، فوالله ما أبالي أدخلت على الموت أم خرج الموت إليَّ، وأما قولكم أن ذلك كان شكاً في أهل الشام، فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تهتدي فئة فتعشو إلى ضوئي وذلك أحبّ إليَّ ن أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها".
أي أنه يقول ليس من مهمته أن يقتل الناس فهو ليس لديه شهوة لقتلهم كما يرى بعض الأبطال قوته في عدد قتلاه، فالإمام يستخدم الحرب كعنصر ضغط لعل الناس يستجيبون فيسمعون فيأتون إلى الإمام فيهتدون بهديه، وهذا أفضل لديه من مقاتلتهم.
والإمام الحسين(ع) كذلك، فلقد كان الحر الرياحي عاقلاً ومؤدباً، فلقد رفض أن يصلي بأصحابه والحسين(ع) موجود، فلقد فصل بين الصراع السياسي وبين الائتمام بالحسين(ع) كإمام عادل وابن بنت رسول الله(ص).
وعندما قال له الحسين(ع): ثكلتك أمك، أجابه بأدب: لو قالها غيرك من العرب ما كنت أترك ذكر أمه بالثكل لكنك الحسين وأمك فاطمة، ومن هنا نرى أن الجو لم يكن جواً قتالياً ولا حاقداً، فلقد لجأ الحر إلى التسوية ولم يكن يرغب بمقاتلة الحسين(ع)، فلقد خيّره بأن لا يدخل الكوفة ولا يرجع إلى المدينة بل يختار طريقاً ثالثاً.
ثم إن الروح الإنسانية التي كان يتحلى بها الإمام الحسين(ع) ينطبق عليها قول الشاعر:
ملكنا فكان العفو منّا سجيةً
وحلّلتم قتل الأسارى وطالما غدونا
فحسبُكُم هذا التفاوت بيننا
فلما ملكتُم سال بالدم أبطحُ
على الأسرى نعفّ ونصفحُ
وكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
فالحسين(ع) كان يمثل الأريحية الإسلامية الإنسانية كما يقول: (عباس العقاد) وهذا ما ينبغي أن نأخذه من الإمام الحسين(ع).
دروس الحسين(ع) للشباب:
ـ ما هي الطريقة التي إذا مارسها الشباب يكونون قد استفادوا من واقعة الإمام الحسين(ع) وثورته الخالدة؟
ـ أن يعيشوا مسؤوليتهم عن إسلامهم وعن أمتهم كما عاشها الإمام الحسين(ع) وأن لا يواجهوا الحياة بطريقة الاسترخاء، وأن لا يواجهوا الحياة بطريقة اللامسؤولية، بل أن يواجهوها من موقع أنهم مسؤولون عن الإسلام وعن الواقع الإسلامي، وأن يدرسوا طبيعة الواقع ويقارنوا بين إمكاناتهم وبين ما يحتاجه الواقع.
موقع العلماء من السبي:
ـ أين هو موقف علماء الإسلام من سبي أهل البيت(ع)؟
ـ قد لا تكون المسألة آنذاك في الجانب الإعلامي واضحة بالنسبة إلى الناس، وربما كانت الدعايات المضللة تحجب عنهم رؤية طبيعة القضية، وعندما نعرف أن الفرزدق قال للإمام الحسين(ع): "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، نعرف كيف يمكن أن تكون المساحة بين ما هو القلب وبين ما هي الأطماع والمصالح، وأعتقد أننا نعيش الكثير من ذلك من واقعنا المعاصر.
جارية السجّاد(ع) وكظم الغيظ:
ـ تقول الرواية أن جارية الإمام زين العابدين(ع) ارتكبت خطأً فقرأت الآية {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}( )، والسؤال: هل أن الإمام لم يكن ليكظم الغيظ ولا ليعفو عنها ولا يحررها لو لم تذكّره الجارية؟
ـ ليس معناه ذلك، إنما توحي القصة أن من حق الإمام(ع) معاقبتها لأنها أساءت وأنه يعفو عنها برغم ذلك، لكن عفو الإمام لا يعني أنه جاء بسبب قراءتها، بل أراد أن يقول لها إنني ممن يكظم الغيظ فكظمت غيظي، وأنا ممن يعفو عن الناس ولذلك عفوت عنك، وأنا ممن يحسب ولذلك أحسنت إليك.
فلم يكن ما صدر عن الإمام(ع) ردّ فعل لقراءة الجارية ولكنه إعلامٌ للجارية بأنه يعيش هذه الآية حتى لو لم تقرأها.
دور الإمام الصادق(ع) السياسي( ):
ـ لماذا لم يدخل الإمام الصادق(ع) مجال السياسة؟
ـ لقد تحدث افمام الصادق(ع) عن الخطوط السياسية بالطريقة التي نستطيع من خلال دراسة تراثه أن نستلّ منه منهجاً سياسياً في الخطوط العريضة متكاملاً.
أما في الواقع السياسي فينقل في تأريخ الإمام الصادق(ع) أن أحد الثائرين على بني أمية وهو (أبو سلمة الخلال) هذا الذي انطلق مع (أبو مسلم الخراساني) والمجموعة التي ثارت بوجه بني أمية قد أرسل كتاباً للإمام الصادق(ع) يطلب فيه أن يستلم الحكم، وقال للرسول إذا لم يقبل الإمام فاذهب إلى (عبدالله بن الحسن) وإذا لم يقبل فإلى شخص آخر.
فلقد جاء الرسول إلى الإمام الصادق(ع) وأعطاه الكتاب، فلم يعلّق الإمام فقال له أريد الجواب، فقال له انتظرني حتى أعطيك الجواب، فقرّب السراج ووضع الكتاب عليه فأحرقه، وقال له هذا هو الجواب، فلم يفهم الرسول المغزى، وذهب إلى عبدالله بن الحسن وأعطاه الكتاب، فجاء عبدالله إلى الصادق يستشيره، فقال له الإمام لقد جاءني قبلك، وإني لأعرف أن هؤلاء ليسوا بمخلصين بل يريدون أن يستغلوا الأمر، فقال عبدالله: إنه يكتب إن شيعتك في خراسان كثير، فقال له: من أين كان لنا شيعة في خراسان لا نعرفهم ولا يعرفوننا، فالإنسان عندما يريد استلام الحكم لا بد له من أن يملك أمره ويملك مفاصله ويستطيع أن يدير كل حركته، أما أن تكون الحركة بيد هؤلاء وليس لهم في العمق أية علاقة، بل قالوا إذا ذهب بنو أمية فإنا نأتي إلى بني علي الذين يمكن أن يكونوا أكثر تسامحاً من بني العباس، وهذه هي المسألة.. ولذلك قال له عليك أن ترفض، لكن الرجل لم يحمل الإمام الصادق(ع) على محمل حسن.
فالإمام الصادق(ع) كان قد عرض عليه الحكم، ولكنه ـ كان من خلال معرفته بالواقع ـ يرى أن الحكم عرض ليكون مجرد عنوان من دون أن يملك إدارة الحكم بالطريقة التي يستطيع فيها أن يحقق ما يريده من تنفيذ حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في أن الكثير من الذين يعارضون الحكم قد تقدمه إليهم بعض الأجهزة وبعض المواقع السياسية المسؤولية على طبق من ذهب، وقد يغرهم ذلك ولكن عليهم أن يدرسوا عمق ذلك حتى لا يكونوا مجرد ورقة يلعب بها الكبار حيث يجعلون منهم واجهة عما يريدون، بحيث يختفون وراءها ليطبّقوا كل ما يريدون من دون أن تكون لهم يد كما في الكثيرين الذين لا يمثلون أنفسهم ولا شعوبهم، بل إنهم مجرد واجهة.
غزارة علم الإمام الصادق(ع):
ـ لماذا كان علم الإمام الصادق(ع) أكثر من علم الأئمة الباقين؟
ـ ليست المسألة كذلك، بل إن الفترة الزمنية التي عاشها الإمام الصادق(ع) كان بعيدة عن الضغوط من جهة الصراع بين الأمويين والعباسيين، فالأمويون مشغولون عنهم، والعباسيون مشغولون عنهم أيضاً، لذلك استطاع هو والإمام الباقر(ع) أن يعطيا العلم بهذه الشكل الواسع، بينما لم يتوفر لبقية الأئمة(ع) ذلك.
ذكرى الصادق(ع) وطلبة الحوزة:
ـ نعيش ذكرى الإمام الصادق(ع)، فكيف ترون طالب الحوزة اليوم مقارنة مع ما كان عليه في الأمس؟ وهل هناك من توصية لعموم طلبة العلم؟
ـ إن الإمام الصادق(ع) كان المهتم في كل ما يحرك من ثقافة، فكان إذا جاءه شخص يثير مشكلة فلسفية في العقيدة أعطاه حلّها، وإذا كان جاءه شخص يطلب منه فتياً في الفقه كان يحدثه عن آراء كل كل الذين يطلقون الفتاوى الفقهية في زمنه، وكان إذا أراد منه مفهوماً إسلامياً في قضايا الحرية والعزة وما إلى ذلك أعطاه الخط العام في ذلك، وكان إذا أراد الموعظة أعطاه الموعظة.
كان موسوعياً ـ وهو الإمام ـ فكان يتحدث في كل ما يشغل هم الناس، أما الآن فمن المؤسف أن الحوزات انكمشت في مناهجها بحيث أنها غرقت في الفقه والأصول من دون انفتاح على ما عند الناس مما قد يختلف عما عندنا، ولذلك إذا لم يكن لطالب العلم جهد شخصي في قراءاته ودراساته، فإنه لا يستطيع أن يخرج إلى العالم ليواجهه بالإسلام بالمستوى الذي يقيم الحجة عليه.
وليس هذا ذنب طلاب العلم، إنه مسؤولية مناهج الحوزات التي لم يستطع القائمون عليها ولا الظروف المحيطة بأن تجعلها معاصرة، بحيث تعيش عصرها، فلا تزال مناهج الحوزات تعيش أسلوب مناهج ما قبل ألف سنة، وربما نجد أن الحوزات قبل ألف سنة كانت أكثر تطوراً من الحوزات الموجودة الآن في بعض جوانبها.
لذلك نقول لطالب العلم إذا كنت تريد أن تحمل رسالة الإسلام فعليك أن تتقن المنهج الذي تدرسه، ولكن عليك أن تتجاوز ذلك إلى كل ما يحتاجه الإنسان المعاصر من ثقافة تتصل بالإسلام، لأن ذلك هو الذي يفتح لك كل الساحات "العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق"( )، فكن العالم الموسوعي الواعي الذي يملك أن يجيب عن الكثير من علامات الاستفهام التي يطرحها الناس وستفتح لك أبواب العالم حتى العالم المستكبر، وحتى العالم المفكر.
فأنا لا أتصور أن الإنسان لا بد أن يصنع من نفسه كياناً، بحيث يكون حاجة للناس، وعندما تكون حاجة للناس فإن الناس يهرعون إليك، ولكن إذا لم تكن كذلك فلماذا يلجأون إليك، وإذا كنت تعيش في عصر ما قبل مئتين أو ثلاثمائة سنة والناس يعيشون في هذا العصر فما حاجة الناس إليك؟ فهل يذهب الناس ليشتروا الأطعمة التي كانت قبل ثلاثمائة سنة؟ ألا يبدل التجار في كل سنة ديكور محلاتهم وبضاعة متاجرهم ويبيعوا ما هو مستهلك ويأتوا ببضاعة جديدة؟ وما ذاك إلا لأن لكل سنة بضاعة جديدة وأزياء جديدة وحاجات جديدة، لا بد أن نغير الديكور والبضاعة التي استلهكت ونحاول أن نجدد المفاهيم، وقد تكون مفاهيم جديدة لكننا نلبسها أثواباً قديمة، فلا بد للجديد الذي تريد له أن يتجدد في وعي الناس أن يلبس ثياباً جديدة بأن يطرح في أساليب جديدة.
الحوار حول المهدي(عج):
ـ في كثير من الحوارات مع أهل السنّة، وأحياناً مع أهل الشيعة، في قضية الإمام المهدي(عج) نجد أن هناك درجة من التصلّب تصل إلى رفض هذه الفكرة من حيث مدة العيش كل هذه الفترة الزمنية وكيفية مواجهة هذا التطور التقني التسليحي فماذا ترون؟
ـ هناك أكثر من نقطة في هذه المسألة، فالنقطة الأساس هي أن الذي يتكلم في الأمر لو كان مسلماً، فالإسلام يقوم على أساس الإيمان بالغيب، فإذا ثبت عندنا الغيب من الصادق المصدق، فما علينا إلا أن نؤمن به، كما هو الأمر بالنسبة للجنّة التي يصورها القرآن، والنار التي يصفها بأنه {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها}( )، وعالم الملائكة وخلق آدم وعيسى(ع) والإسراء والمعراج، فعندما نريد إخضاع مفردات العقيدة للجوانب المادية فإن علينا أن نتخلّى عن أكثر ما لدينا من العقيدة بما فيها الوحي.
فهذه المفردات وغيرها لا يمكن إدخالها إلى العقل الإيماني إلا من خلال الإيمان بالغيب.
والنقطة الأخرى، هي مسألة طول العمر، فالقرآن الكريم حدّثنا عن نبي الله نوح(ع) رفلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً}( )، وليس معلوماً لدينا كم عاش بعد الطوفان، فلو عاش إنسان ألف سنة فبإمكانه أن يعيش ألفين أو أكثر، ولدينا في الفلسفة قاعدة عقلية تقول "حكم الأمثال فيما يجوز فيما لا يجوز واحد"، فالذي يعيش هذا العمر الطويل يمكنه أن يعيش عمراً أطول.
فمن ناحية التأريخ الديني لا استبعاد أن يعيش الإنسان عمراً طويلاً، أما المسلمون المتنازعون في ذلك، فالمسلم الذي يؤمن بتعمير نوح لا بد أن يفرض بأن إمكانية التعمير واردة حتى حتى بالنسبة لغيره.
والجانب الآخر من هذه النقطة هو أنه إذا كان القوم يتكلمون بالعلم فليس في العلم مستحيل، فالنظريات العلمية تقول إننا إذا اكتشفنا سرّ تجدد الخلايا وسرّ الحياة، فإن بإمكان الإنسان أن يعمّر إلى ماشاء الله، فالعلم من حيث الجانب النظري لا يرى ذلك مستحيلاً، ألا ترون في الصرعات المريكية كيف يوصي أحد الأثرياء أن يجمّد جسده، حتى إذا ما اكتشف العلماء سرّ الحياة فإنه يعاود العيش من جديد؟!
وأما كيفية التغلّب على الأسلحة، فنحن نعرف أن هناك معارك ستجري وأن شهداء سيسقطون، ولكننا لا نعرف عن طبيعة ذلك الزمان الذي قد تدمّر فيه الأسلحة بعضها البعض الآخر، وقد يكتشف سلاح يدمّر كل الأسلحة، فالله الذي ألهم مكتشفي الأسلحة يمكن أن يلهم مكتشفين آخرين أسلحة أكثر تطوراً، ولما كانت مسأة الإمام المهدي(ع) غير عادية فيمكن أن يكون السلاح أيضاً غير عادي، ألم يكن الطير الأبابيل سلاحاً غير عادي؟!
فقضية الإمام المهدي(ع) غيب من الغيب، فإذ ثبت لنا هذا الغيب، وهو ثابت، فعلينا أن نؤمن به، أما الاستبعادات فلا نقف أمام النقد.
يملأ الأرض عدلاً:
ـ في الحديث النبوي الشريف، تحدث النبي(ص) عن الإمام المهدي(عج) وقال إنه "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"( )، والسؤال: إلى أي مقدار هو هذا الملئان في الأرض؟
ـ ليس المقصود بذلك أنه ليس هناك عدل حتى على مستوى الأفراد، بل معناه أن الجور هو الظاهرة العامة التي يتعامل بها الناس، ولعلنا نعيش في هذه الأيام جوانب من هذه الظاهرة من خلال القوانين التي تقنّن في العالم ومن خلال قوة الاستكبار وما شاكل ذلك.
شرط انتشار الظلم:
ـ إن ظهور الإمام(ع) مشروط بظهور الجور وعمومه في كل مكان لكي يبدلهما بالعدل والقسط، هل نفهم من ذلك أنه لا بد من انتشار الظلم في العالم حتى يخرج الإمام، ولماذا الدعوة لجهاد الكفر؟
ـ يرى بعض الناس أنه لا بد للتمهيد لظهور الإمام من أن تزيد وتائر الظلم والجور، فإذا أردنا القيام بذلك، فإن ذلك يعني أننا يجب أن نحارب الإمام عندما يظهر، فإذا كنت ظالماً لأهلك مثلاً فسوف تكون في صف الظالمين الذين يحاربهم الإمام.
فعلينا أن نعيش الصراع ضد الظلم سواء وفقنا أو لم نوفق، فإذا وفقنا فسوف نستطيع صناعة واحات في الصحراء الواسعة من الظلم بحيث يستريح فيها الذين ينتظرون الإمام انتظاراً حقيقياً.
أمر من الله:
ـ كيف تثبتون أن غيبة الإمام المهدي(عج) هي أمر من الله؟
ـ هي أمر من الله تعالى لأنها خارجة عن العادة والمألوف، إذ لا يملك بشر أن يغيب بإرادته بهذه الشروط والأوضاع.
مناقشة "المهدوية نتيجة القهر":
ـ يرى بعض الباحثين أن فكرة الإمام المهدي عند الشيعة ظهرت نتيجة حالات القهر والاستضعاف التي عاشوها فترات طويلة من الزمن، حيث جعلتهم يتطلّعون إلى ظهور المنقذ أو المخلّص في المستقبل، فما هو تعليقكم على ذلك؟
ـ بإمكان كل إنسان أن يحلّل التحليل الذي يحلو له، ولكن عليه أن يقدّم الدليل على تحليله، ففكرة المخلّص والمنقذ هي فكرة دينية، فنحن نعرف بأن اليهود يعيشون فكرة المسيح المنتظر لأنهم يعتبرون أن السيد المسيح ـ وباطلٌ ما يعتقدون ـ هو المسيح الدجّال، وربما كان لكل أمة حلم بمنقذ، ومسألة المهدي إسلامية وليست شيعية، فإذا كان الشيعة قد عاشوا القهر والاستعباد فكيف نفسّر اعتقاد المسلمين السنّة بالإمام المهدي الذين هم أكثرية في المسلمين؟!
فالله سبحانه وتعالى أعطانا وعداً مستقبلياً أرضياً في قوله: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين}( )، وفي قوله سبحانه: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}( )، فهل هذا حلم من جهة القهر؟!
ولقد قلنا أن الله الذي أرسل الرسالات التي تؤكد إرادته في أن تعيش الأرض فترة من العدل والسلام الشامل تحت ظلال رسالاته، أراد لرسالاته أن تنفذ في نهاية المطاف على يد عباده الصالحين، فالمسألة إسلامية دينية، قرآنية حتى لو اختلف الناس في المصاديق.
مَن لا يؤمن بالغيبة:
ـ هناك من الفرق الإسلامية من لا يؤمن بغياب الحجّة(عج)، فبماذا نجيب من سألنا عن حكمة غيابه هذه الفترة الطويلة؟
ـ إن غيبته غيب من الغيب، فالكثير من الأمور لا نستطيع فهمها أو تصورها كما في تفاصيل الحياة الآخرة، فعالم الغيب هو عالم تتحرك فيه المشيئة الإلهية بما هو فوق التصور، ولذلك {لا يسئل عما يفعل وهم يُسألون}( )، فيما يمكن أن نقول لكل إخواننا المسلمين: هل هذا مما جاء به النص الصحيح أم لم يثبت؟ فإذا لم يثبت عندهم فالمسألة تصبح عقيدية، كلٌ يعتنق ما يعتقده، أما إذا اتفقنا على النص الصحيح في هذه المسألة، فنحن وإياهم على نحو سواء، لأننا جميعنا نؤمن بالإسلام ونؤمن بالغيب، فالمسألة لا تبحث من خلال فروعها بل من خلال أصولها.
المسائل الفكرية
المنهج العقلي في الاستدلال:
ـ قلتم بأن الله لا يعرف بالفلسفة، فهل يفهم من قولكم هذا إنكار المنهج العقلي في الاستدلال والبرهنة؟
ـ إنما نحتاج الفلسفة لردّ الشبهات الفلسفية، ولكننا عندما نريد أن نعرف الله فإنه سبحانه وتعالى أعطانا الطريق الوجداني الروحي العملي لمعرفته، فنحن لا ننكر أن للفسلفة دوراً عندما ينطلق الفلاسفة من أجل أن يصنعوا شيئاً يشبه الدليل ضد الإيمانن فتأتي الفلسفة من أجل اكتشاف فساد هذا الدليل وأنه ليس بدليل، ولكن الإيمان يتعمّق من خلال الجانب الوجداني الذي يطلّ على الكون في كل ظواهره وعلى أسرار الحياة في كل مواقعها، بحيث نستطيع أن نأخذ من خلال ذلك إيماناً عقلانياً وجدانياً عفوياً ننفتح به على الحقيقة بطريقة تشمل كل كيان الإنسان.
إن المعادلات العقلية وحدها لا تبني إيماناً وإن كانت تفيد في دفع بعض نقاط الضعف التي يثيرها الآخرون.
الصدر الفيلسوف:
ـ برأيكم هل كان الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رض) فيلسوفاً أم لا؟ وإذا كان كذلك فهل قدّم شيئاً جديداً؟
ـ لا إشكال أنّ الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رحمة الله عليه) هو من الأشخاص اللامعين في الفلسفة، وقد قدّم الأسس المنطقية للاستقراء الذي يمثل نوعاً من أنواع الجدة في البحث الفلسفي بشهادة بعض المتخصصين في الفلسفة مثل الدكتور "زكي نجيب محمود".
الفكر أم الذين يحملونه؟
ـ عند فشل تجربةٍ ما.. من يتحمل المسؤولية الفكر أو الذين يحملون هذا الفكر؟
ـ يتحمل المسؤولية غالباً من يحملون الفكر لأن الفشل إذا كان من جانب خطأ الفكر فإنهم هم الذين فكّروا بطريقة خاطئة، ولم يتحركوا في طريق الصواب، وإذا كانت المسألة من خلال ممارساتهم المنطلقة من غرائزهم وأوضاعهم الذاتية فالمسؤولية مسؤوليتهم، ولكن قد تفشل التجربة من خلال طبيعة الظروف الموضوعية التي لا بد لفنسان فيها، ولذلك لا يعني فشل التجربة انطلاقها من لفشل الذين يحملون الفكرة.
تصورات للتقريب بين المذاهب:
ـ ما هي تصوراتكم للتقريب بين المذاهب الإسلامية؟
ـ كلمة واحدة: هي أن نكون مسلمين.. نخلص للإسلام لنلتقي على قواعده التي لا يختلف المسلمون عليها، وعلى خطوطه التي لا يختلف المسلمون فيها، ويبقى بعد ذلك أن هذا المسلم يفكر بطريقة معينة في اجتهاده وفهمه للكتاب والسنّة خطأً كان أو صواباً، وذاك المسلم يفكّر بطريقة أخرى، فعلينا أن نفكر كمسلمين عندما نختلف {فإن تنازعتُم في شيءٍ فردّوه إلى الله وإلى الرسول}( )، وقال لنا سبحانه وتعالى عندما نتحدث مع الآخرين {ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة}( )، وقال لنا: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}( )، أن نختصر القضايا التي نلتقي فيها مع أهل الكتاب وهم الذين نختلف معهم في ذات اله وفي الكثير من القضايا الأساسية، ومع ذلك يقول الله تعالى ابحثوا عن مواطن اللقاء حتى إذا التقيتم على أرض مشتركة وشعرتم أن هناك شيئاً مشتركاً أمكنكم أن تأخذوا من هذا الإحساس بالأرض المشتركة والكلمة السواء، درساً لما تختلفون فيه {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}( )، بينما نحن لا نتحدث مع أهل القرآن بهذه الطريقة، بل نقول بلسان الحال قل يا أهل القرآن تعالوا إلى كلمة نزاعٍ واختلاف وتكفير وتفسيق وتضليل بيننا وبينكم، ونحن نقول بلسان الحال أيضاً: كفرنا بالذي عندكم وكفرتم بما عندنا وإلهكم من فصيلة وإلهنا من فصيلة أخرى، فالبعض يتناول خلافات السنّة والشيعة في صفات الله كما لو كان ربنا شيئاً وربهم شيئاً آخر ونبيّنا شيئاً ونبيّهم شيئاً آخر، وقرآننا شيئاً وقرأنهم شيئاً آخر، فماذا بقي إذاً، ذلك هو التخلف والجهل والإلحاح على الفواصل والخلق غير القرآني.
نحن لا نريد أن نبسّط الأمور لنقول لا مشكلة بين السنّة والشيعة، ولكننا نقول أن الله عرّفنا كيف نحلّ هذه المشكلة، وأنه سبحانه وتعالى أدّبنا فمنعنا من أن نسبّ الذين يدعون من دون الله، ناهيك عمن يعبدونه {ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم}، ذلك أن السبّ لا يؤدي إلى نتيجة، بل يقود إلى الشتائم {كذلك زينّا لكل أمّة عملهم}( )، ويقول تعالى {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم}( )، لكننا نحوّل أصدقاءنا إلى أعداء، وللأسف الشديد، فنحن لسنا مستعدين أن نحتفظ بصداقة أصدقائنا وبأخوّة إخواننا بل نسعى لكي نحولهم إلى أعداء.
أيها الأحبة، كونوا مسلمين تتقاربوا كونوا مسلمين تستطيعون الأخذ بالوحدة {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}( )، {وأنا ربكم فاتقون}( )، فمن لا يعيش الوحدة لا يعبد ربّه، ومن لايعيش الوحدة لا يتقي ربّه، لأن في الوحدة قوة الإسلام، وعزّته ووعيه، فعندما تعيش روح الوحدة تستطيع أن تحاور أخاك المسلم ويحاورك.
دور الجامعيّ في التغيير:
ـ تكلمتُم في نشرة (بينات) عن الطالب الجامعي وأنه لا ينبغي أن ينصهر في الجو المشحون، لكن هل معنى هذا أن علينا أن نحاول تغيير المجتمع هناك، وما دورنا في مثل هذا الجو؟
ـ كنت أقول أن على الإنسان عندما يعيش في مجتمع يغلب عليه الضلال أن لا يلقي سلاحه، وأن يسقط أمامه، بل أن يعمل في البداية على أن يتوازن، وأن يحمي عقله وقلبه من أن يدخل الانحراف إليما ويحمي خطواته من ذلك أيضاً، بما يملك من معرفة، ثم يحاول أن ينمّي ما عنده من معرفة، ثم يحاول أن ينشئ بعض العلاقات ليدير الحوار مع الآخرين حول الإسلام والخطوط الأخلاقية التي يريدها الله من الناس حتى يحمي نفسه عندما يتخذ لها صفة الداعية، لأن هذا الإيحاء والممارسة ربما يعطيه قوة أخرى.
"العشماوي" وحقيقة الحجاب:
ـ مما يقوله "محمد سعيد العشماوي" في كتابه (حقيقة الحجاب وحجيّة الحديث) في ص:78: "الحجاب ليس فرضاً دينياً وعملاً شرعياً، لكنه في الواقع شعار سياسي وعلامة حزبية من ادّعاء الإيديولوجيا الإسلامية وليس هو من جوهر الإسلام"، فما هو ردّكم؟
ـ لا بد أن نقرأ كتابه لنعرف حيثيات دعواه، لأن مسألة الحجاب هي من المسائل الشرعية التي دلّ عليها القرآن ودلّت عليها السنّة النبوية الشريفة، أما ما دلّ عليه القرآن فهو قوله سبحانه وتعالى: {ولا يبدين زينتهُنّ إلا ما ظهر منها}، {ولا يبدين زينتهنّ إلا لبعولتهنّ}، فإن معنى ذلك أن على المرأة أن لا تبدي زينتها، وقد فسّرت الزينة بكل مواضع الجسد عدا ما ظهر منها بشكل طبيعي وهو الوجه والكفّان.
وهكذا بالنسبة إلى ما أمر الله سبحانه وتعالى {ليضربن بخمُرهنّ على جيوبهنّ} فلقد أراد الله للحجاب أن يأخذ جانباً آخر من جهة عفة نظر الرجل والمرأة {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ...* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}( )، فقد حرّم إبداء الزينة هنا، وأمر بغضّ البصر هناك بغية أن تتحقق التزكية "ذلك أزكى لهم" أي للرجل وللمرأة على حدٍّ سواء، وأن لا يعيش الواقع الاجتماعي المختلط حالة طوارئ جنسية سواء بالنسبة للرجل أو للمرأة.
وهكذا درج المسلمون، فلم ينطلقوا من موقع العادات والتقاليد في حياة الجاهلية التي لم تكن جارية على أساس الحجاب، ولكن الإسلام هو الذي اجرى ذلك، حتى ورد في السنّة أن نساء النبي كُنّ يخرجن بطريقة معينة لنزلت آية الحجاب.
فالمسألة إذاً مسألة شرعية وليست سياسياة أو حزبية، نعم، ربما تمثّل الإسلاميون الحركيون بالحجاب ولكنهم لم يتمثلوه من جهة أن التنظيم الحزبي يفرض عليهم ذلك، بل إنهم تمثلوه من خلال أن الإسلام يفرض عليهم ذلك، لكن بعض الناس حاولوا ويحاولون أن يبرّروا الواقع وأن يوحوا للمسلمين بأن بعض شرائع الإسلام هي أمور طارئة وليست أصيلة في التشريع الإسلامي.. لذلك نقول لهم: إقرأوا القرآن جيداً لا من خلال عقلية التبرير للواقع ليرضى عنكم غير المسلمين، لأن الله تعالى يقول: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}، {قل إن هدى الله هو الهدى}( ).
الاستفادة من الهجرة:
ـ في السيرة النبوية نجد شواهد تؤكد دور الهجرة في تقوية أسس الإيمان التي تحدثتم عنها، ونحن اليوم نعيش الهجرة نحو ديار أعدائنا، فما هو تعليقكم كيف نستفيد من هذه الهجرة القهرية؟
ـ كان النبي(ص) ـ بتعليم من الله ـ يريد لكل المسلمين في بداية عهد الدعوة أن يهاجروا إلى المدينة، لأن الإنسان المؤمن عندما يعيش في حجم القلّة والضعف في مجتمع الكفر فإنّ هذا المجتمع يترك تأثيره على نقاوة وصفاء إيمانه، ولذلك فإن إيمانه يضعف كلما أطال البقاء في دار الكفر.
هذا من جهة.. ومن جهة ثانية، فإن الإسلام في دار الهجرة آنذاك كان يعيش الصراع مع المشركين، صراع الإيمان مع الكفر، وصراع القوة بين فريق الاستكبار الكافر وفريق المستضعفين، لذلك كان النبي(ص) يريد لكل المؤمنين أن يهاجروا حتى يكونوا قوة للمجتمع الإسلامي الذي يعيش الصراع، كان يريد لهذا المجتمع الذي يحتضنهم أن يحتضن إيمانهم في شخصياتهم ليتعمّق أكثر، وأن يحتضن مسؤوليتهم في الدفاع عن الإيمان في خط الدعوة والجهاد، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}( )، فلا ولاية بين المؤمنين الذين هم في دار الهجرة.
ولهذا، كانت الهجرة الضمانة لإبقاء المناعة الإيمانية في نفوس المؤمنين، والضمانة لقوة الموقف الإسلامي، ومن هنا ورد في بعض الأحاديث أن النبي(ص) عندما فتح مكة قال: "لا هجرة بعد الفتح"، لأن المسلمين أصبحوا في موقع القوة {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً* فسبّح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً}( ).
بقيت هناك مسألة عدم جواز الهجرة من دار الإسلام إلى دار الكفر، على اعتبار أن ذلك قد يضعف إيمان المؤمن وقد يضعف إيمان أهله، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكُم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}( )، وهذا ما يعبّر عنه بـ"التعرّب بعد الهجرة" لأن الهجرة تحمل الطاقات الإسلامية التي تعلّم والتي تربّي، أما في مجتمع الكفر فليس هناك من يعلّم المسلمين دينهم وليس هناك من يربّي المسلمين على دينهم، مما قد يعتبر معه الضعف الديني أمراً طبيعياً هناك.
لذلك، نقول إذا اضطر المسلمون، كما يضطر الكثير منهم بالفعل إلى الهجرة عن دار الإسلام إلى دار الكفر، لأن المسلمين لا يحملون بعضهم بعضاً، ففي مثل هذا الواقع الذي عاشه ويعيشه المسلمون، لا سيما في مثل هذا الظرف، فإن على المسلمين من باب الوجوب العيني لا الكفائي أن يُنشئوا هناك مراكز للدعوة وللعبادة كالمساجد والمصليات، ومدارس ونوادي تحتضن حتى الهوايات الرياضية والكشفية كيما تستطيع أن تحتضن الكبار في ثقافتها وعباداتها والصغار في تعليمها وتربيتها وعبادتها، بل حتى في لهوها، حتى لا تضطر أن تلهو لهو الآخرين مما يشتمل على الكثير من المحرّمات، لذلك علينا أن نستفيد من هذه الهجرة، بأن نحوّل تلك البلدان إلى بلدان يتنفّس فيها الإنسان ثقافة الإسلام وروح الإسلام.
ولهذا، فإن على بعض المبلّغين والخطباء وعلماء الدين أن يسافروا ليكونوا مع الناس هناك حتى يجنّبوهم خطر الانحراف.
صياغة نظرية اجتماعية إسلامية:
ـ ورد في كتابات الدكتور (محمد عبداللاوي) ما نصّه: "فالفكر الإسلامي المعاصر لا يستطيع إلى حدّ الآن صياغة منظومة فكرية تصل إلى مستوى النظرية أو المذهب في المجال الاجتماعية على العموم وفي مجال فلسفة التاريخ على وجه الخصوص"، فما هو تعليقكم على هذا الكلام؟
ـ أما ما يتحدّث به البعض عن أن الإسلام لم يستطع أن يصل إلى نظرية في الجانب الاجتماعي، فإنني أتصوّر أنه كلام لا يحمل الكثير من الدقّة، لأن الإسلام يقدّم في تشريعاته ومفاهيمه العامة في علاقات الناس ببعضهم البعض وفي حركة المجتمع في مجالات النمو والإبداع والتغيير منظومة فكرية متكاملة.
ولذا فإنني أعتقد أن هناك ثروة تشريعية ومفاهيمية واسعة فيما لدينا من تراث إسلامي في الجانب الاجتماعي في علاقات الناس ببعضهم البعض وفي الأسس التي تقوم عليها المجتمعات وتنهار الحضارات.
ولكن ربما يتحدث الكاتب عن التجارب الثقافية التي ينطلق بها المفكرون المسلمون لصياغة النظرية في هذا المضمار، وربما كان هناك بعض التقصير في ذلك، ولكن ذلك لا يمثل نقصاً في الإسلام، بل إن كل من قرأ الإسلام في كل تشريعاته ومفاهيمه وأسسه الفكرية فإنه يستطيع أن يقوم بصياغة نظرية إسلامية اجتماعية، لأن مسألة صياغة النظرية هي مسألة علمية فنية، وليست مسألة تتصل بشخصية الدين وبعجزه عن تقديم نظرية، فهو يقدّم النظرية على الطبيعة ولا بد لنا أن نصوغ تلك النظرية، وهناك تجارب جيدة وإن لم تكن شاملة.
وقد كان السيد الشهيد الصدر(رض) يفكر في كتابة النظرية الاجتماعية الإسلامية في كتابه الذي كان يعدّه (مجتمعنا) ولكن جريمة اغتياله أفقدت المسلمين شيئاً كبيراً.
وقل الشيء نفسه عن فلسفة التأريخ، فأنا أتصوّر بأن هناك أكثر من بحث إسلامي حول هذا الموضوع والعوامل التي تترك تأثيرها على حركة التأريخ والنتائج التي يمكن أن نستفيدها من خلال دراسة التأريخ، فقراءة القرآن والكثير من التراث الإسلامي يجعلنا نخرج بنظرية إسلامية تقف أمام النظرية الماركسية أو غير الماركسية في فهم التاريخ وفلسفته.
الحاكم المستبدّ العادل:
ـ ما المقصود بفكرة "المستبدّ العادل" وهل يصحّ استعمال هذا التعبير في الخطاب الإسلامي؟ وهل يمكن أن يكون الحاكم المسلم العادل مستبداً؟
ـ لقد ج اء في كلمات البعض "لا يُصلح الشرق إلا مستبدٌ عادل" ولكننا نعتقد بأن كلمة "المستبد" لا تصلح أن تكون عنواناً للحاكم الإسلامي، لأنها تعني الإنسان الذي يستبدّ بذاته، أي الذي ينطلق في حكمه من موقع المستبد الذي لا يشاور أحداً، ولا يخضع للقانون، وعندما يفقد الحاكم الشورى والارتباط بالقانون، فكيف يكون عادلاً؟!
ذلك لأن العدالة تعني أنك تتحرك في خطّ الاستقامة في حكمك وفي تعاملك مع الآخرين، وإذا كنت لا تشاور الآخرين، فكيف يمكن أن تكتشف العدل؟! وإذا كنت لا ترتبط بقانون يحكمك ويحكم ويحكم الناس، فكيف يمكن لك أن تعرف معنى العدل؟!
إن العدل هو الأساس الذي تحكم به، والواقع الذي تفهمه وتتعرف على كل عوامله، وهذا لا يكون إلا بالشورى والالتزام بخطّ واضح.
نعم، نقول لا بد أن يكون حاكماً قوياً لا تأخذه في الله لومة لائم، بهذا هي العبارة المستخدمة في الإسلام بدلاً من عبارة "المستبدّ" أي أن يكون الحاكم الإنسان الذي يتمثّل في كلمة رسول الله(ص): "إنما أهلك منكان قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ"، وكلمة الإمام علي(ع): "القوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ منه الحق، والضعيف الذليل عندي قوي عزيز حتى آخذ له بحقّه"، وفي المحصلة، أن يكون حاكماً عادلاً قوياً لا تأخذه في الله لومة لائم.
هل المرأة عورة؟:
ـ هناك عبارات في الأحاديث الشريفة تحتاج إلى توضيح مثل "المرأة كلها عورة"( )، فهل يشير ذلك إلى الحساسية من انفتاح المرأة في المجالات السياسية والاجتماعية؟
ـ العورة هنا من جهة عالم الستر، أي لا يجوز النظر إليها كما لا يجوز النظر في البيوت، لأنها محل الحماية والستر والإخفاء، فنحن نعرف أنه يجوز للمرأة أن تكشف وجهها وكفّها، فمعنى جسدها عورة أي لا يجوز النظر إليه، كما لا يجوز النظر إلى الصورة، أما ما يجوز النظر هنا إليه فللمرأة أن تظهره ولكن جواز النظر مشروط بعدم التلذّذ والريبة.
المرأة والمسجد والإمام الخميني:
ـ روي عن النبي(ص) بطريق غير نقي "دعوا للنساء حظوظهنّ في المساجد" وروي أن أحد الصحابة منع النساء من الحضور للصلاة، فقال له أحدهم "أنت تمنع ورسول الله يرخّص"؟ فما هو تعليقكم؟ وما هو موقف الإمام الخميني(رض) من دور المرأة في التغيير؟
ـ لو كانت هناك كراهة في حضور المرأة للمسجد وللجماعة لما كان رسول الله يرخّص بذلك، ولكان صدر منه تحذير من ذلك.
أما رأي الإمام الخميني(قده) بالنسبة للمرأة، فإنه دفع بها إلى ساحة الصراع وجعلها تشارك الرجل جنباً إلى جنب في المظاهرات الاجتماعية وفي تنظيم الأوضاع السياسية في مواجهة الطغيان آنذاك، ونحن نعرف بأن السيد الخميني (رحمه الله) قال كلمة عن المرأة تدل على عظم دورها "المرأة كالقرآن كِلاهما أوكِلَ إليه مهمة صنع الرجال" فعندما يوكل للمرأة صنع الرجال فإن عليها كما تصنع الرجال في طفولتهم أن تصنعهم أيضاً في مرحلة الشباب والرجولة، كما قيل أن "وراء كل عظيم امرأة".
تأسيس الحسينيات:
ـ من هو مؤسس الحسينيات بشكلها المعروف؟
ـ لا يبعد أن تأسيس الحسينيات انطلق من فكرة احترام المسجد، لأن الناس قد يحتاجون إلى الاستماع لعزاء الحسين(ع) أو للمواعظ والإرشادات، وفيهم الجنب وفيهم الحائض، ومن جهة عدم جواز تنجيس المسجد، فلربما جعلت الحسينيات إلى جانب المساجد لا لتكون بديلة عنها، فهذا ما لم يفكر فيه أحد، ولكن من أجل حماية المساجد وإفساح المجال للاستماع للموعظة والذكرى الحسينية حتى يحضرها كل الناس حتى لو أدى ذلك إلى تنجيسها أو ما إلى ذلك، ولا نعرف متى بدأ إنشاء الحسينيات.
ترشيح المرأة للشورى:
ـ هل ترون ما يراه الشهيد الصدر(رض) من جواز ترشيح المرأة لمجالس الشورى استدلالاً بالآية الكريمة التي تلوتموها {المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}؟
ـ لقد استفتينا من قبل بعض المؤمنين في الكويت حول هذه المسألة، وكان جوابنا أنه لا مانع للمرأة من أن تشارك في الانتخابات وتترشح بشرط أن تدافع عن الإسلام وأن لا تؤيد أي قانون على خلاف الإسلام.
غضب الدعاة:
ـ ذكرتُم في أحاديثكم أن الانفعال بمعنى الغضب حرام على الدعاة، فهل تفضلتم بتوضيح بعض الخطوات لمعالجة هذه الظاهرة السلبية؟
ـ قلت إن الغضب حرام على الدعاة إلى الله تعالى وإلى الإسلام من جهة أن الداعية لا يملك موقعه ولا رسالته، فعندما تتحرك في خط الدعوة إلى الله فإن عليك أن تغلق الباب على مزاجك لتخرج بمزاج الرسالة لا بمزاج الذات، لأنك عندما تحرّك مزاجك في أسلوب رسالتك ودعوتك فإنك تسيء إلى الدعوة من حيث أنك تريد الإحسان إليها.
فلو تصورت إنساناً ذا مزاج معين جاء ليسألك بعض الأسئلة ورحت تنهال عليه بكلمات فظّة من قبيل أنك كافر وضال.. أخرج ولا تريني وجهك بعد الآن.. فإن معنى ذلك أنك ستزيد هذا الإنسان ضلالاً أو تزيده عقدة من الإسلام.
أما كيف تعالج ذلك فبالنظر إلى غضب الله الذي يقول كما في الحديث القدسيّ: "اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق"( )، وأن تذكر هدفك الرسالي وأن تعرف أن غضبك يمكن أن يؤذي رسالتك، فإذا كنت مخلصاً لها أكثر فعليك أن تجاهد نفسك أكثر.
هذا بالإضافة إلى المشاكل التي قد يثيرها غضبك عليك.
من تحديات المهجر:
ـ نحن مجموعة لاجئين في أستراليا نواجه عدة تحديات، منها: تحديات الشارع والمجتمع، والمحسوبين على الإسلام، فأصبحنا في تيه من أمرنا مما جعلنا نفضّل الانعزال والتفتيش عن حلّ لحالنا، فما هي نصيحتكم لنا؟
ـ لا يجوز لكم أن تنعزلوا، بل عليكم أن تقتحموا التجربة وأن تعيشوا مع المسلمين الطيبين الواعين، وأن تجعلوا لأنفسكم محضناً إسلامياً يحضن أفكاركم وإيمانكم وعبادتكم، لأن أي صاحب طاقة يعيش في بلاد الاغتراب ويحجب طاقته عن أخوانه المسلمين فهو خائن للإسلام، لأننا لا نستطيع أن نحفظ إسلامنا إلا إذا انفتحنا على بعضنا البعض من خلال توفير الأجواء الإسلامية، وعلينا أن نعمل على هداية هؤلاء الذين يعبّر عنهم السؤال بأنهم محسوبون على الإسلام، وعلينا اجتذابهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
أما الشارع الاسترالي فهو شارع يمكن أن يضلّل فلا بد أن يلتقي المسلمون في مجتمعات إسلامية.
وإذا وجد المسلمون الذين يمكن للسائل وأمثاله أن يعملوا معهم، فلا يجوز الانعزال كما يقول الشاعر:
وحدةُ الإنسان خيرٌ من جليس السوء عنده
وجليسُ الخير خيرٌ من جلوس المرء وحده
الموازنة بين العاطفة والفكر:
ـ في حديثكم عن العاطفة مع الفكر نجد أن واقعنا قلّما تواجدت فيه نماذج تجمع بين العاطفة والسلوك الفكري، فإما أن نجد مسلمين عاطفيين مع ضعف في الجانب الفكري، أو نجد مسلمين واعين، ولكن الجانب العاطفي لديهم ضعيف، والسؤال: كيف نعمل من أجل خلق حالة الموازنة بين الجانبين؟
ـ بأن نقرأ القرآن، لأن عظمة القرآن الكريم في أنه خاطب الإنسان في إنسانيته التي تجمع قلبه وعقله، فالأسلوب القرآني، سواء كان في عالم الاستدلال أو في عالم التربية يجمع بين الأسلوب العاطفي والأسلوب العقلي باعتبار أن الإنسان ليس عاطفة كله وليس عقلاً كله، بل هو هذا المزيج من العاطفة ومن العقل.
ومن هنا، كنا نقول دائماً لكي يكون الفكر إيماناً لا بد أن نعطي الفكر شيئاً من العاطفة، لأن الفكر إذا بقي معادلة فكريةيرقد في العقل إلى جانب كثير من الحقائق الموضوعية، ولكن الفكر عندما ينزل إلى الشعور والإحساس وإلى القلب فيكون جزءاً من الذات، فإنه يتحول إلى إيمان.
ولذلك فثمة فرق بين أن تعقل العقيدة وبين أن تؤمن بها، فأن تعقلها يعني أن تكون في ذهنك مجرد حالة فكرية واقعية، أما أن تؤمن بها فيعني أن تكون شيئاً في عقلك وقلبك وكل إحساسك تلقائياً من دون أن تشعر به تماماً كما تحركك غرائزك لأن الإيمان يتحول عند ترسخه إلى غريزة.
موقف الإسلام من الحيادية:
ـ ما هي الحيادية، وما هي نظرة الإسلام إليها؟
ـ قد تكون الحيادية بين باطل وباطل، وقد تكون بين الحق والباطل، فالحيادية بين الباطل والباطل هي أمرٌ يوافق عليه الإسلام، لأن المسألة تتحرك من جهتين، إذ لا شأن لك بهذا الباطل لتقويه بموقفك ولا شأن لك بهذا الباطل لتقويه بموقفك، بل دع الباطلين يتصارعان وانظر إليهما واستفد من تجربة هذا الصراع فيما تتعرف عليه من خلال خصوصية قوة هذا الباطل أو ذاك من أجل مواجهة الباطل الآخر في صراع جديد، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) في قوله "كُن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهرٌ فيُركَب، ولا ضرعٌ فيُحلب"، وهذا يفسر الموقف من الفتنة فيما إذا كانت بين باطلين أو في موقف لا يعرف يه الحق من الباطل، فعند ذلك لا تدع أحداً يركبك إلى هدفه ولا تدع أحداً يحلب طاقاتك إلى مواقعه.
وربما نحتاج في بعض الحالات أن نغلّب باطلاً على باطل عندما يكون هناك باطلان أحدهما أقوى والآخر أضعف، وهنا يكون الخيار لك بعد دراسة دقيقة جداً على المستوى الواقعي بأن تعطي الباطل الضعيف شيئاً من القوة ولو السلبية من أجل أن يتغلّب على القوة الأخرى الأقوى حتى تتفرغ في مرحلة لاحقة لباطل ضعيف لتقضي عليه في نهاية المطاف، وذلك بأن تتعاون مع هذا الباطل الضعيف على الباطل القوي ثم لتجهز على الباطل الضعيف، وهذا يدخل فيما يسمى في هذه الأيام بالتكتيك.
غير أن هذه المسألة تحتاج إلى دراسة دقيقة فيما يسمى بالاستراتيجية والتكتيك وما يصطلح عليه بالغاية وبالهدف وبالوسائل التي تحركها نحو الهدف، فإذا كانت المسألة مسألة حق وباطل فيحرم عليك الحياد، لأن الحياد هنا يضعف الحق من خلال أنك تأخذ منه جزءاً من القوي الذي هو الحق والذي يفترض أنك من أهله، فإذا كنت من أهل الحق ودخل الحق ساحة صراع فإن الحق يحتاج إلى كل طاقة من طاقاته ليواجه الصراع من خلال ذلك، ولذلك فإنك إذا حجبت قوتك عن الحق فإنك تكون قد نصرت الباطل ولكن بطريقة سلبية لأنك أضعفت الحق، ولهذا قال علي(ع) عن بعض الناس الذين وقفوا في الحياد بينه وبين معاوية: "خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل"( )، وأن خذلان الحق من ناحية عملية قد يكون نصرة للباطل ولكن بطريقة سلبية.
وقد ورد في حديث الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع): "أبلغ خيراً وقُل خيراً ولا تكُن إمّعة، قلت: وما الإمّعة؟ قال: لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إن رسول الله(ص) قال يا أيها الناس إنما هما نجدان نجدُ خيرٍ ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحبّ إليكم من نجد الخير"( )، وإذاً فلا بد أن تعطي موقفك، وهذه هي وصية علي(ع) في آخر حياته: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"( ).
المقصود بـ"الراحة حرام":
ـ ترددون دائماً أن الراحة في زماننا حرام، فهل تقصدون الحرمة الشرعية حقاً أم تطلقون العبارة مجازاً وتعنون عظم المسؤولية في الدعوة إلى الله؟
ـ أقصد ذلك بالعنوان الثانوي، ففي بعض الحالات نقول عن أمر أنه حرام، ونعني ابن عم الحرام، وإذا وصل إلى ابن العم فإنه قد يصل بالإنسان إلى مستوى الحرمة، لأن "المحرمات حمى الله، فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه" وعندما تكون الدعوة إلى الهل واجبة، فإننا نحتاج إلى جهودنا جميعاً، فمن يترك الدعوة إلى الله للهوٍ أو عبثٍ أو استرخاء، فمعنى ذلك أنه يكون قد ترك الواجب، وعلى هذا الأساس يقترب من الحرام.
ولو قرأنا قوله تعالى بالنسبة لصلاة الجمعة فإنه يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}( )، فيُقال أن حرمة البيع هنا من جهة أنه يشغل الإنسان عن الواجب، فكل شيء يعطل الإنسان عن الواجب يرفضه الله تعالى.. فإذا كان يجب علينا الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الراحة تعطل ذلك، فإنها تصير بمثابة المحرّمة، فالمقصود إذاً هو عظم المسؤولية.
مناقشة "الدين أفيون الشعوب":
ـ ما هو ردّكم ع لى من يقول "الدين أفيون الشعوب" وأن الدين لا يمكن له أن يطوّر المجتمع والعصر، لأنه عبارة عن أشياء مثالية لا تطبّق على الواقع؟
ـ أما القول أن "الدين أفيون الشعوب" فإن حركة الدين تكذّب ذلك بقطع النظر عن المبادئ، لأن الأنيباء(ع) كلهم جاءوا بالعدل وليقفوا ضد المستكبرين وليكونوا مع المستضعفين، وليثوّروا هؤلاء ضد المستكبرين، وليقولوا لهم إن ضعفهم لا يمثل عذراً لهم، بل إن عليهم أن يعملوا ليأخذوا بأسباب القوة ولو بالخروج من منطقة المستكبرين إذا كانوا لا يستطيعون مواجهتهم في ذلك المنطق.
ونحن نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار}( )، فالقرآن يعتبر أن الركون إلى الظالمين سببٌ من أسباب دخول النار، فكيف يمكن أن يكون الدين أفيوناً للشعوب؟
إنه عنصر يقظة لأنه يقول لك: افتح قلبك لله دائماً وراقب الله عندما تؤيد وعندما ترفض وفي كل أعمالكت عندما تنصر هذا أو ذاك، ويؤكد القرآن على أن الرسالات إنما انطلقت ليقوم الناس بالقسط كما ورد في سورة "الحديد": {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}( ).
أما الحديث عن أن الدين يمثل خطوطاً مثالية بعيدة عن الواقع، فقد أكدنا أكثر من مرة في أبحاثنا أن الدين يمثل خطاً واقعياً بكل ما للواقعية من معنى، لأن في الدين عناوين تعطي الأحكام الأولية وهناك عناوين ثانوية تجعل الكذب واجباً والصدق حراماً، وتجعل الكثير من المسائل حلالاً مما قد يكون حراماً إذا ما جاء عنوان ملزم يجعل المصلحة ملزمة في هذا ا لجانب وإن كانت ثمة مفسدة في طبيعة الأمر.
فالذي يقرأ الإسلام جيداً يعرف أن الإسلام هو دين الواقعية التي لا تبتعد عن الخط، ونحن نعرف أن الإسلام استطاع أن يصنع من الأمة المتخلفة الجاهلة أمة ذات حضارة قال عنها بعض قادة هذا العصر من غير المسلمين وهو (البانديت نهرو): "إن الحضارة الإسلامية هي أم الحضارات الحديثة" وهي التي أعطت الغرب فكرة أن التجربة يمكن أن تكون وسيلة من وسائل المعرفة، كما هو العقل.
ونحن نعرف أن حركة الحضارة الغربية انطلقت من خلال الاطّلاع على إبداعات (ابن سينا) و(ابن رشد) والكثير من العلماء المسلمين الذين نقلت علومهم عبر الأندلس.
قدرة الدين على إدارة الحكم:
ـ هناك في استراليا إشاعة كبيرة عند الاستراليين وهي أن الدين فاشل عندما يحكم، لأن الكنيسة قد فشلت عندما حكمت، وقد تسرّب هذا الفيروس إلى الشباب المسلم، فهل صحيح أن الدين عاجز عن إدارة دفّة الحكم؟
ـ لقد بينّا ذلك في إجابات سابقة، ونقول في التعليق على مسألة الكنيسة أنها تقول على لسان السيد المسيح(ع): "ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، فهم يفصلون بين الله وبين القيصر، فلله دوره ولقيصر دوره على حسب ما يطلقونه من مفاهيم.
ويقولون أيضاً على لسان السيد المسيح(ع): "إن مملكتي ليست في هذا العالم"، ولذلك فإنهم يعتبرون أن الخط المسيحي أو النصرانية ليست ديناً مدنياً لكنه دين روحيّ يشتمل على قيم روحية وأخلاقية ولا ينطلق على أساس شريعة محدّدة ومقنّنة، فإذا حكمت المسيحية فإنها لا تحكم بالمسيحية، بل من خلال ذاتيات رجال الدين.
أما في الإسلام فإنّ علماء الدين أو غيرهم إذا حكموا فإنهم لا يملكون أن يحكموا من خلال ذاتياتهم، بل من خلال المنهج، فأي شخص في الإسلام أعظم من رسول الله(ص) ومع ذلك فإنه عندما دنت منه الوفاة وقف أمام المسلمين وقال لهم: "إنكم لا تمسكون عليّ بشيء، إني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلا ما حرّم القرآن"، فدونكم كل تاريخي فادرسوه في كل ما أمرتكم به وما نهيتكم عنه، فستجدون أنني كنت مع القرآن فيما تحركت به سلباً أو إيجاباً.
فإذا كان رسول الله(ص) لا يملك أن يتحرك إلا من خلال القرآن {ولوتقوّل علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين}( )، فأي عالم ديني وأي شخصية يمكن أن يحكم بمزاجه؟!
المشروع الحضاري الإسلامي:
ـ ما المقصود بالمشروع الحضاري الإسلامي، وهل في تأريخنا الإسلامي ما يشير إلى طرح النبي(ص) أو الأئمة(ع) مثل هذا المشروع؟
ـ إن المشروع الحضاري هو خلاصة الإسلام، وهو عبارة عن الخط الفكري والمنهج العملي وعن المفردات القانونية والحلول العملية لمشاكل الإنسان الاقتصادية أو السياسية أو التربوية أو الاجتماعية.
لذا، فإننا نعتبر الإسلام هو المشروع الحضاري الذي استطاع ـ وإن لم يطبّق بأجمعه ـ أن ينشئ الحضارة الإسلامية عندما اعتبر العلم قيمة أساسية وكذلك العمل، وحمّل الإنسان المسؤولية عن كل مجالات الحياة، وعندما ربط المجتمعات بشبكة من العلاقات التي تبدأ من علاقة الرحم إلى أن تنتهي إلى كل العلاقات الموجودة في الحياة.
لهذا، نقول إن النبي(ص) طرح من خلال القرآن والسنّة والأئمة من بعده والعلماء من بعدهم المشروع الحضاري الإسلامي، ولكن اللغة اختلفت، ففي السابق لم يكونوا يتحدثون عن الحضارة والمشروع الحضاري، لكنهم كانوا يتحدثون عن واقع المشروع الحضاري الإسلامي، كما اختلفت المناهج والمفردات والمشاكل، فلا بد لنا أن نصوغ المفردات الإسلامية بأساليب حديثة تلتقي مع لغة العصر ومع ذهنيته.
التنظير للانفتاح:
ـ ذكرتُم في المقابلة التلفزيونية الأخيرة، بأنكم من منظي الانفتاح، فما هو مقصودكم بذلك؟
ـ في كتابي "الحركة الإسلامية، هموم وقضايا" دعوتُ كل العاملين في الإسلام إلى الانفتاح على غير المسلمين من الأديان الأخرى على أساس أن القرآن دعانا إلى ذلك بقوله عزّ وجل: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم}( ). كما دعوت إلى الانفتاح مع كل الناس حتى مع العلمانيين الذين قد لا نلتقي معهم في العقيدة، ولكن يمكن أن نلتقي معهم في القضايا السياسية أو المشاكل الاجتماعية، وبعبارة أخرى، فإن علينا أن ننفتح على العالم لأن شرط دخول الإسلام إلى العالم هو أن تفتح قلبك على الناس كلهم.
ولذلك نقول إن من يغلق عقله وقلبه على الناس لا يمكن أن يحقق أي شرط من شروط الهدى أو الدعوة.
أيّ الفلسفة مرفوض؟
ـ ما سبب تشدّدكم في رفض الفلسفة والتعرض لها بالرغم من أنها معرفة ضرورية في هذا الزمن للفكر وللعقيدة، وما هي الفلسفة التي ترفضونها؟
ـ أنا لا أرفض الفلسفة بشكل مطلق، ولكن أرفض الفلسفة التجريدية التي تحلّق في عالم الإمكان والاستحالة في الخيال، والتي لا تحلّ أيّة مشكلة من مشاكل الواقع.
ولكن الفلسفة الحديثة أصبحت تعالج الكثير من قضايا الحياة، فإذا مزجنا بين الفلسفة القديمة والأخرى الحديثة فإننا نرى أنها ضرورية لردّ شبهات الملحدين والمشككين ومعرفة الكثير من قضايا الإنسان في الحياة.
ولكنني أرى أننا يجوز أن نأخذ عقيدتنا من الفلسفة، بل نستنبطها من القرآن، فهو الذي وجهنا إلى العقل والفكر، وأرادنا أن نقرأ في كتا الكون كما في قوله تعالى: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً}( )، وقوله: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض}( )، وقوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق}( )، فالقرآن يوجّه الإنسان إلى معرفة الله تعالى من خلال خلقه ويؤمن به من خلال قراءة كتاب الكون، لا الإيمان به من خلال الدور والتسلسل وغيرهما، ولكن قد نحتاج إلى ذلك في ردّ من يتفلسف لرفض العقيدة، ولكن أن نبني عقائدنا على أساس الفلسفة فلا يصح ذلك، أما من أخذ عيدته من القرآن بأن يتدبره في مفاصلها ومفرداتها فقد أخذ العقيدة من ينبوعٍ صافٍ.
مسايرة النظام الدولي:
ـ ماذا تقولون لو قيل لكم أن الواقع يقتضي أن تسايروا النظام الدولي الجديد بأن تتنازلوا عن شعاراتكم الإسلامية، وتلغوا كثيراً من أحكام الإسلام في مجالات الحياة؟
ـ إننا نقول بأننا ندعو إلى النظام الدولي الإسلامي الجديد في العالم، ولن نترك الإسلام حتى لو لم يبقَ في الأرض مسلم لأنه دين الله ولأنه الحقيقة، ولن نقدّم تنازلاً لأحد من ديننا وشعاراتنا لأن علينا أن نعيش هذه الروح النبوية العظيمة التي تحلى بها النبي(ص) وإن لم نكن في مستواها "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته، ولكن يعطوني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنة"( )، وهذا هو شعار كل مسلم يؤمن بالإسلام.
وإذا أردنا مواكبة الواقع فإن المواكبة لا بد أن تنطلق من خط الإسلام، لا أن تكون تنازلاً عن الإسلام، فما يأمرنا الإسلام به من المواكبة من خلال طبيعة المصلحة الإسلامية العليا نقوم به، وما لا يأمرنا به لا يمكن أن نقوم به، فنقل كما ال الإمام الحسين(ع): "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"( ).
الارتقاء بالخطاب الإسلامي:
ـ كيف نرتقي بالخطاب الإسلامي لنخرجه من الشعاراتية والانفعالية إلى حالة من العمق والأصالة، يستطيع معها أن يحلّل الواقع في جميع أبعاده تحليلاً موضوعاً يشخّص بواقعية مكامن الداء وعوامل التخلّف ويكون قادراً على تشخيص الحلول الجذرية لكل هذه المشاكل وتعبئة الجماهير باتجاه هذه الحلول؟
ـ الخطاب الإسلامي في طبيعته هو الذي يحمل الإسلام، والإسلامقد يبدأ شعاراً وينتهي إلى فكر وإلى حركة في مضمون الحياة، وليواكب من خلال المفاهيم الإسلامية كل متغيرات الحياة وكل تطوراتها، بحيث يكون حاضراً في كل اهتمامات الإنسان وكل قضاياه ومشاكله وتحدياته، حتى يعيش الناس الإسلام في كل حياتهم، ولذلك فليس من الطبيعي أن يبقى الخطاب الإسلامي شعاراتياً انفعالياً لأن الشعار إذا لم يكن فيه عمق كان مجرد طبل أجوف، ولأن الانفعال لا يمثل فكراً ولا ديناً ولكنه يمثل مشاعر وأحاسيس طارئة قد ينطلق الإنسان نحوها من خلال بعض المؤثرات السطحية في داخل شخصيته أو فيما يحيطه من أوضاع..
لذلك لا بد لهذا الخطاب من أن يجمع الفكر الذي يتعمّق مع بعض العاطفة التي تمهّد له السبيل لأن يدخل في عقل الإنسان الآخر.
ولا بد للخطاب الإسلامي من أن يعيش عصره، فليس من الطبيعي أن نتحدث في خطابها من خلال مشاكل عصرٍ سابق علينا لا أثر لها في حياتنا لأنها أصبحت مشاكل بائدة حلّها التأريخ أو ماتت في التأريخ مع حلولها آنذاك.
فمشكلة الكثيرين من الذين يدرسون الإسلام أنهم يدرسونه جسداً ولا يدرسونه روحاً، إنهم يدرسونه قطعاً متناثرة ولا يدرسونه كلاً مترابطاً، إنهم يدرسونه من خلال مفردات عاشت قبل ألف سنة من دون أن يطلّوا على المفردات المتطورة المتجددة التي أصبح الإنسان يعيش مشاكلها وتحدياتها وأوضاعها.
ولا يصحّ بأي حال أن يكون الخطاب الإسلامي متخلّفاً عن العصر، لأن الذين يحرّكونه لا يعيشون ذهنية هذا العصر، ولا يعيشون أسلوبه، ولا يشعرون بالقضايا التي أصبحت تهزه، فهناك مصطلحات جديدة تطلع علينا في كل يوم، فالعالم اليوم يتحدث عن "العولمة" الاقتصادية والثقافية والسياسية والكل مشغول بهذا، وكل قطر وجماعة تحاول أن تدرس تأثيرات هذه العولمة على واقعها القطري أو القومي من خلال تأثيراتها السلبية على الثقافة أو الاقتصاد أو السياسة.
فكم لدينا من بحث إسلامي الآن في الحوزات وفي النوادي الإسلامية عن العولمة، وهي من الأمور التي تتصل بالجانب الثقافي والاقتصادي والسياسي، حتى أننا عندما نحرّك السياسة فإننا نحركها في السطح ولا نحركها في العمق، فكم لدينا الآن من الإسلاميين حتى الحركيين الذين يملكون ـ بحق ـ الثقافة السياسية التي تجعلهم يفهمون الأحداث من خلال ترابطها في كل ما تتحرك به السياسة في العالم.
لذلك لا بد لنا من ثقافة إسلامية تنطلق من أصالة الإسلام في مفاهيمه وعقائده وشرائعه ومناهجه وأساليبه، ولا بد لنا من أن نظل على حركة العصر في كل تطوراته وكل متغيراته وكل مشاكله حتى يمكننا أن نعيش عصرنا وأن نفهم لغته وذهنيته، ولقد قلناها مئة مرة ليس معنى أن تعيش ذهنية العصر أن تسقط تحت تأثيره وتتبنى طروحاته، ولكن أن تفهم حركته وتفهم لغته وروحيته وتطلعاته حتى تستطيع أن تواكبه وأن تحمي نفسك منه وأن تحمي الإسلام منه، وحتى تستطيع أن تهديه وترفعه في نهاية المطاف.
هناك حديث نتناقله دائماً "إنا معاشر الأنبياء أُمِرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم"( )، والكثير من الناس لا يحترمون عقول الناس ولعلهم يعيشون الكبرياء الكاذبة التي تجعلهم ينظرون إلى الناس عل أنهم عوام، ويكلمون الناس من خلال عقولهم، وربما كانت عقولهم في إجازة من الواقع.
إنها مشكلة، وعلى الواعين من شباب الإسلام المثقف الذي يعيش الأزمة في كل الواقع، والذي يشعر بالاهتزاز، على هؤلاء الشباب في الحوزات أو في غيرها أن يبدأوا العمل من أجل خطاب إسلامي يملك صاحبه ثقافته ووعيه وعمقه وحلوله لمشاكل الحياة، لا بد من ذلك وإلا بقي الإسلام في داخل الزنزانة التي حبسناه فيها من خلال كل هذا التخلّف والجهل الذي حسبناه علماً.
موقف الإسلام من العولمة:
ـ هلاّ ذكرتم لنا موقف الإسلام من العولمة السياسية والاقتصادية وغيرها؟
ـ في كل مرحلة من المراحل ينطلق الاستكبار ليقدم لنا عنواناً نحاول أن نلهث في تحليله ومواكبته، فلقد قدّم لنا قبل سنين "النظام العالمي الجديد" وبدأنا ندرس ما هو النظام العالمي الجديد وتبيذن أنه ليس هناك نظام عالمي جديد، إنما هناك واقع عالمي جديد يرتكز على أن تكون أمريكا هي القوة المادية الكبرى في العالم، وأن يخضع مجلس الأمن لها ليحاصر هذا البلد أو ذاك وليعلن الحرب على هذا البلد أو ذاك.
فلقد كان هناك واقع عالمي جديد من خلال طبيعة اختلال توازن القوة في العالم بسقوط الاتحاد السوفياتي، ولكنهم أرادوا أن يقولوا أنه نظام عالمي جديد وعليكم أن تخضعوا له وأن تسقطوا أمامه.
وجاءتنا الآن عن بعض المفكرين الأمريكيين، مسألة العولمة وبدأت في الحق الاقتصادي، وذلك بأن يكون لكل بلد اقتصاده وخصوصياته في الاقتصاد، ولكن التطورات الحاضرة جعلت الاقتصاد يبتعد عن الدوائر المحدودة، لأن الاقتصاد في أي بلد من البلدان هو مربوط بالاقتصاد العالمي، فالدولار هو الذي يحكم الحركة النقدية في العالم، وأصبحت الشركات عالمية تتجاوز المحدود.
فالعولمة تعبر عن بعض تعريفاتها عن الحركة من المحدود، وهي في المواقع الوطنية والقومية، إلى اللامحدود وهي في المواقع العالمية، ويمثلون ذلك بحركة الشركات، فعندما ندرس الشركات الموجودة في العالم، فإننا نجد بأنها تتجاوز حدود الدول مثل شركة (شل) وغيرها من الشركات الفرنسية والبريطانية أو الأمريكية التي تتحرك في الاقتصاد العالمي في أكثر البلدان في العالم، مما يعني أن اقتصاد أي بلد أصبح مربوطاً بالاقتصاد العالمي، وحاولوا أن يقولوا إن المسألة لا تقتصر على العولمة الاقتصادية، بل حتى السياسية باعتبار أن السياسة فرع من الاقتصاد بحيث أصبحت السياسة العالمية تتحرك في خدمة الاقتصاد العالمي، ولذلك قالوا: لا يمكن لأي بلد أن ينكمش سياسياً وأن يعيش في داخل حدوده أو أن يعيش في داخل أوضاعه الإقليميةت، بل لا بد أن ترتبط السياسة المحلية بالسياسة العالمية.
وتطورت العولمة إلى العولمة الثقافية، فقالوا ليست هناك ثقافة خاصة يمكن أن تحمي نفسها، فليست هناك ثقافة قومية أو ثقافة إسلامية أو ما أشبه ذلك، بل لا بد لهذه الثقافة أن تندمج وأن تعيش في أجواء الثقافة العالمية، فكأنهم يقولون أن لا هوية قومية ولا دينية ولا وطنية، بل أصبح العالم اللامحدود هو الذي يتحكم في اقتصاد كل بلد وسياسته وثقافته.
وعندما ندرس ذلك في الواقع نجد أن العولمة محاولة لاحتواء العالم كله تحت هذا العنوان لتسقط لممانعة للاستكبار العالمي الذي يقود اقتصاد العالم وسياسته وثقافته بحسب ما يملك من الإمكانات، بثقافتنا وسياستنا واقتصادنا، وليس معنى أن نحتفظ بكل ذلك أن ننعزل عن العالم فهذا غير ممكن، فالعالم من الناحية الإعلامية أصبح قرية كونية، ومن الناحية الاقتصادية والسياسية أصبح مدينة كونية، وهذا صحيح، لكن علينا عندما نركز اقتصادنا أن نراقب حركة هذا الاقتصاد في علاقته بالاقتصاد العالمي بالطريقة التي لا تسقط اقتصادنا أمام خطوط اقتصاد الدول الكبرى، بحيث تكون لدينا حالة من الممانعة أزاء ما يعرضونه علينا.
وهكذا بالنسبة إلى السياسة والثقافة، فإن وجود ثقافة عالمية لا يعني أن تفقد هويتك الثقافية، بل أنك في الوقت الذي يمكن أن تركز هويتك الثقافية تفتح ثقافتك على ثقافة الآخرين، ونحن كمسلمين ندعو إلى أسلمة العالم اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وقد لا نملك ذلك ولكن علينا أن نجربه، وأول التجربة أن لا نسقط أمام كل هذا الواقع العالمي الذي هو واقع حركة الاستكبار في احتواء كل المواقع الصغيرة.
معرفة الحق:
ـ ورد في دعاء الافتتاح: "اللهم ما عرّفتنا من الحقّ فحمّلناه وما قصرنا عنه فبلّغناه" فما معنى هذه الفقرة من الدعاء الشريف؟
ـ فيما أستوحيه منها ـ والله العالم ـ أنه عندما عاش الإنسان في هذا الدعاء مع الله ومع رسوله ومع أوليائه، انفتحت نفسه على أن كل هذا هو الحق، وبذلك امتلأت نفسه بالحق، وأدركت أنه قد يعيش الحق فكراً ولا يعيشه عملاً وممارسةً، وأنه قد لا يلتقي مع الحق في بعض مواضعه لأنه يجهل كثيراً من مواقعه، ولذلك فإنه يطلب من الله أن يحمّله مسؤولية الحق الذي يعرفه، وأن يبلّغه الحق الذي قصر في معرفته.
وعلى ضوء هذا، فإن هذين العنوانين الكبيرين يخططان لما يعدهما: "اللهم المُم به شعثنا، واشعب به صدعنا، وارتق به فتقنا، وكثِّر به قلّتنا، وأعزز به ذلّتنا"( )، إلى آخر الدعاء، إنه أيحاء بأن علينا عندما نريد أن نحل كل مشاكلنا أن يكون الحل هو بالحق، فهذه الـ(به) التي تتعدد وتتكرر مع كل مشكلة، بحيث عندما يشعب صدعنا ونتفرق فإن علينا أن نحل مشكلتنا تلك بالحق لا بالباطل ليكون الإنسان المسلم في حياته كلها، عندما يريد أن يتخفف من آلامه أو عندما يريد أن يحقق أحلامه أو أن يحل مشاكله أن يكون الحق هو الوسيلة لذلك كله.
لهذا فإنناي أعتقد أن وعي (دعاء الافتتاح) يمكن أن ينفتح بنا على آفاق واسعة فيما هو المضمون الإسلامي في المسيرة الإسلامية للإنسان المسلم، سواء في حياته الفردية أو العامة.
الموقف من الزواج المدني:
ـ حبّذا لو نسمع منكم شيئاً مفصّلاً عن الزواج المدني وعن موقف الإسلام منه؟
ـ إن الزواج المدني هو نظام للزواج مختلف عن الزواج في الإسلام، فالزواج المدني لا يشترط في الزوجين أن يكونا من دين معين، ولا يشترط أن تكون الزوجة في العدة، كما أنه لا ينظر إلى مسألة المهر، بالإضافة إلى أن فسخ الصلاق لا يكون من قبل الزوج، وإنما يتم من قبل قاضي المحكمة، فلو طلق الزوج مدنياً قلا يقبل منه الطلاق، بل لا بد أن يقضي بذلك الحاكم المدني.
بينما في الإسلام لا يجوز للمسلمة الزواج بغير المسلم، وليس للمسلم أن يتزوج إلا مسلمة أو كتابية، ولا يجوز له أن يتزوج امرأة من دين آخر أو ملحدة، كما لا يجوز له أن يتزوج امرأة معتدة، وهناك محرمات كمن عقد على ذات عدة، ومن عقد على ذات بعل، وهناك أحكام شرعية للزواج.
نعم هناك جدل حول صيغة عقد الزواج، فالمشهور لدى علمائنا أن يكون اللفظ (زوجت) أو (أنكحت) أو ما إلى ذلك، ولكن هناك بعض العلماء يرى أنهلا مانع من إنشاء الزواج بكل صيغة تدل على الإيجاب والقبول مما تعارف الناس أن ينشِئوا الزوج به، ولذلك فلو كانت الشروط الشرعية مجتمعة كلها في الزوجين من جميع الجهات وعقد لهما موثق العقود على أنه عقد مدني لا زواج مدني حيث يكون هناك إيجاب وقبول، فعند ذلك يكون العقد صحيحاً إذ لا يشترط في عقد الزواج في الإسلام أن يعقده عالم دين بل يمكن أن يعقده أي إنسان آخر، فعقد الزواج في الإسلام مدني بهذا المعنى، فهو ليس كالزواج الكنسي الذي يشترط أن يشرف عليه عالم دين.
إنجازات الثورة الإسلامية في إيران:
ـ في ذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران كيف تقيّمون الإنجاز الكبير الذي حققه الإمام الراحل السيد الخميني(رض) الذي استطاع أن يؤسس دولة إسلامية رائدة؟
ـ الإنجاز الكبير و أن الإمام كان الإنسان الصلب الذي آمن بالإسلام، والذي عرف الله تعالى معرفة جعلته يقف بكل صلابة وقوة في وجه كل القوى التي كانت تسيطر على المنطقة، بحيث كان لا يرى أمام الله شيئاً وكان لا يخاف من أحد، وتلك ميزة يتميز بها هذا الإنسان العارف بالله لم نجدها في الكثيرين من القياديين في الكثير من مواقع تاريخنا.
وكان الإنسان الذي يؤمن برسالته ويتابعها، وبقي يحدق في الهدف لم تشغله نفسه ولم يشغله ما حوله ومن حوله، وكانت علاقته بالناس ترتبط بعلاقته بالرسالة، وكان في الوقت نفسه يثق بالناس الذي يملكون الكثير من روحية الخير بشرط أن نعرف كيف نكتشف هذه الروحية وكيف ننميها، وكان لا يعتبر الناس سلّماً يصعد به إلى ذاته، بل كان يعتبرهم مواقع الحركة الرسالة معه.
وكان يعيش حياته والاستشهاد بين عينيه، ولم تكن حياته هدفه بل كانت حياته في خدمة رسالته، ولذلك انتصر.
ولقد سمعته يوماً وكان كل الدبلوماسيين ورجال الدول مجتمعين في (حسينية جماران) يقول: "أنا لم أفعل شيئاً، الله تعالى هو الذي فعل ذلك كله، وإذا كان هناك إنسان فعل ذلك فلست أنا ولكن الناس هم الذين فعلوا"!
كان يحترم الناس، وكان من احترامه لهم أنه كان لا يخفي عنهم شيئاً، ويحاول إذا أخطأ قيادي قال للناس أنه أخطأ، ولم يحاول أن يتحدث معه بالسر، بل يعتبر أن لا تكون للقيادة أسرار فيما يتصل بقضايا الناس، وقد تحتاج أن يكون لها بعض الأسرار في ساحة الصراع، ولكن عندما تكون القضية قضية حكم الناس وبيان الحقيقة لهم، كان لا يخفي عن الناس شيئاً.. وتلك ميزة قلّ من اتصف بها، كان الصريح في القضايا ليعوّد القادة أن لا يحجبوا عن الناس شيئاً لأنه إذا تعوّد أن يحجب عن الناس الحقيقة مجاملة لقيادة صغيرة أو لشخصية كبيرة، فإن معنى ذلك أن الحقيقة سوف تضيع.
وكان لطف الله به أن هيّأ له بناء الدولة الإسلامية بالمعنى الإسلامي في الخط وفي الفقه وفي المنهج، ولكنه وهو يؤسس الدولة كان يتحدث عن أنه ليس المعصوم، ولكنه قد يخطئ، وأراد بذلك أن لا تعتبر القيادات نفسها في موقع العصمة أو يعتبرها أتباعها في موقع العصمة..
فمشكلتنا ـ أيها الأحبة ـ أن الصغار والكبار منا يريدون للناس أن يتعاملوا معهم كمعصومين وهم يشجعون الناس أن يتحدثوا عنهم كمعصومين، ولذلك وقعنا في عبادة الشخصية وانتفاخها وتضخيمها، والنبي(ص) يقول: "إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد"، قالها لامرأة أخذتها هيبته.
فادرسوا في الإمام الخميني(رض) معرفته بالله، وادرسوا فيه إيمانه بالله، وادرسوه فيه أنه كان لا يخاف إلا الله.
ما غُزِيَ قومٌ...؟
ـ هل صحيح ما يُنسب إلى مولانا أمير المؤمنين(ع): "ما غُزِي قومٌ قط في عقر دارهم إلا ذُلّوا"( )، وإذا صحّ ذلك فإنه يناقض الرأي الذي يقول أن كبار أهل المدينة أرادوا أن يبقوا في (موقعة أحد) في المدينة، لأن لديهم تجربة سابقة أنهم إذا بقوا في المدينة لا ينهزمون؟
ـ هذا وارد على نحو الكناية، أي أن على القوم أن يعيشوا إرادة الجهاد بحيث لا يمكّنون الأعداء من الدخول إلى ديارهم ليغزوهم فيسيطروا عليهم، بل أن عليهم أن يعيشوا الجهاد بحيث يبادرون إلى مواجهة الأعداء الذين يريدون أن يهجموا عليهم.
فالغزو هنا ليس معناه الحرب، بل معناه وصول الغزو إلى داخل دارهم أي وقعوا تحت تأثيره من دون أن يستعدوا له، فهناك فرق بين هذا وذاك الرأي، فذاك يقول نستعد للقتال في داخل المدينة لأن لديهم تجربة سابقة، ويمكن أن تختلف هذه التجربة عن تلك.
ارتداء الحجاب بلا قناعة:
ـ أن أرتدي الحجاب ولكن بدون قناعة تامة، فبماذا تنصحونني عن فوائده والحكمة منه؟
ـ أولاً: إن قناعة المسلم بحكم شرعي ليست أمراً ذاتياً، بل هو أمر ينطلق من كونه موجوداً في الكتاب والسنة، والله يقول: {ولا يبدينَ زينتهُنّ إلا ما ظهر منها}( )، وهذا يدل على الحجاب إلا الوجه والكفين.
وثانياً: فإن الحجاب يعطي المرأة انطباعاً باحترام شخصيتها باعتبار أنها تخرج إلى المجتمع كإنسانة تبعث على الاحترام، بينما إذا خرجت بعيداً عن الحجاب، فإن المجتمع ينظر إليها كأنثى، وهذا مما يفقدها معنى احترام إنسانيتها لدى الآخر الذي يفكر بها كجسد للاشتهاء لا كامرأة صاحبة تفكير ووعي.
ومن جهة أخرى، فإن عدم الحجاب يوجب مشكلة للمجتمع أن للرجال أو للنساء، كما يعبر البعض في أن المجتمع من خلال هذه المظاهر الخلاعية يعيش حالة طوارئ جنسية، فهو من قبيل:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له إيّاك إيّاك أن تبتل بالماء
واجباتنا في هذا العصر الخانق:
ـ ما هي واجبات الإنسان في هذا العصر الذي يشعر من خلاله أنه محاصرمن جميع الجهات سواء الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بل الأسرية؟ وإلى متى الصبر وكظم الغيظ؟
ـ عليه أن يفكّ الحصار عن نفسه بإيمانه بالله وثقته به، وأن يقرأ القرآن ليعرف أن الله تعالى يقول {أليس الله بكافٍ عبده ويخوّفونك بالذين من دونه}( )، {سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا}( )، وعليه أن يصبر ويكظم غيظه ويركز إرادته ويدرس كل فرص الحياة، فإذا ضاعت منك فرصة الآن فستجد فرصة غداً، فالمهم أن لا تيأس {يا بني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه} وكل ما يحتاجه الإنسان في الحياة هو ما شاكل (يوسف وأخيه) {ولا تيأسوا من روح الهل إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}( ).
منع النساء من المساجد:
ـ هل يجوز لإمام مسجد من المساجد أن يمنع النساء من المجيء إلى المسجد تحت ذريعة أن المرأة ليست مطالبة بالذهاب إلى المسجد، علماً أن المرأة في هذه الأيام قد نزلت إلى كل مجالات الحياة؟
ـ لا يجوز لإمام المسجد أن يمنع النساء من المجيء إلى المسجد إلا إذا كانت ثمة مفسدة تنشأ من ذلك، وحتى لو كان الإمام ولياً على المسجد فإن عليه أن يستعمل ولايته فيما أعدّ المسجد له، وقد كانت النساء يخرجن ليصلين الجماعة مع النبي(ص) ـ كما في بعض الروايات ـ حتى وقت الفجر.
لذلك نقول إن اتبعاد المرأة عن المساجد من مظاهر التخلّف من خلال طبيعة النظرة إلى المرأة ودورها، وإذا كان البعض يقول إن مسجد المرأة بيتها فإن الملحوظ فيه أن الله يعطيها ثواب المسجد للصلاة في بيتها إذا كانت تذهب إلى المسجد لمجرد حصول ثواب الصلاة، أما إذا كانت تذهب إلى المسجد لحضور صلاة الجماعة، أو للاستماع للوعظ والإرشاد أو لتزداد روحانية فلا يجوز منعها من ذلك إلا إذا كانت هناك مفسدة كبرى.
إدخال الكومبيوتر إلى الحوزات:
ـ لماذا لا يدخل الكمبيوتر كدرس في الحوزة العلمية باعتبار الحاجة الماسة له في أغلب مجالات الحياة؟
ـ أعتقد أن بعض الحوزات العلمية بدأت تأخذ بذلك.
كيف نواجه الغزو الثقافي؟
ـ كيف نواجه الغزو الفكري والثقافي الذي استفحل خطره في عالمنا الإسلامي والعربي المعاصر؟
ـ نواجهه بما كنا نواجه به الغزو العسكري في بداية الإسلام وحتى الآن، وهو أن ت حارب الغازي بسلاحه، فإذا كان يحاربك بسلاح القوة العسكرية فالله يقول لك {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة}( )، وإذا كان العدو يحاربك بسلاح الفكر، فحاول أن تحصل على فكر مسلّح من أجل أن تصدّ غزوه.
ولا بد أن تحصل على سلاح الثقافة في كل ما يثيره الغازي من قضايا الحياة المعاصرة ليضع لها حلولاً من خلال مرتكزاته الفكرية ليبعدك عن الخط الإسلامي.
وحاول أن تعمل على أساس أن تنتج حلولاً لقضايا الإنسان المعاصر، حتى تستطيع أن تواجه المشكلة بالحلول التي عندك، وهذ ما كنت أركز عليه في أن ينطلق العالم الإسلامي كله ليكون عالماً مثقفاً بالإسلام فيما يحتاجه الإسلام من الثقافة المعاصرة، فلا يكفي أن تكون لدينا ثقافة الإسلام فيما مضى، لأن الممثقفين الإسلاميين في الواقع الثقافي في الماضي كانوا يعالجون مشاكل ذلك العصر بما لديهم من ثقافة، وقد أنتج العصر الآن مشاكل حياتية كثيرة، فلا بد لنا أن نعرف كيف نواجه هذه المشاكل المعاصرة بعقلية إسلامية معاصرة تعرف كيف تنطلق المشكلة وكيف تتحرك.
ولذلك كنا ندعو العلماء والمثقفين أن يكون لهم وعي ذهنية العصر، وأن يكون لهم حسّ المعاصرة حتى يعرفوا كيف يكلّمون الناس بقدر عقولهم.
فلا بد ـ أيها الأحبة ـ أن نعرف عقل العصر وإلا فقد نلتقي نحن الذين نعيش في هذه المرحلة من عمرنا بأولادنا الذين يدرسون في الجامعات فلا يفهمون علينا ولا نفهم عليهم، لأن ذهنيتنا من عصر معين وذهنيتهم من عصر آخر.
غير أنني لا أقول بأن نسقط أمام العصر، بل أن نعرف ما في العصر، إذا ما عرفنا الداء عرفنا الدواء.
الدراسة الأكاديمية أو الدينية:
ـ أيّهما أفضل أن يتوجّه الشاب إلى الدراسة الأكاديمية (كلية أو معهد) أو إلى الدراسة الدينية في الحوزات؟
ـ كلٌ ميسّر لما خلق له، فنحن نحتاج إلى الدراسات الأكاديمية حتى يكون لدينا جيش من العلماء والمخترعين والمبدعين، كما نحتاج إلى جيش من المبلّغين والمجتهدين، ولذلك فلا بد للإنسان أن يدرس أولاً ما يحبّه من العلم لنفسه، وثانياً أن يدرس حاجة المجتمع في ذلك.
ـ وأيّهما أفضل طلبة الحوزات أو طلبة الجامعات؟
ـ إذا كان هؤلاء وهؤلاء مؤمنين متدينين فلكل منهما فضل.
علمانية الإسلام:
ـ هناك من يتحدث عن علمانية الإسلام، فهل يمكن أن نسمح بمقاربة إسلامية علمانية؟
ـ من يتحدّث بذلك فهو كمن يتحدث عن مسيحية الإسلام أو يهودية الإسلام، أو إسلام المسيحية أو إسلام اليهودية، فالعلمانية نظام مستقل من الجانب الفكري، وهي تعني أن الدين لا علاقة له بالحياة وبالسياسة، والإسلام دين يؤكد على التزام الإنسان به في كل أموره، فكيف يمكن أن نعطي الإسلام صفة العلمانية؟!
قيم الجهل:
ـ تفضلتم أن الجهل يريد أن يفرض علينا كل قيمه، فهل للجهل قيم؟
ـ نعم، هناك قيم سلبية وهناك قيم إيجابية، وقيم الجهل هل قيم سلبية.
دور طلبة الجامعات:
ـ ما هو الدور الذي يمكن أن يقوم به طلبة الجامعات، هل هو مجرد تنمية الجوانب الفكرية من خلال حضور المحاضرات وقراءة الكتب كي تتكامل شخصيتنا أو هناك دور آخر؟
ـ دوركم هو بناء شخصيتكم على أساس الاستقامة الفكرية والعملية، ودوركم ما قاله الله {ولتكُن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}( ).
الإضراب عن الطعام:
ـ من أساليب الاحتجاج كتعبير عن المعارضة على الظلم هو الإضراب عن الطعام، فهل الشرع يجيز هذا العمل لا سيما إذا كان يجرّ إلى التهلكة كالموت مثلاً؟
ـ الأصل في الشرع الإسلامي أن لا يضر الإنسان نفسه، إذ يحرم إضرار الإنسان بنفسه لا سيما إذا كان الضرر بالغاً، والأصل أن لا يلقي الإنسان بيديه إلى التهلكة لأن الله لم يرخّص له ذلك، فأنت لا تملك حياتك لتملك الحرية في إنهاء حياته.
وربما تفرض المصلحة الإسلامية العليا أن تضرب عن الطعام، لأن ذلك يمكن أن يحقق مشروعاً عاماً حيوياً يمنح الناس الكثير من النتائج الإيجابية في حياتهم، فقد يجوز ذلك إذا كان لهذا المشروع من الأهمية ما يغلب المفسدة التي تحصل من الإضرار بالنفس.
أما الإضراب الذي يؤدي إلى التهلكة فلا نملك أساساً شرعياً فيما نواجهه من حالات الاحتجاج، ما يمكن أن نرخص به الآخرين.
وأما في المطلق، أي إذا وصلت القضية إلى حد إما أن يسقط الواقع كله أو أن يضرب الإنسان عن الطعام إضراباً انتحارياً ـ إذا صحّ التعبير ـ فذلك يكون نوعاً من أنواع الجهاد، لأن الجهاد قد يجلك تضحي بنفسك في ساحة المعركة السياسية، ولا بد في هذا من أن يحدده أهل الخبرة الذين يعون طبيعة التحرك والنتائج الإيجابية أو السلبية المترتبة عليه من جرّاء التحدي.
ثقافة الاسترخاء والترف:
ـ لقد أشرتُم في كتاب (خطوات على طريق الإسلام) إلى ثقافة الاسترخاء وثقافة الترف، فما هو الفرق بينهما؟
ـ ثقافة الاسترخاء هي ثقافة الإنسان الذي لا مشكلة ولا قضية لديه، بل يحاول أن يبحث عن القضايا التي لا دور لها في الحياة، كمن يبحث عن التفاصيل في قضية لا تتصل لا بعقيدتنا ولا بواقعنا ولا بحياتنا، فهو يبحث عن قضية يثير فيها المشاكل، ككل القضايا التي لا ثمرة عملية فيها لا في العقيدة ولا في الفكر، وهذا ما عبّر عنه النبي(ص) بقوله: "ذاك علمٌ لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه".
فالثقافة المسؤولة هي الثقافة التي تتصل بحياتك وبمصيرك، وهي إما أن تتصل بعقيدتك فيما يفترض أن تعتقده، أو أن تتصل بعملك فيما يفترض أن تعمله، أو تتصل بحياتك فيما يفترض أن تعيشه، أما ما يخرج عن ذلك فهوثقافة استرخاء.
وثقافة الترف شبيهة بثقافة الاسترخاء، أي الثقافة غير الضرورية التي لا تعتبر حاجة لدى الإنسان، ولعل الكثير مما نتعارفة من ثقافة الشرع هي ثقافة ترف واسترخاء.
المسائـــل التربويـــــــة
من علامات المتقين:
ـ ما معنى قول أمير المؤمنين(ع) في نهج البلاغة في خطبة المتقين: "فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوةً في دين وحزماً في لين وإيماناً في يقين"؟
ـ أما الأولى وهي (القوة في الدين) فقد يراد بها القوة في دينه، بحيث يكون قوياً فيه، أو قوة مع التدين، بحيث لا يصرف قوته في غير ما يرضي الله، وربما الول هو الأقرب. و(الحزم في اللين) أي أنه حازم وحاسم في أموره ولكن بدون قسوة. و(الإيمان في اليقين) يعني أن الإيمان يصل إلى درجة اليقين الذي لا ريب فيه.
ـ وفي مقطع آخر "بُعدُه عمّن تباعد عنه زهدٌ ونزاهة، ودنوّه ممّن دنا منه لينٌ ورحمة"؟
ـ أي عندما يبتعد عن ا لناس فإنه يبتعد عنهم تنزهاً عما قد يصيبه أو يلحقه منهم، أو تنزهاً عن الطمع فيهم، أو فيما يرغب فيه الناس، فإذا تباعد فإن تباعده ينجم عن هذا لا غيره، أما إذا قرب فإن قربه يكون ليناً ـ أي تعاطف ورحمة ـ باعتبار أنه يفتح لهم قلبه ويبسط لهم رحمته.
الجائز ولكنه ليس من الأخلاق:
ـ كثيراً ما نقول عن بعض الأحكام الشرعية بأنها تجوز شرعاً ولكنه ليست من الأخلاق الفاضلة، فهذا يعني أن هناك عموماً وخصوصاً بين الدين والأخلاق الفاضلة، وبالتالي فكأننا أخرجنا بع الأخلاق الفاضلة من الدين فعلاً؟
ـ ثمّة فرق بين الأخلاق الإلزامية وبين الأخلاق المستحبة، ففي بعض الحالات قد يكون العمل جائزاً لكنه من المكروهات، فالبنية التحتية للمكروهات هي الأخلاق، أي أن الله يرى أن العمل غير أخلاقي، بأن تضع نفسك في مواضع التهمة ـ مثلاً ـ أو ما إلى ذلك، لكنه لا يلزمك بذلك، فهو عمل غير أخلاقي بمعنى أن الله يحب لك تركه ولكنه لا يلزمك بالحكم.
أما الأخلاق الأساسية كالصدق والأمانة والعفة، فهي أخلاق ملزمة.
ضيوف في أوقات حرجة:
ـ ما هو رأيكم بالضيون الذين يدخلون البيوت بدون سابق إنذار في الأوقات المحرجة بالنسبة لأصحاب الدار خاصة في أوقات الراحة، وهل ينطبق على ذلك.. المأخوذ حياةً كالمأخوذ غصباً؟
ـ إذا كان أصحاب الدار لا يحبون أن يأتيهم ضيوف وكان الضيوف يعرفون ذلك فلا يجوز، أما إذا كانوا معتادين ويعتبرون أن القرابة أو الصداقة تبرّر ذلك ولم ينبههم أصحاب البيت فلا مشكلة.
محجّبة بين سافرات:
ـ هل يجوز للفتاة أن تخلع حجابها بحجة أنها ضمن مجموعة من السافرات لئلا تعدّ متميزة بينهن في نظر الرجال؟
ـ على الإنسان المؤمن أن يكون متميزاً بينالذني لا يلتزخمون الإيمان فلا يجوز لها ذلك، بل لا يجوز أن تخرج معهن إذا كانت تشعر بالاضطرار لذلك.
شقق لممارسة المنكرات:
ـ أعمل في مكتب عقاري وصاحبه يؤجر شقة لممارسة الفساد والمنكرات، وأحياناً أقوم شخصياً بتأجير هذه الشقق، فما هو موقفي؟
ـ إذا كانت هذه الشقق أماكن للدعارة فلا يجوز ذلك بالعنوان الأولي في بعض الحالات، وفي العنوان الثانوي في حالات أخرى.
مفهوم العزلة:
ـ ما هي الطرق الصحيحة لتوجيه من يقول أن العزلة هي ابتعاد عن الذنوب والآثام، وما هو الفهم الصحيح للعزلة والاعتزال في الإسلام؟
ـ إن الإسلام يريد لك أن تبتعد عن الذنوب والآثام عندما تدخل التجربة لا عندما تعيش خارج نطاق التجربة، على طريقة ذلك الشاعر الذي يقول:
ليس البطولة أن تموت من الظمأ إن البطولة أن تعبَّ الماءَ
فالبطل هو الذي يدخل في قلب التجربة ولا يسقط، وهو الذي يقترب من المحرقة ولا يحترق {ألم* أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون* ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين}( )، فلا بد أن تمرّ بالفتنة التي تعني الاختبار والامتحان {ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}( )، {أم حسبتُم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتِكُم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}( )، فلا بد من أن تعيش الزلزال.. زلزال غرائزك، وزلزال الصراع في المجتمع، وأن تدخل في قلب التجربة التي يعيش فيها الإيمان الصراع مع الكفر، ويعيش فيها الخير مع الشر، أن تعيش كل ذلك وتبقى مؤمناً.
لذلك فإن العزلة في الإسلام شرٌ وليست خيراً لأنك بالعزلة تمنع طاقاتك من أن تتفجر وإيمانك من أن يقوى وينمو.
عدم إتقان قراءة القرآن:
ـ أنا امرأة أحبّ القرآن وقراءته، ومشكلتي أنني لا أحسن القراءة تماماً بالرغم من استخدام الكاسيت، ولكنني أتقن قراءة بعض السور، فهل عليّ إثم حينما أخطئ؟
ـ أقول لك اقرأي وأخطئي، حتى تتمكنين من القراءة بصور صحيحة بعد ذلك، فكل الذين تعلّموا القرآن كانوا يخطئون ولكنهم تابعوا ذلك وأصابوا، فليس هناك إثم على الخطأ عن غير عمد، إذا كان الإنسان يسير في طريق الصواب.
لا يتحمل أخطاء الآخرين:
ـ أنا شاب أعيش في الغرب ومشكلتي أنني لا أتحمل الآخرين عندما يخطئون معي أكثر من مرة، فأقاطعهم، حيث أنني أقاطع أخي وأختي الكبيرين حالياً، فبماذا تنصحونني؟
ـ إذا كان القانون هو أن كل من يخطئ فعلى الآخر أن لا يتحمّله وأن يقاطعه وأن يمنع عنه خيره، فماذا نفعل نحن الخطّاؤون مع الله تعالى، هل نقبل أن يقاطعنا الله ويسلب عنا رحمته.
ثم أنك تقاطع الآخرين عندما يخطئون معك، فهل تقبل أن يقاطعك الآخرون عندما تخطئ معهم "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به".
طاقات الشيخوخة:
ـ قلتم أن الإسلام لا يدعو إلى البطالة وفي ذلك نتذكر "مسلم بن عوسجة" و"عمار بن ياسر"، ولكننا نجد في الوقت نفسه أن السائد في حياتنا الآن هو أن بطالة الإنسان إذا بلغ الشيخوخة كأنما تدخله إلى عالم التقاعد، فما هو رأيكم؟
ـ هذا صحيح، ولكن الشيخ في العادة يدخل عالم التقاعد لما ألفه من أعمال كان يزاولها في شبابه، ولكن لكل عمر عمله، ولذلك فإنه يستطيع القيام بالعمل الذي يتناسب مع طاقاته وإمكاناته.
جارٌ مؤذٍ:
ـ من صيغ السلام الذي تفضلتم به هو السلام مع الناس، وجاري يؤذيني دائماً، فكيف أسالمه وهو لا يسالمني؟
ـ كُن أفضل منه لا سيما أنك بالسلام قد تفتح قلبه، وأنك بالسلام قد تخفف من درجة إيذائه وشرّه، وقد ورد عن أئمتنا(ع): "السلام سبعون حسنة تسع وستون للمبتدئ وواحدة للرادّ، وإن أحسن فعشر"، فلو فرضنا أن المسألة كانت بالنحو التالي: أن للسلام سبعين دولاراً (69) للمبتدئ وواحد للراد، فهل يمنعك أذى جارك عن أن تسلّم عليه؟! ولكن [عملة] الله غير متداولة لدينا {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}( ).
التشهير بكاتم الشهادة:
ـ هل يجوز التشهير والفضح لكاتم الشهادة؟
ـ إن الله تعالى يقول: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}( )، ولكن بشرطها وشروطها، فإذا كتم الإنسان الشهادة من دون أن يكون له مبررٌ بشروط الشهادة أو في الموانع، فإنه يكون عاصياً لأنه شارك في كتمان الحقّ وفي إخفاء حق صاحب الحق.
لكن التشهير لا يجوز إلا للإنسان المتجاهر بالفسق، فإذا كان يتجاهر بذلك فيجوز غيبته بها، والأحوط أن يُقتصر على ما تجاهر به.
ضعف العلاقات بين المهاجرين:
ـ من مشكلات العراقيين في المهجر مشكلة ضعف العلاقات، لا سيما بين المهاجرين القدامى، فالمشاكل تحدث، والعلاقات تنقطع حتى بين أخوة النسب ولأتفه الأسباب، فما هي نصيحتكم لأبنائكم في المهجر؟
ـ نصيحت لهم أن يعيشوا معنى الرحم في صلة النسب إن كانوا أرحاماً، وأن يعيشوا معنى الإيمان في صلة الإسلام، فينطلقوا بالأخوة الإيمانية، وأن يدرسوا مسألة أنهم من بلد واحد أخرجوا منه بغير حق لأنهم قالوا ربّنا الله، فعليهم أن يخلصوا للفكرة التي ضحّوا لأجلها بوجودهم في أرضهم فيما تتمثل فيه علاقات بعضهم بالبعض الآخر.
ولما كان الناس يرتبطون برباط المصلحة، فإنهم كلّما كانوا أقرب إلى بعضهم، وكلّما كانت صلتهم ببعضهم أقوى وأعمق استطاعوا أن يخدموا وجودهم أكثر، وأن يجعلوا المجتمعات تحترمهم أكثر، وأن يتجنبوا الكثير من المشاكل.
إن عليهم أن يكونوا واعين لأنفسهم وللواقع من حولهم ولمصالحهم في ذلك كله، وهذه النصيحة ليست موجّهة للعراقيين فحسب، ولكنها موجّهة إلى كل شعب اضطر أن يخرج من أرضه مهاجراً إلى الله ورسوله، فإن عليه أن يبقى مع الله ورسوله في كل ما أكد الله من قيم وفي كل ما أطلقه الرسول(ص) من أخلاق.
أنانية أم ماذا؟
ـ أنا امرأة متزوجة من رجل ملتزم منذ سنوات عديدة ولم نُرزق بولد، بالرغم من مراجعة الطبيبات، ويقول لي زوجي بأنه سيتزوج عليّ إن لم أُرزق بطفل، فطالبته بالطلاق لأنني لا أتحمّل زوجة ثانية، وأنا أشعر بالعذاب منذ أخبرني بنيّته، ولكنه رفض فكرة الطلاق مدّعياً بأنه سيحافظ على حقوقي، ووصفني بالأنانية، أليس هو الأناني؟
ـ نحن نفهم جيداً مشاعر المرأة التي تعيش لوحدها مع زوج، عندما يريد هذا أن يتزوج امرأة ثانية، ولكن الأخت السائلة تعتبر نفسها ملتزمة والالتزام يقتضي أن يلتزم الإنسان بأحكام الله وأن تكون مشاعره منسجمة مع شريعة الله.
ونقول لهذه الأخت إن هذا الرجل لا يعرف الأنانية، والدليل على ذلك أنه لم يطع زوجته بالطلاق، وربما كان الطلاق أهون عليه لأنه يستطيع أن يعيش بلا مشاكل، لأن زوج المرأتين غالباً ما يفقد بعض استقراره في حياته، لذلك فإن إصرار هذا الرجل على أن تبقى زوجته معه معناه أنه يحبها ويحترمها ويعمل على أن يطيع الله فيها، فلماذا تكون أنانية معه تريد أن تحرمه من الولد إذا كان المانع من قِبَلِها، فهو يريد بقاءها معه وأن يكون له ولد، فالأنانية هي أن تحرم هذا الرج من حبه لها وتحرمه من الولد، فهو هناك يحاول أن يحتفظ بحبه لها وبرغبته في الولد، فنرجوا أن لا تكون الأخت أنانية مع زوج منفتح غير أناني.
إيثار ولد بأعطيةٍ ما:
ـ هل يجوز للأب تخصيص أحد أولاده بأعطيةٍ ما دون أن يعطي باقي أولاده مثله؟ وهل يختلف الحكم إذا كان المعطي هو الأم؟
ـ الناس مسلّطون على أموالهم، فله أن يعطي ماله لهذا الولد أو ذاك، أو لإنسان أجنبي، فغاية ما هناك أنه ينبغي له أن لا يعقّد أولاده تجاهه، وأن لا يخلق مشاكل بينهم، ولا فرق بين الأم والأب في ذلك.
تربية الأبناء في الأجواء المنحرفة:
ـ كيف يمكن لنا أن نربّي أبناءنا في البلدان الفاسدة؟
ـ كما تربيهم جسداً، حاول أن تربيهم روحياً وفكرياً بتجربتك الخاصة، أو بجعل أولادك يعيشون في مجتمع المؤمنين بطريقة أو بأخرى.
خلاّقة مشاكل:
ـ ما هو رأيكم بالزوجة التي تحاول دائماً خلق المشاكل بين زوجها وبين إخوانه بحيث تفسد الجوّ العائلي؟
ـ رأيي في ذلك كما هو في الزوج الذي يحاول دائماً خلق المشاكل بين زوجته وبين إخوانها وأخواتها وأهلها، كلاهما عاصيان لله سبحانه وتعالى، لأنه لا يجوز للإنسان المؤمن أن يخلق مشكلة بين مؤمن ومؤمن لا سيما إذا كانوا من الأرحام.
مسؤولية انحراف الأبناء:
ـ أصبحت الهجرة إلى بلاد الغرب أمراً واقعاً، فلو هاجر المؤمن إلى تلك الديار بسبب الظروف الصعبة، وقام بتربية أبنائه تربية إسلامية ولم يدخر جهداً في ذلك، وحصل أن انحرف بعض الأبناء، فهل يكون مسؤولاً أمام الله لأنه هو الذي جلبهم إلى تلك الديار أم يعتبر أنه قد قام بواجبه الشرعي حسب قدرته؟
ـ إذا كان ذهابه بهم إلى هناك مظنّة الانحراف، بحيث رجحت حسابات الانحراف فإنه يتحمّل جزءاً من المسؤولية، أما إذا لم تكن القضية بهذه المثابة فلا يتحمل المسؤولية، لأن انحرافهم هناك سيكون كانحرافهم هنا عندما يكون ذلك خارج قدرته.
صلة الأب المتوفى:
ـ أنا شاب مؤمن وقد توفي والدي وأنا في السجن وقد حرم من رؤيتي وحرمت من رؤيته، وأريد أن أقدّم له بعض الأعمال الخيرية، فما هو أفضلها في رأيكم؟
ـ أن تتصدق عنه، وأن تدعو له، وأن تقرأ القرآن عنه، وإذا كانت عليه بعض الواجبات التي يجب بقضاؤها فتقضيها عنه.
أثر البيئة على الاستقامة:
ـ هناك مثل يقول: "لا تكن كاللص الذي يعتبر نفسه شريفاً عندما لا يستطيع أن يسرق، فكيف للإنسان أن يقيّم ذاته بشكل صحيح في وسط اجتماعي لا يسمح له بالزلل، ولكن إذا وضع في طريق مهيّأ للزلل زلّ فيه وأخطأظ
ـ على الإنسان أن يدرس نفسه، وأن يدرس ملكاته حتى يستطيع أن يعرف عمق الإيمان بالله وعمق الإيمان بما أوجبه أو حرّمه عليه، حتى إذا فُتح له باب من الحرام يستطيع أن يملك إرادته، وربما كان تحريك الإرادة في المستحبات يعطي الإنسان قوة أمام المحرّمات، وكذلك تحريكها في الشبهات التي يجوز للإنسان أن يقتحمها كالشبهات البدوية، فربما يجعل له ذلك قوة على التوازن إزاء المحرمات.
أسلوب التفاهم مع الزوجة:
ـ كثيراً ما أتشاجر مع زوجتي لأنها لا تطيعني في بعض الحالات، فما هو الأسلوب الذي أتخذه للتفاهم معها؟
ـ عليك أن تدرس ذهنية زوجتك، كما نوصي زوجتك أن تدرس ذهنيتك، لأن الزوج إذا لم يفهم زوجته في نقاط ضعفها وقوتها ولم تفهم الزوجة زوجها في نقاط ضعفه وقوته، فمن الصعب أن يتفاهما، ومن الطبيعي أن يتشاجرا لأن كلاً منهما عاش في بيئة تختلف عن بيئة الآخر، وربما يحمل مفاهيم عن الحياة الزوجية تختلف عن مفاهيم الآخر، لذلك عليك أن تدرس سبب عدم إطاعتها لك، فقد لا يكون من المصلحة أن تأمرها بذلك.
الاختلاف في الرأي:
ـ زوجي متدين والحمدلله ولكنه مصرّ على اعتبار كل مخالفة في الرأي والذوق عناداً، فماذا عليّ أن أفعل؟
ـ عليك أن تقنعيه بأنك إنسان كما هو إنسان، ومن حقك بأن تفكّري بطريقتك الخاصة، كما أنّ من حقه أن يفكر بطريقته الخاصة، فالزواج لا يفرض على المرأة أن تخضع لرأي زوجها أو لفكره لأن الله يحاسبها على ما تفكر وما تعمل بشكل مستقل عن زوجها، كما يحاسبه على ذلك بشكل مستقل.
وهكذا في الذوق، فالمرأة قد تشتهي أكلة معينة لا يشتهيها الزوج فعلى أيّ أساس يحكّم ذوقه هو في ذلكن فالذوق ليس رأياً يقبل الصواب أو الخطأ، إنما هو أمرٌ يرتبط بالجانب الجسدي وبعادات الإنسان.
إن هذا النوع من الأزواج يظلمون زوجاتهم ولا يجوز ذلك شرعاً، وعلى الأخت أن تصبر على ما ترى من عناد زوجها، فهو المعاند في هذا المقام ولستِ أنتِ.
الأجواء المضعفة للهِمَم:
ـ نحن مجموعة مسلمات نعيش في أوروبا ونريد منكم أن تبدوا لنا النصيحة بتقوية إيماننا والخوف من الله أكثر، لأن الأجواء من حولنا تضعف هممنا؟
ـ من الممكن جداً للأخوات أن يجتمعن في قراءة دعاء وتذكر أمر الله سبحانه وتعالة وفي ذكره كثيراً وفي محاولة النظر إلى ما حولهن نظرة ناقدة لا نظرة تستلب مشاعر الإنسان.
ثم ليحاولن أن يجتمعن ولو في كل أسبوع مرة ليشعروا بالجوّ الإسلامي فيما بينهن، وذلك من خلال التذكير بأمر الله ونهيه، والتفكير في أمره، ومحاسبة النفس وتذكّر نعم الله سبحانه وتعالى، وقراءة القرآن، والصلاة، فإن ذلك كله يمكن أن ينمّي لهنّ إيمانهن.
هل المكروه منكر؟
ـ هل المكروه من المنكر حتى ننهى عنه؟
ـ كما أن النهي عن المكروه نهي تنزيهي، فإن النهي عن فعله نهي تنزيهي، أي أن تقول له لا ينبغي أن تفعل ذلك.
المناجاة الشعبانية:
ـ في دعاء أمير المؤمنين(ع) في المناجاة الشعبانية وردّ قوله: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنِر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصي أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك" فهل لكم أن تسلطوا الضوء على مفاهيم هذا الكلام العزيز؟
ـ الإمام(ع) يطلب في هذا الدعاء من الله سبحانه وتعالى على أن يجعله متعلقاً به منقطعاً إليه، بحيث لا يشغله عنه أي شيء كما ورد في (الصحيفة السجادية) شرح لذلك على لسان الإمام زين العابدين(ع): "اللهم إني أخلصتُ بانقطاعي إليك وأقبلت بكلي عليك، وصرفت وجهي عمّن يحتاج إلى رشدك، وقلبت مسألتي عمّن لم يستغنِ عن فضلك، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه وظلّةٌ من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا ـ إلى أن يقول ـ فأنت يا مولاي دون كل مسؤول موضع مسألتي ودون كل مطلوب إليه ولي حاجتي"، إلى آخر الدعاء بحيث ينقطع الإنسان تماماً فلا يتوجّه قلبه إلا لله سبحانه وتعالى، فإذا سأل فيسأل الله وإذا طلب فإنه يطلب من الله وإذا رجا فإنه يرجو الله.
"وأنِر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك" والنظر هنا ليس إلى الله في ذاته لأنه {لا تدركه الأبصار}( )، ولكن نظرها إليه في عظمته وفي نعمته وفي كل المواقع التي تنبغي له من أسمائه الحسنى وصفاته العليا "حتى تخرق أبصار القلوب حجُب النور"، لأن القلب له نظر كما للعينين نظر، والله يقول: {لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}( )، فالإنسان كلما عرف الله أكثر رآه سبحانه وتعالى بنظر قلبه، كما صوّر ذلك أمير المؤمنين(ع) عندما قال "لو كشف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً" بحيث تمثلت معرفة الله في نفسه على نحو لا يحتاج معه إلى أي شيء، فلو فرضنا المستحيل أنه رأى الله أو لم يره فإن الأمر عنده سواء، لأن وصل إلى مستوى من المعرفة، بحيث أنه ليس هناك حاجب يحجبه عن يقينه بالله تعالى.
العرفان في دعاء عرفة:
ـ إن دعاء الإمام الحسين(ع) في يوم عرفة كله عرفان وعشق وشوق وخضوع لله، وكذلك دعاء أبي حمزة الثمالي، والسؤال: هل يجوز لكل إنسان أن يتحدث بهذه اللغة مع كونه لم يصل إلى درجة المعرفة العالية؟
ـ من حيث الأصل فإن المعرفة ليس لها درجة، فنحن نقرأ دعاء الحسين(ع) حتى نقترب من المعرفة، ونقرأ دعاء (أبي حمزة الثمالي) و(دعاء كميل) حتى نعيش هذه الأجواء فلعلنا نقترب من المعرفة إلى الله.
وأنا أفهم العرفان على أنه عرفان القرآن عرفان أدعية أهل البيت(ع) وعرفان أحاديث النبي(ص) وأهل البيت(ع) أما عرفان الفلسفة كقولهم "ليس ي الجبة إلا الله" وقولهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
أو:
وشربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
فلستُ أفهم هذا العرفان، بل أفهمه من قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم}( )، وفي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد}( )، وأفهم أدعية كميل وأبي حمزة الثمالي بأنهما عرفان، وهي تخاطب الله بشيء تفهمه وبشيء تعيشه.. فالنبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع) هم قمة العرفان وكانوا يعبّرون بهذا الطريقة.
السلام بعد الهجر:
ـ هل ينعدم هجر المسلم لأخيه المسلم لمجرد إلقاء السلام، وما هي أحكام السلام؟
ـ لا يكفي السلام في مسألة عدم الهجر، لأن المطلوب هو المواصلة بالزيارة واللقاء، أما أحكام السلام في الإسلام فإن من المعروف أنه تحية أهل الجنة وهو "السلام عليكم" وليس أهلاً وسهلاً وصباح الخير وما شاكل من كلمات أجنبية.
فلما كان السلام تحية أهل الجنة فلا بد أن نعوّد ألسنتنا على تحيتهم {وتحيّتهم فيها سلام}( )، و"للسلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدئ وواحدة للرادّ وإن أحسنَ فعشرة"( )، فعلينا أن نلتفت إلى كل تقايد الإسلام بأن نكون مسلمين في تقاليدنا الأساسية التي هي من شريعة الإسلام، كما يجب ردّ السلام حتى في الصلاة.
الخوف من الرأي العام:
ـ أحياناً يعرف الإنسان أن عليه أن يفعل شيئاً ما، لكنه لا يفعله إما كسلاً أو خجلاً أو خوفاً من الاصطدام بالرأي العام، فهل هذا نفاق؟
ـ هذا ليس نفاقاً، ولكن على الإنسان أن يقوّي أرادته وحوافزه وأن يراقب الله، والرسول(ص) يقول: "إن لم يكُن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي"( ).
إشكالية الازدواجية:
ـ ذكرتُم بأنّ مناقضة القول للفعل هي من الازدواجية، والازدواجية تعني النفاق في كل حالاتها أو في بعضها، وذكرتُم كذلك خداع الناس، فكيف يمكن أن يخاطب الله المؤمنين في مثل هذه الحالات وهم على ما هم عليه من الازدواجية والنفاق؟
ـ المقصود بقوله تعالى: {الذين آمنوا} هم الذين التزموا الإيمان وانتموا إليه، وليس المقصود الذين قاموا بكل شروط الإيمان، هذا من جهة، ومن جهة ثانية أن إيمانكم يفرض عليكم ذلك، أي يا أيها الذين آمنوا إذا كنتم تحترمون إيمانكم وتخلصون له فلا تقولوا ما تفعلون.
تقليد الشباب للغرب:
ـ يتأثر الشباب بالحضارة الغربية ويحبون تقليدها في غير المحرمات شرعاً، لكنهم يشعرون بالذنب خوفاً من وقوعهم في موالاة الكفار، فماذا تقولون في ذلك؟
ـ لكل أمة شخصية معينة، ولها عناصر شخصية، وقد تلتقي بالواجبات وترك المحرمات وفعل المستحبات والامتناع عن الأشياء التي لا تتناسب مع الجو الإسلامي، فعندما تكون مسلماً لا يكفي أن تترك الحرام وأن تفعل الواجب، بل لا بد من أن تعيش روحية الإسلام.
وقد لا يكون تقليد الغربيين في بعض عاداتهم وتقاليدهم غير المحرمة محرماً في ذاته، ولكن ذلك يجعلك تعيش ازودواجية الشخصية، لأن عادات أي شعب وتقاليده تنطلق من خلال الهيكلية الشاملة لعناصر الشخصية الناشئة هناك.
فالعناصر الحضارية التي تمثل عناصر الشخصية الأصيلة تجتمع من العادات والتقاليد والواجبات والمحرمات، والذي يعمل بهذه الطريقة هو إنسان مشوّه الشخصية.
نيّة السوء:
ـ إذا نوى المرء نيّة سوء ولم يعمل بها لعدم حصولها فهل يعتبر عاملاً للذنب؟
ـ السيئة لا تكتب إلا إذا فعلها الإنسان، ولكن الفقهاء يقولون عن هذا الفاعل أنه لم يصدر عنه قبح فعليّ ولكن صدر عنه قبح فاعليّ، أي يدلّ على أن نفسيته سيئة، فهو يفكر بالشرّ ولكن الظروف تحول دون عمله، فعلى الإنسان أن يكون مطيعاً لله في نيّته كما أن عليه أن يكون مطيعاً في عمله.
سوء الظنّ :
ـ سوء الظنّ خصلة غير حميدة، والكثير من الناس مبتلون بها، فما هو الحل؟
ـ في الحديث "إذا ظننت فلا تحقق"( )، فإذا افترضت أن سوء الظن قد وقع في نفسك، فعليك أن تعالجه، والله يقول: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إن بعض الظنّ إثم}( )، ويقول: {إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً}( ).
ولكن إذا حصل لديك سوء ظنّ فلا ترتب عليه أيّ أثر، ولا تركز انطباعك السيّئ عن الشخص من خلال ذلك، ولا تحكم على أساس ذلك.
صوم الجوارح:
ـ ورد في حديث الإمام الصادق(ع) "إذا صمت فليصُم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك"( )، ولقد عرّفتنا الصوم في المفردات الأولى، فكيف يمكن للجلد والشعر والصيام؟ وما هي معطيات شهر رمضان في ظلّ التحديات في كل المواقع؟
ـ أما صيام الشعر والجلد فباعتبار أن المعاصي التي تتصل بالجلد كونه الطبقة الظاهرة للجسد {وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتُم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء}( )، {كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها}( )، فجلدك هو السطح بالنسبة لأعضائك ولذلك تنسب إليه المعصية.
أما عطاء شهر رمضان أمام التحديات فأن تنطلق من خلال شهر رمضان لتكون إنسان الرفض لكل ما يرفضه الله منك في المجال الغذائي والاجتماعي والسياسي والشهواني والأمني وما إلى ذلك، ارفض كل شيء يريد الله لك أن ترفضه لتكون الإنسان الذي يواجه التحديات بوعي ويتحدى بقوة، لأننا عندما نلتزم خط الله في حياتنا فقد تتحرك التحديات في كل المواقع ومنها تحديات شياطين الإنس وشياطين الجن التي تريد أن تنحرف بنا عن الخط المستقيم، وعلينا ونحن نتحرك في الواقع أن نتحدى بالطريقة التي نركز فيها قوتنا في العالم لا قوة غاشمة ولكن قوة راحمة مسؤولة.
تمثيل حركات وأصوات الآخرين:
ـ هناك من الناس من يقلد الآخرين من حيث الصوت وطريقة الكلام والحركات، فما هو حكم الشرع في تقليد حركات الآخرين، وكيف إذا كان التقليد في الشيء الحسن؟
ـ التقليد أو تمثيل حركات الآخرين على قسمين: فتارةً يكون في مقام الاستهزاء والسخرية والإساءة فهذا حرام، وأما إذا كان التقليد في الشيء الحسن فلا مشكلة في ذلك.
ولكن على الإنسان إذا أحب أن يكون مقلّداً، أن يعتبر أن هذا الذي يقلّده هو أصيل، فلماذا لا يبحث عما يعبر عن شخصيته بأصالة، فالإنسان الذي يكون صدى للآخرين، سوف يكون دوره دور الصدى فيما ينبغي له أن يكون دوره دور الصوت ولو بتغيير جزئي، فلا مانع من أن تأخذ العناصر الجيدة من الذي تقلده، ولكن حاول أن تدخل شخصيتك الصوتية بما يجعل صوتك مميزاً.
فنحن نريد أمة تبدع فيما تمارسه وتعيشه ولا نريد أمة مقلدة، فلا تعش تحت تأثير الآخرين الناجحين، لأن هؤلاء احترموا أنفسهم وانطلقوا بأصالتهم فلماذا تحاول أن تكون مجرد صورة أو هامش أو صدى لأولئك وبإمكانك أن تشقّ طريقك بنفسك؟!
أدعية التوفيق إلى الحج:
ـ نلاحظ تأكيداً كثيراً في أدعية شهر رمضان على التوفيق إلى الحج، فما هو سر هذا العدد الكثير من الأدعية، مع العلم أننا لا نجد في أدعية شهر شعبان أو رجب أو حتى شوال مثل هذه الأدعية، فما هو تفسير هذه الظاهرة؟
ـ ما نفهمه ـ والله العالم ـ أن شهر رمضان يختلف عن كل الشهور بأنه موسم الطهر والنقاء وموسم الإسلام كما هو موسم التوبة والغفران، وهذا ما أكده إمامنا زين العابدين(ع) في دعائه الذي كان يستقبل به شهر رمضان، حيث أطلق عليه هاتين الصفتين (شهر الطهور وشهر الإسلام) مما يعني أن دور شهر رمضان هو أن يخرجك من كل وحول السنة لتعيش في صيامه وقيامه وابتهالاته وتأملاته ودعائه حمّاماً روحياً يغتسل فيه عقلك من الباطل، وقلبك من كل عداوة وحقد وبغضاء وحسد، وحياتك من كل معصية.
وهكذا أراد الله أن يكون شهر الإسلام، بحيث أنك في شهر رمضان تعيش كل الإسلام في خطوطه العامة وتشير إلى نفسك بكل الخطوط التفصيلية للإسلام، ومن الطبيعي أن كل كل عبادة تشير إلى العبادة الأخرى، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر من أجل أن تدفعك إلى أن تتقي الله، والصوم يعطي حركة في معنى التقوى سلبية إلى جانب الحركة الإيجابية للصلاة.
وهكذا يُراد أيضاً في شهر رمضان أن يُشار إلى شهر ذي الحجة حيث حجّ بيت الله الحرام، باعتبار أن الحج يحمل في داخله صياماً في معنى الإحرام، ويحمل في داخل صلاة في معنى الطواف وصلاة الطواف، ويحمل في داخله حركة في معنى السعي، كما يحمل في داخل جلسة تأمل وابتهال ومحاسبة وانفتاح على الله في معنى عرفات والمشعر وليالي منى، ويحمل في داخله معنى المواجهة للشيطان، ومعنى العطاء في القرب من الله سبحانه وتعالى، لذلكيُقال للصائم إنك عندما تحصل من الصوم على التقوى فإن الحج يمكن أن يعطيك حركية التقوى في كل تنوعاتها وتفاصيلها.
كما إن قيمة شهر رمضان هي أن الله تعبّد الناس بعبادة معينة، وقيمة شهر ذي الحجة أن الله تعبّد الناس بعبادة معينة، ولم يتعبّدهم في الشهور الأخرى بعبادة معينة، كذلك فالشهر الذي أفاض الله عليه بركته بأن جعله ـ بشكل مباشر ـ شهر عبادة مفروضة هو الذي يشير إلى الشهر الآخر الذي جعله الله شهر عبادة مفروضة، وهناك من الأسرار ما قد تتنوع فيه المعاني.
الطريق إلى هداية الازدواجي:
ـ ماذا على المسلم أن يفعل لأن يهدي من أقربائه الذين يعلمون الحق ولا يعملون به؟
ـ عليه أن يجرّب وأن لا ييأس ولو بطريقة جديدة وتغيير الأسلوب والأجواء، ويحاول الاستعانة بأشخاص يملكون تأثيراً عليهم من أجل أن يوفق إلى هدايتهم.
تركيب الهوى:
ـ يقول الله تعالى: {ولا تتبع الهوى}( )، فما هو تركيب الهوى، هل هو من وحي الشهوة والقسوة النابعة من النفس أن غير ذلك؟
ـ إن الهوى هو حالة نفسية تنفتح على الإنسان في مشتهياته وملذاته في الحياة، فقد تكون ناشئة من الجانب الغريزي أو من حالات طارئة أو من أوضاع نفسية معينة.
نكران الذات:
ـ ما هو نكران الذات؟
ـ يعني أن لا تعتبر ذاتك كل شيء، بل عليك أن تنكر ذاتك من خلال موقفك، فإذا كان موقفك يفرض عليك بأن تضحي بمشتهياتك أو بكثير من أوضاعك فإن عليك أن تنكر ذاتك لتعرف موقفك.
التوفيق الإلهي:
ـ ما هيو التوفيق الإلهي للإنسان ومتى يكون، وهل للإنسان دخل فيه أم أنه هبة من الله تعالى، وهل هو نتيجة لعمل الإنسان، وعليه فلماذا نسميه توفيقاً إلهياً ولا نسميه توفيقاً إنسانياً؟
ـ إن معنى التوفيق الإلهي هو أن يهيئ الله لك الأجواء النفسية والأجواء الخارجية لكي تحصل على ما يوفقك الله للحصول عليه لتصل إلى النتائج الكبرى التي يريد لك أن تصل إليها.
أما هل أن التوفيق إلهي أم إنساني، فإن الذي يمنحك الله إياه هو من خلال ما يهيؤه من أجواء، ولأن الأدوات التي تستعمها أنت هي من عند الله، فليس لك شيء من ذلك كله، فهو الذي خلقك وهو الذي يرزقك، وهو الذي أعطاك ما تتحرك به في كل جسدك، وهيّأ لك ما تحصل عليه، فمن أين لك ما تنسبه إلى نفسك؟! فليس لك من ذلك شيء، ولذلك يقول الله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله}( )، وليس معنى ذلك أن لا اختيار لك في ذلك، ولكن الله قد يلطف بك ليرعى اختيارك لتختار الخيار الصحيح.
توظيف الخادمات الآسيويات:
ـ ما هو رأيكم بالعمل بجلب الخادمات الآسيويات إلى الخليج لقاء عمولة من المال من الخادمة ومن الشخص الذي يستخدم الخادمة؟
ـ ليست المشكلة في أن يأخذ من الخادمة أو المستخدم، فهي جُعالة، بمعنى أنه يقول بجلب هذه الخادمة لقاء مبلغ معين، ولقاء أن يهيئ لخادمة ظروف العمل بجعالة، فالجعالة مشروعة في الإسلام.
ولكننا ضد أن يؤتى بالخادمات غير المسلمات، لأن ذلك يؤدي إلى نتائج سلبية على أخلاق الأولاد والبنات على اعتبار أنهن يحملن أخلاقهن وأفكارهن وأساليبهن ليربين أولادنا ويؤثرن على أجواء المنزل، مع ما يحدث من كثير من الانحرافات الأخلاقية.
إننا لا نشجع ذلك، فبالإضافة إلى ذلك أصبح هذا الأمر يعوّد نساءنا على البطالة والبعد عن تحمل المسؤولية، فنحن لا نقول أنه يجب عليهن ذلك، ولكننا نعتقد أنهم لا بد أن يشعرن بمسؤوليتهن في البيت لا سيما بالنسبة لتربية الأولاد.
الانحراف قبل البلوغ:
ـ لي صديق لا يتجاوز عمره ثلاث عشرة سنة يرتكب ما يحرّمه الله، وأنا أنصحه وأرشده، وقد سمعت أن الإنسان لا يحاسب على أعماله دون سنّ البلوغ، فأخبرته بذلك، فصار يرتكب الذنوب أكثر فأكثر، وهو يقول لي حين أذكّره بالله، لن أستمع إليك فإن الله لن يحاسبني، فما هو رأيكم؟
ـ إذا كان هذا الشخص غير بالغ بلوغ الاحتلام وإنبات الشعر، فلدينا في الحديث "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم"( )، ولكن كان من الخطأ أن تتحدث معه عن ذلك، لأن المشكلة ليست فيما يرتكبه قبل البلوغ في عذاب الله له، ولكن هذا الذي يرتكبه من المحرمات قد يترك تأثيراً في شخصيته بحيث يمتد ذلك إلى ما بعد البلوغ لأنه سوف يصبح خلقاً يتجذر في حياته.
ومن جهة ثانية، فإن الكثير من المعاصي قد تضر الإنسان جسدياً وروحياً ونفسياً، مما يترك تأثيراته الوضعية على الإنسان الفاعل له.
دعاء المؤمن في ظهر الغيب:
ـ قلتُم أنه جاء في الروايات أنه "من دعا لأخيه بظهر الغيب وكّل الله به ملكاً يقول ولك مثلاه"( )، فإذا دعا المؤمن لمؤمن في ظهر الغيب أو عمل عملاً باسمه ثم أخبره أنه دعا له وعمل باسمه لزيادة المحبة فهل هذا يؤثر على إخلاصه لله وإخلاصه لأخيه؟
ـ لا ضرر في ذلك ما دام قاصداً إدخال المحبة في قلب أخيه ويشعره باهتمامه فيه وإخلاصه له.
مرتكب سوء الظن:
ـ هناك حالة سوء الظن بالآخرين، فماذا يترتّب على من يرتكب هذه الحالة شرعاً؟
ـ إن الله تعالى يريدنا أن نجاهد أنفسنا، فلا نظن السوء بالناس ما دام هناك مجال للعمل على الأحسن، ولكن ورد عندنا أن الإنسان إذا عاش سوء الظن فعليه أن لا يحكم على أساسه، وأن لا يحقق ذلك، ففي الحديث الشريف عن الرسول(ص): "إذا ظننت فلا تحقق") (، أي لا تجعل ما ظننته في حجم الحقيقة بحيث أنك ترتب آثار السوء على الإنسان الذي ظننت به السوء.
الطاعة لمن يسدّد:
ـ قال الإمام السجاد(ع) في دعائه مكارم الأخلاق: "ووفقني لطاعة من سدّدني ومتابعة من أرشدني، فما المقصود هنا بالطاعة والمتابعة؟
ـ ذلك يعني أنه إذا كان هناك من يسدّدك في حياتك بمعنى أن يجنّبك الخطأ ليسير بك في طريق الصواب، فعليك أن تطيعه للأخذ بالصواب الذي توحي به كلمة التسديد.
وهكذا إذ كان هناك من يرشدك للسير في طريق الحق، فعليك أن تتابعه بالسير في طريق الحق من خلال إرشاده.
رفض تحية العيد:
ـ بعض الناس يرفض أن يحيّيه الآخرون بتحية العيد بحجة أنه مشرد ومبعد عن أهله ووطنه وأن العيد لا يشمله، فهل هذا التصرف مقبول شرعاً؟
ـ إن العيد يشمله إذا كان مؤمناً، أما إذا لم يكن مؤمناً فلا يشمله العيد، فهو عيد الفرح بالمسؤولية لا الفرح اللاهي والعابث "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه"( )، وكأنك تقول له بارك الله في عيدك لأنك صمت صوماً مقبولاً وصليت صلاةً مقبولة، فأيّ مؤمن مشرد معذّب جريح لا يقبل للناس أن يباركوا له عيده في طاعة الله تعالى.
الأمور المشكلة:
ـ يقول الإمام السجاد(ع) في الدعاء المعروف (مكارم الأخلاق): "اللهم وفقني إذا اشتكلت عليَّ الأمور لأهداها، وإذا تشابهت الأعمال لأزكاها وإذا تناقضت الملل لأرضاها"، فما معنى اشتكال الأمور وتشابه الأعمال وتناقض الملل؟
ـ يعني أن الإنسان ربما تشكل عليه أمور معينة، فإذا أشكلت بحيث لم يتضخ له وجه الهدى من الضلال، أو كان هناك وضع في حال الهدى ووضع في حال الأهدى، بأن يوفقه الله تعالى للأفضل، وهكذا إذا تشابهت الأعمال فلم يعرف الزكي من الخبيث أن يوجهه الله للأزكى، وإذا تناقضت الملل والاتجاهات التي يأخذها الناس أن يوفقه الله تعالى لأرضاها مما يرضيه سبحانه وتعالى.
أيّة واقعية؟!
ـ لنكن واقعيين، فنحن في عصر التطور والعمل، وأن المرأة في هذه الأجواء من عملها ودراستها وحركتها لا تستطيع أن تواكب العصر بالفروض التي تفرضونها عليها من حجاب والتزام وعدم تبرج وعدم زينة، وقد صار هذا من ضروريات الحياة، ألا يوجد لذلك بتغيير لبعض الأحكام الشرعية لنكون عصريين واقعيين؟
ـ إذا أردنا أن نأخذ بمنطق هذا السؤال، فالمرأة أيضاً عندما تعمل قد تحتاج إلى أن تبذل نفسها للرجال لتنجح كسكرتيرة عند مديرها ولتنجح عند أستاذها في الجامعة ولتنجح عند صاحب العمل وما إلى ذلك من أوضاع الحياة.
ونحن نعيش في هذه الأيام مشكلة هذا التحرر الذي يكاد أن يسقط رئيساً من أقوى رؤساء العالم، والقصة هي أن هذه الموظفة التي تعمل في البيت الأبيض كانت تريد أن تنال وظيفة أفضل، فإذا أردنا أن نأخذ بهذا المعنى فإن من الطبيعي جداً أن لا يقبل هذا السائل لأخته وابنته أن تعيشا في هذا الجو.
ونقول في الجواب عن هذا السؤال للكثيرات من النساء اللاتي التزمن بالحجاب ونجحن في أعلى درجات النجاح حتى على مستوى الأستاذية في الجامعة ومركز الإدارة.. فأنا أعرف بعض المحجبات من الأمريكيات والأوروبيات المسلمات اللاتي لا زلنَ يلتزمن بالحجاب ويتسنّمن المراكز الجيدة في المواقع التربوية، حتى إنني أعرف امرأة في أمريكا التقيت بها في عام 1981 وهي مسلمة وقد خيّرت بين حجابها وبين ترك عملها في مصانع الذرة ففضلت حجابها وخضع الآخرون لها في قرارها بالالتزام بالحجاب.
لذلك فمن يلتزم دينه ولا يسقط أمام كل هذه التهاويل فإن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل له مخرجاً {ومن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً}( )، ولكن مشكلتنا أن بعضنا لا يملك قدمين يثبت بهما عندما تهتز الأرض من تحته، املكوا ذلك والله لا يترك عبده ولا يخذله {أليس الله بكافٍ عبده ويخوّفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد}( ).
الموقف من أهل المعاصي:
ـ من أسباب النظرة السلبية نحو منهج الإسلام في الأخلاق هو سلوك بعض المتدينين مع أهل المعصية، فكيف كان موقف الإمام الصادق(ع) مع هؤلاء، وهل توافقونهم على مقاطعة المنحرفين بشكل مطلق؟
ـ إن الأسلوب الإسلامي هو ليس كذلك، فهو يقول {ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة}( )، وهو {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}( )، وهو {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم}( ).
لذلك، فالكلمة الطيبة هي ما يريد الله سبحانه وتعالى أن تكون الأسلوب الذي يفتح به عقل الإنسان وقلبه، وهكذا نرىأن الإمام الصادق(ع) كان يجلس مع الزنادقة ويفتح لهم عقله وقلبه.
أما مسألة مقاطعة أهل المعاصي فإن المقاطعة كأصل ليست هي الأسلوب إذا أمكننا بالمواصلة أن نهديهم وأن نقربهم، نعم إذا كانت المقاطعة تؤتي تأثيراً إيجابياً بحيث يمكن أن يهتدي العاصي بالمقاطعة أكثر من المواصلة، فعند ذلك تكون المقاطعة حلاً.
وإلا فالأصل أن نتواصل مع كل الناس بما فيهم الكافرون والفاسقون عسى أن نوفّق ـ من خلال ذلك ـ إلى هدايتهم.
قبول الأعمال بقبول الصلاة:
ـ هناك أحاديث كثيرة مؤدّاها أن الصلاة إذا قُبِلت قُبلت باقي الأعمال، ولذلك روي أن الله إذا نظر في الصلاة نظر في باقي الأعمال، فلماذا هذا الاهتمام بالصلاة؟
ـ على اعتبار أنها عمود الدين، ولأنها تمثل العلاقة بالله، وأن أساس الدين هو العلاقة بالله.
الإخلاص في الطاعة:
ـ قد يجد الإنسان المؤمن نفسه منسجمة ومتستأنسة ببعض الطاعات وهو يخشى أن يكون أداؤه لتلك الطاعات استجابة لربغة النفس أكثر من الاستجابة لنفس الطاعة، فماذا تقولون في ذلك؟
ـ هذه علامة إيمان عميق وروحانية عالية {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون}( )، وجلة لأنهم يخشون ألا يكون هناك إخلاص يدفعهم إلى العمل، أو أن تكون لنفوسهم الأمّارة بالسوء بعض المدخلية في ذلك.
هذه روحية جيدة، ولكن على الإنسان ألا يسقط أمام هذه الهواجس، بل يحاول أن يفحص نفسه بأن يسألها هل كنت أصلي بخشوعي هذا الذي يراه الناس فيما لو صليت لوحدي؟ ولو لم تكن هناك ظروف شخصية تدعوني إلى ذلك، فهل أفعل؟!
وجّه لنفسك أكثر من سؤال وعليك أن تحدد طبيعة إخلاصك أو عدمه من خلال جواب نفسك لما تتحرك به ذاتك.
الفرق بين الصغائر والكبائر:
ـ ما الفرق بين الصغائر والكبائر من الذنوب، وهل هناك مقياس معين لمعرفة ذلك من حيث نوع الذنب أو العقوبة التي يستحقها، وهل أن إقامة الحدّ عيه في الدنيا مسقط عنه العقوبة في الآخرة؟
ـ الكبائر ـ كما يقول العلماء ـ هي المعاصي التي توعّد اله عليها في كتابه أو في سنّة نبيّه بدخول النار، والصغائر هي التي لم يتوعد عليها، وهي مما يسمى بـ(اللمم).
أما الكبائر التي توجب الحد فهناك حديث يقول: "الله أعدل من أن يجمع عليه عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة"( )، ولذلك كان إذا زنى أحد فإنه يأتي إلى النبي(ص) ويقول "طهّرني" باعتبار أن الحد يطهر الإنسان من الذنب كما هي التوبة تطره الإنسان من الذنب.
علامات قبول التوبة:
ـ ما هي شروط التوبة، ومتى يعرف الإنسان أن الله قد قبل توبته؟
ـ إذا كان نادماً ندماً حقيقياً عما فعل، عازماً عزماً حقيقياً أنه لن يفعل، تحققت منه التوبة، وإذا تحققت التوبة فإن الله أعطى على نفسه عهداً أن يقبلها {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون}( ).
كره المؤمن أو عمله السيء؟
ـ يفترض بالمؤمن أن يكره الفعل والممارسة السيئة لأخيه المؤمن ولا يكره نفس أخيه المؤمن، فكيف يمكنه ذلك والفعل يصدر من نفس الشخص؟
ـ إن المؤمن إذا قام بعمل سيِّئ فليس معنى ذلك أن عمله قد حوّله إلى شيطان، فلو فرضنا أن مؤمناً اغتاب شخصاً آخر والغيبة من الكبائر، أو أنه أكل لحم الميتة أو ضرب زوجته، فذلك لا يعني أنه تحوّل إلى شرّ كله، بل أن هناك جانباً من شخصيته العملية كان مبغوضاً من قبل الله.
وفي الحديث: "إن الله يحب العبد ويبغض بدنه" ففي الحقيقة نحن لا نريد أن نقتل الكافر، ولكننا نريد أن نقتل كفره، ولا نريد أن نقتل الشرير ولكن علينا أن نفكر في كيف نقتل شرّه.
فلا ينبغي أن نبغض ذات الإنسان، فهو بحسب طبيعته طيّب، فـ"كل مولود يولد على الفطرة"، ولكنه يتأثر بما حوله وبمن حوله بالعادات السيئة، فعلينا أن لا نكره الإنسان لا سيما إذا كان مؤمناً، والثمرة العملية للفصل بين الفكر والذات، هي أننا نظل نحاور الآخر ونحب أن يهتدي إلى سواء السبيل وإن كنا نبغض باطله.
دور الفطرة في التربية:
ـ تحدثتُم عن تأثير العوامل الخارجية في تربية الإنسان وتشكيل نواة وعيه في الصغر، فما دور الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، فالإنسان ليس وعاءً فارغاً تملؤه الظروف الموضوعية وإنما هناك العناصر الذاتية التي تشكل الفطرة الحجر الأساس فيها؟
ـ لقد أكدنا على أن للفطرة دورها، ولكن قد تأتي التربية لتمثل التراكمات التي تحجب الفكرة عن حركة الوعي، وهذا ما عبّر عنه الحديث الشريف "كل مولود يولد على الفكرة إلا أن أبويه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه"، على بعض الروايات، فالفطرة تنطلق بالإنسان بشكل طبيعي إلى التوحيد والإسلام، ولكن العوامل الخارجية كالتربية والبيئة الاجتماعية تجعل على الفطرة تراكمات بحيث تمنعها من التحرك، ولذلك يحتاج الإنسان إلى فطرته لاستنفار عقله حتى يستطيع أن يزيل هذه التراكمات التي حجبت الفطرة عن حركة افنسان ليعيدها إلى واقعها الطبيعي.
تحصين اللاجئ:
ـ بغضّ النظر عن أسباب اللجوء، فإن هناك ظاهرة تربوية خطيرة لا يقتصر تأثيرها على الأطفال والشباب، بل تركت آثارها حتى على الكبار وبنسب مختلفة، فما هي الأساليب التي ينبغي العمل بها لتحصينهم وإنقاذهم؟
ـ إن المسلمين عندما ينتقلون إلى بلاد الكفر التي لا يملكون فيها أية حصانة تؤكد مناعتهم العقيدية أو الأخلاقية فإن ذلك سوف يترك آثاره السلبية عليهم، لذلك نقول لا بد من إنشاء مساجد أو مصليات ومدارس تعلم الأولاد، ولقد أطلقت شعاراً في الغرب هو "المدرسة قبل المسجد" فأول عمل ينبغي القيام به هو إنشاء المدارس، لأننا يمكن أن نصلّي في قاعة المدرسة حينئذٍ، حتى نحفظ لأولادنا لغتهم ودينهم وأخلاقهم وتقاليدهم، وإلا إذا فرضنا أنه لزم البقاء هناك ضلال الشخص أو ضلال أولاده، فيحرم عليه البقاء، لأنه من التعرّب بعد الهجرة.
لذلك نقول لكل الذين قادتهم ظروفهم إلى الهجرة إلى بلاد الكفر، لا بد أن تحصنوا أنفسكم بأن توجدوا مجتمعاً إسلامياً صغيراً تلتقون من خلاله في الدعاء والصلاة وتعلم الأحكام الشرعية وقراءة القرآن والاستماع للوعظ وإيجاد محاضن تربوية لأولادكم.
الكبائر من الصالحات:
ـ المعروف أن النصوص الإسلامية قد بيّنت الكبائر من الذنوب، فهل بيّنت الكبائر من الصالحات، بحيث لو أتى بها المكلّف لا يخشى عليه لو قصّر في الصغائر من الصالحات؟
ـ نحن لا نحتاج إلى تبيان ذلك، فكل عمل خير وعمل صالح تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى يقربك إلى الله، ولقد أخفى الله ثواب وعقاب أعمال البر والصلاح أو أعمال الشر والفساد،من الحسنات والسيئات، فلا يستصغرنّ العبد حسنة فلربما أدخلته الجنة، ولا يستصغرنّ سيئة فربما أدخلته النار.
التقوى الوقائية والعلاجية:
ـ يقول بعض الباحثين في الشؤون القرآنية في خصوص قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد واتقوا الله}( )، أن التقوى الأولى هي للوقاية والثانية للعلاج، وقال بعضهم إن الأولى للمراقبة والثانية للمحاسبة فما هو رأيكم بهذين القولين؟
ـ من الممكن أن يكون المعنى ـ والله أعلم ـ {اتقوا الله} الأولى فيما أسلفتم بمعنى توبوا إلى الله و{اتقوا الله} الثانية فيما تقبلون عليه من حياتكم، وإلا فالمحاسبة والمراقبة واردة في نفس الآية {ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد}.
التشخيص بالنظر:
ـ أنا مبتلى بالنظر إلى وجوه الناس وتشخيص الجيد من غير الجيد، فغير الجيد ينقبض قلبي منه وأشعر بالكراهية اتجاهه، فما هي نصيحتكم لي؟
ـ إقرأ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّإن بعض الظنّ إثم}( )، وعيك أن تسأل نفسك بحكمك على شخص أنه غير جيد، ما هو الأساس في ذلك، وعليك أن تحاسب نفسك، هل صدر منه شيء يؤكد سوء ظنك به، وهل لديك معلومات حقيقية عنه؟! أما مجرد النظرة وانقباض القلب فلا يدل على أن الرجل غير جيد.
طهارة القلب:
ـ ألا ينبغي أن تكون طهارة القلب من الذنوب والرجوع إلى الله تعالى، من أساسيات فقه العبادات خاصة فقه الطهارة، وذلك قبل فقه الصلاة في الرسائل العملية؟
ـ إن كل الفقه الإسلامي ـ وليس فقه الطهارة فحسب ـ هو من أجل أن يحصل الإنسان على الطهارة الروحية والطهارة الحركية في حياته الخاصة وفي علاقاته مع الناس.
العبادة النفسية:
ـ أعيش في دولة أوروبية والامتثال للعبادة كالصلاة والصوم أمر صعب بالنسبة لي، فأنا لا أتعبد بهذه العبادة الظاهرية التي هي عبارة عن ركوع وسجودن بل أتعبد في نفسي عبادة نفسية روحية، ذلك أن الله لا يحتاج إلى ركوعنا وسجودنا بل يحتاج إلى قلوبنا؟
ـ إنه تعالى لا يحتاج إلى قلبك أيضاً فوفره عليك، فهل نريد أن نحمّل الله تعالى جميلاً ومنّة بأننا نعطيه قلوبنا وهو القائل: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد وما ذاك على الله بعزيز}( ).
فقضية العبادة والإخلاص لله تماماً كأي قضية يحتاج الإنسان أن يمارسها عملياً حتى يعمّق المعنى في النفوس، وإلا فقف أمام من تحب وقل له: أحبك حباً ملك عليّ قلب وكل عواطفي ولكنني لست مستعداً أن أزورك ولا أن أقدم لك أية خدمة ولا أن أعبر لك عن حبي بأية طريقة حسية، فهل هذا معقول؟
وإلا فلم ـ مثلاً ـ يقدّم الخطيب هدية لخطيبته، ويعبّر عن عواطفه بطريقة حسيّة معينة، ما ذاك إلا لأن النفس الإنسانية لا تتعمق فيها الجوانب العاطفية إلا من خلال التجربة الحسيّة.
حالات اللجوء إلى الغرب:
ـ سمعنا أن لكم رأياً بخصوص اللجوء إلى بلاد الغرب وهو أنكم لا تجوِّزون السفر إليها إلا للدعوة إلى الله والدراسة؟
ـ لا ليس ذلك فقط، بل حتى للاضطرار، ولكن أقول لا يجوز السفر لا للغرب ولا للشرق إلى بلاد يضعف فيها دينه ودين أهله.
لكننا نقول دائماً لأخواننا الذين يسافرون إلى الغرب أن عليهم أن يوجدوا في كل موقع يسافرون إليه محضناً يحضن دينهم وأولادهم حتى يستطيعوا أن ينموا نمواً إسلامياً طبيعياً.
المسائل الفقهية
ـ أولاً: المرجعية والتقليد.
ـ ثانياً:النجاسات والطهارات.
ثالثاً: الصلاة والإقامة.
رابعاً: الصيام والكفارات.
خامساً: الخمس والزكاة.
سادساً: أموال وبنوك.
سابعاً: الحج.
ثامناً: الزواج والطلاق.
تاسعاً: السلوك والمعاملات.
عاشراً: القسم والنذور.
أولاً ـ المرجعية والتقليد
ثقافة المرجع غير الفقهية:
ـ نلاحظ أن التباين في آراء المجتهدين يعود لاختلاف ثقافة وواقع المجتهد، وكوننا الآن نعيش في مجتمع يختلف عن مجتمع الأئمة(ع)، أليس من الضروري على من يتصدّى للمرجعية أن يكون مطلعاً على الواقع الثقافي والاجتماعي، أم أن ذلك غير ضروري، وبناءً على هذا هل يجوز للمؤمن العدول من مرجع إلى آخر لكون المرجع الثاني أكثر دراية ومعرفة بواقعه الاجتماعي والسياسي والثقافي؟
ـ في تصوري أن مسألة المرجعية هي مسألة تتصل بالإسلام كله، لأن معنى أن تكون مرجعاً للمسلمين هو أن تكون واعياً لكل قضاياهم الفقهية في الجانب العملي ليكون رأيك معذّراً لهم أمام الله تعال، عندما تكون حجة عليهم من خلال اجتهادك وفقهك.
ولا بد أن تكون واعياً للثقافة العقيدية في أصولها الحقيقية الخالية من ل تحريف ومن كل تشويه لتعرف كيف تعطي الناس الإسلام العقيدية في أصالته ونقائه، وأن تكون ملمّاً بالواقع الذي يتحرك فيه المسلمون في ساحات الصراع التي يواجه فيها الكفر الإسلام لتعرف كيف تحمي الإسلام بمعرفتك وثقافتك وتنقذ المسلمين من الضلال من خلال ما يطرحه الكفر من شبهات وما يثيره من تعقيدات ضد العقيدة الإسلامية.
وأن ت كون واعياً للجانب السياسي في حياتهم، والجانب الاجتماعي في وقاعهم، حتى إذا رجع المسلمون إليك أمكنك أن تعطيهم الرأي السياسي الذي يتفق مع خط الإسلام ومع مصلحة المسلمين، وأن تعطيهم الرأي الاجتماعي الذي يجمعهم على أساس الوحدة والتعاون على البرّ والتقوى.
فنحن نلاحظ مثلاً أن أئمة أهل البيت(ع) الذين نقول أن المراجع نوّاب عنهم، كانوا يعيشون ـ بما أعطاهم الله من علم ـ كلّ القضايا التي يواجهها المسلمون، فعندما تثور مسألة عقيدية تتناول العقيدة الإسلامية نجد أنهم أول من يقف ليتحدث عن الرأي الإسلامي الأصيل.
وإذا ح دثت عند المسلمين بعض الفتن المذهبية أو الاجتمعية أو بعض الأوضاع السياسية، فإننا نرى أنهم يعطون رأياً هنا ورأياً هناك، من أجل أن ينطلق هذا الرأي هنا وهناك.
ففي تصوري أن هناك فرقاً بين أن يكون الإنسان مرجعاً للمسلمين، فقد تكون مرجعية الفتيا حالة ثقافية، ومع ذلك لا أستطيع أن أجد مجتهداً يمكن أن يفتي بالإسلام إذا لم تكن له الثقافة القرآنية الواسعة، وإذا لم تكن له ثقافة معرفة المجتمع، لأن قضية الفقه تتصل بأعمال المكلفين، فلا بد أن يعرف المرجع واقع المكلّفين ليفتي لهم من خلال دراسة هذا الواقع، خصوصاً أن العلماء والمجتهدين والمراجع يمثلون واجهة الإسلام، فالناس عندما يتحدثون عن الإسلام فإنهم يتحدثون عن الذين يمثلون الإسلام.
فقد تمثّل المرجعية في السابق شيئاً في الجانب الثقافي الفقهي التقليدي، أما الآن فلا بد أن تواجه واقعاً يتسع لكل حياة الإنسان في خط الإسلام، وعلى هذا الأساس فنحن نرى أن لا مانع من العدول من مرجع إلى آخر بشرط أن يكون المرجع الآخر حائزاً على الكفاءة الاجتهادية في الجانب الفقهي، ولا يكفي فيه أن يكون ملماً في الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية.
اعتماد خطّ المرجعية فقط:
ـ هناك رأي يطرح بقوة في الدول الأجنبية، وهو خط المرجعية فقط والابتعاد عن كل ما يبتعد عن هذا الخط حتى لو كان الطريق الآخر إسلامياً كجمعية إسلامية أو ما شاكل، فما هو رأيكم بهذا التوجّه؟
ـ إن المرجعية هي عنوان من عناوين الارتباط بالقيادة الإسلامية التي قد تتنوّع في مضمونها، فهناك قيادة فتوائية وأخرى ولائية وأخرى اجتماعية، بمعنى إدارة بعض الشؤون الاجتماعية كالجمعيات أو ما ناظر.
فعندما تبقى المرجعية في سياق هذا الخط الذي ينحصر في دائرة الفتوى فهي لا تمثّل كل شيء، فعلينا ـ والحال هذه ـ أن ندرس المرجعية في شخص المرجع، هل أنها تمثّل طموحات العالم الإسلامي؟ وهل تمثل الانفتاح الذي يريده العالم في الاهتمام بقضاياه ومشكلاته؟ إذ لا بد م دراسة المرجعية حسب الحاجات المتجددة المتطورة التي أصبح إنسان العصر عيشها بشكل يومي.
وأما المرجعيات الأخرى كالجمعية أو الحزب، فتدرس كلٌ في مورده من خلال انسجامها مع الخط الإسلامي العريض.
المرجعية الدينية كقيادة سياسية:
ـ هل تعني المرجعية الدينية في أحد مضامينها القيادة السياسة والاجتماعية للأمة، فإن كان كذلك، فكيف يمكن تفسير تعدد المراجع، وبالتالي تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر في حل القضايا مما يؤدي إلى عدم وحدة الصف في ذلك، وإن لم تكن كذلك فكيف يمكن للإسلام أن يترك الأمة بدون قيادة مباشرة؟
ـ هناك فرق بين التقليد والمرجعية، فالتقليد حركة ثقافية يرجع فيها إلى العالم، فهو من حيث أخذ الفتوى راجع لقوله تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}( )؟
أما المرجعية التي تمثل قيادة الأمة فهي تحتاج إلى شروط تتجاوز الفتوى، فبالإضافة إلى كون المرجع مجتهداً لا بد أن تكون لديه خبرة بالواقع السياسي والاجتماعي، ولا بد أن يطل على كل القضايا، فالمرجع يعني أن ترجع إليه الأمة في كل قضاياها، فإذا لم تكن لديه خبرة سياسية ولا اجتماعية ولا ثقافية، فكيف يكون مرجعاً للأمة في ذلك.
تصدّي العلماء لتحديات الواقع:
ـ تكررون في أحاديثكم أن على العالم أن يتصدى لتحديات الواقع، وهذا ما يستدعي الاطّلاع على حركة الفكر والفقه، أي أن عليه أن يمتلك علماً موسوعياً، فكيف يمكن ذلك مع أن هذا الزمان يحتاج إلى التخصص في جانبٍ ما؟
ـ إن المفروض هو أننا نتخصص بالإسلام، وقد ورد في حديث الإمام موسى الكاظم(ع): "وجدت علم الناس قد اجتمع في أربع: أن تعرف ربّك، وأن تعرف ما صنع بك، وأن تعرف دينك، وأن تعرف ما يخرجك من دينك"، فلا بد لنا أن نعرف ديننا والشبهات التي يمكن أن تخرج الناس من دينهم حتى تقوم بنا الحجة على الناس، وبذلك يستحق الإنسان لقب "حجة الإسلام" عندما يكون حجة للإسلام بعلمه وجهاده، ولا يكون حجة على الإسلام بجهله وتكاسله، والمقصود من التعبير أن يملك العلم الموسوعي في دائرة مسؤوليته الإسلامية بما يفتح على الناس أسرار الإسلام في حقائقه وشرائعه وأساليبه ومناهجه وأهدافه.
المرجعية والقومية:
ـ نفهم من كلامكم أن القومية والاختلاف العرقي يجب أن لا يخرجا من الإطار الإنساني إلى الإطار الديني، فهل يعني ذلك أن القومية لا تأثير لها في تقليد الفقهاء والرجوع إليهم؟
ـ بالنسبة إلى القومية، فهي خصوصية إنسانية والعرق كذلك، وهي تغني تجربة الإنسان ولا تخلق حواجز بين إنسان وإنسان، وأما بالنسبة إلى التقليد والعلم، فالله سبحانه وتعالى يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتُم لا تعلمون}، سواء كان أهل الذكر عرباً أو فرساً، فلا قومية في العلم ولا قومية في الحكم، فنحن نتعلم من كل الناس ونرجع إلى أي مرجع إذا كان واجداً لشروط المرجعية، سواء كان عربياً أو فارسياً أو تركياً أو من أية قومية كان.
إنّ الحديث عن مرجعية عربية أو فارسية أوتركية، حديث ليس له أي دور في الإسلام من قريب أو بعيد {فاسألوا أهل الذكر إن كنتُم لا تعلمون}( )، فكلّ من كان من أهل الذكر فعلينا أن نسأله ونتعلم منه وأن نرجع إليه إذا كانت شروط المرجعية متوفرة فيه.
مصادر التشريع لدى الشيعة:
ـ له لكم أن تذكروا مصادر التشريع لدى الشيعة؟
ـ هما الكتاب والسنّة، فالإجماع هو دليل من أدلّة السنّة لأنه كاشف عن قول المعصوم وفعله وتقريره، والعقل أيضاً كاشف عن ملاك الحكم، منجهة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
والسنّة هي أحاديث النبي(ص) وأحاديث أئمة أهل البيت(ع) لأن حديثهم حديث رسول الله(ص) ولأن كلامهم كلام رسول الله، ولأن فعلهم فعل رسول الله.
فليس لدينا غير الكتاب والسنّة، ولكن قد نختلف مع إخواننا من أهل السنة كما يختلفون مع بعضهم فيصحة حديث وارد عن رسول الله(ص)، فلسنا نختلف في العمل بكل ما في كتاب الله ولكن في فهم كتاب الله، وعلينا أن نعمل بكل ما أتانا من رسول الله، ولكن علينا أن نوثّق ما أتانا، فالقرآن يقول {ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}( ).
توحيد الفقه الإسلامي:
ـ لماذا لا يكون هناك فقه إسلامي لا شافعي أو شيعي أو غير ذلك، ومن المسؤول عن تفرّق المسلمين؟ وحتى إذا كان لا بد من ذلك فلماذا لا نتحدث عن المرجع الأصولي والوعي الحقيقي للقرآن؟
ـ المسألة هي في الاجتهاد في فهم الإسلام، نعم نقول بأن علينا أن نتحاور حتى نصل إلى صيغة مشتركة إذا أمكن ذلك.
تأجيل تطبيق الأحكام:
ـ هل يستطيع الفقيه الحاكم في دولة إسلامية أن يؤجل تطبيق بعض الأحكام الشرعية الخاصة بتطبيق الحدود كالرجم مع مراعاة الوضع الدولي الذي يعتبر الرجم والتعزير مخالفاً لحقوق الإنسان؟
ـ إذا كان ذلك يؤدي إلى عناوين ثانوية تسيء إلى المصالح الإسلامية العليا فإنه يجوز.
الدليل على إرجاع الحقوق للمجتهد:
ـ هل هناك دليل قرآني أو من السنة الشريفة على وجوب إرجاع الحقوق الشرعية من خمس وزكاة إلى المجتهد، وما العلّة في إرجاعها إلى المجتهد، وهل هناك واسطة بين العبد وربه في العبادات؟
ـ ليس هناك دليل بالمعنى النصّي، إنما يطلب استئذان المجتهد في الحقوق الشرعية، باعتباره يطلّ على واقع المسلمين من خلال مسؤوليته العامة حيث يمكنه التعرف على حاجاتهم كما يعرف أين تصرف الحقوق الشرعية في مواردها.
أما إذا تركنا مسألة الصرف لكل إنسان فقد تضيع القضايا والمشاريع العامة، فلربما يخطئ الناس في ذلك بحيث يتحركون بالعاطفة، ولذلك عندما يرجع الناس إلى المجتهد ـ والمقصود به المجتهد الواعي الذي يعرف حاجات العالم الإسلامي وموارد الحقوق الشرعية من خلال إطلاعه ووعيه ـ فإنه يوجههم إلى صرفها، أو يأخذ منهم ما ينفقه على المشاريع العامة.
ولذلك يفتي الفقهاء في هذه المسالة على نحو الاحتياط غالباً لا على نحو الفتوى.
جدوى علم الأصول:
ـ يقول عدد من العلماء عن دراسة علم الأصول أنه مضيعة للعمر فيما لا فائدة منه، فما هو السبب في ذلك، وهل هو دعوة لترك دراسة هذا العلم، أم أنها ملاحظة حول الاستغراق فيه على حساب الفقه؟
ـ لا بد من علم الأصول من أجل الاستنباط، وأما ما يراه هؤلاء فالوجه فيه أن بعض المباحث في علم الأصول لا علاقة لها بالاستنباط، وهذا ما نوافقهم عليه، لأنها مباحث أقرب إلى الفلسفة منها إلى مقدمة الفقه، أما الأصول كعلم فهو ضروري من أجل الاستنباط.
رفض القياس:
ـ هل القياس طريق من طرق استنباط الحكم الشرعي عند الشيعة، فإذا كانت الإجابة نعم فما الدليل على ذلك، ثم ما هو الفرق في القياس عند السنّة والشيعة؟
ـ القياس ليس دليلاً من أدلة الاستنباط عند الشيعة الإمامية وعند بعض السنة كما عند (ابن حزم الظاهري) صاحب كتاب (المحلّى) والأساس عند الشيعة في رفض القياس هو أن القياس ينطلق من استنتاج المجتهد الملاحظ بأنّ العلّة في الحكم الأصل هي كذا، فإذا اعتبر العلة الموجودة في الفرع كذلك، فيقول بأنّ علّة الحكم هي ذاتها.
أما نحن فنقول بأن العلّة ظنيّة، فإذا كان الحكم منصوص العلّة أو إذا كان إدراكنا للعلّة قطعياً (100%) كما في القول لا تشرب الخمر لأنه مسكر، فنحن نقول: كل مسكر حرام باعتبار أننا نعرف أن ليس للخمر خصوصية وإنما الخصوصية للإسكار فكل مورد وجد فيه الإسكار فهو محرم.
أما إذا فرضنا أن إدراكنا للعلّة (60%) فإن الظنّ لا يغني من الحق شيئاً.. وعلى هذا يرفض الشيعة وابن حزم القياس كدليل استنباط، هذا فضلاً عن الروايات المتواترة عن أئمة أهل البيت(ع) الناهية عن العمل بالقياس.
الأخذ بخبر الثقة:
ـ نرى في مذهب أهل البيت(ع) اعتماد الثقة في الراوي ولو لم يكن من معتنقي مذهب أهل البيت، فهل هناك مذهب آخر يأخذ بذلك كما يأخذه مذهب الإمام الصادق(ع)؟
ـ إن الإخذ بخبر الثقة عقلائي، بل إننا نقول بالأخذ بالخبر الموثوق به، ولكن قد يختلف التطبيق، فالبعض قد يرون بأن اختلاف المذهب موجب لعدم الثقة، وهذا هو الذي يوجب اختلاف المسلمين في ذلك.
بين الأخذ والعطاء:
ـ تؤكدون دائماً في محاضراتكم على ضرورة التحرك الإسلامي، ولكن يوجد بين شباب الحوزة من يركز على جانب الأخذ فقط دون العطاء، فما هي نصيحتكم في ذلك؟
ـ إن السائل قد يقصد أن الطالب الحوزوي يقوم بالأخذ فقط في حالة الإعداد والدراسة، فالأخذ هنا مسؤولية إذا كان العطاء يعطّل دراسته، ولكن عندما يتمكن الإنسان من العطاء من دون أن يسيء ذلك إلى مسؤولية الأخذ فعليه أن يعطي.
ونحن نتعلم من الإمام زين العابدين(ع) الذي كان يشعر أنه عندما يأخذ من الناس شيئاً إكراماً وتعظيماً وذلك من خلال انتسابه إلى رسول الله(ص) فعليه أن يعطي للناس ما يساوي هذا الاحترام والتعظيم، فبعض الناس يرى أن تعظيم الناس واحترامهم له من واجباتهم، أما الإمام(ع) فيقول "ما أحب أن آخذ في رسول الله مالا أعطي مثله"، أي إذا كان الناس يحترمونني من خلال علاقتي برسول الله(ص) فعليّ أن أعطي ما يساوي احترام الناس لي.
إن رسول الله(ص) كان دائم العطاء ولم يرتح لحظة واحدة، ولكننا نستوحي من كلمة الإمام زين العابدين(ع) أنك عندما تفكر في الأخذ فكّر في العطاء ولكنك عندما تفكر بالعطاء لا تفكر بالأخذ، ولقد كانت وصية الإمام زين العابدين(ع) لولده "اصنع الخير مع أهله ومع غير أهله، فإن لم يكن من أهله فأنت من أهله" أي أعطِ من جهة طبيعة العطاء في نفسك ولكنك عندما تفكر بأن تأخذ فعليك أن تفكر بما أعطيت، لهذا علينا أن نتبع أهل البيت(ع) وأن نتشيّع لهم ولقيمهم التي هي قيم الإسلام وأن نتخلّق بأخلاقهم من خلال ذلك، فإنما استشهدوا لأجل إعلاء ذلك، ومن أجل أن نعيش معهم ويعيشوا معنا لإغناء حياتنا.
بقاء وعدول:
ـ يقلد أهلي السيد الخوئي(رض) وعندما بدأت التقليد تبعتهم في ذلك، ولكنني لم أقرأ (المسائل المنتخبة) ولم أطلع على فتاواه، وتصادفني في الوقت الحاضر مشكلات أريد لها جواباً شرعياً، فهل أرجع إلى السيد الخوئي أم أقلد أحد المراجع الموجودين؟
ـ على السائل أن يرجع إلى المرجع الحالي في جواز العدول أم عدم جوازه، فإذا كان المرجع يجوّز العدول فيمكنه أن يعدل، وإذا كان يوجب البقاء على الميت فيجب أن يبقى.
فجواز العدول ووجوب البقاء على التقليد أو جوازه لا يرجع فيها إلى الميت بل إلى الحيّ، وأما رأينا فهو جواز البقاء وجواز العدول.
بين الحوزة والحياة الزوجية:
ـ زوجي طالب حوزة منهمك في الدراسة والبحوث وهو متفوّق في دراسته، ولكن على حساب وقتي لأنني أحب أن أجلس معه يومياً، وهو يقول لي بأن إطالة الجلوس معك يتناسب عكسياً مع دراستي؟
ـ نحن نقول له: إنّ لزوجك عليك حقاً، كما أن لك حقاً على زوجك، فإذا كنت تريد التفرّغ للدراسة فما كان ينبغي لك أن تتزوج أصلاً، وما دمت التزمت بأن تكون زوجاً فعليك أن تعطي زوجتك حقها تماماً كما تريد أن تعطيك حقّك {ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة}( ).
تقسيم الحاكم الشرعي:
ـ إذا طالب أحد الشركاء بنصيب من أرض الشركة وأجبر الحاكم الشرعي الممتنعين على القسمة عليها، فهل يجوز لهم بعد حكم الحاكم الشرعي أن يتراضوا بينهم على قسمة أخرى تخالف تلك القسمة؟
ـ القضية قائمة على التراضي، فإذا رضي الرجل بذلك فلا مشكلة لأنها ملكه، فإذا أحب التنازل عن المسألة بحيث يرجع في ذلك فلا إشكال.
ضوابط التبليغ الإسلامي:
ـ كثير الكلام حول التبليغ والمبلّغ الإسلامي، إذ أن المعروف أن هناك ضوابط لكل مهنة إلا أن مؤسساتنا التبليغية ما زالت تفتقر إلى أبسط الضوابط، لأن الحوزات العلمية لم تأخذ على عاتقها تدريب كوادر تبليغية واعية، علماً أن مسألة التبليغ من المسائل الحساسة، فلماذا لا تقوم الحوزة العلمية بهذا الدور لتخرّج مبلغين ناشطين واعين بدلاً من التخبط العشوائي، وهل هناك شروط تشترطونها لذلك، وما هي نصيحتكم لكل مبلّغ؟
ـ أوافق السائل ع لى هذا التسيّب الموجود في مسألة التبليغ والمبلغين، لأن المبلّغ لا يدرس في أغلب الحوزات منهج التبليغ وعناصره، وإنما ينطلق كل طالب في الحوزة من خلال تجربته وقراءاته الشخصية.
لذلك نقول لا بد للمبلغ من أن يملك ثقافة ما يبلّغه بأن يفهم الإسلام، ولا بد له أن يفهم الأفكار الأخرى المضادة للإسلام، فالإمام الكاظم(ع) يقول "وجدت علم الناس قد اجتمع في أربع: أولها؛ أن تعرف ربك، ثانيها؛ أن تعرف ما صنع بك، ثالثها؛ أن تعرف دينك، رابعها؛ أن تعرف ما يخرجك من دينك".
أي لا بد للمبلّغ أن يعرف الإسلام والتيارات الأخرى التي يتحرك فيها الناس لمواجهة الإسلام، ولا بد أن يملك المنهج العلمي والأسلوب الحكيم في التعامل، والروحية المنفتحة على الإسلام والمسلمين، ولا بد أن يحب الناس وأن يحب رسالته، لا أن يكون مجرد إنسان يريده الناس بقرة حلوباً لنفسه أو أن يشغل موقعاً متقدماً لحساباته الذاتية.
وقبل كل شيء أن يكون تقياً مخلصاً لله سبحانه وتعالى.
أين المجتهدات؟
ـ لماذا لا توجد مجتهدات فقيهات يتخصصن بالمسائل الفقهية الخاصة بالمرأة على الأقل؟
ـ هناك حوزات علمية في قم ولبنان تنتمي إليها النساء، لكن ظروف المرأة في الغالب كزوجة وربة بيت تمنعها من مواصلة دراستها، ونحن نعرف أن الدراسة الحوزوية تشتمل على تعقيدات تختلف عن الدراسة الأكاديمية، ونرى أن نساء يبدعن في الدراسة الأكاديمية ولكنهن ينقطعن في نصف الطريق في الدراسة الحوزوية.
ثانياً ـ النجاسات والطهارات
حيض في سنّ الـ(13):
ـ رأت امرأة الحيض في سنّ الثالثة عشرة من عمرها وبدأت صلاتها في ذلك الوقت وقلّدت السيد الخوئي(رض) حتى بعد وفاته بناءً على تقليد من يجوّز البقاء مطلقاً على تقليد الأعلم، ثم عدلت بعد أن حصل لها الاطمئنان لسماحتكم، وعمرها الآن(31) سنة، فهل عليها أن تقضي الصلاة للسنين السابقة على رؤية الحيض؟
ـ الأحوط ذلك، وإن للبلوغ بالحيض وجهاً وجيهاً، ولكننا نحتاط ـ احتياطاً وجوبياً ـ في المسألة، وعليه فلا بد من قضاء ما فاتها من الصلوات السابقة.
الحائض في المصلّى:
ـ هل يجوز للحائض أن تدخل المصلّى لسماع محاضرة إسلامية، وما الفرق بين المصلّى والمسجد؟
ـ الظاهر أن المصلّى أوقف ليصلي فيه الإنسان، تماماً كما لو أعدّ الإنسان في بيته غرفة للصلاة لا بعنوان المسجد، ولكن بعنوان المكان الذي يراد الصلاة فيه.
أما المسجد فهو عنوان إسلامي له أحكامه، لذلك فالمحرّم على الحائض والجنب هو دخول المسجد لا دخول المصلّى.
الوضوء للاستحاضة القليلة:
ـ هل ترك الوضوء بعد انقضاء الاستحاضة القليلة يوجب بطلان الأعمال العبادية فيما بعد، ولو توضّأت المكلّفة التي انقضت عنها الاستحاضة وضوء الصلاة، ألا يكفي ذلك في إزالة ما كان عليها من حدث؟
ـ يكفيها وضوء الصلاة، فالوضوء الواجب في الاستحاضة القليلة هو الوضوء لكل صلاة وليس وضوءاً مستقلاً عن حالة الصلاة.
طهارة المنيّ عند السنّة:
ـ عند أخواننا أهل السنّة أن المني طاهر ويبرهنون على قولهم بأن الإنسان يخلق من شيء طاهر وإذا كان المني نجساً فكيف يخلف الإنسان من مني نجس، وهذا هو القياس لديهم، فنرجو التوضيح؟
ـ إن المنيّ نجس لكن الاستحالة تطهره، فلو انقلب خنزير أو شيء آخر إلى مادة أخرى كما لو صار ملحاً أو أي شيء آخر فإن الاستحالة تعد من المطهرات، والمني كذلك، والدم أيضاً نجس والمني في أصله دم والعذرة أيضاً نجسة ويمكن أن تستحيل إلى دود والدود طاهر، وكذلك الهوام التي قد تنطلق من مستنقعات نجسة، ولذلك فإن الاستحالة مطهّرة، وإذاً فالمني قد يبدأ نجساً ولكن عندما يستحيل إلى إنسان يصبح طاهراً.
وهذا لا يدل على طهارة المني، لأن الكلام في المني قبل استحالته أي في حالة كونه منياً.
استحالة مادة الجلاتين:
ـ بخصوص استحالة مادة الجلاتين الحيوانية في أنها غير مكتملة، هل ترون تحقق عنوان الاستهلاك عليها في المستحضر المركب منه؟
ـ في تحقيقاتنا من خلال الرجوع إلى أهل الخبرة ثبت لدينا بأن هذه العملية الكيماوية بالنسبة إلى مادة الجلاتين تؤدي إلى الاستحالة، ولذلك فليس لدينا إشكال فيها من خلال تحقيقاتنا الأخيرة.
أصالة الطهارة والحليّة:
ـ هل أن قاعدة أصالة الطهارة وأصالة الحليّة تجريان في بلاد الكفر أم هما من مختصات البلاد الإسلامية؟
ـ تجريان في كل موضع شك فيه الإنسان في طهارة شيء ونجاسته وفي حليّته وحرمته من جهة أن الشك مشتمل على المواد المحرمة أو لا، فلا فرق بين البلاد الإسلامية والبلاد غير الإسلامية في ذلك.
تذكية جلد المذبوح بطريقة غير شرعية:
ـ هل يمكن تذكية الجلد الحيواني المذبوح بطريقة غير شرعية خنقاً، ذبحاً، نطحاً، وإن صحّ فكيف تكون هذه التذكية؟
ـ إذا بقي على الحياة فيمكن أن نذكّيه، وأما إذا لم يبقَ على الحياة فكيف يمكن تذكيته، أما قول بعض الناس "دباغ جلد الميت تذكيته" فنحن لا نقول به.
غسلةٌ أم غسلتان:
ـ هل تجري غسلة واحدة لليد اليمنى في الوضوء، أم هناك احتياط في غسلتين؟
ـ غسلة واحدة كافية، نعم الثانية مستحبة بالنسبة للوجه واليد اليمنى، وهناك تحفظات في اليد اليسرى.
تنجّس الآلات الدقيقة:
ـ عند تنجّس آلة دقيقة في المصنع، فإن دخول الماء أو الشمس إليها يؤذيها، فكيف يمكن تطهير هذه الآلة؟
ـ من الصعب تطهيرها، لأن الشمس إنما تطهّر الثوابت، أما الأشياء المتحركة فلا.
النداوة المحضة:
ـ ما معنى (النداوة المحضة) في المسألة: لا تنتقل النجاسة في حالة الجفاف أو النداوة المحضة؟
ـ هي الرطوبة التي لا تنقل النجاسة من مكان إلى مكان، أي التي ليس فيها أجزاء مائية.
المشتركات بين النجاسات:
ـ ما هو الشيء المشترك بين النجاسات حتى نجعلها كلها عناصر ضمن هذه المجموعة؟
ـ هو القذارة سواء كانت سطحية أو قذارة داخلية يختزنها الشيء النجس.
اعتبار كل شيء نجساً:
ـ تعتبر امرأة كل ما حولها نجساً حتى بخار الماء والغبار الذي يأتي من المناطق المحيطة ببيتها، وهي تغسل يديها بعد لمس أنظف حاجة في البيت، وتفرض على أولادها أن يغسلوا أيديهم كذلك، وتبدل ثيابها بعد كل زيارة تخرج بها من البيت، وتمسك الأشياء بالمحارم خوفاً من تنجس يديها بالشيء الممسوك، فما هي نصيحتكم لها؟
ـ نصيحتنا لها أن تترك ذلك كلّه، لأنها تعبد الشيطان في ذلك ولا تعبد الله باعتبار أن هذا من الوسواس، ولقد جاء شخص إلى الإمام الصادق(ع) وقال له: هناك شخص مبتلى بالوضوء والصلاة فقال له: "إنه يعبد الشيطان"، فقال له: إنه رجل تقي ومتدين، فقال سله من أين يأتيه هذا، فيقول لك من الشيطان، فهو يطيع الشيطان، ولذلك فتكليف الوسواسي، وهذه المرأة مثل على قمة الوسواسية، أن يحكم بطهارة حتى ما يعلم نجاسته، لأن علمه لا اعتبار به حتى يتخلص من الوسواس.
فهذه المرأة تعيش مشكلة تدمر حياتها وحياة أولادها وزوجها باسم الدين، ونحن نقول لها باسم الدين عليك أن تتركي ذلك كله، وتعتبري كل شيء طاهراً لأن الله وسّع في الطهارة بأوسع ما بين السماء والأرض، حتى أن هناك اتجاهاً بين العلماء أن المتنجّس لا ينجس كلية حتى المتنجس بعين النجاسة، بل لدينا آراء لعلماء سابقين أن تطهير النجاسة هو إزالة العين.
غسل الساعد في الوضوء:
ـ هل يجوز غسل الساعد أثناء الوضوء بالشكل الترتيبي، أي وضعه تحت الماء بنيّة الوضوء؟
ـ لا مشكلة في ذلك، أي يمكنه أن يضع يده تحت الحنفية على أن يمسها بيده الأخرى على الأحوط.
ماء غسل الجنابة:
ـ أحياناً يتجمع ماء في الحمام أثناء غسل الجنابة بحيث لا يذهب إلى البالوعة، فما حكمه إذا كان يشك بنجاسته؟
ـ إذا كان جسده طاهراً واغتسل من الجنابة فالغسل من الجنابة لا يوجب نجاسة الماء.
السوائل الخارجة بعد الغسل:
ـ إذا بادرت المرأة إلى الغسل بعد المعاشرة، فما هو حكم السوائل التي تخرج منها بعد الغسل، فهل يجب عليها الغسل من جديد؟
ـ إذا كانت بقايا سائل الرجل، فالمتنجس هو الموضع فقط ولا يوجب الغسل، لأن الغسل ليس من جهة السائل فقط، بل من جهة العملية الجنسية.
الحكم بالطهارة:
ـ دخلت إلى الحمام واغتسلت وخرجت وكنت مبتلة بالماء، وقد علمت بعد 24 ساعة أنني كنت مستحاضة، فخشيت على فراشي وأثاثي من التنجس فما هو حكمي؟
ـ ليس معلوماً أن الماء بلغ إلى الموضع النجس، ولما كانت لا تعلم نجاسة خارج الموضع فعند ذلك لا تحكم بنجاسة ثيابها وغيرها.
قيء طفل:
ـ لديّ طفل يشرب الحليب المجفف وهو كثير التقيّؤ، فهل قيؤه طاهر أم لا؟
ـ القيء طاهر إذا كانت شفتاه طاهرتين.
ثالثاً ـ الصلاة والإقامة
الائتمام بالزوج:
ـ هل يجوز للزوجة الائتمام بزوجها في الصلاة، وما هي شروط الائتمام بالزوج؟
ـ أن يكون عادلاً، وأن يكون صحيح القراءة، ويعرف أحكام الصلاة، فحال الزوج هنا حال أي شخص آخر.
الصلاة في غرفة مشتركة:
ـ نحن طلاب نسكن في غرفة واحدة، وأنا أصلي في هذه الغرفة وهم يكرهون ذلك، فهل تعتبر صلاتي في مكان مغصوب، علماً أننا شركاء في الغرفة من دون اختيار؟
ـ ليست ـ هذه الغرفةـ مكاناً مغصوباً، أما إذا كان الآخر ومن قدّموها لك كمثل القسم الداخلي في الجامعة، فليس لأحد أن يمنع أحداً أن يمارس حاجاته الطبيعية التي يمارسها الناس عادة عندما يجلسون مع بعضهم البعض، لأن الحاجة الإيمانية للصلاة تعدّ من حاجات الإنسان الطبيعية، ولذلك فليس لهم أن يمنعوك من ذلك ولا إثم عليك في ذلك، ولكن لا بد أن تصلي بطريقة لا تزعج إخوانك من حيث الصوت وطبيعة الأداء.
أما إذا كانت الغرفة مستأجرة من قبلكم جميعاً، فقد يقول بعض الناس أن الجميع شركاء فلا يجوز لأحد التصرّف فيها إلا برضا الآخرين، فهذا مما لا ينطبق على هذه المسألة، نعم الأرض المشتركة لا يجوز لفنسان أن يتصرف بها إلا برضا الآخرين، لكن في فرض السؤال معنى الاشتراك في الإجارة، أي الاشتراك في الانتفاع بحيث أن كل واحد يشترك مع الآخرين على أساس أن ينتفع بها في حاجاته الطبيعية كطالب، فلا حقّ لهم إذا أراد أحدهم الدراسة أن يمنعوه، أو أراد أن يأكل أو ينام، فهذه حاجات طبيعية تركزت الشراكة في الإجارة عليها بحيث أضحى من حقّ كل واحد أن ينتفع بها بحسب الانتفاع الطبيعي.
نعم، هناك انتفاعات أخرى من قبيل استقبال ضيوف في غرفة مشتركة، فهذا لا يجوز إلا برضا الآخرين أو ما أشبه ذلك، كما لو تستغل غرفة مخصصة للنوم والمطالعة للعب الرياضة فهذا غير جائز، إلا إذا قبل الآخرون.
رخصة القصر والإفطار:
ـ أعتقد أن القصر في الصلاة والافطار للصائم في السفر رخصة من ربّ العالمين وليس فرضاً، فهل يمكنني أن لا ألتزم بهذه الرخصة؟
ـ إنها ليست كذلك، فهي عزيمة وليست رخصة، وقد ورد في بعض الأحاديث أن شخصاً سأل الإمام الصادق(ع) أنني أرتاح في السفر، قال "إن القصر في السفر هو هدية الله فهل تقبل أن يردّ عليك أحد هديتك" فهي هدية ملزمة وليست اختيارية.
سقوط النوافل في السفر:
ـ ترد في الرسائل العملية مسألة سقوط النوافل في السفر، فماذا بالنسبة لمن يحرص على المواظبة عليها، هل الذي يسقط ثوابها أو تشريعها، أم ماذا، خاصة وأنها تتحرك في دائرة الاستحباب؟
ـ سقوطها إلزامي كسقوط التمام في السفر، ولذلك فإنها تشريعاً، ومن أتى بها بعنوان الاستحباب فإنه بذلك يكون مشرّعاً فيكون قد عصى من حيث أراد الطاعة.
السجود على القرطاس والقماش:
ـ كيف توفقون بين جواز السجود على القرطاس المصنوع من القطن، وعدم الجواز على القماش القطني؟
ـ لأنّ القطن في القرطاس خرج عنه، فيما لا يزال القطن في القماش موجوداً، فالقرطاس ليس مما يلبس، أما القماش فمتخذ للبس فإذا خرج عن قطنيته وأصبح قرطاساً فإنه يخرج عن كونه متخذاً للبس فيجوز السجود عليه.
السجود على جبهة مجروحة:
ـ إذا كان ثمة جرح بليغ في الجبهة فكيف يمكن السجود؟
ـ يمكنه السجود على أي مكان آخر في الجبهة، بل قد تصل الأمور في بعض الحالات إلى السجود على الذقن.
العجز أثناء الصلاة:
ـ أنا امرأة قاربت الستين وأشعر بالتعب الشديد أثناء الصلاة، فلا أستطيع أداءها وقوفاً، فماذا أفعل؟
ـ عليكِ أن تصلي من قيام، فإذا عجزت عن ذلك وسبب لك ضرراً وكان هناك حرج فصلِّ من جلوس، وإذا كان من الممكن الصلاة بالجلوس تارة وبالقيام أخرى، فبحسب الممكن على نحو التلفيق.
الجماعة والجمعة للمرأة:
ـ هناك قول بكراهة الجماعة والجمعة للمرأة كما استُفيد ذلك من بعض النصوص، بينما نلاحظ بأن تعابير القرآن قد أشارت إلى ذلك في قوله تعالى: {واركعي مع الراكعين}( )، و{يقيمون الصلاة}( )، ألا يُستفاد من ذلك أن الكراهة مرفوعة؟
ـ الكراهة قد تكون من خلال بعض العناوين، كما لو أريد أن لا يعيش الرجال أية إحساسات معينة بالنسبة للمرأة، ولكن ما يوحي بعدم الكراهة هو أن النساء كُنّ يصلين الجماعة مع رسول الله(ص).
فربما تحدثت بعض الأحاديث والروايات عن جانب الستر كما في الحديث (مسجدها بيتها)، ولكننا نفسرها بأن الله يعطيها من الثواب في صلاتها في بيتها كما لو كانت تصلي في المسجد إذا كانت ترعى عيالها، فهذا من جانب تحصيل ثواب الجماعة فقط، أما إذا فرضنا أن المجيء إلى المسجد لأجل أن تحصل على روحانية أكثر وتستمع إلى المواعظ والإرشادات وللتعلم، فلا إشكال أنه لو كانت هناك كراهة فإنها ترتفع بذلك.
كثير السفر:
ـ أعمل في دمشق وتحضرني خلال أوقات العمل صلاة الظهر والعصر، فكيف أصلّي، علماً أنني أقيم في درعا وأسافر يومياً مسافة (80كلم)؟
ـ عليك أن تصلي تماماً لأنك كثير السفر، أو عملك في السفر.
تكرار أفعال الصلاة:
ـ ذكرتُم في "المسائل الفقهية" أنه يجوز تكرار بعض أفعال الصلاة إذا حصل الشك في صحتها بشرط أن تقتصر هذه الأفعال على القراءة ونحوها، فهل المناط هو أن يكون الفعل ركناً أو لا؟
ـ عندما يشك المصلي بصحّة آية ويريد تصحيحها فلا بأس، أما إذا شكّ بصحة الركوع أو السجود فهناك قواعد للبناء على صحة الركوع أو السجود أو عدمهما، فما كان من الأركان لا يدخل في ذلك.
الكاسيت بدل المؤذن:
ـ هل يجوز وضع شريط الكاسيت للأذان في المسجد بدل المؤذن؟
ـ يجوز ذلك، ولكن ينبغي أن يبقى تقليد وجود المؤذن، فذلك أفضل.
إقامة صحيحة:
ـ هل تصحّ نيّة الإقامة مع الخروج عن حدّ الترخّص دون المبيت في المكان الذي خرج إليه؟
ـ في رأينا أنه إذا نوى الإقامة في مكان وخرج إلى ما قبل المسافة طول النهار فإن إقامته صحيحة، ولكن المعروف لدى الفقهاء أنه لا يجوز له إلا الخروج لساعتين أو ثلاث، أما نحن فنتفق مع الشهيد الصدر(رض) في أن المهم هو أن لا يبيت الإنسان ليلة من الليالي العشر خارج مكان الإقامة.
التورّك حال التشهد:
ـ الجلوس حال التشهّد مندوب إليه وهو "التورّك" فلماذا لا يفعل الشيعة ذلك، هل لأن السنّة يفعلونه؟
ـ بعض المؤمنين الشيعة يفعلون ذلك وربما لم يكن الشخص السائل دقيق الملاحظة في ذلك، فهل أن السنّة يصلّون ونحن لا نصلّي؟ إن هذه الذهنية التي تتصوّر أن السنّة يفعلون شيئاً لأن الشيعة يتركونه أو أنّ اشيعة يعملون شيئاً لأن السنة يتركونه، ذهنية معقدة لا نريد أن نعيشها، فهناك أدلّة اجتهادية لدى السنّة والشيعة يقتنع بها كل منهما وينطلقون على أساسها.
في جوار جامع:
ـ أعيش في دولة أوروبية وإلى جوار بيتي جامع تُقام فيه صلاة الجمعة، ولكن الإمام لا تتوفر شروط الإمامة فيه، فهل تجوز الصلاة خلفه؟
ـ إذا لم تتوفر شروط الإمامة فيه فلا تجوز الصلاة خلفه، ولكن يمكنك الصلاة بالمتاعبة بأن تقرأ عن نفسك، وأن تسجد على ما يصحّ السجود عليه، فربما تحصل على ثواب الجمعة أو الجماعة وإن لم تكن جامعة لشروطها.
ملامسة الراحة للأرض عند السجود:
ـ هل يجب عند السجود ملامسة راحة ايد للأرض أم تجزئ حوافها أو أطرافها؟
ـ الأفضل أن تلامس الراحة الأرض، ولكن ليس من الضروري أن يدقق الإنسان ي ذلك فقد يكون من الصعب أن تلامس الراحة بنفسها الأرض، ولذا يكفي أن يضع يده على الأرض لتكون يده من المساجد حتى لو لم تكن بالشكل الدقيق.
الذكر الواجب والمستحب في الصلاة:
ـ ما حكم ذكر المصلي أثناء الحركة في الصلاة: الذكر الواجب والمستحب؟
ـ بالنسبة للذكر الواجب، لا بد للإنسان من أن يكون مطمئناً بالإتيان به، أما الذكر المستحب فلا مشكلة فيه.
الإقامة في مشروع بناء:
ـ عملي مهندس والمشاريع التي ننفذها بعيدة عن الوطن أكثر من المسافة الشرعية ويطول عمل المشروع أحياناً أكثر من سنة، والإقامة في المشروع تتقطع حسب الحالات التالية:
• نعود يومياً غلى الوطن.
• نقيم في مكان المشروع أربعة أيام في الأسبوع ونعود إلى الوطن ثلاثة أيام.
فهل نصلّي قصراص في مدة الإقامة ونفطر؟
ـ إذا كانت مدة إنجاز المشروع سنة، فعليك أن تصلي تماماً في الحالتين وتصوم.
البالغ غير المختون:
ـ ما حكم البالغ غير المختون، وهل تصح منه الصلاة، وهل يجوز أكل الذبيحة التي يذبحها غير المختون؟
ـ الختّان واجب، ولكنه ليس شرطاً في كل العبادات ولا في الذبيحة، إلا في الحج باعتبار أنه لا يصح الطواف من غير المختون، وأما بالنسبة للعبادات الأخرى من الصلاة والصوم، وحتىت بالنسبة للذبيحة فلا يشترط الختان في ذلك كله.
نهار بأرع ساعات:
ـ هل يمكن توضيح كيفية تقسيم الفرائض اليومية في بلد يكون الليل لأكثر من عشرين ساعة،مع الأخذ بنظر الاعتبار أنه يوجد أشبه بالنهار، ولكن من دون تحقق اليقين للشروق والغروب، وماذا لو كان العكس أي مدة النهار عشرين ساعة؟
ـ في هذه الصورة لو كان هناك نهار ولو لمدة أربع ساعات وكان هناك فجر أو ظهر وعصر فعليه أن يصلي في هذه الأوقات، أما إذا لم تكن هناك أوقات واضحة فعليه أن يصلي صلاة الصبح في نهاية الليل وقبل شروق النهار ويصلي الظهر والعصر خلال هذه المدة أي في منتصف النهار.
ولو فرضنا أنه لو لم يكن هناك نهار كلية، فعليه أن يصلي الصلوات الخمس من دون الالتزام بأوقات معينة لأنه إنما يجب الالتزام بالوقت في صورة ما إذا كانت هناك أوقات متنوعة، أما إذاكان الوقت واحداً والصلاة لا تسقط بحال، فعليه أن يصلي خمس صلوات كيفما كان.
والأحسن احتياطاً هو أن يصلي بأوقات أقرب البلدان إلى بلده ممن تستقيم فيه الأوقات، أما الصوم فلا يجب لأنه ليس هناك شهر رمضان.
صلاة المعوقة:
ـ لي أخت عمرها(21) سنة وهو معوقة ولا تتكلم ولا تعرف شيئاً إطلاقاً، فهل يجب عليَّ أن أصلي بدلاً عنها؟
ـ لا يجب عليك ذلك، ولكن إذا استطعت أن تعلمها ولو بطريقة تعليم الصم والبكم فيها، وإذا لم تستطع ذلك فهي غير مكلفة.
قصد القربة:
ـ إذا انتصف الليل وزاد ولم أصلِّ صلاتي المغرب والعشاء عامداً، فأستطيع أن أصليهما قبل الفجر بقصد بقصد القربة، فهل يعني قصد القربة أن لا نصليهما قضاءً؟
ـ ذلك يعني أن الإنسان ينوي الإتيان بالصلاة بحسب الأمر المتوجّه إليه قربةً إلى الله تعالى.
السرّ في اختلاف الركعات:
ـ ما هو السرّ الإلهي في اختلاف عدد ركعات الصلاة وإخفات صلاتي الظهر والعصر؟
ـ هذا سرّ إلهي يبقى من أسرار الله سبحانه وتعالى التي لم يطلعنا عليها بشكل مؤكد، وهناك بعض التعليلات التي لا نستطيع الجزم ما إذا كانت هي السرّ أو لا، فالله أعلم بذلك.
نيّة الصلاة:
ـ لماذا قرَن الله نية الصلاة ببعض الألفاظ والحركات والتكرار مع أن بقاءها نية لا يضر في الدين؟
ـ من قال أن الله قرن نية الصلاة ببعض الألفاظ، فلا يجب ولا يستحب التلفّظ بالنية، بل يكفي أن يعقد الإنسان قلبه على أن يصلي امتثالاً لأمر ربّه، وإذا كان يحتاج إلى تعيين بعض الأشياء فلأنها مرددة بين شيئين، فلا بد أن يعيّن ما يريد الإتيان به.
إسقاط القيام بعد الركوع:
ـ ما حكم من يسقط القيام بعد الركوع، أي يهوي إلى السجود من الركوع مباشرة، فلقد ذكر بعض العلماء عدم جواز ذلك؟
ـ يجب رفع الرأس من الركوع ولكن إذا كان الإنسان غافلاً أو جاهلاً فيجوز ذلك، لأن القيام الذي عنه يركع إنما هو الذي يسبق الركوع، أما القيام بعد الركوع فهو من الواجبات، فإذا تعمد تركه فعند ذلك تبطل الصلاة، أما إذا كان ساهياً أو جاهلاً فالصلاة صحيحة.
مسائل في صلاة الجمعة:
ـ إذا جاء المأمون في أثناء خطبة الجمعة، فهل تصحّ منه الجمعة؟
ـ نعم.
ـ وإذا جاء في نهاية خطبة الجمعة، فهل تسقط الركعتان؟
ـ ليست الركعتان الأخريان ملحوظتان في ذلك، نعم، قيل إن الخطبتين بمثابة الركعتين، ولكن لو لم يحضرهما فصلاته صحيحة.
ـ هل يشترط على إمام الجمعة أن يقف في مكان مرتفع في أثناء الخطبة؟
ـ ليس ذلك شرطاً، وإن كان الأولى ذلك حتى يمكنه أن يشرف على الناس وأن يراه الناس.
ـ هل يجب الاستماع إلى خطبة الجمعة؟
ـ نعم، يجب الاستماع إلى خطبة الجمعة.
ـ وإذا كان واجباً، فهل يجوز قراءة القرآن والدعاء أثناء الخطبة؟
ـ لا يجوز ذلك، وإنما لا بد من الاستماع إلى خطيب الجمعة وهو يخطب.
الصلاة في مساجد السنّة:
ـ عندما أدخل مسجد أخواننا السنّة فإنني أشعر بالإحراج لوضعي الورقة من دون الناس، فهل الأفضل عدم الدخول؟
ـ بل تستطيع أن تقول له كل صراحة أن المذاهب مختلفة، فهناك مذهب يرى أنه لا بد من السجود على الورق أو على التراب أو على الخشب ولا يجوز السجود على القماش.
ولذا، فإننا نقول إن هذه الأمور يجب أن تطرح بشكل واضح بحيث يعرف المسلمون بعضهم البعض، فنحن نلاحظ أن أخواننا من أهل السنّة مختلفون فيما بينهم، فالمالكية لا يرون التكتّف بينما الحنبلية والشافعية والحنفية يرون التكتف مستحباً.
من هنا، فأنا أقول ينبغي للشيعة أن يصلوا إلى مساجد أهل السنّة وللسنّة أن يصلوا إلى مساجد الشيعة حتى يصير هناك تآلف وحتى يفهموا بعضهم البعض ولئلا تحصل الإحراجات، ولا بد أن نكسر الحاجز وأن يعذر الناس بعضهم بعضاً في مذاهبهم.
عدم النهوض لصلاة الصبح:
ـ ما حكمي حيث أنني أسمع آذان صلاة الفجر ويغلبّ عليّ الشيطان ولا أقوم للصلاة؟
ـ إنك عصيت الله بذلك إذا كان اختيارك معك، وعليك أن تلعن الشيطان في المرة الثانية، فإذا كان يغلبك في هذا اليوم فعليك أن تغلبه في اليوم الثاني.
إذا سبق المأموم الإمام:
ـ هناك من العلماء من يرى أن المأموم إذا سبق الإمام تبطل جماعته، فما حكم الجماعة إذا كان المتصلون بالإمام مباشرة قد أخلّوا بالشرط وسبقوا الإمام، وما حكم من كان قيامه وقعوده مع الإمام، هل ترون فيه إشكالاً؟
ـ وفاقاً لبعض الفقهاء، نرى أن المأموم ما دام مستمراً بالصلاة فإن بطلان صلاته لا يسيء إلى اتصال المأمومين بالإمام أو باتصال بعضهم البعض.
رابعاً ـ الصيام والكفارات
ـ صوم الحيّ عن الحيّ:
ـ نذرت امرأة أن تصوم ستة أيام مقابل قضاء حاجة، وبعد قضائها أوصت والدتها بالصيام نيابة عنها بسبب سفرها، فهل يجوز ذلك، وغذ لم يجز فهل عليها أن تعيد الصوم؟
ـ لا يجوز للحيّ أن يصوم عن الحي فيما اشتغلت به ذمة المكلّف سواء كان ذلك من صوم شهر رمضان أو نذر معين، فلا بد لها أن تصوم هذه الأيام إذا كانت معينة قضاءً وأن تصومها أداءً إذا لم تكن معينة.
ـ أنا مطلوب صيام أكثر من عشرين عاماً، فما العمل لأداء هذا الدين الذي في ذمّتي؟
ـ عليك إذا كنت قادراً أن تقضي ولو تدريجياً، أما إذا كنت قد أفطرت عمداً فعليك أن تدفع الكفّارة ولو بالتدريج أو أن توصي بها.
الجمع بين الواجب والمستحب:
ـ نذرت أن أصوم لله تعالى لتحقيق أمر معين وقد تحقق، وأريد أن أصوم وفاءً لنذري، وفي الوقت نفسه أريد أن أصوم بداية رجب استحباباً، فهل يمكن الجمع بين الواجب والمستحب في الصيام؟
ـ عليك أن لا تقصد الصيام المستحب، بل لا بد أن تقصد نذرك وذلك أن تفي بالنذر في رجب لتحصل على ثواب الصيام في رجب ولو من أجل النذر أو القضاء، وإن كان لا يصح قصد صيام رجب بشكل خاص.
استحباب والذمّة مشغولة بالواجب:
ـ أرغب أن أصوم استحباباً في هذا الشهر وأحتمل أنّ في ذمتي صوماً واجباً، فبأيّ نيّة أصوم بحيث ينسحب الصوم إلى الواجب إذا كنت مطلوباً؟
ـ عليك أن تأتي بالصيام برجاء ما في الذمة.
صيام غير المكلّف:
ـ أنا شاب عارف بالأحكام الشرعية، فهل تجب عليَّ الصلاة والصوم؟ وهل أنا مكلف مع العلم أنني لم أبلغ سن التكليف؟
ـ إذا كانت لم تبلغ سن التكليف فلا يجب عليك، ولكنه يستحب لك أن تعبد الله سبحانه وتعالى من أجل أن تتقرب إليه حتى يحبك الله أكثر وأن تعوّد نفسك على ذلك، ولا يُقال عنك أنك شاب وأنت لم تبلغ سنّ التكليف.
اعتماد رؤية المجهر:
ـ لقد أفتى مجلس الإفتاء السعودي باعتماد الوسائل الحديثة في رؤية الهلال من خلال المجهر متجاوزاً بذلك الفتوى السابقة باعتماد الرؤية بالعين المجردة، فما هو ردكم على ذلك؟
ـ لقد أفتينا في وقت مبكر أن لا فرق بين الرؤية بالعين المجردة أو الرؤية بالمجهر أو غيره من الوسائل الحديثة، فلو افترضنا أننا اعتمدنا الرؤية حسب الحديث الارد بهذا الخصوص "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته"( )، فعندما أراه بالعين المجردة أو أراه بالمهجر ففي الحالين أكون قد رأيته، فكل ما هناك هو أن المجهر يكبّر فقط أو يقرّب الرؤية.
أما رأينا في ذلك فهو يلتقي بالرأي العلمي للسيد الخوئي(رحمه الله) وهو أنه لا حاجة للرؤية كليةً، وإنما نعتمد على الخبراء الذين يبعث قولهم على الاطمئنان أو العلم من ناحية خبرتهم، فإذا قالوا لنا أنه ولد وأنه يمكن رؤيته فالولادة وحدها لا تعطي ضوءاً إذ لا بد من وقت ليبتعد القمر بعد الولادة عن الشمس ليأخذ كمية من الضوء.
ولذلك نقول أنه إذا ثبت عندنا منخلال الخبراء ولادة الهلال وبإمكانية رؤيته حتى لو لم يره الناس نحكم بالصوم، فرأينا متقدم على رأيهم، فلقد قلنا أن الرؤية ليست بالعين المجردة بل حتى بالمجهر، بل يمكن أن نرجع إلى الفلكيين الخبراء الذين يوجب قولهم الاطمئنان لنعرف متى يولد الهلال ومتى يمكن رؤيته، فإذا أخبرونا فيمكننا من الآن تحديد العيد أو أوائل الأشهر، وهي مسألة مريحة لا تحتاج إلى الجهد الفردي في التشخيص بعدما تم التوصل إلى تحديد أمور فضائية بشكل فوق العادة.
وبالتالي فإننا حينما نقول صوموا لرؤيته فالرؤية للعلم، فإذا استطعنا أن نحصل على العلم من خلال أهل الخبرة فلا مشكلة بعد ذلك.
صيام النذر في رمضان:
ـ نذر رجل أن يصوم ثلاثة أيام في مكة إذا رزق العمرة، فصادف ذلك في شهر رمضان، علماً أنه غير مقيم هناك حتى ينطبق عليه الحديث القائل "لا يفع في رمضان غيره"؟
ـ المشهور بين العلماء أنه لا يجوز أن يقع في شهر رمضان غيره حتى إذا كان معذوراً في الإفطار كما لو كان الشخص مسافراً، ولكن رأينا في ذلك أن بالإمكان أن يصوم بالنذر المستحب إذا كان مسافراً، وإن كان الاحتياط لا ينبغي تركه.
تنظيف الأسنان أثناء الصوم:
ـ هل تنظيف الأسنان بالمعجون يبطل الصوم؟
ـ إذا لم يدخل إلى داخل الجوف فلا يبطل الصوم.
التبعية الزوجية:
ـ إذا كان حكم الرجل الإفطار وقد أخبر زوجته بأن عليها أن تفطر في رمضان لأنها تابعة لزوجها وذلك في زيارة إلى أهلها بعد شهرين من زواجها، فهل يتحمل عنها الكفارة بإخباره لها والتأكيد عليها بالإفطار، علماً أنه فهم المسألة بالخطأ، وما حكم الزوجة في هذه الحالة، هل عليها كفارة أم قضاء فقط، مع العلم أن الصوم كان صوم شهر رمضان؟
ـ إذا كانت الزوجة قد انتلقت إلى بيت الزوجية واستقرت فيه، فإن معنى انتقالها في الغالب، إذا كان زواجها مستقراً أنها أعرضت عن وطن أهلها، لأنها اعتبرت أن استقرار حياتها بات مع زوجها، فإذا كانت هذه الزوجة معرضة عن وطن أهلها، بحيث لا تأتي إلى وطنها الأصلي إلا زيارة، ولا تفكر أن تسكن فيه أو ترجع إليه، لأن ظروف حياتها الجديدة مستقرة، فإن من الطبيعي أن يكون تكليفها الإفطار.
أما إذا لم تعرض لأن حياتها الزوجية غير مستقرة، كما لو أنها مهددة بطلاق زوجها أو أنه من المجاهدين المعرّضين للموت، وفيما بعد لا تسمح الظروف بأن تعيش مع أهله، ففي هذه الحالة عليها الصيام، ولكن إذا كان قد بيّن لها زوجها ذلك على أساس أنه فهم خطأ وهي قد اطمأنت به فليس عليها ولا عليه كفارة، بل عليه الاستغفار لأنه لم يدقق في المسألة، وعليها القضاء.
خامساً ـ الخمس والزكاة
الخمس في الغنائم:
ـ تقول آية الخمس أنه يجب في الغنائم فقط وأراكم تفتون به على كل ما يملك الإنسان، والزكاة مفروضة سنوياً حسب المسائل الفقهية؟
ـ ما معنى الغنائم؟ إنها ما يغنمه الإنسان، ولذلك يُقال: "غنائم دار الحرب"، فلو لم تكن كلمة الغنائم عامة لما احتجنا إلى إضافتها في غنائم دار الحرب وغنائم دار السلم، ولذلك فكلمة الغنيمة عامة وليست خاصة.
إحياء المناسبات المذهبية من الحقوق الشرعية:
ـ نحن جمع من اللاجئين في النرويج ونقلد سماحتكم، ولقد مرّتعلينا قبل فتر مناسبة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع)، وقمنا باحتفال لإحياء هذه المناسبة، وتلعمون أن طبيعة هذه المناسبات مكلفة مادياً، فهل تجيزون لنا الصرف من الحقوق الشرعية لإحياء مناسبات المعصومين(ع)؟
ـ إن إحياء مناسبات العظماء لا سيما إذا كانت عظمتهم من خلال رساليتهم ومن خلال قربهم لربهم والتزامهم بالإسلام وتحرّكهم في خط الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا سيما سيدتنا فاطمة الزهراء(ع) سيدة نساء العالمين التي كانت النموذج الأكمل والأعلى في حياتها دفاعاً عن الحق ووقوفاً معه، وعبادة الله، وقمة في الصدق، والتحرك بمسؤولية في إغناء الواقع الإسلامي كلّه، ثقافةً وحركةً وعبادةً، إن إحياء هذه المناسبات عندما تتحرك بالأسلوب الأصيل والمنهج الذي يبيّن نواحي العظمة وبرنامج الرسالة في ذلك ليعيشوا معنا ونعيش معهم، هو من أفضل وسائل الدعوة إلى الله، وإن أفضل موارد صرف الحقوق ما كان في موارد الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
الضرائب ليست حقوقاً:
ـ أعيش في الجمهورية الإسلامية، فهل يمكن اعتبار ما أدفعه من الضرائب مجزياً عن الحقوق الشرعية مثل الخمس أم أنها بعنوان آخر؟
ـ الضرائب التي تدفعها هي بعنوان آخر، فهي تنطلق من أمر وليّ الأمر لا من التشريع الأساسي في الإسلام، ولذلك فلا بد أن تدفع الخمس.
خمس لم يُدفع:
ـ لو عزل مال الخمس ولم يؤدّه ومرّت عليه أعوام، فهل فيه خمس تصاعدي؟
ـ لا، بل يبقى الخمس على حاله.
تدوير خمس:
ـ هل تجيزون تدوير خمس في ذمتنا إلى دين؟
ـ إذا كان الإنسان في حاجة له فنحن نجيزه.
مال الخمس لنشر الفكر الإسلامي:
ـ هل يجوز إعطاء مال الخمس لنشر الفكر الإسلامي في العراق كأن يكون شراء كتب إسلامية وتوزيعها؟ وهل يجوز صرفه لمشاريع العمل الإسلامي من دون الرجوع للحاكم الشرعي؟
ـ يجوز ذلك، ونحن نجيزه شريطة اختيار الكتب الإسلامية النافعة والصحيحة، ولا بد من مراجعة الحاكم الشرعي أولاً وأخيراً.
الحقوق الخاصة بالعراقيين:
ـ لقد سمعنا أنكم أجزتم للعراقيين إرسال الخمس إلى الفقراء والمحتاجين في العراق، فهل يدخل ضمنهم الأهل والأقارب أو المقصود فقط السادة الفقراء؟
ـ يدخل في ذلك الأقارب، ما عدا الأب والأم والأولاد، لأن هؤلاء واجبو النفقة، ولذلك فالأحوط أن لا يعطوا من الخمس بل يدفع للآخرين كالأخوة بشرط أن يكونوا متدينين وأن يكونوا فقراء، فسهم الإمام للفقراء من غير السادة وسهم السادة للسادة الفقراء، ولكن ذلك بمقدار النصف على أن يرجع النصف الآخر إلينا.
ـ وهل جوازكم ينطبق على مقلديكم فلقط، أم يشمل مقلدي المراجع الآخرين؟
ـ إن للمقلدين الآخرين الأحياء حكمهم الخاص، ولكن بالنسبة لمن يقلدني أو من بقي على تقليد المراجع المتوفين بواسطة الرجوع إليّ في البقاء على التقليد، فيمكن أن يطبق عليه هذا الحكم.
كمية الذهب المشترى:
ـ هل هناك حدّ في كمية الذهب الذي تشتريه المرأة كحلي ولا يجب فيها الخمس؟
ـ هو بمقدار حاجتها بحسب شأنها فيما تحتاجه للزينة في بيتها أو في المجتمعات النسائية.
الخمس والزكاة لتقوية المسلمين:
ـ هل يجوز دفع الخمس والزكاة لتقوية المسلمين في البوسنة مثلاً؟
ـ يمكن أن تدفع الحقوق الشرعية في هذا المجال بنظر الحاكم الشرعي، ولم تعد المسألة مسألة البوسنيين فحسب، بل هناك الأفغان والعراقيون وغيرهم من المسلمين في بلدان أخرى.
من لا يدفع الخمس:
ـ ما هو حكم الشخص الذي لا يدفع الخمس لجهل مع أنّ دخله جيد، وذلك اعتقاداً منه بأن الخمس لا ينفق على الوجه الشرعي؟
ـ إذا كان يعتقد أنها تستغل، فليختر إنفاقها في المشاريع الخيرية كدور الأيتام، فلا ينبغي أن يمتنع عن دفع الخمس وإلا فهو يتذرّع بذلك، بل بإمكانه أن يأخذ الرخصة للدفع إلى دور الأيتام أو المعاقين أو المدارس الإسلامية وغيرها.
اقتراض الخمس:
ـ إذا أخرجت الخمس، فهل يمكنني اقتراضه ثم أدفعه إلى الحاكم الشرعي عند الاستطاعة؟
ـ لا بدّ من استئذان الحاكم الشرعي في ذلك.
تخميس كتب الحوزة:
ـ هل يجب الخمس في الكتب التابعة لطالب الحوزة مع العلم أن بعضها يستفيد منه الآن وبعضها مستقبلاً؟
ـ إذا كان لا يستطيع شراءها في وقتها، ويمكن أن يشتريها الآن ليعدّها للمستقبل، ففي رأينا لا يجب الخمس، ولكن في رأي بعض العلماء يجب الخمس.
المدين وزكاة الفطرة:
ـ إذا كان الإنسان مديناً وليس عنده ما يسدّ به دينه، فهل تجب عليه زكاة الفكرة أم أن الدين يحسب ولا تجب الزكاة؟
ـ لا تجب زكاة الفطرة على من لا يملك مؤنة سنته، بحيث أنه لا يملك رصيداً مالياً مجتمعاً ولا يملك رصيداً من عمله بحيث يكفيه.
الفطرة في منطقة ليس فيها محتاجون:
ـ إن المنطقة التي أسكن فيها ليس فيها محتاج لكي أعطي زكاة الفطرة، وقد تجمّع لدينا مبلغ كبير، فهل يجوز أن نستثمر هذا المبلغ ونرسل ريعه للمحتاجين في العراق بشكل مثمر أفضل من تقديمه دفعة واحدة؟
ـ أولاً لا تكفي المنطقة، فالمهم أن لا يكون في بلدك محتاج، بحيث إذا لم يكن في البلد محتاج ولا أدري هل هناك بلد ليس فيه محتاج، يجوز لك أن ترسل ذلك إلى المحتاجين ولا يجوز لك أن تستثمره لأنه لا بد أن يدفع إلى المحتاج بشكل مباشر.
متى تخمس الهدية:
ـ هل يجب تخميس الهدية مباشرة، أو بعد مرور سنة عليها، وهل إذا استهلكت خلال السنة يجب الخمس؟
ـ إذا استعملت الهدية وكانت من حاجات الإنسان أثناء السنة فلا خمس فيها.
سهم الإمام للتبليغ:
ـ هل يجوز أن يخصص سهم الإمام للتبليغ والاحتفال بمناسبات ولادات الأئمة(ع) ولبناء مدارس أهل البيت(ع)؟
ـ كل عمل فيه رفعة للإسلام وفي هداية للناس وفيه تعظيم لشعائر الله، يجوز أن يصرف سهم الإمام فيه.
اعتبار دين زكاة:
ـ استلف مني رجل مبلغاً من المال وحدد موعد التسديد وجاء الموعد ولم يستطع دفع ما في ذمته بعد أن طرق كل السبل فلم يجد حلاً، فهل يجوز أن أعتبر هذا المبلغ من ضمن زكاتي أم لا؟
ـ إذا كان مستحقاً ومتديناً فلك أن تعطيه من الزكاة إن كان عندك زكاة ومن الخمس إذا كان ينطبق عليه الخمس.
احتساب دين من الخمس:
ـ في ذمتي خمس، ولي دين على أحد الأشخاص وآخر على أخي ولا يستطيع تسديده، فهل بإمكاني أن أحتسب ذلك من سهم الإمام بدون أن أخبرهم بذلك؟
ـ الأحوط أن تخبرهم وأن توكّلهم في أن يقبضوا عنك ذلك.
الخمس في الأرباح:
ـ هل يجب الخمس أو الزكاة فيما يجده الإنسان تحت قشرة الأرض دون جهد أو تعب مثل الكمأة؟
ـ هذه ليست من المعادن، بل هي من الأرباح فإذا بقيت عنده إلى رأس السنة فيخمسها، وإذا لم يبقَ شيء فلا خمس.
الصدقة بالنسبة للهاشمي:
ـ هل يجوز للسيد الهاشمي أن يأخذ من مال صدقات توفرت لديه من شخص آخر، وأن يسدد بهذه الصدقات ديناً عليه علماً بأن المدين طالبه بدينه وهو لا يملك الوفاء به؟
ـ إذا كان قد أعطي هذه الصدقات بعنوان الاستحباب فلا مانع من ذلك، أما الصدقات الواجبة فممنوعة.
احتساب الدين من الزكاة:
ـ هل يجوز اعتبار الدين من الزكاة أو الحقوق المؤدّاة للحج فيسقط الحاج الدين عن المدين باعتباره من الزكاة أو الحقوق؟
ـ إذا كان المدين شخصاً فقيراً ومحتاجاً ومحلاً للحقوق الشرعية فيمكن له أن يحتسب له من الزكاة أو الحقوق الشرعية بأن يوكله بالقبض، أو أن يرجع فيها إلى المقلد.
إعطاء الولد من الخمس:
ـ يريد أبي أن يعطيني من مال الخمس، فهل يجوز ذلك؟
ـ ا لأحوط وجوباً أنه لا يجوز للأب أن يعطي أولاده ولا أباه وأمه من ذلك.
ـ تخميس بيت مشترى بمال مقترض:
ـ اقترضت مبلغاً من البنك لشراء بيت في العراق ليكون مصدر رزق لأهلي ومأوى لهم، فهل يجب عليّ تخميس قيمة البيت، علماً أنني قمت بتسديد قيمة البيت للبنك على شكل دفعات لمدة 24 شهراً مع فوائد فرضها البنك؟
ـ إذا كانت شؤون أهلك من شؤونك، وكنت غير قادر على أن تشتري البيت دفعة فلا خمس فيه، تماماً كما هو البيت الذي تشتريه بالتقسيط.
سادساً ـ أموال وبنوك
راتب المتوفى لمن؟
ـ هل يعتبر راتب المتوفى أحد عناصر الميراث أو التركة، وما دور الأب والأم في الموضوع، وما هو دور القانون المدني الذي يحكم هذا التعويض؟
ـ إن التعويض، وهو الذي يعطى للموظف في نهاية الخدمة أو يعطى لأولاده عند انتهاء الخدمة، ولذلك فلو طلب الإنسان هذا المال فإنه ليس ملكه ولكنه يتملّكه عندما يأخذه، فهو في طبيعته ليس بحكم الإرث لكن الدولة أو الشركات تجري علهي حكم ماله، ولذلك فلا بد أن يوزّع على أساس التركة، ولذلك أيضاً فإن الأم والأب يشاركان بذلك إلا إذا كانت الدولة أو الشركة بحسب اتفاقها مع الموظف من ناحية قانونية، تعتبره للأولاد فقط، فلا يستحقه الأبوان، فالقضية تابعة للاتفاق بين الموظف وبين الجهة التي تعطيه هذا التعويض.
الذهب الموهوب:
ـ الذهب الذي يشتريه الزوج لزوجته أثناء فترة الخطوة، هل له الحق باسترداده إذا احتاج للصرف على البيت؟
ـ الحكم الشرعي بالنسبة للهبة، أنها جائزة ما دامت العين الموهوبة موجودة إلا إذا كانت الهبة لذي رحم، أما إذا أعطى الزوج زوجته مالاً فاشترت به ذهباً فليس له أن يسترجعه لأنه وهب المال ولم يهب الذهب، نعم، لو أنه اشترى لها ذهباً ولم تكن زوجته من أرحامه فله أن يرجع فيه لأن الهبة إذا كانت باقية على حالها ولم يكن الموهوب له من الأرحام، فله أن يستردها.
الوصيّةُ إيقاع:
ـ هل أن الوصية عقد أم إيقاع أم برزخ بين الاثنين كما ورد على لسان بعض الفقهاء؟
ـ هي إيقاع، فلا تحتاج إلى قبول، ولمزيد من التفصيل يمكن مراجعة كتابنا "الوصية" تقريراً لأبحاثنا الفقهية.
التصرّف بأموال القاصرين:
ـ أنا لاجئ وأتقاضى راتباً عني وعن أولادي، فهل يجوز لي التصرّف بأموال أولادي القاصرين؟
ـ عليك أن تصرفه عليهم، ولا يجوز لك أن تتملكه إلا أن يكون ذلك على سبيل القرض بحيث تضمنه لهم وتصرف عليهم.
ـ وهل يجب عليهم تخميس أموالهم؟
ـ المعروف هو وجوب الخمس، ولكننا نتحفظ في ذلك.
بيع الذهب الخام:
ـ هل يجوز بيع الذهب الخام بسعر يختلف عن الذهب المصاغ كما هو متعارف عليه في أيامنا هذه؟
ـ للإنسان أن يبيع الذهب الخام بأي سعر من الأسعار، وأن يبيع الذهب المصاغ كذلك، نعم في بيع الذهب بالذهب لا بد أن يكونا متساويين، باعتبار أنه لا يجوز الزيادة في بيع الذهب والفضة.
الإجارة في العبادات:
ـ ما هو رأيكم في الإجارة في العبادات، فهناك رأي يقول أن الذي يستأجر نفسه للعبادة عن الميت يجوز له أن يؤدّي بعضها ويبيع ما تبقّى بأية قيمة شاء ولا يراعي نسبة ما أدّاه إلى القيمة الكلية؟
ـ إذا اشترط عليه المؤجر أن يقوم بالعبادة بنفسه فلا يجوز له ذلك.
نفقة من مال محرّم:
ـ أراد أحد أقاربي أن يبقي ابنته عندي وعمرها أربع سنوات مقابل التعهد بمصروفها اليومي، وأنا أعلم أن مصدر ماله حرام، فما هو الحكم الشرعي؟
ـ إذا كنت تعرف أن عين المال الذي يدفعه إليك مستحصل من قمار أو بمال الخمر فلا يجوز لك أن تقبضه منه لأنه مال حرام، أما إذا كان مصدره حراماً لكنه استدان مالاً من شخص وأتى به إليك، أو قد حصل عليه بالصدفة بطريق آخر، فلو كنت لا تعلم أن المال الذي أعطاك إيّاه مال حرام فيجوز لك أن تأخذه.
مسألة في الإرث:
ـ إذا كان للمرء زوجتان إحداهما ميتة ولها ولد وأخرى لها ثلاثة أولاد، فهل يرث ابن المتوفاة إذا مات والده، وإذا ورث فهل هو مساوٍ لأخوته لأبيه؟
ـ لا فرق بين هذا وبين من كانت أمّه حيّة في أبوّة أبيه له، وبالتالي فليس هناك فرق في الحكم الشرعي من ناحية الإرث.
أمد الإنفاق على الابن:
ـ إلى أي عمر يجب على الأب الإنفاق على ولده؟
ـ حتى عمر الخمسين، وأكثر، إذا كان الولد غير قادر على الإنفاق على نفسه، شرط أن لا يكون عاطلاً باختياره وكسله، فعليه أن يحاول أن يعمل، أما إذا كان ضريراً أو عاجزاً أو ما إلى ذلك، فالإنفاق عليه قائم ومستمر، كما أنه يجب على الابن الإنفاق على أبويه حتى لو بلغا التسعين.
الوصية للوارث:
ـ هل تجوز الوصية للوارث، وما الدليل؟
ـ نعم تجوز الوصية للوارث، والقرآن يقول {كُتِبَ عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين}( )، وأما حديث "لا وصية لوارث"( )، فهو محلّ نقاش بين الفقهاء، فما ورد في القرآن وأحاديث أهل البيت(ع) تدل على جواز الوصية للوارث.
الوصية بأكثر من الثلث:
ـ هل تجوز الوصية بأكثر من الثلث، وما الدليل؟
ـ إنّ الوصية تجوز بالثلث مطلقاً، أما أكثر من الثلث فإنه يحتاج إلى رضا الورثة، وهذا مما دلّت عليه الأحاديث الواردة عن النبي(ص).
حكم الوصية:
ـ ما حكم الوصية، هل هو جائز أم مستحب، أم واجب؟
ـ إذا كان الموصى به من التكاليف الشرعية مما لم يستطع الإنسان أن يقوم بها في حياته فيجب الإيصاء به، أو ما كان من حقوق الناس التي لو لم يوصِ بها لضاعت فيجب عليه ذلك، أما في الأمور والمسائل المستحبة، فإن الوصية تكون مستحبة.
قرض في مقابل قرض:
ـ أودع شخص مبلغاً قدره (100) ألف ليرة سورية في أحد المصارف العقارية لمدة ستة أشهر بدون فائدة على أن يعيد له المصرف المبلغ المودع مضافاً إليه (200) ألف ليرة تدفع تقسيطاً على مدى (15) عاماً شرط أن يضع المصرف إشارة رهن على صحيفة عقار يملكه المودع لشراء بيت، فما هي وجهة نظر الشرع الإسلامي في ذلك؟
ـ إذا كانت الـ(200) ألف ليرة قرضاً، بمعنى أنه أقرض المصرف أو أودع عنده الـ(100) ألف من دون أية فائدة، وطلب من المصرف أن يقرضه في مقابل هذا القرض، على أن لا يكون ذلك شرطاً ملزماً، فلا مانع من ذلك.
أما إذا كان شرطاً ملزماً كأن يقول للمصرف أقرضك بشرط أن تقرضني ففيه إشكال.
راتب اللاجئة لها:
ـ في الدول الأوروبية يعطى راتب للاجئ وزوجته فيدخل في حساب الزوج، فهل يعتبر راتبها حقاً لها ولا يجوز للزوج التصرف به إلا بإذنها وموافقتها، علماً أن المساعدة تقطع إذا عمل الزوج أو الزوجة عملاً يكفيهما؟
ـ لا يجوز للزوج أن يتصرف في هذا المال إلا برضا زوجته لأن المال قد أُعطي لها، وهكذا بالنسبة لما يعطى للأولاد، فإذا كان المقصود قانوناً الأولاد بالذات فلا يجوز له أن يصرفه إلا في مصالحهم.
توريث من لا يستحق:
ـ هل يجوز لأب أن يورّث ابن أخيه وهو لا يستحق؟
ـ يجوز له أن يعطيه في حياته أو يوصي له بما هو أقلّ من الثلث بعد وفاته.
إشكالية مال الإبن:
ـ قلتُم في إحدى محاضراتكم أنه لا يحق للأب أن يأخذ من مال ولده دون إذن الأب، فما مدى انطباق هذا القول على قول رسول الله(ص) "أنت ومالك لأبيك"( )؟
ـ هذا ليس حكماً شرعياً، وإنما هي كلمة أخلاقية، لأن شخصاً جاء إلى النبي(ص) من أجل أن يحبس أباه، فأراد النبي(ص) أن يعطي الفكرة معنًى إنسانياً، فكأنه أراد أن يقول له لم تشتكي على أبيك، فأنت ومالك لأبيك لأنه سبب وجودك وهو الذي ربّاك، فالكلمة تدخل في الميزان الأخلاقي لا الميزان الشرعي القانوني.
قبول نفقة:
ـ أنا موظف حكومي وراتبي الشهري لا يكفي نفقات عيالي الثمانية وقد تعرف عليّ أحد التجار عن طريق الأصدقاء في العمل فخصص لي نفقة شهرية، فهل يجب عليّ التأكد م حسن معاملته التجارية لأقبل هذه النفقة أم لا؟، وهل يجب عليّ الخمس في ذلك؟
ـ إن المال بيد الإنسان دليل على الملكية، فهو أعطاك هذا المال وليست عليك أية مسؤوية في طبيعة هذا المال، اللهم إلا إذا علمت أن مصدره حرام، أما إذا لم تعلم فليس عليك أن تسأل ويجب فيه الخمس إذا بقي منه شيء إلى آخر السنة.
الزيادة في الربا:
ـ هناك رأي حديث في مسألة الربا، حيث يعتبر الكثير من الباحثين أن الزيادة التي تكون بمثابة الربح هي شرعية وصحيحة باعتبار أن هذه الزيادة مقابل الزمن أو المدة التي تتخلل فترة الدين والقبض، فما هو رأي الشارع في هذه المسألة؟
ـ إذا كانت المسألة هي الزمن كما يقول أن مالي هذا مجمّد، وأنت ستشتغل فيه فلي الحق في تجميده لمدة سنة، فإن هناك طريقة شرعية لهذه المسألة وهي أن تدخل فيه كشريك مضارب بأن تعطيه المال وليشتغل به ويكون لك الربح بنسبة، وإذا فرضنا أنه لم يجنِ ربحاً فليس لك شيء،أو حصلت خسارة فإنك تتحمل الخسارة كما يتحملها صاحب المال، أما أنك تملك هذا الشيء بسبب الزمن فقد ألغى الشارع مسألة الزمن في هذا المجال ولا يقبل من الأساس أن تقرض إنساناً على أساس الفائدة من جهة الزمن.
وقد ورد عندنا "إن الله حرّم الربا لما فيه من المنع لصناع المعروف" وبعبارة أخرى فإن الزمن ملحوظ في جانب ربا القرض بالخصوص والشارع ألغى جانب الزمن واعتبر أن لا قيمة له.
خيارات:
ـ أنعم الله عليّ بوفرة المال، فأيّهما أفضل، أن أرسل شخصين أو ثلاثة للحج، أو أساهم في مشروع خيري لتشغيل شباب عاطلين عن العمل، أو أساعد في زواج شاب أو إعالة أسرة محتاجة؟
ـ إذا كنت تساهم في مشروع خيري يدرّ على زواج الشباب وعملهم وتعليمهم فهو أفضل، لأنه صدقة جارية، أما أن ترسل شخصاً أو شخصين للحج فالخياران الآخران أفضل، فعن الإمام محمد الباقر(ع): "ولئن أعول أهل بيت من المسلمين أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم فأكفّ وجوههم عن الناس أحبّ إليَّ من أن أحجّ حجّة وحجّة وحجّة ومثلها ومثلها حتىبغ عشراً، ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين"( ).
فإذا دار الأمر بين حجّة مستحبة والإنفاق على عائلة فقيرة فالأخير أفضل من سبعين حجة، حسب الرواية.
راتب الزوجة الموظفة:
ـ زوجتي موظفة، فهل يحقّ لها الاحتفاظ بالراتب الشهري لنفسها رغم معارضتي لذلك؟
ـ لا يجوز للزوج أن يعارضها في ذلك، لأنها تملك مالها، ولا سلطة لزوجها ولا لأبيها ولا لولدها ولا لأخيها على أموالها الخاصة، فهي شخصية قانوية مستقلة 100%، فالزواج لا يجعل الزوجة ملكاً للزوج، بل يجعلها رفيقة حياة لا بد أن يعاملها كما يعامل الرفيق رفيقه والشريك شريكه.
الإيداع في البنوك المحلية:
ـ أكد خبراء الاقتصاد في مصر على الأزهر الشريف فداحة خروج الأموال من البلاد وإيداعها في البنوك الأجنبية مبينين الفائدة من عودة تلك الأموال على الاقتصاد المصري لإيجاد مشاريع عمل وتشغيل أيدي عاملة، وتطور البلاد، مما حدا بالأزهر استصدار فتوى أجاز فيها وضع الأموال في البنوك لقاء فائدة في مصر فقط، فما هو رأيكم بذلك؟
ـ إن الفكرة الأساسية هي أن الأموال إذا ذهبت إلى الخارج فإنها تسيء إلى الاقتصاد الوطني أو القومي أو الإسلامي، فوجود الرساميل في داخل البلد يحرك الأيدي العاملة ويقوّي فرص الإنتاج وإمكانات التصنيع وما إلى ذلك.
فتهريب الأموال إلى الخارج ووضعها في البنوك الغربية مما يضر اقتصاد البلاد، ولو كان في كل دولة إسلامية حكومة شرعية فقد يحرّم الفقهاء ذلك بقطع النظر عن مسألة الربا، فنفس إخراج الأموال من البلاد والذي يضعف اقتصاد بلاد المسلمين قد يكون محرماً بالعنوان الثانوي.
أما إذا أردنا أن نحلل الربا في الداخل بفعل هذا المعنى، فلدينا في ذلك تحفظ، فنحن يمكن أن نوجد صيغة أخرى تعطي الفوائد المصرفية للناس بطريقة وبأخرى، بعيداً عن الربا كما في صيغة المضاربة.
إهداء راتب الزوجة لزوجها:
ـ في دول الغرب يعطون راتباً للزوج وللزوجة، فإذا أهدت الزجة راتبها إلى زوجها، فهل على هذا المال خمس، وما حكم بقية أفراد العائلة لو فعلوا كما تفعل بإهداء رواتبهم لأبيهم؟
ـ على من يرى أن لا خمس في الهدية لا يجب عليه ذلك، وأما على رأي من يرى الخمس في الهدية كالسيد الخوئي، ونحن نوافقه على ذلك، فيجب الخمس فيه.
أسئلة في الربا:
ـ كيف يمكن التخلص من الربا؟
ـ أن ترجع المال إلى من أخذت منه الفائدة {فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون}( ).
المطالبة بضمان أمانة مسروقة:
ـ وضعت أمانة عند خص وبعد مدة طالبته بردّها، فقال لي أن بيته سرق، وأن أمانتي من ضمن المسروقات وأنا غير ضامن، فهل يحق لي مطالبته بردّ الأمانة حتى لو سرقت؟
ـ الأمين لا يضمن إذا كان صادقاً، وليس لك عليه إلا اليمين إذا اتهمته، ولكن الأمين إذا حفظ الأمانة بما يحفظ به أمواله ولم يفرط فليس ضامناً، ولا يجوز لك أن تضمنه.
تصالح على زيادة:
ـ إذا تصالح شخصان على مبلغ مع الزيادة فهل يعتبر هذا الصلح من الربا المحرم أم أنه يجوز ذلك ولا يعتبر من الربا؟
ـ إذا كان هذا قرضاً، فالقرض لا يجوز مطلقاً، وإذا كان بيعاً وكان العوضان ربويين، فنحن نستشكل في ذلك لأن الظاهر أن الربا يشمل البيع ويشمل الصلح.
صرف مبلغ مودع للتشغيل:
ـ استلمت مبلغاً من شخص لغرض تشغيله في عملٍ ما، ولكنني صرفته وبدأت أعطي صاحب المبلغ شيئاً قليلاً من أرباحه شهرياً، فما هو رأيكم في ذلك؟
ـ هو أعطاك المبلغ من أجل أن يأخذ من أرباحه عندما تشغله، وما دمت صرفته فهو في ذمتك، وما أعطيته إياه لا يستحقه شرعاً، ولكن إذا كان هبة منك فلا مشكلة.
خمس بأربع:
ـ عندي عملة ورقية من فئة خمس ليرات فبعتها بأربع ليرات معدنية، فما حكم هذه المعاملة خاصة وأني كنت محتاجاً للأربع ليرات لإجراء اتصال هاتفي؟
ـ في الفتوى العامة، ليست هناك مشكلة شرعية بأن تبيع خمس ليرات ورقية بأربع معدنية، فهذا ليس من الربا.
سلفة بربح:
ـ أنا لاجئ في بلد أوروبي، ومن نظام بلدي هناك أن يتقدم البنك تطوّعاً بسلفة لكل لاجئ في قبال أرباح بنسبة القرض، فهل يجوز لي قبول هذه السلفة، علماً أنني أدري أي تأخير في تسديد الأرباح سوف يضاعفها في الأشهر اللاحقة؟
ـ إذا لم تكن مختاراً في ذلك فلا بد أن تقبلها، ولا مشكلة إذا لم تشترط أنت الفائدة، أي أن يكون التزامك صدى لالتزامهم، أما إذا لم تلتزم بدفع الفائدة فلا إشكال وعليك أن تخفف ذلك عنك بأن تبادر إلى دفعها في وقتها.
صدقة عن الجنين:
ـ هل يجوز دفع الصدقة عن الجنين وهو في بطن أمه؟
ـ ندفع الصدقة من أجل أن يولد سالماً وأن لا يكون مشوّهاً.
هدايا الأماكن المحرمة:
ـ هناك في أمريكا أماكن محرّمة يعطي بعضها لكل سائق يجلب الزبائن مبلغاً من المال، فهل هو محرّم، وإذا كان كذلك فهل هو جائز إذا كانت النية بجعله تبرعاً للفقراء؟
ـ إذا لم يكن من قصد الإنسان أن يوصل الآخرين إلى هذا المكان المحرّم ليأخذ المال فلا مانع، أما إذا قصد ذلك فلا يجوز حتى لو أراد التبرع به للفقراء.
دفع الأقساط دفعة واحدة:
ـ اشتريت سلعة بأقساط شهرية ثم أردت أن أدفع الأقساط الباقية دفعة واحدة، فهل يجوز للبائغ أن يسامحني ببعض المبلغ؟
ـ البائع يملك المال "والناس مسلّطون على أموالهم" فهو يستطيع أن يسامحك كما يتسطيع أن يستوفي حقه.
الصدقة حسب المظهر:
ـ يسألنا بعض الناس الذين يبدو من مظهرهم أنهم في حالة ماية جيدة الصدقة فنمتنع عن إعطائهم بناءً على ظاهرهم، فهل ما نقوم به صحيح؟
ـ إذا كنت مطمئناً من مظهره ومن القرائن الخارجية أنه ليس فقيراً، فعليك أن لا تعطيه حتى لا تشجعه على أن يسأل من دون حاجة إلى السؤال.
المطالبة بسداد قرض مجهول:
ـ شخص في بلد آخر أرسل يطالبني بسداد قرض يدّعي أنه أقرضني إياه قبل سنوات، ولكنني لا أذكر شيئاً من ذلك الموضوع على الإطلاق، علماً أن ذلك الشخص إنسان مؤمن وثقة؟
ـ إذا كنت تثق بكلامه وتعرف أنه لا يكذب، وأنت لا تتذكر ذلك فخبره قد يكون حجة لا من خلال دعواه، بل من خلال خبره الذي يوجب لك الاطمئنان، خاصة وأنه رجل مؤمن وموثوق ويقول إنني أتذكر أنني أقرضتك، وأنت لا تنفي بل تقول لا أتذكر، فمن الطبيعي أن يحصل الاطمئنان من خبره، فعليك أن تدفع له، وأما إذا بقيت شاكاً فلا يجب عليك ذلك، وإن كان الأحوط ـ تبرئة للذمّة في الواقع ـ أن تدفع له ذلك.
دَيْن بذمة ميّت:
ـ مات شخص وعليه ديْن لبعض الناس، فهل لصاحب الديْن أن يطالب الورثة بذلك، أم يبقى المال في ذمة الميت إذا رفض الورثة إعطاء الحق؟
ـ لا يجوز للورثة أن يرثوا المال إلا بعد دفع الوصية والدين، فله أن يطالب الورثة بلحاظ التركة، فإذا عصوا فيبقى ذلك في ذمة الميت الذي ينادي كل مواصٍ بأن عليه أن يكون وصي نفسه، كما ورد في حديث الإمام علي(ع): "كُن وصيّ نفسك، فاعمل من مالك ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك" فإذا كان عليك دين فأدِّه، أو كان عليك حقوق شرعية فادفعها في حياتك، وإذا كان لديك أمانات فأرجعها إلى أصحابها، فقد يطمع الوصي بالمال فيبذره ويبعثره من غير الوفاء بديون المورِّث، فكُن أنت وصي نفسك في أداء كل ذلك قبل الموت.
مخالفة اتفاق:
ـ اتفقت مع إحدى دور النشر على طبع كتاباتي وتمّ الاتفاق على إعطائي نسبة مئوية معينة من كل طبعة على أن تكون حقوق الطبع محفوظة للناشر، وقد أخلّ الناشر ببنود العقد، فلم يعطني كامل حقل من الطبعة الثانية، فهل يجوز لي شرعاً طبع الكتاب عند دور نشر أخرى؟
ـ إذا فرضنا أنك اشترطت عليه ذلك عندما أعطيته الحق ولم يلتزم بالشطر، فلك الحق أن تفسخ العقد الذي بينك وبينه، وعند ذلك تستطيع أن تطبعه عند دور نشر أخرى.
تملّك أشياء متروكة في سيارات الأجرة:
ـ أحد معارفي يعمل في شركة لتأجير السيارات ويقوم بتنظيفها، وأكثر الأحيان يجد فيها أشياء لا ثمن لها وأخرى ثمنها غال، فهل يجوز امتلاك ما فيها، علماً أن صاحبها غير معروف، وإذا أرجعها إلى الإدارة فإنها تتملكها، فماذا يفعل، خاصة وأن أصحاب الأشياء المفقودة في الغرب، ولا أعتقد أنّ عليهم صدقة؟
ـ الأولى للإنسان في هذه الحال أن يراجع الحاكم الشرعي ليرخصه فيما يجب عليه أن يفعل في ذلك.
شرط الوصية:
ـ سجلت لي والدتي حصتها في العقار الذي أسكنه وأوصتني أن لا أبيعها ولا أعطيها لأخوتي، لأنها على يقين بأنهم سينفقون حصصهم في طريق الحرام، فما هو الحكم الشرعي في ذلك؟
ـ لا بد أن تنفذ الوصية إذا كان العقار مشروطاً بذلك، أي إذا كان البيع بهذا الشرط وقد قبلت الشرط فعليك أن تنفذه و"المؤمنون عند شروطهم".
تحميل الديْن المؤجّل فائدة:
ـ تشاركت مع شخص في مشروع بناء بـ(150) ألف ليرة سورية، ثم تعثر المشروع فأردت الانسحاب قبل إتمام البناء، فوعدني الشريك بإعادة المبلغ بتاريخ معين، فأعطاني جزءاً ووعدني بتاريخ آخر ثم أخلف فاشترطت عليه إن أعطاني في التاريخ المعين المبلغ بأكمله فبها وإلا فعليه أن يدفع لي بعد ذلك التاريخ المبلغ مضافاً إليه (30) ألف ليرة، فرضي بذلك مكرهاً ووعدني حين أخلف أن يدفع ذلك للشريك الذي سيحل محلي بهم فهل ارتكبت محرّماً؟
ـ لا يجب عليه أن يفي لك بذلك، وإلا فهذا معناه ربا، فأنت تطلبه ديناً وسألته الفائدة فهذا ربا وأنت قد ارتكبت محرماً في ذلك، وإذا أعطاك ذلك من دون رضا نفسه فلا يجوز أن تأخذ المبلغ.
نقداً وأقساطاً:
ـ لدى أحد أقاربي مكتب لبيع السيارات، وعند إجراء عملية البيع يزيد على الثمن العادي لها مبلغاً من المال مقابل أن تبقى من مبلغ السيارة أقساط يدفعها المشتري بعد عدة شهور، فهل هذا البيع صحيح؟
ـ إذا كانت عملية البيع حاسمة، كما لو قال له أبيع لك هذه السيارة بالأقساط بـ(150) ألف ليرة وبالنقدي (100) فلا مشكلة فهي معاملة غير ربوية، لأن المعاملة الربوية متحركة، كما لو باعك بعشرة وفرض عليك أن تدفع فائدة شهرية على العشرة، أما إذا حسم الموضوع بقوله أبيعك بالأقساط لمدة سنة (بكذا) وبالنقدي (بكذا) فلا يعتبر ذلك ربا.
سابعاً ـ الحج
تبرّع مع الاستطاعة:
ـ أنا مستطيع للحج، وقد تبرّع لي شخص في نفس السنة التي كنت فيها مستطيعاً بمال الحج، فهل يجوز أن أقبل هذا التبرّع من دون أن أصرف شيئاً من جيبي؟
ـ لا مانع من ذلك، وجزاه الله عنك وعن الإسلام خيراً.
اقتراض مال لأداء الحج:
ـ هل يجوز اقتراض مال للذهاب إلى أداء فريضة الحج، علماً أن الشخص يشك ما إذا ثبت الحج بذمته أو لا؟
ـ إذا كان يشك بأنه تكلف بالحج أو ليس مكلفاً فلا يجب عليه أن يستدين للحج، نعم إذا عرف أنه كان مكلفاً وسوّف، فيجب عليه حينئذٍ إذا استطاع الاستدانة أن يستدين ويحج.
حج نيابة في الذمّة:
ـ هل يجوز لمن في ذمته فريضة حج نيابة عن الغير أن يؤجرها أو يؤخرها؟
ـ إذا فرضنا أنه أخذ النيابة على أن يحج هذه السنة ولم يحج فعليه أن يحج في هذه السنة، وإذا فرضنا أنه لم يستطع الحج في هذه السنة وكانت الإجارة مطلقة، فعليه أن يحج في السنة الآتية على حسب طبيعة الاستيجار.
ليل المبيت في منى:
ـ ما هو المقدار من الليل الذي لا بد أن يقضيه الذي يبيت في منى، وإذا كان المقدار هو النصف من الليل، فهل هناك فرق بين النصف الأول والنصف الأخير، والنصف الذي بين الأول والأخير؟
ـ يصدق على الليل النصف إذ يكفي ذلك من المبيت في منى كما وردت فيه الأحاديث، ويحاول البعض أن يركز على النصف الأول ويحتاج أو يستشكل في النصف الآخر، ولكن نحن نرى أن لا فرق بينهما في ذلك.
ـ وكيف إذا شكّ في مقدار الوقت هل قضى وقته في المبيت نصفاً أو أقل؟
ـ إذا كان الشك بعد الفراغ أي بعد انتهاء الليلة فلا قيمة له، وأما إذا كان في نفس الليلة فعليه ان يحتاط بأن يتيقن أنه بات نصف الليل.
ـ ما الحكم المترتب على الذي لا يبيت في (منى)؟
ـ عليه أن يكفّر بشاة.
حجّ الإسلام:
ـ من حجّ بيت الله الحرام بتبرّع من أحد المحسنين، فهل تعتبر الحجة حجّ الإسلام؟
ـ نعم، تعتبر حج الإسلام.
فلسفة المناسك:
ـ ونحن مقبلون على موسم الحج، نرجو إعطاءنا فكرة عن فلسفة أو علّة بعض الأحكام الشرعية الواردة في الحج من مناسب متعددة، فما هي فلسفة السعي والوقوف بعرفات والمبيت في منى والنحر والرجم وغيرها؟
ـ إن الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى محاضرات، لكن يمكن أن نعطي فكرة موجزة عن ذلك، وهي أن الحج يمثل الهجرة إلى الله، فالإنسان يتخفف في الحج من كل أهله ومن كل أوضاعه، بل ومن ثيابه ليقف بين يدي الله ويتصور أن الله تعالى خاطبه مع كل الناس {يا أيها الناس اتقوا ربكم}( )، وخاطبه مع كل المؤمنين {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله}( )، وخاطبه في كثير من آياته في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم وما إلى ذلك، وترك الزنا وشرب الخمر والغيبة والنميمة وأكل المال بالباطل.
فالحاج يستحضر كل ذلك ويتصور أنه واقف بين يدي الله يأمره وينهاه وهو يمتثل بقوله (لبيك اللهم لبيك) أي إجابة يا ربّ بعد إجابة، فأنا قادم لأعلن أنني أجيبك لأمرةً واحدة ولكن أجيبك إجابة بعد إجابة.
فالإحرام هو صومٌ عن كل ملذات الإنسان وعن كثير مما اعتاده في حياته وعن كل ما يرتاح إليه في جسده، ثم ينطلق ليطوف بالبيت، وبالطواف ما يرمز إليه بيت الله من معنى طاعة الله وعبادته، فالله جعله موضع العبادة والطواف والركوع والسجود.. ولذلك فإن الطواف ببيت الله يعني أنك لا تخرج عن هذه الدائرة التي تمثل عبادة الله، وعندما ترجع يجب أن لا تطوف في بيوت الظالمين ولا بيوت الكافرين وبيوت اللهو والخداع، فكما أن بعض الأحكام تحدد لك طوافك بأن لا تخرج عن المطاف فلتكن حياتك كلها طوافاً في بيت الله سبحانه وتعالى بما يمثله من طاعته في كل ذلك.
والسعي رمز إلى أنك تجعل كل سعيك في الحياة قربة إلى الله.. وفي عرفات تأمُّل وعبادة وابتهاغل، وفي المزدلفة تأمل وعبادة وابتهال، وف يمنى رجم للشيطان الذي يملك أكثر من عش في عقلك عندما يكون عقلك عقل الباطل الشيطاني، وأكثر من عش في قلبك وفي حياتك، فتحاول أن تبدأ الحرب معه حتى تحتفظ بما اختزنته من روحانية، وفي النحر تقف لتتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما كان يتقرب به الأنيباء، ولتستذكر تضحية إبراهيم(ع) وإسلامه وإسلام اسماعيل لله.
فنستطيع أن نستوحي من الحج الكثير الكثير مما يرتفع بروحيتنا ومما يمكن أن ينفتح بنا على الخير كله وعلى الله قبل ذلك وبعده.
تقسيم الأضحية:
ـ تقسّم الأضحية إلى ثلاثة أقسام: قسم يأكل منه الحاج وقسم يهديه إلى أخوانه المؤمنين الحجاج وبقسم يتصدق به على الفقراء، فكيف يتحقق ذلك مع ما نرى من صعوبة التنفيذ، هل من سبيل للتخلص من ذلك وتيسير الأمور؟
ـ نحن نلتقي مع السيد الشهيد الصدر(رض) في أن الإهداء إلى المؤممن من التصدق أو حتى الأكل كلها رخصة، فإذا لم يستطع الحاج من التصدق الحقيقي الجدي فيسقط عنه ذلك وإن كان الفقهاء يحتاطون بأخذ الوكالة من الفقير أو بقبول الثلث منه وتفويضه عنه بمال ويول لزميله خذ هذا هدية مني، ولكن الظاهر أن ذلك لا يقصده الآخذ ولا المعطي ولكن لا بأس بالاحتياط.
بذل مع استدانة:
ـ أريد حجّ الإسلام، وقد تكفّل أحد المؤمنين بالبذل، لكنني كي لا أثقل عليه بجميع المصاريف استلفت مبلغاً لدفع شيك المطوفين، فهل يجوز هذا؟
ـ على رأي السيد الخميني(رحمه الله) لا يجزي ذلك عن حج الإسلام، أي إذا استدان ولم يكن مستطيعاً للحج فلا يجزي، ولكن على رأي السيد الخوئي(رحمه الله) ونحن نوافقه في رأيه أنه لو استدان للحج وكان قادراً على الوفاء به فإنه يجزيه عن حج الإسلام.
معوقات مناسك الحج:
ـ المفروض في الإنسان المسلم وهو يؤدي مناسك الحج العظيمة، أن يحاول التأمل والاستيحاء من تلك الشاعر المقدسة، ولكن شدة الزحام وارتباك حركة الحجاج وأموراً أخرى تحول دون ذلك، فكيف السبيل إلى تجاوز هذه المعوّقات؟
ـ هذه المسألة تحتاج من الإنسان قبل أن يبدأ الطواف والسعي، أن يعيش في نفسه صورة أنه يريد أن يطوف مع الناس، أي لا بد أن يعرف أن كل الذين يطوفون هم أناس يحملون ما يحمل من أخلاق ومن عبادة لله سبحانه وتعالى، ولذلك لا بد له أن يستحضر في نفسه معنى الطواف مع كل هؤلاء الطائفين عندما لا يتعقد من زحامهم لأنهم لا يزاحمونه من خلال نيّة سيئة، بل يزاحمونه كما يزاحمهم من أجل أن يضبطوا طوافهم أو من أجل أن يبلغوا ما يريدون منه.
ولذلك يحتاج الإنسان الحاج مقدماً أن يعرف أنه سيطوف طوافاً في هذا الجو، وهو يحاول أن يثبت أقدامه ويستحضر معاني الطواف، ولعل من المناسب أن يقرأ الإنسان في كل شوط من الطواف الأدعية بحيث يفصل نفسه عن الجو وهذا صعب ولكنه أمر إذا أراده الإنسان يحصل عليه.
تطوير مناسك الحج:
ـ هل هناك مخارج فقهية لتطوير أداء بعض المناسك، مثل الطواف والسعي بما يتناسب مع الكثرة الهائلة للحجيج؟
ـ من الأمور التي هي مخرج فقهي، هو أن الطواف لا ينحصر بالدائرة التي فرضها المشهور من الفقهاء وهي ما بين مقام إبراهيم والبيت، بل يتسع الطواف حيث اتسع الناس في المسجد، ففي حال الزحام ليس من الضروري أن يدخل الحاج في هذه الدائرة الضيقة، بل يمكن أن يطوف في آخر البيت.
وهناك بعض الاجتهادات التي تقول أنه يمكن للحاج أن يطوف في الطابق الأعلى ـ وإن كان في ذلك إشكال ـ كما أن في السعي إشكال إن كان في الطابق العلوي، على أساس قوله تعالى: {لا جناح عليه أن يطوّف بهما}( )، أي بالصفا والمروة، حيث يقال في مستوى الصفا والمروةأنهم لم يكونا جبلين عاليين، حيث أن ارتفاع أحدهما (8) أمتار والآخر (12) متراً، فالطواف في الطابق العلوي هو فوق الصفا والمروة فلا يصدق عليه قوله تعالى {أن يطوّف بهما} فنحن لدينا إشكال في ذلك.
ويمكن أن يكون التنظيم في مجيء الحجاج، ولكن حينما يأتي الناس من كل أنحاء العالم فمن الصعب أن تضبط التنظيم إلا إذا وسّعنا الحرم بشكل معين ولكن في ذلك مشاكل وإشكالات، فالتطوير يمكن أن يكون في حركة الحجاج لا في العبادات والمناسك.
تشريع الحج لغير المسلمين:
ـ لماذا لم يشرّع الحج لغير المسلمين؟
ـ لأن غير المسلمين لا يؤمنون بالحج، فالحج قد شرّع للناس حسب قوله تعالى: {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً}( )، وقوله تعالى: {وأذِّن في الناس بالحجّ}( )، فهناك أناس قبلوا الإسلام فقبلوا الحج، وهناك أناس رفضوا الإسلام فرفضوا الحج.
شعائر الحج في الجاهلية:
ـ هل أن شعائر الحج في الجاهلية هي امتداد للحج الذي مارسه إبراهيم(ع)؟
ـ الظاهر أنها استمرت منذ زمن إبراهيم(ع) ولكن الإسلام وسّع العبادات ومناسك الحج.
الوقوف الاضطراري في المشعر:
ـ ورد في كتابكم (مناسك الحج) هذا السؤال: ماذا يفعل من لم يقدر على الوقوف الاختياري في المشعر لعذر، والجواب: يجزيه مجرد الوقوف في الفترة ما بين طلوع الشمس والزوال من يوم العيد، وهو المسمى بالوقوف (الاضطراري) والسؤال ما حكمه لو كان الوقوف فيه ولو لفترة قصيرة قبل طلوع فجر عيد الأضحى ومباشرة إلى منى لعذر كونه مع من يجوز لهم ذلك ولا يستطيع أن يخالفهم؟
ـ تكليفك الشرعي أن تقف في المشعر، فلا يكون ذهابك مع هؤلاء عذراً، لأنك تستطيع أن ترجع في الفجر وتقف الوقوف الاختياري ولو بمقدار، أما إذا لم تستطع ذلك فأنت معذور.
حلق أم تقصير؟
ـ أريد أن أحجّ نيابة عن والدي وأنا قد حججت حجّ الإسلام، فهل يجب التقصير أم الحلق مع ملاحظة أن والدي لم يكن يقلد أحداً من المراجع في حينه؟
ـ ما دامت حجة ثانية فأنت لست صرورة، خاصة وأن حجتك نيابية، وحتى لو كنت صرور، فأنت مخيّر بين الحلق والتقصير وإن كان الأحوط استحباباً الحلق.
المبيت في مِنى:
ـ من الملاحظ أن المبيت في مِنى لا يملؤه الحجاج بقراءة القرآن أو الدعاء أو الصلاة، بل مجرد الجلوس أو النوم أو التجوّل، فهل يصح هذا المبيت؟
ـ يصح هذا المبيت، ولكن بدون أية نتائج أو فائدة أو منفعة من الحسنات.
تنظيف أسنان المحرم:
ـ هل يعتبر تنظيف أسنان المحرم بالفرشاة من المحرمات عليه؟
ـ ليس م حرماً إذا لم يخرج الدم.
ـ نيابة عن مريض:
ـ هل تصح النيابة عن المريض الذي استقرّ الحجّ في ذمّته؟
ـ إذا كان عاجزاً عن الحج، وكان مستطيعاً مالياً، ولكنه كان عاجزاً بدنياً تجوز الاستنابة عنه.
حجّ استحبابي:
ـ قد ذهبت إلى الحج عدة مرات، وكلها قد أهديتها إلى أهلي، وفي هذه السنة أريد أن أذهب إلى الحج ولا يوجد أحد من أهلي يستحق النيابة، فهل يجوز أن أحج هكذا، لأن الحج في ذمتي قد سقط؟
ـ إذا كنت لا تريد أن تحج بالنيابة فحجّ حجاً استحبابياً.
هل هذه استطاعة؟
ـ إذا كان بإمكان شخص أن يذهب إلى الحج من خلال تكفل المؤسسة أو الدولة بتسديد نلفقات السفر، فهل يعتبر ذلك الشخص مستطيعاً، وهل يعتبر عاصياً بامتناعه عن السفر، وعليه القضاء وأداء الفريضة، علماً أنه كان غير مستطيع للحج في ذاته؟
ـ إذا بذل له الحج بذلاً ولم يكن عليه حرج في ذلك فيكون مستطيعاً للحج.
إحرام في غير المواقيت:
ـ ما حكم من دخل مكة بدون إحرام من أحد المواقيت لعجزه عن الوصول إليها، علماً بأن فرضه كان التمتع، وبعد دخوله في مكة وعجزه عن الذهاب إلى الجحفة ذهب إلى مسجد العمرة وأحرم من هناك وهذا المسجد هو في داخل مكة، لكنه اضطر للإحرام فيه، فما هو حكمه؟
ـ إذا كان الإنسان عاجزاً عن الذهاب إلى الميقات، أي أنه لا يستطيع منذ البداية أن يذهب إلى الميقات، ودخل مكة بدون إحرام فقد أثم.
ولكن مع عجزه فإنه يمكن إذا لم يستطع الذهاب إلى المواقيت أن يحرم من أقرب مكان يمكنه فيه، فإذا لم يستطع إلا من أدنى الحل فلا مانع من أن يحرم في هذه الحالة.
تعقيد المناسك:
ـ لماذا يصعّب فقهاؤنا بعض الأمور أثناء تأدية مناسك الحج من قبيل حرمة التضليل وعدم النظر إلى المرآة؟
ـ الفقهاء لم يصعّبوا ولكن الشارع هو الذي صعّب ذلك، لأن الله تعالى أراد لنا أن نصوم عن الزينة إذا كان النظر إلى المرآة لذلك، فالإحرام هو صوم "أضحِ لمن أحرمت له" بأن يظهر الإنسان رأسه للشمس.
مَن لم يطف طواف النساء:
ـ ما حكم من لم يطف النساء إذا كان متزوجاً جاهلاً بالأمر رجلاً كان أو امرأة؟
ـ عليه أن يجمّد علاقته بالإنسان الآخر حتى يستناب عنه في ذلك، إذا لم يستطع هو أن يذهب.
حلق في مكة:
ـ ذهب شخص إلى الحج أول مرة وعند الرمي بدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى، ولم يحلق رأسه في منى بل حلق في مكة بعد طواف الحج والصلاة والسعي، فما حكمه، هل حجه صحيح أم لا؟
ـ حجّه صحيح، ولكن كان عليه ان يحلق في مِنى إذا تمكّن من ذلك بعد ذلك ويكون مجزياً عنه.
في التظليل:
ـ بعد دخول الحاج مكة لأداء عمرة التمتع، فهل يجب عليه الالتزام بعدم التضليل، وماذا بالنسبة لعرفات ومنى؟
ـ يجب أن يمتنع عن ا لتظليل ما بين منطقة ومنطقة وفي كل مكان ينزل فيه المحرم في داخل مكة له أن يتظلل، وفي داخل عرفات له أن يتظلل وفي منى كذلك.
ولكن بين مكة وعرفات لا يجوز له التظليل، وبين عرفات والمزدلفة لا يجوز، وبين المزدلفة ومنى كذلك، نعم في داخل منى يستطيع التظليل.
ستر العورة في السعي:
ـ هل صحيح أن ستر العورة غير واجب في السعي؟
ـ هو واجب في السعي وفي غيره، ولكن لو فرضنا أن العورة ظهرت فلا تضرّ بصحة السعي.
منطقية المناسك:
ـ إذا كانت الشريعة الإسلامية سمحة يسيرة، وأن الله تعالى لا يكلف الإنسان أكثر من طاقته وسعته، وأن الأحكام الشرعية تحاكي العقل والمنطق، فما معنى أن يكلف الحاج المحرم عند قلع شعرة من بدنه خروفاً؟
ـ لأن الله تعالى يحب الفقراء، فالمسألة ليست مسألة شعرة، لأنه ليس في قلع الشعرة خروف، بل هو كفّ من طعام، وهناك بعض المخالفات يكفّر عنها بخروف ليعلّم الله الحاج أنه إذا أراد منه شيئاً وتركه فإن المترتّب عليه ليس في حجمه، وإنما عليه أن ينظر إلى أن المعصية هي معصية لله، ولذا يقال "لا تنظر إلى معصيتك ولكن انظر إلى من عصيت" حتى تتعلم أن تكون دقيقاً في المسؤوليات، فالله عندما يقول لك لا تقلع شعرة لتكون دقيقاً في غير الشعرة أيضاً.
فمشكلتنا هي أن بعض الناس عندما يعود من الحج يقول سقطت بعض الشعرات ولا بد أن أدفع الكفارة، ففي حين يغتاب الناس ويؤذي المؤمنين ويستشكل في الشعرة، كما في قضية ابن عباس حينما سأله سائل عن دم البعوضة هل هو نجس أو لا؟ فقال: تقتلون الحسين وتستشكلون في دم البعوضة؟ وبعض الناس من هذا القبيل.
والخلاصة أن في ذلك إيحاء بأن عليك أن تكون دقيقاً في التزامك وفي إحساسك بالالتزام بدقة.
الحجّ عدّة مرّات:
ـ هل يجوز للفرد الواحد أن يحج عدة مرات، مع العلم أن حجّه مستحب، أليس من الأفضل أن يساعد المحتاجين من الأيتام والأرامل وأسر الشهداء أو التبرّع بها لغير المستطيع على أداء الفريضة؟
ـ قد يذهب البعض إلى الحج ليزيد في روحانيته وأن يجدّد روحه، وقد يحتاج إلى الحج حتى يقوم بأعمال التبليغ، لكنه إذا أراد الثواب فقط ولم يكن هناك قضايا حيوية حساسة تدفعه إلى الحج، فنحن نقرأ حديث الإمام محمد الباقر(ع) يقول: "لئن أعول أهل بيت من المسلمين أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم وأكف وجوههم عن الناس أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة وحجّة حتى بلغ العشرين ومثلها ومثلها حتى بلغ الستين".
فالذي يريد الثواب فقد فهذا فيه ثواب كبير، أما إذا كانت لديه أشياء ح يوية لتهذيب نفسه ويريد أن يجدد روحانيته أو يقوم بالتبليغ ويخدم الإسلام ثقافياً وسياسياً، فذاك أمر مختلف.
توزيع أضحية:
ـ هل يشترط في توزيع الأضحية أن يكون الفقير إمامياً أم يجوز توزيعها على فقراء المسلمين؟
ـ يجوز توزيعها على فقراء المسلمين جميعاً.
ثامناً ـ الزواج والطلاق
أجور عقد القران:
ـ هل يجوز للذين يسعون في الخطبة والزواج أخذ الأجرة، وإذا قاموا بعقد القران، فهل يجوز تقاضي الأجرة عليه؟
ـ يحق لهم أن يطلبوا الأجرة على عملهم، ولكنهم قد يفقدون الثواب الكثير في ذلك.
صحبة الزوج لزوجته:
ـ لقد سافرت من بلدي طلباً للرزق، فهل يجوز أن تبقى زوجتي في بلدي وأنا في بلد آخر، خاصة وأن الزوج يحتاج زوجته لأمور عديدة، فما هو إرشادكم؟
ـ الأمر الطبيعي أن تكون الزوجة مع زوجها في كل مكان يعيش فيه إذا كانت ظروفهما تسمح بذلك، لأنه بذلك يعصمها ويعصم نفسه ويملأ فراغ حياتها وتملأ فراغ حياته.
التفريق بين المرء وزوجه:
ـ أنا امرأة أدين الله بالمذهب السنّي وكذلك زوجي، ولكنه اقتنع أخيراً بالمذهب الشيعي، وهذا ما أغضب والدي وهو يصرّ على انفصالي عنه بدعوى أن زوجي منحرف، فما هو الموقف الشرعي؟
ـ ليس لوالدك سلطة على طلاقك من زوجك، لا سيما في هذا العمل المحرّم، ولذلك ننصحك ـ في هذا المقام ـ بعصيان والدك على طريقة {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}( )، فبقطع النظر عن المذهب الشيعي أو غيره، فإن طلاق المرأة من زوجها ما دام مسلماً وما دامت مسلمة، سواء اختلفت المذاهب بينهما أو اتفقت، لا يجوز لأنه لا يحقّ لأحد أن يفرّق بين المرء وزوجه.
حبس الزوجة:
ـ تعليقاً على القول بعدم استئذان الزوجة من زوجها إلا في الحالات التي تنافي حق الاستمتاع، قد يُقال أن ذلك يؤدي إلى تفكيك الأسرة ويشجع المرأة على تضييع أولادها وبيتها؟
ـ كما يُقال ذلك، يمكن أن يُقال أيضاً أن حبس المرأة في البيت بمزاج زوجها يوجب تعقيدها وتعقيد أولادها، فنحن نقول بأن الحياة الزوجيةقائمة على المودّة والحرمة لا على المادة القانونية التي تسجلها الزوجة على الزوج أو يسجلها هذا على هذه، فالله سبحانه وتعالى جعل للرجل حقوقاً على المرأة بمقتضى عقد الزواج ولم يجعل للرجل الحق بأن يحبس زوجته حبساً مؤبداً، فلو فرضنا أننا أردنا أن نأخذ بهذه الفتوى وهي أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت زوجها مطلقاً بحسب مزاجه، فذلك يعني أن الزواج يتحول بحسب هذه الفتوى إلى سلطة الرجل على المرأة بحبسها حبساً مؤبداً من حفلة الزواج إلى القبر.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى عنوانين للحياة الزوجية: {فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان}، فهذه النوع من الحياة لا يصدق عليه إمساك بمعروف، فوفاقاً للسيد الخوئي(رحمه الله) نقول إنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت زوجها خروجاً تمرّدياً، لأنه ينافي التزام الزوجية، أما الخروج الطبيعي فليس محرّماً، واللافت هنا أن هذه المساحة تعني أن المرأة تعطي للرجل ما لا يجب عليها، كما أن الرجل أعطاها ما لا يجب عليه في مجال المودّة والرحمة.
طلاق إجباري:
ـ إني امرأة مبتعدة عن زوجي لمدة سبع سنوات، بسبب الأحداث التي جرت في العراق، وتسهيلاً لمعاملة خروجي من العراق فقد أجبرت على إجراء معاملة طلاق عند الشيخ والمحكمة، فهل علينا عند لقائنا إجراء عق زواج جديد؟
ـ لا قيمة لهذا الطلاق طالما أن زوجك لم يكن قد طالب بالطلاق أو وكّل به، أو كان ذلك عن إكراه، فأنت زوجة له ولا حاجة لعقد جديد.
إجبار الكنّة على العمل:
ـ هل يجوز لأب الرجل أن يجبر زوجة ولده على العمل في غياب ولده؟
ـ لا سلطة لأب الزوج على زوجة ولده في ذلك، كما أنه ليس للزوج السلطة على زوجته في أن تعمل إذا لم يشترط عليها ذلك في العقد.
المماسّة المباشرة:
ـ هل يجوز أن أجلس في سيارة الأجرة إلى جان أخ زوجي أو صديقه، وقد يحصل تماس باليد أو الرجل، فهل ذلك حرام؟
ـ لا يجوز التماس بالمباشرة كاليد باليد أو الرجل بالرجل باختيار الإنسان، إلا إذا كان هناك قفاز في اليد أو غطاء على الرجل، ومع ذلك ينبغي أن لا يفعل ذلك بحسب الاختيار.
زواج في الكنيسة:
ـ أراد أحد الشباب الزواج بفتاة مسيحية فطلبوا منه أن يجري الإكليل "حفلة الزواج" في الكنيسة، فما هو موقفه؟
ـ لا يجوز ذلك.
دائم قبل انتهاء المنقطع:
ـ تزوجت امرأة زواجاً منقطعاً لمدة سنة، وقبل انتهاء السنة تزوجت زواجاً دائمياً، فهل هناك صيغة لفكّ الزواج الأول أم أن الزواج الثاني باطل؟
ـ إذا كان الزواىج الدائم بشخص آخر وكانات عارفين بالموضوع فتحرم عليه حرمة مربدة مطلقاً، ومع الدخول حتى لو كانا جاهلين، فإنها تحرم على الزوج الثاني بحسب المذهب الإمامي.
أما إذا كان الزواج الدائم بنفس الشخص فالعقد الثاني باطل، لأن الزواج الأول لم ينتهِ وقته بينهما، أما صيغة فكّ الزواج الأول فهو أن يهبها المدة بأن يقول لها وهبتك المدة أو ما شاكل ذلك، فيكن له بعد ذلك الزواج الدائم بها.
الطلاق في بلديات المدن الغربية:
ـ ظهرت مؤخراً عدة حالات في البلدان الأوروبية، وهي أن يذهب الزوجان المسلمان إلى بلدية المدينة ليعلنا الطلاق بينهما ويسجلا أنهما ينفصلان، والغرض هو الحصول على معونة مالية أكثر، ثم يعودان ليعيشا في بيت واحد كأي زوجين وكأن الطلاق لم يحصل بينهما، فهل هذا الفعل حرام بحدّ ذاته؟
ـ هذا الفعل حرام بحدّ ذاته، باعتبار أنه يشتمل على كذب وعلى هتك لحرمة المؤمنين، ذلك أن الناس عندما يرون أنهما مسلمان وأنهما مطلقان ولكنهما يعيشان في بيت واحد، كما يعيش أي إنسان مع إنسان آخر بطريقة غير شرعية، فذلك سوف يؤدي إلى هتك حرمتهما وهتك حرمة الإسلام، ولذلك فبعنوان ثانٍ أيضاً يعد ذلك حراماً.
ـ وهل يعتبر الطلاق في مثل هذه الحالة شرعياً؟
ـ الطلاق لم يتم لأنه لا بد للطلاق من قصد جدي ولا بد كذلك من شروط معينة.
تزويج الابن من ربيبة الأب:
ـ هل يجوز أن يتزوج ولدي ربيبتي من الزوجة الثانية؟
ـ نعم يجوز ذلك، فليس هناك محرمية، فالمحرمية هي بينك وبين الربيبة، أما بين ولدك وبينها فلا محرمية.
العدّة بعد الفراق:
ـ هل يجب على الزوجة العدّة إذا طلّقها زوجها بعد فراق دام أكثر من ثلاثة أشهر؟
ـ يجب عليها أن تعتد حتى لو طلّقها بعد فراق دام ثلاث سنين.
شروط الزواج بأربع:
ـ ما هي الشروط الواجب توافرها في الرجل للزواج بأربع نساء، وهل يمكن أن يكنّ أبكاراً؟
ـ لا شروط في ذلك سوى قدرته على النفقة، وأن يكون بالغاً عاقلاً راشداً، وأن يعدل بينهن.
تولّي طرفي العقد:
ـ هل يجوز للرجل أن يتولّى طرفي العقد بينه وبين المرأة التي أعطته وكالة في تزويجها منه، وإذا جاز ذلك فكيف تكون صيغة العقد إيجاباً وقبولاً؟
ـ يمكن ذلك، إذ لا بد بد للعقد من طرفين، كما يمكن الوكالة في العقد، فهي توكله في أن ينوب عنها في الإيجاب وهو يقبل من خلال قوله: زوجت نفسي من موكّلتي (فلانة) بمهر قدره (كذا) ثم يقول: قبلت هذا الزواج لنفسي، فلا مشكلة في ذلك، إذ المهم أن يكون هناك تعدد اعتباري، وليس من الضروري أن يكون التعدّد حقيقياً.
كفّارة المقاربة أثناء الحيض:
ـ قارب شخص زوجته وهي في الحيض، فهل الكفارة واجبة في رأي الفقهاء أم مستحبة؟
ـ هناك من الفقهاء من يقول أنها واجبة، وهناك من الفقهاء ـ ونحن منهم ـ من يقول إنها مستحبة احتياطاً، أي الأحوط الإتيان بها.
وأما مقدارها فهو نصف ليرة عثمانية في أول الحيض وربعها في نصفه وثمنها في آخره.
الزواج بمعتدّة:
ـ تزوج رجل بامرأة وهي في اليوم (82) من عدّتها وكانت لا تحيض، وهي في سنّ من تحيض، وكان يعتقد أن عدتها (45) يوماً، فهل الزواج جائز أو غير جائز شرعاً؟
ـ غير جائز شرعاً.
ـ هل هناك من تخريج؟
ـ إذا فرضنا أنهما كانا جاهلين ولم يحصل دخول، فيمكن تصحيح الأمر بعد انتهاء العدّة بأن يعقدا، أما إذا حصل الدخول فإنها تحرم عليه مؤبداً عل المشهور بين الفقهاء.
ـ ثم ما هو نوع المولود، هل هو ولد زنا؟
ـ هو ولد شبهة إذا كانا جاهلين بالحكم الشرعي.
زواج بالهاتف:
ـ أنا مقيم في أستراليا وقد تزوجت فتاة عن طريق الهاتف، وكانت صيغة العقد بيننا اعتيادية، ولكن بدون أي ذكر للمهر للحاضر والغائب، فهل هذا العقد صحيح، علماً أن الموضوع لم يتمّ، فهل يبقى في ذمتي شيء؟
ـ إذا فرضنا أن العقد كان منقطعاً فهو باطل، إذ لا بد من ذكر المهر، أما إذا كان العقد دائماً، فالعقد صحيح وتستحق عليه مثل المهر في الدخول، فإذا لم يحصل الدخول فلا مشكلة في ذلك، ولكن لا بد له أن يطلقها إذا أراد أن تكون خليّة.
وماذا عن المهر؟:
ـ بالنسبة لسؤال العاقد عن طريق الهاتف؟ إذا لم يكن قد دخل بها هل تستحق المرأة نصف المهر إذا طلقها ولم تتنازل عن حقها؟
ـ تستحق نصف المهر بالطلاق لأنالله يقول {فإن طلقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة فنصف ما فرضتم}( ).
خروج بلا إذن:
ـ خرجت زوجتي مع والدها إلى خارج البيت دون أذن مني، فهل يجوز لي إرجاعها إلى البيت؟
ـ من حقّك أن ترجعها إلى البيت ومن حقك عليها أن ترجع إلى البيت إذا لم يكن ه ناك مانع من التعسف.
زواج شرعي:
ـ زوج وزوجته انفصلا بشكل شرعي ثم تزوج هو من أخرى، وتزوجت هي من آخر وأنجبت أولاداً من زوجها الثاني وأنجب هو أولاداً من زوجته الثانية، فهل يجوز زواج أولاده من الثانية بأولاد زوجته الأولى من زوجها الثاني؟
ـ لا مشكلة في ذلك، إذ لا قرابة بينهما، على اعتبار أن الأولاد من زوجته الأولى هم من زوجها الثاني، وأولاده هم من زوجته الثانية ولا قرابة بين الاثنين.
استئجار الرحم:
ـ ما هي شروط استئجار الرحم، وما هي أدلة جوازه وما هي المحاذير منه؟
ـ من قال إنه جائز؟ فإذا كان مقصود السائل استئجار بيضة امرأة أجنبية ليضع فيها نطفته لتنجب له ولداً، فهو غير جائز.
تاسعاً ـ السلوك والمعاملات
نقل القبور:
ـ هل يجوز نقل قبر إنسان مسلم من منطقة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، وأقصد هنا بالقبر، هو نقل الجثمان أو بقايا الميت بالتراب المحيط به بالكامل؟
ـ الأصل أنه لا يجوز نبش قبر المؤمن، ولا يجوز نقله من بلد إلى آخر إلا إذا كانت هناك ضرورات في الموضوع، أو كان المكان الذي ينقل إيه من الأمكنة التي ثبتت في الشريعة أنها أمكنة ربما يرتاح فيها الميت أخروياً أكثر من مكانه هذا.
جهاد الشباب:
ـ خرجنا مع أهلنا صغاراً ولم نجاهد معهم، وها قد أصبحنا شباباً، فهل لنا أجر المجاهدين، وما هو واجبنا كشباب تجاه قضايا أمتنا الإسلامية؟
ـ على كل إنسان جهاده بحسب إمكاناته وقدرته وطبيعة القضية التي يحتاج أن يجاهد فيها، فربما يكون الجهاد باللسان أو بالمال أو بالكتابة أو بالوقوف في ساحة القتال.
شراب مشكوك فيه:
ـ في بعض الأوقات نشتري ـ في هولندا ـ قهوة أو شاياً وقد قيل لنا إن بعض أصناف هذه المشروبات تدخل في تركيبها مواد محرّمة، فهل يجب علينا أن نسأل صاحب المحل، وإذا قدّم لنا هذا الشراب كضيوف، فماذا نفعل؟ وماذا عن النسكافيه التي قيل إنها حرام؟
ـ أما بالنسبة لما يقدّم لنا مما لا نعرف مكوّناته، فإذا كان من أخبرنا بوجود مكوّنات محرّمة فيها شخصاً موثوقاً يطمئن بكلامه فلا يجوز لنا شرابه، لأن ذلك ثبت لدينا من خبر الثقة، أما إذا كانت المسألة مجرد كلام لا حجة عليه فيجوز شربه، فكل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه.
وأما بالنسبة للنسكافيه فلا دليل لدينا على الحرمة، وقد ادّعى البعض أن القهوة إنما تصبح بهذا اللون من الحمرة، لأن ـ في أستراليا أو أماكن أخرى ـ تؤخذ دماء الأبقار والخنازير وتخلط مع القهوة فتصطبغ بهذا اللون لتغدو بلون الدم، فإذا ثبت ذلك فهي متنجسة ولا يجوز شربها، ولكن ذلك لم يثبت عندنا، فما دمنا نشكّ في ذلك فيجوز لنا شربها.
التبرّع بمواد محرّمة:
ـ أحياناً نشتري من المدرسة أو المحطّة مواد غذائية لا نتمكّن من قراءة تركيباتها في الداخل، وبعد أن نفتحها نعرف أن بعض تلك المكوّنات حرام، فهل يجوز التبرّع بها للزملاء المسيحيين؟
ـ إذا كان هذا حلالاً في دينهم فيجوز التبرّع بها، إلا الخمر فلا يجوز.
الاختلاط المحرّم وغير المحرّم:
ـ إن الإسلام لا يشجّع اختلاط الرجل بالمرأة الأجنبية فكيف يمكن للشاب الملتزم أن يتعرّف على شريكة حياته ويدرس أخلاقها ودينها قبل أن يتزوجها؟
ـ الإسلام إنما يحرّم الاختلاط الذي يجرّ إلى الحرام، أما ما لا يجرّ إلى الحرام فقد يكون مكروهاً ولكن عندما تزاحمه مصلحة أقوى فيجوز، كما يمكن أن يلتقي بها مع أهلها، أو أن يعقد عليها عقداً مؤقتاً لتفادي المشاكل في ذلك.
التبرّع بالعين أو الكلية:
ـ هل يجوز التبرّع بالعين أو الكلية من إنسان حي إلى إنسان آخر؟
ـ إذا لم يكن ذلك خطراً على الإنسان فيجوز ذلك في رأينا الفقهي، ولكن هناك بعض العلماء لا يجوّزون ذلك في الأعضاء الحيوية.
أجرٌ دون حجم العطل:
ـ أنا ساعاتي، أعاين ساعة الزبون فأقدّر الأجرة حسب العطل وبعد العمل أفاجأ بصدء أو عيب فيها يؤدي علاجه إلى استهلاكه من غير تفريط مني، فأضطر إلى دفع أضعاف ما أستلمه من صاحب الساحة وأحياناً أتردد في الدفع، فما هو تكليفي؟
ـ إن تكليفك إن أردت أن توفّر على نفسك هو أن تراجع صاحب الساحة لتخبره بالعيوب التي تتطلب ثمناً أكثر، فإذا لم تخبره بذلك وتصرّفت كما تشاء، فعليك أن تتحمل المسؤولية ولا يتحملها الشخص صاحب الساعة.
التلاعب بالضمان الصحي:
ـ هناك ظاهرة جارية حالياً بموجب المضان الصحي للعمال والموظفين، مفادها أن الموظف أو العامل يستحق بموجب الضمان صرف وصفة صحيّة دورية شهرية أو وصفتين أو أكثر، فيأتي إلى الطبيب المتعاقد مع وزارة الصحة، فيأخذ منه وصفة لغير حاجة الطبابة، فما هو رأي الشرع في الحالات التالية:
ـ ماذا لو صرفها بأن استبدلها بمواج أخرى كالشامبو والفوط وما شابه؟
ـ ماذا لو أعطاها للصيدلاني في قبال قيمتها النقدية؟
ـ لا يجوز ذلك، فلا يجوز للطبيب أن يكتب وصفة ليست حقيقية، ولا يجوز للموظف أو العام أن يقدّم هذه الوصفة التي لا يستحقها لأنه إنما يستحق في الشهر وصفة أو وصفتين مع فرض حاجته، وأما إذا لم تكن له حاجة فلا يجوز ذلك.
النظر إلى الأستاذة المتبرِّجة:
ـ أنا طالب جامعي ومدرّستي متبرّجة، فما حكم النظر إليها، وما حكم مناقشتها والحوار معها؟
ـ في الحديث: "يجوز النظر إلى اللاتي لا ينتهين إذا نُهين" أي اللاتي يعتبرن عدم الستر أمراً أساسياً في حياتهنّ فلو نهيتهنّ لما انتهين، فهؤلاء يجوز النظر إليهنّ والتحدث معهن بدون تلذّذ ولا ريبة.
ملابس نسيها صاحبها:
ـ لديّ محل لبيع الملابس، نسي أحد الزبائن ملابسه فيه، فكيف نتصرّف بها؟
ـ إذا يئست منه فيمكنك أن تتصدّق بها عنه على إنسان فقير، وإذا جاء وطالبك بها فخيّره بين قبوله بالصدقة أو بالمال، فإذا أراد المال فأعطه إياه وتكون الصدقة لك.
شراء منتجات صهيونية:
ـ ما حكم من اشترى منتجات إسرائيلية دون أن يعلم مصدرها، وماذا يفعل بها بعد أن يعرف مصدرها، وهل يجوز الشراء من اليهود في الدول الغربية عموماً؟
ـ إذا فرضنا أنه لم يكن يعرف ذلك فهو معذور ويستطيع أن يستعلمها من دون أن يكون شراؤه للبضاعة دعاية في استعمالها أمام الناس الآخرين، أما الشراء من اليهود الذين يساعدون إسرائيل فحكمهم حكم إسرائيل في هذا ا لمقام.
الطير المحتضر:
ـ ما حكم الطير المصاب إن مات ببطء بعد أن أصابته الرصاصة من دون أن يذبح بالسكين؟
ـ إذا أدركه الإنسان وفيه حياة ولم يذبحه فهو ميتة؟.
تعليق الصور في المساجد:
ـ هل يجوز تعليق الصور في المساجد؟
ـ ليس محرّماً، ولكنه ليس راجحاً وليس محبوباً، فعلينا أن نخلي المساجد من كل ما يشغل المصلين عن صلاتهم وعن ذكرهم، وأن لا يكون في المسجد إلا الله بالمعنى الروحي للمسألة، فالعادة الجديدة التي طرأت أمر ترفضه روح المسجد وروح الإسلام.
الموت الرحيم( ):
اعتاد الناس قتل الحيوان الحرم والمصاب الذي لا أمل بنجاته وذلك بحجة الرحمة به من العذاب، وهناك فكرة في الغرب عن إراحة الإنسان المريض بمرض عضال فتمنع عنه الأدوية أو يعطى حقنة تسرع في إنهاء حياته، فما رأيكم في كَلْتا الحالتين من الناحية الشرعية؟
ـ الحياة هبة الله وهي ملكه، فنحن لا نملك حياتنا ولم يسلطنا الله على التصرّف بها إلا في حالات محدّدة، فلا يجوز للإنسان أن ينتحر في أية حالة من الحالات إلا إذا وصلت الحالة إلى عنوان في الجهاد أو عنوان تكون المصلحة فيه أهمّ من هذه المفسدة.
وفيما عدا ذلك لم يرخصنا الله سبحانه وتعالى بأن نقتل هذه الحياة، أما في الحيوانات فقد رخصنا الله بأن نذبح الحيوان أن نأكله، وأن نقتل ما كان مضرّاً من الحيوانات، فلم يكن الحيوان نفساً محترمة، لكنّه حرّم علينا أن نعذّب الحيوان، ولم يحرّم علينا أن نقتله لا سيما إذا كان القتل راحة له.
أما الإنسان فلم يرخصنا الله في قتله، ولم يسلّط الإنسان على نفسه بأن يقتل نفسه أو يطلب من أحد أن يقتله، إذ من الممكن أن نسكّن ألمه بكل وسائل التسكين، وربما كان هذا المرض ـ ولسنا من أهل الاختصاص ـ الذي يتألم منه الإنسان والذي يحكم الأطباء بأنه مرض مميت، يطلّ عل اكتشاف دواء في تلك اللحظة أو بعد ذلك، فكم من الأمراض التي كانت مميتة وأصبحت عادية جداً بعد اكتشاف الدواء أو العلاج المناسب، فنحن لا نؤمن بالموت الرحيم أو القتل الرحيم ـ كما يسمونه ـ لأنّ رحمة الإنسان في بقاء حياته أكثر من الرحمة بتخفيف آلامه.
الخوف على الجنين:
ـ امرأة حامل في الشهر الثالث، وتتناول علاجاً يومياً للحفاظ على الجنين، وخائفة عليه من الصيام، ولكن طبيبتها قالت لها ليس هناك مانع من الصيام، فما هو حكمها؟
ـ إذاكان خوفها غير مركز، فإن عليها أن تفكّر في الموضوع جيداً، فإذا استقرّ خوفها، بحيث ظلّت في حال قلق على الجنين، فلها أن تفطر، ولكن إذا أخبر أهل الخبرة بأن ليس هناك ضرر ولا خطر فعليها أن تأخذ برأي أهل الخبرة.
بيع وشراء المجهول وزناً:
ـ ماذا ترون بالنسبة إلى بيع وشراء المجهول وزناً كعلب الفواكه وأكياس البصل وما إلى ذلك؟
ـ إذا فرضنا أنه كان يعلم على نحو يرتفع به الغرر فيمكن ذلك، أما إذا كان بنحو لا يرتفع به الغرر فلا، وليس ضرورياً أن يعرف بالدقة تماماً ما يحويه الكيس أو العلبة.
دفن ميت في قبر ميت آخر:
ـ هل يجوز دفن الميت في قبر ميت آخر مات قبل عشرين سنة؟
ـ إذا بقي شيء من الميت الآخر ولو من العظام فلا يجوز ذلك.
مهنة تصليح الأجهزة السمعية والبصرية:
ـ ما هو رأيكم في مهنة إصلاح أجهزة الراديو والتلفزيون من حيث الحلّة والحرمة؟
ـ هي حلال، لأن هذه الأجهزة ليست محرّمة في ذاتها وإنما يحرم استعمالها في الحرام، وفيها من الحلال الشيء الكثير.
أجور الكهرباء:
ـ إذا أجبرني صاحب الدار بدفع أجور الكهرباء وكانت أكثر من المعقول وهو لا يسدد هذه الأجور فهل يجوز عدم إعطائه هذه المبالغ؟
ـ لا يجب عليك أن تعطيه إلا الأجور الطبيعية، أما الأكثر من ذلك فلا يجب عليك، ولا يجوز له إلا إذا اشترط عليك ذلك في أصل عقد الإيجار.
استعانة المسلمين بالمشركين:
ـ إلى أي مدى يحقّ للمسلمين أن يستعينوا بالمشركين عل قضية الحرب؟
ـ الأصل أنه لا يجوز ذلك إلا في حالة الضرورة القصوى.
سيارة مسروقة:
ـ لو كنت أعلم يقيناً أن مصدر هذه السيارة الموضوعة في المعرض للبيع محرم، فهل يجوز لي شراؤها؟
ـ لا يجوز لك شراؤها.
وصية بالدفن مع ميت آخر:
ـ من المتعارف في بلدنا أن يدفن الميت في قبر ميت آخر لا زالت عظامه موجودة، أي يدفن نفس الميت في قبر دفن فيه ميت آخر قبل عشرة سنين أو خمسة عشر سنة، فما هو حكم الوصية في هذا المجال، بأن يوصي الأب بأن يدفن في قبر ابنه وتوصي الزوجة بأن تدفن في قبر زوجها، فهل تجوز هكذا وصية؟
ـ هذه الوصية باطلة مطلقاً، ويأثم من ينفذها من ناحية تشريعية، لأنه لا يجوز لنا أن ننبش قبر مؤمن ما دمنا نحتمل أن عظامه موجودة، ولا يجوز لنا أن ندفن مؤمناً في قبر لا زالت عظام صاحبه موجودة، بل لا بد أن تتحول العظام إلى رميم.
نعم، هناك طريقة أخرى بدون نبش، إذ يمكن أن نحفر لحداً في جدار القبر، بحيث لا ندفنه في المكان الذي كان فيه الميت الأول، ويجب الانتباه إلى أن هذا من التخلف، فالموتى جيران لا يتجاورون، فبعض العقليات تتصور أن ما بعد الموت هو عل طريقة ما قبل الموت، في حين {وكلّهم آتيه يوم القيامة فردا}( )، والله تعالى يقول أيضاً {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً}( )، فلا بد أن نغير هذه العقلية، فكما أنها من الناحية الشرعية لا تجوز، فكذلك هي ناشئة من ـ ناحية ذهنية ـ من عدم وعي ما بعد الموت.
مصير الجرائد التي تحمل اسم الجلالة:
ـ سبق أن أوضحتم كيفية التعامل مع لفظ الجلالة، لكن ماذا نعمل بالصحف الإسلامية بعد الفراغ من قراءتها، هل نتتبع كل لفظ أو اسم مقدس أو آية قرآنية؟
ـ حاولوا أن تحتفظوا بها ما دامت صحفاً إسلامية، ويمكن تجليدها لتكون كتاباً في النهاية، وإذا تعذّر ذلك فيمكن للقارئ أن يأخذ قلماً ويشطب على اسم الجلالة حيثما يرد بحيث تمّحي الكلمة.
مصير الإعلانات التي تحتوي على الآيات:
ـ ما هو التكليف الشرعي تجاه أوراق الإعلانات التي تلتصق في الأماكن العامة، وإذا سقطت على الأرض وكانت تحتوي على آيات قرآنية، وقد تلوثت وكان المكان مزدحماً بالناس، فما هو التكيف إزاءها؟
ـ إذا كان أخذ هذه الأوراق والاحتفاظ بها يؤدي إلى حرج شديد فهو غير مكلّف، أما إذا كان بالإمكان أن يحفظها بطريقة أو بأخرى يجب عليه ذلك.
حدود إجازة الغناء:
ـ يتذرّع البعض أنكم تجيزون الغناء للنساء في الأعراس حتى لو كان لهوياً مثيراً مترافقاً مع الموسيقى المتعارفة عند أهل الفجور ومع حركات الرقص؟
ـ لقد قلنا أننا لا نجوّز الغناء بالباطل مطلقاً، في الأعراص وفي غيرها، بمعنى أنه إذا كان مضمون الغناء مثيراً، أو كان مشتملاً على باطل في العقيدة، أو في الشريعة أو في الحياة، بحيث يضلّ الناس بحسب مضمونه فلا يجوز، كما أن الموسيقى إذا كانت متناسبة مع ألحان أهل الفسوق بمعنى أنها كانت مثيرة للشهوات والغرائز، فحتى لو كان في مضمونها كلام حق، لكنها تجعل الإنسان ينسى كلام الحق وينشغل باللحن، فهذا لا يجوز أيضاً.
تعذيب المتهم لنزع الاعتراف:
ـ هل يجوز تعذيب المتهم بمختلف الوسائل حملاً على الاعتراف؟
ـ لا يجوز ذلك، كما أن الاعتراف الذي يؤخذ تحت الضغط لا قيمة له، لأن الإكراه ليس له أثر شرعي في المسؤولية.
وقد تكون هناك بعض الحالات التي يختزن المتهم في داخله معلومات بحيث لو لم تكشف أوجبت الخطورة عل مستقبل الأمة أو مستقبل الإسلام.
فإذا كانت القضية بهذا المستوى من الخطورة ومن الأهمية وتوقف أخذ المعلومات على الاعتراف بالإكراه، فيجوز ذلك، ولكن أهل الخبرة هم الذين يميزون بين الأهل والمهم وليس كل إنسان، ولا يتوقف انتزاع الاعتراف من المتهم على التعذيب بل يمكن انتزاعه بطريقة أخرى.
استنساخ الموتى والمنقرضين:
ـ تحدثتم في موقع سابق عن الاستنساخ، وأصحاب هذه الفكرة يدعون بأنهم يستطيعون استنساخ رجل شبيه برجل ميت، فما مدى صحة ذلك، وما هي الوجهة الشرعية عندما يكون صحيحاً؟
ـ حسب قراءاتي، ولا أدّعي الشمولية في القراءة، أن ذلك ليس واقعياً، فالبعض قالوا يمكن استنساخ الديناصورات المنقرضة، في حين لا بد في الاستنساخ أن تكون الخلية حية، فعلى صعيد الصحة يبدو أن ذلك غير صحيح.
أما الوجهة الشرعية، فإذا افترضنا أنهم تمكنوا من استنساخ شبه الميت، فهو ليس الميت، بل إنسان آخر، وغاية الأمر أن المخلوق الذي لا يولد من أب وأم ستتغير الجوانب الشرعية في النظر إليه، فيكون حاله كحال عيسى(ع) الذي ولد من أم بدون أب، فتترتب عليه آثار الأمومة لا الأبوّة، إذا كان بالإمكان أن يؤخذ من خلية أنثى وليس من خلية مزدوجة من الرجل والمرأة.
لقد قلنا فيما سبق أننا لا نستطيع أن نحكم بحليّة الاستنساخ أو حرمته إلا من خلال النتائج السلبية أو الإيجابية، فإذا كانت إيجابية فنحم بحليّته وإذا كانت سلبية فنحكم بحرمته.
سلطة العم على أولاد أخيه:
ـ هل للعم سلطة على أولاد أخيه؟
ـ ليس له سلطة على أولاد أخيه إلا إذا كان وصياً عليهم، فالسلطة إذا مات أبوهم للحاكم الشرعي أو لجدهم لأبيهم إذا كان موجوداً.
استخدام صحون الجيران:
ـ هل يجوز استخدام الصحون التي يجلبها الجيران مليئة بالطعام، كوضع الطعام فيها، وماذا لو لم نكن نعلم من الذي جلبها؟
ـ إذا كنا نعلم من جلبها فإنه قدم لنا الطعام لنأكله ونرجع الصحن إليه، أما أن نستعمله فلا بد أن نحرز رضاه في ذلك.
وأما إذا كنا لا نعلم من ج لبها فإنه يصبح مالاً مجهول المالك ولا بد أن يرجع فيه إلى الحاكم الشرعي.
الاستئذان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ـ هل يستوجب الاستئذان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الحاكم الشرعي في دول لا يطبق فيها الحكم الإسلامي، وإذا لم يكن كذلك، فمن ذا الذي يقوم بذلك؟
ـ من حيث المبدأ لا تحتاج فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاستئذان من الحاكم الشرعي، ولكن عندما يصل إلى حد الجرح أو الضرب فقد يحتاج إلى استئذان الحاكم الشرعي.
تقليد البضائغ:
ـ ما حكم تقليد البضائع بأن تحمل سلعة معينة كعطور أو مواد غذائية أو ملابس (ماركة) أو علامة أجنبية، وهي في الواقع محليّة؟ وما حكم المعاملة في مثل هذه الحالة؟
ـ المعاملة حرام لأنها غش وليس منّا من غشّنا، وربما تكون المعاملة باطلة، لأن المشتري يريد البضاعة الأجنبية وأنت تبيعه المحلية، فما قصده لم يقع، وما وقع لم يقصده.
المتاجرة بين المسلمين واليهود:
ـ هل تجوز التجارة بين المسلمين واليهود المحتلين لبلادنا الإسلامية؟
ـ لا تجوز التجارة مع أي يهودي إسرائيلي بمعنى الجنسية أو أن يقوي إسرائيل أو يتعاطف معها، وذلك لأن أي نوع من أنواع التجارة يمثل قوة لهم، ولا يجوز للمؤمن أن يقوّي أعداء الله اقتصادياً، كما لا يجوز له أن يقويهم عسكرياً وسياسياً، لا سيما ونحن في حالة حرب معهم، وقد ألف بعض اليهود عصابة لجمع المال تحت شعار "ادفع دولاراً تقتل عربياً"، فمن يدفع أي شيء لليهود بحيث يكون ربحاً تجارياً لهم فمعنى ذلك أنه يساهم في شراء رصاصة يقتل بها اليهودي من شاء من المسلمين أو من العرب.
حصة انتقال لاعب:
أنا لاعب كرة قدم في إحدى الأندية الأوروبية، وسأنتقل إل نادٍ أوروبي آخر، ولكن هناك مبالغ طائلة تدفع للناس الجديد لقاء هذا الانتقال، وسأحصل عل نسبة من ذلك المبلغ، فما هو حكم هذا المال؟
ـ لا مشكلة شرعية في ذلك، لأنك تأخذ جزاء عملك، ولذا فهذا ليس قماراً، فالذي يدخل النادي الجديد يعطى جائزة وليس في ذلك بأس.
تؤدي الفرائض ولا تؤمن بالحجاب:
ـ أنا متزوج من فتاة غير محجبة، وكلما تكلمت معها حول الحجاب تقول إنني غير مقتنعة بالحجاب، علماً أنها تصلي وتصوم، فهل يجب عليّ طلاقها؟
ـ لا يجب طلاقها، ولكن عليك أن تُفهمها أنها طالما تصلي وتصوم وتلتزم بباقي العبادات فعليها أن تلتزم بما يصون عفافها، لأن حجابها وسترها واجب عليها أيضاً، وأننا في الأحكام الشرعية ليس من الضروري أن نقتنع بهذا الأمر أو ذاك {وما كان لمؤمن لا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}( )، فما دام الأمر قد جاءت به الشريعة فيجب عليها أن تلتزم به.
الخواتم التي فيها لفظ الجلالة:
ـ هل يجوز لنا بيع الخواتم المنقوش عليها لفظ الجلالة واسم النبي(ص) وأهل البيت(ع) لمن نعلم بعدم مراعاتهم للطهارة مثل الوضوء لأنها ليست من مناسكهم؟
ـ يجوز لنا أن نبيعها لهم، ويبقى تكليفهم في مراعاة الطهارة، إذ يجب علينا أن نقول لهم بأنه لا بد للمس اسم الله أن يكون الإنسان على طهارة، وإذا لم يفعلوا فلسنا مسؤولين.
المتبرِّع لامرأة بعضو:
ـ إذا تبرّع رجل لامرأةٍ ما بدم أو كلية أو أي عضو، فهل تصبح أخته كما في الرضاعة؟
ـ لا تصبح أخته.
عاشراً ـ القسم والنذور
صيام شهر نذراً:
ـ نذرتُ صيام شهر نذراً وتحقق شرط النذر، فهل يجب عليَّ صيام شهر كامل متتابع، أم يمكنني أن أصوم متقطعاً على عدد أيام الشهر؟
ـ النذر يتبع قصد الناذر، فإذا كانت الفكرة في ذهنك عندما نذرت أن يكون الشهر كاملاً متتابعاً فعليك أن تفي به كما قصدت، وإذا كان في ذهنك ثلاثون يوماً فلك أن تصوم الشهر متقطّعاً، فالمسألة ليست في كلمة الشهر بل ما قصدته بالنذر.
قسم بتدخيرن محدود:
ـ لو أقسمت وعاهدت الله على أن أدخن خمس سجائر في اليوم، ولكنني دخّنت أكثر فهل عليّ أن أفي بقسمي؟
ـ هنا في هذه الحالة عليه أن يفي بقسمه وبعهد الله سبحانه وتعالى، فإذا أقسم أن لا يدخن أكثر من خمس سجائر فلا يجوز له تدخينه أكثر من ذلك التزاماً بالقسم أو بالعهد.
قَسَمْ لمقاطعة مدخّن:
ـ قبل أيام قلت لأخ زوجي أن يترك السجائر لأنه يؤثر على الصحة، وأن التدخين حرام أيضاً ووافقني على ذلك، وأقسمت بالله أني إذا رأيته يدخن فلن أكلّمه، وبعدها عاد إلى التدخين، فقلت له أقسمت أن لن أكلمك ورمى السيجارة، فهل لي الحق في منعه وما قولكم في قسمي؟
ـ هذا القسم غير مشروع، لأنه لا يجوز القسم بهذه الطريقة، ذلك لأن القسم يجب أن يكون راجحاً، أما عدم التكلم مع الشخص أو عدم التعامل معه، فلا يعتبر سبباً راجحاً للقسم، والطريقة الأحسن هي قوله تعالى: {ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة} أي أن تضغطي عليه باللطف والكلمات الحلوة بأنك أخطأت هذه المرة، وإن شاء الله سوف لن تخطئ في المرة القادمة وأنّ تركك التدخين يدلّ على قوة إرادتك وما إلى ذلك.
الوفاء بنذر متوفاة:
ـ نذرت والدتي أن تذبح خروفاً قبل وفاتها لابنتها المريضة، فهل يجب عليَّ أن أفي بهذا النذر باعتباري وارثاً لها؟
ـ إذا كانت والدتك قد نذرت نذراً تحقق في حياتها ولم تفِه فعليك أن تفي بذلك.
الفهرست
المدخل
الباب الأول: المحاضرات
المحاضرة 1: الإيمان الحق
مصطلح المؤمن
مفهوم الإيمان في القرآن
المعرفة زيادة في الإيمان
عنوان التوحيد
صفة التوكّل
بين التوكل والتواكل
الشرك العملي
ربط الإيمان بالتسليم
مقوّيات الإيمان
المحاضرة 2: الإيمان الصادق
العناصر الحيوية في مصطلح "المؤمن"
الإيمان وعدم الارتياب
الجهاد في سبيل الله
حاجات الأمة الأساسية
الجهاد العقلي
العالم مبادر
الجهاد العلمي
مفهوم الأمة والمجتمع
الراحة حرام
الجهاد بالقوة
الجهاد بالنفس
صدق الإيمان
المحاضرة 3: صفات المؤمن في سورة (المؤمنون)
مفهوم الإيمان مرة أخرى
سرّ الفلاح
الصلاة مدرسة داخلية
الممارسة اليومية للإيمان
من مواقع التفكير
أم الكتاب
الإعراض عن اللغو
فعل الزكاة
المؤمن عفيف
مراعاة الأمانة والعهد
الابتداء والانتهاء بالصلاة
من هم الوارثون
المحاضرة 4: ولاية الكافرين
عوداً على بدء
الموالاة لمن؟
لون من ألوان النفاق
ابتغاء العزّة
تشديد النكير
الفكرة في إطار التجربة
التقية مسألة إنسانية
وحي الانفعال
التحذير من الله
المحاضرة 5: الأخوّة الإيمانية
الأخوّة الإيمانية
العلاقة النسبية
مشتركات الإيمان
عمق العلاقة الإيمانية
حقّ الأخوّة
العلاقات الأخرى
احترام الخصوصيات
منهج عقلي
التدرّب على أخلاق الجنّة
المحاضرة 6: ولاية المؤمنين
المؤمنون والمؤمنات
الولاية بين المؤمنين نتائج الولاية
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نماذج نسويّة مشرّفة
الدور الحركي للمرأة
مهمة التغيير مشتركة
المساواة بين الجنسين
مثلان
الحجاب ليس حاجباً
أهمية دور الأمومة
الجزاء والجائزة
الالتفات إلى حركة الواقع
المحاضرة 7: في واحة السلام (رجب) وذكرى إمام السلام، الباقر(ع)
مناسبتان كريمتان
واحة سلام
روحية السلام
الدخول الواعي في رجب
مولد الإمام الباقر(ع)
التراث الغنيّ الواسع
الدنيا سوق
اتقِ الله
عمق الإيمان
الرفق قفل الإيمان
تعريف المؤمن
صفة الشيعة
معنى استعادة الذكرى
المحاضرة 8: في ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع)
ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع)
ليس في الإسلام طبقية
العقدة من الأئمة(ع)
الهادي المرشد
السلسلة الذهبية
استيحاءات النص
حقيقة وجوهر الإيمان
قيمة العقل
العقل حجة
العقل مقياس تأويل القرآن بغير معناه
نسبة الأحاديث لأهل البيت(ع)
الموقف الصارم الحازم
الزمن البريء
القرآن المتجدد
المحاضرة 9: كيف نولد في مولد الإمام علي(ع)؟!
علي وابنته
وليد الكعبة
أول بيت في الإسلام
جهاد موصول
في بيت الله ثانية
كيف يفكر علي(ع)؟
السياسة في فهم علي(ع)
الحق الممزوج بالباطل
في واقعنا الراهن
نشوء الفتنة
ختامها موعظة
معه في مناجاته
المحاضرة 10: زينب(ع) نموذج التحدي من أجل الحق
لماذا ذكرى زينب(ع)؟
الحاجة إلى النماذج النسوية
زينب(ع) قيمة إسلامية
كربلاء نموذج حركي
لقطات نم حركة السيد زينب(ع)
موقفها الجهادي في الكوفة
المحاججة القاطعة
الروح الكبيرة
ذورة الموقف في الشام
ظاهرة السبي
الانتصار المادي
الطعن في عدالة يزيد
التأثير في الجمهور
استصغار يزيد وتحقيره
درس زينب(ع)
المحاضرة 11: في ذكرى المبعث، السيرة النبوية في القرآن
المبعث والإسراء والمعراج
مهمة الرسول(ص) الأساس
الجوّ القرآني
مهمة التزكية
مهمة الحكم بين الناس
صفة النبي(ص) الإنسانية
ربط الناس بالرسالة
حديثه مع الناس
الأنبياء أُرسلوا بالعقل
السراج المنير
أخلاقه العملية
حرصه على الناس
صبره على الأذى
التحديات الراهنة
تعلّموا دينكم
الراحة حرام
المحاضرة 12: التوافق بين قول المؤمن وفعله
عودة إلى عناصر الإيمان
تطابق القول والفعل
عقل واحد وقلب واحد
مقت الله
التربية من أجل التوافق
نموذجان
النموذج الآخر
في الخطين: الاجتماعي والعملي
المحاضرة 13: في ذكرى مولد الإمام المهدي(عج)، معطيات الغيبة
مولد الإمام المنتظر(عج)
الإيمان بالمهدي(ع)
غيب من غيب الله
طول العمر
دورنا في الغيبة
هل نجمّد الإسلام؟
دراسة الساحة
شمولية الإسلام
العدل الشامل
العدل على صعيد الحركات
الدعوة إلى الانفتاح
المحاضرة 14: المجاملة في الدين
في القيامة: المسؤولية فردية
لا أنساب يومئذٍ
العصبية
الحالة الصنمية
راقبوا الله
تزيين الشيطان
علم الإنسان
هاجس الموت
رضوان الله تعالى
المحاضرة 15: شهر رمضان شهر الانفتاح على السنة كلّها
لماذا العبادة؟
لا ضياع ولا عبث
الاتصال بالله ربّ العالمين
الصلاة حركة ثقافية
تأصيل الرفض
الرفض السياسي
الصوم كإرادة
عبادة الله
الحج حركة جامعة للعبادات
الدعاء حديث مع الله
في رحاب الضيافة الربانية
المحاضرة 16: كيف نعيش السنة في معنى رمضان؟
جولة رمضان الروحية
معراج الصلاة الروحي
صيام وقيام
أدعية شهر رمضان
استحضار الفيوضات
امتزاج الفكر بالروح
الحاجة إلى الزاد الروحي
الدعاء مسؤولية
الجذب الروحي
المحاضرة 17: الفرح الكبير
الفرح الكبير
استنطاق القرآن
الفرح بمصائب الآخرين
الفرح الشاغل عن المسؤولية
الفرح بغير الحق
فرح الأحزاب المتقطّعة
الفرح القاروني
الزهد في الحياة
منهج السرور والحزن
الفرح الحقيقي
فرح العيد
المحاضرة 18: إيحاءات وقعة (أُحُد)
في ذكرى موقعة أُحد
نصر وهزيمة
الاعتراف بنقاط الضعف
قصة الواقعة
رأي النبي(ص)
سبب الهزيمة
الرأي النقدي التحليلي
المؤمن لا يضعف أمام الانكسار
الأخذ بأسباب النصر
سنّة التمحيص
حضور الرسالة
إرادة الدنيا والآخرة
الموقعة المميزة
المحاضرة 19: في ذكرى الإمام الصادق(ع)، العلماء الواعون والأمة المسؤولة
المناسبة الكبيرة
المدرسة الصادقية
الكفر الموسوعي
الإمام الصادق(ع) أستاذنا
الفقيه في نظر الصادق(ع)
الفقيه والكاتب
التأكيد على ضرورة المعرفة
أهمية السؤال
أهمية الكتابة
العلم مسؤولية العالم
التركيز على القرآن
خالطوا الناس
نداء الإمام الصادق(ع)
المحاضرة 20: إيحاءات معركة (الخندق)
ذكرى معركة الخندق
مع سير المعركة
عقدة الفواصل
قصة التحالفات
العداوات بين المسلمين
الثقة بالله
انتهازية المافقين
خطة المسلمين
مقتل رأس الشرك
حوار علي(ع) مع عمرو
عليّ الإيمان كله
المدد الإلهي
الدروس المستفادة
المحاضرة 21: كيف يصنع الإنسان المسلم نفسه إسلامياً؟
صناعة الشخصية الإسلامية
مرحلة البحث والتفكير
المستضعفون الفكريون والعقيديون
الحب المعقلن والمثقف
المنهج المتخلّف
كتاب الحياة
لنصنع أفكارنا
جلسة للفكر
المحاضرة 22: في مولد الإمام الرضا(ع)، لا تشتغلوا بتمزيق بعضكم بعضاً
ولادة الإمام الرضا(ع)
ولاية العهد
مكانته العلمية
استنطاق أحاديثه
تجدد القرآن الدائم
نجاة القرآن من التحريف
وصايا إلى مواليه
كيف نجادل بعضنا بعضاً؟
إقبال المؤمنين على بعضهم
حُسن الخلق
الاحتفال بالإمام الرضا(ع)
المحاضرة 23: في رحاب الحج
فريضة الحج مشقة تعقبها السعادة
بدايات التأسيس
صلاة إبراهيم(ع)
تطهير البيت
التمنيات الإبراهيمية
الثبات على الإسلام
ملّة إبراهيم
التسليم المطلق
أمة قد خلت
البيت العالمي
ذكر الله وتقوى الله
دعاء الدنيا والآخرة
حصاد الحج
المحاضرة 24: في بيعة الغدير، الولاية استكمال للمشروع الرسالي
بيعة الغدير
آية التبليغ
الولاية استكمال للمشروع الرسالي
أهلية عليّ للخلافة
مرحلة التلقي
الملازمة
حركة الرسالة أهم من الإمارة
لو وليها عليّ(ع)
رسالة لا حكم
قيمة علي(ع)
دروس الغدير
المحاضرة 25: في رأس السنة الهجرية وذكرى عاشوراء
التقاء المناسبات
رأس السنة الهجرية
جرد حساب
في الجانب الرسالي
مراقبة الإسلام في مواقعه
الانشغال بتمزيق الإسلام
في الواقع السياسي
مشكلات عالمنا الإسلامي
أمثال يجب أن لا تنسى
الهجرة
إيحاءات الهجرة
الحسين(ع) وكربلاء
المحاضرة 26: الإمام الحسين(ع) رسالة شاملة ورمز للوحدة
مأساة كربلاء
المأساة في خط القضية
قراءة في وثائق الثورة
الظالم ومشروع الظالم
السلطان الجائر في الواقع
تغيير الإمام الحسين(ع) للواقع
مواقف الإمام الحسين(ع) الوعظية
نموذج (عمر بن سعد)
نموذج (الحر الرياحي)
الحياة لأجل الرسالة
الحسين(ع) رسالة شاملة
عاشوراء لكل المسلمين
الحسين(ع) رمز الوحدة الإسلامية
وصية الحسين(ع) الأخيرة
المحاضرة 27: النيّة
النيّة
القيمة هي في النيّة
التوحيد في العقيدة
التوحيد في الطاعة
الإخلاص لله
النيّة في الأحاديث
أثر النيّة في القيامة
قيمة الأعمال
نية القربة إلى الله
النية في كل شيء
النية في الأدعية والوصايا
تربية الجوّ الداخلي للنفس
محطة قرآنية
المحاضرة 28: في ذكرى وفاته، الإمام زين العابدين(ع)، الصلب العزيز
ذكرى الإمام السجاد(ع)
التجربة الأموية
حياته مع أبيه(ع)
الصلب في مواقفه
حزن السجاد(ع)
طريقته في تأجيج الحزن
خلال مدة إمامته
شهادات معاصريه
تراثه المتنوّع
منهج الدعاء
رسالة الحقوق
قرآن يتحرك
الباب الثاني: مسائل الندوة
الفصل الأول: المسائل القرآنية
أولاً: التفسير
موازنة الوجل والاطمئنان
الهداية بعد الاستشهاد
اللغو في الأيمان
مكر الله
تحريم النبي(ص) بعض الأشياء على نفسه
لسان الصدق
الفواحش الباطنة
الموت مسلمين
انصراف "الإثم" إلى الضرر
التوبة على النبي(ص)
حبّ الشهوات
المساجد لله
إلباس الحق بالباطل
هدىً للمتقين
فرح المخلّفين
علم أهل الذكر
أي العلماء هم؟
ثانياً: مسائل عامة
الاقتران بطاعة الله
خطاب القرآن للزوج دون الزوجة
الخطاب إلى المؤمنين تحديداً
عاطفة نوح إزاء ابنه
بين البيت وساحة الصراع
أقسام الوحي
مداولة الأيام بين الناس
التوفيق بين رأي ورواية
إجابة القرآن عن الإشكالات الفلسفية
قرآن الفجر والصلاة الوسطى
تقطيع الآية الكريمة
كتابة القرآن الإملائية
الترابط ين آيات القرآن
نزول القرآن إلى السماء الدنيا
الدورة الشهرية ليست عائقاً
كراهة قراءة القرآن للحائض
المنّ على المستضعفين
هل المتعة منسوخة؟
أحكام التجويد لدى الرعيل الأول
الحاجة إلى علم التفسير
الفصل الثاني: المسائل العقيدية
ظاهر الشيعة وباطنهم
الإيمان قناعة أم شعور؟
بين الإحسان والعرفان
احترام الكتب المقدسة
"التولّي" و"التبرّي"
شرح الصدر وتضييقه
الجاهل القاصل
ظاهرة إسلام الأوروبيين
توحيد إبراهيم الاحتجاجي
العلاقة بين المبعث والإسراء والمعراج
كفر النعم
حول آدم وإبليس
الفرق بين العصمة والعدالة
التطابق والتناقض والتقية
دخول النار الإرادي
رحمة الله تعالى
دعوة من الفاتيكان
أخذ الإسلام كله
لماذا المشاكل؟!
تدخّل الله في النصر
علم الله بالأشياء
تجسّد الأعمال
الموت رحمةٌ أو عذاب؟
ذنب ابن الزنا
المستضعف الفكري والعقائدي
الدين والعقل
عبادات ما قبل الإسلام
عادات لا أصل لها
بين الغيب والأدلة العقلية
اكتشاف جهنّم
هل الموت عامل تثبيط؟
الفصل الثالث: مسائل السيرة
كتب السيرة النبوية
اجتهاد النبي(ص)
النبي(ص) الرسول والحاكم
هل يخشى الرسول(ص) أحداً؟
حديث (الجهاد الأكبر)
بين النبوّة والإمامة
أهل البيت(ع) أمان للأمة
ولاية المعصوم وإمامته
الاقتراب من أهل البيت(ع)
الإقناع بآية البيعة
دليل إمامة علي(ع)
سرّ الانجذاب السحريّ لعلي(ع)
أسباب إخفاء حديث الغدير
الغدير البداية أم النهاية؟
مرض الشكّ في زمن الإمام علي(ع)
هبات الأئمة(ع)
عوامل الثورة الحسينية
تحقيق الحسين(ع) لهدفه
ثأر الله
العاطفة في النهضة الحسينية
مبرر نهضة الحسين(ع)
ثورة الحسين(ع) والفكر التغييري
ثورة الحسين(ع) ومواجهة التحديات
لماذا لم يقاتل الحسين(ع) الحرّ؟
دروس الحسين(ع) للشباب
موقف العلماء من السبي
جارية السجّاد(ع) وكظم الغيظ
دور الإمام الصادق(ع) السياسي
غزارة علم الإمام الصادق(ع)
ذكرى الصادق(ع) وطلبة الحوزة
الحوار حول المهدي(عج)
يملأ الأرض عدلاً
شرط انتشار الظلم
أمر من الله
مناقشة "المهدوية نتيجة القهر"
من لا يؤمن بالغيبة
الفصل الرابع: المسائل الفكرية
المنهج العقلي في الاستدلال
الصدر الفيلسوف
الفكر أم الذين يحملونه
تصورات للتقريب بين المذاهب
دور الجامعيّ في التغيير
"العشماوي" وحقيقة الحجاب
الاستفادة من الهجرة
صياغة نظرية اجتماعية إسلامية
الحاكم المستبد العادل
هل المرأة عورة؟
المرأة والمسجد والإمام الخميني
تأسيس الحسينيات
ترشيح المرأة للشورى
غضب الدعاة
من تحديات المهجر
الموازنة بين العاطفة والفكر
موقف الإسلام من الحيادية
المقصود بـ"الراحة حرام"
مناقشة "الدين أفيون الشعوب"
قدرة الدين على إدارة الحكم
المشروع الحضاري الإسلامي
التنظير للانفتاح
أيّ الفلسفة مرفوض؟
مسايرة النظام الدولي
الارتقاء بالخطاب الإسلامي
موقف الإسلام من العولمة
معرفة الحق
الموقف من الزواج المدني
إنجازات الثورة الإسلامية في إيران
ما غُزي قومٌ..؟
ارتداء الحجاب بلا قناعة
واجباتنا في هذا العصر الخانق
منع النساء من المساجد
إدخال الكومبيوتر إلى الحوزات
كيف نواجه الغزو الثقافي؟
الدراسة الأكاديمية أو الدينية
علمانية الإسلام
قيم الجهل
دور طلبة الجامعات
الإضراب عن الطعام
ثقافة الاسترخاء والترف
الفصل الخامس: المسائل التربوية
من علامات المتقين
الجائز ولكنه ليس من الأخلاق
ضيوف في أوقات حرجة
محجّبة بين سافرات
شقق لممارسة المنكرات
مفهوم العزلة
عدم إتقان قراءة القرآن
لا يتحمل أخطاء الآخرين
طاقات الشيخوخة
جارٌ مؤذٍ
التشهير بكاتم الشهادة
ضعف العلاقات بين المهاجرين
أنانية أم ماذا؟
إيثار ولد بأعطيةٍ ما
تربية الأبناء في الأجواء المنحرفة
خلاّقة مشاكل
مسؤولية انحراف الأبناء
صلة الأب المتوفّى
أثر البيئة على الاستقامة
أسلوب التفاهم مع الزوجة
الاختلاف في الرأي
الأجواء المضعفة للهمم
هل المكروه منكر؟
المناجاة الشعبانية
العرفان في دعاء عرفة
السلام بعد الهجر
الخوف من الرأي العام
إشكالية الازدواجية
تقليد الشباب للغرب
نيّة السوء
سوء الظن
صوم الجوارح
تمثيل حركات وأصوات الآخرين
أدعية التوفيق إلى الحج
الطريق إلى هداية الازدواجي
تركيب الهوى
نكران الذات
التوفيق الإلهي
توظيف الخادمات الآسيويات
الانحراف قبل البلوغ
دعاء المؤمن في ظهر الغيب
مرتكب سوء الظن
الطاعة لمن يسدّد
رفض تحية العيد
الأمور المشكلة
أية واقعية؟!
الموقف من أهل المعاصي
قبول الأعمال بقبول الصلاة
الإخلاص في الطاعة
الفرق بين الصغائر والكبائر
علامات قبول التوبة
كره المؤمن أو عمله السيِّئ؟!
دور الفطرة في التربية
تحصين اللاجئ
الكبائر من الصالحات
التقوى الوقائية والعلاجية
التشخيص بالنظر
طهارة القلب
العبادة النفسية
حالات اللجوء إلى الغرب
الفصل السادس: المسائل الفقهية
أولاً: المرجعية والتقليد
ثقافة المرجع غير الفقهية
اعتماد خطّ المرجعية فقط
المرجعية الدينية كقيادة سياسية
تصدّي العلماء لتحديات الواقع
المرجعية والقومية
مصادر التشريع لدى الشيعة
توحيد الفقه الإسلامي
تأجيل تطبيق الأحكام
الدليل على إرجاع الحقوق للمجتهد
جدوى علم الأصول
رفض القياس
الأخذ بخبر الثقة
بين الأخذ والعطاء
بقاء وعدول
بين الحوزة والحياة الزوجية
تقسيم الحاكم الشرعي
ضوابط التبليغ الإسلامي
أين المجتهدات؟
ثانياً: النجاسات والطهارات
حيض في سنّ الـ(13)
الحائض في المصلّى
الوضوء للاستحاضة القليلة
طهارة المني عند السنّة
استحالة مادة الجلاتين
أصالة الطهارة والحليّة
تذكية جلد المذبوح بطريقة غير شرعية
غسلة أم غسلتان؟
تنجس الآلات الدقيقة
النداوة المحضة
المشتركات بين النجاسات
اعتبار كل شيء نجساً
غسل الساعد في الوضوء
ماء غسل الجنابة
السوائل الخارجية بعد الغسل
الحكم بالطهارة
قيء الطفل
ثالثاً: الصلاة والإقامة
الائتمام بالزوج
الصلاة في غرفة مشتركة
رخصة القصر والإفطار
سقوط النوافل في السفر
السجود على القرطاس والقماش
السجود على جبهة مجروحة
العجز أثناء الصلاة
الجماعة والجمعة للمرأة
كثير السفر
تكرار أفعال الصلاة
الكاسيت بدل المؤذن
إقامة صحيحة
التورّك حال التشهّد
في جوار جامع
ملامسة الراحة للأرض عند السجود
الذكر الواجب والمستحب في الصلاة
الإقامة في مشروع بناء
البالغ غير المختون
نهار بأربع ساعات
صلاة المعوّقة
قصد القربة
السرّ في اختلاف الركعات
نيّة الصلاة
إسقاط القيام بعد الركوع
مسائل في صلاة الجمعة
الصلاة في مساجد السنّة
عدم النهوض لصلاة الصبح
إذا سبق المأموم الإمام
رابعاً: الصيام والكفارات
صوم الحيّ عن الحيّ
صيام عشرين عاماً
الجمع بين الواجب والمستحب
استحباب والذمّة مشغولة بالواجب
صيام غير المكلّف
اعتماد رؤية المجهر
صيام النذر في رمضان
تنظيف الأسنان أثناء الصوم
التبعية الزوجية
خامساً: الخمس والزكاة
الخمس في الغنائم
إحياء المناسبات المذهبية من الحقوق الشرعية
الضرائب ليست حقوقاً
خمس لم يدفع
تدوير خمس
مال الخمس لنشر الفكر الإسلامي
الحقوق الخاصة بالعراقيين
كمية الذهب المشترى
الخمس والزكاة لتقوية المسلمين
من لا يدفع الخمس
تخميس كتب الحوزة
المدين وزكاة الفطرة
الفكرة في منطقة ليس فيها محتاجون
متى تخمّس الهدية
سهم الإمام للتبليغ
اعتبار دين زكاة
احتساب دين من الخمس
الخمس من الأرباح
الصدقة بالنسبة للهاشمي
احتساب الدين من الزكاة
إعطاء الولد من الخمس
تخميس بين مشترى بمال مقترض
سادساً: أموال وبنوك
راتب المتوفّى لمن؟
الذهب الموهوب
الوصية إيقاع
التصرّف بأموال القاصرين
بيع الذهب الخام
الإجارة في العبادات
نفقة من مال محرّم
مسألة في الإرث
أمد الإنفاق على الإبن
الوصية للوارث
الوصية بأكثر من الثلث
حكم الوصية
قرض في مقابل قرض
راتب اللاجئة لها
توريث من لا يستحق
إشكالية مال الإبن
قبول نفقة
الزيادة في الربا
خيارات
راتب الزوجة الموظفة
الإيداع في البنوك المحلية
إهداء راتب الزوجة لزوجها
أسئلة في الربا
المطالبة بضمان أمانة مسروقة
تصالح على زيادة
صرف مبلغ مودع للتشغيل
خمس بأربع
سلفة بربح
صدقة عن الجنين
هدايا الأماكن المحرمة
دفع الأقساط دفعة واحدة
الصدقة حسب المظهر
المطالبة بسداد قرض مجهول
دين بذمة ميت
مخالفة اتفاق
تملّك أشياء متروكة في سيارات الأجرة
شرط الوصية
تحميل الدين المؤجّل فائدة
نقداً وأقساطاً
سابعاً: الحج
تبرّع مع الاستطاعة
اقتراض مال لأداء الحج
حد نيابة في الذمّة
ليل المبيت في منى
حجّ الإسلام
فلسفة المناسك
تقسيم الأضحية
بذل مع استدانة
معوقات مناسك الحج
تطوير مناسك الحج
تشريع الحج لغير المسلمين
شعائر الحج في الجاهلية
الوقوف الاضطراري في المشعر
حلق أم تقصير؟
المبيت في مِنى
تنظيف أسنان المحرم
نيابة عن مريض
حجّ استحبابي
هل هذه استطاعة؟
إحرام في غير المواقيت
تعقيد المناسك
من لم يطف طواف النساء
حلق في مكة
في التظليل
ستر العورة في السعي
منطقية المناسك
الحج عدة مرات
توزيع أضحية
ثامناً: الزواج والطلاق
أجور عقد القران
صحبة الزوج لزوجته
التفريق بين المرء وزوجه
حبس الزوجة
طلاق إجباري
إجبار الكنّة على العمل
المماسّة المباشرة
زواج في الكنيسة
دائم قبل انتهاء المنقطع
الطلاق في بلديات المدن الغربية
تزويج الابن من ربيبة الأب
العدة بعد الفراق
شروط الزواج بأربع
تولّي طرفي العقد
كفّارة المقاربة أثناء الحيض
الزواج بمعتدّة
زواج بالهاتف
وماذا عن المهر؟
خروج بلا إذن
زواج شرعي
استئجار الرحم
تاسعاً: السلوك والمعاملات
نقل القبور
جهاد الشباب
شراب مشكوك فيه
التبرّع بمواد محرّمة
الاختلاط المحرّم وغير المحرّم
التبرّع بالعين أو الكلية
أجرٌ دون حجم العطل
التلاعب بالضمان الصحي
النظر إلى الأستاذة المتبرّجة
ملابس نسيها صاحبها
شراء منتوجات صهيونية
الطير المحتضر
تعليق الصور في المساجد
الموت الرحيم
الخوف على الجنين
بيع وشراء المجهول وزناً
دفن ميت في قبر ميت آخر
مهنة تصليح الأجهزة السمعية والبصرية
أجور الكهرباء
استعانة المسلمين بالمشركين
سيارة مسروقة
وصية بالدفن مع ميت آخر
مصير الجرائد التي تحمل اسم الجلالة
مصير الإعلانات التي تحتوي على الآيات
حدود إجازة الغناء
تعذيب المتهم لنزع الاعتراف
استنساخ الموتى والمنقرضين
سلطة العم على أولاد أخيه
استخدام صحون الجيران
الاستئذان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تقليد البضائع
المتاجرة بين المسلمين واليهود
حصة انتقال لاعب
تؤدي الفرائض ولا تؤمن بالحجاب
الخواتم التي فيها لفظ الجلالة
المتبرّع لامرأة بعضو
عاشراً: القسم والنذور
صيام شهر نذراً
قسم بتدخين محدود
قسَم لمقاطعة مدخّن
الوفاء بنذر متوفاة