النــــــــدوة
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة

إعداد عادل القاضي

الجزء الخامس

دار الملاك

حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الثانية
1421هـ ـ 2000م
 
بسم الله الرحمن الرحيم

آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ـ دام ظلّه ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

هل أن ما ورد في كتب (الندوة) التي تصدر تباعاً من مسائل فقهية في الباب المعنوَن بذلك مطابقٌ لفتاواكم، أي هل يمكن العمل بهذه الفتاوى على أها من صلب رسالتكم العملية، وهل هي مبرئة للذمّة؟ والسلام عليكم.

     المعدّ
عادل القاضي


إنّ ما ذُكِر من الفتاوى الشرعية في كتاب الندوة، موافق لفتاوانا الفقهية، ويجوز العمل بها وهو مبرئٌ للذمّة إن شاء الله.

محمد حسين فضل الله
8 صفر 1420هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
ثقافة السؤال
في أولى خطواته في الكون وجد الإنسان نفسه محاطاً بعدد كبير من المجاهيل، ولكي يحلّ تلك المجاهيل راح يوجّه أسئلة كثيرة تبدأ منه ولا تنتهي عند حدّ.. فهو ما أن يلتقي بجواب على سؤال محيّر حتى تواجهه أسئلة جديدة.. وبين قلق الأسئلة والبحث عن الإجابات وجد الإنسان لذة المعرفة.
غير أن العثور على الأجوبة لم يكن دائماً جرّاء بحث الإنسان وسعيه الذاتي، فبعد أن تطوّرت تقنيات الحياة أضحى الكتاب ضالّة المفتشين عن المعرفة، ثم تطوّرت أساليب الاتصال أكثر ليصبح فكّ المجاهيل وفتح أبواب الأسئلة المغلقة مسوراً عبر أكثر من قناة.. لكنّ قناة واحدة ظلّت الأكثر قدرة على توفير الإجابات السريعة والمقنعة، وهي الاتصال المباشر بين الإنسان ـ كطالب للعلم وبينه كعالم او معلّم ـ ففي لقائهما تتذلل الصعوبة وتتفتح المغاليق ويخرج الإنسان الحائر من ظلمات الجهل إلى نور العلم ما بقي سؤلاً، فهو لا يدع سحائب الجهل ترين أو تخيّم إلا ويبددها بأسئلته الرامية إلى الوقوف على الحقيقة التيلا حظ ـ من خلال تجاربه الطويلة ـ أنها بنت البحث والحوار.
كتاب الله (الذي لا يأتيه الباطل) قدّم لأبنائه وقرّائه ثقافة واضحة وغنيّة عن السؤال من خلال معالجات ميدانية تطبيقية، ونأى عن الأسئلة الجدلية أو الترفية التي لا تشكل غنًى ثقافياً أو معرفياً للإنسان، الأمر الذي يحدّد لنا منهجية البحث عن المعرفة.
وهذه قراءة سريعة في الخطوط العامة لمنهج القرآن في طرح الأسئلة المتطلّعة إلى الإجابة التي تسدّ حاجة هنا وحاجة هناك من حاجات الإنسان الأساسية.
فالقرآن الكريم ميّز بوضوح بين (السؤال النافع) و(السؤال المترف) وبالتالي فهو يفرّق بين (العلم النافع) وبين (ترف العلم) فحينما يوجّه المسلمون أسئلة حياتية تقع في الصميم من الاهتمام الإنساني مما يؤثّر سلباً أو إيجاباً على السائلين، تأتي الإجابة لا لتقدّم حلاً لمشكلة ذاتية يعيشها السائل فقط، بل لتعطي إجابة يمكن تعميمها على كل من يُبتلى بالمشكلة في مدى الزمن.
فإجابات القرآن إذاً للنفع البشريّ العام، وإن تحددت أسئلتها في أطرٍ خاصة، وهذه بعض الأمثلة والشواهد:
ـ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}( ).
ـ {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ}( ).
ـ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}( ).
ـ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}( ).
ـ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}( ).
ـ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}( ).
ـ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}( ).
ـ {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}( ).
فالسائلون هنا يسألون (تفقّهاً) لا (تعنّتاً) كما في الرواية عن الإمام أمير المؤمنين(ع)، ولذلك فنحن أمام أسئلة تمتد إجاباتها في مجرى الزمن كلّه، وما ذاك إلا لأنها حاجات أساسية غير مرهونة بزمن معيّن أو مشكلة طارئة.
وأما حينما تكون الأسئلة من نوع "علم لا ينفع من علمه ولا يضرّ من جهله" بل حتى لو كانت من الأسئلة الكبيرة جداً، ولكنّ البحث فيها لا يفضي إلى نتائج حاسمة، إما لعجز في القدرة البشرية على إدراكها والإحاطة بها، أو أن علّة إخفائها أو السكوت عنها ناتجة عن حكمة إلهية شاءت أن يكون الخفاء أو الغيب هو الردّ الذي لا يضطهد الفكر أو يمارس الحجر عليه، إنما يقول للسائلين إن سؤالهم سيبقى بلا إجابة حتى لو أنفقوا عمر الكون كلّه لا أعمارهم فحسب، فلِمَ الدوران في الحلقات المفرغة؟!
فالقرآن يجيب على سؤال من قبيل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} أي أن ذاك ليس محجوباً عمّن يطرحون السؤال وحسب، وإنما هو مجهول حتى بالنسبة للنبي المسؤول عنه من قبلهم {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ}( ). وكذا عندما يسألونه عن طبيعة وماهيّة الروح {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}( )، ومن هنا يمكن أن نستشف أن القرآن يوجّه عناية المسلمين إلى الاهتمام ـ تحديداً ـ بالمسائل والقضايا التي تدرّ عليهم بما ينمي الحياة ويطوّرها ويثريها، وأن لا يشغلوا أنفسهم وتفكيرهم بما يهدر أوقاتهم ولا يوصلهم ـ كما ذكرت ـ إلى نتائج حاسمة.
يقول (الطباطبائي) في ميزانه في تفسير الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ* قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}( ).
"العلّة المستفادة من الآية الموجبة للنهي تفيد شمول النهي لغير مورد الغرض، وهو أن يسأل الإنسان ويفحص عن كل ما عفاه العفو الإلهي، وضرب دون الاطلاع عليه بالأسباب العادية والطرق المألوفة ستراً، فإن في الاطلاع على حقيقة مثل هذه الأمور مظنّة الهلاك والشقاء، كمن تفحّص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبّته وأعزّته أو زوال ملكه وعزّته، وربما كان ما يطّلع عليه هو السبب الذي يختزنه بالفناء أو يهدّده بالشقاء.. فنظام الحياة الذي نظّمه الله سبحانه جارٍ في الكون في انه أبدى أشياء فلم يظهر ما أظهره إلا لحكمة، ولم يخفِ ما أخفاه إلا لحكمة"( ).
واللافت هنا أن صاحب الميزان يوضّح مغزى السكوت عن الأشياء المسكوت عنها فيقول: "ليس لأنها مغفول عنها أو أهمل أمرها، بل لم يكن ذلك إلا تخفيفاً من الله سبحانه لعباده وتسهيلاً لقوله "والله غفور حليم" فما يقترحونه من السؤال عن خصوصياته تعرّض منهم للتضييق والتحريج وهو ما يسؤوهم ويحزنهم البتة"( ).
ولعلّ في (سورة الهف) أكثر من درس في هذا المعنى، فاتّباع الشريعة يستلزم الإيمان بها كلّها جميعاً حتى وإن بدا بعضها غير منصوص العلّة أو أن علّته تستعصي على الفهم والإدراك القاصرين عن بلوغ حقيقتها، فلقد كان شرط الخضر(ع) على موسى(ع) أن لا يسأله عن شيء {فلا تسْألني عَن شيءٍ حتّى أُحْدِثَ لكَ مِنْهُ ذِكْراً}( )، لا ليحجب بذلك عنه العلم والذي تبعه لطلبه والاستزادة منه، إنما هي مسألة تربوية في طاعة (طالب العلم) (المعلّم) الخبير الثقة، وقد أقرّ موسى ذلك لاحقاً {قالَ إن سألتُكَ عن شيءٍ بعْدَها فَلا تُصاحبني}( ).
إن أسئلة من قبيل {يسْألُ أيَّانَ يومُ القيامَة}( ) و{فقَدْ سألُوا موسَى أكْبَرَ من ذلِكَ فقَالُوا أرِنَا الله جهْرَةً}( )، أو ما شاكلها، قد يبدو الغرض منها الاستنارة بضوء المعرفة، لكن الإجابة على السؤال الأول ـ وإن كانت محدّدة معينة وموقتة في علم الله ـ فإن الساعة إن كانت بعيدة أقعدت الإنسان عن الجد في الطاعة وطلب الآخرة، وإن كانت قريبة أصابته بالهلع والشلل وتجميد الأعمال للأهوال التي سيلاقيها فيها وليس للإنسان في كِلا الحالين مصلحة.
وأما السؤال الثاني فهو سؤال العنت والترف واللجاجة والجدل البيزنطي، ذلك أن اللجاجة بين بني إسرائيل اشتدت لدرجة أنهم كانوا يجادلون في كل شيء، وإلا فطلب رؤية الله إنما يصدر ممن لا يعرف الله الذي (ليس كمثله شيء) وممن لا يؤمن بالغيب وممن لا يقرّ ولا يثق بما يقوله النبي المرسل، وهذا ما رأيناه في تضييقهم الخناق على أنفسهم في مسألة ذبح البقرة.
يقول رسول الله(ص): "إن الله حدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، وعفا عنكم أشياء رحمةً منه لكم من غير نسيان فلا تتكلّفوها"( ). وقال(ص): في قوله تعال: {قال ادعُ لنا ربّك يبيّن لنا..} أنهم أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شدّدوا على أنفسهم شدّد الله عليهم، وأيم الله لو لم يستثنوا ما بيّنت لهم إلى آخر الآية( ).
وفي قوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء} خطب الرسول(ص) فقال: "إن الله كتب عليكم الحج، فقام عكاشة بن محسن، أو يروى سراقة بن مالك، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله(ص) ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتُم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"( ).
وخلاصة الأمر أن النهي عن السؤال هنا إنما يُراد به تيسير الأمر على الناس وتوفير مشقة البحث عليهم، لا حجب المعرفة والإسلام دين الاستزادة من العلم {وقُل رَبِّ زدْني علماً}( ) ـ ففي قبال ذلك ورد تأكيد كبير وكثير على ضرورة السؤال، ففي الأثر عن الإمام أمير المؤمنين علي(ع): "القلوب أقفال ومفاتيحها السؤال" و"السؤال نصف العلم" و"سل عمّا بدا لك من علمه ولا تعذر في جهله" و"ولا تزهد في مراجعة الجهل إن كنت شهرت بخلافه". وعن الإمام الرضا عن آبائه(ع) قال: قال رسول الله(ص): "العلم خزائن ومفتاحه السؤال، فاسألوا يرحمكم الله فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل والمعلّم والمستمع والمحبّ لهم"( ).
وعن الاستحياء من السؤال وطلب العلم، قال الإمام الباقر(ع) إنه مذموم، فإنه "لا حياء في طلب العلم ولا في إظهار الحق وإنما الحياء عن الأمر القبيح"، قال تعالى: {إن الله لا يستحي من الحق}"( ).
إن هذا الحثّ الشديد على السؤال واعتباره أحد الطرق الأساسية للمعرفة مما جاء على لسان النبي(ص) الذي كان يدفع المسلمين دفعاً للسؤال عمّا لا يعذرون في جهله، حتى أن الإمام أمير المؤمنين(ع) الذي كان أكثرهم أسئلة، وبالتالي أكثرهم علماً، يذكر في (نهج البلاغة) أن المسلمين كانوا يتحرّجون من سؤال النبي(ص) وينتظرون القادم من خارج المدينة كيما يسأل النبي(ص) فينتفعون بالإجابة، فيما كان الإمام(ع) مبادراً إلى سؤاله، وحينما آل الأمر إليه كان يستحثّ الناس دائماً على استخراج كنوز علمه بالأسئلة التي تسير غورها، وبقي يردّد أبداً: "سلوني قبل أن تفقدوني".
ونخلص من ذلك كلّه أن لا خطّ أحمر في إطلاق الأسئلة وإثارة علامات الاستفهام المتعطّشة إلى الحق والحقيقة، فكلّ شيء قابل أن تسأل عنه ومن حقك أن تحصل على إجابة شافية عليه، شريطة أن لا يكون سؤالك تعنّتاً لا يبغي المعرفة بقدر ما يطلب التحذلق والمباهاة والبحث عما يعدّ البحث عنه مضيعة للوقت والجهد ولا يثري ـ بحال ـ مسيرة الفكر الإنساني، ولا يضيف إلى رصيد التجارب المعرفة شيئاً ذا بال.
هذا وقد وجّه القرآن الكريم الأنظار إلى أن تحصيل الإجابة الشافية المنقعة يمكن أن يكون عن أحد طريقين كلٌ يفضي إلى الآخر:
1 ـ أهل الذكر {فاسْألوا أهل الذِّكْرِ إن كنتُم لا تعلمون}( ).
2 ـ أهل الخبرة {ثمّ اسْتوى على العرْشِ الرَّحمنُ فاسأل بهِ خبيراً}( ).
يقول (الطباطبائي): "لما كان أهل الشيء وخاصّته أعرف بحاله وأبصر بأخباره كان على من يريد التبصّر في أمره أن يرجع إلى أهله، وأهل الكتب السماوية القائمون على دراستها وتعلّمها والعمل بشرائعها هم أهل الخبرة بها والعالمون بأخبار الأنبياء الذين جاءوا بها، فعلى من أراد الاطّلاع على شيء من أمرهم أن يراجعهم ويسألهم"( ).
وبعد أن يعدّد الآراء في منْ هم أهل الذكر، يقول: "وكيف كان فالآية إرشاد إلى أصل عام عقلائي، وهو وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، وليس ما تتضمّنه من الحكم حكماً تعبدياً، ولا أمر الجاهل بالسؤال عن العالم ولا بالسؤال عن خصوص أهل الذكر أمراً مولوياً تشريعياً وهو ظاهر"( ).
وفي الرواية عن الإمام الصادق(ع) في هذه الآية قال: "الكتاب الذكر وأهله آل محمد عليهم السلام، أمر الله بسؤالهم ولم يؤمر بسؤال الجهّال"( ).
أما الآية الثانية، فرغم تعدّد الأقوال في الخبير أيضاً لكن المعنى المستوحى هم أهل الدراية والإحاطة في حقلٍ ما من حقول العلم والمعرفة، وليس مستغرباً بعد ذلك أن تكون الطاعة لأهل الخبرة في مجال اختصاصهم أمراً عقلائياً ي الاختصاصات كلّها وليس في مضمار الاجتهاد والتقليد فحسب.
من كل ما تقدّم تنضح أهمية ندوات (الأسئلة والأجوبة) التي تُقام في بيروت كلّ ثلاثاء وفي دمشق كلّ سبت من قبل آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ـ دام ظله ـ، ولعلّنا نقدّر اليوم الأثر الكبير لمثل هذه الندوات كلّما رأينا اعتماد القنوات التلفازية والإذاعية والفضائية على فتح قنوات الاتصال المباشر بين (البرنامج) المعيّن وبين المستعمين، ونرى أن عهد البرامج المغلقة التي تدور داخل (الاستديو) دون أن تفتح باب الحوار مع المستمعين قد انتهى أو أوشك، وإن أنجح البرامج هي تلك التي تهيّئ ذهن المستمع إلى الموضوع محور الندوة أو البرنامج ثم تتلقّى اتصالات وأسئلة واستفسارات ومداخلات المستمعين.
في ندوات (الثلاثاء) و(السبت) يحقّق آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ـ دام عزّه ـ كمفكّر ومرجع إسلامي، الغرضي معاً، بفارق نوعي، فالمحاضرة التي يستهلّ بها الندوة قد تفتح أذهان المستمعين على أسئلة معينة، وهذا ما نلاحظه من خلال الأسئة المتعلّقة بموضوع المحاضرة، أما الأسئلة المنوّعة فلها مساحتها المخصّصة من الندوة.
ولو راجعنا ـ الجدول الإحصائي ـ لرأينا أن المسائل الفقهية تشغل الحيّز الأكبر منها، ففي الأعداد الخمسة التي صدرت من الندوة بلغ هذا النوع من الأسئلة (1477) مسألة، تليها المسائل التربوية، حيث وصت إلى (453) مسألة، وتأتي المسائل القرآنية في المرتبة الثالثة (381) مسألة.
وغنيّ عن البيان أن هذه لا تمثل مجموع ما طرح في الندوة، فهو أضعاف ذلك، لكن المنتخب منها هو هذا.
إن دراسة هذا الرسم البياني لأسئلة الندوة يكشف عن أن المسائل الشرعية هي موضع ابتلاء المستمعين الذين يبحثون عن الموقف الشرعي من حركتهم في الحياة، وإن القرآن محطّ اهتمامهم إن على صعيد التفسير أو في مجالات الأسئلة القرآنية العامة، كما أن الجانب التربوي في حياتهم ذو عناية خاصة، ولو كان باب الأسئلة السياسية مفتوحاً لرأينا أن نسبة المطروح من أسئلة في هذا الباب مرتفعة أيضاً، وهذا ما يلاحظ في (درس القرآن) ببيروت حصراً.
هذا من جهة.. ومن جهة ثانية فإن الراصد لحركة الأسئلة التي تطرح في الندوة يلاحظ ما يلي:
ـ هناك أسئلة تعبّر عن جهل السائل ورغبته في العلم والتفقّه والمعرفة.
ـ وهناك أسئلة تعبّر عن مستوى معين من الفهم، ويرغب السائل في الاستزادة منه والتعمّق في معطياته الأخرى.
ـ وهناك أسئلة تطرح في ظل تباين الآراء والمواقف من موضوعٍ ما، والسائل يطمح إلى أن يرسو على ساحل إجابة حاسمة يمكنه الثقة بها والاعتماد عليها.
ـ وهناك أسئلة تطرح للتأكد من صحة مقولات أو آراء أو أفكار تنشر هنا وهناك وتسبب لبساً أو تثير إشكالية معينة، ويروم المستمع أن يتثبّت من موافقتها للفكر الإسلامي الأصيل.
ـ وهناك أسئلة ترفيّة لا ينفع العلم بها ولا يضرّ الجهل بها، وبين هذه وتلك من الأسئلة التي تطرح في الندوة أسئلة تتعلق بتقييم الأشخاص والمؤسسات والحركات مما نبّه سماحته مراراً أنه لا يجيب عليها تفادياً للخوض في الخصوصيات الذاتية البحتة، أما ما عدا ذلك فالشعار: "ليس هناك سؤال تافه وليس هناك سؤال محرج ولا مقدسات في الحوار.. الحقيقة بنت الحوار".
في المجلد الخامس من الندوة نفتح الدعوة إلى التأسيس لـ (ثقافة السؤال) من خلال ما أوضحه الكتاب من (المسموح) و(الممنوع) وما حظّت عليه الروايات والأحاديث الشريفة، ومن خلال منهج العصر الحواري الذي ينطلق من احترام الرأي والرأي الآخر بعيداً عن التعصب والجدل واللجاجة والتعنّت.
نسأله تبارك وتعالى أن يتقبّل من السائلين (جمهور الندوة) ومن المسؤول (سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، أعز الله نصره) ومن القائمين على إنجاز حصاد الندوة في المجلّدات التي تصدر تباعاً، وأخصّ بالذكر (حوزة المرتضى) بدمشق، والأستاذ (محمد الحسيني) والأخوة في المركز الثقافي الإسلامي في بيروت.. وكل من أسدى إلينا معروفاً من أجل أن ت كون (الندوة) الكتاب الذي يلبّي حاجة الدائرة الأوسع من القراءة، كما تلبي (الندوة) الحوار المباشر حاجة روّادها..
والله وليّ التوفيق والإحسان. والحمدُ حمدُ الشاكرين على ما أنعم وتفضّل..
المعدّ: عادل القاضي
                       دمشق، في 15 شوار 1419هـ/ 1-2-1999م

 
جدول إحصائي بمحاضرات وأسئلة الندوة

المجلد
    المحاضرات
    المسائل القرآنية
    المسائل الفكرية
    المسائل العقيدية
    مسائل السيرة
    المسائل التربوية
    المسائل الفقهية

الأول    28    134    74    81    125    86    492
الثاني    28    85    67    14    97    150    216
الثالث    30    63    47    59    42    84    281
الرابع    28    38    41    31    37    60    223
الخامس    29    61    84    17    54    73    265
المجموع    143    381    313    202    355    453    1477

المجموع النهائي لأسئلة الندوة في المجلدات الخمسة = (3181) مسألة في الحقوق الستة المذكورة أعلاه

المحاضرة الأولى: 4 صفر 1419هـ الموافق 30 – 5 – 1998م


حدود العلاقة مع الآخر

"لا ولاية لغير المؤمنين.. ولا تعايش إلا مع المسالمين من غير المسلمين".

ـ تخطيط القرآن لمواجهة السذاجة.
ـ العنوان الكبير.
ـ بين ولائين.
ـ طلب العزّة عند الكافرين.
ـ في النتائج السلبية.
ـ عنوان العداوة.
ـ نماذج إيمانية.
ـ التعايش مع غير المسلمين.
ـ في العلاقة مع اليهود.
ـ حركة المنهج في الواقع.
ـ التعامل الحذِر.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

تخطيط القرآن لمواجهة السذاجة
كيف يخطط القرآن الكريم للإنسان المؤمن المنهجَ الذي ينقده من السذاجة، ويجعله واعياً لطبيعة العناصر المضادة التي تقف في الخط المواجه للإسلام، إن من خلال العناوين المتصلة بالعقيدة أو بالشريعة أو بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني؟ كيف يخطط القرآن الكريم لتأكيد طبيعة العلاقة بين الإنسان المسلم وغيره، أو في المجتمع المسلم والمجتمع المضاد؟
إنّ هناك أكثر من آية من آيات القرآن الكريم تضع في عنوانها الرئيسي عدة عناوين متفرّعة عنه، ومن بينها عنوان (عدم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، والعنوان الآخر (أن لا نتخذ بطانة من دوننا) والعنوان الثالث (أن لا نعطي الولاية لعدو الله وعدونا) وكل هذه العناوين تلتقي عند عنوان واحد وهو أن يكون الإنسان المسلم واعياً لخلفيات عدوّه كلّها وخططه كلها وأن لا يستسلم بسذاجة للانفتاح عليه من دون تحفّظ.
العنوان الكبير:
هذا هو العنوان الكبير الذي نريد أن نتابعه من خلال أكثر من آية قرآنية، فتعالوا نستنطق بعض هذه الآيات.
يقول تعالى: {لا يتَّخذِ المؤمنونَ الكافرينَ أولياءَ من دونِ المؤمنينَ ومَن يفْعَل ذلِكَ فلَيْسَ من الله في شيءٍ إلا أن تتّقوا منهم تُقاةً ويُحذِّركُم الله نفسه وإلى الله المصير}( ).
وهناك آية تتحرك في نفس هذا الاتجاه ولكن بأسلوب آخر: {يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا تتَّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعَلوا لله عليكُم سلطاناً مبيناً}( ).
ونجد كذلك في آية أخرى: {بشِّر المنافقين بأنّ لهم عذاباً إليماً* الذينَ يتخذونَ الكافرِينَ أولياءَ من دونِ المؤمنين أيبْتغون عندَهُم العزّة فإنّ العزّةَ لله جميعاً}( ).
ففي هذه الآيات نقف أمام عنوان اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومضمونه يعطي هذه الفكرة وهي أن على المؤمنين أن يكونوا أولياء المؤمنين، ومسألة الولاية تعطي النصرة والتعاون والمساعدة والانفتاح والتنسيق إلى أن تصل إلى حدّ الوحدة، وذلك بأن يكون المؤمن وليّك بحيث ينفتح على أمورك كلها من موقع إيمانه، وأن تكون وليّه بحيث تنفتح على أموره كلها من خلال إيمانه، باعتبار أن الإيمان يمثل قاعدة مشتركة بينكما، وإذا كان الإيمان يمثّل يمثّل قاعدة مشتركة فإن هذه القاعدة تملك امتداداً في قضايا المؤمنين على جميع المستويات، إن من حيث المستوى الثقافي أو من حيث المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الأمني، لأن المؤمن يحتاج إلى ولاية أخيه المؤمن من أجل تكامل واقعه كلّه، في عنصر للقوة هنا وعنصر للقوة هناك، وامتداده في حركة قضاياه كلّها.
بين ولائين:
وهنا يركّز الإسلام على أنك قد تواجه بعض الظروف التي تقف فيها بالخيارة بين أن تكون ولايتك للمؤمنين، أو أن تكون ولايتك للكافرين من خلال بعض الظروف المحورية كأن يكون هناك محور دولي معيّن، أو محور إقليمي معيّن يمثل سلطة الكافرين، ومحور معيّن يمثل سلطة المؤمنين، فالإسلام هنا يتحدث عن أن بعض الناس قد يتخذ الكافرين أولياء وحلفاء ومساعدين وفريقاً من القضايا كلّها من دون المؤمنين، بحيث يفضّل غير المؤمنين على المؤمنين فيكون حلفاً لغير المؤمنين مضاداً للمؤمنين.. فالله سبحانه هنا يطرح السؤال التالي: لماذا يفعل هؤلاء ذلك؟ إن الإنسان بحسب طبيعته لا بد له من أن ينفتح ويتعاون مع فريقه، فإذا كنت مؤمناً فالمؤمنون هم فريقك، فلماذا تتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين!
طلب العزة عند الكافرين:
ربما كان ذلك لأن الكافرين يمتلكون فرصاً للقوة أكثر من الفرص المتوفرة لدى المؤمنين، وربما تحصل على العزة من خلالهم على أساس ما يملكون من بعض الامتيازات وبعض المعطيات أكثر مما تحصل عليه من خلال المؤمنين.. فالقرآن هناك يقول للمؤمن استنفر إيمانك بالله عزّ وجل عندما تفكر وتتحرك، فالذي يطلب العزّة من الكافرين وهو مؤمن لا يلتفت إلى أن ذلك يعني أنه أبعد إيمانه عن حركته في الواقع، لأن الإنسان المؤمن هو الذي يعتقد أن العزّة من الله وأن الله هو الذي يملك العزّة لمن يشاء {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}( ).
لذلك، فإن المسألة هنا هي أن الإنسان عندما يوالي الكافرين من دون المؤمنين فإنه يفقد إيمانه، لأنه يفقد عمق الإحساس بالإيمان الذي يجعل الله مصدر العزّة في كل شيء بالنسبة للإنسان كله {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}( ).
ونجد كذلك في الآية الأخرى شيئاً من التهديد {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}( )، لأن الإنسان الذي يترك الفريق المرتبط بالله والمؤمن به ليلتحق بالفريق الكافر بالله والمتمرد عليه فإن معنى ذلك أنه قطع علاقته مع الله، لأن العلاقة مع الله ليست مجرد صلاة تصلّيها أو صوم تصومه أو حجّ تحجّه، بل إن علاقتك مع الله هي في أن تحبّ من أحبّ الله، وأن تبغض من أبغض الله، وأن توالي من والى الله، وأن تعادي من عادى الله، وأن تبغض من أبغض الله، وأن توالي من والى الله، وأن تعادي من عادى الله، فأن تكون المؤمن بالله يعني أن تكون كلّك لله.
ولذلك فإن اختيارك للمحاربين لله والمتمرّدين على الله من خلال أنهم الكافرون بالله الجاحدون له، يعني أنك تقطع كل علاقة لك بالله لأنه لا يمكن أن تكون له علاقة به وأنت توالي من عادى الله.
وهناك كلمة للإمام علي(ع) يعدّد فيها الأصدقاء والأعداء فيقول: "أصدقاؤك ثلاثة: صديقك، وصديق صديقك، وعدوّ عدوّك. وأعداؤك ثلاثة: عدوّك وعدوّ صديقك، وصديق عدوّك" فمن يكون صديقاً لعدوّ الله كيف يمكن أن يكون صديقاً للمؤمنين الآخرين، ولذلك يقول الله تعالىت بأن ما يقطع العلاقة بينك وبينه إنما يجعلك تبتعد عن اله كلية، بحيث لا يعطيك الله سبحانه وتعالى أية رحمة منه، لأن رحمته إنما تنال الذين يعيشون القرب منه {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} في أية حالة من الحالات {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، عندما تكون هناك ظروف ضاغطة تبعثكم على التقية منهم بحيث تكون موالاتكم لهم عملية سطحية ظاهرية تتجاوزون فيها الظروف الضاغطة حتى تستطيعوا أن تسلموا أنفسكم، فهذه المسألة استثنائية، وعليكم أن تكونوا واعين لذلك حتى لا تنجذبوا باسم التقية فتندفعوا بكلّكم نحو هؤلاء {ويحذّركم الله نفسه وإلى الله المصير}( ). والآية الأخرى تتحدث عما ينتظر الإنسان من عقوبة عند الله: {أتريدون أن تجعلوا لله عليكُم سلطاناً مبيناً}( ).
في النتائج السلبية:
فهذا هو نمط من الآيات الخاصة بموادّة وموالاة الكافرين، وهناك نمط آخر من الآيات يتحدث عن النتائج السلبية لاتخاذ الكافرين أولياء ولإطاعتهم، فعندما تكون جزء من محور عالمي أو دولي يمتهن الكفر ويعمل على أساس دعوة الناس إلى الكفر، سواء كان كفراً عقيدياً أو شرعياً أو سياسياً أو ما إلى ذلك، فإن الخطورة هي أنك عندما تخضع لهذا المحور أو هذا الخط، وعندما تطيعه فإنك تعيش في خطر التأثيرات السلبية عليك باعتبار أن ذلك قد يترك تأثيراته الفكرية والشعورية والعملية، بحيث تنقلب على الأعقاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ* بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ}( )، فليسوا هم مواليكم بل الله مولاكم {وهو خير الناصرين}، فإذا كنتم تطيعونهم طلباً لنصرتهم فعليكم أن تعرفوا أنهم لن ينصروكم، بل الله هو الذي ينصر عباده المؤمنين {ولينصرنَّ الله من ينصرُه}( )، وهو القائل أيضاً: {إن تنصروا الله ينصركُم ويثبِّت أقْدامكُم}( ).
ثم تتحدث الآية عن هؤلاء من خلال الممارسات التي يمارسونها لإبعاد المؤمنين عنهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}( )، إنه يستثير في هذه الآية الحميّة الإيمانية للإنسان المؤمن، فهو لا يتحدث معه ـ في هذه الحالة ـ بالطريقة العقلية الثقافية، بل يتحدث بالناحية الشعورية، فكأنه يريد أن يقول للمؤمنين: إذا كنتم تحترمون أنفسكم فعليكم أن تخدموا انتماءاتكم لأن انتماءك يمثل مصداقية كيانك، فإذا كان هؤلاء الناس ممن يهزأون بدينكم ويسخرون منه ويتخذون مفرداته وخطوطه كلها لعبة للاعبين، فكيف يمكنكم أن تتخذوهم أولياء وأصدقاء مخلصين، لأن الإنسان الذي يحترم نفسه لا يمكن أن يعطي المستهزئ به وبدينه الولاية من نفسه.
{واتّقوا الله} راقبوه في ذلك إذا سوّلت لكم النفس الأمّارة بالسوء أن تتجاوزوا هذا الجانب {إن كنتُم مؤمنين} لأن المؤمن لا بدّ أن يتقي الله في ذلك كله.
العداوة:
ثم نأتي إلى آية أخرى تعطي عنوان (العداوة) وتحاول مع ما بعدها من الآيات أن ترسم واقع أولئك حتى يعرف الإنسان المسلم من الناحية الثقافية طبيعة السلبيات التي تحصل من خلال ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، فإن عليكم أن تعرفوا معنى العداوة وعمقها وامتداداتها، لأنكم إذا عرفتم ذلك، عرفتم كل الأخطار التي يمكن أن تحدث لكم عندما تغفلون عن أجواء العداوة وآثارها ونتائجها في حياتكم العامة أو الخاصة.
{تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، أي تفتحون لهم قلوبكم فتحبّونهم بالعمق الشعوري في إحساسكم بالعلاقة بينكم وبينهم {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}، فهم وأنتم في خطين متباينين لا يلتقيان، فهم يخلصون ويؤمنون بالكفر وأنتم تخلصون وتؤمنون بخط الإيمان، فكيف يمكن الالتقاء ما دام من يلتزم خط الكفر يجد أن من واجبه أن يهدم خط الإيمان، ومن يلتزم خط الإيمان يجد أن من واجبه أن يهدم خط الكفر، لأن انتماء الإنسان إلى شيء يهدم كل انتماء آخر مما يعني أن العلاقات بينكم وينهم من خلال انتمائكم وانتمائهم هي علاقات عداوة وليست علاقات صداقة، فكيف يمكنك أن تلقي إليهم بالمودة؟
{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}، فربما كانت المسألة تتحرك في إطار مشركي مكة، ويمكن أن تتحرك عندنا في أكثر من مجال، في كل جماعة تعمل على تهجيرنا وتهجير القيادات من بلادها إلى بلاد أخرى {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ}، لأنكم آمنتم بالله {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} فإذا كنتم مخلصين لذلك {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، فلا تعلنوها {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}، أي من فعل ذلك بأن أسرّ إليهم بالمودة ومحضهم إياها مع ما هم عيله من العداوة التي تخطط لتدميركم ولتدمير دينكم، كما أنها خططت لإخراجكم من بلادكم {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}( ).
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}، فإنهم يتحركون على أساس العداوة {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}( )، فإذا كانت قد توافرت لديهم فرصة فإنهم سوف يتحركون بالطريقة التي تعلن العداوة وتسيء إليكم وتؤدي إلى الإضرار بكم، فهم يعملون في ذلك انطلاقاً من مشاعرهم العدوانية.. إن تكفروا {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ}، عندما تنحرفون عن الخط {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}( ).
نماذج إيمانية:
ثم يعطي الله مثلاً ويقدّم نموذجاً من النماذج المؤمنة من الذين رفضوا أرحامهم وأقرب الناس إليهم من خلال الخط الإيماني، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، فقد أعلنوا ـ مع أنهم أقلية ـ موقف البراءة من قومهم ومما يعبدون من دون الله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ}، لأن المسألة ليست علاقات شخصية، بل علاقات فكرية ومبدئية  تتصل بالله سبحانه وتعالى، فنحن لا يمكن أن نعطي المودة لأرحامنا ولأقربائنا ولقومنا إذا كانوا أعداء الله سبحانه وتعالى ويعبدون غيره {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ}، ففي إحدى الحالات عقدت مهادنة بين إبراهيم وأبيه، قال: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}، رعاية لحقّ الأبوّة،ومعنى المغفرة هنا الهداية {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}( ).
في آية أخرى يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}( )، فالله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}( )، ثم يقول ليكن لكم أمل في هداية هؤلاء {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}( ).
فهذه هي الآيات التي تتحدث عن الأساس الذي يطرحه القرآن الكريم في مقاطعة أعداء الله وأعداء المسلمين من خلال النتائج السلبية على مستوى العقيدة والواقع.
التعايش مع غير المسلمين:
ثم يركّز القرآن الكريم على أن هناك فرصة للتعايش بين المسلمين وغير المسلمين إذا كانوا مسالمين {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ}، بأن تعطوهم البرّ والخير {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} أي أن تعدلوا معهم فتعطوهم الحق الذي لهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}( )، ومن خلال هذه الآية نقول إنه لا يجوز لأي مسلم أن يعرض لأموال أو لنفس أي كافر مسالم، لأن الله يقول { أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}، والقسط هو العدل، وإذا حسن العدل وجب، لأن العدل ينطلق من أنك تعطيه حقّه فيما يعرفهالناس من حقوق على بعضهم البعض، وفي مقدمة هذه الحقوق أن لا يأكل الإنسان مال غيره بغير حق، وأن لا يعتدي عليه بغير حق وما إلى ذلك.
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ}، أي عاونوا وساعدوا على إخراجكم {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}( )، فالتعايش بين المسلمين والكافرين هو أن الكافرين إذا كانوا مسالمين ولا يعتدون على المسلمين، فعلى المسلمين أن يقدّموا لهم البرّ والعدل في علاقاتهم معهم.
في العلاقة مع اليهود:
وهناك مجموعة من الآيات نزلت في علاقة المسلمين مع اليهود، لأن أهل الكتاب الذين كانوا محلّ ابتلاء المسلمين في عهد نزول القرآن هم ـ بشكل عام ـ من اليهود الذين عاثوا في الواقع الإسلامي فساداً، وهم الذي نقضوا عهدهم وحاربوا المسلمين مع  حلفائهم من المشركين، لذلك فعندما ندرس الآيات المتعلقة بأهل الكتاب ف القرآن نجد أن أغلبها تتجه إلى اليهود باعتبار القرائن الموجودة فيهم، ولأن اليهود كانوا يمثلون المشلكة المتحركة للمسلمين.
ففي الآية التالية حديث للمؤمنين في أن لا يجعلوا هؤلاء مستودع أسرارهم ولا يدخلوهم الوظائف الحيوية التي يمكن أن ينفذوا إليها ليعبثوا في الأوضاع العامة، فلا تُعطِ أسرارك، سواء كانت سياسية أو إدارية أو أمنية أو اقتصادية لهؤلاء، فالقرآن يريد النفوذ إلى الواقع النفسي والسياسي لليهود، فلنتابع قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أي من الناس الآخرين {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} أي يحاولون إثارة المشاكل التي تربك الواقع {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}، والعنت المشقة، فهم يتمنون أن تعيشوا المشقة في أوضاعكم كلها {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} في أحاديثهم {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} ممايظهر على ألسنتهم.. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ} التي تدلكم على ما فيه المصلحة وما فيه دفع الضرر {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}( )، فكأن القرآن يريد أن يقول للإنسان المسلم: حاول في علاقاتك مع الآخرين أن تستنفر عقلك وتدفعه ليدرس المعطيات الميدانية حتى تستطيع أن تحفظنفسك مما يخططه الآخرون لك.
{هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ} لأنكم منفتحون كما علّمكم القرآن {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} فأنتم تؤمنون بالتوراة والإنجيل والقرآن، بينما لا يؤمنون بالكتاب كله {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا} حتى يحصلوا على الأمن من خلالكم {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} فهم يتوعدونكم بالخطط والأساليب التي يمكن أن تحطّمكم {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}( )، فإن الله تعالى يعرّفنا ما تضمرون وهو الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}( ) {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} بلا انفعال بحيث تتقون الله في خطواتكم {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}( ).
ونختم بآية تركز معنى قد لا يكون واضحاً في الآيات السابقة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} بحيث تدخلوهم في عمق مجتمعكم، والمقصود هنا الذين يعيشون العداوة منهم بقرينة الآية السابقة {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}( )، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فهم يمثلون حلفاً للكفر، فهم يتحالفون ضدكم {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي الذي يواليهم فهو منهم، ولدينا في ذلك حديث يقول: "إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك فإن كان يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خير والله يحبك، وإن كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع من أحب"، فكل فرد يُحشر مع المجتمع الذي يحبه.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}( ) فالفكرة التي يعطيها الله في قوله تعالى {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ* وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} هي أن الحب ليس خفقة قلب ونبضة إحساس بل هو الأساس الذي ترتكز عليه شخصيتك وشخصية الآخر، فإذا كان الأساس واحداً فهناك الحب العميق وإذا كان مختلفاً فلا معنى لأن تحب إنساناً يختلف عن قاعدتك الفكرية والروحية {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}( ).
حركة المنهج في الواقع:
أيها الأحبة، هذه هي الآيات التي تخطط لنا المنهج في علاقاتنا مع الآخرين، وعلى ضوء هذا فإن علينا أن ندرس في واقعنا المعاصر حركة هذا المنهج، فنحن كمسلمين لا بد لنا من أن نعيش علاقاتنا مع الآخرين على هدى عمق مصالحنا وعلى أساس عمق انتماءاتنا، فعندما يقول الله: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ}( )، فإنه يعطينا ثلاثة عناوين لعلاقاتنا بالناس الآخرين، فمن حاربنا في ديننا بحيث يعمل على إخراجنا من ديننا في مواقعه الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، يجعل كل ذلك وسيلة من وسائل الضغط علينا لنبتعد عن ديننا، أو الذين أخرجونا من ديارنا في أي موقع من المواقع وشرّدونا عن بلادنا، واليهود يقفون في مقدمة هؤلاء الذين شرّدوا المسلمين عن فلسطين واحتلوها وصادروا أراضيهم ولا يوافقون على إرجاعهم لبلادهم، بل يعملون على محاصرتهم في بلادهم ليشرّدوهم من جديد، والمظاهرة على إخراجهم كما في الدول الكبرى التي ساعدت اليهود على الاستيطان في فلسطين واحتلالها بما أعطتهم من قوة عسكرية وسياسية واقتصادية، وتقف بريطانيا في الطليعة من تلك البلدان من خلال (وعد بلفور) وكذا أمريكا وحلفاؤها ممن يساعدون اليهود على إخراج الفلسطينيين من ديارهم أو على إبقائهم مشردين خارج ديارهم.
وعلى ضوء هذا فإن علينا أن ندرس علاقاتنا مع الاستكبار العالمي الذي يمكن أن نعتبره عدواً أكبر لأنه يعمل ويمارس ذلك في سرقة ثرواتنا الاقتصادية ومصادرة أسواقنا الاستهلاكية، وقد منعنا من الحصول على الاكتفاء الذاتي وسعى إلى تدمير ثقافتنا لتكون على هامش ثقافتهم، لذلك لا بد أن نكون واعين حذرين في العلاقات كلها، فنحن لا ندعو إلى مقاطعة العالم، ولا نقول إن على المسلمين أن يقاطعوا غير المسلمين، بل نقول إن على المسلمين أن لا يكونوا ساذجين وبسطاء، وأن لا يفتحوا قلوبهم للذين أغلقوا قلوبهم عنهم والذين يخططون لتدميرهم.
التعامل الحذِر:
فكُن واعياً حذراً في التعامل مع الآخر، فلا تقاطع من ليس لك مصلحة في مقاطعته، لا سيما إذا كنت لا تملك الاكتفاء الذاتي، تحرّك وتعايش، ولكن بوعي حذر، لأن الآخرين لا يمحضونك المودة، بل أنهم يعيشون العقدة ضد الإسلام، من خلال الحرب التي أعلنت على الإسلام بعد سقوط الاتحاد السوفياتي على أساس ما أعلنه أكثر من مسؤول غربي بأن العدو الجديد الذي لا بد أن يستعد له الحلف الأطلسي هو الإسلام.. ولذلك نراهم يعملون بكل ما عندهم من طاقة في سبيل تدمير اقتصاد وأمن ووحدة المسلمين حتى يعيش المسلمون الفتن المذهبية والعرقية والقومية، فلا تقوم لهم قائمة.
هناك فرق بين أن تقاطع الآخرين وبين أن تكون حذراً منهم، لأن الحذر هو دليل الوعي وفهم الواقع، حتى أن علياً(ع) أوصانا بأن لا نعطي الثقة العمياء المطلقة لأحد، حتى لأقرب الناس، عندما قال: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما" فلا تمدّ معه الجسور كلها، بل ابقِ جسراً لتهرب منه إذا انقلب عليك "وأبغض بغيضك يوماً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"، فلا تنسف معه الجسور كلها، بل ابقِ جسراً ليعبر منه إليك، ابقِ بينك وبينه مسافة كتلك التي بين السيارات حتى لا تحصل الحوادث المؤسفة.
لنكن الأمة الواعية التي تقف عند قواعدها الفكرية وتتحرك في خط مصالحها الحيوية وتنفتح على قضاياها المصيرية، وعند ذلك يمكن أن نتعامل مع العالم كله تعامل الإنسان المفتوح العينين، لا الإنسان المغمض العينين، وعلى الأقل أن نكون مثل الذئب، ولكن من دون عقلية ذئبية..
    ينامُ بإحدى مقلتيهِ ويتّقي        بأخدى المنايا فهو يقظان نائمٌ    
والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الثانية:11 صفر 1419هـ الموافق 6 - 6 – 1998م


بين صلحين:
صلح الإمام الحسن(ع)
والصلح مع الصهاينة

"لو أنّ العالم كلّه اعترف بالكيان الصهيوني، فلا نستطيع كمسلمين أن نعترف به، فكما لا نستطيع أن نقول بأن الخمر حلال حتى ولو قال كلّ الناس ذلك، كذلك لا نستطيع أن نقول أنّ الغصب حلال"

ـ في ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع).
ـ تربية الرسول(ص).
ـ في البيت العلوي ـ الفاطمي.
ـ بصمات التربية العلوية.
ـ رجل المهمات الصعبة.
ـ حقيقة الصلح.
ـ الأسلوبان: الحسني والحسيني.
ـ حول الصلح مع الصهاينة.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
في ذكرى وفاة الإمام الحسين(ع):
في هذا الأسبوع مرّت علينا ذكرى وفاة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، في انفتاحنا على أجواء أهل البيت(ع) لا بد لنا من أن نعيش معهم، لأن ذلك يعطينا الكثير من روحاينة الإسلام ومن القيم الإسلامية المتجسدة فيهم، ذلك أنهم يمثلون في وعينا الإسلامي معنى الفكرة المتجسدة والقدوة المتحركة. ولذلك فإننا نشعر بحضورهم حتى مع هذا الغياب الطويل في مدى القرون، وفي هذه الذكرى نريد أن نعيش الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) وأن نستنطق كلمات الله تعالى وكلمات رسوله(ص) في حقه، ونمتد ـ بعد ذلك ـ في الخطوط العامة في حياته.
ففي كلمات الله نلتقي بالآية الكريمة التي يطلق عليها المفسرون (آية التطهير) {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}( )، هذه الآية التي يذكر أكثر المفسرين بأنها نزلت في الخمسة الأطهار، محمد(ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين(ع)، ولها دلالة انطلق المحللون في استنطاقهم لها في أنها تعطي معنى إرادة الله في الطهارة التي تعيش في كيانهم كلّه: طهارة العقل، فلا يحمل شيئاً من الباطل، وطهارة القلب فلا يختزن شيئاً من الانحراف العاطفي، وطهارة الحركة فلا يفقد خط الاستقامة في كل الدروب التي يتحرك فيها الناس، لأن الباطل يمثل معنى القذارة في الفكر، ولأن العاطفة المنحرفة تمثل معنى القذارة في الإحساس، ولأن الانحراف عن الخط يمثل القذارة في الواقع.
ومن هنا، فإننا عندما نلتقي بالإمام الحسن(ع) كأحد هؤلاء الأطهار فإننا نستطيع أن نستوحي هذه الطهارة الروحية والفكرية والشعورية والحركية في حياتهم كلها.
تربية الرسول(ص):
فإذا انتقلنا إلى رسول الله(ص)، وهو الذي ربّى الإمام الحسن(ع) في طفولته، فقد كان الحسن(ع) ومعه أخوه الحسين(ع) يعيشان طفولتهما الأولى في أحضان رسول الله(ص) الذي أعطاهما كل عاطفة الأبوّة للأبناء، لأنه عاش هذه العاطفة في عمق إحساسه وشعوره، ولم تكن عاطفة عفوية ساذجة، بل كانت عاطفة مشحونة بالمعاني الروحية المتمثلة في هذين الحبيبين، حيث ينقل المؤرخون ـ وأكثرهم من غير أهل الشيعة ـ أنه كان عندما يحمل الحسن(ع) على عاتقه كان يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه"( )، وفي رواية "من أحبني فليحبه"( ).
وعندما ولد الإمام الحسين(ع) ودرجا معاً في كنف رسول الله، كان يقول: "اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحبّ من يحبّهما"( ) وعندما بدءا يتحركان في الطفولة التي بدأت تعي ما حولها ومن حولها من خلال الواقع الاجتماعي، كان يقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"( )، وهذه الكلمة كما الكلمات السابقة تعني أنهما يختزنان في شخصيتهما معنىً روحياً يطل على مستقبلهما، بحيث يعطي شرعية بكل ما قاما به في مستقبل حياتهما، لأن من كان سيداً لشباب أهل الجنة لا يمكن أن يعيش الخطأ في فكر أو الخطأ في عاطفة، أو الخطأ في سلوك.
ومن هنا نستطيع أن نؤكد من خلال هذه الكلمة من رسول الله(ص) الذي قال عنه تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}( ) وحي في آيات القرآن ووحي في معاني السنّة التي نطق بها، فهي لم تكن وحي الكلمة ولكنها كانت وحي الفكرة التي يجسّدها رسول الله لسنّته.. لذلك فنحن نستطيع أن نعرف أن ما قام به الإمام الحسن(ع) من صلح يؤكد شرعيته وما قام به الإمام الحسين(ع) من نهضة تؤكد شرعيته، لأنهما سيدا شباب أهل الجنة فلا بد أن تكون حركتهما في خط الاستقامة.
في البيت العلوي ـ الفاطمي:
وعندم نريد أن ننفتح على حياته فإننا قد نستوحي منها أنه كان يعيش بعد رسول الله(ص) الذي احتضن طفولته الأولى، ومع أمه فاطمة الزهراء(ع) الطاهرة المطهرة التي أعطته من طهرها ومن روحها ومن فكرها ومن حيويتها ومن حركيتها ومن آلامها الشيء الكثير مما اختزنه في وعيه، وكان يعيش في ذلك البيت الطاهر بين علي(ع) وبين فاطمة(ع) وارتحلت الزهراء(ع) إلى بارئها في بدايات طفولته، كما فقد جدّه رسول الله(ص) وهو صغير.
وعاش مع علي(ع) كل الأحداث الصعبة القاسية التي عاشها علي(ع) وتمثل في تلك المرحلة الصعبة الإخلاص الأعلى للإسلام، لأنه انفتح بكله على الواقع الإسلامي وعاون وساعد وشاور وأعطى العلم والرأي، في الوقت الذي كان يشعر أنه أبعد عن حقه، لأنه كان يقول وقد سمع الإمام الحسن(ع) منه ذلك "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة"( )، لقد ابتعد علي عن معنى الذات في ذاته كما يعيشها الكثير من الناس، لأن علياً بكله رسالة تتحرك.
كان الإسلام كل عليّ، وكان الإسلام عقله وقلبه، وكان الإسلام حركته، فلم يكن في علي شيء لغير الإسلام، ولذلك قال: "ما ترك لي الحقّ من صديق"( )، وقالها النبي(ص) مما يرويه الفريقان من السنّة والشيعة "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"( )، وليس للباطل شأن في علي وليس لعلي أي فراغ ليأتي الباطل ليملأه لأنه كان حقاً كله.
ولأنّ علياً(ع) عاش مع الله فلم يكن في وعيه شيء لغير الله تعالى وهذا ما نستوحيه من مناجاته لله في (دعاء كميل) "فهبني يا إلهي صبرتُ على عذابك فكيف أصبرُ على فراقك، وهبني يا إلهي صبرتُ على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك"، كان يعبّر ـ في ذلك ـ عن هذه الحالة الروحية التي ذابت في الله فلا تطيق الابتعاد عنه، والتي عاشت كرامة الله فلا تطيق الابتعاد عن كرامته.
وهكذا عاش الإمام الحسن(ع) مع الإمام علي(ع) كل هذه الروح وكل هذا الانفتاح على الله وعلى المصلحة الإسلامية العليا، واختزن ذلك في عقله كلّه وفي قلبه كلّه، فلقد عاش مع أبيه ليله ونهاره في مدى حياته معه، حتى أننا نستطيع أن نقول أنه وهو مع أخيه كانا الصديقين الحبيبين لعلي(ع) الذي كان يهيؤهما ـ بأمر الله ـ للقيادة وللإمامة من بعده، لذلك كان علي(ع) لهما كما كان رسول الله(ص) لعلي.. كان رسول الله يناجي علياً في ليله ونهاره حتى انطلق ليقول "علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب"( ).
وبهذا نستطيع أن نقول إن الحسن والحسين(ع) أخذا علياً كلّه وعاشا عقله كلّه، وروحه كلها وأحساسه وشعوره كلها، وعاشا الخطوط العامةكلها التي مثلت خط الاستقامة في حياتهما، وهذا ما تمثّل في حياتهما، وفي خشوعهما لله وخضوعهما له وذوبانهما في بحيث كن كل شيء عندهما في كل ما قالاه وفي كل ما فعلاه.
رجل المهمات الصعبة:
ونحن نستطيع أن نستوحي كيف كان علي(ع) يجد في الحسن(ع) كل ما يمثله، فكان يدعو الناس أن يسألوا الحسن عندما يريدون أن يسألوه، وكان يكلّفه بالمهمات الصعبة على المستوى السياسي ـ كما يقال في هذه الأيام ـ فعندما اضطربت أحوال الكوفة من خلال واليها في أول خلافة الإمام علي(ع) بعث ولده الإمام الحسن(ع) ليحلّ المشكلة وليواجه الموقف الصعب، هناك تدليلاً على أنه يملك سلامة الموقف الذي يستطيع فيه أن يواجه التحديات والقضايا الكبرى بكل كفاءة وبكل صدق وإخلاص.
وعندما ارتفع علي(ع) إلى الرفيق الأعلى، وباشر الإمام الحسن(ع) مسؤوليات الإمامة وكان الواقع الإسلامي ـ آنذاك ـ متعباً من الصراع ولم يكن المجتمع واحداً.. فقد كان هناك (الخوارج) في الساحة، وكان الذين يلعبون على أكثر من حبل من رؤساء العشائر الذين كانوا يفكرون في مواقعهم ومطامعهم، وكان هناك الطيبون، وكان هناك كما يقول (الشيخ المفيد) الشكّاك المرتابون، وبكلمة مختصرة فقد كان المجتمع خليطاً من كل هؤلاء.
واندفع الإمام الحسن(ع) بجيشه رداً لعدوان معاوية، لأنه لم يبدأ معه حرباً، بل دعاه إلى أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون، وكانت هناك رسائل متبادلة بينهما، تعنف تارة وترقّ أخرى، وبدأ معاوية يحشد الجنود، ومنذ بدايات المعركة وجد الإمام الحسن في جنده أنهم الجند الذين يمكن أن يشاركوا في الهزيمة أكثر مما يساهمون في النصر.. ولذلك فلم يكونوا بالجيش الذي يمكن أن يعتمد عليه في خط المواجهة، ورأى أن الظروف من حوله تتحرك، بحيث أن رؤساء العشائر كتبوا إلى معاوية "إن شئت سلّمناالحسن في أي وقت".
حقيقة الصلح:
وكانت هناك بعض مساعي الصلح، الذي اشترط فيه الإمام الحسن(ع) أن لا ينادى معاويه بأمير المؤمنين، مما يجعل من الصلح تجميداً للصراع وهدنة بدلاً من أن يكون اعترافاً بالأمر الواقع الذي يريد أن يمثّل الشرعية، لأنه لا يمكن أن يعترف بالشرعية المزيّفة فهو الشرعي الوحيد ولا شرعية غيره، ولكن المشكلة هي أن كثيراً من الشرعيات في التاريخ لا تجد في الواقع السياسي أو الواقع الاجتماعي الوسائل التي تستطيع أن تؤكد فيها مسؤولياتها الحركية.
وتحرّك الإمام الحسن(ع) بعد ذلك في الخط الشعبي وكان يتحسس مسؤوليته في توعية الناس بالكلمة وبالقدوة خارج نطاق الخلافة، كما كان يتحسّس مسؤوليته تلك في داخل الخلافة، لأن الشرعية الإسلامية لا بد أن تؤكد موقفها في حركة الواقع من خلال الفص المُتاحة لها، سواء في موقع المسؤولية أو في غيرها من المواقع: ورأينا كيف أن معاوية دسّ إليه السمّ بعد ذلك ليتخلّص منه ومن شرطه الذي وضع في وثيقة الصلح بأن تكون الخلافة للإمام الحسن من بعده.
وكان "معاوية" يخطّط لخلافة "يزيد" ـ كما ينقل المؤرخون ـ فأغرى زوجة الإمام الحسن(ع) "جعدة بنت الأشعث" التي كانت تعيش بعض الواقع السلبي من خلال ابيها ومن خلال المؤثرات الداخلية، حت دسّت  السمّ للإمام الحسن(ع).. وكان من عظمة الإمام أنه لم يخبر عنها، ولم يقبل أن يشهّر بها بعد اكتشفها، وكان من عظمته(ع) أيضاً أن كان يحسّ بأن من الممكن أن ينطلق بعض الناس من بني أمية في المدينة ليمنعوا دفنه عند جده، وكان قد أوصى بأن يجدّد به العهد بزيارة رسول الله(ص) قبل دفنه في البقيع، فأوصى أخاه الحسين(ع) أن لا يهرق في أمره محجمة دم وأن يصبر على مصيبته..
وعندما سار بنو هاشم يتقدمهم الإمام الحسين(ع) ليجدّدوا به عهداً عند رسول الله(ص) خُيِّل لأولئك أنهم يريدون أن يدفنوه عند جده، فوقفوا استعداداً للحرب، ووقف بنو هاشم ليواجهوا هذا التحدي، لكن الإمام الحسين(ع) كما تقول كتب السيرة، قال: "الله الله لا تضيّعوا وصية أخي"، فانظروا كيف كان يحافظ على حقن الدماء حتى في مثل هذه القضية الحساسة التي تثير العاطفة وقد لا يتحملها الكثيرون منّا في مثل هذا الموقف.
الأسلوبان: الحسني والحسيني:
أما ما أُريد أن أتحدث به ـ في هذ العجالة ـ بشكل مختصر فهو أن هناك حديثاً يدور على الألسن حول شخصية الإمام الحسن(ع) وشخصية الإمام الحسين(ع) في عملية المقارنة بينهما في أن شخصية الإمام الحسن هي شخصية المسالم، وشخصية الإمام الحسين هي شخصية الثائر، ولذلك فإن بعض الناس يتحدث عن الأسلوب الحسني في بعض أساليب الحركة، ويتحدث آخرون عن الأسلوب الحسيني في بعض أساليب الحركة..
ولكن هذا الحديث خطأ، لأن قضية الأسلوب في حركة اللين والعنف ليست خطاً واحداً للشخصية، لأن أية شخصية رسالية تلتزم مبدأً متحركاً في حياة الناس لا يمكن أن تكون عنيفة على طول الخط، ولا يمكن أن تكون لينة على طول الخط، لأن صاحب الرسالة تحكمه رسالته وليس له مزاج خاص ولا حرية له في أن يحكّم مزاجه الذاتي في حركته الرسالية، بل لا بد لكل صاحب رسالة ولكل صاحب قضية أن يكون مزاحه في خط الرسالة، وأن تكون حركته في خط حركة الرسالة، ذلك أن الإنسان صاحب المبدأ والقضية والرسالة لا يملك نفسه بل تملكه رسالته وقضيته، ولذلك لا بد أن يعنف عندما يكون العنف مصلحة الرسالة والقضية، ويلين ويرقّ عندما يكون اللين والرقة هما مصلحة الرسالة.
من هنا لا نستطيع أن نقول أن شخصية الإمام الحسن(ع) هي شخصية الرقّة والسلام واللين، وشخصية الإمام الحسين(ع) هي شخصية العنف والثورة والقسوة، بل كان الإمام الحسين حسنياً في أسلوب الرسالة في مرحلة الإمام الحسن(ع)، ولذلك وقّع الإمام الحسين(ع) ـ كما نقول هذه الأيام ـ إلى جانب توقيع الإمام الحسن(ع).
ومن هنا فإن الإمام الحسين(ع) حافظ على هذا حتى بعد وفاة الإمام الحسن(ع) وبقي في البقية الباقية من حياة معاوية ملتزماً في أن لا يثور على معاوية التزاماً بالعهد وبالوثيقة، ولو كان الإمام الحسن(ع) في عهد الإمام الحسين(ع) لكان حسينياً بكل خصائص الأسلوب الذي عاشه الإمام الحسين(ع) في مرحلته.
ولو درسنا أسلوب الإمام الحسين في عاشوراء لرأيناه أسلوب المنحبة حتى لأعدائه، وأسلوب السلام الذي يريد أن يركّزه على أساس العدل وعلى أساس الخط المستقيم حتى مع أعدائه، إذ لم يكن الإمام الحسين(ع) عنيفاً يطلق العنف في وجه الناس ، بل كان إسلامياً قرآنياً كما كان الإمام الحسن إسلامياً قرآنياً، ولذلك أعطى الإمام الحسين(ع) الفرصة كلها للحل السلمي، ولما طلب منه أن يعطي بيده إعطاء الذليل ويقرّ إقرار العبيد، قلا "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"( )، لأن ذلك يمثل تحدي الشرعية الإسلامية، لا تحدي الذات بالنسبة إليه..
لذلك لا نستطيع أن نقول أن للحسن شخصية تختلف عن شخصية الإمام الحسين(ع)، بل إنهما يتغذيان من مائدة واحدة هي مائدة القرآن، وينطلقان من منطلق واحد هو منطلق الإسلام.. وقد عاشا مع رسول الله(ص) الذي كان يعيش الرحمة والشدة معاً، وهذا ما عبّر عنه بقوله {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}( ).
لذلك ـ أيها الأحبة ـ هذا خط لا بد أن ننتهجه وأن نسير عليه في كل ما نستقبل من قضايا، سواء في المسألة الإسلامية أو في المسألة السياسية أو الاجتماعية، وأن لا نعتبر أن هناك أسلوباً واحداً في الحياة، بل هناك أسلوبان ينطلقان من مصلحة القضية التي يتحرك فيها الإنسان، حتى أننا عندما نلتقي بالله سبحانه وتعالى فإنما نلتقي به على أنه شديد العقاب غفور رحيم، ونقرأ في دعاء الافتتاح:"وأيقنتُ أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة" لأن لكل شيء موضعه، فليس العنف قيمة سلبية دائماً، وليس الرفق قيمة إيجابية دائماً، فقد يكون العنف في دائرة الإيجاب عندما يتوقف إنقاذ القضية على العنف، وقد يكون الرفق في دائرة السلب عندما يسيء الرفق إلى مصلحة القضية..
ألسنا نتفق على أن على الإنسان أن يخضع للعملية الجراحية التي قد تقطع به أعضائه من أجل أن تسلم حياته، تلك هي القضية ذاتها في واقع القضايا الكبرى والصغرى في واقع الذات.
الصلح مع الصهاينة:
ثم هناك ـ في نهاية المطاف ـ مسألة يحاول البعض أن يثيرها دائماً كلما تحدث الناس عن الصلح مع الكيان الصهيوني ليحدثوك عن صلح الحديبية، وأن النبي(ص) صالح المشركين فتعالوا لنصالح إسرائيل، وأن النبي(ص) عاهد اليهود في المدينة فتعالوا لندخل في المعاهدة مع اليهود، وأن الإمام الحسن(ع) صالح أيضاً معاوية فتعالوا لندخل في الصلح مع (الكيان الصهيوني)..هذا العنوان أو هذا الشعار يرفعه كل الذين يلهثون وراء الانفتاح على هذا العدو، لأنهم يحملون الشعار من دون أن يدققوا في كل مفردات هذا الشعار.
لقد صالح النبي(ص) المشركين في صلح الحديبية لأنه كان يخطط لفتح مكة، فكان صلحاً وقائياً تكتيكياً كما نقول هذه الأيام، يدخل في حركة الاستراتيجية، وكان عهده مع اليهود في المدينة من أجل أنه كان يريد للمدينة في بداية عهد الدعوة أن لا تعيش حالة صراع داخلي يمكن أن يدمّر حركة الإسلام وهو في بدايته، ولذلك عندما خان اليهود العهود والمواثيق حاربهم كما في حربه (بني قينقاع) و(بني النضير) و(بني قريظة) إلى خيبر.
أما صلح الإمام الحسن(ع) فهوصلح من خلال طبيعةالواقع الإسلامي الذي كانت الحرب فيه لا تؤدي إلى أية نتيجة إيجابية لأية قضية في تلك المرحلة، بل ربما كانت تؤدي إلى مزيد من النزف الإسلامي الذي تسقط فيه العناصر الطيبة كلها والمعارضة كلها من دون أية نتيجةحاضرة أو مستقبلة، لأن الواقع كان واقعاً متعباً لا يمكن أن يحقق أية نتيجة في المستقبل، وكانت المسألة مسألة جيشين يتحاربنا، ولذلك فإن الناس سوف لا ينفتحون على معنى المظلومية في هذا الجانب أو ذاك.
أما بالنسبة للكيان الصهيوني فقد جاء اليهود من سائر أنحاء العالم واحتلوا أرضاً عامرة بالسكان وفيها أكثرية إسلامية وأقلية نصرانية، وكذلك أقلية يهودية، فجاءوا من أجل أن يخرجوا أهلها منها ليجمعوا يهود العالم كلّهم هناك.
فهذا الكيان يمثل العدوان كله، فليس فيه شيء مما يمكن أن يجعل للصلح شرعية، لأن معنى الصلح أن تعترف لليهود بسيطرتهم على فلسطين وأن توقّع على ورقة "الطابو" وما يريده اليهود الآن ـ وقد أخذوا كل فلسطين ـ أن يعطيهم الفلسطينيون ومعهم العالم العربي والإسلامي توقيعاً على ملكيتهم القانونية والسياسية لفلسطين، حتى أنهم لا يريدون للفلسطينيين أن يحصلوا على حكم ذاتي في أرضهم، بل يريدون أن يجعلوا الوجود الفلسطيني وجوداً محاصراً في سجن مفتوح الأبواب والنوافذ ولكنه مغلق بالأسوار التي تحيطه من خلال المستوطنات الصهيونية( ).
لذلك قلنا ونقول: لو أن العالم كلّ اعترف بالكيان الصهيوني فلا نستطيع كمسلمين أن نعترف به، فكما لا نستطيع أن نقول أن الخمر حلال حتى لو قال كل الناس ذلك، كذلك لا نستطيع أن نقول أن الغصب حلال، فالمسألة لا تتحرك من خلال موقع سياسي يمكن أن يتغير بين وقت وآخر، بل تتحرك من موقع فقهي شرعي يعيش كل مسلم معناه بالتزامه الديني، فلا تتحدثوا عن "صلح الحديبية" أو معاهدة النبي(ص) مع اليهود أو صلح الإمام الحسن(ع) مع معاوية، عندما تريدون أن تنظروا للصلح مع (إسرائيل)، لأن الإسلام لا يعطي أية مبررات أو أية شرعية لأن يوقعّ المسلم الصلح معها، وهذا ما ينبغي لنا أن نعيشه..
فلقد عاش اليهود مدة طويلة حتى وصلوا إلى فلسطين ولا يزال بعض فلسطين بيدنا وقد كانت فلسطين لنا، فلا بأس إذا كنا أمة تحترم نفسها وقيمها وحاضرها ومستقبلها أن ننتظر خمسين سنة أو مئة سنة لنرجع إلى فلسطين، لأن قضايا الشعوب لا تُحلّ بالأيام ولا بالأشهر ولا بالسنين، فقد نحتاج إلى قرن كامل لنصل إلى أهدافنا "اعمل لدنياك" في قضايا الحرية والعدالة "كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثالثة: 18 صفر 1419هـ الموافق 13 - 6 – 1998م


في ذكرى وفاة الإمام الرضا(ع):
تمثُّل الرموز المقدّسة

"الإضاءات السلوكية في حياة الأئمة(ع) يمكن أن تتحوّل إلى خط عام في حياتنا الخاصة"

ـ في ذكرى وفاة الإمام الرضا(ع).
ـ ثقة العالم الإسلامي بالرضا(ع).
ـ لا إسراف.
ـ لا شرك.
ـ حقّ الله.
ـ المقاطعة على الأجر.
ـ شخصية الحاكم.
ـ أخوّة الإيمان فوق القرابة.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
في ذكرى وفاة الإمام الرضا(ع):
بالأمس حلّت ذكرى وفاة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت(ع) علي بن موسى الرضا(ع)، ونحن بحاجة إلى أن نتمثّل هذه الرموز المقدسة التي توحي إلينا بكل ما يملأ عقولنا بالفكر وقلوبنا بالخير وحركتنا بالإصلاح، لأنهم انطلقوا في خط الرسالة ولأنهم الأمناء عليها وحرّاسها في كل الساحات التي يمكن أن ينحرف فيها الخط أو ترتبك فيها الأمور أو تتعقد فيها القضايا.
وعندما ندرس الإمام الرضا(ع) في ما يتمثّل في مجتمعه في النظرة إليه، فإننا نلتقي ببعض الكلمات التي تلخّص ذلك، ففي بعض الكلمات أنه روى (الحاكم أبو عبدالله الحافظ) بإسنادهع عن الفضل ابن العباس عن أبي الصلت (عبدالسلام بن صالح الهروي) قال: "ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع له المأمون في مجالس له ذوات عدد علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم حتى ما بقى أحد منهم إلا أقرّ له بالفضل". وهذه شهادة معاصر لا يتحدث عن نفسه في تقويمه للإمام الرضا(ع) ولكنه يتحدث عن الواقع الإسلامي الذي كان يحمل مثل هذا التعظيم للمستو العلمي الذي يملكه الإمام الرضا(ع) في تأثيره على المجتمع كله.
وهناك كلمة للإمام الرضا(ع) وهو يحدّث عن تفاعل الناس معه "كنت أجلس في الروضة ـ روضة النبي(ص) ـ والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إليّ بأجمعهم وبعثوا إليّ بالمسائل فأجيب عنها"، فما نستوحيه من هذه الشهادة، وهي شهادة حق، أن العلماء في المدينة كانوا لا يتحسسون مما قد يتحسسه العالم تجاه عالم آخر، ومما يتهم فيه العلماء بالحسد، بل كانوا يعيشون الاحترام الذي يشعرون فيه بتفوقه(ع) عليهم.
ثقة العالم الإسلامي بالرضا(ع):
وهكذا يروى عن أبيه الإمام موسى بن جعفر(ع) أنه كان يقول لبنيه "هذا أخوكم علي بن موسى، عالم آل محمد فاسألوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول لكم"( )، هذه الشهادات وغيرها تدلّل عل أن الإمام استطاع في حركته العلمية أن يحصل على ثقة المجتمع الإسلامي في المواقع التي تتجمع فيها النوادي الثقافية، كما نعبّر هذهالأيام، أو المدارس العلمية، ففي ذلك الوقت كانت (المدينة) مركز علم وكانت (بغداد) مركز علم، كما كانت (طوس) ـ في عهد المأمون المعروف بتشجيعه للعلم ـ مركز علم.
فإذا استطعنا أن نخلص من كل هذه الحصيلة إلى أن هذه المراكز أو المدارس العلمية كانت تشهد له بالعلم من خلال علمائها لا من خلال الناس العاديين، نستشف المستوى البارز للإمام(ع) في تلك المرحلة..
وربما نستطيع أن نخلص من هذه الشعبية أو هذا الامتداد في وعي المسلمين لهذه الشخصية، أن ذلك هو السبب في اختيار المأمون له ليكون ولياً للعهد، باعتبار أن المأمون كان بحاجة في صراعه مع أخيه الأمين ومع العباسيين الذين وقفت أكثريتهم مع الأمين، إلى شخصية تملك من الثقة في نفوس المسلمين ما يمكن له أن يستفيد من وجودها إلى جانبه من أجل تثبيت موقعه، ومن أجل جمع الناس حوله من خلال التفافهم حول الإمام الرضا(ع).
وربما نعرف أيضاً كيف أن الإمام كان يمتد في الثقة الجماهيرية إل منطقة إيران عندما نجد أنه في رحلته إلى طوس، كان لا يمرّ ببلدة إلا ويجتمع علماؤها ورواتها ليطلبوا منه حديثاً عن رسول الله(ص).
ونحن نقرأ في الكتب التي تحدثت عن سيرته أنهم اجتمعوا إليه وطلبوا منه حديثاً، وكانت الأقلام تُعدّ بالألوف كما يذكر الرواة، وحدثهم الحديث الذي قيل عنه أنه (حديث سلسلة الذهب)، قال: "حدثني أبي موسى بن جعفر، قال حدثني أبي جعفر بن محمد، قال حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن الحسين، قال حدثني أبي الحسين بن علي، قال حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال حدثني رسول الله(ص) عن جبرائيل عن الله تعالى أنه قال: كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِن عذابي ـ وكتبها الجميع ثم أطلّ عليهم كما تقول كتب السيرة وقال: ـ بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها".
فلقد كان الإمام الرضا(ع) يبيّن خط الرسالة خط الإمامة التي تتحرك من خلال تلامذته، فإننا نجد المؤرخين يتحدثون عن تتلمذ الكثيرين ممن يمثلون أساتذة الثقافة في ذلك العصر على يديه، وحكن لا نريد أن نفيض في الحديث حول مسألة ولاية العهد وأسبابها، مما اختلف فيه المؤرخون والمحللون، كما أننا لا نريد أن نتحدث عن مسألة وفاته التي اشتهر بين الأئمة(ع) أنها كانت بفعل دسّ المأمون السمّ له بعدما استقرّ الأمر له، حيث تحول إلى ما يشبه العبء عليه، كما يقول بذلك للكثير من العلماء، ولكن بعض علماء الإمامية ومنهم (الشيخ المفيد) و(السيد ابن طاووس) يشككان في ذلك ويقولان أنه توفي وفاة طبيعية..
ولسنا الآن في مجال الحديث عن ذلك، ولكنني في هذا اللقاء أردت أن ألتقط بعض اللقطات من حياته ومن سيرته مما يمكن أن نستوحي منه بعض الخطوط الأخلاقية أو بعض الإضاءات السلوكية التي يمكن أن تتحول إلى خط عام في حياتنا الخاصة.. لأنني أعتقد أن قيمة ارتباطنا بالأئمة(ع) وبالأنبياء(ع) من قبلهم وبكل التاريخ هو أن لا نستغرق في الذات، ولكن أن نستغرق في الرسالة التي كانت عظمة الذات أنها جسدتها في كل فكرها وفي كل عاطفتها وفي كل حركتها في الواقع.
لا إسراف:
فهناك قصة حديث حول مسألة حدثت في بيته، حيث ينقل شخص يسمى (ياسر الخادم) قال: أكل الغلمان يوماً فاكهة لم يستقصوا أكلها (يعني أكلوا نصفها وتركوا نصفها) ورموا بها، فقال لهم أبو الحسن(ع) ـ وهذه كنيته ـ "سبحان الله، إن كنتم استغنيتم فإن أناساً لم يستغنوا، أطعموا من يحتاج إليه"( )، وقد يفكر من يسمع هذه الكلمات البسيطة أنها مجرد موعظة يعظ بها بعض غلمانه، ولكننا لو أردنا أن ننفتح على عمق هذه الكلمة وعلى امتدادها، فإننا نجد أن الإمام يريد أن يقول بأن كثيراً مما يرميه الناس ومما يترفون فيه يحتاج الآخرون إليه، فكأنه يريد أن يستوحي كلمة الإمام علي(ع) في الأفق العام لكلمة "ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني" لأن الإسلام فيما نستوحيه من التراث لا يريد لطاقةٍ أن تذهب هدراً في كل الأشياء بلا استثناء.
فنحن مثلاً نجد أن أحد الأئمة(ع) رأى شخصاً يسرف في الوضوء وهو على النهر، فقال له: لا تسرف في الوضوء، مع أن الوضوء على النهر لا يغيّر شيئاً ولا يبدّد الطاقة المائية، لكن المسألة هي أن الإنسان إذا اعتاد أن يتوضأ بأكثر من الكمية التي يحتاجها الوضوء فهو يعيش في سلوكيته الإسراف في الماء في المواقع الأخرى، لأن الإنسان عندما يستهين بالطاقة في موارد تواجدها الكبير، فإنه يستهين بها في موارد قلّتها.
وهذا ما نستوحيه من كلمة الإمام جعفر الصادق(ع) وهو يحدّث عن السرف والاقتصاد ويمثّل له بمثال، فيقول: "إن القصد أمر يحبّه الله والسرف أمر يبغضه الله، حتى طرحك النواة فإنها تصلح لشيء وحتى صبّك فضل شرابك"، فأنت ـ مثلاً ـ تأكل ثمرة أو حبة زيتون أو تمرٍ وترمي بالنواة إلى الأرض، أو أنك تأخذ كأس الماء وتشرب نصفه وتريق النصف الآخر.
إن الإمام(ع) يقول إن هذا من الإسراف حتى لو كنت مستغنياً عن الماء أو كانت النواة لا تمثل لك شيئاً، إذ لا ينبغي أن تفكر في حاجاتك من خلال غناك، ولكن فكّر في أنك تبدّد طاقة من دون أن تنتفع منها أنت أو ينتفع منها غيرك، فإذا كنت لست بحاجة إلى النواة، فإن هناك أناساً آخرين بحاجة إلى هذه النواة، وإذا لم تكن بحاجة إلى نصف هذا الكأس من الماء فإن هناك أناساً بحاجة إليه ليشربوه.
وهذه نظرية اقتصادية على مستوى الواقع العام، فلو فرضنا أننا الآن في مجتمعاتنا قد جمعنا كل نوى التمر وكل نوى الزيتون وكل نوى الثمار الأخرى وحاولنا أن نسخّر كثيراً من هذه الأشياء في عملية الإنتاج لاستطعنا أن نحصل على الكثير، وهكذا لو فرضنا أننا التزمنا في صرف الماء الذي نملكه بمقدار الحاجة وبمقدار التوازن لاستطعنا أن نوفر الكثير من طاقة الماء، هذه التي أصبحت مشكلتنا في العالم العربي وفي كثير من مواقع العالم الثالث، لأن المسألة هي أن الناس ربما يبددون الطاقة بالطريقة التي تستهلك الطاقة فيما لا يفيد وبما لا ينتفع به الآخرون..
فالإمام(ع) أراد إذاً أن يركز هذا النص: فأنت تأكل من الثمرة نصفها وهناك أناس لا يأكلون، فلتتقاسموا هذه الفاكهة بحيث تأكل الثمرة كلها وتبقي الفاكهة الأخرى لمن يحتاج إليها ممن لا يستطيع أن يجدها.. وهكذا، فهذا مبدأ عام يمكننا أن نستفيد منه في أكثر من مورد من موارد الطاقة على المستوى العام وعلى المستوى الخاص، ولعلنا نتفق أن أكثر ما يُرمى في المزابل يمكن له لو وُفِّرَ في البيوت أن يحلّ مشكلة كثير من الفقراء إذا أُحسن توزيعه وأُحسن استغلاله بما ينفع الناس ويحفظ كرامتهم( ).
لا شرك:
وهناك قصة تتعلق بدقّة إحساس الإنسان بالتوحيد في علاقته بالله تعالى بما لا يلتفت إيه الكثير من الناس، فعن (الوشا) قال: "دخلت على علي الرضا(ع) وبين يديه إبريق يريد أن يتهيّأ منه للصلاة، فدنوت لأصبّ عليه فأبى ذلك وقال: مه يا حسن، اكفف عن هذا، فقلت لما نهاني أن أصبّ علي يده: تكره أو أؤجر! ـ فأنا أريد أن أحصّل ثواب خدمتك عند الله سبحانه وتعالى ـ قال: تؤجر أنت وأُوزر أنا؟ ـ أنا أتحمل مسؤولية أمام الله، فقلت له: وكيف ذلك؟ ـ قال: أما سمعت الله سبحانه يقول: {فمَن كانَ يرجُوا لِقاءَ ربِّه فلْيَعْمَل عمَلاً صالِحاً ولا يُشْرِك بعبادَةِ ربِّه أحَداً}"( ).
فهو يريد في عبادته لله سبحانه وتعالى أن يعاني هذه المعاناة في مقدماتها، كما يعاني في طبيعتها حتى لا يكون في عبادته شيء لنفسه، بل يكون كله لله.. ومن الطبيعي فإن هذه المسألة توحي بعمق الإحساس بالتوحيد، بحيث لا يريد الإمام(ع) أن يشاركه أحد في عبادة الله حتى في المقدمات..
وهذا في النظرة الظاهرة لا ينافي التوحيد وليس شركاً، لأن قضية التوحيد هيأن تأتي بعبادتك مخلصاً لله، أما أن يعاونك أحد في مقدماتها فإن مقدماتها لا دخل لها بالعبادة، ولكن الإمام(ع) يريد أن يعيش عمق التوحيد في تجربته العبادية بما لا مجال فيه لأي شيء لغير الله سبحانه وتعالى...
وهذا درس نتعلمه منه في أن يكون لنا قلق الإحساس في التوحيد حتى في التعبير، وقد ذكرنا أن من بين التعبيرات المعروفة عند الناس أن يقول شخص لك إني أتوكل على الله وعليك وما لي إلا الله وأنت، فلولا فلان لهلكت، ولولا فلان لدمّرت حياتي، وهذا المعنى ورد في بعض الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) في استيحاء قوله تعالى: {ومَا يؤمِنُ أكثَرُهُم بالله إلا وهُم مُشْرِكون}( )، قال "كيف ذلك؟ قال: وذلك مثل أن تقول لشخص لولاك لهلكت. قال: إذن كيف نقول؟ قال: أن تقول: لولا أن منّ الله عليّ بك لكان كذلك"، بحيث تعتبر أن كل شيء من الله فــ{ومَا بِكُم من نعْمةٍ فمِنَ الله}( )، أن يكون الله هو أساس كل ما أنت فيه وأن يكون الناس بمثابة الأدوات والوسائل لتحصيل ما تريد أن تحصل عليه.. وهذا إنما يدل على مدى الحساسية في مسألة الشرك.
لذلك نقول لا بد أن ندقق في المسألة التعبيرية، وفي كل ما نتحدث به عن الأنبياء ومع الأولياء بحيث يكون الله هو أول الشيء وآخره، وأن يكونوا الشفعاء لديه الذين نطلب من الله يشفّعهم بنا، وأن يكرمنا بهم، لا على أساس أن ننسب الأمر إليهم لأن الله هو وحده القادر على ذلك كله وعلى غيره، ولأن {المساجِدَ لله فلاَ تدْعُوا معَ الله أحَداً}( )، ولذا يجب أن نتذكر أن كل الناس يدخلون في قلبك عن طريق الله، فالأنبياء يدخلون في قلبك وفي عقلك عن طريق الله، والأولياء يدخلون في عقلك وقلبك عن طريق الله، فلا يوجد أحد يدخل لحاله من دون الله سبحانه وتعالى، وهذا هو عمق التوحيد..
فنحن نختلف مع الوهابيين الذين يعتبرون أن الاستشفاع شرك والتوسل شرك، بل نقول إننا نستشفع بالأنبياء والأولياء، لأن الله أراد لنا ذلك وهو الذي حدّثنا أن هناك شفاعة وأنها لا تنفع إلا بإذنه {ولا يشْفَعونَ إلاّ لِمَنْ ارتَضى}( ).. وهكذا، فنحن عندما نتوسل بهم فليس على أساس أننا نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى، فنحن لا نعبد الأنبياء والأئمة ولا أحداً في الكون، فالعبادة لله وحده، لكن هذا أمر تعبّدنا الله به، فهذه القصة يمكن أن نستوحي منها الكثير مما تحدثنا عنه.
حقّ الله:
والإمام(ع) يتحدث مع أصحابه عن حقوق الله عليه كما لو كانت شيئاً يثقله ويعيش القلق الكبير تجاهه، وحتى يوحي للناس من حوله أن على الإنسان دائماً أن يدرس مقام ربه وموقعه من ربه وأن يحسب دائماً حقوق الله عليه ولا يغفل ذلك من نفسه بحيث يكون في حالة طوارئ شعورية وفكرية في التقاط حركته كلها ومشاعره كلها فيما لله عليه من حق..
ولنقرأ هذه القصة عن (البزنطي) قال: "ذكرت للرضا(ع) شيئاً، فقال اصبر فإني أرجو أن يصنع الله لك إن شاء الله، قال: فوالله ما ادّخر الله عن المؤمنين من هذه الدنيا خيرٌ له مما عجّل له فيها، ثم صغّر الدنيا، فقال أي شيء هي، ثم قال ـ وهو يريد أن يخفف عليه تأثير المشكلة والبلاء الذي يعيشه ـ إن صاحب النعمة على خطر أنه يجب عليه حقوق الله ـ بما فيها نعمة المال، والبنين، والجاه، والسلطة، فهذه ليست امتيازاً لك ـ {فأما الإنسان إذا ما ابتلاهُ ربُّهُ فأكْرَمَهُ ونعَّمَهُ فيقولُ ربِّي أكْرَمَنِ* وأمّا إذا ما ابتلاهُ فقدَر عليه رزْقه فيقول ربِّي أهانَنِ}( ) (كلا) فليس هذا كرامة وليس إهانة ولكنه امتحان واختبار.. فهل تقوم بحق الله في حالة يسرك أو عسرك، هذه هي المسألة ـ إن صاحب النعمة على خطر أن يجب عليه حقوق الله فيها والله (وهو يتحدث عن نفسه) ليكون عليّ النعم من الله عز وجل فما أزال منها على وجل، وحرّك يده حتى أخرج من الحقوق التي تجب لله عليّ، قلتُ: جعلتُ فداك، أنت ـ في قدرك ـ تخاف هذا، قال: نعم فأحمد ربي على ما منَّ به عليَّ"( )..
لأن الحمد من حقوق الله عليّ، وهذا أيضاً درس نتعلمه من الإمام الرضا(ع) بأن الله إذا أنعم علينا بنعمة فإن علينا أن ندرس حق الله في هذه النعمة قبل أن ندرس حقوقنا أو حقوق الناس الذاتية في ذلك، بعيداً عما جعله الله لهم منها.
المقاطعة على الأجر:
وفي قصة أخرى عن (سليمان بن جعفر الجعفري) قال: "كنتُ مع الرضا في بعض الحاجة، فأردت أن أنصرف إلى منزلي، فقال لي انصرف معي فبِت عندي الليلة، فانطلقتُ معه فدخل إلى داره مع المغيب فنظر إلى غلمانه يعملون بالطين أوراي الدواب ـ وأواري يعني محل سكن الدواب أو محابس الدواب ـ أو غير ذلك، وإذا معهم أسود ليس منهم، فقال ما هذا الرجل معكم، قالوا يعاوننا ونعطيه شيئاً، قال: قاطعتموه على أجرته ـ أي هل اتفقتم معه على الأجرة ـ قالوا: لا، هو يرضى منا بم نعطيه، فأقبل عليهم ليضربهم بالسوط وغضب لذلك غضباً شديداً، فقلتُ جعلتُ فداك، لمَ تدخل على نفسك ـ أي لماذا تزعج نفسك ـ قال إني نهيتهم عن مثل هذا غير مرة أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته.. واعلم أن ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثم زده لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظنّ أنك نقصت، يقول لك هذا لا يكفي أنا أستأهل أكثر، وإذا قاطعته ثم أعطيته أجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبة عرف ذلك لك ورأى أنك قد زدته"( ).. هذا يعطينا فكرة أن على الإنسان عندما يتفق مع شخصٍ ما في عمل عليه أن يركّز التعامل على قاعدة أن لا ينتهي إلى أية مشكلة نفسية أو اجتماعية فيه.
وهذا هو الخط الإسلامي في عملية التعامل مع الناس، وهو أن تسدّ أية ثغرة في العمل يمكن أن تنفذ منها مشكلة.. فنحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن الدَين في آية الدين في قوله تعالى: {إذا تدايَنْتُم بدَيْنٍ إلى أجَلٍ مسمَّى فاكتُبوهُ وليكتُب بينَكُم كاتِبٌ بالعدلِ... وإن كنتُم على سفَرٍ ولَمْ تجِدوا كاتِباً فرِهانٌ مقبوضة}( )، فهل أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يفقدنا الثقة ببعضنا البعض كما قد يخيّل لبعض الناس، حيث يقول أحدهم نحن أصدقاء أو أقرباء، فلا حاجة لكتابة الدين، لكن الله أراد أن يقول لك عندما تدخل في هذه المعاملة مع أي شخص وثّق المعاملة، فقد يكون الشخص ثقة ولكن ربما ينحرف كالكثير من الناس الذين إذا لم يجدوا وثيقة الديون عليهم أنكروها في لحظات الضعف، أو ربما يموت ويجيء بعده ورثته فلم يجدوا وثيقة فينكرون عليك حقك.
وبهذا يريد الإسلام في التعامل أن تكون هناك حدود مضبوطة بحيث تعمل على منع حدوث أية مشكلة ولو بنسبة (10%) وفي هذه الحالة يكون الناس أقرب إلى الإسلام في دائرة التعامل وتخفف الكثير من النتائج السلبية.
شخصية الحاكم:
وهناك قصة للإمام الرضا(ع) مع الصوفية، والتصوّف في عمقه يعطي معنًى روحياً إيجابياً، ولكن مشكلة بعض المتصوفة والمتزهّدة والذين يعيشون في داخل الزوايا الفكرية الضيقة أنهم يحددون المسألة الروحية بالشكليات التي قد تخدع الناس، وقد يستغلون ذلك ليتقدموا بهذه الشكليات التي تسقط القضايا الكبرى، فالكثير من الناس يرون أن الزهد هو أن تلبس لباساً بالياً وأن لا تأكل طعاماً جيداً، وأن تظهر بمظهر الإنسان الذي لا يملك أي وضع مترف في الحياة.
إن الإمام الرضا(ع) عندما قبل ولاية العهد وجاء الناس بالتهنئة له دخل عليه قوم من الصوفية وعبّروا له عن تطلعاتهم في مستقبل أمره عندما يحكم، وكأنهم يريدون أن يضعوا له خطوط الطريقة التي لا بد أن يستعملها في تحقيق حكمه، فكيف واجههم؟ قال (الآبي) في نثر الدر: "دخل على الرضا بخراسان قوم من الصوفية فقالوا له: إن أمير المؤمنين المأمون نظر فيما ولاّه الله من الأمر فرآكم أهل البيت أولى بأن تؤموا الناس، ونظر فيكم أهل البيت فرآكم أولى الناس بالناس فرأى أن يردّ هذا الأمر إليك ويجعلك ولي عهده، والأمة تحتاج إلى من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض، قال: وكان الرضا متكئاً فاستوى جالساً ثم قال: كان يوسف(ع) نبياً يلبس أقبية الديباج المزوّرة بالذهب ويجلس على متكئات آل فرعون ويحكم، إنما يُراد من الإمام قصطه وعدله، إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز"، أي أنكم تنظرون إلى شخصية الحاكم في أن يظهر للناس بشكل الزهّاد ولا تنظرون إلى عدله وصدقه وإلى إنجازه لوعده حتى لو أكل ولبس طيّباً ولكن من حلال، "إن الله لم يحرّم لبوساً ولا مطعماً وتلا: {قُلْ من حَرَّمَ زينَةَ الله التي أخْرَجَ لعباده والطيِّبات من الرزق}( )"( ).
عندما ندرس هذه القصة دراسة موضوعية، فإننا نجد أنها توحي لأبناء الأمة بأن عليهم أن يدرسوا الحاكم من خلال شؤون الحكم، وذلك أن الكثير من الناس قد يستغلون عواطف الأمة وانفعالاتها ومشاعرها السطحية ليبرزوا إلى الناس كما لو كانوا من الطيبين الزاهدين وما إلى ذلك، لذلك إذا اختزنت الأمة في ارتباطها بالحاكم وفي التزامها به قيمَ الحكم والمسؤولية، فعند ذلك من الصعب أن يخدعها شخص، لأن الإنسان قد يخدع الناس في أكله وشربه ولبسه وفي بعض سطحيات حركته وممارساته ولكنه لا يستطيع أن يخدع الناس في القضايا الأساسية الحقيقية، وهذه مسألة تتصل بالوعي السياسي والاجتماعي والديني أيضاً.. وخلاصة الفكرة هي أن نرتبط بعمق القضايا لا بسطحها.
أخوّة الإيمان فوق القرابة:
وفي نهاية المطاف يتحدث الإمام عن القيم الإسلامية المتصلة بموقفه من قرابته إذا كانت منحرفة، فلقد كان للإمام أخ اسمه (زيد بن موسى) بالمدينة، وهذا الرجل كان قد عبث بالأمن بارتكاب بعض الجرائم فأمسكه المأمون ودفع به إلى الإمام الرضا(ع) حتى يتخذ منه موقفاً، فكيف كان موقف الإمام؟ يقول أحد الرواة: حدثني ياسر "أنه خرج زيد بن  موسى أخو أبي الحسن بالمدينة وأحرق وقتل وكان يسمى زيد النار، فبعث إليه المأمون فأُسر وحُمِل إلى المأمون، فقال المأمون اذهبوا به إلى أبي الحسن ـ قال ياسر وهو الراواي ـ فلما أُدخل إليه قال له أبو الحسن: يا زيد غرّك قول سفلة أهل الكوفة أن فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريّتها على النار"، وأنت تعتبر نفسك من ذرية فاطمة(ع) وأنك من أهل الجنة مهما أجرمت ومهما عملت "ذلك للحسن والحسين خاصة لا يتجاوزهما إلى غيرهما" فإن كنت ترى أنك تعصي الله وتدخل الجنة و(موسى بن جعفر) أبوك وقد أطاع الله ودخل الجنة فإنك إذاً أكرم على الله عز وجل من موسى بن جعفر "والله ما ينال أحد عند الله عز وجل إلا بطاعته، وزعمت أنك تناله بمعصيته فبئس ما زعمت" فقال له زيد: أنا أخوك وابن أبيك، فقال له أبو الحسن(ع): "أنت أخي ما أطعت الله عز وجل ـ أي أخوة الإيمان والطاعة، لا أخوة النسب ـ إن نوحاً قال: {ربِّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدَكَ الحقّ وأنت أحكمُ الحاكمين}( ) فقال الله عز وجل: {يا نوح إنه ليسَ من أهلِكَ إنه عملٌ غير صالح}( ) فأخرجه الله من أن يكون من أهله بمعصيته"( ).
وقيمة هذه القصة أنها تتصل بأقرب الناس إليه وهو أخوه، لهذا رجل أبوه موسى بن جعفر ويتصل برسول الله(ص) وأيضاً هو أخ الإمام وعم الإمام أيضاً إلى آخر السلسلة، ومع ذلك فإن الإمام(ع) هنا يتحدث أمام الناس ويبيّن أسس التقييم وأن القرابة لا تصلح أساساً لأية قيمة إذا لم تنفتح على الخط الذي يعطي معنى القيمة للرسالة، وهذا ما يجب أن نعيشه في كل واقعنا لا أن نقول بأن فلاناً بن فلا يجب أن نحترمه من دون اعتبار الكفاءة، كما نرى أن بعض أولاد العلماء عندما يموت العالم يأتيه الناس ويلبسوه عمامة وإن كان جاهلاً، لأن بيت فلان يجب أن يبقى مفتوحاً، أو لو مات شخص وجيه في البلد فيجب أن نلبس انبه (العباءة) على طريقة العشائر وإن كان هو لا يفهم شيئاً من ذلك كله.
وهكذا لا تزال مسألة القرابة تفرض نفسها على الذهنية الشرقية بشكل عام، ويمكن أن تمتد إلى بقية العالم الثالث حتى خارج نطاق الشرق، ولهذا ضرب القرآن لنا مثلاً في قضية نوح(ع)، والإمام(ع) أكّد ذلك، فالقرآن لم ينزل إلا في أبي لهب، فبالرغم من مواجهة النبي(ص) من قِبَل أعتى المشركين فهو لم ينزل في أبي سفيان ولا في أبي جهل ولكن نزل في أبي لهب حتى يؤكد الله سبحانه وتعالى أن القرابة لا تمثل قيمة عند الإسلام.
وهذا ما يجب علينا أن نلتزمه في عملنا السياسي والاجتماعي والديني والثقافي كله، بأن ننطلق مع الإنسان من خلال ما يملك من قيمة لا من خلال ما يملك أبوه من عناصر القيمة يقول (أبو فراس الحمداني):
    كانت مودة سلمان لهم رحِماً        ولم يكن بين نوحٍ وابنه رحمُ    
ثم التفت الإمام إلى شخص حاضر وهو (الحسن بن  الجهم) فقال له: "يابن الجهم، من خالف دين الله فابرأ منه كائناً من كان ـ أي من أي قبيلة كان من بني هاشم أو من غيرهم ـ وما عادى الله فلا توالِهِ كائناً من كان ومن أي قبيلة كان، فقلت يابن رسول الله، ومن ذا الذي يعادي الله، قال: من يعصيه"( ).
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ نستطيع أن نخرج من هذا الخط الذي رسمه لنا الإمام الرضا(ع) في تجربته الخاصة وفي واقعه الخاص انطلاقاً من خط القرآن وخط الإسلام في سيرة رسول الله(ص) أن ننطلق مع هذا الخط وأن تكون مسألة الإسلام في التزامنا العقيدي والشعوري والعملي والحركي، وأن يكون الإسلام هو كل شيء في تقويمنا للأشخاص وللأشياء، لأن معنى ذلك أن يكون الله هو الأساس في كل علاقاتنا بالإنسان وبالمكان وبالزمان، وذلك هو معنى التوحيد، وذلك هو خط أهل البيت(ع)، "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ"( )، "فوالله لا تُنال ولايتنا إلا بالورع"( ). وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

المحاضرة الرابعة:25 صفر 1419هـ الموافق 20 - 6 – 1998م


في ذكرى وفاة الرسول الأعظم(ع)
المسؤولية القيادية

"ليكن لكلّ واحدٍ منّا دوره القيادي في حجم طاقته وموقعه"


ـ في ذكرى وفاة الرسول(ص).
ـ بقاء الإسلام.
ـ ثلاثة مواقف متباينة.
ـ أحاديث النبي(ص) قبل وفاته.
ـ ملازمات الإيمان.
ـ وصيّته لـ"معاذ بن جبل".
ـ الإيمان والنفع للعباد.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في ذكرى وفاة الرسول(ص):
يقول تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}( ).
نستقبل ـ بعد يومين ـ ذكرى وفاة رسول الله(ص) على الرواية المشهورة بين علماء الإمامية، وعندما نتذكر وفاته(ص) فإننا نتحسس خسارة دنيانا من هذا اللطف الإلهي العظيم الذي كان متمثلاً برسول الله(ص)، في هذه الروحانية الفيّاضة التي كان الناس يتمثلونها في النظر إلى عينيه وإلى كل ملامح وجهه فيعيشون في جوٍ روحي تشرق فيه الروحانية في عقولهم وفي قلوبهم وفي مشاعرهم قبل أن يتكلّم.
وكانوا يرون فيه الرسالة المتجسّدة في معانيها الروحية والأخلاقية كلها، كما كانوا يرون في حركته في الواقع الإسلام الحركي كلّه الذي يوحي للناس بالمنهج الذي يجب عليهم أن ينتهجوه في قضاياهم الخاصة والعامة كلها.. ولهذا فقد كان النبي(ص) يمثل هذه البركة الإلهية التي عاشها الناس لفي عهده قبل أن يكون نبياً.. فقد كانت نبوته جنينية في شخصيته، وبعد أن صار نبياً شعَّت نبوّته إلى حركية في حياته، وقد ارتفعت هذه البركة عن الناس عند وفاته وانقطع ما كان يصل الناس بالله وهو الوحي الذي كان يأتيه في كل قبضية من القضايا الفكرية التي يريد الله للناس أن ينتهجوها في فكرهم، والقضايا الروحية التي أراد الله للناس أن يعيشوها في حركة روحهم، في كل ما يواجهونه من مشاكل وقضايا وأحداث وتعقيدات، حيث كان الوحي ينزل ليثبّت فؤاد النبي(ص) وليثبّت الذين آمنوا.
عندما نستقبل ذكرى الوفاة، فإننا نتحسس هذا الشعور في كل وقت، لأن رسول الله(ص) لو كان بيننا في شخصه لاستطعنا أن نتخلّص من كثير من مشاكلنا الفكرية والروحية والنفسية والاجتماعية، ولكن الله قال له {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}( )، وقال له: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}( ).
بقاء الإسلام:
ولكن النبي(ص) يمضي ويبقى الإسلام، وهذا ما عبّر الله عنه قبل أن يختار نبيّه إلى جواره، وذلك في (موقعة أُحُد) عندما اعتدى القوم على رسول الله(ص) فشجّت جبهته وانكسرت رباعيته وسقط إلى الأرض وصاح صائح "لقد قتل رسول الله"، ففي الرواية عن تلك الحاديث "خلص العدو إلى رسول الله فدُثَّ بالحجارة ـ يعني رمياً مؤلماً ـ حتى وقع لشقه ـ لجانبه ـ فأصيبت باعيته وشجّ في وجهه وكُلمت ـ أي جُرحت ـ شفته"( )، فكيف تمثّل المسلمون هذه الإشاعة، إشاعة أن رسول الله(ص) قد قُتل؟
فهناك أناس وقفوا حائرين لا يعرفون ماذا يفعلون، وهناك أناس راحوا يتحركون في خط الانحراف والانقلاب على الأعقاب، وهناك أناس ثبتوا على وعيهم للإسلام وللرسول، وأن الرسول إذا مات فإن خطه يبقى وأن على المسلمين أن يقاتلوا عل الخط الذي رسمه رسول الله(ص).
وينقل (ابن اسحاق) في سيرته على ما نقله (ابن هشام) في السيرة، قال: "حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار، قال: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخاطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، يعني وقفوا موقف الحائر الذي لا موقف له لا إيجاباً ولا سلباً، فقال: ما يجلسكم والمعركة دائرة؟ قالوا: قُتل رسول الله(ص)، قال: وما تصنعون بالحياة من بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل"( ).
هنا يتجلى موقفان: موقف هؤلاء الرجال من المهاجرين والأنصار الذين سمعوا بهذه الإشاعة فصدموا واعتزلوا المعركة ولم يحرّكوا ساكناً في هذا الاتجاه، وموقف هذا الرجل الذي ما إن سمع بالإشاعة حتى أشرق الوعي في عقله وقلبه وحرّكه في الخط، وقال تعالوا لنموت على ما مات عليه رسول الله، وقد أكّد موقفه بشهادته، وهذا هو الموقف الثاني.
وهناك فريق ثالث، قال (الطبري): "وفشا في الناس بأن رسول الله(ص) قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة ـ هذه الصخرة التي كانت في الجبل والتي أمر رسول الله  جماعة أن يبقوا فيها مهما كانت نتائج المعركة ـ ليت لنا رسول إلى عبدالله بن أبي ـ وهو شيخ المنافقين، وكان بينه ويبن أبي سفيان حلف خفي ـ فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان، يا قوم إن محمداً قد قُتل فارجعوا إلى قومكن قبل أن يأتوكم فيقتلوكم ـ قال الطبري: ـ فقال الله للذين قالوا هذا القول {وما محمد....}"( )، فهؤلاء جماعة لم تكن مشاركتهم في القتال على أساس وعيهم لرسالة المعركة وثباتهم على الخط الإسلامي الذي رسمه رسول الله(ص) بأمر من الله، بل كانت المسألة في السطح من تفكيرهم أو في السطح من مشاعرهم.
ثلاثة مواقف متباينة:
وعندما نقف مع هذه الآية في قبال المواقف الثلاثة المختلفة: موقف الحياديين الذين اعتزلوا، أو الحائرين، وموقف المجاهدين، وموقف المنقلبين على الأعقاب، نلاحظ أيضاً أن هناك موقفاً رابعاً قد يبعث على كثير من الحذر وهو الموقف الذي أعقب موت رسول الله(ص) عندما سمع الناس (عمر بن الخطاب) وهو ينكر أن يكون رسول الله(ص) قد مات ويقول إنه غاب كما غاب موسى(ع) عن قومه أربعين ليلة، ويهدّد الذين يعلنون موته بأنه سوف يرجع ويقاتل أو يعاقب الذين قالوا والنبي مسجّى، والكل يعرف ذلك، وكان (أبوبكر) غائباً، وشُغل الناس بكلام عمر حتى جاء (أبو بكر) وتلا عليهم هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}( )، وقال: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد ربّ محمد فإن ربّ محمد لم يمت".
إن الحيرة لتأخذنا في أنه كيف تسنّى لعمر أن يشغل المسلمين بمثل هذه المقولة التي لا يمكن أن يقولها أحد، وهي أن يكونالني قد غاب وسيرجع، إنها ليست واردة ولو بنحو الواحد بالمليون، لأن النبي مسجّى وليس غائباً عن الناس حتى يُقال عنه أنه غاب كغيبة موسى(ع) أربعين ليلة، ولعل التفسير الذي يمكن أن يبرز أمامنا هو أنه كان يريد أن يشغل الساحة الإسلامية آنذاك حتى يأتي أبوبكر فيحسم الموقف بالطريقة التي يمكن أن يملأ فيها الفراغ ليحدث ما يحدث بعد ذلك.
فعندما نتذكر هذه الآية فلا بد لنا أن نتذكر هذه المسألة، إذ كيف يمكن أن يقول المسلمون أو يقول (عمر) آنذاك بأننا "كأننا لم نسمع هذه الآية" فتلك أمور تدعو إلى التساؤل وعلينا أن نرسم أكثر من علامة استفهام حتى نستطيع أن نفهم خلفية بعض الحقائق بكل موضوعية، ومن دون أي سجال في ساحة العصبيات، لأننا لا نريد للقضايا التاريخية الموضوعية أن تخضع للعصبيات المذهبية أو غير المذهبية، ذلك لأن هناك فرقاً بين الغوغاء وبين الكلمات العلمية الموضوعية الهادفة.
وهناك ملاحظة في ذلك الجو، لا بد لنا أن نتوقف عندها، وهي كيف حدث ما حدث بأن يجتمع المهاجرون والأنصار ليقال "منا أمير ومنكم أمير"، وكيف ينفذ بعض المهاجرين إلى الساحة ليقطع النزاع وليحسم الأمر بالبيعة لأبي بكر في الوقت الذي كان رسول الله(ص) مسجى وأهل بيته مشغولون بتغسيلهن وتكفينه، وكيف يمكن أن يغيب شخص مثل علي(ع) الذي عرف المسلمون كلهم موقعه من رسول الله وموقعه من الخلافة، كيف لم ينتظروا دفن رسول الله(ص)، وكيف لم ينتظروا حضور علي(ع) على الأقل ليعطي رأيه في المسألة؟!!
هذه علامات استفهام لا بد أن تُبحث بموضوعية حتى نستطيع ان ندرس الأمور بالطريقة التي نملك فيها الوضوع بما يلغي الكثير من الجدل، والآية كما سمعنا تؤكد على أن الرسول يغيب إما بالقتل كما أُشيع في أُحُد وإما بالموت كما حدث، ولكن على الأمة أن تتحرك في خط الرسالة وأن تستمر في حملها والدعوة إليها والجهاد في سبيلها، لأن الله أرسله برسالته ولم يكن دوره أن يبقى مع الرسالة حتى آخر الدنيا، بل أن يركّز قواعد الرسالة بالكلمة وبالسيرة وبالتوعية وبكل الوسائل التي يمكن أن تعمّق الرسالة في وجدان الناس وأن ترسم خطوط السير وأن تعرّف الناس أهدافها فيما يجب عليهم أن يحصلوا عليه من أهداف.
أحاديث النبي(ص) قبل وفاته:
وهنا لا بد أن نعيش بعض ما تحدّث به النبي(ص) قبيل وفاته لنعرف بعض إيحاءات الأجواء التي كانت تشغل رسول الله(ص)، فلقد جاء في (أصول الكافي) عن (حنان بن سدير الصيرفي) قال: سمعت أبا عبدالله(ع) الإمام جعفر الصادق يقول: نعيت إلى النبي(ص) نفسه وهو صحيح ليس به وجع، قال: نزل به الروح الأمين فنادى(ع) الصلاة جامعة وأمر المهاجرين والأنصار فاجتمع الناس فصعد النبي(ص) فنعى إليهم نفسه، ثم قال: "أذكر الله الوالي من بعدي على أمتي أن لا يرحم على جماعة المسلمين ـ والـ"لا" هنا إما أن تكون حرف تخصيص أو أنها زائدة، مثل {ألن نجمع عظامه} أو ما أشبه ويعني أن يرحم جماعة المسلمين ـ فيُجلُّ كبيرهم ويُرحم ضعيفهم ويُوقر عالمهم، ولم يضربهم فيذلهم، ولم يفقرهم فيكفرهم، ولم يغلق بابه دوهم، فيأكل قويهم ضعيفهم، ولم يجمرهم ـ تجمير الجيش في نفورهم وحبسهم عن العودة إلى أهلهم ـ فيقطع نسل أمتي، لأنه يفصل بينهم وين أزواجهم. ثم قال: قد بلّغت ونصحت فاشهدوا، قال أبو عبدالله هذا آخر كلام تكلم به رسول الله(ص)"( )، أي في خطابه للمسلمين.
ونأخذ من هذه الكلمات كيف كان النبي(ص) مشغولاً بتأسيس المنهج الذي ينبغي أن ينهجه الوالي على شؤون المسلمين في رعاية المسلمين في الطريقة التي يتحمّل فيها مسؤوليتهم لإدارة شؤونهم بما لا يسقط الضعيف ولا يضطهد الصغير، ولا يسيء إلى الكبير ويحفظ العلماء وينطلق بالأمة بما يرفع مستواها.. ونجد أيضاً كيف يوصي ابنته الزهراء(ع) فيما تفعله في التعبير عن حزنها عليه..
جاء في (الكافي) عن (عمر بن أبي المقدام) قال: "سمعت أبا جعفر(ع) الإمام الباقر يقول: تدرون ما قوله تعالى: {ولا يعْصينَكَ في معروفٍ}( )، قلت: لا، قال: إن رسول الله(ص) قال لفاطمة(ع): إذا أنا متُّ فلا تخمشي عليَّ وجهاً ولا ترخي عليَّ شعراً ولا تنادي بالويل ولا تقيمي عليّ نائحة، قال: ثم قال: هذا المعروف الذي قاله الله عز وجل" .
وحسب هذه الرواية فإن الزهراء(ع) ـ وهي المعصومة ـ التزمت التزاماً كاملاً بوصية رسول الله(ص)، فكان حزنها حزناً إسلامياً إنسانياً روحياً في حجم المصيبة، ولكن في خط الإسلام على الطريقة التي سنّها رسول الله(ص) في الحزن عندما فقد ولده إبراهيم وقال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما لا يرضي الله، وإنا من بعدك يا إبراهيم لمحزونون"، وهكذا كان رسول الله(ص) يريد للحزن من بعده في أقرب الناس إليه، والتي كان يعرف مدى محبتها له من خلال محبته لها، حتى أننا لنعرف عمق هذه المحبة من الزهراء(ع) لأبيها(ص) من خلال وداعها له حيث ضمّها إلى صدره فبكت ثم ضمّها إلى صدره ثانيةً فضحكت وقيل لها في ذلك، وقالت ـ كما تقول الرواية ـ "ما كنتُ لأفشي سرَّ رسول الله(ص) في حياته" ثم بعد أن انتقل رسول الله(ص) إلى الرفيق الأعلى قالت "حدثني أولاً أنه سوف ينتقل إلى جوار ربه فبكيت، ثم حدّثني في المرة الثانية أني أول أهل بيته لحوقاص به فضحكت"..
إن عمق هذه المحبة يتجلّى في أن نرى الزهراء(ع) وهي في الثامنة عشر من عمرها وهي زوجة مخلصة لزوجها وأم مخلصة لأولادها، تضحك وتبتهج لأنها لن تفارق رسول الله(ص) طويلاً وإن كانت ستفارق زوجها وأولادها، مما يوحي بأن علاقتها برسول الله(ص) هي أعمق من كل علاقة أخرى، وهذا هو الذي يفسّر كل هذا التفاعل المتبادل بين الزهراء وأبيها الذي قال "إنها أمُّ أبيها" وأنها بضعةٌ منه وما إلى ذلك.
ملازمات الإيمان:
وفي خطبة له بمِنَى نستوحيها في واقعنا ونحن نتذكره: "نصر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها، فكم من حامل فقه إلى من هو أفقه منه: ثلاثة لا يغلّ عليها قلب عبد مسلم ـ عادي ـ إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سوهم ويسعى بذمتهم وأدناهم"( ).
هذه المقالة التي ريد النبي(ص) أن لا يغلق عنها قلب إنسان مسلم مخلص لله، لأن التوحيد هو الذي يجعلنا  نرتبط بالله سبحانه وتعالى ليكون الله كل شيء عندنا، والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، لأن أئمة المسلمين هم الذين يتحملون مسؤولية قيادة الواقع الإسلامي في كل ما يرفع مستوى المسلمين وفي كل ما يمنحهم القوة، فعلى المسلمين أن يقدّموا النصح لهم في كل الدراسات والتقارير التي تقدم لهم صورة الواقع والخطوط التي يتحرك فيها والخلفيات التي تؤثّر فيه والنتائج أو الاقتراحات التي يمكن أن تعالج المشكلة، ثم اللزوم لجماعتهم بأن يبقى المسلمون جماعة متراصّة لا يخرج أحد عنها في القضايا الأساسية، وهي القضايا الحيوية والمصيرية، فإذا تنازعوا في شيء فإن عليهم أن يردّوه إلى الله وإلى رسوله. ولذلك أكد النبي(ص) على النقطة الثالثة "فإن دعوتهم محيطة من ورائهم" يعني تضمّهم جميعاً.
"المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم" فليس هناك دم امرئ مسلم يمكن أن يرتفع في الطبقة الشرعية على دم امرء مسلم في القضايا وهو واحد، سواء كان المقتول من أعلى الناس أو كان القاتل من أسفل الناس "وهم يد على من سواهم" يعني أن تكون أيديهم موجهة للذين يعتدون على المسلمين والذين يعملون على إسقاطهم "ويسعى بذمتهم أدناهم" أي أن أقل إنسان يمكن أن يعطي الأمانة والذمة وعلى الآخرين من المسلمين أن يقبلوا ذلك في نطاق المصلحة العامة.
وهذه الموعظة النبوية التي تحدّث بها النبي(ص) في حجة الوداع لا بد لنا من أن نعيشها في واقعنا الذي نعيش فيه الغشّ والتمزّق والضعف والابتعاد عن مسؤولية العمل على أساس تقوية جماعة المسلمين.
وصيته لـ (معاذ بن جبل):
وختاماً نقرأ وصيته لـ (معاذ بن جبل) لما بعثه إلى اليمن، وهي وصية يحتاجها كل المبلّغين والعاملين على توعية الناس:
"يا معاذ: علّمهم كتاب الله" فينبغي لكل عالم مبلّغ ولكل خطيب مبلّغ أن يكون كتاب الله هو الأساس في تعليمه للناس، قراءةً وحفظاً وتفسيراً واستيحاءً.
"وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة" حاول أن تعظهم وتدفعهم إلى أن يأخذوا بالمنهج الأخلاقي في إيجابيات الأخلاقيات الإسلامية فيما يأخذ به المسلمون في حياتهم أو في سلبيات الأخلاق الإسلامية فيما ينبغي للمسلمين أن يبتعدوا عنه.
"وأنزل الناس منازلهم خيرهم وشرهم" أي انزل الناس في خط الخير على أساس أن تشجّع الخيّرين وأن تعطيهم منزلتهم في الخير، أما الشريرون فإن عليك أن تنزلهم منازلهم وأن تؤنبهم على ذلك.
"وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحق" عليك أن ترفق وتلين جانبك وعليك أن تعفو بشرط أن لا يؤثر العفو على الحق.
"وليكن أكثر همّك الصلاة" لأن "الصلاة معراج المؤمن إلى الله".
"فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين" باعتبار أن الصلاة تمثل العمل الذي يوحي إليك في كل وقت بحضور الله في كيانك كلّه وحضورك أمام الله في واقعك كله حتى لا يصلك أي فاصل بشري أو شهواني أو ضلال أو ما إلى ذلك.
"وذكّر الناس بالله واليوم الآخر" حدّثهم دائماً عن الله في مواقع عظمته ليعظم الله في قلوبهم وحدّثهم عن الله في مواقع نعمته ليشكروا الله على ذلك بأقوالهم وأفعالهم.
"واتّبع الموعظة فإنه أقوى لهم على العمل بما يحبّ الله ثم بثّ فيهم المعلمين" أي عندما يكون شخص ما عالم بلد ولا يستطيع أن يستوعب الساحة أو مسؤولاً عن بلد ولا يستطيع أن يستوعب كل الساحة فإن عليه أن يربّي مبلّغين ويبثّهم في الناس من أجل أن يعلّموهم فيما لا يملك هو فرصة تعليمهم في التفاصيل أو في الخطوط العامة.
"ولا تخف في الله لومة لائم" أي ليكن موقفك في أمر الله موقف القوي الشجاع الذي لا يخضع لأي لوم من أي شخص.
"وأوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وبذل السلام وحفظ الجار ورحمة اليتيم وحسن العمل وقصر الأمل وحب الآخرة والجزع من الحساب وكظم الغيظ وخفض الجناح، وأحدث لكل ذنب توبة، السرّ بالسرّ والعلن بالعلن"( )، فإذا كان ذنبك سراً فأحدث لله توبة في سرّك قبل أن يتعقّد الذنب في مصيرك، وعندما يكون الذنب علنياً فاحدث لله توبة في العلن.
الإيمان والنفع للعباد:
وختاماً يقول رسول الله(ص) على ما روي عنه "خصلتان ليس فوقهما من البرّ شيء، الإيمان بالله والنفع لعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما من الشرّ شيء، الشرك بالله والضُرّ لعباد الله"، وعلينا أن نقتدي برسول الله في ذلك كله..
وعلينا ـ أيها الأحبة ـ ونحن نتذكر وفاة رسول الله(ص) أن نتعرف مسؤولياتنا في الجيل الذي نحن جزء منه، فلهذا الجيل مسؤول عن الدعوة إلى الإسلام وعن حماية الإسلام وعن انتقاص الباطل وإذلاله ونصرة الحق وإعزازه، وعن التحرّك بكل قوة في مواجهة كل من يريد بالإسلام أو بالمسلمين سوءاً.
أيها الأحبة، قال رسول الله(ص): "كلكُم راعٍ وكلٌ راعٍ مسؤول عن رعيّته" فليكن لكل واحد منا دور قيادي بحجم طاقته وبحجم موقعه، انطلاقاً مع الدعاء "اللهم إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلٌ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها ـ وهذا هو محل الشاهد ـ من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة"، وبذلك يكون احتفالنا بوفاة رسول الله(ص) حركة في الوعي وفي الواقع وتحدياً لكل سلبيات الواقع ورداً للتحدي. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الخامسة: 3 ربيع الأول 1419هـ الموافق 27 - 6 – 1998م


آثــار البهتــــان

"نحن مولعون بالبهتان.. ولذا ضاعت الحقيقة بيننا"


ـ البهتان.
ـ الكذب على الله ورسوله.
ـ الكذب على الواقع.
ـ الكذب المتصل بالناس.
ـ المسألة في مرآة القرآن.
ـ مسلم يسرق ويتهم يهودياً.
ـ من موارد البهتان الأخرى.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

البُهتـــان:
موضوعنا في هذه الليلة حول عنوان أخلاقي سلبي يتصل بالواقع الاجتماعي في علاقة الناس بالناس، وهو (البهتان) الذي هو فرد من أفراد الكذب، ولكنه فرد يتميز بأنه الكذب الذي يتصل بموقف الإنسان من إنسان آخر، أو من جماعة أخرى.
وقد تحدّث القرآن عنه في أكثر من آية كما تحدثت الروايات الواردة عن النبي(ص) وعن أهل بيته(ع) باعتبار أنه يمثّل وسيلة من وسائل إرباك المجتمع من خلال إرباك الصورة الحقيقية للأشخاص.. والكذب على ثلاثة أقسام:
الكذب على الله ورسوله:
1 ـ القسم الأخطر هو (الكذب على الله ورسوله)، لأن هذا النوع من الكذب يزيّف الحقيقة الرسالية ويحوّل التصوّر من تصوّر للحقيقة إلى تصوّر للباطل باسم الحقيقة، مما يعني تقديس الباطل وتقديس الخطأ.
وقد حفل التراث الإسلامي بالكثير من ذلك، حتى أن الرواة يروون عن الرسول الأعظم(ص) أنه قال: "قد كثُرت عليَّ الكذّابة وستكثُر، فمن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّء مقعده من النار"( )، وما أكثر ما كذب الناس على رسول الله(ص) وعلى الأئمة من أهل البيت(ع).
ولقد أثّر هذا الكذب على التصوّر الإسلامي كلّه، فأصبحنا نجد ركاماً من الأحاديث التي إذا قرأتها فإنك تجد الكثير من التناقض بينها، والانحراف عن الخطوط القرآنية الأساسية، ولهذا رأينا أن أئمة أهل البيت(ع) عندما كثرت الأحاديث الكاذبة عنهم وعن رسول الله(ص) أكثروا الأحاديث التي ترسم الموقف العام تجاه هذه المشكلة "لا تقبلوا علينا خلاف القرآن"( )..
و"كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"( )، و"لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنّة"( )، و"إذا وصل إليكم منّا حديث يلزمكم العمل به فإن وجدتم عليه شاهداً من كتاب الله يكون لكم مفراً عند المخالفين"( ) حتى لا تختلط الأمور على الناس.
ولعلّ من أكبر المسؤوليات المترتبة على العلماء والمثقفين أو يبقوا في عملية تنقية وتصفية لكل هذا التراث الذي وردنا عن رسول الله(ص) أو عن أئمة أهل البيت(ع).. ولا بد أن نلاحظ أن بعض الناس قد يقولون أن هذه الأحاديث واردة عن النبي(ص) والأئمة(ع) فكيف نطرحها جانباً.. فهناك (البحار) وهناك (الكافي) و(من لا يحضره الفقيه) و(البخاري) و(مسلم) إلى آخر كتب الحديث.
وفي الواقع، نحن لا نطرح أحاديث رسول الله(ص) لقول الله تعالى: {مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}( )، ولا نطرح أحاديث أهل البيت(ع) لأن حديثهم هو حديث رسول الله(ص) ولكن لا بد أن نثبّت هل أن هذا الحديث قاله رسول الله(ص) أو لم يقله.. فتوثيق الحديث فيما إذا كان قاله أئمة أهل البيت(ع) أم لم يقولوه، هو المسألة المهمة هنا، ولا يجوز للإنسان أن يقول: قال رسول الله(ص) أو قال الإمام علي(ع) أو قال الإمام الصادق(ع) إلا إذا ثبت ذلك بحجة شرعية، وألا يكون كاذباً في ذلك.
وكما ذكرنا، فإن خطورة هذه المسألة تتمثل في أن الحديث الذي تحدّث به عن الله سبحانه وتعالى أو الحديث الذي تحدّث به عن الرسول(ص) أو عن أئمة أهل البيت(ع) هو حديث عن الإسلام، فإذا كان الحديث كاذباً فإنك تكذب على رسول الله(ص)، ومن جهة خطورة الكذب على الله ورسوله اعتبره المشهور من الفقهاء أنه مفطّر للصائم.
الكذب على الواقع:
2 ـ أما القسم الثاني من الكذب، فهو الكذب على الواقع، وهو أن تنقل صوراً عن الواقع الأمني، بحيث أنك تحدّث الناس عن أن هناك أمناً في وقت قد لا يكون هناك أمن، أو أن هناك خطراً في وقت قد لا يكون هناك خطر، أو أنك تحدّث الناس عن بعض الأوضاع الاجتماعية أو السياسية أو بعض ما يختلف الناس فيه من عصبياتهم وأوضاعهم، أو أنك تعطي صورة غير صحيحة بأن تصور الواقع بغير صورته، وهذا هو عمل المنافقين والذي تقوم به الآن بأفضل ما يكون المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات الدولية والإقلمية والمحلية في أي بلد، فهي تسعى لتقديم صورة غير حقيقية للناس عن الوضع الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الأمني، ولا شك أن ذلك يترك تأثيره على سلوك الناس في الواقع، فعندما يحدّثك محدّث أن هناك اهتزازاً في الوضع السياسي أو سقوطاً في الوضع الاقتصادي، أو مشكلة في الجانب الأمني، فإنك تصوّر الواقع بصورة تترك تأثيراتها السلبية على حركة الناس وسلوكهم في الواقع.
ونحن نعرف أن دور المخابرات الدولية ولا سيما مخابرات الاستكبار العالمي ليس دور تجميع المعلومات وحسب، بل أن تصنع الأخبار أيضاً وتثير الإشاعات وتحرّك الكثير من المحللين السياسيين من وكالات أنباء ومثقفين من أجل أن يعطوا للناس صورة تساعد على تنفيذ المخططات التي يرسمونها لواقعنا.
فعلى الإنسان ـ في أيامنا هذه ـ أن يكون حذراً بشكل فوق العادة فيما يسمع من أخبار، لأن بعض هذه الأخبار مصنوعة في أجهزة المخابرات الدولية، فإذا قرأت تحليلاً سياسياً في صحيفة أو من خلال قناة تلفزيونية أو استمعت إلى حوار في ندوة مع شخصية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، فاعلم أنها ربما تكون موجّهة.
ونحن هنا لا ندعو إلى الشلل أو إلى الشك الذي يشكّل ويجعلك لا تقبل شيئاً، بل أن يكون لك وعي ما تسمع، لأن الثقة بوضع سياسي أو محور دولي أو إقليمي ربما تترك آثارها على انطباعاتك وعلى مواقفك، وعلى علاقاتك، لذلك كُن حذراً.. والحذر يقتضي أن تفتح عيناً للاحتمال المضاد..
ولقد ذكرنا لكم أكثر من مرة كيف أن أمير المؤمنين(ع) يوصينا بالحذر "لا تثقنّ بأخيك كل الثقة، فإن صرعة الاسترسال لا تُستقال"، فلا تثق بأي إنسان غير معصوم 100%، بل لتكن ثقتك بمن ترتاح إليه من خلال المعاشرة 80% ودع 20% لحماية نفسك، هذا بأخيك، فكيف بعدوك وكيف بالآخرين؟!
فعندما ندرس أساليب الدعاية الآن، فإننا نجدها تصنع في مطابخ المخابرات، التي منها مطابخ جامعية وأخرى أمنية وثالثة سياسية ورابعة اجتماعية، بل هناك مطابخ دينية تدرس فيها كل نقاط الضعف بين الأديان والمذاهب من أجل أن يخلقوا لهذه الطائفة انطباعاً للخوف من الطائفة الأخرى.. ومن هنا، فعندما ينطلق خبر من هنا وخبر من هناك، وتتحرك الشكوك فعند ذلك تأتي الفتنة.
فالكذب الذي يتصل بصورة الواقع الذي يعيشه الناس كذب خطير، فلا بد لك عندما تتحرك في أي واقع سياسي لتؤكد موقفك سلباً أو إيجاباً، وفي أي موقع اجتماعي، أن تكون على ثقة بصورة الواقع، وإذا كانت الثقة مشوبة ببعض الاحتمالات فعليك أن تكون حذراً.
ونحن نعيش في مجتمعاتنا، لا سيما الإسلامية، الكثير من هذا النوع من الكذب الذي يبدّل صورة الواقع ويغيّر الحقيقة ويصوّر الباطل بصورة الحق، والحق بصورة الباطل، فيضيع الناس بين هذا وذاك.
الكذب المتصل بالناس:
3 ـ وأما الصنف الثالث من أصناف الكذب فهو، الكذب المتصل بالناس، وذلك بأن تنسب إلى إنسانٍ ما فعلاً لم يفعله، أو تنسب إليه قولاً لم يقله، أو موقفاً لم يقفه، أو علاقة لم يؤكدها، وأنت تعلم أنه لم يفعل ذلك، أو تنسب إليه ذلك، وأنت لا تعرف أنه فعل ذلك، فهذا يعتبر من البهتان أيضاً، فالله تعالى يقول: {آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}( )، أي هل أذن الله لك بأن تقول ذلك من خلال وضوح المسألة لديك، أم أنك تعرف أن المسألة ليست كذلك وأنت إنما تفتري على الله.
فهناك نقطتان، كلاهما في خانة الكذب والبهتان، أن تنسب إلى شخصٍ فعلاً أو قولاً أو علاقةً أو موقفاً ليس ثمة معطيات تؤكد صحة هذه النسبة، أو تنسب إليه شيئاً تعرف جيداً أنه لم يفعله ولم يقله، وهذا يسمى بالبهتان وهو أخطر من الغيبة، لأن الغيبة هي أن تذكر أخاك بعيب موجود فيه ولكنه مستور على الناس، أما البهتان فهو أن تذكر أخاك بعيب ليس فيه أو لا تعلم أنه فيه..
ولذا يعتبر البهتان أخطر من الغيبة، فهذه تسيء إلى الشخص بأن تكشف سرّه وعيبه المستور، بينما في البهتان تسيء إيه بأن تغيّر صورته الواقعية الطيبة إلى صورة سيئة خبيثة.
فخطورة هذا الموضوع هي أنه يؤدي إلى إرباك الصورة الاجتماعية لدى الناس في كلّ الشخصيات التي تتحرك في الواقع، فعندما تنسب إلى امرأة أو زوجة ما لم تفعله، أو إلى زوج ما لم يفعله أو يقله، فإنك بذلك تشارك في إرباك الحياة الزوجية وربما في إسقاطها، وقد تقوم بمثل هذا العمل في الحياة العائلية في علاقة الأب بأولاده وعلاقتهم بأبيهم لتتحدث عن هذا بما لم يقل ولم يفعل فتعقّد العلاقات فيما بينهم، وإذا امتدّت الأمور إلى الوسط الاجتماعي في الجوار والتعامل بين الناس، فقد تمتد الخطورة بامتدادها، وتزداد القضية خطورة عندما تنسب إلى أتباع مذهب ما لم يعتقدوه، وما لم يقولوه، لأنك لم تتأكد من ذلك باعتبار أن مشكلة الصراع الطائفي والمذهبي بين الأديان هي أننا لا نتثبت عندما ندخل في هذا الصراع بتوثيق ما ننقله عن هذا المذهب أو ذاك، وبذلك فإنك تحكم عليه عندما تنقل عنه شيئاً لا يعتقده، وعند ذلك تعطي صورة سلبية ربما تنعكس على موقف المذهب الآخر.
وهكذا في الصراعات الدينية بين الأديان المتنوعة والسياسية بين الأحزاب المتنوعة والاجتماعية بين العوائل الفئات المختلفة، فعندما ننقل عن شخص أو جماعية شيئاً ليس حقيقياً، فإن من الطبيعي أن يترك ذلك تأثيراً سلبياً على طبيعة التصوّر وبالتالي على طبيعة الموقف، وعندئذٍ يفقد الناس الثقة.
وإذا انطلقت المسألة في الجانب الآخر، فقد تزداد خطورة وقد لا يسمّى ذلك بهتاناً، ولكنه يجري في خط البهتان، وهو أن تذكر إنساناً فتمدحه بما ليس فيه، فلو تعصّبت لإنسان بحيث تعطيه من الفضائل والصفات ما ليس فيه فتضخّم صورته في الوقت الذي يحمل أي أساس لعناصر الضخامة والصورة، وهذا مما يجعل الناس يتبعون الفاشلين والخائنين والجاهلين عندما تنطلق الدعاية المضادة لتهدم جماعة أو شخصاً أو مذهباً، وأما الدعاية الملائمة فهي التي ترتفع بأناس لا يملكون ما يرفعهم.
ولقد جعل النبي(ص) الانضباط في هذا الخط من علامات الإيمان حينما قال: "إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل"( )، لم يدفعه رضاه وحبّه لمن يرضى عنه بأن يمدحه بما ليس فيه، أو يعطيه ما لا يستحق "وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق"( )، ومن لم يفعل ذلك فليس بمؤمن.. ومن دفعته العصبية أن يعطي من تعصّب له أكثر مما يستحق ويقوّمه أكثر مما يملك من قيمة فليس مؤمناً، ومن سخط على شخص وتعصّب عليه ونسب إليه بفعل عصبيته وغضبه شيئاً ليس حقيقياً مما يسيء إليه، فهو ليس مؤمناً.. وفي ضوء حديث رسول الله(ص) نستطيع أن نعرف كم لنا من الإيمان، وهل نحن مؤمنون حقاً.
المشكلة في واقعنا الاجتماعي:
إن مشكلة المجتمع الإسلامي، ولا أريد أن أقف موقف المتَّهِم، ولكن أريد أن أتحدث عن ظاهرة وهي أن الكثير من أبنائه يتربّى بأن يصلّي ويأتي بالفروض والنوافل بشرط أن لا يكون وايعاً لإيحاءات العبادة الأخلاقية، أي بشر أن لا تقترب العبادة في تقاليده وأوضاعه الاجتماعية السلبية وعصبياته، وتلك عبادة بدون روح.
أما أخلاقية العلاقات الاجتماعية والحقيقة والسلامة الاجتماعية، فأظنّ أننا لا نتربّى عليها، فنحن نتعلّم الكذب من آبائنا وأمهاتنا عندما يكذب الزوج على زوجته والزوجة على زوجها، وعندما يكذب الأب على أولاده، ليكذب الأولاد على أبيهم وهلمّ جرا، حتى أن الكثيرين قد يبرّرون الكذب بالتورية، وهي حتى لو أنقذت الشخص فإنها تعطي انطباعاً سلبياً.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ نحن نحتاج إلى عبادة أخلاقية واجتماعية وسياسية وأمنية وفكر يعبد الله بالحقيقة، وقلب يعبد الله بالمحبة، وحركة تعبد الله بالسير في الخط المستقيم، لأن العبادة في الإسلام ليست الصلاة أوالصوم فقط، ولكن هي أن تخضع لله في كل ما أحبّه بأن تفعله، وأن تخضع له في كل ما أبغضه بأن تتركه، سواء كانت صلاةً أو صوماً أو حجاً أو علاقةً أو موقفاً، أو طعاماً أو شراباً أو ما إلى ذلك.
وعلى هذا، فنحن مولعون بالبهتان، ولهذا ضاعت الحقيقة فيما بيننا، مولعون بأن نقلب الحقائق، ونحكم بدون علم، ونعطي الانطباع بدون علم، وهذه هي الصورة السائدة الآن.
ومن خلال كل ما عرضناه نعرف كيف ساهمت هذه الصورة السلبية في تهديم المجتمع والأخلاقيات الفردية والاجتماعية والعلاقات السياسية والمذهبية والدينية، بحيث أصبح الإنسان عندما يقف إزاء تصوراته التي يأخذها من خلا ل ما يسمع وما يقرأ دون تدقيق يعيش الإرباك والحيرة بين ما هو حقيقة وما هو غيرها.
المسألة في مرآة القرآن:
وتعالوا إلى كلام الله سبحانه وتعالى لنعرف ما هو موقع البهتان فيما رسمه القرآن لندرك خطورة ذلك، علّنا نتحفّظ بعض الشيء فنعطي لمجتمعنا نوعاً من الأمان من أنفسنا، لأن مشكلتنا ـ أحياناً ـ ليست في أن نحمي المجتمع من أعداء الإسلام، ولكن أن نحمي المجتمع من أصدقاء الإسلام وأتباعه الذين يعيشون الكفر في أخلاقهم وإن عاشوا الإيمان في عباداتهم.
يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}( )، باعتبار ما نسبوه إلى المؤمنين والمؤمنات مما لم يفعلوه ولم يقولوه ولم يقفوه ولم ينشئوه من علاقات.
وقد حدّثنا الله تعالى في عدة آيات عن (حديث الإفك) الذي اتصل بالنبي(ص) بشكل مباشر، حيث أن بعض الصحابة نسبوا إلى بعض زوجات النبي(ص) الفاحشة، في الوقت الذي لم يملك أي أحد من هؤلاء أية حجة وأي دليل على ذلك، ولكنهم خاضوا كما يخوض الناس على أساس الظنّ والتهمة والشبهة، {إن يتَّبعونَ إلى الظنَّ}( ).
يقول الله تعالى واصفاً القصة: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ}، ومن خلال ذلك نعرف أن واقع الصحابة هو واقع كل المجتمعات، وعظمة القرآن الكريم هي أنه يتحدث عن سلبيات المجتمع الإسلامي في زمن النبي(ص) كما يحدثنا عن إيجابياته، فأي مجتمع أعظم من مجتمع بدر في بداية حركة الإسلام العسكرية، ومع ذلك يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ* وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}( ).
أما نحن فلا نتحدث إلا عن الإيجابيات، فكأنما نحن ملائكة، في حين أنه كما علينا أن نتحدث عن الإيجابيات لنستزيد منها، فعلينا في المقابل أن نتحدث عن السلبيات لنتخفف منها، لأنك عندما تقدّس سلبياتك بحيث تتحول أخطاء مجتمعك وقياداتك وتجمّعاتك إلى مقدسات فإن معنى ذلك أنك سرت في خط الانهيار، فعندما يكون الخطأ مقدساً فكيف يمكن أن تسير إلى الصواب، وعندما يكون الانحراف مقدساً فكيف يمكن أن تسير في خط الاستقامة.
ونعود لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} من الذين يخوضون في الحديث بالدرجة الثانية {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} الذي قاد التهمة والإشاعة وحاول أن يثبتها {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ* لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي عندما تسمعون إشاعة عن مؤمن أو حديث غلّبوا ظنّ الخير على ظنّ الشر {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}( )، إلى أن يقول: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} كما لو كان مؤكداً {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا}( ) كما يقول البعض من الناس أنه (كلام... وحكي... وأنه لا جمرك على الكلام) ناسياً أن على الكلام ضريبة دقيقة جداً {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}( ) وفي القيامة {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}( )، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}( ).
ويمضي تعالى ليقول في آية الإفك أيضاً: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ* وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي عندما تسمع إشاعة وخبراً عن مؤمن أو مؤمنة بحيث تحاول أن تسقط موقعه أو موقعها أو تسيء إلى أمانته وأمانتها أو إلى عقيدته أو عقيدتها {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أي لا حقّ لنا في ذلك، ما دامت القضية تتعلق بمؤمن أو مؤمنة، إذ يمكن أن يترك ذلك أثراً سلبياً، بحيث يهدم هذا المؤمن أو ذاك {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}( ). وهنا محلّ الشاهد، فهذا يهتان لأنهم لم يعرفوا الحقيقة، بل صوّروها بشكل مضاد، أو أنهم عرفوا حقيقة البراءة ولكنهم أطلقوا التهمة بفعل عصبية أو حقد شخصي أو غير ذلك.
{يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}( )، فإذا صدر منكم شيء مما يتصل بمؤمن أو مؤمنة وقلتم ما لم يكن فيه {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} فإذا عدتم لمثله فليس هناك علاقة بينكم وبين الإيمان.
مسلم يسرق ويتّهم يهودياً:
وفي قصة أخرى حصلت في زمن النبي(ص) أن مسلماً سرق في المدينة، وعندما بدأت تنكشف المسألة اجتمع رجال العائلة وأرادوا أن يلصقوا هذه التهمة بيهودي في المدينة، وهيّأوا كل العناصر والعوامل التي تثبت ذلك، وكان في ظنهم أن يهوديته مما يمكن أن يقوّي حجّتهم في اتهامه، وجاءوا إلى النبي(ص) وحاولوا إقناعه بالأمر فأنزل الله على النبي(ص) اربعة عشر آية في سورة النساء أولها {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}( )، لتبرئة اليهودي، مع أن السارق مسلم والمتهم يهودي..
ولكن في العدالة الإسلامية ليس هناك خصوصية ليهودي أو مسلم، فالعدل لا دين له، بمعنى أنه لا يصنّف الناس بأديانهم، لكنه ينطلق من أحقية صاحب الحب، فلا بد أن تحكم لصاحب الحق وإن كان كافراً على من عليه الحق وإن كان مسلماً، لأن الله أنزل الأديان ليكون هناك عدل في العالم {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}( )، فكانت بداية الرسالات أن ينطلق العدل في العالم من خلال حركة الرسل والرسالات، وستكون نهاية العالم العدل الشامل، فكما هو السلام العالمي سيكون هناك العدل العالمي، وذلك عندما يظهر حجة آل محمد(ص) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً لإكمال ما لم تستطع الرسالات أن تقوم به من الناحية التنفيذية، فإذا كان العدل هو أساس الأديان والرسالات والكتب والميزان، فهو لا يفرق بين مسلم وبين غير مسلم، ولذلك أنزل الله على النبي(ص) ما أراد به تصحيح المسألة {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}( ).
من موارد البهتان الأخرى:
وثمة شيء آخر أسماه الله بهتاناً، فعندما تتزوج وتفكر بالزواج بأخرى فإنك تضغط على زوجتك الأولى لدرجة التعسّف حتى تطلب الطلاق لتبذل لك مهرها، يقول تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} أي أعطها حقها كاملاً غير منقوص {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا} فاعتعبر هنا الإنكار على الزوجة حقها وهي صاحبة الحق أو تمتعها فيه بهتاناً عملياً، ثم يركّز الله المسألة في جانبها الإنساني {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} من خلال العلاقة الزوجية {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}( )، فتكون قد خرقت الميثاق الذي وثّقه الله وغلّظه من خلال ما يترتب عليه من النتائج السلبية على تقدير الانحراف عنه.
كما تحدث الله عن البهتان فيما كان ينسبه اليهود إلى مريم(ع) {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}( ). وهذه هي موارد البهتان في القرآن الكريم، وقد ورد في الحديث عن الرسول(ص): "من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتى يخرج مما قاله فيه"( )، ويقول الإمام علي(ع): "البهتان على البريء أثقل من السماء أو من السماوات"( ).
وهناك نقطة تعبّر عن ردّ الفعل الواقعي في قوله(ع): "من رمى الناس بما فيهم رموه بما ليس فيه"( )، وورد في دعاء الإمام زين العابدي(ع): "اللهم فكما كرّهت لي أن أُظلم فقني من أن أظلم" "ولا أُظلمنّ وأنت مطيق للدفع عني ولا أظلمنّ وأنت القادر على القبض مني".
أيها الأحبة، إن الحقيقة هي التي تعمر الديار والتي تنشر السلام وتفتح القلوب وتوحّد المواقف وتنشر المحبة وتصلب الأرض وتقوّي المواقع والمواقف، أما الكذب فإنه يهدم الديار ويمزّق المجتمع وينشر الحقد والبغضاء ويوجّه الناس إلى تغييم صورة الواقع فيرون اباطل حقاً والحق باطلاً، وإذا تبدّلت الصورة تبدّل الواقع وسقط.
إن الدنيا لا تغني عن الآخرة.. فماذا تربحون عندما تنسبون إلى من تختلفون معه شيئاً ليس واقعياً؟! هل تربحون شيئاً من شفاء الحقد الذي في قلوبكم؟! هل تربحون شيئاً من الوصول إلى بعض ما أنتم فيه.. إذاً تذكروا أن من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه.. إن مشكلتنا أننا لا نتعامل مع بعضنا البعض من خلال قوتنا إنما نتعامل مع الله القاهر فوق عباده المهيمن على الأمر كله،الذي يحول بين المرء وقلبه، فعندما نتمرد على الله ونحاربه فعلينا أن نستعد لبلاء الله في الدنيا قبل الآخرة، وإذا أراد بنا ضراً فمن يكشف عنّا ضرّه! وإذا أراد أن يبتلينا فمن ينقذنا من بلائه!!
"صانع وجهاً واحداً يكفيك الوجوه كلها" {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} في كلماتكم وأحكامكم وأعمالكم وعلاقاتكم ومواقفكم {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}( )، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}( )، {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}( )، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}( )، فلنحضّر لكل سؤال جواباً {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}( )، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}( ). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السادسة: 10 ربيع الأول 1419هـ الموافق 4 – 7  – 1998م


ذكرى المولد النبويّ الشريف
يومُ اليتيم العالمي

"ليس هناك يتيم يمثّل النموذج الأكمل للإنسان اليتيم الذي قهر ضعفَ اليُتم بصبره كرسول الله(ص)"


ـ في ذكرى المولد النبويّ الشريف.
ـ القرآن كتاب السيرة.
ـ يوم اليتيم العالمي.
ـ أميّة النبي(ص).
ـ الاحتفال بحركة الرسالة.
ـ أخلاقية الرسول(ص) في الدعوة.
ـ إنسانية النبي(ص).
ـ ماذا علينا في ذكرى مولده؟.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في ذكرى المولد النبويّ الشريف:
نلتقي بعد أيام ذكرى المولد النبويّ الشريف الذي ننفتح فيه على رسول الله(ص) في سيرته كلها ورسالته كلها وفي الإيحاءات التي تتجسّد في كل زمان ومكان في حياتنا المتحركة أبداً والتي تستلهم رسول الله(ص) في سنّته وفي سيرته..
وعلينا ـ أيها الأحبة ـ أن نعيش مع رسول الله(ص) دائماً ولا ننتظر مناسبة مولده أو وفاته حتى نتذكره بل أن نعيشه دائماً، لأننا كمسلمين نلتزم رسالة الله في كتابه وسنّة نبيّه ونعيش مع رسول الله باعتبار أنه كان يمثل الإسلام الحيّ المتحرك الذي إذا حدّقت في عينيه رأيت الإسلام في إشراقتهما، وإذا حدقت في وجهه رأي كيف تفيض الروحانية الصافية في ملامح وجهه كلها، وإذا انفتحت على حياته مع الناس رأيت الرسول الذي فتح قلبه لهم جميعاً، بعد أن فتح عقله لكل ما يعيشه الناس في حياتهم الخاصة والعامة.
القرآن كتاب السيرة:
ولعل أفضل كتاب تحدّث عن سيرة رسول الله(ص) في ملامحه الرسالية هو كتاب الله، فنحن قد لا نجد في كتاب الله حديثاً عن مولده كما نجد ذلك في كتب السيرة، وربما كان ذلك منطلقاً من أن مولد العظيم لا يمثل شيئاً كبيراً في تمثّل الناس لشخصية العظيم، فكل عظيم يولد كما يولد الناس وإن كانت تحيط بولادته ظروف فيها شيء من الروحانية هنا والغيبية هناك، بل والإعجاز أيضاً.
فالعظيم يوجد في معنى العظمة من خلال حركة حياته التي يتمثل فيها كل عظيم في القول، وفي الموقف، وفي الفعل، لذلك لا نجد أي حديث في القرىن عن أية ولادة سوى عن ولادتين: فقد تحدث الله عن ولادة موسى(ع) لأنها كانت تحمل بعض مظاهر ألطاف الله سبحانه وتعالى وإعجازه في حمايته من فرعون الذي كان يذبّح أبناء قومه، وكان مهيئاً لأن يذبح موسى(ع) فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى أم موسى أن تقذفه في التابوت وتلقيه في اليمّ، وألقى عليه محبة منه في قلب فرعون وهيأ له الظروف كلّها.. لذلك لم يكن حديث الله سبحانه وتعالى عن مسألة ولادة موسى لأن للولادة دوراً في الاحتفال بالشخص.
ورأينا أن الله تحدّث عن ولادة عيسى(ع) لأنها ولادة إعجازية فيما أعطاه الله من سنّته في الخلق، لأنه ولد من غير أب ليكون مظهراً للقدرة الإلهية التي يولد بها الإنسان من دون أب وأم كآدم وحواء، ويولد بها من أب وأم كبقية الناس، ويولد بها من أم من دون أب كعيسى(ع) ليكون آيةً للناس.
يوم اليتيم العالمي:
أما النبي(ص) فلم يحدثنا الله عن ولادته، ولكنه خاطبه وحدثنا من خلال خطابه عن بعض ألطافه به {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}( )، حدّثنا عن يتمه، وكيف تحوّل هذا اليتيم في هداية الله له من خلال عمق الرسالة في عقله وفي قلبه وفي حركته ليكون هادياً للناس جميعاً، وكيف كان ضالاً لا بمعنى الضلالة التي هي ضد الهدى، ولكن عدم الهدى في تفاصيل الهدى، لأن النبي(ص) قبل أن يبعثه الله بالرسالة لم يكن يعرف كل التفاصيل ولكنّ الله عرّفه ذلك بعد أن هداه.
{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}، فالله يحدثنا عن فقر النبي(ص) وأنه كان اليتيم الفقير، ولعلنا نؤيد الاقتراح الذي اقترحته بعض المؤتمرات الإسلامية في أن يكون يوم المولد النبوي هو (يوم اليتيم العالمي) لأنه ليس هناك يتيم يمثل النموذج الأكمل للإنسان ويمثل اليتيم الذي قهر ضعف اليتم بقوة الصبر وبقوة الروحانية وبقوة الرسالة وبقوة الموقف كرسول الله(ص).
لذلك فإن اعتبار يوم المولد يوم اليتيم العالمي، يمكن أن يعطي إيحاءاً لكل يتيم في القوة وأن لا يرى في اليُتم إسقاطاً لإنسانيته وضعفاً في شخصية، لأن اليتم قد يمثل مشكلة حياتية لليتيم ولكنه لا ينقص من عقله ولا من قلبه ولا من إرادته.. ولعل قول الله سبحانه وتعالى: {فأمّا اليتيمَ فلا تقْهَرْ}( )، إيحاء للانفتاح على هذا اليتيم العظيم بالإيحاء بأن  على الأمة أن ترعى اليتيم، فربما استطاع اليتيم أن يتمثل العظمة في حركته المستقبلية في الحياة، وربما كان قهر اليتيم معطّلاً لإرادته ومضعفاً لشخصيته.. ولعلنا نستوحي من قوله تعالى: {فأمّا اليتيمَ فلا تقْهَرْ} أن علينا أن نعتبر اليتيم إنساناً واعداً للمستقبل وأن قهر اليتيم ربما يجمّد حيوية إنسانيته وربما يقهر حركة نموّه بما يحمّل الأمة مسؤولية ذلك.
وهكذا رأينا رسول الله(ص) الذي عاش عمق اليتم في طفولته يتحدث كما في الرواية المشهورة عنه "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"( )، لأنه يعرف ما معنى أن يكفل اليتيم في المجتمع من أجل تنميته جسمياً وعقلياً وروحياً وهو الذي لمس قيمة كفالة اليتيم في كفالة عمه أبي طالب(رض) الذي كفله حتى كان الناس يقولون عنه أنه يتيم أبو طالب.
أميّة النبي(ص):
وهكذا حدّثنا الله تعالى عن رسول الله(ص) قبل الرسالة في أنه كان لا يقرأ ولا يكتب، ونحن عندما نقول (النبي الأمي) فلا نعتمد على كلمة الأمي ليكثر الجدل في ما يراد منها، هل هو المنتسب إلى أم القرى أو الأمي بمعنى العربي باعتبار أن أكثرية العرب كانوا من الأميين، فليست المسألة في كلمة الأمي ولكنها في كلام الله {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}، فالنبي لم يكن قارئاً ولم يكن كاتباً، لأن الله سبحانه وتعالى أراد له ذلك لا ليكون ذلك مظهر ضعف في شخصيته كما هو في شخصية كل إنسان لا يعرف القراءة والكتابة بل ليكون قوة في معنى رسالته {إذاً لارتابَ المبطِلونَ}( ) أي لو كنت تتلو كتاباً لقالوا إنك جئت بالكتاب من خلال ما قرأت من كتب، ولو كنت تكتب تتلو كتاباً لقالوا إنك جئت بالكتاب من خلال ما قرأت من كتب، ولو كنت تكتب لقيل إنك نقلت بقلمك ما كتبه الآخرون، ولكن أن تجيء بكتاب أعجز كل الذين يقرأون الكتب ويكتبونها، وأ تجيء بكتاب أعجز الناس كافة، ذلك يعني أنك لم تنطلق في بشريتك من جماعتك، وإنما انطلقت من علاقتك الغيبية بربك في معنى الرسالة.
وإذاً لو كنت كذلك لارتاب المبطلون وأثاروا الكثير من الشك وقد أثار بعضهم بعد ذلك بعض الشك، ولكن الحقيقة التاريخية في حركة النبي(ص) أنها أبطلت ذلك {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}( ) كذلك {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}( ) لذلك لم تنطلق تلك الكلمات اللامسؤولة لتخلق تياراً مضاداً يتبنّى هذه المقولات بل كانت ضائعة في الهواء.
وهكذا نجد أن الله حدثنا عن تلك الفترة بقوله سبحانه وتعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}( )، فالله يتحدث عنه قبل الرسالة بأنه لم يكن يملك معرفة الكتاب، ولم يكن يملك معرفة الإيمان لا بمعنى أنه لم يكن مؤمناً لكنه لم يكن يملك معرفة التفاصيل الإيمانية.
كان يعيش(ص) معنى الرسالة في شخصيته ولكنه كان لا يعرف تفاصيلها في حركته في الواقع، ولم يتحدث الله سبحانه وتعالىت عن رسوله في الفترة السابقة لرسالته، ولهذا فقد نستوحي من هذا الأسلوب القرآني أن علينا أن لا ندقق كثيراً في التفاصيل التي سبقت رسالته إلا ما يعطي المعنى الرسالي لشخصيته، بحيث أن الله بعثه رسولاً بعد أن استكمل له شخصيته العقلية والروحية والأخلاقية كما كان الإمام علي(ع) يتحثد عنه في أن الله وكّل به ملكاً عظيماً من ملاكئته يتعهده بالرعاية في كل يوم.
الاحتفال بحركة الرسالة:
ففي مولد الرسول(ص) نحتفل من خلال حركة الرسالة في شخصيته، لا نحتفل به من خلال خصوصية المولد، لأنه القرآ، الناطق بعد أن كان كتاب الله يمثل القرآن الصامت، فلقد كات كلمته رسالة، وكانت حركته رسالة، وكان تقريره للواقع الذي من حوله رسالة، لذلك كان النبي كلّه رسالة ولم يكن في شخصيته أي شيء خارج نطاق الرسالة، ولذلك نحن لا نفهم أن يكون النبي(ص) معصوماً في التبليغ فقط وحسب، وليس معصوماً في حركته في الحياة، لأن الله قد أكمل له شخصيته واصطفاه بكله والشخصية لا تتجزّأ بحيث يكون الإنسان مستقيماً في جانب ومنحرفاً في جانب.
وهناك نقطة أخرى لا بد لنا أن نتمثلها ـ أيها الأحبة ـ عندما نتحدث عن العصمة في شخصية الرسول والرسل وهي أن دور الرسول وكل رسول هو أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومعنى ذلك أن يحوّل حياة الناس إلى نور كلها، إلى نور في العقل بحيث يتحرك العقل في خط النور لينتج الفكر السليم، وأن يعيش هذا النور في القلب، فينفتح القلب على إشراقه للخير والمحبة في داخله، ويكون نوراً في البيت وفي الشارع وفي السوق وفي النادي وفي المجالات كلها ليعيش الناس في نور الرسالة..
ومن هنا فإن الذي يحمل رسالة النور إلى الناس من أجل أن يزيل الظلمات كلها كيف يعيش الظلمة في عقله فيعطي للناس فكراً خاطئاً، وكيف يعيش الظلمة في قلبه فيعطي للناس عاطفة خاطئة، وكيف يمكن أن يعيش الظلمة في حياته فيعطي للناس حياة خاطئة مرتبكة.. لذلك لا بد أن يكون النبي نوراً كله وشمساً إنسانية ليس فيها شيء من الظلام كما هي الشمس الكونية التي ليس فيها أثر من الظلام.
وهكذا تنطلق مسألة هذه العصمة في شخصية النبي(ص) إلى العصمة في شخصية أوصيائه، فقد قال وهو الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}( )، "علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيث ما دار"( )، وعندما يعطي النبي(ص) هذه الصورة للإنسان الذي ربّى له عقله من خلال عقله، وربّى له قلبه من خلال قلبه، وربّى له حياته من خلال حياته، فكان نفسه في كل شيء، عندما يتحدث عنه أنه كان مع الحق وأن الحق معه فمعنى ذلك أنه ليس في علي شيء من الباطل بشهادة رسول الله(ص) وليس في علي شيء من الباطل في عقله، فكل عقله حق وليس في علي شيء من الباطل في قلبه، فقلبه كله في نبضات العاطفة كلها حق، وليس في علي شيء من الباطل في حياته، فحياته كلها حق وخير وانفتاح على الله.
وعندما يتمثل الحق في علي(ع) فكل ما يرفضه علي(ع) لا يمكن أن يكون حقاً، وقد علمنا أن كل معاناة علي(ع) في حياته هي معاناة رسول الله(ص) في حياته، وكانت معاناته أنه حمل الرسالة كلها في شخصه، وكانت علاقاته في الناس من خلال رسالته.. وهكذا كان يقول للناس "ليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"( )، وقال: "ما ترك لي الحق من صديق" وسار أبناء علي(ع) بسيرة علي وكان دوره دورهم أو كان دورهم دوره، ولذلك فأنت لا تستطيع أن تجد في كل هذه السلسلة المباركة إلا الحق وإلا الخير وإلا الانفتاح على الله.
ونحن ـ أيها الأحبة ـ عندما نريد أن نقترب من رسول الله(ص) لنتمثله، فلا بد لنا أن نتمثله في سلوكنا العملي بأن يكون فينا شيء من رسول الله(ص) في حياتنا العملية، وذلك معنى أن نلتزمه، ومعنى أن نتّبعه، ومعنى أن نحبّه، وهذا ما يستدعينا أن نقرأ كتاب الله لنعرف سيرة رسول الله(ص) في أخلاقه وفي أسلوبه في الدعوة وفي أسلوبه مع أصحابه، لأن الله قال لنا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}، لأننا عندما نرجو الله واليوم الآخر فعلينا أن نتلمّس صراط الله في رسول الله {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}( )، لأننا إذا ذكرنا الله ذكرنا سوله لأنه رسوله يؤدّي عنه في كل ما قاله وكل ما فعله.
أخلاقية الرسول(ص) في الدعوة:
تعالوا لنتحرك مع آيات القرآن التي تمثل لنا أسلوب رسول الله، في الأخلاقية التي تتصل بأسلوب الدعوة في الأخلاقية التي تتصل بشخصية الإنسان في الداعية، لأن أسلوب الدعوة ليس مجرد شيء في الكلمة ولكنه عنصر في الشخصية، وهكذا ليس دور الداعية والمبلّغ والرسول والعالم والإمام أن يعطي للناس كلاماً يحدّثهم عن الفكرة، ولكن أن يعطي الناس من إنسانيته ما يشعرون معه بأنه يحتضن آلامهم كلها وآمالهم كلها وقضاياهم كلها، وأن لا يكون الداعية شخصاً جامداً أمام الآخرين ليعطيهم علمه وكلمته بطريقة جامدة، بل أن يعطيهم قلبه كله قبل أن يعطيهم لسانه كله، ولذلك فإن الداعية والمبلّغ والعالم والواعظ الذي لا يعيش الناس في داخل قلبه لا يمكن أن يدخل إلى قلوبهم وإلى عقولهم، وهذا ما حدّثنا الله به عن رسوله وعن قلبه وإحساسه ومشاعره.
تعالوا نستمع إلى كلام الله عندما يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} كنت الليّن في لسانك، فلا يستمع الناس إلى قسوة في كلامك، وكنت الليّن في قلبك، فلا يتحسس الناس إلا نبضات المحبة في قلبك، فهم لا يتحسسون قلباً متحجراً قاسياً جامداً يطلّ على الناس من فوق ولكنهم يتحسسون قلباً ليّناً يعيش مع الناس في نبضاته كلها {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}( ).
وهذا درس لكل العاملين في الحق العام، ولكل العاملين في خط الرسالة وفي خط القضايا العامة، سواء كانت قضايا اجتماعية أو قضايا سياسية أو ما إلى ذلك.. إنها درس في أن يفهم العامل حقيقة الإنسانية وأن الإنسان مهما كان انتماؤه وعقيدته يبقى إنساناً، فحتى الكافر هناك بعض الإنسانية في شخصيته، والإنسان البعيد يعيش شيئاً من الإنسانية كما هو القريب..
لذلك فكل إنسان لديه إنسانية بنسبةٍ ما، وعندما تدعو الناس وتخاطبهم كُن إنساناً في قلبك ليتعرف الناس إلى إنسانيتك من خلال ما يتمثل في قلبك من ملامح وجهك وفي تعاملك مع الناس، كُن إنساناً في لسانك ليكن لسانك اللّي الرقيق اللطيف، لأنك إذا قسوت على الناس بلسانك فإن الناس يخرجون من قسوتك، والإنسان بطبعه لا يحب القسوة في الكلمة حتى أقرب الناس إليه، فلا تعش القسوة والغلظة في قلبك لأنك عندما لا تعيش في قلبك معنى الناس فإن قلوب الناس لن تنفتح عليك..
وقد استوحى علي(ع) هذه الفكرة من القرآن بطريقة أخرى عندما قال: "إحصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"( )، أي اقلع الحقد والعداوة من صدرك تقتلع الحقد والعداوة من الآخرين، لأن صدرك وقلبك الذي ينفتح على محبة الآخرين وعلى الخير لهم سوف يكون رسالة أولى أو ثانية يرسلها إلى القلب الآخر، والقلب يتقبل رسالات الحب كلها وإن بعد حين.
وهذا يعطينا فكرة أن النبي(ص) نجح في الدعوة بالرغم من كل الحواجز النفسية والاجتماعية والتاريخية التي نصبها الناس أمامه، لأنه كان ليّن القلب، ليّن اللسان، فهل لنا أن نتعلّم ذلك من رسول الله، بأن تكون لنا شخصية الخير في قلوبنا وألسنتنا، في البيت والمدرسة والنادي والمجتمع وساحة الصراع وغيرها؟!
إنسانية النبي(ص):
ولننطلق مع إنسانيته التي يحتضن فيها آلام الأمة {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} لم يأتِ من المريخ، بل جاء من عمق الإنسانية، فهو بشر كما البشر، يعيش آلام البشر كما يعيش أخلاقهم، وهو بشر يسدّده الله بوحيه، ولكنه يعيش التجربة الإنسانية كأي إنسان، فإذا مرض فإنه يحسّ بآلام المرضى، وإذا حزن فإنه يحسّ بآلام الحزانى، وإذا تعب فإنه يتحسّس آلام المتعبين {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} وهذه الكلمة تحمل الكثير من معاني الحنان والفيض الروحي والاحتضان الإنساني ما لا يملك الإنسان أن يعبِّر عنه، وإني لأعترف بالعجز عن التعبير عن كل الإيحاءات التي توحيها إليّ هذه الكلمة، لأن هناك من إيحاءات الكلمات ما لا تحمله الكلمات، وربما كانت إيحاءات الكلمة أكبر بكثير من معناها في القاموس.
ولذلك كنت أقول دائماً علينا أن نفهم الكلمة في إيحاءاتها كما نفهمها في معناها {عزيزٌ} أي يعزّ عليه، ويشقّ عليه، ويتعب قلبه، ويتعب روحه أن يراكم تعيشون المشقّة في حياتكم، وأن يرى عاملاً يتعب في عمله وهو يكدح ليجلب القوت إلى عياله، وأن يرى مريضاً يتعب من خلال آلام مرضه، وأن يرى الناس متعبين في مشاكلهم وفي تعقيدات حياتهم وأوضاعهم، ويبقى يحدّق في المجتمع وكل المشقّات التي يعيشها فيعزّ عليه ذلك ويتألم ويتعب له.
{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أن لا تضيعوا، وأن لا تضلوا، وأن لا تتفرقوا، وأن لا تعيشوا التمزّق الروحي والنفسي فيما بينكم.
ونستحضر من خلال هذا الجو حرص الأم على أولادها وحرص الأب عل أولاده، فلقد كان رسول الله(ص) يعيش الأبوّة الروحية لكل الناس، ويعيش الأمومة الحانية في معنى حنان الأمومة للناس كلهم.
{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}( )، يرأف بهم ويشفق عليهم ويرحمهم بأن يرحم نقاط ضعفهم وظروفهم، بل يرحم حتى انحرافهم فيدرس ظروفهم ليصحح ويقوّم وينفتح بها على الخير.. وهذا ما تمثّل فيما حدثتنا السيرة به من أنه كان يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"( )، كان يطلب من ربه أن لا يعاقبهم وأن لا يعاجلهم بالعقوبة، وكان يطلب من ربه أن لا ينقم عليهم حتى بعد أن كانوا يرمونه بالحجارة، بحيث تدمي رجليه، ويرمونه بالشتائم والاتهامات التي تدمي قلبه، وكان لا يعيش الحقد على قومه وإن كانوا ضالّين، لأنه كان يتطلّع إلى المستقبل عندما تأتي الظروف وتهيِّئ لكل هؤلاء أن يدخلوا الإسلام كما حدث بعد فتح مكة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}( ).
وهكذا يعطينا رسول الله(ص) في معناه الإنساني فكرة من خلال شخصيه وهي أن الذي يحكم الرسالة لا بدّ أن يكون إنساناً لا في جسده ولكن في قلبه وعقله وأسلوبه مع الناس.. فكم عندنا من نموذج هذا الإنسان، كم عندنا من الناس الذين يستشهدون في كل يوم في خط رسالته وإن كانوا أحياءً وعندما يسمعون الكلمة غير المسؤولة والاتهام غير المسؤول وتبقى قلوبهم ـ رغم ذلك ـ تنبض بالحب وبالخير لتقول "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
أيها الأحبة، يبقى رسول الله(ص) الذي نستمع إلى اسمه في كل أذان وإقامة وفي كل صلاة، يعطينا الكثير الكثير من إيحاءاته في رسالته، ويبقى لنا منه أنه الإمام والنبي والرسول الذي نهتدي بسيرته كما نهتدي بسنّته مثلما نهتدي بكتاب الله، وأن نكون مع رسول الله وأن نحبّه ونحبّ الله بأن نتّبعه وأن يكون فينا شيء منه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}، في كلماتي كلها وأفعالي كلّها {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}( )، لأن الوسيلة إلى رضا الله هي ذلك.
ماذا علينا في ذكرى مولده؟:
أيها الأحبة، في مولده الشريف علينا أن لا نقدّم له إضمامة من الورد فقط، وأن لا نكتفي بتزيين شوارعنا وبيوتنا فقط، لكن علينا أن نقدم له إضمامة من عمق الإيمان في عقولنا وقلوبنا وورد الحق في حياتنا وأصالة الإسلام في وجودنا.. وأن نزيّن عقولنا بأخلاقه وقلوبنا بحنانه وعاطفته.. ويبقى رسول الله(ص) معنا في الصباح وفي المساء حتى يكون فينا شيء من رسول الله، شيء من عقله ومن قلبه ومن سيرته لنقف غداً معه فلعلّه يتقبّلنا في معنى الرسالة ومعنى الشفاعة "واجعل توسّلي بها شافعاً يوم القيامة نافعاً". والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة السابعة: 17 ربيع الأول 1419هـ الموافق 11 – 7  – 1998م


عناوين الحركة في مولد الصادقين:
المحبّة.. الوحدة.. الأخوّة

"علينا في مولد الرسول(ص) والصادق(ع) أن نعطي من عقولنا وقلوبنا وطاقاتنا إسلاماً متحركاً، منفتحاً، ووداً يجمع المسلمين في دائرة الحب والمسؤولية"


ـ في مولد الصادقين.
ـ نظرة إلى العالم الإسلامي اليوم.
ـ لا جديّة في الحديث عن الوحدة الإسلامية.
ـ في إطار الواقع السياسي.
ـ في الواقع الأمني.
ـ الانفتاح على خط أهل البيت(ع).
ـ الموقف إزاء التحديات.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في مولد الصادقين:
في مولد الرسول(ص) ومولد الإمام جعفر الصادق(ع)، يوم السابع عشر من شهر ربيع الأول، لا بد لنا أن نطل على آفاق الذكرى هنا وهناك، لأن المسألة لا تتصل بالجانب الشخصي لكل منهما وحسب، ولكها تتصل بالخط الإسلامي الأصيل الذي انطلق فيه رسول الله(ص) بالدعوة والموقف والجهاد والحركة المتنوعة في أكثر من جانب، وامتدة في العترة الطيبة التي أخذت منه(ص) عمق العلم وامتداده وانفتحت على طهر الرسالة في طهره وتحركت في مسيرة الجهاد كلها امتداداً لجهاده، لننفتح من خلال ذلك على موقفنا الآن، لأن المسألة ليست هي مسألة تأريخ مجرّد ولكنها مسألة امتداد الواقع فينا، باعتبارنا الجيل الذي يحمل أمانة الرسالة في عنقه، لأن كل تلك الأجيال التي سبقتنا والتي عاشت في أجواء الإسلام وفي أجواء أهل البيت(ع) قد عاشت تجربتها، سواء كانت تلك التجربة سلبية أو إيجابية..
فهناك من سبقنا ممن أخلصوا للإسلام وأهله وأخلصوا للعترة الطاهرة وأعطوا للإسلام الكثير من جهدهم ومن طاقتهم وأعطوا لمسلمين الكثير من مواقف العزّة في مواقفهم.. وهناك الذين عاشوا لأنفسهم بحيث تحوّل الإسلام عندهم إلى حالة شخصية لا امتداد لها خارج نطاق ذواتهم بل إنهم انكمشوا في داخل الفرائض التي يؤدّونها ولم ينطلقوا في الإسلام في خط الدعوة..
وهناك الذين استغلّوا بعض المواقع التي فرضتها الظروف فعاثوا في الأرض فساداً وحكموا الناس بغير الحق وانحرفوا بهم عن شريعة الحق، وبذلك شاركوا في إضعاف الإسلام في وجدان أهله، كما شاركوا في هزيمة الإسلام أمام التحجيات التي كانت تتحرك من خلال الآخرين الذين يعادون الإسلام وأهله.
وهكذا عاش هذا التاريخ الذي سبقنا في نماذج متنوّعة دخلت كلها في ضباب التاريخ لتفسح المجال لجيل جديد.
نظرة إلى العالم الإسلامي اليوم:
والآن ماذا عن الإسلام الذي نحتفل به من خلال مولد رسول الله(ص) وماذا عن خط أهل البيت(ع) الذي نحتف به من خلال ذكرى الإمام الصادق(ع)، ماذا هناك؟ ففي الواقع الإسلامي نجد أن المسلمين يمثّلون خمس العالم، فهم يزيدون على المليار، ولكننا عندما ننفذ إلى الداخل فماذا نجد؟ نجد أن المسلمين يتفرّقون في مذاهب متعددة فليس هناك مذهب واحد يجمعهم في وعي الحقيقة الإسلامية فكراً وشريعةً ومنهجاً وأسلوباً، ونلاحظ إلى جانب ذلك أن هذه المذهبية تحوّلت إلى حالة متحجّرة متجمّدة في وعي أصحابها، فقد قرّر الجميع ـ إلا ما ندر ـ أن لا يخرج أحد عن أية فكرة يحملها ولا يدخل في حوار مع الآخر إلا إذا كان يريد أن يسجّل نقطة عليه لا من أجل أن يسمع منه ليقتنع بما يقوله أو يناقش ما يقوله.
لقد أصبحت المذهبية الفكرية سنّة في خطوطهم المذهبية والشرعية لأنهم لا يستحضرون الخطوط التفصيلية في حركتهم، ولكنهم يستحضرون الامتداد الطائفي الذي يشبه الامتداد العشائري وبذلك لم يستطع المسلمون أن يقتربوا من بعضهم البعض ولم يتمكنوا من أن يلتقوا على ما اتفقوا عليه، بل إن نقاط الخلاف أصبحت هي التي تتصدّر الواجهة في العلاقات الإسلامية من دون نقاط الوفاق.
فعندما يجتمع سنّي وشيعي لا يقول أحدهما للآخر إن الإسلام يجمعنا، بل يقول له أنت شيء وأنا شيء آخر، وبذلك تحولت المذهبية إلى ما يشبه الدين حتى إنه دخل في وجدان المسلمين في تمثلهم لمذاهبهم، فدين هذا يختلف عن دين الآخر، وربما تحوّل ذلك إلى حالة نفسية متحجّرة تجعل العلاقة بينهما علاقة حقدٍ وحقد، لا علاقة مسلِمَيْن يعيشان الحب لله من خلال الإسلام ويتعاونان على أن يتفاهما على ما يختلفان فيه وأن يرجعا ذلك إلى اله ورسوله استجابةً لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}( ).
لا جديّة في الحديث عن الوحدة:
لقد قلناها مراراً ـ أيها الأحبة ـ إننا نتحدّث عن الوحدة الإسلامية بطريقة مائعة وبطريقة غير مسؤولة، فنحن لا نقول للشيعي كن سنيّاً لحساب الوحدة أو نقول للسني كُن شيعياُ لحساب الوحدة، لكننا نقول للسنيّ كُن مسلماً في تسنّنك ونقول للشيعي كن مسلماً في تشيّعك، لأننا إذا وضعنا الإسلام قاعدة للصفة التي نتصف بها فسنتعاون على فهم خطوط التشيع فيما يراه الشيعة في الإسلام وخطوط التسنّ فيما يراه السنّة في الإسلام، ولقد أصبحت الواقع الذي نعيشه هو أن كثيراً من الجهد الثقافي الذي يصرفه المسلمون في مناقشة بعضهم البعض ومحاربة بعضهم البعض ثقافياً أكثر مما يصرفونه في مناقشة الإلحاد وخطوط العلمانية والتحديات التي تواجه الإسلام في عقائده وفي شرائعه.
ولعلنا في استغراقنا في هذا الحقد المذهبي الداخلي بتنا لا نشعر أن هناك حرباً عالمية شرقية ـ غربية ضد الإسلام في خطوطه العقيدية والشرعية وفي واقعه البشري وفي ثرواته الاقتصادية ومواقعه الاستراتيجية ومفاصله السياسية والأمنية، في حين أن هناك حرباً أعلنا حلف الأطلسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وأعلنتها رئيسة وزراء بريطانيا (تاتشر) في آخر عهدها بالحكومة، وقالوا إن العدو الجديد الذي يجب أن يستعدّ له الحلف الأطلسي هو الإسلام، ونحن مشغولون بهذه الخلافات التي مضى عليها ألف وأربعمئة سنة ونيّف ونحن نغيّر ألفاظها ولا نأتي بجديد.
إن المسألة الملحّة الآن هي أن تكون لنا روحية الإسلام، فإذا صرت شيعياً لأنك اقتنعت بأن التشيّع هو الخط الإسلامي الأصيل.. وهذا صار سنيّاً لأنه اقتنع بذلك، إذا كنتما مخلصين للإسلام فتحاورا بروح إسلامية لا بروح الحقد الذي يحمله كل منكما للآخر، لأنه لا يكفي أن يكون العقل مفتوحاً لنصل إلى نتيجة فيما نختلف فيه، بل لا بد أن يكون القلب مفتوحاً أيضاً، فإذا أغلقت عني قلبك وأغلقت عنك قلبي فلن يستطيع العقل مهما شحنته بالنظريات أن يقنعك أو تقنعه، لأن القلب هو الأساس، وقد ذكرنا في محاضرة سابقة أن رسول الله(ص) ربح الناس بقلبه قبل أن يربحهم بعقله لأنه فتح قلوب الناس بخلقه، ولأن قلبه كان مفتوحاً على الجميع.. وقد علّمنا علي(ع) في استيحائه ذلك بالكلمة المأثورة "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"( ).
فهل تريد ـ أيها السنيّ ـ أن يقترب الشيعي إليك ليسمعك، افتح قلبك له، وهل تريد ـ أيها الشيعي ـ أن يستمع إليك السني وأن يفسح لك المجال في الحوار، افتح قلب له، وعندما تنفتح القلوب على بعضها البعض فإنها تعطي الإشارة المضيئة إلى العقل لأن ينفتح وإلى الحياة أن تنفتح ولكننا أدمنّا القلوب المغلقة، وأدمنّا القلوب الحاقدة، ونحن نسمع قول رسول الله(ص) الذي ربط بين الإيمان والحب "لا يؤمن أحدكُم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها"، هذا هو الواقع الإسلامي بين المسلمين.
في إطار الواقع السياسي:
أما في الواقع السياسي فأين هم المسلمون؟! إنهم يمثّلون فرقاً متناثرة لا تجتمع إلا عندما يريد الاستكبار العالمي لها أن تجتمع.. إننا نملك ـ بحمد الله الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه ـ (منظمة المؤتمر الإسلامي) ولكننا عندما ندرسها نعرف أنها أسست برغبة أمريكية في البداية حتى تجمع المسلمين عندما تريد أن يؤيدوا لها مشروعاً هنا ومشروعاً هناك أو يخرّبوا مشروعاً هنا أو مشروعاً هناك..
لذلك لم تستطع منظمة المؤتمر الإسلامي في اجتماعاتها كلها ان تحقق شيئاً على الأرض، فهي حتى عندما عقدت مؤتمرها الأخير في طهران، فإنها دجّنت القضايا الإسلامية ولم تستطع أن تعطيها حيويتها وقوتها، ولذلك رأينا أن الكيان الصهيوني كاد أن يستكمل تهويد القدس، وعندا رأى أن المسلمين أو أن العرب يمثلون عدداً كبيراً حاول بمشروعه الجديد أن يوسّع القدس بحيث تضم إدارياً مجموعة من اليهود في المستوطنات ليصبح العرب أو المسلمون أقلية لا يستطيعون أن يؤثروا في الواقع شيئاً.
إن (منظمة المؤتمر الإسلامي) لم تجتمع حتى الآن، ولو اجتمعت فإنها سوف تصدر قرارات ينساها الذين أصدروها قبل أن يخرجوا من قاعات المؤتمر ومنهم المرتبط أو أكثرهم بالسياسة الأمريكية في العالم.. ثم أين هي الثروة الاقتصادية الإسلامية والمسلمون يملكون أكبر احتياطي في العالم من البترول، والمسلمون يملكون الكثير من الثروات الموجودة في داخل أرضهم.
إننا لو درسنا كل البلدان الإسلامية فسوف نجد أنها تعيش الفقر وتخضع للبنك الدولي الذي يفرض عليها شروطاً اقتصادية تخلق في كل بلد مشكلة كما رأيناه في أندونيسيا وغيرها.. إن المسلمين يملون ثروات طبيعية لا تملكها أي دولة أخرى ولكنهم كما قال الشاعر:
    كالعيس في البيداء يقتلها الظما    والماء فوق ظهورها محمولُ    
لقد أصبح بترول كثير من الدول مرتهناً لدى المستكبرين بحيث لا يستفيد منه أصحابه شيئاً ذا بال، إنهم يخلقون لنا فتنة ويصنعون من الفتنة حرباً ويعملون على أن نستنفرهم من أجل أن يساعدونا في الحرب ضد بعضنا البعض وندفع تكاليف الفتنة، وتكاليف الحرب وتكاليف القواعد العسكرية ولهم الجميل كلّه في ذلك، فهم صنعوا الحرب وهم صنعوا السلم، لأن الحرب كانت في مصلحتهم لا مصلحتنا، ولأن السلم كان في مصلحتهم لا مصلحتنا، هذا هو الواقع السياسي وهو أن المسلمين لا تجمعهم جامعة كما قال الشاعر:
        تفرّقوا شيعاً فكل قبيلة        فيها أميرُ المؤمنين ومنبرُ
في الواقع الأمني:
أما في الواقع الأمني فقد جمّدنا صراعنا مع الكيان الصهيوني، وقلنا إن الحرب انتهت، وعندما نؤيّد المقاومة الإسلامية في فلسطين وفي لبنان، فإننا نؤيدها حياءً وخجلاً ولأن واقع المرحلة يفرض على كثير من العرب أن يتحدّثوا بإيجابية ولكنهم يهمسون لبعضهم البعض إن هؤلاء الأصولييين المتطرفين إما أن ننتهي منهم أن ندجّنهم، وقد بدأت عملية التدجين..
هذا هو واقع المسلمين، ولو جاء رسول الله(ص) في هذه المرحلة ورأى واقعنا فهل يرى الصورة التي كان يرسمها للملمين في العالم "المؤمنون في تبارّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره بالسهر والحمى"، "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"( )، والله يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}( )، ولكننا نحاول أن نوسّع هذه الحفرة.
الانفتاح على خط أهل البيت(ع):
وعندما ننفتح على خط أهل البيت(ع) فماذا نجد؟ هل هناك وحدة في هذا الخط؟ ونحن نعرف أن هذا الخط يتعرّض لحملة عدوانية ترميه بالشرك والتكفير والتضليل وما إلى ذلك، فهل استطعنا أن نصنع وحدة تقوّي هذا الخط وتصلبّه، هل استطعنا أن نصل إلى شورى تجمع أهل الحل والعقد ليدرسوا هذا الخط وفي تفاصيله وطبيعته، حتى أننا عندما عشنا تعدد المرجعيات التي قيل عنها أنها تمثّل غنى في الشأن العلمي، باعتبار أنها تمثّل التنوّع في الخطوط العلمية، نجد أنها تحوّلت إلى دوائر مغلقة كلٌ يغلق هذه الدائرة على نفسه وليس مستعداً أن يفتح كوّة في دائرته على الدائرة الأخرى، بحيث أصبحت مسألة العصبيات في هذا الجانب تتحرك بطريقة لا تخدم أحداً ولا تخدم خطاً، بل غدت الحال أنك ترجع إلى شخص وذاك يرجع إلى آخر، أكثر من أن يكون مذهبك مختلفاً عن مذهبه أو دينك مختلفاً عن دينه، لقد أصبحت هناك عصبية متخلّفة لا تفكر بالأفق الواسع، وأفقنا الواسع هو الإسلام، وقيمة أهل البيـت(ع) في خطهم أنهم كانوا أئمة الإسلام وكانوا المنفتحين على الإسلام.
فلقد كان الإمام الصادق(ع) يوصي الشيعة بأن يصلّوا في مساجد المسلمين وكان يقول في بعض أحاديثه "إن الذي يصلّى في تلك الجماعات والمساحد كالمصلّي خلف رسول الله(ص) فلماذا ذلك"، مع أن بعض شيعته قال له إن هذا الشخص يرمينا بالشرك وبالكفر، قال: "إذا عصى الله فأطع الله أنت"( )، أي لا تتحرك بردّ فعل، بل كُن أول داخل للمسجد، والسؤال هنا لماذا كان الأئمة(ع) يريدون ذلك.. بوضوح نقول: إنهم كانوا يخططون من أجل أن يندمج المسلمون مع بعضهم في مساجدهم حتى إذا اختلفوا فمن خلال واقع الاندماج والحوار فيما بينهم.
عندما ندرس حياة الإمام الصادق(ع) نجد أنه كان في داره وفي مسجده مرجعاً للمسلمين الذين لا يأخذون بمذهبه، وعندما نرى كيف كان يتحدث (أبو حنيفة) و(مالك بن أنس) وغيرهم عنه.. نرى أنهم يتحدثون عنه كما لو كان المرجع الذي يرجعون إليه، بل كان بعض القضاة الحنفيين يقول لا يمكن أن أغيّر أي فتوى إلا إذا كانت تلك الفتوى فتوى "جعفر بن محمد الصادق(ع)".
كان هناك انفتاح في الحياة الإسلامية وكان المسلمون يصلّون في مساحد واحدة ولم يعهد في زمان الأئمة(ع) أنه كان هناك مسجد للشيعة وآخر للسنة، وكان الجميع يصلّون في مساجد موحّدة، ومعنى ذلك أن النبي(ص) والأئمة(ع) أسسوا خطاً إسلامياً لا يريدون لشيعتهم أن ينحرفوا أو يتساهلوا فيه، ولكنهم كانوا يرون أن قوة المسلمين الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، إنما تكون إذا اجتمعوا بحيث إذا اختلفوا وهم مجتمعون فسينقلب الاختلاف إلى اتفاق، ولكنك عندما تجلس وحدك والآخر وحده فلا تستطيع أن تكلّمه ولا يستطيع أن يكلّمك، فسوف تتراكم ـ بسبب البعد ـ كل الصور الوهمية التي يحملها كل فريق عن الآخر، وفي المثل الشعبي (البعد جفاء).
الموقف إزاء التحديات:
فأمام هذا الواقع الذي نعيشه والذي سوف ينتهي إلى مشكلة عميقة للإسلام والمسلمين على مستوى الحاضر والمستقبل، فإن التحديات التي تواجهنا أمام الصهيونية العالمية التي تحارب الإسلام في كل مكان، والتحديات التي تواجهنا أمام الاستكبار العالمي الذي يحاول أن يحاصر الإسلام في عقائده وشرائعه ومواقعه والتحديات التي تواجهنا أمام الكفر العالمي الذي بدأ يخترق مواقع المسلمين الثقافية في جامعاته ومناطق التبشير والتضليل والتكذيب، فلا بد أن نفكّر في هذا الواقع وأن لا يجلس كل واحد منا في زاويته ليتصور أو زوايته تمثل العالم، وأن لا يجلس كل إنسان مختنفاً في داخل شخصيته ليسجن نفسه في ذاته ويعتبر أن ذاته تختصر الأمة كلها، فلكلٍ موقعٌ ودورٌ، والآفاق أمامنا واسعة، فتعالوا لنتنفّس في الهواء الطلق، لأن كثيراً مما نعيشه مملوء بالهواء الفاسد.. تعالوا لننطلق في الصحو المبدع حيث تشرق الشمس فتعطينا الدفء والنور حتى نعيش في حياتنا كمسلمين نريد أن نحمل أمانة رسول الله(ص) على أكتافنا ونعتبرها قضيتنا على مستوى الخط والواقع.
أيها الأحبة، إن الإمام الصادق(ع) قال في بعض كلماته "وهل الدين إلا الحب"( )، وقد علّمنا الله سبحانه وتعالى كيف تكون محبته متجذّرة في الواقع {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} في كل خطوات الرسالة {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}( ).
المحبة لا الحقد.. والوحدة لا التمزّق.. الأخوّة لا العداوة، هي العناوين التي يريد الله للمسلمين أن يتحركوا فيها، وعلينا في مولد الرسول(ص) ومولد الإمام الصادق(ع) أن نعطيهما من عقولنا ومن قلوبنا ومن طاقاتنا إسلاماً متحركاً منفتحاً محباً ودوداً يجمع المسلمين في دائرة الحب ودائرة المسؤولية، فلقد كانت النبوة انطلاقة للوحي في وجدان الإنسان، وكانت الإمامة حركة في خط النبوة من أجل أن تعمّق وجدان الإنسان الإسلامي ليكون إسلاماً متجذراً في العقل والقلب والروح.وهذا هو درس المولد..
أعطوا المولد معناه في الرسالة ولا تعطوزه معناه في الشكل الخارجي فقط {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}( )، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}( ).
فهل ترانا نسير في هذا الخط لنكون معه حتى وإن فصلنا عنه الزمن، معه في العقيدة والشريعة والمنهج والحركة، معه في الدنيا لنكون معه في الآخرة {وفي ذلك فلتنافس المتنافسون}. والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الثامنة: 24 ربيع الأول 1419هـ الموافق 18 – 7  – 1998م


المنهج الإسلامي في الانتماء

"أخطر أنواع التخلّف ذاك الذي يختزن القداسة فيمنع الإنسان من التفكير في الاتجاه الآخر"


ـ المنهج الإسلامي في الانتماء.
ـ المنهج قرآنياً.
ـ في حركة الواقع.
ـ تقدميّة الفكر ورجعيّته.
ـ التقليد في الفقه.
ـ الأحاديث ترفض وتنهى.
ـ خلاصة الفكرة.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

المنهج الإسلامي في الانتماء:
موضوعنا في هذه الليلة حول المنهج الإسلامي في الانتماء وفي الاعتقاد وفي الاتباع.
فعندما نقرأ القرآن الكريم وهو يحدثنا عن المشكلة التي واجهت النبوات في تاريخها كلّه، فإننا نلتقي بآيات الله التي تذكر أن المشكلة التي كانت تواجه الأنبياء هي مشكلة هذا الجمود الفكري الذي ينطلق من تخلّف يأخذ معنى القداسة، ولعل أخطر أنواع التخلّف لدى الإنسان هو عندما يختزن التخلّف قداسة لديه بحيث يمنعه من أن يفكر في الاتجاه الآخر.
ولقد كانت المسألة المطروحة عند الناس آنذاك، وربما لا تزال مطروحة بطريقة وبأخرى، هي أن إرث الآباء مقدس لأنهم كانوا يخلطون بين الجانب العاطفي وبين الجانب الفكري، فنحن نعرف أن الإنسان يتعاطف مع آبائه وربما يحمله التعاطف مع آبائه أن لا يتنكّر لعقائد ولعادات وتقاليد آبائه، لأن التنكّر لها قد يحمل في بعض إيحاءاته معنى الاستهانة بالآباء، لأنك عندما ترفض فكر إنسان معنى ذلك أنك فقدت شيئاً من احترامك له..
ولهذا كان اتّباع الآباء من المسائل المقدسة عندهم، بحيث أن الأنبياء عندما يأتون بأي فكر يختلف عن فكر الآباء فإن الناس لا يناقشونه، بل كل ردّهم هو أن هذا على خلاف فكر آبائنا وتنتهي المسألة عند هذا الحد. ويحاول النبي(ص) كما يوحي إلينا القرآن بذلك أن يعلّمنا مناقشة المسألة بأن ندخل في عملية تقويم فكر الآباء من حيث علاقته بالحقيقة، فهم يعلنون أنهم ليسوا مستعدين لذلك.
المنهج قرآنياً:
وتعالوا لنقرأ بعض آيات القرآن لنعرض من خلالها كيف كان المنهج هناك وكيف هو المنهج في الإسلام، يقول تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}، فـ(على أمةٍ) تعني على مذهب وعلى خط وعلى طريقة، لأن الأمة قد تعتاد على ذلك {وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}( ) والآثار كناية عن أفكارهم وهذه المسألة ليست مختصة بجماعة معينة.
وكذلك قوله تعالى: {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}( )، ومن هنا نفهم أن مشكلة المترفين، وهم الطبقة المالية المهيمنة عل واقع الناس، أنها لا تريد للواقع من حولها أن يتغيّر فكرياً في جانب من الجوانب، لأن مبدأ التغيير إذا اخترق المجتمع فإنه سوف ينسف كثيراً من القواعد التي يرتكز عليها هؤلاء في فرض هيمنتهم وسيطرتهم..
ولذلك نجد أن الطبقات المهيمنة والحاكمة في أي مجتمع تعمل على تجميد المجتمع وترفض أن يدخل في عملية تغيير أو مناقشة أو ما إلى ذلك، لأنهم يشعرون أنه إذا اهتزت بعض القواعد في المجتمع على مستوى القيم أو على مستوى الفكر فربما تقوم ه ناك ثورة تنسف كل القواعد التي يرتكزون عليها في تضليل الناس.. ولذلك يتحدث القرآن عن أن المترفين كانوا هم الفئة المهيمنة المضادة لحركة الأنبياء باعتبار أن حركة الأنبياء هي حركة تغييرية وهم يرفضون التغيير,.
قال النبي كما ينقل القرآن عنه: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ} فربما يكون لآبائكم وجهة نظر ولكنني أملك وجهة نظر هي أكثر علاقة بالهدى وبالحق وبالمصلحة {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}( ).
إن النبي(ص) هنا يدعوهم إلى الهدى  ويقول تعالوا ناقشوا هذا الطرح الذي أطرحه عليكم، لكن المشكلة هي أننا لا نناقش، فالمسألة عندنا محسومة من جميع الجهات {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} فيما يبيّن من سنّة {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} ليست لنا حاجة لفكر جديد ولوحي جديد ولمنهج جديد {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}( ).
إذ كيف يتّبع الإنسان الجاهل، وكيف يتّبع الإنسان الضال {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}( )، أي لا يملكون عقلاً يركّز لهم الفكر على أساس عقلي، ولا يملكون هدىً يسير بهم نحو النجاة ونحو المستقبل الكبير {وإذا فعلوا فاحشةً} مما يسيء إلى أخلاق الناس وإلى حياتهم {قالوا جَدْنَا عليْها آباءنا} ويضيفون على ذلك بأن كا كان عليه آباؤهم مردود إلى الله وإنه ـ تعالى علوّاً كبيراً ـ هو الذي أمر بالفاحشة {والله أمرنا بها قُلْ إنّ الله لا يأمُرُ بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون}( )، وهذه الآية تدل على حدّة التخلّف وشدّة المواجهة {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}( )، عِظ ما شئت أو لا تعظ، فالقضية واحدة بالنسبة إلينا لأننا لا نريد أن نسمع ما تقول ولا نريد أن نفكّر بما تقول {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ}( )، فهناك الإثارة الانفعالية التي تجعل المجتمع يهجم ويثور على الأنبياء وعلى المصلحين بأن ينطلق الشعار بالقول إن هذا يخرّب عليكم عقائد آبائكم {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ* فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}( ).
كان هذا هو المنهج الذي أخذ به الكافرون والمشركون، وتلك كانت حجّتهم في مواجهة ما يطرحه الأنبياء والمصلحون، ويعني ذلك أن الإسلام يريد أن يؤكّد في وعي الناس من خلال رسالته أنه لا مجال لأن يكون انتماؤك واعتقادك واتّباعك خاضعاً لكون الآخرين يتميزون بميزة عاطفية أو تاريخية أو ميزة مالية مهيمنة أو كل الذين يتميزون بأية ميزة تجعلك خاشعاً أمام هذه الميزة، فهذا لا يبرّر لك أن تعتقدهم مقدسين.
في حركة الواقع:
وإذا أردنا أن ننفتح على المسألة في الواقع الذي نعيشه فإننا يمكن أن نطرح أيضاً مقولة يتحدث بها الكثير من الناس عندما يقولون وهم يأخذون بعادات وتقاليد معينة، إنا وجدنا آباءنا عليها، وعندما تريد أن تناقش هذه التقاليد والعادات أو الأفكار فإن الثورة سوف تثور من خلال الغوغاء بأن هذه هي عاداتنا، وقد كان آباؤنا كذلك، وكانت الأجيال الماضية كذلك، وقد تحوّل كثير من عادات التخلّف ومن تقاليد الجهل إلى حالات مقدّسة يجعلها الناس في دائرة القداسات، بحيث إنك إذا مسستها بمناقشة أو بعلامة استفهام فإن الكثير من الناس بمن فيهم الذين قد يملكون مواقع دينية معينة، أو مواقع اجتماعية معينة قد يقفون ضدك وليسوا مستعدين للدخول في المناقشة، حتى أن التخلف عند البعض وصل إلى أنهم يحاولون أن ينظّروا لعادات التخلف ولتقاليد الجهل، بحيث يحاولون أن يأتوا بآية من كتاب الله في جو ضبابي من الفهم أو حديث من هنا وهناك.
وإذا ناقشت الآية في دلالتها والحديث في سنده فإنهم يقولون لك في هذا {إنا وجدْنا آباءَنا} فلقد كان العلماء الذين من قبلك يقولون هكذا وكأن القديم ـ لمجرد أنه قديم ـ مقدّس ولا مجال لمناقشته، في حين أن القدماء ناقشوا الذين سبقوهم ولم يتذرعو بهذ الذريعة الواهية التي تجمّد العقل وتحجر الفكر ولو قال العلماء {إنّا وجَدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ} لما وصلنا هذا النتاج الخيّر المبارك الذي أبدع وطوّر وجدّد.
فأن تناقش من أين انطلقت هذه العادة ومن أين انطلق هذا التفكير فإنه ممنوع عليك ذلك، وبذلك فرض (التخلّف المقدّس)، أي الذي أُعطي صفة القداسة، نفسه على الكثير من الذهنيات العامة حتى التي تأخذ بعداً في المسؤولية في أكثر من موقع من واقعنا.
نجد أيضاً مقولة أخرى لدى الكثير من الناس عندما يأخذون ببعض تقاليد الغرب وببعض عاداته مما تحرّكت به الأوضاع المعاصرة التي يشرف عليها مخططون في أكثر من موقع ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي من أجل إسقاط الكثير من القيم التي يأخذ بها هذا الشعب وذاك، ويعملون على أن تنتشر بواسطة ا لإعلام الذي يملكون أجهزته كلها وبواسطة المواقع التعليمية والثقافية التي يملكون الكثير منها، وبواسطة كثير من الأوضاع التي يتحرّك فيها الاقتصاد الاستهلاكي هنا وهناك لتصبح عادةً وتقليداً وتمدناً وتقدماً وما إلى ذلك.
وعندما ترفض ذلك فإنهم يقولون لك هذه هي روح العصر، فالعصر يقول لنا والعصر يفرض نفسه علينا، وهذا هو منطق التطور، ونحن نعرف ـ أيها الأحبة ـ أن العصر إنما يتطور إلى الأمام أو يتراجع إلى الوراء من خلال الفكر الذي يسيطر على مقدرات الناس في هذا العصر أو ذاك.. ذلك أن العصر يمثل خط  الزمن في امتداده، أما عندما تنتصر فكرة مادية هنا أو فكرة أخلاقية هناك فإن الانتصار ينطلق من خلال الواقع الموضوعي والآليات الموجودة، من الطبيعي أن نجد الآن أن الكثير من العادات والتقاليد والأفكار انتشرت من خلال الراديو والتلفزيون والصحيفة والمجلة والنوادي الثقافية وما إلى ذلك، بحيث أصبح الناس يدمنونها، من خلال ذلك يدمنون كل ما تقدمه من أفكار ومن خطوط ومن أوضاع، فإذا أردت أن تناقش ذلك قالوا لك هل تريد أن تعيدنا إلى الوراء وكأنهذه الأمور تمثل الانطلاقة إلى الأمام.
تقدّمية الفكر ورجعيّته:
إن قضية أن تناقش فكراً على أساس أنه تقدمي أو رجعي ليست في أن هذا الفكر كان في الزمن الماضي فهو رجعي، ولأنه في الزمن الحاضر فهو تقدمي، بل إن تقدمية فكرٍ ما ورجعيّته ينطلقان من خلال علاقتهما بحياة الإنسان وبمصالحه وبكل الآفاق الواسعة التي ينفتح فيها على الحياة، كما أن مسألة أن يكون فكرٍ ما متقدماً أو متأخراً هي أن يحمل هذا الفكر للإنسان القيمة التي يرفع بها مستوى فكره وإحساسه وشعوره وحركته في الواقع، فالمسألة ليست {إنّا وجَدْنا آباءَنَا على أُمَّةٍ} إنا وجدنا الناس من حولنا على أمة أي على طريقة أو مذهب معين {وإنّا على آثارِهِم مُقْتَدون}.
فالإسلام يقول لك إن الله وهب لك عقلاً كما وهب الآخرين عقلاً والله سوف يسأل عقلك، لأنه يقول اسمع كل ما يقوله الناس ولكن ليجلس عقلك مع كل ما تنتجه عقول الناس وليناقش هذا العقل وذاك حتىينطلق في أفكاره من خلال اقتناعٍ بالنتائج الإيجابية التي يصل إليها بعد أن يسقط شيئاً من هذا الفكر وشيئاً من ذاك الفكر، أو يختار شيئاً من هذا الفكر أو شيئاً من ذاك، فعقل الآخرين ليس حجة لك أمام الله، بل عقلك هو الحجة التي يمكن أن تقدمها بين يدي الله ويمكن أن يطالبك الله بها، ولذلك أعطى الله المنهج في قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}( ).
فالله تعالى لا يريد لك أن تبني فكرك على التقليد، ولا أن يكون فكرك فكر الاستهلاك بل فكر الإنتاج وفكر الإبداع، ذلك أن الله سيسألك عما عقلت وعما فكرت، وقد حدثنا الله عن أهل النار أنهم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير}( ) وحدثنا عن قوم بأن لهم قلوباً ـ والمراد بالقلوب العقول ـ لا يفقهون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها، فلقد جمّدوا عقولهم، وجمّدوا عيونهم، وجمّدوا أسماعهم، وانطلقوا مع ما يتحرك به واقعهم من تقاليد وعادات.
التقليد في الفقه:
وقد يقول قائل: إنكم تتحدثون عن رفض التقليد، فكيف يمكن لكم ذلك وأنتم تؤكدون على رجوع الناس إلى المجتهدين ولديكم في الفقه باب للتقليد؟
إن هذا ليس هو التقليد بالمعنى الذي يعطّل الفكر، بل هو التقليد بالمعنى الذي يغنيه بما لا يملك الآلية له، وهي مسألة أن يرجع من لا يملك العلم إلى من يملك العلم، فأنت مسلم والإسلام في أحكامه وشريعته أصبح من التعقيد، بحيث يحتاج إلى اختصاص وليس لديك هذا الاختصاص، لذلك فإن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}( )، ويقول: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}( ).
وعليه، إذا لم تستطع أن يكون لك اجتهادك في الفقه فارجع في عملك إلى من يملك الاجتهاد مع الاستقامة، تماماً كما يرجع المريض إلى الطبيب، وكما يرجع الإنسان إلى المهندس وكما يرجع كل إنسان لا يملك خبرة إلى أهل الخبرة، والرأي الصحيح هو أن الرجوع إلى الفقهاء في الأحكام فقط ولا يرجع إليهم في الموضوعات، وهذا هو رأي كثير من العلماء ومنهم السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ فرأي المجتهد في الموضوعات ليس حدة عليك ولا حجة لك إلا إذا اقتنعت به من خلال المعطيات التي تملكها.
وعلى ضوء هذا، ففي الجو الذي قد يسود فيما بين المسلمين من أن فريقاً منهم يحكمون بكفر هذا المسلم أو ذاك، أو بشرك هذا وذاك، نقول لهذا الفقيه الذي هو من مذهب معيّن عندما يحكم على مذهب آخر بهذه الأحكام المتعسّفة، أن هذا ليس من اختصاصك، فاختصاصك هو أن تبحث في الأحكام، أما أن يكون فلان مشركاً أو كافراً فهذا أمر يتعلق بالعقيدة، والله جعل للناس في كتابه الخطوط التي يستطيعون أن يحكموا فيها على هذا بأنه مؤمن، وعلى ذاك أنه مشرك وهي معايير يمكن أن يعرفها المجتهد ويمكن أن يعرفها غيره، وأما  العقائد فليست من اختصاص المجتهدين في باب التقليد، فحتى المجتهد عندما يكون له رأي في مسألة عقيدية فإن رأيه يبقى رأياً شخصياً يمكنك أن تقتنع به من أية جهة وحجة علمية كما تقتنع بأي رأي آخر، فهو في التقييم النهائي رأي شخصي، أي يمكن لك أن تقتنع به ويمكن أن لا تقتنع.
وهكذا عندما تصدر كثيراً من الأحكام بأن فلاناً موثوق، وأن فلاناً مرتدّ أو هو ليس بمرتدّ، فهذه أيضاً قضية موضوعية وليست حكماً شرعياً يمكن أن يصيبها المجتهد ويمكن أن يصيبها غير المجتهد، فلا بد أن تكون العقيدة ناشئة من وعي ومن اجتهاد ومن بحث، فإذا عرفنا أسس الإيمان فإننا نستطيع أن نحكم على شخص بأنه مرتد أو ليس مرتداً على ضوء هذه الأسس.
ولذلك فإن علينا أن نفهم الكثير مما يصدر الآن بالشكل غير المسؤول من الحكم بكفر بعض المسلمين أو بشركهم أو بارتدادهم أو بانحرافهم، على أنه لو صدر عن أي مجتهد من أي مذهب كان فعلينا أن نقول له تعال لنناقشك في هذا الأمر، لأن رأيك ليس مقدساً في الخط الشرعي للقداسة ولكنه محترم كأي صاحب رأي يمكن أن يصيب في رأيه ويمكن أن يخطئ وليس للناس أن يقلّدوه في ذلك.
إذاً فالتقليد هو الرجوع إلى أهل الخبرة، وهو يعاون العقل على ما يملك من الآلية لذلك، كما هو الوحي ـ مع الفارق في جهات أخرى ـ عندما يحدّثنا عن الله في عالم غيبه وعن الغيب في الآخرة، فإن عالم  الغيب هو العالم الذي لا يملك العقل الوسائل التي توصله إليه فيأتي الوحي من أجل أن يكمل للعقل وسائل المعرفة لتكون منطلقة من التأملات الإنسانية ومن التجربة الإنسانية ومن الوحي الإلهي، وهكذا الأمر في قضية الأحكام الشرعية وفي الموضوعات الخارجية.
هذه هي خلاصة الفكرة، ومن الطبيعي جداً أن الناس عندما يرجعون إلى أهل الخبرة فلا بد لهم أن يدرسوا مدى خبرتهم ومستواهم في الخبرة.
الأحاديث ترفض وتنهى:
وعلينا في نهاية المطاف أن نقرأ بعض الأحاديث الواردة عن النبي(ص) وعن الأئمة(ع) في رفض السير مع تيار الناس، فعن (حذيفة) قال: قال رسول الله(ص): "لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنّا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا"( )، ليكن لك فكرك المنطلق من مبادئك ولا يكن موقفك حركة في مجرى التيار.
في الحديث عن أبي عبدالله(ع) جعفر الصادق، قال لرجل من أصحابه: "لا تكن إمّعةً تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس"( )، بحيث يُقال لك: ما هو رأيك فتقول أنا مع الناس ومع العشيرة وأنا واحد من الناس أقول ما يقولون، أي لا رأي لي، في حين أن الإنسان الذي له رأيه من خلال دراسته للفكر، فحتى لو وقف العالم كله ضده فإنه لن يستطيع أن يقنعه بغير رأيه المتشكّل من قناعته.
وهكذا ورد في الحديث عن (أبي حمزة الثمالي) قال: قال أبو عبدالله(ع): "إيّاك والرئاسة وإياك أن تطأ أعقاب الرجال، فقلت: جعلت فداك أما الرئاسة فقد عرفتها، وأما أن أطأ أعقاب الرجال، فما ثلث ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال" أنا أمشي وراءهم وهذا هو رزقي، "فقال ليس حيث تذهب، إياك أن تنصّب رجلاً دون الحجة فتصدّقه في كل ما قال"( )، أي أنه لا يملك الكفاءة وأنت تصدّقه في كل ما قال وما يقول.
ويقول (عدي بن حاتم) قال أتيت النبي(ص) وهو يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}( )، فقال: "أما أنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلّوه وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه" أي أنهم ليسوا في مستوى التحليل والتحريم.
ويؤكد هذا المعنى حديث طريف يرويه صاحب (الاحتجاج) وهو منسوب للإمام الحسن العسكري(ع)، فبغضّ النظر عن سنده، فإن أفكاره تنسجم مع الخطوط العامة للفكر القرآني في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}( )، قال رجل "فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلّدون علماءهم؟ فقال(ع): بين عوامنا وعلمائنا وعوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة، أما من حيث استووا فإن الله قد ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم فيما لا يجوز التقليد فيه، كما ذمّ عوامهم، وأما من حيث افترقوا فلا. قلت: بيّن لي يابن رسول الله؟ قال(ع): إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشاء وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ـ أي تعصّبهم لأنفسهم أو لعائلاتهم أو لمواقعهم ـ وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم وغلبوهم من أجلهم وعرفوهم يقارفون المحرّمات والسرّ يعرفوه بمعارض قلوبهم إلا أن من يفعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمّهم لما قلّدوا من ما قد عرفوه ومن قد علموا أنه لا يجوز قبل خبره ولا تصديقه في حكايته. وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذي ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم، فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم"( ).
خلاصة الفكرة:
هذه هي بعض كلمات الرسول(ص) وكلمات أهل البيت(ع)، وخلاصة الفكرة ـ أيها الأحبة ـ هي أن الله سوف يسألنا غداً عن كل ما اعتقدناه وعن ما اتّبعناه وعن كل ما انتمينا إليه وعن كل ما قلناه وفعلناه، ولكل شيء من هذه المفردات خط خطّه الله ومنهج منهجه الله، فعلينا أن نقف مع الخط الذي خطّه الله في هذه الأمور ومع المنهج الذي رسمه الله، مسؤوليتنا عن أنفسنا وعن الناس وعن الحياة، ومسؤوليتنا الكبرى غداً {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}( )، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}( )، {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}( )، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}( ).
لذلك علينا أن نحرّك عقولنا بأن نجعلها كلّما كثرت الشبهات وازدادت الغوغاء وكلّما تحرّك التخلّف في حالة طوارئ، أن نفكر دائماً ونقرأ دائمً ونستشير دائماً ونحاور دائماً حتى نصل إلى الحق الذي لا يقترب إليه الباطل، هذا هو نهج القرآن ونهج السنّة ونهج الإسلام. والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة التاسعة: 1 ربيع الثاني 1419هـ الموافق 25 – 7  – 1998م


اللـــــــّـــــغــــــو

"لا تهدروا طاقاتكم باللغو... كونوا الأمّة التي تفجّرها في الخير وفيما ينفع الناس"


ـ صناعة الشخصية الإسلامية.
ـ عمّا الله.
ـ اللغو.
ـ الإعراض عن اللّغو.
ـ حركة اللغو في الواقع الاجتماعي.
ـ حادثة ذات دلالة.
ـ فتّشوا عن الخلفيات.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

صناعة الشخصية الإسلامية:
عندما ندرس الخط الإسلامي في صناعة الشخصية الإنسانية فإننا نجد أن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يؤمن بأن وجوده في الحياة ليس وجوداً عبثياً، بحيث يكون كفقاعة تنتفخ في الماء ثم تنفجر فلا تترك وراءها شيئاً.. بل إن على الإنسان أن يعرف أن الله سبحانه وتعالى عندما أعطاه طاقاته كلها فإنه أراد له أن يحرّك هذه الطاقات في تحقيق الأهداف الكبرى التي أرادها سبحانه وتعالى للحياة وللإنسان، بحيث عندما يتمثّل الإنسان هذه الطاقات فإن عليه أن يدرس عناصرها، وماذا يمكن أن يقدّمه لنفسه وللحياة وللإنسان من خلالها، وأن عيه أن لا يضيّع هذه الطاقات أو أن يهدرها في الفراغ.. فالله يريد للإنسان في فراغه من عمله الطبيعي أن يكون فراغاً منتجاً يجدّد له نشاطه ولا يبتعد به عن خطه، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في بعض أدعيته في الصحيفة "فإن قدّرت لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة لا تدركنا فيه تبعة ولا تلحقنا فيه سآمة".
عمّال الله:
وفي ضوء ذلك، يؤكد الله في آياته القرآنية هذا الخط {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}( )، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}( )، فنحن عمّال الله في هذا المصنع الكبير الذي نصنع فيه كل ما يحقق للحياة قوتها وللإنسان نموّه في اتجاه الكمال ويحقّق إرادة الله سبحانه وتعالى في السير إليه في الخط المستقيم {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}( ).
من خلال ذلك ندخل في بعض المفردات التي تعطي المعنى الإيجابي من جهة وترفض المعنى السلبي من جهة، فنحن مثلاً نقرأ في حديث الإمام جعفر الصادق(ع) وهو يحدّثنا عن نعم الله علينا وهي الطاقات التي أودعها الله تبارك وتعالى فينا أو هيّأها لنا باعتبار أنها مسؤولياتنا "إن الله لم ينعم على عبدٍ نعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجّة من الله، فمن منَّ الله عليه فجعله قوياً فحجّته عليه القيام بما كلّفه واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن منَّ الله عليه فجعله موسّعاً عليه فحجّته عليه ماله ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله، ومن منَّ الله عليه فجعله شريفاً في بيته جميلاً في صورته فحجّته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك وأن لا يتطاول على غيره فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله"( )، فطاقاتك التي هي نعم الله عليك هي مسؤولياتك وسيحاسبك الله عليها يوم القيام على أساس وجودها عندك وعلى قدر امتلاكك لها وكيف حرّكتها وسخّرتها، وكيف انطلقت بها في اتجاه القيام بكل مسؤولياتك اتجاه نفسك وربك والناس من حولك.
اللّـــغو:
في الجانب السلبي نقرأ عنواناً متحرّكاً في أكثر من آية، فنحن نقرأ مثلاً في حديث الله عن المؤمنين {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}( ). وقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}( ) إلى أن يقول: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}( ). وهكذا تتنوع الآيات الكريمة التي تتحدث عن اللغو كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}( ).
وهناك آيا أخرى تتحدث في هذا الجو {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}( )، يعني نتحدث الحديث الذي يتحدث به ا لناس من دون أية مسؤولية ومن دون أي معنى.. وهكذا يحدثنا الله سبحانه وتعالى عن الجنة {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}( )، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}( ).
فهنا تتكرر كثيراً هذه المفردة القرآنية (اللغو) والله يرفض أن يصدر اللغو من ا لمؤمن ويرفض أن يلقي اهتمامه الفكري والعلمي في اللغو، فاللغو بحسب اللغة هو كل قول لا تفعل به وكأنه ملغى، لأن الشيء إنما يكون معبّراً إذا كان في ما ينفع الإنسان، فنحن نحتفظ بما ينفعنا غالباً، أما ما تنتهي منفعته أو لا منفعة لنا فيه فإننا عادة نرميه في الشارع.
فاللغو هو ما لا نفع للإنسان فيه، واللغو في القول هو الكلام الذي لا نفع للإنسان فيه، وأما اللغو في الفعل فهو الفعل الذي لا غنى للإنسان فيه كما يعبّر بعض الناس عما لا نفع فيه ولا شخصية له في واقع المعنى فيقول لا لون له ولا طعم ولا رائحة.
هنا نجد أن المفسرين قد اختلف رأيهم أو قد تنوّع تعبيرهم عن اللغو فكلٌ منهم فسّره بتفسير، ففي (مجمع البيان) يقول (الطبري) "اللغو في الحقيقة هو كل قول أو فعل لا فائدة فيه ولا يعتدّ به، فذلك قبيح محظور يجب الإعراض عنه"، وذلك مما يستوحيه من كلام الله سبحانه وتعالى في الإعراض عن اللغو.
وقال (ابن عباس) "اللغو: الباطل، وقال (الحسن) هو جميع المعاصي، وقال (السدي) هو الكذب، وقال (مقاتل) هو الشتم، فإن كفار مكة كانوا يشتمون النبي(ص) وأصحابه، فنهوا عن إجابتهم. وروي عن أبي عبدالله(ع) الإمام جعفر الصادق أنه قال: "هو أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله" وفي رواية أخرى "أنه الغناء والملاهي"( ).
وعندما ندرس هذه الكلمات فإننا نجد أنها تلتقي في معنى واحد وهو الكلام الذي لا منفعة فيه وقد يكون فيه مضرّة، فالباطل لا نفع فيه لأنه خلاف الحق، والكذب لا نفع فيه للإنسان باعتبار أنه خلاف الصدق وهو ضد الحقيقة وضد الواقع، ولأن جميع المعاصي أيضاً لا نفع فيها للإنسان، بل هي ضد مستقبل الإنسان عند الله سبحانه وتعالى.
وأما بالنسبة إلى الغناء والملاهي المحرّمة فباعتبار أنها من المعاصي، والشتم والسباب أيضاً لا نفع فيه للإنسان، لا سيما إذا كان شتماً للحق ولأهل الحق، فهي تلتقي عند معنى واحد وهو الفعل أو القول الذي لا غنى فيه للإنسان ولا نفع.. فالله يؤكد على الابتعاد عن اللغو لأنه يريد للإنسان فيما أعطاه من طاقة النطق وطاقة الحركة أن يسخّر هذه الطاقات كلها فيما ينفع نفسه وينفع الناس وينفع الحياة، لأن ذلك هو الذي يبقى، أما اللغو وما لا ينفع الناس فإنه يتبخّر ويذهب دون أن يخلّف وراءه شيئاً، وهذا هو المثل الذي ضربه الله لحق والباطل {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}( ).
ولذلك أراد الله لنا أن نبتعد عن اللغو، لننا عندما نصرف وقتنا في قول اللغو أو في فعله فإن معنى ذلك أننا ضيّعنا هذه الطاقة وهي الزمن الذي هو جزء من عمرنا، وضيّعنا هذه الطاقة وهي طاقة النط إن كان اللغو كلاماً، أو طاقة القوة التي جعلها الله في جسدنا فكان اللغو فعلاً لأننا ضيّعناه، ولم نستطع أن نبقي لأنفسنا منها شيئاً في الدنيا مما ينفعنا في الدنيا وفي الآخرة مما نقبل عليه في الآخرة، والله لا يريد لك أن تكون هباءً وأن تكون اللاشيء واللانفع، بل يريد لك أن تعيش القول الذي يغني عقلك أو يغني عقول الآخرين {فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}( )، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}( )، أن تنطلق لتكون طاقتك حركتك في الأحسن.
الإعراض عن اللغو:
وفي وحي كلام الإمام الصادق(ع) تتحول مسألة الإعراض عن لغو الآخر أن يتقوّل عليك إنسان بكلام غير صحيح أو ينسب إليك شيئاً باطلاً، وهنا يقول لك الإمام الصادق(ع) ـ حسب الرواية ـ فيما يستوحيه من كلام الله سبحانه وتعالى إنه يقول لك أعرض عنه ـ أي الباطل ـ فإنه سيموت تلقائياً، اتركه يتآكل ويموت لأنه لا قابلية له على البقاء، واترك الكلام المضاد لك الذي لم تأته، لأن الكذب سوف يموت فـ"جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة". إن الآيات الكريمة تقول لك {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}( )، إن عليك أن تجعل هذا الجهل الذي خاطبك الجاهل به يأكل نفسه، فلا تدخل معه في معركة لأنه سوف يميت نفسه بنفسه، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}( ).
ويقال أن هناك شخصاً شتم الإمام السجاد(ع) فتابع الإمام سيره فوقف وقال: إياكَ أعني ـ أي بالسباب ـ فقال الإمام "وعنك أعرض" أي لم يأبه ولم يكتثر لجهله بالمرّة، فعلى المؤمن أن يجعل كلمة الجهل تتحرك في داخل إطارها فلا يفسح المجال لمقابلة الجهل بالجهل، وقد قال الشاعر وهو يصوّر هذا المعنى:
        يخاطبني السفيهُ بكل قبحٍ    وأكره أن أكون له مجيبـــــا    
        يزيد قباحةً وأزيـــــــــد حلماً    كعودٍ شفّه الإحراقُ طيبا    
حركة اللغو في الواقع الاجتماعي:
فإزاء اللغو في الواقع لا بد أن يكون موقفك كهذا، لأن كثيراً من الناس قد يكونون معنيين، من خلال حقدهم الذاتي، أو موظفين من خلال أجهزة مخابرات محلية أو إقليمية أو دولية أن يصنعوا معارك وأن ينسبوا إلى شخصية معينة كلاماً لم تقله أو يتهموا إنساناً بشيء لم يفعله ويثيروا مشكلة تخلق فتنة في المجتمع أو تحرّك الفتنة في الأمة، لأنهم يعتمدون عل أن الفعل سوف يقابله رد فعل، إنه يتطلّع إلى أن يسبّك لتسبّه وأن يتهمك لترد عليه..
وهكذا لا يهنأ له بال حتى يخلق المشاكل لك وللمجتمع، أو يشغل الأمة عن قضاياها الحقيقية الحيوية المصيرية ببعض الخلافات الشخصية الجانبية لتتحرك كلها، فتنسى القضايا الحيوية..
وهذا ما نعيشه في العالم الثالث وفي الواقع الإسلامي وفي الشرق العري بالذات، فنحن نجد أن مهمة أجهزة المخابرات الدولية لم تكن فقط أن ترصد ماذا يقول الناس ويفعلون، بل أن تنتج الفتنة والخلافات وأن تشغل الناس بخلافات عائلية وإقليمية وطائفية ومذهبية وشخصية في داخل المذهب الواحد حتى تتفرّغ لسرقة أموال المسلمين ولاستثمار ثرواتهم ولمصادرة سياساتهم وللإطباق على أمنهم لأنهم مشغولون بالقضايا المذهبية بين مسلم ومسلم، وبين سنّة وشيعة، فهذا يكفّر هذا، وهذا يكفّر ذاك، إنهم مشغولون بالقضايا الطائفية بين المسيحية وبين الإسلام، وبالقضايا الإقليمية بين هذا البلد وذاك البلد في حدود هنا وحدود هناك، أو في بعض القضايا التاريخية التي يمكن أن تثير الأحقاد هنا أو تثير الأحقاد هناك.
وينشغل الناس بكل هذا اللغو الذي قد لا يحمل الكثير من الحق بل يحمل الكثير من الباطل في ردود وخطابات وإثارات ومنازعات وما إلى ذلك.
وربما نجد أن بعض المشاهد تدخل في المذهب الواحد، سواء في داخل الواقع الإسلامي السني فيما تثور فيه من مشاكل داخلية، أو في الواقع الإسلامي اشيعي فيما تثور فيه، خصوصاً في عالم المرجعيات وصراعها وما أشبه ذلك، والخلافات الشخصية التي تتحرك هنا وهناك من خلال كلام ينسب إلى هذا وذا أو تهمة تلصق بهذا أو بذاك، وتمر القضايا الكبرى كما يريد المستكبرون، في حين أن الله يريدنا أن نقول {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}( )، فنحن لا نريد أ ندخل في معركة الجهل.
وقد يقول البعض ربما تُثار بعض القضايا التي قد يكون لها دور فيما نفكر فيه، فهل تريدنا أ نسكت، وقد تُثار بعض القضايا التي تتصل بالمذهب أو بالدين، وقد يسبّ إنسانٌ شخصية كبيرة عندنا، وقد يتعرض الإنسان لبعض القضايا الحساسة في أوضاعنا، فهل تريدون أن نسكت، نحن لا نقول ذلك ولكنك عندما تريد أن تناقش المسألة ادرس خلفيّة هذه الإثارة، فلعلّ الذي أثارها إنسان يريد أن يخلق مشكلة من خلال ذلك، وقد لا يكون الموقف موقف إثارة مشكلة في القضايا حتى لو كانت القضية تمثّل حقك.
وتجربة علي(ع) هي سيدة التجارب وأجلاها، فلقد كان صاحب الحق ولا نزال نرى أنه صاحب حق، ولكنه قال: "حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيامٍ قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه"( )، لم يدخل في جدل ولا في نقاش وهو صاحب الحجة الواضحة "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة"( ).
حادثة ذات دلالة:
أيها الأحبة، أذكر في الخمسينيات أن شخصاً مسيحياً عندنا في لبنان سبّ النبي(ص) وثار المسلمون وخصوصاً في لبنان الذي يعيش حساسيات الواقع السياسي والطائفي بين المسلمين والمسيحيين، وانتبه الجميع بعد ذلك بأن هذا الرجل موظف في المخابرات وأراد أن يثير فتنة معتمداً على هذا النزاع الإسلامي.
وأنقل لكم قصة عشناها كتجربة في ذلك الوقت، فلقد كنا في النجف إلى جانب المرجع الديني الكبير المرحوم السيد محسن الحكيم (رحمة الله عليه) حيث نشرت في بعض الجرائد المصرية، وأظن في (آخر ساعة) رواية عن (عمر) فيها مساس بالإمام علي(ع)، وكان صاحب الجريدة (إسعاف النشاشيبي) وكانت مسألة عبد الناصر قد بدأت تمتد أيامها، وكان هناك بين العراق وبين مصر مشاكل سياسية بين (عبد الناصر) و(نور السعيد) في العراق، وثار الوضع في لبنان بشكل فوق العادة انتصاراً لأهل البيت بين السنّة والشيعة، وقرروا إرسال وفد إلى المرجعية العليا في النجف، إلى السيد محسن الحكيم (رحمه الله) باعتبار أنه مرجع الشيعة، حتى يثار السيد وتكبر المسألة وتصبح على مستوى العالم كلّه..
فجاء الوفد اللبناني وكنا جالسين في ديوان السيد الحكيم، وإذا بأشدّ المتحمسين يندفع بالقول، لا نقبل أن يتكلّموا على أهل البيت بهذا النحو من أجل أن يثير حفيظة السيد، ولكن السيد حكيماً كاسمه، وكان يدرس القضايا بعقلٍ واعٍ وواسع جداً، فلم يستجب لهم لأنه كان يعرف بأن للقضية هدفاً سياسياً، وإذا بهذا الشخص الذي كان أشدهم حماسةً لأهل البيت مسيحي وليس مسلماً، فالقضية إنما أثارت الجو بين السنّة والشيعة حتى تتوجه ضد السياسة المصرية يومذاك، أي ضد السياسة الأخرى، فلا أهل البيت ولا هم يحزنون.
فتّشوا عن الخلفيات:
لذلك أيها الأحبة، عندما تسمعون كلمة فتشوى عن خلفياتها، فللإمام علي(ع) كلمة في نهج البلاغة يقول فيها: "إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر منه حوبة فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله وأحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر"( )، نحن لا نريد أن نسيء الظنّ بكل الناس ولكن علينا ان نكون حذرين في هذا المجال، لذلك {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}( ).
أن نكون الأمة التي تفجّر كل طاقاتها في الخير وفيما ينفع الناس وفيما يقرّبها إلى الله سبحانه وتعالى بما يجمعها على الحق وبما يجعلها واعية لكل الخطط التي تخطط لها من أجل أن تتبعثر قواها وأن تموت طاقاتها في الفراغ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} مَن؟ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}( )، عينا أن نعرف كيف نعرض عن اللغو السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، وحتى اللغو فيما يتصل بالمعاني الدينية عندما لا يكون هناك دين ولكنه لغو باسم الدين. والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة العاشرة: 8 ربيع الثاني 1419هـ الموافق 1 – 8  – 1998م

الخاسرون... والرابحون

"الخوف من الخسارة والرغبة في الربح عنوانان يختصران حركة الإنسان دينياً ودنيوياً"

ـ هاجس الربح والخسارة.
ـ الخسارة في النموذج.
ـ قمة الخسران.
ـ الخط العام للخسران.
ـ نقض العهد خسارة.
ـ الضلال خسارة.
ـ التحزّب للشيطان خسارة.
ـ اللهو خسارة.
ـ الطاعة للمستكبر خسارة.
ـ العبادة على حرب خسارة.
ـ أشدّ الناس خسارة.
ـ الخسارة في لكمات أهل البيت(ع).
ـ الحق مسؤوليتنا جميعاً.
ـ نحن عمّال الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

هاجس الربح والخسارة:
كلّنا في هذه الدنيا نبحث عن الخسارة والربح، فهاجس الخسارة والربح هو الذي يدفع الناس في مجالاتهم كلها إلى الحركة، فالخوف من الخسارة والرغبة في الربح هي التي تجعل الناس يتعلمون ما يربحون به ويتاجرون ويحاربون ويسالمون بحيث يمكن أ نقول أن هذين العنوانين يمثلان الاختصار لكل حركة الإنسان، إن على مستوى الدين أو على مستوى حركة الحياة.
ولكن الإنسان قد يفقد في تصوراته أو في حركاته الدقة في التمييز بين عنصر الربح وعنصر الخسارة، فقد يرى في بعض الأشياء ربحاً لأنه ينظر إليها من جانب معين ولكنها خسارة في جانب آخر.
وهذا ما نلاحظه في حركة الإنسان بين الدنيا والآخرة، فنحن نلاحظ ـ مثلاً ـ أن فريقاً من الناس قد يرى الربح في أن يحصل على فرص الدنيا بأشكالها المادية كلها، ولا يرى في الآخرة أية فرصة لمسألة الربح، بل يترك الآخرة ليوم الآخرة، كما نجد أن بعض شعوب في المنطقة لديهم كلمة يرددونها عندما تحدثهم عن اليوم الآخر، حيث يقول القائل (ليوم الله يدبّرها الله) أي أن قضية الآخرة التي أراد الله أن نعمل لها نتركها إلى الله سبحانه وتعالى، وقضية الدنيا التي تكفّل بالكثير من شؤونها بشروطها، نحاول أن نهتم فيه اهتماماً فوق العادة.
الخسارة في النموذج:
هنا نلاحظ أن القرآن الكريم يتحدث عن الخسارة في النموذج كما يتحدث عن الخسارة في الخط، وكلها تجتمع في نطاق حركة الإنسان في الدنيا والآخرة.
فلنقرأ بعض آيات الله في هذا المجال، فالله تعالى يقول: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}( ) هؤلاء الناس الذين لا يؤمنون بالله وبرسله وبرسالاته قد خسروا أنفسهم لأنهم لم يرتبطوا بالله بأية رابطة، ولذلك فإنهم لا يملكون أي شيء يمكن أن يجعل لهم فرصة لرضوان الله سبحانه وتعالى بعد أن انقطعت العلاقات بما فيها العلاقات الفكرية بينهم وبين الله، وأن الإنسان ربما ينفتح على الله بعقله فيدخل الله في عقله وإن كان يبتعد عنه بعمله إذ يمكن أن يتصل بالله من خلال القاعدة الفكرية التي يملكها في داخل شخصيته، وربما تأتيه المغفرة فيما يقتصر به من عمله.
أما الذي لا يؤمن بالله فقد خسر نفسه لأنه خسر مصيره، فهو لمن يصدق عليه قولُ الله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}( )، لأن لله سبحانه وتعالى في يوم القيام موازين قد لا تكون مادية كما يتصورها الناس، ولكنها موازين العمل والقيمة والخط والإيمان، ولذلك فإن الرابحين هم الذين امتلأت موازينهم بالإيمان وبالعمل الصالح، بينما الذين خفّت موزينهم، لأنهم لم يأخذوا بالأسباب التي تقرّبهم لله سبحانه وتعالى، فالله يقول إنهم خسروا أنفسهم.
قيمة الخسران:
وهكذا يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن قمة الخسران بالنسبة للإنسان الذي يهمل نفسه فلا يربيها على الإيمان والعمل الصالح، ويهمل أهله فلا يربيهم على الإيمان والعمل الصالح فيخسر نفسه وأهله، وذلك عندما يأتي يوم القيامة ومعه عائلته (زوجه وأولاده وأهله) فلا يجدون لهم موقعاً في ظلّ رحمة الله سبحانه وتعالى.. إن الله يعبّر عن خسارة هؤلاء التي خسروها بأنها الخسارة البيّنة الواضحة، وذلك بأن قمة الخسارة هي أن تخسر نفسك وأهلك، لأنك في الجانب الآخر لو ربحت نفسك وأهلك انطلاقاً من قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}( )، فإن الله يحدثك عن عائلتك وعنأهلك يوم القيامة بهذه الصورة {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ* سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}( )، وإذاً فالخسارة الكبرى التي يعبّر عنها القرآن هي {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}( ).
الخط العام للخسران:
ويحدّثنا الله في أكثر من آية عمّن هم الخاسرون، والخط العام للخسران هو أن يفقد الإنسان صلته بالله من خلال ابتعاده عن خط الإسلام المطلق لله، لأن الدين عند الله الإسلام، ولكل زمن إسلامه، ففي زمن نوح وإبراهيم(عليهما السلام) الإسلام هو إسلام نوح وإبراهيم وهو ما جاءا به من عند الله، والإسلام في زمن موسى(ع) يتمثّل في شريعة موسى، وكان في زمن عيسى(ع) يتمثل في شريعته، والإسلام في زمن النبي محمد(ص) تمثل في هذا الدين الذي هو خلاصة الرسالات كلها..
ولذلك فإن هذا الدين هو دين الحياة الذي يمتد بامتداد الحياة لأنه يجمع العناصر الأصيلة في الرسالات كلّها لأنه جاء مصدّقاً لما بين يديه لا نفرّق بين أحد من رسله {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}( )، فكل من ابتغى لنفسه خطاً في الحياة غير خط الدين سواء كان خط دين انتهى دوره، أو كان خطاً لا يتصل بالقاعدة الدينية من قريب أو بعيد، فلن يقبل منه، ذلك بأن هناك خياراً واحداً للإنسان وهو خيار أن تسلم كلّك لربّك، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}( )، وكما عبّر عن ذلك الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): "اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك وأقبلت بكلّي عليك" أن يكون كلّك لله، عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك وحركتك وعلاقبتك، وأن لا يكون لغير الله، وأن يكون الله هو النور الذي يشرق في ذاتك وكيانك.
نقض العهد خسارة:
وهكذا نقرأ في خط حركة الإنسان في الحياة {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}( ) في الحياة بأنانياتهم، ويختصرون العالم في ذواتهم، فلا ينظرون إلى أي شيء خارج ذاتهم، ولذلك يعطون عهد الله وميثاقه من أجل أن يتوصلوا من خلاله إلى مآربهم ثم ينقضون عهد الله وميثاقه ولا يكون للناس الذين أعطوهم العهد أية معطيات، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} فإن الهل سبحانه وتعالى قد أراد للإنسان أن يتواصل مع الإنسان الآخر بأن يصل رحمه، واراد له أن يصل أخاه في الإيمان، وأن يصل عياله الذين يتحمل مسؤوليتهم.
وهناك عناوين للتواصل الإنساني في كير من الحالات، كما ورد في كلام علي(ع) في عهده لمالك الأشتر "فإنهم صنفان إما أخٌ لك في الدين وإما نظيرٌ لك في الخلق"( )، فحتى العنصر الإنساني يمكن أن يكون خطاً للتواصل، أما هؤلاء فهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، يقطعون الصلة بأرحامهم ويقطعون الصلة بالمؤمنين وبكل الذين أراد الله سبحانه وتعالى للناس أن يصلوهم من الفقراء والمساكين واليتامى والفئات المحرومة في الحياة {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}( )..
وقد بينّا ذلك {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}( )، المكر هو التدبير بخفاء، وقد يطلق في أغلب الكلمات في الجانب السلبي، ولكنه ربما ينطلق في الجانب الإيجابي، ولذلك نسب المكر إلى الله لأنه المكر الذي يمثل التدبير بخفاء، فالتربية الإسلامية تقول للإنسان أن عليك أن لا تأمن التدبر الخفي لله، لأن الله ربما يملي لك وربما يختبرك وربما يمتحنك {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}( )، فهو يتصور النعمة والتوسعة في الرزق إكراماً له، ويتصور التقتير في الرزق إهانة له، والله يقول (كلا) فهذا ابتلاء وامتحان وذاك ابتلاء وامتحان، ليختبر الإنسان الغني هل يشكر أم يكفر، وهل يسخّر نعمة الله فيما أحب الله، كما أنه يختبر صبر الفقير هل يصبر أو يسقط تحت تأثير هذا الفقر فيبتعد عن خط إيمانه.
الضلال خسارة:
وهكذا نجد {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}( )، إن الله لا يضلك بشكل مباشر، فإنه هداك النجدين {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}( ) نجد الخير ونجد الشر {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}( )، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}( )، ولكن الله إذا رآك وأنت تترك ما هيّأه لك من أسباب الهدى فإنه يتركك لنفسك، ومن تركه الله لنفسه فإنه يضل، لأن الإنسان إنما يهتدي من خلال ألطاف الله في الهداية مع اختيار الإنسان فيما ينطلق فيه من اختيار.
وهكذا قوله عز وجل: {كالذينَ مِنْ قبْلِكُمْ كانُوا أشدَّ منكُمْ قوةً وأكْثَرَ أمْوالاً}، يعني أن لا تعتبروا أنكم في موقع القوة لأنكم تملكون المال الكثير أو تملكون الأولاد الكثيرين، لأن من بقكم كانوا ـ بلحاظ بعض الاعتبارات ـ أكثر قوةً وأولاداً {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} بنصيبهم {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} خضتم في الفساد وفي الفتن وفيما يغضب الله {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} فلم يحصلوا منها على شيء {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}( ).
التحرُّب للشيطان خسارة:
وتتحدث الآيات الكريمة أيضاً عن الذين ساروا مع الشيطان فاستحوذ عليهم لأنهم استسلموا وانقادوا له، ولأنهم لمي عتبروه عدواً، ولأنهم لمي واجهوا خطواته بخطوات الرحمن ولم ينفتحوا على وسوساته وحبائله وخدعه وأمانيه {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}( ) وقد حدّثنا الله عن حزب الشيطان عندما قال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}( ).
اللهو خسارة:
وهكذا يقول الله وهو يوجّهنا أن لا نستغرق بأموالنا لتكون أموالنا فكرنا كله واهتماماتنا كلها، وأن لا نستغرق بأولادنا ليكون أولادنا اهتمامنا كله، بل وليكن ما نستغرق فيه هو أن يهتم الإنسان بماله ليصلح ماله وينتجه، فلقد وكّله الله أن يهتم بولده ليصلح شأنه، فالمهم أنك وأنت تشتغل في مالك اذكر ربك ليساعدك هذا الذكر على أن تتحرك في الخط المستقيم، وعندما تستغرق في أولادك أذكر ربك لتذكر مسؤوليتك عن أولادك اتجاه ربك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}( ).
الطاعة للمستكبر خسارة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا} وراقبوا هذه الآية لأنها تتحرك في مواقع المسلمين المؤمنين بحجم العالم عندما يقف المسلمون أمام الحضارة الغربية المنطلقة من قاعدة مادية، وعندما يستغرق المسلمون في أجواء الاستكبار العالمي والكفر العالمي ليطيعوا الكفر والاستكبار في قضاياهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية وبذلك ليبتعدوا عن الخط المستقيم، يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}( )، لأنهم مهما تقرّبوا لكم ومهما خدعوكم فإن القضية عندهم هي أن يكون برنامجهم برنامجكم وأن يكون فكرهم فكركم، وأن تكون تقاليدهم وعاداتهم تقاليدكم، وهذا هو ما نلاحظه في الواقع الإسلامي كله {ولن ترضَى عنكَ اليهودُ} فقد يتقرّب المسلم للكافرين ويتقرّب للمستكبرين لعله يحصل على شيء من امتيازاتهم أو لعلهم يرضون عنه عندما يبرز أمامهم كشخص متحرر يريد أن يتمرّد على الماضي وعلى دينه، فنحن نريد أن نتقدم ولكن من قاعدة التقدم التي رسمها الله ورسوله، ونريد التنمية ولكن التنمية عندنا تقوم على أساس الخط الذي أراده الله ورسوله، وذلك بأن ننمّي قدراتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}( ) لأنهم قد يقنعون بعض الناس عندنا بأن هذا تقدمي متحضّر وهذا منفتح، ولكن هذه الكلمات قد تكون "كلمة حق يُراد بها باطل" وقد تكون كلمة باطل يراد لها أن تكون بصورة الحق.
العبادة على حرف خسارة:
وننطلق في خط القرآن الكريم لنجد أيضاً بعض النماذج الخاسرة كما في قوله تعالى: {ومِنَ الناسِ مَنْ يعبُدُ الله على حرْفٍ}، وفي معنى كلمة الحرف هناك تفسيران: تفسير يصوّره الإنسان الواقف على حافة الجبل بحيث ليس بينه وبين الهاوية أي حاجز بمجرد أن يأتيه أي هواء شديد فإنه سوف ينقلب، وتفسير يرى أن يُعبَد الله عل حرف يعني على ثقافة ناقصة، أي ليس له من الثقافة والمعرفة بالله إلامثل الإنسان الذي لا يعرف من اللغة إلا حرفاً واحداً، وذلك كناية عن نقصان الثقافة، يقول تعالى: {ومِنَ الناسِ مَنْ يعبُدُ الله على حرءفٍ}، يعني كناية عن أن عبادته لم تكن منطلقة من عمق وعيه ومعرفته وتفكيره..
ولذلك، فإن أية هزة يمكن أن تسقطه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}، بحيث يترك كل الإيمان وكل العبادة {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}( )، خسر الدنيا لأن كل ما يأمر الله به وما ينهى عنه هو في صلاح الدنيا، وكذلك خسر الآخرة لأن الصلاح هو ف يالآخرة.
وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت(ع) أنهم يقولون في تصوير هذا الجانب كما في الحديث عن الإمام زين العابدين(ع): "إن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة"( ). فهو يترك الحلال كله طلباً للرياسة بحيث أن المال قد لا يشكل اختباراً لبعض الناس وفيما يمكن أن يشكل الجاه اختباراً لهم.
ولقد سُئِل أمير المؤمنين(ع): "من العظيم الشقاء ـ أي مَن هو العظيم في شقائه، قال: ـ رجل ترك الدنيا للدنيا ففاتته الدنيا"( )، أنه ترك اللذة كما يترك البعض الدنيا للدنيا فلا يأكل جيداً بل يجب أن يجمع الأموال ولكن من دون أن يستفيد منها شيئاً {ومَنْ يَبْخَلْ فإنَّما عن نفْسِه}( )، فإن بعض الناس يعتبر غنياً ولكنه يعيش عيشة الفقر، أو هناك شخص يترك الدنيا ليحصل على لذة الحياة مثلاً "ترك الدنيا للدنيا، ففاتته الدنيا وخسر الآخرة"، لأنه لم يأخذ الدنيا من منطلق كونها مزرعة للآخرة كما قال قوم قارون لقارون {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}( )، فالله يريدنا أن نعيش الدنيا ولكن أن نجعل الآخرة هدف نشاطاتنا في الدنيا.
عن علي(ع): "معاشر الناس اتقوا الله، فكم من مؤمّل ما لا يبلغه، وبانٍ ما لا يسكنه، وجامعٍ مالٍ سوف يتركه، ولعله من باطلٍ جمعه ومن حقٍ منعه، أصابه حراماً واحتمل به آثاماً، فباء بوزره وقدم على ربه آسفاً لاهفاً قد خسر الدنيا ذلك هو الخسران المبين"( ).
أشدّ الناس خسارة:
وهناك عنوان آخر يطرحه القرآن وهو (الأخسرون) الذين هم أشد الناس خسارة لأنهم يتحركون على أساس أن يفقدوا في أنفسهم ما يتصورونه في أنفسهم بأن يقطعوا المسافة وهم يرون أنها توصلهم إلى الهدف، وعندما يقطعون آلاف الكيلومترات تراهم يصلون إلى ضد الهدف أو عكسه، فأية خسارة هي هذه؟! {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، الذين ساروا في الاتجاه المضاد، الاتجاه الضال، فضاعوا في الصحراء ولم يسيروا في الطريق المستقيم وهم في زعمهم أنهم يحسنون صنعاً، وذلك أنهم يسيرون في الطريق المستقيم، فأية حسرة أكثر من أن تتصور نفسك وبيدها مفتاح الجنة، لكن لا تلبث أن تكتشف أن أسنان المفتاح لا تنطبق على مفتاح الجنة، بل على مفتاح النار، بحيث يشعر الإنسان أن أحلامه التي بناها في نفسه وفي عمره قد سقطت ولم يحصل عليها، فأية حسرة أعظم من هذه الحسرة {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}( ).
الخسارة في كلمات أهل البيت(ع):
وهنا نأتي إلى كلمات أئمة أهل البيت(ع) الذين هم الثقل الآخر للكتاب، وهم الذين يفسّرون لنا الكتاب، فالإمام(ع) يقول في هذه المسألة مؤشراً على بعض النماذج "أخسر الناس من قدر على أن يقول الحق ولم يقل"، أي عندما يخفى الحق في المجتمع، أي حق، سواء حق العقيدة أو حق الشريعة أةو حق السياسة أن حق الاجتماع أو أي نوع من أنواع الحق الذي أرسله الله، كنت قادراً على أن تقول كلمة الحق وكانت الظروف ملائمة لقولها وليست هناك أية ضغوط فوق العادة تبرر لك السكوت وسكتّ، لأنك لا تريد أن تتعب رأسك، ولأنك لا تريد أن ينزعج الناس منك وما إلى ذلك، فسوف تكون أخسر الناس، وذلك لسبب بسيط وهو أن قول الحق هو الذي يرفعك عند الله وكانت فرصتك أن تقول الحق ولم تقلها ففرصة العمر التي تجعلك قريباً إلى ربك.
وقد كانت عظمة الإمام علي(ع) أنه كان في حياته كلها مع الحق كله "علي مع الحقّ والحق مع علي يدور معه حيثما دار"( )، وقد قال(ع): "ما ترك لي الحق من صديق"( ) وقال: "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى الله ونهيه فيدعها رأي العين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين" تلك هي المسألة.
الحقّ مسؤوليتنا جميعاً:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ فإن مسؤوليتنا في الحياة كأمة وكأفراد وكمجتمع، هي أن نتعلم الحق، وأن نقول كلمة الحق، وقد تكون لك أعذارك التي تفرض عليك التقية، ولكن الإنسان الذي يؤمن بالحق يشعر أن الحق مسؤوليته، فإذا كانت هناك فرصة للحق فعليه أن يقولها في أي جانب من الجوانب كانت، لأن الذين يسقطون هم الحياديون بين الحق والباطل، فلقد ورد في الحديث عن النبي(ص) في حديث الإمام الكاظم(ع): "أبلغ خيراً وقل خيراً، ولا تكن إمّعة، قلت: وما الإمّعة؟ قال: لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إنما هما نجدان ـ طريقان ـ نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"( )، ففي موقع الحق عليك أن تقول كلمة الحق {وقُل الحقُّ من ربِّكُمْ فمَن شاءَ فليؤْمِنْ ومَن شاءَ فلْيَكْفُر}( ).
وأحب أن أقول لنفسي ولكم، إن علياً كان في ضربته لعمرو بن ودّ ولمرحب عظيماً، كما كان جهاده كله عظيماً، ولكن فكر علي هو الأعظم، فما يبقى لنا من علي(ع) هو هذا الفكر، فلقد انطوت السنون وبقي جديداً لأنه فكر الحياة إذ لم يفكر علي بحجم مرحلته، ولكنه كان يفكر بحجم رسالته، ورسالة علي هي رسالة الإسلام وهي رسالة الحياة "إن أخسر الناس صفقة وأخيبهم سعياً ر أخلق بدينه"( ) أبلاه في طلب آماله ولم تسعده المقادير على إرادته ـ آماله غير الشرعية ـ فرج من الدنيا بحسرته، وقدم على الآخرة بتبعته( )، وهكذا فإن أخسر الناس هو الذي باع آخرته بدنياه وليس له في الآخرة نصيب، يقول الإمام علي(ع): "أخسركم أظلمكم" لأن الله لا يجعل للظالمين أية فرصة لرحمته بل يجعلهم في دار عذابه.
ومن كتاب لأمير المؤمنين(ع) إلى (مصقلة)املة: "بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وعصيت إمامك، إنك تقسّم في المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم فيمن أعتامك من الأعراب، لا تصلح دنياك بمحق دينك فتكونن من الأخسرين أعمالاً"( )، وذلك عندما توجّه مال المسلمين في غير مصلحة المسلمين، وعندما توجه مال الله فتعطيه لمن لا يتقي الله طلباً للجاه وطلباً للسمعة وما إلى ذلك.
نحن عمّال الله:
أيها الأحبة، نحن في هذ الدنيا عمّال الله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}( )، وكل إنسان يأخذ حجم عمله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}( )، نحن سائرون إلى الله ونحن في رقابة الله ورسوله والمؤمنين{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}( )، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}( ) ويفحص كل واحد كتابه قبل أن يُقال له {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}( )، وبعد ذلك عندما تعرفون حجم رصيدكم في الآخرة اتقوا الله فيما تستقبلون من عمركم {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} نسوه في لسانهم ونسوه في عقولهم ونسوه في قلوبهم ونسوه في علاقاتهم وفي معاملاتهم وفي كل أوضاعهم فأنساهم أنفسهم، لأنك إذا ذكرت ربك وذكرت موقعك من ربك ذكرت مسؤوليتك أمام ربك وذكرت وقوفك أمام ربك، وأما إذا نسيت ربك نسيت نفسك في مسؤوليتها كلها {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ماذا تريدون؟ هل تريدون الجنة؟ تذكّروا أن للجنة شروطها، وهل تريدون الابتعاد عن النار؟ تذكّروا أن للنار حذرها {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}، {وفي ذلِكَ فلْيَتَنافَسِ المتنافِسون}. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الحادية عشرة: 15 ربيع الثاني 1419هـ الموافق 8 – 8  – 1998م


المرجعية في الصراع الفكري

"ليكُن شعارنا عندما نختلف: {قُل هاتوا برهانكُم إن كنتُم صادقين} لندخل عصر المعرف المنفتحة على الحجّة والبرهان"

ـ حديث المسؤولية.
ـ الحجّة.
ـ الإيمان باليوم الآخر.
ـ من لا يمتلكون المعرفة.
ـ إضاءات قرآنية.
ـ ما يحتجّ الله به علينا.
ـ السبيل إلى فضّ النزاع.
ـ حوار الطرشان.
ـ شعار (هاتوا برهانكم).

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

حديث المسؤولية:
في القرآن الكريم حديث متنوّع عن أساس المسؤولية التي يحمّلها الله إلى خلقه، وعن مسؤولية الإنسان أمام ربه، وعن الحجّة التي يقيمها الله على العباد ليكونوا مسؤولين أمامه، وعن الحجة التي بيد العباد أمام ربهم في حجم المسؤولية وفي حركة الناس مع بعضهم البعض عندما يختلفون في أفكارهم ومواقفهم، فيثبت شخص شيئاً وينفي شخص شيئاً آخر.
فما هو الأساس الذي ينبغي أن يحكم به الناس في عملية الصراع الفكري؟ إن القرآن الكريم يلخِّص لنا ذلك كله، وخلاصة الفكرة قبل أن ندخل إلى تفاصيلها في آيات الله سبحانه وتعالى هي أن هناك عنوانين في القرآن الكريم يلتقيان في المعنى وإن كانا يختلفان في إيحائه، وهما البرهان والحجّة، فالبرهان هو الدليل الذي يقيمه الإنسان كأساس لفكرته في مواجهة الآخر أو كأساس لنقض ما يدّعيه الآخر، فلا بد لك عندما تثبت دعوى في أي جانب من جوانب الفكر أن تملك الدليل، ودليلك هو حجتك على السلب هنا والإيجاب هناك.
الحـــجـّــــــة:
أما كلمة الحجّة فهي التي تعطي بحسب مدلولها ما يُحتجُّ به على الشيء وعلى الآخر، ومن الطبيعي أن يكون الدليل أو الحجة التي يمكن أن تفتح للإنسان نوافذ الفكرة من أقرب وأقصى موقع ناجمة عن علاقتنا مع الله سبحانه وتعالى.
إن الله سبحانه يتحدث في القرآن الكريم عن أنه يملك الحجّة البالغة على خلقه {فلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ}( ) فهو الذي يملك الحجّة على خلقه وليس لخلقه أية حجّة فيما يفعلون أو يتركون وفيما يكفرون أو يضلون، وليس لخلقه أية حجّة على ربهم بحيث إذا وقف الناس أمام الله غداً فلا يملك أحد أن يحتج على الله بشيء، بل الله هو الذي يحتج عليهم، لأنه هو الذي يملك الأساس في كل ما أراد لهم أن يعتقدوه أو يمارسوه.
وقد استوحى الإمام علي(ع) ذلك في (دعاء كميل) فيما رواه كميل عن: "فلك الحجّة عليَّ في جميع ذلك ولا حجّة لي فيما جرى عليَّ فيه قضاؤك وألزمني فيه حكمُك وبلاؤك" فالإنسان سوف يقف غداً بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيجد أن الحجة من الله عليه بالغة محكمة.
وهنا لا بد أن نفهم كيف تكون الحجة لله بالغة، ففي حديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) يقول:"إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال: أفلا عملت بما علمت، وإن قال كنتُ جاهلاً قال له أفلا تعلّمت حتى تعمل، فيُخصم"( ). وتلك هي الحجة البالغة، وذلك أن الإنسان قد يواجه الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهو كافر أو وهو عاصٍ فإذا واجهه وهو كافر بوجوده، كافر بتوحيده، فإن الله يكون قد أقام عليه الحجة من خلال فطرته التي توحي إليه بالإيمان بالله وبعقله الذي يثبت له الدليل على توحيده.
ولذلك فإن الله يملك الحجة على الإنسان في حالي الإيمان والكفر، لأن الكفر لا يملك أي دليل لأنه نفي، فأن تكفر بالله يعني أن تنفي وجوده وأن تكفر بالله يعني أن تنفي توحيده، وهل يملك إنسان أن ينفي وجود الله وهو يعيش في دائرة محدودة؟! فهل يا ترى اطّلع الإنسان على الكون كله في غيبه وفي محسوساته لينكر وجود الله، بل إن الإنسان لا يملك أساس الشك، لأن الشك إنما يكون مقبولاً إذا لم يكن لك دليل على الإثبات، وما دام الدليل على الله سبحانه وتعالى فيما خلق وفيمن خلق، بحيث أن الإنسان إذا نظر إلى نفسه وإلى تركيبة جسمه وعقله وعرف عظمة هذا الخلق فإنه يرى أن الله سبحانه وتعالى يشرق في وجوده ليشعر الإنسان بأن الله معه في كل نفس يتنفّسه وفي كل عضو من أعضائه، وجهاز من أجهزته، فالإنسان في مسألة الإيمان والكفر لا يملك الحجة على الكفر بل الحجة هي للإيمان ولكل ما ينفتح فيه الإنسان في معقولاته وفي محسوساته.
الإيمان باليوم الآخر:
وهكذا عندما ينفتح الإنسان على الإيمان باليوم الآخر، فإن العقل يقول له إن الذي أوجد الكون قادر على إعادته، وأن الذي خلق الإنسان قادر على إعادته لأن القدرة هنا في منطق العقل تفرض القدرة هناك، لأن عملية الإعادة أسهل من عملية الإبداع، أما الإسلام فإن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيّه ومن قبله أنبيائه ورسله الآخرين بالحجج البالغة التي تثبت رسالتهم وصدقهم من خلال ما يطرحونه فيما يتعقل ومن خلال ما يقدمونه من معاجز تدل دلالة قطعية واضحة على أن لهم علاقة بالله سبحانه وتعالى.
ولذلك فلا مجال للإنسان أن يجيب وهو ينكر بعض العقائد ما دامت وسائل المعرفة مطروحة بين يديه، لأن الله أعطى الإنسان وسائل المعرفة للمحسوسات {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}( ) فلقد جعل الله للإنسان عقلاً يفكّر به ويجمع بين المحسوسات ليحوّلها إلى معقولة.
من لا يمتلكون المعرفة:
وعلى ضوء هذا أيضاً يمكن للإنسان أن يجد له حجة في بعض ما لا يؤمن من خلال عدم توفر وسائل المعرفة لديه، أي أن الإنسان الذي يعيش في الغابات كما في مجاهل البرازيل واستراليا وكندا، وفي المناطق التي لم تصلها الدعوة ولم تتوفر لها وسائل المعرفة، بحيث لا يعرف الناس من أمر اختلاف الناس في الأديان شيئاً، ولا يعرفون من شؤون الأديان شيئاً، فلا يملكون أية وسيلة للتعرف على القاعدة، كما لا يملكون أية وسيلة للتعرّف على تفاصيل الإيمان.. هنا في هذه الحالة إن الله يحتج عليهم بما آتاهم وعرّفهم، فهؤلاء الناس يملكون فطرة ويملكون عقلاً ولا يملك هذا العقل الكثير من التموين الفكري، فلذلك يحتج عليهم من خلال ما أعطاهم من مقدار العقل ومن خلال ما أعطاهم من طبيعة الفطرة.
وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}( ) والمراد من الرسول هنا كناية عن بعث الحجة أي من تقديم الحجة على الناس التي يمكن لله أن يخاطبهم بها وهم لم يؤمنوا بالإسلام ولم يؤمنوا بدين ثم يقفوا بين يدي الله غداً فيقول لهم لِمَ لمْ تؤمنوا بالنبي وبالقرآن وباليوم الآخر وما إلى ذلك، فإنهم سوف يجيبون الله بأنه لم يصلنا شيء من ذلك ولم تستطع عقولنا، من خلال طبيعة تفاصيل المعرفة، أن تدرك ذلك، ومن الطبيعي أنهم يجدون العذر عند الله في ذلك، لأن الحجة قامت عندهم بقدر ما كان من فطرة ومن حجم ما يملكون من عقل وربما تكون الفطرة ساذجة وربما تكون محدودة.
إضاءات قرآنية:
لنقرأ ما يتصل بهذه الفكرة، يقول تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}( )، ويقول سبحانه {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}( )، فالمراد بالغلبة ليس المادية، بل المراد ـ والله العالم ـ الحجة.. وقد ورد عن الإمام علي(ع) في استيحاء هذه الآية "قوة سلطان الحجة أعظم من قوة سلطان القدرة"، وقد ورد أيضاً في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}( )، أي أن الله أراد أن يضمّ إلى عقل الإنسان الرسل الذين أرسلهم برسالته ليساعدوهم على استقامة خط العقل من جهة وعلى تعريفهم بما لا يملكون الوصول إليه من تفاصيل العقيدة ومن مواقع الغيب من جهة أخرى، فلا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل.
وفي كلمة للإمام علي(ع) يستوحى فيها ذلك "يا أيها الناس إنه لم يكن لله سبحنه حجة في الأرض أوكدُ من نبيّنا محمد(ص) ولا حكمة أبلغ من كتابه"، فكتاب الله هو الحجة فيما يقدمه من حِكَم تدخل إلى عقل الإنسان وتتعمق فيه والرسول أيضاً يمثل الحجة في ذلك، وفي غياب الرسول وغياب الإمام ورد عندنا في الحديث المروي عن الحجة(عج): "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"( )، فإذا غاب الحجة فأحاديث الحجة هي الحجة لأنهم بيّنوا لنا كل ما نحتاج إليه مما يحل لنا المشكلات بشكل مباشر ومما يفتح لنا نوافذ التفكير بشكل غير مباشر، ومن الطبيعي أن يكون من رواة الحديث الموثوقين آلية الحجة فيما يروونه وفيما يشرحونه في هذا أو ذاك.
ما يحتجّ الله به:
وهنا ننتقل إلى مسألة احتجاج الله على الناس بما آتاهم وعرّفهم، فهذا حديث عن الإمام الصادق(ع) يقول فيه: "إن الله احتجّ على الناس بما آتاهم وعرّفهم"( )، وهكذا نجد أن الله يريد للناس فيما قامت الحجة عليهم به أن يعتقدوا ذلك، وأما ما لم يعلموا ذلك فعليهم أن يقفوا عنده، فعن (زرارة) قال سألت أبا جعفر محمد الباقر(ع) ما حجة الله على العباد؟ قال(ع): "أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون"( ).
وهكذا يعبّر الله سبحانه وتعالى عما أنزله على الناس من خلال أنبيائه أيضاً بالبرهان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}( ) باعتبار أن ما قدمه الله للناس من خلال رسله يمثل الدليل والحجة القاطعة على ما أراد الله لناس أن يؤمنوا أو أن يعملوا به في المجالات كلها.
وهكذا يقول الله {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} وهنا تأتي مسألة أن الإنسان عندما ينكرشيئاً أو يثبت شيئاً فلا بد له من أن يقدم البرهان والدليل {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}( )، {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}( )، {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}( ).
إننا نستوحي ـ أيها الأحبة ـ من هذا الشعار القرآني الذي يطلقه الله سبحانه وتعالى في موقع التحدي للذين يشركون به أو الذين ينحرفون عن خطه أن الله يقول لهم إنكم تدّعون دعوى ولا بد لكل من يدّعي إذا اراد للناس أن يؤمنوا بما ادعاه أو إذا أراد لنفسه العذر أمام المسؤول الأكبر فيما ادعاه أن يقدّم البرهان عليه، لأنه ليس من الطبيعي أن تقدم دعوى في العقيدة أو في الشريعة أو في حركة الواقع ليؤمن الناس بها من دون أن تقدّم لهم الدليل على ذلك أو ليعمل الناس بها من دون أن تقدّم الحجة على ذلك.
السبيل إلى فضّ النزاع:
وإذاً فهذا هو شعار حركة الصراع الفكر في حركة الإنسان في الواقع، ويمكن لنا أن نتحرك به لترتكز قضايانا العقيدية أو الشرعية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية على قاعدة ثابتة، لأننا لو تركنا أنفسنا في هذه الفوضى من الأفكار والدعاوى والشعارات والاتهامات، ولو تركناها في كلمة تطلق هنا دون دليل وكلمة تطلق من هناك دون برهان فإن الحياة الفكرية تتحول إلى فوضى ليس لها أية قاعدة ثابتة تركزها في وجدان الإنسان وفي حركة الواقع، أما إذا انطلقنا في صراعاتنا الفكرية، سواء كانت حول العقائدة المتضادة أو كانت حول الاتجاهات المتضادة، أو كانت حول المواقف السياسية المتباينة التي يدّعي فريق أن الحق هنا وفريق آخر أن الحق هناك..
لو أننا جلسنا على طاولة مستديرة أو مستطيلة يجلس العلم فوقها ليقول لكلٍ منا ونحن نتلف ما هو دليلك وما هو برهانك وما هي حجتك، فيقدم كل منا البرهان والدليل للآخر ويناقشه الآخر على أساس ما يقدمه من برهان مضاد ودليل مضاد، لو أننا حكّمنا هذه العقلانية العلمية في حركة الصراع والاختلاف الفكري لما وصلنا إلى هذه التعقيدات الثقافية والاجتماعية، ولما وصلنا إلى العصبية، لأن أساس العصبية ـ أيها الأحبة ـ سواء كانت دينية أن مذهبية أو سياسية أو اجتماعية، هو الجهل، سواء الجهل بعقيدتك أو فكرك والتزامك، فتحاول أن تفرضها كيفما كان وبأية طريقة، وبنحو يسيء إليها.
فالجهل هو الذي يدعوك للتعصب ويفرضه عليك لأنك لا تملك الدليل على ما تؤمن به، ولذلك فإنك تتعصب ضد الآخر لتفرض عصبيتك عليه لتضغط عليه من خلال العصبية، أما إذا كان لك فكر وأنت تعرف أن فكرك لم يخلق معك وأن انتماءك ليس عينك ولا أذنك، بل هو شيء ورثته أو اكتسبته، وأنك إذا ورثت شيئاً لا يكون الإرث وحده هو الأساس فيما تلتزم من طريقه {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}( )، بل أن تحاول البحث عن أساس الدليل والبرهن في الفكر الذي ورثته، هل هو حق أو هو باطل فيكون الدليل والحجة والبرهان هو الحكم وهو المعيار.
وهكذا الحال إذا اكتسبت فكراً واعتقدته، لأنك فكّرت وتعلّمت وحاورت، فعليك أن تعتبر ما وصلت إليه من فكرك نهاية المطاف، بل عليك أن تعيد النظر دائماً فلعلّك تكتشف ثغرة فيه هنا وثغرة هناك.
حوار الطرشان:
أيها الأحبة، قد تكون مشكلتنا في هذا الواقع الاجتماعي والإسلامي، أو في واقع العالم الثالث، هي أننا نتحاور حوار الطرشان، فكل شخص يريد أن يؤكد ما يلتزمه فيتعصب له وهو ليس مستعداً أن يسمع وجهة النظر الأخرى تماماً كما هو الأطرش يتكلم ولا يسمع الآخر، والأطرشالثاني يتكلم فلا يسمعه الآخر..
إن مشكلتنا هي أننا نملك آذاناً لا نسمع بها، ولذلك ف لانعطي آذاننا وعي السمع {فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ}( ) وهناك فرق بين (يسمعون) و(يستمعون)، ففي (يسمعون) تمرّ الكلمة وهي طائرة بحيث تدخل الأذن وتخرج منها بلا تركيز، أما في {يستمعون} فيعني أن يملك الإنسان إرادة السماع وأن يملك وعي السماع {يَسْتَمِعُونَ القوْلَ} فيفكرون فيه فيقتنعون بأحسنه ويميزون بين الحسن والأحسن فيتبعونه.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ علينا أن نتعلم عندما يناقش الأب أولاده أن يستمع إليهم بما يملكون من حجة، وأن يستمعوا إليه بما يقدم إليهم من برهان، وأن نتعلم أن تكون علاقة الزوج برزوجته والزوجة بزوجها أن تقدم وجهة نظرها من خلال ما تملك من دليل ليقدم وجهة نظره من خلال ما يملك من دليل، وعندها لا يكون هناك شخصان يتصارعان، بل دليلان يتصارعان، وأما الذات فتذهب ليبقى الدليل هو الحكم.
وهكذا عندما نتناقاش فيما نختلف فيه من العقائد والشرائع والسياسة والاجتماع، فهل أن مشكلتنا ـ أيها الأحبة ـ هي أننا أعطينا عقولنا إجازة وأعطينا الدوام الرسمي اليومي في البيت وفي العمل وفي الشارع لغرائزنا فأصبحت غرائزنا هي التي تقف في ساحة الصراع الفكري، بحيث أن كل غريزة تحاول أن تقتل الغريزة الأخرى في غياب للعقل؟ فما هو رأيكم في أن ندخل في مرحلة من عمرنا بأن نجرّب العقل وقد جرّبنا حركة الغرائز فحولتنا إلى فِرَق متناثرة وإلى عصبيات حتى أصبح ديننا عصبية لا تقوى، وحتى أصبح كل واحد منا يدّعي أنه وحده يملك الحقيقة وعلى الناس أن تخضع له، ولو درس نفسه فيما يملك من حجة لرأى أنه لا يملك الكثير من الحقيقة، وأن الحقيقة قد تكون ضائعة بين الناس، وعلى الناس أن يتعاونوا في البحث عنها حتى وهم يختلفون.
شعار {هاتوا برهانكم}:
أيها الأحبة، ليكن شعارنا في مجتمعاتنا عندما يختلف بعضنا مع البعض الآخر {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}( ) وبذلك ندخل عصر المعرفة المنفتحة على الحجة والدليل والبرهان، ونبتعد عن مرحلة العصبي الشخصانية والعائلية والحزبية والطائفية والمذهبية، فإن هذه الشخصيات قد قتلت مجتمعنا لأنها حوّلته إلى مجتمع يتحرك بغرائزه ولا يتحرك بعقوله. والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الثانية عشرة: 22 ربيع الثاني 1419هـ الموافق 15 – 8  – 1998م


المــكر ... والماكارون

"إذا كانت لدينا عبقرية الحيلة وذهنية المكر فلنوجّهها لإسقاط الكفر والاستكبار"


ـ الأخلاق الاجتماعية.
ـ تعريف المكر.
ـ المكر في الحرب.
ـ المكر الاستكباري.
ـ المكر في الكتاب والسنّة.
ـ الإسلام أخلاقٌ كله.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

الأخلاق الاجتماعية:
في التخطيط الإسلامي للأخلاق الاجتماعية في علاقة الإنسان بالإنسان الآخر، وفي الوسائل التي يتوسل بها الإنسان إلى بلوغ أهدافه، هناك عنوان كبير من العناوين التي تحدّث الله عنها في القرآن الكريم، وهذا العنوان ينفتح على خطين: خط يتصل بالأهداف الخيّرة للإنسان وآخر يتصل بالأهداف الشريرة له.. وقد يستخدم هذا العنوان الذي هو (المكر) في تصرّف الله مع خلقه، وكلمة المرك تكرّرت في أكثر من آية في القرآن في حركة الناس وفيما يتصرّف الله به في خلقه، ولا بد لنا قبل الدخول في الحديث عن الآيات الكريمة في هذا المجال أن نتعرّف على معنى المكر.
تعريف المكر:
يقول (الراغب الأصفهاني) في (مفردات غريب القرآن)، "المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة" أي هو أن تتحرك في حياة إنسان يريد أن يحصل على شيء فتصرفه عن ذلك بطريقة خفية، "وذلك ضربان: مكر محمود، وذلك أن يتحرّى بذلك فعلَ جميل" يعني أن تخطط وأن تدبّر في الخفاء بطريقة الحيلة لتحقق أمراً جيداً طيباً، وفي ذلك قال الله تعالى: {والله خيْرُ الماكِرِرينَ}( )، ومذموم وهو أن يتحرّى به فعل قبيح، قال: {ولا يَحيق المَكْرُ السيِّئ إلا بِأهْلِهِ}( )، {وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذينَ كفَرُوا}( )، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}( )، وقال في الأمريك {ومَكَرُوا مَكْراً ومَكَرْنَا مَكْراً}( ) وقال بعضهم من مكر الله إهمال العبد وتمكينه من أغراض الدنيا، ولذلك قال أمير المؤمنين(ع): "من وسّع عليه دنياه ولم يعلم أنّه مكر به فهو مخدوع عن عقله"( ).
إذاً نستطيع أن نأخذ من هذا النص اللغوي أن المكر يمثل التخطيط الخفي الذي يتحرك به الإنسان لبلوغ غاياته التي قد تكون غايات خيّرة وقد تكون غايات شريرة، فنحن عندما نخطط من أجل هداية إنسان يتحرك في خط الضلال بتهيئة الوسائل التي يمكن أن تفتح عقله على الهدى من دون أن يشعر بذلك، أو أننا نخطط في ساحة الصراع من أجل أن نبلغ الأهداف الكبرى التي تحقق لنا الانتصار على الذين يواجهوننا بالتحديات، سواء كانت تلك التحديات فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو أمنية، فذلك هو من التدبير أو التخطيط الخفيّ.
المكر في الحرب:
وعندما يتحرك الإنسان في ساحة الحرب ويمكن بأن يخطط للانتصار على العدو في المعركة ببعض الحيل العسكرية وببعض الوسائل الأمنية التي يمكن له أن يحتوي بها العدو، فهذا مكر محمود لأن الله سبحانه وتعالى قد أراد لنا أن نبلغ أهدافنا بالوسائل التي نملكها، سواء كانت تلك الوسائل ظاهرة بارزة أو كانت وسائل خفية، بحيث لا يشعر بها الطرف الآخر.. والوسائل التي يتوسل بها الإنسان إلى أهدافه، قد تكون في بعض الحالات وسائل محرّمة في ذاتها، ولكن الحرام ينقلب إلى حلال أو إلى واجب عندما تشتمل الغاية على مصلحة أهم من هذه المفسدة..
فمن الأمور التي يقرّرها الفقهاء هي أن الإنسان إذا أراد أن يصلح بين شخصين أو عائلتين أو جماعتين، ويتوقف الإصلاح على أن تكذب بأن تأتي إلى هذا الفريق وتقول له إن فلاناً قد ذكرك بخير، وتأتي إلى الآخر فتحدّثه بمثل ذلك بما يقرّب موقفيهما ويليّن قلبيهما، فهذا في الواقع كذب، لأنك تحدثت عنهما بما لم يقولاه، ولكنه كذب تُثاب عليه..
حتى أن الحديث عن أئمة أهل البيت(ع): "الكلام ثلاثة، صدق وكذب وإصلاح بين الناس"، بحيث أخرج الإصلاح بين الناس عن حركة الصدق والكذب.. وهكذا إذا واجهت مشكلة إخبار الظالم أو العدو عن أسرار بلدك أو أمتك، أو أن تحدثه عن مكان شخص بريء ليعتقله أو ليقتله، ففي مثل هذه الحالة يقال لك يجب عليك أن تكذب، فالصدق حرام لأنك لو صدقت لفضحت أسرار أمتك السياسية والاقتصادية والعسكرية لدى العدو، مما يمكن له أن يسقط الأمة تحت تثير خططه التي يبنيها على أساس المعلومات التي تعطيها إليها.
وهكذا يجب عليك أن تكذب إذا طلب إليك أن تدلّ على مكان أخيك "إحلف بالله كاذباً ونجِّ آخاك من القتل"، فالصدق هنا حرام والكذب واجب، وفي الفقه الإسلامي إن الكفار إذا تترّسوا بأسرى المسلمين، بحيث وضعوا أسراهم في مقدمة الجبهة وتوقّف انتصار المسلمين في المعركة على أن يقتل المسلمون أسرى المسلمين، فإنه يجوز لهم أن يقتلوهم في هذه الحالة.. ولذلك قلنا إن الغاية الكبيرة تبرّر الواسطة، فالمعروف أن الغاية لا تبرر الواسطة في الغايات الشخصية، أما الغايات الكبرى التي تمثل غايات الأمة أو غايات الخير فإن الغاية هنا تنظّف الواسطة، بحيث تجمّد الحرام فيها وتحيلها إلى حلال، بل قد تجعلها واجبة أحياناً.
لذلك، نقول إذا أردنا أننصل إلى القضايا الكبرى ووقفت عندنا في الطريق ونحن نخطّط بعض المفردات التي قد تكون محرّمة، فعلينا أن نوازن بين حجم المفسدة الموجودة في هذا المحرّم وبين حجم المصلحة الموجودة في الهدف والغاية، فإذا كانت أقوى من حجم المفسدة الموجودة في الحرام تجمّد الحرام وأصبح حلالاً لمصلحة الغاية الكبرى.
إذاً فالمكر الذي يعبّر عن التخطيط من أجل الوصول إلى الأهداف الكبرى ومن أجل إسقاط الأعداء والتحديات والأوضاع القلقة التي لا يريدها الله محمود، بل لا بد للمسلمين على المستوى القيادي والشعبي أن لايكونوا ساذجين يرتبطون بالأشياء بشكل مباشر، بل لا بد أن يكونوا مكّارين يتقنون الحيلة ويتقنون الخطة ويتقنون الحركة الخفية من أجل تحقيق الأهداف الكبرى، وهذا هو نوع من أنواع المكر.
المكر الاستكباري:
وهنا نوع آخر من أنواع المكر وهو الذي يغلب إطلاق المكر عليه، وهو ما يسمّى بالخديعة، وهذا المكر يستهدف الغايات السيّئة، فأنت تمكر لتسقط أخاك، وتمكر لتشوّه صورته، وتمكر ليتضرّر الآخر في موقع هنا أو في موقع آخر هناك، وهذا هو المكر الذي تستخدمه أجهزة المخابرات الاستكبارية وملحقاتها في الواقع الذي يعيشه المسلمون، وهي الخطط الخفية التي تستعمل من أجل إثارة الخلافات في المجتمع الواحد، لأن أجهزة المخابرات، ولا سيما المخابرات الاستكبارية تدرس في مواقعها الثقافية ما هي الفوارق بين الأديان، وما هي نقطة الضعف هنا ونقطة الضعف هناك، وما هي الفوارق بين المذاهب، وما هي الفوارق في داخل الأعراق المختلفة، وبين الألوان، وما عناصر الإثارة في ذلك..
ولهذا، فإنها تحاول، ولا سيما في المجتمعالذي تختلف أديانه، أن تلتقط بعض السلبيات في دائرة هذا الدين والسلبيات في دائرة الدين الآخر من أجل أن تثيرها وتحرّكها، فينطلق الإنسان هنا بطيبة خاطر ليدافع عن دينه، وينطلق ذاك أيضاً بإخلاص، ولكن المسألة هي أن هذا المكر الاستكباري المخابراتي يحاول أن يثير بعض نقاط الضعف هنا ونقاط الضعف هناك لتنطلق الفتنة.
وهكذا نجد المسألة في إطار اختلاف المذاهب، ونحن لا نزال نعيش عقدة المذهبية بالطريقة الحادة، فإننا نجد أن هناك عملاً محموماً ينصبّ على العالم الإسلامي الذي يسيطر الاستكبار العالمي على مقدراته الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، حيث نجد أن الناس عندنا مشغولون بالحساسيات المذهبية بين السنة والشيعة، بحيث ينسى الناس ما يدبّر لهم وما يخطط لهم من إسقاط واقعهم كأمة وقضاياهم الحيوية وثرواتهم الاقتصادية وواقعهم الأمني.
ولذلك استطاع الاستكبار العالمي من جهة، والتخلف والجهل الذي نعيشه من جهة أخرى أن يشغل الناس بذلك، ولو أن الناس اشتغلوا بالجوانب المذهبية بطريقة علمية موضوعية عقلانية لكان الحوار منتجاً، لأن العقل عندما يحاور العقل فلن تكون هناك مشكلة حساسيات، ولكنها الغريزة تخاطب الغريزة، والحقد يخاطب الحقد، فهو حوار بين حقد وحقد، وحوار بين حالة غرائزية وأخرى غرائزية.. ولذلك لم يستطع المسلمون بفعل التخلّف والجهل والطريقة غير المسؤولية، لم يستطيعوا في مدى الأربعة عشر قرناً أن يصلوا إلى نقطة لقاء، لأن القضية ليست قضية حوار للبحث عن الحقيقة، ولكنه حوار يستهدف تسجيل النقاط، ومن الطبيعي أن من يريد أن يسجّل النقاط على الآخر لا يرتاح إذا انكشفت الحقيقة وكانت في غير حسابه.
وهكذا نجد أيضاً كيف تتحرك هذه المخابرات لتمك ولتخطط في داخل المذهب الواحد، بحيث أنها تتجه إلى بعض الخلافات التي تثير الحساسيات كي توظّفها من أجل أن يتحرّك الناس بطريقة سطحية لمواجهة المسألة وينشغلوا بذلك عن القضايا الحيوية الأساسية.
ولو أننا درسنا ـ أيها الأحبة ـ الوعي السياسي الإسلامي الذي لا بد لنا أن نعيشه، ودرسنا ما يشغلنا وما يثيرنا وما يتحرّك به الواقع وقارنّا بين ما يشغلنا من بعض المفردات الصغيرة التي لا يرتكز فيها الأمر على قاعدة من علم أو وعي أو إيمان، بل من خلال عصبيات وغرائزيات، لرأينا أننا نسقط القضايا الكبيرة تحت تأثير القضايا الصغيرة ليخطط الاستكبار وعملاؤه، بكل هدوء لأننا مشغولون بجنس الملائكة، واقتحم الفاتح أسوار المدينة وسقط الجميع وهم يتناقشون، ألا يشبه حالنا هذه الحالة في القضايا السياسية؟!
هناك أكثر من جهة في أكثر من بلد تقع ضحية لذلك، وهناك مشاكل حقيقية يعيشها الناس في هذا البلد أو ذاك البلد في الحكم وفي الخط السياسي وفي قضية الظلم والعدل وما إلى ذلك، والظالم يجلس متربعاً على سرير الظلم والقوم يتناقشون من الذي يتقدّم أولاً، ومن الذي يجب أن تكون له السلطة العليا، ويسقط الجميع ويبقى الظالم يخطط لإبقاء هذا الخلاف ويخطّط من أجل أن لا يقف الناس عند مواقع اللقاء بل يتحركون في مواقع الخلاف.
تخلّف على أكثر من صعيد:
مشكلتنا ـ أيها الأحبة ـ أننا كنا نعيش نوعاً من (التخلّف الجاهل) ولكننا نعيش الآن نوعاً من (التخلّف المثقف) و(التخلّف المتديّن) والتخلّف الذي يعتبر نفسه واعياً، إذا صحّ التعبير، فقيمة أن تكون مثقفاً هي أن تعرف الأسس التي يمكن أن ترتكز عليها في مواجهتك للقضايا التي تتحدى أساسياتك ووجودك، ولذلك ربح الاستكبار العالمي معركة المكر السيّئ الذي تحرّك فيه، لا من جهة أن مكره لا يقاوم ولكننا استرحنا لمكره، لأننا كنا غافلين عن القضايا التي يتحرك فيها، وهذا هو الذي ينطلق في واقعنا الذي نعيشه، وفي هذا الفكر الذي نحمله، وفي الطاقات التي عندنا ليمكر أحدنا بالآخر ليدمره، وليمكر أحدنا في الواقع الذي لا يتناسب مع مصلحته ليسقطه.. وبذلك كنا ندمّر أنفسنا بأنفسنا، فبدلاً من أن تكون الحيلة موجّهة إلى الأعداء أصبحت موجهة إلى أنفسنا وهذا ما نلاحظه هنا وهناك.
نحن الآن نمدح (الشاطر) فينا فنقول (فلان شاطر) أي يستطيع أن يأخذالناس إلى النهر ويرجعهم عطاشى، وفلان شاطر لأنه يستطيع أن يلعب على أكثر من حبل، وفلان شاطر لأنه يعرف كيف يصوغ الكذب وكيف يصوّره، كما لو كان صدقاً وهذا ما انطلق فيه الواقع السياسي، بحيث إذا أردت أن تكون سياسياً فعليك أن تتقن الحيلة فيما تصغه من الأكاذيب، أليس هذا هو الواقع؟! (الشطّار) ـ بهذا المعنى ـ هم الذين يتحركوم في مجالات الساحة بكل أسف، فهناك (الشطّار) في المواقع الدينية الذين يبتعدون عن أصول الدين وعن أخلاقياته، و(الشطّار) في المواقع السياسية و(الشطّار) في المواقع الاجتماعية والاقتصادية.
المكر في الكتاب والسنّة:
تعالوا ـ أيها الأحبة ـ لنقرأ كلمات الله تعالى وكلمات رسوله(ص) وأوليائه(ع)، يقول الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}( )، فهذا هو المكر الذي انطلق من قريش عندما كانت تخطط لإخضاع النبي(ص) وإبعاده عن الساحة، إما بإخراجه من مكة، أو بحبسه في داخل حبس يموت فيه، أو بقتله مباشرة، فانتصرت خطة القتل بالطريقة الخفية، ولكن الله كشف الخطّة لنبيّه وأمره أن يهاجر، وهكذا مكر القوم ليبعدوا النبي(ص) عن الساحة ومكر الله بأن دبّر الخطة من حيث لا يعرفون ولا يحتسبون.
وانطلق النبي(ص) من مكة إلى المدينة ليرجع إلى مكة فاتحاً وليسقط هؤلاء كلّهم والشرك كله من خلال الخطة التي رسمها الله سبحانه وتعالى منذ البداية حتى النهاية {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}( )، {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ}، بحيث يتحركون في التخطيط للسيئات التي تنال الأفراد والمجتمع والواقع كله {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}( )، في نهاية المطاف {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}( ).
وإذاً فلا بد أن يعرف هؤلاء (الشطّار) الذين يعرفون كيف يكذبون ويحتالون ليظهر الحق في صورة الباطل أو يظهر الباطل بصورة الحق، أنّ عليهم أن لا يكونوا آمنين، لأن الله عندما يطّلع على سوء نيّاتهم فسيمكر بهم وسيحيق المكر السيء بأهله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}( ).
لذلك عل المكّار سواءً كان مكاراً في الساحة الفردية أو في الساحة الاجتماعية أو الدينية أو السياسية أن يعرف {إنَّ ربَّكَ لَبِالمُرْصَادِ}( ).
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}( )، لذلك فعلى الإنسان الذي يؤمن بالله أن لا يأمن مكر الله، وعلينا إذا كنا مسلمين مؤمنين، والساحة تتحرك في تحديات الكفر كأقصى ما تكون التحديات، وفي تحديات الاستكبار كأكثر ما تكون التحديات، علينا إذا كانت لنا عبقرية الحيلة وذهنية المكر أن نوجه مكرنا لإسقاط الكفر من جهة وإسقاط الاستكبار من جهة.
يقول النبي(ص): "ليس منّا من ماكر مسلماً"( ) أي أنه ينفي الإنسان الذي يمارس المكر والشطارة بالطريقة التي تسيء للمسلمين، ويخرجه من المجتمع الإسلامي.
وهكذا يقول الإمام علي(ع): "لولا إني سمعت رسول الله(ص) يقول: إن المكر والخديعة والخيانة في النار لكنتُ أمكر العرب"( )، ويقول: "لولا التُقى لكنت أدهى العرب"( )، فالنبي(ص) يقول: "من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فإني سمعت جبرئيل يقول إن المكر والخديعة في النار"( )، لأن الإسلام يريد للمسلم أن يكون قلبه سليماً من كل حقد وبغضاء وعداوة وزيف وشر، ألم نقرأ قول الله {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}( )، وطبعاً ليس سليماً من الذبحة الصدرية، بل من (الذبحة الإيمانية)، فبعض الناس يتداوون من الذبحة الصدرية ويدخلون المستشفيات ولكنهم قد يكونون مبتلينبالذبحة الإيمانية،حيث تتحرك المكروبات الأخلاقية كلها من أجل أن تسد مجرى الدم الإيماني في العروق الروحية للإنسان.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ علينا أن نفتح قلوبنا للمؤمنين وأن نجعلها تتحرك بالنصيحة لهم بدلاً من أن تتحرك في الغش، وقد ورد في الحديث "عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقه بعملٍ أفضل منه"، وقد قيل "إن الدين نصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه وللأئمة في الدين ولجماعة المسلمين"( )، وفي رواية: "ولأئمة المؤمنين".
هذا هو الذي يجمع المجتمع، وهذا هو الذي يوحّده وهذا هو الذي يعطيه القوة، فلا بد من أن نتناصح، بحيث إذا أخطأ أحدنا فلا نرميه بخطئه بطريقة تشهيرية، بل أن نحاوره وأن نعظه "من وعظ أخاه سراً فقد زانه ومن وعظه علانيةً فقد شانه"  أليست هذه هي أخلاق الإسلام؟!
علي(ع) المثل الأعلى:
هل هناك إنسان يملك العقل والعلم بعد رسول الله(ص) في مستوى علم علي(ع) وعقل علي(ع)؟ إن بعض الناس يقولون إن مشكلة علي(ع) أنه رجل محارب وقصة معاوية هي أنه صاحب رأي ودهاء، ولذلك انتصر دهاء معاوية عل شجاعة علي(ع).
إن بعض الناس يتحدثون بهذه الأحاديث، ولكن مشكلتهم كمشكلة الكثيرين الذين ينظرون إلى الواقع مجرداً عن الرسالة ويصادرون الرسالة في عالم التقييم، وقصة علي(ع) ومأساته، بل وعظمته، أنه كان صاحب رسالة ولم تكن خلافته التي نصّبه فيها رسول الله(ص) إمارة للمسلمين فقط، ولم يكن مجرد خليفة يدبّر أمور المسلمين، بل ينطلق من أجل أن يكمل حركة رسول الله(ص) في الدعوة ومن أجل تعميقها في الناس بالإضافة إلى الجانب الإداري.
ونحن هنا لا نخرج الآخرين عن الإسلام، ولكننا نقول إن علياً هو الإنسانالذي لم يكن في تاريخه كله شيء غير الإسلام، فمنذ أن فتح عينه على الحياة كان مسلماً في روح قبل أن يبعث النبي بالإسلام، لأن النبي(ص) كان يغذّيه بهذا الإسلام الذي أفاضه الله على روحه قبل أن ينزله في وحيه وعاش مع رسول الله بكل ذلك.
لذلك، كان علي(ع) يرى أن مسؤوليته كخليفة عن رسول الله(ص) أن يمارس دوره في الخلافة على الأرض قبل أن يمارس دوره في الخلافة على الكرسي، ولذلك لك أن تسأل: لماذا بقي علي(ع) مع الخلفاء الذين تقدموه يعطيهم نفسه كلها ورأيه ومشورته كلها؟ ما ذاك إلا لأن المسألة لم تكن تخصّهم بالذات، بل كانت تنعكس على الواقع الإسلامي كله، وكان علي(ع) يشعر أن دوره هو امتداد لدور رسول الله(ص) من دون نبوّة "يا عليّ أترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي"( ).
ولذلك كان علي يمارس خلافته عل الأرض قببل أن يتسلّم الخلافة، وكان يعطي فكره كله وعلمه كله من أجل الإسلام، وقالها هو في إحدى خطبه "حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد(ص) فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيامٍ قلائل، يزول منها ما زال، كما يزول السراب، أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأنّ الدين وتنهنه"( )، ومما قال أيضاً: "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصة"( ).
لذلك كان علي(ع) رسالياً في خلافته، يعيش امتداد الرسالة في دوره قبل أن يتسلّم الخلافة، وعندما تسلّمها أراد أن يثبت واقعية الرسالة وإن واجهت الكثير من المشاكل كما واجهتها في حياة النبي(ص)، بينما كان معاوية يتحرك من أجل الملك، ولذلك قال "والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس"( ).
تجربة علي(ع) حيّة:
وقد تحدّث علي(ع) عن تجربته وكأنه يحدّثنا عن زماننا، ومشكلتنا كما أكدت مراراً هي أن بعضنا يدّعي أنه من شيع علي(ع) من دون فكر علي(ع)، يقول(ع): "ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً ونسبهم أهل الجهل في إلى حسن الحيلة(الشطارة) ما لهم قاتلهم الله قد يرى الحوّل القلّب ـ الذي يحوّل الأمور ويقلبها ويدرسها ويتعمّق فيها ـ وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه ـ فهو يتحرك من أجل أن يصل إلى الحيلة وإذا في الطريق حاجز يمنعه ويقول له: قف ـ فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين"( )، أي لا تقوى له.
هذا هو الخط الإسلامي ـ أيها الأحبة ـ وبعد ذلك علينا أن نعرف أن الله قد يمدّ لكل الماكرين ولكنه في نهاية المطاف ربما يبتليهم في الدنيا والآخرة.
يقول الإمام علي(ع): "لا تأمننّ على خير هذه الأمة عذاب الله، لقوله تعالى {فلا يأمنَ مكْرُ الله إلا القومُ الخاسرون} ولا تيأسنّ لشرّ هذه الأمة من روح الله لقوله تعالى { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}( )".
وهكذا يقف الإنسان بين الخوف من مكر الله وبين الأمل برحمته، ويقول الإمام الصادق(ع): "إذا رأيتم العبد يتفقد الذنوب من الناس ناسياً لذنبه فاعلموا أنه قد مكر به"( )، فالله يمدّ له وهو يتحرك في مكر الله لأنه ينسى نفسه ويذكر غيره.
الإسلام أخلاقٌ كله:
أيها الأحبة، الإسلام كله أخلاق "إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق"( )، أخلاق الرسالات التي جاءت واحتضنها الإسلام، والأخلاق التي جاء بها الرسول(ص) متمماً لسابقاتها، فمن لا أخلاق له لا إسلام له، وقد يكون الإسلام شهادتين من حيث سطحه ولكنه في عمقه أن تكون بكلك لله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}( )، { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}( )، ولدينا في العمر بقية، فهل لنا أن نعمّر بنياننا الأخلاقي عقولنا وقلوبنا وطاقاتنا ومع الله ومعالذات ومع الناس ومع الحياة؟!
ذلك هو السبيل الذي ننجو به عند الله سبحانه وتعالى، لأن قصة الجنة هي أن تكون لك أخلاق الجنة، فلا بد من عمل دورة تدريبية في أخلاق الجنة في الدنيا حتى لا نخرّبها في الآخرة، فالله تعالى غير مستعد لتخريب جنّته {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}( )، فهل يمكن أن ندخل الجنة ونعيشها ونحن أخوان على حرب متقاتلين متنازعين؟! إذا فكّرتم في الجنة ففكروا بالطريقة إليها، يقول علي(ع): "أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده، هيهات لا يُخدع الله عن جنّته ولا تنال مرضاته إلا بطاعته"( ). والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الثالثة عشرة: 29 ربيع الثاني 1419هـ الموافق 22 – 8  – 1998م



التخطيط السرّي للإضرار بالمؤمنين

"كلُّ حديث سرّي.. همساً كان أو في دائرة مغلقة، فهو تحت علم الله وسمعه.. وهو الشاهد والحاكم معاً"


ـ النجوى.
ـ معالجة القرآن للنجوى.
ـ إحاطة الله.
ـ التناجي بالبرّ والتقوى.
ـ النجوى الوبال.
ـ تناجي المخابرات.
ـ انتبهوا للأساليب الفرعونية.
ـ النجوة الشيطانية.
ـ النجوى في الأحاديث الشريفة.
ـ ليكن خلُقُنا القرآن.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

النجوى( ):
من عناوين القرآن التي أعطاها بعداً كبيراً متنوعاً، لأنها تتصل بالعمق الإيماني والاجتماعي للإنسان وبحركته في مسؤوليته أمام الله هي كلمة (النجوى) وهذه الكلمة تعبّر عن الحديث بين اثنين أو بين جماعتين في دائرة سرية، فيقال ناجاه: سارّه، أي تحدّث معه بطريقة سريّة.
ويعني هذا المفهوم الحديث في الدائرة السرية، إما من خلال الهمس، أو من خلال الدوائر المغلقة التي لا يسمح فيها أحد الحديث، أو لا يشاهد فيها المتحادثين، وهذا ما يعبّر عنه في اللغة السياسية الحديثة بمصطلح "وراء الكواليس" أي في المناطق الخلفية التي لا يطّلع عليها أحد.. وقد أشار الله تعالى في أكثر من آية كريمة أن يشير إلى الإنسان ليعيش مسؤولية العلاقة في هذا العنوان باعتبار أن السرية غالباً، أو الدوائر المغلقة غالباً، تعطي الإنسان حرية الحركة في أن يقول ما يشاء وأن يخطط لما يشاء.
والغالب على الناس في المناطق السريق والدوائر المغلقة أنهم يتحدثون بالشر ويخططون للفتنة وللإضرار بين الناس إلا في بعض الحالات التي يمكن أن يحرك فيها التخطيط بالخير.
لذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يطوّق العنصر الشرير الذي يمكن أن يبرز في المناطق السرية أو الدوائر المغلقة.. ففي البداية أراد أن ينبّه الإنسان إلى أن لا يأخذ حريته في تلك الدوائر فيتصور أن ليس هناك من يسمعه، أو ليس من يراه، كما يحدث بين الناس حينما يلتفتون حولهم متسائلين: هل من يرانا، هل من يسمعنا، ثم يقولون بعد بحث، ليس هناك من يرانا وليس هنا من يسمعنا فيأخذون حريتهم لأنه لا رقيب عليهم حسب زعمهم.
معالجة القرآن للنجوى:
كيف يعالج الله سبحانه وتعالى هذه المسألة بإثارة العمق الإيماني في الإيمان بالله وفي العلاقة به سبحانه وتعالى؟
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ} اثنين {وَلَا أَكْثَرَ} ستة أو سبعة {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}( ).
فالآية تبدأ من الإيمان العميق في نفس الإنسان بأن الله يملك العلم المطلق {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}( )، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}( ).
وهكذا ينطلق الإنسان من هذه المفردة العقيدية الإيمانية لينزل بها إلى واقعه عندما يكون في وحدة مغلقة مع من يأتمنهم على سرّ ليشعر أنهم لا يعيشون الوحدة، لأن الله سبحانه وتعالى يطّلع عليهم، وإذا كان الله هو المطّلع عليهم فعليهم أن يعرفوا أنه هو الذي يحاسبهم ويحاكمهم، وهنا نلتقي بالكلمة الرائدة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): "اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم"( )، ولذلك فليس هناك فصل بين حالة الشهادة وحالة الحكم، وفي ضوء هذا يريد الله أن نعمل على أساس أن لا نأخذ حريتنا في التخطيط للشر، سواء كان شراً فردياً أو جماعياً، أو كان شراً يمسّ مستقبل الإنسان كله في الحياة كلها.
الله محيط:
وفي آية أخرى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}( )، وهذه ـ أيها الأحبة ـ هي المفردة الإيمانية التي تعني أن إحاطة الله بالكون بعلمه، وإحاطته بالإنسان في الداخل وفي الخارج بعلمه تجعل الإنسان يملك ضميراً يحاسبه ويحاكمه وينفتح على الإحساس بالرقابة الإلهية في أدق الأشياء عنده وأكثرها سرية.
وهكذا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يوجّه الناس إلى برنامج النجوى، في الموضوعات التي لا بد لم أن يديروها في أحاديثهم السرية، فنجده سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}( )، أي ابتعدوا عن كل ما يبتعد بكم عن مسؤوليتك أمام الله سبحانه وتعالى، فلا تنتهزوا فرصة السرية في الاجتماع ليحدّث أحدكم الآخر بالإثم الذي يسخط الله وبالعدوان على الناس والحياة، وبمعصية الرسول فيما اراد الرسول للناس أن يأخذوا به أو يبتعدوا عنه أو فيما أراد أن يخطط له.
ومن الطبيعي فإن هذه المفردات تشمل الشر كله {الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}، وتتحرك في الخطوط الاجتماعية والسياسية والذاتية فيما أمر الله به وفيما نهى عنه وفي المجالات التي تتصل بالأمن أو بالثقافة أو بغيرهما.
التناجي بالبرِّ والتقوى:
{وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، هناك ـ في هذه الآية ـ مفردتان "البرّ" الذي يمثّل الخير كله للإنسان وللحياة في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وهو أن تتناجوا لتخطّطوا خطط الخير وكيف يمكن أن ترفعوا مستوى المجتمع الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي أو الأمني وما إلى ذلك، فكيف لكم أن تصلحوا بين الناس عندما يختلفون فيما بينهم، كيف يمكن لكم أن تبعدوا الشر عنهم من خلال الذين يريدون أن يكيدوا لهم بالشر، سواء من الظالمين أو الكافرين أو المستكبرين، وسواء كانوا في مواقع فردية أو جماعية أو في دوائر دولية {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، و"التقوى" هي خط الطاعة لله والالتزام بأوامره ونواهيه، وقد ورد أن "التقوى هي أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك"( ).
وفي ضوء ذلك، نستوحي من هذا أننا أمام أوضاع الصراع التي نعيشها في واقعنا الاجتماعي أو في واقعنا الديني أو في واقعنا السياسي والاقتصادي لا بد لنا من أن نكون الأفراد أو الأمة التي تخطط لكل بر ولكل تقوى، وبذلك يمكن لها أن تعيش بعيداً عن الأجهزة الأخرى، سواء كانت مخابراتية أو سياسية والتي تشرف على التخطيط لتفسده، ولا بد هنا أن نأخذ النجوى وهي المحادثات السرية في الدوائر المغلقة التي تحمي الخطة من أن يكتشفها الآخرون وتحمي الأهداف من أن يطبق عليها الآخرون.
إذاً، فالله يريدنا أن نعيش النجوى، ولكن في دائرة الخير لا الشر، وفي دائرة الإصلاح لا الإفساد، وفي دائرة التقوى لا الانحراف، {واتقوا الله} فيما تتحدثون به، وليكن كل واحد منكم حذراً فيما يطلق من كلماته، لأن الشيطان يمكن أن يدخل على الكلمات فيفسد اتجاهها إلى الخير ليجعلها في دائرة الشر {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}( ).
النجوى الوبال:
وهكذا نجد أن الله يحدثنا عن الجانب الإيجابي في النجوى والجانب السلبي فيها، حيث يقول وهو يحدثنا عن كثير من المجتمعات التي كانت في الماضي ويمكن أن تعيش الآن أيضاً {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}، فأنت عندما تدرس أحاديثهم السرية التي يتناجون فيها في الدوائر المغلقة، فإنك تجد أنها تبتعد عن الخير لأنهم يستغلون هذه السرية من أجل التخطيط للإضرار بالناس وللإيقاع بهم ولإفساد التوازن الاجتماعي ولخدمة الاستكبار والظلم وما إلى ذلك {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}، باعتبار ما توحي به النجوى من الحرية في الكلام {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} وكلمة الصدقة تعني كلّ نفقة قربة إلى الله، أو كل ما يبذل للإنسان المحتاج في حاجاته سواء كانت مادية أو علمية أو في الجوانب الأخرى، لأن الصدقة، وإن غلبت على الجانب المالي، لكنها يمكن أن تتسع لأكثر من ذلك.. وقد ورد أن "الكلمة الطيبة صدقة"، وورد أيضاً: "صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا"( ).
{أَوْ مَعْرُوفٍ}، والمعروف يتسع لكل ما يرفع مستوى الإنسان في الدنيا والآخرة، سواء في الجانب العبادي أو الاجتماعي أو السياسي أو التربوي أو الثقافي أو ما إلى ذلك، من معروف يحبه الله سبحانه وتعالى ويرتفع بالناس في دنياهم وفي أخراهم. {أَوْ إِصْلَاحٍ}، وهذا هو الذي يحقق التوازن في السلام الاجتماعي الذي يمنع المجتمع من تبديد طاقاته في المنازعات والخلافات وإرباك مسيراته في التعقيد في الخلافات مما قد يعطل حركيته نحو القوة والثبات، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}، وهذه هي الجائزة، أي أن من يخطّط من خلال النجوىا لإثارة الناس من أجل مساعدة الأيتام والفقراء وأبناء السبيل والمشرّدين وما إلى ذلك، أو من أمر بالمعروف الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني أو أصلح بين الناس {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}( ).
ونحن نعرف أن هذه الكلمة تركها الله مطلقة غير محددة، وعندما يطلق الكريم كلمة كبيرة في معنى العطاء فإنك تستطيع أن تأخذ حريتك في تصوّر هذا الأجر العظيم بما لا يحدّه حد.
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن بعض ما كان يحدث في زمن النبي(ص) من نجوى المشركين ضد النبي(ص) ونجوى المنافقين أيضاً، كيف كانوا يتحركون في النجوى {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ}، فعندما كان المشركون يلتقون فيما بينهم ويجتمعون من أجل أن يخططوا لإفساد دعوة النبي(ص) {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم بالشرك والكفر {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}( )، فيتناجون في محاولة البحث  عن الكلمة التي تبطل دعوى النبي(ص) لأنهم عندما يتحدثون عنه كرجل مسحور فإن الناس تبتعد عنه بحسب طبيعتهم من خلال هذه الكلمة.
تناجي المخابرات:
وهذا ما نلاحظه في هذه الأيام عندما تتحرك أجهزة المخابرات الدولية أو الإقليمية أو المحلية أو الناس الذين يتحركون في المكر والحيلة وتشويه صورة مشروع أو جهة أو إنسان يراد إسقاطه، ويبحثون عن بعض الذرائع التي يمكن أن تثير الناس، وهم يعتمدون على أن الناس عندما يسمعون فإنهم يتحركون فيها بلا تدقيق وتحقيق فتنتشر الإشاعة وتتحرك الكلمة ويبتعد الناس عن الخط تحت تأثير هذه الكلمة أو هذه الإشاعة..
وهذا ما كان يحدث مع النبي(ص) ومع المصلحين الذين يتحركون في خط الإصلاح من أساليب المتخلّفين الذين يريدون حراسة التخلّف سواء كان تخلّفاً دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، وهكذا يحدثنا الله سبحانه وتعالى عن موقع آخر للمشركين {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}، وهذا ما يحدثنا عنه في الحالة التي كان فيها فرعون مع أتباعه وأصحابه عندما كانوا يخططون لمواجهة موسى وهارون {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى* قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}( ).
انتبهوا للأساليب الفرعونية:
وعلينا أن ننتبه ـ أيها الأحبة ـ إلى هذه الأساليب الفرعونية التي يتقنها الكثيرون في الوسط الديني والاجتماعي والسياسي من أجل أن يطلقوا العناوين المثيرة السلبية ضد الذين يريدون أن يحفظوا حرية أمتهم أو توازنها أو صلاح أمرها {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وهذه هي المقولة التي كانوا يخططون لإطلاقها في المجتمع من أجل بيان أن البشرية تتنافى مع الرسالة {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}( )، ثم يحدثنا عن المنافقين {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فقد نهاهم الرسول(ص) عن جلساتهم السرية التي يتحادثون فيها بما لا ينسجم مع البر والتقوى وبما يتحرك في خط الإثم والعدوان ومعصية الرسول {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}( ).
النجوى الشيطانية:
وفي آية أخرى يتحدث الله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}، وهي طبعاً النجوى السلبية {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا}، فلقد كان المنافقون يتناجون ويهمسون لبعضهم البعض وهم يراقبون المؤمنين حتى يشعر المؤمنون بأنهم يخططون للإضرار بهم فيحزن المؤمنون بذلك {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}( ).
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} إننا نسمع سرهم ونجواهم {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}( ).
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ نخرج من هذه الجولة مع الآيات القرآنية لنرى أن علينا أن نعرف أن كل نجوى وكل حديث سري همساً كان أو في منطقة مغلقة فهو تحت علم الله وسمعه وهو الذي يحاسب عباده به يوم القيامة.. لذلك علينا أن نحذر ذلك في كل ما يمكن للشيطان أن يوسوس به إلينا، أن انتهزوا فرصة الجلسة المغلقة، انتهزوا فرصة وجود عدة أشخاص أو عدة جماعات يلتفون عند هدف الشر لتخططوا معهم بالإضرار بالمؤمنين أو إسقاط حرية أوطانكم، وعندما يتجسس المتجسسون وتتحرك أجهزة المخابرات لتغريكم ببعض المال هنا وببعض الجاه هناك، وعندما تأتيكم النفس الأمارة بالسوء لتخيّل لكم أنكم تستطيعون أن تسقطوا من لا يريد الله أن يسقطه أو ترفعوا من لا يريد الله أن يرفعه، لأن الأمر في ذلك كله بيد الله تعالى، فعليكم أن تراقبوا الله قبل أن تقفوا بين يديه ليسألكم عن ذلك كله.
النجوى في الأحاديث الشريفة:
أما في الأحاديث الشريفة، فإن هناك تربية أخلاقية في عملية التناجي الذي يمكن أن يعقّد الناس، فقد قال النبي(ص) فيما روي عنه: "إذا كانوا ثلاثة فلا يناجي اثنان دون الثالث"، وفي الحديث الثاني: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه"( )، لأن الثالث صاحبكم، فإذا كنت تتكلم بالسر أو بالهمس مع صاحبك والثالث جالس في المجلس فقد يتصوّر أنه ليس ثقة، أو أنك يمكن أن تتناجى مع صاحبك في الإيقاع والإضرار به.. ولذلك عليك أن تحترم مشاعر الشخص الثالث الذي يجلس وهو يراك تهمس بأذن الشخص الآخر، لأن ذلك يحزنه، وإذا اختلطتم بالناس فلخذوا حريتكم فيما تسرّون وفيما تهمسون ب، وهذا هو أسلوب من أساليب التربية الإسلامية الاجتماعية في المحافظة على شعور الناس.
ويقول الإمام علي(ع): "الكتمان ملاك النجوى" يعني إذا تناجيت مع إنسان آخر في حديث سري فعليك أن تكتمه لأنه ائتمنك عليه ولو لم يرد كتمانه لما تحدّث به معك بطريقة سرية.
وعنه(ع) أيضاً: "أفضل النجوى ما كان على الدين والتقى وأسفر عن اتباع الهدى ومخالفة الهوى"، أي أن أفضل الأحاديث السرية هي الأحاديث التي ترتكز على أساس كل ما يفرضه الدين للناس ن خير وصلاح وإصلاح، وكل ما يفرضه التقى من توازنه واستقامة على الخط الذي يريده الله، بحيث ينتج عن النجوى اتباع الهدى، أي تحقيق النتائج الكبرى للمجتمع في اتباع الهدى ومخالفة الهوى.
ويقول أمير المؤمنين(ع) أيضاً: "لا خير في المناجاة إلا لرجلين، عالم مطاع أو مستمع واع"( )، أي المناجاة التي تنطلق كنتيجة لتفتّح عقل الإنسان على العلم من خلال علم من يسرّ إيه، أو تفتح أفق المتكلم لمجتمعٍ واعٍ يزرع فيه الوعي.
ليكن خلُقُنا القرآن:
أيها الأحبة، لنكن مسلمين قرآنيين في كل ما نأخذ به وكل ما ندعه، ولتكن أخلاقنا أخلاق القرآن، فقد جمع الهل فيه من الأخلاق ما يرتفع بالإنسان إلى مصاف الناس الخيّرين الطيّبين الصالحين الصادقين، وقد اختصرت إحدى زوجات النبي(ص) خلقه بقولها: "كان خُلُقه القرآن"، فهل نتبع رسول الله في قول الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}( ).. هل نتجه إلى أن يكون القرآن في عقولنا علماً وفكراً، وفي قلوبنا خيراً ومحبةً وفي حركتنا صلاحاً وإصلاحاً؟!
إن معنى أن نكون المسلمينهو أن يكون الإسلام في كل مفهوم من مفاهيمه وكل عنوان من عناوينه وحكم من أحكامه، هدانا في كل حياتنا الخاصة والعامة، لنقول لربنا إننا أسلمنا إليك وليس لدينا إرادة أمام إرادتك، وليس لنا كلمة أمام كلماتك، وليس لنا أي خط إلا خط {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}( )، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}( )، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}( )( ). والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الرابعة عشرة: 7 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق 29 – 8  – 1998م


المآسي الكبرى
التي صنعت زينب الكبرى(ع)

"في مولد زينب(ع) نكبر كثيراً.. ونعي كثيراً.. ونحصل على أكثر من درس"


ـ في مولد زينب الكبرى(ع).
ـ المأساة الأولى.
ـ المأساة الثانية.
ـ المأساة الثالثة.
ـ المأساة الرابعة.
ـ المأساة الخامسة.
ـ العاطفة الزينبية.
ـ صور من عاطفتها.
ـ صلابة الموقف.
ـ الارتفاع إلى مستواها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في مولد الحوراء زينب(ع):
في مولد السيدة زينب(ع) نريد أن نعيش معنى المرأة المسلمة في أرقى نماذجها، فهي ليست موضوعاً للبكاء، وإن كان في حياتها ما يبكي، ولكنها موضوع للانفتاح على أصالة المرأة المسلمة عندما تتجسد إسلاماً ولا تبتعد عن إنسانيتها في حركة هذا التجسد.
فزينب(ع) في ولادتها عاشت مع رسول الله(ص) في حنانه وعاطفته لأبناء علي وفاطمة(ع) وكانت أنفاسه تتنفس في أنفاسها كما كانت تتنفس في أنفاس أخويها الإمامين الحسنين(ع)، وعاشت طفولتها الأولى في أحضانه وفي أجوائه كما عاشت في بيت هو بيت رسول الله(ص) في معنى الحب والرعاية والرسالة والتقوى، لأن بيت علي وفاطمة(ع) كان بيته، ولأنه كانه يعيش في عمق عقل علي وفاطمة، وفي نبضات قلبيهما، وفي تطلعات روحيهما لأنهما صناعته، فلقد صنع لهما العقل بعقله وصنع لهما القلب بقلبه وصنع لهما خط السير بسيره، ولذلك اندمج علي وفاطمة برسول الله(ص).
المأساة الأولى:
وعاشت زينب(ع) في هذا الجو أول مأساة في حياتها، حيث سمعت الصرخة في بيتها عندما فقدت رسول الله(ص) وعاشت أحزان أمها في مأساة فراقها لأبيها، وعاشت مأسات المسلمين عندما تعقّدت الأمور واضطربت الأمة وابتعدت عن الخط المستقيم.
نعم، عاشت في ذلك البيت وفي تلك المرحلة، وسمعت صوتاً يهدد ويتوعّد: "إن لم تخرجوا فسأحرق البيت عليكم ناراً، وقيل له كيف ذلك وفيها فاطمة حبية رسول الله وعزيزته ووديعته، وارتفع الصوت ثانياً وقال: وإن"!! وربما تذكّرت زينب(ع) ذلك وربما تعجّبت عندما بدأت تدرك الأشياء وراحت تتساءل: كيف يهدّد مسلمٌ بيت الإسلام الأول الذي تعيش فيه بضعة النبي وعزيزته وحبيته ويعيش فيه أخو النبي وصنوه؟! هل هي محاولة لحفظ النظام، ومن هو في مستوى علي وفاطمة في الإخلاص لنظام أمر المسلمين؟!
عاشت زينب ذلك الواقع وكانت تجد أمها وهي الناحلة الجسم المنهدّة، تخرج إلى المسجد وتخطب، وسمعت بـ(فدك) وعرفت بوعيها بعد ذلك أنها كانت نحلة رسول الله لأمها أو كانت إرث أمها من رسول الله(ص) وكانت تلاحظ أمها تخرج، كما تقول السيرة، مع علي(ع) لتتحدث مع المهاجرين والأنصار، كيف كانت تتحدث عن الحق بقوة، وعن علي في دائرة الحق، لأنها سمعت رسول الله(ص) يقول: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث ما دار".
وكانت ترى أمها تستقبل الشيخين اللذين تسلّما أمر الخلافة وكانا يسترضيانها، وكانت سمعت من أمها كلاماً شديداً.
المأساة الثانية:
وكانت المأساة الثانية، وهي أنها فقدت أمها وهي لا تزال بحاجة إلى حضن الأمومة يضمها ويرعاها، وعاشت مع أبيها وتعلّمت منه الكثير، تعلّمت منه في أول تجربة للصراع كانت تعيشها آنذاك، كيف جمّد حقه من أجل حق الإسلام، فكانت تسمعه يقول: "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة".
وعرفت كيف انفتح أبوها على الإسلام وعلى المسلمين حتى من خلال الذين تقدموه في الخلافة، لأن علياً لم يكن يعيش في دائرة ضيقة، بل كان يرى نفسه مسؤولاً عن حماية الإسلام ورعاية أمور المسلمين خارج الخلافة كما هو مسؤول عن ذلك داخل الخلافة..
وعاشت النمو من خلال الأحداث فراح ينمو عقلها ويكبر قلبها وتتطلع إلى الواقع بعينين فيهما الكثير من الوعي، ورأت كيف عاش المسلمون آنذاك بين صرخات للجهاد وللفتح في الخارج، وصرخات للفتنة والانحراف في الداخل، حتى إذا جاء الأمر إلى أبيها رأت أباها وهو يريد أن ينفّذ مشروعه في الإسلام الأصيل الذي كان أول إنسان بعد رسول الله(ص) فتح عليه عينيه، وكان المجاهد في سبيله والمعلّم لكل أحكامه.. رأت كيف اجتمع الناكثون والقاسطون والمارقون ليعطّلوا خطته، وأرادوا منه أن يلعب مع اللاعبين ويخوض مع الخائضين، وأرادوا منه أن يمارس الحيلة هنا والمكر هناك، بأن يكذب وأن يغدر وأن يفجر، ولكنه قال: "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة دونها حاجز من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي العين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين"، وكان يقول: "والله ما معاوية بأدها مني، ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس"، وكان يقول للناس "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".
ورأت زينب(ع) ذلك كله، وعرفت أن الذي يقود المسلمين لا بد أن يفكّر بالله، وكيف يربط الناس بالله وبرسالة الله وبشرع الله وبالخطط التي يحبّها الله، ورأت أباها كيف عاش المأساة في حكمه، كما عاش المأساة خارج حكمه حتى كان يقول: "ما ترك لي الحق من صديق"، وكما كان يقول للذين معه "لو صارفني معاوية فيكم مصارفة الدينار بالدرهم آخذ درهماً وأعطيه ديناراً" والدينار عشرة دراهم، وكان يقول: "لقد أفسدتم عليّ رأيي".
عاشت زينب ذلك كلّه واختزنت فكر علي(ع) في فكرها لأنها كانت تلميذة علي(ع)، لم تفارقه في المدينة ولم تفارقه في الكوفة حتى أغمض عينيه على الشهادة، وبذلك نعرف أن الفرصة لم تتح لزينب(ع) في أن تتعلّم الكثير شفاهاً من جدها وأمها حتى واتتها الفرصة لتتعلم الكثير من أبيها علي(ع).
كبرت في عمره وعمرها معه، ونحن نعرف ـ أيها الأحبة ـ كيف يكون عقل من كان تلميذ علي، وكيف يكون قلب من كانت نبضاته هي نبضات قلب علي، وكيف يمسك الحق بكيانه كلّه من عاش الحق مع علي، ورأى كيف يؤكد علي الحق.
المأساة الثالثة:
وكانت المأساة الثالثة عندما جيء بأبيها صريعاً والدماء تسيل من رأسه الشريف، وكانت تجتمع إلى أبيها، ويكبر أبوها في عينها أكثر مما كان كبيراً، عندما تراه، وهو ينزف والسم يسري في بدنه والحياة تذوب من جسده شيئاً فشيئاً، يلتفت إلى من حوله قائلاً: "سلوني قبل أن تفقدوني" فما زال في العمر بقية، وقد عشت عمري من أجل أن أعطي الناس حقهم في العقيدة وفي الشريعة وفي حركة الحياة، فلا أحب أن ألقى ربي إلا وأنا أعلّم الناس إسلامهم قبل أن ألفظ أنفاسي ليراني الله معلّماً وأنا على فراش الموت.
اختزنت زينب(ع) ذلك كلّه في شخصيتها وعاشت المرحلة الجديدة مع أخيها الحسن وكانت رفيقة الحسن والحسين(ع) في مسيرتهما مع أبيهما لأنها كانت التلميذة الثالثة معهما، كانت تتعلّم مع الحسن والحسين، وكانت تسمع من جدها أو عن جدها قوله: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، ولذلك عاشت معهما بكل محبة واحترام واندفاع من أجل أن يكونا القدوة لها.. وعاشت مع الإمام الحسن(ع) ورأت كيف ورث جيشاً ممزّق الاتجاهات متنوّع الأفكار، ورأت كيف عاش الحسن مأساته مع جيشه كما عاش مأساته فيما بعد الصلح، وقد قال لأصحابه حينما قالوا له: "السلام عليك يا مذلّ المؤمنين"، من موقع حماسهم وانفعالهم للمعركة، فكان يردّ عليهم "أردت الإبقاء عليكم" لقد أردت مصلحة المسلمين في ذلك.
المأساة الرابعة:
وعاشت المأساة الرابعة عندما رأت أخاه الحسن(ع) وهو يتجرّع السمّ وينتقل إلى رحاب ربه مسموماً، وكانت ترى كيف أنه منع من أن يُدفن عند جده، بل ربما منع من زيارة قبر جده.
وانطلقت مع الحسين(ع) وكان ترى فيه أباها وأمها وأخاها، ولذلك عندما نعى الحسين نفسه ـ كما سيأتيكم في الحديث عن عاطفتها ـ قلت: "اليوم مات أبي وأمي وأخي"، فلقد اعتبرت أن كلهم كان حسيناً، ولذلك شعرت أنها عندما فقدت الحسين فقدت هؤلاء الكبار جميعاً.
وعاشت مع الحسين(ع)، ونحن نعرف أن علاقتها به كانت فوق علاقتها مع الناس، ولذلك عندما أطلق نداء نهضته استأذنت زوجها وتركته وسارت مع الحسين وأخذت ولديها معها وهي تتحسّس الخطر هناك.
المأساة الخامسة:
وهكذا عاشت مع الحسين(ع) وواجهت المأساة الخامسة، فإذا قلنا عنها أنها "أم المصائب" فإننا نجد أن حركة المصائب انطلقت منذ طفولتها حتى كهولتها، وكانت مصائب معقدة تتحرك في أجواء عاشها المسلمون بطريقة فيها الكثير من أوضاع الفتنة، وأوضاع الحرب، وفيها الكثير مما عاشه المسلمون في تعقيدات لا يزال تأثيرها سلبياً على واقع المسلمين حتى الآن.
هذه هي صورة ولادة زينب(ع) ونشأتها فيما نستوحيه من حياتها من هذا البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهّر أهله تطهيراً.
العاطفة الزينبية:
ونأتي بعد ذلك إلى زينب في موقع العاطفة، وفي صلابة الموقف، وإذ نثير هذين الخطين في حياتها فلكي نستفيد من حقيقة إنسانية فيما يريده الإسلام للمرأة المسلمة، فالإسلام لا يريد للمرأة المسلمة كما لا يريد للرجل المسلم أن يخنق الجانب العاطفي من شخصيته، والله لا يريد للإنسان أن يكون قاسي القلب، وقد حدثنا تعالى عن القاسية قلوبهم في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}( )، أو عن الذين {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}( ).
إن الله لا يحب من كان قاسي القلب ويحب القلب الرقيق، وقد كان سيد البشر رسول الله(ص) الأنموذج الأكمل للين القلب ولين اللسان {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}( )، وقد كان رسول الله(ص) يعيش بكل قلبه وعاطفته مع المسلمين من حوله {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}( ).
فكُن الإنسان الذي تفيض عاطفته من قلبه وتتحرك في علاقته بالمأساة، لا سيما إذا كانت المأساة تهز القلب والكيان كله، ولذلك لم يعب السيدة زينب(ع) أنها بكت في كربلاء وأنها بكت وهي الصامدة الصلبة، حتى إذا انتهت واقعة الطف بقيادة الإمام الحسين(ع) جمّدت زينب(ع) هذا الفيضان العاطفي في حركتها في الخارج، لتعيش في قلبها حزناً كأعمق ما يكون الحزن، ولكنها كانت في مسؤوليتها إنسانة واعية في خط قيادة المرحلة كأقوى ما يكون الإنسان، كانت امرأة في مستوى صلابتها.
صور من عاطفتها:
لنقرأ بعض الجانب العاطفي في شخصيتها ولو بشكل سريع جداً:
قال المفيد: "قال علي بن الحسين(ع): إني لجالس في صبيحتها (صبيحة التاسع) من محرم وعندي عمتي زينب تمرضني إذ اعتزل أبي في خباءٍ له وعنده جوين مولى أبي ذر الغفاري، وهو ـ أي جوين ـ يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:
يا دهرُ أفٍ لك من خليلِ        كم لك بالإشراقِ والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل        والدهرُ لا يقنعُ بالبديل    
وإنما الأمر إلى الجليل        وكلُّ حيٍ سالكٌ سبيلي    
فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتها وعرفت ما أراد فرددتها ولزمت السكوت وعلمت أن البلاء قد نزل".
وأما عمتي فإنها لما سمعت ـ وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع ـ فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وأنها لحاسرة حتى انتهت إليه، فقالت: واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمالة الباقي".
فنظر إليها الحسين(ع) فقال لها، يا أخيّة، لا يذهبنَّ بحلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدموع، وقال: لو ترك القطا لنام، فقالت: يا ويلتاه، أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي، ثم لطمت وجهها وأهوت إلى جيبيها فشقّته وخرّت مغشياً عليها، فقام إليها وصبّ على وجهها الماء، وقال: إيهاً يا أختاه، اتقِ الله وتعزّي بعزاء الله واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، فعزّاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أخية إن أقسمت عليك فأبرّي قسمي، لا تشقّي عليَّ جيباً ولا تخمشي عليَّ وجهاً ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي".
هذه القصة هي قمة التوتر العاطفي الصارخ عند زينب(ع) ولم يحدث بعد ذلك حالة مماثلة حتى ما يرويه الرواة بأنها فعلت ذلك في مجلس يزيد عندما بدأ ينكث ثنايا الحسين(ع) بالقضيب بيده، لأن الرواية الموجودة ليست في مستوى الوثاقة، ونحن نؤكد ذلك لأن الحسين أقسم عليها وطلب منها أن تبرّ قسمه، وكانت زينب في أعلى درجات الوعي والعقل وهي في مجلس يزيد، فلا يمكن أن تحنث بالقسم الذي تحوّل إلى عهد بينها وبين الحسين(ع) مع أن الرواية لا تنسجم مع جلالة قدر زينب وصمودها وصبرها، خاصة وأنها كانت تعمل على أن تجسّد هذا العنفوان الذي تمثلت به عندما قالت ليزيد: "إني لأستصغر قدرك" وعندما قالت له: "فكِد كيدك وناصب جهدك واسعَ سعيك، فإنك لن تميت وحينا ولن تمحو ذكرنا"، هذا العنفوان ـ مضافاً إلى العهد الذي أعطته للإمام الحسين ـ يبعد أن تكون زينب(ع) فعلت ذلك، وإن كانت المصيبة مهولة بحيث يمكن أن تفتّت الصخر.
وأما الموقف الثاني فقد قال (المفيد): "لما قتل علي بن الحسين الأكبر خرجت زينب أخت الحسين مسرعة تنادي يا حبيباه ويا ابن أخاه، وجاءت حتى انكبّت عليه فأخها الحسين فردّها إلى الفسطاط".
وهذا الموقف عاطفي أيضاً، فلقد كانت تحب عليّ الأكبر حباً شديداً، لأنه كان في مستوى الحب من خلال وعيه وورعه وقوّته وصلابته، ويقول بعض المحللين أنها لم تندفع تلقائياً على أساس عاطفي ولكنها أرادت أن تحتوي حزن الحسين(ع) الذي بلغ حداً كبيراً، حتى قال: "على الدنيا بعدك العفا".. فهي أرادت أن تحتوي حزن الحسين عندما حاولت أن تشغله بها, وقد يكون ذلك صحيحاً في التحليل.
وينقل أنها عند مقتل الحسين(ع) وقفت وبكت وتحدّثت بحديث فيه الكثير من العاطفة، وقالت لعمر بن سعد وهي توبّخه "أيُقتل أبو عبدالله الحسين وأنت تنظر إليه؟".
وعندما مرّوا بها على الجسد ـ أثناء الرحيل ـ بكت أيضاً وتحدثت، وهذه هي المواقع التي يمكن أن نجد فيها روايات موثوقة لحزن زينب(ع) مما ينقله (الشيخ المفيد) و(ابن طاووس).
أما عندما انتهت هذه المرحلة وبدأت مرحلة الكوفة، وكانت مرحلة التحدي، وقفت وتحدّت (ابن زياد) بطريقة شعر فيها أن عليه أن يقتلها لولا أن أحد أصحابه صرفه عن ذلك.
وهكذا عندما أراد أن يقتل علي بن الحسين(ع) عندما قال له: "أبِكَ جرأة عليّ؟" عند ذلك أمر بأن يُضرب عنقه فوقفت زينب(ع) وقالت: "يابن زياد حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: لا والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه"، تعجب ابن زياد من موقفها وقال: "عجباً للرحم، والله إني لأظنّها ودّت أني قتلتها معه"( ).
هكذا وقفت بكل صلابة وتحدت ابن زياد ودافعت عن الإمام زين العابدين(ع) في هذا المجال.
لذلك فإنني أحب أن أركز على أن الأسلوب الذي يدرج عليه كثير من الخطباء في تصوير زينب(ع) كامرأة باكية من موقع إلى موقع بحيث لا يشعر الإنسان أنه أمام تلك الشخصية التي أعطت العنفوان الإسلامي قوة وأعطت معنى الصبر الكثير من معنى التحدي للحزن، هو أسلوب لا ينسجم وحركتها في خط المأساة وإنني أرى أن هناك فرقاً بين أن تقول إن زينب(ع) عاشت العاطفة وعبّرت عنها في كربلاء، وبين أن تقول إنها كانت باكية نائحة في كل فصول كربلاء إذ لم تكن زينب(ع) مجرد نائحة تنتقل من جسدإلى جسد ومن موقع إلى موقع، لأن زينب كانت مشغولة بالحسين(ع) وبإدارة الواقع كله، لا سيما الواقع النسوي وواقع الأطفال، الذي كان الحسين وأصحابه وأهل بيته في شغل عنه..
وكانت تراقب حركة الحسين(ع) ولم يكن عندها في هذه السويعات من الصباح إلى ما بعد الظهر وقت لأن تبكي بالطريقة التي تذكر، فلقد كانت ترافق الحسين(ع) وتلاحقه لأنها كانت تعيش عمق معناه في شخصيتها، وكانت تعيش حركية المعركة بكل دقائقها.. ولقد قالت ـ  كما جاء في بعض الروايات وهي تضع يديها تحت جسد الحسين(ع): "اللهم تقبّل منا هذا القربان"، ومعنى ذلك أن زينب(ع) كانت تعي معنى المعركة ومعنى القربان الإلهي الذي يقدّم في المعركة من أجل رضا الله ومن أجل الجهاد في سبيل الله.
لقد عاشت زينب العنصر العاطفي، ولكنه لم يسقطها فيجعلها مجرد نائحة، لقد كانت صابر في حزنها وكان حزنها حزناً مميزاً في أنها كانت تختار، للتعبير عنه، المفاصل التي كانت القضية تحتاجها آنذاك.
صلابة الموقف:
أما صلابة موقفها، فقد تمثلت في خطابها لأهل الكوفة، وفي محاورتها الشديدة القاسية لابن زياد، وفي خطبتها القوية الراعية المثقفة الواقعية المنفتحة على كثير من دقائق القرآن الكريم وحركية القرآن في الواقع عندما كانت تستشهد بآيات الله سبحانه وتعالى.
وفي نهاية المطاف أذكر لكم هذه القصة في مجلس يزيد التي بيّنت عظمة زينب(ع) في صلابة الموقف وفي تأكيدها على الخط الإسلامي حتى في أصغر حكم شرعي.. قالت فاطمة بنت الحسين ـ كما يروي المفيد في الإرشاد ـ "لماذا جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا، فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر، فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية ـ يعنيني ـ وكنت جارية وضيئة فأرعدت وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمتي زينب وكانت تعلم أن ذلك لا يكون، فقالت عمتي للشامي: كذبت ولؤمت، والله ما كان ذلك لك ولا له، فغضب يزيد وقال: كذبتِ والله، إن ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت، قالت: كلاّ والله ما جعل لك الله ذلك إلا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها"، لأن الإسلام لا يجوّز لمسلم أن يسترقّ مسلمة "فاستطار يزيد غضباً وقال: إيايّ تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوكِ وأخوكِ، قالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخير اهتديت أنت وأبوك وجدك إن كنت مسلماً، قال كذبتِ يا عدوة الله، قالت: أنت أميرٌ تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك، فكأنه استحيا وسكت"، لأنها خاطبته بالحجة وخاطبها بالعدوان.
هذا الموقف ـ أيها الأحبة ـ يمثل الموقف الزينبي الذي يواجه السلطان الذي يملك الواقع كله آنذاك، ويمثل الخطاب الإسلامي الصلب الذي يقول إن للإسلام حدوده وإنك إذا كنت تتجاوز هذه الحدود فأنت تخرج من الإسلام، وتعرّفه أن الإسلام هو ملّتنا، لا من الناحية الشخصية، فالإسلام دين الله، بل أرادت أن تقول ليزيد، يا يزيد إن الله أوحى بالإسلام في بيت رسول الله(ص) وهو جدنا ونحن عشنا الإسلام ورضعناه وترعرعنا في أحضان رسول الله وفي أجوائه.. ولذلك إذا كنت مسلماً فإن إسلامك انطلق من هذا البيت، ولكنك لم تحترم هذا البيت، بل اضطهدته بالرغم من أن هذا البيت لا يزال يمثل القيادة الإسلامية في كل معناها وطهرها وصفائها.
الارتفاع إلى مستواها:
أيها الأحبة، في ذكرى ولادة السيدة زينب(ع) علينا أن نرتفع إلى هذا المستوى الذي يمثل هذه المرأة المسلمة الصابرة الواعية المتحدية القوية التي أعطتنا شرعية أن تقف المرأة المسلمة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في مجتمع الرجال، ولتتحرك من الموقع السياسي فيما إذا كان للواقع السياسي معنى هناك.. وإنما أخذت زينب(ع) الشرعية في موقفها هذا من الخط الإسلامي الأصيل الذي تجسّد في أمها فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين(ع) عندما وقفت خطيبة في مسجد رسول الله(ص)، وعندما راحت تتحدث مع رجال المهاجرين والأنصار..
إنها أعطت شرعية ذلك للمرأة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في الخط الأخلاقي للإسلام وفي الجانب الاجتماعي والثقافي والسياسي، ولم يكن كلام زينب اطضراراً ولكنه كان اختياراً من خلال ما كانت تشعر أنه مسؤوليتها الشرعية بأن تقف ضد الظالم هنا والطاغية هناك، وضد المنحرفين بين هذا وذاك.
في مولد زينب(ع) نكبر كثيراً ونعي كثيراً ونحصل على أكثر من درس، لذلك أقول لكم ـ أيها الأحبة ـ عندما تدخلون حرم السيدة زينب وتزورونها، فعليكم أن تعيشوا مثل هذه الأجواء بأن تتمثلوها في كربلاء وأن تتمثلوها في الكوفة وفي الشام، كيف انطلقت وكيف تحدّت وكيف وعظت وكيف تحرّكت.. فهذا هو معنى الزيارة، فليست الزيارة كلمات تقولها دون معنى ولكنها وعي جديد تعشه وقدوة تتحرك بها( ). والحمدلله رب العالمين.

نظراً لأن سماحة السيد الجليل ـ دام ظله ـ تناول خطبة الزهراء في المسجد النبوي الشريف على أربعة محاضرات، ننشر نصّ الخطبة كاملاً في المقدمة للإفادة.

النصّ الكامل لخطبة
فاطمةالزهراء(عليها السلام)
روى عبدالله بن الحسن بإسناده عن آبائه(عليهم السلام): أنه لما اجتمع أبوبكر وعمر على منع فاطمة(ع) فدكاً، وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية (أبيها) رسول الله(ص) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، فجلست، ثم أنّت أنةً أجهش لها القوم بالبكاء، فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هُنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله(ص) وآله وسلّم، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها، فقالت(ع):
"الحمدلله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعمٍ ابتدأها، وسبوغ آلاءٍ أسداها، وتمام مننٍ أولاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، ونبدهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنّى بالندب إلى أمثالها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمةٌ جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيّته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريّته، وإعزازاً لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته، وحياشة لهم إلى جنته.
وأشهد أن أبي، محمداً، النبيّ الأمي(ص)، عبده ورسوله اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذا الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة علماً من الله تعالى بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفةً بمواقع المقدور.
ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأى الأمم فِرَقاً في أديانها، عُكّفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي، محمد(ص) ظُلَمَها، وكشف عن القلوب بُهمَها، وجلّى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصّرهم منالعماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الصراط المستقيم.
ثم قبضه الله إليه قبضة رأفة واختيار، ورغبةً وإيثار، فمحمد(ص) من تعب هذه الدار في راحة، قد حُفّ بالملائكة الأبرار، ورضوان الربّ الغفّار، ومجاورة الملك الجبّار، صلّى الله على أبي، نبيّه وأمينه على الوحي، وصفيّه (في الذكر) وخيرته في الخلق ورضيّه والسلام عليه ورحمة الله وبركاته".
ثم التفتت(ع) إلى أهل المجلس وقالت: أنتم عباد الله نُصبُ أمره ونهيه، وحملةُ دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم، وزعمتم حقّ لكم، لله فيكم عهد، قدّمه إليكم وبقيّة استخلفها عليكم: كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبط به أشياعه، قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤدّ النجاة استماعه، به تنال حجج الله المنوّرة، وعزائمه المفسّرة، ومحارمه المحذّرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة.
فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعنا نظاماً للمِلّة، وإمامتنا أماناً في الفرقة، والجهاد عزاً للإسلام (وذلاً لأهل الكفر والنفاق)، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعرّضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجل، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، واطيعوا الله فيما أمركم به و(ما) نهاكم عنه، فإنه إنما يخشى الله من عبادعه العلماء.
ثم قالت: أيها الناس، اعلموا أني فاطمة وأبي محمد(ص)، أقول عَوداً بدواً ولا أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تُعزوه وتعرفوه، تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، ولنِعْمَ المعزى إليه(ص)، فلبّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثَبَجهم، آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام، وينكث الهام، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتى تفرّى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلّت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماس (الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً) وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطَرَق، وتقتاتون القدّ، أذلّة خاسئين(صاغرين) تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمد(ص) بعد اللّتيّا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغره من المشركين، قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربّصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال وتفرّون من القتال.
فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكةُ النفاق، وسَمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فينق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير مشربكم.
هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يُقْبَر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطةٌ بالكافرين، فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون! وكتا الله بين أظهركم، أموره ظاهرة وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، (و) خلفتموه وراء ظهوركم، أرَغْبَةً عنه تريدون؟أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلاً، ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها ثم أخذتم تورون وقدتها وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي وإهماد سنن النبي الصفيّ، تشربون حسواً في ارتغاء وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء ونصبر منكم على مثل حزّ المدى ووخز السنان في الحشا، وأنتم الآن تزعمون: أن لا إرث لنا، أفَحُكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟ بلى، قد تجلّى لكم كالشمس الاضحية، أنّي ابنته.
أيّها المسلمون! أأُغْلَبُ على إرثيه؟ يابن أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً (على الله ورسوله)! أفعلى عمد تركتم كتاب اله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: "وورِثَ سُلَيمان داود"، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا(ع) إذ قال: "فهَبْ لي من لدُنك ولياً يرثُني ويرِثُ منْ آل يعقوب"، وقال (أيضاً): "وأولوا الأرحام بعضُهُم أولى ببعْضٍ في كتابِ الله"، وقال: "يُوصيكُم الله في أولادِكُم للذَّكَرِ مثْلُ حظِّ الأُنْثَيَيْن"، وقال: "إنْ ترَكَ خيْراً الوصيَّةُ للوالدينِ والأقربينِ بالمعروف حقاً على المتقين"، وزعمتم: ألا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصَّكُم الله بآية (من القرآن) أخرج أبي محمداً(ص) منها؟ أم تقولون: إن أهل الملّتين لا يتوارثان؟ أوَلستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟ فدونكما مخطومة مرحولة تلقاك يوك حشرك، فنعم الحَكَم الله، والزعيم محمد(ص) والموعد القيامة، وعند السااعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم (ما قلتم) إذ تندمون، ولكل نبأ مستقرّ وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذابٌ مقيم.
ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت (لهم): يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي والسِنةُ عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله(ص) أبي يقول: "المرء يحفظ في ولده"؟ سرعان ما أحدثتم، وعَجلان ذا إهالةً ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون مات محمد(ص)؟ فخطب جليل، استوسع وهنه واستنهر فتقه، وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر، وانتشرت النجوم لمصيبته، وأكدت الآمال، وخشت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جلّ ثناؤه، في أفنيتكم، في ممساكم، ومصبحكم، (يهتف في أفنيتكم) هتافاً، وصراخاً، وتلاوةً، وألحاناً، ولقبله ما أحل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل وقضاء حتم:
{وما محمّد إلا رسول قد خلَتْ من قبْلِه الرسل أفإنْ مات أو قُتِل انقلبتُم على أعقابكُم ومن ينقلب على عقِبَيْه فلن يضُرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}، إيهاً بني قيلة، أأهضمُ تراث أبي؟ وأنتم بمرأى ومسمع؟ ومشتدىً ومجمع؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدّة، والأداء والقوة وعندكم السلاح والجُنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت.
قتلتم العرب، وتحمّلتم الكدّ والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودرّ حلب الأيام، وخضعت ثغرة الشرك، وسكتت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج (والمرج)، واستوسق نظام الدين، فأنّى حرتم بعد البيان؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم بعد الإقدام؟ وأشركتم بعد الإيمان؟ بؤساً لقوم نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم، وهمّوا بإخراج الرسول، وهم بدأوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.
ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة ونحوتم بالضيق بعد السعة، فمججتُم ما وعيتم، ودسمتم الذي تسوغتم فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اله لغنيٌ حميد.
ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنّها فيضة النفس، نفثة الغيظ، وخور القناة، وبثّةُ الصدر، وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف باقية العار، موسومة بغض الله شَنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنّا منتظرون.
فأجابها أبوبكر عبدالله بن عثمان، وقال: يا بنت رسول الله! لقد كان أبوك ـ (ص) ـ بالمؤمنين عطوفاً كريماً، (و) رؤوفاً رحيماً، وعلى الكافرين عذاباً أليماً، وعقاباً عظيماً، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا إلفك دون الأخلاء، آثره على كل حميم وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبّكم إلا سعيد، ولا يبغضكم إلا شقيّ بعيد، فأنتم عترة رسول الله ـ (ص) ـ الطيّبون، والخِيَرة المنتجبون، على الخير أدلّتنا، وإلى الجنّة مسالكنا، وأنتِ يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، والله ما عدوت رأي رسول الله، وعلمت إلا بإذنه، وإن الرائد لا يكذب أهله، وإنّي أشهد الله وكفى به شهيداً، أني سمعت رسول الله(ص) يقول: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضةً، ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فَلِوَليِّ الأمر بعدنا يحكم فيه بحكمه" وقد جعلنا ما حاولته في الكراح والسلاح، يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفار، ويجادلون المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين، لم أنفرد به وحدي، ولم أستبدّ بما كان الرأي عندي، وهذه حالي ومالي، هي لك (و) بين يديك، لا نزوي عنكِ، ولا ندخر دونكِ، وأنتِ سيدة أُمَّةِ أبيكِ، والشجرة الطيبة لبنيكِ، لا ندفع ما لكِ من فضلكِ، ولا نوضع من فرعك وأصلكِ، حكمكِ نافذ فيما ملَكَتْ يداي، فهل ترين أني أخالف في ذلك أباكِ(ص).
فقالت(ع): سبحان الله، ما كان أبي رسول الله(ص) عن كتاب الله صادفاً ولا لأحكامه مخالفاً! بل كان يتّبع اثره، ويقتني سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور والبهتان، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً يقول: "يرِثُني ويَرِثُ منْ آلِ يعقوبَ" (ويقول): "ووَرِثَ سُليمانُ داود"، فبيّن الله عز وجل فيما وزّع من الأقساط، وشرّع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح به علة المبطلين، وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين، كلا بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون.
فقال لها أبوبكر: صدق الله وصدق رسوله، وصدقت ابنته، أنتِ معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجّة، ولا أُبعد صوابكِ، ولا أُنكر خطابكِ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلَّدوني ما تقلّدتُ، وباتّفاق منهم أخذتُ ما أخذتُ، غير مكابرٍ ولا مستبدٍ ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة(ع) إلى الناس وقالت:
معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل المغيضة على الفعل (القبيح) الخاسر، أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها؟
كلاّ بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأوّلتم، وساء ما به أشرتم، وشرّ ما منه اغتصبتم، لتجدنّ والله محمله ثقيلاً، وغبّه وبيلاً، إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما ورائه (من البأساء) والضرّاء، وبدا لكم من ربّكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون.

ثم عطفت على قبر النبي(ص) وقالت:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها
وكلّ أهل له قربى ومنزلة
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم
تجَهَّمَتْنا رجال واستخفّ بنا
وكنت بدراً ونوراً يُستضاء به
وكان جبرئيل بالآيات يونسنا
فليت قبلك كان الموت صادفنا
إنا رزينا بما يُرزَى ذوو شجن
        لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب
عند الإله على الأدنين مقترب
لمّا مضيت وحالت دونك الترب
لمّا فقدت وكلّ الإرث مغتصب
عليك ينزل من ذي العزّة الكتب
فقد فقدت وكل الخير محتجب
لما مضيت وحالت دونك الكثب
من البريّة لا عجم ولا عرب



المحاضرة الخامسة عشرة: 17 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق 5 - 9  – 1998م

فاطمة الزهراء(ع)
الرمزُ الإسلامي المقدّس لدى جميع المسلمين

"نستطيع أن نقدّم فاطمة الزهراء(ع) إلى كلّ المسلمين كامرأة يلتقي جميع المسلمين عليها بالرغم من اختلاف مذاهبهم"


ـ ذكرى الصدّيقة الطاهرة(ع).
ـ في وصف عائشة لها.
ـ في طفولتها الأولى.
ـ في المدينة كما في مكة.
ـ شخصيّتها الثقافية.
ـ سيدة نساء العالمين.
ـ الصدّيقة الطاهرة.
ـ خطبتها في المسجد النبوّي الشريف.
ـ الحديث عن النعم الإلهية.
ـ فلسفة الشهادة.
ـ إبداع الخلق.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

ذكرى الصديقة الطاهرة(ع):
في ذكرى السيدة العظيمة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع) التي جاء في الحديث عنها أنها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء المؤمنين، وسيدة نساء أهل الجنّة، وذلك في روايات متنوعة عن رسول الله(ص).
هذه المرأة التي لم تتجاوز سن الشباب، ولكنها في عمق عناصر شخصيتها في الداخل وفي الخارج، استطاعت أن تحصل على المحبة الشاملة في العصر الذي عاشته.
وهكذا نجد أنها الشخصية النسائية المقدسة في الإسلام لدى المسلمين كلهم، فإننا إذا قرأنا ما كتبه علماء المسلمين من السنّة ومن الشيعة نجد أنهم يتحدثون عنها بكل تعظيم واحترام ومحبة من خلال عناصر شخصيتها المميزة.
ومن هنا فإننا نستطيع أن نقدمها إلى المسلمين جميعاً كامرأة يلتقي المسلمون عليها بالرغم من اختلاف مذاهبهم، لا لأنها ابنة رسول الله(ص)، ولكن لأنها عاشت في شخصيتها شخصية رسول الله(ص) في كثير من عناصرها المميزة المستلهمة من عناصر شخصيته المميزة.
كما تصفها عائشة:
فنحن نقرأ في الحديث عن شخصيتها في حركتها عن زوجة أبيها عائشة أنها كانت تقول عنها: "ما رأيت أحداً من الناس أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله(ص) من فاطمة كانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقبّل يديها وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها قامت إليه ورحّبت به وقبّلت يديه"( )، وفي رواية: "تمشي ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله(ص)"( )، حتى أن هناك حديثاً يذكر أنها تشبه رسول الله(ص) في الصورة أيضاً، أما عندما ندخل إلى عمق شخصيتها من الداخل فنرى أنها الإنسان الذي اندمج برسول الله(ص) اندماجاً قلّ نظيره بين ابنة وأبيها.
في طفولتها الأولى:
فقد كانت في طفولتها الأولى تتحرك مع أبيها عندما كان يذهب إلى المسجد ليصلّي وهي في سن يقول بعض المؤرخين أنه الخامسة، وبعضهم إذا زاد السن كثيراً يصل بها إلى العاشرة.
كانت تراقب أباها وهو في المسجد، وتراقب الناس من حوله من المشركين وهم يتربصون به السوء، ونطرت ذات يوم فإذا بهم يلقون (سلل جزور) وهي أمعاؤه على ظهره، فبادرت وهي تبكي، ورفعته عن ظهره، ورآها كما يقول (ابن كثير) في تفسير نقلاً عن (صحيح ابن حبان)، رآها تكي ذات يوم وقال لها ما يبكيك يا بنيّتي؟ فقالت أنها أحست أن هؤلاء القوم من أبي جهل وغيره يتآمرون على النبي(ص) ليقتلوه، وعبّرت عن ذلك لأبيها وطمأنها أبوها(ص)، وكانت تتعلم عنده، وكانت تعطيه من عاطفتها كل ما في روحها من سر العاطفة حتى عنها "إنّها أمّ أبيها".
في المدينة كما في مكة:
ورأينا أن هذه العلامة امتدت إلى المدينة عندما هاجرت ملتحقة به، وبدأت تعيش معه في المسؤوليات التي تحمّلها في حربه وسلمه ودعوته، وكان بيتها بيته، وكان إذا قدم من سفر كان بيتها هو أول بيت يقصده ويرتاح إليه قبل أن يذهب إلى بيته الخاص، وعندما يخرج إلى سفر كان بيتها آخر بيت ينطلق منه إلى سفره.
وكانت تتحسس كل ما يحبه وكل ما يثقله، وكان يحتضنها بروحه وعاطفته وقلبه.
وكان يعرف سرها من خلال ما تحمله ن عمق الروحانية لله، وكان يراها وهي ابنته وتلميذته، كيف تجلس مبتهلة لله سبحانه لله سبحانه وتعالى في جوف الليل، وكان يراقب حركتها في حديثها كله فكان يراها الأصدق بين المسلمين، وقد شهدت لذلك زوجة أبيها عائشة، فقالت: "ما رأيت أحداً كان أصدق منها إلا الذي ولدها"( ).
وقد تعلّمت ذلك من أبيها، فكان رسول الله(ص) الأصدق وكان الصادق الأمين وكانت الصادقة الأصدق، ومن الطبيعي أنها كانت الأمينة بكل ما للأمانة من معنى.
وكانت تعيش مع رسول الله فكره، وبذلك رأينا فاطمة الزهراء(ع) التي لم تدخل إلا مدرسة رسول الله(ص) ولم تتعلم إلا في بيته، أنها كانت تملك من الثقافة ما لم تجده في التراث الذي وصلنا من المسلمين في تلك المرحلة إلا ما جاءنا عن علي(ع) في ذلك.
شخصيّتها الثقافية:
ولهذا فإن المشكلة عند الكثيرين منا أنهم لا يعيشون شخصية الزهراء الثقافية، وعندما ندرس النصوص التي تركها لنا التاريخ عن كلماتها وخطبها ونتعمّق في دراسة الخصائص الموجودة في هذه الخطب من الناحية الثقافية، فإننا نجد أنها كانت تملك ثقافة التوحيد، وثقافة النبوة، وثقافة حركية الإسلام وانطلاقاته، وثقافة الواقع الاجتماعي الذي كان المسلمون يعيشونه، وثقافة الجدال في القضايا التي أثيرت آنذاك للاستدلال بالقرآن في محكم آياته.
وكانت عندما تتحدث عما تؤمن به من حق علي(ع) فإنها لا تتكلم بطريقة عاطفية ولكنها كانت تتكلم بطريقة علمية وثقافية وحركية في الواقع كله، ونحن ندعو إلى أن ندرس الزهراء(ع) في الجانب الثقافي من شخصيتها، كما ندعو إلى دراسة الزهراء(ع) في الجوانب الأخرى من شخصيتها، كالجانب الإنساني في الشمولية الإنسانية وفي المعنى الذي تعيشه تجاه الإنسان الآخر، وفي هذا الانفتاح على الواقع كله، وأن ندرس الجانب الروحي الذي كانت تعيشه مع الله سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى الجانب الحركي في حركتها الثقافية والجهادية وحتى السياسية فيما نصطلح عليه في هذه الأيام بالسياسة.
سيادة نساء العالمين:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ عندما نستوحي كلمة أنها "سيدة نساء العالمين" فلأنها تجمع عناصر الشخصية التي تتميز بها المرأة وترتفع بها حتى تكون في مواقع القمّة، لأن قضية أن تكون سيدة نساء العالمين ليست مجرد مرتبة تُعطاها دون أن تملك عناصرها في شخصيتها، ولكنها مرتبة تعطاها من خلال ما يعرفه الله سبحانه وتعالى الذي خلقها من عناصر هذه الشخصية.
الصدّيقة الشهيدة:
ولم يكن اصطفاء الله لأنبيائه ولأوليائه وللنساء اللاتي كرّمهن ينطلق من فراغ، بل كان اصطفاء ينطلق من الخصائص التي تجب هؤلاء إلى الله وتجعلهم في المستوى الذي يملكون فيه حمل الرسالة وتجسيد القيم الروحية في الحياة.
وقد نستوحي من بعض الروايات التي وردت عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم(ع) أنها كانت صدّيقة شهيدة، أنه كان يستوحي ما تحدّث الله به في القرآن عن الصديقين والشهداء وهم الذين يتولون الشهادة على الناس، فنحن نستوحي من هذه الرواية أنها كانت من الصديقين الذين يعيشون الصدق مع النفس ومع الله ومع الناس، وأنها كانت من الشهداء الذين يشهدون على الناس في خط الرسالة كما هم الأنبياء وكما هم الأولياء الذين اصطفاهم الله.
إن ذكر كلمة الشهيدة إلى جانب كلمة الصدّيقة يوحي بهذا المعنى، لأنه يلتقي مع الإشارة القرآنية في الحديث عن الصديقين وعن الشهداء، وأن عظمة الموقع في إعطاء كلمة الشهادة معنى الشهادة على الناس هو أعظم من الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله.
خطبتها في المسجد النبوي( ):
أما خطبتها في المسلمين في مسجد النبي(ص)، فقد كانت أقرب إلى المحاضرة التعليمية التي اختصرت فيها السيدة الزهراء(ع) أصول العقيدة في ركنيها الأساسيين وهما التوحيد والنبوة، فلقد تحدّثت عن صفات الله سبحانه وتعالى وعن ما أراه الله للإنسان من رسالته، كما تحدّثت عن رسول الله(ص) وعن خصائص الكثير من التشريعات الإسلامية، كما أنها انطلقت إلى المجتمع للحديث عن التاريخ الذي عاشه(ص)، ثم دخلت في الموضوع الذي أثير في قضية إرثها من رسول الله(ص) فهي لم تناقش المسألة مناقشة عاطفية، بل ناقشتها مناقشة علمية تفسيرية بكل دقائق القرآن وبكل أسراره، وقد توجهت إلى الأنصار الذين أحاطوا برسول الله(ص) ونصروه لتؤجّج مشاعرهم في ذلك كله، وقد دخلت في الحجاج آنذاك بالطريقة التي تميّزت بها كامرأة عالمة مثقفة واعية قوية صلبة في الموقف، منطلقة بالكلام في الطريقة التي تثبت بها الحق.
لنقرأ بعض نصوص هذه الخطبة لأنها خطبة طويلة، ففي مقدمتها نقرأ أنها كانت المرأة التي يتفاعل المجتمع كله معها.. كيف؟! تقول الرواية: "لما اجتمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة فدكاً وبلغها ذلك ولاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية أبيها رسول الله(ص) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة، (يعني ستاراً)، فجلست ثم أنّت أنة أجهش القوم لها بالبكاء فارتجّ المجلس ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت ثورتهم افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه".
الحديث عن النعم الإلهية:
هنا قالت، ولاحظوا كيف انطلقت في خطبتها، "الحمدلله على ما أنعم وله الشكر ع لى ما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نعم ابتدأها وبلوغ آلاء أسداها وتمام منن أولاها جمّ عن الإحصاء عددها ونأى عن الجزاء أمدها وتفاوت عن الإدراك أبدها وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها واستحمد إلى الخلائق بإسدالها، وثنّى بالندب إلى أمثالها".
تحدثت عن الله في نعمه، وتحدثت عن الشكر لهذه النعم لتخلق في نفس الناس هذا الانفتاح على الله من خلال الانفتاح على نعمه وعلى شكره، لأن الشكر يتمثل أعظم ما يتمثل بالطاعة لله والابتعاد عن معصيته في كل شيء.
فلسفة الشهادة:
"وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وهنا تحاول أن تفلسف كلمة الشهادة بالتوحيد فتقول(ع): "كلمة جعل الإخلاص تأويلها وضمن القلوب موصولها وأنار التفكّر معقولها" لتوحي إلى الناس أن هذه الكلمة عندما تنطلق من لسان الإنسان المؤمن فلا بد لها أن تتنطلق من عمق الإخلاص في كل ما ترجع إليه من معانٍ، وأن تعيش القلوب أسرارها كلها وآفاقها كلها وامتدادها كله فيما يتصل به الفكر بعضه مع بعض، وأن ينطلق التفكير في حركة عقليّة من أجل أن يتعرّف الأسس العقلية التي تثير في النفس عمق معنى التوحيد.
ثم تتحدث عن الله في صفاته بحيث يمكن القول أنها أعطتهم محاضرة في التوحيد "الممتنع من الأبصار رؤيته" {لا تدركه الأبصار}، "ومن الألسن صفته"، لأنه لا يدرك صفته أي مخلوق ولا نستطيع أن نعرف من الله إلا ما عرّفنا إياه مما تدركه عقولنا ومما أوحى به، أما سرّ الذات وامتداد الصفات فإن ذلك من الغيب الذي لا نملك أية وسيلة إليه، "ومن الأوهام كيفيّته" والأوهام هي التعبير عن المناطق الإدراكية الموجودة في داخل الإنسان، فلا يمكن لهذه الأوهام أن تدرك كيفية الله لأنه من الغيب.
إبداع الخلق:
ثم انطلقت لتتحدث عن ابتداع الله للأشياء، عن خلق الله وإرادته وذلك بالتفريق بين خلقٍ لا مثال له وبين خلق يتحرك من موقع المثال، فقد نرى أناساً يصنعون أشكالاً وألواناً وأشياء ولكن من خلال ما يتمثل أمامهم من نماذج، كما نرى الآن في واقع المكتشفين والمخترعين أنهم قد يصنعون شيئاً مماثلاً للقوانين التي أودعها الله للأشياء لكنهم يصنعونها لا من موقع خلق القانون، ولكن من خلال احتذاء النموذج الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وهذا ما تحدثنا عنه أكثر من مرة عندما تحدثنا عن مسألة الاستنساخ وأن الذين استنسخوا الحيوان أو يريدون أن يستنسخوا الإنسان لم يضعوا قانوناً جديداً ولكنهم استهدوا بالقانون الذي جعله الله للتناسل لأنهم اكتشفوا أن في البويضة (23) كروموسومات، وهكذا في النطفة، فكانت ولادة الكائن الحي من (46) من الكروموسومات، وعلى ضوء هذا أخذوا خلية تشتمل على الرقم (46) وفرّغوا البويضة وأودعوا هذه الخلية في داخلها على نسق القانون الإلهي ولو بشكل آخر، فحصل الاستنساخ، لذلك هم لم يخلقوا قانوناً وإنما استهدوا ذلك القانون.
وبالتالي فإن كل ما صنعه الإنسان في كل ما ابتدعه واخترعه لم يصنع قانوناً، لم يخلق العلماء والمكتشفون والمخترعون ولو قانوناً صغيراً ولكنهم احتذوا القانون الإلهي في ذلك كله.
أما الله سبحانه وتعالى فهو الذي خلق الأشياء بلا نموذج سابق، هو الذي أعطى للمخلوقات النموذج من خلال أنه هو الذي خلق النموذج، وهذا ما عبّرت عنه سيدتنا الزهراء(ع)، حينما قالت: "ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها كونها بقدرته"، لأن قدرته هي التي أعطتها كل ما فيها من عناصر الوجود، "وذرأها خلقها بمشيته من غير حاجة"، والله عندما خلق الكون كله، إنساناً وحيواناً وظواهر كونية وما إلى ذلك، فإنه هو الغني في ذاته لا حاجة به حتى إلى ما خلق، فهو لم يصنع من موقع حاجة كما نصنع نحن من موقع حاجة، ولكنه صنع ذلك لأن حكمته أرادت أن تتمثل بذلك من غير حاجة منه إلى تكوينها ولا فائدة له في تصويرها إلا تثبيتاً لحكمته، باعتبار أن المخلوقات كلها بما تشتمل عليه من العناصر الدقيقة جداً التي وضع الله فيها كل شيء بموضعه تتكامل في إنتاج الكائن الحي، أو في إنتاج الكائن النامي من النبات، أو في إنتاج الظاهرة الكونية، أو في إنتاج الذرات المائية والترابية وما إلى ذلك.
والله أراد أن يبيّن حكمته في ذلك "وتنبيهاً في استطاعته" من خلال هذا الخلق، فلقد خلق الإنسان بعقله، وخلق الحيوان بغريزته، وخلق الملائكة فيما أعطاهم من الخصائص، وخلق الجمادات في ظواهرها ليعرف الإنسان أنه مخلوق لله وأن لله عليه حق الخلق وحق الوجود، وعليه أن يطيع الله في ذلك.
"وتنبيهاً على طاعته وإظهاراً لقدرته وتعبداً لبريّته" يتعبّدوه "وإعزازاً لدعوته"، ثم لم يرد من الناس أن يطيعوه بدون أساس، ولكنه تفضّل عليهم بأن خلق لهم في الدنيا رسالةً وقانوناً على أساس الثواب والعقاب "ثم جعل الثواب على طاعته ووضع العقاب على معصيته ذيادةً لعباده عن نقمته وحياشة لهم إلى جنّته"( )، أي أنه حذّرهم من عقابه حتى لا يقعوا تحت نقمته إذا عصوه، "ودعاهم إلى طاعته حتى يحوشهم إلى جنتّه"، إذا أطاعوه.
وبهذا نعرف ـ أيها الأحبة ـ في هذه الكلمات البسيطة القصيرة أنها تتحدث عن فلسفة التوحيد في كلمة التوحيد، وتتحدث عن عمق معنى التوحيد في الله سبحانه وتعالى مما يمكن للباحث أن ينطلق في كل من هذه الكلمات إلى أن يبدأ بحثاً فلسفياً يمكن للناس أن يتمثلوا من خلاله سرّ الخالق وسرّ المخلوق.
ثم انطلقت لتتحدث عن رسول الله(ص)، وهذا ما سوف نتحدث عنه في الأسبوع القادم إن شاء الله. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السادسة عشرة: 21 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق 12 - 9  – 1998م


أسرارُ النبوّة والبعثة والقرآن


"كانت الزهراء(ع) تشعرُ بأنها أمينة على خطّ رسول الله(ص) لذلك وقفت واعظةً.. مرشدةً.. ناقدة"


ـ الفصل الثاني من خطبة الزهراء(ع).
ـ أسرار النبوّة.
ـ عبودية النبي(ص) لله.
ـ سرّ البعثة.
ـ بعد رحيله(ص).
ـ التذكير بالمسؤوليات.
ـ تركة القرآن.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

الفصل الثاني من خطبة الزهراء(ع):
تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الخطبة التي ألقتها سيدتنا فاطمة الزهراء(ع) في مسجد رسول الله(ص)، على ملأ كبير من المهاجرين والأنصار من أجل أن تحدّد موقفها من الأحداث الطارئة التي حدثت بعد وفاة النبي(ص) بما يخصّها ويخصّ الخط الإسلامي الأصيل المتمثل بالإمامة الواعية الشجاعة المنفتحة على الله وعلىالناس والحياة من أوسع الأبواب العميقة في فكرها الممتد في طروحاتها التي تنطلق مع الزمن كله، فليس لديها ماضٍ وحاضر ومستقبل فيما تتحدث به من مشاكل الإنسان، لأن حديثها هو حديث الإسلام كله وللإنسان كله وللحياة كلها وهو علي بن أبي طالب(ع).
وقد قلنا في حديثنا السابق أن خطبة الزهراء(ع) هي محاضرة إسلامية فكرية تتناول أسرار التوحيد والنبوة وحركة النبي(ص) وعلاقتها به، كما أنها تتضمن أسرار التشريع الإسلامي في كثير من مفرداته، ثم تتحرك نحو الواقع الذي حدث بعد رسول الله(ص) وكيف انحرف عن خط الاستقامة وعن المسار الطبيعي، ثم تدخل في جدل فقهي قرآني حول ما ادّعي ضدها من أنها لا ترث من رسول الله(ص) لأن الأنبياء لا يورّثون أحداً.
أسرار النبوّة:
لقد تحدثنا عن الفصل الأول المتعلّق بالتوحيد، وها نحن الآن ندخل في الفصل الثاني، فالزهراء(ع) تقول: "وأشهد أن أبي محمداً(ص) عبده ورسوله اختاره وانتجبه قبل أن أرسله وسمّاه قبل أن اجتباه واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة وبستر الأهاويل مصونة".
إنها تتحدث عن أن قضية النبي(ص) هي قضية حدّد الله مسارها في وقتها قبل أنيخلقه واصطفاه نبياً من خلال ما يعرفه من عناصر الشخصية الكامنة في داخله عند خلقه، وبذلك ولد النبي(ص) واسمه عند الله ونبوّته عند الله تعالى، ولكن فعلية هذه النبوة وحركتها كانت تنتظر الأربعين سنة لحكمة يعلمها الله في ذلك، فهو النبي في الدور الجنيني للنبوة قبل أن يكون جنيناً في بطن أمه.
وهكذا يقدّر الله سبحانه وتعالى للحياة رسالاتها ورسلها وخططها ونظامها وقوانينها قبل أن يخلقها، لأن كل شيء جاهز في علمه، ولكن عندما تتعلق إرادته بالشيء لكي يوجد رسولاً أو رسالة أو نظاماً أو قانوناً فكما تذكر الآية الكريمة: {إنّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ له كُن فيكون}( ).
عبودية النبي(ص) لله:
وهنا لا بأس أن نتوقف ـ ولو وقفة سريعة ـ عند قول سيدة النساء(ع) عن أبيها "عبده ورسوله" وعند هذا التأكيد في الحديث عن الرسول(ص) أنه عبد الله قبل أن يُتحدث عنه أنه رسول الله، وهذا أمر يشمل الذين اصطفاهم الله لنبوّته ولإمامته ولولايته، فالمسألة تتحرك من خلال أن عظمة الرسول(ص) في صفاته وعظمة الإمام(ع) إنما هي في عمق معنى العبودية لله وفي سعة حركة هذه العبودية، فعبوديته لله تتضمن عمق المعرفة بالله بحيث أن الإنسان كلّما عرف الله أكثر أحسّ بعمق ا لعبودية وسرّها في شخصيته أكثر.
وربما كان هذا نوعاً من أنواع الإيحاء بأن العبودية كانت أولاً وبالعبودية اجتباه الله لرسالته، ومن الممكن أن يكون إيحاء هذه الكلمة للناس أن لا يأخذهم الغلوّ فيمن اجتباهم الله واصطفاهم، وأن لا يخرجوهم عن حدّ العبودية فيما يعظّمونه من دور الرسالة أو الإمامة، لأن الله استقلّ بالربوبية ولا يشاركه فيها غيره، فليس عندنا نصف إله وربعُ إله وما إلى ذلك، سواء كان ذلك بالاستقلال أو بالإذن، لأن الله لم يأذن أن يكون غيره في الحياة إلهاً أو فيه شيء من الألوهية فيما تعنيه خصوصية الألوهية بالذات.
لذلك علينا أن نتمثّل النبي(ص) عبداً لله في أعلى درجات العبودية وأعمقها قبل أن نتمثله رسولاً "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اختاره وانتجبه قبل أن أرسله"، فقد كان في علم الله أن يختاره نبياً في الموقع الأسمى للنبوّة "وسمّاه قبل أن اجتباه" أي قبل أن اختاره "واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة" إذ لم يكن هناك أحد عندما اصطفاه الله وانتجبه واختاره وسماه "وبستر الأهاويل مصونة"، وربما يكون المراد من ستر الأهاويل ستر العدم باعتبار ما يلحق الأشياء من موانع الوجود وعوائقه "وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله" لماذا اختاره؟ ولماذا انتجبه" ولماذا قدّر نبوّته قبل أن يخلقه "علماً من الله بمآيل الأمور" في حاجاتها للرسالة وللرسول "وإحاطة بحوادث الدهور"، لأن الله أحاط بعلمه حركة الدهور من دهر إلى دهر في قضاياها وأحداثها ووقائعها، فقدّر لها المخلوقين في أسرار خلقهم وأدوارهم وأوضاعهم وما حمّلهم من مسؤولية.
"ومعرفة بمواقع الأمور"حيث أنالله تعالى يحيط بمواقع الأشياء وقدرها قبل أن توجد، وكان هذا هو تقدير البعث.
سرّ البعثة:
"ابتعثه الله إتماماً لأمره" لأنه تعالى أراد منذ أن اختاره في عالم الغيب نبياً، أراد له أن يوجد نبياً، ولذلك ابتعثه "وعزيمة على إمضاء حكمه" في نبوّته بكل مسؤوليتها وحركيتها "وإنفاذاً لمقادير حتمه"، أي ما حتمه أو "لمقادير حكمه" أو "لمقادير حكمته" حسب تعدد الروايات "فرأى الأمم" وهذا هو سرّ بعثة نبينا "فرقاً في أديانها" منهم من يعبد الأوثان ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من انحرف عن خط الرسالات التي كانت في صفائها ونقائها أول الأمر وعندما امتد بها الزمن انحرفت.
"عكّفاً على نيرانها" تعكف على عبادة النار "عابدة لأوثانها منكرة لله مع عرفانها ربّها فأنار الله" فجاء الضوء والإشراق والنور الروحي في النبيّ الذي تحوّل إلى روح تتجسّد، وانطلقت منه الشمس الإنسانية لأن النبي(ص) كان شمساً إنسانية نوراً كلها، ومن هنا كان دوره في أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلو كان في عقله شيء من الظلمة أو كان في قلبه شيء من الظلمة، فكيف يمكن أن يعطي النور وهو يعيش هذا الظلام، وهو الذي جاء بالرسالة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
"فأنار الله بأبي ظلمها وكشف عن القلوب" والقلوب في المصطلح القرآني هي كل مواقع الإدراك والإحساس، فيمكن أن تطلق القلب على العقل، وعلى القلب، أي مكامن الإحساس "وكشف عن القلوب بُهمها" أي كل مشكلات الأمور التي تعيش في عقل الإنسان، مما يفقد الوضوح فيها لإبهامها عنده، فجاء النبي(ص) برسالته من أجل أن يحلّ مشكلات هذه الأمور، أو التي تعيش في الجانب الإحساسي والشعوري للإنسان من التعقيدات العاطفية والإحساسية، فلقد جاء النبي(ص) من أجل أن يحلّ مشكلات العاطفة، كما يحلّ مشكلات العقل "وجلا عن الأبصار غممها" والمراد ليس الأبصار المادية الحسيّة بل الأبصار الروحية {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}( )، فقد يعيش بصر القلب في حيرة ولبس وعمى، فتأتي الرسالة من أجل أن تجلو هذه الحيرة وهذا اللبس، الذي يغمّ الإنسان ويحجب عنه وضوح الرؤية للأشياء.
"وقام في الناس بالهداية" فالله تعالى أرسله هادياً إلى الناس كلهم "فأنقدهم من الغواية" إلى خط الرشد "وبصّرهم من العماية" إلى خط البصر والبصيرة "وهداهم إلى الدين القويم ودعاهم إلى الصراط المستقيم"، فهذه هي العناوين التي تمثل الحاجة الواقعية إلى رسالته(ص) كما تمثّل حركيّته بشكل عام في خط الرسالة.
بعد رحيله(ص):
"ثم قبضه الله قبض رأفة واختيار" {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}( )، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}( ) وقبض الرأفة لأنه نبيُّه الذي عاش في رحمة الله ومحبّته ومحبّته "ورغبة وإيثاراً"، حيث أن النبي(ص) كان يرغب في لقاء ربه وكان يؤثر هذا اللقاء على الدنيا عندما خيّر بين الدنيا وبين لقاء الله.
"فمحمد(ص) من تعب هذه الدار في راحة" ولقد كانت تذكر ذلك وهي تستعرض متاعبه وأذاه والمشاق كلّها التي عاشها حتى قال "ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت" لقد شعرت كيف أن هؤلاء القوم المشركون عطّلوا الخط الذي أراد له النبي(ص) أن ينفتح على العالم كله، بحروبهم وتعقيداتهم وكل مشاكلهم وأوضاعهم، وكيف كان يعاني من شركهم، وكان يتألم لهم، ولذلك كانت نفسه تذهب عليهم حسرات وهي إذ تشعر بتعب أبيها فيما عاشته معه في كل تعب هذه الدار، تتصوره في جنات الله فيما أخبرت به عن مواقعه كما كان يروى أن هناك ملكاً كان يحدثها عن أبيها عن ذلك "قد حفّ بالملائكة الأبرار ورضوان الربّ الغفّار ومجاورة الملك الجبّار، صلى الله على أبي نبيّه وأمينه على الوحي وصفيّه في الذكر وخيرته من الخلق ورضيّه" إنها تتحدث عن أبيها في الصفات الأصيلة من شخصيته حيث كان الأمين على وحي الله لم يخنه في أية زيادة أو نقصان "ولم يهن ولم يلن"، لم يتراجع في التحديات التي واجهته كلّها.
التذكير بالمسؤوليات:
ثم التفتت(ع) إلى أهل المجلس بعد أن انتهت من الحديث عن الله وعن بعثة رسول الله(ص) وأرادت أن تعرف هؤلاء المهاجرين والأنصار مسؤوليتهم، فليست هي في أن يفتّش كل واحد منهم عن ذاته أو عن عقده النفسية أو عن مطامعه أو ينحرف كل واحد منهم عن الحق الذي يعرف، أو ينقض العهد الذي عاهد عليه الله ورسوله، وإنما كانت تريد لهم أن يفكروا في طبيعة مسؤولياتهم بين ما حمّلهم الله من مسؤولية وما يعيشونه من انحراف عن خط تلك المسؤولية.
وإني لأتصور الزهراء(ع) وهي تقف في شموخ الرسالة وعنفوان الموقف وكأنها تخطابهم من فوق لأنها كانت تشعر بأنها أمينة على خط رسول الله(ص)، فهي بضعة منه، ولأن عقلها كان عقله وروحها كانت روحه، ولأنها اندمجت به حتى صارت جزءاً منه، وهذا ما نستوحيه من قوله(ص): "فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويريبني ما يريبها ويغضبني ما يغضبها" فكأنه يتحسس في أذاها أذاه وفي غضبها غضبه وفي كل ما يريبها ما يريبه، لأنها جزء منه، فالكل يتحسس ما يتحسسه الجزء، وهذا هو إيحاء كلمة رسول الله(ص).
لذلك كانت كانت الزهراء(ع) تشعر أنها تقف من أجل أن تحمل ما أودعه رسول الله(ص) عندها فكراً وروحاً وحركة، وكانت تتكلم معهم، وفيهم الشيوخ من المهاجرين والأنصار، معلِّمة واعظة مرشدة ناقدة.
"أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه" فأنتم واقفون أمام أمر الله ونهيه، فقد أراد لكم في نظم أمركم أن تطيعوا أمره فتفعلوه وأن تطيعوا نهيه فتتركوه.
"وحملة دينه ووحيه" فأنتم المهاجرون والأنصار الذين كلّفكم الله ان تحملوا وحيه {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}( )، { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}( ).
"وأمناء الله على أنفسكم" فلقد  جعل الله كل واحد منكم أميناً على نفسه بأن يصفّي نفسه ويزكّيها ويثقّفها ويحرّكها في الطريق المستقيم، وأن يواجه نفسه الأمّارة بالسوء لتكون النفس اللّوامة ولتنتهي إلى أن تكون النفس المطمئنة الراضية المرضية.
إن الله تعالى ـ ومن خلال حديث سيدتنا فاطمة الزهراء(ع) ـ جعلنا أمناء على نفوسنا بان تبلّغ نفسك قبل أن تبلّغ غيرك وحي الله وما يريده لها من الزكاة والتقوى وكيف تكون عنصر خير وإنتاج لكل ما يحقق إرادة الله في الكون.
إن هذه الفقرة من الخطبة "وأمناء الله على نفوسكم" إذا عاشها الإنسان فإنها تحمله إلى آفاق واسعة من كل ما يمكن أن يجعل النفس عنصر حق وخير وعدل وإنتاج وإبداع وعمل في سبيل أن يعطي ذاته كلّها للحياة التي جعله الله أميناً عليها، بحيث إذا خرج الإنسان من الحياة كان حاله  كحال الفاكهة التي تعتصرها حتى تفرغ كل قطرة من الماء فيها فإذا رميتها رميت القشر الذي لا حياة فيه.
فالله تعالى يريد لنا في أمانتنا على أنفسنا أن ننتج أنفسنا وأن نعتصر كل ما فيها من عقل للحق ومن قلب للمحبة والخير ومن طاقة لحركة الحياة في جميع مجالاتها.
"وبلغاؤه إلى الأمم" لأن الله أراد للأمة الأولى التي آمنت بالإسلام أن تكون الأمة المبلّغة الداعية إلى الأمم كلها.
"حقّ لكم" أي جعله الله حقاً لكم "لله فيكم عهد قدّمه إليكم" فقد قدّم الله لكم كل هذا الذي ذكرته وكل هذه الأسماء والخصائص والأدوار.
تركة القرآن:
"وبقية استخلفها عليكم" وهنا دخلت في آفاق القرآن الذي يختزن الحق والعهد "كتاب الله الناطق" الذي ينطق دون أن تسمع صوته، لأن نطق القرآن في آياته يمثل عمق الصوت الإلهي العميق القدر الذي عندما تحدّق فيه فإنك تسمع صوت الله همساً حبيباً يدخل إلى عقلك وقلبك ليزكّي عقلك وقلبك.
"والقرآن الصادق" لأنه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يعطي الحق والصدق في كل شيء "والنور الساطع" {..قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ...}( )، "والضياء اللامع" فقد جعله الله ضياء في ظلمات العقول والقلوب ليعطيها ضوء الحقيقة.
"بيّنة بصائره" فهو الذي يعطي الإنسان البصيرة بكل وضوح ومن دون أي غموض "منكشفة سرائره"  في طبيعة الأفكار التي يثيرها والمناهج التي يحركها "منجلية ظواهره" فأنت عندما تقرأ القرآن تقرأه بكل جلاء فلا غموض فيه ولا تعقيد "مغتبط به أشياعه" فالناس الذين هم شيعة القرآن وأتباعه يشعرون بالغبطة لأن القرآن يبيّن لهم في كل آية يقرأونها علماً جديداً وروحاً جديدة وخلقاً جديداً.
"قائد إلى الرضوان اتباعه" لأن الله يقول {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ...}( )، إنه يهدي الناس إلى رضوان الله وإلى مواقع رضاه وإلى خطوط رضاه وإلى كل ما يمكن أن يحصلوا به على رضاه.
"مؤدٍّ إلى النجاة استماعه"، لأن الإنسان إذا استمع إليه فجعل فكر القرآن فكره وروح القرآن روحه، فإن ذلك يقوده إلى العمل والنجاة {فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..}( ).
"به تُنال حجج الله المنوّرة" فإذا قرأه الإنسان وأراد أن يحتجّ على فكرة أو على ردّ فكرة أو على أية حقيقة في أي جانب، فإن الإنسان عندما يقرأ القرآن بحججه وببراهينه فإنه يستطيع من خلال ذلك أن يأخذ الحجّة في مواجهة التحديات كلها وشرح الحقائق والأفكار كلها.
"وعزائمه المفسّرة" في أذكاره وفيما يختزن من الإرادة والعزيمة والقوة "ومحارمه المحذّرة" التي حرّمها الله سبحانه وتعالى والتي تحذّر الناس من الانحراف عن خط الحرام، لأن الله يحذّرهم عذاب جهنم "وبيّناته الجالية البارزة، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة" التي ندب الله إليها وحثّ عليها عباده وأراد للإنسان أن يتحرك فيها وأن يأخذ بها "ورخصه الموهوبة" التي وهبها الله لعباده فيما رخّص لهم من الأمور من أجل أن يعيشوا في فسحة وراحة أمام ما حرّمه عليهم هنا وأوجبه عليهم هناك "وشرائعه المكتوبة" التي فرضها الله تعالى على الناس.
وبهذا أعطت الزهراء(ع) لهؤلاء درساً في أسرار القرآن وفي خصائصه وفيما يمكن للإنسان أن يصل إليه، وبدأت بعد ذلك الحديث عن التشريعات وأسرارها، وهذا ما نتحدث عنه إن شاء الله في الأسبوع القادم. والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة السابعة عشرة: 28 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق 19 - 9  – 1998م


أسرارُ التشريع الإسلاميّ ومراميه


"لقد ثقّفت الزهراء(ع) بخطبتها المسلمين بمعاني الصلاة والزكاة والصيام والحج كما أرادها الله تعالى وكما جاء بها النبي(ص)"


ـ الفصل الثالث من خطبة الزهراء(ع).
ـ الخروج من جمود الممارسات.
ـ أسرار الأحكام الشرعية.
ـ الإيمان تطهير من الشرك.
ـ الصلاة تنزيه عن الكبر.
ـ الصلاة خير موضوع.
ـ الزكاة تزكية ونماء.
ـ الصوم تثبيت للإخلاص.
ـ بالحج يُشاد الدين.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

الفصل الثالث من خطبة الزهراء(ع):
سبق الحديث حول المحاضرة القيّمة التي ألقتها سيدتنا فاطمة الزهراء(ع) على جموع المهاجرين والأنصار، وهي المحاضرة التي اشتملت على فلسفة التوحيد وحركيّة النبوّة وأجواء القرآن، وتحدّثت عن المسلمين في مسؤولياتهم أمام الله سبحانه وتعالى وفي انفتاحهم على القرآن.
ثم انطلقت لتتحدث عن بعض التكاليف العقيدية والشرعية وعن بعض الجوانب التي تعمّق للإنسان أخلاقيته وروحيته وتجعل منه إنساناً صالحاً بحيث يكون خيراً للإنسان كله وللحياة كلها، وكأنها تريد فيما تحدّثت عنه من أسرار هذه العناوين الإسلامية أن توحي للناس أن على الإنسان أن يأخذ الإسلام في العمق ولا يأخذه في السطح، بحيث أن الالتزام بأية مفردة من مفرداته يفرض الالتزام بالسرّ الكامن في داخل هذه المفردة العقيدة وتلك المفردة الشرعية، بحيث يثقف الإنسان نفسه وهو يلتزم هذه الالتزامات الإسلامية بمعانيها وأهدافها وأسرارها حتى يتحرّك في ساحة العمل من خلال ثقافة الإسلام في عمق معانيه وأسراره.
الخروج من جمود الممارسات:
وبهذا ـ أيها الأحبة ـ يمكننا أن نخرج الجمود في ممارسات الناس للإسلام عقيدةً أو عملاً من دون أن يتفهموا معانيه وأسراره، فم يتحركون بالإسلام من الخارج ولا يتحركون بالإسلام من الداخل، والله يريد لنا أن يكون إسلامنا إسلام العقل والقلب والروح والإحساس والشعور قبل أن يكون إسلام الممارسة العملية الخارجية، لأن قصة الإسلام تتحرك في جذورها من الداخل ثم يكون الخارج، لساناً كان أو عملاً، مظهراً للداخل، ومن هنا أريد للإنسان المسلم أن يعيش إسلامه من الداخل بأن يتثقّف بالإسلام في هذا الاتجاه، وهذا هو الذي يلزمنا ـ أيها الأحبة ـ كمرشدين وموجهين ومبلغين بأن نعطي الناس الفكرة عن كل حكم يلتزمونه وعن كل خط ينتهجونه.
أسرار الأحكام الشرعية:
وإننا هنا لا نتحدث عن علل الأحكام حتى يقول قائل بأننا قد لا ندرك العلل الحقيقية الواقعية للأحكام، ولكننا نتحدث عن فوائدها وعن أسرارها وعن معانيها التي يمكن لنا أن نبلغها من أجل أن نعطي العمل حيوية وحركية ومعنى.
فمع الزهراء(ع) فيما روي من خطبتها التي ألقتها على كبار رجال المهاجرين والأنصار في مسجد رسول الله(ص)، وإذا عرفنا أن كلامها كان يشبه كلام رسول الله(ص) وأن منطقها كان يشبه منطق رسول الله(ص)، فإننا نستوحي من ذلك أن المسلمين عندما سمعوها كانوا كأنهم سمعوا رسول الله(ص)، ولهذا تقول الرواية: "إنهم أجهشوا بالبكاء".
الإيمان تطهير من الشرك:
"فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك" لأن الإيمان يمثل توحيد الله الذي يوحي للإنسان بالنظرة الصافية للكون كله، فالتوحيد لا يمنحك الإحساس بوحدانية الخالق فحسب، ولكنه يمنحك الإحساس بوحدانية السرّ الذي يرتكز الكون كله عليه، سواء كان كوناً جامداً أو نامياً أو حياً باعتبار أن الله سبحانه وتعالى أودع في عمق الوجود الكوني الإنساني والنباتي والحيواني سراً، بحيث أن أصغر ذرة تساوي في حركة نظامها الداخلي أكبر مظهر من مظاهر الحجم الكبير فلا فرق بين أصغر ذرة في نظامها وبين الجبال وبين السموات والأرض، فالله سبحانه وتعالى عندما خلق الكون أقامه على قانون الزوجية في كل ظواهره ومواقعه.
ومن هنا، فإن الإنسان عندما يؤمن بتوحيد الله لا يعيش الازدواجية في التوجه ولا في العبادة ولا في الطاعة ولا في النظرة إلى الكون هنا وهناك، بل إنه يعيش الوحدة في ربه وفي ذاته وفي الوجود كله ليشعر أن الوحدة تمثل الانسجام بين الخالق وبين المخلوق باعتبار أنها تتحرك في خط واحد وتنطلق من قاعدة واحدة.
وهناك نقطة ثانية وهي أن الإيمان يمثل الوسيلة التي يتطهر بها الإنسان من الشرك باعتبار أن الشرك يمثّل الفكر المتخلّف الذي لا يرتكز على أساس، لأن الذين يدعونهم شركاء لله لا يملكون من معنى الألوهية شيئاً، فهم بين ما لا يسمع ولا يبصر ولا يدرك ولا يغني شيئاً، وبين من قد يسمع ويبصر ولكنه لا يملك نفسه ولا يملك غيره.
لذلك، فإن الشرك يمثل وحل الفكر وقذارته، لأنه يقذّر للإنسان تصوره وروحه عندما يطلق روحه أمام شيء جامد، والروح لا يمكن أن تحتضن في مشاعرها وأحاسيسها وأفكارها شيئاً جامداً لا نبضة فيه من حياة ولا مظهر للقوة ولا معنى للسر في ذلك كله، ولذلك قال الله تعالى: {إنما المشركون نجَسٌ}( )، والمراد من النجاسة هنا هي النجاسة المعنوية باعتبار أن فكر الشرك هو فكر القذارة والنجاسة، أما في المعنى فلا تتناسب مع التوحيد الذي أقام إبراهيم وإسماعيل قاعدته عليه وهو الكعبة (البيت الحرام).
ولذلك، فالإنسان عندما يؤمن بالله الواحد، فإن إيمانه لا ينقذه فقط من النتائج السلبية على مستوى حياته وحركتها، ولكن إيمانه ينقذ عقله وقلبه وروحه من الوحول الفكرية والشعورية التي يمثلها الشرك في الداخل.
الصلاة تنزيه عن الكِبَر:
"والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر" وهنا تتحدث فاطمة الزهراء(ع) عن الصلاة من حيث أنها وسيلة من وسائل إحساس الإنسان بحجم ذاته أمام ربه وإحساسه بحجم ذاته أمام الناس الذي يعيش معهم، وأمام الوجود الذي يتحرك فيه، فهو عندما ينفتح على الله في صلاته فإنه يبدأ صلاته بنداء (الله أكبر) فيتحسس معنى الأكبر في ربه الذي لا يدانيه شيء ولا يماثله في حجم الذات وفي حجم العلم والقدرة والرحمة والحكمة وما إلى ذلك.
كما أنه يمارس بشكل طبيعي هذا التواضع أمام الله عندما يقف بين يديه في موقف إسلام مطلق لله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}( ).
وعندما يركع ليتحدث مع مواقع عظمة الله في قوله: "سبحانه ربي العظيم وبحمده" ليتصور نفسه في موقغ الصغار أمام عظمة الله، وعندما يمارس التواضع أمام الله والانسحاق في سجوده، ليتصور الله على أنه هو الأعلى في ذاته وفي صفاته وفي كل ما يتمثل فيه، وأنه هو المصلي الساجد الأسفل أمام الله، فلا علوّ له أمام الله، فكما أن الله هو الأعلى المطلق فأنت الأسفل المطلق، وكما أن الله هو العظيم المطلق فأنت الضعيف الصغير المطلق.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}( ) في كل شيء.
فإذا تمثّل الإنسان ذلك في صلاته من خلال كلمات الصلاة وأفعالها، عاش من خلال الصلاة الإحساس بالتواضع إلى حد الانسحاق أمام الله، وعندما يعيش في صلاته إلى جانب كل المصلين ويقول "الحمد لله رب العالمين" يشعر أن الله وحده هو رب العالمين جميعاً، وأن العالمين متساوون أمام الله، فليس هناك ربٌ لعالم دون عالم سواء كان عالماً جامداً كالشمس والكواكب والقمر وما إلى ذلك مما ادعاه الناس ومما جعلوه في مستوى الإله، كما أنه ليس هناك بشر في مستوى الألوهة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}( ).. وكما ورد في نداء المسلمين لأهل الكتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}( )..
وقد يتميّز إنسان عن إنسان بدرجةٍ ما، كما يتميز الأنبياء والأئمة والأولياء على أساس {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}( )، وما إلى ذلك من الأسرار اتي قد يودعها الله ولكن يبقى الجميع في موقع العبودية ويتساوى الناس في أنهم عبيد لله، وغاية الآخر أن هناك من هو أكثر معرفة بالله وأن هناك من هو أكثر طاعة لله، يتساوون في العبودية وإن اختلفوا في درجاتها.. ولذلك كلما انطلقت في صلاتك لتتحدث عن الله رب العالمين فإنك تشعر بالوحدة مع الإنسان كله، وإذا أطلقت كلمة العالمين على العوالم كلها، فأنت تشعر أنك مع العوالم كلها في أنك مخلوق لله ومربوبٌ له وأنه ربك، وبذلك تتواضع لأنك تعرف أن حجمك مهما كبر لا يرقى إلى أن ت كون رباً لأي إنسان أو ربّاً لأية ظاهرة كونية.
وهذا ما استوحاه الإمام زين العابدين(ع) الذي عاش مع الله حياته كلها  في سرّه وعلانيته، عاشه في كلماته وابتهالاته ومواقعه كلّها، واستطاع أن يترك لنا ثروة توحيديةإسلامية أخلاقية روحية هي القمة في الثروات الروحية فيما تركه لنا الإمام زين العابدين(ع) من "الصحيفة السجادية" وغيرها من أدعيته حتى أنه أطلق عليها أنها زبور آل محمد(ص)، وكان عندما يدعو الله في الصباح وعندما يقبل المساء يقول "أصبحنا ـ أو أمسينا" "وأصبحت (أو أمست) الأشياء كلها بجملتها لك، سماؤها وأرضها وما بثثت في كل واحدٍ منهما ساكنه ومتحركه، مقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء وما كنّ تحت الثرى" أصبحنا كلنا، كل هذه العوالم وكل هذه الظواهر "في قبضتك يحوينا ملكك وسلطانك وتضمنا مشيئتك ونتصرف عن أمرك، ونتقلّب في تدبيرك ليس لنا من الأمر إلا ما قضيت ولا من الخير إلا ما أعطيت"( ).. وهكذا يتمثّل الإنسان في صلاته كيف يكون متواضعاً التواضع كلّه أمام ربه، ومن خلال تواضعه لربّه يتواضع للناس كلهم لأنه يشعر أنهم معه مربوبون لله.
ولذلك ـ أيها الأحبة ـ من صلّى دهره وبقي في قلبه شيء من الكبر، ومن صلى عمره وبقي في حياته حركة كبر، فإن صلاته لا قيمة لها "فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً"( )، لأن {الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}( )، وفي الحديث عن علي(ع) "ربّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائمٍ ليس له من قيامه إلا التعب والسهر، حبّذا نوم الأكياس وفطرهم"( ).
لذلك ـ أيها الأحبة ـ فإن الإنسان عندما يصلي لا بد أن يعيش في حالة طوارئ أخلاقية وروحية، بحيث تغير له كل ما في الداخل من انحرافات، لأن وقوفك أمام الله يمثل كل هذا الفيض الروحي الذي يفيض على قلبك وعلى روحك ولأن عبادتك لله تعلمك كيف تكون متواضعاً.
وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) في (دعاء كميل) "وفي جميع الأحوال متواضعاً"، لاحظوا أنه كيف يطلق بعض التعابير "في جميع الأحوال" يعني أن لا تفقد التواضع في نفسك وفي بيتك وفي مواقع عملك وفي مواقع نشاطك، كُن المتواضع في الأحوال كلها.
ومن الطبيعي فإن هذه تحتاج إلى تربية، لأن الكبر هو الذي أخرج إبليس من الجنة وهو الذي يسقط الإنسان من عليائه ولأن الكبر رداء الله فمن ارتدى رداء الله أسقطه الله سبحانه وتعالى.
ولذلك كان الصوم في السنة مرة والحج في العمر مرة، لكن الصلاة فرضت في اليوم خمس مرات واجبة، ولو فرضنا أننا جئنا بالنوافل، نوافل الليل والنهار، وجئنا بالمستحبات فحينئذٍ يكون الإنسان في حالة طوارئ صلاتية.
الصلاة خير موضوع:
وفي الحديث "الصلاة خيرُ موضوع، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر" لماذا؟
لأن دور الصلاة ـ إضافة لكونها عبادة ـ تثقيفي تربوي، فالصلاة مدرسة تريد أن تطوّق الإنسان من جميع الجهات، سواء أراد أن يفرّق في الصلاة، كما على رأي بعض المذاهب لأن التفريق لديهم إلزامي، أو على رأي الشيعة بأن التفريق هو الفضل وإن صار الالتزام بالجمع، فإنك عندما تستفيق من النوم يقول الله لك عليك أن تقابلني أولاً، قف أمامي وقدّم حساب يومك، فتقف وتصلي قربة إلى الله تعالى، ومعنى ذلك أن تقول لله إني أريد أن أصلي وأكون قريباً منك بعقلي وبقلبي وبروحي وبعملي، فأنت تقرأ صلاتك وتنطلق إلى الحياة من منطلق الصلاة بعد أن تكون قد أعطيت الله عهداً على أن يكون يومك يوم التقرب إلى الله، لأنك أعلنت له أنك تريد أن تتقرب إليه من خلال نيّة القربة، وأعلنت إليه أنه الأكبر وأنه رب العالمين وأنه العظيم وأنه الأعلى، فالمفروض أن يسير يومك في هذا الطريق.
ثم بعد ذلك ذهبت واشتغلت وانطلقت كما في المدرسة حيث يلعب الطلاب في الملعب وينسون الدرس وحين يدق الجرس فإنه يشعرهم أنهم لا يزالون في المدرسة، وهكذا يأتي الأذان (الله أكبر) كيما يتخفف الإنسان من أوزاره بعدما يذنب أو يغفل عن الله حيث يرجع من جديد ليقول: أصلي صلاة الظهر قربةً إلى الله تعالى وما بين الظهر والعصر، وما بين العصر والمغرب وبين المغرب والعشاء، وإذا امتدت القربة إلى صلاة الليل فإن الله يريد أن يحيط الإنسان بحزام روحي، فما أن يهرب ويأخذه الشيطان حتى تأتي الصلاة وترجعه إلى الجادة، وهذا هو دور الصلاة.
لذلك فإن الصلاة تمثل العمل العبادي الذي يلاحق الإنسان بأن يربطه بالله بحيث يحس بوجوده سبحانه وتعالى كما لو كان أمامه، وأن يربطه بالناس على نحو يتحمل مسؤوليته إزاءهم في ذلك كله، فكلما أراد الشيطان أن يبعدك عن ربك جاءت الصلاة لتقرّبك إليه، ولذلك فإن مسألة التربية هي مسألة مجاهدة النفس ومسألة التوعية وهي من المسائل اليومية، بل تدور على مدار الساعة، ولذا أريد لها أن تعالج بالعبادة اليومية التي تحيط بالإنسان في كل يومه ليلاً ونهاراً حتى يعيش الحزام، فلا يفلت لأنه يعيش حزاماً روحياً يستطيع أن يجعله في دائرة الله سبحانه وتعالى.
وعلى ذلك فقد شرّعت "الصلاة تنزيهاً من الكبر" لأنها هي التي تصنع روح التواضع في العقل والتواضع العملي مع الله، ومن خلال تواضعك لله وشعورك بعبوديتك بأنك تساوي الناس بالعبودية لا بد أن تتواضع للناس في جميع ذلك.
الزكاة تزكية ونماء:
"والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق" هنا عالجت الزهراء(ع) الزكاة من خلال نتائجها الروحية والمادية، لأن نتائج الزكاة الاجتماعية أمرٌ لا يحتاج إلى شرح وبيان، باعتبار أنه لا إشكال بأن الزكاة تمثل حلاً احتياطياً لمشاكل الإنسان في حاجاته، فالزهراء(ع) لم تتحدث عن الزكاة من خلال نتائجها الاجتماعية، لأن النتائج الاجتماعية للزكاة هي أمرٌ واضح بيّن باعتبار أنه يمثل الانفاق، بل أرادت أن تتحدث عن الزكاة في نتائجها الروحية لدى الإنسان المزكّي ونتائجها المادية في حياته على أساس أن المطلوب تشجيع الإنسان على الزكاة من خلال بيان النتائج العملية التي تعود إليه بالنفع.
ولذلك تحدّثت الزهراء(ع) عن هذا الجانب كما تحدّث القرآن عن الزكاة في جانبيها الروحي والمادي في الشخص المزكّي بما يعطيه الله في ذلك، كما في الآية الكريمة التي تقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}( )، فالله تعالى أراد للنبي(ص) أن يبيّن للناس الذين يأخذ منهم الزكاة أنها لا تمثل مجرد حركية مادية في العطاء، ولكنها تمثل ارتفاعاً في روحية العطاء بحيث يشعر الإنسان بطهارة نفسه عندما تنفتح على إيثار الإنسان الآخر المحروم وعلى الانفتاح على  حاجاته وعلى آلامه قربةً إلى الله فتحقق له نوعاً من تزكية النفس ومن طهارتها.
وهكذا كانت الزهراء(ع) في كلامها تستوحي القرآن كما في الفقرة الثانية "وماءً في الرزق" {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}، باعتبار أنك في الزكاة عندما تعطي قرشاً فإن الله يضاعف لك ذلك أضعافاً مضاعفة، والله يضاعف الأشياء بدرجات متفاوتة {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}( )، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}( ).
الصوم تثبيت للإخلاص:
"والصيام تثبيتاً للإخلاص" فأن تصوم هو أن تعمّق إخلاصك لربّك، وأن تعيش في داخل نفسك روح التقوى من خلال ما يؤكده الصوم لك من إرادتك المنفتحة على الله، وهناك فرق بين شخص يقوم بأعمال تقوّي إرادته بالطريقة المادية وبين شخص يقوّي إرادته بين يدي الله كمن يتدرب لوحده، وبين شخص يتدرب أمام الله.
هنا أنت تصوم عن طعامك وشرابك وشهواتك قربةً إلى الله تعالى، وتمارس ذلك في رقابة الله التي لا تقارنها رقابة الناس، وفي الصلاة يراك الناس وأنت تصلي، أما في الصوم فالعملية سرية، ولذا جاء في الحديث "الصوم لي وأنا أجزي به"( )، ذلك أن الصوم لا يتحقق الرياء به إلا إذا نطق به الإنسان، لماذا؟ لأن الصوم هو حركة حرمان الجسد من خلال الحالة الروحية الموجودة في الداخل.
لذلك نلاحظ ـ أيها الأحبة ـ أن الله يتحدث عن الصوم من خلال أنه وسيلة التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}( )، ومن الطبيعي فإن التقوى تحتاج إلى إرادة، فتقوى الفكر ـ مثلاً ـ تحتاج إلى إرادة، فعندما يغريك الشيطان بأن تحرّك فكرك في التخطيط للشر لأن هناك منافع آنية ودنيوية في التخطيط للشر، تحتاج ـ عندئذٍ ـ إلى إرادة إيمانية قوية تمنعك من ذلك.
وكذلك التقوى في العاطفة عندما يجذبك الشيطان من أجل أن تتحرك في عاطفتك لتحب من أبغضه الله أو لتبغض من أحبه الله نتيجة بعض العوامل وبعض الأوضاع، فنحتاج إلى إرادة حتى تدخل مشاعرك وإحساسك من أجل أن تجعلها تتحرك في الخط المستقيم.
وهكذا بالنسبة إلى حركة الإنسان في الحياة، لذلك فإن دور الصوم مثل دور الصلاة ولكن في جانب ىخر، وهو أنه يحقّق للإنسان الإرادة النابضة بالروح والمرتكزة على الانفتاح على اله، فكأنك تقول لربّك في صومك يا ربّ إنني أصوم من أجل أن أحقق لنفسي في هذا الصوم الصغير القوة على الصوم الكبير، لأن الله سبحانه وتعالى فرض علينا في شهر رمضان أن نصوم عن بعض ما اعتدناه في النهار وفرض علينا في العمل كله أن نصوم عن المحرمات كلها.
ولذلك جعل الله هذه الثلاثين يوماً فترة تدريبية في حضرته، أي أن الله يراقبك وأنت تتدرب، والذي يتدرب أمام الله وخاصة في الجانب الداخلي فمن الطبيعي أن تدريبه يجب أن يكون مركّزاً، ولا بد أن يشعر الإنسان بالنجاح فيه لا سيما إذا عرف أن دور الصوم مستقبلي وليس دوراً يتحرك في الحاضر فقط.
وهذا ما أرادت الزهراء(ع) في كلامها أن تنبّه عليه "والصيام تثبيتاً للإخلاص" لأنه يصفّي روح الإنسان أمام الله بحيث تنطلق التقوى من عمقه فلا يكون فيه شيء لغير الله سبحانه وتعالى.
بالحجّ يُشاد الدين:
"والحج تشييداً للدين" لأن الحج هو أن يجمع الناس على طاعة الله وحول الكعبة وفي تلك المناسك {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}( ).
لذلك فكلّما انطلق الحج في معناه المادي أكثر استطاع أن يعطي القوة في الدين أكثر من خلال إشعار المسلمين بأنهم موحّدون في عبادتهم كما هم موحّدون في عقيدتهم ومن أجل أن يتوحّدوا في حركتهم في الحياة وفي إحساسهم بالحاجة إلى الدعوة إلى الله.
كما أن من أسرار الحج الدعوة إلى الله وتعريف المسلمين الذين قد يفتقدون في هذه المنطقة أو في تلك، الموجِّه والمرشد والمعلِّم، لذلك فإن الحج كما يريده الله سبحانه وتعالى هو ساحة للعبادة وللعلم وللتعاون وللتشاور وبذلك يمكن أن يشيّد الدين على الأساس الثابت والمتين.
هذه هي بعض فقرات خطبة الزهراء(ع) وهي كما رأيتم تتصل بالجانب العبادي، أما الجوانب الأخرى فسنتحدّث عنها إن شاء الله في الأسبوع القادم.. والحمدلله رب العالمين.
 المحاضرة الثامنة عشرة: 5 جمادى لآخرة 1419هـ/ الموافق 26 - 9  – 1998م

الإمامة أمانٌ من الفرقة

"أهل البيت(ع) يمثّلون القيادة الشرعية التي تحمل الناس على المحجّة البيضاء وتركّز التوازن في المجتمع"

ـ في ظلال خطبة الزهراء(ع).
ـ العدل تنسيق للقلوب.
ـ الطاعة والإمامة.
ـ الإمامة أمان.
ـ الجهاد عز.
ـ الصبر موجب للأجر.
ـ الأمر بالمعروف مصلحة.
برّ الوالدين وقاية.
ـ صلة الرحم تطيل العمر.
ـ القصاص حقن للدماء.
ـ وفاء المكيال.
ـ النهي عن الخمر تنزيه من الرجس.
ـ اجتناب القذف.
ـ ترك السرقة.
ـ تحريم الشرك.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في ظلال خطبة الزهراء(ع):
لا نزال مع الزهراء(ع) في خطبتها التي خطبتها في مسجد رسول الله(ص) في جموع المهاجرين والأنصار، وقلنا إنها ليست خطبة تقليدية كانت الزهراء(ع) تدافع فيها عن حقها ولكنها كانت خطبة ثقافية تحدثت فيها عن أسرار التوحيد وأسرار النوبة وحركيتها وحركة الصراع بينالإسلام وبين الشرك، كما تحدثت عن القرآن في عظمته وميزاته، وتحدثت عن بعض أسرار التشريع في بعض العناوين العبادية العامة.
العدل تنسيق للقلوب:
ووصلنا إلى قولها (ع) "والعدل تنسيقاً للقلوب"، هذه الكلمة تستدعي التأمّل والتحليل لأنمسألة العدل هي من المسائل التي تتصل بالواقع الخارجي للحياة الاجتماعية للأمة، لأنه بالعدل يصل كل إنسان إلى حقّه، وبذلك يعمّ الخير في الناس وتقلّ الصراعات.
إذاً ما هي علاقة العدل في القلوب وبتنسيقها وبجمعها مع بعضها البعض؟
لقد قلنا في بداية الحديث أن الزهراء(ع) تتحدث في بعض العناوين في تأثيرها في الدالخل الإنساني، لأن تأثيرها في الخارج الإنساني أمرٌ واضح بيّن لا يحتاج إلى بيان، فالعدل في حركيته الإنسانية وفي واقع العلاقات بين الناس، ومن حيث وصول كل إنسان إلى حقه يهيئ الرخاء والسلام والتوازن في الواقع الاجتماعي، ولكن المسألة التي ربما كانت الزهراء تركّز عليها هي تأثير العدل في علاقات الناس مع بعضهم البعض، فيما ينفتح فيه قلبٌ على قلب، لأن الظلم ينتج الكثير من التعقيدات النفسية والكثير من الأحقاد الذاتية، ذلك لأن أي إنسان يُضطهد في حقه فمن الطبيعي أن يحمل للمُضطَهِد حالة من مشاعر الحقد والعداوة والبغضاء وما إلى ذلك، مما يجعل من الظلم مشكلة للعلاقات الإنسانية في منطق امشاعر، كما يكون مشكلة لواقع الإنسان في دائرة العلاقات القائمة على أساس الحقوق.
لذلد ربما أرادت الزهراء(ع) أن تؤكّد على قيمة العدل في جمع القلوب، لأن المجتمع إذا كان قائماً على إعطاء كل ذي حقٍ حقه فإن من الطبيعي أن ذلك يبعد الكثير من المشاعر السلبية في علاقة الناس مع بعضهم البعض، وهذا هو الذي يهيّئ لحركة السلام الاجتماعي، لأن أغلب المؤثرات في الحروب أو في إبعاد حركة السلام في الواقع الاجتماعي، لأن أغلب المؤثرات في الحروب أو في إبعاد حركة السلام في الواقع هي العقد النفسية التي تقوم بين الناس.
ولهذا كلما خفّت هذه العقد أو كلما زالت قلّت المؤثرات في الحروب وفي المنازعات وما إلى ذلك، لأن النزاع غالباً ينطلق من خلال الصراع على الحق سواء كان الحق خاصاً أو عاماً، والله العالم.
الطاعة والإمامة:
وتقول(ع): "وطاعتنا نظاماً للملّة" أما طاعة أهل البيت(ع) فباعتبار أنهم يمثلون القيادة الشرعية التي انطلقت في الواقع الإسلامي وفي المواقع القيادية فإنها تحمل الناس على المحجّة البيضاء وتركّز على أسس التوازن في المجتمع، حيث يأخذ كل ذي حق حقه وحيث تتحرك الخطوط الشرعية في تنظيم المجتمع في القضايا الخاصة والعامة.
وبذلك فإن انسجام المجتمع والأمة مع القيادة الشرعية الحكيمة القوية في الله التي لا تأخذها في الله لومة لائم وتتحرك على أساس المصالح العامة هو الذي عبّر عنه أمير المؤمنين(ع) في قوله: "وليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"( )، وما صرّح به بقوله: "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير وما أمّ نجمٌ في السماء نجما، لو كان المال ليس لساويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله؟"( ).
من هنا فإن المجتمع عندما يطيع القيادة الشرعية فإن من الطبيعي أن يرتكز إيمانه على الثبات وتتحقق بها قوته.
الإمامة أمان:
"وإمامتنا أماناً من الفرقة" لأن هذه الإمامة انطلقت من خلال الخط الإلهي ومن خلال التنصيص الإلهي، لذلك فإن القوم عندما يلتقون عليها فإنهم يلتقون على أمر الله في السير على خطاها وفي الالتزام بها، وبذلك يبتعد الناس عن كل ما يوجب الفرقة، ذلك أن الفرقة إنما تنطلق من خلال اختلاف الأهواء والاتجاهات.. أما إذا كانت المسألة منطلقة من أمر الله ونهيه فإن المسلمين من موقع إسلامهم لا يمكن أن يختلفوا عليها بحسب ما ترتكز عليه من خطوط تنطلق من الله وتلتقي به وتنتهي إليه.
الجهاد عزّ:
"والجهاد عزاً للإسلام" لأن الجهاد يمثل التحدّي للكفر في جانب وردّ التحدي للكفر في جانب آخر، كما أنه يمثل مواجهة الاستكبار والظلم في مواقعه كلها وبذلك يقوى الإسلام عندما تتحرك التحديات المفروضة عليه والهجوم الذي يشنّ ضده، والضغوط التي تتحرك في ساحته لتجد هناك رداً حاسماً من المسلمين في حركة الجهاد في مواقعه ومجالاته كلها.. ولم يسقط المسلمون في واقع الذلّ إلا بعد أن تركوا الجهاد وأقبلوا على حالة الاسترخاء واستسلموا لكل فاتح ولكل ضاغط ولكل مستكبر.
"وذلاً لأهل الكفر والنفاق" فمن الطبيعي أنه كلما عزّ الإسلام في ساحة الصراع أكثر وفي ساحة التحدي وفي رد التحدي ذلّ الكفر أكثر.
الصبر موجب للأجر:
"والصبر معونة على استيجاب الأجر" فمن نتائجه العملية والواقعية أنه يمثل حركة العزم والقوة في مواجهة كل التفاعلات النفسية وحالات الحرمان والضغوط التي تجابه الإنسان من أجل أن تزلزل موقفه أو تنحرف به عن خطه.
لذلك، فإن الصبر يمثل الحركة الإنسانية التي تنطلق إيجابيةً في داخل الإنسان وسلبيةً في الظاهر باعتبار أن الصابر يصمد، ولا يتحرك بردة فعل، فهو سلبي في الصورة ولكنه إيجابي في المضمون وفي الواقع، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}( ).. ولكن الزهراء(ع) أرادت أن تتحدث عن الصبر حيث تحدث القرآن عن الصبر في أكثر من آية لتشجيع الناس عليه، فكان حديثها حديث الدعوة إلى الصبر لا حديث بيان فلسفة الصبر وطبيعته.
ومن الطبيعي أن الأجر الذي يناله الإنسان علىالصبر يختزن في داخله كل ما يعنيه الصبر من ثبات على المبدأ ومن صلابة في موقف الإنسان مع الله أمام الشدائد والأهوال والأخطار، لأن الله إنما يثيب الإنسان بالحجم الذي يمثله ثواب الصبر الذي لم نجد هناك أي عمل في مستوى الثواب عليه كالصبر، ومن الطبيعي أن يثيب الله الإنسان على العمل الذي يرتفع في مستوى القيمة إلى أن يكون القاعدة التي ترتكز عليها التقوى كلها والإيمان كله.
ولذلك فإن الزهراء(ع) عندما تقول: "والصبر معونة على استيجاب الأجر" فإنها تقصد الصبر بماله من القيمة الكبرى عند الله سبحانه وتعالى من حيث علاقاته بثبات الإيمان في نفس الإنسان في مواجهته لقضايا الانحراف كلها.
فنحن نقرأ في كلمات علي(ع) في الخصال الخمسة التي ذكر أنها "لو ضربت إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلاً" ويقول: "عليكم بالصبر فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا خير في جسدٍ لا رأس معه ولا في إيمان لا صبر معه"( ).
وهكذا هي كلمة الإمام الباقر(ع) لبعض أصحابه "كل أعمال البر بالصبر يرحمك الله"( )، ولقد جعل القرآن قيمة الصبر أعلى قيمة كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}( )، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}( ).
لذلك أرادت الزهراء(ع) أن تستنطق المعنى القرآني في حديثها عن الصبر، وكما قلنا فإن المعنى القرآني للصبر يختزن كل ما في الصبر من خصائص من حيث أنه يمثل القيمة العملية الكبرى التي تزيد الإنسان ثباتاً، وتغني الإيمان في الانفتاح على مواقعه كلها وعلى خطوطه العامة والخاصة كلها.
الأمر بالمعروف مصلحة:
"والأمر بالمعروف مصلحة للعامة" باعتبار أنه يمثل حركة النقد الاجتماعي ويمثل حركة التكامل الاجتماعي في عملية إصلاح الواقع، لأن الناس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لضعف المعروف وقوي المنكر، وهذا ما ورد في الحديث النبوي الشريف "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلطنّ الله شراركم على خياركم فيدعوا خياركم فلا يُستجاب لهم"( ).
إننا نستوحي من هذا، أن المجتمع إذا كان لا يمارس الرقابة العملية، سواء في المعروف العملي والمنكر العملي، أي لا يمارس الرقابة على بعضه البعض، فإن الذين يصنعون المنكر والذين يسقطون المعروف سوف يسيطرون على المجتمع، وهو غافل عنهم مما يسبب إفساداً في الواقع وضرراً على عامة الناس.
برّ الوالدين وقاية:
"وبرّ الوالدين وقايةً من السخط" باعتبار أن برّ الوالدين يخلق في نفسيهما حالة من المحبة ومن الرضا ومن الطمأنينة، وبذلك تنفتح قلوبهما لأولادهما فتتحرك المحبة والرضا بدل السخط، ونحن نعرف حقيقة التخطيط في الإسلام بالتدرّج في عملية نشر المحبة بين الناس، فلقد بدأ بالوالدين ثم ثنّى بالأرحام ثم انطلق أيضاً في الدوائر التي تتحرك في جانب العقيدة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}( ).. وانطلق بعد ذلك في علاقات إنسانية متحركة من أجل أن تهيئ كل دائرة في العلاقات الإنسانية للدائرة الأخرى، فإذا تعلّم الإنسان أن لا ينهر أبويه وأن يرحمهما وأن يذكر جميلهما بالرغم من إساءتهما له بالرغم من كل المشاكل التي تحدث له، فإنّ ذلك يمثل تجربة غنيّة حيّة في أن ينفتح أيضاً على أرحامه وعلى الناس أجمعين.
ومن هنا فإننا نعتبر أن هذه الدوائر الإسلامية ذات الصلة في كل الأمور التي أمر الله بها أن توصل بتمثل دائرة تقوّي الدائرة الأخرى، ودائرة تنفتح على الدائرة الأخرى، فالدائرة الصغيرة تنفتح على المتوسطة، والدائرة المتوسطة تنفتح على الدائرة الكبرى، وهذا ما لخّصه أمير المؤمنين(ع) عندما تحدّث عن دائرتين كبيرتين في علاقات الناس مع بعضهم البعض "فإنهما صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق"( )، فالدائرة الإسلامية تدور في نطاق ما جعل الله للمؤمن على المؤمن من حق، والدائرة الإنسانية تدور فيما أراد الله للإنسان أن ينفتح على الإنسان الآخر من خلال مشاعره الإنسانية.
صلة الرحم تطيل العمر:
"وصلة الأرحام منسأة في العمر" وذلك باعتبار الأحاديث الواردة من أن صلة الرحم تزيد من العمر، كما أنها تنمّي المال و"منماة للعدد" يعني أنها تزيد في عمر الإنسان وتبارك في أولاده وما إلى ذلك.
القصاص حقنٌ للدماء:
"والقصاص حقناً في الدماء" والله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}( )، "والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة" لأن النذر يمثل التزاماً منك أمام الله ويمثل عهداً بينك وبينه، وعلى ضوء هذا فإنك عندما تفي بنذرك فإنك تعبّر عن وفائك بالتزامك أمام الله، وإذاكان هذا يمثل الالتزام في هذه المفردة الصغيرة فإنه يعطي خطاً للالتزام في الدوائر الكبيرة، لأن الإنسان إذا حصل على طاقة في طاعة الله في جانب فإن ذلك يقوّي الطاقة في الجوانب الأخرى.
فيغفر الله له على أساس ما يطّلع الله عليه من قلبه فيما يظهر به عمله ووفاؤه لله بالتزامه، وقد حدثنا الله عن أهل البيت(ع) ووصفهم بأنهم {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}( ).
وفاء المكيال:
"وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس" فعندما نفي مكاييلنا وموازيننا فإننا نعطي كل إنسان حقه كاملاً غير منقوص فيما نزن به وفيما نكيله أو فيما نعدّه،لأن المكاييل والموازين ذكرت باعتبار أنها الغالب، وإلا فهي كناية لكل حقّ له كمية معينة، سواء كانت عددية أو كمية في الميزان أو وزنيّة أو مكيالية، فالله أمر بتوفية المكيال والميزان من أجل تغيير الواقع الذي كان سائداً والذي يربك الحياة الاقتصادية وينشر المشاكل بين الناس، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}( ).
فقد أراد الله للناس عندما أمرهم بأن لا يطففوا المكيال والميزان وأن يفوا المكيال والميزان، تغيير هذا الواقع الذي كان منتشراً بينهم، ولذلك قال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}( ).
النهي عن الخمر تنزيهٌ من الرجس:
"والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس" باعتبار أن الخمر يمثل الرجس المعنوي والرجس المادي من خلال تأثيراته السلبية على عقل الإنسان وعلى بدنه وعلى الواقع الاجتماعي من حوله، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}( ).
اجتناب القذف:
"واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة"، لأن الإنسان إذا قذف الناس لعنوه أو إذا قذف الناس قذفوه.
ترك السرقة:
"وترك السرقة إيجاباً للعفّة" لعفّة اليد عن أموال الناس، وقد ورد في عدة أحاديث أنه "ما عبد الله بشيء أفضل من عفّة بطنٍ أو فرج" وقد ورد في حديث أمير المؤمنين(ع) في كلماته القصار "أفضل العبادة العفاف"( ).
تحريم الشرك:
"وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية" لأن الشرك يمثل ابتعاداً عن الإخلاص لله تعالى، فعندما تجعل له شريكاً في الربوبية مما لا واقع له فإن هذا يعتبر ابتعاداً عن الإخلاص لله سبحانه وتعالى وتمرداً على حقه في التوحيد {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}( )، وكأن الزهراء(ع) أرادت من خلال إنهاء هذا الفصل بهذه الآية أن تبيّن لهم الحق العام الذي ينبغي لهم أن ينتهجوه وهو أن يتقوا الله كأعلى ما تكون التقوى وكما ينبغي له أن يتقى في الالتزام بكل أوامره وبكل نواهيه والانفتاح على كل ما يحبه حتى مما لم يلزم الناس به والابتعاد عن كل ما يكرهه حتى مما لم يلزم الناس بتركه.
فالتقوى من الله هي أن تحسب حساب الله في وجودك كله وفي كل ما تفكر فيه لتكون لك تقوى الفكر، وفي كل ما تتعاطف فيه لتكون لك تقوى العاطفة وفي كل ما تتحرك فيه لتكون لك تقوى العلاقة وتقوى الحركة بين الناس { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ولتستمر هذه التقوى في كل حياتكم فلا تمثل مجرد مرحلة من مراحل حياتكم، بل لا بد من أن تكون مستمرة إلى حين الموت {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وكلمة الإسلام بحسب معناها القرآني هي تعبير عن التقوى، لأن قضية الإسلام هي أن تسلم وجودك كله لله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}( )، والإسلام لله هو أن تلتزم أمر الله ونهيه وكل ما يحبه ويرضاه في حياتك الذاتية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية ليكون وجودك في مظاهره ومواقعه كلّها إسلاماً لله سبحانه وتعالى.
"واتقوا الله فيما أمركم الله به وانتهوا عمّا نهاكم عنه"( ) فهو سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}( ) وكأني بالزهراء(ع) تقول لهم كونوا العلماء بالله وكونوا العلماء بدينه وكونوا العلماء بمسؤولياتكم كلها أمامه، لأنكم كلما عرفتم الله أكثر خفتم الله أكثر واتقيتم الله أكثر، وهكذا انطلقت الزهراء(ع) من خلال هذه الأطروحة الثقافية لتتحدث عن قضيتها معهم وقضيتهم مع أهل البيت(ع) ولتنفذ من ذلك إلى مسألة إرثها والنزاع الذي حصل في هذا المجال، وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في الأسبوع القادم. والحمدلله رب العالمين.

المحاضرة التاسعة عشرة: 12 جمادى لآخرة 1419هـ/ الموافق 3 - 10  – 1998م


الدفاع عن الحقّ والحقيقة

"الزهراء(ع) ـ كما تقول عن نفسها ـ لا تقول غلطاً.. ولا تفعل شططا"



ـ حديث الزهراء(ع) عن شخصيتها.

ـ حديثها عن النبي(ص).

ـ حديثها عن علي(ع).

ـ تقريع المنافقين.

ـ حطب الفتنة.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

حديث الزهراء(ع) عن شخصيتها:
ونبقى مع سيدتنا فاطمة الزهراء(ع) في الفصل الجديد الذي تعلن فيه عن شخصيتها في مستوى العنفوان لتبدأ حديثها مع المهاجرين والأنصار فيما حدث بعد رسول الله(ص) من خلال استعراض دور رسول الله من جديد ودور علي(ع) مع رسول الله(ص).
فهي في هذا الفصل تعلن عن شخصيتها من هي، وتؤكد أنها إنما تتحدث معهم فإنها لا تخطئ في قول ولا تبتعد عن الحق ولا تتجاوز الحدود الفاصلة بين الحق والباطل، فكأنها تريد أن تقول لهم إن الله عصمني من الخطأ ومن أي تجاوز عن الحق: "يا أيها الناس اعلموا أني فاطمة وأبي محمد(ص)، أقول عوداً وبدءاً ولا أقول ما أقول غلطاً ولا أفعل ما أفعل شططاً {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}( )، فكأنها في استشهادها بهذه الآية تريد أن تقول لهم إن الله أرسل لكم أبي من داخل مجتمعكم فهو ليس بعيداً عنكم بل هو بشر مثلكم، ولكن الله ميّزه بالوحي والرسالة بكل ما يختزنانه من أسرار الشخصية في قداستها وقربها من الله.
حديثها(ع) عن النبي(ص):
إنها تقول لقد كان أبي يحمل في قلبه كل الهم فيما يشاهده منكم مما تعيشون فيه المشقّة، فيعزّ عليه ذلك، وكان يحرص عليكم أن لا تضيعوا وأن لا تضلّوا وأن لا تسقطوا، فهو حريص عليكم وكان الرؤوف الرحيم بكل قضاياكم وتطلعاتكم، فكأنها تريد أن تقول لهم إن أبي كان بهذه الروح في رعايته لكم في حياته، ولا تزال روحه في عليائه تطلّ عليكم وهو في عليائه في رحاب ربه {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، ولذلك فإنه من خلال ما يطلعه الله على أوضاعكم، وعلى الفوضى الجديدة التي أحلّت بكم، وعلى الفتنة التي فتكت بأوضاعكم كلها يعزّ عيه ذلك لأن ذلك يجلب لكم المشقة، ويحرص على أن تخرجوا من ذلك، لأن بقاءكم في ذلك يمكن أن يوقعكم في الكثير من مشاكل الحياة ومشاكل الآخرة.
ولذلك، فمن رأفته ورحمته أنه يريد لكم أن تخرجوا من هذا النفق، وأنا التي لا تقول خطأ ولا تتجاوز عن الحق، أعيش روحه وحرصه عليكم وهمّه في كل ما يشقّ عليكم "فإن تعزوه" إذا أردتم أن تنسبوه تجدوه أبي وتعرفوه "تجدوه أبي دون نسائكم" فأنا ابنته الوحيدة "وأخا ابن عمي" ولم تقتصر على الحديث عن نفسها في علاقتها برسول الله وإنما أوردت اسم علي(ع) "وأخا ابن عمي دون رجالكم" لأن النبي(ص) آخاه بعد أن آخى بين المهاجرين والأنصار وكانت الأخوّة الأخيرة هي أخوّته لعلي(ع).
"ولنعم المعزيُّ إليه" يعني لنعم المنسوب إليه، فعندما ينتسب إلى رسول الله(ص) أي إنسان سواء بالنبوة أو بالأخوّة فإنه يمثل الشرف كل الشرف، ويمثل العظمة كل العظمة، وهنا نتساءل: هل كانت الزهراء(ع) تتحدث في حديثها في انتمائها إليه بالنبوّة، وانتماء علي(ع) إليه بالأخوّة، هل كانت تتحدث عن القرابة، والإسلام لم يعتبر القرابة في ذاتها ـ بقطع النظر عما يختزنه القريب من خصائص تجعله في مستوى الكفاءة ـ ووسيلة من وسائل القيمة الكبرى، فأقرباء رسول الله كثيرون ولكن الله ميّز أهل بيته عن قرابته كلهم، ولذا قلنا إن لرسول الله عدة بنات ـ كما هو وارد في التاريخ ـ وكما يظهر من القرآن فإنه ميّز ابنته فاطمة(ع) عن أخواتها، وكما يقول أمير الشعراء شوقي:
        ما تمنّى غيرَها نسلاً ومنْ    يلِد الزهراءَ يزهَد في سواها    
وهكذا كانت الزهراء(ع) تريد أن تقول أنا ابنته رُبّيتُ في حجره وعشتُ معه أتنفس كما يتنفس وأعيش الآفاق التي يعيشها في الليل والنهار، وأعيش ابتهالاته كلها ودعواته كله وروحانيته كلها وأتعلم منه كل ما لديه من علم، فهي ابنته بالروح وبالعقل وبالقلب كما هي ابنته بالجسد، وأخوّة علي معه ليس أخوّة تقليدية أو نسبية ولكنها أخوّة هارون لموسى(ع) "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي"( ) هي أخوّة العقل والروح والقلب والجهاد وكل ما ينفتح عليه هذا الجو النبويّ الرسالي من آفاق.
وهكذا بدأت تذكّر الناس بنشاط رسول الله(ص) وبموقع علي بهذا النشاط لتقارن بين المرحلة التي عاشها رسول الله(ص) والأهداف التي استهدفها والقضايا التي ركّزها والمرحلة الجديدة التي يعشون فيها.
"فبلَّغ الرسالة صادعاً بالنذارة" صدع بما أراد الله أن ينذر الناس "مائلاً عن مدرجة المشركين" يعني عن مذهبهم وعن مسلكهم "ضارباً ثبجهم" والثبج هو وسط الشيء ومعظمه، وهذا كناية عن كونه  لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم ولا يداريهم بالدعوة، بل كان ينطلق في وسطهم وفي قلب مجتمعهم غير آبهٍ لعددهم وكثرتهم "آخذاً بأكظامهم بالحكمة والموعظة الحسنة" استجابةٌ لقول الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}( ).
"يكسر الأصنام" ونحن نعرف أنه كسّر الأصنام بشكل غير مباشر من خلال جهاده الذي جعل قوة مجتمع الأصنام تتهاوى، فلقد حطّمها بشكل مباشر عندما ارتفع على منكبي النبي(ص) بأمر النبي ليكسّر الأصنام المنصوبة على الكعبة.
"وينكث الهام" والمقصود بالهام هو الرأس وهذا كناية عن قتل المشركين، والنكث هو إلقاء الرجل على رأسه كناية عن أنه يقتل المشركين بأن يسقط هاماتهم عن أجسادهم "حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر حتى تفرّى الليل عن صبحه" يعني أسفر (وانشق) حتى ظهر ضوء الصباح "واسفر الحقّ عن محضه" يعني أشرق وأضاء "ونطق زعيم الدين" يعني سيد القوم "وخرست شقاشق الشياطين" ويقال الشقشقة هي كالربّه التي يخرجها البعير من فيه إذا هاج، وهذه كناية عن الأصوات التي كان المشركون يطلقونها في تحدياتهم ضد الإسلام "وطاح وشيظ النفاق"، والوشيظ هو السفلة من الناس كناية عن السفلة الذين يمثّلون شخصية النفاق التي سقطت "وانحلّت عقد الكفر والشقاق وفهتم بكلمة الإخلاص" يعني كنتم مسلمين فانطلقتم بكلمة الإخلاص وهي كلمة الإسلام "في نفر من البيض الخماص" يعني هؤلاء الناس المميزين الذين لا يهتمون ببطونهم وإنما يهتمون برسالتهم ومهمتهم في الحياة.
"وكنتم على شفا حفرةٍ من النار" وهذا ما عبّر الله عنه {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}( ) "مضغة الشارب ونهزة الطامع" ومضغة الشارب هي شربته، أي كان الناس يشربونكم،  كناية عن أنكم كنتم قلّة كما هي مضغة الشارب عندما يشرب أول شربته "يتخطّفكم الناس" نتيجة قلّتكم "ونهزة الطامع" يعني فرصته في أنه يجد عندكم ما يمثّله طمعه في استغلالكم بكل أنواع الاستغلال "وقبسة العجلان" والقبسة هي الشعلة من النار التي تقتبس من معظمها، ففي الماضي لم تكن الإضاءة كما هي الآن فكان كل واحد يذهب ويبحث عن نار كما في الآية {آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ}( ) يأخذها عجلان حتى لا تنطفئ "وموطأ الأقدام، تشربون الطرق" والطرق هو ماء السماء الذي تورد به الإبل وتتبعّر فيه الإبل وهو الذي يكون في الصحراء.
"تقتاتون الورق" ورق الشجر "أذلّة خاسئين تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد(ص) بعد اللتيا واللتي" وبعد التي كناية عن الداهية الصغيرة والداهية الكبيرة (فاللتيا) الكبيرة (واللتي) الداهية الصغيرة.
"وبعد أن مُني ببهم الرجال وذئبان العرب ومردة أهل الكتاب" وبهم الرجال يعني الشجعان منهم لأنهم كما يقال لشدة بأسهم لا يدري من أين يأتون "ذئبان العرب" كناية عن لصوصهم وصعاليكهم الذي لا مال لهم ولا اعتماد عليهم، "المردة" العتاة المتكبرون "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله أو نجم قرن للشيطان" يعني طلع قرن الشيطان كناية عن جنود الشيطان وعن أمّته ومتابعته.
حديثها عن علي(ع):
"قذف أخاه" وهنا جاء الحديث عن علي(ع) عندما كان النبي يواجه بكل هذه الجماعات التي تريد أن تسقبطه وتتحدى حالته وتقضي على أمته "قذف أخاه في لهواتها" والقذف يعني رماه وأرسله في لهواتها، واللهوات جمع لهاة وهي اللحمة في سقف الفم يعني كناية عن أنه كلما أرادت طائفة من المشركين أو عرضت له داهية عظيمة بعث علياً(ع) لدفعها وعرّضه للمهالك "حتى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه" باعتبار أن الصمخ هو ثقب الأذن أو الأذن نفسها والأخمص ما لا يصيب الأرض من باطن القدم عند مشيها "ويخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات الله متعباً مجهداً مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله سيد أولياء الله" لاحظوا كيف تتحدث فاطمة عن علي(ع) ابن عمها وزوجها فهي (سلام الله عليها) تتحدث عنه لا من خلال الزوجية أو القرابة ولكنها تتحدث عنه بصفة أنه إمامها وسيدها في حركة الرسالة "سيد أولياء الله مشمّراً عن ثيابه" يعني مشمراً عن حياته كلها "ناصحاً مجدّاً كادحاً"، وكان علي(ع) كذلك.
تقريع المنافقين:
"وأنتم في رفاهية من العيش وادعو فاكهون آمنون تتربّصون بنا الدوائر" كيف تتحرك صروف الزمان وحوادث الأيام "وتتوكّفون الأخبار" تتوقعونها "وتنكصون عند النزال وتفرّون عند القتال، فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهر فيكم حسيكة النفاق" والحسيكة هي العداوة، أي عداوة النفاق، "وسمل جلباب الدين" وسمل صار خلقاً بالياً كناية على البلى أي أنه بُلي هذا الثوب وذلك كناية عن ضعف الدين، وعندما يبلى ثوب الدين فإن معنى ذلك أن يقلّ الدين في النفس ويضعف..
"ونطق كاظم الغاوين" الذي كان ساكتاً من الغاوين بعد أن منحت له فرصة أن ينطق وأن يتحدث "ونبغ خامل الأقلّين" يعني ظهر هذا الذي كان لا قيمة له وكان ساقطاً لا نباهة له فقد أعطته الظروف الجديدة فرصة أن يظهر وأن يكون شيئاً ذا قيمة "وهدر فينق المبطلين" وهدر يعني أصدر صوتاً، والفينق هو المكرم من الإبل الذي يركب ولا يُهان لكرامته على أهله ويعني الأشخاص الذين كانوا في كرامة من أهلهم ولكنهم كانوا في خط الباطل، فهؤلاء قد هدروا وانطلق صوتهم من جديد.
"فخطر في عرصاتكم" في ساحاتكم "واطلع الشيطان رأسه من مغربه هاتفاً بكم ألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين" والغرّة هي الاغترار وهي الانخداع "ثم استنهضكم الشيطان فوجدكم خفافاً" تنطلقون بكل سرعة "وأحمشكم فألفاكم غضاضاً" أحمشكم يعني أغضبكم فتحركتم بالانفعالات التي يريد لكم الشيطان أن تتحركوا فيها "فوسمتم غير إبلكم وأوردتم غير شربكم" والوسم في الإبل، أي انفتحتم على غير الموضع الذي أراد الله لكم أن تقفوه (فوسمتم) أي كان من المفروض أن تسموا إبلكم أي الأشياء التي هي لكم، لأنها هي التي تحتاجونها وتتحركون معها، ولكنكم انطلقتم عما أنتم مسؤولون عنه، "وأوردتم غير شربكم" أي انطلقتم في غير الماء الذي ينبغي أن تشربونه، وهذا كناية عن المواقع التي أخذتم وهي ما ليس لكم به حق، لأن الحق في الخلافة هو لغيركم، ولكنكم انطلقتم إليها كناية عن أنكم أخذتم ما ليس بحق..
"هذا والعهد قريب" فلم يمضِ على وفاة رسول الله(ص) إلا أيام قلائل "والكلم رحيب" والكلم هو الجرح "والجرح لمّا يندمل" بفقده والرسول لمّا يقبر، "ابتداراً زعمتم خوف الفتنة؟!" لماذا بادرتم قبل أن يُدفن رسول الله(ص)، لماذا لم تستشيروا أخاه، وابن عمه؟ لماذا استعجلتم لتقولوا خفنا الفتنة على المسلمين وزعمتم خوف الفتنة {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}( )، "فهيهات منكم" كناية عن التبعيد يعني ابتعدتم عن الواقع "وكيف بكم وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم" لماذا هذا الانحراف؟ لماذا هذا البعد عن الحق؟ لماذا هذا الأخذ بالأكاذيب؟..
"أموره ظاهرة وأحكامه زاهرة" مشرقة بيّنة "وأعلامه باهرة وزواجره لائحة وأوامره واضحة قد خلّفتموه وراء ظهوركم رغبةً عنه" رغبتم عن القرآن وقد أراد الله تعالى لكم أن تعتبروه نوراً يضيء لكم ويخرجكم من الظلمات إلى النور "أم بغيره تحكمون بئس للظالمين بدلاً" الذي يبدّل القرآن بغيره {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}( ) والقرآن هو أساس الإسلام في قواعده كلّها وفي أحكامه كلها وفي شرائعه كلها.
حطب الفتنة:
"ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها" يعني أنتم لم تلبثوا هذا الكلام، والمراد من النفرة هنا ذهابها وعدم انقيادها، يقال نفرت الدابة أي صعُب الإمساك بها، وهذا يعني أنكم لم تلبثوا إلا ريث أن يسكن هذا الهياج للدابة أو هذا الاستعصاء في قيادها وذلك كناية عن الظروف التي تعيشها الأمة "ويسلس قيادها ثم أخذتم تورون وقدتها"أي لهبها فتشعلون النار "وتهيجون جمرتها" حتى تبرز وتتوقد لتكون أشدّ إحراقاً..
"وتستجيبون لهتاف الشيطان الغويّ وإطفاء أنوار الدين الجليّ وإهماد سنن النبيّ الصفيّ، تسرّون حسواً في ارتغاء" وطبعاً الإسرار هو ضد الإعلان حسواً في الارتغاء عبارة عن شرب المرق شيئاً بعد شيء، فالارتغاء هو شرب الرغوة وهو زبد اللبن، ويضرب لمن يعينك ولكنه يجرّ النفع إلى نفسه، فهو يوحي إليك بأنه يريد إعانتك ولكنه ـ في الحقيقة ـ يجرّ النفع إلى نفسه "وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء" الخَمر هو ما واراك من شجر وغيره، يعني أنكم تتحركون بشكل سري أو بشكل مخادع "ونصبر منكم على مثل حزّ المدى" مثل حزّ السكاكين "ووخز السنان في الحشا".
فانظروا كيف كانت سيدة نساء العالمين(ع) تعيش ألم الواقع في انحرافه عن الخط المستقيم باعتبار أنها تعيش الرسالة كلّها في قلبها وفي عقلها وفي حياتها وتعتبر الرسالة حياتها كلّها.
وبدأت في الدفاع عن حقّها فقالت: "وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا" لما تنسبونه إليه أنه قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة" {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}( ) أفلا تعلمون، بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته وأن البنت ترث من أبيها".. ثم تنطلق الزهراء(ع) في الاحتجاج الفقهي القرآني على حقها في الإرث، وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في الأسبوع القادم.. والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة العشرون: 19 جمادى لآخرة 1419هـ/ الموافق 10 - 10  – 1998م


منهجيّة قراءة التأريخ وفهمه

"الذهنية الموضوعية التي تدرس السند والمتن، وتحويل المذهبية إلى حركة فكرية، وإنصاف الخصم وإقناعه ونقد موقفه بصراحة تقود إلى نتائج حاسمة"


ـ الزهراء(ع) والوحدة الإسلامية.
ـ تحكّم العاطفة في حركة البحث.
ـ دراسة السند والمتن.
ـ الوحدة لا تعني إسلاماً بلا مذاهب.
ـ المنهج القرآني.
ـ الصراحة الشديدة.
ـ كيف نقرأ التاريخ ونفهمه؟.
ـ المثل النسوي الأعلى.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

الزهراء(ع) والوحدة الإسلامية:
لا نزال في أجواء خطبة الزهراء(ع) الخطبة ـ المحاضرة التي ألقتها في جمع من المهاجرين والأنصار في المدينة، ونحب أن نثير أمام هذا الفصل من الحديث أن سائلاً قد يسأل: لماذا تثيرون مثل هذه الأحاديث وأنتم دعاة الوحدة الإسلامية، والوحدة الإسلامية تفرض أن نغفل التاريخ الذي ينكأ الجراح والذي يثير الحساسيات، لذلك فإن الحديث عن الوحدة الإسلامية وعن التاريخ الذي أثار المشاكل بين المسلمين لا يلتقيان.
والجواب عن ذلك، أولاً: إننا لا نتصور أن شعار الوحدة الإسلامية يعني أن ندعو الشيعة إلى أن يتنازلوا عن التزاماتهم الثقافية العقيدية فيما يستنبطونه من التاريخ، أو أن يتنازل السنّة عما يلتزمونه مما استفادوه من التاريخ، بل إن المسألة في شعار الوحدة تنطلق من المنهج الموضوعي الذي يدرس الواقع الإسلامي بطريقة علمية، بحيث يدرس المثقفون والعلماء كل ما بأيدينا من نصوص الكتاب والسنّة دراسة بعيدة عن الحساسيات.
لأن مشكلتنا ـ أيها الأحبة ـ أننا ندرس الكثير من نصوص التاريخ أو من نصوص القرآن الكريم على أساس مشاعرنا لا على أساس عقولنا، وذلك فإن الكثيرين منا قد يأخذون موقفاً مسبقاً يعالجه هذا النص أو ذاك، فإذا كان النص لا يتلفق مع ما توارثوه أو ما استمعوا له فإنهم يحاولون أن يؤوّلوا النص ويبعدوه عن ظاهره وعن سياقه، ولذلك أصبحت عملية استظهار النصوص خاضعة للذهنيات المسبقة التي نحملها، فأصبحنا نفرض الكثير من الأفكار المسبقة على القرآن ليكون القرآن صورة لما نفكر فيه لا أن يكون ما نفكر فيه صورة للقرآن، وهكذا بالنسبة إلى المسائل التاريخية التي تتصل ببعض الخطوط الفكرية والثقافية والعقيدية، فإن بعضنا قد يختار من التاريخ ما يناسبه ويرفض من التاريخ ما لا يناسبه، أو أنه يحاول أن يرتّب التاريخ على حسب مزاجه لا أن يجعل مزاجه الفكري خاضعاً للنتائج العلمية في التاريخ.
تحكّم العاطفة في حركة البحث:
لذلك فإن مشكلتنا هي أننا عاطفيون وعواطفنا هي التي تحكم الكثير من حركة البحث عندنا، ولسنا عقلانيين موضوعيين ندرس الأمور على أساس أنّ الكتاب والسنّة بين أيدينا، وهناك قواعد نعتمدها في فهم الكتاب والسنّة وإخضاع تفكيرنا كله لما في الكتاب والسنّة، حتى إذا جاء إنسان وقال الكتاب ظاهر في هذا والسنّة ظاهرة في هذا مما لا يتفق مع المألوف، نادينا بالويل والثبور وعظائم الأمور، وبدأت حملة التكفير والتضليل والتفسيق تتحرك.
ونحن نعرف أن الذين يتّبعون هذه الأساليب ممن يتهمون من خالفهم أو خالف اجتهاداتهم بالكفر والضلال وبالفسق وبالانحراف ضعفاء في ثقافتهم كما هم ضعفاء في الحجّة، لأن من يملك الحجّة لا يشتم، ولأن من يملك البرهان لايتكلم بالكلمات غير المسؤولة، لذلك نحن عندما ندعو إلى قراءة التاريخ ندعو قبل ذلك إلى أن تكون لنا الذهنية الموضوعية التي يتحرك فيها الإنسان بدون أفكار مسبقة، بل يدرس ماذا يقول العقل القطعي في ذلك، لأن الناس قد يعتبرون ما ليس بحكم عقي حكماً عقلياً على أساس أن تصوراتهم التي يعتبرونها عقلاً هي كذلك، وأن ندرس النصوص التي بأيدينا والتي هي الأساس الفكري عندنا، أن ندرسها كما لو لم يكن لنا فكر سابق ورثناه أو أننا انطبعنا فيه من خلال جور البيئة وما إلى ذلك.
ونحن نعتقد أن الذهنية الموضوعية لا تنتج حساسيات ولا مشاكل بين المسلمين، لأنها ذهنية تخاطب في الإنسان عقله ولا تخاطب فيه غريزته، وإنما الذهنيات الغرائزية هي التي تحاول أن توجّه العقل بغرائزيتها ولا تحاول أن تخاطبه بعقلانيتها.
وثمة نقطة ثانية وهي أننا لا نستطيع أن نلغي التاريخ، فالتاريخ موجود ولا نستطيع أن نرمي كتب التاريخ في البحر، ولذلك فإننا إن أهملناها في موقع معين فلا يعني أنها لا تفرض نفسها علينا في مواقع أخرى، لذلك لا بد لنا أن تكون لنا شجاعة دراسة التاريخ بالطريقة الموضوعية العقلانية.
دراسة السند والمتن:
وقد سبق أن كتبت قبل ما يقارب (38) سنة في مجلة "الأضواء" في النجف الأشرف، والتي كانت تصدر عن "جماعة العلماء في النجف الأشرف" حول الدراسات الإسلامية( )، وقلت إن علينا أن ندرس ما جاءنا من نصوص الإسلام بالخطين الذين كان العلماء يركّزون عليهما، ولكن المتأخرين فصلوا بينهم، فلقد كان القدماء من العلماء إذا جاءهم نص نبويّ أو نص إماميّ قالوا علينا أن ندرس السند والمتن، أما السند فيدرس هل أن الرواة الذين رووا هذا الحديث أو ذاك الحديث موثوقون؟ وهل هناك دلائل على وثاقة هذا الحديث لنستطيع أن نقول أن النبي(ص) قال ذلك أو أن الإمام قاله أو لا؟..
فإذا فرغنا من وثاقة النص، إما من خلال وثاقة رواته، أو من خلال وثاقة مضمونه أو من خلال ما يحيط به من دلائل علمية بحيث يكون الخبر موثوقاً به، عند ذلك ندرس النص هل هو مطابق لعقل؟ فإذا كان مخالفاً للعقل أوّلناه، وهل هو موافق لكتاب الله الذي هو الحجة الأساس في توثيق الروايات كما جاء عن رسول الله(ص) وعن الأئمة(ع) من أهل البيت: "ما خالف كتاب الله فهو زخرف".
لذلك إذا ورد هناك خبران متعارضان وأردنا أن نرجّح هذا أو ذاك، فلا بد من دراسة النص في مضمونه، أما الذي نواجهه الآن فهو أن هناك قوماً يكتفون بصدور الحديث موثوقاً دون أن يحاكموا مضمونه، وأن هناك أناساً كما هو الحال في الدراسات التاريخية لدى المحدثين، يأخذون النص دون دراسة السند، وهذا هو الذي أوجد الكثير من المشاكل الفكرية في الاستنتاج، فإننا نؤكد على أن ندرس التاريخ كدراسة موثّقة على مستوى السند وعلى مستوى المتن.
الوحدة لا تعني إسلاماً بلا مذاهب:
والنقطة الثانية، هي أن الوحدة الإسلامية ليست في أننا نطلق شعار إسلام بلا مذاهب، أي إسلام لا لون له ولا طعم ولا رائحة، لأنه لا يمكن أن يكون هناك إسلام بلا مذاهب، لا لأن المذهبية أساسية في الكيان أو في شخصية الإسلام، ولكن لأن المذهبية انطلقت من أن إنساناً ما يفهم القرآن بطريقة معينة أو يفهم السنّة بطريقة معينة أو يفهم  حركة التاريخ المرتبطة بالسنّة أيضاً بطريقة معينة، وأن إنساناً آخر يفهم المسألة بطريقة أخرى، فهل يمكن أن تلغي هذا الفهم أو ذاك، أو أن يكون لك فهم آخر بحيث تصوغ مذهباً آخر؟.
إن المذهبية الفكرية انطلقت من خلال حركة الاجتهاد فيما يتهد به هذا بحسب العناصر الاجتهادية الموجودة عنده وفيما يحتهد به ذاك بحسب العناصر المتوافرة لديه.. لذلك ليس الحل أن نلغي المذهبيات، بل الحل هو أن تحوّل المذهبيات إلى حركة فكرية في ساحة الصراع في فهم الإسلام، لأننا إذا عشنا المذهبية الفكرية فإن ذلك يغني اجتهاداتنا الإسلامية، بينما إذا عشنا المذهبية العشائرية والمذهبية الطائفية والمذهبية المعقدة والمذهبية المتعصبة، فإن ذلك سوف يؤدي إلى المزيد من الأحقاد، ومشكلة المسلمين هي أنهم لا يعيشون المذهبية الفكرية، بل يعيشون المذهبية المختنقة المتعصبة غير المستعدة أن تنفتح على الآخر وليست كذلك، مستعدة أن تجد للآخر ولو كلمة حق، فقد تختلف مع إنسان لكن ليس من المفروض أن يكون هذا الإنسان شراً كله.. أو قد تختلف مع فكر آخر فليس من المفروض أن يكون هذا الفكر باطلاً كله، وعندما تكون لك روحية أن تقول للإنسان الآخر لديك بعض الحق في فكرك ولديك بعض الباطل يمكن أن يكون هذا أسلوباً يفتح عقله وقلبه لك، وقد علّمنا القرآن ذلك.
المنهج القرآني:
ولكن مشكلتنا هي أن عصبياتنا أسقطت المناهج القرآنية في نفوسنا، فالله تعالى يقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}( )، كُن عادلاً مع خصمك، فإذا كان لديه بعض الحق أعطه حقه، وإذا لم يكن لديه بعض الحق حاول أن تقول له ذلك وأن تناقشه في ذلك، وقد علّمنا الله سبحانه وتعالى أن نقول كلمة الحق ضد الأقربين فيما لو كان الحق ضدهم {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}( )، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}( ).
إن معنى ذلك أن تكون مع الحق حتى إذا لم يكن الحق معك، وعليك أن تعترف بذلك.. وقد ورد عندنا: "إن سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك"( )، وقد يعتبر الناس هذه مسألة أخلاقية لكنها تتناول الجانب الأخلاقي في مناهج البحث وفي مسألة الصراع مع الآخر، فإذا كنت مسلماً فلا تظلم عدوك لا أن تقتصر بأن لا تظلم صديقك فقط، وهذا ما عبّر عنه إمامنا زين العابدين(ع)، هذا الإمام القمّة في الروح والقمة في الفكر، كما أنهم كلّهم قمم ولكن لكل وردة رائحة فيما تحرّك فيه.
وأوصيكم بما أوصي به نفسي لتكن "الصحيفة السجادية" رفيقكم في كل وقت، ففيها الثقافة الروحية الأخلاقية العقيدية الاجتماعية التي تشعر أنها تفتح عقلك كلّه وقلبك كله للمنهج الإسلامي، وأنت تدعو الله، يقول(ع): "وارزقني التحفّظ في الخطايا والاحتراز من الزلل في حال الرضا والغضب حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلةٍ سواء، عاملاً بطاعتك مؤثراً لرضاك على ما سواهما" فالأعداء أصدقاء "حتى يأمني عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليي من ميلي وانحطاط هواي".. أي اجعلني يا رب في منهج أخلاقي بحيث لو عاش عدوي معي لقال إن فلاناً مسلم مؤمن لا يمكن أن يظلمني أو يجور عليّ، لأن المسلم لا يظلم ولا يجور حتى على أعدائه، وإذا عاش معي أصدقائي قالوا إن فلاناً رجل حقّ ورجل عدل فلا يمكن أن يحابينا في مسألة الحق ليعطينا ما لا حقّ لنا فيه، كلمة أو شيئاً آخر.
وهذا منهج يقتصر على المعاملات المادية على العلاقات الإنسانية العامة، ولكنه يتحوّل إلى منهج، لأنك قد تغلب شخصاً في ماله وقد تظلم شخصاً في حوارك معه فتأخذه بالحق والباطل لتسكنه.. والمنهج الإسلامي هو أن لا يكون همك أن تسكن خصمك إلا في حالات ضرورية جداً، بل أن يكون همك أن تقنع خصمك، ولذلك انتقد الإمام جعفر الصادق(ع) بعض أصحابه الذين كانوا يحاورون شخصاً في الإمامة وهو لا يعتقد الإمامة، قال له: "إنك أخذته بالحق وبالباطل وقليل الحق يكفي عن كثير من الباطل" أي ما الفرق بينك وبينه "لأنك مثله جحد حقاً وجحدت أنت حقاً آخر"( )، هو جحد الحق في النتائج وأنت جحدت الحق في المقدمات ولا فرق بين من يجهل في منهج البحث وفي مفردات البحث أو يجهل الحق في نتائج البحث.
أيها الأحبة، هذا هو المنهج القرآني الإسلامي، وقد أعانا الله سبحانه وتعالى تفاصيل هذا المنهج فيما قال لنا {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}( )، أي إذا تنازعتم في شيء فلا ترجعوا إلى غرائزكم ولا ترجعوا إلى عصبياتكم، ولكن قولوا ماذا قال الله وافهموا كلام الله كما يجب أن يفهم، وماذا قال رسول الله، وافهموا ماذا قال رسول الله كما يجب أن يفهم قوله، وهكذا {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}( )، فإذا كنت لا تملك ثقافة الجدال والفكرة فكيف تناقش بالفكرة، ذلك أن الذين يناقشون الأفكار من غير علم يتحوّل نقاشهم إلىسباب وإلى شتائم وإلى اتهامات لأن من يملك الحجة لا يمكن أن ينكر نتائج الحجة.
وهذا هو الجانب الأول الذي أردنا أن نثيره بين يدي ذكرى الزهراء(ع).
الصراحة الشديدة:
والجاني الثاني: هو أن البعض قد يلاحظ عندما يقرأ حوارات القدماء، ولا سيما في مجتمع الصدر الأول أن الأسلوب كان قاسياً في القضايا الحيوية،بحيث أن كل واحد منهم يخاطب الآخر بالكلمات الصريحة الواضحة التي لا تغلّف بالمجاملات أو ببعض الاعتبارات الاجتماعية، ويتساءل كيف يجرأ هذا أو ذاك على هذا وهو في موقع مميز.
ولذلك فعندما تطرح القضية ويكون فيها موقفان، فإن صاحب الموقف الذي يرى الحق له يتكلم على أساس أنه لا يخاطب شخصاً ولكن يخاطب موقفاً ويخاطب رأياً ويخاطب اتجاهاً لأنه في الحق لا مجال للمجاملة، ذلك أن المجاملات والدبلوماسيات والكلمات الضبابية إنما هي في العلاقات الإنسانية التي تتصل ببعض الأوضاع التي يعيشها المجتمع في خطوطه، أما عندما تكون القضية قضية إثبات حق ودحض باطل فإن المجاملة تكون خيانة، وأن الاعتبارات الاجتماعية حينئذ لا تسقط الاعتبارات الموضوعية العلمية، لذلك كانوا يتكلمون بكل صراحة الحق الذي يعتقدونه.
ومن المفارقات أن هذا الحق الذي يطرحونه بكل صراحة وبكل موضوعية لا يثير ردّ فعل اجتماعي سلبي، كما لو يتساءل البعض: كيف تتجرّأ على هذا وكيف تتكلم مع هذا بهذه اللغة، لأنهم كانوا يعيشون المسألة في أجواء الصراحة في الحق ولم تؤثّر فيهم كل هذه الأساليب التي جاءت بها الحضارات من تغطية الحق بكلمة هنا وبعاطفة هناك.
ولذلك، نحن نلاحظ أن خطبة الزهراء(ع) التي استمعنا إلى قسم منها وسنستمع إلى قسم آخر، وهي تشرح واقع المسلمين وتشير إلى نقاط الضعف وتجادل في إرثها عن رسول الله(ص) الذي أنكره الخليفة نتيجة حديث رواه لم تقتنع به الزهراء(ع)، نجد أن الزهراء كانت تعنف في أسلوبها، ولكنها كانت تقدّم القرآن حجة على ذلك، وعندما انتهت من خطابها وكانت تخاطب الخليفة والمهاجرين والأنصار، لم يقف شخص ليقول كيف تتجرأين بهذا الكلام.. لذلك علينا أن نعرف أن تلك المرحلة لم تكن مرحلة حديث غريزي ينطلق بالأحاسيس وبالمشاعر بل كان حديثاً ينطلق من قوة الحق ومن الحجة على الحق، وهذا هو أسلوب القرآن في منهجه في الحوار.
كيف نقرأ التاريخ ونفهمه؟
وعلى ضوء هذا ـ أيها الأحبة ـ إذا استطعنا أن نصل إلى هذا المستوى من فهم التاريخ بحسب أساليب مرحلته، فإننا نستطيع أن ننتهي إلى نتائج حاسمة، أو نستطيع أن نتفاهم على أساس أن نقرأ المسألة كفكر يواجه فكراً.. وربما نستوحي ـ أيها الأحبة ـ هذه الروح الإسلامية في حركة الصراع، وهي أن الإسلام كان هو الأساس فيما يتحرّكون فيه حتى على مستوى المواصلة والمقاطعة، فنحن نجد أن علياً(ع) ـ وهو صاحب الحق ـ عندما رأى أن مصلحة الإسلام في أن يجمّد المطالبة بحقه لا أن يتنازل عن حقّه كما يقول بعض الناس، عاون بالرأي وبالذي عنده في حل المشاكل وساعد في كثير من الحالات لأنه كان يقول: "فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه هدماً أو ثلماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي متاع أيام قلائل يزولمنها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه"( ).
ومن خلال ذلك، فإن حديثنا بالأسلوب الذي نحرِّك فيه قراءة التاريخ وقراءة الكتاب والسنّة هو حديث يغني الوحدة الإسلامية ولا يضعفها، لأن أسلوبنا في الوحدة الإسلامية هو أن نلتقي على ما اتفقنا عليه في مواجهة الذين يخالفوننا ويريدون أن يسقطوا الإسلام، وأن نتحاور بالتي هي أحسن فيما اختلفنا فيه، وأن لا تكون أفكارنا متحرّكة في الصراع وفي الحوار من موقع غرائزنا بل من موقع عقولنا الباحثة عن الحق أياً كان الحق.
المثل النسويّ الأعلى:
هذه كلمات أردنا أن نحرّكها في هذا اللقاء، ونتابع إن شاء الله في حديثنا عن خطبة الزهراء(ع) لننفتح في الأسبوع القادم ـ ونحن في ليلة مولد الزهراء(ع) ـ على تلك الإنسانة الطاهرة التي عاشت مع الله كأفضل ما يعيش إنسان مع الله وعاشت مع رسول الله(ص) فكان عقلها عقله وكانت روحها روحه، وكان منهجها منهجه وكان علمُها، بكلمة مختصرة، كانت خلاصة رسول الله(ص) في العلاقة الجسدية كأب، وخلاصة رسول الله في العلاقة الجسدية كرسول وكمعلّم.. وعندما نعيش الزهراء(ع) وهي التي يلتقي المسلمون كلهم عليها، وقد يختلف بعض المسلمين في مفردة هنا وفي مفردة هناك، ولكنهم يتفقون أنها سيدة نساء العالمين، وأنها بضعة رسول الله، وأن الله يغضب لغضبها لأنها لا تغضب إلا لله، ويرضى لرضاها لأنها لا ترضى إلا بما يرضي الله من خلال عناصر العصمة في شخصيتها.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ لنكن مع الزهراء روحاً وفكراً وعقلاً وجهاداً ولنعتبر أننا عندما نثير ذكرى الزهراء(ع) فإننا ننطلق في خط الوحدة الإسلامية لأنها رمز لقاء المسلمين حول عظمتها وقيمتها وصدقها، فلقد كانت كما تقول عائشة الأصدق في المسلمين "ما رأيت أصدق منها إلا أباها"( )، وكانت الأعبد لله والأشد عبادة في المسلمين "ما رأيت أعبد في هذه الأمة من فاطمة إلا أباها" لذلك هي الأعبد وهي الأصدق وهي الصدّيقة الطاهرة التي عاشت لله، وعاشت للإسلام.
فعلينا ونحن في ذكراها أن لا يكون فرحنا فرحاً تقليدياً بالمولد بل نفرح بالروح الكامن فيها وأن نفرح بالقيم المتحرّكة فيها وأن نفرح بكل ما تركته وما عاشته من الفرح الروحي، والفرح الثقافي، والفرح الأخلاقي، فالفرح هو فرح القيمة لا فرح الذات {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}( )، وهي في قلب أهل البيت، وهي التي جمعت بينهم جميعاً، هي ابنة رسول الله(ص) وزوجة علي(ع) وهي أم الحسن والحسين(ع)، سلام الله عليهم جميعاً وهي واسطة العقد فيهم، لأنها هي الرابطة بينهم بصفةٍ هنا وبصفةٍ هناك، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الحادية والعشرون: 26 جمادى لآخرة 1419هـ/ الموافق 17 - 10  – 1998م


الاحتجاج بالقرآن أولاً

"إذا أردتم أن تعرفوا الزهراء(ع) فاقرأوها كلاً متكاملاً: في كلماتها وسيرتها وجهادها ومواقع تحدّيها"


ـ عودة إلى خطبة الزهراء(ع).
ـ مناقشة مسألة الإرث قرآنياً.
ـ إرث النبوّة.
ـ اللغة العلمية.
ـ تقريع الأنصار.
ـ جواب أبي بكر.
ـ ردّ الزهراء(ع).
ـ تعقيب أبي بكر.
ـ ردّ الزهراء(ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
عودة إلى خطبة الزهراء(ع):
لا نزال مع الزهراء(ع) في خطبتها في مسجد رسول الله(ص).. الخطبة ـ المحاضرة التي ناقشت فيها أكثر من قضية، وانتهى بنا الحديث إلى الموضوع الأساس الذي خطبت الزهراء(ع) خطبتها من أجل أن تحتج عليه، وهو حرمانها من حقها في فدك.
والزهراء(ع) تعالج مسألة فدك على أساس أنها إرث، وفي بعض كتب السيرة أن الزهراء(ع) تحدثت في البداية عن أنها نِحلةٌ نحلها النبي(ص) لها، وعطية أعطاها إياها، ولكن القوم وقفوا أمام هذه الدعوى على اعتبار أنها تحتاج إلى بيّنة، وجاءت بعلي(ع) والحسنين وأم أيمن ولم يقبل القوم بذلك، في الوقت الذي نعرف أن هذه الدعوى لا تحتاج إلى بيّنة، لأن فدكاً كانت تحت يد الزهراء(ع) وكانت تستثمرها ـ حسب الرواية ـ في حياة أبيها، ومن المعلوم أن صاحب اليد لا تطلب منه البيّنة على اعتبار أن (اليد أمارة ملكية) وإنما تطلب البيّنة من المدّعي الذي يدّعي دعوى ضد اليد، ولذلك أسدلت(ع) ـ على أساس الرواية ـ الستار حول هذا الموضوع، ففدك إن لم تكن عطية فهي إرث.
مناقشة مسألة الإرث قرآنياً:
ولهذا نراها تحدثت عن (الإرث) بهذه الطريقة التي لا تخلو من شدةٍ في الأسلوب، حيث قالت: "أيها المسلمون أأغلب على إرثي"، ثم توجهت إلى أبي بكر لتقول له: "يابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئاً فريّا، أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُودَ}( )، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا(ع) {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}( )، وقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}( )، وقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}( ).
لقد أرادت الزهراء(ع) أن تطرح مسألة الإرث في الخط العام، ومسألة إرث الأنبياء في الخط الخاص، أما في الخط العام فقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وقوله عز وجل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وهاتان الآيتان مما اتفق المسلمون على أنهما تعالجان مسألة الإرث دون فرق بين شخص وآخر، وبين نبيّ وغير نبيّ، فالخطاب موجّه إلى المسلمين جميعاً أو إلى الناس جميعاً كتشريع يحكم الواقع الإسلامي كله، وعلى هذا الأساس، فالزهراء(ع) وأبوها رسول الله(ص) هما مسلمان لهما ما للمسلمين بقطع النظر عن الخصوصية التي لا دخل لها في التشريع العام، وعليهما ما على المسلمين في الخط العام.
إرث النبوّة:
أما مسألة (إرث النبوّة) فالسؤال هنا هو: هل يرث أولاد الأنبياء آباءهم أو أنهم لا يرثونهم؟
إن الزهراء(ع) تتحدث عن معالجة هذا الأمر عن آيتين تحدثتا عن إرث أولاد الأنبياء لأولادهم، الأولى في قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُودَ}، وظاهر كلمة الإرث هنا أن سليمان ورث داوود كما يرث ولد أباه باعتبار علاقة النبوّة والأبوّة، وهكذا في كلمة زكريا(ع) {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}، يعني كأنه قال: هب لي ولداً لأن من خصوصية الولد في امتداد الأب به أنه يرث ما عنده، وقد يقول قائل هنا كما قيل في ردّ هذا الاستدلال: إن الإرث هنا إرث العلم والحكمة، أو أنه إرث النبوة، أي {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُودَ} بمعنى أنه ورثه في النبوة فكان نبيّاً مثله حيث ورث نبوّة أبيه.
وكذلك الأمر بالنسبة لزكريا، حيث كان يدعو الله أن يرزقه ولداً يرث النبوّة التي تميّز بها، كما يرث خط النبوّة لآل يعقوب باعتبار أن الله جعل فيهم النبوّة، وربما يُقال إن هذا هو الأولى، لأن مسألة أن يرث سليمان داوود فيما تركه ليست شيئاً مهماً يتحدث الله عنه، أو أن زكريا الذي كان نبيّاً من الأنبياء يتحدث عن أن يرزقه الله ولداً ليرث ماله، فيتعيّن أن تكون الوراثة وراثة العلم والنبوة، ولكن عندما نريد مناقشة ذلك بطريقة موضوعية، فإن العلم لا يورّث وإنما ينقل، فالفرق بين عملية إرث المال وإرث العلم هي أن المال يورّث من دون أن يعاني الوارث أي جهد في ذلك، فلقد كان بحوزة شخص ومسجّلاً باسمه من ناحية شرعية وقانونية وبمجرد ان يموت ينتقل المال تلقائياً إلى الورثة ويسجّل باسمهم شرعياً.. فالإرث هو للأشياء التي تنتقل تلقائياً بمجرد موت المورّث وهذا أمر يتم في المال ـ كما بيّنا ـ.
أما العم فلا يورّث ـ بهذا المعنى لكلمة الإرث ـ، فلو كان الأب عالماً ومات فهل يرث الابن علم أبيه؟! إن دور ولد العالم أو النبي بالنسبة لعلم العالم أو علم الني هو أن يتعلّم منه كما يتعلم أي تلميذ آخر، فولد النبي أو ولد العالم إنما يأخذ علم أبيه من خلال تعلّمه عنده تماماً كما يأخذ غيره علم أبيه من خلال تتلمذه عليه، فإبن العالم وغيره من تلامذة العالم سيّان بالنسبة لأخذ علمه، وبالتالي فالعلم لا يورّث، وهو يختلف عن أية عملية نقل، فالبيع يحتاج إلى إيجاب وقبول، والإيجار يحتاج إلى إيجاب وقبول، والصلح يحتاج إلى إيجاب وقبول، والهبة كذلك، فكل عملية نقل تحتاج جهداً من الناقل والمنقول إليه، وعملية النقل الوحيدة التي لا تحتاج إلى جهد من الوارث ولا من المورّث هي إرث المال.
ولذلك فقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُودَ}، لا تعني وراثته لعلم أو نبوّة، فذلك ليس مما يورّث بشكل تلقائي لا سيما إذا عرفنا أن سليمان كان عالماً في زمن أبيه داوود، فالإرث هنا ليس بالمعنى الاصطلاحي، فنحن نعرف أنه عندما كانت تنشب خصومة يأتي الخصم إلى سليمان ليحكم بطريقة معينة، ويأتي نفس الخصم إلى داوود ليحكم بطريقة أخرى، وهذا قوله تعالى: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}( )، فالله هنا غلّب أسلوب سليمان على أسلوب داوود، وإن كان المنبع واحداً، وبهذا فلا يصدق أن سليمان ورث العلم عن داوود، فلقد كان عالماً في حياة أبيه، وبعد مماته كان عالماً من خلال إفاضة الله عليه بالعلم أو من خلال جهده في تحصيله.
فلو قيل إن سليمان ورث النبوة عن داوود، فالنبوة ليست إرثاً بل هي لطف يعطيه الله من يشاء، فإذا كان الله قد أعطى النبوّة لداوود ولسليمان فلا يعني ذلك أن سليمان ورث النبوّة عن أبيه، فهي لا تورّث، فسليمان أصبح نبيّاً على نفس الأساس الذي صار به داوود نبياً، وبالتالي فليس كل ابن نبي نبياً، وإنما قد يجعل الله بعض أولاد الأنبياء أنبياء، وقد يكون بعض أبناء الأنبياء فسقة وكفرة كابن نوح.
وكذلك هو المراد من قول زكريا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ واجعلهُ ربِّ رضيّا}( )، فالمقصود هنا الإرث الطبيعي فيم يرثه الأنبياء من الآباء، والدليل على ذلك، أولاً: قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} وهم الأقرباء حيث يحب الإنسان أن يمتدّ في أولاده، فما علاقة ذلك بالنبوّة؟
الذريّة الطيبة:
ونرى زكريا يتحدث في آية أخرى عن الموضوع نفسه، حيث يقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}( )، ولم يتحدث عن أية صفة أخرى، فهو طلب ولداً وحسب، مما يدل على أن قوله {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} أن الوليّ يحتمل الولد وغير الولد، فهي صفة للولي، أي أن يكون ولياً ولداً لأن من خصائص الولد بالنسبة للأب هو أنه الوارث له، فحينما قال {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} فإنه يعني أنه يطلب ولداً طيباً.
وثالثاً: لو فرضنا أنه قال: هب لي نبيّاً، فما معنى {واجعلهُ ربِّ رضيّا}، فهل يعقل أن يكون هناك نبيّ غير مرضيّ عند الله سبحانه وتعالى؟! فلا بد أن يقول: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}، فكأنه يقول ربّ هب لي ولداً طيباً يحمل صفة الولي في كونه وارثاً لأبيه، فلو كان المقصود الولد الذي يرث النبوة والعلم، فما علاقة هذا بقوله {واجعلهُ ربِّ رضيّا}؟!.
فهذه الوجوه الثلاثة تعني أن المراد هنا هو الإرث الطبيعي الذي يتميز به الأولاد بالنسبة لآبائهم وهو إرث ما عند الأب، وليست المسألة هي أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يؤكد إرث المال لاهتمامه به، لكن هذه الخصوصية إنما ذكرت ليتعيّن المطلوب وهو أن الولي هو الولد وليس عمّاً أو خالاً أو غير ذلك، فهي ضيّقت مفهوم الولي لتحصره بالابن فقط، وعلى هذا الأساس كان استدلال الزهراء(ع) التي أرادت أن تقول لأبي بكر ـ بكل موضوعية واستدلال علمي ـ أن الله تحدّث عن أن أبناء الأنبياء يرثون آباءهم.
ترك الوصيّة:
وتبقى هناك آية أخرى وهي قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}( ) فقد يقال ما مناسبتها لمطالبة الزهراء(ع) بالإرث؟
فهذه الآية التي وردت في مقام الوصية هي الآية الأولى التي تحدثت عمّا يتركه الميت من بعده، وذلك قبل تشريع الإرث حيث أن الآية أرادت أن يأخذ الأقربون الخير الذي تركه المورّث والذي يمتد من الوصية في الإرث، وذلك في علاقة الأبناء بما تركه الآباء سواء على نحو الوصية في التشريع الأول أو على نحو الإرث في التشريع الثاني، وذلك بناءً على القول الذي يقول إن آيات الإرث ناسخة لآيات الوصية.
فإذاً،كانت الزهراء(ع) قد قدّمت القرآن أمام دعواها، حيث تقول فيما بعد "وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي" أي أنكم تدّعون أنه لي مكانة ولا منزلة ولا إرث من أبي "لا رحم بيننا" فكأنني ـ وهذا هو تصوركم ـ أجنبية عنه، "أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي".
الاحتجاج بالقرآن:
اقرأوا القرآن وسترون أنه عندما يتحدّث عن خط عام ويخصّص بعض الناس، فلا بد أن يذكر ذلك في آية أخرى، لأنه إذا كان هناك خاص وعام في التشريع، فعندما يذكر القرآن العام لا بد أ يذكر الخاص أيضاً، لا سيما إذا كان هذا الخاص يتميّز بشخص أو بأشخاص معينين.
"أم هل تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان" أم هل تقولون إن الكافر لا يرث المسلم لأن أهل الملتين لا يتوارثان "أولستَ أنا وأبي ملّة واحدة" فأنا مسلمة وأبي مسلم وهو نبيّ الإسلام.
"أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي" فأنتم تقولون إن آية الإرث لا تشمل النبي(ص) وعلى ذلك فهي لا تشملني بالتبعية، فلو كانت المسألة كما تقولون، أليس النبي الذي أرسله الله بالقرآن هو أعلم بشمولية الآية القرآنية؟! وإذا كانت هناك خصوصية تخرجه منها أفلا يجب أن يكون عالماً بذلك، وإذا كان عالماً به فلماذا لم يحدّثني عنه، أليس من المفروض أيضاً أن يكون ابن عمي علي(ع) عالماً بذلك وهو القائل "علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب"، لا سيما إذا كانت المسألة تخصّه بالذات، لأنها تخصّ زوجته، وهو سوف يتصرف من خلال تصرّف زوجته بهذا الإرث، وقال النبي(ص) من خلال ما يرويه السنّة والشيعة "أنا مدينة العلم وعليّ بابها".
وعلى ضوء ذلك يمكن ملاحظة أن الزهراء(ع) كانت تتحدث بلغة علمية فقهية موضوعية تفسيرية "فدونكما" أي خذها "مخطومة مرحولة" والخطام الذي يوضع في أنف الناقة لجرّها، ومرحولة من الرحل وهو سبيه بالسرج الذي على الفرس، أي خذها كاملة يمكن أن تقودها بشكل طبيعي، "تلقاك يوم حشرك" ففي يوم القيامة لا بد لكل إنسان أن يحتجّ بما لديه، "فنعم الحكم الله" إذا لم أجد من يأخذ لي بحقي اليوم فالله تعالى لا يضيع عنده حق، "والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ولا ينفعكم إذ تندمون ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذابٌ مقيم".. فهي هنا تتكلم بلغة القرآن في إثارة المسؤولية من خلال إثارة ما يقدم عليه الإنسان يوم القيامة.
العهد المسؤول:
"ثم رمت بطرفها نحو الأنصار" لتبيّن لهم أنهم أعطوا العهد لرسول الله(ص) في أن يحفظوه والمرء يحفظ في ولده "يا معاشر الفتية وأعضاد الملّة" أي أعوان الملّة "وأنصار الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي" أي المطعن في حقها(ع) "والسِنةُ عن ظلامتي"، أي لماذا أنتم ساكتون كما لو كنتم نائمين "أما كان رسول الله(ص) أبي يقول: المرءُ يحفظ في ولده، فسرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة" وأصل المثل كما في القاموس أن رجلاً كانت لديه ناقة عجفاء وكان رغامها يسيل من منخريها لهزالها، فقيل له ما هذا الذي يسيل: قال (ودكُها) أي الدسم، فقال السائل "سرعان ذا إهالة" تعبيراً عن هذا الرغام الذي ينزل من أنف الناقة.
فهي(ع) تريد أن تقول لماذا استعجلتم إحداث البدع وترك السنن والأحكام والتخاذل عن نصرة الزهراء(ع) وأهل بيتها "ولكم طاقة بما أحاول وقوة على ما أطلب وأزاول" فأنتم تستطيعون أن تأخذوا لي بحقي "أتقولون مات محمد(ص) فخطب جليل استوسع وهيه" والوهي من وهى الثوب إذا بلي وانخرق "واستنهر فتقه" أي اتسع "وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض لغيبته وكسفت النجوم لمصيبته وأكدت الآمال" أي قلّت وضاقت "وخشعت الجبال وأضيع الحريم وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى" والنازلة هي الأمر الشديد "لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة" أي الداهية "أعلن بها كتاب الله جلّ ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم هتافاً وصرخاً وتلاوةً وألحاناً" أي أنه أعلن ذلك في الآية "{إنك ميت وإنهم ميتون} ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسوله حكم فصل وقضاء حتم، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}( )".
تقريع الأنصار:
"إيهاً بني قيلة، أأُهظمُ تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ومبتدأ ومجمع، تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة" أي ما عرفتموه وتعرفونه فلقد خبرتموه جيداً "وأنتم ذوو العدد والعدّة والأداة والقوة وعندكم السلاح والجنّة" أي الدرع "توافيكم الدعوة فلا تجيبون" دعوتنا "وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون وأنتم موصوفون بالكفاح معروفون بالخير والصلاح والنجب التي انتجبت" باعتبار أنهم كانوا من الكرماء ومن الطيبين والخيرة التي اختيرت، لأن الله اختارهم ليكونوا أنصاراً لرسوله "قاتلتم العرب وتحمّلتم الكدّ والتعب وناطحتم الأمم وكافحتم البُهم" والمراد بالبهم الشجعان "فلا نبرح نأمركم فتأتمرون" أي على ما كان عليه العهد في زمن النبي(ص).
"حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ودرّ حلبُ الأيام وخضعت نعرة الشرك وسكنت فورة الإفك إلى أن انتصر الإسلام" واستطاع أن يمتد في المنطقة والعالم "وخمدت نيران الكفر وهدأت دعوة الهرج واستوسق نظام الدين فنّى جرتم بعد البيان" بعد أن تبيّن الأمر ووضح بشكل جلي، أي كيف تتركون سبيل الحق بعد أن تبيّن لكم "وأسررتم بعد الإعلان ونكثتم بعد الإقدام" فكأنها تستنهض الروح الإسلامية التي كانوا عليها، فلقد كانوا يهرعون عندما يهضم أي حق "ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض" أي إلى سعة العيش.
"وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض" أي أبعدتم الشخص الذي يملك الشرعية "وركنتم إلى الدعة" أي الراحة والسكون "ونجوتم من الضيقة بالسعة فمججتم ما وعيتم" أي طرحتموه "ودفعتم الذي تسوّغتم" أي تقيّأتم ما أكلتموه فكأنكم تقيأتم الوعي الإسلامي الذي جهد أبي في زرعه في نفوسكم وعقولكم "إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغنيٌ حميد، ألا وقد قلت ما قلت على معرفةٍ منّي" فأنا أعلم أنني أتكلم ولا فائدة فائدة في كلامي لأنكم اتفقتم على الواقع الذي أنتم فيه "بالخذلة التي خامرتكم" وقد خذلتموني "والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ولكنها فيضة النفس" فلدي مشاعر وآلام وأحزان أحاول أن أعبّر عنها "ونفثة الغيظ وخور القنا وبثّة الصدور وتقدمة الحجّة، فدونكموها فاحتقبوها" والاحتقاب هو حبل يشدّ به الرجل إلى بطن البعير، أي امسكوها، فكأنها تريد أن تقول: شدّوها على واقعكم وذواتكم "دبرة الظهر" والدبرة هي الجرح الذي يكون في ظهر البعير "نقبة الخفّ" فعندما يكون خفّ البعير رقيقاً يقال له نقبة باعتبار أنه سهل النقب "باقية العار موسومة بغضب الله وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أن منقلبٍ ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد، فاعلموا إنا عاملون وانتظروا إنّا منتظرون"( ).
جواب أبي بكر:
إلى هنا تكون فاطمة الزهراء(ع) قد انتهت من خطبتها، وقد أجابها أبو بكر بعد الخطبة، فقال: "يا ابنة رسول الله، لقد كان أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً رؤوفاً رحيماً، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيما، فإن عزوناه ـ أي نسبناه ـ وجدناه أباك دون النساء وأخاً لبعلك دون الأخلاّء، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبّكم إلا كلّ سعيد ولا يبغضكم إلا كلّ شقي، فأنتم عترة رسول الله الطيبون والخيرة المنتجبون على الخير أدلّتنا وإلى الجنة مسالكنا، وأنتِ يا خيرةَ النساء وابنة خير الأنبياء صادقة في قولك سابقة في وفور عقلك غير مردودة عن حقك ولا مصدودة عن صدقك، ووالله ما عدوت رأي رسول الله(ص) إذ يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورّث الكتب والحكمة والعلم والنبوّة، وما كان لنا من طعمة فلوليّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه، وقد جعلنا ما حاولته ـ أي ما أردتِه من فدك ـ في الكراع والسلاح يقاتل به المسلمون، لم أتفرّد به وحدي ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك ـ أي أعطيك مما لديّ ـ لا نزوي عنك ولا ندخّر دونك وأنت سيدة أمة أبيك والشجرة الطيبة لبنيك، ندفع مالك من فضلك ولا يوضع من فرعك وأصلك حكمك ناقد فيما ملكت يداي ـ فهذا ما لا أملكه ـ فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك(ص)؟".
ردّ الزهراء(ع):
فقالت(ع): "سبحان الله ما كان رسول الله(ص) عن كتاب الله صادقاً" وقد حدّثت عن كتاب الله والنبي(ص) لا يمكن أن يقول ما تقوله ـ يا أبا بكر ـ لأنه هو الذي جاء بالصدق وصدّق به، وهو الذي بلّغ كتاب الله إلى الناس، فإذا كان بلّغه إليهم فكيف يمكن أن يخالفه في هذا الأمر فيقول ما تقول من أننا معاشر الأنبياء لا نورّث، مع أن كتاب الله يقول إن الأنبياء يورّثون.
"ولا لأحكامه مخالفاً، بل كان يتبع أثره" أي أثر الكتاب "ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور"، أي تتكلمون عليه بغير الحق "وهذا بعد وفاته شبيهٌ بما بغي له من الغوائل في حياته، فهذا كتاب الله الذي بقي بعده، حكماً عدلاً وناطقاً فصلاً، يقول: {يرثُني ويَرِثُ منْ آلِ يَعْقونَ}، {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُودَ} فبيّن الله عز وجل فيما وزّع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث وأباح من حظ الذكران والإناث ما أزاح علّة المبطلين وأزال التظنّي" أي كل ظنّ على خلاف ذلك "والشبهات في الغابرين، كلاّ بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون".
تعقيب أبي بكر:
فقال (أبو بكر): "صدق الله ورسوله وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة وركن الدين وعين الحجة، ولا أبعد صوابك ولا أنكر خطابك، هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلّدوني ما تقلّدت وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر ولا مستبدّ ولا مستأثر وهم بذلك شهود".
ردّ الزهراء(ع):
فالتفتت فاطمة(ع) وقالت: "معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل المغضية على الفعل القبيح الخاسر {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها} كلاّ بل ران على قلوبكم" أي أن هناك حاجزاً بين قلوبكم وبين الانفتاح على الحقيقة "ما أسأتم من أعمالكم فأخذ بسمعكم وأبصاركم ولبئس ما تؤوّلتم وساء ما به أشرتم وشرّ ما منه اعتضم" أي خانكم العوض "لتجدنّ والله محمله ثقيلاً وغبّه وبيلاً إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراء الضرّاء وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون وخسر هنالك المبطلون".
ثم عطفت على قبر النبي(ص) وقالت:
    قد كــــــــان بعــدك أنبـــــاء وهنبّثة        لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ    
    إنا فقدناك فقد الأرض وابلها        واختلّ قومُك فاشهدهم فقد نكبوا    
وهذه هي قصة الزهراء(ع) في خطبتها البليغة المتنوعة في مواضيعها وأسرارها، والتي تدل على مدى ما كانت الزهراء(ع) تملكه من علم ووعي بالإسلام كله عقيدة وشريعة، وما كانت تملكه من وعي للواقع وفهم للناس آنذاك، وللقرآن الكريم في حججه وبراهينه كلها، وقوة في المنطق وصلابة في الحق وشجاعة في التحدي.
إن هذه الخطبة تمثل الزهراء(ع) في هذا الموقع العلمي الروحي المنفتح على الحقيقة كلها وعلى الله كله وعلى الرسول كله، فإذا أردتم أن تتعرفوا على الزهراء(ع) فاقرأوها في كلماتها، واقرأوها في سيرتها، واقرأوها في جهادها، واقرأوها في مواقع التحدي، واقرأوها كلاً متكاملاً لتكن قدوةً لنا في الروحانية والعلم والمسؤولية والجهاد بالكلمة والموقف.
إن مشكلتنا هي أننا نفهم الزهراء في كل ما يتحرك الناس به مأساةً ولكن الزهراء(ع) تمثل فرح العلم والروحانية والروح والجهاد لأنها كانت ابنة رسول الله(ص) عقلاً وروحاً وفكراً.. كان عقلها من عقله، وقلبها من قلبه، وعلمها من علمه، وحياتها في خط حياته.. والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الثانية والعشرون: 11 رجب 1419هـ/ الموافق 31 - 10  – 1998م

في ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع)

القيادة الفكرية والروحية والحركية

"عندما نقرأ تأريخ الإمام الهادي(ع) فإننا نستوحي أنه كان محلّ احترام وتقدير الناس في الحرمين رغم اختلاف مذاهبهم"


ـ ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع).
ـ خوف السلطة من شعبيته.
ـ خُلُق الإمام(ع).
ـ رسالة المتوكل إلى الإمام(ع).
ـ منزلة الإمام الرفيعة.
ـ عمل وعطاء رغم الحصار.
ـ وصيّة لأصحابه.
ـ تفسير الإمام الهادي(ع) للقرآن.
ـ قبسات من نوره.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع):
في هذه الليلة نلتقي مع ذكرى وفاة الإمام علي بن محمد الهادي(ع)، وهو الإمام العاشر من أئمة أهل البيت(ع).. ونحن نحاول في خط الإمامة أن نلتقي ببعض الأوضاع التي كانوا يعيشونها، وبعض الضغوط التي كانت تحيط بهم، وبعض كلماتهم ونصائحهم ومواعظهم وخطوطهم الفكرية بما يتسع له المجال.
فعندما نقرأ تاريخ الإمام الهادي(ع) فإننا نستوحي منه أنه كان محل احترام وتقدير الناس في الحمين (مكة والمدينة) ومن الطبيعي أن يكون هذا التقدير وهذا الاحترام بمستوى استثنائي، إذ لا بد أن يكون ناشئاً من خلال القيادة الفكرية والروحية والحركية التي كانت تدخل إلى كل عقل وإلى كل قلب، لأنه ليس من الطبيعي أن يأخذ إنسان هذا المستوى من الإكبار والتعظيم بدون أن يترك تأثيره الكبير في عقول الناس وقلوبهم وحياتهم، مع ملاحظة أن الناس في الحرمين لم يكونوا على رأي واحد في المذهبية، بل كانوا يختلفون، فلم يعهد أن الناس في مكة والمدينة آنذاك كانوا إماميين يتشيعون لأهل البيت، بل كانوا مختلفين في آرائهم المذهبية، ومع ذلك نجدهم يلتقون على احترام شخصية الإمام الهادي(ع).
فمن أين نعرف هذا النوع من الشعبية الواسعة ـ كما هو التعبير السائد في هذه الأيام ـ إننا نعرف ذلك من خلال رسالة بعث بها أحد المسؤولين في المدينة إلى الخليفة العباسي (المتوكل) ثم من خلال ردود الفعل التي حدثت عندما أريد للإمام أن ينتقل من المدينة إلى بغداد أو إلى سامراء.
خوف السلطة من شعبيّته:
ففيما رواه (المسعودي) قال: "كتب بريحة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل إن كان لك بالحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منها، فإنه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلقٌ كثير، وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى فوجّه المتوكل بيحييى بن هرثمة وكتب معه إلى أبي الحسن كتاباً جليلاً يعرّفه أنه قد اشتاقه ويسأله القدوم عليه، وأمر يحيى بالسير معه كما يحب، وكتب إلى بريحة يعرّفه ذلك"( ).
من هذا نعرف أن بريحة من بني العباس وهو من عائلة الخلافة، وهو يكتب إلى المتوكل أن الحرمين كادا أن يكونا تحت إمرة الإمام الهادي(ع)، ونحن نعرف أن الإمام الهادي(ع) لم يكن في موقع الدعوة إلى الثورة ضد الخلافة العباسية، لأن الظروف الموجودة آنذاك لم تكن تسمح بمثل هذا العمل، ولكن هذا الرجل عندما رأى أن الناس تلتف حول الإمام التفافاً يوحي أنالناس يرون فيه ذلك، ويعتقدون أنه الشخص المفضّل في إدارة أمور الناس، ومن هنا فإن هذه الرسالة تُشعر مركز السلطة بالخطر الذي تحسسه بريحة مما دعاه إلى متابعة الكتابة إلى المتوكل.
استدعاء الإمام إلى سامراء:
وكان دور المتوكل هو استدعاء الإمام(ع) إلى مدينة الخلافة من أجل أن يكون تحت رقابته، لهذا كتب كتاباً حمّله إلى يحيى بن هرثمة "فقدم يحييى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلى بريحة وركبا جميعاً إلى أبي الحسن، فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثاً، فلما كان بعد ثلاث عاد إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها، خرج متوجهاً نحو العراق واتّبعه بريحة مشيّعاً".
هنا نلاحظ أن بريحة شعر ـ وهذا ما يستفيده كل من يتجسس لصالح الظالمين ـ من خلال كتاب المتوكل الذي كان مليئاً بالاحترام للإمام الهادي(ع)، شعر أن الإمام موضع احترام عند المتوكل، وخاف أن يتحدث الإمام مع المتوكل ضده، وربما يعاقبه المتوكل على ما فعله ضد الإمام، فحاول أن يهدد الإمام بأنه إذا تكلم إلى المتوكل ضده فإنه سوف يتفرّغ لكل أملاكه وأهله في المدينة، لأنه في موقع القوة فهو صاحب الصلاة، كما علمنا قبل قليل.. ونتاب النص: "فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك وعليَّ حَلفٌ بأيمان مغلّظة لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحد من خاصّته وأبنائه لأجمّرن نخلك ولأقتلنّ مواليك ولأعورنّ عيوم ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ".
كل ذلك من أجل أن يحمي نفسه بهذا التهديد من وشاية الإمام به عند المتوكل، فلنلاحظ عظمة الإمام وأخلاقيته من خلال ردّ فعله "فالتفت إليه أبو الحسن فقال له: إن أقرب عَرضي إياك على الله البارحة وما كنت لأعرضنّك عليه، ثم لأشكونّك إلى غيره من خلقه"( ).
فالإمام هنا يقول له لقدعرضت أمرك على الله إذ دعوته عليك أمس، وعندما يسيء إليّ أحد فأنا أعرض أمره على الله لأنه هو القادر على أن يقتصّ منه، فلا يمكن أن أشكوك إلى أحد من خلقه، فمن كانت علاقته مع الله تعالى في كل ما يهمه وما يعرض عليه لا يمكن أن يدخل المخلوقين فيما طرحه على الله.
ويبدون أن بريحة اهتزّ من كلام الإمام(ع) وارتعد "قال فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه، فقال له: قد عفوتُ عنك"( )، وهذا هو خُلُق أهل البيت(ع) مع كل من أساؤوا إليهم.
رسالة المتوكل إلى الإمام(ع):
ونحاول أن نقرأ أيضاً رسالة المتوكل التي وجهها إلى الإمام(ع)، ويمكن هنا ملاحظة أسلوب الخلفاء في تعاملهم مع الشخصيات المهمة ذات الموقع الإيماني المؤثر في المجتمع، حيث يقول (المفيد) "كان سبب شخوص أبي الحسن علي بن محمد(ع) في المدينة إلى سرّ من رأى أن عبدالله بن محمد كان ينوب عن الخليفة المتوكل الحرب والصلاة بالمدينة الشريفة، فسعى بأبي الحسن إلى المتوكل وكان يقصده بالأذى، فبلغ أبو الحسن سعايته،فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبدالله بن محمد عليه وكذّبه فيما سعى به بالأذى، فتقدّم المتوكل بالكتابة إليه وأجابه عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول فخرجت نسخة الكتاب، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك، راعٍ لقرابتك، موجب لحقّك، مقدّر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم ويثبّت به عزّك وعزّهم ويدخل الأمن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضا ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم"( )، فهو يعرف أن هناك واجباً أو فريضة في احترام أهل البيت(ع)..
"قد رأى أمير المؤمنين صرف عبدالله بن محمد عما كان يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول(ص) إذا كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك، وإنما فرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في برّك وقولك وأنك لم تؤهّل نفسك لما قرفت بطلبه.. وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك، وأمير المؤمنين مشتاق إليك"، ولاحظوا كيف يستخدم المغالطات، فو يردي أن يضعه تحت الإقامة الجبرية لكنه يحاول أن يستخدم اللين واللطف في رسالته.
"يحبّ إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نشطت لزيارته والمقام قِبَله ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت وتسير كيف شئت، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرحلون برحلك ويسيرون بسيرك، فالأمر في ذلك إليك وقد تقدّمنا إليه بطاعتك فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحد من إخوانه وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلةً ولا أحمد له أثره ولا هو لهم أنظر ولا عليهم أشفق وبهم أبرّ وإليهم أسكن منه إليك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته"( ).
فهذا أسلوب المتوكل في استدعاء الإمام إلى سامراء، أما (يحيى) الذي جاء بالإمام إلى بغداد فقد التقى بأكثر من مسؤول من مسؤولي المتوكل وهدده بأن لا يقوم بأي  عمل من الأعمال التي يمكن أن تضرّ بالإمام، ممايدلّ على التقدير الذي كان يحظى به الإمام لما له من منزلة كبرى حتى عند حاشية المتوكل وعند الذين كانوا يريدون الإيقاع به والإساءة إليه.
يقول(يحيى): "فلما قدمت مدينة السلام بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان على بغداد، فقال لي: يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله(ص) والمتوكل من تعمل ـ أي بقسوته ـ فإن حرّضته على قتله كان رسول الله(ص) خصمك يوم القيامة، فقلت له: والله ما وقعت منه إلا على كل أمر جميل.
ثم صرت به إلى سرّ من رأى فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله فقال: والله لئن سقط منه شعرة لا يُطالب بها سواك، قال: فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق".
منزلة الإمام الرفيعة:
من كل ذلك نخلص إلى الموقع الذي كان يشغله الإمام في نفوس الناس، يقول (يحيى): "فذهبت إلى المدينة فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي، وقامت الدنيا على ساق لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجلعت أسكّنهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه وأنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنتُ عشرته"( ).
فمن هذا وغيره نعرف أن الإمام الهادي(ع) كان يتميّز بثقة ومحبة عند الناس بشكل لم يختلفوا عليه حتى مع اختلاف مذاهبهم، بحيث امتدت محبته وتعظيمه حتى إلى حاشية المتوكل في بغداد وسامراء بالمستوى الذي يهدد فيه والي بغداد ووصيف التركي بأنه إذا سقطت شعرة منه فإنه يطالب بها بكل قوة، مما لم نعهده في تعامل الخلفاء مع أي إمام من أئمة أهل البيت(ع)، وكما قلنا ـ فإن هذا يوحي بأن حركة الإمام(ع) في إدارة شؤون الناس من خلال إحسانه إليهم تارة ومن خلال تثقيفه لهم، ومن خلال رعاية أموره، مما جعله في موقع محبة الناس كلّهم.
وهناك روايات تذكر أن المتوكل استدعى الإمام إلى مجلس وعرض عليه الشراب، فأنكر الإمام ذلك وأنشد قصيدة يعظه فيها والتي مطلعها:
    باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرُسُهُم        غُلبُ الرجال فلم تنفعهم القللُ    
عمل وعطاء رغم الحصار:
وقد عانى الإمام(ع) من تصرفات المتوكل الكثيرة، فاستدعاؤه من المدينة إلى سامراء كان من أجل محاصرته وإبعاده عن الجمهور المسلم الذي كان ينتفع به ويعظّمه، لأن الخلفاء العباسيين الذين كانوا يعيشون أوضاعاً سلبية في مستوى الالتزام الديني، كانوا يضيقون بأي إمام منالأئمة المعاصرين لهم لما يرونه من ثقة الناس بإمامتهم والانقلاب على الخلفاء لمصلحة خط الإمامة، ولذلك لم نرَ خليفة منهم إلا وهويعمل على محاصرة الإمام ووضعه تحت الرقابة أو سجنه.
لكننا نلاحظ أن الإمام الهادي(ع) بالرغم من كل هذا الحصار الذي كان في سامراء، كانت له امتدادات واسعة المواقع الإسلامية، فكان يمارس عملية تنظيم الوكلاء بحيث كان له وكيل في كل منطقة من المناطق التي له فيها أتباع وشيعة يأتمرون بأمره، وكان يمارس أيضاً ـ كما يتضح ذلك من خلال رسائله ـ مسؤوليات عزل شخص وتعيين آخر مكانه، ويعطي التعليمات لهذا وذاك مما يدل على أن الحصار الذي حوصر به لم يحل دون الاتصال بكل المناطق الي يملك فيها أتباعاً وجماهير تدين بإمامته وتؤمن وتثق به.
وصيّته لأصحابه:
وكدليل على ذلك، دعونا نقرأ كتاباً واحداً ـ بما يسع له المجال ـ يقول الراوي أن محمد بن عيسى قال: "نسخت الكتاب مع ابن راشد إلى جماعة الموالي الذين هم ببغداد المقيمين بها والمدائن والسواد وما يليها ـ أحمد الله إليكم ما أنا عليه من عافيته وحسن عادته وأصلّي على نبيّه وآله أفضل صلاته وأكمل رحمته ورأفته وأني أقمت أبا علي ابن راشد مقام علي بن الحسين بن عبد ربه، ومن كان قبله من وكلائي وصار في منزلته عندي وولّيته ما كان يتولاّه غيره من وكلائي قبلكم ليقبض حقي وارتضيته لكم وقدمته في ذلك وهو أهله وموضعه، فصيروا رحمكم الله إلى الدفع إليه ذلك وإليّ أن لا تجعلوا له على أنفسكم علّة، فعليكم بالخروج عن ذلك والتسرّع إلى طاعة الله وتحليل أموالكم والحقن لدمائكم، وتعاونوا على البرّ والتقوى واتقوا الله لعلكم ترحمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، فقد أوجبت في طاعته طاعتي والخروج إلى عصيانه عصياني، فالزموا الطريق يؤجركم الله من فضله فإن الله بما عنده واسع كريم متطوّل على عباده رحيم، ونحن وأنتم في وديعة الله وحفظه، وكتبته بخطي والحمدلله كثيراً"( ).
وهذا يدل على وجود تخطيط واسع جداً لرعاية الناس الموجودين في المناطق كلها، فالكتاب إلى المقيمين في بغداد والمدائن والسواد وما يليه، كما يدلّ على أن الامتداد في حركة الإمام(ع) كان واسعاً بشكل استثنائي.
تفسير الإمام الهادي(ع) للقرآن:
وفيما روي عنه(ع) في تفسير القرآن، قال أبو جعفر الطوسي، حدّثنا يعقوب ابن السكيت النحوي، قال: سألت أبا الحسن علي بن محمد بن الرضا(ع): "ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ قال: إن الله تعالى لم يجعله لزمانٍ دونزمان، ولا لناسٍ دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كل قومٍ غضّ إلى يوم القيامة"( ).
فأيما كتاب يتقادم العهد عليه ينساه الناس فكأنما يفقد تأثيره لكثرة قراءة الناس له، بينما نرى القرآن كلما قُرئ أكثر وامتدّ به الزمان أكثر كان جديداً ألأكثر، فالقرآن ليس مجرد كتاب يؤرّخ للأمم التي تحدث عنها، أو يؤرّخ للمرحلة التي نزل فيها، أو يشرّع للناس الذين عاشوا في عهده، بل إنه نزل ليكون نوراً للناس، فالله سبحانه وتعالى ذكر في أكثر من آية مخاطباً النبي(ص) أن الله أنزل عليك القرآن لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فدوره أن ينير عقل الإنسان وقلبه وحياته في كل مجال باعتباره الكتاب النهائي الذي أنزله الله على البشر، فهو كتاب الحياة كلها منذ أن نزل، وهو مصدّق الذي بين يديه.
فالقرآن عالج (غزوة بدر) ولهذه الغزوة جانب تاريخي وهكذا (أحد) و(حنين) و(الأحزاب) ومسألة الإفك، وتناول قضايا تتحرك في نطاق أشخاص، لكنها ممتدة بامتداد الحياة فمن كلام الإمام نفهم أن هناك جانباً إيجابياً في كل ذلك، فهو إذ يعالج واقعة معينة يطرحها كنموذج من نماذج المبدأ العام..
فآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}  نزلت في أخبار (الوليد) بارتداد (بني المصطلق) لكن الله لم يعالج قضية الوليد وقضية بني المصطلق حصراً، بل عالج الخط العام لأية مشكلة مماثلة، فكل رجل فاسق يخبر بخبر يضرّ بالآخرين يندرج تحت هذه الآية وذلك في مدى الزمن كله وليس في زمن الواقعة فحسب، فالقرآن كما يقول الإمام الباقر(ع) "يجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر".
الشكّ المنهجيّ:
ونلاحظ كذلك أن الإمام الهادي(ع) يركّز على أسلوب القرآن، فعندما تكون هناك مشكلة بينك وبين شخص آخر فعليك ـ في طريقة التعبير ـ أن تساوي نفسك بالآخر، فعندما تتحدث مثلاً مع شخص يشكّ وأنت على يقين، ففي مجال الحوار ولأجل إيصاله إلى الحقيقة حاول أن تظهر نفسك بمظهر الشاك، أو إذا كانت هناك مباهلة فإنك ـ في العادة ـ تقول للطرف الآخر إذا كنت كاذباً فسيلعنك الله، في حين أن اسلوب القرآن يعلّمك أن تقول: سيلعن الله الكاذب منّا حتى لو كنت صادقاً.
ففي تفسير العياشي بإسناده عن محمد بن سعيد الأزدي أن موسى بن محمد بن الرضا(ع) أخبره أن يحيى ابن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل: "أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}( ) من المخاطب بالآية، فإن كان المخاطب فيها النبي(ص) ليس قد شكّ فيما أنزل الله، وإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذاً أنزل الكتاب؟ ليس قد شكّ فيما أنزل الله، وإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذاً أنزل الكتاب؟ قال موسى: فسألت أخي عن ذلك، قال:
فأما قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فإن المخاطب بذلك رسول الله(ص) ولم يك في شكٍ مما أنزل الله ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا نبياً من الملائكة إنه لم يفرق بينه وبين نبيّه في الاستغناء في المأكل والمشرب والمشي في الأسواق.
فأوحى الله إلى نبيّه {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} بمحضر الجهلة: هل بعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويشرب ويمشي في الأسواق، ولك بهم أسوة وإنما قال: فإن كنت في شكٍ ولم يكن (أي لم يكن في شك) ولكن ليتبعهم كما قال له(ع): {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}( )( ).
فكأنه يفرض النبي شاكّاً ـ وهو ليس بشاك ـ ويقول له كما هم شاكون، افترض أنك في موضع الشك وذلك من أجل أن تجتذب هؤلاء لتحتج عليهم بذلك، فالمباهلة تقتضي أن يفقد كل طرف صفته التي تميّز بها.
ثم يقول الإمام الهادي(ع): "ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيئون للمباهلة، وقد عرف أن نبيّكم مؤدٍّ عنه رسالته، وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النبي(ص) أنه صادق فيما يقول، ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه"( ).
فهذا الذي يستفيده الإمام الهادي(ع) من القرآن هو الأسلوب العلمي الذي يجعل الإنسان الذي يحاورك يقف معك بكل قلب مفتوح، لأنك ساويت نفسك به وأعطيته النصف من نفسك، وهذا تطبيق للآية الكريمة التي تقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}( ).
ظاهر القرآن وتأويله:
ومن تفسيره، عن الصدوق قال: أبي (رحمه الله) قال: "حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد، أن أحمد بن هلال قال: سألت أبا الحسن الأخير(ع) عن التوبة النصوح ما هي؟ فكتب(ع): أن يكون الباطن كالظاهر وأفضل من ذلك".
وهي أن لا تكون التوبة توبة ظاهرية بل تنطلق من عمق عقلك وقلبك وحساسك، بحيث تكون أكثر إخلاصاً في باطنك مما أنت عليه في ظاهرك.
وكان هناك من يقول بربوبيته(ع) فلنقرأ ردّه في النص التالي: كتب إليه إبراهيم ابن شيبة: "جعلت فداك إن عندنا قوماً يختلفون في معرفة فضائلكم بأقاويل مختلفة تشمئز منها القلوب وتضيق لها الصدور، يروون في ذلك الأحاديث، لا يجوز لنا الإقرار بها لما فيها من القول العظيم ـ لأنها غلوّ ـ ولا يجوز ردّها ولا الجحود لها إذا نسبت إلى آبائك"، فنحن في حيرة ذلك عندما نقرأ مضمون هذه الأحاديث، فلا نعقل أن تصدر عنكم لأنها تمثل الغلوّ وأشياء لا تصدّق، ولكن عندما نرى أنها نسبت إلى آبائك فكيف نرفض شيئاً ينسب إليهم، "فنحن وقوف عليها من ذلك لأنهم يقولون ويتأولون معنى قوله عزّ وجل {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}( ) وقوله عزّ وجل {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ}( ) فإن الصلاة معناها (رجل) لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد دراهم ولا إخراج مال وأشياء تشبهها من الفرائض والسنن والمعاصي تأوّلوها وصيّروها على هذا الحد الذي ذكرت، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك ـ شيعتك ـ بما فيه سلامتهم ونجاتهم من الأقاويل التي تصيّرهم إلى العطب والهلاك، والذين ادّعوا هذه الأشياء ادّعوا أنهم أولياء ومحبّون لكم ودعوا إلى طاعتهم منهم (علي بن حسكة الحواض) و(القاسم اليقطيني) فما تقول في القبول منهم جميعاً".
فكتب(ع): "ليس هذا ديننا فاعتزله"( ) فنحن نفسّر القرآن بحسب ظاهره.
ونختم بحديث في الاتجاه نفسه: "قال: حدّثنا (سهل بن زياد الآدمي)، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن العسكري(ع)، جعلت فداك يا سيدي، إن علي بن حسكة يدّعي أنه من أوليائك وأنت الأول القديم وأنه بابك ونبيّك" وانظر إلى الاستغلال "أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم أن الصلاة والزكاة والحج والصوم كل ذلك معرفتك، ومعرفة من كان في مثل حال ابن حسكة فيما يدّعي من البابية والنبوّة، فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصلاة والصوم والحج وذكر جميع شرائع الدين أن معنى ذلك كله ما ثبت لك ومال الناس إليه كثيراً"، فهو قد استغل محبة الناس لأهل البيت(ع) "فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة؟".
قال: فكتب(ع): "كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، ويحسبك أني لا أعرفه في مواليّ، ما له لعنه الله، فوالله ما بعث الله محمداً والأنبياء قبله إلا بالحنفية والصلاة والزكاة والصيام والحج والولاية، وما دعا محمد(ص) إلا الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء من ولده عباد الله لا نشرك به شيئاً، إن أطعناه رحمنا وإن عصيناه عذبنا، ما لنا على الله من حجة، بل الحجة لله علينا وعلى جميع خلقه، أبرأ إلى الله ممن يقول ذلك، وأنتفي إلى الله من هذا القول، فاهجرهم لعنهم الله والجؤهم إلى ضيق الطريق، فإن وجدتم أحداً منهم فاخدش رأسه بالحجر"( ).
فالإمام الهادي(ع) وقف أمام كل هذا الاستغلال الذي يستغله هؤلاء الذين يعملون على التحرك في خططهم بالطريقة التي ينسبون فيها إلى الأئمة أشياء ليست من الإسلام في شيء، وليست منهم في شيء في قضايا الغلوّ وما إلى ذلك، ولقد وقف الأئمة(ع) في عهودهم كلها ضد ذلك، وعلينا أن نفهم ذلك على أساس أن لا يستغل أحد محبة أهل البيت(ع) في الانحراف عن الخط مما يأتي به أناس لا يعرفون عمق الخط الأصيل لأهل البيت الذي هو خط الإسلام.
قبسات من نوره:
ونستمع في الختام إلى الكلمة التالية للإمام الهادي(ع) حيث يقول: "من اتقى الله يُتقى" أي أدخل الله هيبته في قلوب الناس "ومن أطاع الله يُطاع، ومن أطاع الخالق لم يبالِ سخط المخلوقين" وهذا ما عبّر عنه رسول الله(ص) "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي" وهذا ما ينبغي لأي مؤمن منفتح على الله ورسوله وعلى الحق "ومن أسخط الخالق خليق أن يحلّ به سخط المخلوقين".
وإنني لأدعو إلى أن نفهم أئمة أهل البيت(ع) في حركتهم في الحياة وخطهم في الدعوة وأسلوبهم في العمل وعلاقتهم بالله، فهذا هو معنى الولاية لهم والاتباع، وذلك بأن يكون موقفنا موقفهم في الإخلاص لله والدعوة إلى الإسلام وحمل المسؤولية في مجالات الحياة كلها على أساس الإسلام.. والحمدلله رب العالمين.

المحاضرة الثالثة والعشرون: 18 رجب 1419هـ/ الموافق 7 - 11  – 1998م

في ذكرى مولد الإمام الباقر(ع)

العلمُ للاستعمال

"مدرسة الإمام الباقر(ع) انفتحت على المذاهب كلّها.. فلنأخذ الدرس الإسلامي الثقافي الوحدوي منها"

ـ ذكرى الإمام الباقر(ع).
ـ مدرسة الإمام الباقر(ع).
ـ الانفتاح على مختلف المذاهب.
ـ استلهام كلمات الإمام(ع).
ـ روحية العلم.
ـ طريقة استيعاب العلم.
ـ قف عندما تعلم.
ـ مذاكرة العلم.
ـ استيحاء القرآن.
ـ الوقوف عند الشبهات.
ـ شمولية الإسلام في الكتاب والسنّة.
ـ درس الذكرى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

ذكرى الإمام الباقر(ع):
في هذا اللقاء نتحدث عن أحد أئمة الإسلام وهو الإمام محمد بن علي الباقر(ع)، ونحن عندما نريد أن نستعيد ذكرى أيةشخصية إسلامية قيادية عاشت مرحلتها وعصرها فأغنت الواقع الإسلامي كله وأجابت عن الكثير من الأسئلة التي قد تكون جواباً على أكثر من سؤال معاصر، فلأننا عندما نعيش مع الشخصيات الفكرية في تاريخنا، لا سيما التي تمثل إمامة إسلامية منفتحة على واقع المسؤولية في إغناء المعرفة الإسلامية وملاحقة القضايا الفكرية التي تمثل تحديات الفكر آنذاك، فإننا لا نتحدث عن ماضٍ ولكننا نتحدث عن حركة الإسلام في الحياة، لأن المفاهيم الإسلامية لا تُعالج مرحلة معينة، بل تعالج الحياة كلها.
والإمام الباقر(ع) هو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت(ع) وقد تعلّم في مدرسته علماء كثيرون، وكانت مرحلته من أشد المراحل التي مرّت على العالم الإسلامي آنذاك وهي مرحلة انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين والتي عاش فيها المسلمون صراعاً عنيفاً انتهى بسقوط العهد الأموي وبداية العهد العباسي.
ففي تلك الفترة كان الإمام الباقر(ع) ومعه ولده الإمام جعفر الصادق(ع) يتحركان في مدرسة مفتوحة على الواقع الإسلامي كله، فبالرغم من أنهما كانا يمثلان في موقعهما المميز عنواناً مذهبياً في ما يعتقده الكثير من المسلمين بأنهما إمامان في موقع الوصاية عن رسول الله(ص) لكنهما في مدرستهما الواسعة التي بدأها الإمام الباقر(ع) كانا منفتحين على الواقع الإسلامي كله، فنرى أن مختلف العلماء ممن يلتزمون اجتهاداً معيناً أو يتبنّون مذهباً معيناً، سواء كان ذلك في خط المذهبية الكلامية مما يختلف فيه الناس في علم الكلام، أو المذهبية الفقهية مما يتنوّع فيه الناس في مذاهبهم الفقهية أو في بعض حركية المفاهيم في الواقع الاجتماعي الذي كان يعيشه الناس، نرى أنهم كانوا تلامذة هاتين المدرستين اللتين هما مدرسة الإسلام.
مدرسة الإمام الباقر(ع):
ولقد كانت مدرسة الإمام الباقر(ع) مدرسة منفتحة على المسلمين كلهم، فلا تضيق بفكر يختلف عن فكرها، ولا تتعقّد من أي سؤال ولا تحجب أحداً عن أي موقع من المواقع، ونحن عندما ندرس تلك المرحلة فإننا نأخذ الدرس الإسلامي الوحدوي في المسألة الثقافية، بحيث يمكننا أن نوسّع الساحة الإسلامية بعيداً عن حساسياتها وعن تعقيداتها وعن اختلافاتها لينطلق المسلمون مع اختلاف أفكارهم ليلتقوا في مدرسة واحدة يطرح فيها كل واحد فكره من دون أي تعقيد.. فما دام الخلاف في تحديد ما هو الإسلام في العقيدة، وما هو الإسلام في الشريعة، وما هو الإسلام في المفاهيم، ما دامت المسألة هي في اكتشاف الحقيقة الإسلامية من الكتاب أو السنّة، فلماذا يحمل المسلم في داخل نفسه حقداً على المسلم الآخر؟!
إن للمسلمين اجتهاداتهم و"للمجتهد أجران إن أصاب، وأجر واحد إن أخطأ"، فلماذا هذه التعقيدات، فقد تخطئ أنت على أساس قاعدة اعتبرتها قاعدة للحكم، وقد أخطئ أنا، لكن قد يكون خطأي مبرراً عندي وقد يكون خطؤك مبرراً عندك، فلماذا لا تكون المسألة هي أن أحاول أن أدلّك على خطأ هنا وتدلّني على خطأ هناك.
إن مشكلة الواقع الشرقي كله المرتكز على الانفعال والعصبية هو أن كل واحد منا يدّعي أنه يملك الحقيقة المطلقة، ولكن المسألة الواقعية هي أنني أدركت ما أعتقد أنه الحقيقة من خلال المعطيات التي بين يدي وقد لا تكون موجودة عندك، وأنت أدركت الحقيقة في معتقدك من خلال المعطيات التي بين يديك، فالمسألة هي أنه ليست هناك معطيات مطلقة في عالم الحوار، وإن كانت هناك معطيات مطلقة في عالم الواقع يصيبها من أصابها ويخطؤها من أخطأها.
الانفتاح على مختلف المذاهب:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ كانت قيمة مدرسة الإمام الباقر(ع) أنها ضمّت مختلف المذاهب والاتجاهات الإسلامية، لأن المذهبية لم تكن قد برزت للواقع آنذاك، كما أن الإمام الباقر(ع)، كان منفتحاً في المسألة الثقافية حتى في الجانب التاريخي، فنحن نجد أن (الطبري) في تاريخه يسند الكثير مما ينقله في هذا التاريخ عن الإمام محمد بن علي الباقر(ع) وكان الإمام يشارك في حركية الواقع حتى أنه ينقل في تاريخه( )، أن ملك الروم هدّد (عبد الملك بن مروان) بعد أن أراد (عبد الملك) تبديل العملة وكانت العملة المتداولة آنذاك هي الرومية، فأرسل إليه ملك الروم أنك إذا بدّلتها فسأصدر عملة أذكر فيها سبّ نبيّكم.
وأطلق هذا التهديد في وجهه وتحيّر (عبد الملك) كيف يمكن له أن يتراجع عن موقفه الذي يضعف موقف الدولة، وإذا لم يتراجع فسيصدر ملك الروم عملة ينقش فيها سبّ النبي(ص)، فأشير عليه أن يرسل إلى الإمام محمد الباقر(ع) ليستقدمه إلى الشام، وقدم عليه وأعطا الرأي في الإصرار على إصدار عملة إسلامية وبيّن له ما يكتب فيها وطلب إليه أن يلزم المسلمين آنذاك باستعمال هذه العملة وأن لا يستعلموا عملة ملك الروم تحت طائلة العقولة، وهكذا حدث، وعندما قيل لملك الروم لماذا لم تنفّذ تهديدك؟ قال: إن معنى ذلك أن العملة التي سوف نصدرها على أساس التهديد سوف نستعملها نحن بعد أن منع المسلمون من تداول عملتنا، وبهذا أنقذ الإمام الباقر(ع) الواقع الإسلامي من ورطة وأزمة حقيقية، بل كان يشارك حتى في القضايا التي تتصل بالواقع الإسلامي في مثل هذه الجوانب.
استلهام كلمات الإمام(ع):
ونحن ـ أيها الأحبة ـ نريد في هذا اللقاء أن نتحدث عن بعض كلماته التي كان يثيرها أمام الناس في مختلف جوانب المعرفة، لأننا نرى أن الارتباط بنبينا(ص) وبأئمتنا(ع) لا بد أن يكون ارتباطاً ثقافياً روحياً ولا يكفي أن يكون ارتباطاً عاطفياً ولائياً، لأن الارتباط العاطفي يجعلك تعيش مع هذه الشخصيات المقدسة في نبضات قلبك، أما الارتباط الثقافي الروحي فإنه يجعلك تعيش مع هؤلاء في حركة عقلك وفي تخطيط طريقك وفي كل حيوية نشاطك في الواقع.
فالمطلوب في حركة الناس مع رموز العقيدة الإسلامية هو أن يعيشوا فكرهم كله لا أن يبقوا عندنا مجرد دمعة نسيلها أو فرحة نطلقها في مولد هنا، وحزن في وفاة هناك، لأنهم حدّثونا عن الإسلام في عقائده، فلا بد أن تكون أحاديثهم أحاديث العقيدة عندنا، وحدثونا عن الإسلام في شرائعهم، فلا بد أن تكون أحاديثهم هي أحاديث الشرائع عندنا، حتى يكونوا حاضرين معنا حضور الإسلام الذي جاهدوا من أجله في المجالات كلها، ولكي لا يكونوا مجرد شخصيات في التاريخ نحترمها، بل أن يكونوا شخصيات الحياة المتحركة مع كل جيل يتبعها.
روحية العلم:
فهناك كلمات تحدّث فيها الإمام(ع) في إطار العلم، ما هي الروحية التي ينبغي للمتعلم أن يعيشها لغاية العلم في نفسه، لأن هناك من يطلب العلم من أجل أن يخدم العلم شخصه في معنى الجاه وفي معنى الكسب المادي، وهناك من يطلب العلم ليستعرض عضلاته العلمية في مواجهة الناس لتأكيد ذاته، وهناك من يطلب العلم من أجل أن ينير ذاته في معرفة الحقيقة، وأن ينير في العلم مجتمعه في إضاءة قضاياه كلها بالحقيقة.
يقول(ع): "من طلب العلم ليباهي به العلماء" يعني أن يصير عالماً يفاخر العلماء بعلمه "ويماري به السفهاء" يجادلهم "أو يصرف به وجوه الناس إليه" حتى يصبح شخصية علمية بحيث يتوجّه الناس إليه من أجل أن يعظّموه وأن يحترموه وأن يمنحوه الامتيازات التي يريدها لنفسه، بحيث يعيش الشخصية الطاووسية في داخل ذاته وفي حركته في الواقع "فليتبوّأ مقعده من النار"( ) لأنه يطلب العلم للشيطان ولا يطلبه لله.
طريقة استيعاب العلم:
وفي حديث آخر يعرّفنا كيف نستوعب العلم عندما نستمع إليه في أي خط من خطوطه، كيف نستوعبه، وكيف نهضمه، وكيف نحوّله إلى فكر يحكم تطوراتنا الثقافية كلها والتزاماتنا العلمية كلها وانتماءاتنا الحركية كلها؟.. يقول أحد الرواة (محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى) عن أبيه قال: سمعت أبا جعفر(ع) ـ وهذ كنية الإمام الباقر(ع) ـ يقول: "إذا سمعتم العلم فاستعملوه" يعني حوّلوه إلى واقع عملي حركي بحيث لا يبقى مجرد فكرة في العقل، بل لا بد  أن يتحوّل إلى حركة في الواقع "ولتتسع قلوبكم" يعني اجعلوا قلوبكم واسعة، والمراد بقلوبكم هنا هي المنطقة الداخلية للفكر وللإحساس "فإنّ العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله" يعني يعجز عن احتماله واحتمال ما يتبعه من العمل "قدر الشيطان عليه"، لأنه عندما لا ينضج العلم في قلبك ولا يتحوّل إلى فكرة ثابتة في الذات، فإن من الطبيعي أن يبقى في السطح، وإذا بقي في السطح وابتعد عن العمق سيطر الشيطان عليه.
مواجهة الشيطان:
"وإذا خاصمكم الشيطان" يعني أراد أن يدخل إليكم بوسوسته وبشبهاته "فأقبلوا عليه بما تعرفون" يعني حاول أن تكون لديك المعرفة لكل ما يثيره الشيطان أمامك مما يريد أن يوسوس لك لتهتز عقيدتك، أو يريد أن يزيّن لك لينحرف طريقك "وإذا خاصمكم الشيطان فأقبلوا عليه بما تعرفون، فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً"، يعني لا تعتبر الشيطان قوياً عندما يقتحم عليك عقلك فيما يحمل من فكر، وقلبك فيما يحمل من مشاعر وأحاسيس، وخطك فيما تستيم به خطواتك، لا تتصور أن الشيطان قوي، ذلك أن مشكلتنا مع الشيطان هي أنه يستغل ضعفنا ويبعدنا عما نعرف ليقودنا إلى ما نهوى.
ولذلك فإن قو الشيطان تنطلق من ضعفنا، كما هي الحال الآن في واقعنا السياسي في العالم، فليس من الضروري أن أعداءنا من الشياطين الكبار والصغار هم أقوى منّا، صحيح أنهم يملكون القوة ولكنهم أقوياء بضعفنا، فإذا قوينا وأخذنا بأسباب القوة أمكننا أن نقف أمامهم وجهاً لوجه، ولكننا نصنع الضعف لأنفسنا ويصنعون القوة لأنفسهم فيسيطرون علينا من خلال سيطرتهم على نقاط الضعف، فالشيطان لا يملك الحجة لأنه ينطلق من الباطل.
فما هي أساليب الشيطان {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ}( )، {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}( )، {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}( )، وهو في يوم القيامة يعلن الخطة التي اتبعها في الحياة الدنيا {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}( )، فالله قال لكم إنني أكذب وحرفتي هي الكذب، وأنا أخدع وأغوي، فأنا كذلك طبيب التجميل أجمّل القبيح وأقبّح الجميل، فالشيطان متخصص بالصورتين معاً، إذ أنه لا يملك القاعدة ولا الحجة، لذلك فإذا تسلّحت بمعرفة الحقيقة وهضمتها وحوّلتها إلى جزء من ذاتك الثقافية والفكرية أمكنك أن تكتشف أسلوب وسوسة الشيطان، وأمكنك كشف أسلوب اللعب على الصور ومحاولة تغير الصورة "وإذا خاصمكم الشيطان فاقبلوا عليه بما تعرفون، فإن كيد اشيطان كان ضعيفاً" فقلت وما الذي نعرفه؟ قال: "خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عز وجل"( )، يعني اعرفوا الله في مواقع قدرته، فإذا أراد أن يثير الوسوسة والشك بالله فحركوا ثقافتكم كلها فيما تعرفونه من أسرار خلق الله ومن مواقع قدرته ووجهوها إليه فسيسقط أمامكم.
قف عندَ ما تعلم:
ثم يدخل الإمام الباقر(ع) في مسألة أن الإنسان يجب عليه أن يقف عند ما يعلم ولا يحاول أن يتحرك أو يتحدث بما لا يعلم، لأنه يفقد القاعدة الثقافية في هذا الموضوع ويمكن أن يسيء إلى الناس الذين يتحدث إليهم عندما يتحدث إليهم بالجهل، يقول(ع): "ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم، إن الرجل لينتزع الآية من القرآن"، يعني يحاول أن يفسر القرآن وهو لا يملك ثقافة تفسير الآية، لأنه لا يعرف عمقها وامتدادها وآفاقها وإنما يحاول أن يتحدث عنها في السطح "إن الرجل لينتزع بالآية من القرآن" أي يستخرجها ليتحدث عنها "يخرّ فيها أبعد ما بين السماء"( ) نتيجة هذا الجهل الذي يسلّطه عليه فيشوّه صورة الآية بجهله، وبذلك يقدّم للناس تفسيراً يبتعد بهم عن القرآن ويبتعد بهم عن الله سبحانه وتعالى.
وهذا من الأمور التي ربما نعيشها في حياتنا، لأن اللكثير من الناس الذين قد يملكون بفعل طبيعة التعقيدات الاجتماعية اسماً علمياً يجعل الناس يطلبون منهم أن يتحدثوا في كل شيء حتى فيما يجلهونه، وربما يوسوس إليهم الشيطان أنهم إذا قالوا عن شيء أنهم لا يعلمونه، وأن هذا ليس من اختصاصي، أو لم أطلع عليه، أو يحتاج إلى مراجعة، فإن قيمته تسقط، ولذلك فإنهم يحدّثون الناس بما يجهلونه من ذلك مستغلين جهلهم مما يجعل الناس لا يكتشفون ذلك، ولعل مشكلتنا في العالم الإسلامي كله هي أن الذين يملكون الجهل كأوسع ما يكون يحاولون أن يتمثلوا واقعهم في حياة الناس كما لو كانوا علماء في أوسع ما يكون العلم.
مذاكرة العلم:
ثم يحاول الإمام الباقر(ع) أن يبيّن لنا أن مسألة العلم لا تقتصر على أن تقرأ وتسمع، لأن قراءة العلم وسماعه مسألة سلبية، فأنت تتلقى ما يعطيك الآخرون وقد لا يتعمّق العلم عندك بالقراءة وحدها وبالسماع وحده، فلا بد لك لكي تعمّق العلم أن تذاكره، يعني أن تتذاكر العلم مع الذين يملكون ما تملك أو أنهم يتعلّمون ما تتعلم، لأن التذاكر يجعل فكراً يصطدم بفكر أو ينفتح على فكر، وربما يكون هذا التذاكر عملية تفاعل ذاتي مع العلم مما يجعل العلم يتعمّق في ذاتك "تذاكر العلم دراسة والدراسة صلاة حسنة"( )، وهنا يرتفع الإمام بدراسة العلم إلى أن يعتبره صلاة فأنت حينما تتدارس العلم مع لآخرين فإنك تصلّي، أي يصلي عقلك ليتعبّد إلى الحق حتى يفيض عليه الحقيقة.
ونحن نعلم أن في العلم حالة ربانية كما أن فيه حالة بشرية، لأن الله يفيض على لإنسان الذي يطلب العلم بالحق مما قد لم يطّلع عليه في دراسته، وقد ورد في بعض الأحاديث "العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه"( )، فأنت حينما تتعلم فإنك تضيء شمعة في عقلك ولكن الأضواء التي تأتي من حالة الروح تجعل عقلك شموعاً كله، وقد روينا عن علي(ع) أنه قال: "المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق"( )، فكلما أنفقته أكثر انفتح عليك أفق من العلم أوسع، وهذه مسألة قد تتصل بجانب الروح أكثر مما تتصل بجانب العقل.
وحتى الآن لم يستطع الإنسان ـ بالرغم مما وصل إليه من الاكتشافات ـ أن يدرك جدلية العلاقة بين الروح وبين العقل، ذلك أن هناك أشياء تعيشها وتحسّ بها فتغمرك بشيء يشبه الفيضان في الأحاسيس والمشاعر ولا تدري كيف جاء هذا وكيف تعمّق ذاك، ولكنه شيء قد يلتقي فيه العقل بالروح وتندمج الروح بالعقل فينشأ من ذلك شيء مما تتعلمه وشيء مما تفيض به الروح عليك.
استيحاء القرآن:
وننطلق إلى دائرة أخرى مما يتحدث به الإمام الباقر(ع) وهو العمل على استيحاء الجانب المادي في القرآن من الجانب المعنوي، فنحن نقرأ في قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا}( )، فالله تعالى هنا يتحدث عن الطعام الذي نتغذى به، وقد تحدث عن الزيتون والنخل والعنب والرمان، وما إلى ذلك، ولكن ـ عن زيد الشحام ـ عن أبي جعفر في قول الله عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}، قال قلت: ما طعامه؟ قال: "علمه الذي يأخذه ممن يأخذه"( ).
فالآية تتحدث عن طعام الجسد، والإمام يتحدث عن طعام العقل وعن طعام الروح، فكأنه يقول إذا امتنّ الله عليك بهذا الغذاء الذي يبني جسدك مما هيّأه لك في زراعة الأرض، فعليك أن تفكر في أن الله يمتنّ عليك بما ينمّي عقلك وروحك وإحساسك وشعورك، وكما أنك تهتم بطعامك ممن تأخذه لتأخذ ممن يؤتمن على نظافة الطعام، وعلى ما فيه من غنى غذائي، فعليك أن تهتم أيضاً في من تأخذ منه طعامك الثقافي والروحي، بل ربما يكون هذا أخطر من ذاك لأن ذلك قد يخلق لك مرضاً تداويه، أما هذا فقد يخلق لك انحرافاً وضلالاً لا تملك دواءه.
هذه هي بعض الكلمات التي تكلم بها الإمام الباقر(ع) فيما يتعلق بمسألة العلم.
الوقوف عند الشبهات:
وهناك مسألة تتصل بهذا الجانب أيضاً وهي مسألة الرواية، أي عندما تروي حديثاً ولا سيما إذا كان هذا الحديث عن مصدر يتصل بعقيدتك وبمسؤوليتك الشرعية، قال: "الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة"، فإذا كانت هناك حالة يشتبه فيها الأمر عليك فلا تملك وضوحاً في معرفة الخير والشر أو الصلاح والفساد أو الحق والباطل، فإن عليك أن تقتف لتبحث ولتسأل ولتثبّت ولتحرّك التجربة لتضيء لك تلك الشبهة ولتعرف الحقيقة التي تضيء الموقف كله، لأنك إذا تحركت في الشبهة من دون أن تعرف إلى أين وفي أي مجال كله، لأنك إذا تحركت في الشبهة من دون أن تعرف إلى أين وفي أي مجال تتحرك، فقد تنتظرك الهلكة التي قد تقع فيها وأنت لا تعلم "وتركك حديثاً لم تروِه خير من روايتك حديثاً لم تحصه"( )، فإذا أردت أن تقدّم حديثاً فإن عليك أن تعرفه وأن تحفظ عناصره كلّها لتكون دقيقاً في نقله ولتكون واعياً لمفاهيمه ولعناصره، فذلك خير من أن تنقله كيفما كان.
شمولية الإسلامفي الكتاب والسنّة:
وهناك نقطة أكدها الإمام(ع) في شمولية الإسلام في كتاب الله وسنّته لحاجات الإنسان كلها، لأن المشكلة ليست هي في أن الله تعالى لم يبيّن للإنسان الخطوط العامة أو التفصيلية التي يحتاجها في مواجهته لمشاكله وحاجاته في الحياة، بل المشكلة هي أن الناس قد لا يفهمون الخطوط العامة التي لو وعوا طبيعتها وامتدادتها وسعتها لاستطاعوا أن يكتشفوا الحل الإسلامي لأية مشكلة طارئة أو البيان لكل سؤال يرتسم في الذهن، فعن (عمر بن قيس عن أبي جعفر) يقول: "إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكل شيء حداً وجعل عليه دليلاً يبيّنه ويوضّحه"، سواء كان هذا الدليل دليلاً من شخص يبيّنه أي يملك المعرفة كالنبي والإمام أو من تعلّم منهما، أو من خيلال أن النصّ يمكن أني كون دليلاً لتفسير نص آخر "وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حداً"( )، ثم يؤكد الإمام في هذا المنهج أن القرآن هو الأساس حيث يقول: "لا تتخذوا من دون وليجة" والوليجة هي خاصة الشخص ومن يعتمد عليهم أي لا تتخذوا من دون الله معتمداً "فتخرجون بذلك عن الإيمان" لأن الإيمان هو العمل والامتثال {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}( )، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}( )، "فإن كل سبب أو نسب أو قرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع إلا ما أثبته القرآن"( ).
ومن خلال ذلك يريدنا الإمام(ع) أن نقرأ القرآن وأن نتدبّره وأن نستوحيه وأن نستلهمه وأن لا نجمّده من خلال تخلّفنا وجهلنا الذي نعتبره وعياً، وجهلناالذي نعتبره علماً، لأن القرآن نور يضيء لنا الطريق في ثقافتنا وروحيتنا وحركتنا في الحياة.. ولكن المسألة هيكيف نفهم القرآن وكيف نجعله كتاب الحياة لنفهمه في حركة الحياة ولا نجعله كتاب القاموس لنفهمه في مفردات اللغة، إنه الكتاب الذي ينفتح على كل ما يحقق للإنسان الخير والسعادة، وذلك هو درس أهل البيت(ع) وخطّهم القرآني، فالله أولاً ثم القرآن والنبي ثم الإسلام الذي يحتوي ذلك كله.

درس الذكرى:
أيها الأحبة، إن أئمة أهل البيت(ع) هم الأدلاء على الله وهم منار الهدى ونور الحق فافهموهم لا من خلال دموعكم في حركة المأساة ولا من خلال مشاعركم في حركة الفرح، فإنهم يريدون منكم أ، تعيشوا مأساةً ما تتخبطون به من جهل وتخلّف في فهم الإسلام وفي حركة الواقع لتخرجوا من هذا الجهل إلى العلم ومن هذا التخلّف إلى التقدّم، ويريدونكم أن تعيشوا إنسانيتكم في أن تعترفوا ببعضكم بأن لا تجعلوا من الاختلاف الفكري حقداً وعصبية وطائفية وأن لا تجعلوا من التنوّع في الواقع حاجزاً يفصلكم عن بعضكم البعض، فلقد أرادنا تعالى أن نعترف بالتنوع، ولكنه أراد لهذا التنوع أن لا يكون دائرة مغلقة ننغلق بها عن الآخر، بل دائرة مفتوحة {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، ليفتح كل واحد منكم عقله للآخر وقلبه للآخر وطاقته للآخر، وعند ذلك يمكن لكم إذا تعارفتم أن تتعاونوا على فهم الحقيقة، وإذا تعاونتم على فهم الحقيقة فقد تتعاونون على الارتفاع بالحقيقة في ممارساتكم {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}( )، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}( ).
المحاضرة الرابعة والعشرون: 18 رجب 1419هـ/ الموافق 7 - 11  – 1998م


في ذكرى مولده الأغرّ
هكذا دعا عليٌ ربّه

"أدعية الإمام علي(ع) فيضٌ روحيّ من فيض الإيمان الذي عاش في عقله وقلبه وحياته.. ونحن بحاجة في هذا الجوّ المادي أن نعيش روح علي(ع)"


ـ في مولد الإمام أمير المؤمنين(ع).
ـ ربيب رسول الله(ص).
ـ مع أدعية الإمام(ع).
ـ في دعائه لنفسه.
ـ في ثنائه على ربّه.
ـ في دعائه لنبيِّه.
ـ دعاؤه في الحرب.
ـ من دعائه عند لقاء العدوّ.
ـ المطالبة بالحكم.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في مولد الإمام أمير المؤمنين(ع):
عشنا قبل أيام ذكرى مولد أمير المؤمنين(ع) وعندما نلتقي بعلي(ع) فإننا نلتقي بالإسلام كله، لأن الإسلام تجسّد في علي فكراً وعلماً، لأنه عاش الإسلام من خلال رسول الله(ص) في كل مفرداته، ولا نجد هناك صحابياً عاش مع رسول الله(ص) منذ طفولته الأولى وهو في السنة الثانية من عمره، يضمّه إليه ويكنفه في فراشه ويمضغ اللقمة ويلقمه إياها، ويلقي إليه في كل يوم خلقاً من أخلاقه، وكان يتبعه اتباع الفصيل إثر أمّه، فانطبعت كل شخصيته الروحية بشخصية رسول الله(ص) في ذلك الجو الروحاني الذي كان يعيشه رسول الله(ص) مع ربّه تأملاً وابتهالاً وعبادةً في وحدته التي ليس معه فيها أحد إلا هذا الطفل الطاهر المنفتح على الله من خلال رسول الله(ص).
وكان رسول الله(ص) يعلّمه ويربّيه ويحدّثه، وكان عليّ(ع) يقول عن رسول الله(ص) في تلك الفترة "ولقد قرن الله به(ص) من لدن إن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره" وكان علي(ع) يعيش ذلك، وعندما بعث الله نبيّه بالرسالة كان علي(ع) يختزن روحية الإسلام التي اختزنها رسول الله(ص) قبل أن يبعث بالرسالة، لأن الله سبحانه كان يعدّ رسول الله(ص) قبل أن يُبعث بالرسالة، لأن الله سبحانه كان يعدّ رسول الله للرسالة التي تمتد للحياة كلها، وهي رسالة تختلف عن الرسالات كلها لأنه ما من رسول إلا ولرسالته حد معين من الزمن من بعده، ليأتي رسول آخر فيبدأ رسالة جديدة، ولكن الله أعدّ لرسوله رسالة تمتد مع الحياة من بعده إلى قيام الساعة {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}( )، وهو القائل: "لا نبيّ بعدي"( ) ( ).
ولذلك كان الله تعالى يعدّ رسوله المستقبلي إعداداً في روحه لتكون روحه كلّها روحاً رسولية، وفي عقله ليحمل عقله عمق الرسالة وامتدادها، وفي قلبه ليكون له قلب الرسول الذي يحرص على أمّته ويشقّ عليه ما يشقّ عليها ويرأف بها ويرحمها ويلين قلبه ولسانه لها، ويتحرك معها، وأراد أن يعدّه ليكون في دربه الذي هو درب الرسالات الذي يتحمّل فيه كل ضريبة الرسالة في الجهد الذي يبذله والتحديات التي يواجهها والمشاكل التي تفترس مجتمعه كله ليكون الصابر الصامد الذي ما أوذي نبي مثلما أوذي، ولكنه كان القوي بالله المنفتح عليه وعلى الإنسان من خلاله.
ربيب الرسول(ص):
وهكذا عاش علي(ع) هذا الجوّ كلّه، فكان في بيت رسول الله(ص) الشخص الثالث، لأنه كان يضم الرسول وخديجة وعلياً، وكان يقضي معه ليله ونهاره، ولد في الكعبة وكان مع رسول الله وخديجة أول المصلين فيها، فكان رسول الله(ص) يتقدمهما، وكان علي(ع) في جناحه الأيمن، وكانت خديجة الشخص الثالث ورائهما.
وعاش مع رسول الله(ص) في المرحلة التي اضطهد المشركون الرسول فيها، ويُقال أنه كان يدافع عنه عندما يثير مشركو قريش الصبيان ضد رسول الله(ص).
وكان يسمع ويرى الوحي ولكن النبي(ص) قال له: "إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبيّ"، وامتدّ مع النبي(ص) علماً وخُلقاً وروحانية وحركية وتضحية حتى بات عل فراشه والخطر يتهدده ليغطي هجرته من مكة إلى المدينة بسلام، وعندما سأل الرسول: "أوَ تسلَم يا رسول الله؟ قال: بلى، قال: إذهب إذاً راشداً مهدياً".
وانتقل مع الرسول(ص) بعد أن أدّى أماناته، وانفتح ـ بعد ذلك ـ باب لعلي(ع) جديد، إذ لم يكن قد تدرّب على الحرب ولكنه كان الفارس الأول في (بدر) وفي (أحد) و(الأحزاب) و(حنين) و(خيبر) كان الفارس المجلّي الذي شهد له المسلمون كلهم بأنه هو الفتى الذي يروى أن جبريل(ع) قال عنه: "لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار".
وقد رأيناه يتحرك بعد هجرته إلى المدينة وزواجه بسيدتنا فاطمة الزهراء(ع) حرك ناشطة، حيث كان بيته بيت رسول الله(ص) الذي يرتاح إليه بالإضافة إلى بيوت زوجاته، وقد حدّثنا هو عن تجربته العلمية مع رسول الله(ص) فقال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب"، ويروي المسلمون سنّة وشيعة أن الرسول(ص) قال: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها".
وكان إلى جانب ذلك لمنفتح على الإسلام كله، وعلى الواقع الإسلامي كله، حتى أنه حين أُبعد عن حقه في الخلافة والمشورة، رأى أن مسؤوليته هي أن يساعد ويعاون ويعطي الرأي والنصيحة والشورة، لأن القضية هي قضية الإسلام كله.. وسرّ علي(ع) في ذلك كله ينطلق من عمق واحد، أنه كان الإنسان الذي أعطى نفسه كلها لله، ويروي المفسرون أن الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}( )، نزلت في علي(ع).
وعاش(ع) مع الله، ليله ونهاره، فكان يُقال ـ كما في بعض سيرته ـ أنه إذا سجد بين يدي الله تحوّل كالخشبة اليابسة، حتى جاء شخص إلى الزهراء(ع) فقال لها: "عظّم الله أجرك في علي، قالت: كيف وجدته؟ قال: وجدته ساجداً فحركته فإذا لا حراك به، قالت: تلك غشية تغشاه عندما يكون بين يدي الله".
ويقول كتّاب سيرته أنه عندما اشتدّ الحرب في (صفين) ليلة الهرير افتقدوه فوجوده يصلي بين الصفين، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أهذا وقت الصلاة؟ قال: وعلام قاتلناهم؟ فكأنه أراد أن يقول إن غاية هذا القتال هو عمق الصلاة وإيحاءاتها وحركيتها وكل ما تعطيه من النهي عن الفحشاء والمنكر ومن معراج الإنسان بروحه إلى الله.
مع أدعية الإمام(ع):
وهذا يعني أن علياً(ع) كان يعيش مع الله كما كان رسول الله(ص) يعيش مع الله، ونحاول في هذا اللقاء اختيار بعض أدعية الإمام علي(ع) مما ذكره (الشريف الرضي) في نهج البلاغة، وهي أدعية تتنوّع في مواقعنا، ولكننا نعرف من خلالها أن علياً كان يهرع إلى الله قبل أن يبدأ أي عمل، وكان يقدّم حسابه إلى الله، وكان يفضي بكل ما يعيشه من إخلاص ومحبة لله، وكان يتحدّث مع الله تعالى في بعض الحالات عن إحساسه برسول الله(ص) وشعوره به، وكان يطلب من الله في أن يعطيه أعظم ما يعطي لأي نبي، وكان يتحدث مع الله في الحرب، وكان يقدّم تقريره إلبى الله فيما كان يطلبه من الخلافة.
فلنقرأ بعض هذه الأدعية فلعلّنا نعيش مع علي(ع) هذا الفيض الروحي الذي كان يعيش فيه فيض الإيمان في عقله وقلبه وحياته، فنحن بحاجة إلى ذلك ـ في هذا الجور المادي الذي ليس فيه نبضة من روح وخفقة من محبة، هذا الجو الذي تحجّرت قلوبنا من خلاله وتصخّرت مشاعرنا أمامه فأصبحنا نعيش في عقل من حجر وقلب من حجر وإحساس من حجر..
وإذا انفتحنا على بعضنا فإن مصالحنا وأطماعنا هي التي تنفتح، ولكن مَن منّا من يحبّ في الله، ويبغض في الله، وكم منّا من يعتبر الحياة فرصته للقيام بالمسؤولية أمام الله.. حتى صلاتنا تحجرّت، حتى صومنا أصبح مجرد حالة تقليدية نمارسها من دون أي تفاعل روحي مع معنى الصوم في تلك الإرادة المنفتحة على المسؤولية في الحياة، وأما الحجّ فساحة نتحرك فيها ولا نفهم ماذا نفعل ولا نفهم ماذا نقول.
تعالوا إلى علي الروح، تعالوا إلى علي في عبوديته لله التي هي سرّ حركة الحرية في حياته كلها أمام الإنسان كله والحياة كلها والطموح كله، فلقد كان علي(ع) حرّاً أمام ذلك، لم يفرض عليه أي إنسان شيئاً لا يريده في نفسه، ولم تفرض عليه أية شهوة وأي مطمع خلاف قناعاته الإيمانية، تعالوا فلعلنا نأخذ شيئاً من روحانيته في دعائه لله سبحانه وتعالى.
في دعائه لنفسه(ع):
ونبدأ مع علي في حديثه مع ربه: "اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني.. فإن عدت فعُد عليّ بالمغفرة، اللهم اغفر لي ما وأيت (عدت) من نفسي ولم تجد له وفاءً عندي"، فعلي(ع) لا يستغفر عن ذنب ولكن عن تواضع وانحطاط لله سبحانه وتعالى، كما لو كان في حالة ذنب ـ وهو المبرّء من الذنوب ـ وكأنه يعلّمنا كيف نتحدّث مع الله، بأننا إذا أذنبنا نتوب ثم نذنب، ومع ذلك فإن الله العارف بأننا الخطّائون، لأن شهواتنا وظروفنا تضغط علينا، يريد منا إذا أذنبنا أن نتوب، فإذا عدت تُب من جديد لأن الله يخاطب الذين أسرفوا على أنفسهم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}( ).
ويقول: "اللهم اغفر لي ما تقرّبت بلساني ثم خالفه قلبي"، فقد أقدّم إليك يا ربّي بلساني الكثير من كلمات التوبة والخير والعهد والوعد، ولكن قلبي وهو يستمع في خفقاته لساني كان ينبض بالتخطيط لنقص العهد فيما استقبل من عمري.
"اللهم أنت أهل الوصف الجميل"، فأي وصفٍ يا ربّ يقترب من وصفك؟ "والتعداد الكثير" فأي تعداد للكمالات والجمالات والعظمة يقترب من تعداد ما أنت فيه؟ "إن تؤمّل" بانطلاق الآمال كلها من عندك،فمن هو المأمول الذي هو خير منك، فأنت خير مأمول ومرجو، لأن رحمتك تفتح لنا أبواب الأمل فيما هو أوسع ما بين السماء والأرض، ولأن ألوهيتك في كرمك وحنانك وعطفك وقربك لعبادك تجعلنا ننفتح على أمل كبير.
"وإن تُرجَ فخير مرجوّ" وأنت أهل الرجاء يا ربّ "اللهم وقد بسطت لي" من الكلام "فيما لا أمدح به غيرك" لأن بعض الكلمات لا تليق إلا بك، ولأن كل مدح يشير إلى مدحك، لأننا عندما نمدح خلقك فإننا نمدحهم فيما أعطيتهم من عندك، فما عندهم هو من عندك.. ولذلك فإن أي كلمة تنفتح عليك في المدح لا يمكن أن تكون لغيرك.
"ولا أثني به على أحدٍ سواك" أوحّدك في المدح، وأوحّدك في الثناء، فلا بد أن لا نثني على أحد بما نثني به على الله، ولا نمدح أحداً بما نمدح به الله {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}( )، "ولا أوجهه" أي المدح "إلى معادن الخيبة" إلى من تخيب الآمال عندهم "ومواضع الريبة" أي من تحيط الريب والشكوك في كل ما هم فيه "وعدلت بلساني عن مدائح الآدميين والثناء على المربوبين المخلوقين، فإذا كنت معك يا رب فمَن يمكن أن يكون معي غيرك، وإذا كنت أمدح من كان قريباً إليك فإني أمدحك من خلاله لأنه لا أحد إلا وأنت الخالق والربّ له، وأنت الذي أعطيته كل شيء".
"اللهم ولكل مثنٍ على من أثنى عليه مثوبة من جزاء" فالمادح له مثوبة "أو عارفة من عطاء" وعندما أمدحك بما أنت أهله وأثني عليك فيما فيك من مجالات العظمة "وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة" فأعطني من ذخائر رحمتك وكنوز مغفرتك، فهذه هي جائزتي عندك.
"اللهم وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك" فأنت الواحد والوحدانية صفتك ولا وحدانية لغيرك، وأنا أقف من أجل أن يكون عقلي وقلبي وشعوري وإحساسي وكياني كلّه صرخة توحيد تنفتح على وحدانيتك "ولم يرَ مستحقاً لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك" أنا الفقير المحتاج "لا يجبر مسكنتها" المسكنة التي تتمثل في الفاقة "إلا فضلك ولا ينعش من خلّتها إلا منُّك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك" ورضاك هو كل شيء، وكل السعادة وكل العظمة {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}( ) من الجنة ومن نعيمها وذلك معنى لا يفهمه إلا الصدّيقون الذين يعيشون مع الله في أعماق الصدق كلها.
"وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك" اجعل أيدينا ممدودة إليك وحدك، وقد عبّر عن ذلك حفيده الإمام زين العابدين(ع): "وقلت سبحان ربي كيف يسأل محتاج محتاجاً، وأن يرغب معدم إلى معدم، فقصدتك يا إلهي بالرغبة وأوفدت عليك رجائي بالثقة إنك على كل شيء قدير".
في ثنائه على ربّه:
ثم ينطلق الإمام(ع) في هذا الجو الروحي في حمدالله، فكيف يحمد عليّ(ع) ربّه "اللهم لك الحمد على ما تأخذ وتعطي" فإن عطاءك هو عطاء الكريمالذي يفيض كرمه على عباده وإن أخذك أخذ الحكيم الذي لا يأخذ إلا عن حكمة، وحكمته لا تبتعد عن رحمته وإن لم يدرك الناس معنى الرحمة فيما يأخذه الله منهم "وعلى ما تعافي وتبتلي" فمنك العافية ومنك البلاء ونحن نحمدك على البلاء كما نحمدك على العافية "حمداً يكون أرضى الحمد لك" يمتد ويمتد ليكون مبلغ رضاك "وأحب الحمد إليك، وأفضل الحمد عندك، حمداً يملأ ما خلقت، ويبلغ ما أردت، حمداً لا يحجب عنك، ولا يقصر دونك"، فكأنه يقول يا ربّ أنا لا أملك الكلمات الدقيقة التي يمكن أن تجمع كل ما تستحقه من حمد..
ولذلك يا ربّ وأنا أتحدث عن حمد هو أرضى من ذلك، وعن حمد يبلغ ما عندك، وأنت تعرف يا رب آفاق ذلك الحمد الذي لا أعرفه إلا بالكلمات المطلقة "حمداً لا ينقطع عدده"، يمتد في الوقت كلّه، فأنا أحمدك في الصباح وفي المساء وفي شغلي وفراغي وكل مجالاتي لأن كل لحظة أتنفس فيها، هي مظهر حمدك وكل عمل أتحرك فيه فهو عطية حمدك فهل يمكن أن أعيش في أية لحظة لا يملؤها حمدك؟!
"فلسنا نعرف كُنه عظمتك" فنحن نعرف بعض أسرار عظمتك فيما أبرزته وعرّفتنا إياه "إلا أنا نعلم أنك حيٌ قيوم" قائم على الكون كله والوجود كله "لا تأخذك سنةٌ ولا نوم، لن ينتهي إليك نظر ولم يدركك بصر" وهذا قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}( )، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}( )، ثم يخاطب الله تعالى بقوله: "أدركت الأبصار وأحصيت الآمال، وأخذت بالنواصي والأقدام" كناية عن سيطرة الله على الإنسان في كل شيء.
"وما الذي نرى من خلقك"، من أسرار عظمتك "ونعجب له من قدرتك" ونصفه من عظيم سلطانك، وما تغيّب عنا منه مما لم نره ولم ندرك شرّه "وقصرت أبصارنا عنه" وانتهت عقولنا دونه، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه، أعظم ممّن فرّغ قلبه، وأعمل فكره، أي أفرغ قلبه لك وأعمل فكره ليبلغ بعض معرفتك "ليعلم كيف أقمت عرشك وكيف ذرأت خلقك وكيف علّقت في الهواء سماواتك" تلك التي لا ترتكز على أي شيء في الأرض "وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيراً" إشارة لقوله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}( )، "وعقله مبهوراً وسمعه الهاً، وفكره حائراً".
في دعائه للنبي(ص):
هذه هي قصة الإمام علي(ع) مع حمد اللهتعالى، أما عندما نقترب منه وهو يريد أن يتحدّث عن رسول الله(ص) بين يدي الله، فيقول في خطبةٍ له(ع) علّم فيها الناس الصلاة على النبي(ص) وفيها بيان صفات الله سبحانه وصفة النبي(ص) والدعاء له: "اللهم داحي المدحوّات" مما دحاه الله من الأرض "وداعم المسموكات" التي لها سمك وحجم "وجابل القلوب على فطرتها" على ما فطرت عليه من الفطرة التي أنشأت الناس عليها "شقيّها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لم سبق والفتح لما انغلق" فقد فتح كل مغالق الأزمان ومغالق الأوضاع "والمعلن الحق بالحق" الذي أعلن الحق بكلمات الحق..
"والدافع جيشان الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حمّل فاضطلع" أي حمل الرسالة فاضطلع بها "قائماً بأول مستوفزاً في مرضاتك" أي مستعجلاً مسارعاً فيها "غير ناكل عن قُدم، ولا واهٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً عل نفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس"، أي حتى أشعل المواقع والمعالم التي تضيء للناس الطريق "وأضاء الطريق لخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام" وقد فتحت من خلال دعوته ورسالته قلوب الناس "وأقام بموضحات الأعلام، ونيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق ورسولك إلى الخلق".
وبعد أن يصف النبي(ص) في حركته الرسالية، وهوهنا لم يتحدث عن صفات النبي الشخصية باعتبار أنه اتّبع أسلوب القرآن الذي يتحدث عن النبي(ص) في خطه كرسول لا كشخص، وإن كان شخصه في أعلى درجات السموّ والعلو والرفعة، وهذا هو منهج قرآني يقول إن علينا أن نعطي اهتمامنا كله في الحديث عن الأنبياء والأولياء، لصفاتهم الرسالية، لأن ذلك هو الذي تتحرك فيه القدوة وتنطلق منه العبرة، فبعد أن يصفه يدعو له فيقول: "اللهم افسح له مفسحاً في ظلك" يوم لا ظلّ إلا ظلّك "واجزه مضاعفات الخير من فضلك، اللهم وأعلِ على بناء البانين بناءه وأكرم لديك منزلته، وأتمم له نوره واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة" ان تكون شهادته عن أمّته مقبولة "مرضيّ المقالة ذا منطق عدل وخطبة فصل".
ثم يتحدث عن شوقه إليه فيقول: "اللهم اجمع بيننا وبينه في برد العيش، وقرار النعمة، ومنى الشهوات، وأهواء اللذات، ورخاء الدعة، ومنتهى الطمأنينة، وتحف الكرامة".
دعاؤه في الحرب:
ثم ننظر لنرى كيف يتحدث الإمام علي(ع) مع ربّه في الحرب، فهل تشغله عن ربّه، وهل تتحرك ذهنية الحرب في نفسه لتكون قسوةً وتدميراً أم أنه يتحرك بعيداً عن ذلك.
فمن كلامٍ له عند عزمه على المسير إلى الشام وهو دعاء دعا به ربّه عند وضع رجله في الركاب "اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر" فنحن نسافر سفراً طويلاً فيه الكثير من التعب ومن الجهد "وكآبة المنقلب" نعوذ بك أن ننقلب ونحن على كآبة من خلال ما يتصل بموقعنا أمامك "وسوء المنظر في الأهل والمال والولد" أن نعود ويكون الواقع الذي نعيشه واقعاً ل ينفتح على منظر طيب مشرق فيما نملك من حال وما نشرف عليه من أهل وولد، اجعلنا يا رب نرى الصورة المشرقة المنفتحة على محبتك ورضاك وعلى عافيتك ودعتك وطمأنيتك.
"اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل" فنحن في سفر ونريدك أن تكون الصاحب في سفرنا هذا، ترعانا وتؤنسنا وتفتح لنا أبواب الخير "والخليفة في الأهل" فسنفارق أهلنا ونبتعد عن إشرافنا عليهم ونريدك أن تكون أنت الخليفة فيهم "ولا يجمعهما غيرك" فهاتان الصفتان لا يجتمعان عند غيرك بأن يكون المرء خليفة في الأهل وصاحباً في السفر في آنٍ معاً "لأن المستخلف لا يكون مستصحباً" فهو لا بد أن يكون مع الأهل "والمستصحب لا يكون مستخلفاً" لأنه يكون معنا في السفر.
ولما عزم على لقاء القوم في صفين قال: "اللهم ربّ السقف المرفوع" كناية عن السماء "والجو المكفوف" أي المجموع بعضه إلى بعض "الذي جعلته مغيضاً للّيل والنهار، ومجرىً للشمس والقمر، ومختلفاً للنجوم السيّارة" الجو الذي يحتوي الكواكب الذي ينطلق فيه الليل والنهار من خلال شروق الشمس وغروبها "وجعلت سكّانه سبطاً من ملائكتك" يسكنون في السماوات، أما كيف وأين فلا نعرف ذلك.. "لا يسأمون من عبادتك، وربَّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام" ومهّدتها تمهيداً "ومدرجاً للهوام" أي الشحرات "والأنعام ما لا يحصى مما يرى وما لا يرى، وربّ هذه الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً" أي تقوّي الأرض وتصلّبها "وللخلق اعتماداً" أي ملجأ يلجأون إليه.
الدعاء في حالي النصر والانكسار:
وهنا يبدأ(ع) في الانفتاح على الله تعالى، وفي دعوته في كِلا الحالين: الانتصار أو الانكسار أن يكون متوازناً في خط الله "إن اظهرتنا على عدونا فجنّبنا البغي" أبعدنا أن نبغي على أعدائنا بالتصرف بما لا حقّ لنا فيه "وسدّدنا للحق" اجعلنا نمارس مع أعدائنا خط الحق الذي فرضته في الحرب عندما ينتصر الناس على أعدائهم حتى لا نظلم أعداءنا ولا نتحرك بالباطل بما لا نستحقه ولا يرضيك "وإن أظهرتهم علينا" فانتصروا علينا "فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة" لا تجعلنا نفتتن فنتراجع عن مواقفنا ومواقعنا من خلال هذه الهزيمة التي نمنّى بها.
وهكذا كان في الحرب يعمل على أن يملأ قلوب جنوده وعقولهم ويحفظ ألسنتهم من أن يسيئوا بالكلام بالسباب والشتم، ويعلّمهم إذا انفتحوا على المسلمين الآخرين الذين ابتلوا بالصراع معهم أن ينفتحوا بالمحبة، إنه يقوللك: حارب بمحبة ولا تكن روحك روح التدمير في حربك، بل روح السلام بحيث غنك تتحرك في الحرب من موقع ضرورة وقلبك يهتف بالله الذي يقول لك ألقِ السلام..
فعندما سمع(ع) قوماً من أهل العراق وهم جنده يسبّون أهل الشام قال لهم: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين" فأنا لا أحب لجنودي أن يكونوا سبّابين لعّانين لا شغل لهم إلا الكلمات التي تأتي بالمزيد من الحقد ولا تحقق أي مكاسب إيجابية فيما تتحرك به الحياة..
"إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكن لو وصفتم أفعالهم" ليكن لكم منطق السؤال: لماذا نحاربهم، لأنهم خرجوا عن طاعة الإمام ـ الخليفة، ولأنهم عاثوا في الأرض فساداً، ولأنهم "ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم" بكل أمانة لكان أصوب في القول "وتحدثتم حديثاً حقاً فيكون أبلغ في العذر" فإنكم تقدمون العذر من ذلك أمام الناس الذين يسألونكم لماذا تحاربون، وهذا هو محل الشاهد..
ونحن نتحدث في الدعاء "وقلتم مكان سبّكم إياهم ربّنا احقن دماءنا ودماءهم"، فسندخل حركة تسيل فيها الدماء منا ومنهم، ونحن مسلمون وهم مسلمون وإن ضلّوا عن السبيل، لكن يا ربّ هيّئ لنا الجو الذي يمكن أن نصل به إلى أن تُحقن به دماؤنا ودماؤهم "وأصلح ذات بيننا وبينهم"، فلقد فسدت العلاقات بيننا وبينهم، ولا تفسد هذه العلاقات نتيجة حالة شخصية وإنما هي قضية الخط الإسلامي الأصيل الذي عبثوا به وانفصلوا عنه "أصلح ذات بيننا وبينهم" بإصلاحهم "واهدهم من ضلالتهم" ولا حظ الروحية التي كان الإمام(ع) يعلم بها أصحابه بأن يدعوا إلى الناس الضالين الذين يقفون في أقسى ساحات الصراع الموجّه إلى علي(ع) بالذات أن يهديهم الله من ضلالتهم "حتى يعرف الحق من جهله" لأن القضية هي في التفكير كيف تصلون إلى الحق "ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به".
أيها الأحبة، أين ما عندنا من روح، وأين هي روح علي، فإن ما عندنا هي الروح التي تحقد وتدمّر وتفكّر أن تصادر الآخر ولا تفكر في أن تصل إلى حالة حقن دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم وهدايتهم من ضلالتهم، ولكن علياً(ع) يسمو ويسمو ويسمو ونحن نهبط ونهبط حتى الوحل.
الاستنهاض للجهاد:
وهكذا كان يستنهض أصحابه إلى جهاد أهل الشام في زمانه "اللهم أيما عبد من عبادك"، إنه يجلس بين يدي ربه "سمع مقالتنا العادلة" غير الجائرة أي أنهم(ع) لا يتحدثون عن جور بل عن عدل، ويريدون أن يسمع الناس هذا العدل (والمصلحة غير المفسدة) "فأبى بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك"، إلا الابتعاد عن السير في الخط الذي ينتصر به للحق الذي أنزلته والإبطاء عن إعزاز دينك، هؤلاء المتخاذلون الذين يعيشون الحياة استرخاءً وضعفاً وانهزاماً وسقوطاً "فإنا نستشهدك عليه فأنت من أكبر الشاهدين شهادة" وأي شهيد أكبر من الله سبحانه وتعالى "ونستشهد عليه جميع ما أسكنته أرضك وسماءك"، ثم أنت ـ بعد ـ المغني عن نصره والآخذ له بذنبه.
وهذا من أكثر الأساليب تأثيراً، كأنه لا يقول لهم إنكم إذا لم تسمعوا مقالتنا العادلة المصلحة غير المفسدة فإنني أعاقبكم، بل يشهد الله على إن مقالته هي مقالة العدل وأن كلماته هي كلمات الإصلاح، ويقول يا ربّي اشهد عليهم إنهم سمعوها وأنهم لم يتفاعلوا بها، ولذلك "فأنت الحكم بيننا وبينهم واغننا عن نصرتهم" لتنصرنا بالذين ينطلقون في خط الحق كله.
من دعائه في لقاء العدو:
ومن دعاء له إذا لقي العدو محارباً "اللهم إليك أفضت القلوب" فالقلوب انفتحت عليك ووصلت إليك "ومدت الأعناق وهي مبتهلة بين يديك، وشخصت الأبصار ونقلت الأقدام"، فتحركت في طريقيك في صراطك المستقيم "وأنضيت الأبدان" أي تعبت "اللهم قد صرح مكنون الشنآن" الناس الأعداء الذين اعتدوا علينا والذين يقاتلوننا من غير حق عن حقد وعن عداوة "وجاشت مراجل الأضغان" والمراجل هي القدور، فكأنما تطبخ بها الأحقاد والأضغان.
"اللهم إنّا نشكون إليك غيبة نبيّنا" وقد انطلق الناس بعد غيابه كل في طريق، فكان هو الذي يجمعنا وكانت كلماته هي التي يستمع إليها الكثيرون فتكون الحجة عليهم، وقد بقيت الحجة عليهم بعد ذلك ولكنهم أهملوها واتبعوها.. ولاحظوا كم ترسم هذه الكلمة من عمق الحزن في قلب علي "وكثرة عدونا، وتشتّت أهوائنا" فكل شخص له هوى وكل جماعة لها هوى ومطمع "ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين"، إنه يطلب من الله أن يفتح بينه وبينهم بالحق، لأن علياً كان مع الحق ولا يريد إلا الحق ولا يقالت إلا على أساس الحق ولا يتحرك في أي طريق إلا والحق معه وهو مع الحق في ذلك كله.
المطالبة بالحكم:
أما حينما يدعو الإمام مطالباً بالحكم، فلماذا يطلبه؟ هل لشهوة، هل لمطمع، هل لجاه، هل لنقطة ضعف؟ إنه يقدّم تقريره إلى الله والله أعلم بما في قلبه، ولكنه يريد للناس أن يسمعوا ذلك منه "اللهم إنك تعلم أن لم يكن الذي كان منّا" من طلب الخلافة أو الإمامة أو الحكم "منافسةً في سلطان" ليكون السلطان لنا من أجل تلبية شهواتنا ومطامحنا وليزول الحكم عن سلطان آخر "ولا التماس شيء من فضول الحطام" حتى نحصل على شيء من الدنيا، وقد خاطب علياً(ع) الدنيا، فقال لها "طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي بعدها أبداً".
"ولكن لنردّ المعالم من دينك" أي الخطوط الواضحة البيّنة التي يمثلها الإسلام في كل ما يريد للناس أن يسيروا عليه وأن يستضيئوا به "ونظهر الإصلاح في بلادك" لأن الفساد قد عمّ الناس كلّهم، ومسوؤليتنا هي أن نظهر الإصلاح "فيأمن المظلومون من عبادك" لأن هناك ظلماً ونريد للإصلاح أن يتحرّك في خط العدل ليأخذ كل إنسان حقه فلا يظلم أحد، ويعيش المظلومون في أمن، وإن هناك من يأخذ بحقوقهم ويرفع عنهم ظلامتهم "وتقام المعطلة من حدودك" ويطبّق القانون على الجميع "اللهم إني أول من أناب" أول من رجع إليك وآمن برسولك "وسمع" دعوة الرسول "وأجاب لم يسبقني إلا رسول الله(ص) بالصلاة"، فقد كنت أول من صلّى إليك في تلك المرحلة بعد رسولك.
ثم يشكو إلى الله ما يلقي من قريش فقد أثقلته في حياة النبي(ص) بحروبها، وقد أثقلته بعد رسول الله(ص) بجحودها "اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم فإنهم قطعوا رحمي" وهم عشيرتي فعليهم أن يصلوا الرحم ولكنهم قطعوه "وصغّروا عظيم منزلتي" لم يدركوا ماذا أتميز به ن عظيم المنزلة مما أسبغته عليّ ـ يا رب ـ ومما أعطانيه رسولك بأمرك "وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي" فأنت قد أمرت رسولك كما قلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}( )..
وعندما بلّغ رسولك رسالته في الولاية أنزلت عليه قولك {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}( )، إن كمال الإسلام بالولاية "وأجمَعوا على منازعتي أمراً ثم قالوا ألا إن في الحق أن تأخذه" يمكن تأخذه أنت "وفي الحق أن تتركه، فاصبر مغموماً أو مُت متأسفاً" لن نعطيك هذا الحق "فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلا أهل بيتي فضننت بهم عن النية وأغضيت على القذى وجرعت ريقي على الشجا، وصبرت من كظم الغيظ عل أمرّ من العلقم وآلم للقلب من وخز الشغار"، ولم يكن ذلك، لأن علياً يتألم لشخصه ولموقعه، ولكنه كان يملك خطة تفتح الإسلام على حركة الوعي كلّها وتملأ الواقع الإسلامي علماً وروحانية واستقامة وأمانة وفتحاً في الخط الإسلامي الأصيل..
لذلك لم تكن قصة علي قصة كرسي يفقده، ولكنها قضية رسال كان يريد أن يفتحها على الناس ليكمل الخط الرسالي الذي بدأه رسول الله(ص) ولكن الحواجز وقفت لتحول بينه وبين ذلك، وبقي علي(ع) مخلصاً لله ولرسوله ولرسالة الإسلام.. ولذلك أغمد سيفه وانفتح على الذين أبعدوه وتقدّموا عليه، فأعطاهم الرأي والمشورة والنصيحة، وقال كلمته الخالدة "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين أمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلا عليّ خاصة"، وقال لابن عباس وقد رآه يخصف نعله "إنها أعظم من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً" وقال في آخر الخطبة الشقشقية "لولا حضور الحاضر" وهو خليفة على المسلمين آنذاك "وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز".
مسوؤلية الانتماء للإمام علي(ع):
ويبقى علي(ع يسمو ويسمو ويسمو، لأنه عاش مع الله والله، وكانت حياته قد انطلقت في صرخته الأولى في الكعبة وكأنها تهليلة وتكبيرة لله، وصلى في الكعبة مع رسول الله، وكان أول من صلى بعده وحطّم الأصنام على الكعبة وفاءً لله وهو يرقى على كتف رسول الله(ص) وكانت حياته كعبة كلها ومسجداً كلها وإخلاصاً لله كله، حتى إذا كانت التكبيرة الأخيرة في مسجد الكوفة في صلاة الجماعة استشهد وهو يقول (الله أكبر) وهنا أطلق علي صرخة الفرح الروحي، لأنه فاز بالشهادة، ولأنه قتل بين يدي الله وفي محراب الله قال: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله فزت وربّ الكعبة".
أيها الأحبة، هذا هو علي(ع) ومسؤوليتنا أن ننتمي إليه لا أن نهتف باسمه فقط، وهو الذي يقول "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّةٍ وسداد"، فأين الورعون في خط علي وأين المجتهدون في طاعة الهل في خط علي وأين الأعفّاء، أين الذين يتحركون في خط السداد، إن علياً ينتظرنا هنا ونحن في امتحان أن نسير على خطه، فهل ننجح في الامتحان؟!
وأختم كلمتي بما قاله الشاعر المسيحي (بولس سلامة):
    يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي        واخشعـــــــــي أننـــي ذكرتُ عليـــــاً    
المحاضرة الخامسة والعشرون: 25 رجب 1419هـ/ الموافق 14 - 11  – 1998م


في ذكرى وفاة الإمام الكاظم(ع)
السير في الخط العملي للإسلام الأصيل

"عندما نتذكّر الإمام الكاظم(ع).. علينا أن نحوّل كثيراً من الخطوط التي رسمها للناس ليتحرّكوا في خط الاستقامة إلى برامج عمل في حياتنا"


ـ في ذكرى وفاة الإمام الكاظم(ع).
ـ رواة أحاديثه.
ـ لا عذر لجاهل.
ـ تجويد القرآن.
ـ عبادته في السجن.
ـ صورة من أخلاقه.
ـ محادثة العلماء.
ـ موقفه من القياس.
ـ موقفه من الحقيقة.
ـ بين الرشيد والكاظم(ع).

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في ذكرى وفاة الإمام الكاظم(ع):
في هذه الليلة نلتقي بذكرى وفاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع، وعندما نريد أن نتحدث عن أئمة أهل البيت(ع) فإننا نتحدث عن قمم الروح والفكر والجهاد والانفتاح على الواقع الإسلامي كله من موقع القيادة والريادة والمسؤولية.. والإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) عاش مرحلته في حركة العلم في جميع حاجات الناس آنذاك، وعندما ندرس حركته من خلال الذين تعلّموا منه ورووا عنه فإننا نجد أن مدرسته كانت تتميز بالتنوّع في الذين أخذوا منها ما أخذوه من علم، فلم تكن مدرسةً مذهبية بحيث تقتصر على الذين يلتزمون بإمامته بل كان فيها مرجعاً لكلالناس الذين يتنوعون في اهتماماتهم.
رواة أحاديثه:
وقد ذكر الشيخ المفيد(رحمه الله) أنه "قد روى الناس عن أبي الحسن الكاظم(ع) فأكثروا وكان أفقه أهل زمانه واحفظهم لكتاب الله وكان الناس بالمدينة يسمّونه زين المجتهدين وسمّي بالكاظم (والكظم هو الحبس) لما كظمه من الغيظ وصبر عليه من فعل الظالمين به حتى مضى في حبسهم ووثاقهم"( ).
وروى عنه (الخطيب المؤرّخ) في (تاريخ بغداد) و(السماني) في (الرسالة القوامية) و(أبو صالح أحمد المؤذن) في (الأربعين) و(أبو عبدالله بن بطّة) في (الإبانة) و(الثعلبي) في (الكشف والبيان) وكان الإمام (أحمد بن حنبل) ممن روى عنه، قال: "حدّثني موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد، وهكذا إلى النبي(ص) ثم قال أحمد: "وهذا إسنادٌ لو قُرئ على المجنون لأفاق" لأنه إسناد رفيع ينفتح على هذه الرموز كلها التي تمثل الغنى العلمي والروحي كله في مواقع الحياة كلها وفي خطوط المسؤولية كلها.
وقد كان الإمام(ع) معنياً بأن يوجه الناس إلى أن يسألوا عن ما جهلوه في مواقع مسؤولياتهم المعرفية كلها، سواء فيما يجب أن يعتقدوه أو فيما يجب أن يعيشوه من المفاهيم العامة التي تحكم نظرتهم إلى الحياة وإلى الكون وإلى الواقع كله وتصوراتهم لله تعالى وللنبي(ص) ولخطوط الإسلام الكبرى كلها.
لا عذر لجاهل:
فقد سُئل الإمام الكاظم(ع) "هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه" يعني هل للناس الحرية إذا جهلوا شيئاً مما يتصل بمسؤولياتهم في حركتهم في الحياة، هل لهم الحرية في أن يبقوا على جهلهم، قال "لا"( )، فليس لك الحرية أن تبقى جاهلاً فإذا جهلت فلتتعلم، ونحن نعرف أن الإسلام جعل القيمة للعلماء بأنهم الذين يخشون الله كما في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}( ) وفي قوله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}( )، وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}( ).. وهكذا ورد في الحديث: "إن الله أخذ على الجُهال أن يتعلموا كما أخذ على العلماء أن يعلِّموا".
لذلك لست حراً أن تبقى جاهلاً في الإسلام، بل لا بد لك أن تتعلّم ـ على الأقل ـ ما يتصل بمسؤوليتك العقيدية والشرعية والحركية في واقع الحياة، لأنه لا يجوز للإنسان المسلم أن يدخل في أي موقع من مواقع المسؤولية في الحياة، سواء كانت مسؤولية شخصية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية إلا وهو يعرف ما يحلّ وما يحرم وما يرضي الله وما يغضبه، وهذا هو الخط الإسلامي الذي يريد أن يحوّل المجتمع الإسلامي إلى مجتمع يملك العلم ولا يبقى على الجهل، وربما كانت مشكلة المسلمين في مرحلة انحطاطهم التي امتدت إل هذا العصر هي مشكلة الجهل الذي تحوّل إلى حالة من حالات التخلّف، وهذا هو الذي جعل المسلمين يتساقطون أمام العالم الذي أخذ بأسباب العلم، وبذلك كان المسلمون أسارى هذا العالم لأنهم يمثلون الحاجة إليه..
ونحن نقرأ في الحكمة المأثورة عن الإمام علي(ع) "احتج إلى من شئت تكن أسيره"، ولعل مشكلتنا الآن هي أننا نحتاج الغرب ونحتاج الكفر والاستكبار في ثقافاتنا كما نحتاجه في كثير من حاجاتنا الاستهلاكية، لذلك كان امام الكاظم(ع) يوجه الناس ليقول لهم إنه لا يسعكم أن تتركوا العلم فيما تتحملونه من مسؤولية الحياة.
تجويد القرآن:
وعندما ننفذ إلى داخل حياة الإمام الكاظم(ع) فإننا نقرأ في سيرته أنه كان أحسن الناس صوتاً في القرآن، فكان إذا قرأ القرآن كان يقرأه بالصوت الحسن الذي يخشع السامعون إذا سمعوه، ولعل ذلك ينطلق من أن الصوت الحسن يعطي الكلمة تجسيداً بحيث تملأ الكلمة القرآنية عقلك وقلبك فتتعمّق فيك أكثر مما إذا قرأتها بشكلها الطبيعي العادي، ولذلك ورد {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا}( )، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}( )، لأن الصوت بحسب تفاعل الإنسان معه فقد يجسّد الباطل إذا كان الكلام يتضمّن الباطل، وقد يجسّد الحق إذا كان الكلام يتضمّن الحق..
ولذلك قلنا إن المحرّم من الغناء ما تضمّن الباطل من الكلام، لأن الغناء يزيد في تعميق الباطل في النفس، بينما إذا كان الغناء في الحق فإنه يعمّق الحق في النفس كما لو كان يتضمن مناجاة الله أو مدح النبي(ص) أو مدح الأئمة(ع) أو الحديث عن مآسيهم أو يتضمن شيئاً يتصل بمواجهة الاستكبار أو الكفر فإنه يجعل تأثر الإنسان بالمعنى أكثر مما لو تحدث المتحدث عن ذلك بشكل عادي، لذلك "كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ يحزن، وبكى السامعون لتلاوته، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضلّ لحيته بالدموع"، وهذا هو بكاء الخشية من خلال تمثّل عظمة الله في نفسه، إذ ليس من الضروري أن تكون الخشية خوفاً من النار، ولكن الخشية هي التي يختلط فيها الإحساس بالعظمة بالشعور بالفرح في الجلوس بين يدي الله.
عبادته في السجن:
وعندما يتحدث المحدثون عن عبادته وهو في السجن فإنهم يروون عن أحد سجّانيه قوله لشخص اسمه (عبدالله) قال: "دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح، فقال لي: أشرف على هذا البيت وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوباً مطروحاً، فقال: انظر حسناً، فتأملت فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسى بن جعفر، أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على هذه الحالة، إنه يصلي الفجر فيعقّب إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكّل من يترصد أوقات الصلاة"، لأن البيت كما يبدو كان مظلماً "فإذا أخبره وثب يصلي من غير تجديد وضوء وهو دأبه"، لأنه يعرف أنه لم ينم، "فإذا صلى العتمة أفطر ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر".
وقال بعض عيونه، كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه: "اللهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت ولك الحمد"( )، فكان يريد أن يعيش مع الله ليله ونهاره وأن يناجيه ويبتهل إليه أن يتحدث معه حديث الحبيب إلى حبيبه، وكانت أشغاله قد تحول بينه وبين ذلك، وإن كانت أشغاله عبادة متحركة مع الله، لكنه أراد عبادة المناجاة وعبادةالروح وعبادة التفرّغ إلى الله من موقع القلب المفتوح عليه سبحانه وتعالى..
ولذلك فإنه يحمد الله على سجنه كما لو كان نعمة أنعمها الله عليه، وكان يقول في سجوده: "قَبُحَ الذنب من عبدك فليحسُن العفو والتجاوز من عندك"، وكان يتحدث لا عن ذنب ولكن عن تواضع لله سبحانه وتعالى، وعن استغفار لمعنى الإنسان ومعنى العبد في داخل ذاته ومن دعائه "اللهم إني أسألكالرحة عند الموت والعفو عند الحساب" وهذا مما ينبغي لكل واحد منا أن يعيشه، لأن الإنسان يمر بعقبتين عندما يموت، فقد يموت متعباً من ذنوبه مرهقاً من خطاياه قلقاً عل مصيره، وقد يموت تائباً، فإذا مات مطمئناً فإنه يعيش الراحة في نفسه ويتقبّل الموت بفرح، وأما العقبة الثانية فهي عند الحساب لأن الذي يحاسب هو الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}( ) العالم بالسر والنجوى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}( )، ولذلك فالإنسان عندما يقف أمام ربه يشعر بالخوف من الخسارة إلا أن يأتيه العفو من الله سبحانه وتعالى.
رعايته للفقراء:
وكان يتفقّد فقراء أهل المدينة، يحمل إليهم في الليل الأشياء العينية والورق وغير ذلك، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو، وكان يصل بالمئة دينار إلى الثلاثمئة دينار وكانت صرار موسى مثلاً.
صورة من أخلاقه:
أما أخلاقه فينقل لنا كُتّاب سيرته قصة ملفتةللنظر لسعة الصدر وفي الأسلوب العملي لما أراده الله من أن نحوّل أعداءنا إلى أصدقاء {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}( )، وينقل كُتّاب سيرته كما جاء في (الإرشاد) لـ(الشيخ المفيد): "إن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسا الكاظم(ع) ويسبّه إذا رآه ويشتم علياً(ع)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشدّ الزجر، وسأل عن العمري أين هو، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعته، فدخل المزرعة بحماره، فصاح العمري، لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن بالحمار حتى وصل إليه وجلس عنده وباسطه وضاحكه، وقال له: كم غرمت في زرعك هذا، أي كم صرفت عليه؟ فقال له مائة دينار، قال: وكم ترجو أن تصيب فيه؟" أي تربح "قال: أرجو فيه مائتي دينار، قال: خُذ هذا المبلغ وهذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو، قال: فقام العملي فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه"، أي عمّا فرط منه من السوء "فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف"..
قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: "والله أعلم حيث يجعل رسالته"، قال فوثب أصحابه إليه، فقالوا ما قصّتك؟ أي قالت له زمرة الحاقدين "قد كنت تقول غير هذا، قال: فقال لهم قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن فخاصموه وخاصمهم"..
وهنا محل الشاهد، فالإمام أراد أن يعطي أصحابه درساً في الحُلُم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري "أيما كان خيراً، ما أردتم أو ما أردت؟ وإنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره"( ).
وهذا هو الخط ـ أيها الأحبة ـ في كل علاقتنا بالناس الذين يسيئون إلينا ويسبوننا ويشتموننا ويحقدون علينا، وهو أن نحاول أن ندفع السيئة بالحسنة وقد ذكرت لكم أكثر من مرة أن مشكلتنا ليست مع إنسانية الإنسان الذي يعادينا أو الذي يكفر بالله أو يفسق، بل إنها مع عداوة الإنسان وكفره واستكباره، فإذا استطعنا أن نقتل العداوة فيه لتنفتح إنسانيته على المحبة أو أن نقتل الكفر في داخله لتنطلق إنسانيته بالإيمان، فالإسلام يقول لا تتحدّ إنسانية الإنسان، ولكن تحدّى الجانب السلبي فيه لتحوّله إلى جانب إيجابي وهي عملية تحتاج إلى ضبط أعصاب وسعة صدر {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}( ) من الوعي ومن الإيمان، وهذا هو درس الإمام الكاظم(ع).
محادثة العلماء:
وكان الإمام الكاظم(ع) يريد من الناس أن يحادثوا العلماء في أي علم كانوا فيه، إذ ليس من الضروري أن يكون العلماء علماء الفقه، وإن الإسلام في الوقت الذي يؤكد على علم الإنسان الذي يتصل بالعقيدة أو بالشريعة وبجوانب المسؤولية كلها، ويؤكد أيضاً على كل العلوم التي يحتاجها الإنسان في الحياة فيما يقيم أمره ويقوّي موقعه ويؤكد عزّته وحريته وكرامته، كان يقول: "محادثة العالم على المزابل" يعني لو فرضنا أن هذا الإنسان المثقف يجلس في مكان مثل المزبلة "خير من محادثة الجاهل على الزرابي" والزرابي هي البسط والفرش.
وجاء في حديثه عن رسول الله(ص) قال: "دخل رسول الله(ص) المسجد، فإذا جماعة قد أحاطوا برجل فقال ما هذا؟ فقيل علاّمة، فقال: وما العلاّمة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار العربية"،  قال رسول الله(ص) "ذلك علمٌ لا يضرّ من جهله" لأنه لا يتصل بواقع الحياة ولا بشيء من مسؤوليتك في الحياة من حولك "ولا ينفع من علمه" وايضاً لا يزيد في علم الإنسان المسلم بمعنى أنه حشو "إنما العلم ثلاثة: آية محكمة" بها تستطيع أن تتعرّف كتاب الله وتنتفع به فيما يملأ عقلك بمعرفة الله وبمعرفة ما يتفرّع عن ذلك كله من رسالاته ورسله وملائكته وما إلى ذلك.
"أو فريضة عادلة" يعني خطاً من الخطوط الإلزامية التي تقف في الوسط من مصلحة الإسلام كما فسّرت بذلك "أو سنّة قائمة" وهي الخط الأخلاقي والروحي والاجتماعي الذي يسير الناس عليه، فكأن النبي(ص) يريد أن يقول خذوا من العلم ما يتصل بمسؤولياتكم في الدنيا والآخرة، ولا تأخذوا من العلم ما لا يتصل بمسؤولياتكم المعرفية أو العلمية في الواقع والحياة، وبذلك يمكن لنا أن نستغني عن كثير من العلم الذي لا غنى فيه للإنسان في دنياه وفي آخرته.
موقفه من القياس:
وقد عاش الإمام(ع) في مرحلة ظهر يها خط معين في الاجتهاد وهو خط القياس، فقد بدأ القياس كقاعدة من قواعد الاستنباط في عصر الإمام الصادق(ع) من قبل إمام المذهب الحنفي (أبو حنيفة) وقدوقف الأئمة(ع) ضد هذه القاعدة الاجتهادية، ونستوحي هذا المعنى من عدة نقاط، لأن معنى القياس هو أنه إذا كان هناك حكم متعلق بموضوع من الموضوعات ورأينا موضوعاً آأخر ليس هناك حكم متعلق فيه، أي لم يرد فيه حكم ولكنه يشبهه فنقول ما دام أن هذا يشابه هذا فيمكن نقل الحكم ذاته إليه.
فالقياس ـ كفكرة تبسيطية ـ هو إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر للظنّ بأن أساس الحكم هنا هو أساس الحكم هناك، ولعل الذين قالوا بالقياس كما ذكر في بعض تاريخهم لم يصح عندهم من الأحاديث عن النبي(ص) إلا أحاديث بسيطة كما قيل عن أبي حنيفة أنه لم يوثّق عنده من الأحاديث إلا سبعة عشر أو ثمانية عشر حديثاً وعلى هذا الأساس يبقى هناك فراغ في عالم التشريع، لأنه لم يصلنا من السنّة إلا القليل، يبقى كثير من الموضوعات لا حكم لها، لذلك اعتمدوا على القياس.
وحسب حديث الإمام الكاظم(ع) ـ كما سيأتي ـ فإننا عندما ندقّق في الكتاب والسنّة نجد أنهما لم يتركا فراغاً في التشريع في أي موضوع من الموضوعات، ولكنالمشكلة هي أن المجتهدين قد لا يدركون حقائق الكتاب وأسراره بشكل عميق واسع، وقد لا يدركون أيضاً ما ورد عن النبي(ص)، وإذا كان لم يصح لديهم إلا بضعة أحاديث صحيحة، فلأنهم تركوا أهل بيت النبي(ص) الذين يمثلون الخزّان لأحاديث النبي(ص) لأنهم يتوارثون الأحاديث كابراً عن كابر، كما قال ذلك الشاعر:
    ووالِ أناساً قولُهُم وحديثُهم        روى جدُّنا عن جبرئيل عن الباري    
فالناس قد لا يدركون أسس الحكم، فأنت قد ترى موضوعاً يشبه موضوعاًآخر، فتقول إن الحكم واحد، ولكن من قال لك إن سرّ الحكم هو هذه النقطة التي يتشابه فيها الموضوعان، ولذلك نجد أن الإمام الكاظم(ع) واجه هذه المسألة، أي مسألة القياس في أحاديثه.
يقول بعض أصحاب الإمام، وهو (سماعة بن مهران) كما روي عنه، قال، قلت: "أصلحك الله، إنا نجتمع فنتذاكر ما عندنا فلا يرد علينا شيء إلا وعندنا فيه شيء مسطّر، وذلك مما أنعم الله به علينا بكم" لأنكم علمتمونا كل ما نحتاج إليه "ثم يرد علينا الشيء الصغير ليس عندنا فيه شيء فينظر بعضنا إلى بعض" يعني يسأل كل واحد الآخر هل عندك رواية أو حديث عن إمام فلا يوجد شيء من ذلك، وعندنا ما يشبهه فنقيس على أحسنه، فقال: "وما لكم وما للقياس" إنه لا يمثل الحجة التي يمكن أن تقدموها إلى الله في الافتاء من الحكم الناتج منه، "إنما هلك من قبلكم بالقياس" لأنهم لم يرتكزوا على حجة شرعية في الأحكام التي استنبطوها انطلاقاً مما ظنّوه ملاكاً للحكم في الأصل، فنقلوه إلى الفرع لوجود الملاك فيه، وإن الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، وسيواجهون المسؤولية في الإطار السلبي على ذلك.
ثم قال: "إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، وإن جاء ما لا تعلمون فها ـ وأهوى بيده إلى فيه ـ يعني اسكت، فقلت أصلحك الله أتى سول الله(ص) الناس بما يكتفون به في عهده، فقال: نعم ما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة، فقلت: فضاع من ذلك شيء، فقال: لا، هو عند أهله"، ومشكلة المسلمين هي أنهم تركوا أهله فلم يرجعوا إليهم فضاعت أقدامهم في الطريق.

معرفة الحقيقة:
وهكذا أعطى الإمام الخط في كيفية تعرّف الإنسان على الحقيقة الإسلامية، (عن يونس بن عبد الرحمن) قال: "قلت لأبي الحسن الأول وهو الإمام الكاظم، بمَ أوحّد الله؟ قال: يا يونس لا تكن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك"، بعيداً عن الكتاب والسنّة "ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر"، والمقصود من نظره برأيه هو اعتبار استحساناته الذاتية أساساً لاعتبار الحكم الشرعي من غير حجة شرعية من كتاب أو سنّة وهما المصدر الأساس لأحكام الله..
ونلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن الإمام قد لا يقصد من الموقف السلبي من النظر بالرأي لرفض حركة الرأي في الإنسان كوسيلة من وسائل التفكير في معرفة الأشياء، بل إن يريد التأكيد على أن الراي في الحكم الشرعي لا بد أن ينطلق من الوسائل التي جعلها الشارع تأسيساً أو إمضاءً لاستنباطه، والقياس ليس من هذه الوسائل، لأن حجيّته لم تثبت من كتاب الله وسنّة نبيّه، أما ترك أهل البيت في الأخذ منهم مما رووه عن رسول الله، فيؤدي إلى الضلال لأنهم يملكون الحقيقة مما قاله النبي(ص) في تفسير القرآن وتشريع الأحكام، لأن النبي جعلهم حجّة إلى جانب القرآن، وذلك في حديث "الثقلين"، وهذا هو الخط..
وينقل بعض أصحابه، قال: سألت أب الحسن عن القياس، فقال: "ما لكم وللقياس إن اغلله لا يسُأل كيف أحل وكيف حرّم" يعني أن الله لم يعرّف الناس كل الأسس التي انطلق منها التحليل فعليكم أن تتعبّدوا بها كما جاءتكم، فما جاء من الله فخذوه وما لم يجئ منه فقفوا عنده.
وعن شخص آخر قال: "قلت له أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه(ص) أو تقولون فيه  ـ أي اجتهادكم ـ  قال: كل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه، لأن الله ذكر أنه تبيان لكل شيء".. وهنا جرت محاورة بين الإمام(ع) وبين بعض تلاميذ أبي حنيفة، وهما (محمد بن الحسن الشيباني) والآمر (أبو يوسف) حيث جاء في (الإرشاد) قال: سأل محمد بن الحسن وهو من التلاميذ المبرزين لأبي حنيفة، بمحضر من الرشيد وهم بمكة، فقال له: "أيجوز للمحرم أن يظلل عليه محمله؟"، فقال له موسى(ع): "لا يجوز له ذلك مع الاختيار، يعني لا بد للمحرم أن لا يتظلل"، فقال له (محمد بن الحسن)  : "أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختاراً"يعني عندما ينزل من المحمل ويريد المشي في المكان الذي يقف فيه، أيجوز له أن يتظلل وهو مختار؟ "فقال: نعم، فتضاح محمد بن الحسن من ذلك" أي يقول إذا كان لا يجوز للمحرم أن يتظلل فأي فرق بين التظلل بالمحمل في داخله وفي خارجه عندما يمشي تحت الظلال؟ "فقال: أتعجب من سنّة النبي(ص) وتستهزئ بها، إن رسول الله(ص) كشف الظلال في إحرامه فلم يتظلل ومشى تحت الظلال وهو محرم"، فأنا أنقل لك فعل رسول الله(ص) وفعله سنّة كما أن كلامه سنّة "وإن أحكام الله يا محمد لا تُقاس، فمن قاس بعضها عل بعض فقد ضلّ سواء السبيل، فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جواباً"( ).
وفي رواية أخرى أن هذا الحوار دار بينه وبين (أبو يوسف) تلميذ أبي حنيفة الذي سأله وهما عند (المهدي) من خلفاء بني العباس "فما فرق بين هذا وذلك، قال له أبو الحسن موسى(ع): ما تقول في الطامث (الحائض) تقضي الصلاة؟ قال: لا، قال: تقضي الصوم؟ قال: نعم، قال: ولِمَ؟ قال: إن هذا كذا جاء" لأن النبي(ص) قال إن الحائض تقضيالصوم ولا تقضي الصلاة "قال أبو الحسن، وكذلك هذا"، {مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}( )، فالنبي قال لنا لا تتظللوا وأنتم راكبون وأنتم في حال الوقوف.
قال المهدي الخليفة لأبي يوسف: أنا جئت بك لتتحدى موسى بن جعفر، ما أراك صنعت شيئاً، فقال يا أمير المؤمنين: "رماني بحجة وما أستطيع أن أجيب عليه"( ).
بين الرشيد والكاظم(ع):
وهذه هي بعض المفردات في حياة الإمام الكاظم(ع)، وعلينا أن نعرف أن هذا الإمام كان يملك امتداداً واسعاً في الواقع الإسلامي، حتى أن الرشيد كان يخافه على ملكه لفرط ما شاهده من إقبال الناس عليه ورجوعهم إليه حتى في حقوقهم الشرعية، وكان يرى في الإمام(ع) قوة الموقف وصلابته حتى أنه وفي مقام استعراض أمام الناس لقرابته من رسول الله(ص) فإنه عندما زار المدينة ووقف أمام قبر النبي(ص) قال: السلام عليك يابن العم، وشعر الإمام الكاظم(ع) وهو واقف هناك أن الرشيد يريد أن يضلل الناس بالإيحاء أنه الأقرب إلى رسول الله، وبذلك فهو الأحق بالخلافة، ولم يكن الإمام في مقام استعراض من رسول الله(ص) لأنه ليس بحاجة إلى ذلك، ولكنه أراد أن يردّ هذا التحدي فوقف على القبر وقال: السلام عليك يا أبه، وكأنه يقول إذا كان رسول الله(ص) ابن عمك فأنا ابنه لأني أنا ابن بنته.
وقد قرّر الرشيد إزاء كل هذا الواقع أن يعتقل الإمام الكاظم(ع) فوقف أمام قبر رسول الله(ص)،كما يروي كتّاب السيرة، وقال أريد أن أعتذر من أمر أنا فاعله، أريد أن أسجن موسىى بن جعفر لأنه شقّ عصا المسلمين، وهذه هي الكلمة التي يتحرك بها كل الحكّام الظالمين باسم أن الثائرين عليهم والمعارضين لهم يتحركون من أجل أن يواجهوا الظلم والظالم بهذه اللغة، ويعتبر أن الثورة عليه تمثل تفريق الأمة.
وهكذا نقل الإمام من سجن إلى سجن، لأن السجّانين كانوا يعترضون على الرشيد بالقول إننا لم نسمعه يدعو علينا ولا عليك، ولكنه كان يقضي وقته بالعبادة، ونحن لا نتحمّل ذلك، كما قال أحد أقرباء الرشيد للرشيد أنه لا يتحمّل بقاءه في سجنه، فنقله من سجن إل سجن حتى وضعه في سجن (السندي بن شاهك) الذي وجّه إليه الرشيد التعليمات بأن يدسّ السمّ للإمام، ولذلك مات الإمام مسموماً بعد أن قضى في سجون الرشيد مدة طويلة وهو الوحيد من الأئمة الذي استمر سجنه هذه المدة الطويلة، ولكنه لم يضعف ولم يهِن ولم يلِن، بل بقي في موقع القوة والصلابة والعنفوان والإخلاص لله تعالى ولرسوله(ص) وللإسلام وللأمة كلها.
وعلينا ـ أيها الأحبة ـ عندما نتذكره أن نعيش فكره ومواعظه ووصاياه، وأن نحوّل كثيراً من الخطوط التي خططها ليتحرك الناس ي خط الاستقامة إلى برامج عمل في حياتنا، وهذا هو معنى الولاء للإمامة الذي هو ليس مجرد دمعة على المأساة ولا مجرد فرح على الميلاد بل هو الخط العملي الذي هو خط الإسلام الأصيل في مسيرة الإنسان إلى الله عز وجل.
وهذا هو سرّ الإمام الكاظم(ع) ونحن نريد من كل الذين يثيرون ذكريات الأئمة(ع) أن يربطوا الناس بالخطوط الفكرية والعملية التي انطلقوا بها في الحياة، لأن إمامتهم هي أن يكونوا أمامنا في مسيرة الإسلام التي تبدأ من الله وتنتهي إليه. والحمدلله رب العالمين.

المحاضرة السادسة والعشرون: 2 شعبان 1419هـ/ الموافق 21 - 11  – 1998م


من أجل انبعاثة جديدة
في المبعث النبويّ الشريف

"لنجعل من ذكرى المبعث انطلاقة جديدة للّقاء على القضايا المشتركة والحوار بمحبة في القضايا الخلافية"


ـ ذكرى المبعث النبوي.
ـ المرأة الداعية.
ـ الإحساس بقيمة الإسلام.
ـ نظرة في السياسة العالمية.
ـ نظرة إلى داخل الواقع الإسلامي.
ـ واقعنا على ضوء القرآن.
ـ مسؤوليتنا في ذكرى المبعث.
ـ مشكلة الحيادية.
ـ نظرة مقارنة.
ـ العودة إلى الصورة المشرقة.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

ذكرى المبعث النبويّ:
عشنا قبل أيام ذكرى المبعث النبوي الشريف، ولعل  قيمة هذا اليوم هو أنه يربطنا بيوم ولادة الإسلام، فقد ولد الإسلام رسالة ودعوة وحركة ومنهجاً في واقع الناس في ذلك اليوم.
وعندما نريد أن نتذكر ذلك اليوم، فليست المسألة عندنا مسألة ذكرى في التاريخ ولكنها مسؤولية يعيشها كل مسلم ومسلمة في أن ينطلق بالإسلام في خط الدعوة والحركة والجهاد في سبيل الله من حيث انطلق رسول الله(ص) ومن حيث تحرّك المسلمون الذين آمنوا به، فقد كان المسلم يؤمن بالإسلام عندما يستمع إلى القرآن من رسول الله(ص)، فيفهم الإسلام انتماءً فكرياً وعاطفياً وروحياً وحركياً، حيث كانت الحركية في وجدان الإنسان المسلم تتصل بمعنى الإسلام في شخصيته.
ولذلك فإن السيرة النبوية الشريفة تقصّ علينا أن أي مسلم كان يدخل في الإسلام كان يأتي في اليوم الثاني أو الثالث بمسلم آخر، وهكذا كانت الدعوة الإسلامية مسؤولية الإنسان المسلم في أن يدعو أكبر عدد ممكن من الناس إلى الإسلام ليدخلوا فيه، وقد كانوا ـ من خلال ذلك ـ يعملون على أن يتثقّفوا بالإسلام بما يتوفر لديهم مما يحفظونه من القرآن ومما يسمعونه من كلام رسول الله(ص).
المرأة الداعية:
حتى أن النساء كُنّ يعشن الدعوة بشكل عميق وقويّ ومنفتح، فنقرأ مثلاً في قصة امرأة مسلمة( )، كانت متزوجة من شخص كافر مشرك هو (أبو العاص بن الربيع)، ولم يكن التشريع الإسلامي ـ آنذاك ـ يحرّم زواج المسلمة من المشرك، فأقنعت زوجها بأن يُسلم فلم يقبل وولدت له ولداً، وعندما بلغ ولدها السنّ الذي يمكن له أن ينطق فيه كانت تعلّمه أن يقول كلمة الله وأن يقول اسم النبي(ص) وقال لها زوجها إنك تفسدين عليّ ولدي، فقالت له ما مضمونه إنني أصلحه.
الإحساس بقيمة الإسلام:
وقد كان إحساس المسلمين الأولين بقيمة الإسلام في عقيدتهم بالمستوى الذي يجعلهم يتحمّلون أقسى الآلام في مقابل أن لا يخضعوا للمشركين، الذي يعذبونهم ويضطهدونهم، في قول كلمة الكفر، ونحن نقرأ كيف أن (ياسر) و(سميّة) ماتا تحت التعذيب ولم ينطقا بكلمة الكفر، أما ولدهما (عمّار) فقد كان شاباً طريّ العود فبلغ به التعذيب مبلغاً لم يستطيع أن يتحمّله فنطق بكلمة الكفر، وعندما نطلق بكلمة الكفر جاء إلى النبي(ص) وهو يعيش حالة الرعب النفسي، وقال له لقد هلكت أو كفرت يا رسول الله، فقال له إن الله أنزل فيك قرآناً وهو قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}( ) فإن عادوا يا عمّار فعُد..
وهكذا رأينا بقية المسلمين الذين حاولت قريش أن تفتنهم عن دينهم بمختلف الضغوط وكانوا ضعفاء حتى اضطر النبي(ص) إلى أن يخفف عنهم فأرسلهم إلى الحبشة.
لقد عاش المسلمون كما قلنا إلى جانب التزامهم الإسلامي في أنفسهم، التزامهم بالحركية الإسلامية في الواقع، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعرّفه وقد مرّ على الدعوة الإسلامية أكثر من أربعة عشر قرناً، وأن نتطلّع إلى المسلمين كيف كانوا لنأخذ منهم العبرة والدرس والإحساس بالمسؤولية.
الكفر المثقّف:
المسؤولية الآن هي مسؤوليتنا نحن المسلمين الذين نعيش في مرحلة من أصعب المراحل التي مرّت في التاريخ الإسلامي في المطلق، لأن التحديات الكبرى التي يعيشها المسلمون اليوم هي تحديات الكفر المثقف، فكل الجامعات في العالم أو أكثرها تعمل على محاربة الإسلام في عقيدته وفي فكره، كما تواجهنا تحديات في الواقع السياسي، فنحن نعرف أن الاستكبار العالمي المتحالف مع الكفر العالمي يعمل على إسقاط الإسلام سياسياً في قضايا الحريات: حرية الإسلام وحرية المسلمين في إدارة شؤونهم الإدارية بشكل مستقل، إنهم يعملون على إسقاط ذلك وعلى أن تكون سياسة المسلمين على هامش سياسة الاستكبار العالمي، وقد وظّفوا الكثير من الملوك والرؤساء ووضعوهم على رأس الأنظمة في العالم الإسلامي من أجل أن يحرسوا لهم هذه الخطوط السياسية المتصلة بخط الاستكبار العالمي..
ولذلك رأينا أن هؤلاء يعملون على أن لا تكون للمسلمين سياسة مستقلة بالمعنى الذي يحفظ للمسلمين مصالحهم ويحرّر لهم مواقعهم ويحفظ لهم استراتيجيتهم.. إننا نجد أن هؤلاء أصبحوا الحرّاس للمصالح السياسية للمستكبرين، حتى إننا عندما ندرس (منظمة المؤتمر الإسلامي) التي أسست لتجمع دول المسلمين، فإننا نجد أنها انطلقت من خلال خطط السياسة الأمريكية التي أرادت أن تجمع الدول الإسلامية في منظمة حتى يسهل عليها مصادرة القرار الإسلامي على اساس قرارات المؤتمر الإسلامي، لأننا لا نجد هناك سياسة إسلامية مستقلة حرة في قرارات المؤتمر الإسلامي كلها، بل كان المؤتمر يصدر قراراته بشكل موجز وبشكل يحاول فيه أن يحفظ ماء وجهه عندما يتحدث عن القضية الفلسطينية أو عن القضايا الأخرى، ولم نجد هناك موقفاً واحداً يقف فيه المؤتمر الإسلامي ليصدر قراراً لمقاطعة الكيان الصهيوني ـ بشكل أساسي ـ وبمقاطعة الدول التي تضطهد دول المسلمين، فهذه المنظمة تختفي وراءها السياسة الأمريكية منذ البداية، حتى إننا رأينا في المؤتمر الأخير الذي انعقد في طهران كيف دجّنت القضايا الإسلامية بما فيها القضية الإسلامية.
نظرة في السياسة العالمية:
لذلك، فإن المشكلة التي نعيشها ـ أيها الأحبة ـ هي أننا لو درسنا السياسة العامة الموجودة في العالم لرأينا أنها تمثّل هامشاً من هوامش السياسة الاستكبارية الآن، ولو أردنا أن ندرس الوضع في الكيان الصهيوني لوجدنا أنه احتل فلسطين واحتل ما حول فلسطين، وهو يقف بكل قوة وعنفوان ليواجه مجلس الأمن ولا يعترف بشيء من قراراته، وليواجه الأمم المتحدة بصلفه وعناده، بينما يتحرك مجلس الأمن ـ بكل حرية ـ ليفرض حصاراً على (ليبيا) وحصاراً على (العراق) وآخر على (السودان) وليفرض أكثر من حصار على أكثر من بلد عربي أو إسلامي، وذلك من أجل القضايا التي قد تتصل بالحاكم كما في العراق، وقد تتصل ببعض القضايا الجزئية كما في ليبيا، أو تتصل بالواقع الإسلامي كما في السودان، أو يحاصر إيران بطريقة وبأخرى..
فالملاحظ أن العقوبات لم تفرض على (إسرائيل) منذ كان مجلس الأمن ومنذ كانت (إسرائيل) بل إن مجلس الأمن اعترف بوجود الكيان الصهيوني على أنقاض الشعب الفلسطيني، وإذا أريد تقديم أي دعوى أو إصدار أي قرار في مجلس الأمن ضد الكيان الغاصب فإن الولايات المتحدة تقف لتمنع ذلك أو لتسجل نقضها "الفيتو" على هذا القرار أو ذاك، بينما نجد أن المؤتمر الإسلامي لم يحرّك ساكناً، وهناك الكثير من الدول الإسلامية التي تعترف بهذا الكيان اللقيط وتطبّع علاقاتها به، فأي (منظمة إسلامية ) هذه؟ إن القضية الفلسطينية تختصر تاريخ الخمسين سنة أو المئة سنة الماضية، إنها تختصر تاريخ سياسة المنطقة كلها، ولذا نجد (إسرائيل) تعتدي وتدمّر في فلسطين وفي جنوب لبنان ولا تتحرك أية دولة لتقدم احتجاجاً على الأقل.
وهكذا نجد أن أمريكا تصرّح أن أمن الكيان الصهيوني من أمنها وأنها تلتزم (الأمن الإسرائيلي) بشكل مطلق ولو على حساب الأمن الفلسطيني والأمن العربي، بل إنها تصرّح بأنها تعمل على أن تبقى (إسرائيل) في تفوّق نوعي على الشرق الأوسط كله، بحيث لو وقفت دول الشرق الأوسط كلها أمامها لكانت قادرة على أن تواجهها بأحدث الأسلحة.
ومن هنا، فإن أمننا هو على هامش أمن الاستكبار العالمي، وسياستنا هي على هامش سياسة أمن الاستكبار العالمي، واقتصادنا عل هامش اقتصاده مع العلم أننا نملك أكبر احتياطي للبترول في العالم في الدول العربية والإسلامية، ولكن ماذا يملك العرب والمسلمون من هذا النفط.. إنهم يأخذون مالاً بيد ويدفعون أكثر منه باليد الأخرى، إن أرصدة النفط كلها موجودة في البنوك الأمريكية التي تنمّي ثرواتها وتحفظ اقتصادها بالتلاعب بثرواتها وتحطيم اقتصادنا، بل راحوا يخلقون المشاكل بين بلد عربي وبلد عربي آخر، وبين بلد إسلامي وبلد إسلامي آخر، من أجل استنزافه اقتصادياً..
ولقد كانت دول الخليج من أكثر الدول غنًى وثراءً، وكانت تعمل على أن تساعد هذه الدولة أو تلك حسب الواقع السياسي، ولكنهم أدخلوا دول الخليج أولاً في الحرب العراقية ـ الإيرانية، وباعتبار أنها موّنت العراق آنذاك بالسلاح وبالاقتصاد وبكل شيء، حتى قيل إن دول الخليج دفعت ما يقرب الـ(80) مليار دولاراً في الحرب العراقية الإيرانية، زجّت كذلك في مسألة الكويت في حرب الخليج الثانية وتحملت دول الخليج أو أكثر دوله مسؤولية هذه الحرب وتمويل الجيش الأمريكي وجيوش الحلفاء حتى أصبحت دول الخليج الآن تعاني عجزاً في ميزانيتها، بل أصبحت بعض دول الخليج النفطية تعمل على الاستقراض، ونحن نعرف أن دول الخليج لا تدفع المترتب بذممها للمقاولين في المشاريع.
ثم خلقت مشاكل حدودية، فهناك مشكلة بين (البحرين) و(قطر) ومشكلة بين (اليمن) و(السعودية) ومشكلة عدة كيلومترات في هذه الصحراء أو  عدة كيلومترات في البحر، فما أشبه موقف المسلمين بقول رسول الله(ص) وهو ينظر إلى هذه الأيام: "كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كتداعي الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمِن قلّة يا رسول الله(ص)؟ قال: لا ولكنكم غُثاء كغثاء السيل" أي كالزبد الطافي.
نظرة إلى داخل الواقع الإسلامي:
هذا هو الواقع الإسلامي ـ أيها الأحبة ـ أمام الاستكبار العالمي، فإذا عشنا في داخل الواقع الإسلامي فماذا نرى؟ إننا نرى أن المسلمين مشغولون مع بعضهم البعض بالخلافات المذهبية، فهناك حرب بين السنّة والشيعة في أكثر من موقع من مواقع العالم الإسلامي، بحيث أننا قد نرى أن هناك تياراً للشيعة يفضّل المشركين على السنّة، وأن هناك تياراً في السنّة يفضل المشركين على الشيعة، على طريقة المشركين عندما قالوا عن اليهود {هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا}( )، فالمشكلة التي يعيشها المسلمون في الخلاف السني الشيعة هي التي منعت المسلمين من أن يتوحدوا أو يتقاربوا في مواجهة التحديات الكبرى.
فهناك من الناس الذين لا يتحمسون للقضية الفلسطينية لأنها قضية سنيّة أو هناك من لا يتحمّس للقضية الإيرانية في حرب الاستكبار عليها لأنها قضية شيعية، وعندما يبتلى الشيعة في موقع من المواقع فإن قسماً من السنّة يشمتون بهم، وعندما يبتلى السنة في موقع من المواقع فإن قسماً من الشيعة يشمتون بهم، حتى كدنا نفقد معنى الإسلام والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}( )، ويقول أيضاً: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}( )، ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}( ).
ففي الواقع الذي نعيشه أصبح بعض الشيعة يكفّرون السنة وأصبح بعض السنّة يكفّرون الشيعة، مع أننا لو درسنا القضايا التي يشترك فيها الشيعة والسنة لرأينا أنها على الأقل 80%، فلو فحصنا القضايا التي بين السنّة والشيعة وقارناها مع القضايا التي بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت لرأينا أن التقارب بين المسلمين أكبر، وهناك اليوم عمل من أجل توحيد المذاهب المسيحية وحوارات كبرى بين (الفاتيكان) وروسيا حيث البطريرك الأكبر الذي يمثل رئيس الكنيسة الأرثوذكسية، ونحن لا نملك إلا شعارات في الهواء، حتى أن البعض منا إذا طرح الوحدة الإسلامية يتهم في أنهم يدعو للوحدة الإسلامية.
ونجد كذلك الخلافات العرقية بين عربي وكردي وتركي وكردي وفارسي وما إلى ذلك، حتى أن المسلمين لا يشعرون بأن الإسلام يوحّدهم، بل أنهم يرون في عرقياتهم ما يوحدهم، ونحن نقول إن الإسلام لا يتنكّر لهذا العرق أو ذاك ولا لخصوصيتك الكردية أو العربية أو الفارسية أو التركية، لأن خصوصيتك العرقية كخصوصيتك الذاتية {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، ولكن الإسلام يقول لك كُن عربياً أو فارسياً أو تركياً ولكن ليكن الإسلام هو المظلّة لكلّ هذه التنوّعات في داخلك {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}( ).
وبلغ الأمر حداً أننا أصبحنا نعيش التمزّقات الداخلية في داخل كل قومية أو مذهبية أو عرقية، لذلك أصبحنا مشغولين ببعضنا البعض.
واقعنا على ضوء القرآن:
أليس هذا هو الواقع الإسلامي أيها الأخوة؟ والقرآن يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}( )، والله يريد منا إذا تنازعنا في شيء أن نردّه إليه وإلى رسوله، وأراد لنا فيما نختلف ونتفق فيه مع أهل الكتاب، مع ما بيننا وبينهم من فواصل وفروق فلقد {قَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}( )، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}( )، و{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}( )، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}( )، ومع هذه الخلافات يقول القرآن {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}( ) لنلتقي على التوحيد، وكم هناك من فرق بين فهمنا للتوحيد وفهم أهل الكتاب للتوحيد، ولكن مع ذلك دعانا إلى أن نجمّد اختلافاتنا في التفاصيل لنقف عند الكلم السواء في الخط الواحد.
وعندما أرادنا أن نجادل أهل الكتاب قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}( )، الا نستطيع أن نقول لبعضنا مثل هذا القول أو لا، فنحن نسمع بعض السنّة يقولون إن ربّ الشيعة هو غير ربّ السنّة، فربّهم مجسّم ورب الشيعة غير مجسّم، وأن نبي السنة هو غير نبيّ الشيعة، فهمُّ بعض الناس هو التركيز على الفواصل، بينما يريدنا القرآن أن نركز على الخطوط العامة، لأنك إذا التقيت مع الآخر في الخط العام أمكنك أن تتحاور معه من موقع اللقاء لا من موقع الفراق، فالخط العام يعطيك روحية أن هناك أرضية مشتركة بينك وبين الآخر.
مسؤوليتنا في ذكرى المبعث:
أيها الأحبة، يجب أن لا نكتفي في ذكرى المبعث النبوي الشريف أن نقيم الحفلات والمهرجانات والزينات، بل لا بد أن تدفعنا الذكرى إلى أن نتصور مسؤوليتنا عن الإسلام والمسلمين والخطورة في هذا أن الإنسان الذي يعيش اللامبالاة تجاه قضايا الإسلام والمسلمين وهمومهم ليس بمسلم بشهادة رسول الله(ص) "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم" ويقول(ص): "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"..
ومعنى ذلك أن الإسلام ليس مجرد مسألة تعيش في داخل ذاتك، بل هو خط يتحرك في نطاق مسؤوليتك عن الآخر، فالمطلوب منك أن تفكر وأنت تستمع إلى المذياع وتشاهد التلفاز وتقرأ الصحيفة، بكل قضايا المسلمين في العالم، وأن تفكر في كيفية تقديم شيء للإسلام والمسلمين من وقتك وطاقتك وفكرك، وأن لا تكون محايداً، فالإنسان الذي يقف ليقول كما ورد عن الإمام الكاظم(ع) "أبلغ خيراً وقُل خيراً ولا تكن إمّعة، فإن رسول الله(ص) نهى أن يكون المرء إمّعة، قالوا وما الإمّعة؟ قال: أن تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس"، أي لا رأي ليس ولا موقف، فأنا أنتظر ما تقوله العائلة أو أهل البلد أو الناس الآخرون، فالإمام(ع) يقول: "إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"، وهذا يعني أن تركز موقفك ويكون لك رأي فيما يطرح عليك، لأن مشكلة الكثيرين أنهم يجلسون على التلّ فيخذلون الحق ولم ينصروا الباطل، وقد تكلم الإمام علي(ع) بطريقة سلبيةعن هؤلاء، وقد بيّنا أنك عندما تسحب قوتك من الساحة فإنك تكون قد أعطيت العدو قوة سلبية، لأنك عندما تمنع قوة إيجابية في الحق فإنك ستقوّي بذلك شوكة الباطل ضد الحق، لأن جنود الحق لا يقفون معك، فمن يخذل الحق ينصر الباطل بشكل سلبي وإن لم ينصره بشكل إيجابي.
مشكلة الحيادية:
ولعل مشكلتنا في العالم الإسلامي هي في الحياديين الذين لا يقفون مع الحق ولا مع الباطل، وهم الذين شاركوا في هزيمة الحق في كثير من معاركه،لأنهم حيّدوا أنفسهم عن معارك الحق، ولعل الكثيرين منا كذلك الرجل في معركة صفين الذي كان إذا جاء وقت الصلاة وقف ليصلي خلف علي(ع) وإذا حضر وقت الطعام هرع ليأكل مع معاوية وإذا اشتدت الحرب صعد إلى التلّ، وكان يقول أو يُقال عنه "الصلاة خلف علي أقوَم والطعام عند معاوية أدسَم والجلوس على التلّ أسلم".
فكم منا من يعتبر الصلاة مجرد حالة ذاتية خاصة لا علاقة لها بالحياة ولا بالصراع ولا بالالتزام العملي في خط الله وفي حركة الواقع، وإذا جاء وقت المنافع فكم من معاوية يُهرع إليه المصلون والحجّاج والزائرون، وعندما تنطلق المعارك وما أكثرها في هذه الأيام فإن الذين يجلسون على التلّ قد يبلغون الـ90%، وفي الـ10% كثير من المترددين، وينطلق العدد من منطلق واحد، ونحن حتى إذا شاركنا في المعركة فإننا نخذل بعضنا حتى ونحن في داخل المعركة، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}( ).
نظرة مقارنة:
فانظروا إلى الكيان الصهيوني لتروا كم يمثمل اليهود في العالم، إنهم لا يزيدون ـ حسب الإحصائيات ـ على (20) مليوناً وإذا تحدثنا عن العرب فإنهم يمثلون ـ بلا حسد ـ (250) مليون عربي أو أكثر خاصة وأن تناسل العرب كثير.. وإذا أردنا أن نتحدث عن المسلمين فهناك مليار ونصف المليار مسلم أو أكثر، فلماذا تغلّب هؤلاء على قلّتهم؟ لأنهم انطلقوا في العالم كلّه ليكونوا في معركة فلسطين ضد العرب، فما من يهودي في العالم سواء كان تاجراً أو صاحب موقع إعلامي أو اقتصادي أو سياسي إلا ويوظف موقعه كله لمصلحة (إسرائيل) ونحن نملك الكثير من العرب والمسلمين الذين يوظفون مواقعهم السياسية والاقتصادية والأمنية لمصلحة (إسرائيل) أو لمصلحة الاستكبار العالمي، ولا نجد من يوظّف موقعه لمصلحة القضية الفلسطينية أو الإسلامية أو العربية.
إن الكثيرين منا يقولون كما قال ذلك الشاعر اللبناني الممهجري:
ما علينا إن قضى الشعب جميعاً أفلسنا في أمان؟
أو كما تقول الصلاة المسيحية "اللهم اعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجّنا من الشرير".
إن هناك مشكلة صعبة وقاسية وخطيرة على المستويات كلها في الواقع الإسلامي سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، ولا بد لنا أن نواجه ذلك بالمسؤولية، لأن الله سوف يسألنا عن ذلك لأنه يريد للمسلمين أن يقفوا صفاً واحداً في مواجهة التحديات.
أيها الأحبة، لنجمّد كثيراً من تفاصيل خلافاتنا، فإن إثارتها سواء كانت خلافات قومية أو عرقية أو مذهبية أو حزبية أو سياسية، في هذه الظروف الصعبة خيانة للإسلام وللمسلمين، وأنا أتحمل مسؤوليتي عن هذه الكلمة.
إن اليهود بأسهم بينهم شديد حتى الآن، ولكنهم يتوحدون ضدنا ويتوزعون الأدوار، ولقد لاحظنا في آخر مجلس نيابي صهيوني أن (حزب العمل) و(حزب الليكود) في أكثرية هنا وأكثرية هناك صوّتوا على مشروع واحد، فهما وجهان لعملة واحدة، ولكن بعضنا يحاول أن يخذل البعض الآخر.
أيها الأحبة، كانت صورتنا في عهد رسول الله(ص) كما قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}( )، أما بالنسبة إلى اليهود، فكانت صورتهم آنذاك كما جاء في قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}( ) فلذلك انتصرنا على اليهود لأننا كنا في هذا الموقع وكانوا في ذاك الموقع، وعندما تبدّلت الأجواء أصبحنا أشداء على بعضنا رحماء على العدو ليس لدينا أي انفتاح على الله، نبتغي فضلاً من أمريكا ورضواناً، ولا نبتغي فضلاً من الله ورضواناً، بأسنا بيننا شديد تحسبنا جميعاً وقلوبنا شتى، أما اليهود فهم أشداء علينا رحماء بينهم.
العودة إلى الصورة المشرقة:
أيها الأحبة، لنرجع إلى تلك الصورة التي كانت هناك وسننتصر، فإن قضايا الشعوب لا تُحلّ بالسنة والسنتين، إنها تحلّ على مستوى الأجيال "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"( )، فما رأيكم أن نجعل من ذكرى المبعث النبوي الشريف انطلاقة جديدة نلتقي فيها على القضايا المشتركة ونتحاور بمحبة في القضايا التي نختلف فيها، وأن نخلص لله ولرسوله وأن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل بالتي هي أحسن، وأن ندفع بالتي هي أحسن حتى نحوّل أعدائنا إلى أصدقاء، ولننطلق للتخلّص من هذا التخلّف كله والحقد والعداوة التي ننتجها بين يوم ويوم.
ولقد كان المسلمون مع رسول الله(ص)، فيما عدا المنافقين ينتجون المنحبة فيما بينهم، أما نحن فننتج الحقد والضغينة في نفوسنا، ألا ترون ذلك، فأين هي المحبّة "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"، وقد قال الإمام الصادق(ع): "وهل الدين إلا الحب"( )، فلننتج المحبة فهي تغني عقولنا وقلوبنا وواقعنا وتجعلنا نتحرك في خط النصر ولنتقرب إلى الله أكثر، فلعلّنا نتقرب من رضاه أكثر {ورضوانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ}( ).
أيها الأحبة، تعالوا نتوحّد بالله وبرسوله وبأوليائه حتى نجد الطريق إلى الهدف الكبير وذلك هو درس المبعث أن يعود الإسلام فينا ديناً وحركةً ودعوةً وقوةً وموقفاً وصلابةً، فلنبدأ الخطوة الأولى وإن كان الطريق طويلاً. والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة السابعة والعشرون: 9 شعبان 1419هـ/ الموافق 28 - 11  – 1998م


في مولـــــــــــــــــــــد الحسين(ع): طلبُ الإصلاح
في مولـــــــــــــــــــــــد العبـــاس(ع): حمايةُ الديـــــــــــن
في مولد الإمام السجّاد(ع): حياطةُ الإسلام

"لدى كلّ واحد من هذه الرموز الإسلامية المقدّمة عنوان يلتقي بما عند الآخر من فكرة الوقوف مع الإسلام في المراحل التي عاشوها"


ـ المواليد الثلاثة.
ـ الوضع في عهد الإمام الحسين(ع).
ـ العناوين المشتركة.
ـ عنوان الإصلاح.
ـ الولادة الثانية: العباس(ع).
ـ الولادة الثالثة: زين العابدين(ع).

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

المواليد الثلاثة:
مرّت علينا قبل أيام ذكرى رموز مشرقة عظيمة من رموز الإسلام في صفائه ونقائه وإشراقته في الحياة، وهم: الإمام الحسين(ع) في ولادته في الثالث من شعبان، وسيدنا أبوالفضل العباس(ع) في ولادته في الرابع من شعبان، والإمام زين العابدين علي بن الحسين(ع) في الخامس من شعبان، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وعندما نقف أمام هذه الأسماء التي تمثل بالنسبة إلينا الخط الإسلامي الأصيل الذي ينفتح على خط الولاية الذي اراد الله أن يكون خطاً حركياً يفتح للناس الخطوط التفصيلية في كل ما يأخذون به أو يتركونه في الجانب التطبيقي للإسلام وفي حقل التجربة الحيّة للمفاهيم الإسلامية العامة للحياة، فإننا نرى أن هناك خصوصية ينبغي لنا أن نتعرف عليها في خط الولاية لأهل البيت(ع) وهي أن النبي(ص) عندما عاش تلك المرحلة من حين بعثه الله رسولاً إلى أن قبضه إليه لم تساعده الظروف على أن يضع الخطوط التفصيلية للحركة الإسلامية، لأن المشركين ملأوا عهده كلّه بالحروب، ولأناليهود أربكو الكثير من الأوضاع الإسلامية في محيط المدينة وما يتبعها..
كما أن حركة المنافقين آنذاك أوجدت نوعاً من الاهتزاز في الواقع الداخلي للمسلمين، ولا سيما في المدينة، مما شغل النبي(ص) والمسلمين معه بكل هذه المشاكل التي أنتجتها هذه التعقيدات الأمنية والاجتماعية والفكرية.
ولذلك كانت الولاية المتمثلة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) الذي وعى الإسلام كما لم يعِه أحد بعد رسول الله(ص) والذي عاش الإسلام حركةً وجهاداً كما لم يعشها شخص آخر من المسلمين، كانت الولاية هي أن يؤكد(ع) الخطوط العامة وأن ينطلق بالمفردات التي تواجه المسلمين في الأوضاع المستجدة التي كانت تتحرك بين مرحلة ومرحلة لتطرح إشكالية جديدة ولتضع مشاكل جديدة ولتواجه الكثير من التحديات التي لم يعهدها المسلمون آنذاك.
فإذا ما درسنا تراث علي(ع) ـ ولم ينقل منه إلا القليل ـ ودرسنا ما تحدّث به وما عالجه في كل ما واجهه وواجه المسلمين في عهده بعد رسول الله(ص) لرأينا أن هناك حلولاً جديدة، وأن هناك قضايا جديدة ركّزها وأطلق فيها الفكر وحرّك التجربة وواجه فيها التحديات.
واستمرت المسألة بعد علي(ع) في ولديه الإمامين الحسنين(ع)، فقد واجهت الإمام الحسن(ع) بعض التحديات التي ربما لم يواجهها الوضع قبله بتفاصيلها، وقد أعطى الإمام الحسن(ع) بعض الحلول لبعض المشاكل مما يمكن للخط الإسلامي الأصيل أن يستوحيه في الظرف والمرحلة.
الوضع في عهد الإمام الحسين(ع):
وعندما ننطلق مع الإمام الحسين(ع) فإننا نجد وضعاً جديداً عاشه العالم الإسلامي في زمانه مما جعله يتحرك بين مسالمة من جهة، كما كان الأمر بعد وفاة الإمام الحسن(ع)، وبين مواجهة من جهة أخرى، كما كان الأمر بعد وفاة معاوية.
كما نجد أن الخطوط الروحية التي تمثلها أدعيته والخطوط الثقافية التي تمثلها كلماته، انطلقت لتمتد إلى الإمام زين العابدين(ع) الذي واجه مرحلته بثقافة لا تخلو من الجدّة باعتبار الأوضاع المستجدة التي تحتاج إلى معالجات جديدة، وامتدت المسألة في خط الولاية في أهل البيت(ع) بحيث أننا عندما ندرس تأريخهم كله فإننا نجد أنهم كانوا يواجهون كل مرحلة من المراحل التي يعشها الواقع الإسلامي في داخله أو مع المواقع الأخرى خارج الوضع الإسلامي، نجد أنهم استطاعوا أن يملأوا المراحل التي عاشوها بحيث أعطوا كل مرحلة ما تحتاجه من علم وحركة ومواجهة وما إلى ذلك.
وهذا ما ينبغي لنا أن نتابعه لنؤكد نقطة أساسية تخرجنا من داخل الذات في علاقتنا بهم إلى واقع الرسالة، فقد كان همهم كله منصباً على تأصيل الإسلام في مفاهيمه وأساليبه وفي أهدافه ليعزلوا عنه الهوامش والأعراض التي أريد لها أن تحجب عنصر الأصالة فيه، وكان همهم مركّزاً على مواجهة الفساد في الواقع الإسلامي ليصلحوه، وعلى كيفية مواجهة التحديات التي توجّه إلى الإسلام ليقوموا بحماية الإسلام منها، وأن يفكروا ويخططوا ويدعو إلى حياطة الإسلام من كل ما يمكن أن يسيء إليه أو يضعفه أو يبعده عن مساره الطبيعي.
العناوين المشتركة:
ونحن أمام هذه الرموز الإسلامية المقدّسة الثلاثة نجد لدى كل واحد منها أن عناك عنواناً يلتقي بما كان عند الرمز الثاني والثالث، بحيث تلتقي فكرة الوقوف مع الإسلام بكل المراحل التي عاشها هؤلاء.. فعندما نقف مع الإمام الحسين(ع) فإننا نجد له نصّين فيما يتصل بالواقع الذي عاشه والتحديات التي واجهها الإسلام، فقد طرح في الخطبة المعروفة التي خطبها عند خروجه "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(ع)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردَّ عليّ هذا أصبر  حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين"( ).
نجد أن الإمام الحسين(ع) أعطى لحركته هذه عنواناً لا تقترب السلبيات منه، فهو ليس ظالماً لأنه انطلق من أجل أن يرفع الظلم، وهذا هو شأنه وهذه هي رسالته، وليس مفسداً، لأنه انطلق من أجل أن يسقط الفساد، وليس أشراً ولا بطراً، بل انطلق بعيداً عن ذاتياته كلها في خط رسالته كله.
عنوان الإصلاح:
"إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي" وكلمة الإصلاح ـ أيها الأحبة ـ تتسع لكل الآفاق التي دلف إليها الفساد، فعندما نواجه الواقع الإسلامي آنذاك نجد أن هناك نوعاً من الفساد في التصور انحرف به الفكر الإسلامي على مستوى خطوط القيادة في عناصرها الإسلامية وعلى مستوى علاقة الناس بالقيادة وطبيعة التحرك الذي كان الناس يتحركون به، وقد علموا من رسول الله(ص) ومن كتاب الله معه أن عليهم أن لا يستكوا على ظلم، سواء كان في دائرة القيادة أو في دائرة القاعدة..
وهكذا رأينا أن هناك مفاهيم اختلطت على الناس بفعل كثير من عناصر الدسّ والوضع للأحاديث لخدمة الذين كانوا يحتاجون إلى حديث عن رسول الله(ص) يبرر انحرافهم ونصّ نبوي يبرّر كثيراً من تعقيدات أوضاعهم.
ولقد انطلق الفساد في الواقعين السياسي والاجتماعي بحيث تحوّلت الخلافة إلى ملك عضوض، وأصبحت بيعاً وشراءً، كما ذكر في طريقة معاوية في أخذ البيعة ليزيد عندما وقف شخص يحمل صرراً من الدراهم بيد ولاسيف بيد ليقول: من بايع فله هذا ومن لم يبايع فله هذا، فلم تكن البيعة حتى على مستوى الشورى بين المسلمين التي درجت كعنوان للحكم آنذاك بعيداً عن التعقيدات التي أثيرت حول ذلك.
ولذلك كانت حركة الإمام الحسين(ع) من أجل تغيير الواقع الفاسد إلى واقع صالح، سواء في الجانب الثقافي في الإسلام في مسألة التصور لمفاهيم الإسلام، أو الجانب العملي الذي يتحرك في الخطوط السياسية المنحرفة، أو في الخطوط السياسية المنحرفة، أو في الخطوط الاجتماعية المنحرفة بعلاقات الناس مع بعضهم البعض.. ولذا عقّب الإمام(ع) فقال: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر" والأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر وإن اختصا بالجانب العملي للناس في خط الانحراف، ولكن لمّا كان الجانب العملي منطلقاً من الخطأ في الجانب الثقافي، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحرك في تحديد ماهية المعروف وماهية المنكر لمواجهته على مستوى الواقع.
ونستطيع أن نتعرف على المسألة في خطيها الفكري والواقعي في الخطبة الثانيةن التي أطلقها الإمام الحسين(ع)، فمما روي عنه أنه قال: "أما بعد، فقد علمتُ أن رسول الله(ص) قد قال في حياته: مَن رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيّر بقول ولا فعل كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله"( )، فلقد ركّز المسألة حول الحاكمية في خط الإيجاب والموقف من الحاكم في خط السلب، ومن ذلك نفهم أنه لا بد أن يكون السلطان عادلاً يحترم حرمات الله وأن يفي بعهده للناس، وأن يسير على سنّة رسول الله، وأن يعمل في عباد الله فيما أحله الله وما أراده، وأن لا يعتدي عليه ليكون الحاكم في خط السلب في الجانب الآخر الذي صرّح به الإمام الحسين(ع)..
فالإمام يريد أن يؤكّد من خلال كلمة رسول الله(ص) الذي يمثل الشرعية الإسلامية أن الثورة على الحاكم الجائر الذي يتصف بهذه الصفات في الواقع الإسلامي، هي أمر واجب على المسلمين، وإذا لم يقوموا بذلك مع تمكنهم منه فإن مصيرهم يكون مصير هذا الحاكم..
ثم ينطلق إلى واقع هؤلاء الذين يتسلّمون القيادة ويتبعهم الناس في ذلك "ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله واستأثروا بالفيء وعطّلوا الحدود، وأنا أحقّ من غيّر"، لذلك كان الإمام الحسين(ع) يعمل على تغييرالواقع، ولم يكن يريد في البداية أن يعلن الحرب، بل كان يسعى إلى أن يغيّر نمط التفكير عند المسلمين من خلال قيادته، وكان ما يريد أن يصل إليه من تلك القيادة هو أن يغيّر الواقع الفكري للمسلمين ي النظرة إلى شخصية القائد، وهذا ما قاله لـ(الوليد) أمير المدينة "إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرّمة معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"، ثم قال له بعد الجدال الذي حدث في المجلس "ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة"( )، إنه هنا لم يكن يؤكد ذاته ولكن أراد أن يؤكد خط الشرعية الإسلامية لمسألة القيادة.
لذلك لم ينطلق الإمام الحسين(ع) من خلال هذا النص محارباً، بل داعية إلى الله مصلحاً مغيّراً للواقع، فلقد كان حديثه عندما التقى بجيش (الحر) حديث الموعظة والتذكير ولم يكن حديث المواجهة بالحرب، ولذلك أعطاهم محبته كلّها وحنانه كلّه وسقاهم الماء وتكلّم معهم بالكلمات التي تفتح قلوبهم، ولكن قلوبهم كانت مغلقة إلا من خلال بعض الثغرات التي كان ينفذ إليها بعض النور كما في موقف (الحرب بن يزيد) ـ رضوان الله عليه ـ إلى أن يقول(ع): "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق" أي إن من يقبلني لا يقبلني لشخصي، ولكنه يقبل الحق الذي هو من الله وإلى الله سبحانه وتعالى "ومن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين".
أما انطلاقته في الحرب، فقد كانت من خلال أن القوم قالوا ما ندري ما تقول يابن فاطمة، ولكن إنزل على حكم بني عمك، وعند ذلك قال كلمته الشهيرة: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"، لأنه خرج من أجل تأكيد الشرعية الإسلامية ونزوله على حكم (يزيد) و(ابن زياد) يعني الانحراف عن الشرعية الإسلامية وإعطاء الشرعية لهذا الحكم الذي رأى فيه(ع) حكماً مخالفاً لسنّة رسول الله(ص)، وقال: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة"( )، فالحسين(ع) انطلق من خلال الإسلام في خطيه الفكري والعملي في واقع المسلمين.
الولادة الثانية: العباس(ع):
وفي أجواء الإمام الحسين(ع) نلتقي بالرجل الكبير أبي الفضل العباس(ع) هذا الإنسان الذي يقول عنه الإمام الصادق(ع) في كلمات مختصرة، ولكنها تعطي عناصر الشخصية التي تفسّر كل ما قام به العباس(ع)، مع أن التاريخ لم يحدّثنا عن الكثير من تفاصيل حياته، "كان عمّنا العباس نافذ البصيرة"، فلقد كان يتمتع ببصيرة في عقله يبصر بها الحق وبصيرة في قلبه يبصر بها مواطن الإحساس والشعور والعاطفة فيما يحبّه الله ويرضاه من الجانب العاطفي للإنسان، وكان يملك البصيرة في حركته في الحياة عندما يواجه الخط المستقيم والخط المنحرف..
وكان "نافذ البصيرة صلب الإيمان" فلم يكن إيمانه الإيمان الذي يمكن أن يهتز أمام التحديات، سواء كانت تحديات الترغيب أو الترهيب، ولذلك عندما نادى (الشمر) أي بنو أختنا؟ أين العباس وإخوته؟ لأنه كانت هناك خؤولة تربطه به، نرى أن العباس رفض أن يستجيب، ولكن الإمام الحسين(ع) قال لهم: استجيبوا له فإنه بعض أخوالكم وإن كان فاسقاً.. وعندما طرح عليه شمر الأمان ردّ عليه بكلامٍ قاسٍ ليؤكد له أن القضية ليست قضية أمان وبحث عن الحياة الوادعة الرخيّة، ولكنها قضية رسالة نبحث عن حركتها في الواقع..
وجاهد مع أبي عبدالله الحسين(ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً، ونحن نقرأ في الزيارة "السلام على العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين وللحسن والحسين، فنِعْمَ الأخ المواسي"كما أننا نلتقي مع حركة (العباس) في قتاله في هذين البيتين اللذين قد يكونان رجزاً له وقد يكونان لسان حاله عندما قطعت يمينه:
        والله إن قطعتُم يميني        إنّي أحامي أبداً عن ديني    
فالإمام الحسين(ع) هناك يقول: "خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي" في خط الدعوة، والعباس هنا يطلقها دفاعاً عن خط الدعوة أيضاً، فعندما وصلت الأمور حداً أن الدين يواجه التحديات التي تريد إسقاطه وقف العباس(ع) محامياً وذاباً ومدافعاً "إني أحامي أبداً عن ديني" ليبيّن أن هذه الحركة إنما كانت حركة إصلاح في أمة رسول الله(ص) وحماية للدين "وعن إمامٍ صادق اليقين"، ولم يقُل عن أخي، لأن القضية في وعي العباس وفي وجدانه لم تكن قضية أخوّة يدافع عنها، ولكنها كانت قضية قيادة يدافع عن حركتها وعن رسالتها في حركة التحديات التي واجهها.
        وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ    نجلِ النبيِّ الطاهرِ الأمينِ    

الولادة الثالثة: زين العابدين(ع):
وإذا انتقلنا إلى الإمام زين العابدين(ع) الذي ملأ الواقع الإسلامي في مرحلته علماً وروحانيةً ومنهجاً وحركةً في المجالات التي كان الإسلام يواجهها ويتحرّك فيها في ذلك العهد، فإننا نقرأ أيضاً نفس العنوان ونفس الخط ولكن بطريقة أخرى، وذلك في دعائه في الصباح والمساء عندما يقول في آخر الدعاء: "اللهم وفّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير وهجران الشرّ وشكر النِعَم واتّباع السنن ومجانبة البِدَع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحياطة الإسلام".
وكلمة (حياطة الاسلام) تعني أن يتطلّع كل مسلم في كل صباح أو مساء يقبل عليه إلى الواقع الإسلامي فيما يواجهه من تحديات فكرية في خط الرسالة عقيدةً وشريعةً، أو تحديات واقعية في الضغوط التي توجّه إلى المسلمين هنا وهناك ليطلب هذا المسلم أو هذه المسلمة من الله أن يوفقه لأن يحوط الإسلام من جوانبه كلها،  حتى لا ينفذ إليه الكفر أو الباطل وحتى لا يتسلل إليه الأعداء، أن يحوطه بفكره في المسائل الفكرية ليوجّه فكره إلى الدفاع عن الإسلام وأن يحيطه بروحه وبقلبه وبكل طاقاته عندما تواجه الإسلام التحديات في الواقع العملي للناس ـ فحياطة الإسلام هي أن يعيش المسلم همّ الإسلام يومياً وأن يحوطه ـ كماالحارس اليقظان ليجنّبه الضغوط والاعتداءات والتحديات تماماً كما يحوط نفسه وعياله ومصالحه الخاصة في الحياة، فلتكن حياطة الإسلام عملاً يومياً للمسلم في كل صباح ومساء.
وعندما ندرس المفدرات ما قبل هذه الكلمة وما بعدها نرى أنها تلتقي مع كلمات الإمام الحسين(ع) "إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدي" سواء إصلاح الفرد أو إصلاح الجماعة، ونحن  نعرف أن إصلاح الفرد عندما يتحرك في خط الدعوة ينتهي إلى إصلاح الجماعة.
"ووفّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير" والخير عنوان إسلامي كبير يمتدّ إلى حركة الإنسان كلها في علاقاته الاجتماعية مع الناس "وهجران الشر" في الجانب السلبي لحركة الإنسان في علاقاته.. "واتّباع السنن ومجانبة البدع" والسنن هي الخطوط الإسلامية السائرة في خط الضوء الذي أطلقه رسول الله(ص) ليبيّن للناس ما يأخذون وما يتركون، وأما البدع فهي  التي تمثل الانحرافات التي تدخل على الإسلام باسم الإسلام، وهي ليست من الإسلام في شيء "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هما العنوانان اللذان يتحركان في خط الواقع المنحرف الذي يترك فيه المعروف، وهو كل ما يريد الله للإنسان أن يقول به، لينطلق المعروف في حياة الناس وليبتعد عن المنكر، وهو كل ما أراد الله للناس أن لا يأخذوا به في حياتهم.
ثم ينطلق في أبعاد الحياطة الأخرى، فيقول: "وانتقاص الباطل وإذلاله" أي أن نعيش في خط الدعوة والحركة إذا واجهنا الباطل أمامنا وأن نعمل على أساس أن ننقصه بأن ندرس نقاط الضعف كلها في داخله، سواء في الخطوط العامة أو الخاصة أو في الواقع العملي بأن نذلّه بكل ما عندنا من عناصر الإذلال "ونصرة الحق" بأن ننصره أمام جنود الباطل كلهم وأن ننصره ثقافياً وواقعياً "وإعزازه" بأن نعزّ الحق وأن ننطلق للفئات المحرومة "وإرشاد الضالّ لنهديه إلى الحق ومعاونة الضعيف"، سواء كان ضعيفاً في قوّته أو في عيشه أو في الفرص التي يحتاجها في حياته "وإدراك اللهيف" الإنسان الذي يعيش اللهفة من خلال المشاكل والآلام التي يواجهها في الحياة.
أيها الأحبة، تعالوا لنكن مع الإمام الحسين(ع) في أن نأخذ في ذكرى مولده عنوان (الإصلاح في أمة جده) وأن نأخذ في يوم العباس في ذكرى مولده (كيف نحمي الدين ونحمي القيادة الإسلامية الأصيلة في واقع التحديات)، ومع زين العابدين(ع)  (كيف نحوط الإسلام بكل ما نملك من طاقة وكيف نستعمل الخير ونهجر الشر ونجتنب البدع ونتبع السنن ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وأن ننتقص الباطل ونذلّه وننصر الحق ونعزّه ونرشد الضالّ ونعاون الضعيف وندرك اللهيف).. هذا هو وحي الذكرى وعياً يدخل في عقولنا وفي قلوبنا وفي طاقاتنا كلها وحركة تتجه بنا في الطريق المستقيم إلى الأهداف التي يريدها الله.
أيها الأحبة، إن أهل البيت(ع) هم فكر وحركة ومنهج وجهاد وروحانية وقداسة، أما الدموع فهي عاطفتنا أمام المأساة، وأما فرحنا بهم فهو فرحنا بالرسالة، وبما يمكن لنا أن نعينهم من خلال هذه الرسالة "أحيوا أمرنا" بإحياء رسالة الإسلام وتعاليمنا في خط الإسلام "رحم الله من أحيا أمرنا" في ذلك، فإذا كان هؤلاء العظماء قد انطلقوا من أجل الإسلام فعلينا ـ حتى في طريقة إثارة الذكرى ـ أن تكون هذه الإثارات في خط الإسلام ومن أجل خدمة الإسلام، والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة الثامنة والعشرون: 16 شعبان 1419هـ/ الموافق 5 -  12  – 1998م


في مولد الإمام المهديّ المنتظر(عج)
المسؤولية في غيابه: التزام الكتاب والعترة

"غيبة الإمام(عج) حضور وليست غياباً كلياً.. ونحن ننتظره انتظار الرساليين لا انتظار الغافلين أو المرتاحين أو المتعبين"


ـ في ذكرى مولد الإمام المهدي(عج).
ـ الولاية من أعمدة الدين.
ـ منهج أهل البيت(ع).
ـ الالتزام بالكتاب والعترة.
ـ خطا النظرية والتطبيق.
ـ الدعوة إلى الله.
ـ كونوا جنود العدل.
ـ دعوة الإمام الخميني(رض) للوحدة.
ـ لنعِش مع الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

في ذكرى مولد الإمام المهدي(عج):
معه ونحن ننتظره لا انتظار الغافلين، ولا انتظار المرتاحين، ولا انتظار المتعبين، بل انتظار الرساليين، لأنه في معناه في وجداننا الإسلامي رسالة نعيش روحانيتها في الحاضر وننتظر حركيتها في المستقبل، والسؤال الذي لا بد لنا من أن نطرحه على أنفسنا هو أننا نزوره، ونتوسل إلى الله أن يعجّل ظهوره، ونتحدث إليه بالمحبة كلها، وربما يبكي البعض شوقاً إليه، ولكن ليس هذا هو دورنا الحركي، لأن قضية أن تكون مسلماً وأن تكون ملتزماً بمنهج أهل البيت(ع) هو أن تبقى تتحرك في الخطين اللذين رسمهما رسول الله(ص) للأمة من بعده لترتبط الأمة بهما معاً لأنهما لن يفترقا في خط الرسالة، فلا بد أن لا يفترقا في وعي الذين يلتزمون الرسالة، "إني تاركٌ فيكم الثقلين، كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا ماذا تخلّفوني فيهما"( ).
وهذا الحديث الشريف الذي يرويه المسلمون جميعاً باختلاف مذاهبهم، يوحي إينا أنهما ينطلقان ليكون أحدهما في خط الرسالة حبلاً ممدوداً من السماء إلى الأرض، وربما كان هذا كناية عن الامتداد لكتاب الله سبحانه وتعالى في الكون كلّ، لأنه كلام الله ووحيه، وهو خط الرسالة في مضمونها الفكري والشرعي والمنهجي والحركي، أما العترة فهم الذين يمثلون القيادة، وقد جاء في أكثر من حديث "بُني الإسلام على خمس، على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودِيَ بالولاية"( ).
الولاية من أعمدة الدين:
والولاية تمثل القيادة التي تعيش رسول الله كله في معناه كله، كما تعيشه في العلم وفي الحركة وفي العصمة من خلال الأحاديث التي ذكرها النبي(ص) بحق علي(ع) "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها"، "علمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كل باب ألف باب"، "يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيّ بعدي" وقول الله عز وجل فيهم جميعاً: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}( ).
والعترة تمثّل قيادة، والقيادة انطلقت في خطين: القيادة الحاضرة وهي قيادة الإمام علي(ع) وأولاده من الإمام الحسن(ع) حتى الإمام الحسن العسكري(ع)، والقيادة الغائبة بالنسبة إلينا والحاضرة في المستقبل، وهي قيادة الإمام الحجة المهدي(عج)، ولكن غيبتها غيبة حضور وليست غيبة غياب كلي، وإن كنّا لا نعرف معنى هذا الحضور بالحسّ، ولكننا نعرفه بالوجدان.
لذلك عندما يقول رسول الله(ص): "فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض" فمعنى ذلك أنهما متلازمان، فلا يمكن لنا أن نأخذ الكتاب وننفصل عن العترة كما لا يمكن أن نأخذ العترة وننفصل عن الكتاب، فهما يتكاملان في خط الرسالة وخط القيادة.. ونحن نعرف أن عظمة الرسالة في حركيتها هي في فاعلية القيادة وحركيتها وعناصرها التي تميزها عن الآخرين.
لذلك نحن نعيش الآن غيبته، ولكننا في الوقت نفسه نعيش معنى حضوره في معنى الرسالة ومعنى حضوره في معنى العترة من قبله، وفي معنى العناوين الكبرى التي أراد لها أن تتحقق بشكل كلي في عصره المستقبلي وفي طبيعة المبدأ المستوحى من هذه العناوين.
منهج أهل البيت(ع):
لنقترب من الواقع أكثر، لنرى أننا هنا في هذه المرحلة من عصرنا نلتزم الإسلام في منهج أهل البيت(ع) ومنهج أهل البيت هو في كتاب الله وسنّة نبيّه، لأنه ليس لأهل البيت(ع) أية خصوصية زائدة عن خصوصية الإسلام، فهم ينفتحون على الإسلام كله، لا يزيدون ولا ينقصون فيه، لأن الإسلام في كتاب الله وسنّة رسوله كلمة الله، ونحن نعرف أن رسول الله(ص) لم ينقص حرفاً ولم يزد حرفاً {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}( )، والنبي(ص) لا يفعل ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يوحي إلى الناس من خلال ما تحدّث به عن النبي(ص) أن النبي وهو حبيب الله وهو سيد خلق الله لو فعل ذلك و(لو) حرف امتناع لامتناع، لو فعل ذلك لما كان هناك هوادة عند الله في أن يفعل به ذلك، فكيف بكم أنتم إذا انقصتم حرفاً من الإسلام أو زدتم حرفاً على الإسلام، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}( ).
لهذا لا بد لنا ـ أيها الأحبة ـ في التزامنا الإسلامي في منهج أهل البيت(ع) أن نأخذ الكتاب كله وأن لا ننقص منه حرفاً، وأن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض لنأخذ من الكتاب ما ينسجم مع ما نفكر فيه ونترك منه ما لا ينسجم، بل لا بد لنا أن نأخذ الكتاب كله وأن نعمل به من خلال ظواهره التي أطلقها الله للناس ليفهموه، لأن الكتاب لم يأتِ ليكون كتاباً رمزياً ولم يأتِ ليكون كتاباً لا يفهمه الناس، بل إنه هو النور {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}( )، فالكتاب نور للحقيقة، فلا يحتاج إلى نور ينيره، وإذا رأينا الكثير من الفِرَق التي حاولت أن تلقي بظلماتها على الكتاب فتنحرف به عن ظواهره وعن مدلوله فإنها لا تستطيع أن تمحو هذا النور، لأن نور الكتاب ينطلق من أجل أن يشقّ هذه الظلمات كلها وهذه الضبابية كلها.
الالتزام بالكتاب والعترة:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ إن أول التزام بالإمام(عج) هو أن نلتزم بالكتاب وأن يكون القرآن كل شيء في حياتنا، أن نعيشه وأن نقرأه وأن نتدبّره وأن نعمل به، وأن نجعله عنواناً لثقافتنا ولسياستنا ولاقتصادنا ولاجتماعنا ولحربنا ولسلمنا، لأنه يمثل العناوين الكبرى لذلك كله، وأن نلتزم العترة الذين التزموا الكتاب والتزموا النبي(ص)، لأن ما عندهم هو ما عند رسول الله(ص)، ولأن حديثهم هو حديث رسول الله، ولأن سيرتهم هي سيرة رسول الله..
لذلك علينا أن ندرس العترة وأن ندرس التراث الذي تركوه لنا مما صحّ منه، سواء كان تراث الكلمات التي تكلموها أو تراث السيرة التي ساروا عليها.. وإنني أزعم ـ أيها الأحبة ـ أننا حتى ونحن نبكي عليهم في مآسيهم كلها ونفرح لهم في أفراحهم كلها، أزعم أننا حتى الآن لم نفم سرّ أهل اليت(ع) ولم نفهم مناهجهم التربوي والخطوط السياسية والخطوط الأخلاقية التي انطلقوابها والقيم التي آثاروها.. إنهم بالنسبة إلينا دمعة نذرفها وفرحة نفرحها، أما غير ذلك فإن الاتجاه العام في إثارة ذكرى أهل البيت(ع) هو اتجاه تجميدهم في عقولنا بدلاً من أن نحرّكها (أي الذكرى) حركة المسؤولية.
خطّا النظرية والتطبيق:
لذلك، لا بد لنا أن نفهم الكتاب والنبوة وخط الإمامة في خط العترة ليتكامل عندنا خط النظرية وخط التطبيق، لأن النظرية إذا لم تتصل بالجانب التطبيقي فإنها تفقد حركتها في الواقع، ولذلك أمرنا الله بالكتاب وجاء النبي ليعلّمنا الكتاب وهو خط النظرية، وأما الحكمة فهي خط التطبيق.
لذلك لا بد أن نشغل مرحلتنا بدراسة الكتاب والسنّة وبدراسة العترة وأن نتحرك في حركتهم، وهذا هو ما ورد عن الإمام الباقر(ع) عندما أراد أن يتحدث عن خط التشيّع في خط الإسلام "فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة ـ إلى أن يقول ـ وصدق الحديث"( )، "أفيكفي لمن ينتحل التشيّع أن يقول بحبنا أهل البيت؟"، "حسب الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاّه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً، فرسول الله(ص) خيرٌ من علي(ع)، فلو قال إني أحبّ رسول الله ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر، والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة ـ إلى أن يقول ـ من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، ما تنال ولايتنا إلا بالورع"( ).
الدعوة إلى الله:
هذا هو دورنا في هذه المرحلة وهو أن نعيش ذلك في أنفسنا لنبني قلوبنا وعقولنا وكياننا وحركتنا على هذا الأساس، ثم لا بد لنا أن نعمل من أجل أن نكون الدعاة إلى الله بأن نفهم الإسلام وندعو له في داخل الحياة الإسلامية حتى نستطيع أن نحفظ المسلمين من الضلال ومن كل ما يتحرك من كفرٍ في داخلنا، وفي خارج الحياة الإسلامية بأن ندعو الناس إلى الإسلام، لأن الكثيرين من الناس في هذا العصر يمكن أن يدخلوا في الإسلام إذا أحسنّا عرضه وبيان مفاهيمه ونقاط القوة فيه، وأحسنّا أن نكون القدوة له، فهذه هي المسألة التي أرادنا الله أن ننطلق فيها {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}( ).
إن الدعوة إلى الإسلام في داخل الحياة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي خارج البلاد الإسلامية في الدعوة إلى أن يدخل الناس في الإسلام مسألة حيوية لكل مسلم ومسلمة، لأن الإسلام هو هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون دين الحياة وأن يختم به الدنيا كلها، فنحن نقرأ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}( ).
وقد ورد في الحديث "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة" فلا بد لنا أن ننمّي طاقاتنا الثقافية والعملية من أجل أن نكون الدعاة إلى الإسلام، لأن هذا هو الذي يمثل السير في اتجاهه، لأن السير في اتجاهه ليس سيراً في اتجاه شخص ولكنه سير في اتجاه رسالة، والإمام لا يبتعد عن الرسالة، بل هو تجسيد الرسالة، لأن القرآن هو القرآن الصامت والقياديون المعصومون هم القرآن الناطق.
ثم ننتقل إلى دور آخر وهو دور حركيتنا في واقع الإنسان، فالعنوان الكبير في حركته(ع) أنه يملأ الرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والأحاديث تتحدّث عن تطبيق أو إيحاءات هذه الآية لتشير إلى حيكته المستقبلية {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}( )، فالحديث هنا عن المستضعفين في زمن موسى(ع)، ولكن الله تحدث عن المسألة على أساس أنها سنّة من سننه وأنه سبحانه وتعالى لا يرضى للمستكبرين أن يسيطروا على المستضعفين، بل لا بد من أن يمنّ على المستضعفين ليجعلهم الوارثين، ومن الطبيعي أن هذه الآية تشبه الأخرى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}( ) في أنها تتحدث عن هذه الحركة المستقبلية التي قد تتمثل بشكل جزئي في مرحلة معينة، وتتمثل بشكل كلي في المراحل النهائية للحياة.
كونوا جنود العدل:
إن الله يريد لنا أن نكون جنود العدل وأن نرفض المستكبرين لصالح المستضعفين، لأنه سبحانه وتعالى لا يريد للمستضعفين أن يستضعفوا أنفسهم ولا يريد لنا أن نترك المستضعفين تحت سيطرة المستكبرين، أما الجانب الأول فهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا* فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}( )، فالمستضعف الذي يملك أن يخرج عن استضعافه، والمستضعف الآخر الذي يملك أن يحوّل ضعفه إلى قوة لينطلق في مواجهة المستكبرين من موقع قوة جديدة، لا يعذره الله إذا انحرف تحت تأثير سيطرة المستكبرين عليه.
أما الآية الثانية التي تريد لنا أن نقاتل في سبيل المستضعفين، فإن الله يحدثنا عن الذين يقاتلون في سبيل المستضعفين بقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}( )، ونحن نعرف أن من أهداف الإسلام هو القتال في سبيل المستضعفين، لهذا فالله يريدنا أن نقاتل في سبيل المستضعفين حتى لو كان المستضعفون غير مسلمين في بعض الحالات، فمسألة الاستكبار هي مسألة واحدة يرتبط بعضها ببعض، ذلك أن أية قوة للاستكبار في موقع تعطيه قوة في المواقع الأخرى، وأي ضعف للمستضعين في أي موقع يكون ضعفاً للمستضعفين في موقع آخر..
ومن هنا نعرف لماذا لا يريد الله الظلم كله حتى ظلم المسلمين الكافرين، وقد ورد عندنا في (الكافي) عن أحد أئمة أهل البيت(ع) "أوحى الله إلى نبيّ في مملكة جبار من الجبارين ائتِ هذا الجبّار وقل له إني إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين فإني لم أدع ظلامتهم ولو كانوا كفاراً" فلا يجوز للمسلمين أن يظلموا الكافرين، بمعنى أنه إذا كان للكافر حق عندك فلا يجوز لك أن تغمطه حقه ولا يجوز لك أن تظلمه حقه، وأن تقاتل الكافر عندما يكون محارباً أو مفسداً في الأرض، فهذا شيء آخر، ولكن في الحياة العامة إذا كان للكافر حق عندك فلا يجوز لك أن تمنعه حقه.
ونحن ـ أيها الأحبة ـ عندما نعيش في واقعنا المعاصر الذي يسيطر فيه الاستكبار العالمي على مقدرات المستضعفين في العالم كلها، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فإن علينا أن ندرس المسألة في دائرتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وأن ندرس كيف يمكن أن نقف ضد المستكبرين، فالهدف الكبير هو أن نسقط استكبار المستكبرين، بحيث لا تقوم لهم سلطة على المستضعفين في العالم، سواء فيما يتحركون به من مصادرة ثروات الشعوب، أو من مصادرة أمنهم أو من محاولة مصادرة سياستهم، بحيث تكون سياستنا على هامش سياستهم وأن لا يكون لنا استقلال في اقتصادنا وفي سياستنا وفي أمننا وفي قضايانا الحيوية، بل لتكون بأجعها تحت سيطرتهم، وهذا الاستقلال هو هدف إسلامي كبير، إذ لا بد لنا أن نقمع استكبار المستكبرين ليعيش المستضعفون على أساس أن تكون لهم الحرية في خط العدالة.
ونحن نعرف ـ أيها الأحبة ـ أن حجم المشكلة التي نواجهها، لا سيما في هذه الظروف، هي في مستوى حركة الصراع في العالم وأنه لا بد أن يكون المستضعفون وحدة في قضاياهم المصيرية أو يكونوا جبهة في قضية الصراع ضد الاستكبار حتى يمكن لنا من هذا التحالف بين المستضعفين من المسلمين والمستضعفين من غير المسلمين أن نسقط المستكبرين، ليكون إسقاط المستكبرين في موقع قوة من أجل إسقاطهم في موقع آخر، وليكون عزل المستكبرين عن موقع قوي قوةً لعزلهم في موقع آخر.
دعوة الإمام الخميني(رض) للوحدة:
إن علينا أن نفكّر بأن نتحالف أو ننسّق بين المستضعفين في العالم، ولقد كان الإمام الخميني(رض) على درجة كبيرة من الوعي للواقع السياسي في العالم، سواء واقع المسلمين في مقابل غير المسلمين، أو واقع المستضعفين في مقابل واقع المستكبرين، حيث أطلق شعارين في بداية الثورة هما "أيها المسلمون اتحدوا اتحدوا" ثم أطلق "يا مستضعفي العالم اتحدوا"، لأنه أدرك أن المسلمين لن يكونوا قوة في إسلامهم إلا إذا اتحدوا حتى يمكن أن يواجهوا الكفر والاستكبار من موقع واحد.
وهكذا، فإن المستضعفين لا يملكون الوقوف ضد المستكبرين وإسقاطهم لأنهم يملكون أقوى القوى المادية في الاقتصاد وفي السياسة وفي السلاح، فلا يمكن للمستضعفين أن ينتصروا عليهم إلا من خلال أن يستجمعوا قوتهم كلها، وإذا اتحدوا في الموقع وفي الموقف، فإن من الممكن أن يصلوا إلى النتيجة المنشودة.
والله حدّثنا عن سنّة من سننه في الكون وهو قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}( )، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}( )، فليس هناك قوة خالدة في واقع الإنسان، وليس هناك ضعف خالد، فالضعيف بالأمس قد يصير قوياً إذا أخذ باسباب القوة، والقوي بالأمس قد يصير ضعيفاً إذا تبدلت ظروف القوة في حياته.
ونحن نعرف أن كثيراً من الشعوب كانت ضعيفة في الماضي وأصبحت تمثل قوة كبرى فيما بعد، وانظروا كيف كان اليهود وهم أعداؤنا منذ البداية {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ}( )، كيف كانوا شذّاذ الآفاق حتى كان يكتب على المطاعم والمؤسسات في أمريكا وفي أوروبا "ممنوع دخول الكلام واليهود" وانظروا أين أصبح ايهود الآن، فلقد أصبحوا قوة سياسية واقتصادية وإعلامية وأمنية في المنطقة وفي أكثر من مكان في العالم، ثم انظروا كيف كانت بريطانيا في الأربعينيات والثلاثينيات سيدة البحار وأين هي بريطانيا اليوم، فهي لم تسقط تماماً ولكنها أصبحت في الدرجة الرابعة من القوة.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ علينا أن لا نسقط أمام قوة الأقوياء، وأن نعمل على أساس أن لا نجترّ ضعفنا لنزداد ضعفاً بعد ضعف، بل علينا ونحن نذكر علياً(ع)، ونذكر الذين تحركوا قبل علي وكيف كانت (موقعة خيبر) عندما أرسل النبي(ص) الراية بيد شخص فرجع يجبّن أصحابه ورجعوا يجبّنونه وهم يقولون ليس بإمكاننا فتح القلعة ولا نستطيع أن نقف أمامهم، وقالها رسول الله(ص): "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله وسوله" رجل يعيش الرسالة على مستوى العقيدة وعلى مستوى الحب الذي ليس وراءه أي شيء من حبّ الحياة، رجل أحبّ الله ورسوله حتى باع نفسه لله ولرسوله فلا مشكلة عنده في أية معركة يخوضها، وقد قال أكثر من مرة لا أبالي "أدخل إلى الموت أو يخرج الموت إليّ"، "ويحبّه الله ورسوله ـ لأن الله ورسوله عرفا أنه عاش الحب كله للإسلام، حباً لله ولرسوله ـ كرّار غير فرّا يفتح الله على يديه"( )، وانتصر الإسلام بعلي(ع) الذي لم يعرف الضعف سبيلاً إلى نفسه، فانطلقت قوّته الذاتية وقوته الربّانية التي أودعها الله فيه لينتصر، وقد نقل عنه أنه قال: "ما خلعت باب خيبر بقوة جسدية أو بشرية، ولكني خلعته بقوة ربانية".
لنعِش مع الله:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ عندما نعيش مع الله فإننا نستطيع أن نستلهم القوة باله {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ}، والقوم يقتربون منه حتى لم يكن بينه وبينهم إلا خطوتين {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}( ).
وهكذا رأينا كيف ارتفع المسلمون الأولون مع رسول الله(ص) إلى مواقع القوة من خلال عمق الإيمان الذي أعطاهم القوة كلها في إيمانهم بالله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا} من خلال قوة الإيمان التي استمدوها من إيمانهم بالله {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} فلم تجعلهم القوة يطغون، بل ازدادوا تواضعاً لله {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} الإعلامي والشيطان السياسي والشيطان الأمني {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}( ).
معه نسير نحوه وننتظره ونحن ندعو إلى الله، وننتظره ونحن نطيع الله، وننتظره ونحن نستمد القوة من الله ونتحرك لنحقق نصراً ولو بمستوى 10% اليوم ليأتي الجيل من بعدنا ليحققوا نصراً آخر ونصراً آخر، لأن حركة النصر الكبير لا يمكن أن تنطلق إلا من خلال حركة الأجيال في طريق النصر، وإذا لم نلتقِ به في معنى الحضور الواقعي فإننا نلتقي به اليوم وغداً وبعد غد في معنى الحضور الرسالي من أجل أن نمهّد له في موقع ننتصر به اليوم وفي بلد نفتحها غداً.
أيها الأحبة، قولوها دائماً لا في شهر رمضان فحسب "اللهم إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة".
اللهم عجّل فرجه وسهّل مخرجه واجعلنا من أنصاره وأتباعه والمستشهدين بين يديه. والحمدلله رب العالمين.
المحاضرة التاسعة والعشرون: 25 شعبان 1419هـ/ الموافق 12 -  12  – 1998م


الإمام علي(ع) مفسِّراً

"للإمام علي(ع) منهج متميّز في التفسير، ومع الأسف فإنّ ما تركه (الشريف الرضي) لنا في هذا قليل جداً"

ـ الإمام علي(ع) المفسّر.
ـ خصوصيات الذاكرين.
ـ الذكر ـ الدعوة.
ـ الذكر جلاء القلوب.
ـ الذكر سمع القلوب.
ـ الذكر بصر القلوب.
ـ عندما يناجي الله عباده.
ـ التذكير بأيام الله.
ـ الذاكرون مصابيح الظلمات.
ـ صورة الذاكرين.
ـ الذاكرون محفوفون بالملائكة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

الإمام علي(ع) مفسّراً:
ربما لا يعرف الكثير من الناس شخصية علي(ع) المفسّر ومنهجه المتميّز في تفسير آيات الله سبحانه وتعالى في القرآن، ومع الأسف فإن ما تركه (الشريف الرضيّ) لنا من هذا قليل جداً، ولكننا نريد أن نلتقط بعض هذه التجارب التفسيرية، فلعلنا نستوحي منهجاً جديداً في التفسير يتجاوز الأسلوب التقليدي الذي درج عليه المفسرون.
فمن بين الآيات التي استوحاها الإمام علي(ع) الآية التي تقول: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}( )، فلقد تحدث عند تلاوته هذه الآية عن هؤلاء الرجال الذين يؤكدون على ذكر الله، بحيث أنهم يعيشون هذا الذكر في مواقع حياتهم كلها، فهم في تجارتهم يذكرون الله، وهكذا في بيعهم ومجالات حياتهم الأخرى، فالله تعالى لا يغيب عن وجدانهم في أية حال، فذكر الله هو الأهم عندهم، ومن هنا فلا يبتعدون عنه في أي شأن من شؤون الحياة حتى تلك التي تتصل بأوضاعهم الخاصة.
خصوصيات الذاكرين:
ويؤكد الإمام(ع) في هذه الخطبة على خصوصيتين للذاكرين:
الخصوصية الأولى،  الذكر الذي ينفتح على إحساس الذاكر بمسؤوليته عن معرفة الناس بالله وعن انفتاحهم عليه ودعوته إليهم، فالذاكر لا يعيش الذكر مجرد حالة ذاتية تجعله يذكر الله في لسانه، ولكنه ينطلق من هذا، الذكر الذي يجعل الله محور رسالته، وحاضراً في مواقع عظمته ونعمته وفي امتداده في الكون كلّه، وفي وجدان الناس بحيث يتمثلونه في كل وعيهم الفكري وحركتهم العملية.
ثم يتحدث الإمام(ع) في الخصوصية الأخرى من شخصية الذاكر في ذكره لله أنه يملأ كل شخصيته بالله إن في عقله أو قلبه أو حياته أو انفتاحه على المصير فيما أراده الهل للإنسان من جنة أو نار تبعاً لطاعته أو معصيته بحيث يعيشون آفاق الآخرة كما لو كانوا يتحسسونها في الدنيا.
الذكر ـ الدعوة:
ومنهنا نعرف ـ أيها الأحبة ـ أن الإمام يريد أن يقول لنا إن الذكر ليس كلمة، بل إنه ويع لله، بحيث لا يغيب عن عقلك ولا عن قلبك ولا عن حياتك، كما أنه يمثل حركتك في الدعوة لتكون الذاكر لله في حياة الناس من أجل أن يرتبطوا بالله من خلال ذلك.. فالذكر هنا هو ما يمكن أن نصطلح عليه بـ(الذكر ـ الدعوة ) الذي يجعلك تتحرك كداعية إلى الله سبحانه وتعالى فتذكره في دعوتك للناس بأن يؤمنوا ويرتبطوا به.. و(ذكر الممارسة) الذي يجعلك تعيش ذكر الله في داخل ذاتك لتمتلئ كلها بالله، وعلى ضوء هذا يمكن أن نقسّم ذكر الله من قبل الذاكر إلى قسمين: الذكر الذي يتحرك في خط الدعوة، والذكر الذي يتحرك في خط بناء الشخصية وانفتاحها على الله، ولعل هذا هو ما يتمثل في كلمة الإمام علي(ع).
الذكر جلاء القلوب:
فتعالوا نتابع علياً(ع) في هذا الكلام الذي قاله عند تلاوته {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}( )، "إن الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب"، فدور الذكر هو أن يزيل صدأ القلب، فكما ورد عن رسول الله(ص) "إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد" فهو يتحدث من خلال الذنوب التي يرتكبها الإنسان وما يحيط به في أشغاله وأوضاعه في الحياة وتعقيداتها التي تمنعه من الانفتاح عل مواقع النور والصفاء وينابيع النقاء فيصدأ قلبه، فإذا عاش الإنسان ذكر الله في قلبه فإن هذا الذكر يتحرك ليزيل كل صدءٍ عن هذا القلب الذي يصدأ عندما يغيب ذكر الله عنه.
الذكر سمع القلوب:
"إن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمعُ به بعد الوقرة" والوقرة هي الثقل في الأذن، أي يكون الذكر وسيلة من وسائل السمع، لأن للقلوب آذاناً تسمع بها الأحاسيس التي تمتصها، والمشاعر التي تنبض بها مما يستوحيه القلب مما يحيط به، فقد تمرّ على القلب حالات لا يسمع بها بسبب الرنين والطنين الذي ربما يحلّ في الأذن فيمنعها عن السماع، ولذا يقول تعالى: {وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا}( )، فالوقر إذاً هو الضجيج الذي يحصل في داخل الأذن فيحجبها عن السماع، ويأتي الذكر ـ كما يقول الإمام ـ ليفتح أسماع القلوب بعد أن يمتنع السمع عليها.
الذكر بصر القلوب:
"وتبصر به بعد العشوة" فالقلوب لها أبصار، والله تعالى يقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}( )، وقد يعمى القلب وقد يبصر، فالذكر يأتي ليعطي القلب هذا البصر المعنوي بعد أن يُصاب بالعشوة وهي ضعف البصر، والمراد بها هنا منع القلب عن الرؤية.
"وتنقادُ به بعد المعاندة" وقد يتسلط العناد في القلب جرّاء حركة الشيطان في داخل قلب الإنسان ليحدب عنه رؤية الحق ويملأه بالباطل فيعاند الحق عند ذلك ويمنعه من أن يفكر ويعي الأشياء، فإذا عاشت القلوب ذكر الله وكانت في حالة من العناد من خلال ما يغرسه الشيطان فيها من الباطل وما يغلقه عنها من الحق، فإنّ ذكر الله يؤدي إلى انقياد القلوب للإيمان وللحقيقة.
وعلينا أن نعرف ـ أيها الأحبة ـ أن المراد بالقلب في القرآن ليس هو هذا العضو المادي الذي يسمّى بـ(القلب الصنوبري) بل المراد منطقة الوعي الذي يشمل العقل والإحساس والشعور {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}( )، اي أن له وعياً للأشياء إن من خلال التذكير أو العاطفة.
عندما يناجي الله عباده:
"وما برح الله ـ عزّت آلاؤه ـ في البُرهة بعد البُرهة وفي أزمان الفترات عبادٌ ناجاهم في فكرهم" فبعد أن تحدث عن الذكر تحدّث عن الذاكرين، فقال إن لله ـ بين وقت وآخر ـ رجالاً يناجيهم في فكرهم، وهذا هو من أدق التعابير، فمناجاة الله للإنسان في فكره هي بما يلهمه سبحانه من إلهاماته فكأنه يحدّثهم وهم يستمعون إلى حديثه.
"وكلّهم في ذات عقولهم" من خلال ما أودع في تلك العقول من أفكار وأحاسيس ومشاعر، فكأنه يكلّمهم في ذلك "فاستصبحوا بنور يقظةٍ في الأسماع الأبصار والأفئدة" بأن ألهمهم ذكره ومعناه وعظمته وامتداد صفته وما يملأ قلوبهم بالنور فأصبحوا في نور يقظة تستيقظ به أسماعهم فتسمع الحق، وتتفتح به أبصارهم فتتحرك البصيرة فيها، وتنفتح به أفئدتهم وهي مناطق الوعي في داخلهم لتعي حقائق الأمور.
التذكير بأيام الله:
"يذكّرون بأيام الله" وهذا هو الذكر المزدوج، وهو أن يذكر الله فيذكّر به، وأيام الله هي الأيام التي يعيش الإنسان فيها كل ما يتصل بالله سبحانه وتعالى في آلائه ونعمائه ومواقع عظمته وغضبه وسخطه "ويخوّفون مقامه" أي يخوّفون الناس من مقام الله سبحانه وتعالى من خلال ما يتحدثون به من سخطه عند المعصية وما يثيرونه في نفوس الناس من مواقع العظمة.
"بمنزلة الأدلّة في الفلوات" فدورهم الإصلاحي والتذكيري والتبليغي هو دور الأدلاّء في الصحارى، ففي صحارى الضلال والضياع يتحركون ليرشدوا الناس إلى الطريق التي تؤدي إلى الله.
"ومن أخذ القصد حمدوا إليه طريقه وبشّروه بالجنّة، ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة" فعندم يتحرّكون في الساحة ويرون إنساناً يميل يميناً وشمالاً، وذلك كناية عن الانحراف عن الخط المستقيم، فإنهم لا يقفون موقف الحياد، ليقولوا: ما همّنا إن ضاع فلان أو انحرف، بل يتحسسون مسؤوليتهم عن كل إنسان منحرف ليبيّنوا له أن هذه الطريق التي تيسير فيها طريق تؤدي إلى المشاكل في حياته وإلى التعقيدات في أوضاعه كلها.
"وحذّروه من الهلكة" يحذّرونه من أنه إذا سار في هذا الطريق فستواجهه أوضاع الهلاك في نهاية الطريق أو في أثنائه، وكانوا مصابيح تلك الظلمات، وإذا عاشوا في الظلمات التي يتحرك فيها الباطل والظلم والاستكبار كانوا المصابيح التي تضيء الطريق في تلك الظلمات وتشير إليهم أن الحقّ هنا والعدل هنا والخير هناك.
الذاكرون مصابيح الظلمات:
"وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلّة تلك الشبهات" فإذا عاش الناس بعض الشبهات التي تجعلهم متحيرين مترددين في فهم الحقّ كانوا الأدلة لحلّ تلك الشبهات وإيضاحها.
"وإن للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً" فليس كل ذاكر لله بلسانه هو من أهل الذكر، بل إن أهل الذكر هم الذين جعلوا ذكر الله في عقولهم وقلوبهم وألسنتهم وحياتهم بدلاً عن الدنيا.
"فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه" فحتى في تجارتهم يذكرون الله حتى لا تكون تجارة باطل ويذكرون الله في بيعهم حتى لا يكون بيعاً حراماً.
"يقطعون به أيام الحياة" ففي كل هذه الأيام التي يعيشونها ذكر لله "ويهتفون بالزواجر عن محارم الله" فيحاولون أن يعيشوا مع الناس ليهتفوا بهم عما يردعهم ويزجرهم عن ارتكاب ما حرّم الله سبحانه وتعالى "في أسماع الغافلين" لأن الناس قد يغفلون عن الآخرة وعن ذكر الله فيرتكبون المحرّمات من خلال الغفلة، لكنهم ينطلقون من أجل أن يهتفوا في أسماع الغافلين ليقرّبوهم إلى الله سبحانه وتعالى.
"ويأمرون بالقسط" إذا رأوا الناس قد أخذوا بأسباب الظلم "ويأتمرون به" فهم لا يريدون للناس أن يظلموا بعضهم البعض كما أنهم يأمرون أنفسهم بأن لا يظلموا أحداً "وينهون عن المنكر" في كل ما حرّمه الله "ويتناهون عنه" فهم لا يتناهون عن المنكر ويفعلونه بل ينهون عنه ويتناهون عنه.
"فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة" فهم يعيشون في الدنيا في أجسادهم ولكنهم يتحركون فيها كما لو كانوا يعيشون في الآخرة، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة "فشاهدوا ما وراء ذلك" أي أنهم عندما انطلقوا في التفكير في الآخرة فكأنهم شاهدوها على الطبيعية "فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ" أي الفاصل بين الدنيا والآخرة فيما فيه من جنة وما فيه من جحيم في طول الإقامة فيه، "وحققت القيامة عليهم عداتها" أي ما وعدهم الله فيها "فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا" فحدّثوهم عما في الآخرة "حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون"، لأن روحية الذكر في نفوسهم جعلتهم يرون ما لا يرى الناس، لأن الإنسان عندما يعظم ذكر الله في قلبه فإنه يتوجه إلى كل ما عند الله سبحانه وتعالى.
صورة الذاكرين:
"فلو مثّلتهم لعقلك" أي لو أردت أن تتصور هذا النموذج من الذاكرين "في مقاومهم المحمودة" أي في مقاماتهم "ومجالسهم المشهودة وقد نشروا دواوين أعمالهم" أي عندما يجلسون في مواقعهم ومجالسهم فإنهم يعيشون كما لو أنهم نشروا، حيث ينشرون دواوين أعمالهم كلها.
ففي كل يوم يحاول أحدهم أن يفتح صفحات عمله ليتساءل: ماذا عملت في الماضي وماذا عملت في الحاضر وماذا سأعمل في المستقبل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}( )، فهم دائماً في ذكر لما أسلفوا من عمل ولما يمارسونه الآن من العمل "وفرغوا لمحاسبة أنفسهم عن كل صغيرة وكبيرة" أي لا يغفلون عن أنفسهم ولا يتركون ما عملوه للضياع بل يحاول أحدهم أن يحاسب نفسه في دنياه ماذا عمل من صغائر الذنوب وكبائرها وماذا عمل من صغائر الطاعة وكبائرها حتى يعرف نفسه ويعرف ماذا يقبل عليه غداْ قبل أن يقدّم إليه كتابه {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}( )، ولذلك فهو يقرأ في كتاب أعماله في الدنيا ليعرف كيف ينقّح كتابه وكيف يزيل منه السواد والسيئات كلها بالتوبة وبالإقبال على الله سبحانه وتعالى.
"وعن كل صغيرة وكبيرة أمروا بها فقصّروا عنها، أو نهوا عنها ففرّطوا فيها وحمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم"، وهو كناية عن السيئات، فوجدوا التقصير منهم ولم يحملوه ربهم أي تحملوا المسؤولية لما جنا "فضعفوا عن الاستقلال بها" أي أدركوا صعوبة ذلك، فالذي يرى ظهره مثقلاً وأنّ طاقته لا تتحمل هذا الثقل، فكيف يعمل، إنه يحاول إزالة هذا الثقل عن ظهره ليتخفف، فما هي الوسيلة التي يعمل بها هؤلاء من أجل أن يزيلوا هذا الثقل عن ظهورهم؟
"فنشجوا نشيجاً وتجاوبوا نحيباً" ونقول نشج الباكي إذا اختنق بعبرته، وتجاوبوا به يعني أجاب بعضهم بعضاً بالنحيب وهو رفع الصوت بالبكار، أي أنهم جلسوا في جلسة توبة واستغفار يبكون من خشية الله بحيث يجيب بعضهم بعضاً.
"يعجّون إلى ربهم من مقاوم ندم واعتراف" أي يصيحون من مواقف الندم والاعتراف بالخطأ، وهنا يأتي الجواب، فلو مثّلتهم لعقلك فماذا ترى؟ "لرأيت أعلام هدى" أي رأيت في هذه النماذج الإنسانية أعلام هدى باعتبار أنهم يعيشون الهدى في أنفسهم ويحرّكونه في نشاطهم، "ومصابيح دجى" لأنهم عاشوا نور الإيمان والمحبة لله والإحساس بعظمته ونعمته، ولأن الباطل والشر زال عن كيانهم فكانوا نوراً كلّهم.
الذاكرون محفوفون بالملائكة:
"قد حفّت بهم الملائكة" لأنهم يقولون للمؤمنين في القرآن {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}( )، فمعنى ذلك أن الملائكة تتنزل على المؤمنين في الدنيا كما تتنزل عليهم في الآخرة وتزورهم أيضاً هناك {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}( ).
"وتنزّلت عليهم السكينة" لأنهم أصحاب النفوس المطمئنة "وفتحت لهم أبواب السماء" لأن أدعيتهم ومناجاتهم وابتهالاتهم ترتفع إلى السماء، "وأعدّت لهم مقاعد الكرامات في مقام اطّلع الله عليهم فيه" فرأى كيف يعبدونه ويذكرونه ويدعون إليه "فرضي سعيهم وحمد مقامهم، يتنسّموه بدعائه روح التجاوز" أي يستروحون رائحة العفو "ورهائن فاقةٍ إلى فضله" فهم يعتبرون أنفسهم من قبيل الرهائن الذين يحتاجون ما ينزله الله عليهم من فضل "وأسارى ذلّ لعظمته" أي أنهم يعيشون الذل مع الله أمام إحساسهم بعظمته "جرح طولُ الأسى قلوهم، وطولُ البكاء عيونهم، لكل باب رغبة إلى الله منهم يدٌ قارعة" فهم في كل الرغبات التي يرغبون فيها إلى الله برحمته وعفوه ومغفرته يدقون كل باب رغبة بعض عطايا الله "يسألون من لا تضيق لديه المنادح" جمع مندوحة وهي السعة، أي من تتسع لديه كل الفرص ولا يضيق عليهن أي عطاء "ولا يخيب عليه الراغبون".
"فحاسب نفسك لنفسك" {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}( ) فحاسب نفسك لمصلحة نفسك "فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك" فلا تشغل نفسك بحساب غيرك: ماذا فعل فلان وماذا جنى فلان، لأن الأنفس الأخرى لها محاسب غيرك.
وهذا هو المنهج التفسيري الذي يستوحي فيه الإمام من الآية {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} حيث يجعل مسألة الذكر تشمل حياة الإنسان كلها ونشاطه كله وما يتعلق بالله مع الآخرين ومع نفسه، وعلينا أن نعيش ذلك كله لنكون من هؤلاء الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}( ).
الذكر في شهر الله:
هذا هو حديث علي(ع) ونحن مقبلون على شهر الله وعلى ذكر الله في هذا الشهر الذي أرادنا الله سبحانه ان نذكره فيه بعقولنا لتكون عقول الحق، وبقلوبنا لتكون قلوب الخير، وبعملنا ليكون عمل العدل، هذا الشهر الذي أراد الله لنا أن نذكره فيه بكتابه بأن نقرأ كتابه قراءة تدبّر وتأمّل، وقد عظّم الله هذا الشهر بأن أنزل القرآن فيه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}( ) فكان شهر الهدى وحركة البينات التي تقود الناس إلى الهدى وإلى الفارق بين الحق والباطل، وأرادنا أن نجلس إليه لندعوه ولنبتهل إليه ونزداد قرباً منه لنتحدّث معه عن همومنا كلها وآلامنا كلّها وأحلامنا كلها وقضايانا كلّها، لنتحدث إليه ونطلب منه أن يجعل قلوبنا خالصةً له في كل ما ما أرادنا أن نعيشه من الإخلاص له والإيمان به والطاعة إليه.
وأرادنا ـ في هذا الشهر ـ أن نذكره بصلاتنا لنصلي إليه أكثر مما نصلي في أي شهر آخر حتى يكون شهر رمضان شهر الموسم الذي روي عن رسول الله(ص) أنه قال: "شهر دُعيتُم فيه إلى ضيافة الله وجُعِلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم في تسبيح ونومكم في عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا اله بنياتٍ صادقة وقلوبٍ طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي ـ وهذه كلمة كبيرة جداً ـ "من حُرِم فيه غفران الله في هذا الشهر العظيم" لأنه موسم الطاعة والرحمة والمغفرة والرجوع إلى الله.
ولذلك ورد في حديث علي(ع) عندما جاء عيد الفطر ورأى الناس يتحركون هنا وهناك محتفلين به قال: "إنما هو عيد لم قبل الله صيامه وقيامه، وكل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد"، فشهر رمضان شهر الطاعة لله والعيد عيد السعادة بهذه الطاعة، ولذلك يمكنه أن نجعل كل أيامنا أعياداً إذا كنا نحصل على رضا الله في هذا العيد وذاك العيد، فتعالوا ـ أيها الأحبة ـ لنعيش عيد الطاعة وعيد الإيمان وعيد المحبة وعيد العدل، وعيد الخير وعيد الإسلام في حياتنا كلها حتى ننطلق إلى الله سبحانه وتعالى ونسمع تلك الهمسة الحبيبة في آخر لحظات الحياة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي}( )، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}( ). والحمدلله رب العالمين.





الفصل الثاني

المسائل القرآنية

"القرآن دين التطوّر والتجديد، فالخطوط الفكرية التي طرحها الله تعالى في القرآن تفتح نافذة على تطوّر الفكر وتجديد العلم فيما يكتشفه الإنسان من أسرارها"



ـ أولاً: التفسير.

ـ ثانياً: مسائل عامة.

أولاً: التفسير
البطش جبّارين:
ـ هل استعمال القنابل النووية هو في معنى "البطش جبارين"؟
نعم، إذا لم يكن في حالة دفاع عن النفس، أو في الدرجة القصوى من الدفاع، بحيث أن الأمة تهلك أو تُباد إن لم تستخدمه، وإلا فنحن ضد السلاح النووي من حيث المبدأ.
الانقلاب بعد وفاة الرسول(ص):
ـ يقول تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}( )، فما هو معنى الانقلاب الذي ذكرته الآية؟
إن الآية تتحدث في مقام الاستفهام الاستنكاري ولا تخلو من بعض الإشارات إلى ما حدث بعد النبي(ص) مما ألمح النبي(ص) إليه قبل وفاته عندما خرج إلى البقيع وخاطب أهله "يهنئكم ما أنتم فيه.. قد أقلبت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها" وفي رواية "آخرها شرٌ من أوّلها".
آية الجمع:
ـ هل أن آية {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}( )، تدل على جواز الجمع، أم أنها تتحدث عن مورد آخر؟
ربما نستوحي من الآية في حديثها عن الأوقات الثلاثة {دلوك الشمس} و{غسق الليل} و{قرآن الفجر} إمكانية الجمع.
الدين الإسلام:
ـ من المسلّم به {إن الدّين عند الله الإسلام}( ) وهو أن كل الأنبياء والأديان تتبع الإسلام كما في قول إبراهيم (إني أول المسلمين) فالرجاء توضيح مفهوم الإسلام من خلال ذلك، وهل يتسع الإسلام ليشمل أتباع الديانات السماوية الأخرى من يهود ومسيحيين وغيرهم، وكيف تتوافر شرائطه فيهم اليوم؟
الإسلام هو أن يسلم الإنسان أمره إلى الله، بحيث يتّبع كل ما أراده الله منه، ففي زمن إبراهيم(ع) كان الإسلام متمثلاً بشريعة إبراهيم، لأن تلك الشريعة كانت مطلوبة في ذلك الزمان إلى زمن موسى(ع)، فعندما أرسله الله كان الإسلام متمثلاً في شريعة موسى إلى زمن عيسى(ع)، وكان الإسلام متمثلاً بشريعته، وإلى زن النبي(ص) الذي جاء بالإسلام، فكان الإسلام متمثلاً في شريعة النبي(ص)، لأن شريعته تجمع الرسالات كلها.
وعلى ضوء هذا، فإن من لم يلتزم بشريعة النبي(ص) التي أوحى بها الله إليه من أجل أن يسير الناس عليها، فهو ليس مسلماً.
لأن المطلوب هو أن يسلم أمره إلى الله، فإذا ثبت أن ما أمره به الله تعلى منذ زمن النبي(ص) إلى نهاية الحياة هو هذه الشريعة ـ وهو ثابت ـ فإن من لم يتبعها فليس بمسلمٍ.
آيات التسلية:
ـ يفسّر بعض المفسّرين الآيات التي تخاطب النبي(ص) في وقت المحنة والبلاء بأنها نوع من التسلية له، فهل هذا صحيح؟
إن فيها شيئاً من التسلية، ولكن فيها أيضاً شيء من تصوير روحية النبي(ص) العالية التي تتألم للناس لأنهم لا يؤمنون، فلقد كان النبي(ص) لا يتألم لنفسه ولكنه يتألم لمن حوله من الناس.
الظلمات:
ـ يقول تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ}( )، فما معنى الظلمات هن، وفي قوله تعالى {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}( )؟
في الآية الأولى هي ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر، وأما في الآية الثانية فهي ظلمات الشرك والكفر.
الفرق بين توبتين:
ـ يقول البعض إن الله يتوب على الإنسان حتى عند بلوغ روحه الحلقوم، فكيف يتفق ذلك مع الآية الكريمة التي يقول الله فيها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ}( )؟
لعلّ الجمع بين هاتين التوبتين هو أن هناك توبة لا تنطلق من قناعة وإنما تنطلق من مأزق، وهناك توبة تنطلق من قناعة بحيث أن الله يعرف أنه إذا امتدّ العمر بالإنسان فإنه يتوب، والله عارف بما في القلوب، وإذاً فهي توبة من خلال المأزق وأخرى من خلال الاقتناع.
اتّباع ملّة اليهود والنصارى:
ـ يقول تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}( )، فهل تنطبق هذه الآية في وقتنا الحاضر على المسلمين؟
تمام الانطباق وعلى كثير من المسلمين، لأنها ناظرة إلى أن كل صاحب انتماء عقيدي أو غيره يخضع في رضاه أو سخطه لانسجام الآخرين مع عقيدته أو خطه، ولا يكتفي في ذلك بالتوافق معه في بعض الأمور الهامشية.
أيام الله:
ـ جاء في خطاب الله سبحانه وتعالى إلى نبيّه موسى(ع): {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}( )، ما هي هذه الأيام، هل هي معيّنة أم أنها كل الأيام؟
الظاهر أن المراد منها الأيام التي يواجه فيها الإنسان مسؤولياته أمام الله سبحانه وتعالى، وإذا كانت بعض الأحاديث تحدثت عن أيام معينة فلأنها تمثل الأيام التي تحركت فيها المسؤوليات التي يحبها الله ويرضاها.
المكر يستبطن الخفاء:
ـ بيّنتم من خلال المحاضرة التي تحدثتم فيها عن المكر والدهاء أن المكر يختزن الخفاء، لكن استعمال القرآن لها خلاف ذلك، كما في قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}( )؟
المكر هنا أيضاً يختزن الخفاء، فقريش اجتمعت في (الندوة) بالخفاء للتخطيط للهجوم على النبي(ص) في داره هجمة رجل واحد، والله تعالى أوحى للنبي(ص) بالانسحاب، وأن يترك مكانه للإمام علي(ع) في فراشه حتى يحسبوا أنه موجود، فهم مكروا بطريقة خفية والله ردّ المكر بطريقة خفيّة عليهم أيضاً.
حدود المعروف بين الجنسين:
ـ يقول تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}( )، فما هي حدود هذه الآية الكريمة، وهل هي مخصصة في مورد الإنفاق أو أي مورد خاص؟
نحن نرى أنها عامة إلا في الدرجة التي جعلها الله تعالى للرجل على المرأة وهي مسألة الطلاق.
إلقاء النفس بالتهلكة:
ـ يقول تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}( )، فكيف يلقي الإنسان نفسه إلى التهلكة؟
بأن يعرّض نفسه إلى مواقع الخطر في غير حالات الجهاد.
الندم على تصديق الفاسق:
ـ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}( )، وهناك شخص يحكم على الآخرين على ضوء ما يخبرونه عنهم فينهال بالتهم والسباب من دون تحقق، فما هي نوعية الندم الذي سيلاقيه؟
هو ما يصيب الإنسان المؤمن الذي يتهمه هذا بفعل الخبر السيّئ، فكل النتائج السلبية سوف يتحملها الإنسان الذي لم يتبيّن ما في خبر الفاسق وتصرّف على هذا الأساس.
انتقاد القرآن للشِعْر:
ـ لقد انتقد القرآن المجيد الشعراء، وذلك في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}( )، فهل نفهم أن أصل عمل الشعر المستثنى منه في المنظار الإلهي أمر مستقبح، وأن نسبة قليلة من الشعراء مستثناة من ذلك؟
بالعكس، فإن كل شعر يفيد المجتمع ويثقفه هو شعرٌ ممدوح كما هو شعر تصوير الطبيعة والشعر الذي يتحدّث عن قضايا الناس وحقوقهم ومواجهة المستكبرين والظالمين وتصوير خلق الله، ما عدا الشعر الذي يُنصَر فيه الظالم والذي يضيع فيه الحق والذي لا يرتكز على فكرة، والشعر الماجن الخليع، فهذا النوع من الشعر مرفوض من الدن الكثير من الشعراء الأصيلين.. وقد ورد في حديث النبي(ص): "إنّ من الشعر لحكمة"( ).
ولاية الله للصالحين:
ـ يقول تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}( )، يُرجى توضيح معنى الآية؟
أي عندما يتوجه الإنسان لله سبحانه وتعالى يشعر بأن الله هو الولي الذي يملك أمره كله، وحياته وموته ورزقه وشؤونه كلها، وأنه هو الذي أنزل الكتاب، وهناك إيحاء ولو غير مباشر، أنني سأعمل به وأطبّقه، {وهو يتولّى الصالحين} لأن {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا}( )، فهو الذي يتولاهم ويساعدهم وينصرهم وما إلى ذلك.
اتخاذ المهتدين عضداً:
ـ ورد في القرآن ا لكريم عدم اتخاذ المضلين عضداً، فهل هذا يعني أن الله قد اتخذ من المهتدين عضداً؟
يقول تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}( )، إن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عضد ولا ظهير يعاضده، فهو القوي المطلق في القوة الذي لا يحتاج إلى أحد، وهو الغني بنفسه وبذاته، فهو إذاً لم يتخذ من المهتدين عضداً، لأنه لا يحتاج إلى عضد، لكن لماذا قال: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}، لأن هؤلاء المضلين يعتبرون أنفسهم شركاء لله أو أنهم قريبون إلى الله بحيث يساعدون الله سبحانه وتعالى، فالله نفى هذا من خلال ما يزعمون لا من خلال أن الله يحتاج إلى عضد، بحيث إذا لم يتخذ المضلّين عضداً فلا بد ـ بالتالي ـ أن يتخذ المهتدين عضداً، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
معنى آية:
ـ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}( )، فما معنى آمنوا برسوله وهم مؤمنون بحسب صدر الآية، وما معنى (الكفلين) و(النور)؟
قد يكون المراد الإيمان بالرسول هو الإيمان العملي، باعتبار قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا}، أي الإيمان العقيدي المجرد عن العمل، أي إيمان الانتماء، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}( )، فهو إيمان الطاعة والالتزام والانتماء.
أما معنى (الكفلين)، فالكفل هو النصيب أو الحظ، أي أن الله يمكافئكم جرّاء تقواكم وإيمانكم برسوله بنصيبين من رحمته.
{ويجعل لكم نوراً} باعتبار أن الإيمان والطاعة والتقوى كلّما كبرت في نفس الإنسان تحدث له نوراً روحياً، كما في حديث الله تعالى عن يوم القيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}( ).
تربّص الأزواج:
ـ يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}( )، فما هو المقصود بالتربّص، ولماذا لم تكن المدة ثلاثة قروء كالمطلقة؟
معنى (التربّص) هو ترك الزواج والقعود عنه، أما لماذا (أربعة أشهر وعشراً) فهذه هي عدة الحداد وهي تزيد عن عدة المطلقة، وهذا أمر تعبدنا الله به.
اللاتي لا يرجون نكاحاً:
ـ يقول تعالى: {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}( )، فهل نفهم من الآية أنه يمكن للمرأة أن تسفر أمام الأجنبي إذا توافر الشرط المذكور؟
المقصود بهنّ النساء المسنّات أي بنات الستين والسبعين، لا المقصود بهنّ اللواتي لا يرغبن بالزواج أو ليس لديهن فرصة الزواج، ولهؤلاء أحكام مخفّفة بالنسبة لغيرهنّ من النساء( ).
لقاء المؤمن بأهله في الآخرة:
ـ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}( )، فهل يجتمع الإنسان المؤمن بأهله وزوجته وأولاده في عالم الآخرة؟
يقول تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ* سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}( )، فلا بد على ضوء الآية أن يجتمع مع آبائه إذا كانوا صالحين ومع أزواجهم ـ رجالاً ونساء ـ إذا كانوا صالحين أو صالحات ومع ذرياتهم بنفس الشرط.
نقض عهد الله:
ـ يقول تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}( )، فما المقصود بالعهد في هذه الآية، هل هو عهد تكويني أم تشريعي؟
المقصود بعهد الله هو الإيمان بالله تعالى والالتزام بعبوديته وبطاعته، ولذلك قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}( )، فهو ميثاق الإيمان الذي جعله الله تعالى في فطرة الإنسان.
ذكر الله:
ـ يقول تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}( )، فما هي الأذكار التي تزيد الاطمئنان؟
هذه الآية كناية عن أن الإنسان كلّما ذكر الله تعالى بعقله وبلسانه وتوجّه إليه، فإن قلبه يطمئن ولي المقصود بذلك ذكراً بعينه( ).
تفسير سورة "النصر":
ـ يقول تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}( )، فما هو تفسير هذه السورة؟
عندما انتصر النبي(ص) وفتح الفتوحات واستقرّ الإسلام وبدأ الناس يشعرون أن الإسلام هو القوّة الوحيدة في تلك المنطقة، فراحوا يدخلون في دين الله أفواجاً بعد أن كانوا يخافون من قريش، هنا أراد الله تعالى للنبي(ص) أن يسبّحه، لأن التسبيح هو أسلوب من أساليب تعظيم الله وأن يستغفره لا لذنب أذنبه، لكن إما أن يستغفره لذنب صدر من المسلمين أو المؤمنين من كل تلك الفتوحات، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}( )، أو يستغفره استغفار التواضع والعبودية.
إرث المرأة اليوم:
ـ ألا يمكن أن يُقال في قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ، إن المقطع الأول هي وراثة طبيعية، والمقطع الثاني دعاء بالنبوة لولده من خلال ذكر اللازم وهي الرضا، لأن كلمة الرضا في قوله تعالى: {واجعلهُ ربِّ رضيّا} تعني اجعله مطيعاً لك؟
هذه لا تدل على النبوة، فقوله تعالى: {واجعلهُ ربِّ رضيّا}، أي اجعله طيباً {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}( )، فكلمة (رضياً) هي نوع من أنواع التفسير لكلمة (طيبة) وهي لا تعني معنى النبوة.. نعم يمكن أن يكون المؤمن هو الرضي عند الله، والمتقي هو الرضي عند الله، أما النبيّ فليس هناك ـ كما قلنا ـ نبي من أنبياء الله ليس مرضياً.
وراثة الموقع:
ـ إن الوراثة المالية بين الولد ووالده من المسلّمات وليست هناك ضرورة لذكرها على لسان النبي، فكل ولد يرث من والده مالياً، ثم لماذا لا يكون المقصود بالوراثة الواردة هي وراثة الموقع؟
بينّا ذلك في قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}( )، فهو الولد لأن من خصوصية الولد أن يرث، فهذا وارد بهذه الصفة للولي لتضيق مساحة مضمون الولي، لأنه ليس المراد بذلك كل ولي أي كل قريب، بل المراد منه الولد حصراً.
حكم الله:
ـ تقول الآية الكريمة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.. {..هُمُ الظَّالِمُونَ}.. {..هُمُ الْفَاسِقُونَ}( )، فأرجو تفسير معنى الحكم على هذه الآيات؟
الحكم هو السير على حسب الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى ليحكم أهل التوراة بما أنزل الله، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله وليحكم المسلمون بما أنزل الله، وكلها واردة في أن على الإنسان المؤمن العادل المطيع لله أن يجري في أحكامه كلّها على مستوى المفاهيم والعلاقات والأعمال على حسب ما حكم الله.
مدلولات آية الوأد:
ـ يقول الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}( ) في هذه الآية معانٍ قريبة نعيشها الآن وبعيدة في زمن الجاهلية وزمن الرسول(ص) ولها مدلولات، لأن القرآن متطوّر بتطوّر العصور، فما هي مدلولاتها في الزمن الحاضر؟
المدلول واحد في العصور كلها من حيث الفكرة التي انطلقت بها الآية، وهي: لماذا كانوا يئدون الأنثى عندما تولد؟ وذلك من جهة الإحساس بالعار على أهلها إذا سُبيَت أو أُسِرَت واغتُصِبَت، فالناس الذين يهتمون بشرفهم على الطريقة الجاهلية لا يريدون البنات، لأن البنتكن أن تسبب لهم المشاكل..
فالفكرة موجودة لأن الظروف الآن إذا لم تكن بالطريقة البدائية في الجاهلية، فهناك أكثر من طريقة توأد بها المرأة ولو على نحو المجاز، كما لو تُحرم من حقوقها أو باستخدام العنف ضدها، أو باحتقار شخصيتها من خلال النظرة الدونية، أو بمنعها من مزاولة حياتها بحيث يُحجر عليها في إقامة جبرية حتى الممات، وهذا ما نلاحظه في بعض البلدان.
اكتشاف معنى جديد لآية قرآنية:
ـ القرآن نور لكل عصور الحياة، فإذا اكتشفنا معنى جديد لآية قرآنية فكيف نفسّر نوريتها حين اتّباع المعنى غير الصحيح؟
من الطبيعي أن المقصود من النور هوب حسب معناه الواقعي، أما إذا أخطأ إنسان في معنى الآية وفهمها فلا يعني ذلك أن القرآن ليس نوراً، إنما القرآن ينير للناس الطريق بحسب مدلوله الواقعي في الفهم لا بحسب ما يفهمه الناس خطأً منه.
استيحاء القرآن:
ـ هل يدخل تفسير الإمام الباقر(ع) للآية الكريمة: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}( )، في تفسير اللفظ مع أن ألفاظ الآية واضحة، أرجو توضيح ذلك؟
لقد قلت أنه(ع) استوحى المعنى، فهو يستوحي المادي للمعنوي، كما ورد عندنا في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}( )، قال: "من أحياها من نقلها من ضلال إلى هدى" مع أن الإحياء معروف، فالمقصود منه الإحياء الجسدي، لكن الإمام(ع) هنا استوحى الإحياء المعنوي من الإحياء الجسدي ليبيّن أن الجانب المعنوي أكثر أهمية من الجانب الجسدي، فإذا كان هذا يعطي هذه النتيجة، فما ورد في الآية يمكن أن يعطي نتيجة مماثلة من حيث تفسير المادي بالمعنوي.
الخوف من نذير الله:
ـ نلاحظ في كتاب الله الكريم أن معظم آياته تحذيرية، بمعنى أن ذكر عذاب الله وعقابه شديد لمن يعصي الله في أوامره ونواهيه، لكننا نجد معظم الناس غير مبالين بما جاء في كتاب الله الكريم، فهل أن هؤلاء الناس لا يخافون ذلك؟
هؤلاء لم تتربَّ قلوبهم وعقولهم على معرفة الله في مواقع عظمته ونعمته ومواقع تهديده ووعيده، ومن هنا فهم يستهينون بذلك، وفي (دعاء الافتتاح) "وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة"( ).
الاختلاف بعد مجيء العلم:
ـ يقول تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}( )، فما هو نوع هذا الاختلاف؟
الله تعالى هنا يتحدث عن الذين يختلفون، لا من خلال المحافظة على الحقيقة، ولكن من خلال الاختلاف على مواقعهم ومراكزهم حتى ليبغي بعضهم على بعض ويعتدي بعضهم على بعض.
فهناك اختلاف في وجهات النظر والله يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}( )، ويقول عز وجل: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}( )، ففي الاختلاف الفكري هذا هو المرجع والمعيار، أما من يثير الاختلاف لكي يبرز على طريقة (خالف تُعرف) فهو يحاول الصعود على أنقاض تحطيم مكانة ودور شخص آخر.
الإفادة من الروايات في التفسير:
ـ إذا أردنا أن نفسّر بعض المفردات المفاهيمية في القرآن الكريم، فهل نستغني عن الروايات الواردة في تفسيرها ونعتمد فقط على ظواهر القرآن؟
لا بدّ لنا أن ندرس الكتاب والسنّة، فالله عزّ وجل يقول: {مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}( )، فالأساس هو أن نعتمد على ظواهر القرآن، ولكن إذا ورد ما يخصص عموم القرآن ويقيّد إطلاقه ويعطينا فكرة تتناسب مع السياق، فلا مانع من الأخذ بالرواية، خصوصاً إذا كانت بأعلى درجات الوثاقة بحيث يمكن لنا أن نرفع اليد عن ظاهر القرآن لحسابها.
الموقف التبريري لعدم الالتزام:
ـ عند دعوة إنسان أو مجموعة أناس إلى سبيل الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، يكون الجواب في بعض الأحيان {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}( )، أليس هذا موقفاً تبريرياً لعدم الالتزام الحقيقي والإخلاص في الدعوة إلى الرسالة السماوية، وما هو الردّ على هؤلاء؟
هؤلاء لا يفمون القرآن،لأن قول الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، ليس المقصود منه أن لا تتحرك في خط الدعوة من أجل الهداية، بل إن هذه الآية وردت لتبيِّن للنبي(ص) أن من واجبك ـ يا رسول الله ـ أن تدعو وتدعو وتهدي وتهدي وليس من مهمتك أن تحقق الهداية في الواقع، لأن الإنسان الذي تدعوه لا تملك عناصر ذاته كلها، بل تملك أن تسمعه كلمة الحق وأن تعمل من أجل أن تعمّق كلمة الحق في نفسه، والله يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}( )، ويقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}( ).
تأويل النص لمصلحة العقل:
ـ قرأت لكم بأنه يجمع علماء الأصول أنه إذا كان النص يخالف العقل فلا بد أن نؤوّل النص لمصلحة العقل، ألا ترون أن ذلك يمكن أن يستغل من بعض العلماء المرتزقة لتأويل النصوص بحسب رغباتهم؟
المقصود بالعقل الوارد في النص، العقل القطعي لا العقل الظنّي، كما في مسألة الجبر، فبعض الآيات تدل على الجبر {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}( )، فإن الدليل العقلي دلّ على استحالة الجبر، فلا بد أن نؤوّل أمثال هذه الآيات بما لا يدل على الجبر.
وقد دلّ الدليل العقلي أن الله تعالى ليس جسماً، لكنك تقرأ في الكتاب قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان}( ) لما يدل على الجسمية، فالدليل العقلي هنا يؤوّل النص بمعنى القدرة وهكذا، ولذلك لا يمكن استغلال ذلك استغلالاً بشعاً.
المعيار في المنهج التفسيري:
ـ حبّذا لو تبيّنون لنا أركان المنهج التفسيري، أي متى يسمّى هذا التفسير منهجاً جديداً، وهل كل من فسّر القرآن يُقال عنه بأنه صاحب منهج تفسيري؟
ليس من الضروري أن كل من فسّر القرآن يعتبر صاحب منهج تفسيري، لأن البعض ربما يتّبعون غيرهم في مناهج التفسير، لذلك لا نستطيع أن نقول أن كل مفسّر هو صاحب منهج في التفسير، فبعض المفسرين فسّروا القرآن بالمأثور بحسب الروايات الواردة، وبعضهم فسروه من الناحية البلاغية وبعضهم فسروه من الناحية الكلامية والفلسفية وبعضهم فسر القرآن بآيات الأحكام وبعضهم فسروه بطريقة الإيحاء وهكذا.

ثانياً: مسائل عامة
القرآن ومستقبل الناس:
ـ هناك بعض المشايخ يتوقع لبعض الناس بواسطة فتح المصحف الشريف مستقبله، فما صحة ذلك؟
أولاً: إن القرآن ليس كتاباً يفتح فيه المستقبل، ولكنه كتاب يُصنع فيه المستقبل، فعندما نتحرك من خلال آياته التي تفتح لنا أبواب الحياة على أساس الحق والعدل، نجد أن مهمة القرآن هي هذه {قد جاءكم من الله نور}( )، أما أن يفتح المستقبل في القرآن فلا يعلم الغيب إلا الله، نعم يمكن التفاؤل بالقرآن لا على أساس الحديث بشكل حاسم في هذا الأمر، وللأسف فقد تركنا دراسة القرآن وحفظه وقراءته، وأصبحنا نفتحه لنرى فيه المستقبل وحسب.
النص القرآني في الغيبة:
ـ نُواجَه بإشكال في غيبة الإمام المهدي(عج)، فما هو النص القرآني المؤيد لاعتقادنا بظهور الإمام(عج)، ذلك أن قضية إسلامية بهذه الخطورة يجب أن يكون فيها نص قرآني؟
عندما نضمّ السنّة النبوية الشريفة إلى القرآن، وهي من القرآن لقوله تعالى: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}( )، نجد أن رسول الله(ص) قد تحدّث فيما لا يبقي مجالاً للشك بالنسبة إلى الأمام المهدي(عج) وأنه يخرج في آخر العهد، فهو قد تحدث بشكل عام كما تحدث بشكل خاص، وقد امتلأت الكتب بذلك.. فهناك عدة أحاديث تفسّر قوله تعالى: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين}( )، ومن بين مصاديقها قصة ظهور الإمام(عج) وهكذا قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}( )، فهي مفسّرة كذلك بهذا ولو بلحاظ المصداق الأبرز.
وهناك الأحاديث، ومنها: "إني تاركٌ فيكم ما إن أخذتُم به لن تضلّوا بعدي، أمرين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبلٌ ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليّ الحوض"( )، فعندما يكون هناك كتاب يكون هناك شخص من العترة وهم أهل البيت(ع).
أما مسألة هل هذا في القرآن، فإن أكثر ما لدينا من أحكام شرعية ليست موجودة في القرآن، وأكثر ما لدينا من تفاصيل الآخرة ليس موجوداً في القرآن، مع أنه تحدث عن الآخرة وعن الجنة والنار ولكنه لم يتحدث عن التفاصيل في ذلك.
ويمكن القول أن القرآن لم يتحدث في هذا الأمر، لأن مسألة الغيبة لم تكن في ذلك الوقت مطروحة، فهي بحاجة إلى أن تعرّف من قبل النبي(ص) والأئمة(ع) حتى تكون مقبولة في حينها.
حفظ الكتب السماوية الأخرى:
ـ يتساءل بعض المسيحيين عن أن الله لماذا لم يتكفل بحفظ الكتب الأخرى غير القرآن من التحريف؟
الفرق بين القرآن وبين الكتب السماوية الأخرى هو أن القرآن معجزة بكلماته، بينما الكتب السماوية الأخرى ليست كذلك، ثم أن القرآن هو كتاب الله للحياة كلها، وأما الكتب الأخرى فلها حدود معينة، فحدود كتاب موسى(ع) هي مجيء السيد المسيح(ع)، والإنجيل حدوده مجيء النبي محمد(ص)، والقرآن جاء ليجمع العناصر الأساسية في التوراة والإنجيل {مصدّق الذي بين يديه}( )، فالقرآن ـ في المحصّلة ـ يمثل خلاصة الكتب السماوية ويزد {إنّ هذا لفي الصحف الأولى* صحف إبراهيم وموسى}( )، ويمثل الكتاب الخاتم والأخير الذي يستمر إلى آخر الحياة.
القَسَمْ بالقرآن كذباً:
ـ ما حكم الذي يحلف بالقرآن كذباً وبهتاناً، وهل عليه كفّارة وما هي كفارته؟
إذا لم يحلف بالله فلا كفّارة عليه، ولكنه مأثوم في كذبه وفي إساءته للقرآن، حيث جعل القرآن شاهداً على كذبه، لأن اليمين يعني أن تجعل من تحلف به شاهداً على ما قلت.
إجمال وتفصيل:
ـ لماذا فصّل القرآن في الوضوء وأجمل في الصلاة؟
لأن الوضوء ليس معقداً، فهو غسل الوجه واليدين ومسح الرأي والقدمين، بينما في الصلاة أمور تفصيلية كثيرة أوكلها الله تعالى إلى نبيه(ص) والله العالم.
قراءة القرآن على جنابة:
ـ في الكتب الفقهية أن الجنابة لا تمنع من قراءة القرآن على سور العزائم، فما رأيكم بالرواية التي تقول: "كان رسول الله(ص) لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة"، كما جاء ذلك في (الميزان) بإسناده عن مجالس الشيخ عن أبي الدنيا عن أمير المؤمنين(ع)؟
أولاً: هذا لا يدل على عدم جواز قراءة القرآن، فقد يكون ذلك تأدّباً، فهو يريد(ص) أن يقرأ القرآن على طهارة.
ثانياً: ليس من المعلوم أن هذه الرواية صحيحة بحسب السند المذكور.
المسّ من وراء شفّاف:
ـ في الحالات التي لا يجوز فيها مسّ القرآن أو لفظ الجلالة، هل يجوز مسّه من خلال الأشياء الشفّافة كالزجاج والنايلون؟
المقصود من حرمة المسّ هو المسّ باللحم الحيّ، أما بواسطة حاجز حتى لو كان شفّافاً فيجوز ذلك.
ابتلاء المؤمن:
ـ هل كُتب على المؤمن أن يعيش في الدنيا حياة ملؤها المشاكل والمصاعب والفقر، ويُقال له بأن هذا ابتلاء وعليك بالصبر، ألا يتناقض ذلك مع قوله الله عز وجل {من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}( )؟
لو لم يكن هذا الإنسان مؤمناً ألا يُبتلى؟ إن الابتلاء للناس كافة وليس للمؤمنين فقط {الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}( )، وقد تحدّث الله عن البلاء في الناس إذ يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}( ).
لكن المؤمن عندما يعيش هذا البلاء فإنه ينتفع به، فإذا صبر فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه أجر الصابرين، بينما غيره لا ينتفع به، وإلا فالدنيا كلها دار بلاء، إذ لا يمكن أن تكون الدنيا خلواً من البلاء، لأن عالم الدنيا هو عالم المحدود، وذلك يعني أنك لا تحصل على شيء إلا بعد أن تفقد شيئاً آخر، فإذا أردت أن تصبح عالماً أو مفكراً أو حامل شهادات فلا بد أن تسهر الليالي وتضغط على حريتك "ومن طلب العلى سهر الليالي"، وإذا أردت أن تكون غنياً فعليك أن تقطع المسافات البعيدة وتتعب نفسك وربما تتعرض للأخطار، وهكذا في الحالات الأخرى، فلا يمكن أن تحصل على شيء إلا أن تخسر في مقابله شيئاً، ولذلك فالبلاء أساسي في الدنيا وهو ينشأ عن فقدان أشياء في قبال الحصول على أشياء أخرى.
أما (الحياة الطيبة) في قوله تعالى: {فلنحيِيَنَّهُ حياةً طيّبة} فالمقصود بها ـ والله العالم ـ الجنة، وهناك في الكلمات القصار للإمام علي(ع) تفسير أنها القناعة.
إخبار عيسى(ع) عن النبي(ص):
ـ لماذا أخبر عيسى(ع) عن بعث رسول الله(ص) مع أن معاصري عيسى لا يستفيدون من هذاالإخبار بشكل مباشر، فهل لإخباره أثر على معنوياتهم، وهل كان له أثر على الأجيال التي جاءت بعد عيسى(ع)؟
ربما كان الذين عاشوا مع عيسى(ع) لا يعيشون هذه المسألة باهتمام بالغ،لأنها لم تكن تتصل بمسؤولياتهم الآنية، ولكن بقيت الآية ووعاها الكثيرون ممن آمنوا بعيسى(ع) أو الذين آمنوا بعيسى(ع) أو الذين آمنوا بموسى(ع) {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}( )، حيث جعلت الكثيرين من أهل الكتاب من النصارى واليهود يدخلون في دين الله كما حدّثنا الله عن ذلك في أن أي نبي كان يخبر عن النبي الذي بعده لئلا تضيع الأمة في متاهات الفتن.
في التأويل:
ـ يرى الشهيد الصدر(رض) وبعض المفسرين أن التأويل هو إرجاع الأمور التي تحدثت عنها بعض الآيات إلى ما تؤول إليه، وهذا أمر لا يعرفه أي إنسان، فما هو رأيكم في هذا التفسير؟
ما يقوله الشهيد الصدر هو الذي كتبناه في (من وحي القرآن) من أن التأويل مأخوذ من الأول ويعني إرجاع الأشياء إلى ما تؤول إليه، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يوم يأتي تأويله}( )، أي يتحدث عن الوقت الذي تظهر فيه الأمور الغامضة أو غير البيّنة في الحياة في يوم القيامة، ونرى أن هذا هو أفضل تعريف للتأويل في القرآن.
تمحيص روايات أسباب النزول:
ـ ما السبب في عدم الاهتمام في تمحيص وغربلة روايات أسباب النزول من قِبَل العلماء مثلما اهتموا بتمحيص روايات الأحاديث؟
لقد حاولنا في الطبعة الجديدة لـ(من وحي القرآن) مناقشة الكثير من أسباب النزول، وستصدر في مطلع السنة القادمة بإذن الله، وإذا أبقانا الله أحياء وأكملنا الزايدات في الطبعة الثالثة، حيث ربما يصل الكتاب إلى (35) مجلداً، فسوف نستكمل أسباب النزول كلّها، لأن في هذه الأسباب خرافات وفيها أشياء غير ثابتة وغير صحيحة.
عمل الأنبياء والأئمة(ع) في المساحات الضيقة:
ـ نرى من حركة النبوات كما في القرآن أن جلّ الأنبياء لم يكونوا مبسوطي اليد في حركة الحياة، ومع ذلك فقد أعطوا الكثير من المفاهيم الحياتية، وهكذا كانت حركة الإمامة ولم يكونوا سلبيين في حركة المتمع كما نستوحي من خلال سيرتهم، فكيف كان ذلك؟
انطلق الأنبياء والأئمة(ع) من أجل أن يبلّغوا رسالات الله للناس وأن يجرّبوا تطبيق ذلك، وتحمّلوا الكثير من العناء والجهد والبلاء، ولكنهم لم ينسحبوا من المجتمع، وعندما لم يستطيعوا العمل على الإصلاح العام تحرّكوا في الإصلاح الخاص، فهم لم يقولوا إما أن نحصل على مجال تطبيق الخطة 100% وإما أن نعطّل طاقاتنا ودعوتنا إلى الله تعالى، فإذا تمّ تنفيذ 30% أو أكثر فلا إشكال، فالله يريد أن يطاع في أحكامه ولو بحكم واحد، أي لو كان بإمكاننا تنفيذ حكم واحد في مقابل 99% مما لا يُتاح لنا فيجب علينا ذلك.
أين الحقيقة التفسيرية:
ـ نلاحظ أن تفسير القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية خاضع لثقافة المفسّر، فهو يعمل على تأويلها من خلال ثقافته، لوذا فإن إعادة قراءة وإنتاج النص تختلف من مفسر إلى آخر، فأين الحقيقة التفسيرية مع هذا التنوّع من الثقافات؟
الحقيقة التفسيرية هي فيما ثبت عن النبي(ص) والأئمة(ع)، وما عدا ذلك فإن المفسر المثقف يحاول أن يكتشفها بنفسه، وإلا فما لدينا من تفاسير تعتبر اجتهادات، ولذا فإن تفاسير القدماء ليست حجة على المتأخرين إذا كان لديهم وجهة نظر مبنية على القواعد التي يلجأ إليها المفسر، ولذلك فمن المهم دراسة منهج المفسر وآليات عمله التفسيري.
مسّ القرآن بلا طهارة:
ـ يذهب البعض إلى جواز مسّ القرآن من غير طهارة، مستنداً في ذلك إلى كتاب النبي(ص) إلى "هرقل" وبلحاظ أن قوله {لا يمسّه المطهّرون} ناظر إلى الملائكة وليس للإنسان، إذ لو كان للإنسان لقال (المتطهرون) فما هو رأيكم في ذلك؟
أما كتاب النبي(ص) إلى هرقل أو غيره فشبيه بإعطاء القرآن للكفّار، فلا يدل على المعنى الذي أراده القرآن، فقد يبعث النبي(ص) آية من الآيات حسبما تقتضي المصلحة، كما تقتضي مصلحة هداية هؤلاء أو إقامة الحجة عليهم إعطاءهم القرآن، وهي مصلحة أكبر من مفسدة مسّ كتابة القرآن.
وأما قوله {لا يمسّه إلى المطهّرون} خاصة بالملائكة فغير صحيح، لأن هذا أعمّ، أما (المتطهرون) فيمكن إطلاق المطهّر على المتطهر باعتبار نتيجة الطهارة.
وهناك تفسير آخر، فـ(لا يمسه) أي لا يفسّره إلا المطهرون، والمقصود بهم الأئمة من أهل البيت(ع)، لكن اشتهر الاستدلال بهذه الآية على حرمة مسّ كتابة القرآن، وإن كان بعض العلماء يناقش في الدلالة.
سرّ وجود المتشابه:
ـ ما هو سرّ وجود المتشابه في القرآن الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، كما تصرّح الآية في سورة آل عمران، فما هو ذنب الناس الآخرين في عدم فهمهم للمتشابه؟
إن المتشابه ليس المراد به المجمل، بل هو الذي قد يحتمل أكثر من معنى، ولكنه يمكن أن يفسّر بالمحكم، فلو تركه الله تعالى من غير أن يفهم لأمكن قول ذلك، في حين أن الله أنزل القرآن ليفهمه الناس، وفي بعض الأحاديث تردّ متشابهات الآيات إلى محكماتها، فبعض الآيات واردة على نحو المجاز لا المعنى الحقيقي، وكذلك في التجسيم حيث يستفاد منه النظر إلى سلطان الله وقدرته، فهذا هو شأن اللغة العربية والقرآن ليس بدعاً منها في ذلك.
تركيب ما يشبه الآيات:
ـ في بعض الأحيان نكوّن جملاً على نسق بعض الآيات القرآنية على نحو المزاح فحسب، فهل يعتبر ذلك استخفافاً بالقرآن؟
قد يكون شكله شكل الاستخفاف.
كيف يستوعب القرآن كل جديد؟
ـ كيف نجمع بين هاتين الحقيقتين: القرآن دين التطوّر والتجديد، ونحن نعلم أن القرآن اعتمد في طرح أفكاره على الظهور، والظهور محدد، فكيف إذاً يستوعب القرآن كل ما هو جديد؟
أن نقول بأن القرآن دين التطور والتجديد ليس معناه أن القرآن يمثل معرضاً للأفكار واللآراء، تماماً كما هي المعارض التي تتنوّع في كل يوم، بل معنى ذلك أن القرآن دين التطور والتجديد هو أن الخطوط الفكرية التي طرحها الله تبارك وتعالى في القرآن تفتح نافذة على تطوّر الفكر وعلى تجديد العلم فيما يكتشفه الإنسان من أسراره.
فنحن عندما ندرس القرآن نجد أنه حرر الإنسان من كل عقيدة تجعل المحسوس ربّا، بل أطلق فكرة الألوهية في المطلق، بحيث أن الإنسان عندما ينطلق في تصوره لله فإنه لا يجد هناك أي أفق يحدّه، ولا أية مسافة يقف عندها.. ولذلك فأنت عندما تتصور الله في عقلك فإنك تنتقل من عالم إلى عالم، فلا تقف عند حدّ لأنه المطلق في صفاته كلها، بينما تتحرك (الألوهات) التي عرفها الإنسان لتجمّد الإله في دائرة خاصة، وبذلك يكون القرآن قد حرر الفكر الإنساني العقيدي من معاني الصنمية والوثنية كلها، سواء كانت تتصل ببشر أو بحجر.
ثم أن القرآن الكريم أكّد على العقل كأساس لكل حركة العقيدة والفكر والعلم فيما يمكن للعقل أن يتحرك به من الخطوط العلمية، وأطلق العلم كقيمة إنسانية تفصل بين الإنسان في درجة الانحطاط والإنسان في درجة العلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}( ).
ونحن نعرف أن العقل هو الذي يتحرك ليطوّر النظرة إلى الأشياء، وأن العلم يتحرك لاكتشاف أسرار الكون والإنسان والواقع لأجل أن ينتج ما يغني حركة الإنسان ويوسّع آفاقه.
ونجد أيضاً أن القرآن اعتبر الحوار هو الأساس للوصول إلى الحقيقة، لذلك كان القرآن كتاب الحوار في مواقعه كلها، وأعطانا الفكرة التي تقول إن الحوار لا مقدسات فيه، فالله تعالى حاور إبليس وأطلق الحوار حول توحيده ووجوده وحول النبي(ص) في صفاته وشخصيته وكل القضايا التي كان المسلمون يختلفون فيها إن في حركة الشرك في مواجهة المسلمين، أو في حركة المنافقين مع المؤمنين، كما أنه أطلق الحوار مع أهل الكتاب.
إن العقل والعلم والحوار هي العناصر التي ينطلق التطور منها، أما الاعتماد على الظاهر فلا يعقّد المسألة، لأن ظاهر القرآن هو في العناصر الموجودة في داخله التي تختزن حركة التطور، وليس معنى أن يتطور الإنسان في بعض الجوانب العلمية أو الفكرية أن يكون فكره هو الحقيقة، فقد ينطلق الإنسان في بعض الجوانب العلمية أو الفكرية، أن يكون فكره هو الحقيقة، فقد ينطلق القرآن في ظهوره في حقيقة معينة ويواجه كثيراً مما قد يصل إليه التطور الفكري لدى الإنسان ليردّه أو يصححه أو يكتشف نقاط الضعف فيه.
وبالإضافة إلى ذلك كله، فإن الأخذ بالظهور ليس طريقاً مسدوداً، لأن الناس يختلفون في استفادة الظهور، فقد يجد الإنسان كلمة ظاهرة في معنى بحسب معناها اللغوي، وقد يجد آخر بحسب معناها العرفي، وقد يجد ثالث معناها بحسب القرائن المحيطة بالموضوع.. فحركة الظهور في المجال الاجتهادي ليست حركة واحدة.
وعلى هذا، فلا تنافي بين أن يكون القرآن دين التطور والتجديد وإلى جانب ذلك ينطلق من الظهور، باعتبار أن التفاهم ينطلق من خلاله.
تطور الدلالات اللغوية:
ـ إن تطور المدارس الفكرية راجع إلى تطور الدراسات اللغوية الراجعة إلى جانب الدلالة وإلى عمق دراسة السند وهذا يعني عدم الاطمئنان إلى مصداقية الاستنباط لدى علمائنا السابقين؟
لا أدري كيف يخرج السائل بهذه النتيجة، فمن الطبيعي أن تطوّر الدلالات اللغوية لا يعني أن كل تطور يمكن أن يؤخذ به، لأن التطور قد يصنع منهجاً جديداً في التعبير ليكون المنهج الذي يمكن اتّباعه مستقبلاً، كما نجد الآن في وسائل التعبير الأدبية الحالية، فإذا أردنا أن نفهم الكتاب والسنّة فعلينا أن نفهم القواعد المتّبعة في التفاهم في ذلك الوقت، وقد يخطئ بعض الناس في ذلك كما كان يخطئ الكوفيون والبصريون في المسائل النحوية، وكما يخطئ (الكسائي) أو(سيبويه) وكما يخطئ البلاغيون في بعض القواعد البلاغية.
فليس من الضروري إذا تطورت الدلالة اللغوية بحسب المناهج الحديثة أن يعبّر التطوّر عن طريقة التفاهم التي كانت موجودة، فعندما نريد أن نفهم كلام أي جماعة فإنما ينبغي أن نفهمه عن طريق القواعد التي كان يخضع لها التعبير يومذاك.. فربما كان بعض العلماء الأقدمين قد أخطأوا في بعض القواعد وأصابوا في بعضها، كما أن المتأخرين ربما يخطئون أو يصيبون، ولا يمكن أن نعطي الفكرة حكماً حاسماً بالخطأ في السابق، فللقدماء دورهم وثقافتهم وقيمتهم، ونحن تتلمذنا على فتات موائدهم، ولكن كم ترك الأول للآخر، كما أن العلماء السابقين كانوا متأخرين عن علماء سبقوا مرحلتهم، ولكنهم خالفوهم ولم يفقد أحد مصداقيته في خطأ في الاجتهاد أو تخطئة الآخر.
النبوّة ليس إرثاً:
ـ هل كان زكريا(ع) يعتقد أن النبوّة تكون بالإرث ليطلب من ربه هذه المسألة؟
إنه ذكر كلمة الإرث باعتبار كونها خصوصية من خصوصيات الولد ليعني أن الولي الذي أطلبه هو ولد، ولم يطلب ولياً يرث نبوّته لأنه كان يعرف أن النبوة لا تورّث، بل هي تعيين من قبل الله تعالى.
اطمئنان نفس الميت بالقرآن:
ـ نرى في بعض الأحيان قراءة القرآن الكريم عند رأس الميت عند وفاته وقبل دفنه، فهل ترون أن نفس الميت تطمئن عند قراءة القرآن، وهل هناك آية معينة للقراءة أم أية آية من كتاب الله؟
الظاهر من الأحاديث أن الميت يعيش هذه الأجواء في عالم الروح وإن كنا لا نستطيع الإحساس بذلك، والقرآن كله مناسب في هذا المجال، وإن كانت هناك بعض السور والآيات التي تُتلى في مثل هذه المناسبات.
آيات الأحكام في القرآن:
ـ هل أن آيات الأحكام في القرآن تنحصر في العدد الذي ذكره العلماء؟
ليس من الضروري أن تنحصر في ذلك، فقد يستفيد بعض العلماء أحكاماً أخرى من آيات أخرى لم يذكرها الآخرون.
الأغراض العامة والخاصة للقرآن:
ـ هل هناك أغراض عامة للقرآن وأخرى خاصة في كل سورة، وهل ما يستفيده المفسرون في هذا الباب هو اجتهاد؟
هناك غرض عام في القرآن وهو أن يعطي الناس وعي المعرفة بالله وبرسله وبرسالاته وأن يفتح اللناس السير على هذا الخط ليخرج الناس من الظلمات إلى النور به.
وقد حدّثنا الله أنه أنزل القرآن ليخرج الناس من الظلمات إلى اللنور، وقال إنه هو نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبُل السلام، وهذا هو الخط العام الذي يعني أن يثقف القرآن عقول الناس بالفكر الذي يريد الله للناس أن يتعقلوه وبالروح التي أراد الله للناس أن يعيشوها في حياتهم العاطفية والشعورية وبالخط المستقيم الذي أراد الله للناس أن يسيروا عليه، وأن يعيشوا في سلام معه ومع أنفسهم ومع بعضهم البعض، ومع الحياة كلها.
ولكل سورة من هذه السور دور معين في تحقيق هذا الهدف الكبير، فهناك من السور ما ينفتح بالإنسان على الموعظة التي تليّن القلب وتغرس فيه الخشية من الله والمحبة له، وهناك من السور ماي ركز الخطوط التشريعية، ومنها ما ينفتح على التاريخ ليعتبر الإنسان به، وهكذا تتكامل سور القرآن، فلكل سورة دور معين في إعطاء النور هنا والنور هناك، وإعطاء الخط هنا والخط هناك.
أما ما يستفيده المفسرون هو اجتهاد، فنحن نعتبر التفسير معصوماً إذا صدر من النبي(ص) ومن المعصومين(ع) بطريق موثّق، أما ما يصدر عن العلماء من الأقدمين والمحدثين فهو اجتهاد قد يصيبون فيه وقد يخطئون.. ولذلك فنحن لا نتقيّد بتفسير العلماء بل لا بد أن ندرس ما فسّروا به القرآن لنعرف هل أنه ينسجم مع ظاهر القرآن وأسلوبه أولا ينسجم.
القصص القرآني بالنسبة للمتمردين:
ـ لماذا قصّ علينا القرآن قصص الأنبياء والدعاة كما قصّ علينا قصص المتمردين على الحق، فهل هذه القصص للترف والتسلية؟
يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}( )، فالقرآن ليس كتاب قصة للتسلية ولملء الفراغ، بل هو كتاب عبرة، فهو يريد أن يقدّم لنا قصص الفراعنة في الماضي حتى نعرف الفراعنة في الحاضر، ويقصّ عينا قصص الذين تمرّدواى على الرسالات في الماضي لندرس أيضاً خلفيات الذين يتمرّدون على الرسالات في الحاضر، ويروي لنا قصص الذين واجهوا الأنبياء ليعلمنا قصة الذين يواجهون الأولياء والمجاهدين والمصلحين.
الجلد أم الرجم:
ـ من المعروف أن القرآن حدّد عقوبة الزنا بالجلد، لكن الفقهاء اتفقوا على أن العقوبة هي الرجم، أليس في ذلك تعارض؟
ليس هناك تعارض، فالجلد إنما هو في صورة إذا لم يكن الزانيان محصنين، أما إذا كانا محصنين فالرواية عن رسول الله(ص) أنه رجم بعض الزناة.



الفصل الثالث

المسائل العقيدية

"ليس الدينُ فوق العقل، ولكن العقل هو الذي يعطينا الإيمان بالله وبالغيب"
    



البـــداء:
ـ يُرجى إيضاح معنى البداء بتعريف بسيط مع مثال على هذا المصطلح؟
في الواقع ليس عندنا شيء اسمه البداء من غير تحوير، فالبداء يعني الإبداء، وهو الإظهار، وذلك أن الله قد يظهر شيئاً لا يريده لمصلحة ويظهر شيئاً لمصلحة متى ما ترتب على هذا الخبر بعض النتائج الإيجابية ثم يبيّن الله الواقع.
فمثلاً في قصة إبراهيم(ع): {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، يعني أن الله سبحانه وتعالى هيأ له في المنام ذلك، بحيث فهم منه أنه مأمور بذبح ولده {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}( )، فقد فهم إبراهيم(ع) أنه مأمور بذبح ولده، وفي واقع الأمر هو مأمور بأن يقوم بمقدمات الذبح من دون أن يذبح، فالله سبحانه وتعالى أظهر له ذلك حتى يظهر إخلاص إبراهيم(ع) لله سبحانه وتعالى، بحيث يندفع اندفاعاً طبيعياً بأن يذبح ولده، وكذلك فعل إسماعيل، فلو كانت القضية مجرد تمثيلية بجلب السكين دون الذبح ثم بعث الله الكبش، ما كان يمكن أن يوجد الحماس والاندفاع لدى إبراهيم وإسماعيل(ع) وهذا هو دليل التضحية والإسلام، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى أبدى له ذلك.
فاتّهام الشيعة بالبداء ناشئ من أن معنى البداء هو أن الله يكون له رأي في البداية ثم يتبدّل رأيه وهذا يستلزم الجهل على الله سبحانه وتعالة، وهذا لا يمكن أن يقول به مسلم، ولذلك فإن المشكلة في اتهام الشيعة مبني على أن المراد من كلمة (البداء) الخفاء الذي يستلزم الجهل على الله سبحانه وتعالى في حين أن المراد عند الشيعة من (البداء) هو أن الله أظهر شيئاً لمصلحة دون أن يكون هذا الشيء واقعاً لمصلحة معينة، بل لحكمة يراها، ثم كشف الواقع بعد ذلك.
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من أنه عندما توفي محمد بن الإمام علي الهادي(ع)، كان الناس يظنون أنه هو الإمام بعد أبيه، لأنه الأكبر كما أبدى لله سبحانه وتعالى ذلك لمصلحة، ثم كشف الواقع، فالشيعة لا يقولون بالبداء بهذا المعنى اللغوي، لأن ذلك يستلزم الجهل لكنهم يقولون (بالإبداء) يعني أن الله سبحانه وتعالى قد يظهر شيئاً ليس له واقع لحكمة يراها ثم يظهر غيره فيكشف الواقع على حقيقته.
في العدالة الإلهية:
ـ ما هي فكرة العدالة الإلهية من وجهة نظركم، هل الفقر والجوع والحرمان نتيجة من نتائج الظلم الإنساني وسوء تطبيق العدالة الإلهية، أو هو نتيجة لإرادة ربانية لا دخل للإنسان فيها؟
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى الرزق على الناس بما يكفيهم ولكنهم ظلموا بعضهم البعض وظلموا أنفسهم في ذلك، وإلا فالله سبحانه وتعالى يقول: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ}( )، بحسب الحكمة والمصلحة.. ثم هناك نقطة أخرى وهي أننا ليس لنا حق على الله، بل الحق كله لله علينا، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}( )، وهكذا الأمر في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}( )، فكل ذلك هو بحسب الصنع أو ما جنته أيدي الناس.
موقف الدين من علم الكلام:
ـ هل لكم أن تذكروا لنا موقف الدين من (علم الكلام) وهل صحيح أن بعض الأئمة كانوا يهجرون الشخص الذي يمارس هذا العلم؟
لقد وضع علم الكلام من أجل أن يركّز القواعد التي يتحرك فيها الدفاع عن الإسلام، وقد أسس الأئمة(ع) كما أسس القرآن علم الكلام في الخطوط العامة، لا هذا العلم الموجود بين أيدينا.
وكان الأئمة(ع) ينهون بعض أصحابهم عن علم الكلام ويشجعون البعض الآخر، فلقد كان الإمام الصادق(ع) يشجّع (هشام بن الحكم) وأشخاصاً آخرين يملكون ثقافة العقيدة باعتبار أنهم يملكون الدفاع القوي عن العقيدة، وكانوا ينهون أصحابهم عن الكلام ـ لا علم الكلام ـ بمعنى عدم الدخول في الحوار، لأنهم ضعفاء، وهذا هو واقعنا أيضاً.
فنحن نقول إن كل إنسان لا يملك الحجة القوية التي يمكن أن يقدمها للطرف الآخر المعادي لا يجوز له أن يتكلم لأنه يضعف الموقع الإسلامي في ذلك، فلا بد ـ والحال هذه ـ لعلماء الدين أن يأخذوا بأسباب العلم وأن لا يكتفوا بدراسات محدودة في سنة أو سنتين ليقدّموا أنفسهم للناس علماء، لأن التحدي الذي يواجهه الإسلام وخط أهل البيت(ع) في الجامعات والنوادي والمواقع الثقافية يعتبر من أكبر التحديات التي واجهها الإسلام في تأريخه كله، فإذا لم يكن هناك علماء علماء يعرفون لغة العصر وأسلوبه والتحديات كلها، ويعرفون الإسلام معرفة دقيقة عميقة فإنه قد يكونون حجة على الإسلام بدلاً من أن يكونوا حجة للإسلام.
ويروى عن الإمام الكاظم(ع)، أنه يقول: "وجدت علم الناس كلهم في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثانية أن تعرف ما صنع بك، والثالثة أن تعرف ما أراد منك، والرابعة أن تعرف ما يخرجك عن دينك".. فالإمام كان ينهى أمثال هؤلاء الذين لا يعرفون علم ذلك، وقد ابتلينا بالكثيرين الذين لا يملكون العلم ولكنهم يعرضون أنفسهم للإحراج بأن يجادلوا ويجلبون بذلك الضعف للإسلام.
وجود الله وقوى الطبيعة:
ـ يقول البعض إن القوة، سواء اقتصادية أو طبقية هي التي تتحكم في المجتمع الإنساني، وإن سبب بعض الكوارث الطبيعية علمي صرف كالزلازل والبراكين، فما المعنى من وجود الله؟
إن المعنى من وجوده تعالى هو أنه خلق القوة وخلق الزلازل والبراكين وخلق النسيم العليل والعواصف والنبات والحيوان، أما إذا كان الشخص يتحدث عن العدالة فالله جعل أسساً للأخذ بالعدالة باختيار {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}( ).
أما الزلازل والبراكين فقد تكون لها جوانب سلبية، ولكن لها أيضاً جوانب إيجابية في حركة الأرض وغير ذلك، وبكلمة أخرى: إن كل ما في الكون مما ينتهي إليه وتحت قبضته و{أن القوة لله جميعاً}.
البروز إلى المضاجع والجبر:
ـ يقول تعالى: {لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}( )، فكيف نفسّر الآية ونؤوّلها حسب القضاء والقدر الإلهي ونحملها على الاختيار للبشر الذي هو خلاف جبرهم، أليس يدلّ ذلك على أن المقاتلين مجبرون على البروز إلى أماكن قتلهم؟
ليس معنى ذلك أنهم مجبرون، فمعنى {كتب عليهم القتل} أي بأسباب القتل، فالله تعالى كتب على الناس الموت، ولكن كتب أيضاً على كل إنسان أجله بالأسباب التي تقتضيها هذه السنّة، فلو فرضنا أنهم لم يشاركوا في المعركة هرباً من الموت سوف يلحقهم إلى بيوتهم {يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيّدة}( ).
فالآية تريد أن تبيِّن أن الابتعاد عن المعركة لا يبعد الإنسان عن الموت لأن الله خلق للموت أسباباً، كما يقول بعض الشعراء:
    ومن لم بالسيف مات بغيره        تعدّدت الأسباب والموتُ واحدُ    
فالآية لا تدل على الجبرية في القتل.
ثبوت الخلافة للأئمة(ع):
ـ هل ثبتت الخلافة للأئمة المعصومين(ع) بالنص كما ثبتت لهم الإمامة، أم أن بيعة المسلمين شرط في إثبات شرعية الخلافة للإمام؟
الخلافة هي الإمامة، فإذا ثبتت الإمامة ـ وهي ثابتة بالنص فعلاً ـ فتكون الخلافة لهم لأنهم هم أصحاب الموقع، ولقد كان كل إمام ينصّ على الإمام الآخر الذي يليه، وهناك رواية تقول أن هناك صحيفة عند النبي(ص) كتب فيها أسماء الأئمة(ع) كلهم.
الغيب والعقل:
ـ ألا ترون بأن هناك شيئاً من التناقض بين كون الدين غيبياً في أسسه ومبادئه الرئيسية وبين مطالبة الدين باستعمال العقل والعلم والأدلة؟
أي تناقض في ذلك؟ فالدين يأمرنا أن نستعمل عقلنا في إدراك الغيب، والعقل يقول لك بأن الغيب ممكن، وهو الذي يدلّنا على وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى نبوّة النبي(ص) وذلك من خلال المعجرة والدلائل الموجودة في شخصه، فالدين ليس فوق العقل، ولكن العقل يعطينا الإيمان بالله وبالغيب، والنبي الذي تثبت نبوّته بالعقل هو الذي يعطينا التفاصيل التي علّمه الله إيّاها.
استعمال العقل في مسائل الدين:
ـ ألا ترون أن من يستعمل الفكر والعقل والمنطق في مسائل الدين ووجود الله خير ممن عمل بالدين كتقليد أعمى نتيجة وجوده في المجتمع المتديّن، بناء على قول النبي(ص) "خير العبادة التفكّر"؟
هذا صحيح، فمن يؤمن عن اجتهاد ودراسة وعقل أفضل ممن يؤمن عن تقليد، وإن كان معذوراً عندما يكون ما قلّد فيه موافقاً للحق.
هل الاستنساخ خلق؟
ـ تركزون في حديثكم عن الاستنساخ أن العلم اهتدى لقانون وضعه الله وأن ما يفعله العلماء ليس خلقاً وايجاداً حتى يكون حراماً، ونحن نعلم أن الله تحدّى البشرية بعملية الخلق ليبرهن على قصور قدراتهم، فلماذا نحرّم الاستنساخ لكونه خلقاً؟
نحن نقول إن الاستنساخ ليس خلقاً، لأن الخلق هو خلق القانون وإلا فكلنا نخلق، فالخبّاز يخلق الخبز، والمرأة تخلق الطبخة، والكاتب يخلق الكتابة، فمعنى إيجاد الأشياء من عدم على حسب ما خلقه الله من تفاصيل في الأشياء أننا كلنا خالقون، في حين أن الله تحدث عن هذه المسألة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}( )، فولادة الولد هي من اكتشاف القانون الإلهي أن الخلية تشتمل على(46) كروموسوما، فتارة توجد في البويضة والنطفة، وتارة توجد في الخلية الواحدة، ثم تزرع في البويضة بعد تفريغها من الكروموسومات.
فالخلق هو أن تخلق قانوناً لا أن تخلق شكلاً على هدي وضوء قانون الله، فالبعض اهتدى إلى تصنيع القانون لكنه ـ في الأصل والنتيجة ـ قانون إلهي، فلو عملت إحصائية لكل المخترعات والاكتشافات فإنك لا تجد في أي منها أن الإنسان استطاع أن يخلق قانوناً، فعظمة السر الإلهي في الأشياء هي ما تختزنه من أسرار الخلق والإبداع.
تعريفات جديدة للمفاهيم:
ـ نحن نحتاج إلى إبراز التعاريف الحقيقية للمبادئ والقيم الأخلاقية والتعبدية من جديد على أرض الواقع، ومحاولة سحبها من الكتب إلى أرض التطبيق، فقد أصبح لعامتنا مفاهيم مغايرة للمفاهيم السليمة للعقائد كما في فهمهم للتقية على أنها السكوت؟
هناك أحاديث كثيرة في تأصيل المفاهيم، ولدي بحث واسع في التقية ألقيته في دمشق في ذكرى الإمام الصادق(ع) يمكن الرجوع إليه( ).
تسخير المخلوقات للإنسان:
ـ وحدة الإنسان مع المجموعة الكونية تشعره بالعبودية لله سبحانه، ولكن لماذا سخرت باقي المخلوقات للإنسان، هل من التسخير ما يشعر بالمهانة للمخلوقات؟
ليس في التسخير مهانة، فالله يقول: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}( )، والشاعر يقول:
    الناس للناس من بدوٍ ومن حضر    بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدَمُ    
فالتاجر خادم لعمّاله، فهو يأتي بالمال ويسخّرهم ويعطيهم معاشهم، وهم خدمه في العمل، فالله جعل طبيعة الحياة الكونية كما هي طبيعة الحياة العملية لخدمة الإنسان، ولا يعني ذلك مهانة للمخلوقات، بل تكريماً للإنسان، وقد تكون عملية التسخير بحسب طبيعة تكامل الأعمال والحاجات.
وجهة نظر الإسلام في السعادة:
ـ يقول بعض الكتّاب إن الإنسان يمكن أن يخلق سعادته أو تعاسته، وتوجد روايات تشير بصراحة إلى أن الإنسان يولد سعيداً أو شقيّاً، فكيف نوفّق بين الاثنين، وما هي وجهة نظر الإسلام في السعادة؟
أولاً: إن النظرية الإسلامية تقول: إن الله جعل سعادة الإنسان وشقاءه بيده فيما يتصل باختياره، وجعل بعض الأمور خارجة عن إرادته مما لا علاقة له به من خلال الأوضاع الكونهية أو ما أشبه ذلك مما لا يدخل تحت اختياره كفرد، وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}( )، فأنت تصنع هدايتك كما أنك تصنع ضلالك، والله تعالى يقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}( )، ويقول سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}( )، فالله جعل الإنسان مختاراً وهو القائل: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}( )، والآية التي تعطي خط النظرية في ذلك كله هي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}( )، وفي الجانب السلبي: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}( ).
ومعنى ذلك أن سنّة الله في الإنسان هي أنه عزّ وجل جعل سعادة الإنسان باختياره، وذلك بقدر تعلّق الأمر بحركة اختياره فيما يملك الاختيار فيه.
وعلى ضوء ذلك، فنحن نلتقي مع الفكرة التي تقول إن الإنسان يصنع سعادته بنفسه كما يصنع شقاءه بنفسه، وقد قلت في أكثر من تعبير أن كل واحد منا يحمل جنّته على ظهره ويحمل ناره على ظهره، باعتبار أنه عندما يلتزم بما يؤدي إلى الجنة فإنه يكون قد حمل في وجوده جنّته، وعندما يلتزم بما يؤدي به إلى النار فإنه يكون قد حمل ناره في وجوده أيضاً.
أما أن يخلق الإنسان سعيداً وشقياً فليس معناه أن السعادة تخلق كجزء من الذات، ولكن معناه أن الإنسان يخلق والله سبحانه الذي خلقه يعلم ما سيصنعه في مستقبل حياته فيكتبه سعيداً، لا لأنه فرض السعادة عليه فرضاً، أي بشكل جبري، ولكن يكتبه سعيداً لمعرفته أنه سيختار السعادة، وهكذا عندما يكتبه شقياً.. فليس معنى "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه"( )، كما في بعض الأحاديث، إن السعادة تخلق مع الإنسان كما يخلق معه رأسه أو يداه، بل إن السعادة تكتب له من خلال علم الله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}( )، فالله تعالى يعلم مستقبل الإنسان فيكتبه سعيداً إذا كان مستقبله في خط السعادة ويكتبه شقياً إذا كان مستقبله في خط الشقاوة، فلا تنافي بين النظريتين.
اختيار جنس المولود:
ـ يزعم الطب الحديث أن بإمكانه الأبوين اختيار جنس الوليد، ذكراً كان أو أنثى، ألا يناقض هذا القرآن؟
هذا لا يناقض القرآن البتة، فالله في القرآن يقول: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}( )، فالآن هناك تصرّف في الجينات من خلال أن للذكر عناصر معينة وللأنثى عناصر معينة، فيمكن للإنسان اختيار جنس مولوده بواسطة الطبيب وفق القانون الإلهي المودع في أصل الخلقة، فالإنسان هنا لم يتصرف بالقانون الذي جعله الله لكل جنس من الجنسي، فالأم تحمل في جسمها الإثنين معاً وهكذا جسم الأب، فغاية ما هناك أن هذا لم يكن معروفاً فعُرِف.
سبب انتشار الإسلام في أمريكا:
ـ يقول السفير الأمريكي في باكستان إن أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا هو الإسلام، فيا ترى ما سبب هذا الانتشار، هل هوالحالة الاقتصادية أو التفرقة العنصرية أم ماذا؟
هذا بسبب نشاط المسلمين خاصةً، إذا علمنا أن الشعب الأمريكي يختلف عن سائر الشعوب الأوروبية التي لديها عقدة حضارية ـ تاريخياً ـ بالنسبة للإسلام، لأن الإسلام دخل أوروبا، بينما الشعوب الأمريكية مؤلفة من خليط من الجنسيات فلا عقدة تاريخية لديهم، فهم ربما كانوا من أقرب الشعوب التي يمكن أن تتقبل الإسلام، لا سيما إذا وُجد الدعاة المنفتحون والمثقفون والذين يحسنون أسلوب الدعوة إلى الله والذين بإمكانهم توظيف ذلك لمصلحة الإسلام، فإن الشعب الأمريكي يمكن أن يتحوّل إلى الإسلام.
ولقد قلت لأحد الصحفيين الأمريكان الذي كان يتساءل مستخفاً بقول المسلمين بأسلمة العالم خاصة وأنهم يستعينون بأمريكا في حاجاتهم حتى إلى إبراء الخياطة.. قلت له إن لدينا تجربة وهي أن "هولاكو" عندما سيطر على البلاد الإسلامية كلها وقتل المسلمين والعلماء، فكر علماء المسلمين بالحل فعملوا على إدخال ابن "هولاكو" في الإسلام، فتحوّل جيشه كله بسبب إسلام ابنه مسلماً، فنحن نقنع الأمريكيين بالإسلام لتتحول أمريكا فيما بعد إلى دولة إسلامية، فكل مسلم إذا قام بدوره وبحسب قدرته واستطاعته بأن يعلّم إنساناً آخر آية يحفظها أو حكماً يفقهه به أو برنامج عمل يحقق منه مكسباً للإسلام، فتلك هي مسؤوليته، لا سيما وأن الناس لا يعادون الإسلام الذي هو دين الفطرة، ولكن علينا أن نعرف كيف نقدّمه للناس.
بنات النبي(ص):
ـ قرأت للشيخ المفيد في "المسائل العكبرية" قولهأن بنات النبي(ص) أكثر من واحدة، وهنّ فاطمة ورقية وأم كلثوم، فهل هذا محلّ وفاق أم يختلف فيه العلماء؟
إن ظاهر القرآن يؤكد ذلك {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ}( )، فلو لم يكن لديه إلا بنت واحدة فكيف يخاطبه القرآن بالجمع، فهو هنا يتحدث عن واقع لا عن أشياء فرضية، فظاهر القرآن يدل على أن للنبي(ص) أكثر من بنت ومشهور المؤرّخين كذلك وإن كان بعضهم يقول أنه ليس لديه بنات سوى الزهراء(ع).
أماكن بعث الأنبياء(ع):
ـ نلاحظ أن جميع الأنبياء الذين نعرفهم محصورون في الشرق، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، فهل هناك أنبياء قد بعثوا في أوروبا مثلاً أو في جنوب شرقي آسيا، وإذا لم يكن هناك أنبياء بعثوا في أمكنة أخرى فما هو تعليل ذلك؟
إن الله يقول: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}( )، وفي آية أخرى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}( )، مما يعني أن الله سبحانه وتعالى لم يترك قرية بلا نبي ولم يترك موقعاً يمكن أن يعي معنى دعوة الله ومعنى رسالته إلا وقد أنزل إليه نذيراً وأرسل إليه رسولاً، ولكن الله لم يقصص علينا نبأ كل الأنبياء، لكننا نعرف ذلك من الآيات التي تقول إن الله أرسل نذيراً لكل شعب من الشعوب ولكل أمة من الأمم..
ولذلك فمن الطبيعي أن يكون الله قد أرسل لهذه الشعوب من ينذرها، وغاية ما هناك أن الأنبياء أولي العزم كلهم كانوا من هذه المنطقة لحكمةٍ يعرفها الله، أو لأن هذه المنطقة هي المنطقة التي كان يمكن أن تحمل الرسالة من خلال أن الرسالات تتفاعل مع تكوين الشعوب في هذه المنطقة لتحمّلها إلى المناطق الأخرى، وهكذا كان.
متى يحاسب الميّت؟
ـ من المعروف أن الإنسان يحاسب في يوم دفنه في القبر، فإذا لم يدفن وبقي في الثلاجة لمدة عشرة أيام أو أكثر، فهل يتأخر حسابه لحين دفنه؟
المهم أننا نستعد للحساب، سواء حوسبنا في الثلاجة أو في القبر لهذا ليس شغلنا إنما هو شغل الله سبحانه وتعالى.





الفصل الرابع

مسائل السيرة

"إنّ مشكلتنا هي أننا نبكي مأساة الماضي ونصنع مأساة الحاضر"
    



حاطب بن أبي بلتعه:
ـ ما هي علاقة (حاطب ابن أبي بلتعه) التي تحدث عنها القرآن في سورة الممتحنة بموضوع الولاية، وما هو الدرس الذي يريد القرآن أن يبيّنه من خلالها للمؤمنين؟
عندما كان النبي(ص) يخطط لفتح مكة كان لهذا الرجل أقرباء أو عنده جماعة في مكة، فحاول النبي(ص) أن لا ينقل خبر تخطيطه لفتح مكة لأي أحد من المشركين لأنه كان يريد أن يظلّ الموضوع مفاجئاً، ولكن حاطب حاول أن يكتب مكتوباً إلى بعض من يتعلق به هناك، لأن لهم جميلاً عليه أو ما أشبه ذلك، وأعطى المكتوب لامرأة ووضعته في شعرها، وأوحى الله سبحانه وتعالى ـ كما تقول كتب السيرة ـ إلى النبي(ص) بالمسألة، فبعث النبي علياً(ع) ومعه شخص آخر، فلما وصلوا إليها قالوا لها: إعطنا الكتاب، قالت: ليس لدي كتاب، وحاولوا معها فلم تنفع المحاولة، وقال الرجل ليس لديها شيء، ولكن الإمام علي(ع) قال له إن الله يقول للنبي أن معها شيئاً فاستعمل الإمام الضغط النفسي عليها، فعندما هددها، قالت تنحيّا لأخرجه من شعري.
فالنبي(ص) كشف هذا الرجل الذي جاء إلى النبي وقال له: أنا ما زلت على ديني، ولكن تلك كانت نقطة ضعف عشتها وقد بعثت هذا الكتاب للأشخاص الذين لهم عليّ جميل، فخلاصة القصة هي هذه ولا حاجة للدخول في بعض التفاصيل.
والدرس الذي نأخذه منها أن علينا عندما تكون هناك مصلحة إسلامية عليا فإنها هي التي تحكم حركتنا، وأن لا نخضع لأية حالة عاطفية لنعطي المعلومات التي تمس البلاد الإسلامية، سواء في أمنها السياسي أو الاقتصادي أو العسكري مهما كانت الظروف والنتائج.
سيرة الإمام الحسن(ع) خلال إمامته:
ـ إن الفترة التي قضاها الإمام الحسن(ع) بين صلحه مع معاوية وبين استشهاده، هي الفترة الأكبر لإمامته، لكننا لا نملك وضوحاً كافياً عن أسلوب عمله خلال تلك الفترة وعلاقة ذلك بتهيئة الأرضية لثورة الحسين(ع) فماذا ترون؟
قد لا نملك الكثير من التراث في كل تفاصيل السيرة في ذلك الوقت، لأن المرحلة كانت لا تنفتح على الحديث ـ من قِبَل المؤرّخين ـ عن خصوصيات وتفاصيل الذين هم خارج السلطة، ولم تكن المرحلة مرحلة كثرة الرواة الذين كانوا يعملون للحصول على الرواية كما في زمان الإمام الباقر والصادق(ع).
لذلك لم يأتنا من ذلك إلا القليل، ولكن عندما ندرس حركة الواقع والرفض الجنيني الذي كان يعيش في داخل الأمة، فإننا نجد أن هناك الكثير من المؤثرات التي كان أهل البيت(ع) يحرّكونها، لأن المسألة المطروحة هي أن الإمام(ع) كان يريد في صلحه أن يعطي الأمة حالة من الاسترخاء لتنفصل عن مجريات الصراع التي تجعلها لا تميز بين صاحب الحق والآخر الذي اغتصبه، ذلك لأن الحروب وتفاصيل الصراعات السياسية حينما تمتد زمناً طويلاً فإن الناس يهتمون بالتفاصيل أكثر من اهتمامهم بالتقييم، فلم تكن صورة الحكم الأموي واضحة في كل سلبياتها لدى الأمة.
فلقد كان الناس يتحدثون عن الصراع بين علي(ع) وبين معاوية، وهناك الكثيرون ممن ينطلقون من شخصية علي(ع) ومن قيمه ومكانته وتمييزه عن معاوية، لكن الجوّ العام كان جواً يعيش تفاصيل الحروب ومتعباً لدرجة أن الناس ملّوا القتال، حتى قال علي(ع): "لقد أفسدتم عليّ رأيي"( )، لأنهم كانوا يتحجّجون بحرّ الصيف وبرد الشتاء، حتى استطاع معاوية أن يأخذ الكثير من مواقع سلطة الإمام(ع) في ظل تقاعس جيشه.
من هناك كانت الأمة بحاجة إلى مرحلة استرخاء لتعرف الحكم الجديد على الطبيعة، وهذه الفرصة هي التي هيّأت الأمة للدخول في المقارنة بين حكم علي(ع) وحكم معاوية واكتشاف النتائج السلبية، خصوصاً عندما عمل معاوية على استخلال ولده يزيد المعروف بمباذله، فبعض الأحداث إذاً تحتاج إلى زمن حتى يتبيّن الناس طبيعتها، وهذا الذي كان.
ونحن ندرس في حياة الإمام الحسن(ع) أنه كان يؤكد القيم الإسلامية الأخلاقية والتربوية والوعظية في الوجدان الإسلامي العام في سلوكه وكلماته ووصاياه من أجل أن يؤسس القاعدة الإسلامية الصلبة التي تنفتح بالمسلمين على الإيمان الحق في خط الالتزام بالإسلام كله.
القعود عن المجابهة:
ـ ماذا تعني دعوة الإمام الحسن(ع) أصحابه وأتباعه أن يكون كل منهم حلساً من أحلاس بيته حتى يهلك معاوية، هل نستوحي من ذلك القعود عن المجابهة إذا كنا لا نمتلك إمكانات المجابهة؟
يجب أن نعرف أنه كان هناك التزام من قِبَل الإمام الحسن(ع) بعدم القيام بأي عمل ثوري، ولذلك خفف حالة الحماس والانفعال الموجودة عند أصحابه وأتباعه، ولكن في الوقت نفسه كانت هناك ثقافة متحركة تربطالناس بالإسلام النقي الحق وبالخطوط الأصيلة التي تبقي على المسلمين إحساسهم بالقيم الإسلامية التي يتحرك الواقع للوقوف بوجهها ليثور الناس بعد ذلك ضدهم.
هل إحياء عاشوراء إحياء لفتنة؟:
ـ هناك من يدّعي أن إحياء عاشوراء يعني احياء فترة فتنة حدثت بين المسلمين مما يساهم في إذكاء نار الاختلاف بين المسلمين، فما هو رأيكم في هذا؟
لقد علّمنا القرآن الكريم أن نذكر التأريخ لنعتبر به {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}( )، فهناك فرق بين أن تنقل التاريخ لتثير الأحقاد من خلاله دون قضية، وبين أن تنقل التاريخ لتعتبر به ولتأخذ منه التجربة والفكرة ولتدخل في مقارنة بني حركته في تلك المرحلة وحركلته في هذه المرحلة.
فأية أمة لا تستذكر تأريخها هي أمة بلا جذور، ولكن يبقى علينا أن نستعيد التأريخ بالطريقة التي لا تهدم الحاضر، من خلال المقاربة بين القيم السلبية وبين القيم الإيجابية، وأن نحول النماذج الطيبة في التأريخ إلى نماذج للحاضر والمستقبل، وأن نحارب النماذج الخبيثة حتى يصبح التاريخ عندنا حركة في مجرى الحياة لا أن يكون مجرد حالة فئوية تريد كل فئة في الحاضر أن تثأر للفئة الأخرى باسم التأريخ.
فدرس القرآن هو أن نعتبر بالتاريخ ونستذكر لنتّعظ ونعرف كيف يمكن أن نحرّك حاضرنا ومستقبلنا لنتفادى كل سلبية في ذلك التاريخ، إن من حيث القيادات السلبية أو الإيجابية، وإن من حيث الخطوط الفكرية والسياسية، وإن من حيث حركة الواقع في كل امتداداته ومشاكله وقضاياه، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} وسيحاسبها الله على ما كسبت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}( ).
وعلى هذا فإن علينا أن لا نستغرق في التاريخ لنتحدث عن كسبه، بل علينا أن ننفتح عليه لنأخذ منه القيم التي تمتد بامتداد الحياة، ونترك الشيء الذي يموت في التاريخ.
ولذلك فلا ينبغي أن نعتبر قضية الإمام الحسين(ع) مع جيش عبيد الله بن زياد، هي قضية سنّة وشيعة، فلا يجوز أن تطرح المسألة في هذا الإطار، بل هي كيف يحكم مثل (يزيد) المسلمين؟! وهو ما عبّر عنه الإمام الحسين(ع) عندما أعطى من نفسه شخصية النموذج، وأعطى يزيد شخصية النموذج، عندما قال "نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة"( )، وعندما قال: "ويزيد رجل شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"( )، النموذج الصالح هناك والنموذج الطالح هنا من أجل أن يقتدي الناس بالحسين في المستقبل وأن يتجنبوا أمثال يزيد من حكام الجور.
كيف ندرس سيرته(ص)؟:
ـ تطل علينا وفاة الرسول الأكرم(ص)، هذه الأيام فكيف ندرس سيرته(ص) معكثرة كتب السيرة التي بين أيدينا؟
إنني أعتقد أن أفضل كتاب من كتب السيرة هو كتاب الله، فقد حدّثنا الله عن رسوله(ص) في ملامح شخصيته، وحدّثنا عنه في أسلوب دعوته، وحدثنا عن ظروف وحركة هجرته، وحدّثنا عن حروبه وكيف كان يمارس القيادة في مواقع ضعف المسلمين ومواقع قوتهم، وحدثنا عنه في رأفته ورحمته وحياطته للمسلمين ومشاركتهم في كل آلامهم، وحدثنا عنه في انفتاحه على ربه وكيف كان(ص) مع المؤمنين يشاركهم آلامهم وآمالهم ويتحرك معهم كما لو كان أحدهم.
إن دراستنا للقرآن الكريم في سيرة رسول الله(ص) تحمل الكثير من المعلومات التي صرّح بها الكتاب والكثير من الإيحاءات الواسعة التي يمكن استيحاؤها من القرآن، ومن الكتاب الثاني الذي هو (نهج البلاغة) فلقد كان علي(ع) تلميذ رسول الله(ص) ورفيقه ووصيه الذي كان يعيش معه في الليل والنهار، وقد تحدث عنه في الكثير من أوضاع حياته وملامح شخصيته وما استوحاه من ذلك.
كما يمكن لنا أن نستوثق بدرجة موزونة ـ لكنها تحمل الكثير من التحفظات ـ في (سيرة ابن اسحق) التي ذكرها (ابن هشام) وفيما ذكره (الطبري)، وقبل ذلك علينا أن نستهدي ما صحّ عن أئمة أهل البيت(ع) الذي تحدّثوا عن رسول الله(ص) في جوانب سيرته المختلفة، وعندما نقرأ قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}( )، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}( )، نعرف كيف ندرس سول الله(ص) في كل ما صح لنا من سيرته لنستهديها فيما نأخذه وندعه لأنه كان الكتاب الناطق كما كان القرآن الكتاب الصامت، فعلينا أن نقرأ رسول الله(ص) في كتاب سيرته كما نقرأه في كتاب الله الذي بلّغه للناس.
أسلوب الرسائل لتبليغ البيعة:
ـ لماذا لم يستخدم الرسول(ص) أسلوباً آخر غير الذي استخدمه في (خطبة الغدير) كأن يبعث الرسل والرسائل إلى الأمصار ليبين للناس أن علياً(ع) هو الوصي وهو الخليفة من بعده؟
إن الناس الذين حضروا بيعة الغدير كانوا يمثلون غالبية المسلمين آنذاك، وقد جاءوا من سائر المناطق الإسلامية مما يمثل رسالة مفتوحة إلىكل الناس الذين يمثلهم هؤلاء الحاضرون في يوم الغدير، وقد أعاد الرسول(ص) في خطبته كلمة "اللهمّ هل بلّغت؟ قالوا: بلي، قال: اللهمّ اشهد"، وكان المسلمون يعرفون أن النبي(ص) عندما يريد أن يتحدث عن شيء يتصل بالقضايا العامة للمسلمين يقول "ألا فليبلّغ الشاهد الغائب".
أسباب الانقلاب:
ـ إذا كانت قضية الإمامة بهذه الدرجة من الوضوح وأن رسول الله(ص) أوحي له بالخلافة من بعده للإمام علي(ع) فلماذا حدث هذا الانقلاب السريع، والرسول بعد لم يدفن، ولماذا قام الأنصار بترشيح (سعد بن عبادة) مع العلم أنه من أنصار الإمام والمقرّبين إليه، ولماذا لم يرشّحوا علياً(ع)؟
عندما ندرس كثيراً من الأحداث التي عشناها في حياتنا المعاصرة، وكيف يمكن أن تختلط الأوراق وينطلق الكثيرون من أجل قلب الحقيقة ويشوهونها بمختلف الوسائل، حتى لدى كبار القوم ممن يملكون المواقع الدينية الكبرى، ونرى كيف يبتعدون عن الحقيقة، ويعتبرون الهدى ضلالاً والضلال هدى فإننا نجد الكثير من أحداث الواقع التي تقول لنا إن التأريخ يعيد نفسه، وإن واقعنا من خلال ما عليه الناس وسرعتهم في الابتعاد عن الحقائق بفعل المؤثرات النفسية والغوغائية، يمكن أن يفسّر ما حدث في الماضي.
هل الصراع على الخلافة طبقي؟:
ـ يقول بعض المفكرين اليساريين العرب بأن الصراع بين علي(ع) وبعض الصحابة الذي يظهر بعد وفاة الرسول(ص) وعهد خلافة علي(ع) كان صراعاً طبقياً بين الطبقة التجارية القرشية وبين الطبقات الفقيرة التي يمثلها علي(ع)،فما هو رأيك في هذا القول؟
أنا لا أعتقد أن المسألة بهذه المثابة التي يذكرها هذا المفكر، لأن طبيعة صراع الناس الذين أنكروا حق علي(ع) والذين آمنوا به لم يكن طبقياً بحيث يترك تأثيره على حركة الواقع الإسلامي العام.
هل نهضة الحسين ثورة؟:
ـ يقول البعض أن ثورة الإمام الحسين(ع) لم تكن ثورة بالمعنى الثوري لافتقادها لعناصر الثورة، إن من ناحية العدد أو الهدف أو الجهة التي قصدها، فهل كانت ثورة ـ كما نعلم ـ أم أنها حركة إصلاحية تهدف إلى إيقاظ الضمير المسلم؟
إن عناصر الثورة هي (الفكرة) و(الخط) و(الموقف) و(الهدف) و(الرفض للواقع) والعمل على تغييره، وليس من الضروري أن تنجح الثورة ـ ميدانياً ـ لتكون ثورة، فالكثير من الثورات التي قامت في التاريخ لم تحقق النجاح على المستوى المادي من خلال الظروف الموضوعية الموجودة فيها.
خير الأعمال انتظار الفرج:
ـ روي عن أحد الأئمة(ع) أنه قال لسائل "فأي الأعمال أحب إلى الله عزّ وجل؟ قال: انتظار الفرج"( )، فهل لكم أن تشيروا إلى المغزى المرجوّ من هذه الرواية؟
يريد هذا الحديث أو يوحي بأن تباعد الزمان قد يؤدي إلى يأس الإنسان وفقدانه للأمل والفرج، ولذلك فإن من أفضل الأعمال أن يجدد الإنسان أمله من خلال إيمانه بما أعدّه الله للبشرية في نهاية الدنيا وأن ينتظر الفرج بالتخطيط للتمهيد لذلك.. فليس انتظار الفرج أن نجلس ونبكي ونندب الإمام حتى يأتي ليدقّ الباب علينا، ولكن أن ننتظره في المواقع التي تمثل التحدي للعدل وللإيمان، لأن دور الإمام(عج) أن "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"( )، من خلال الإيمان.
فانتظار الفرج هو الانتظار الإيجابي المتحرك الذي يملأ عقلك أملاً وإيماناً من خلال ما تنتجه من نتائج إيجابية تجعل فكرة الفرج فكرة واقعية.
التعيير بقبح الأم:
ـ في سيرة الإمام الحسين(ع) أنه حينما طلبت منه البيعة في المدينة بحضور (مروان بن الحكم) قال "يابن الزرقاء"، فهل يصح أن الإمام(ع) يعيّر شخصاً بقبح أمه، أم أن هناك تفسير آخر؟
إنه لا يعيّره بقبح أمه، لأن ذلك ليس ذنباً له، ولكن ربما لأنها طريقة للإهانة بحسب العرف الموجود في ذلك الزمن.
أم حبيبة وأبو سفيان:
ـ يُروى أن (أم حبيبة) منعت أبا سفيان من الجلوس على فراش النبي(ص) وقالت: {إنما المشركون نجس}( )، ولم يستنكر الرسول(ص) هذه الفكرة، الا يعتبر هذا إقراراً؟
إنها لم تستدل بالآية، وإما قالت له إنك نجس بلحاظ شركه، وإذا فرضنا أنه كان نجساً وجلس على الفراش فلا يتنجس الفراش طالما أن جسمه جاف، والظاهر أن آية {إنما المشركون نجس} متأخرة عن فتح مكة، والرواية كانت قبل الفتح.
علي(ع) ومكر معاوية:
ـ كان أمير المؤمنين علي(ع) أذكى من معاوية، لكننا نرى أن مكر الأخير غلب فانتصر على علي(ع) في النهاية، فهل أن الإمام قد فقد الحيلة التي يمكن أن تغلب على مكر معاوية؟
ـ كان يمكن للإمام أن يلجأ للحيلة، لكنها ليست شرعية، فهو بإمكانه أن يستعمل حيلاً غير شرعية يحمي بها حكمه ويمكن أن تكون لديه المبررات في ذلك، لكنه كان يريد تأكيد خط الرسالة، وكان حتى فيما يجوز له، استثنائياً حتى يعطي الناس خط الرسالة بشكل واضح وأصيل.
استثمار المناسبات الكريمة:
ـ لا نكاد نجد أمة تحتفي بعظمائها ـ وأيّ عظماء ـ مثلنا، ومع ذلك فإننا لا نكاد نشعر بما تتركه هذه المناسبات في حياتنا وواقعنا، فكيف ترون السبيل لاستثمار هذه المناسبة الكريمة؟
هذا صحيح، فنحن لا نستفيد من ذكرى العظماء، لا سيما الذين نتمثل فيهم الكمال الإنساني بكل عناصره، لأن أسلوب احتفائنا بهؤلاء العظماء هو أسلوب تقليدي جامد لا يدخلنا إلى داخل هؤلاء فيما يتمثل فيهم من عناصر العظمة الروحية والنفسية والثقافية وفي حركتهم في الواقع فيما يتمثل من نشاطهم الروحي والثقافي والجهادي والتربوي وما إلى ذلك.
إننا أدمنّا أن نبكي على هؤلاء ومآسيهم حتى أصبحوا مجرد مناسبة للدموع لا مناسبة للقدوة وللانفتاح، ونحن لا ننكر الدموع في المأساة، ولكننا نعتبر أن عظمائنا عاشوا في قلب المأساة من أجل الرسالة، ولذلك فإذا أردنا أن نثير المأساة فعلينا أن نثيرها في خط الرسالة، لا في خط الذات، وبذلك يمكن لنا أن نفلسف حركة المأساة في وجداننا لتنطلق بتمنع الذين يصنعون المأساة في حاضرنا ومستقبلنا.
إن مشكلتنا هي أننا نبكي مأساة الماضي ونصنع مأساة الحاضر، فنحن الآن نبكي قتل الأئمة والأنبياء(ع) ولكننا نساعد الذين يتحركون من أجل أن يقتلوا السائرين في خط الأنبياء، وبذلك كنا مجرد أناس يتحركون في التاريخ بمعنى القيمة، ولكنهم يتحركون في الواقع ضد القيمة، وهذا هو الذي جعل منا أمة أراد لها الاستكبار أن تبكي وتبكي وتبكي فقط حتى تفقد كل معنى للقوة في داخل شخصيتها.
سيادة النساء في عمر قصير:
ـ كانت الزهراء(ع) قصيرة العمر، فكيف أصبحت سيدة النساء، وهل تستطيع شاباتنا المؤمنات الاقتداء بها، وما هي عناصر القدوة في حياتها؟
في أدعية بعض الناس: "اللهم اجعل حياتي قصيرة عريضة ولا تجعلها ضيّقة"، فليست القضية هي أن تعيش مئة سنة، لأن بعض الناس قد يعيشون مئة سنة وعمرهم يتحرك في دهليز الأجواء الثقافية أو الروحية، بينما هناك أناس يعيشون عشرين سنة، ولكنك تشعر أن حياتهم كانت عريضة ممتدة تؤتي أكلها كل حين.
وهناك بعض الناس ترى أن سنتهم تساوي عشر سنوات، وهناك من ترى أن عمرهم يساوي يوماً او بعض يوم {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}( )، كم هو عمر السيد محمد باقر الصدر(رض)؟ ولكنه ترك لنا من التراث ومن الحركية والروحية والقدوة ما يمكننا أن نتجاوز به مئات السنين ونغتني بها، وكم من الذين عاصروه ممن عاشوا عشرات السنين ولكنهم ماتوا وبقي حياً.
والزهراء(ع) ـ كما ذكرنا ـ عاشت مع رسول الله(ص) فأخذت منه في طفولتها وشبابها كل ما استطاعت أن تأخذه، فكان نهارها معه وكان ليلها معه، وكانت تسمع كل آية تنزل عليه، كما كانت تسمع كل  كلمة يقولها للناس في الخارج، وكان يحدّثها يحدّث علياً في الداخل، وكانت رفيقة علي(ع) في طفولتها، وكانت زوجة علي(ع) في شبابها، وكما كان علي(ع) مع رسول الله(ص) أعظم التلاميذ، كانت هي أيضاً أعظم التلميذات، وهي مع رسول الله(ص) فيما أخذته من علم وروحانية وحركية وانفتاح وإنسانية، حتى أنها كانت تخرج معه في حربه، ولذلك فإنها استطاعت في هذا العمر أن تختصر الكثير من السنين.
وعندما نتحدّث عن جانب القدوة، فإننا لا نتحدث عن اقتداء النساء بها، بل هي قدوة للرجال والنساء معاً، لأن عناصرها كانت عناصر الإسلام، وعناصر الإنسان المسلم، لا المرأة وحدها، وإن كان للمرأة في حياتها دور كبير، فالمرأة المسلمة تستطيع أن تأخذ الكثير من الزهراء(ع) عندما تعرف كيف تستوعب وقتها وكيف تنفتح في طاقاتها على العلم والروحانية والحركة بحسب  طاقاتها وإمكاناتها.
مناقشة مقولة للعقاد:
ـ لماذا ناقش الشهيد الصدر(رض) مقولة (عباس محمود العقاد) التالية عن فدك، حيث قال ما مفاده: "الزهراء أعظم من أن تدّعي ما ليس لها، والخليفة أكبر من أن يأخذ شيئاً بالباطل والظلم"، وهل لكم أن تناقشوا ذلك؟
إن مشكلة الكثير من الباحثين أنهم يريدون أن يتحركوا في الصلح فيما لا صلح فيه، صحيح (أن الصلح سيد الأحكام) فإذا اختلف اثنان في مسألة فأت تحلها بأن تعطي هذا نصفاً وذلك نصفاً، لكن عندما تكون القضية حقاً أو باطلاً، فلا إمكانية للصلح بل لا بد من الحسم.
فالعقاد يقول إن الزهراء(ع) أعظم من أن تدّعي ما لا تستحقه، وأن الخليفة أعظم من أن يأخذ شيئاً بالباطل والظلم، فإذا اتفقنا أن الزهراء(ع) أعظم من أن تدّعي ما ليس لها، فإذاً هي ادّعت ما لها، وإذا ادّعت ما لها فهي الصادقة المصدّقة بشهادة الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}( )، وبشهادة ابنة أبي بكر "ما رأيت أصدق منها في هذه الأمة إلا والدها"، فإذا كانت هي الأصدق فقولها الصدق، وإذا كان قولها الصدق فكل ما خلفه فهو كذب، وعلى ضوء ذلك فكيف يجتمع هذا مع القول بأنه أعظم من أن يأخذ شيئاً من الباطل، فإن ثبوت الحق في الكلمة الأولى ينتج بطلان الكلمة الثانية.
التأسّي من أجل مجتمع سليم:
ـ هل المطلوب من الرجال أن يكونوا الرسول(ص) أو علي(ع) ومن النساء أن يكنّ فاطمة الزهراء(ع) مئة بالمئة لنصل إلى حالة المجتمع السليم، أم أن عطاء هؤلاء وخصائصهم تفوق حالة المجتمع السليم، بحيث يحتاج الرجال إلى نسبة مهما كانت من الرسول وعلي، والنساء إلى نسبة من الزهراء(ع)؟
إن عالم القدوة ليس هو أن تصل إلى مستوى من تقتدي به، ولكن أن تعتبر من تقتدي به النموذج الأعلى للفضائل والقيم التي أثبتت واقعيتها من خلال اتصافه بها وهو بشر، ولهذا قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}( )، وقال علي(ع)"ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ون طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهد وعفةٍ وسداد"، ويقول الشاعر:
    فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم        إنّ التشبّه بالكرام فلاحُ    
إن النماذج الإنسانية العظيمة في مرتبة الأنبياء والأئمة والأولياء هم القمم التي نزحف إليها، فقد يصل البعض إلى ما يقرب من القمة، وقد يبقى البعض في السفح، ولكن علينا أن ننطلق لنحصل على السعادة من خلال ما تمثلوه لأنهم تمثلوا الإسلام، ولم يكن لدى رسول الله(ص) شيء إلا القرآن والإسلام، ولم يكن لعلي(ع) وفاطمة(ع) إلا القرآن والإسلام، ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم تمثلوا القرآن والإسلام في وجدانهم فيما أعطاهم الله من المعرفة التي لا نصل إليها لأننا لا نملك الوسائل إلى ذلك.
فلسفة خطبة الزهراء(ع):
ـ ما هي فلسفة خطبة فاطمة الزهراء(ع) عل مسامع القوم، مع العلم أن تلك الكلمات والمفاهيم التي وردت في خطبتها قد سمعها القوم من الأنصار والمهاجرين من الرسول(ص)؟
قد لا يكونون سمعوها بتفاصيلها التي وردت في الخطبة، ثم أن الله تعالى يقول: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى* سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}( ).
الانفتاح على عطاء أهل البيت(ع):
ـ عشنا لحظات طيبة ورائعة مع الفقرات التي شرحتموها من خطبة الزهراء(ع)، فكم هناك من حكم ودروس وعمق في أحاديث أهل البيت(ع)، ولكنها كنوز مخفيّة، فكيف السبيل إلى الانفتاح على هذا العطاء الكبير؟
لقد تحدثنا أكثر من مرة عن أن مشكلتنا مع أهل البيت(ع) هي أننا حبسناهم في سجن المأساة فقط، وعندما أطلقنا آفاقهم أطلقناها فقط في جانب المعاجز والكرامة، أما فكرهم ومنهجهم في الحياة، وخطهم النبوي الأصيل، ومنهجهم القرآني الشامل، وكل ما قالوه وما تحركوا فيه مما يمكن أن يكون جواباً على الأسئلة والاستفهامات والمشاكل التي يتخبط فيها جيلنا وأجيال المستقبل، فليس هناك أي دور لأهل البيت(ع).. لقد عزلناهم عن حركة الحياة وأدخلناهم في حركة الدموع، فضيّقنا واسعاً.
لقد حضرتم في هذا الموسم أكثر من مجلس بمناسبة وفاة الزهراء(ع)، فماذا سمعتم عن فاطمة الزهراء(ع)؟ أنا هنا أتكلم بشكل عام، لأن من الممكن جداً أن نجد هناك من الخطباء من يحملون مسؤولية التوعية في خط أهل البيت(ع)، لكن الجو العام يتحدث عن المأساة وعن المظلومية، ونحن نؤكد المظلومية ولكنها كانت مظلومية في خط الرسالة ولم تكن مظلومية باكية، بل تختزن العنفوان والقوة والتوعية والنقد والمواجهة في ذلك كله.
لذلك أقول: أخرجوا أهل البيت(ع) إلى الهواء الطلق وسترون أنهم يصنعون لكل جيل درباً جديداً وحياة جديدة وطريقاً مستقيماً، ادرسوا علياً(ع) في "نهج بلاغته" أيضاً، ولا تدرسوا علياً في حركة سيفه فقط، ادرسوا الأئمة(ع) في كل هذا التراث العظيم الذي يتنوع في مواقع المعرفة التي يحتاجها الإنسان..
ولقد أطلقت مرة تحدياً: كم من الناس من يحفظ فكر علي(ع) في "نهج البلاغة".. فنحن نحفظ قتل (مرحب) وقتل (عمرو بن عبد ودّ)، ولكن ما هو فكر علي(ع) في العلاقات الإنسانية، ما هو فكره عندما يتحدث عن الله تعالى وعن الرسول(ص) وعن الرسالة، وعن الحياة في أوضاعها كلها، اقرأوا "نهج البلاغة" وإذا لم تستطيعوا أن تحفظوا خطبة طويلة فاحفظوا الكلمات القصار التي في آخر النهج، فكل كلمة قد لا تتعدى السطر أو السطرين، لكنها تحمل من الفكر ومن الوعي ومن حركة الحياة ما يمكن أن نملأ به كتباً.
لذلك، فإن مشكلة علي(ع) وأهل البيت(ع) والزهراء في القمة، هي عدم استفادة الناس منهم، ألم تسمعوا علياً حينما قال: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض" ، فقام إليه شخص وقال: كم شعرة برأسي؟!
إن الكثيرين منا فيما يتحدثون به وفيما يتناقشون به ومما يثيرونه من أشياء هامشية قد يقولون لعلي(ع) وللزهراء(ع) وللأئمة(ع) كم شعرة في رأسي؟! لأن ضيق الفكرة هنا هو نفس ضيق الفكرة هناك، ولقد أراد علي(ع) من خلال رسول الله(ص) وكذلك أراد لنا أبناؤه وزوجته الطاهرة(ع) أن ندخل الحياة من الباب الواسع، ولكننا بدأنا ندخلها من الزوايا المنغلقة، فمشكلة أهل البيت(ع) أنهم أرادوا أن يفتحوا لنا أبواب الوعي ونحن نريد أن نجرّ ذكراهم إلى جوّ التخلّف، لأن المتخلفين لا يحبون إلا أن يعيش الذين يحبونهم في أجواء التخلف، وتلك هي المشكلة.
التقية في جواب الإمام(ع):
ـ هل لكم أن تحددوا لنا الضابط الذي بموجبه يُقال إن جواب الإمام كان على أساس التقية، فإن هناك روايات عديدة يجيب الإمام فيها بشكل تفصيلي، ومع ذلك لا يؤخذ بها على أساس أن جواب الإمام كان مبنياً على التقية؟
من الصعب جداً أن نحدد خطاً عاماً بحيث يجمع الخطوط التفصيلية كلّها في هذا المجال، لأن مسأل التقيةتنطلق من خلال الحالات الطارئة التي يمكن أن يؤدي الجواب فيها إلى نتائج خطيرة على الخط العام أو على حياة الإمام أو حياة من حوله وما إلى ذلك، ولهذا لا بد أن ندرس كل موقع من المواقع وكل حالة بحسب ظروفها الداخلية والخارجية المحيطة حتى نستطيع أن نحدد فيما إذا كان هذا الجواب تقية أم لا، وبعبارة أخرى، فإن المسألة تحتاج إلى دراسة ميدانية لأن قضية التقية تخضع للظروف الموضوعية الميدانية التي كانت تحيط بالإمام(ع) وبالواقع أيضاً.
الأحداث التي تلت وفاة النبي(ص):
ـ ماذا ترون بالنسبة للأحداث التي تلت وفاة النبي(ص) وكيفية التعامل معها، هل نترك الحديث عنها أم أن هناك أسلوباً آخر؟
ـ علينا أن نتفهمها علمياً وموضوعياً بحيث نعرف وجه الحق من الباطل، لأن المسألة التي حدثت بعد وفاة النبي(ص)، وهي الخلافة ليست مسألة شخص جلس مكان شخص، ولكنه نهج أبعد عن موقع وجاء نهج آخر، كما كان يقول السيد البروجردي ـ وهو من المراجع (رحمه الله) ـ عندما كان يتحدث عن مسألة الخلافة والإمامة، قال إن ما يتعلق بنا ليس هو الأشخاص، فقد ذهبوا إلىرحاب الله وواجهوا مسؤوليتهم هناك، إنما هي الحجة التي إذا أخذنا بسيرتها وبخطها فإنها تكون حجة علينا عند الله، فمن هو الحجة ـ يا تُرى ـ هل هو علي(ع) أم الآخرون؟
لذلك إذا استطعنا أن نفهم المسألة من خلال معرفتنا من هو الحجة فعند ذلك يمكن أن نحدد خطنا على هذا الأساس ونتحرك في مسؤوليتنا على هذا الاتجاه، ثم بعد ذلك علينا ونحن نتبع الحجة وهو علي(ع) "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار"( )، أن نأخذ أسلوبه المتمثل في قوله: "فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت يدي"، أي وقفت موقف الحياد "حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام" صار فيه ملحدون ومرتدون ضد الإسلام "يريدون محق دين محمد(ص) فخشيت"، عندما رأيت الواقع واقعاً آخر "إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله" بأن أدخل دخولاً إيجابياً وأعاون الجماعة وأساعدهم وأعطيهم الرأي والنصيحة والمشورة "أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب وكما ينقشع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه"( )، أي ارتاح، هذا هو علي بن أبي طالب(ع) وهذا هو أسلوبه "لأسالمنّ" عندما تكون المسألة مسألة الإسلام "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصة"( )، كم كان عدد المرتدّين في ذلك الوقت.. ألفاً أو ألفين، وكم هم المرتدون الآن عن دين الإسلام، إن في الجامعات أو في الأحزاب الملحدة وفي الأحزاب العلمانية وغيرها؟!
إن حجم حركة الكفر اليوم هي أكبر من حجم حركة الكفر في زمن الإمام علي(ع)، الكفر اليوم يدق أبوابنا وقد استولى على ثرواتنا ومقدراتنا الاقتصادية كلها، وعلى مواقعنا الاستراتيجية كلها وعلى خطوطنا السياسية كلها، وعلى كل المواقع الأمنية، وليس لدينا شغل إلا مسألة الخلافة، ولو كان الطرح بطريقة علمية لشكرنا أصحاب الطروحات، لكن المصيبة هي أننا لا نتكلم بطريقة علمية ولا بطريقة موضوعية، فالعلم ليس في خطر والأحاديث العلمية ليس فيها مشكلة، بل هي تبني ولا تهدم والأسلوب الموضوعي يبني ولا يهدم، لكن الأسلوب الغوغائي أسلوب السب والشتم واللعن أسلوب لا يمتّ إلى العلم بصلة، وأن من أفضل الأسلحة عند المخابرات الدولية هي تحطيم قوم المسلمين من الداخل بإثارة الخلا بين السنّة والشيعة، فيجب أن نفهم موقعنا في العالم ونفهم كيف هي حركة الاستكبار في العالم، وكيف هي حركة التبشير في العالم، تصوروا أن أندونيسيا بلد أغلبه إسلامي، لكنك ترى الآن حركة التبشير، من خلال استغلالها للكثير من الأوضاع الاقتصادية، تقوم بتحويل المسلمين إلى غير مسلمين، وفي أفريقيا تجد الأب مسلماً والابن مسيحياً والأم مسيحية، فالعائلة هناك خليط من ديانات مختلفة، لأن التبشير هو الذي ينشظ في كل أفريقيا ويعمل على تنصير الوثنيين والمسلمين وما زلنا نتحدث بطريقة من يعيش في مغارة ليس فيها فتحة كلية فيتصور أن العالم كله هو هذه المغارة حتى إذا طلع عليه النور يستوحش أو كما هو الإنسان الذي عاش في زنزانة مظلمة لفترة طويلة فإنه يستوحش من النور إذا رآه.
لذلك إذا كنتم توالون علياً فوالوه بكله، خذوا علياًبكلّه، خذوا فكره ومواقفه وشجاعته وإخلاصه لربه وأسلوبه في الحياة وفي العلاقات الإنسانية وفي ساحة الصراع.
تصريحات علي(ع) بخلافته:
ـ أنتم الشيعة تقولون إن الرسول(ص) قد نصّب علياً خليفة، فهل أن علياً في كل ما قاله اعترف بهذا الشيء، أي هل هناك نصّ صريح منه يؤكد تنصيبه من قبل الرسول(ص)؟
هناك عدة أحاديث عن الإمام علي(ع) في أنه طالب المسلمين بما سمعوه من رسول الله(ص) في ذلك، وقيل إن بعض هؤلاء عندما أنكر ذلك، دعا علي(ع) عليه، فأصابه شر فكان يقول: "أدركتني دعوة العبد الصالح".
ولقد تحدّث الإمام(ع) في أكثر من خطبة بأن له الحق في الخلافة، ومن الطبيعي أن الحق ليس بالقرابة وإنما باعتبار التنصيص الذي ثبت بأكثر من آية من خلال مفسري السنّة والشيعة، ومن خلال حديث الغدير وغيره.
الدليل على نوّاب الإمام:
ـ ما دام الإمام المهدي(عج) قد اختفى وكان عمره صغيراً، فمن أين جاء هؤلاء الذين يسمّون سفراء الإمام أو نوّابه، وما الدليل على ذلك؟
كان الشيعة في زمن الغيبة الصغرى يعملون على أن يحصلوا على الحجة القاطعة في ذلك، وفيهم العلماء الكبار، ولولا أنهم وجدوها لما اعتمدوا عليها ولما تقبّلوا ما أخذوه مما يسمّى بالتوقيعات الصادرة من الإمام الحجة(عج).
أين النساء في زمن الزهراء(ع)؟:
ـ يمكن أن نستوحي من خلال ما قرأتموه من خطبة الزهراء(ع) أنها كانت عالمة متبحّرة في علوم القرآن والفقه، وتمتلك نظرة بعيدة إلى المستقبل، ومن المؤكد أنها كانت تمارس دورها الرسالي في تربية وتثقيف النساء باعتبار أنهنّ نصف المجتمع، فلماذا لا نجد تأثيراً واضحاً للنساء في حركة المجتمع في زمن الزهراء(ع) وبعد وفاتها؟
ينقل في تاريخها أنها كانت تلتقي مع النساء، وكُنّ يلتقين بها فتعظهُنّ وترشدهنّ وتعلمهنّ، حتى روي عنها ـ وقد يستبعد البعض ذلك ـ أنها أضاعت صحفاً كانت عندها، فقالت لـ(فضّة) ابحثي عنها فإنها تعدل عندي حسناً وحسيناً، وإذا كانت الرواية صحيحة فهي تدل على مدى اهتمامها بالعلم.
أما عدم التأثير فباعتبار أن المرحلة التي قضتها الزهراء(ع) في التوجيه كانت مرحلة محدودة جداً، وكان لها في الأثناء مشاغلها الكثيرة في بيتها، ومن الطبيعي أن سنيّ التخلّف لا يمكن أن تؤثّر في تغيير الواقع بسنوات معدودة وأوقات محدودة من الوعي والإرشاد، كما أن التأثير في الوسط النسائي يتوقف على الوسط النسائي نفسه ومدى تقبله وتأثره، وهذا مما يحتاج إلى وقت كبير.
ولكننا نستطيع أن نستوحي الزهراء(ع) في السيدة زينب(ع)، فعندما ندرس كلماتها ومواقفها فإننا نجد أنها تمثل النموذج الأعلى للمرأة المسلمة التي ما تزال قدوة للرجال والنساء معاً حتى الآن.
مخالفة بعض الأحاديث للنهج الطبي:
ـ تعقيباً على حديثكم على ضرورة الانفتاح على تراث أهل البيت(ع) في جوانب الحياة المختلفة، فإن هناك أحاديث في مجالات الطب والوقاية،فكيف نتعامل معها،خاصة إذا وجدنا أن بعضها خلاف النهج الطبي المتّبع كالحديث المروي عن علي(ع) "إمشِ بدائك ما مشى بك"( )؟
نحن نؤكد أن علينا أن نهتم وندرس وندعو إلى تراث أهل البيت(ع)، لأن حديثهم حديث رسول الله(ص) فهو يمثل الإسلام في موارده ومفرداته كلها، لكن لا بد أن نوثّق الأحاديث بمعنى أنه لا بد من دراسة الأحاديث التي تروى عن أهل البيت(ع) لمعرفة ما إذا كانت مروية بطريقة موثّقة أو بطريقة غير موثّقة، فعندما نقول قال الإمام الصادق(ع) فلا بد من أ نتوثّق من أن الإمام الصادق قال ذلك، لأن الكثير من الروايات وضعت عن أهل البيت(ع) حتى يقول الصادق نفسه عن شخص يُدعى (أبو الخطاب) أنه "دسّ في كتب أصحاب أبي أربعة آلاف حديث، وكان أصحابه المتّسمون بأصحاب أبي يستعيرون الكتب من أصحاب أبي ـ أي الباقر(ع) ـ فيدسّون فيها أحاديث الغلوّ والكفر والزندقة"، لذلك كان الشيعة في وقت متأخر يأتون إلى الإمام الرضا(ع) ويعرضون عليه الأحاديث ليروا صحتها أو عدم صحتها لكثرة الكذّابة، ولذلك قالوا(ع): "وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"( ).
وعلى ذلك فلا بد من دراسة الأحاديث الطبية أيضاً لتوثيقها، أما الحديث المذكور فيعني أنه إذا ابتليت بمرض لا شفاءَ منه فتعايش معه، فأية مخالفة طبية في ذلك؟! فالحديث يدعو إلى عدم القنوط أي لا تمت نفسك قبل الموت.
فكأن المراد أنك إذا كنت تعاني مشكلة لا حلّ لها فتعايش معها.
تعدّد زوجات النبي(ص):
ـ نحن نعرف أن الإسلام حدّد الزواج للرجل بأربع فقط، فكم هو عدد زوجات النبي(ص) وهل جاء هذا التعدد لحكمة، وما هي تلك الحكمة؟
هذه من خصائص النبي(ص) وربما كانت هناك بعض الظروف التي تستدعي أن يعدد النبي في زوجاته بما يتصل برسالته، وأما تفاصيل الحكمة فقد ذكر بعضها لكنها ليست دقيقة في جميعها.
قدرة المعصوم على الإقناع:
ـ هل يستطيع الإمام المعصوم(ع) أن يقنع كل ذوي العقول وإيصالهم إلى الحقيقة، فإذا كان الجواب بنَعَم فلِمَ لم يستطع الإمام علي(ع) إقناع الخوارج؟
استطاعة المعصوم في الإقناع تعني أنه يملك الحجة والأساليب التي إذا انفتحت عليها عقول الناس اقتنعت ودانت، ولكن بعض الناس ختم الله على قلوبهم وبعضهم لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، وهذا هو ما جاء في قوله تعالى في الحديث عن هؤلاء {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}( ).
وكالة الطفل:
ـ هل تصح الوكالة من الطفل، وكيف أصبح الإمام نائباً وعمره خمس سنوات؟
لا تصح الوكالة من الطفل من الناحية الشرعية، أما عن كون الإمام في عمر الطفل، فالقرآن يقول بالنسبة إلى يحيى(ع): {وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}( )، فهذه قضية غيبية، فعندما نتكلم عن وكالة الطفل أو نفاذ معاملته ففي الأمور العادية، أما بالنسبة للأمور التي لها علاقة بغيب الله وبإرادته في غيبه فلها استثناءات معينة بحسب طبيعتها.
الإرث في زيارة وارث:
ـ جاء في الزيارة: "السلام عليك يا وارث آدم" فكلمة الإرث جاءت لتشمل النبوة والرسالة والعلم، فما هو ردّكم؟
هذه واردة على نحو المجاز فليس المراد هنا إرث النبوة أو العلم، بل باعتبار أن الحسين(ع) سار على نفس الخط الذي سار عليه آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى(ع) ومحمد(ص) وعلي(ع)، إنه ذات الخط الذي ساروا عليه جميعاً، فهو ليس إرثاً بالمعنى المصطلح للإرث.
معالجة علي(ع) لفدك:
ـ هل عالج الإمام علي بن أبي طالب(ع) قضية فدك إبّان ممارسته لخلافة المسلمين؟
لم يذكر ذلك، وكما قلنا فلقد كان لفدك دور في المسألة القيادية وهي الولاية، وهكذا فالإمام يقول: "بلى كانت في أيدينا، فدك وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مضانّها في غدٍ جدث"( )، فالمسألة لم تكن تخصّه، بل تخصّ أولاده، ولذلك قد تكون هناك بعض الموانع التي رأى الإمام بسبها أنه ليس من الحكمة إثارة هذا الموضوع، لكن مما يدل على أن مسألة فدك هي من المسائل المسلّمة بين المسلمين هو أن (عمر بن عبد العزيز) وهو من الخلفاء الأمويين كان يعمل على إرجاع فدك لأهلها من أهل البيت(ع) وكذلك الحال بالنسبة لبعض الخلفاء العباسيين.
الدليل على نبوّة النبي(ص):
ـ تساءل (مالك بن نبي) عن الدليل الذي من خلاله عرف النبي أنه نبي مُرسل، ونحن نسأل هل يحتاج النبي إلى دليل على نبوّته أم أنه يحسّ بالوحي والنبوة؟
من الطبيعي أن النبي(ص) هو أكثر الناس إحساساً بنبوّته، ولذلك عندما كان يُسأل عن ذلك كان يقول: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}( )، أو أن الأمر واضح لديه أولاً من جهة الوحي، وثانياً من جهة الدلائل الكثيرة التي أحاطت بمسألة النبوة، بحيث أنه عندما كان يأتيه إنسان يقول بكل قوة: "إن الله شهيد" ومن الطبيعي أن الذي يجعل الله شاهداً عل نبوته وعلى صدقه لا بد أن يكون إحساسه بالنبوة بالمستوى الذي لا يمكن أن يطرأ فيه اي احتمال مضاد ولو بنسبة الواحد بالمليون.
الإقصاء السياسي لأئمة أهل البيت(ع):
ـ الإقصاء والإبعاد السياسي لأئمة أهل البيت(ع) كان مسألة متفقاً عليها عملاً عند الحكّام كلّهم، ورغم ذلك كانوا موضعاً للإجلال والاحترام عند كافة المذاهب، فهل في ذلك دلالة على جانب غير عادي في شخصية الأئمة(ع) مع ملاحظة عدم دراسة البعض وصغر سنّ البعض؟
إن هناك معنًى روحانياً وسراً إلهياً في شخصية الأئمة(ع) بالإضافة إلى حركتهم في خط الدعوة إلى الله ورعاية أمور الناس والإحسان إليه والمحبة لهم، فمن خلال هذا وذاك جعل الله أفئدة من الناس تهوي إليهم.
غياب علم الباقر(ع) في الصحاح:
ـ رغم ما أوضحتموه من سعة علم الإمام الباقر(ع) وسعة مدرسته، فننا نجد تغييباً كبيراً في كتب الصحاح لأحاديثه،خاصة وأن علمه كان لكل المسلمين؟
الظاهر أن هناك أكثر من كتاب يروى عن الإمام الباقر(ع) سواء في كتب التفسير أو كتب الفقه.
البــــدعة:
ـ ما هو تعريف البدعة؟
هي أن نلتزم شيئاً من الدين على أنه من الدين وهو ليس من الدين أو يشك أنه من الدين( ).
كيف تخلّى علي(ع) عن تكليف الإمامة؟:
ـ تقول نظرية الشيعة في الإمامة: إن الإمامة هي تكليف من الله عز وجل باعتبارها امتداداً للنبوة، إذن كيف ترك الإمام علي(ع) حقه في الخلافة في الوقت الذي لا يسمح للنبي ترك دعوته، أليس هذا مثل ذاك؟
إن الإمام(ع) لم يلغِ حقّه ولم يتنازل عنه، ولكنه جمّد المطالبة به لأنه لم يكن من خلال طبيعة الأعوان والأنصار، ولذلك جمّد الإمام حقه على هذا الأساس، وهو يبيّن السبب في ذلك عندما يقول "حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص) فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه"، فحتى الأنبياء(ع) عندما يواجهون التحديات والصعوبات التي تمنعهم من أداء التكليف يقفون ـ لا اختياراً ـ بل لأن الظروف لم تسمح لهم بذلك.

تأسيس المأتم الحسيني:
ـ يقول البعض إن المأتم الحسيني أسّسه البويهيون عندما سيطروا على بغداد، فما مدى دقة هذا القول؟
المأتم الحسيني أسسه أئمة أهل البيت(ع) الذين كانوا يعقدونه في بيوتهم ويستدعون من يقرأ الأشعار التي تذكر مصيبة الحسين(ع) بطريقة عاطفية( ).
إسقاط الرأي على سيرة الأئمة(ع):
ـ نجد أن من كتب في سيرة الأئمة(ع) يحاول أن يترك ويسقط نوعية تفكيره ووعيه على مفردات هذه السيرة، فكيف ين لنا أن نعرف مواقف الأئم بما نستعين به على واقعنا ونسترشد بهم في رس أسلوب العمل؟
إن للأئمة(ع) تراثاً في كلماتهم، سواء في خط الفكر أو في خط الموعظة والنصيحة أو في خط التشريع أو في خط التحريك والإثار أو في سيرتهم الخاصة بأخلاقياتهم وجهادهم وكل ما عاشوه مما يتمثل بعلاقتهم بالإنسان وبالحياة.
ومن الطبيعي أن يجتهد الناس في فهم هذا التراث وفي استيحائه، فلكل إنسان خط فكري يحاول أن يبحث عنه في هذه الكلمة أو تلك، أو في هذا العمل أو ذاك.. وقد وجدنا أن كثيراً من الناس حاولوا أن يسقطوا تفكيرهم على القرآن ليخضعوه لتفكيرهم، وهذا ما لاحظناه في أن كل فرقة من فرق المسلمين حاولت أن تعطي الشرعية لفكرتها من خلال القرآن بتأويله لمصلحة هذا الخط الفكري أو ذاك الخط العملي.
ولكن ذلك لو حرّفه المحرِّفون أو أخطأ فيه الخاطئون يفرض علينا أن نقرأ هذا التراث الفكري والعملي كما لو لم يعالجه أحد، وهذا يتطلب أن يكون تفكيرنا صورة لهذا التراث لا أن يكون هذا التراث صورة لتفكيرنا، فبعض الناس يحاول أن يجعل القرآن صورة لما عنده من فكر فينحرف في القرآن عن هدفه، وبعضهم وهم المستقيمون في الخط الذين يعتبرون القرآن هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بينيديه ولا من خلفه، فيحاولون أن يأخذوا عقائدهم من القرآن، وأن يأخذوا مفاهيمهم من القرآن.
فإذا كانت المسألة هي هكذا فيما يتعلق بالقرآن، فكذلك هي في تراث النبي(ص) وأهل بيته(ع) لأن هذا التراث عندما يثبت بالحجة فهو تراث معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأن كل ما جاء عن أهل البيت(ع) فإنه مستمد من رسول الله(ص)، فالإمام السجاد(ع) يقول: "حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث رسول الله"، فلا بد لنا أن نخضع ما عندنا من تفكير لما نقرأه من تراث، فإذا استنطقنا التراث من خلال القواعد العلمية فإننا نستطيع أن نكتشف خطأ الذين أخطأوا وتحريف الذين حرّفوا، وبهذا يمكن لنا أن نحرّك التراث في الواقع.
وعندم نواجه مشاكلنا الواقعية، فإننا ينبغي أن نأتي إلى القرآن لنستنطقه في حلّ هذه المشاكل، ونأتي إلى كلام النبي(ص) وكلام الأئمة(ع)، وفي مقدمتهم الإمام علي(ع) لنستنطقهم في حل مشاكلنا، لأن المشاكل التي عاشوها وأعطوا حلولها وقدّموا تحليلات لها قد تقترب من الكثير من المشاكل التي نعيشها.
لذلك علينا أولاً أن نوثّق الفكرة التي نأخذها من تراثهم، وثانياً أن نجعل هذا التراث متحركاً يعيش معنا في البيت والشارع والمصنع والصراع السياسي والثقافي والاجتماعي حتى يكون تراث أهل البيت(ع) حياً في عقولنا وفي حركة الحياة والإنسان من حولنا.
التغيير في منظور الإمام الحسين(ع):
ـ تحدثتم عن أن الإمام الحسين(ع) كان يريد تغيير نمط تفكير الأمة من خلال حركته وقيادته، ولكن عملية التغيير عل الصعيدين الفكري والثقافي تحتاج إلى سنوات طويلة، فكيف يتسنى للإمام ذلك في الفترة الزمنية القصيرة؟
أولاً: كان الإمام الحسين(ع) يقوم بكل عمليات التغيير بالتعاون مع أخيه الإمام الحسن(ع)، فهو لم يقم بذلك في الفترة التي ثار فيها فقط، بل قبل ذلك أيضاً.
ثانياً: إن الإمام الحسين(ع) عندما أطلق فكرة التغيير لم يكن يتحدث عن هذه الفترة القصيرة، بل كان ينظر إلى الهدف في ذلك، فالإمام لم يكن يؤطّر عمله في المدة التي عاشها، بل كان يطلق الفكرة في الإطار العام ويبيّن استعداده لذلك، أما كم تحقق من التغيير فذاك راجع إلى طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة آنذاك.
قسيم النار والجنة:
ـ جاء في مسند أحمد بن حنبل وغيره "عليٌ قسيم الجنة والنار" فما معنى ذلك؟
معناه أن اتّباعه واتّباع خطه ورسالته ونهجه أو عدم اتّباعها هو الفيصل بين خطي الجنة والنار، لأن اتّباع علي(ع) هو اتّباع الحق، كما قال رسول الله(ص): "علي مع الحق، والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار".
تكليم الله للنبي(ص) في معراجه:
ـ في معراج الرسول(ص) إلى السماء ينقل أن الله تعالى كلّمه، ألا يدل هذا على أن مكان الله في السماء؟
لا، فالله تعالى كلّم موسى(ع) وغيره من الأنبياء كإبراهيم(ع) في الأرض، فكلام الله لا يعني ولا يدل على المكان وهو القائل {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}( ).
ترشيح أم تعيين؟
ـ هل يعتبر "حديث الغدير" نصّاً من السماء أو هو مجرد إعداد وترشيح كان على المسلمين إمضاؤه؟
لا ليس ترشيحاً، بل هو تعيين {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}( )، ففي القضية جانب إلزامي وتعييني، ثم قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}( )، فالإمام علي(ع) متعيّن في نفسه ومن قبل الله تعالى ومن قبل رسول الله(ص) ومن قبل الحق والحقيقة، صلوات الله وسلامه عليه ورزقنا الله ولايته وشفاعته.
دور الإمام المهدي(عج) في غيبته:
ـ يتساءل البعض، ما دور الإمام المهدي(عج) في غيبته؟
ليست لدينا تجربة حسيّة يمكن لنا أن نتعرّف من خلالها على تفاصيل ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى الذي انطلقت حكمته في غيبته لا بد من أن يجعل له دوراً يتحرك فيه مما قد لا نعيش حضور ذلك الدور ولكن قد نعيش تأثيره بطريقة خفية قد نحسّها ولكننا لا نملك التعرّف على تفاصيلها.
فهو غيب من الغيب وغيب الله كشهوده لا بد أن ينطلق من حكمة قد يعطينا سرّها وقد لا يعطينا ذلك السرّ، ولكننا نؤمن أنه في خط الحكمة والأسرار التي تجعل له دوراً في حركة الحياة من حولنا.
ارتباط الكتاب بالأئمة(ع):
ـ بما أنكم ذكرتم أن كتاب الله وعترة رسول الله(ص) لم يفترقا إلى يوم القيامة، إذاً كيف يمكن أن يكون ارتباط كتاب الله مع الأئمة(ع) في حال غياب الإمام الحجّة(عج)؟
هذا ما نستدلّ به على بقاء الحجة(عج) لأن النبي(ص) يقول "لن يفترقا حتى يرِدا عليّ الحوض"، فما دام الكتاب موجوداً فلا بد أن يكون أحد العترة موجوداً أيضاً.. وهناك رواية رواها السنة والشيعة وهي "إن الخلفاء اثنا عشر كلهم من قريش"، والرقم (12) لا ينطبق إلا على أئمة أهل البيت(ع).
ـ وهل يوجد للإمام أي تأثي حين يجتمع علماء أمتنا على الخطأ مع العلم أن النبي(ص) قال: "لا يمكن أن يجتمع فقهاء أمتي على الخطأ"؟
أولاً: لا يجتمع فقهاء الأمة على خطأ، وثانياً: الحديث المذكور غير صحيح.
الوراثة أم الكفاءة؟
ـ هناك شبهات تُثار حول سلسلة الأئمة(ع) وتوارث الإمامة، فما هو ردّكم؟
ليست القضية في الإمامة قضية وراثة وإنما قضية كفاءة، ولذلك كان كل إمام من الأئمة استثناء يملك كفاءة عالية وفذّة تؤهّله لذلك، فالوراثة ليست هي التي أهلتهم لهذا الموقع الذي يتطلب كفاءة خاصة، بل هي الكفاءة التي دلّلوا عليها بشكل خاص.
علم الإمام علي(ع) الجمّ:
ـ من أسباب إنكار بعض الباحثين لكون (نهج البلاغة) من كلمات الإمام علي(ع) هو هذا العلم الجمّ في مختلف المجالات، سواء في العلوم أم في المعنويات، حيث يقول هذا البعض إن هذا العلم لم يجمعه أي صحابي، فكيف جمعه الإمام علي(ع) ويعتبرون ذلك دليلاً على أن (نهج البلاغة) وضع في فترة متأخرة عن عصر الإمام؟
إن الذين يتحدثون بهذه الطريقة لا يفهمون علياً لأنهم يتحدثون عن علي(ع) كما يتحدثون عن أي صحابي وعلي ليس كذلك، لأن علياً(ع) كان كل رسول الله في علمه، وقد ورد الحديث عن رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها"، وقد حدّثنا عن هذا العلم في كلمته المشهورة "علّمني رسول الله ألف باب من العلم" وكلمة ألف باب لا تعني ألف حكم بل أف باب من العلم، والباب يمثل المنطقة التي تشتمل على  خطوط العلم الواسعة في هذا المجال "علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب".
إن الإمام لم يكن يتلقى العلم فحسب، بل كان ينتجه عندما كان يتعلم من رسول الله كل ما أعطاه، فإنه كان ينتج من ذلك علماً جديداً "يفتح لي من كل باب ألف باب" ونحن نعرف أن علياً كان تلميذ القرآن كما هو تلميذ رسول الله(ص)، وقد وعى علي القرآن في نزوله كما لم يعِه أحد إلا رسول الله الذي قال له: "إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع ولكنك لست بنبي"، وكان مع رسول الله(ص) ليله ونهاره، وكان يقول "أنا أعرف كل آية أين نزلت وفيمن نزلت" وما إلى ذلك.
ونحن نعرف أن القرآن الكريم يمثل الكتاب الذي لا يزال الناس، مع كل هذه القرون، ينفتحون عليه ويستلهمونه ويستوحونه ويفهمونه كما لو كان كتااً نزل الآن، فهو يتجدد ويجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر، فكل جيل من الأجيال يرى أن القرآن يتحدث عن قضاياه كلها كما لو كان نزل عليه، وكان يقول في أواخر أيامه "سلوني قبل أن تفقدوني، فإن بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض"، وعلي(ع) هو الذي قال وهويتحدث عن معرفته بالله "لو كُشِف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً" فعلي شيء آخر غير هؤلاء الناس، مع احترامنا لكل الناس، وهو بشر وليس بنبي "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي".
ولكن رسول الله(ص) أعطاه كله، ونحن نعرف أن رسول الله(ص) عاش الغيب والقرآن وكل ألطاف الله من وحي الله.. هذا عندما نتحدث عن علي(ع) في الحالة الطبيعية، وأما عن الفيوضات التي أفاضها الله على علي فهناك آفاق وامتدادات أخرى لا يعرفها الناس.. لذلك أن يتحدث علي(ع) عن المستقبل وعمّا لا يألفه الناس من المعنويات ومن القضايا الأخرى، فهذا أمر لا غرابة فيه، لأن الناس كانوا لا يعرفون الكثير، وفيما كان علي(ع) يعرف الجمّ الكثير، حتى أن بعض المفسرين لنهج البلاغة يتحدثون عن أن علياً(ع) خطط لكثير من العلوم والخطوط التي تحرّك الناس فيها بعد ذلك.
ما قاله الني(ص) في خلافة علي(ع):
ـ تحاورتُ مع أخٍ لي حول موضوع خلافة الإمام علي(ع) من بعده، وقال لي إن كل ما ورد في خلافة الإمام علي(ع) بعد الرسول(ص) غير صحيح، لأنه يناقض القرآن، فالقرآن يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}( )، وهناك أشياء كثيرة قالها الرسول في حياته وذكر أنها ستتحقق في المستقبل وقد تحققت فعلاً بعد وفاته، لكن خلافة الإمام علي بعد الرسول لم تتحقق مما يدل أن الرسول لم يقل شيئاً من هذا القبيل، فلو قاله لتحقق؟
هذا الرجل لا يفهم المسألة كما ينبغي، لأن أكثر ما جاء عن النبي(ص) في حق علي(ع) متواتر بين السنة والشيعة و(حديث الغدير) أيضاً تواتر عن السنّة والشيعة من خلال من رووا من الصحابة والتابعين، لكن هناك نقاشاً في دلالته من قبل أهل السنة وليس في أصل صدوره، فهو صدر يقيناً في كلمات النبي(ص) لا سيما في يوم الغدير..
أما قوله: {وما ينطق عن الهوى} فهو يؤكد على أن النبي(ص) نطق بخلافة علي(ع) من جهة التكليف الإلهي لا من جهة أنه ابن عمه، أما أنه تحقق أو لم يتحقق فهذا ليس فقط في خلافة علي، بل من جهة أنه ابن عمه.. أما أنه تحقق أو لم يتحقق فهذا ليس فقط في خلافة علي، بل في الإسلام كله {قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}( )، فلم يتحقق الإسلام كله ولم يؤمن كل الناس بالنبي(ص)، هذا فضلاً عن أن الني(ص) لم يطرح الروايات في حق الإمام علي(ع) على نحو النبوءات لنقول إنها تحققت أو لم تتحقق، بل كان يثبت حقاً لصاحب حق ومن موقع الأخلية والكفاءة والأرجحية، فعلى صاحبك أن يعيد النظر في ثقافته وفهمه للأشياء.
الإحسان في العقب:
ـ في قول الإمام علي(ع) "أحسنوا في عقب غيركم يحفظكم الله في عقبكم" هل يشمل الإحسان الأولاد فقط أم الأقرباء الآخرين أيضاً؟
هذه الروايت مطلقة بالنسبة إلى الآخرين وهي من قبيل تحنّنوا على أيتام الناس يتحنّن الله على أيتامكم" فالله يحمي عقبكم كجزاء منه سبحانه وتعالى.


الفصل الخامس


المسائل الفكرية


"لا نمانع من أن يكون هناك تيار حداثة وتيار تراث وتيار وسطي، ولكن علينا أن نعالج واقع هذه المفاهيم.. فالحداثة والرجعية لا تُقاس بقدم التجربة وحداثتها، بل بغناها وبما ينفع الناس"

هل التراث عائق؟:
ـ هناك بعض الأدباء يعتبرون التراث عائقاً أحياناً في وجه التقدّم ولا يولون كتب التراث الإسلامي ما تستحق من عناية واهتمام، حتى أنهم أطلقوا على تلك الكتب اسم (الكتب الصفراء) ويفتخرون في أنهم لا صلة لهم بكتب التراث الإسلامي، فما هو سبب ذلك؟
سبب ذلك هو انتفاخ الشخصية الثقافية لدى هؤلاء، كما قال (المتنبي) عندما خاطب (سيف الدولة):
    أعيذها نظراتٍ منك صادقةً        أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ    
فهؤلاء يعيشون تورّم الشخصية الثقافية من دون شحم ثقافي داخل شخصياتهم، فنحن لا نجد أي شعب في العالم يحتقر تراثه بقطع النظر عن أن هذا التراث يمكن أن يمثل قيمة حاضرة في مضمونه الديني أم لا.. فشعوب العالم التي تدين بالوثنية تخلّد التراث الوثني كله، والتراث المتخلّف كله، لأنها تعتبر أن هذا التراث مهما كانت قيمته فهو يمثل الجذور الأولى للأمة التي قد تكون لها جذور سلبية تؤثر في مسيرتها لا شعوريا، وقد تكون لها جذور إيجابية.
المشروع الإسلامي المتطوّر:
ـ ما هو المشروع الإسلامي في ظل المذاهب الإصلاحية المتعددة والتي ترى أن طريق التنمية لا بد أن يمرّ عبر الحداثة لأنه من نتائج التطور؟ وهل تعدّ العودة إلى التراث رجعية؟
إن مشكلة بعض الناس هي أنهم يعطوننا كلمات منفوخة، فهي كالطبل تدق عليها فلا تسمع سوى صوت يربكك ويرعبك، ولكن ليس في داخل سوى الخواء، وهكذا الأمر مع كلمات من قبيل (حداثة) و(تطوّر) و(رجعية) و(تقدمية) فما هي يا ترى أصول الحداثة؟ إنها ـ أي الحداثة ـ تمثل تجربة ثقافية وأدبية تنطلق من ذهنية معينة تلتزم أسلوباً في الشعر والنثر وفي تقييم الأشياء، وهي بالتالي فكر بشري، والتراث أيضاً فكر بشري.
ولا يمكن للحداثة أن تملك غنى في داخلها إذا لم تكن لها جذور في فكر الأمة، لأن العلم لم يولد من فراغ، وليس هناك علم ولا أدب إلا وقد ولد من خلال التراكمات الثقافية التي تصنع للإنسان جذوره الفكرية التي يستطيع من خلالها أن يتابع حياته( ).
فهؤلاء يريدون أن يعيشوا دمى هذه الكلمات التي يمكن أن تثير شهبة اللهو، فكنك عندما تدرسها فإنك لا تجد داخلها الشيء الكثير.
ولا نمانع من أن يكون هناك تيار حداثةوتيار تراث وتيار وسطي، لكن علينا أن نعالج واقع هذه المفاهيم، وعند ذلك يمكن أن نجد أن بعض التراث أكثر حداثة من بعض الجديد، لأن مسألة الحداثة والرجعية لا تُقاس بقدم التجرية أو  حداثتها، بل بغنى التجربة بما يمكن أن ينفع الناس ويحقق النتائج الكبرى للإنسان.
نحن والعولمة:
ـ إلى متى يقوم الغرب بتصدير ثقافته وأفكاره إلينا، فهو في كل يوم يطلع علينا بصيحة جديدة وآخرها (العولمة)، والسؤال هنا متى يقوم علماء الإسلام ومفكروهم بإطلاق صوت الإسلام إلى كل العالم؟
مع الأسف، إننا مشغولون بخلافاتنا التاريخية والمذهبية والطائفية والسياسية الصغيرة، وبما لا يحقق لنا إلا النتائج السلبية.
فالغرب قد تخفف من ذلك كله، فلقد كانت هناك حروب طاحنة في داخل كل مذهب مسيحي، ولكنه استطاع أن يصل إلى مستوى بحيث أصبح يفكر في الحياة والمستقبل وفي الإنسان، فيما لا نزال نفكر في كيفية إتعاب أنفسنا، وتدمير بعضنا بعضاً، ولا نزال أيضاً نتناقش في جنس الملائكة وهل أن الدجاجة أصل البيضة أو أن البيضة أصل الدجاجة.
في حين أن هناك أسساً في العقيدة لا بد لنا أن نحددها وأسساً في الشريعة لا بد لنا أن نركزها، وأسساً واسعة في مناهج الحياة لا بد أن نلتقي عليها ونعمل بها.
فالمسألة هي أننا لسنا جديين في قضايانا، فنحن نوظّف دائماً العام للخاص ولا نوظّف الخاص للعام، ولذلك ترى الغرب يطرح كل يوم صبيحة وهو يعمل من أجل أن يسيطر على العالم العربي والإسلامي وثرواته ومواقعه الاستراتيجية وثقافته وسياسته وأمته.. وأما دورنا فدور التلقي، فعندما يطرحون (العولمة) يجب أن ندرس أي عولمة يريدون، فهناك عولمة ثقافية وأخرى سياسية وثالثة اقتصادية وأخرى أمنية، فهي تسقط كل الحواجز لدمجها في الجو العام، والقادرون على استثمار العولمة هم الغربيون، فهم يملكون الاقتصاد القوي والأمن الطاغي والمواقع الثقافية المتقدمة والإعلام المهيمن، ونحن لا نملك إلا الفتات من ذلك كله، بل لا نريد أن نملك، فالمشكلة ليست في أننا لا نملك ما نحرّكه بل نحن كما قال الشاعر:
    كالعيس في البيداء يقتلها الظما        والماء فوق ظهورها محمولُ    
فلا يكفي أن تكون لديك ثروة، بل عليك أن تعرف كيف تستعمل الثروة، فبعض الناس يملك مليون دولاراً ولا يستطيع أن يحرّك منها سوى مئة دولار، فهذا هو حجمه، فهل ترانا نستطيع أن نحرك ثرواتنا في حجم قدراتنا وحاجاتنا؟ فانظر ـ مثلاً ـ ترى أن إمارات صغيرة جداً تشتري بمليارات الدولارات أحدث الطائرات وهي ليس لديها خبراء ولا حاجة لها بتلك الطائرات كما (الأواكس)، بل كل ما في الأمر أننا إذا حاربنا بعضنا بعضناً فإن الأمريكان يأتون لاستخدامها، فهم الذين صنعوها وهم الذين أخذوا ثمنها كما أن الإشراف من قبلهم وقطع الغيار منهم.
فهل استخدمت (الأواكس) ذات مرة ضد الكيان الصهيوني؟
منع الحجاب في تركيا:
ـ ماذا يتوجّب عمله على البنات المسلمات التركيات اللواتي منعن من ارتداء الحجاب في الكليات وطُرِدنَ منها بسبب ذلك؟
لقد قلنا أننا نتمنى أن تواصل المسلمات التركيات ولا سيما الطالبات جهادهنّ في سبيل كسر هذا القانون، وقد أثبتت طالبات الجامعات التركية أن المرأة المسلمة تستطيع أن تجاهد إلى جنب الرجل في سبيل حفظ كرامة الإسلام والمسلمين، ونريد للمسلمات مواصلة هذا الجهاد، ولكن عندما تصل القضية إلى الطريق المسدود بحيث يصبح ترك الدراسة حرجاً عليهن، ونحن نريد للمراة المسلمة أن تتعلّم كما نريد ذلك للرجل المسلم، فيمكن أن يتخذن الشعر المستعار غطاءً للشعر الأصيل في وقت منعهم من الحجاب فقط، ولا يجوز ذلك إلا في حال الحرج والضرورة بحيث لا تستطيع الطالبة ترك الدراسة، لأن ذلك يعقّد حياتها أو يؤدي إلى ترك المسلمات الملتزمات الدراسة إلى مخاطر كبيرة في المستقبل مما يضر بالدين ومصالح المسلمين، فيمكن والحال هذه أن تضع شيئاً يستر العنق، وفي غير ذلك يعتبر هذا من إبداء الزينة ومما يشبه التبرّج وهو غير جائز شرعاً.
هل التخلّف طبيعي:
ـ هل تعتقدون أن سبب التخلّف ظاهرة طبيعية في الإنسان أم أن الظروف التاريخية هي التي جعلت منه إنساناً متخلّفاً؟
إن المسألة ليست كذلك، فالتخلّف ليس ظاهرة طبيعية في نفس الإنسان المتخلّف، فهناك أمران في هذه المسألة:ط
فمرة هناك متخلّف عقلياً، مما قد يكون ناتجاً عن أسباب وراثية أو من حالات مرضية.
ومرة هناك تخلّف في الوعي والفكر والسلوك، وهذا ينشأ من طبيعة الواقع الذي يتحرك فيه الإنسان.
مناقشة رأي في الدولة الإسلامية:
ـ قال بعض العلماء ليس هناك أي دليل لإقامة دولة إسلامية، وإنما يطلب منا إقامة دولة وحسب، وليس من الضروري أن تكون إسلامية، فما هو رأيكم؟
يقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}( )، وفي آية (الكافرون)، وفي آية (الفاسقون) {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}( )، فالقرآن كله دعوة إلى أن ينطلق المجتع كلّه بالإسلام، وهل يمكن أن ينطلق المجتمع الإسلامي في القضايا العامة والخاصة بدون دولة إسلامية؟!
في أي إسلام أدخل؟!
ـ أنا شاب فرنسي أريد الدخول إلى الإسلام ولكنني أنظر فأجد أن الإسلام مقسّم إلى عدة مذاهب، فأتردد في الدخول فيه لعدم معرفتي بالتفاصيل؟
إن العالم أيضاً مختلف في مبادئه وأديانه، فنحن لا نعيش في عالم موحّد في أفكاره، وفي مذاهبه، فالمسيحية لها عدة مذاهب والماركسية كذلك، والعلمانية أيضاً، فعلى الإنسان أن يبحث عن الحقيقة وهو واجدها إن جدّ في البحث والدراسة والفحص والتدقيق.
مكرهة على الحجاب:
ـ أنا فتاة في السابعة عشر من عمري وقد أكرهت على ارتداء الحجاب من قِبَل أهلي بطريقة منفّرة مما أزّم حالتي النفسية وسبّب كرهي لهذا الزيّ، فما هو رأيكم؟
إذا كانوا أساءوا الطريقة التي يمكن أن تحبب إليك ما يحبه الله لك من الحجاب، فالذنب ليس ذنب الحجاب ولا ذنب الإسلام، ثم إن قضية الحجاب لا علاقة لها بأهلك، فإذا كنت مؤمنة مسلمة تحبين الله وتخافينه فإن الحجاب يمثل حكماً شرعياً إلزامياً لكل امرأة، ولذلك إذا جاءك الشيطان في وسوسته وقال لك إن عليك أن تثأري من أهلك بنزع الحجاب، فأجيبيه بأنك إذا نزعتيه فإنك تثأرين من نفسك، لأن ذلك سوف يؤدي بك إلى غضب الله وهذا ما لا تحمله السماوات والأرض.
لذلك نحن ننصحك بدراسة الأمر دراسة موضوعية في الحجاب وأن تسألي نفسك ما إذا كنتِ ملتزمة بالإسلام وبما يريد الله ورسوله، إن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}( )، لذلك عالجي نفسك بمحبة الله وبالأمل به، فهو الذي يمنحك سعادة الدنيا والآخرة، واعتبري الحالة النفسية مجرد غمامة صيف سوف تزول من خلال وعيك.
إنني في موقف أن أفتح عقلك وقلبك ومستقبلك على طاعة الله وعدم معصيته، فترك الحجاب معصية لله، والالتزام به طاعه له، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}( ).
مناقشة "الأنبياء لا يورّثون":
ـ ما هو رأيكم بحديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث"؟
هذا الحديث لم يروِه أحد إلا شخص واحد، وعندما ندرس القرآن نجد أن القرن يتحدث عن وراثة أولاد الأنبياء للأنبياء كما في قضية (زكريا) عندما طلب من الله أن يرزقه ولداً يرثه ويرث من آل يعقوب، ثم هناك نقطة أخرى لا بد أن نناقشها وهي أن أظهر المصاديق لهذا الحديث هي الزهراء(ع) لأن النبي(ص) لم يترك إلا ابنته وزوجاته، ونعرف كيف هي محبة النبي(ص) للزهراء(ع)، وهناك أحاديث تحدث فيها عن الزهراء(ع): "فاطمة بضعةٌ مني"( )، "فاطمة أم أبيها" وهذه المحبة النبوية الأبوية الرسالية للزهراء(ع) ألا تدفعه إلى أنه يخبرها بحكم شرعي يتعلق بها وحدها أو بها وبزوجاته أو يخبر المسلمين كلهم بهذا الموضوع؟ خاصةً وأنه ليس من الموضوعات التي تترك تأثيرات كبرى بعد وفاة النبي(ص) وتترك تأثيراً سلبياً على الزهراء(ع)، فكيف لم يخبر النبي(ص) الزهراء بذلك وهي صاحبة المصلحة، لأنها هي التي ترث النبي(ص) فلا أحد من الصحابة ولا أحد من أعمامه يرثه حتى علي(ع)، فهذا الحكم حكم خاص وليس عاماً، فالمفروض أن يخبر الزهراء(ع) أولاً من جهة حكمها الشرعي وهي المعصومة في عقيدتنا، وثانياً أن يخبرها من جهة محبته لها، ثم أنه لم يخبر إحدى زوجاته في ذلك، لا عائشة ولا أم سلمة ولا غيرها، فما هي المناسبة في أن بخر أبا بكر فقط، الا يبعث ذلك على الغرابة والتساؤل.
النقل بعنوان الرواية:
ـ إذا لم يثبت الحديث بحجة شرعية فنقله كذب على رسول الله(ص)، وعلى رأي بعض الفقهاء يفطر الصائم، فكيف يستطيع الخطيب أن يعرف الحديث الصحيح من الفاسد والعلماء مختلفون في ذلك، فبعضهم يرى صحة حديث وآخر يرى عدم صحته؟
عليه أن ينقله بعنوان الرواية، فيقول روي عن رسول الله(ص) ذلك وروي عن الإمام الصادق(ع) ذلك، ولا بد أن يضمن موافقة هذا الحديث للمفاهيم القرآنية، ولما صحّ عن رسول الله(ص)، فإذا كان غير متأكد من صحته فعليه أن ينقله بعنوان الرواية لا بعنوان أن النبي(ص) قاله، أو أن الإمام(ع) قاله.
أسس توثيق الحديث:
ـ كما تفضّلتم في قوله تعالة: {ما أتاكم الرسول فخذوه}( )، أن هذا يعني الأخذ بكل ما جاء به رسول الله(ص) فكيف يكون التمييز، وما هي أسسه، وكيف تعتمدون الحديث وما هي أسس توثيقه لديكم؟
نحن نعتمد الحديث الموثوق الذي تكون وثاقته من وثاقة الراوي وقد يكون من خلال القرائن الداخلية والخارجية التي نثق بصدور الحديث عنها.
سبب التعصّب:
ـ ما تفسيركم لظاهرة التعصّب التي تتولّد لدى الفرد عندم ينتسب أو ينتمي إلى جهة معينة، وخاصة إذا كانت هذه الجهة صاحبة فكر؟
إني أفسّر التعصّب بالجهل وضيق الأفق، لأن معنى أن تتعصب هو أن تغلق عقلك وقلبك عما لدى الآخر الذي تتعصب ضده، ومعنى أن تتعصب هو أن لا تعتبر للآخر أي حق في أن يفهم القضايا بغير طريقتك، وأن تعتبر أنك وحدك الذي تملك الحقيقة المطلقة، وأن تعتبر الآخر الذي تختلف معه شيطاناً مبطلاً ضالاً وكافراً وما إلى ذلك.
وهذا يمثّل ضيق الأفق، لأنك عندما تنظر في قضايا الفكر التي يختلف فيها المفكرون ويجتهد فيها المجتهدون، لا بد أن تضع في فكرك أن من الممكن للآخرين أن يختلفوا معك، ك ما أن من الممكن أن تختلف معهم، فالنص أو الفكرة أمامك، وقد ترفض ما لدى الآخرين، فلماذا لا عتتبر أن من الطبيعي أن يكون للآخرين رفض ما تقتنع به!
ومن الممكن أن تتهمهم بأنهم لم يفهموا القضية وأنهم أخطأوا في فهمها، ولكن أن تقول لهم لماذا تفكرون بغير هذه الطريقة، فمعنى ذلك أنك تختصر الإنسانية في شخك، قل له ـ للآخر ـ لقد أخطأت وأن هناك وجهة نظر أخرى قد تكون أفضل من وجهة نظرك.
وإذاً، فهناك فرق بين الالتزام وبين التعصب، التزم بفكرك ولا تتنازل عنه قيد شعرة، ولكن اترك الآخر يقدم فكره، وادخل معه في حوار علمي موضوعي حول ما هو الحق في فكرتك وفكرته، وهذا هو الذي انطلق به الإسلام الذي لم يقل لماذا فكرتم، بل قال: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}( )، والقرآن قال لبعض الناس الذين لم يأخذوا بأسباب العلم ورفضوها: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}( ).
قل له ـ للآخر ـ إنك لا تملك ثقافة ما تختلف معي فيه، أو أنك تنكر من غير قاعدة ثقافية، قل له أنك أخطأت، وقل له هات برهانك، وهات حجّتك، أما أن تصادره تماماً، فالتعصّب حالة من الحقد لا حالة من الفكر، والتعصب قد يكون ناشئاً من ضعف، وذلك بأن تتعصب فتشتم وتعتدي لأنك لا تملك الحجة.
وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع) في ليلتي عرفة والجمعة: "وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة، وإنما يعجل من يخاف الفوت ويحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علواً كبيراً".
فالظلم مظهر عقدة ضعف في النفس، فعندما تكون قوياً في فكرك فإنك لا تمنع الآخر من أن يقدّم فكره لك.
المحامي في القضاء الإسلامي:
ـ هل يمكن في نظام القضاء الإسلامي وجود المحامي، ولو وجد فما هي وظيفته؟
لا مانع من أن يكون هناك محامٍ يحاول أن يعين القاضي على تلمّس الحق في قضية موكّله، لأن الحامي يأتي ويقدّم للقاضي الحجج والمعطيات التي تعينه على فهم القضية، لأن القضاء ليس دائماً مجرد مسألة مبسّطة بأن يقول القاضي أين الشهود ويأتي المتهم بالشهود فيشهدون وتحكم المحكمة.
فنحن عندما ندرس تجربة أمير المؤمنين(ع) في القضاء نجد أنه كان يتخذ أساليب نفسية معينة في التحقيق، كما يوحي لأحد المتهمين أن الآخر اعترف، فهو لا يقوله له ذلك صراحةً، لأن ذلك كذب، بل يضغه في جو اعتراف الثاني حتى يحصل على الاعتراف منه، وكان يستعمل طرقاً معقّدة من أجل استجلاء الحقيقة، فإذا كانت مهمة القضاء أن يقضي القاضي بالحق وكان المحامي مؤمناً يخاف الله فإنه يمكن أن يقدّم مرافعته من أجل أن يقرّب للقاضي الأمور التي تجعله يحكم لمصلحة موكله وذلك بعد التدقيق والمرافعة والاستماع إلى دفاع المتهم وغير ذلك.. ولذلك يبقى للمحامي دور كبير في القضاء.
الموقف من (لجنة المحلّفين):
ـ يوجد في النظام القضائي الغربي ما يسمّى بـ(لجنة المحلّفين)، فما هو موقف الإسلام منها؟
إن الإسلام يرفض هذا النظام القضائي، لأن الإسلام يريد من القاضي أن يكون متخصصاً في الفقه بحيث يملك المعرفة القانونية الفقهية، وأن يكون عادلاً في دينه بحيث تكون سيرته في حياته العامة سائرة على خط الاستقامة، ولا يكفي أن تأتي بجماعة من سائر الناس وتحلّفهم لأنهم إذا لم يكونوا أمناء على الخط الشرعي فكيف يمكن أن يكونوا صادقين في هذه الحال.
ففي الإسلام لا ينفذ إلا قضاء الفقيه العادل المتمرّس الخبير، ولذلك فإن نظام المحلّفين نظام غير شرعي، كما أننا عندما ندرسه من ناحية واقعية من خلال التجربة الموجودة في أمريكا التي تأخذ حتى الآن بهذا النظام نجد أن المحلّفين قد يخضعون لحملة إعلامية ضد هذا المتهم أو ذاك، وقد يتعرضون لكثير من الضغوط النفسية، أو من خلال بعض الأوضاع السياسية التي قد تجعلهم يحكمة على البريء من خلال هذه الضغوط.
استفتاء القلب:
ـ قال رسول الله(ص): "البرّ ما اطمأنّت إليه النفس والبرّ ما اطمأنّ إليه الصدر، والإثم ما تردّد في الصدر وجالَ في القلب، وإن أفتاك الناس وإن أفتوك"( )، فما صحة هذا الحديث وكيف يوجه في حياتنا وخاصة في ظروفنا الحالية والفتوى تناقض بعضها بعضاً؟
هذا الحديث لا يتعرض لعالم الفتاوى، بل إنه يدور في مسألة الخير والشر، فالبر هنا الخير، فإن الإنسان مفطور على الخير لو لم يزحف الشر إلى قلبه، فعندما تفتح قلبك من دون أية أجواء أو أي ظروف أو رواسب فإن قلبك لا بد أن يلتقي بالفطرة وبذلك فإنه ينفتح على الخير ويتعاطف معه ويرفض الشر ويبتعد عنه.
أما قضية اختلاف الفتاوى فهي ناشئة من اختلاف الاجتهادات، ونحن لا نزال نطالب بأن تتحول المسائل الاجتهادية إلى شورى بين المجتهدين، بحيث يجلس المجتهدون إلى بعضهم البعض ويتناقشون في القضايا ويخرج الرأي الذي يمكن أن تقود الشورى إليه رأياً موحداً أو متقارباً.
فكرة دورات الحياة والعدل:
ـ يطرح عالم مصري وبأدلة قوية ونقلية من الحديث والقرآن فكرة دورات الحياة للإنسان لتحقق العدالة في أن يأتي الشخص منا بعدة مرات ليختبر عدة مرات، وأن الأولى أن الإمام المهدي(عج) هو نفسه الرسول(ص)، فما هو رأيكم بهذه الفكرة؟ وكيف نفندها بالأدلة؟
ليست القضية كيف نفندها بالأدلة، بل كيف يثبتها الذي طرحها بالأدلة، فعندما ندرس التراث الإسلامي كله سواء ما لدى السنّة أو الشيعة نرى أنهم يتحدثون عن افمام المهدي(عج) على أساس أنه من أولاد الرسول(ص) وإن اختلفوا في هل أنه ولد أو لم يولد، ولكنهم يتفقون على أنه من أولاد الرسول(ص) وليس هناك من يقول بغير ذلك.
أما من يحاول أن يؤوّل ذلك بطريقة لا تثبت أمام النقد فذاك شأن آخر، فنحن نعتقد أن لا دليل على ذلك، ولا مانع من أن نستمع إلى الدليل الآخر.
النتائج السلبية لعيش المرأة في الظل:
ـ قال أحد الغربيين إن كون المرأة المسلمة عاشت في الظل أدّى إلى أن تلعب دوراً كبيراً سيئاً من وراء الكواليس بسبب حرمانها من الحضور الاجتماعي كما هو متاح للرجل، فما هو رأيكم بقوله؟
إن إبعاد المرأة عن ساحة الواقع الاجتماعي أوجب الكثير من السلبيات على مستوى المرأة الفكري والروحي والعملي، لذلك لا بد أن يتدبر المسلمون الخطة التي يستطيعون من خلالها أن يعطوا المرأة دورها في حركة المجتمع مع المحافظة على المبادئ والأخلاق الإسلامية.
ونحن نستوحي من قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}( )، أن المرأة يمكن أن تتحرك مع الرجل في مواجهة الواقع السياسي والاجتماعي، فثورة الإمام الحسين(ع) تختصرها كلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك كانت زينب(ع) إلى جانب الإمام الحسين(ع) وكانت السيدة الزهراء(ع) إلى جانب علي(ع) وكانت خديجة إلى جانب النبي(ص) وأن الزهراء(ع) قامت بدور سياسي متميز وهكذا ابنتها زينب، وكانت الزهراء(ع) أول امرأة مسلمة تخطب في الرجال وتناقشهم وتقيم الحجة عليهم.
فتاريخ المرأة المسلمة في عهد النبي(ص) أفضل من تأريخ المرأة المسلمة في عهودنا.
الاعتراف بعلمانية تركيا:
ـ لماذا لا نعتبر بالعلمانية في تركيا، فقد لا تعود تركيا يوماً ما إلى الحظيرة الإسلامية؟
كإسلاميين نرى أنه لا بد أن يخضع القانون والسياسة والقضاء للإسلام، ولذلك فإن العلمانية ـ بهذا المعنى ـ ترفض الدين في الأمور العامة، ومن هنا فنحن لا نؤمن بها وننتظر أن ينطلق الشعب التركي من أجل أن يعود بتركيا إلى الإسلام.
في الشعر الحرّ:
ـ في حوار مجلة (العالم) معكم حول الشعر قلتم إن الشعر الحرّ لا يزال غليظاً على الأذن العربية ولم يستطع أن يحل مكان الموسيقى الشعرية التي يختزنها الإنسان العربي، فكيف استطاع الشعر الحرّ أن يدخل الذائقة العربية دون التقليدي، وهل للغناء به دور في تذوّق الناس له؟
إن للشعر الحر تجارب جيدة، لكنه لم يستطع أن يتعامل مع الأذن العربية بشكل تتقبله تقبّلها للشعر المقفّى (العمودي) قريضاً وشعبياً، ومن الممكن أن يهتز بعض الناس للشعر الحر الذي فيه موسقى شعرية، وربما كان للغناء تأثير في إقبال الناس أو عدم إقبالهم كوسيلة من وسائل الترويج للشعر وغير ذلك على هذا اللون من الشعر بقطع النظر عن الجانب الشرعي لجهة حرمة الغناء شرعاً.
دراسة ونقد المسيحية:
ـ درس الغرب الإسلام وحشّد مؤسساته لنقده وعدائه، فهل فكرنا بدراسة المسيحية ونقد مفاهيمها وتناقضاتها، ومتى تؤسس مراكز دراسات تتابع الغرب ونقض فكره؟
لم تعد المسألة فقط مسألة دراسة المسيحية أو اليهودية، وإن كان من الضروري أن ندرسهما لا سيما أن القرآن تحدث عن أهل الكتاب كما تحدث عن المسلمين، ولا بد أن نعرفهم لأن القرآن حاورهم، ولكن المسألة الآن هي مسألة الفلسفة المادية والعلمانية والفكر الجديد الذي أصبح يتحدانا، فهذا هو ما ينبغي لنا أن ندرسه حتى نستطيع أن نواجهه بالطرق العلمية.
العقل الحجّة:
ـ ما المقصود بالعقل الحجّة كمدرك للاستنباط، وما رأيكم في حجيّة العقل كمدرك؟
المقصود بالعقل الحجة هو الملازمات العقلية، لا العقل التأملي التجريدي، ويكون العقل حجة شرعاً إذا كان قطعياً، هذا مع ملاحظة صعوبة القطع بملاكات الأحكام الشرعية.
دور الفلسفة في الاستدلال:
ـ هل تعين الفلسفة الفقيه في مجال الاستدلال؟
أنا لا أعتقد أن للفلسفة دوراً، بل هي قد تخرّب ذهنية الفقيه بطريقة أو بأخرى.
ماذا نأخذ من الغرب؟:
ـ نحن نعيش في الغرب ونرجو أن تبيّن لنا ماذا نرفض وماذا نقبل من فكر الغرب وأساليبه؟
إننا نحتاج إلى دراسة كل ما لديهم من أفكار، ونختصر الأمر بالقول أن علينا أن نعرف فكر الإسلام ونأخذ به، فإذا استطعنا ذلك عرفنا ما نرفض من فكر الغرب مقارناً بالإسلام، أو ما نأخذ ن فكر الغرب مقارناً بالإسلام، فالإسلام هو الأساس في الرض والقبول.
مناقشة عدم صلاحية النظرية الشيعية للحكم:
ـ يقول أحد المفكرين أن النظرية الشيعية في الحكم غير صالحة لإدارة الأمة الإسلامية لأنها تحمل إطاراً مذهبياً؟
وفق هذه النظرة يمكن أن يقول آخر أن النظرية الإسية غير صالحة للإدارة، لأنها تحمل فكراً دينيا لكننا نقول إن النظرية الشيعية استطاعت أن تجرّب الحكم بنجاح عى مستوى إدارة ا لدولة في إيران وهي تمثل حكماً واقعياً جيداً وإن لم يكن قد استكمل كل عناصره، وليس لدينا حكم استكمل كل العناصر.
وبالنتيجة فليس هناك نظرية حكم إلا وهي تخضع لمذهب معيّن، فالمسألة هي: ما هي عناصر هذا المذهب، وهل تستطيع أن تقدم للأمة حكماً صالحاً وتصل بها إلى أهدافها أم لا.
إثبات جدارة الحضارة الإسلامية:
ـ في ظلّ هيمنة الحضارة الغربية، هل يستطيع المسلمون إثبات جدارة مبدئهم وحضارتهم، علماً بأن مدنيتهم الحالية هي من بنات الحضارة الغربية؟
إن الإسلام قادر على مواجهة لحضارة الغربية، ولكن هل يبقى المسلمون مسلمين في أخذهم بالإسلام وتحريكهم للواقع على أساس العناصر الحضارية الإسلامية، أم أنم يقلّدون الغرب في ذلك؟
مناقشة "التاريخ لا يعيد نفسه":
ـ ما صحة المقولة "التاريخ يعيد نفسه"؟
إن للتاريخ سنناً، فهناك سنن مستمرة، وبذلك يعيد التأريخ نفسه من خلالها، وهناك سنن غير مستمرة، فلا يعيد التأريخ فيها نفسه لأنها لا تستمر مع حركة التأريخ.
على أن المعنى من ذلك أن التاريخ لا يعيد نفسه تفصيلياً، وإلا فهو يعيد نفسه على م ستوى السنن والقوانين التاريخية.
كراهة الزواج بالأقارب:
ـ ما صحة الحديث الذي يستنكره زواج الأقارب، علماً بأن الكثير من المعصومين تزوجوا من أقاربهم؟
ليس معنى ذلك أن زواج الأقارب مكروه، فالحديث يقول "تباعدوا كي لا تضووا" فالغاية من الزواج بين المتباعدين هي من أجل أن يكتسب النسل خصائص جديدة، ففي زواج الأقارب تبقى الخصائص ذاتها تتكرر، بينما في زواج الأباعد ـ ولو من طرف واحد ـ يمكن أن تتجدد تلك الخصائص، وفي هذا غنى للنسل الجديد وللإنسانية.
كيفية السموّ بالفكر:
ـ كيف يمكن للإنسان أن يجعل فكره يسمو إلى العلوّ والإنتاج؟
بأن يوجه فكره في الآفاق والمواقع التي يمكن له أن ينتج فيها علماً يوجه فكره في ألأسباب العلم والإنتاج في الواقع، ليخطط كيف ينمّي تجاربته ورعه وحقول نشاطه الأخرى.
ـ وكيف يستطيع الشاب أن يسخّر قواه وغرائزه في حب الله؟
ذلك بأن يعيش عظمة الله في نفسه من خلال أسرار الله في خلقه، وعظمة الله في نعمه من جهة ما أنعم عليه وأن يعيش مع الله ليعرف أن الحب لا بد أن يكون لله وحده.
البطء في تطور المؤسسات الإسلامية:
ـ الصفة الغالبة في المؤسسات الإسلامية التعليمية منها والتربوية هو البطء في حركة التطور ومحدودية الإنتاج، فما هي وجهة نظر الإسلام بالنسبة لتقديم هذا على غيره، وهل أن الكفاءة هي ملاك التقدّم أم الإيمان والخلق الحسن؟
الإيمان والكفاءة هما الملاك، لأن الله كما أراد للإنسان أن يكون مؤمناً أراد له أن يكون متعلماً {وقُل ربِّ زدني علماً}( )، فلا بدّ له إلى جانب ذلك من الكفاءة والإيمان والخلق الحسن.
وإن حديث السائل عن المؤسسات الإسلامية بهذه الطريقة ليس شاملاً، فنحن نعرف أن هناك مؤسسات غسلاميت في أكثر من بلد إسلامي تملك الكفاءة والإيمان معاً.
مناقشة أفكار:
ـ يتبنّى البعض الأفكار التالية، نرجو بيان رأيكم فيها؟
أولاً: عدم دلالة حديث الغدير على ولاية الإمام علي(ع).
في تصوّري أن الذين يثيرون هذه الأفكار لا يقرأون جيداً، بل يقرأون قراءة تحاول أن تفصل النص عن سياقاته وأجوائه مما يربك دلالاته ومضامينه، فلنقرأ قصة الغدير لنرى كيف كانت، فحديث الغدير من الأحاديث الثابتة قطعاً والتي دوّنتها مصادر الحديث المعتمدة عند المسلمين، فلا مجال للطعن فيه من قريب أو بعيد، ولقد رواه الكثيرون من الصحابة والتابعين التابعين بشكل لا يمكن لأحد أن يشكك فيه إن كان يفكر بالطريقة العلمية في توثيق الحديث وقد اعترف بتواتر حديث الغدير عدد من علماء السنّة.
ففي البداية، كان النبي(ص) قادماً من حجة الوداع والمسلمون معه، ويقال أنهم كانوا مئة ألف والبعض يقول عشرة آلاف، ومهما يكن الرقم فإن حجة الوداع مثّلت تجمعاً كبيراً للمسلمين الذين دخلوا في الإسلام، بحيث شملت كل مواقع العالم الإسلامي آنذاك، ففي منتصف الطريق والدنيا تلتهب ناراً في وقت الظهيرة، وأنتم تعرفون كيف تكون ظهيرة الصحراء في تلك المنطقة، نزلت على الرسول(ص) هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}( ).
فلو قرأنا هذا النص قراءة تحليلية فماذا نجد؟
إننا نتساءل: ما معنى أن الله تعاغلى يقول للنبي(ص) {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، فما هي القضية التي تحمل هذا المستوى من الخطورة؟ هل معنى ذلك حكماً شرعياً؟
إن النبي(ص) يومذاك كان قد بلّغ الرسالة كلها، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}( )، فكأن النبي(ص) إذا لم يبلّغ ما أنزل إليه من ربه في هذا الأمر لم يفعل شيئاً.
فهل هناك حكم شرعي يصل إلى هذا المستوى مما يجعل التقصير في إبلاغه للناس يعادل التقصير في إبلاغ الرسالة كلها؟ فلا بد أن يكون أمراً يمثل مسألة حيوية في عمق الواقع الإسلامي بما يكون شرطاً في سلامته وامتداده.
ثم يقول تعالى: {والله يعصمك من الناس} مما يوحي بحساسية المسألة وما سوف تثيره من أجواء رافضة، فأي حكم شرعي يمكن أن يثير الناس على النبي(ص)؟! فهو عندما  جاء بالرسالة ـ في أول عهد الدعوة ـ أثار المشركين وأهل الكتاب عليه، وأما أن تكون القضية في مستوى إثارة المسلمين فإننا لا نفهم قضية في هذا المستواى من الحساسية والإثارة إلا قضية (الولاية) لعلي(ع) في علاقته القرابية برسول الله(ص)، والولاية تعني ضمان امتداد الخط الرسالي من بعد النبي(ص)، بحيث لا يكون هذا الأمر مجالاً للنزاع والخلاف الذي يمكن أن يربك العالم الوحيد المتعين لهذا الأمر، والسبب أن قضية الخلافة ليست قضية إدارية فقط، وإلا فأي شخص يمتلك الخبرة الإدارية ـ خصوصاً إذا كان متقدماً في السن ـ يمكن أن يدير الواقع بنحو معقول.
فقضية الإسلام إذاً ليست قضية حكم، بل قضية استكمال لدور النبي(ص) في الدعوة وتأكيد الرسالة وتعميقها في واقع الوجدان الإسلام، لأن النبي(ص) لم يستطع بفعل الحروب والفتن والتحديات أن يستكمل عملية تعميق الإسلام في نفوس الناس.
فمن هن ـ يا ترى ـ المؤهّل للقيام بالدور الرسالي كما هي الرسالة في كل امتدادها في العلم والروح والجهاد والوعي والنظرة إلى المستقبل؟ فمع احترامنا لكل المسلمين ولا نريد أن نسيء إلى أحد، نرى أن علياً(ع) أخذ رسول الله(ص) كله ما  عدا النبوّة لأنه الشخص الوحيد الذي ربّاه رسول الله(ص) منذ طفولته الأول على روحه وإيمانه وخلقه واستقامته وصدقه وأمانته، حتى إذا بعثه الله رسولاً كان الثالث في بيت رسول الله(ص): علي وخديجة ورسول الله(ص)، فلقد عاش في بيت رسول الله وبقي يسمع ما يسمع ويرى ما يرى عندما ينزل الوحي عليه بشهادة علي(ع) في خطبته في "نهج البلاغة" قال: "إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنّك لست بنبي"( ).
ثم كان يعيش مع النبي(ص) في ليله ونهاره ولم يفارقه أبداً إلا في وقعة (تبوك)، وفي مكة لم يكن لعلي بيت مستقل، ولذلك تربّى مع السيدة الزهراء(ع) في طفولتها الأولى في بيت النبي(ص) فكانا تلميذي رسول الله(ص)، وقال(ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب"( )، وقال النبي(ص) مما يرويه الفريقان: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"( )، وقال: "علي مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"( )، وقال: "يا عليّ إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي"( ).
لذلك لم نجد في المسلمين سوى علي(ع) من احتلّ هذه المكانة عند رسول الله(ص)، ولقد كان علي(ع) يعي الرسالة كما يعيها رسول الله(ص) ولذلك كان الوحيد المؤهّل لأن يستكمل الدور الرسالي بالإضافة إلى الدور الإداري والسياسي وما إلى ذلك.
فالله عندما يقول {فما بلّغت رسالته}، فإن ذلك يعني أن الأمر مرتبط بالرسالة وامتدادها في شخص يمكم أن يعطي الرسالة من علمه وروحه وإخلاصه وجهاده ما أعطاها رسول الله(ص) "إلا أنه لا نبيّ بعدي"، ويقول تعالى: {والله يعصمك من الناس} الذين سيقولون أنه أعطى الإمامة والولاية لابن عمّه.
وفي تلك الصحراء الملتهبة خطب رسول الله(ص) خطابه التاريخي المعروف: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"( )، وهذه تعني الحاكمية وقد ذكرها النبي(ص) من أجل أن يؤكد أن هذه الحاكمية التي كانت له يريد أن ينقلها إلى شخص آخر.
قالوا: بلى، قال: الله اشهد، فأعاد ذلك عليهم ثلاثاً في كل ذلك يقول مثل قوله الأول، ويقول الناس كذلك: "اللهم اشهد ثم أخذ بيد أمير المؤمنين فرفعها حتى بدا للناس بياض إبطيهما، ثم قال(ص) ألا من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ مَن والاه وعادِ من عاداه"( )، وقد حاول البعض أن يفرغ هذا النص من دلالاته الكبيرة حينما يقول: إن المولى يطلق على المحب، أي من كنت محبه فعليٌ محبه، وعلى الناصر أو ما ناظر من مرادفعات، فهل يعقل أن النبي(ص) يجمع المسلمين في ذلك الهجير الملتهب ليقول لهم مثل هذا الكلام؟ لقد كان بإمكانه أن يقول ذلك في أي وقت آخر، فكلمة المولى هنا تحمل مدلولاً سياسياً وقيادياً، فهي تعني (المولى والحاكم)، فالحديث هنا إذاً هو في مقام بيان الولاية لا بمعنى الحب، بل بمعنى الحاكمية كما هي الحاكمية لله ولرسوله أي من كنت أولى به من نفسه فعليٌ أولى به من نفسه.
فحديث الغدير يمثل نصاً صريحاً في تعيين القيادة الامتدادية بعد رسول الله، فعندما ندرس سياق الحديث وجوّه والآية التي سبقت والتي جاءت بعد ذلك {اليوم أكملتُ لكم دينكم} نجد أن حديث الغدير هو من أوضح النصوص الإسلامية الصادرة عن النبي(ص) في ولاية علي(ع)، وبالتالي فلا معنى للتشكيك فيه.
ضرورة الأخذ بالثقافة:
ـ ورد في "بينات" العدد (92) "إنني أرى من الواجب الشرعي العيني على كل شاب مثقف وعلى كل فتاة مثقفة أن يأخذوا بأسباب العلم والثقافة" فهل هذه فتوى؟
هذه ابنة عم الفتوى، باعتبار أن المفروض في الشباب أن يتثقفوا ثقافة إسلامية حتى يستطيعوا أن يحرّكوا ثقافتهم في اتجاه الدعوة إلى الإسلام.
الدين والتحرّر من الدين:
ـ نرى من خلال الممارسات الاجتماعية أن قطاعاً كبيراً من المتدينين عندما يجتمعون بالمتأثرين بالمنهج الغربي أو المتحررين من الدين، يشعرون أنهم أقلّ إدراكاً وفكاءةً وفاعلية في الحياة، لأن بعضهم يشعر بالتقييد خصوصاً بالنسبة للفتاة المؤمنة إزاء الفتاة المتحررة التي تمارس الحياة بكل انفتاح، فهل يرجع ذلك إلى أن نطاق الدين ضيّق، أم أن هناك خللاً في استيعاب المفاهيم الإسلامية؟
إن الخلل هو في فهم الحياة وفهم الإنسان، فتارةً يعتبر الإنسان الحياة لذة ومتعة وتسلية وأنه ليس هناك محرّم في هذه الحياة، فهذا الإنسان يشعر أن الدين قيد وأنه ضيّق لأنه يحرمه من ملذاته وشهواته وظلمه للناس.
لكن الإنسان الذي يعتبر أن قيمة الحياة هي في القيم الروحية والإنسانية وبمقدار ما يقدم للحياة من عطاء ثقافي وروحي واجتماعي، فإنه يشعر بأن ساحة الحياة واسعة لأنها تسع هذه الأمور وإن كانت تضيق عن بعض ملذاته التي لا تخدم حياته، بل قد تجعله يضيق بأوضاعها، ولقد قال علي(ع) وهو يتحدث عن هذه اللذات التي يعتبرها الناس سعادة الحياة: "ما لعلي ولنعيمٍ يفنى، ولذةٍ لا تبقى"( ).
إن الإنسان الذي يحترم طاقته وإنسانيته هو الذي يوجه طاقته وإنسانيته فيما يبقى للحياة من قيم ومن مشاريع وخدمات، وقد جاء في حديث إمامنا أبي الحسن علي بن موسى الرضا(ع) وقد سُئِل: "من أحسن الناس معاشاً؟ قلت: يا سيدي أنت أعلم به مني، فقال: يا علي من حسُن معاش غيره في معاشه، يا علي من أسوأ الناس معاشاً؟ قلت: أنت أعلم، قال: من لم يعِش غيره في معاشه"( ).
الحياديـّـون:
ـ قلتُم إن الذين يسقطون هم الحياديون، فهل نفهم من هذا أن لا حيادية في الإسلام؟
قلت إنه الحياد بين الحقّ والباطل، كما قال أمير المؤمنين(ع) عن بعض الناس الذين اعتزلوا المعركة عندما كانوا مع معاوية "خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"( )، فكان في مقام التنديد بهم، مما يعني أن على الإنسان إذا لم يرد نصرة الباطل أن لا يقف على الحياد بينه وبين الحق، بل عليه أن يعمل من أجل الوقوف مع الحق.
التخلّص من العصبية:
ـ كيف السبيل إلى التخلّص من العصبية بين مذاهب المسلمين، خاصة وأنها من أهم أسباب تخلّفهم، وأو بينهم وبين غيرهم؟
من أين تأتي العصبية؟ إن التعصّب ينشأ من مرض الجهل والانغلاق وعدم الانفتاح على العالم والواقع والذات، وقد بينّا في المحاضرة أن التعصّب قد ينشأ من جهل الشخص بعقيدته وتخلّفه وعدم توفّره على الحجة والبرهان والدليل فيضطر إلى فرض قناعته بأية طريقة ولو بالتعصب والانغلاق، ولذلك فإن المتعصب هو الإنسان الذي يعتبر الدائرة التي يتحرك فيها شيئاً ذاتياً يمسّ كيانه وقيمته، فعندما يتعصب الإنسان لنفسه فإن عصبية نفسه تنطلق من أنه يريد أن يحمي نفسه بهذا الانغلاق في دائرة ذاته حتى يستطيع أن يثبت نفسه.
وهكذا عندما يتعصب لعائلته، فهذه العصبية تعني أنك تحوّل هذه الذهنية المتعصّبة إلى هذا الوجود البشري الذي يمثل عائلتك بقطع النظر عن أية قيمة فكرية أو إيمانية، فكلما كنت لا تنطلق في عصبيتك لذاتك من قيمة وإنما من هذا الوجود المادي الذي يتمثل فيك، وفي عصبيتك لعائلتك، فإنك إذ تنطلق من أجل هذا الوجود البشري الذي تنتمي إليه، والأمر نفسه عندما تكون العصبية حزبية أو مذهبية أو طائفية أو عرقية، فالمتعصب هو الذي يهرب الفكر من شعوره وإحساسه لتتحرك ذاته بدلاً عنه، فعندما نتعصب لأدياننا ومذاهبنا نرى أن الدين يبدأ فكرة لكنه إذا تحوّل إلى عصبية فإنها تغدو عصبية للوجود البشري.
من هنا، فإن العصبية تنتج من ارتباط الإنسان بالذات وبالدائرة المنغلقة كنوع من أنواع حماية الذات، سواء الشخصانية أو الحزبية أو العائلية، ولهذا فإن السبيل للتخلص من العصبية هو أن نخرج من الذات إلى القيمة والفكر، فعندما أريد أن أدرس نفسي فإني أدرس صفاتي مقارنةً بصفات الآخر أو مقارنةً بالخط الذي أنتمي إليه، فالإنسان عندما يتعصب يفقد الأساس الفكري لهذا الشعور ويقف عند الأساس الذاتي، وإذا كنت أتعصب لعائلتي فعلي أن أسأل ماذا تمثل عائلتي: إنها فلان وفلان وانتساب إلى شخص معين، وإذاً لا بد من التفكير في فضائل هذه العائلة والقيم التي تتحلى بها، وما هي النتائج الكبرى التي يمكن أن تتحقق للإسلام وللمجتمع وللوطن وللقضية من خلال العائلة.
فلا بد أن يكون الالتزام بالعائلة والحزب والمذهب والطائفية منطلقاً من خلال خط فكري أو قيمة روحية أو إنسانية يمكن أن يعتمدها الإنسان، ولذلك نرى الإمام علي(ع) في (نهج البلاغة) يقول: "فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال"( ).. وقد ورد عن الإمام علي بن الحسين(ع) في تحديد العصبية الممقوتة: "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"( )، فإذا كنتتؤمن بالخير وتبغض الشر، فكيف يكون الشرير عندك أفضل من الخيّر، إذ معنى ذلك أنك تلتزم الجماعة ولا تلتزم القيمة.
فالخلاص من العصبية هو الخروج من إطار الذات إلى إطار الفكر ومن إطار الجماعة إلى إطار القيمة الروحية والإنسانية والخط الفكري والانعتاق من أسر الجهل والتخلف كما شرحناه.
ضعف الإيمان وقوة الكفر:
ـ قد يحاجج البعض في أن الحق والإيمان ضعيف والكفر قوي، وهذا دليل على أن الكفر صاحب حجة قوية؟
إن قوة السلاح لا تعني قوة الحجة لأن الحجة تتعلق بالعقل، في حين أن قوة السلاح والجسد تتعلق بالجانب المادي، فلا يمكن اعتبار القوة البدنية أو التسليحية دليلاً على قوة الحق.
التبليغ في المناطق النائية:
ـ على من تقع مسؤولية التبليغ في المناطق النائي كبعض الدول الأفريقية الفقيرة، وهل العقل وحده حجة كاملة؟
إن العقل حجة فيما يمكن أن يصل إليه، وعلى المسلمين جميعاً أن يعملوا بحسب إمكاناتهم في إرسال من يمكن أن يرشد الناس هناك.
الطموح إلى التطوير:
ـ نحن مجموعة من النساء نرغب في تطوير أنفسنا في المجالات السلوكية والتربوية والدينية أي الوصو إلى الكمال، فنرجو أن ترشدونا إلى بعض الكتب لدراستها وكيفية الوصول إلى الهدف، مع العلم أنه لا يوجد لدينا معلّم يأخذ بأيدينا؟
بالنسبة إلى دراسة القرآن من حيث الثقافة الإسلامية والتربوية الروحية والأخلاقية، يمكن الاستعانة تفسير ينفتح على معاني القرآن بأسلوب مبسّط ومنهج حديث ولغة ميسرة، وكذلك يمكن الاستفادة من (نهج البلاغة) والكتب الأخلاقية كـ(جامع السعادات) والكتب التي تتعلق بشؤون المرأة مثل كتب الشهيد مطهري(رض) وكتبنا (دنيا المرأة) و(تأملات إسلامية حول المرأة)، حتى تستطيع المرأة المسلمة الحصول على ثقافة منفتحة على حقائق الإسلام وأخلاقه تعاليمه وحقوق المرأة في الإسلام وطبيعة مسؤولياتها أمام الله والناس.
ومن الضروري للأخوات أن يبحثن عن معلّم مأمون يمكن له أن يعطيهنّ الدروس الملائمة لمستواهنّ الثقافي.
الحوار مع الآخر:
ـ ما رأيكم بالحوار الإسلامي ـ الإسلامي، والمسيحي ـ الإسلامي، وهل يدخل في صلب القضيتين الإسلامية والمسيحية؟
نحن نؤمن بالحوار مع الناس كلهم، وبحوار المسلمين مع بعضهم، والمسلمين مع أهل الكتاب ومع العلمانيين والملحدين، لأن الحوار هو الوسيلة الفضلى للتفاهم والوصول إلى النتائج الحاسمة الإيجابية، والحوار هوأحد أساليب الدعوة إلى الله وإلى الإسلام كما لا يخفى.
هل التعصّب وراثي؟:
ـ هل أن التعصّب فطري أو اكتسابي أو أنه استعداد لدى الإنسان؟
إنه يأتي بفعل البيئة والتربية السيئة، وربما كان هناك استعداد للتعصّب ولو من ناحية القوانين الوراثية.
ساعات العمل:
ـ هل صحيح أنه لا يجوز تجاوز عدد معين في ساعات العمل أثناء الدوام لئلا يؤثر ذلك على الالتزامات الدينية والاجتماعية التي تعتبر بحكم الواجب؟
ليس معنى ذلك أن لا تتجاوز ساعات العل الثمان، فالمهم أن يقسّم الإنسان وقته بحيث أنه يمارس مسؤوياته كلها خلال اليوم، ولقد ورد عندنا في الحديث "ينبغي أن يكون للمؤمن ثلاث ساعات، أي ثلاث أوقات، ساعة يناجي فيها ربّه" وهو وقت العبادة بكل أشكالها "وساعة يرمّ بها على معاشه" (أي ما تهدّم من معاشه) وهو العمل لأجل إعالة العيال "وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويجمل، فإنها عونٌ على تينك الساعتين"، أي عليك أن تقسّم وقتك بحسب حاجاتك الدينية والمادية والذاتية، وبذلك يمكنك أن تشتغل عشر ساعات أو أكثر، فالمسألة ليست مسألة الساعات المحددة بالدوام الرسمي لوقت العمل.
الإسلام وحلّ المشاكل:
ـ عندما كنت طالباً كنت أحدّث الطلاب أن الإسلام هو الحل لكل مشاكل الحياة، ولكنني عندما دخلت معترك الحياة وجدته غريباً وغائماً وغير قادر على أن يقدم الحل للمشاكل التي تعترض طريق الناس، خصوصاً المادية، فالإسلام لا يدل الفقير كيف يتخلّص من فقره، ولا يساعد الشاب المقبل على الحياة على تأمين مستقبله، فكل ما يستطيع أن يفعله هو أن يقول لا تفعل كذا وهذا حرام وهذا غير جائز، ولا يقول افعل كذا لتحلّ المشكلة وكأنه من هذه الناحية سلبي؟
أظن أنك لم تدرس الإسلام جيداً، فلو أنك انطلقت في التيارات الموجودة في العالم، لرأيت أنها كلها تدعو لفعل أشياء وترك أشياء، وأنها تقدم حلاً للمشكلة من خلال تطبيقه على أساس أن تكون هناك دولة ترعى هذا الاتجاه، فالإسلام عندما يحكم ـ وهو الآن يحكم ـ وتكون هناك قيادة ونظام وتخطيط، عند ذلك تنطلق القيادة بكل ما لديها من طاقات لتخطط لحل المشاكل، إذ كيف نقضي على الفقر إذا لم تكن هناك فرص عمل ومصانع وضمان صحي واجتماعي، فكل ذلك مربوط بوجود الدولة.
وفي غياب الدولة أوجد الإسلام مورداً احتياطياً لبعض مشاكل الفقراء من قبيل الخمس والزكاة والكفّارات، لكنها ليست هي الحل، بل ينطلق الحل من تكامل النظام الإسلامي وتحوّله إلى واقع.
أما إيران فلم تستكمل النظام الإسلامي لحدّ الآن، فهي في تجربة الحروب التي فرضت عليها أسقطت بنيتها التحتية وخلقت لها مشاكل اقتصادية لا من جهة الإسلام، بل من جهة الواقع، وهي تحاول ؛ل بعض تلك المشاكل ، وربما إذا تركت في خط الاستقرار فقد تستطيع أن تحقق أشياء كثيرة.
الغاية الكبرى تنظّف الوسيلة:
ـ لقد قلتُم إن الغاية الكبرى تنظّف الوسيلة، فالرجاء تحديد مفهومها وما هي الشروط لتحققها، ومن له حق تشخيصها؟
الغاية الكبرى كما في الأمثلة التي مرّ ذكرها في المحاضرة، فالشرع ـ كما ذكرنا ـ يجمّد حرمة بعض الأمور المحرمة لمصلحة إسلامية عليا فتغدو حلالاً لعى نحو مؤقت حتى إذا ارتفعت الضرورة عادت إلى حكمها السابق، والحاكم الشرعي هو الذي يأذن بذلك، فالغايات الكبرى هي كصيانة وسلامة الأرواح، وسلامة الأمة من اختراق العدو عمارة العلاقات الاجتماعية، أما تلك التي تتعلق بالواقع السياسي والاجتماعي فلا بد فيها من الرجوع إلى أهل الخبرة وإلى وليّ الأمر.
المجتمع المدني:
ـ طرح في الساحة السياسية الإسلامية مصطلح (المجتمع المدني) نأمل أن توضحوا لنا أبعاد هذا المصطلح؟
عندما ندرس مصطلح (المجتمع المدني) في الدائرة القانونية، فإن فكرته تعني المجتمع الديمقراطي الذي يرتكز على الأساس الديمقراطي في التشريع وفي الحكم والواقع السياسي، وهوبهذا المعنى ليس مصطلحاً إسلامياً بل هو مصطلح غربي، وإذا أردنا أن نطبّقه فعلينا أن نجعل كل شيء: القانون والسياسة والاجتماع والثقافة، تابعاً لأصوات الناس، فإن صوّتوا للإسلام فإن المجتمع المدني سيكون إسلامياً، وإذا صوّتوا لغير الإسلام فإنه لا يأخذ الشرعية عند ذلك، لأن الشرعية تأتي من خلال الأكثرية.
أما الذي تحدثوا عنه في الساحة الإسلامية فإنهم يريدون بمصطلح (المجتمع المدني) مجتمعاً في مقابل (المجتمع الديكتاتوري) أي يعنون به المجتمع الخاضع للقانون والذي لا يكون فيه شخص فوق القانون، وإذا كان القانون هو الإسلام فإن معنى ذلك أن لا يكون هناك شخص فوق القانون الإسلامي، بل لا بد لأي شخص في هذا المجتمع، سواء كان في موقع الولي الفقيه أو في موقع رئيس الجمهورية أو أي موقع آخر، أن يحكم بالقانون الإسلامي.
الحديث عن الإسلام:
ـ يتحدث الكثيرون باسم الإسلام هذه الأيام فمن ـ يا تُرى ـ له الحق فعلاً في الحديث عن الإسلام، هل هم العلماء، الخطباء، المتصدون للعمل الإسلامي، أم هم جميعاً وكل بحسب خبرته؟
كلٌ بحسب خبرته وطاقاته، فمن يتحدث عن الإسلام، هو الذي يملك ثقافة الإسلام والإخلاص له والصدق في ذلك، سواء كان عالماً أو خطيباً أو عاملاً للإسلام أو مثقفاً أو ما شابه.
دين تكفير أم حوار؟:
ـ يحاول البعض تشويه صورة الإسلام بأنه دين تكفير في حين يقول البعض أنه دين حوار، فما هو الإسلام؟
هو دين حوار حتى مع الذين يكفّرهم، فالله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}( )، وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}( ) ولكنه قال أيضاً: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}( )، وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}( ).
فالإسلام دين حواري حتى مع الذين كفروا من أجل أن يجرّهم إلى قاعدته الفكرية، وإذا كان بعض الناس يقولون إن الإسلام دين تكفير ليقولوا إن العلمانية هي خط حوار، فنحن نرى أن العلمانيين ينطلقون في التكفير بأسلوب آخر، فهذا رجعي وهذا ظلامي وهذا متأخر وهذا متخلّف وما إلى ذلك، فكما أن المتدينين يقولون إن هذا زنديق وهذا كافر وهذا ضال وهذا فاسق، فالعلمانيون كذلك لديهم ألفاظهم المماثلة في هذا المقام.
ولكن هناك نقطة حيوية، وهي أن الإسلام لا يطلق كلمة الكفر بوحي الانفعال أو الإسقاط الذاتي، بل يطلقها من واقع موضوعي يتصل بالفكر الذي يلتزمه في عقيدتهم المضادة لعقيدة الإيمان التي يتمثلها الإسلام في قاعدته في برنامج هذا الشخص أو ذاك الفكرية مما يجعل المسألة مرتبطة بالإنتماء الفكري للكافر بعيداً عن عملية السباب والتشهير.. وإننا ـ في هذا المجال ـ نؤكد على القائمين على الشؤون الإسلامية في موقع القاعدة والقايدة أن لا يستعجلوا التكفير على أساس انفعال لا يتعمق في فهم فكر الإنسان الآخر من دون تدقيق لئلا يظلموه أو يظلموا الحقيقة.
مناظرة (الجزيرة):
ـ سمعنا مداخلتكم على (قناة الجزيرة) في الحديث (بالاتجاه المعاكس)، أفيدونا بشكل إجمالي عن سلبيات وإيجابيات مثل هذه المناظرات؟
لقد طلبت منّي هذه المداخلة في الوقت الذي جئت فيه إلى البيت ولم أكن مطلعاً على مجريات الحوار كله، بل سمعت قسماً منه، وأعتقد أن إيجابياتها هي أنها يمكن أن تصحح ـ ولو بشكل سريع ـ بعض المفاهيم المغلوطة، وأعتقد أنها استطاعت أن تحقق شيئاً، لأن أحد المتحاورين اتصل بي هاتفياً بعد مجيئه من قطر، وقد قدّر المداخلة واعتبرها إيجابية فيما طرحته من أفكار تؤكد على أن الإسلام يتكز في أسلوبه في الدعوة على الحوار واحترام فكر الآخر بإعطائه الفرصة المناسبة للدفاع عن فكرته لتكون المناقشة في الدائرة الموضوعية لا الانفعالية في هدوء العقل وتهذيب الكلمة وانفتاح الأفق.
منهج دراسة النصوص التأريخية:
ـ ما المنهج الذي ينبغي أن نتبنّاه لدراسة النصوص التأريخية التي تتحدث عن الأحداث التي ألمّت بالمعصومين(ع) على العموم على ما تثيره تلك المرويات من إشكالات في ساحتنا الإسلامية؟
أولاً: أن نثبت صحة السند، أي الراوي الذي روى هذه الحادثة أو تلك، بحيث يكون موثوقاً به في سلسلة النسد كلها.
ثم لا بد من دراسة المتن من خلال طبيعة الأوضاع التأريخية المحيطة بها والظروف الموضوعية لنرى هل ينسجم مع طبيعة تلك الظروف الموجودة في زمن الحاديث أم لا، فلا تكون الرواية بعيدة عن تفاصيل المرحلة تي تتحدث عنها، لأن عملية النقد مع الظروف المحيطة بالموضوع في طبيعة الموازين التي تحكم المرحلة والخصائص المتمثلة فيها بعيداً عن أية انفعالية في الحكم على لأشياء لدعم فكرة مسبقة من دون أساس علمي، وربما كانت المشكلة التي تواجه الباحثين أن الغوغاء قد تصادر أبحاثهم العلمية بالأساليب الغوغائية لخروجهم عن المألوف مما يعتقده العوام من أفكار وأحكام بفعل التراكمات التاريخية المتخلّفة المحيطة بالموضوع.
التعارض بين الأصالة والمعاصرة:
ـ هل هناك تعارض وتنافٍ بين المعاصرة والأصالة على نحو لا يمكن أن يكون الإنسان متأصّلاً في وقت يكون فيه معاصراً؟
نحن نقول إن معنى المعاصرة ليس أن تأخذ كل شيء في العصر، بل المعاصرة هي أن تكون عندك الذهنية العقلانية التي يخضع لها العصر في حركته الثقافية، وبذلك تكون مسألة الأصالة متناسبة مع مسألة العصر، لذلك نحن نقول بأن قيمة هذا العصر في أن يتحدث عن العقل، فلا توجد عندنا مشكلة في الحديث عن العقل ولكن المشكلة هي في تحديد العقل الذي يكون ميزاناً للأمور.
المعيار لمعرفة الحق:
ـ يُقال: "إعرف الحق تعرف أهله"( )، فما هو المعيار لمعرفة الحق؟
أن تعرف الحق من القرآن، وأن تعرف الحق مما ثبت من السنّة النبوية الصحيحة، وأن تعرف الحق من خلال ما ثبت من أحاديث أهل البيت(ع)، وأن تعرف الحق من خلال العقل الذي يمكن أن يقودنا إلى الحق، وهذا هو الذي يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نسير عليه بأن نعرف الحق، فهو سبحانه يركّز دائماً على الحق، وفي بعض الكلمات المأثورة "لا تعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الرجال بالحق".
قيمومة الإسلاميين على الواقع:
ـ يزعم البعض أن الإسلاميين يزعمون أنهم القيّمون على الواقع الحياتي في حين أنهم لا يمتلكون أدوات العصر ولغته ويريدون إرجاع العالم إل القرون المتخلفة، فما هو رأيكم؟
أولاً: إن الإسلاميين لا يعتبرون أنفسهم القيمين على الواقع الحياةي من خلال الحالة العنترية، بل يقولون إن هذا الدين هو دين الله وقد فهمناه بطريقة معيّنة وعلينا وعلى الناس كلهم أن ينطلقوا لأخذه {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}( )، فلا بد أن يكون الدين لله بمعنى أن يعيش الناس دين الله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}( )، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}( )، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}( )، {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}( ).
أما أن الإسلاميين لا يعيشون ذهنية العصر ولا يمتلكون أدواته، فهذا غير صحيح بالصورة الشمولية، صحيح أن هناك بعض الإسلاميين ممن يعيشون التخلف في ذهنيتهم، ولكن لدينا الكثير من الإسلاميين الطليعيين الذين يملكون فكراً منفتحاً يمكن أن يتفوّق على كثير من الفكر الذي يطلق في العصر، لذلك لا يجوز لنا أن نعطي شمولية في الحكم السلبي على الإسلاميين لمجرد أن هناك إسلاميين متخلفين.
الدرجات العلمية الفضفاضة:
ـ كما أدليتُم لمجلة (الحوادث) فإن الدرجات العلمية الفضفاضة توكل لغير مستحقيها، ما السبيل لمعالجة هذه الظاهرة المزيفة للواقع والمنتشرة بكثرة في أوساطنا؟
إن المقياس العلمي ضائع، فقد يكون للإنسان كلّما تقدم به العمر أو الجاه لقب من الألقاب، والشاعر أحمد الصافي النجفي يقول:
    وغـــــبـــــــيٍّ ســـــمـــــيّتــــــه أســــــــــــتــــــــــــاذاً        وهو في جهله من الأفـــــــذاذِ    
    قيلَ هل رمتَ رفعه؟ قلت:كلا        رمتُ إسقاط كلمة الأستاذِ    
فإذا خلعت لقب الأستاذ على كل شخص فلا يعود للأستاذية قيمة، وهكذ الألقاب في أيامنا، والشاعر يقول:
مـــمـــــا يُزهّـــدنـــي أرض أندلـــسٍ        ألقابُ (معتمدٍ) فيهـــا و(معتضدِ)    
ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها        فالهرُّ يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ!!    
حريّة العقل:
ـ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ، هناك حالة من الانغلاق بين الشباب وبين القيادات الإسلامية، في حين أن هناك بعض الآفاق الفكرية التي تحتاج أن نطلق لعقولنا العنان بالتفكير فيها أكثر، فما هو رأيكم؟
نحن مع الحرية في التفكير، ومع الحرية في الحوار، ولقد خلق الله سبحانه وتعالى العقل حراً وأراد له أن يمارس حريته، وعندما يمارس حريته لا بد أن يمارسها في البحث عن الحقيقة، وهذا يدفعه إلى أن يقرأ ويتأمل ويحاور ليصل إلى النتائج، فنحن لا نؤمن بانغلاق الفكر أبداً، ولا نؤمن بأن نكبت أي سؤال، وكان شعارنا منذ(40) سنة "ليس هناك سؤال تافه وليس هناك سؤال محرج.. الحقيقة بنت الحوار"، والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، نعم هناك أسئلة لا حاجة لها كالأسئلة الفضولية كما فعل أصحاب البقرة "فلما ضيقوا على أنفسهم ضيّق الله عليهم".
إعداد خطباء ملتزمين:
ـ نلاحظ في الواقع الخارجي لأتباع مدرسة أهل البيت(ع) أهمية ما يقوم به الخطيب الحسيني، من دور كبير إيجاباً أو سلباً في تربية الأمة وتوجيهها، فهل ثمة اهتمام بموضوع عداد وتهيئة خطباء ملتزمين واعين؟
نحن نخطط لذلك، ونعمل لتنفيذه إذا وفق الله القائمين على التنفيذ للمبادرة في إنزال الخطة التي رسمت لهذا الأمر ووضعها موضع التطبيق، ونحن ما نزال نشعر بالضرورة القصوى لهذا الجانب، باعتبار أن الغالب في الجهات الموجهة للناس هم الخطباء، فإذا كانوا مثقفين فإنهم يوجهون الناس توجيهاً نموذجياً ثقافياً منسجماً مع الحقائق الإسلامية، أما إذا كان الخطيب غير مثقف فإنه قد يعبّئ الناس بالخرافات باسم الحقائق، وهذا ما ابتلينا به من بعض الذين يمارسون هذه المهمة من دون ان يملكوا علماً أو ثقافةً أو تقوى( ).
الذميّ والحربي والمعاهد:
ـ في الفقه الإسلامي لدينا مصطلح (ذمي) و(حربي)، فهل يوجد نوع ثالث لأهل الكتاب؟
لدينا الذمي والحربي والمعاهد وهو الذي يدخل في عهد مع المسلمين، وكان بعض المجتهدين في النجف يقول إن الدول الداخلة مع الدول الإسلامية في ميثاق الأمم المتحدة هي أشبه بالدول المعاهدة، فكان بعضهم يقول لا يجوز الاعتداء على أموال غير المسلمين إلا فرنسا، لأنها ـ يومذاك ـ كانت تحارب المسلمين في الجزائر.
وهناك رأي يقول إن الإنسان المسلم هو من قبيل المستأمن، فنحن لا نرى أن المسألة هي إما ذميّ أو حربي أو معاهد، بل كل إنسان يعيش معك في سلام فإن عليك أن تعيش معه بسلام ما لم يأتِ مخصص لهذه القاعدة، وهذا ما نستوحيه من آيتين:
الأولى، التي ذمّ الله فيها اليهود ببعض تصرفاتهم: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}( )، والأمي هنا الذي ليس بيهودي، أي أن الله تعالى يقول أن لا قاعدة للأمانة لدى اليهود، فهي عندهم شخصية، فيمكن أن تؤمّن لديه قنطاراً يؤدّيه إليك ويمكن أن تؤمّن لديه ديناراً فينكره عليك، باعتبار أنهم يستحلّون أموال غير اليهود، فإذا صرنا نستحلّ أموال غير المسلمين، فما هو الفرق إذاً؟ والمفروض عدم وجود دليل يبيح أموالهم.
إن الله تعالى يريد أن تكون هناك قاعدة للأمانة، بأن تكون أميناً من موقع القاعدة لا من موقع الصدقة، بحيث تكون أمانتك منطلقة من إيمانك، وقد ورد في حديث الإمام زين العابدين(ع): "لو ائتمنني ضارب عليّ على السيف الذي ضرب به علياً وقبلت منه لأدّيت له أمانته" ، وفي الحديث: "أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها ولو إلى قاتل ولد الأنبياء" ، وبعض الفقهاء يقول إن هذا خاص بالأمانة، لكننا نفهم منه أن الدين أمانة، أي أنه جعل ماله في ذمّتك، والذي يتركك في دكانه لثقته بك فكأنه جعل الدكان في أمانتك.
والآية الثانية: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ}، أي تحسنوا إليهم {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}( )، والقسط العدل، والعدل إذا حسُن وجب لأنالعدل هو أن تعطيه حقه، وليس من العدل أن تأخذ ماله أو تعتدي عليه وعلى أمنه وماله، فالأساس عندنا هو أنه لا يجوز لنا أن نأخذ مال أحد، مسلماً كان أو غير مسلم، إلا إذا كان حربياً في حرب فعليّة، كما في الكيان الصهيوني وكل من يظاهره على إخراج المسلمين من ديارهم {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}( )، ألا ترون إلى بعض الناس يذهب إلى الغرب ويستدين من البنوك ويهرب، فهل يجوز أن نحوّل المسلمين إلى لصوص باسم الشريعة؟ لا يجوز ذلك إطلاقاً، فلقد أفسدنا سلوك المسلمين بأمثال هذه الفتاوى، وقد تجد في بلدان الغرب بعض غير المؤمنين لا يسرقون فيما بعض المؤمنين يسرقون بحجة أنهم يجوز لهم ذلك، فأية مفارقة!!
الإسلام والأقليات:
ـ يتردد كثيراً الكلام عن حقوق الأقليات، فما هو رأي الإسلام فيها؟
الأقليات في الإسلام هي الأقليات الدينية، لأن الأقليات العرقية لا يعترف الإسلام بها، ففي المجتمع الإسلامي لا فرق بين الأقلية والأكثرية من الناحية العرقية أو القومية، فالدولة الإسلامية حتى لو كانت في أكثرية عرقية أو قومية، فلا بد لوليّ الأمر أن يساوي بين الأكثرية والأقلية في ذلك.
أما من الناحية الدينية فقد احترم الإسلام الأقليات الدينية التي جعل لها الإسلام حق البقاء والتعايش معه كاليهود والنصارى، فلقد جعل لهما وللمجوس أيضاً ـ في حال اعتبارهم من أهل الكتاب على رأي ـ الحق في أن يعيشوا المجتمع الإسلامي مع المحافظة على عبادتهم وطقوسهم بما لا يتنافى مع النظام العام، ففي هذا المقام أسلوبان: أسلوب الذمة الذي تترتب عليها الجزية وهي ضريبة في مقابل حماية الإسلام لهم من الأعداء في الداخل والخارج، وهناك أسلوب المعاهدة بأن يدخل الإسلام في معاهدة مع الأقليات الدينية لتكون له شروطه عليهم ولهم شروطهم عليه، التي لا تحرّم الحلال ولا تحلّل الحرام.
الثورة الإسلامية والحوزة:
ـ هل ترون أن نجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني(رض) كان له أثر كبير في توجّه العديد من الشباب إلى الدراسة الحوزوية؟
لا يبعد ذلك، باعتبار أن الثورة كانت ثورة الفقهاء والحكم حكم الفقهاء، فإن من الطبيعي أن تتوجه العناية إلى الدراسات الفقهية إلى جانب الدراسات العلمية الأخرى، ولكن المسألة تحتاج إلى مزيد من الانفتاح على التوازن في حركة المتغيرات في أهداف الثورة وفي علاقة الإسلام بالعصر وفي وعي الأساليب المتطورة تبعاً لتطور العصر في حاجاته وقضاياه وهذا هو ما ينبغي للدراسات الحوزوية أن تستوعبه لتنسجم مع روحية الشباب وتطلعاته.
ذكر خصوصيات الماضين:
ـ عند قراءة التاريخ الإسلامي نلاحظ أن هناك روايات فيها انتهاك لحرمات المسلمين من خلال كشف أسرارهم من قبل الرواة والمحدّثين، فما هو موقفنا منها، وهل إذا أصبح الإنسان في الزمن الماضي يجوز لنا نقل جميع خصوصياته؟
قد يكون نقل بعض قضايا التاريخ من جهة اختلافها بين الناس الذين نقلوها أو أفتوا بها، هل كانوا ممن يعتمد عليهم أم لا، فقد نحتاج للحديث عن خصوصياتهم وعن انحرافاتهم لمعرفة ما إذا كانت رواياتهم صحيحة أو لا، وهل يمكن أن نأخذ بفتاواهم أو آرائهم أو لا.. هذا بالإضافة إلى الحاجة إلى أخذ العبرة من الأوضاع السلبية أو الإيجابية التي كانت تتصل بحركتهم في الحياة، لا سيما إذا كان هذه الأمور مما كان واضحاً لدى الناس في زمانهم، في حياتهم العملية مما لا يكون الحديث عنه كشفاً لسرّ المؤمن في خصوصياته الذاتية، وقد جاء في الآية الكريمة: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، مما يجعل للتاريخ دوراً كبيراً في تركيز الحاضر وصنع المستقبل لتكون الإيجابيات في ذلك علاجاً للسلبيات في الواقع.
ماذا أعددنا للقرن الحادي والعشرين؟!
ـ العالم على أبواب القرن الحادي والعشرين فماذا أعد علماء المسلمين ومراجعهم للقرن الجديد إن للمسلمين أو للعالم؟
هناك علماء أعدّوا بعض ذلك فيما يملكون من ثقافة، وهناك علماء أبدعوا في غير الجانب الفكري والثقافي، فهناك من المسلمين مخترعون ومكتشفون ومبدعون شاركوا حتى في حركة الواقع الحضاري العلمي في أكثر من موقع، فلا تتصور أن الأمريكيين هم وحدهم الذين اكتشفوا ما اكتشفوه، فهناك الكثير من المسلمين والعرب موجودون في أجهزة الفضاء والذرة وغيرها من الحقول العلمية والفكرية.. لكن مشكلة المسلمين أنهم في القرن العشرين الميلادي أو الخاس عشر الهجري لم يتحولوا إلى أمة وإنما تقسّموا لتفصل بينهم قومياتهم وكياناتهم القطرية والإقليمية.
فليست مشكلة المسلمين اليوم أنهم لا يملكون علماً يواجهون به القرن الحادي والعشرين، فنحن نلاحظ أن هناك طاقات إسلامية على مستوى علماء الإسلام في الجوانب الفكرية وعلماء الإسلام في الجوانب التقنية، ونجد أن هناك ثروة جيدة، ولكن قيمة الثروة التي عندك أن تعرف كيف تجمعها وكيف تحركها في تأكيد وجودك وموقعك.
فوائد الحجاب:
ـ عدا عن أن ارتداء الحجاب هو طاعة لله عز وجل، ماذا يمكن أن نقول عن الفوائد التي تحصل عليها الفتاة من ارتدائها الحجاب؟
أولاً: أن لا تعيش في نفسها أن جسدها في جماله هو القيمة، بل إن عقلها وروحها وأخلاقيتها وإنسانيتها هي القيمة، لأن السفور لا سيما في الأوضاع التي نعيشها في العالم يحمل إيحاءات لنفس المرأة السافرة بأن قيمتها في مستوى جمالها ورغبات الآخرين بجسدها وذلك يسقط إحساسها بقيمتها الإنسانية، لأنها تعيش كونها جسداً يتطلع إليه الآخرون باشتهاء.
فالجمال ليس قيمة روحية، لأن حركة الأزياء وانتخابات ملكات الجمال وحركة الإعلانات وغيرها تتحرك في خط الغريزة لا في خط القيمة الإنسانية، مما يترك إيحاءً سلبياً على نفسية الفتاة ويترك إيحاءً على واقع المجتمع بأن يعش حالة طوارئ جنسية.
وثانياً: إن هناك مشكلة فعلية في الجامعات والمدارس المختلطة وفي المكاتب والوظائف والشارع العام، والشبان يعرفون الجو الذي يحكم نظرتهم إلى الفتيات السافرات المتبرجات، فهل هناك إلا الجنس؟
بينما في الحجاب لا سيما إذا كان محتشماً، فإن الفتاة توحي لنفسها بأنها ليست مجرد جسد يشتهيه الشبان، ولكنها عقل وروح وقيمة وحركة إنتاجية، والناس ينظرون إلى المحجبة نظرة لا نقول أنه ليس فيها شيء من الجنس ولكن نسبتها ضئيلة جداً.
مواجهة الفكر العلماني:
ـ في ظل تفشّي الفكر العلماني في المجتمعات الإسلامية في الخصوص، لا نرى أي دور لعلماء الدين وللباحثين الإسلاميين في مواجهة هذا الفكر والتصدّي له، بل نراهم مشغولين فيما بينهم بالصراعات الجانبية مما قد يؤدي إلى سيطرة العلمانية على المجتمع الإسلامي من حيث لا يشعرون، فما هو توجيهكم لذلك؟
أظن أن الأخ السائل لم يقرأ الكثير من التجارب الفكرية للعلماء في مواجهة أكثر من خط فكري علماني، فهناك كتب الشهيد الصدر والشهيد مطهري، والتجارب الفكرية في مصر ولبنان والعراق وإيران، فلدينا في التجارب الثقافية الإسلامية للعلماء المسلمين والكتّاب المثقفين المسلمين ثروة جيدة في مواجهةالعلمانية بكل خطوطها الثقافية، وإذا كانت هذه التجارب لا تكفي بحسب طبيعة الهجمة فإن علينا أن نثير الدعوة إلى الاستزادة من ذلك في المواقع الثقافية العامة كلها، فنحن نشعر بأن هناك ثروة ولكنها بحاجة أن تكون أغنى وأوسع وأكبر.
أهميّة السند:
يقول الإمام أمير المؤمنين(ع): "أنظر إلى ما قيل، لا مَن قال"، فهل ذلك يعني أن السند غير مهم وأن التركيز يجب أن ينصبّ على المتن، وإذا كان ذلك خاصاً بدراسة الأحاديث فهل يسقط في غيره من النصوص؟
لا أتصوّر أن الإمام(ع) يقصد ذلك، ولكن يريد أن يعالج حالة وهي أن بعض الناس يهتزون بالكلام إذا صدر من شخصيةٍ اجتماعية أو علمانية أو غنية أو حاكمة، بحيث يهتمون به ويدرسونه ويوافقون عليه بحسب المركز الاجتماعي والسياسي والمالي أو العلمي.. أما إذا كان الإنسان فقيراً ولا يملك قيمةً اجتماعية وعلمية فإنهم يهملون كلامه، فكأن الإمام(ع) يقول لا تنظر إلى شخصية القائل بل إلى طبيعة الفكرة.
ولا يعني ذلك إهمال السند، فهذا شيء وذلك شيء آخر، فإذا فرضنا اعتبار فكرة مقدسة فإنها إذا نسبت إلى النبي(ص) فهي مقدسة، وإذا نسبت إلى شخص آخر فلا قداسة لها، إذاً فلا بد من الرجوع إلى السند، لكن الرواية واردة في المجال الذي ذُكرَت.
الضرر النفسي الذي تسبّبه الضرّة:
ـ هل يجوز تطبيق قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) في مسألة تعدد الزوجات على فرض أن الزوجة تتأثر نفسياً عندما يتزوج زوجها امرأةً أخرى؟
إن هذا التأثر النفسي مما تفرضه طبيعة التشريع، ولذلك لا تشمله القاعدة، وهو ليس من الضرر الذي يغيّر الحكم في الموضوع، فهو ليس موجوداً في الزواج فقط، بل في الصداقة والشراكة أيضاً، فكل إنسان يحب التملك والاستئثار، ولذلك فهذا النوع من الحساسيات ليس ضرراً، لأن الضرر يكون على خلاف طبيعة الواقع، وأحاسيس الزوجة الأولى هي من طبيعة الواقع.
الخطابة كخطاب للناس:
ـ لا يرتضي البعض للخطيب أن يطرح فكراً علمياً فوق المنبر ولا يرتضي تنزيل المعارف والقواعد لفكر الناس باعتبار أن الخطابة هي أن تخاطب الناس حسب مستوياتهم، فما هو تعليقكم؟
صحيح أن الخطابة هي أن تخاط الناس ما يغني فكرهم وبما يملأ قلوبهم بمشاعر العدل والحق ويملأ حياتهم بالعدل والحق، لكننا نقول إن على الخطيب أن يعطي الناس فكراً من خلال بسط هذا الفكر على أساس أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، فليس من الضروري أن يكون الفكر المطروح معقداً، بل على الخطيب أن يراعي طرح الأفكار بالطريقة التي يستطيع الناس فيها أن يتصوروها، وأن يتمثلوها في حياتهم.
أي فرق المسلمين على صواب؟
ـ جاء في آخر حديث للنبي(ص) عن فرق المسلمين أنّ: "كلهم في النار إلا ما كان عليه أنا وأصحابي"، فكيف سنتعرف بدقة على ما كان عليه هو وأصحابه في عصر وصلنا فيه حدّ التخمة في التأليف، فأنا طالب في كلية الشريعة كل ما أسمعه من أدلة لأية فرقة أعتقد أنها هي الصحيح وغيرها فاسدة، فما هو الحل؟
إن علينا أولاً أن ندقق في الأحاديث الواردة عن النبي(ص) في هذا المجال لنرى هل أن هذا الحديث صحيح أو لا؟ فمن الأحاديثبهذا الصدد: "ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة، فرقة ناجية والأخرى في النار"، وما إلى ذلك، فأول شيء يمكن عمله هو أن ندرس ونوثّق هذا الحديث الذي نتحفّظ عليه، لماذا؟ لأن أصحاب النبي(ص) يختلفون في أشياء كثيرة، وذلك فإن من الصعب جداً للنبي أن يعطي هذا الحكم وهو أن ما عليه أصحابه هو الخط الصحيح، على اعتبار أن أصحابه كانوا يختلفون في الكثير من القضايا والمسائل كما في الخلافة وفي كثير من الفتاوى والخطوط، فكيف يمكن الآن أن نجعل من مجموعة تختلف في توجهاتها وفي آرائها، في خطئها وصوابها، القاعدة لإحقاق الحق الإسلامي كله؟
إن عندنا كتاب الله وسنّة نبيّه، وعندنا ما ثبت لنا أنه سنّة النبي فنأخذ به، هذا هو الأساس والنبي(ص) يقول: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"، وهذا الحديث يرويه السنّة والشيعة، فإذا وثّقناه وهو موثّق، عند ذلك نستطيع أن نعرف ما هو الطريق الذي يمكن أن نصل به إلى التميز، خصوصاً الحديث المروي عنه(ص) أيضاً: "مثلُ أهل بيتي فيكُم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى"( )، و"عليٌ مع الحق والحق مع علي"( )، و"أنا مدينة العلم وعليٌ بابها"( )، إلى آخر ما هناك.
وإذا كان صحيحاً ما يقوله السائل من أن كل فرقة تحاول أن تدافع عن نفسها، فالمفروض بالإنسان الواعي أن يملك العلم الذي يستطيع ـ من خلاله ـ أن يكتشف نقاط الضعف الموجودة في الدليل الذي يقدم له، ونقاط الضعف في الدليل الآخر الذي يقدم له.
التخصص في القصة والمسرح:
ـ ما رأيكم في تخصص بعض الشبّان المؤمنين في كتابة النصوص القصصية والإخراج المسرحي والسينمائي، فقد يتهيأ للجيل الجديد الاطّلاع على تراث الإسلام العظيم ولا سيما فيما يتعلق بحياة النبي(ص) وأهل البيت(ع) خاصة وأن الكثيرين لا يعرفون حياتهم ومواقفهم؟
نحن نشجّع ذلك ونعتقد أن من الضروري جداً أن يكون لدينا شبّان متخصصون في العمل السينمائي والإخراج المسرحي والقصصي، باعتبار أن هذه الفنون أصبحت من الفنون التي يمكن أن نخدم جيلنا وأمتنا وقضايانا كلها من خلالها، ولكن من الطبيعي أن يكون ذلك كله على أساس الخط الشرعي فيما يقوم به الناس في ذلك.
أدوات الحكم على فكر آخر:
ـ ما هي الأدوات التي يفترض توافرها كي نتمكن من الحكم على فكر وممارسات الآخر بأنها تنسجم مع خط الإسلام أو لا تنسجم معه؟
للإسلام مصادره التي يمكن لنا من خلالها أن نتعرف على ما هو فكر الإسلام في هذا الجانب الفكري، وما هي شريعة الإسلام في هذا الجانب التشريعي..
فمن المعلوم بأن لهذه المصادر قواعدها في الفهم والدلالة، فإذا أحرزنا ذلك وكنا ممن يملك المعرفة في مصادر الإسلام أمكننا أن نكتشف انسجام فكر وسلوك هذا الشخص مع الخط الإسلامي أو عدم انسجامه، ولكن ينبغي للإنسان أن لا يتصور نفسه أنه معصوم في فكره وأنه يملك الحقيقة وحده، فأنت إذ تعتبر أنك تفهم الإسلام من خلال المعطيات التي بين يديك، فكّر أن من الممكن جداً أن تكون للأشخاص الآخرين الذين يختلفون معك معطيات أخرى قد تبدّل معطياتك.
وليس معنى ذلك أنك تعيش الاهتزاز في اقتناعك، ولكن معناه أن عليك أن تعرف أنك لست معصوماً، فإمكانات الخطأ واردة وإن لم تكتشفها، واسمع جيداً فلعلك تسمع شيئاً يكشف خطأك، ونحن نقرأ في القرآن أن الله تعالى لا يريد لنا أذناً متعصّبة تنغلق عما لا يعجبها {وتعيها أذنٌ واعية}( )، بحيث أنها تعي الكلمة وتفكر بها، فالأذن هي نافذة على العقل، والأذن الواعية هي التي تعطي العقل ما سمعته من أجل أن يفكر، وعندما نملك الأذن الواعية التي تتداخل مع العقل في وعي الكلمة فإننا نستطيع أن نتفاهم حول ما هو الإسلام وما هو الذي أخطأنا وأصبنا فيه.
لكن المشكلة عندنا هي أننا نعيش شخصانية الفكر بالطريقة التي يعبد فيها الإنسان نفسه فيتصور أنه وحده الذي يملك الفكر وأن غيره لا يملك ذلك، وهذه هي مشكلتنا بالنسبة لمن يتصور نفسه عالماً ولكنه يجهل جهلاً مركباً.
الموازنة بين الثقافي والسياسي:
ـ ما السبيل لتحقيق الموازنة بين الثقافي والسياسي في وعي الفرد ووعي الأمة، خاصة في مرحلتنا الحاضرة التي طغى فيها العامل السياسي في إدارة شؤون المجتمعات وتحديد مصير الأمور؟
هل يمن أن تكون هناك سياسة بدون ثقافة؟! إن السياسة تمثل الخطوط العملية التي يُراد من خلالها تحويل المبادئ والقيم الروحية والإنسانية والإسلامية إلى واقع، فهي أسلوب الحركة في تغيير الواقع، لذلك فإنه لا يمكن أن تكون سياسياً بالمعنى المسؤول لشخصية السياسي إذا لم تملك الثقافة التي تعرفك الواقع وتحدياته والظروف الموضوعية المحيطة به والأساليب التي يمكن أن تغيّر الواقع هنا وهناك.
ونقول أيضاً.. إن الإنسان عندما يكون مثقفاً، وهناك فرق بين أن يكون الإنسان "مثقّفاً" وبين أن يكون "متعلّماً" فالمتعلّم هو الذي يملك مكتبة في داخل فكره، أما المثقف فهو الذي تتحول المعرفة فيه إلى دم يجري في عروقه، بحيث أن الثقافة تتحول إلى إنسان تدخل إلى عقله وإلى قلبه وإلى كيانه كله، فما لم تكن مثقفاً تعيش الثقافة رسالة لا يمكن أن تكون سياسياً، ولا نقصد بالسياسي هنا الذي يدير اللعبة السياسية، ولكن نقصد به الذي يتحرك من أجل تحويل هذا الفكر الذي يمثل قضايا الأمة وحاجاتها وقضايا الحياة، وإذاً لا يمكن أن تكون مثقفاً إذا لم تكن سياسياً، وإلا كانت ثقافتك تجريدية تحلّق في الهواء من دون أن تنزل إلى الأرض.
ومن هنا، لا بد للثقافة أن تعيش مسؤوليتها في تحويل الشؤون الثقافية إلى واقع، وفي ذلك تلتقي الثقافة بالسياسة، أما ما نعيشه فهو لعبة سياسية وليس رسالة سياسية.
علماؤنا في معترك الصراع:
ـ في غمرة الصراعات الثقافية والاقتصادية القائمة، نرى أغلب علماء الدين في عزلة عن الواقع إلا قليلاً، بينما يتطلّب مركزهم النزول إلى ساحة المجتمع وحل مشكلاته كما كان الرسول(ص) والأئمة(ع) يفعلون ذلك؟
قد يقولون لك: لعل لها عذراً وأنت تلومُ... ونحن نعتقد أن من واجب العلماء والمثقفين المسلمين القادرين النزول إلى ساحة العمل، لأن الحرب المعلنة على الإسلام والمسلمين هي حرب عالمية تأخذ أكثر من بعد وأكثر من موقع، فلو أن المسلمين الآن بأجمعهم نزلوا إلى الساحة فلا يسدّون الثغرات المفتوحة، فكيف إذا لم يخرج سوى البعض، ولقد ذكرنا أن شعارنا في هذه المرحلة "الراحة حرام" فالعدو يدخل إلى ساحاتنا كلها وإلى غرف نومنا، ونحن نقول: "اللهم انصر الإسلام والمسلمين" و"اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك" فمن الذين لا يُستجاب لهم أولئك الذين أعطاهم الله سبحانه وتعلى الإمكانات ليحلّوا مشكلاتهم ولكنهم يجلسون في حالة استرخاء في بيوتهم ويدعون الله، فالله تعالى يقول لقد أعطيتكم القوة والعقل فلِمَ لم تستخدموه؟!( )
تحديد التاريخ الإسلامي:
ـ كيف نستطيع أن نحدد التاريخ الإسلامي بينما هناك مراجع شتى تختلف فيما بينها؟
هناك نقاط أساسية لدراسة التاريخ، فلا بد أن تدرس النص التاريخي وتكشف نقاط الضعف فيه، وتقارن بين النصوص، فالتاريخ علم يحتاج إلى استخراج الفكرة والحقيقة من جهة التعمّق في دراسةالحادثة التاريخية التي يرويها النص من خلال ملاءمتها لظروف العصر التي كان يعيش فيها، وهكذا.
العلم في خدمة المجتمع:
ـ إذا أردنا الالتزام بقول الإمام الباقر(ع) الذي حثّ على توظيف العلم في خدمة المجتمع، فهل تعتقد أن الأبواب مفتوحة أمام المثقفين للعمل بوصايا الإمام مع وجود الظواهر السلبية في الواقع؟
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فالإنسان يحاول أن يحوّل الوصايا إلى واقع في حياته، فيوظّف العلم في خدمة المجتمع، ولا يضرّه بعد ذلك أن بعض الناس ـ نتيجةً لظروفهم واسترخائهم ـ لا يوظّفون العلم في خدمة المجتمع.
العلم الذي هو نور:
ـ تحدّثتم بأن العلم ليس بكثرة الدراسة ولكنه نور يقذفه الله في قلوب بعض عباده، فهل يمكن تفسير هذا النور بأنه قدرة المتعلّم ومداركه الذهنية التي تجعله يستطيع ربط النتائج والمعطيات واستنباطها، مع علمنا أن الوحي لم يعطِ أية معلومة لأي إنسان غير الأنبياء؟
لا يفهم من قولنا أن الإنسان لا ينبغي أن يتعلّم، بل يجلس والله تعالى ينزل العلم عليه، بل نقول إن الإنسان قد يحصل على علم وأفكار لم يتعلّمها ولم تخطر بباله، وهو ما يحصل في حالات الصفاء الروحي والذهني، وإذا كان الإنسان مخلصاً فإن الله سبحانه قد يفيض عليه من علمه، خصوصاً أن بعض العرفانيين يقول إن الذنوب قد تحجب عن الإنسان المعرفة والحقيقة.
ومما يُنقل عن شيخ الشريعة الأصفهاني(رحمه الله) وهو أحد كبار المراجع في النجف أنه كان يأتيه في البحث الخارج الطالب الذي أمضى عشرين عاماً أو الذي أنهى السطوح لتوّه فيستمع إليهما ـ إذا أشكلا عليه ـ دون تمييز، فقيل له في ذلك، فقال: لقد بلغنا سناً متقدمة ولدينا ذنوب كثيرة قد تحجب الحقيقة، وطالب العلم حديث العهد صافي السريرة، فربما يلقي الله الحقيقة على لسانه فاستمع إليه عسى أن تكون الحقيقة فيما يقول.
تطبيق الديمقراطية:
ـ إن دعاة الديمقراطية يتهمون غيرهم من الإسلاميين وغير الإسلاميين بأنهم لا يعرفون كيف يطبّقون الديمقراطية التي تحتاج إلى ممارسة وتربية حتى تنضج الممارسة عند الشعب، فتصبح كما في البلدان الغربية؟ فما هو تعليقكم؟
لم تطبّق الديمقراطية كما هي في عقل مفكريها حتى الآن، فمع أن الأكثرية تفوز بأصواتها لكنها خاضعة للأقلية الرأسمالية، والقيود التي توضح لترشيخ المرشح والحواجز التي تفرض على البعض مما يدحض بعض شعارات الديمقراطية، فهي لم تطبّق كما يرسمها الديمقراطيون أنفسهم.
العلم بأنساب العرب:
ـ إن قصة العلامة الذي اجتمع حوله الناس يحدثهم عن الأنساب والغزوات والحماسة، ألا يعدّ ذلك تاريخاً وأدباً وذكراً للأنساب، وهذه كلها مهمة في حياتنا العملية، فكيف لا تكون كذلك حسب الرواية التي تقول إن هذا علم لا يضرّ من جهله؟
إن النبي(ص) لم يقل عن هذا العلم أنه محرّم، فهو ـ كما نفهم كلامه ـ أراد أن يقول إن على الإنسان إذا دار الأمر عنده بين أن يتعلّم مثل هذه العلوم التي لا تتصل بمسؤولياته الشرعية وكان محتاجاً إلى أن يحدد مسؤولياته في الحياة وبين تكاليفه، فعليه أن يختار الثاني، وإذاً فليس المراد هو أن هذا العلم لا يطلب البتّة ولا يقدم أية معرفة للناس، لكنها ليست المعرفة التي تتساوى مع المعرفة التي تتصل بمسؤولياته العملية في الحياة.
العولمة الإسلامية:
ـ هل يصح القول بـ"العولمة الإسلامية" أم أن الإسلام عالمي فقط؟
يصح ذلك، ولكن لماذا نريد استخدام مصطلحات الآخرين، فالله تعالى يقول: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} ، فلا ضرورة للقول بالعولمة الإسلامية، وإنما يمكن أن تقول إن الإسلام نظام عالمي إنساني، ولكنها "عقدة الخواجة" التي ولع بها بعضنا، فأنت ترى الأسماء الأجنبية في محلاتنا وأسماء أولادنا كذلك وهلمّ جرّا.
الوحدة الإسلامية مسؤولية مَن؟:
ـ من يقوم بتوحيد المسلمين هل هم العلماء أم العامة أم هي رحمة الله؟
على العلماء أو يوجهوا الناس في ذلك، وعلى هؤلاء أن يأخذوا بذلك، والكل يستهدون برحمة الله ويدعونه بأن يرحمهم فيوحّدهم ويقرأون هدى القرآن في ذلك، فالمهم أن نفهم أن الوحدة الإسلامية لا تعني أن الشيعي يكون سنياً، وهذا يكون شيعياً، بل أن نلتقي على ما اتفقنا عليه ويحاور بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
تقييم الصحوة الإسلامية في هذه المرحلة:
ـ كيف تقيّمون مرحلتنا هذه بالنسبة إلى الصحوة الإسلامية، فهل هي في حالة انحسار وإننا في حالة تخلّف ونكوص؟
إنني أتصور أن الصحوة الإسلامية لا تزال تؤثر في الساحة، لأن جمهورها لا يزال جمهوراً فاعلاً بحجم الإمكانات التي يملكها وحجم التحديات التي تضغط عليه، فما تزال الصحوة تفرض نفسها، لا سيما في ساحة الصراع بينها وبين الذين يقفون ضدها من الناحية الفكرية والعملية، وقد تقع الصحوة في بعض الأخطاء، سواء في الخط الفكري أو العملي، وربما تسقط بعض مواقعها نتيجة بعض الأخطاء التي ترتكبها في خط السير أو في طبيعة عناوينه أو طبيعة الأهداف التي تتحرك لبلوغها.
فعندما نتحدث عن الصحوة الإسلامية فإننا لا نتحدث عن صحوة بلا أخطاء، بل عن صحوة تحتضن الكثير من الصواب والكثير من الأخطاء، ونعتقد أن المرحلة الآن أمام سؤال: كيف تستطيع الصحوة الإسلامية أن تدافع عن وجودها، لأن هناك حرباً عالمية استكبارية ضد خطوط الصحوة الإسلامية الفكرية والسياسية والاجتماعية في الواقع.
كما أننا نرى أن الصحوة الإسلامية تختلف عن أية صحوة أخرى، لأنها ترتبط بالإسلام الذي قاسى الكثير من التحديات في تاريخه، ولكن يبقى الصوة القرآن الصافي {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}( )، وقول الله الوعد الحق: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون}( )، فقد تضعف الصحوة الإسلامية في مرحلة لتقوى في مرحلة أخرى، وقد تسقط في موقع لتقوى في موقع آخر، ولكنها لا بد أن تستمر، ونحن نعرف في أيامنا هذه كيف أن الصحوة الإسلامية من خلال الحالة الإسلامية في لبنان استطاعت لأول مرة في تاريخ العدوّ الصهيوني أن تدخله في مأزق أمني في داخل المنطقة المحتلة في لبنان ومأزق سياسي في داخل فلسطين المحتلة، بحيث اضطر رئيس وزراء العدو أن يقطع زيارته إلى أوروبا ليواجه هذا الواقع الجديد الذي قتل فيه من الإسرائيليين في أقل من شهر سبعة جنود وفيهم بعض الضباط، وجرح فيه الكثيرون وأصيبت بعض الآليات.
إن هذا هو عمل صحوة إسلامية تنطلق في جهادها من خلال إيمانها بالله وبالإسلام، ولذلك فإننا نتفاءل بالصحوة الإسلامية ولا نتشاءم، ولكننا نريد للمسلمين الذين يعيشون الإسلام بعمقه وصلابته وامتداده أن لا يعيشوا الاسترخاء بل أن ينطلقوا في خط المواجهة كلٌ بحسب قوّته وموقعه {إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم}( ).
رصد أساليب أعداء الإسلام:
ـ إن التصدي لأعداء الإسلام يتطلب رصد أساليبهم، فهل تعتقدون أن عملية الرصد من قِبَل الحركيين الإسلاميين كافية للمواجهة، وهل على غير الحركيين المساهمة في هذا التصدّي؟
إن التصدّي على أقسام، فهناك تصدٍ ثقافي وهو مما يجب على المثقفين المسلمين جميعاً، سواء كانوا علماء دين أو غير علماء دين، فعليهم أن يرصدوا أساليب الكافرين في تحريف الأفكار الإسلامية أو تأكيد الباطل، وهذا لا يختص بالحركيين الإسلاميين دون غيرهم، ففي واقع المواجهة والتصدي يتعين على كل مسلم ومسلمة أن يمارسوا دورهم في رصد خطط العدو وميزان القوة لديه حتى يستطيعوا إنجاز المهمات الصعبة.
الحيادية في قراءة فكر الآخرين:
ـ كيف يتسنّى للمسلم أن يكون حيادياً عندما يقرأ فكر الآخرين ممن لا يعتقدون بمذهبه؟
أن تكون نظرته موضوعية، فعندما يريد أن يبحث في فكر الآخرين عليه أن يقارن فكره مع فكر الآخر بعيداً عن التزامه بالفكرة، فعندما تريد محاكمة فكرٍ ما بطريقة حيادية، فإنك ينبغي أن لا تحاكمه على أساس تفكيرك وإنما تحاول أن توزن بين تفكيرك وتفكيره.
ـ وكيف نتخلّص من الحالة العصبية والعرقية؟
بأن نعرف أن هذه الحالة هي حالة تخلّف وانحراف، فعلى الإنسان أن ينطلق من منطلق الالتزام لا من منطلق التعصب، فهذه حالة انغلاق والالتزام حالة انفتاح، أما العرقية فالإسلام ألغى العرق كقيمة مفاضلة بين الناس.
المبايعة للاستكبار:
ـ نفهم أن الإمام الحسين(ع) رفض المبايعة لعدوّ الإسلام لحفاظه على الخط الإسلامي القويم، فما رأيكم في الذين يتصدون للمواقع التي تمثل المسلمين والذين يتماشون مع الاستكبار العالمي والصهيونية؟
لا بد لكل مسلم أن يتّبع من يقوده إلى الحق وإلى الله وإلى سبيل رسول الله(ص)، أما من لا يتبعون ذلك فلا يجوز لأي إنسان أن يتبعهم فيما هم سائرون فيه.
هل الديمقراطية شرك؟( ):
ـ تنصّ وثائق بعض الجماعات الإسلامية على أن الديمقراطية هي حاكمية الجماهير وتأليه الإنسان، وهي شرك بالله والفاصل بينها وبين التوحيد هو أن التوحيد يجعل التشريع لله والديمقراطية هي حكم الشعب لمصلحة الشعب، فالديمقراطية ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ شرك لأنها نزعت حق التشريع من المولى وأعطته إلى الشعب، فما هو رأيكم بهذا القول؟
قلنا في أكثر من حديث سابق أن الخلفية الفكرية للديمقراطية تختلف عن الخلفية الفكرية للإسلام، لأن الديمقراطية تعتبر أن الأساس في الشرعية هو رأي الأكثرية، سواء وافق رأيها التشريع الإسلامي أو لم يوافق، بينما الإسلام يعتبر انطلاق الشرعية من الله تعالى لا من غيره، ولا يرى أن الأكثرية تمثل الحق، بل إننا نجد أنه يتحدث عن الأكثرية بشكل سلبي {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}( )، {لا يفقهون}( )، {لا يؤمنون}( )، كما في أكثر من آية.
لذلك نحن لا نستطيع أن نلتزم الديمقراطية فكراً، فكل ما شرّعه الله مما ثبت أنه شرعة في كتابه أو في كلام نبيّه فلا بد أن نلتزم به حتى لو لم يلتزم به أحد في الكون لقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}( )، وقوله عز وجل: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً}( ).
أما الديمقراطية كممارسة في حركة السياسة أو حركة الحكم فقد تكون مصداقاً للشورى فيما جعله الله سبحانه وتعالى للناس من أمر الشورى، وفي هذه الحال لا مانع من أن يأخذ ولي الأمر بحسب المصلحة بالاستفتاء الشعبي، وهذا ما لاحظناه في الجمهورية الإسلامية في إيران، من خلال موقف الإمام الخميني(رض) وهو فقيه في الدرجة العليا من الفقاهة، وتقيّ في الدرجة العليا من التقوى والعرفان، فقد جعل الحكم السياسي خاضعاً لاستفتاء الشعب، فاستفتاه بالطريقة المباشر في الدستور وفي رئاسة الجمهورية وفي انتخاب أعضاء مجلس الشورى ومجلس الخبراء وغيرها وأخذ بنتائج الاستفتاء في ذلك كله وأمضاه.
وربما كان يرىأن المصلحة الإسمية العليا تقتضي ذلك، لأن بديل ذلك في الواقع المعاصر هي الدكتاتورية التي تنتج في كل مواقعها سواء في حكم الحاكم الفرد أو حكم طبقة من الطبقات ظلماً للناس.
أما ما يمكن أن تنتجه الديمقراطية أو الاستفتاء الشعبي من بعض السلبيات فإن الولاية يمكن أن تصلحه وتجمّده لتبقى إيجابياتها التي تتحرك في حياة الناس، فعندما نأخذ بنتائج الديمقراطية كفهوم في الحركة السياسية، فإن من الممكن أن نجعلها تدور في دائرة الشورى وليس من الضروري أن نتحدث عن هذه الأشياء بطريقة أنها شرك، بل علينا أن ندرسها بحسب مفرداتها في حركة النظرية وحركة الواقع وفي الجوانب الشرعية التي لا يد للإنسان فيها، لأن الله لم يجعل للإنسان الحق في أن يشرّع، ولكن هناك مناطق الفراغ والشورى مما يمكن أن تتمثل مصلحته في الاستفتاء الشعبي فيعمل بذلك لا من جهة بالإيمان بالديمقراطية كخط فكري سياسي، بل من خلال عنوان الشورى أو المصلحة العليا للمسلمين.
بأية قوة انتشر الإسلام؟:
ـ الكثيرون يقولون إن الإسلام انتشر بمنطق القوة، ونحن نقول إنه انتشر بقوة المنطق، ولكن لماذا لا نقول انتشر بالإثنين معاً؟
في مجال الدعوة انتشر الإسلام بقوة المنطق {ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}( )، {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}( )، {وقُل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}( )، أما في حالة الدفاع عن النفس وعن حرية الدعوة في الحركة، فالله سبحانه وتعالى يقول {جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم}( )، {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين}( )، {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}( )، ففي خط المواجهة الدفاعية والوقائية انطلق الإسلام بالقوة.
هل الفتوحات دفاعية؟:
ـ قلتُم في إحدى مقابلاتكم أن الجهاد في الإسلام دفاعي، فكيف نفسّر إذاً الفتوحات الإسلامية التي لم تكن بأي  حال دفاعية والتي كان الأئمة(ع) يدعمونها بالقول، كدعاء الإمام زين العابدين(ع) لأهل الثغور، أو بالفعل بمشاركة الحسنين في فتح شمال أفريقيا؟
أنا قلت إن الجهاد إما دفاعي أو وقائي، وعندما ندرس الفتوحات نرى أن قسماً منها دفاعي والقسم الآخر وقائي، كما أن بعض الفتوحات كانت من أجل حرية الدعوة لإيصالها إلى الناس الآخرين.
فضائية إسلامية:
ـ في الوقت الذي نشهد فيه تشابك الفضائيات التي غالباً ما تقوم بتقديم برامج تلهي عن ذكر الله، ألم يحِن الوقت لتأسيس فضائية تقوم بنشر الإسلام؟
نحن نشجّع على ذلك ونعمل على تحقيقه، وقد اتصلنا ببعض الأشخاص الذين يملكون المال من أجل ذلك ووعدوا بدراسة هذا الموضوع، والمسألة هي مسألة مال، علماً أن القنوات الفضائية هي من أفضل الوسائل للدعوة إلى الله كما أنها من أشد الوسائل ضرراً من حيث النتائج السلبية.



الفصل السادس


المسائل التربوية


"إربح قلبَ الإنسان يُفتح لك الطريق إلى عقله"
 
القرآن أثناء الأرق:
ـ شخص لديه أرق دائمي وهو يقرأ القرآن الكريم دائماً، فهل يجوز أن يقرأ القرآن وهو بهذه الحالة، وهل الوضوء قبل قراءة القرآن الكريم واجب أم مستحب؟
هذا أحسن من أن يستوعب أرقه بالفراغ، ولذلك فإن عليه أن يتدبّر القرآن ليطمئن قلبه بذكر الله، ولا يجب الوضوء لقراءة القرآن، ولكن يستحب ذلك.
التجنّس بجنسية الكافرين:
ـ حسب ما تفضلتم به  من معنى الولاء، ما هو حكم من تغرّب وتجنّس بجنسيات الغربيين أعداء الله؟
ليس من الضروري أن يكونوا أولياءك، بل عش معهم وكُن مع دينك ومع انتمائك وتعامل معهم بالطريقة الإسلامية، ولكن بشرط بقاء حالتك النفسية الداخلية على خط الإيمان، أما الحصول على جنسيتهم فلا مانع منه إذا لم يؤدّ إلى نتائج سلبية محرّمة ولو في المستقبل.
ضعف المودة للمؤمنين:
ـ أنا شاب مؤمن وملتزم ولكن عندما تحدث مشكلة بيني وبين إخواني المؤمنين تضعف مودتهم في قلبي وتتحول علاقتي بهم إلى مجرد السلام، وأشعر بصعوبة كبيرة في محاولة التقرب إليهم من جديد، خصوصاً إذا كان أخي المؤمن هو المخطئ معي؟
عليك أن تعرف أنه كما يخطئ الآخرون معك فأنت أيضاً تُخطئ مع الآخرين، فعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وإلا فهل تقبل ذلك إذا أخطأت مع الآخرين أن يعاملوك بنفس المعاملة؟ بالطبع لا، إنما ترجو أن يغفروا لك ويصفحوا عنك، وعليك أن تفعل ذلك عندما يخطئ الآخرون معك.
عذاب بسبب ذنب:
ـ إن لي ذنباً مع أخ لي أقرّ به وهو يعذّبني دائماً من بعدما تبت إلى الله منه، فماذا أصنع، علماً أني إذا أخبرته طلباً للمعذرة فقد يحصل ضرر في حياته؟
عليك أن تطب من الله سبحانه وتعالى أن يعطيه ما يقابل حقه ليعفو عنك من خلال حقه ومن خلال حق أخيك إذا كنت لا تستطيع أن تعطيه حقه.
حدود الأخوّة في الدين:
ـ يقول الإمام علي(ع): "الناس صنفان؛ إما أخٌ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق"( )، فما هي حدود الأخوّة في الدين وما حقها؟
يقول تعالى: {إنّما المؤمنون أخوة}( )، فالله عقد الأخوّة بين المسلمين المؤمنين جميعاً، وقد جاء عن الإمام الصادق(ع) في الحديث عن حق المسلم على المسلم ما يجمع حقوق الأخوّة الإيمانية وذلك مما رواه معلى عن خنش عن أبي عبدالله الصادق عما قال: "أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، والحق الثاني، أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره، والحق الثالث، أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك، والحق الرابع، أن تكون عينه ودليله ومرآته، والحق الخامس، أن لا تشبع ويجوع ولا تُروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى، والحق السادس، أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه، والحق السابقع، أن تبرّ قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته، وإذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه أن يسألكها ولكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك"( ).
ـ وهل يصحّ أن نميّز بين مسلم وآخر؟
المقصود بقوله تعالى: {إنّما المؤمنون أخوة} أن المؤمنين هم المسلمون الذين يعتقدون بالإسلام.
الخشوع في الصلاة الانفرادية:
ـ أرى نفسي أكثر خشوعاً وتوجهاً لله في صلاتي الانفرادية، وهذا ما لا أراه عند صلاتي جماعةً، فماذا تنصحني في هذه الحالة؟
ـ حاول أن تتوجه في صلاة الجماعة، لأن الشيطان ربما يريد أن يعزلك فيحرمك من ثواب صلاة الجماعة، ويمكنك أن تستحضر الجوّ الذي تحصل عليه من الصلاة الانفرادية في صلاة الجماعة التي يروى أنه إذا زاد عددها على العشرة فلا يحصي ثوابها إلا الله.
الثقة برحمة الله:
ـ لدي ـ بفضل الله ـ إيمان وحبّ وتوكّل على الله، وأظنّ أنني عندما أموت فإن الله سوف لن يعذّبني مع وجود الذنوب الكبيرة، فهل ما أظنّه صحيح؟
إذا كانت لديك مثل هذه الثقة برحمة الله فعليك أن يكون لديك في قبالها خوف من عذاب الله حتى تتوازن عندك مسألتا الخوف والرجاء.
المنع من حضور المحاضرات الدينية:
ـ أنا شاب مسلم سبق وأن تعرّضت من قِبَل والدي لعدة مضايقات، فهو يحاول دائمً أن يمنعني من حضور المحاضرات الدينية، فهل عدم الاستجابة له يمثل نوعاً من أنواع العقوق؟
يقول تعالى: {وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}( )، ومع أن الآية تتحدث عن الشرك لكنها تتحدث أيضاً عن كل انحراف عن خط الإسلام، يعني لو فرضنا أن والدك قال لك لا تصلِّ ولا تصُم، ويقول لابنته لا تتحجبي، فهل التزامهما بما أراد الله يكون عقوقاً؟ إن هناك نقطة مهمة وهي أن طاعة الهل فوق كل طاعة "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" فالمحاضرات الدينية هي من الأمور الحيوية لتنمية عقيدة وروحية الإنسان، لا سيما الشباب، ولذلك فإن الأب الذي ينهى أولاده عن حضور الحاضرات الدينية التي تفتح العقل على الله والتي توجّه وتقوّي للإنسان إيمانه، هو أب لا يُطاع في ذلك.
ولقد بيّنتُ مراراً أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين {وبالوالدين إحسانا} وأن الوالد ليس مشرّعاً {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}( )، أما طاعة الوالدين فهي ليست في مقابل إطاعة الله ورسوله وأولي الأمر {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}( )، حتى إذا أردت أن تعصيهم عندما يطلبون منك ما لا يرضي الله، صاحبهما في الدنيا معروفاً.
الاعتذار لمن بهتناهم:
ـ كيف ننتصر على أنفسنا بالاعتذار لمن بهتناهم حيث نجد الحواجز النفسية التي تمنعنا من الاعتذار وطلب براءة الذمة؟
أما أن تطلب براءة الذمّة ممن صدر منك خطأ اتجاهه بشكل إجمالي فتقول له نحن أخوان ربما أخطئ بحقك وتُخطئ بحقي فلنتسامح، وإذا لم يمكن ذلك، فعلينا أن نلجأ إلى الله ليتدخل، وأنا أنصح دائماً بقراءة (دعاء يوم الاثنين) الذي يتحدث عن الموضوع "اللهم وأيّما عبدٍ من عبيدك أو أمةٍ من إمائك كانت له قِبَلي مظلمةٌ ظلمتُها إيّاه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله أو في ولده أو غيبةٍ اغتبته بها أو تحامل عيه بميلٍ أو هى أو أنفةٍ أو حميةٍ أو رياءٍ أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً حياً كان أو ميتاً فقصُرت يدي وضاق وسعي عن ردّها إليه والتحلّل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبةٌ  لمشيئته ومسرعة إلى إرادته أن ترضيه عني بما شئت"، يعني إذا أنت لم تستطع أن تسترضيه فاطلب من الله أن يعطيه ما فيه رضاه.
حقّ المبهوت:
ـ في القانون المعمول به في كافة الدول يحقّ للإنسان رفع دعوى ضد من يفتري عليه وضد من يبهته فهل يحفظ الإسلام هذا الحق؟
من الطبيعي أن الإسلام يحفظ هذا الحق، وإذا ثبت أن هذا الإنسان قد بهته فللحاكم أن يعزّزه إذا لم يكن هناك حدّ شرعي معيّن.
الأخلاق الفردية والاجتماعية:
ـ يرى البعض عدم صحة تصنيف الأخلاق إلى أخلاق فردية وأخلاق اجتماعية، فما هو رأيكم في هذا التصنيف وأين يدخل البهتان؟
لا فرق بين الأخلاق، فالمهم أن يكون سلوكك منسجماً مع الخط الذي يريد الله لك أن تسلكه، لكن فردية الأخلاق واجتماعيتها تنطلق من متعلق الحالة، فاجتماعية الأخلاق وفرديتها لا تقرر من خلال الخط الأخلاقي، ولكن من خلال متعلق الأخلاق، فقد تكون متصلة بالشخص نفسه وقد تتصل بعلاقته بالآخرين، وطبعاً فإن البهتان يتعلق بالأخلاق المتصلة بالآخرين، كما أوضحنا.
التهيّب من ارتداء الحجاب:
ـ نلاحظ أن بعض الأخوات المسلمات يقُمن بأداء الصلاة على أكمل وجه، ولكنهنّ يتهيّبن من ارتداء الحجاب نتيجة الظروف التي رفضت عليهنّ والبيئة التي نشأنَ فيها، فنرجو توجيه كلمة مفيدة لهنّ تساعدهنّ على تخطّي الحواجز النفسية؟
نقول لهنّ، بارك الله في إيمانكن وصلاتكن وصومكن، ومن خلال معلوماتنا الدقيقة نعرف أن كثيراً من الفتيات أو النساء يحببن أن يتحجّبن سواء المتزوّجات منهنّ أو غيرهنّ، لكن الضغوط العائلية من جهة والاجتماعية والزوجية من جهة قد تمنعهنّ من ذلك.
إن عليكن أن تعملن بكل ما عندكن من قوة وتؤكدن التزامكن بالحجاب ما أمكن ذلك، وعليكن إذا كنتُن تراقبنالناس فيما يتكلمون بكلام غير مسؤول وأن تراقبن الله سبحانه وتعالى في ذلك، لأنه هو الذي يضمن لكن الحماية والرعاية ويجعل لكن من أمركن فرجاً ويهيئ لكن بعد العسر يسراً.
سُبُل تحبيب صلاة الجماعة للأبناء:
ـ ما هي السُبُل التي يمكن أن تحبب بها صلاة الجماعة لأبنائنا الصغار وشبابنا؟
أما أبناؤنا الصغار، فيمكن أن نحبّب إليهم صلاة الجماعة بالمرغّبات التي نعمد إليها في تشجيعهم على عمل حسن، وأما الشباب فعلينا أن نفتح قلوبهم على الإيجابيات المذكورة في صلاة الجماعة، وهذا يحتاج إلى أسلوب مناسب.
إرهاق الزوجة بالضيوف:
ـ هناك مشكلة اجتماعية في مسألة الضيافة، فنحن نحب الضيوف ونرب بم، لكن ربّة البيت تعاني من أمثال هذه الدعوات لأنها ترهق كاهلها، فنحن بين إحراجهنّ، استقبال الضيوف وإرهاق كاهل الزوجة بإعداد الطعام، فما هو الحل إذا اعتذرت الزوجة عن هذا العمل؟
عليك أن تتدبر أمرك مع زوجتك ولو بإعطائها أجراً، وبتذكيرها أنها لو امتنعت فذلك قد يتطلب جلب الطعام من المطعم أو جلب خادمة لإعداد الطعام، وذلك مما يثقل كاهلكما معاً، ولذا فإن الزوج يحتاج إلى لباقة في إقناع زوجته، وإذا كان الزوج طيّباً مع زوجته ورأت منه الحب والرعاية والاحترام فإنها تضحّي بالكثير من جهدها في أن تخفف عنه كل الإحراجات..
والله تعالى لم يجعل ذلك حقاً للرجل على المرأة، فحتى في مسألة الرضاع إذا طلبت المرأة الأجرة  على رضاعة ولدها فلا بد أن تدفع لها الأجرة إلا إذا طلبت أكثر من الاستحقاق، وعندئذٍ يقول الله تعالى: {وإن تعاسرتُم فسترضع له أخرى}( )، كل ذلك من أجل أن يشعر الرجل أن المرأة ليست خادمة، فعقد الزواج قد جعل حقاً للرجل على المرأة في جانب معين وجعل للمرأة حقاً في جانب آخر، والمساحة خارج هذين الجانبين واسعة، إلا إذا اشترط عليها في عقد الزواج كما يشترط على الموظف، وهذا شرط يخرج عن عقد الزوجية.
التحية الاجتماعية:
ـ يستعمل البعض تحية (الله بالخير)، فهل تعتبر هذه التحية إسلامية؟
إن تحية الإسلام هي السلام وهذه تحية اجتماعية، ولا بد للمحيّي بهذه التحية أن لا يسقط أول الكلمة بأن يقول (صبّحكم الله بالخير) أو (مسّاكم الله بالخير).
مفهوم العدل العائلي:
ـ ما هو مفهوم العدل في نطاق العائلة؟
أن يعطي الأب للمرأة حقها وللأولاد حقهم، وأن تعطي المرأة لزوجها ولأولادها حقهم، ويعطي الأولاد لأبيهم ولأمهم حقهما .
الحوار العائلي:
ـ ما رأيكم بالأب الذي يعتمد على الحوار العلمي الموضوعي في حل مشكلاته مع عائلته، وإذا واجهته بحقيقة فإنه ينفعل، وقد يؤدي ذلك إلى انعدام العلاقة بين الطرفين؟
يقول تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} ، فإذا لم تكن هناك فائدة من الحوار وقد يؤدي إلى نتائج سلبية ولا يحقق اقتناعاً للأب وردعاً عن خطئه فالأفضل ترك الجدل معه في ذلك.
رأي كبير العائلة:
ـ ما رأيكم في جماعة وجدتهم يقدمون ـ بإصرار ـ رأي كبير العائلة على الرأي الديني؟
قولنا هنا كقولنا في الذين يتّبعون آباءهم سواء كانوا موتى أو موجودين، لأن تقديم الرأي ينبغي أن يقوم على معايير الحق والإنصاف والعدل لا على معيار آخر.
نصيحة إلى الشباب:
ـ نريد نصيحة للشباب في هذا الوقت؟
نصيحتي للشباب أن يعتبروا أن الشباب طاقة أنعم الله بها عليهم، وعليهم أن يفجّروها ويحرّكوها ويخطّطوا لها بما يحقق لهم النتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة، وأن لا يشغلوا أنفسهم بالتفاهات من الأمور وأن لا يستغرقوا في شهواتهم وملذاتهم، بل أن يستغرقوا في أن ينتج شبابهم لشباب المستقبل علماً أوسع وإبداعاً أكبر وحياةً أكثر حرية وعدالة.
مواجهة اليأس:
ـ أحياناً تمرّ على الإنسان حالات وظروف تؤدي به إلى اليأس، فكيف نواجه هذا اليأس؟
يقول تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}( )، فاليأس ـ لوالتفت الإنسان إلى مدلوله ـ مساوٍ للكفر، فعلى الإنسان أن يعيش التفاؤل من خلال الانفتاح على قدرة الله ورحمته ونعمته، فكلما فكّر في الله ورحمته الواسعة لا يبقى عنده شيء من اليأس.
آباء متدينون وأبناء منحرفون:
ـ نجد كثيراً من الأبناء المنحرفين في سلوكهم وهم بعيدون عن الأجواء الإيمانية على الرغم من آبائهم من المتدينين والوعّاظ والمبلِّغين، فما هو الخلل في ذلك؟
الخلل هو أن هؤلاء الأبناء يعتبرون الإيمان من حواضر البيت، أي من الأمور غير المهمة، كما أن الآباء المؤمنين الواعظين يبيعون بضاعتهم على الآخرين ـ كما في المثل الدارج ـ ولا يبيعونها على أهلهم، فهم يعتقدون أن بيوتهم بيوت مؤمنة فلا ضرورة له أن يبلّغ أو يعظ أويرشد أهله.
أسلوب التربية الصحيح:
ـ ما هو الأسلوب الصحيح الذي يتّبعه الوالد في سبيل تربية أبنائه تربية إسلامية؟
ذلك يحتاج إلى وعي لأساليب التربية، وثقافة ومعرفة بعقلية ولده ونقاط ضعفه وقوته ليعرف كيف يطبّق عليه معلوماته التربوية في الأساليب وفي الفكرة.
مسؤولية الإنسان عن نفسه:
ـ يقول تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}( )، فما هي أبعاد هذه الضلالة في الحياة الدنيا، وكيف يمن أن يقاوم الإنسان المؤمن تيارات الضلالة؟
قوله تعالى يعني أن كل إنسان مسؤول عن نفسه فيما أوةجبه الله، فأنت مسؤول أن تقوم بطاعة الله وأن تدعو الناس إلى الإيمان، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فمسؤوليتك تنتهي عند هذا الجانب، فإذا وفقت واهتدى من أردت هدايته فالحمدلله على التوفيق، فقد ربحت أجر الهداية، وإذا لم توفّق وبقيضالاً فلا يضرّك ذلك لأنك قد قمت بواجبك.
فالله يريد أن يقول للإنسان إنك مسؤول عن نفسك سواء في علاقتك بنفسك أو في علاقتك بالآخرين.
ينتقد ويتراجع:
ـ شخصٌ ما ينتقد موضوعاً معيناً ويذمّ العاملين به، لكنه بعد أيام راح يخطط للموضوع الذي ذمّه، فما هو قولكم في مثل هذه الازدواجية؟
يمكن أن يكون هذا الشخص قد اقتنع بهذا الموضوع الذي كان ينتقده، فليس من الضروري أن تكون المسألة هنا ازدواجية.
معالجة الازدواجية:
ـ إن ازدواجية الأفعال والأقوال هي إحدى الأمراض الخطيرة التي يُصاب بها الإنسان، فكيف يمكن للإنسان المؤمن أن يعالج هذا المرض لديه؟
يعالجه بدراسة الازدوادية، فإذا كانت بين قوله وبين فعله فعليه أن يقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}( )، فإذا فكّر المؤمن في أن هذه الازدواجية توجب المقت الكبير عند الله، وهو لا يتحمل أن يمقته الله مقتاً عادياً، فكيف به إذا كان المقت كبيراً، فإذا فكر بذلك فإنه سوف يقلع عن التناقض بين قوله وفعله.
وعليه أن يفكّر بأن الازدواجية تنزل مقامه عند نفسه، لأنه يشعر أنه يعيش في الزيف فيحتقر نفسه لذلك، كما توجب احتقار الناس له( ).
آثار الذنوب على الروح:
ـ هل للذنوب التي يعملها الإنسان دون قصد مثل فوات صلاة الصبح مع إرادة القيام للصلاة، آثار على روحية الإنسان ومسيرته في طريق التكامل؟
لا شك أنها تترك تأثيرها النفسي، لأن الإنسان يفقد بذلك فرصة من فرص اللقاء مع الله والانفتاح إليه، والتضرع له والوقوف بين يديه( ).
بقاء متزوجة على نصرانيتها:
ـ إني متزوج من نصرانية وأحاول شرح صدرها للإسلام، فإن لم أوفق لتحقيق ذلك، فهل كتب على هذه العلاقة الزوجية الفشل أم ماذا؟ وهل تحبّذون مثل هذا الزواج مع ما فيه من آثار وخيمة؟
نحن لا نحبّذ ذلك باعتبار أن على المسلم أن يبحث عن بيت مسلم يتنفس فيه هو وأولاده وزوجته الإسلام، ومثل هذا الزواج ينعكس سلباً على تربية الأولاد لكنه جائز في نفسه.
صعوبة أداء صلاة الليل:
ـ إذا كان يستحب للمسلم أن يصلي صلاة الفجر في أول وقتها ولا يعود بعدها للنوم، بل يستحب قيام الليل خصوصاً في ثلثه الأخير، فهل يعقل أن أستيقظ كل يوم في الساعة الثالثة أو الرابعة فجراً وأبقى مستيقظاً حتى منتصف الليل، علماً أن ظروف عملي لا تسمح بالقيلولة؟
لقد وسّع الله عليك، فهو لم يجعل ذلك واجباً، أما إذا كنت لا تملك أن تسهر إلى ما بعد منتصف الليل فيمكنك أن تؤدّيها قبله صلاةَ تقديم وتحصل على الثواب، وكذلك يمكنك أن تصلي صلاة الفجر وتنام، وإن كان يكره النوم بين الطلوعين لأنه عندنا في بعض الأحاديث أن الله يقسّم الأرزاق ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
معاناة المغتربين:
ـ نعاني نحن المغتربين وأبناؤنا من عدم سماح بلدان الاغتراب بالممارسات العقائدية الإمامية، مما سينتهي إلى أن يصبح أولادنا بعد زمن إلى ما انتهت إليه الطوائف الأخرى، فكيف السبيل إلى منع ذلك؟
إذا فرضنا أنه هاجر إلى بلاد كهذه فإنه لا يجوز الهجرة إلى بلاد يضعف فيها الدين، فإذا لم يتمكن فعليه محاولة سدّ النقص بأن يجعل لأولاده دورة دراسية في البيت حتى يعرّفهم حقائق العقيدة.
الأصالة الإسلامية في مواجهة الانحراف:
ـ نسأل عن الأصالة الإسلامية في أسلوب مواجهة الانحراف، هل هو الأسلوب نفسه في مواجهة الانحراف عند المسلم كما هو الانحراف عند الكافر، أم أن المسألة تختلف بين الاثنين؟
إن الإسلام يعالج الانحراف لدى المسلم والكافر بروحية واحدة، وهي الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والدفع بالتي هي أحسن، والقول بالتي هي أحسن، لأن هذا هو الأسلوب الذي يمكن للإنسان أن يربح فيه قلب المنحرف ليربح عقله من خلال ذلك على أساس أن أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبه.. اربح قلب الإنسان يفتح لك الطريق إلى عقله.
لكن هناك فرقاً بين الانحراف عند المسلم وعند الكافر في المفردات التي تحدّث بها المسلم، لأنه ما دام مسلماً فهو يلتزم كتاب الله وسنّة رسوله، وعندما ينحرف عنهما فإنك تحاول أن تقوّمه وترجعه إلى كتاب الله وسنّة نبيّه على اعتبار أنهما الحجة عليه.
أما الكافر فلا بد لك أن تتخذ أسلوباً آخر في المفردات التي تقدّمها له عندما تحدّثه عن الإيمان من خلال العقل والوسائل التي يمكن أن يقتنع بها.
الحسد بين العلماء:
ـ نحن نعلم أن الدين يطهّر النفوس ويهذّب الأخلاق ويوثّق العلاقات، ولكن في دنيا الواقع نجد أن العلاقات بين العلماء الذين هم ورثة الأنبياء تقوم على الحسد والبغضاء والتنافر فيما بينهم، بينما قد نجد العلاقة في الوسط غير الديني تقوم على المحبة والتعاون والتسديد، فكيف تفسّرون ذلك؟
إننا لا نستطيع أن نطلق حكماً عاماً شاملاً على العلماء في هذا المجال، فهناكالكثير منهم الذين تنفتح قلوبهم على المحبة لبعضهم البعض وعلى الاعتراف بفضل من له فضل وبتقوى من له التقوى، ولكن المشكلة هي أن العلم لا يطهّر حياة الإنسان وسلوكه إذا لم تقترن به تربية أخلاقية تضع أقدام الإنسان على الخط المستقيم.
كما أن المشكلة هي أن الدوائر التي يتحرك فيها بعض الناس هي دوائر ضيّقة تنطلق من خلال حالتهم الذاتية أو من خلال بعض ما يحيط بهم، ومن الطبيعي فإن الدائرة عندما تكون ضيّقة بينك وبين إنسان والساحة محدودة فإن المشكلة هي أن القضية تكون في كيف تسبق هذا الإنسان إلى الساحة الضيقة وكيف يسبقك إليها، وفي حين أن الساحة بالنسبة للعلماء هي ساحة الإسلام كله وساحة العالم كله وساحة الإنسان كله وهي تتسع للجميع وتحتضنهم جميعاً، ويمكن أن ترتفع بالجميع وتحقق غايات الجميع، ولكن عندما تحشر نفسك في دائرة نفسك فإن من الطبيعي أن تفكّر بالنسبة للآخر بطريقة لا تحترمه فيها لأنك تخاف على نفسك منه.
والحقيقة هي أننا عندما ننفتح على الإسلام والإنسان والحياة كلها فلن يكون هناك حسد، وإلا فمن أين يأتي الحسد؟ إنه يأتي من أن شخصاً ما صاحب فضيلة معينة وأنت تخاف أن يختص بها فتريد أن تنتقل إليك تلك الفضيلة أو هذا الموقع.. فحالنا في ذلك كحال ذلك الإعرابي الذي جاء إلى النبي(ص) وقال له: أريد أن أدعو لي ولك يا رسول الله، فقال له: ادعُ، فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فقال النبي(ص): "يا هذا لقد ضيّقت واسعاً"، فالله تعالى يرحم ويغفر للجميع وهو القائل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}( ).
فمشكلة الحاسد هي أنه إذا نظر إلى من أعطاه الله مالاً فإنه يتصور أن لا أحد في الدنيا يمتلك المال غيره، فيقول الله اسلب مال فلان وأعطني إياه، ولكن الله يعطي الناس جميعاً، لأن خزائنه لا تنفد {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}( ).
فالصحيح هو أن تقول: اللهم ابقِ لفلان نعمته وأعطني نعمة منك، فعدم الثقة بالله وعدم التفكير به، بل والتفكير في الذات والدوائر الضيقة، هو الذي يبعث الناس على الحسد، وهناك بعض الناس يتربّون على الاعتراف بالآخر والانفتاح عليه وعدم الخوف منه.
فالجسد يدل على حالة ضعف في الإنسان، وإلا فالإنسان القوي هو الذي يقول أنا أستطيع أن أكون أفضل من فلان مع احتفاظ بما لفلان من فضيلة.
الحقوق.. لمن؟!:
ـ إن الغالبية من طلاب العلوم الدينية الذين يستلمون روابتهم من بيت مال المسلمين من الحقوق الشرعية يعيشون حياة الترف والاسترخاء ولم يحمّلوا أنفسهم مسؤولية التبليغ والعمل للإسلام الذين يعيشون على موائده، بينما نجد كثيراً من العاملين والمضحّين في سبيل الإسلام يعيشون حياة الكفاف والعوز ولا يحقّ لهم أن يأخذوا شيئاً من بيت مال المسلمين مما حدا بهم أن يطرقوا أبواب اللجوء إلى البلدان الكافرة كما أدّى إلى إضعاف دور الحركة الإسلامية في بلداننا، فهل إن الحقوق الشرعية تمنح لمن يلبس الزيّ الخاص بعلماء الدين أم هي خالصة لمن يدرس الفقه والأصول، ولماذ يحرم منها من يتفرّغ للعمل والجهاد في سبيل الله تعالى، فما هي وجهة نظركم الإسلامية في ذلك؟
أولاً: لا أعتقد أن الغالبية من طلاب العلم يعيشون هذا الترف أو أنهم لا يخدمون الإسلام، فهناك الكثيرون ممن يعيشون حياتهم للإسلام تبليغاً ودعوة، وهناك من يعتبرون طلب العلم مهنة يتعيشون منها وليس رسالة يعملون لها، ونحن لا ننكر ذلك، بل ونعتقد أن هؤلاء الذين لا يعملون للإسلام فلا يدرسون ولا يدرّسون ولا يبلّغون، بل ينتقلون من مكان إلى آخر من دون أية رسالية في حياتهم، ويعملون على استغابة الناس وإزعاج الواقع الإسلامي، لا يجوز شرعاً إعطاؤهم أي نوع من أنواع الحقوق الشرعية لأنها لا تُعطى للبطالين، بل تعطى للعاملين.
وثانياً: فإن الحقوق الشرعية تُعطى للفقراء وللمساكين وللمجاهدين وللعاملين في سبيل الله، ولكن المشكلة هي أن أكثرية الناس لا تدفع الحقوق، ولأن الحقوق التي تدفع لا تتوزع كما يجب، تماماً كما قال (برناردشو) حينما وصف وضع العالم الاقتصادي بقوله: اقتصاد العالم بين رأسي (وكان أصلعاً) وبين لحيتي (وكانت كثّة) كثرة في الإنتاج وسوء في التوزيع، فإذا صارت قلة في الإنتاج وسوء في التوزيع فكيف تراه يكون الحال؟!
حكم التخيّلات الباطنية:
ـ ما حكم التخيّلات والتصوّرات الذهنية الباطنية التي تطرأ على النفس بشكل محاورات نفسية، ولكنها تتضمن أفكاراً شريرة أحياناً؟
إن الله لا يؤاخذنا بما تتحدث به هواجسنا باعتبار أن الإنسان لا يملك حصور ذلك، ولكن على الإنسان أن لا يترك أفكاره تتحرك في متاهات التخيلات لأنها ربما تترك تأثيراتها في نهاية المطاف على نفسه، ولذلك فإن من الضروري أن يقف الإنسان أمامها ويطرد منها الشيء الفاسد ويلتزم الشيء الصحيح.
النهي عن الميوعة:
ـ أنا طالبة أدرس مع فتيات في بعض المعاهد، وهنّ يقمن ببعض الأعمال غير الأخلاقية التي تؤثر على سمعة المرأة المسلمة، مثل الضح الكثير والميوعة الزائدة والاستماع إلى الأغاني، فهل يحق لي منعهنّ من ذلك؟
ـ إذا كنت تستطيعين النهي عن المنكر فيجب عليكِ ذلك، أما إذا كنتِ لا تستطيعينه فليس عليكِ بأس.
النجوى في الخير:
ـ النجوى في الخير أمر مرغوب فيه، ولكن هناك حالة في المجتمع وهي اتهام المؤمن بالتكاسل والتخاذل مع أن يعمل الخير في الخفاء، فما هو الحل؟
الحل هو أن يعمل الخير في الخفاء وفي العلن {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً}( )، حتى يجبّ الغيبة عن نفسه.
الكذب في الإصلاح:
ـ قلتُم إن هناك كذباً يُثاب عليه الإنسان، ثم رويتُم حديث "الكذب ثلاثة؛ صدق وكذب وإصلاح بين الناس"( )، والملاحظة هنا هي أن الإصلاح لا يلتقي مع الكذب، أي أن الكلام الذي فيه مصلحة لا يطلق عليه الكذب، بل على الكلام غير الواقعي الذي يخدم الشر؟
إخراج الإصلاح من الاثنين الآخرين هو إخراج من الحكم، وإلا فهو كذب في الواقع، إذاً ما هو الكذب؟ إنه الكلام الذي يخالف الواقع، وأنت في الإصلاح قد تقول كلاماً مختلفاً لتسوية الخلاف.
أعطى الذكور ومنع الإناث:
ـ أعطى والدي الذكور قطعاً من الأرض كي يبنوا عليها بيوتاً، ولم يعطِ الإناث، فهل يجوز لي أن آخذ هذه القطعة من الأرض أم لا، علماً أنني أنثى؟
إذا أعطاهم ـ وهو مسلّط على ماله ـ فليس لكِ أن تأخذي هذه القطعة، إلا إذا بقيت لك حصة من التركة.
وإنني أقول لهؤلاء الآباء الذين يحرمون بناتهم إن هذا من نسلك وهذه من نسلك، وقد تحتاج البنت إلى أن تعطيها أكثر من الولد، لكنّ مشكلة بعض الناس أنهم يتدخلون فيما وضع الله له نظاماً، وأما ما ترك لهم الحرية فيه، وحمّلهم مسؤوليته فإنهم يتركونه، فنظام الإرث كما وضعه الله تعالى من أروع أنظمة الإرث، فلقد قال {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}( )، وهو عندما ركّز نظام الإرث فإنما بناه على أساس الحكمة، فبأية ذريعة تتدخل لإرباك هذا النظام.
لقد أعطاك الله حق الإيصاء بالثلث من مالك، فإذا أردت أن تخص بعض أولادك فأوصِ بالثلث، وإذا لم يكن لهذا الولد ـ الذي تخصّه ـ ميزة بحيث يرى الناس أنه يستحق الوصية، فأنت تقوم بعملية تعقيد أولادك ضدك ـ وللأسف ـ ترانا نتدخل في تخريب ما بناه الله وفي الوقت نفسه نُرجع إلى الله ما أوكل إلينا أمره.
التفاهم مع المتعصّب:
ـ ما هي الطريقة المُثلى للتفاهم مع من يتعصب لرأيه دون أن يفسح المجال للحوار؟
علينا أن نعالجه من مرضه، لأننا إذا حاورناه وهو متعصب لرأيه فسوف لن ينتهي الحوار إلى نتيجة، فلا بد من البحث عن الطريقة التي تعالجه من تعصبه ثم بعد ذلك نبدأ الحوار معه.
السباب في النقد:
ـ هل يجوز الشتم والسباب في الانتقاد؟
لا يجوز ذلك.
هل أنا مخدوع؟:
ـ أجد نفسي مؤمناً وأتأثر بالحديث وبالصلاة، وأحياناً لا أقدر على الامتناع عن ارتكاب الخطأ، فأعيش الألم والوحشة فأتوب وأعتبر وهكذا.. يرى البعض أن لا فائدة ولا خير فيَّ، فما رأيكم؟
إن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}( )، فأنت كمن يجلس في بيته وقد انقطع التيار الكهربائي عنه، ثم عاد ثانية، فالمهم أن لا تترك كهرباء عقلك وقلبك مقطوعة ومطفأة، بل حاول بمجرد انطفاء إيمانك أو أحساسك بإيمانك أو بربك، أن تبحث عن بطارية لعقلك وقلبك حتى إذا انقطعت الكهرباء من الداخل فإنها تجلب لك الطاقة من الخارج.
حساب السادة:
ـ هل للسادة من آل الرسول(ص) حساب يختلف عن حساب بقية الناس؟
يكذّب هذا ما جاء عن علي بن الحسين(ع) عندما قال له بعض الناس: "أتبكي وجدك رسول الله(ص) وجدك علي(ع) وأمك الزهراء(ع) وأبوك الحسين(ع)، قال: دع عنك ذكر جدي وأبي وأمي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً". وقد ورد في الحديث عن علي(ع): "إنّ ولي محمد من أطاع الله وإن بعُدت لُحمتُه، وإنّ عدوّ محمد من عصى الله وإن قرُبت قرابته أو نسبه"، وقول الله تعالى هو القول الفصل: {فلا أنساب بينهم}( )، وهو القائل على لسان نوح(ع): {ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءً يُجزَ به}( )، والقائل على لسان نوح(ع): {ونادى نوحٌ ربّه فقال ربِّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين* قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح}( )، ولم ينزل الله سورة في أبي جهل، ولكنه أنزل سورة في أبي لهب من أجل أن يؤكد هذا المعنى وهو أنّ القرابة من الرسول(ص) لا دور لها بمجردها في القرب من الله تعالى.
برُّ الزوجة بأهل الزوج:
ـ هل يجوز للمرأة المتزوجة أن لا تكون بارّة بأهل زوجها، وعلى الخصوص بأمّه وأبيه، وما هي المسؤولية التي يتحملها الزوج أمام الله في هذا المقام؟
لا يجب على الزوجة البرّ بأبي زوجها أو أمه أو بأقربائه، ولكن يحسن لها ذلك وهذا أيضاً من الجهاد، لأنها إذا أرادت أن تعيش حياة طبية مع زوجها فعليها أن تقدر ظروفه كما تريد منه أن يقدر ظروفها، ولعل هذا هو معنى {وجعل بينكُم مودةً ورحمة}( )، فالرحمة هي أن يرحم كل واحد منهم الآخر فيقدر ظروفه النفسية والعائلية وغير ذلك.
فينبغي للزوجة أن تلاحظ مشاعر زوجها في رعاية أبيه وأمه وأهله كما على الزوج أيضاً أن يلاحظ ذلك.
الضحك العالي:
ـ هل يجوز الضحك بصوت عالٍ لأي من الأسباب؟
ليس محرماً، ولكن على الإنسان أن يكون متوازناً في ضحكه كما يكون متوازناً في بكائه.
الصدقة عن الوالد:
ـ هل يجوز أن أتصدق بصدقة عن والدي وأصدقائي؟
يجوز لك أن تهدي ثوابها لوالديك أو عن روحيهما.
أسرار الأحكام:
ـ ما رأيكم في أسرار الأحكام، فهل أن ملاكها هو التسليم المطلق لله أو لها ملاكات واقعية في ذاتها؟
إنّ تكليفنا هو أن نطيع هذه الأحكام ونسلّم بها، وذلك من خلال قول الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم}( )، وقوله أيضاً: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً}( ).
ولكن لا إشكال أنه ما من حكم إلا وهناك مصلحة أو مفسدة فيه جعلته حلالاً أو حراماً، وقد ورد عندنا في بعض تراث أئمة أهل البيت(ع) أنهم كانوا يجيبون السائلين عن علل الأحكام مما يوحي أن الإسلام لم يغلق على الناس باب المعرفة أمام علامات الاستفهام في أذهان السائلين في هذا المجال، ولكن من الضروري أن لا نستعجل تفسير الحكم في ملاكه ما لم تقم حجة على ذلك، فإن دين الله لا يُصاب بالعقول في كل أسراره.
قلبٌ مَن لا يخشع:
ـ بِمَ تنصحون مَن قلبه لا يخشع وعينه لا تدفع ودعاؤه لا يُسمع؟
أنصحه بما أنصح به نفسي أن يعيش مع الله تعلى في مواقع عظمته لتتجسّم هذه العظمة في قلبه وأن يعيش مع الله في مواقع نعمته ليعيش الحاجة إلى الله من خلال نعمه وليتفهّم ما يقرأه في صلاته ودعائه وكتاب الله.
فإذا فتح قلبه لله فإن الله يهديه إلى أن يتوجّه إليه وإلى أن يخشع قلبه له.
العيش في أجواء إباحية:
ـ الحياة في أوروبا تضعنا عنوةً في مواقف إباحية محرجة وفتنة، فهل علينا إثم؟
للمسألة جانبان:
الأول، هو أن الإنسان يُبتى بالنظر إلى العراة وأوضاعهم، فهنا يقول تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}( )، أي يحاول مهما أمكن أن يغضّ الطرف، ويحاول أن يحتفظ لنفسه بطهارتها وروحيتها، وهو النظر الذي يكون بدون ريبة وتلذّذ وشهوة، والأمر اليوم في الشرق كما هو في الغرب، مما يستدعي الحيطة والحذر ومراقبة النفس هنا وهناك.
أما الجانب الثاني، وهومسألة الفتنة والإباحية من حيث الدخول في الجانب العملي، فعلى الإنسان في أي مكان كان أن يجاهد نفسه.
بين الشرق والغرب:
ـ قد يفهم البعض من كلامكم أنكم تجعلون الشرق والغرب في ميزان واحد، بينما نجد أن من يعيش في الغرب يعرف قيمة الظواهر الإيمانية الشائعة في الشرق كالحجاب والصلاة، فما هو رأيكم؟
لا شك أن الحرية الفردية في الغرب ألغت المحرمات كلها، فلا يجوز للإنسان الذي لا يستطيع أن يمسك نفسه وأهله عن المحرمات، البقاء في بلاد يضعف فيها دينه ودينهم، وما ورد في الإجابة لا يضع الشرق مع الغرب في ميزان واحد، ولكن في مورد الشاهد أن بلداننا حذت حذو الغرب في الخلاعة والتبرّج، وزادت عليه أحياناً.
الخوف من طلب العفو:
ـ لي ذنوب كثيرة أندم عليها، لكن الخوف والخجل يمنعاني أحياناً من طلب العفو من أهلها، فما السبيل إلى غفرانها والتوبة منها؟
الذنوب على قسمين: فتارة يكون هناك مال أخذته من هؤلاء الناس، فعليك أن ترجعه بأكثر من طريقة وطريقة، وتارة تكون غيبة وما أشبه، فإن كان حرجاً عليه فيستغفر لهم "كفّارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته"( )، وفي دعاء يوم الاثنين تطلب من الله أن يتولى ذلك بأن يعطيه حقه عنك، فارجع إليه( ).
انحراف أبناء اللاجئين:
ـ يعمد الكثير من الناس الراغبين في اللجوء إلى السفر أولاً وترك أبنائهم حتى يحين موعد استدعائهم، فلو انحرف الأبناء بعد أن يتركهم الآباء فهل يأثم هؤلاء لتقصيرهم في واجبهم التربوية؟
نعم، إذا كان تركهم لأولادهم يوجب إضلالهم فإنهم يعصون أمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}( )، فلا بد لهم من رعاية أبنائهم من الناحية الدينية.
الذنوب في أدعية المعصومين( ):
ـ يظهر من بعض الأدعية الواردة عن الإمام السجاد(ع) وعن الإمام علي(ع) ما يشم من رائحة وقوع الذنوب منهم، فكيف نوجه ذلك، فهل هي لتعليم الناس أو أنها واردة بلسان الإنسان أو غير ذلك؟
هذه المسألة واردة في الأدعية القرآنية أيضاً، وليست فقط في المأثور من أدعةي أهل البيت(ع)، فلقد جاءت على لسان كل الأنبياء(ع)، فإبراهيم(ع) يقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}( )، وكذلك نوح(ع): {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا}( )، وفي سورة الفتح عن النبي(ص): {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}( )، وما إلى ذلك.
فالأقرب في تفسير ذلك هو أن هؤلاء الأنبياء والأئمة(ع) لم يكن دعاؤهم تعليمياً، لأن الإنسان عندما يكون معلّماً فإنه قد لا يعيش جوّ الدعاء، فالأئمة(ع) كانوا يدعون ويبكون وكان الأنبياء(ع) يدعون ويخشعون، فمعنى ذلك أن هذا الدعاء الذي يصدر منهم ينطلق من أعماقهم وإيمانهم، فليست المسألة هي ترتيب أو إنشاء دعاء كمن يكتب أو يؤلف قصة أو دعاء، لكنهم(ع) تواضعاً منهم لله تعالى يستحضرون في داخل شخصيتهم شخصية الإنسان، فـ(أنا) في دعاء علي(ع) أو غيره لا تعني علياً بشخصه، بل تعني أنا الإنسان، فكأنه يجّرد من نفسه شخصية الإنسان ويستحضر ذنوب الإنسان كلّها وحاجاته وتطلعاته كلها وكل ما يريده من الله سبحانه وتعالى.
ولذلك، فأنت ترى الإمام(ع) يعدد الذنوب كلها، فهل يصحّ أن يكون قد ارتكبها كلّها ـ لو افترضنا ذلك جدلاً وهو المعصوم الذي لا تصدر عنه معصية بأي شكل، لكنك تسمعه يقول: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحسب الدعاء...الخ".
فلقد جمع الذنوب كلها في نتائجها السلبية على الإنسان باعتبار أن الإنسان غير المعصوم قد يرتكب كل تلك الذنوب.
وحتى ما كان يقوله بعض العلماء السابقين من أن هذا من قبيل "حسنات الأبرار سيئات المقرّبين"، فإنه لا يجري في ذلك، ففي الأصل ليس هناك شيء من هذه الذنوب، ولذا فأقرب توجيه لاستغفار المعصومين(ع) واعترافهم بالذنوب مع أنهم لا يذنبون، هو طرح الصفة الإنسانية لا الصفة الإمامية أو النبوية.
التخلّص من النزاعات:
ـ ما هو رأيكم في جميع كلمة المسلمين، وكيف يمكن أن نتخلّص من النزاعات التي في الساحة في أيامنا هذه؟
إن علينا أن نرجع إلى الله، ونتأدّب بآداب القرآنالذي يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}( )، ويقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}( )، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}( ).
كما أننا نتعلم من الإمام علي(ع) كيف كان يدير المسألة الأساسية الحيوية التي تفرق المسلمون على أساسها، وهي خلافات العصبية وليست خلافات الحق والدفاع عنه، فهي مصداق قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}( )، ومن المؤسف أن أغلب هؤلاء الذين يديرون الخلافات في القضايا الهامشية والتي تمزق الواقع الإسلامي، ولا يتحركون من أجل الحوار، قد جاءهم العلم فرزع في نفوسهم البغي بدلا من أن يزرع التقوى والمحبة.
صلة الرحم والعمر:
ـ هل هناك رواية في خصوص أن صلة الرحم تطيل العمر وعدم الصلاة تقصّره؟
نعم، هناك روايات تدل على هذا وذاك .
منع أبناء اللاجئين من النوادي:
ـ يلجأ بعض الآباء المسلمين في الغرب إلى عزل أبنائهم عن المجتمع مخافة انحرافهم، فيحرمونهم من العمل والذهاب إلى النادي لممارسة هواياتهم، فهل هذا العمل صحيح، وما هو الأصحّ برأيكم، وما هي الوسيلة لتأمين انخراطهم في المجتمع دون أن ينحرفوا؟
ربما كان هؤلاء الآباء مخلصين في ذلك، لأنهم يرون أن المجتمع في انحرافه أقوى من كل الجو الذي يعيشونه في خطهم الإسلامي، لكننا نقول لهؤلاء الآباء وغيرهم إن إبعاد الإنسان عن التجربة يجعله أضعف، لأنه عندما يخرج من هذا الجو إلى جو آخر فقد يكون ضعيفاً لا يستطيع مواجهة تجربة أخرى ليصارعها.
ولذلك علينا إذا اضطررنا إلى الذهاب إلى ا لغرب مع أولادنا أن نهيئ محاضن ثقافية وروحية بالإضافة إلى المدارس الإسلامية ولو بأن يدفع كل إنسان من قوته، فليست المسألة هي أن نربح أولادنا مادياً ونخسرهم دينياً وروحياً، فعلينا أن نرعى أولادنا ونقوّي لهم إيمانهم ونتعهدهم بالرعاية ونختار لهم الانفتاح في المواقع والممارسالت بما يعطيهم شيئاً من قوة الشخصية في حركة التجربة وتحت رعايتنا.
ندم على سرقة:
ـ لي صديق يعمل في مكتب منذ سنوات وكان فقيراً ومعاشه محدوداً وكان يرى المال الكثير، فراوده الشيطان وأخذ مبلغاً اشترى به منزلاً وزوّج أخته وهو نادم كثيراً على ما فعل وضميره يعذّبه ولا يقدر أن يرجع شيئاً من المال الحرام، وهو لا يملك سوى منزله؟
عليه أن يبيغ منزله ويؤدي المال إلى أصحابه وأن يعمل لأداء المال إليهم، فكما يقول الأصوليون "الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار"، فلقد كان مختاراً في عدم أمانته، فعليه أن يعمل بكل ما عنده من طاقة في حاضره ومستقبله ليرجع المال إلى أصحابه.
الوسوسة في الصلاة:
ـ إذا حصل الوسواس في فعل من أفعال الصلاة فهل يعم الأفعال الخرى، وهل يسري حكم الوسواس إلى الطهارة؟
إذا كان وسواسياً في حالة ومعتدلاً في الحالات الأخرى فحكمه حكم الوسواسي في هذه الحالة، أي لا يعتدّ بوسوسته.
هل الظلم متأصل في النفوس؟
ـ يقول المتنبي:
    والظلم من شيم النفوس فإن        تجد ذا عفةٍ فلعلّةٍ لا يظلمُ    
فهل الأصل في الإنسان الشرّ أوالخير؟
إن القرآن أصدق من المتنبي لأنه يقول: {وهديناه النجدين}، ويقول {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}( )، ويقول {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}( )، وفي الحديث: "كل مولود يولد عل الفطرة إلا أن أبويه يهوّدانه وينصّرانه"( )، وربما ورد "يمجّسانه"، ويقول علي(ع): "قلب الحديث كالأرض الخاليةما ألقي فيها من شيء قبلته"( )، فالإنسان صفحة بيضاء وقالبيته للخير أكثر من قابليته للشر، باعتبار الفطرة، ولكن الطوارئ الخارجية هي التي تنحرف بها عن مجالها الطبيعي.
التقييم على أساس الشهادة:
ـ قد نجد الكثير من الناس يقيّمون الناس على ضوء ما يحملونه من شهادات أكاديمية وبالنتيجة يأخذون بآرائهم وأفكارهم حتى لو كانت خطأ؟
من الطبيعي أن هذا النوع من الانبهار بالشهادات أو بحملة الشهادات ليس فيه مصلحة لأحد، فقد يكون حاملاً أحدهم للشهادة وهو إنسان ضال ومنحرف استغلالي وما إلى ذلك، وقد نرى إنساناً لا يحمل شهادة وهو إنسان طيب وصالح والعكس بالعكس، وقد تعطي الشهادة الإنسان قيمةعلمية ولكن ليس من الضروري أن تعطيه الأساس في الصواب وما إلى ذلك.
البرنامج العبادي لزيارة المراقد:
ـ ما هو أفضل برنامج عبادي للزائر حين يزور مراقد الصالحين والأولياء من أهل البيت(ع)؟
على الزائر أن يعيش جوّ أهل البيت(ع) بمعنى أنه يعيش حالة تأمل وتفكر في حياتهم وأسرارهم وتجاربهم وعلمهم ووصاياهم، ومن الجو العبادي في المراقد والمزارات أن يقرأ القرآن والأدعية هناك، لا أن يستغرق في الجوانب الشكلية التقليدية التي لا تمنح الإنسان أية روحية في عملية النموّ الروحي ي الاتصال بالله من خلال وعي القيم الروحية والمعرفة الإسلامية التي يتمثّل فيها الأئمة والأولياء والصالحون.
فعلى المؤمن أن يعرف أن دور الزيارة هو دور حركة الدعوة في الانفتاح على الرساليين في رسالتهم بعد موتهم كالانفتاح عليهم في حياتهم مما يجعل القضية قضية الرسالة فيمن يجسّدونها بأقوالهم وأفعالهم في التاريخ، كما كان ذلك في الواقع، وليست القضية قضية الاستغراق في الذات في الجانب الذاتي والمجرد.
دعوة للحوار حول الحجاب:
ـ تلقيت دعوة من طالبات من كليات مختلفة للحوار حول قضية الحجاب، فهل ترى عليّ من ضير في اجتماع مثل هذا، فهن ـ وكما في دعوتهن ـ يردن الخروج من حالة الجهل بأمور الدين وهن من القريب البعيد بالنسبة لي؟
يجوز ذلك إذا كان لا يخشى على نفسه من الفتنة، ولم يكن هناك مانع آخر، بل قد يجب ذلك من باب الدعوة إلى الله أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المصافحة وكرامة المرأة:
ـ فيما يخصّ مصافحة المرأة في الغرب، فمهما حاول المسلم توضيح الأمر لا يفهم الغربيون ذلك، ويعتبرونه إهانة وامتهاناً للمرأة ويستغلون ذلك في اتهام الإسلام بامتهان كرامة المرأة مما يزيد في دعايتهم ضد الإسلام؟
إن هذا الاتجاه إذا ساد أو سرت هذه النظرة التي يحاول الغربيون أن ينعتوا بها المسلمين، فإن من الممكن أيضاً أن الذي لا يشرب الخمر يتهم بأنه مخالف للجوّ العام، فإذا قدم لك شخص خمراً ولم تشربه فإنه يتهمك بمخالفة اللياقات العامة والآداب في مفهومها الغربي.
ولذلك علينا أن نؤكد خطنا الإسلامي في أي مكان، وانظروا إلى تجربة اليهود، فهم لا يأكلون إلا طعاماً معداّ وفق الشروط اليهودية، ولذلك فإنهم فرضوا على أوروبا العلمانية أن يخصص في كل مسلخ لذبح الحيوانات مكان لليهود بينما لم يستطع المسلمون ذلك مع أنهم أكثر من اليهود.
المجالس التي يُهان فيها العلماء:
ـ ما حكم من يجلس في مجلس فيه إهانة لبعض العلماء أو أحد المؤمنين، وبوضوح هل يجوز أن أحضر مجلس ينال فيه من سمعة هؤلاء؟
يقول تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}( )، فإما أن يردّ على ذلك أو ينسحب، لأن البقاء في المجلس علامة الرضا والحال شبيهة بما يحصل بالتعامل الدبلوماسي، فإذا حضر دبلوماسي مؤتمراً أو اجتماعاً ووقف دبلوماسي آخر خطيباً ونال من بلاد الدبلوماسي الأول فإن المطلوب من هذا أن ينسحب وإلا يعاقب من قبل حكومته خاصة وأنه ليس لديه حق الرد في العرق الدبلوماسي، فإذا لم ننسحب من أمثال هذه المجالس فإن الله يعاقبنا على ذلك.
التنصّل من مسؤولية الدعوة:
ـ من الظواهر المؤلمة في واقعنا ظاهرة تنصّل العديد من المؤمنين من مسؤولية الدعوة إلى الله بعدما عاشوا لها وجاهدوا في سبيلها وأبعدوا من أجلها، فكيف يمكن إعادة الحماس إلى المؤمن المهاجر ليعود إلى ممارسة الدعوة والتبليغ لدينه وعقيدته؟
هذا يحتاج أولاً أن يقال للإنسان المهاجر أو المواطن إنك مسلم وقد تغيّر الظروف بعض أوضاعك الاجتماعية، وقد تتعقد بعض الأمور لكن ذلك لا يعقده من الله ومن رسوله ولا من القرآن، فأن تكون مسلماً يساوي أن تكون داعية إلى الله، وأما الذين يتعقدون من الدعوة إلى اله والعمل في سبيله نتيجة بعض الظروف الضاغطة في الحياة، فإن عليهم أن يداووا إيمانهم ذلك أن في قلوبهم مرض، وعليهم أن يعالجوا صدورهم من الذبحة الإيمانية كما يداووها من الذبحة الصدرية.
مشكلة عدم فهم الأبناء:
ـ يعاني الشبّان، والمراهقون منهم خاصة، من عدم فهم الآباء وإساءة التعامل مع هذه الفترة الحرجة، فهل من كلمة توجهونها إلى الوالدين في هذا الشأن؟
إنني أقول للآباء وللأمهات إن عليهم أن يفهموا أطفالهم، لأن الطفل ليس لوحة جامدة لا تختزن ما تراه وما تسمعه وما تشاهده، كما أن للطفل غرائز حتى قبل البلوغ إن في جسده أو في عاطفته، فعلينا أن نفهم أطفالنا وأن نراقب المؤثرات التي يتأثرون بها مما يشاهدونه أو يسمعونه أو يجرّبونه في ألعابهم أو مما يعيشون في صداقاتهم، وأن نتابع نموّ الطفل ولا سيما في المرحلة الحساسة وهي مرحلة المراهقة التي يعيش فيها من موقع الطفولة إل موقع الشباب.
فإذا أهملنا أطفالنا في هذه المرحلة ولم نفهمهم ولم نتابعهم في طريقة النمو وعناصره، فإننا قد نفقد شبابهم وكهولتهم، لأن هذه المرحلةهي مرحلةالأساس وأنتم تعرفون أن إهمال هذه المرحلة يعني أن لا قيمة للطوابق التي تقوم فيما بعد على بناء لا أساس له.
الانضمام لـ"شهود يهوه" للحصول على إقامة:
ـ يتأخر منح الإقامة لبعض اللاجئين إلى بلاد الغرب فينضمون إلى المنظمة اليهودية المعروفة "شهود يهوه" لغرض تسهيل أمر الإقامة فقط، فهل يجوز ذلك؟
لا يجوز ذلك مطلقاً.
تفسير انحراف أولاد الأنبياء والأئمة(ع):
ـ كيف تفسرون مسألة انحراف أولاد الأنبياء والأئمة(ع)؟
أن تعيش في بيئة نظيفة طاهرة لا يعني أن يكون طهرها حتمياً في طهارتك أنت الذي تعيش فيها، لأن بعض الناس ربما يعيشون في البيئة الطاهرة ولكنهم يعتبرونها أمراً مألوفاً لا يتأثرون به.
وربما يعيشون بعض المؤثرات الخارجية عندما يواجهون بيئة طاهرة ببيئة قذرة، فنجد أن ابن نوح قد عاش الإيمان في بيئة أبيه وعاش الشرك في بيئة أمه، وقد جعل الله إيمان الإنسان وكفره في حركة اختياره {إنّا هديناه السبيلَ إما شاكراً وإما كفوراً}( )، ولا فرق في ذلك بين أولاد الأنبياء وبين غيرهم.
وربما نجد بعض أولاد العلماء يستهين بالدين وبالالتزام، ويعتبر ذلك من قبيل البضاعة التي يبيعها للناس لأنهم لا يعيشون روحية وعمق هذه المعاني.
الزواج بأجنبية تتعهد الالتزام:
ـ أحد أولادي في السويد يرغب بالزواج من سويدية وهي مستعدة لأن تُسلم وتتبع طريقته، فما رأيكم بذلك؟
إذا كانت جادة في ذلك ومستعدة للالتزام بالإسلام فليست هناك مشكلة من حيث المبدأ، ولكننا نخشى من خلال التجارب أن لا تكون نتائج هذا الزواج عملية، لأننا وجدنا الكثير من الأجنبيات اللاتي تزوجن بمسلمين، ثم انقلبن بعد ذلك فأخذن الأولاد بحسب قانون الحكومات هناك.
وهناك نقطة يجب أن نفهمها في هذا المجال، وهي أن تقاليد الغربيين وعاداتهم تختلف عن تقاليدنا وعاداتنا، فالخيانة الزوجية هناك طبيعية جداً، سواء خيانة الزوج لزوجته أو خيانة الزوجة لزوجها، فمن الصعب جداً أن يحدث نوع من الانسجام في ظل اختلاف هذه العادات والتقاليد.
وأما موقفك كوالد فهو أن تنصحه وتقنعه، فإذا كان مصراً على ذلك فاتركه لشأنه ليتحمل مسؤولية اختياره.
قاطع الرحم:
ـ لي ابن عم خطب إبنتي ولما لم تقبل به اعتبرني السبب في رفضها، فقاطعني جرّاء ذلك، فما حكمه؟
هو قاطع للرحم، وعليه أن يفهم أن رفضها يمنع الأب من الموافقة على زواجها منه، فلا ذنب من جهة الأب تجاهه، فلا يجوز للأب أن يجبر ابنته أو ولده على أن يتزوجا من لا يريدانه.
تقسيط دعاء السحر:
ـ هل يمكن الاقتصار في شهر رمضان على قراءة مقاطع معيّنة من أدعية السحر، لأنها طويلة وهل يقسّم الدعاء على ساعات السحر؟
في الدعاء ليس المهم أن تقرأة تلاوة، إنما المهم أن تعيشه، وإذا رأى نفسه غير قادر على قراءة دعاء (أبي حمزة) كله فيمكن أن يكتفي بصفحتين أو ثلاث، بشرط أن يكون متوجهاً، فعلى الإنسان أن يتوجه بالدعاء وأن يدعو الله بتضرّع وخشية، لا أن يقرأ الدعاء بحساب الصفحات، فهناك فرق بين أن يعيش أجواء الدعاء ويشعر أنه يتكلم مع الله ويبتهل إليه، وبين أن يقرأ الدعاء ككلمات مسطّرة في الصفحات.
الفصل السابع

المسائل الفقهية

"دور المرجع والمجتهد والفقيه والمثقّف أن يعطي الناس الوعي للإسلام الحقيقي، وليس دوره أن يجاملهم"

ـ أولاً: المرجعية والتقليد.
ـ ثانياً: النجاسات والطهارات.
ـ ثالثاً: الوضوء والصلاة والإقامة.
ـ رابعاً: الصيام والكفارات.
ـ خامساً: الخمس والزكاة.
ـ سادساً: أموال وبنوك.
ـ سابعاً: الحج.
ـ ثامناً: الزواج والطلاق.
ـ تاسعاً: السلوك والمعاملات.
 
أولاً: المرجعية والتقليد+

أسباب عدم الأخذ ببعض مصادر التشريع:
ـ هل لكم أن تذكروا لنا ما هو السبب في عدم الأخذ ببعض مصادر التشريع كالمصلحة المرسلة والاستحسان والقياس وغيرها من مصادر التشريع؟
الأصح أن تقول مصدر الاجتهاد، لأنه ليس لدينا تشريعات متعددة، فلا بد أن يخضع هذا المصدر لحجة من الكتاب أو السنّة، فكل شيء نريد أن نجعل منه دليلاً على حكم شرعي لا بد أن يمثل حجة لنا أمام الله تعالى، والآية الكريمة تقول: {آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}( )، فلا بد أن يأذن الله لنا في كتابه وفي سنّة نبيّه بالأخذ بهذا المنهج في الاستدلال على الحكم الشرعي، وعند ذلك نستطيع الأخذ به.
فالقياس جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي(ص) والأئمة(ع) في رفضه "إن السنّة إذا قيست محق الدين"( ) لأنه يرتكز على أساس أن هناك حكماً شرعياً وارداً في موضوعٍ ما، وهناك موضوع يشبهه، ولكن لا حكم فيه، فهنا يعني القياس أن حكم هذا الموضع هو نفس حكم الموضوع المماثل، في حين لا أساس لدينا بالقول أن علة الحكم في هذا الموضوع هو ما نعتقده أنه هو العلّة، فنحن نظن أن يكون كذلك، ولكن الله يقول: {إن الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً}( )، فليس لدينا دليل على حجيّة القياس.
وأما الأدلّة التي أقامها الأخوة السنّة على حجيّة القياس، فقد نوقشت، وهي ليست تامة عندنا، ولقد دلّ القرآن على خلاف حجيّة القياس كما في الآية السابقة، فالأساس ظنيّ، ولما كان كذلك فالظنّ لا حجيّة فيه إلا إذا جاءت الحجة من الشارع.
وكذلك المصالح المرسلة والاستحسان، فإنها ترجع إلى أصول ظنيّة ولم يرد من الشارع تأكيدها، ونحن لا نأخذ بها لعدم الدليل على حجيّتها وعلى كونها حجة في إثبات الحكم الشرعي.
الضرورة:
ـ ما تعريف الضرورة، وهل تعيّن من قِبَل صاحب المسألة أم من قِبَل الحاكم الشرعي؟
الضرورة هي الشيء الذي يشعر الإنسان بأنه لو لم يفعله لحدث له مرض أو سقوط في واقعه، بحيث يكون الأمر شديداً وفوق العادة.
فالأمور العامة للضرورات يحددها الحاكم الشرعي، وأما في الأمور الخاصة فيمكن للإنسان أن يحددها بنفسه.
تعليم الجاهل الأحكام الشرعية:
ـ يقول السيد الخوئي(قده) في تعليم بعض الأحكام الشرعية للزوجة، إنه يجب تعليم الجاهل، وأنا أرى كثيراً من أخواني المسلمين يجهلون كثيراً من الأحكام الشرعية، وقد يكون تنبيههم حرجياً، فما هو موقفنا من ذلك؟
هذا يدلّ على أن الناس، سواء كانوا من أهل العلم أو من غير أهل العلم، مقصرون في تعليم الناس الأحكام الشرعية باعتبار أن الوضع اليوم هو أن الناس ـ غالباً ـ يعيشون بدون أي توجيه أو تربية في المجال الديني، سواء بالنسبة للعقيدة أو الأحكام الشرعية، في حين أن تعلّم هذه الأحكام واجب على كل مسلم ومسلمة بقدر ما يعرفون.
إتّباع حكم المرجع:
ـ عندما يصدر أحد المراجع حكما معيناً، فهل يجب عليى جميع الشيعة اتّباع الحكم أم على مقلّديه فقط؟
إذا كان حكماً يتصل بمسائل التقليد فإنه يجب على مقلّديه فقط.
ولاية الفقيه والتقليد:
ـ هل تدور ولاية الفقيه مدار التقليد؟
نعم، هي حكم شرعي، وليست  حكماً عقيدياً، ولذلك فإن الإنسان يتبع في سعة الولاية وضيقها، رأي مقلده.
من يحدّد الاضطرار؟:
ـ وردت آيات كثيرة تتحدث عن الاضطرار، فهل الإنسان العادي هو الذي يحدّد هذا الاضطرار أم الفقيه، وهل يعتبر الأمر المستقبلي بما يحمله من مخاطر اضطراراً؟
إن الاضطرار الحاد ـ بحسب المصطلح الفقهي ـ هو الحالة التي تتوقف حياة الإنسان فيها على تناول المحرّم كما في أكل لحم الميتة، فالله تعالى يقول: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}( ).
وربما يقول بعض الفقهاء إن المراد من الاضطرار هو الاضطرار العرفي، وهي الحالة التي يلزم تركها الحرج أو الضرر، ولعل هذا هو الأقرب، ولا بد للإنسان أن يدرسه بنفسه {بل الإنسان على نفسه بصيرة}( )، وربما يكون الاضطرار بلحاظ المستقبل، كما لو أنه علم أنه إذا لم يأكل الميتة ـ مثلاً ـ فسوف يُبتلى بمرض ما بعد سنة يؤدي به إلى الهلاك أو الخطر، فيجوز له ذلك ويعتبر مضطراً ولو بلحاظ أن ترك الأكل الآن يؤثر على حالة مستقبلية تشكل خطراً على حياته.
مفهوم ولاية الفقيه:
ـ نرجو توضيح مفهوم ولاية الفقيه؟
ولاية الفقيه ـ عند من يقول بها ـ تمثل القيادة التنفيذية للأمة، فهي لا تمثل قيادة تشريعية، فالولي الفقيه ـ كما هي ولاية الأب الذي يدير شؤون أولاده، وكذا ولاية الحاكم الشرعية ـ على رأي من يقول بالولاية الخاصة من أمور الأيتام والمجانين والأوقاف، يدير أمور الأمة من موقعه القيادي، وذلك في الجوانب التنفيذية لا في الجوانب التشريعية.
وهي حكم شرعي يتبع فيه الإنسان مقلّده، فإذا كان يقول بولاية الفقيه العامة فعليه أن يلتزم بها، وإذا كان يقول بالولاية الخاصة فعليه أن يلتزم بها.
شروط وكالة المرجع:
ـ للمراجع مندوبون وممثلون في مناطق مختلفة في العالم ليكونوا على اتصال بمقلديهم، والإجابة على التساؤلات التي يصادفونها، فما هي الشروط التي ترونها ضرورية لاتصاف الوكيل بها حتى يؤدي مهامه على أحسن وجه؟
لا بد أن يكون الوكيل مثقفاً ثقافة إسلامية واجتماعية بحيث يستطيع بها إدارة أمور الناس، وأن يكون تقياً بحيث يقف عند حدود الله سبحانه وتعالى، فالشروط هي: الثقافة والوعي والتقوى.
شروط اللياقة والأهلية:
ـ انفرد السيد الشهيد الصدر(رض) باشتراط اللياقة والأهلية للمجتهد المقلد، فماذا عنى بهذا الشرط؟ وهل يدخل الوعي الفكري والسياسي في ذلك؟
إن اللياقة والأهلية للمرجع التي يقصدها السيد الشهيد هي التي تتصل بعمله المرجعي، بحيث يكون لديه وعي يستطيع به أن يستنقظ الأحكام الشرعية من خلال ثقافته الأدبية ووعيه للواقع الذي يريد أن يستنبط له.
ونحن نعتقد أن تطور المرجعيةكما في هذه الأيام، يستدعي الرجوع إلى المرجع في القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، مما يفرض أن تكون لدى المرجع ثقافة متنوّعة ووعي سياسي واجتماعي خارج نطاق عملية التقليد.
رأي المرجع السابق وللاحق:
ـ ما معنى جوابكم في (الفتاوى الواضحة) حول العدول من مرجع إلى آخر: وأما إذا كان الاختلاف في أحكام الوضوء أو التيمم أو الغسل أو أركان الصلاة مما لو خالفه الجاهل حكم ببطلان عمله لكونه من الشروط الواقعية التي لا بد من توفرها، وذلك كما لو كان يغتسل على رأي المرجع السابق من دون ترتيب بين الجانبين، فقلّد من يقول بوجوب الترتيب بينهما فإنه يحكم ببطلان أعماله السابقة ولزوم إعادتها، إن بقي وقتها، وقضائها إن فات، أفلا تكون الحالة التي عمل بها على حياة مرجعه السابق مبرئة للذمة؟
هذا خلاف بين الفقهاء، وهو أن الحكم الظاهري هل يجزي عن الحكم الواقعي أم لا، فالبعض يقول إن ما أتى به مذعور هو فيه، ولكنه بحسب رأي المرجع اللاحق مخالف للواقع، ولما كان الشرط شرطاً واقعياً وليس علمياً، فإنه يقول ببطلان صلاته كما لو لم يكن قد قلّد... ولدينا ـ مؤخّراً ـ تحفّظ في هذه الفتوى.
حديث حول القياس:
ـ عن رسول الله(ص): "إن الله قال ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي، وماعرفني من شبّهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني"، هل يدلّ هذا الحديث على حرمة القياس؟
بقطع النظر عن هذا الحديث وصحته، فلقد قلنا مراراً بأن القياس ليس حجة حتى لو لم يرد هناك دليل خاص على عدم حجيّته، وذلك باعتبار أنه يرتكز على الظنّ ولا دليل على حجيّة الظن {إن الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً}( )، فيكون القياس مشمولاً بالأدلة العامة الناهية على العمل بالظن، فنحن نعمل بالظن إذا جاء دليل من الكتاب أو السنّة على حجيّته، وأما إذا لم يدل دليل على حجيّته فلا يكون العمل به مشروعاً، ولما كان القياس معتمداً على الظن ـ بالملاك الذي يوحّد بين الموضوعين ـ والظن لا حجيّة له فلا حجيّة للقياس.
منطقة الفراغ:
ـ ما المقصود بمنطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، وهل تصح هذه التسمية، ومن يملأ هذه المنطقة، وكيف؟
استحدث هذا التعبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر(رض) عندما كان يتحدث عن أن الشريعة الإسلامية تكفل للإنسان كل ما يحتاج إليه في شؤونه العامة والخاصة وفي مختلف المجالات.
وعندما التقى بسؤال: أن هناك أشياء كثيرة حادثة لم تكن في زمن النبي(ص) كما في التنظيمات الإدارية الموجودة في النظام الذي استحدث في عهد الإسلام الأول وما بعده، فكيف نقول إن الشريعة شاملة لكل ما يحتاجه الإنسان وما يُبتلى به وهناك منطقةفراغ لم ينصّ التشريع عليها؟
وهنا تحدث السيد الشهيد عن أن ولي الأمر في الدولة الإسلامية ومن خلال فقهه وخبرته ومن يحيطه من الخبراء والفقهاء يدرسون مناطق الفراغ من خلال الخطوط العامة للشريعة ليحددوا التفاصيل على أساس تلك الخطوط من جهة، وعلى أساس الصلاحيات الموكولة إلى وليّ الأمر في حفظ النظام مما لا يتنافى مع أي حكم شرعي.
وبذلك تصحّ التسمية لأن منطقة الفراغ هي المنطقة التي لم يرد فيها نصّ خاص أو عام يعالج خصوصياتها بشكل تفصيلي، ولم يتركها الشارع مهملة، بل اعتبرها من الأمور المتحركة وغير الثابتة والتي لا بد لها من تشريع متحرك فأوكل الأمر إلى ولي الأمر ليملك الحركة في حفظ النظام وحفظ مصلحة المسلمين.
تقليد من لا يرى ولاية الفقيه:
ـ قلّد شخص فقيهاً لا يرى ولاية الفقيه حتى في الأمور الحسبية، فما هو تكليفه تجاه الحكم الذي يصدره الحاكم الشرعي المتصدي؟
لا أظنّ أن هناك من لا يرى ولاية الفقيه في الأمور الحسبية، وعلى أية حالة فإذا كان مقلداً لشخص لا يرى الولاية العامة فلا يجب عليه إطاعة الولي الفقيه، لأنه أمر يرجع للفقيه إلا إذا أحرز أن هناك مصلحة إسلامية عليا في ذلك فإن عليه أن يلتزمه من خلال تلك المصلحة.
باب فقهي خاص بعمل الطفل:
ـ هل يوجد في الفقه الإسلامي باب يعالج عمل الأطفال، ويسنّ قانوناً للعمل على غرار ما هو مطروح في الأنظمة الوضعية؟
ليست هناك نصوص تفصيلية محددة في هذا الجانب، ولكن يمكن أن نستوحي ذلك أو ما هو أوسع من ذلك، من خلال معنى الولاية للطفال، لأن الطفل لا بد أن يكون له ولي، إما الأب أو الجد للأب أو الوصي من قِبَل الأب والجد أو الحاكم الشرعي إذا فقد هؤلاء.
والولاية في تصرّف الولي في شؤون مشروطة بما يعبّر عنه في الفقه بـ(الغبطة) أي بالمصلحة، فلا يجوز لولي الطفل أن يتصرّف في نفسه أو في ماله أو في شؤونه المتصلة به بما لا يكون مصلحة له، أو بما يكون مفسدة.
ومن خلال هذا الجانب لا نستطيع أن نعطي حكماً كلياً بأنه لا يجوز عمل الأطفال، كما أننا لا نستطيع أن نأخذ حريتنا في عمل الأطفال فنجيزه على الإطلاق، بل لا بد أن ندرس المسألة من خلال مصلحة الطفل، فمثلاً قد تكون العائلة في بعض الحالات في وضع اقتصادي صعب، وليس هناك ضمان تربوي أو اجتماعي أو صحي، وليست هناك ظروف يمكن للحاكم الشرعي من خلالها الإشراف على تعليم الطفل وتنشئته العلمية وغيرها، كما في الكثير من بلدان العالم الثالث التي لا تتمتع بالضمان الاجتماعي، ففي هذه الحال يدور أمر العائلة بين أن تموت هي أو يموت الطفل أو يشتغل بما يتناسب مع طقاته، فلا يجوز لنا أن نحمّله ـ تحت أي اعتبار ـ ما يضرّ عقله أو بدنه أو ما يرهقه إرهاقاً كبيراً.
أما في التفاصيل، فلا بد أن يكون العمل غير مرهق للطفل عقلياً وبدنياً، فلا نستطيع القول إن العمل يحرم على الطفل، لكن يمكن للمجتمع أن يقوم من خلال هيئات شعبية، أو يمكن للحكم الذي يسيطر على المجتمع أن ينظّم ضماناً للأطفال، بحيث يمكن أن يتعلموا حتى يبلغوا المستوى الجيد، سواء كان العلم نظرياً أو عملياً، فإذا وصلنا إلى مستوى من الضمان الاجتماعي من حيث مجانية التعليم وإمكانية لكل الأطفال، كما يتكفل هذا الضمان بالفقراء أيضاً، عند ذلك نحرّم ـ بالعنوان الثانوي ـ عمل الأطفال لدوران الأمر بين أن يكون الأطفال أميّين جاهلين بدون عمل، وبين أن نعلمهم في ظروف تجعلهم أشخاصاً نافعين في المجتمع.
فلا بد من دراسة هذه الأمور ميدانياً، أي لا يمكن أن نعطي بحسب الفقه الإسلامي، خطاً تفصيلياً في ذلك، وإنما نرسم خطوطاً عامة فقط، لأنه لا بد من دراسة الظروف المحيطة بالطفل وبأهله وبواقعه.
عمل الصبي المميّز:
ـ إن من الظواهر الشائعة هي عمل الأطفال في البيع والشراء والعمل في المصانع وغيرها، فهل تجوّزون عمل الصبي المميز وكيف يتم تحديد هذا الصبي، هل من خلال العمر أو من حسن تصرفه؟
هناك أحاديث تقول ما مضمونه أن الطفل لا يتمكّن من القيام بالمعاملات إلا بعد البلوغ، قال(ع): "يجوز أمره حتى يبلغ أشدّه، قلت: وما أشدّه؟ قال: احتلامه"( )، والله تعالى يقول في سورة النساء: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}( )، فالنظرية الفقهية العامة هي أن الطفل ليس مستقلاً في معاملاته ولكن هناك بعض التحفظات، فالبعض يتحفّظ فيما إذا كان قادراً على البيع والشراء أو يُقال أنه يمكن لوليّه أن يأذن له، فهو يتحرك من خلال الإشراف العام أو الخاص لوليّه، والاحتياط في عالم البيع والشراء أكثر.
سيرة العقلاء:
ـ اختلف الفقهاء في تحديد سيرة العقلاء على العمل بالخير، فبعضهم يدّعي أن سيرتهم على العمل بخبر الثقة، وبعضهم يدّعي أنهعلى الخبر الموثوق به، ألا يتوقّف ذلك على دراسة ميدانية للكشف عن سيرة العقلاء؟
عندما ندرس سيرة العقلاء في العالم، سواء كان من المسلمين أو من غيرهم ممن عاشوا مع الرسالات أو لم يعيشوا معها، نجد أن الأساس عندهم هو الوثوق النوعي في الخبر حتى أنهم يأخذون بخبر الثقة من باب إفادته الوثوق النوعي لا من جهة خصوصيته.
مستوى البحث الخارج:
ـ ما هو المستوى العلمي الذي يحدد للشخص غير الحوزوي حضور البحث الخارج والاستفادة منه كثقافة إسلامية؟ وهل يشترط أن يكلف الشخص حوزوياً؟
باعتبار أن الدروس الحوزوية في البحث الخارج تنطلق من خلال المطالب التي درسها الطالب سابقاً وهي ما يسمى بـ(السطوح)، ولذلك فمن الصعب أن يحصل على ثقافة إسلامية من دون أن يكون ملمّاً بثقافة عامة ناشئة من الدراسة السابقة لكتب الفقه والأصول لتكون له قابلية حضور البحث الخارج.
الإذن الشرعي:
ـ وردت في الرسائل العملية كلمة (الإذن الشرعي) كثيراً مع أنني لا أستطيع الوصول إلى مقلدي لأحصل منه على الإذن، فهل الوكيل في المنطقة هو المقصود من الإذن الشرعي، وبالتالي فكيف إذا كنت لا أثق بذلك الوكيل لأن سمعته غير جيدة حتى في الأوساط العملية والمقربين منه؟
في هذه الحال إذا فرضنا أن هذا الوكيل كان موكلاً من المرجع وعلمنا أنه لا يسيء في وكالته فيجوز، أما إذا عرفنا أنه يخون وكالته فعلينا أن نرجع إلى شخص آخر ممن يوثق به.
ضابط الوكالة:
ـ ما هو الضابط الذي بموجبه يحق للوكيل عن المرجع الفلاني أن ينصرف في الأموال الشرعية؟
أن لا يستغل وجود هذه الأموال الشرعية بيده ليصرفها على هواه، بل لا بد من أن يخضع لبرنامج محدد من قِبَل المرجع وليس لهذا أن يعطي الصلاحية المطلقة لأي وكيل في أن يتصرف كما يشاء حتى في قضاياه الخاصة بشكل مطلق.
دور العقل في التشريع:
ـ ما هو الدور المباشر للعقل في التشريع الإسلامي؟
دور العقل في التشريع الإسلامي أنه كاشف وليس مشرّعاً، فهو يكشف عن التشريع عندما يستنبط الملاك الذي انطلق منه الحكم الشرعي والذي يشرّع الله الأحكام على أساسه.
وإذا قطع العقل بالملاك أو ما يسمّى (مصلحة) أو (مفسدة) وحدد درجة الملاك ولم يعارض هذا الملاك بملاك تشريعي آخر فإنه يقطع بالحكم الشرعي، فلذلك يقولون إن العقل كاشف للحكم الشرعي ولكنه ليس مشرّعاً للحكم.
حجيّة الأحاديث القدسية:
ـ كثيراً ما يستشهد خطباء المنابر بالأحاديث القدسية، فأرجو بيان حجيّتها ومدى صحتها، وهل يعتمدها الفقهاء كمصدر من مصادر التشريع؟
إن الأحاديث القدسية شأنها شأن بقية الأحاديث لا بد من دراسة أسنادها ومضمونها في انسجامه مع ما نعتبره من الحقائق في الإسلام.
الفقه السياسي:
ـ ما هو المقصود بالفقه السياسي، وهل أن المراد منه ما يتعلق بمسائل الحكم فقط؟
الفقه السياسي هو الذي يعالج القاعدة السياسية، وهي قضية الحكم في شرعيته وفي طبيعته وفي شكله وفي قاعدته وكل ما يتعلق بحركة المنهج السياسي إن في إدارة الحكم أو في حركة الصراع السياسي من الوصول إلى الأهداف الكبرى.
فقه العامة والخاصة:
ـ هل هناك فقه للعامة وآخر للخاصة، وما معنى قول بعضهم لا بد للمرجع أن يراعي العامة في إبداء آرائه،  لا سيما فيما اعتادوا عليه بشتى المسائل؟
هذا مثل من يقول: هل هناك إسلام للخاصة وإسلام للعامة؟ فالله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}( )، فالمجتهد سواء كان مرجعاً أو غير مرجع عليه ان يبيّن الحقيقة للناس حتى لو صدمت مألوفهم.
فالنبي(ص) جاء بالدين الإسلامي ليصدم المجتمع كله، فلقد كانوا يعبدون الأصنام، فصدم النبي(ص) عقائدهم وعباداتهم وعاداتهم وتقاليدهم حتى يغيّر واقع المجتمع.
وكذلك الآن، فلو فرضنا أن مرجعاً أدّى اجتهاده وعلمه إلى أن ما يسير عليه الناس من عادات حرام، فهل عليه في هذه الحال أن يجامل الناس؟
لقد كان (مالك الأشتر) متحمّساً فاقترح على أمير المؤمنين(ع) بعض الأشياء عندما ولّى بعض أولاده عمّه، فالتفت إليه (عمار بن ياسر) قائلاً: عليٌّ إمامك أم أنت إمام عليّ، فنحن نقول هل أن العام يعلّمون المرجع أم أن المرجع هو الذي يعلّم العامة؟
لذلك فدور المرجع والمجتهد والفقيه والمثقف أن يعطي الناس الوعي للإسلام الحقيقي وليس دوره أن يجاملهم، فإذا أدرك حقيقة الحكم الشرعي في اجتهاده الفقهي فلا بد له من أن يعرفهم إيّاها، وإلا كان ممن يكتمونها عنهم مما لا يرضاه الله الذي أراد من العالم أن يظهر علمه عندما يتحرك الناس في الطريق الخاطئ في فهم أوامر الله ونواهيه.
إمام الجمعة وكيلاً للمرجع:
ـ هل يشترط في إمام الجمعة أن يكون وكيلاً للمرجع، وهل هناك من المراجع ما يشترط ذلك؟
ليس شرطاً في صحة صلاة الجمعة.

ثانياً: النجاسات والطهارات

مطهرات من شحم الخنزير:
ـ بعض الشركات الصناعية تستخرج زيت الخنزير، أي شحمه، لتستعمله في تكوين بعض المطهّرات، كبعض أنواع الصابون والكريمات، فما حكم استعمال هذه المطهرات؟
هي نجسة وحكمها حكم الخنزير في النجاسة.
الشكّ في المنيّ:
ـ استيقظت صباحاً فوجدت على ملابسي الداخلية بقعة صفراء شبيهة بالمني، لكنني بقيت شاكّاً في ذلك، لأنني لم أرَ ما يراه المحتلم عادةً؟
إذا شكّ الإنسان فيحكم أنه ليس جنباً، ولكن لمثل ذلك في العادة علامات يعرفها الناس، علماً أن الجنابة قد تحصل مع رؤية شيء أو بدونه، فعدم الرؤية ليس دليلاً.
استخدام الخمر في التداوي:
ـ ورد في (بحار الأنوار) عن الإمام الصادق(ع) أنه "لا يجوز استخدام الخمر في التداوي ولو بكمية قليلة"، فكيف يمكن أن نطبق ذلك على الكحول المستخدم في الطب وهو بنفس تركيب العرق؟
هناك خلاف بين الفقهاء في مسألة التداوي بالخمر وربما تحمل الروايات المانعة على صورة ما إذا أمكن التداوي بغير الخمر، فلو كان تحمل المرض حرجياً ولم يكن هناك دواء آخر إلا الخمر فلا يبعد جوازه وربما تحمل الروايات المانعة على صورة ما أمكن التداوي بغيره.
أما بالنسبة للكحول فإنها إذا كانت مستهلكة في الدواء بحيث لا وجود لها كليةً كما لو كانت بالنسبة 1% أو قريبة من ذلك، فليست محرمة، وأما إذا كانت النسبة كبيرة فلا تجوز إلا إذا اضطر الإنسان إليها ولم يكن هناك دواء غير هذا.
شحوم الصابون:
ـ يدخل في صناعة صابون الاستحمام شحوم الحيوانات غير المذكاة، فما حكم استخدامه؟
تارةً تستحيل الشحوم في صناعة الصابون نتيجة العملية الكيمياوية إلى شيء آخر، فالاستحالة هنا مطهّرة، ولكن إذا لم تتحقق الاستحالة كما هو الظاهر في الصابون، فهو نجس العين، ولذلك لا يحرم استعماله ولكن إذا غسل الإنسان به بدنه فلا بد أن يطهره بعد الغسل به.
دم أثناء الوضوء:
ـ عندما أتوضّأ يخرج الدم من فمي حين المضمضة، فما هو حكم وضوئي؟
وضوؤك صحيح، ولكن عليك أن تطهّر شفتيك عند الصلاة.
قضم الأظافر:
ـ هل في تقليم الأظافر بالفم إشكال، أي هل هو نجس؟
ليس نجساً، فو ليس من قبيل القطعة المبانة من الحيّ، فلا إشكال فيه.
شكّ في التذكية:
ـ أعمل في معمل بأستراليا يصدّر اللحوم إلى الدول العربية والإسلامية، علماً أن الذابح مسلم لكنه يذبح بعكس القبلة تماماً، ويذبح سبعة ذبائح في الدقيقة، فلا نعلم هل يذكر اسم الله أم لا، فهل اللحكم في هذه الحال حلال؟
إذا كان المسلم الذابح لا يعتقد بوجوب توجيه الذبيحة إلى القبلة ـ كما هو عند أخواننا من أهل السنّة ـ فذباحته صحيحة، وإذا شككنا في أنه يسمّي أو لا يسمّي فإنه يحمل على الصحة.
حساب مدة الاستحاضة:
ـ إني فتاة جاءتني الدور الشهرية في عمر (13) سنة، وكانت فترة الاستحاضة يومين لا أصلي فيهما، وحين تزوجت علمت أن هذه الأيام هي استحاضة، فكيف أقضيها وأنا لا أعرف المدة؟
اعتمدي على الأقل، فعليك أن تحسبي هذه الأيام، فإذا دار الأمر بين الأقل والأكثر، أي لا تدرين هل هما شهرٌ أو شهران، فالشهر مؤكد وواجبك الشرعي هو الشهر، فإذا أحببت أن تحتاطي بالزائد فلا بأس.
عدم ثبات الدورة:
ـ ما حكم عدم ثبات الدورة وإتيانها متقطّعة في البداية ثم بعد ثلاثة أو أربعة أيام تأتي منتظمة؟
إذا كان الدم يأتي بشكل متقطّع ولكنه مستمر وكان في أيام العادة، فهو عادة.
مسّ الطفل الميّت:
ـ إذا توفي طفل في بطن أمه، فهل يجب على الأم غسل مسّ الميت عند ولادته؟
إذا حصل لدينا النفاس واغتسلت غسل النفاس فالأحو ـ ولو على نحو الاحتمال في هذا المقام ـ أن تنوي معه ذلك.
التيمّم بالملابس:
ـ لو وجب التيمّم ولم تتوفّر الأرض التي يسوغ التيمّم بها، فهل يجوز التيمّم بالملابس على كل حال، وإن لم يكن فيها غبار، وإن وُجد الغبار فكيف يتم التيمّم؟
إذا لم يكن هناك غبار بالمرّة فلا معنى للتيمّم، فالتيمّم  لا يكون إلا بالتراب، نعم إذا كان على الملابس غبار بحيث يشكّل كثافة تعلق باليد فيجوز حينئذٍ التيمّم به.
تنجّس الحائط بالبول:
ـ إذا تنجّس الحائط بالبول أو غيره من النجاسات ليلاً وجفّ بعد ذلك لتعرّضه للهواء، ثم أشرقت عليه الشمس فهل يطهر؟
لا يطهر بذلك، لأن ما يطهر هو ما جففته الشمس بإشراقها عليه.
كرّ أو غير كرّ؟
ـ اغتسلت الغسل الواجب وبعد انتهائي من الغسل انقطع الماء الذي في الخزان بعد ساعة، ولست أدري هل كان كرّاً أو غير كرّ، فما حكم الغسل؟
إذا كان كرّاً سابقاً فتستصحب كريّته ويمكن أن ترتب عليه حكم الكرّ، أما إذا اطمأننت أنه لم يكن كرّاً لأنه انقطع بعد ساعة ولم يستعمل كثيراً، فعيك أن ترتب عليه حكم الماء القليل، فإن كانت هناك نجاسة في جسدك ولا تطهر بالماء القليل، فعليك أن تطهّر جسمك وتعيد غسلك.
ذات العادة المنتظمة:
ـ امرأة عربية بلغت الخمسين ودورتها منتظمة وعدد أيام الطمث ثابت، والفاصل بين الطمثين ثابت ولم تشعر بالفرق في لون الدم وكميته، فما هو تكليفها في الصوم والصلاة؟
الخمسون هي سنّ اليأس وكل ما تراه بعد الخمسين استحاضة حتى لو كان بلون دم الحيض وفي أيام العادة.
ماء البالوعة المتدفّق:
ـ إذا كانت هناك أرض رخوة وفيها بالوعة وأراد شخص إزالة الماء النجس وكلما زال خرج ماء آخر ولا يعلم هل أن الماء الخارج نجلس أو لا، فما هو حكمه؟
لا بد من إحراز أنه ماء خالٍ من النجاسة في مورد السال وهي البالغوة التي تتجمع فيها النجاسات، حتى يمكن الاطمئنان من طهارته.

ثالثاً: الوضوء والصلاة والإقامة

تتابع التكبير:
ـ بحسب رأيكم، هل يجب انتظار المصلي الذي أمامي ليكبّر حتى أكبّر أنا، أم يكفي أن أكون متهيّئاً للتكبير؟
يكفي التهيّؤ للتكبير، ولذلك إذا كان المصلون بأجمعهم متهيئين للتكبير فيمكن أن يكبروا تكبيرة واحدة في صلاة الجماعة.
الصلاة على المسلم الفاجر:
ـ هل يجوز الصلاة على المنافق والفاجر والفاسق إذا توفي؟
تجب الصلاة عليه إذا كان مسلماً.
إقامة مقطوعة:
ـ نويت الإقامة عشرة أيام وفي اليوم السابع حدث لي أمر طارئ، فقطعت الإقامة بالسفر وبقيت متردداً، ففي أي يوم أحسب التردد لأكمل الشهر؟
من أول يوم قدمت فيه من السفر من دون حساب الأيام السبعة الماضية.
الصلاة في الأرض الخراجية:
ـ قام شخص باستصلاح أرض خارجية تابعة ملكيتها للدولة وحوّلها إلى أرض زراعية، فما حكم الصلاة في تلك الأرض والوضوء من مائها، وهل تعتبر مغصوبة؟
إذا كانت تمن الأراضي الخراجية فهي لا تملك من قبل أي شخص، سواء كان السابق أو اللاحق، ولها حكم معين باعتبار أنها ملك المسلمين، فلا بد من الرجوع فيها إلى الحاكم الشرعي، حيث يمكن تصحيح هذه المسألة ببعض الاعتبارات الفقهية.
الانفصال عن الإمام:
ـ هل يجوز الانفصال عن الإمام في الصلاة لأجل القصر وغيره؟
يجوز ذلك، وإن كان الأحوط أن لا يعزم على ذلك منذ البداية.
تصحيح السهو أثناء الصلاة:
ـ في صلاتي قد أسهو وأقرأ بصور خاطئة أو أحدث زيادة في النص، لكنني أرجع فأصحح الأخطاء، فهل تجب عليّ سجدتا السهو؟
الأحوط أن يسجد الإنسان سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة.
الحمع بين الظهرين والعشائين:
ـ كم مرّة صلّى رسول الله(ص) جامعاً بين الظهرين والعشائين من غير ضرورة؟
ليست هناك إحصائية لعدد الصلوات التي صلاها النبي(ص) جامعاً بين الظهرين والعشائين، ولكن الروايات التي يرويها السنّة والشيعة معاً تفيد أن الرسول(ص) كان يجمع بين الصلاتين في غير ضرورة في سفرٍ وحضر.
حضور الجمعة للمسافر:
ـ أقلّد فقيهاً يقول بوجوب صلاة الجمعة، وفي بلدي، وقد قدمت إلى سوريا، فهل يجب عليّ الحضور في صلاة الجمعة؟
الفقهاء يقولون، ونحن نقول إنه لا يجب حضور صلاة الجمعة على المسافر، ولذلك يجوز لك أن لا تحضرها، وإن كان الأفضل أن تحضرها، لأن ثواب صلاة الجمعة يعدل ثواب الحج، وقبد ورد في حديث عن النبي(ص) وقد جاءه شخص يقول له إنه لايستطيع الحج، قال: "عليك بصلاة الجمعة فإنها حج المساكين"( ).
صلاة الصبي في الصفّ الأول:
ـ لو صلى الطفل دون سن التكليف في الصف الأول والتحق به المكلّف فهل تصحّ صلاة المكلّف؟
نعم، لأن عبادات الصبي شرعية وإذا كانت كذلك فهي صحيحة، ولكن غاية الأمر أنها ليست واجبة عليه.
الصلاة بثوب شفاف:
ـ الذي يكبّر تكبيرة الإحرام ثم يتذكر أن لباسه شفاف ويشك في كونه ساتراً، هل يتم الصلاة أم يقطعها، ولو قطعها ليلبس الساتر هل عمله صحيح؟
إذا كان مطمئناً أنه ليس ساتراً يجب عليه أن يقطع الصلاة ويأتي بالساتر، ولا بد له من إحراز كونه ساتراً في صحة الصلاة.
انفصال المأموم عن الجماعة:
ـ إذا انفصل المأموم أثناء صلاة الجماعة عن المصلّين بفارق أربعة أشخاص، فهل يستمر بنيّة الجماعة، أم ينوي الانفراد؟
إذا انفصل بحيث يفقد الاتصال بالإمام بما يجب الاتصال به، فعيه أن ينوي الانفراد.
حاجب على الجبين:
ـ لو التصق بجبهة المصلّي شيء بعد السجدة الأولى ولم يرفعه في السجدة الثانية، فما هو حكمه؟
الأحوط هو أن لا يسجد السجدة الثانية في هذه الحال، وإن كان للصحة وجه.
صلاة الأخ مع أخته:
ـ هل يجوز صلاة الأخ البالغ بجانب أخته البالغة؟
في رأينا يجوز، وفي رأي بعض العلماء الآخرين لا بد من فاصل شبر أو ذراع أو عشرة أذرع وكل مقلد يتبع مقلده في ذلك.
وضوء المرأة أمام الأجانب:
ـ ما حكم وضوء المرأة أمام الأجانب من حيث حتمية إظهار ذارعيها لغسلهما؟
وضوؤها صحيح إذا تحقق قصد القربة، ولكنها تأثم في إظهار ذراعيها أمام الأجانب.
قضاء صلاة:
ـ أنا فتاة كنت في سنّ التاسعة والعاشرة، لا أصلي أغلب الصلوات اليومية، فهل عليّ قضاؤها، وإذا كان الجواب نعم، فكيف أقضيها؟
الأحوط عندنا وجوب القضاء بحساب ما فاتك من الصلاة، فإذا دار الأمر بين الأقل والأكثر فالبناء على الأقل من ناحية الإلزام والوجوب.
إقامة وعدول:
ـ عندما سافرت نويت الإقامة عشرة أيام وصيت تماماً وبعد أربعة أيام طرأ ما يدعوني إلى طيّ المسافة من جديد، وكنت متردداً في ذلك، فصليت تماماً ولم أعدها قصراً، فما حكم صلاتي؟
إذا نوى الإنسان الإقامة عشرة أيام وصلّى صلاة تماماً ثم عدل عن ذلك يبقى يصلي تماماً إلى أن يسافر.
فوات الصلاة في السيارة:
ـ إن بعض المسافرين يعلمون أن فريضة الصلاة سوف تفوتهم لعدم توقف السيارة، هل يحق لهم السفر فيها أو يتعيّن عليهم السفر في وقت يمكنهم الصلاة فيه؟
يتعيّن عليهم السفر في وقت يمكنهم الصلاة فيه إلا إذا كانت هناك ضرورة وحرج في السفر في ذلك الوقت، وعند ذلك يجب عليهم أن يصلّوا في السيارة ولو من جلوس.
الحبر ليس حاجباً:
ـ هل الحبر يمنع الوضوء؟
الحبر لون وليس مادة ذات جرم، أي سمك يفصل بين الماء والبشرة، فهو كالحناء، فالحناء يصعب إزالتها ولكن لونها ـ  كما هو الحبر ـ ليس حاجباً.
المسح على الشعر الاصطناعي:
ـ هل يجوز المسح على الشعر الاصطناعي؟
لا يجوز ذلك لأنه حاجب عن البشرة، ويبصل المسح عليه.
حركات الأخرس في الوضوء:
ـ هل تقوم حركات الأخرس في وضوئه مقام ألفاظه في الاستحباب الشرعي أم لا؟
هناك مستحبات للوضوء كبعض الأذكار، فإذا كان الأخرس واعياً لهذه المعاني وتمثلها عند وضوئه فتصحّ منه، حيث للأخرس لغة، إذ يمكن له أن يتزوج ويطلّق ويبيع ويشتري من خلال لغة تعبيرية وهي لغة الإشارات، وكذلك يستطيع الأخرس أن يعبّر عن الصلاة وعما يستحب بلغته الخاصة.
الكحل في الوضوء:
ـ هل يبطل الكحل الوضوء؟
لا يبطله.
التسبيح أثناء القراءة:
ـ هناك من الفقهاء من يقول أنه يجوز أثناء قراءة الإمام أن تسبّح وبعضهم يقول عليك أن تصمت، فهل يجوز الصلاة خلف إمام يقول بالصمت وأنت تسبّح؟
لا بد من الإنصات في القراءة الجهرية لمن يسمعها، ولكن لا مانع من التسبيح في القراءة الإخفائية.
صلاة في المعمل:
ـ أنا أعمل في معمل تُقام فيه صلاة الجماعة، فإذا كان إمام الجماعة من لا يُقتدى به، فهل أصلّي جماعة معه، وهل أقرأ بمفردي؟
يجوز لك أن تصلّي وتقرأ لنفسك وتسجد عل ما يصح السجود عليه وعلى هذا يُحسب لك ثواب الجماعة.
من لا يأمن الطهارة:
ـ إذا كان المسافر في الطائرة لا يأمن من الطهارة حين الوضوء، والمرأة لا تأمن من النظر حين الوضوء، فهل يجوز التيمم؟
إذا كان لا يأمن، فيمكن أن يحكم بالطهارة من جهة الأصل (أصالة الطهارة) فلا يأمن أي لا يعتقد بطهارة الماء ويشك بطهارته أو عدمها فيحكم بالطهارة "كل شيء طاهر حتى تعلم نجاسته"، أما إذا كان لديه اطمئنان بنجاسة الماء فعليه أن يتيمّم، والمرأة كذلك إذا فرضنا كان وضوؤها يوجب نظر الشخص الأجنبي لها، فعليها أن تتيمم.
الكحل كجرم:
ـ ذكرتُم في ـ ندوة سابقة ـ بأن الكحل لا يعتبر مبطلاً للوضوء، فهل هذا يشمل بقاء مادة الكحل؟
إذا كان الكحل مجرد لون فلا يبطل الوضوء، أما إذا وصل إلى حدّ الجرم والمادة بحيث يحجب وصول الماء فإنه يبطل الوضوء.
الصلاة عمّن لم يصلّ:
ـ مات أخي غرقاً ولم يكن يصلّي، فهل يجوز الصلاة عنه والقضاء عما في ذمّته؟
نعم يجوز أداء الصلاة عنه، فلو أديت عنه لكانت مفيدة له.
غسل الرجلين أثناء الوضوء:
ـ ما حكم غسل الرجلين أثناء الوضوء  قبل المسح مباشرة، أي بعد غسل اليد اليسرى؟
إذا كان يغسل رجله كواجب في الوضوء فلا يجوز، لكنه إذا مسح رجله بعد ذلك وقد بقيت البلّة بيده، ولكن طرأ عارض ما كتطهيرها إذا تنجّست في الأثناء، فلا إشكال.
اجتماع غسلين:
ـ إذا اجتمع على المرأة غسلان واحد للجنابة وآخر للحيض، فكيف تكون نيّة الغسل، هل يتداخلان؟
نعم، يتداخلان، والأحوط ـ عند إرادة الثواب ـ أن تنوي الغسلين معاً.
لماذا نافلة العشاء من جلوس؟:
ـ ما الحكمة من كون نافلة العشاء من جلوس، بينما عند أخواننا أهل السنة لا نجد نافلة بهذا الشكل، بل تؤدى وقوفاً، وكذلك في ركعتي الشفع والوتر تباعاً؟
هذه من الأمور التي تعبّدنا الله بها بحسب ما ثبت لنا من الدليل، وعالم الصلاة هو عالم التعبّد، وقد لا نملك الكثير من التعليلات المادية في ذلك.
الشاك بالطهارة:
ـ ما حكم من بقي فترة من الزمن يصلي وهو شاكّ في طهارة جسمه وثبابه؟
صلاته ـ إن شاء الله صحيحة ـ والظاهر أن السائل وسواسي وعليه ـ إن كان كذلك ـ أن لا يعتني بوسوسته.
التيمّم بالملابس:
ـ لو وجب التيمّم ولم تتوفر الأرض التي يسوغ التيمم بها، فهل يجوز التيمّم بالملابس على كل حال وإن لم يكن فيها غبار، وإن وجد الغبار فكيف يتم التيمّم؟
إذا لم يكن هناك غبار بالمرّة فلا معنى للتيمّم، فالتيمّم لا يكون إلا بالتراب، نعم إذا كان على الملابس غبار بحيث يشكل كثافة تعلق باليد فيجوز حينئذٍ التيمّم به.
المسلوس والمبطون:
ـ إذا أحدث المسلوس أو المبطون بعد الصلاة، وذهب ليتطهّر فهل يصح له البناء على ما مضى من صلاته وإن تطلّب ذهابه للتطهر خروجه عن سمت القبلة؟
إذا خرج عن سمت القبلة فقد بطلت صلاته، وإذا كان للمسلوس والمبطون فترة من الوقت يستطيع أن يصلي بها بطهارة، فالحدث لا قيم له في ذلك.
صلاة فاقد الطهورين:
ـ ما حكم صلاة المريض في مستشفى إذا فقد الطهورين، فهل يسقط عنه أو يصلي بغير طهور؟
يمكنه في المستشفى أن يحصل ـ بأية طريقة ـ ما يمكنه أن يؤدي به صلاته، وإذا فرضنا أن ظروفه الخاصة حالت دون ذلك فعليه أن يصلي بغير طهور.
عدم فهم خطبة الجمعة:
ـ هل يجب حضور صلاة الجمعة، خاصة وأني لا أفهم الخطبة؟
إذا كانت شروط صلاة الجمعة متوافرة، فنحن نرى أنه يجب حضورها حتى لو كان الإنسان لا يفهم الخطبة.
إمام يؤخّر الجماعة:
ـ هناك إمام جماعة اعتاد على تأخير صلاته ولأسباب خاصة، فهل يؤثر ذلك في عدالته؟
لا يؤثر ذلك في عدالته، لجهة أنه ليس من الواجب أن يصلي إماماً للجماعة، وليس واجباً على الناس أن ينتظروه، بل بإمكانهم أن يصلّوا جماعة خلف أي منهم إذا كانوا يثقون ببعضهم البعض، إذا لم يكن في ذلك إساءة لإمام الجماعة الذي ربّما كان تأخيره لعذر خاص.
عدم إجادة الخطبة:
ـ هل يجوز إقامة صلاة الجمعة في قرية، الإمام فيها لا يجيد الخطبة على وجه بليغ؟
المهم أن تكون بشكل مفهوم وبشكل معقول.
ـ وهل تحتاج إقامة الجمعة إلى إذن الفقيه؟
لا تحتاج إلى إذنه.
سقوط الظهر بالجمعة:
ـ هل تسقط صلاة الظهر في حال إقامة صلاة الجمعة، بغضّ النظر عمّن يقلد؟
إذا كان يقلد شخصاً لا يقول بشرعية صلاة الجمعة في حال الغيبة، فلا يجوز له أن يكتفي بها عن الظهر، أما إذا كان يقلد من يقول بإجزائها عن الظهر، فإنها تجزي عن الظهر.
المسح قبل جفاف العضو:
ـ كنت أغتسل وبعدها أتوضّأ للصلاة من غير أن تجف منطقة المسح وبعدها علمت أن ذلك يبطل الوضوء، فهل تبطل الصلاة السابقة وهل عليّ إعادتها؟
إذا فرضنا أنه كان على منطقة المسح رطوبة ولكن ليس فيها ماء بحيث يساوي ماء اليد التي يمسح بها فلا مانع من ذلك.
خروج المد عن الحد:
ـ في حالة المسح على الرأس، ما معنى إذا خرج الشعر بمدّه عن حدّه لا يجوز المسح عليه، هل هذا يخصّ المرأة فقط، وهل المقصود هو المسح على فروة الرأس؟
لنفترض أن هناك شعراً طويلاً بحيث إذا مدّه الإنسان يخرج عن حد الرأس، فالمقصود بخروج مدّه عن حدّه يعني إذا مددته فسوف يخرج عن حد الرأس، والمرأة والرجل في ذلك سواء، خاصة الرجال أو الشباب من ذوي الشعور الطويلة، فلا يجوز أن يمسح على هذا الشعر الزائد، بل عليه أن يمسح على الشعر الموجود داخل الرأس والذي لا يخرج عن حدّ الرأس.
الجهل في الصلاة:
ـ كنت أصلي ولا زلت، وصلاتي عبارة عن ركعة فيها سورة الحمد وسورة أخرى، والثانية تسبيحات، والركعة الثالثة سورة الحمد وسورة أخرى، والركعة الرابعة تسبيحات، فما حكمها بعد أن علمت أخيراً أنها خطأ، وهل ما مضى من صلاتي صحيح؟
إذا كنت جاهلاً جهلاً مطبقاً، أي غافلاً عن الحكم الشرعي ولا تحتمل غيره ولم تكن مقصراً في جهلك فصلاتك صحيحة إن شاء الله.
الالتفات إلى اليمين واليسار بعد التسليم:
ـ عند الانتهاء من الصلاة بعد التسليم ما صحة الالتفات إلى اليمين واليسار؟
هو عادة يقول فيها (السلام عليكم) لليمين و(السلام عليكم) لليسار، فالمهم هو التعقيب، وقد وردت بعض الأحاديث التي تتحدث عن استحبابه.
نسيان نيّة الإقامة:
ـ إذا نسي المسافر نيّة الإقامة وصلّى تماماً، فما حكم صلاته بعد ما تذكّر في عودته إلى وطنه؟
إذا نوى الإقامة ثم نسيها وصلّى تماماً، فلا مشكلة، أما إذا لم ينوِ الإقامة وصلّى في موضع القصر تماماً فالأحوط أن يعيد.
الشك في صلاة وصيام الطفولة:
ـ أنا أصلي منذ كان عمري تسع سنوات إلى أن بلغت الخامسة والعشرين فازددت معرفةً واطلاعاً، فأصبحت شاكاً بأن صومي وصلاتي لم يكونا بصورة صحيحة، فما هو حكمي؟
لا تعتنِ بشكك.
احتلام مع فقدان الماء:
ـ صحوتُ من النوم في شهر رمضان بعد صلاة الفجر محتلماً، فلم أجد الماء حتى آخر النهار، فهل يحسب لي صيام؟
تحسب صائماً، ولكن الاغتسال في النهار هو من جهة الصلاة، فإذا لم تجد ماءً فعليك أن تتيمّم وتصلي وصيامك صحيح.
في صلاة الجماعة:
ـ في صلاة الجماعة إذا كان الصف الأمامي يصلّي قصراً فهل تصح صلاة الصف المتأخر تماماً، خاصة إذا علمنا أن الصف المتقدّم ينفصل عن الصلاة بمسافة؟
إذا انفصل عن الصلاة تماماً وكانت المسافة بينه وبين المصلي واسعة فتبطل الجماعة، وأما إذا كان سيعود لها بعد ذلك فالجماعة صحيحة.
التصرّف بمبلغ استيجار صلاة:
ـ أعطاني شخص مبلغاً من المال لقاء قراءة الفاتحة والصلاة عن روح والده المتوفى، فهل أستطيع التصرّف بالمبلغ كأن أدخله إلى صندوق تابع للأيتام أو للفقراء؟
لا يجوز لك أن تنفقه على الأيتام والفقراء إذا لم تقم بما طلبه منك من قراءة الفاتحة والصلاة عن روح والده، فلقد استؤجِرْتَ على ذلك وعليك أن توفي حق الإجارة.
ـ وهل أستطيع التصرّف بالمبلغ وأقوم بقراءة الفاتحة والصلاة أو أدفع المبلغ لأي شخص محتاج؟
إذا قمت بما طلبه منك أصبح المبلغ ملكك، فتستطيع أن تتصرف به كما تشاء.
السجدة الملوّنة:
ـ لو كانت السجدة (التربة) ملوّنة في جزء منها، فهل يصح السجود عليها أم يختص بغير الملوّن؟
إذا كانت ملوّنة واللون يمثل جرماً، اي له حجم، فلا يجوز السجود عليها لأنه سيكون من السجود على غير التراب.
الخروج عن هيئة الصلاة:
ـ من المعروف أن كل هيئة تخرج الصلاة عن مسمّاها فهي مبطلة، فإذا فرضت هذه الهيئات بفعل السلطان وأصبحت مع مرور الزمن وكأنها جزء من الصلاة، أي لم تعد مخرجة عن هيئتها، فهل يمكن اعتبارها غير مبطلة ولو كانت بنيّة عدم الجزئية؟
ـ إذا كانت تخرج عن هيئة الصلاة الواقعية، لكنها أصبحت عادة، فإن العادة لا تغيّر الحكم الشرعي، نعم إذا كانت لا تنافي الصلاة في ذاتها وأصبحت عرفاً فيها، بحيث لا تعارض أي وضع صلاتي كما هو الواجب فيما يصدق عليه عنوان الصلاة فلا مانع.
الصفّ الأخير من الجماعة:
ـ الأحاديث كثيرة في أفضلية صلاة الجماعة وأفضلية الصف الأول منها، فهل صحيح أن هناك حديثاً يقول "شرّها الصفّ الأخير " وهل هو كذلك؟
كلها خير وفي صفوفها كلها بلا استثناء، فليس في صلاة الجماعة شرّ ابداً، نعم يمكن أن يكون المراد أقلّها ثواباً في مقابل أرجحية الثواب للصف الأول.
قراءة الفاتحة مرتين:
ـ لو قرأ المصلي الفاتحة ثم أعاد قراءتها بنيّة أنها السورة التي تعقب الفاتحة، فماذا عليه؟
لا بد من سورة أخرى غير الفاتحة، وإذا فعل ذلك جهلاً على نحو الغفلة فإن صلاته صحيحة.
إذا سبق المأموم الإمام بالركوع:
ـ سبق مأموم إمامه في الركوع ووصل إلى حدّ الاستقرار، فماذا يفعل، هل يبقى على ركوعه أو يرجع إلى القيام؟
يمكن أن يرجع إلى القيام، لأن زيادة الركوع في هذه الحال لا تضرّ، وإذا لم يرجع إلى القيام يمكنه أن يتابع صلاته وإن كان الأفضل أن ينوي الانفراد، وأما إذا كان السبق بسيطاً جداً فلا يضرّ بالجماعة.
الوجه الشرعي لصلاة الاستئجار:
ـ ما هو الوجه الشرعي لصلاة الاستئجار للميت، علماً أنه هو المكلّف في ذلك؟
هذا دين في ذمّة الميّت، وقد ورد في بعض الأحاديث أنها دين ودين الله أحقّ أن يُقضى، فكما لو كان في ذمّته دين من مال أو غيره كان يجب أن يقضى عنه، فكذلك صلاته وصيامه.

رابعاً: الصيام والكفّارات
التكفير بشاةٍ صغيرة:
ـ لديّ كفّارة دم شاة، ولكنني غير قادر على الشاة الكبيرة، فهل يجوز ذبح شاة صغيرة؟
نعم، يجوم ذلك، لأنه لا يُشترط أن تكون الشاة كبيرة.
ـ هل يجوز في فرض السؤال السابق أن أذبح الشاة بنيّة الصدقة أيضاً؟
لا يجوز ذلك، بل لا بد أن تذبحها بنية الكفارة وتتصدق بها بعد ذلك.
ـ هل يجوز لي تقسيمها بين الفقراء، وأن أطلب منهم أن يقرأوا لي القرآن؟
نعم، يجوز لك أن توزّع لحمها عليهم أو أن تطبخه لتجمعهم بعنوان انفاق الكفارة لا بعنوان آخر، ويمكن لك أن تطلب منهم أن يقرأوا القرآن ويدعو لك كالتماس لا علاقة له بإنفاق الكفّارة.
تقطيع صيام نذر:
ـ نذرتُ صيام ثلاثة أيام إذا تمّ أمر ما، وبعد تمامه صمت يومين متتاليين، وصمت الثالث بعد فترة طويلة فما هو حكمي؟
إذا نويت ثلاثة أيام لا على التعيين، وغير متتالية، فعليك أن تقضي اليوم الثالث، أما إذا قصدت التوالي في الأيام وصمت يومين فعليك أن تصوم ثلاثة ايام بعد ذلك، وأما إذا لم يكن بشرط التوالي فلا مشكلة.
دفع كفّارة الصيام للأقارب:
ـ هل يجوز دفع كفّارة الصيام للمحتاجين والفقراء من الأقارب؟
يجوز ذلك، والأقربون أولى بالمعروف، لكن عليه أن يراعي الكمية، فلا بد أن يفرّقها على ستين مسكيناً، مثلاً إذا كانت كفارة إفطار عمدي ليوم واحد.
المعفوّ من الصيام طبياً:
ـ لا أصوم رمضان لأنني معفوّ طبياً لكون مرضي مزمناً، فما الحكم، حيث أني لا أملك سداد الكفارة، فهل تبقى في ذمتي؟
ليس هناك كفارة، بل فدية وهي عن كل يوم ثلاثة أرباع الكيلو من الخبز أو الطحين، ولا أعتقد أن في ذلك مشكلة.
إنكار القضاء:
ـ إذا نوى شخص صوم قضاء شهر رمضان ثم عرض له صباحاً ما يوجب الإفطار كالسفر، فهل إفطاره صحيح أم أن عليه كفّارة؟
إذا كان ذلك قبل الظهر فلا مشكلة في ذلك.
قضاء الصيام:
ـ ما حكم من كان عليه صيام قضاء من الأشهر السابقة من عمره ولم يقضها ولم يكفّر عنها؟
إذا كان قادراً على القضاء فلا بد له أن يقضي الأشهر التي لم يصمها ولو بالتدريج أو يوصي بها، وهكذا بالنسبة للكفّارة.
صوم المصاب بالسكري:
ـ مريض السكري هل يتبع أمر الطبيب بترك الصوم أم يصوم إذا كان الصوم لا يؤثّر عليه؟
إذا كان يعتقد أن الصوم لا يؤثّر عليه حاضراً ولا مستقبلاً فإن عليه أن يصوم ولا يجوز له أن يفطر، وإذا كان احتمل أن الصوم يضر به مستقبلاً وإن لم يكن كذلك حاضراً فعليه أن يفطر.
من يفطر بمحرّم:
ـ ما حكم من أفطر بمحرّم في قضاء شهر رمضان أو في صوم استحبابي؟
ليس عليه شيء في هذا المجال إلا كفّارة الإفطار، فإذا كان قضاء شهر رمضان بعد الظهر أو كان الصوم استحبابياً فلا كفّارة فيه، نعم بالنسبة إلى صوم شهر رمضان إذا أفطر بمحرّم فبحسب المشهور عليه كفّارة الجمع، ونحن وفاقاً لعلماء آخرين نرى أنه لا يجب إلا كفارة واحدة.
الصائم المجنب:
ـ من أصبح مجنباً بغير عمد، هل يبصل صومه فيما لو كان الصوم في قضاء شهر رمضان، وهل هناك اختلاف في الحكم فيما لو كان الصيام نيابة عن الوالدين؟
المعروف عند العلماء أن الإنسان إذا أصبح مجنباً عند الفجر وكانت الجنابة في الليل بالنسبة إلى قضاء شهر رمضان فإنه يكتفي بالقضاء، ولكننا نتحفّظ في ذلك وإن كان الأحوط هو عدم الاكتفاء به.
 
خامساً: الخمس والزكاة

حساب خمس:
ـ شخص عنده رأس سنة ولكنه انتقل قبل عشر سنوات من دولة إلى دولة واشترى في هذه الدولة بيوتاً ولم يستطع أن يخرج خمسه خلال هذه الفترة، فماذا يفعل الآن؟
عليه أن يعرض أمره على الحاكم الشرعي ليحسب له حسابه فيما يجب عليه من الخمس.
خمس أموال التجارة:
ـ أنا رجل أعيش في أمريكا ولدي بعض الأموال، وقد اشتريت بها أسهماً في بعض الشركات ولا أنوي بيعها في الوقت الحاضر، وهي قابلة للربح والخسران، فهل الأموال التي اشتريت بها الأسهم مستحقة للخمس؟
لما كانت هذه الأموال هي رأسمال تجارة واشتريت بها أسهماً فمن الطبيعي أنها تخضع للخمس، وعليك أن تخرج خمسها عندما يحلّ رأس سنة المال.
خمس تعويض لا إرث:
ـ عندما يتوفى مشترك في نقابةٍ ما يدفع البقية من أعضاء النقابة مبلغاً من الصندوق المشترك إلى زوجته، فهل في ذلك خمس؟
لا يعتبر إرثاً ولا يجب فيه الخمس إلا إذا كان مجمداً له بحيث يملكه وهو في الصندوق المشترك، فإن عليه خمسه، أما إذا لم يكن يملكه، بل يدفع بمثابة تعويض، فإنه إذا مرّ عليه سنة عند الزوجة التي تستلمه فإنها تدفع خمسه.
ضرائب وزكاة:
ـ أعمل صباحاً عملاً وظيفياً بأجر شهري تقتطع نسبة منه للمصالح العامة، ولدي مبلغ صغير أرتزق منه بعد الظهر وعليه ضريبة أرباح وبلديه وغيرها من الرسوم، فهل علي أن أدفع الزكاة أيضاً؟
الزكاة هي الضريبة التي تدفع للفقراء والمساكين وتفيدك عند الله، فإذا ما كنت تدفع أربع أو خمس ضرائب فادفع ضريبة أخرى لله لتنفعك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.
كيفية ترتيب الخمس:
ـ أنا شاب أصلّي وأصوم وأحبّ أهل البيت(ع)، ولكنني لم أخمّس في حياتي، فكيف لي أن أبدأ في الخمس وما حكم السنين الماضية، وما هو إرشادكم لنا كشباب في معرفة ديننا؟
عليك أن تراجع الحاكم الشرعي أو وكيله حتى يدرس إمكاناتك المالية، وماذا صرفت في الماضي وفي الحاضر، لتحصل على الجواب في ذلك.
أما المعرفة الدينية فعلى الشاب أن يقرأ الكتب الدينية أو يتعلم من شخص يملك الثقافة الدينية( ).
صرف الخمس للمحتاجين:
ـ إذا كان لصاحب الخمس أقارب أو أخوة في العراق بأمسّ الحاجة إليه، فهل بالإمكان إعطاؤهم كل الخمس بدون إعطاء أي شيء للعالم؟
لا بدّ من أن يستجيز من الحاكم الشرعي حتى يحدد له ما ينبغي أن يفعل، وعلى تقدير الإجازة فلا بد له من تقسيم الخمس بين سهم السادة لفقرائهم وبين سهم الإمام(ع) لغيرهم.
دفع الحقوق لجمعية المبرات:
ـ هل ترخّصون بدفع الحقوق الشرعية لجمعية المبرات الخيرية التي تضمّ عدداً من المبررات مثل مبرة الإمام الخوئي ومبرة خديجة الكبرى(ع) والتي ترعى الأيتام والمعوقين في لبنان؟
باعتبار أنها جمعية تكفل آلاف الأيتام والمعاقين لتربيهم ولتفتح عيونهم على الحياة الكريمة وخط الاستقامة، فإن دفع الحقوق إليها ـ حسب معرفتي بها ـ هو من أفضل مصارف الحقوق.
سنة مستقلّة لكل ربح:
ـ رأس سنة شخص يوم المولد النبوي الشريف، وحصل قبل ذلك على مبلغ من المال في محرم، فهل له أن يجعل للمال الأخير سنة مستقلة؟
على رأي السيد الخوئي(رحمه الله) يمكن أن يجعل لكل ربح سنة مستقلة، ولكن علماء آخرين يقولون أن على الإنسان أن يخمّس ما يفضل عن مؤونة سنته حتى لو لم يمضِ عليها سنة، وهذا هو ما نفتي به.
التصرّف بحقوق شرعية:
ـ دفع لي والدي الحقوق الشرعية، فهل يجوز لي أن أصرفها شخصياً، علماً أنني طالب علوم دينية ومدين، فهل يحق لي التصرّف بها بعنوان طلب العلم أم بعنوان الغارم؟
لا يجوز للأب أن يعطي حقوقه لولده الفقير، كما لا يجوز للولد أن يعطي حقوقه لوالده الفقير، وعلى من تجب نفقته وعلى الأحوط في سهم الإمام.
ولا بد من الرجوع إلى الحاكم الشرعي، فلعلّه يدبر له أمره بطريقة أو بأخرى، أما إذا كان الدفع بعنوان وفاء الدين فيجوز له ذلك.
زكاة الفواكه:
ـ جاء في كتابكم (المسائل الفقهية) الجزء الثاني، رداً على سؤال: ما هي الغلاّت التي تجب فيها الزكاة، أنها القمح والشعير والتمر والزبيب، فما هو حكم الفواكه التي أصبحت مصدراً للرزق كالتفاح والدرّاق وغيرها، فإذا كان عليها زكاة، وهي تزرع بعلاً فهل تحسم النفقات ثم يخرج المزارع الزكاة؟
بالنسبة إلى الأشياء الأخرى غير الغلاّت المذكورة، فلا فتوى لدينا في ذلك، وهناك جدل في هذه المسألة.
أما بالنسبة إلى المؤونة التي تحسب من الزكاة فهي التي تحسب بعد نضج الثمرة وأما قبل ذلك فلا.
استقطاع حصة من الزكاة:
ـ من المعلوم أنه إذا بلغ المحصول النصاب فيجب إخراج زكاته، فإذا كان الشخص الذي تجب عليه الزكاة فقيراً، فهل يعطى من الزكاة؟
لا يعطى من الزكاة، ولكنه يستطيع أن يأخذ من الزكاة من مورد آخر.
هل الصدقات من الخمس؟:
ـ هل أن الأموال التي تدفع إلى الفقراء كصدقات تحسب من الخمس إذا نواها الدافع؟
إذا قصد بها الخمس وكان الفقير ممن ينطبق عليه الخمس، فهي تحسب كذلك.
حساب الزكاة:
ـ زكاة الزروع والثمار وما سقته السماء (بعلي) هل يزكّى على جملة المبيعات أم تخصم التكاليف (أدوية، فلاحة)؟
تخصم التكاليف بعد وصول اخضرار الزرع أو احمراره، أما الأشياء التي يصرفها الإنسان قبل ذلك فلا تستثنى.
الحقوق للأغنياء:
ـ هناك من يرسل الحقوق إلى عراقيين في الداخل على الرغم من أنهم يمتلكون السيارات والمحال التجارية، في حين أن هناك من يملك قوت عيشه ويحتاجون المساعدة فلا يحصلون على شيء من هذه الحقوق؟
لا تبرأ ذمّته إذا أرسل الحقوق للأشخاص الأغنياء بحسب القانون الشرعي للغني.
الخمس من عين المال:
ـ إذا كان الخمس الواجب إخراجه هو خمسة دنانير، فهل يجب إخراجها من عين الأموال التي جرى عليها الخمس، أم يمكن إخراج أية خمسة دنانير أخرى؟
يمكن إخراجها من أي مال آخر، لكنك إذا أخرجتها من مال آخر في سنة أخرى ـ مثلاً ـ فعليك أن تخمّس الخمس.
تخميس الأموال التي في البنك:
ـ ما رأيكم في الخمس بالنسبة للأموال التي في البنوك، خاصة وأن أكثر الأخوان في البلدان الغربية مبتلين بهذه المسألة، وما هو الحكم:
إذا كانت الأموال ثابتة؟
إذا كانت سحباً وإيداعاً؟
وما هو رأي السيد الخوئي(رحمه الله) في ذلك؟
هناك إشكال لدى السيد الخوئي في ذلك، لأن البنوك إذا كانت حكومية، فالمال هو مال مجهول المالك، نعم، إذا أودعه وكان بإذن الحاكم الشرعي ولم يشترط الفائدة، فيجوز له أن يأخذه، لأنه "جاء الربا من قبل الشرط وإنما تفسده الشروط".
ونحن نرى أنه لا فرق بين المال الذي يودع في البنوك، سواء كانت حكومية أو أهلية، أو المال الذي يحوّل لحساب الإنسان حتى لو كانت راتباً فإنه يدخل في ملكه ويجب فيه الخمس، وبالنسبة إلى الفائدة إذا لم يكن قد اشترطها ولم يدخل في اتفاق مع البنك في ذلك فلا مشكلة في تملّكها.
التصدّق بمال الآخرين:
ـ ذهبت إلى مدينة الألعاب للنزهة فركبت في بعض الألعاب دون أن أدفع المال وهم لا يعلمون ذلك، وعندما خرجت أردت أن أتصدّق بها على الفقير، فهل يجوز لي ذلك؟
لا يجوز لك أن تتصدّق بمال الآخرين، بل عليك أن تدفع لهم ما يستحقونه من أجرة استعمال الألعاب.
تخميس أموال مودعة للدراسة:
ـ هناك بعض البنوك غير الحكومية تأخذ على عاتقها صرف منحة شهرية للطلاب الجامعيين، وذلك شريطة أن يلتزم أولياؤهم طيلة مدة دراستهم الابتدائية والثانوية بدفع مقدار معين من المال في كل سنة باسم أبنائه، فهل يجب تخميس الأموال المودعة كل سنة، وهل يتغيّر الحكم إذا كانت البنوك الحكومية؟
تارةً يودع هذه الأموال كوديعة شأنها شأن الودائع الأخرى، لكنه هنا لحساب أبنائه، فيجب هنا الخمس إذا ملك الأبناء وكانوا بالغين، وإذا لم يكونوا بالغين، فإن ذلك يدور مدار الفتوى: هل يجب الخمس في أموال غير البالغين أم لا، ورأينا الفقهي هو عدم وجوب الخمس في أموالهم.
أما إذا فرضنا أنها لم تكن بعنوان الوديعة من قبيل عطاء لأجل التعليم فلا خمس عليها، والظاهر هو أنها بعنوان الوديعة بحيث تسعى البنوك إلى الاستفادة من تلك الأموال في تشغيلها، ولا فرق عندنا بين البنوك الحكومية وغير الحكومية في هذا المجال.
خمس الصور:
ـ هل يجب الخمس في الصور الفوتوغرافية التي تؤخذ للذكرى أو الهدية؟
لا يجب الخمس فيما يحتاجه الإنسان، فقد يكون هذا من قبيل المؤنة.
خمس قسط مدّخر:
ـ لديّ مبلغ من المال ادّخرته من أجل دفع قسط منزل إلى المحافظة وقد مرّ عليه أكثر من عام، فهل يجب عليّ الخمس، مع العلم أنني لا أعرف متى أدفع المبلغ؟
يجب الخمس في هذا المبلغ.
حكم كتاب:
ـ أعطاني شخص كتاباً فقهياً كهدية علماً أن الكتاب كان مرسلاً كهدية باسم شخص آخر في قم حيث شطب اسمه وكتب إسمي لتعذّر حمله إلى قم، وعمل مع أشخاص آخرين ذلك، مع العلم أنه ليس مؤلفه، فما حكم وجوده عندي علماً أن الشخص قال أنه صدقة جارية؟
يده أمارة على الملكية، فمجرد الكتابة لا تدل علىأنه ملك للشخص المذكور، فلربما أراد إهداءه له وعدل فلا إشكال، لكن ينبغيمراعاة الاحتياط استحباباً في مثل هذه الأمور.
خمس مال مجموع للزواج:
ـ جمعت خمسة آلاف دولار لغرض الزواج وتأخر لمدة عام، حيث حان وقت الخمس وإذا دفعته فإن المبلغ لا يعود كافياً لإتمام زواجي فما هو تكليفي؟
الحلّ هو أن تأخذ رخصة من الحاكم الشرعي بأن يقسّط لك الخمس.
تخميس الأرض المزروعة:
ـ هل تخمّس الأرض المزروعة أو الحاصل الزراعي فقط؟
إذا مرّت على الأرض سنة فإنها تخمّس ويخمس الحاصل أيضاً.
تخميس الأرض غير المستصلحة:
ـ هل تخمّس الأرض غير المستصلحة للزراعة؟
نعم يجب تخميسها.
رخصة في تأجيل الخمس:
ـ إذا كنت بلغت برأس سنة الخمس في 15 رمضان وكان المبلغ المترتب (940) ألف دينار عراقي وقد دفعت منه خمسة آلاف فقط، ثم جئت إلى هنا ولا أستطيع دفع المبلغ مطلقاً، فما هو الحل؟
إذا لم تستطع فيمكنك أن تأخذ رخصة من الحاكم الشرعي في تأجيله.
مراجعة الحاكم الشرعي في الحقوق:
ـ هل يجب مراجعة الحاكم الشرعي عند كل مسألة في الخمس كما في كيفية توزيعه وما مدى وجوبه، علماً أنني لم أخمّس أموالي، فهل يجوز أن أخمّسها لدى أي عالم دين ثقة؟
في مسألة الاستفتاء يمكنه الرجوع إلى أي عالم يفتيه على حسب رأي مقلده، ولكن في التصرف بالحقوق لا بد من مراجعة الحاكم الشرعي.
تخميس بيت موهوب:
ـ اشترى لي والدي بيتاً ولم يخمّس ماله، وأنا طالب علوم دينية، فهل أن تخميس البيت بذمتي؟
يجب على والدك أن يخمّسه وليس عليك شيء من ذلك.
ترخيص:
ـ أنا شاب من نسل الإمام علي(ع) في الخامسة عشر من عمري وعائلتي فقيرة، وقد أعطاني أحد أقربائي خمساً ومقداره ألف دولار، وأرغب بشراء كومبيرتر لتحسين مستواي العلمي، ولكن المشكلة أنني لا أعرف كيف أدفع سهم الإمام ولا مقداره؟
إذا كنت محتاجاً حاجة ضرورية بحسب واقعك المادي فأنت تستحق باعتبارك هاشمياً سهم الإمام وسهم السادة معاً ونحن نرخصك في ذلك.
صرف الحق الشرعي:
ـ ما هي فتواكم في صرف الحق الشرعي، هل تقتصرون على الحوزة العلمية أم أنكم تجوّزون صرفه على كل ما يصب في خدمة الإسلام، وإذا كان كذلك فهل يجوز الصرف بإذن الحاكم الشرعي؟
لقد قال الله تعالى: {إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} ، ولم يقل لطلبة الحوزات العلمية ولكن بما أن هذه لا موارد مالية لها وهي بحاجة إلى المدد، جاءت الأولوية في هذا المقام، وينبغي صرف الحقوق الشرعية بإذن الحاكم الشرعي لأنه يعرف مواردها وأسسها الشرعية.
خمس المهر:
ـ هل في المهر خمس؟
ليس في المهر خمس.
إعطاء الصدقة للسادة:
ـ هل يجوز إعطاء الصدقة إلى السادة؟
يجوز ذلك برأي كل الفقهاء إذا كان المقصود الصدقة المستحبة، لا الزكاة، زكاة المال وزكاة الفطرة، فلا يجوز إعطاؤها للسادة إلا من قِبَل السيّد.
تخميس أموال شافعي:
ـ أحد الأخوة من الشافعية يريد أن يخمّس ما لديه من مال، علماً أنه لم يخرج خمس أمواله طوال حياته، ولكن المبلغ كبير جداً وهذا ما يثقل عليه، فهل بالإمكان أن تصالحوه في بعض المواضيع وتقسّطوا عليه في مواضيع أخرى؟
لا يمكن المسامحة بالخمس وكل من يسامح في الخمس لا تبرأ ذمته برأينا، لكن يمكن أن يقسّط، نعم لو فرضنا أنه لا يعرف خمس المبلغ المحدد فيمكن أن يصالحه الحاكم الشرعي بنسبة معينة.

سادساً: أموال وبنوك

تقاضي ثمن الخنزير:
ـ هل يجوز للمسلم أن يتقاضى من الكافر ثمن الخنزير؟
بعض العلماء يقولون إنه يأخذ حق الاختصاص، ورأينا أنه يجوز ذلك لمن يستحله ولا يجوز لمن لا يستحلّه.
التعامل مع الشركات المتعاونة مع الكيان الصهيوني:
ـ هناك شركات تجارية كثيرة في دول العالم تعطي نسباً من أرباحها لـ(إسرائيل)، فهل يجوز التعامل مع هذه الشركات؟
لا يجوز التعامل مع كل مؤسسة وشركة ومحل يتعاون مع (الكيان الصهيوني) ويقوّيه.
وقف الذريّة:
ـ ما حكم وقف الذريّة في الشرع الإسلامي، وهل يجوز أن تضمّه الأوقاف إليها؟
هذا وقفٌ مشروع، فالوقف الذريّ هو الوقف الذي يعطي للأجيال المقبلة رصيداً إنتاجياً متحركاً ليقوم ببعض شؤونها، فما دام الوقف منتجاً، وما دامت الذريّة موجودة فلا بدّ من أن يصرف في مورده، وإذا ضمته الأوقاف الإسلامية تنظيمياً فلا يجوز لها أن تصرفه في غير مورده، فـ"الأوقاف بحسب ما يقفها أهلها".
ـ وهل يجوز أن يتوزّعه ورثة الواقف، سواء كان الوقف عقاراً أو أرضاً؟
لا يجوز ذلك لأن هذه الطبقة من الورثة لا يملكونه،بل هناك طبقات أخرى لها حق فيه، فلا يجوز لهؤلاء أن يصادروا الوقف كلّه، لأنهم بذلك يعتدون على حق الطبقات الأخرى من الموقوف عليهم.
طلب الزيادة بقصد الاستنقاذ:
ـ هل يجوز طلب الزيادة من البنوك الكافرة بقصد الاستنقاذ؟
نحن لا نجوّز الربا سواء كان مع الكافر أو مع المسلم، ولا نجيز الأخذ من الكافر إذا كان مسالماً حتى بقصد الاستنقاذ.
الوسيط بين البائع والمشتري:
ـ ما حكم من كان وسيطاً بين البائع والمشتري دون علم المشتري بمنفعة ذلك الوسيط من البائع، وهل العمولة التي يأخذها البائع من الوسيط حلال؟
هذا عمل، فالوسيط يهيّئ للبائع مشترياً، أو يهيّئ للمشتري السلعة التي يريد شراءها، فإذا أخلص في هذا العمل ولم يغش فهو حلال.
شراء سيارة مغتصبة:
ـ ما رأيكم بشراء سيارة أتت للعراق من الكويت أثناء الاجتياح، علماً أنها تتناسب مع قدراتي المادية وذات فائدة كبيرة في عملي؟
لا يجوز ذلك، فهي سيارة مغصوبة، بل حتى لو كانت لغير المسلم المسالم فلا يجوز، وحتى لو لم نعرف صاحبها فيجب البحث والسؤال عنه، أما إذا لم نجد لها رقماً ولا شيئاً يدلّ على صاحبها فيجب الرجوع إلى الحاكم الشرعي ليبتّ فيها.
خلاف على بستان:
ـ لي ابن عم اتفق مع وكيل عن بستان في العراق وبعد فترة حدث خلاف بينه وبني الوكيل، فاشتكى إلى الدولة فأخذت الأرض وسيطرت على البستان وأصبح ابن عمي يدفع ناتجها إلى الدولةولا يدفع شيئاً إلى الوكيل، واشترى قطعتي أرض أخريين، فما الحكم الشرعي في هذه الأموال علماً أن مساحة الأرض (12) دونماً وهي كثيرة النخيل؟
ليس لابن عمك أية صلاحية في ذلك إلا برأي صاحب البستان، فإذا كان الوكيل باقياً على الوكالة فاتفاقه مع الوكيل، فإذا لم يوافق الوكيل ولم تكن له علاقة بماكل البستان فكل عمله حرام وباطل حسب السؤال.
تأجير بيت موقوف:
ـ إذا بنى شخص بيتاً باسم شيخٍ ما، فهل يجوز تأجيره لشخص آخر يسكنه مع وجود مسكن للشيخ، وكيف تكون الإجارة؟
إذا كان أوقفه لذلك فلا بد له أن يتبع ما أوقف إليه، أما إذا لم يكن هنك شيخ، أو كان الشيخ مستغنياً عن ذلك فيمكن تأجيره ودفع مبلغ الإيجار للشيخ.
التصرّف بالوقف:
ـ هل يجوز لمسؤول الوقف التصرف بالمال أم تنحصر مسؤوليته فقط في الأمور المحددة له من شراء جهاز فيديو لعرض المحاضرات؟
(الوقوف على حسب ما يقفها أهلها) فإذا كان صلاحيته كولي للوقف بأن يتصرف في منافع الوقف بحيث يشملها الوقف فلا مانع.
حقّ المبلغ من الوقف:
ـ هل يعطى من أموال الوقف حق المبلغ، وكيف يكون ذلك؟
إذا كان الوقف على المأتم أو على مكان معين، فإن الوقف يشمل كل شؤون المأتم من مصارف ونفقات.
شدة أحكام اللقطة:
ـ ألا تعتقدون أن أحكام اللقطة (ما يلتقطه الإنسان) من الشدة بحيث تجعل الناس يحتاطون في أخذ الشيء الملقوط مما يعرّضه للتلف، وما هي برأيكم الصورة المبسّطة لحكم اللقطة التي تساعد الناس على التقاط اللقطة بدون حرج؟
اللقطة على قسمين: فهناك اللقطة التي لها علامة، وهناك لقطة لا علامة لها، واللقطة التي لها علامة قد تكون مما يتلف بشكل سريع وقد تكون مما يبقى.
واللقطة التي لا علامة لها يمكن للإنسان أن يتملّكها أو يتصدّق بها على حسب القولين، أما اللقطة التي تتلف مثل الأشياء المأكولة فيمكن أن يأخذها ويضمنها لصاحبها، واللقطة التي يمكن أن تبقى لا بد أن يعرّفها سنة إذا كان التعريف ممكناً حتى ولو بنسبة 1% أو 10% إلا إذا كانت ظروف اللقطة وظروف الواقع تحول دون التعريف بها، لذلك يكون حكمها حكم اللقطة التي لا علامة لها، ويمكن أن يتصدّق بها أو يتملكها على الأحوط إذا كان فقيراً.
في المضاربة:
ـ إذا اشترط صاحب المال على المضارب في حال تعرض المال للخسارة أنه غير مسؤول عن الخسارة هل تكون المعاملة صحيحة؟
المعاملة غير صحيحة لأنه شرط مخالف للكتاب، باعتبار أن من شروط المضاربة هي أن تكون الخسارة على رأس المال، وأن يكون الربح بينهما، نعم إذا اشترط عليه أن يعوضه من ماله ما يقابل الخسارة، فإن هذا لشرط صحيح.
التصرّف بأموال الأيتام:
ـ إني أدّخر بعضاً من مالي الخاص وأضعه في حساب يتيمين في العائلة، وعندما أحتاج بعض الأموال أسحب من المال المدّخر وأعيده بعد فترة، علماً أنني لست الوحيد الذي يضع الأموال في حسابهما، فهل يجوز هذا؟
لا بد قبل كل شيء من مراجعة ولي اليتيمين سواء كان جدهما لأبيهما لأنه الولي الجبري، أو الوصي من قبل الأب أو الحاكم الشرعي، فإذا حصل هذا بأخذ الوكالة من الولي فيمكن احتساب ما يدفع لهما من هذا الصندوق ملكاً لهما، وإذا صار كذلك فلا بد من مراجعة الحاكم الشرعي في الاقتراض منه.
مسائل في الأسهم:
ـ يمتلك شخص أسهماً ليبيعها في المستقبل وينفق أموالها على بناء بيته الخاص به، فهل يجوز ذلك إذا كانت هذه الأموال غير مخمّسة؟
لا بدّ له من أن يخمّسها حتى لو كان يريد أن يشتري بها بيتاً في المستقبل.
ـ هل يجوز شراء أسهم البنوك الربوية التي تمتلك الحكومة فيها (70%)؟
لا يجوز ذلك.
حكم الأطعمة المتبقيّة:
ـ ما حكم الأطعمة المتبقيّة في المطاعم،خاصة تلك التي لا يأكل منها أصحابها إلا القليل حيث يأمر مدير المطعم عمّاله بإلقائها في صناديق القمامة، مانعاً توزيعها على ذوي الحاجة؟
لو استطاع العمّال أن يعطوها إلى الفقراء والمحتاجين فيجوز لهم ذلك.
الصورة كشاهد:
ـ ما رأيكم باستخدام التسجيل الصوري كشاهد في إثبات السرقة، وهل يعتبر ذلك شاهداً واحداً، وما الحكم في ضمّ القائم بالتسجيل كشاهد آخر، وما الحكم في غير السرقة؟
إن الصورة ليست حجّة لأنه يمكن تركيبها، ففي فن التصوير أصبح بالإمكان جمع صورتين وتركيبهمابشكل يوحي بالزنا أو القتل، ولذا فإن الصورة من الناحية الشرعية ليست حجة إلا إذا قطعنا أن هذه الصورة تمثل الحقيقة، وعند ذلك يمكن أن يستعين بها الحاكم في إدارة شؤون القضاء، ولكنها لا تعتبر شاهداً مستقلاً إلا إذا كان الذي التقط الصورة رجل عادل وجاء يشهد، فإنه يحتاج أن يضمّ إليه شاهداً آخر.
راتب المعيل أو المجرد:
ـ طالب في الحوزة متزوج وزوجته وأطفاله في العراق ويرسل إليهم الفائض من مصروفه، فهل يستحق شرعاً راتب المعيل أو المجرد؟
حسب القاعدة المعمول بها فإنه يستحق راتب المعيل.
القروض والودائع:
ـ لماذا تعامل الودائع المصرفية فيالشرع معاملة القرض، علماً بأنها ليست قرضاً وإنما هي وسيلة لتثمير وحفظ الأموال؟
ما هو القرض؟ إن القرض هو أن تعطي إنساناً مالاً ليتملّكه وليتاجر به لمصلحته على أن يبقى في ذمته، وعندما تعطي البنك مالاً فهل أنك تشاركه بالمعاملة؟ فلو ربح البنك أو خسر فإنه سوف يعيد لك الوديعة ويعطيك الفوائد، ولذلك فهي دَيْن كما يعبّر عنها أصحاب البنوك في الحساب المالي لآخر السنة.
أما الوديعة فهي أن ترهن في المصرف مالاً أو ذهباً أو غير ذلك وتدفع أجرة مقابل حفظ تلك الوديعة.
احتكار وارث لبستان:
ـ توفي والدي وترك بستاناً من النخيل في البصرة منذ ثلاثين سنة، ولي أخ يأكل ثمر البستان ولم يعطِ للورثة أيّ شيء ويدّعي أنه يلقّح النخيل، فما هو الحكم الشرعي في هذه المسألة؟
إنه يأخذه غصباً إذالم تأذنوا له به.
إرجاع السرقات للحاكم الشرعي:
ـ في انتفاضة شعبان قام شخص بسرقة بعض الأشياء التي تعود للصالح العام، وقد سلّمها للحاكم الشرعي، فهل برأت ذمّته؟
نعم، لأنه أشبه بالمال المجهول ماله، أي الذي لا يُعرف مالكه، وفي هذه الحال يكون الحاكم الشرعي مرجعه في ذلك.
استرداد قرض:
ـ أطالب شخصاً بمبلغ من المال، لكنه لا يعطنيه، وأنا قادر على أخذه لأنني على تماس مع الأموال لأنها في متناولي، فهل يجوز أخذها؟
إذا كانت هذه الأموال قرضاً لوقت معين، وكنت لا تستطيع بأي وسيلة، إن من ناحية الشرع أو من ناحية الناس الذين يمكن أن يقوموا بعملية إقناعه، لأخذ مالك، وكان متمرداً في دفعه، فيمكن أن تأخذه بنحو المقاصّة ولكن بإذن الحاكم الشرعي.
نقل الحوالة:
ـ هل أخذ نسبة من المال في نقل الحوالة من بلد إلى آخر حلال؟
إذا كانت أجرة على الحوالة فهي حلال، أما إذا كانت إضافة لمال فهي ربا.
إنكار مال مقترض:
ـ ما حكم الشخص الذي اقترض مبلغاً من المال وأنكره، مع أنه قادر على الوفاء به من خلال القرائن القائمة في حياته، ولكنه يُقسم أنه سدده من خلال أهله وأقاربه؟
هذا إنسان عاصٍ على حسب ما يذكر السؤال، وعليه أن يتراجع عن ذلك، ويمكن لصاحب الدين أن يقتصّ منه إذا وقع لديه مال لهذا الشخص بمقدار دينه، والأحوط أن يكون ذلك بإذن الحاكم الشرعي.
من الربا:
ـ لو باع الإنسان بضاعةوتأخر المشتري عن دفع الثمن، فهل يجوز إضافة مال على قيمتها؟
لا يجوز ذلك لأنه ربا.
بيع العربون:
ـ ما حكم بيع العربون وذلك بأن يشتري المشتري شيئاً ويدفع جزءاً من ثمنه إلى البائع، فإذا نفّذ البيع احتسب من الثمن، وإن لم ينفّذ أخذه البائع على أنه هبة له من المشتري؟
هذا إذا كان ذلك شرطاً ضمن العقد، كما في قوله: بعتك هذا الكتاب بثمن كذا بشرط أنك إذا فسخت البيع ـ وكان له حق الفسخ ـ فعليك أن تملّكني هذا المقدار من المبلغ، والشرط في ضمن العقد لا مشكلة فيه.
توكيل في مقاصّة
ـ سافر أخي على إحدى شركات الخطوط الجوية الأوروبية التي يتضمن قانونها أنها تعوّض كل ما يفقد أثناء الرحلة، وقد فقدت حقيبته أثناء الرحلة، ولكنه لم يستطع الحصول على التعويض من الشركة، وقد سافرت على نفس الشركة وادّعيت فقدان حقيبتي من أجل استحصال ما فقده أخي حسبما اتفق معي، وبالفعل حصلت على نصف قيمة ما فقده، فهل يجوز ذلك؟
لا يجوز لك ذلك من حيث المبدأ، لأنك كذبت، وأما بالنسبة إلى المقاصّة فإنما تجوز إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يأخذ حقه من الآخر، أما إذا كانت لأخيك وسيلة للحصول على حقه من الشركة فليس له أصلاً أن يفعل ذلك ولا أن يوكلك فيه.
شراء أسهم شركة تتعاطى المحرّم:
ـ لو اشترى أسهماً في مشروعٍ ما، ثم تبيّن أنه تُباع فيه الخمور، فباع أسهمه وظهر أن هناك ربحاً فيها، فماذا يفعل بالربح؟
إذا كان في الشركة ذات الأسهم حلال وحرام، فلا تحرم، لكن غاية ما هناك أن يرفض الاشتراك في الحرام حتى إذا أعطي ربحاً بعد ذلك، فإذا عرف حجم الحرام فعليه أن يتصدّق به إذا كان مالاً مجهول المالك، وإذا لم يعرف حجم الحرام، فإنه يكون من قبيل الحلال المخلوط بالحرام وعليه أن يخمّسه.
سرقة الصبيّ:
ـ إذا سرق الصبي من أحد الغرباء أو من أحد والديه، فما هو حكمه الآن، وما حكمه بعد بلوغه وإرادته التوبة؟
قد لا يحتاج إلى التوبة في صباه، لأن القلم مرفوع عنه، ولكنه يضمن لمن سرق منه المال فعليه أن يرجع المال لأصحابه بعد بلوغه، وعلى الأب إذا رأى المال في يد ولده أن يرجعه إلى أصحابه.
البناء على سطح مسجد موقوف:
ـ هل يصح البناء على سطح المسجد الموقوف بحجة عدم الاتّساع؟
إذا كنا نريد أن نبني عليه مسجداً للصلاة فلا مشكلة، أما هجر المسجد الأرضي فيمكن لمن لا يريد أن يصعد إلى الطابق الأعلى أن يصلي في المسجد السفلي، وعلى كل حال إذا كان البناء على سطح المسجد الموقوف من أجل الصلاة فإن ذلك يعني أن يكون هناك مسجد علوي وهذا لا مانع منه.
إعادة سرقة صبي:
ـ سرق صبي مالاً ولا يعرف مالكه، وعند بلوغه أراد إرجاعه، لكنه لا يعلم من هو مالكه فما هو حكمه؟
هذا مال حكمه حكم مجهول المالك وعليه أن يتصرف به بإذن الحاكم الشرعي.
الحق في أموال الجدّ:
ـ هل للولد حق في أموال جده، وقد توفي والده قبل وفاة جده؟
لا يرث منه، لأن في طبقة متأخرة إلا إذا لم يكن له أعمام كليةً، وكان هو الباقي الوحيد فإنه يرث جده في هذا الحال.
ثمن الدجاج ـ الميتة:
ـ أنا أحد المواطنين في دولة إسلامية ويوجد لدي محل لبيع الدجاج المستورد، فهل يجوز بيعه أو لا؟ وما هو حكم المباع سابقاً، وإن كان لا يجوز فما هو السبيل لبراءة ذمتي؟
بالنسبة إلى الدجاج الذي هو ميتة والمستورد من بلاد الكفر وليس هناك أساس شرعي للحكم بتذكيته وهذا ثمنه سحت، فهو حرام، وإذا كان يعرف أصحابه فعليه أن يرد إليهم المال ويتسامح منهم، وإذا كان لا يعرف أصحابه فيكون مالاً مجهول المالك وعليه أن يراجع فيه الحاكم الشرعي، وخصوصاً أن البيع كله للمسلمين ولا يجوز للإنسان أن يبيعهم الميتة مع عدم علمهم بأنها ميتة، لأنه حتى الذي يقول بجواز بيع الميتة ـ لبعض الاعتبارات التي تعتبر استثناء ـ يقول لا بد بإعلامهم أنها ميتة، فلا يجوز له أن يبيع بعد ذلك حتى يستورد من مكان يطمئن أنه مذبوح على الطريقة الإسلامية.
اختلاف العرف بمالية الشيء:
ـ اختلف العرف من بلد إلى آخر حول مالية شيء من عدمه، فبِمَ يحكم المكلّف؟
يعطي لكل دولة حكمها.
ظاهرة عدم تسديد الديون:
ـ من الظواهر الاجتماعية السلبية هو عدم اهتمام المدين بتسديد دينه مما سبب امتناع الكثيرين عن إقراض الآخرين خوفاً من عدم تسديد الديون، فما هو تعليقكم على هذه الظاهرة؟
قد يكون لهؤلاء الذين استدانوا عذر لجهة أن الأمور ضاقت بهم، وربما لا يخاف بعض الناس من الله، فيستدين وهو عازم على عدم الوفاء بالدين، ويجوز للإنسان الامتناع عن الإدانة إذا لم لم يثق بوفاء الشخص للدين.
علّة تحريم الفائدة المصرفية:
ـ لماذا حرّمت الشريعة الفائدة من البنوك، بينما أحلّت البيع بالأجل أي بالتقسيط، علماً أن الظاهر يوحي أن في كلا الأمرين زيادة؟ فهل هناك علة للتحريم؟
الإسلام يرى أن المال لا ينتج مالاً، نعم المال ينتج مالاً مع العمل، فلو كان عندك مبلغ وكلّفت شخصاً بتوظيفه وجعلت الربح بينك وبينه، فإذا حصلت خسارة فالخسارة عليك، لأن العامل خسر عمله، وإذا كان ربح فالربح بينك وبينه.
تركة ذهب:
ـ توفي شخص وترك أولاداً وبنات، فكيف يتم توزيع التركة وهي قطع من الذهب، فهل لا بد من بيع الذهب وتوزيع القيمة على الأبناء؟
لا بد أن يتصالحوا على التقييم، أو أنه يباع، فهذا شيء يرجع للورثة، أما هل يخمّس هذا الذهب فإذا فرضنا كان صاحبه لم يخمّسه فلا بد من تخميسه.
السطحُ لمن؟:
ـ لو اشترى شخص بيتاً هو سطح لبيت آخر، فهل السطح الجديد ـ أي سطح الدار الثانية ـ ملك للمشتري أم لصاحب الملك أم هو مشترك؟
هذا يتبع طبيعة البيع، فتارة يملّكه السطح وتارة يملّكه قسماً منه وتارة يملّكه مجرد الانتفاع به.
كل الإرث لولد واحد:
ـ هل يحقّ لي أن أعطي كل ما أملك لأحد أولادي علماً أن جميع أولادي يعاملونني معاملة حسنة؟
هناك جانبان في المسألة، فالأمر الأول هو أن الناس مسلّطون على أموالهم، فيمكنه أن يعطي ماله كله لابنه عطاءً منجزاً، أما الوصية فلا تصحّ إلا بالثلث إلا إذا رضي الورثة.
والجانب الآخر، أن الله سبحانه وتعالى نظّم الإرث بالشكل الذي يحقق العدالة ويحلّ مشكلة الورثة ويبعد جانب الحقد، فأنت حينما تؤثر ولداً واحداً وأولادك جميعاً طيبون، فمعنى ذلك أنك تتركهم فقراء، ثم أنك سوف تعقدهم ـ بعملك هذا ـ ضد أخيهم وضدك أيضاً.
إن مشكلة بعض الناس أن ما نظّمه الله تعالى يتصرّفون به بما يسيء إليه، والذي أوكله إلينا تتركه إليه، فالإرث نظام إلهي كامل فلِمَ تعطي الأولاد وتحرم البنات أو بالعكس أو تخصّ أحدهم بالإرث كله دون الآخرين.
إنني أعتبر ذلك تخلّفاً وهو يدلّ على عدم الإحساس بالمسؤولية وإن لم يكن محرّماً بذاته، فأنت حرّ بأموالك، لكن الجانب الأخلاقي والإنساني والعاطفي يجب أن يُلاحظ ولا يُهمل في التعامل مع إنسانية الآخر.
الربا المفروض:
ـ أنا موظّف وهناك طلبات تقدّم إليّ في التسجيل على بيت سكني تشرف عليه الجمعيات التعاونية السكنية، ويتم تسليم البيت بعد خمس سنوات، وبعد التسجيل تقوم الجمعية باستلاف مبلغ من البنك لضمان راتب الموظف وبعد(15) سنة يزداد المبلغ، فما هو الحكم؟
إذا لم يكن قاصداً للربا وفرض عليه ذلك من دون اختيار فلا حرمة فيه، أما إذا كان قاصداً في الأساس أن يدفع على أساس الربا فلا يجوز.
صحّة وكالة:
ـ هل تصحّ الوكالة مني لآخر بقبض ما يرسل لي عن طريقه والتصرّف به حتى لو لم يرسل لي شيئاً بحيث في حال حدوث ما يحول دون لقائنا فلا أكون مطلوباً له بشيء؟
إذا وكّلته بأن يقبض ويتصرف بالمال ليكون ديناً عليه في المستقبل، أو أنك توكّله بالقبض لتهبه إياه فلا مشكلة من حيث المبدأ.
الرجوع في هدية:
ـ قدّم خطيب إبنتي هدية لها ثم تراجع عن قراره بالزواج منها وطالب باسترجاع الهدية، فهل يحق له ذلك؟
إذا كانت الهدية موجودة عيناً بنفسها فيجوز الرجوع في الهدية، أما إذا كانت قد تصرّفت بها فليس له حق الرجوع فيها.

سابعاً: الحجّ

استطاعة أم لا؟
ـ هل يجوز لمن يعيش على الحقوق المالية أن يحجّ بيت الله؟ ألم يكن الهدف مما يحصل عليه هو توفير مستلزمات معيشته؟
إذا كان يستلم الحقوق الشرعية لأنه غير مستطيع فلا يجوز له الحج، أما إذا ترتّب على حجّه فوائد إسلامية كبيرة، بحيث يمكن أن يعطى الحقوق ليعظ ويبلّغ ويعلّم ويساعد الناس، فذاك عنوان آخر.
كفّارات الحج:
ـ هل يجوز أكل لحم كفّارة الحج؟
لا يجوز ذلك، فكفّارات الحج تدفع كلها للفقراء.
ـ هل يجوز دفع ثمن الكفّارة بدلاً عن الشاة؟
لا يجوز، بل يمكن أن يعطيها لأحد الأشخاص ليشتري له الشاة ويوزّعها على الفقراء.
ارتداء السروال في الإحرام:
ـ قد تظهر عورة الرجل من خلال السعي أو الجلوس بشكل غير مقصود أثناء الإحرام، فما رأيكم بارتداء  السروال الشرعي ودفع كفّارة عنه بعد الفراغ من أداء المراسم خاصة وأن ذلك أخفّ إثماً من إظهار العورة؟
لا يجوز ذلك، فأن يفعل الإنسان الحرام ويدفع الكفّارة فإنه يرتكب بذلك حراماً، ولدينا في الفقه ما يسمى بـ(الحكم التكليفي) وهو الحرمة التي يستحق العقاب عليها.
وأما ظهور العورة من دون قصد فليس فيه إثم.

ثامناً: الزواج والطلاق

حدّ المهر:
ـ هل هناك حدّ أدنى وأعلى لمهر الزوجة؟
ليس هناك حدّ أدنى وليس هناك حد أعلى، ولكن المهر ما تراضى عليه الزوجان، ولكننا نفهم من بعض الأحاديث أن الإسلام يريد للمهر أن يكون خفيفاً لا يثقل الزوج "شؤم المرأة غلاء مهرها".
لماذا النفقة على الرجل:
ـ في الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة توجد منافع مشتركة في جميع النواحي الاجتماعية والدينية والجنسية وغيرها، ولقد فرض الله سبحانه وتعالى المهر والنفقة على الرجل دون المرأة فما هي الحكمة من ذلك، ولماذا لا يكون الأمر مشتركاً بينهما؟
لقد حمّل الله سبحانه وتعالى الرجل مسؤولية الحياة الزوجية، لأن الرجل أقدر على الالتزام بهذه المسؤولية من المرأة التي تُبتلى بالحمل والحضانة والرضاع إلى  جانب الأمور الزوجية الأخرى، وذلك على نحو الإلزام فيما فيه مشقة إضافية، لكن لا يمانع الإسلام في أن تشارك المرأة الرجل في نفقات الحياة الزوجية من خلال العطاء لا من خلال الإلزام.
المهرُ حجّاً:
هل يجوز للمرأة أن تجعل مهرها الحج أو أن فيه جهالة؟
يجوز أن تجعل مهرها حج بيت الله، وإن هذه الجهالة لا تضرّ وتُحمل على النحو المتعارف.
زواج المسيار:
ـ ما هو موقف الشرع من زواج المسيار الذي يطرح اليوم في بعض مناطق الخليج؟
زواج المسيار هو زواج شرعي باعتبار أنهما يتفقان معاً على عقد الزواج، فغاية الأمر هو أنه يشترط عليها أن لا ينفق عليها وأن يتخفف من بعض شروط ومسؤوليات الحياة الزوجية و"المؤمنون عند شروطهم إلا شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً"، فإذا اشترط الزوج على زوجته في عقد الزواج أن تسقط عنه حق النفقة فلا تجب عليه النفقة، أو أن تسقط حق الحضانة لأولادها فلا تجب، أو اشترطت أن تكون وكيلة عنه في طلاق نفسها، فتقدر حينئذٍ أن تطلّق نفسها.
فالزوج من هذه الناحية صحيح لكنه غير موثّق عند الدولة، فعالم الإثبات شيء وعالم الشريعة شيء، وقد يقول البعض أن ليس فيه مصلحة وأنه قد يشتمل على بعض المشاكل، لكن الجانب الشرعي شيء والجانب التطبيقي شيء آخر، فقد يكون التطبيق غير صحيح، ولذا ينبغي ـ مثلاً ـ أن نحيطه ببعض الضوابط والشروط ممايجعل منه زواجاًلا يسيء للرجل أو للمرأة.
الزواج من أرملة ابن الأخ:
ـ هل يجوز للرجل أن يتوج من أرملة أو مطلقة ابن أخيه أو ابن أخته؟
يجوز ذلك، لأنها ليست من محارمه.
فسخ عقد بسبب التدليس:
ـ تزوج رجل امرأة على شرط أن ت كون باكراً، فبان أنها ثيّب فهل يجوز له فسخ العقد، وذلك على أساس أنه أقدم على الزواج بشرط أن تكون بكراً؟
إذا كانت قد دلّست نفسها عليها يعني أن هذا كان شرطاً بينهما، ولكنها دلّست نفسها عليه فله حق الفسخ في هذه الحال بمقتضى التدليس، أما إذا لم تدلس نفسها عليه فالعقد صحيح وليس له الفسخ ولكن له الفرق بين مهر البكر ومهر الثيّب.
الزواج بمؤمن فقير:
ـ هل هناك إشكال من ناحية الوالد في حالة خطبة ابنته من إنسان مؤمن ولكنه فقير، فلا يأخذ رأي ابنته التي عمرها (16) سنة؟
طبعاً ليس له أن يتعسّف في هذا المجال، فلابنته الحق في الزواج ولها الحق أو يؤخذ رأيها سلباً أو إيجاباً في أمر زواجها، نعم يرى بعض العلماء والفقهاء أن إذن الأب أو الجد للأب شرط في صحة العقد إذا كانت البنت بكراً، ولكن مع ذلك لا يجوز له أن يعقد بدون إذن ابنته.
الحلف بالطلاق أثناء الغضب:
ـ حلفتُ على زوجتي بالطلاق إن زارت أهلها، وذلك في لحظة غضب حتى أفقتُ فرأيت أنه لا يجوز حرمانها منهم، فما هو الحل؟
هذا يمين باطل ولا تجب الكفارة في مخالفته، لأن اليمين أولاً لا بد أن يكون بالله واليمين بالطلاق وحده غير مشروع، ولذلك لو حلف بالطلاق فإن الطلاق لا يقع حتى لو ذهبت إلى أهلها، ولذلك لا قيمة لهذا اليمين، لا من ناحية الكفارة ولا من حيث ترتيب الأثر، وعلى الإنسان أن يكون واعياً لما يقول خصوصاً في علاقته الزوجية.. ولو فرضنا أن الزوجة حرمته من أهله هل كان يقبل ذلك؟ إن هذا الوضع غير إنساني، وإذا كان أهلها في بعض الحالات يسببون المشاكل ومزعجين فيمكنك أن تعالجها بالحسنى، أما أنك تتزوج امرأة وتقتلعها من كل جذورها وتحرمها من أهلها، فالحديث يقول "عامل الناس كما تحبّ أن يعاملوك" إنها زوجتك بالجسد، ولكنها أختك في الإيمان، وعليك أن تعاملها بما يعامل الأخر أخته، ولو أنها أطاعتك وهي تعيش معك وتشعر أنك ظالم لها فكيف تعيش مع امرأة في الليل والنهار وتعتقد أنها مظلومة معك؟!
نسيان عقد الزواج:
ـ ما حكم من نسي عقد الزواج دائمياً كان أو منقطعاً، وقد دخل بزوجته؟
هذا يسمّى وطئ شبهة، أي أنه دخول ناشئ من الشبهة للاشتباه أنه كان قد عقد ولم يعقد، وإذا نتج عنه مولود فهو شرعي، وعلى المرأة أن تعتدّ إذا أرادت أن تنفصل عن هذا الرجل، ويمكنه أن يعقد عليها بعد ذلك.
الجمع بين الزوجة وعمتها أو خالتها:
ـ ما هو رأيكم بالحديث الذي يروى عن النبي(ص): "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"( )، وهل يصح الاستدلال به على حرمة الجمع بين الزوجة وعمتها والزوجة وخالتها؟
يقول الحديث "إلا بإذنها"( )، فيجوز الجمع بين العمّة وبنت الأخل والخالة وبنت الأخت، والإنسان إذا كان متزوجاً العمة فلا جيوز له أن يعقد على ابنة أخيها إلا برضاها، وهكذا بالنسبة إلى الخالة فلا يجوز له أن يعقد على ابنة أختها إلا برضاها.
زوجة بعنوان الصديقة:
ـ إذا كان رجل قد تزوّج باثنتين وهو يعيش في الغرب، فهل يجوز أن تكون الثانية بعنوان الصديقة أمام قانون تلك الدولة؟
لا يجوز ذلك من باب هتك حرمة المؤمن، فعندما يكون مظهره إيمانياً فإنهم يرونه كما لو كان يزني، مما يوجب هتك حرمة المؤمنينز
وثمّة مسألة أخرى، وهي أن البعض يطلّق زوجته قانونياً ويبقى يعيش معها حتى يستلم كل منهما راتباً مستقلاً، وهذا ايضاً حرام بالعنوان الثانوي، فمع أن الطلاق غير شرعي ولا قانوني ولكنه يوجب النظرة الاحتقارية إلى المؤمنين.
هناك كثير من الناس يهتكون حرمة الإسلام والمسلمين على أساس طلب المال، هؤلاء من الأخسرين أعمالاً لأن سعيهم ضلّ في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
علاقة مع محصنة:
ـ إذا أقام محصن علاقة غير شرعية مع محصنة ثم طلّقت، فهل له أن يتزوجها حسب رأي السيد الخوئي ورأيكم؟
يحتاط السيد الخوئي(رض) في رسالته في هذه المسألة، والأحوط وجوباً أن لا يتزوجها وإن كان للحليّة عندنا وعند السيد الخوئي وجه.
ومعنى إن كان للحلية وجه، أي أن الاحتياط ملزم ولا بد من التقيد به، وأن هناك رأياً علمياً راجحاً في الموضوع، ولكنه لم يصل إلى حدّ الفتوى.
طلاق الحامل:
ـ هل يجوز طلاق الحامل؟
نعم، يجوز طلاقها.
حقّ الحضانة للأم:
ـ هل تعطون حقّ الحضانة للأم؟
لها الحقّ في الحضانة لمدة سنتين.
أخذ الابن في سنّ الرضاعة:
ـ هل يجوز للأب أن يأخذ ابنه في سنّ الرضاعة؟
لا يجوز ذلك، لأن أقصر رضاعة هي سنتان وخلالها تكون الحضانة للأم.
أخت زوجة الوالد:
ـ هل تعتبر أخت زوجة الوالد من المحارم؟
ليست من المحارم إذا لم تكن خالة للولد.
الحقوق أثناء العقد:
ـ في فترة الخطبة، إذا تم إجراء عقد الزواج الشرعي وتمّ تسجيله قانوناً، هل تصبح المخطوبة بحكم الزوجة؟ وهل للزوج حقوق عليها؟
بمجرد عقد الزواج تصبح زوجة حتى لو لم تسجّل قانونياً، نعم هناك شرط ضمني أن الزوج لا يتحمل مسؤولية زوجته إلا عند الزفافن ولذلك كان السيد الخوئي(رحمه الله) وجماعة من العلماء يفتون بأنها لا تستعحق النفقة قبل الدخول بلحاظ الشرط الضمني، وإذا لم يكن هناك شرط، أي قيل له بشرط أن تنفق فيجب عليه الإنفاق.
وأما العلاقة بين الزوج والزوجة قبل الزفاف فهي من حقّ الزوجة، فقد تشترط أن تكون العلاقة عند الزفاف وإذا تنازلت فيجوز للزوج ذلك.
الاستخارة في الزواج:
ـ تقدمت لخطبة إحدى الفتيات المؤمنات فقام أهلها بالاستفسار عني، فلم يجدوا أيّ غبار عليّ ولكن الفتاة استخارت فكانت نهياً، فهل هناك وسيلة لإقناع أهلها أو إقناعها بأن تعدل عن الخيرة؟
إننا نقول لها ولك ولأهلها وللناس جميعاً لا تجمّدوا عقولكم بالاستخارة ولا تجمّدوا الشورى بالاستخارة، فالله أعطاك عقلاً لتختار لنفسك، فإذا وصل عقلك إلى نتيجة جيدة فيما تقدم عليه فتوكّل على الله وشاور الناس فيما تريد أن تقدم عليه إذا لم ينجدك عقلك، فإذا أشار الناس عليك بأمر فيه خير واقتنعت به {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله}( ).
أما إذا فكرت وشاورت فلم تصل إلى نتيجة ووقفت عند خطين 50% إقدام و50% إحجام، فقل اللهم إني أستخيرك برحمتك خيرة في عافية.
لذلك نقول لهذه الفتاة إذا كانت مقتنعة بك أنك إنسان طيب لا غبار عليك في أخلاقك ودينك وحياتك، فعليها أن تستمع إلى الحديث الشريف "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه فإن لم تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير"( ).
إن المشكلة هي أن الخيرة تحوّلت إلى مرض لدى بعض الناس، بحيث تعطل أعمالهم، في حين أن الخيرة ليست لعباً، فأنت تستخير الله وتستشيره في المهم من أمورك، وهو يقول لك لقد أعطيتك عقلاً فلماذا لم تفكر به، فهو الوسيلة التي تعرف بها الأمور، وأعطيتك الشورى {وشاورهم في الأمر} فلماذا لم تتبعها؟!
الطلاق بالفاكس:
ـ هل الطلاق أو التزويج عن طريق الوسائل الحديث كالفاكس أو الانترنت جائز؟
الأحوط أن ينطلق الطلاق باللفظ، فالفاكس لا ينفع في هذا المجال، نعم الأخبار عن الطلاق الذي يتم بشاهدين عدلين بالفاكس أو الانترنت جائز، أما إجراؤه فأمر مشكل.
الزواج بالعقد الضمني:
ـ هل يجوز الزواج بالعقد الضمني بدون لفظ؟
لا يجوز عقد الزواج إلا بما يكون دالاً على إنشاء الزواج بالقول بما يكون متضمناً لمعنى الزواج، أما بالفعل فلا يجوز ذلك، وليس هناك عرف في العالم ينشئ الزواج بهذه الطريقة.
رضع مع ابنة خالته:
ـ أردت الزواج من ابنة خالتي واتفقنا على الزواج ولكن خالتي قالت إني أرضعتك ولا أدري كم رضعة، فهل يحرم عليّ الزواج من ابنة خالتي؟
إذا لم تحرز الرضاع المحرّم ، أي خمسة عشر رضعة على بعض الآراء أو عشرة حسب آراء أخرى، أو رضاع يوم وليلة، أو الإرضاع الذي ينبت به اللحم ويشدّ العظم، فلا يحرم ذلك، ولكن لا بأس من الاحتياط، لأنه قد يحصل الزواج وبعد عشرين سنة يتذكر الأهل أن الرضاع كان محرماً.
الإذن بالعقد على ابنة الأخت:
ـ هل يتشرط في إذن الزوجة لزوجها بالعقد على ابنة أختها أن يكون صريحاً أو لا؟ وهل يصحّ لو علم من ظاهر الحال أنها لا تمانع بالزواج؟
لا بدّ أن تأذن، والإذن لا بد أن يصدر منها صريحاً أو بظاهر الكلام، أما ظاهر الحال ومجرد الرضا فلا يكفي، فالأحوط أن يكون هناك إذن، وإن كان هناك وجه لكفاية الرضا.
عدّة الطلاق:
ـ حصل خلاف بين زوجة وزوجها، فغادرت منزل زوجها إلى منزل أهلها وبقيت مدة أطول من مدة عدة الطلاق، وفي النهاية تمّ الطلاق وخلال هذه المدة لم تلتقِ بزوجها، فهل يمكن حساب عدة الطلاق من هذه المدة، وهل يحق لها الزواج بعد الطلاق؟
لو غابت عن زوجها عشرين سنة وطلّقها بعد العشرين سنة، فعليها أن تعتد عدّة الطلاق.
الإجبار عى الحلف بالطلاق:
ـ لو أجبر رجل على الحلف بالطلاق فهل يقع هذا الطلاق؟
حتى لو حلف بالطلاق اختياراً فإن الحلف ليس صحيحاً لإيقاع الطلاق، فلا بد أن يطلّق بكلمة معيّنة وهي أن يقول لها: أنت طالق، أو زوجتي طالق، مع شروط معينة.
الزواج من ابنة المزني بها:
ـ هل يجوز للرجل أن يتزوّج ابنة من أقام معها علاقةغير شرعية؟
هناك بعض العلماء لا يجوّزون ذلك، ونحن نجوّز ذلك، كما أن السيد الخوئي(ره) كان يجوّز ذلك، اي أن الحرام لا يحرّم الحلال في مثل هذا المولد.
عدة الطلاق الخلعي:
ـ هل للطلاق الخلعي عدّة، وإذا كان كذلك فكم هو مقدارها، وهل يجوز لمطلّقها أن يعقد عليها عقداً منقطعاً في أثناء عدّتها، وما هوالحكم بالنسبة لكليهما في حال علمها بهذا الحكم؟
الطلاق الخلعي كما هو الرجعي له ـ مع الدخول ـ عدّة، ولكن غاية ما هناك أن للزوج في الطلاق الرجعي أن يرجع في العدّة، بينما في الطلاق الخلعي ليس له أن يرجع إلا أن ترجع بالبذل، ويجوز له أن يعقد عقداً منقطعاً في أثناء العدة باعتبار أن الطلاق الخلعي طلاق غير رجعي.
إعادة عذرية المغتصبة:
ـ ما رأيكم في إعادة عذرية المغتصبة وإجهاض الحمل الناتج عن ذلك؟
الأصل أنه لا يجوز ذلك باعتبار أن ذلك غش، ثم إذا كان الذي يقوم بهذا العمل رجلاً فلا يجوز أن يطّلع على العورة، وكذلك لا يجوز الإجهاض، نعم إذا وصل الأمر إلى تعرّض الحياة للخطر أو أن تصاب بعار لا يحتمل فعند ذلك يجوز انطلاقاً من قوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج}( ).
زواج مكرهة:
ـ لو زوجت امرأة مكرهة وبقيت غير راضية بزيجتها وعقد زواجها، فما هو موقف الشرع من هذا العقد وهذا الزواج؟
عقد باطل، ولها أن تتزوج بمن شاءت ويكون عقدها الجديد صحيحاً وعقدها السابق باطلاً.
ـ وما مدى حليّة زواجها؟
ليس حلالاً، وحتى إذا عرف الزوج أنها مكرهة فلا يجوز له أن يمارس معها ما يمارسه الزوج مع زوجته.
ـ وما حكم الأولاد؟
إذا كانت مجبرة على ذلك فالأولاد بالنسبة إليها شرعيون، ولكن بالنسبة للزوج إذا كان عالماً بذلك فأولاده غير شرعيين، وإذا لم يكن عالماً بذلك، فعليها أن تعلمه بذلك، وإذا لم تعلمه فالأولاد أولاد شبهة.
ـ ماذا عليها أن تعمل الآن؟
إما أن ترضى به زوجاً أو تنفصل عنه إلزاماً.

تاسعاً: السلوك والمعاملات

التشخيص الطبي الخاطئ:
ـ لو أخطأ الطبيب أو الطبيبة في تشخيص المرض وإعطاء الدواء الصحيح، فأعطى المريض دواءً يشكّل خطراً على صحته قد يصل إلى حدّ الموت أو الشلل، هل يحق لأولياء المريض أن يشتكوا على الطبيب وأن تتخذ الإجراءات القاسية بحقّه كالطرد من المهنة؟
إذا كان الطبيب لا يستعمل خبرته بدقة ولا يستعمل الاحتياط لمصلحة صحة المريض في تشخيصه أو في إعطاء الدواء، فإنه مسؤول عن صحة الناس، وعليه أن يتحمّل هذه المسؤولية بالضمان أولاً، ويحقّ للمتضرّر أن يشتكي عليه حتى تتحرك السلطات من أجل إبعاد الناس عن خطره، سواء كان الطبيب مقصراً أو كان لا يملك الخبرة أو كان ممن أصبح طبيباً بطرقٍ ملتوية أو ما إلى ذلك، فهو يتحمّل المسؤولية كلها، ولا مانع من أن يشتكى عليه حتى يتحمل المسؤولية إذا لم تحل مشكلته من الجانب الشرعي.
العمل في صالون حلاقة للنساء:
ـ رجل يعمل في صالون حلاقة للسيدات في إحدى دول أوروبا، فهل الأجر الذي يحصل عليه حلال أم لا؟
إذا كان عمله في الحلاقة فهو حرام.
دخول النساء للملاعب الرياضية:
ـ ما رأيكم في دخول النساء إلى الملاعب الرياضية التي يلعب فيها الرجال على نحو الاختلاط، أو على نحو لا تختلط النساء بالرجال؟
نحن لا نرجّح ذلك، إذا لم يؤدّ ذلك إلى الوقوع في الحرام، فإذا أدّى إلى ذلك كان حراماً.
الشراء من خمّار:
ـ لو كان هناك تاجر يبيع الخمر ومواد غذائية أخرى، فهل كل شيء عنده لا يجوز شراؤه؟
إذا كان البائع مسلماً ويبيع الخمر وكان هناك شخص آخر لا يبيع الخمر فلا يجوز لك أن تشتري منه حتى المواد الغذائية، أما إذا كنت في منطقة غير إسلامية ولا مجال للشراء إلا من هذا فيجوز لك ذلك.
العمل في مطبعة تطبع كتباً ضدّ الإسلام:
ـ هناك شخص يعمل في مطبعة كتب وتأتي إلى المطبعة كتب ضد الإسلام لطبعها فما حكم عمله فيها إذا كان عمله يقتصر على المحاسبة والمراقبة؟
إذا كانت بعض الكتب هكذا، فعمله ليس محرماً إلا فيما يتصل بهذه الكتب.
نقل المقبرة:
ـ هناك مقبرة وسط القرية وهناك مشروع سيقام مكان المقبرة، وستزول المقبرة بقرار مجلس البلدية وستفتح أرض غيرها للدفن، فهل يجوز أن أنبش قبر أبي وآخذ رفاقه إلى المقبرة الجديدة؟
لا يجوز ذلك إلا إذا استعملت هذه المقبرة بنحو يهتك حرمته ويسيء إليه، كما لو فتحت عليها المجاري أو ما أشبه ذلك، أما في الحالات الطبيعية فلا يجوز ذلك.
دفن المسلم في التابوت:
ـ هل يجوز دفن المسلم في التابوت مع الاضطرار، كما هي الطريقة في دول الغرب؟
الدفن في التابوت على قسمين، فتارةً نضع الميت في التابوت ونضع التابوت في غرفة ونغلقها ونقوم بكل الوظائف الإسلامية المتعيّنة بالنسبة إلى الميت، وندفنه في داخل الأرض كما ندفنه خارج التابوت.
والأفضل أن يدفن بجسده، لكن إذا كانت هناك ضرورات كما بالنسبة إلى المسلمين الذين يعيشون في الغرب، حيث يفرض عليهم هناك ذلك، ولكن بشرط أن يكون الدفن في داخل الأرض، بحيث يُقال عنه دفن لا مجرد وضعه فيما يشبه الغرفة.
الشراء من معتوه سارق:
ـ هناك شخص معتوه يسرق فواكه وخضاراً ويبيعها للناس، فهل يجوز الشراء منه بالنسبة لمن يعرف ذلك، علماً أن المعتوه ينفق ما يحصل عليه على عائلته الفقيرة؟
سواء كان معتوهاً أو غير معتوه لا يجوز الشراء منه طالما أنه يسرق من الآخرين، وإذا كانت له عائلة فقيرة وليس هناك من يعولها، فعلى أولي الأمر أن يتعهدوا عائلته.
القاضي كطرف في الخصومة:
ـ في القضاء الإسلامي، هل يمكن أن يكون القاضي طرفاً في الخصومة أم يجب أن يكون هناك مدّعٍ أو نائب عام يمثل الحق العام، كما في القضاء المدني؟
لا بد للقاضي أن يكون حكماً ولا يجوز أن يكون طرفاً في الخصومة حسب ما نرى، وإن كان بعض الفقهاء يجيزون ذلك، فإذا كانت الدعوى على القاضي أو له، فعليه أن يتركها لقاضٍآخر ليكون هو فريقاً في الخصومة.
حبوب زيادة الهرمونات:
ـ يوجد نوع من الحبوب مهمتها زيادة الهرمونات في الجسم، وإذا استعملتها المرأة قبل الحمل فإنه يحتمل أن تحمل بأكثر من جنين في بطن واحد، وهذا على نحو الاحتمال، لأن كثيرات لم يحملن بأكثر من جنين، والسؤال: في بعض الأحيان التي يصادف أن تحمل المرأة فيها بأكثر من جنين قد يخبرها الطبيب أثناء الحمل أن رحمها لا يتحمل لأكثر من جنين، ويجب قتل أحدهما لإنقاذ حياة الأم أو الجنين الآخر، فهل يجوز استعمال هذه الحبوب قبل الحمل، مع عدم معرفة المرأة لتحمّل رحمها لأكثر من جنين؟
أما فيما يتعلق بجواز استعمالها، فهي جائزة، لأنه لا يوجد مانع شرعي من استعمالها، أما إذا حدث هذا الموضوع وكان الحمل خطراً على حياتها فيجوز الإسقاط على رأي السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ ورأينا وذلك من باب الدفاع عن النفس، بالنسبة إلى الأم إذا كان الحمل خطراً عليها أما إذا كان أحدهما خطراً على الآخر فالأمر مشكل ويرى بعض العلماء يقولون إنه ينتظر أمر الله، فلها روح وله روح ولا يجوز الإسقاط.
في جواز المسّاج:
ـ هل يجوز العمل في العلاج الطبيعي (المساج) للرجال على أنه يمثل فرصة عمل للمسلم المهاجر؟
يجوز ذلك بالنسبة للرجال.
ـ وما حكمه في حال الحرمة بالنسبة للنساء، خاصة وأنه ليس مصداقاً للضرورة؟
لا يجوز للرجل المسلم أن يتعاطى هذا العمل بالنسبة للنساء.
القانون لا يحمي المغفّلين:
ـ ما حكم القاعدة القانونية التي تقول (القانون لا يحمي المغفّلين) في الشريعة الإسلامية؟
إن الإسلام لا يعفي الجاهل المقصّر، فالجاهل على قسمين: جاهل قاصر وهو الغافل تماماً، أو الذي لا يستطيع أن يتعلّم، ولدينا الجاهل الذي يستطيع أن يتعلّم ولديه وسائل للعلم ولكنه يهمل التعليم تكاسلاً أو لا مبالاة، وذلك لا يعفيه من مخالفة القانون، فالجاهل المقصّر عند الفقهاء عامد، أي يُعامل كما يُعامل العامد.
التبرّع بالدم للتصدير:
ـ هل يجوز التبرّع بالدم لجهةٍ نعلم أنها تصدّره إلى بلاد غير إسلامية لا لأغراض إنسانية، وإنما كبضاعة تجارية؟
علينا أن لا نعطي دمنا إلا لما ينفع الناس، أما أن تتبرّع لتاجر فإن الله لن يثيبك على ذلك، إلا إذا فرضنا أن التاجر يقدم الدم لجهات إنسانية لا يمكن أن يصلها هذا الدم إلا بالطريقة التجارية.
فتح محلات تجارية لـ"الأتاري":
ـ هل يجوز فتح محل للألعاب الالكترونية "الأتاري" لاستحصال الأموال بدون مراهنة؟
يجوز ذلك، لأن الذي يحرّمه العلماء إما اللعب بآلات القمار مطلقاً أو اللعب مع العوض فقط، كما هو رأينا.
المنشّطات التي تؤدي إلى العقم:
ـ هل يجوز تناول المنشّطات لتقوية العضلات، وقد ثبت طبياً أنها تؤدي إلى عقم مؤقت؟
ما يؤدي إلى عقم مؤقت ليس محرّماً، نعم ما يؤدي إلى عقم دائم فيه إشكال.
المطاعم التي تبثّ الأغاني:
ـ قد يحتاج الفرد في بعض الأحيان، ولو من باب الترفيه على النفس والعيال، الذهاب إلى بعض المراكز التجارية أو المطاعم التي يعلم سلفاً أنها تذيع أغانٍ وموسيقى تتناسب مع مجالس اللهو، فما هو حكم الذهاب إلى هناك مع عدم وجود رغبة للسماع؟
هناك في هذه المسألة عنوانان: العنوان الأولي الذي لا يحرم الذهاب إلى هذه الأماكن إذا لم يكن فيها من الحرام إلا هذا، لأن المحرّم هو أن يستمع الإنسان إلى ما يحرم الاستماع إليه، ولكن بالعنوان الثانوي قد يكون الدخول إلى بعض المواقع التي تشتمل على الحرام تشجيعاً للمنكر، فإذا لم يكن كذلك فلا مشكلة شرعية.
عمل يدعو إلى الاختلاط:
ـ ترى امرأة أن العمل الوظيفي يمثل ضرورة بالنسبة لها، ولكن طبيعة عملها تفرض عليها الاختلاط بالرجال فكيف توفّق بين حكم الشرع بحرمة الاختلاط وبين حاجتها الماسّة للعمل، مع العلم أنها ترتدي ـ أثناء العمل ـ الزي الشرعي الكامل؟
الاختلاط ليس محرّماً في ذاته إلا إذا استلزم محرّماً، والأصل أن لا تختلط المرأة بالرجال، ولكن في حال الضرورة فإن الاختلاط إذا لم يمثّل ممارسة  محرّمة فلا مانع منه.
المعالجة عند الطبيب غير المماثل:
ـ هل تجوز المعالجة عند الطبيب غير المماثل من حيث الذكورة والأنوثة، كطبيب الأسنان أو الأذن أو العيون، حيث أعالج في مشفى مجاني ولا أستطيع تحديد الطبيب، وإذا أردت المعالجة عند طبيب مماثل في مقابل ثمن، فهل يتوجب عليّ ترك المعالجة المجانية من أجل أنيتحقق الكشف عند طبيب مماثل، علماً أن الأجرة ليست حرجية؟
إذاكان دفع الأجرة ير حرجي فالمعالجة عند غير المماثل لا تجوز، نعم إذا كان دفع الأجرة يوجب حرجاً فإنه يجوز ذلك، ونقصد بالأجرة الحرجية الأجرة التي تسبب له ضائقة مادية، بحيث لا يتحملها دخله ومعاشه.
زرع قلب خنزير في جسم الإنسان:
ـ توصّل علماء الطب إلى زرع قلب وأجزاء أخرى من الخنزير في جسم الإنسان، وأجاز علماء الأزهر ذلك، فهل تجيزونه أيضاً؟
نعم، يجوز ذلك، وإذا صار عضو الخنزير عضواً من أعضاء الإنسان صار حكمه حكم أي عضو من أعضائه الأصلية، فالحرمة في أكل لحم الخنزير لا في زرع بعض أجزائه في جسم الإنسان، لا سيما في حال الضرورة.
أخذ أواني ضيافة الطائرات:
ـ يوزّع المضيفون في الطائرات وجبات الطعام في أوانٍ بلاستيكية، فهل يجوز للمسافر أخذها؟
إذا كانوا يشترطون إرجاعها فلا يجوز ذلك.
ضرب الأم لطفلها:
ـ هل يجوز للأم ضرب الطفل في حال تأديبه مع العلم أنه يتيم؟
لا يجوز لها ذلك إلا إذا أخذت الرخصة في الجانب التأديبي من وليّه، فإذا كان جده لأبيه موجوداً فتأخذ الرخصة منه وإلا فمن الحاكم الشرعي، لأن الأم ليست هي الوليّة على الولد إلا إذا كانت وصيّة من قبل الأب.
دعس الحيوانات:
ـ قمت بدعس بعض الحيوانات في طريق تركيا بسيارتي وكانت خروفاً ودجاجاً وبطّاً، ولم أقف خوفاً على عائلتي من أصحابي، فما هو الواجب الشرعي؟
إذا لم تعرف أصحابها ولم تستطع إيصال ثمنها إليهم فعليك أن تتصدق عنهم لأن هذا المال في ذمتك وحكمه حكم مجهول المالك.
فرن بمواصفات أخرى:
ـ اشتريت فرن غاز على أنه ذو أربعةت عيون فتبيّن أنه ذو ستة ولم أرجع الفرن إلى البائع ولقد مضى على ذكل عشرون سنة، فماذا أعمل لبراءة ذمتي؟
إذا لم تعرف البائع ولم تستطع الوصول إليه، فالحكم هو حكم المسألة السابقة (أي أن تتصدّق بثمنه عن صاحبه) فحكم هذا المال هو حكم مجهول المالك وإذا أمكنك التعرف عليه فعليك أخذ السماح منه ودفع الفرق بين ثمنين الفرنين بالمصالحة الشرعية.
ضابط الموسيقى المثيرة:
ـ ما هو حكم الموسيقى والضابط لتمييز الحرام منها عن غيره؟
الموسيقى المحرّمة هي التي تثير الغرائز والشهوات بحسب النوع لا الشخص، فقد يكون هناك شخص لا تثيره الموسيقى، بل بحسب طبيعة الواقع العام، وهذا ما يعبّر عنه بألحان أهل الفسوق، أما غيرها مثل الحماسية والكلاسيكية فهي جائزة.
شهادة من لم يرضَ أهله عن جهاده:
ـ هل تقبل شهادة من استشهد وأهله غير راضين عنه في ذلك؟
أولاً، عندما يكون الشخص معذوراً في نفسه فلا إشكال أن شهادته مقبولة عند الله سبحانه وتعالى، ثم أن الذي يذهب للموت في سبيل الله وقربة إليه، حتى لو أخطأ في بعض ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يغفر له ذلك.
تأخير دفن الميت:
ـ هل يجوز تأخير دفن الميت لحين حضور أولاده جميعاً، علماً أن هناك قولاً يقول إن إكرام الميت دفنه، لكننا نرى أن بعض الناس لا يتبع هذا القول؟
يجوز ذلك، لكن يستحب التعجيل في دفن الميت، ولكن إذا كانت هناك عناوين أخرى فلا مانع من تأخير دفنه بشرط أن لا يؤدي إلى هتك حرمته كما في حال تفسّخه.
الاحتمال الضعيف:
ـ هل يبرّر الشك الضعيف، إذا كان هناك مبرّرٌ عقلاني من وجود مرض مميت كسرطان الشرج، جواز الكشف عن العورة، وإذا كان المرض منتشراً، فهل يجوز الفحص الدوري على الأصحاء لكشف المرض في مراحله الأولية؟
طبعاً، فالاحتمال الضعيف المعقول لا الاحتمال الكبير هو احتمال عقلاني، أي لو كان الاحتمال بنسبة 10% أنه مصاب بالسرطان وتعوقف كشف ذلك أو معالجته أو الفحص الدوري على كشف العورة، فإنه يجوز كشفها، لأن الصبر على ذلك مع هذا الاحتمال العقلي لا الوهمي، حرج، وقد قال الله تعالى: {وما جعل عليكُم في الدين من حرج}( ).
كذب وغش:
ـ أعمل في شركة حكومية بصفة فنّي منذ (20) عاماً وراتبي لا يكفي لنفقاتي،وأقوم بإصلاح وصيانة جميع الآلات وقد أُعطى عليها مكافأة رمزية، فلو أظهرت عدم إمكانية أصلاحها وأرسلتها إلى السوق واتفقت مع الفني على نصف الأجر وأصلحها خارج الشركة أكون قد أخذت ما أستحق فهل عملي حرام؟
لا يجوز لك ذلك، لأنك التزمت مع الشركة على أن تقدم ما تحسنه من عمل، وأنت مكلّف بالصيانة وقادر عليها، فقولك أنك لا تستطيع كذبٌ وإرسالها إلى الفني الآخر غشٌ وابتعاد عن الالتزام بالعقد.
خداع وسائل الإعلان:
ـ في بعض وسائل الدعاية والإعلان يعلنون عن مواصفات غير مطابقة للبضاعة، فهل يجوز ذلك؟
إذا كانت البضاعة غير واجدة للصفات فهو كذب وخداع.
الفرار من الزحف:
ـ لقد حرّم الإسلام الفرار من القتال إلا إذا زاد العدو على عدد المسلمين بأكثر من مرتين، ولكن ما هو الحكم الوضعي للفرار من القتال؟
لقد ناقشنا، كما ناقش بعض الفقهاء ذلك، وهو أن هذه المسألة كانت في العصور السابقة باعتبار أن قضية النصر تخضع لكثرة العدد وقلّته، لأن القتال كان بالسيف والرمح، فمن الطبيعي أن يكون للكثرة العددية وقلتها دور.
أما الآن فقد تحدث الحرب بالطائرات والصواريخ والقنابل الذرية، فأية كثرة تجدي، فقد تلقى قنبلة ذرية لتحصد أرواح مئتي ألف أو يزيدون، فقضية كثرة العدد وقلته لا تدخل في الحساب إلا إذا كان للعدد دور في عملية النصر، فإذا كانت قوة العدو أكثر من قوة المسلمين، بحيث يتحوّل الثبات إلى حالة انتحارية لا يستفيد المسلمون منها بشيء، فعند ذلك يجوز الفرار من الزحف، وأما الحاكم الوضعي فيرجع فيه إلى القيادة أو وليّ الأمر.
مصير هيكل عظمي:
ـ أنا طالب طب، قمتُ بشراء هيكل عظمي كامل لإنسان بسبب احتياجات الدراسة، ولم أعد الآن بحاجة إليه ويصعب عليّ دفنه لأنني أدرس في بلد غير بلدي ولا يوجد من أثق به لدفنه، ولا يمكنني حمله إلى بلادي لدفنه، فماذا علي أن أفعل به، علماً أن هناك طلبة يحتاجونه للدراسة؟
إذا كان الهيكل العظمي فنسان غير مسلم أو مشكوك الإسلام، فيجوز إعطاؤه لبعض الطلاب لدراسة.
حكم الدروس الخصوصية:
ـ ما الحكم الشرعي في أخذ الدروس الخصوصية، خصوصاً إذا كانت الطريقة المتبعة في الدراسة في الكلية من الأمور المتعارف عليها، بل إن بعض الأساتذة قد يتعمّدون الشرح السيّئ أثناء المحاضرة، أو يلاحقون الطلبة لأخذ الدروس الخصوصية مع التهديد بالعبث بدرجات الطالب، إضافة إلى أن العدد في المحاضرة قد يفوق الألف طالب مما لا يمكّن الطالب من التحصيل الجيد، خاصة في الدراسات العملية؟
لا مانع من أن يأخذ الإنسان درساً خصوصياً عند أستاذ الجامعة أو غيره، ولكن لا يجوز للأستاذ أن يقصّر في شرح المادة بوضوح، ولا يجوز له أن يهددهم بالعبث بعلاماتهم لابتزازهم.
تسجيل حضور بلا حضور:
ـ لئلا يسجّل غياب الطالب الجامعي في المحاضرة يسجّل حضوره أولاً ثم يخرج قبل ابتدائها، وإذا كانت الظروف تحكمه مما يصعب عليه الحضور، فإنه يدوّن اسمه في الحضور، لأن تجاوز نسبة الغياب تؤدي إلى حرمانه من الامتحان، فهل هذا جائز؟
الأصل أنه لا يجوز له أن يتغيّب مع التزامه مع الإدارة بأن يلتزم بقوانين الدرس، لأن على الإنسان أن يفي بالتزاماته ولا يجوز له أن يكذب، لأن المطلوب أن يسجّل حضوره الذي يستتبع الدراسة، فإذا أمضى، أي سجّل اسمه في سجل الحضور وهو غائب فإنه يكون كاذباً.
الطبيب الأرفق:
ـ ما هو معنى الطبيب الأرفق، هل هو الذي يعتني بمريضه أكثر وأعلم بغيره من اختصاصه؟
هو الطبيب الذي يستطيع أن يعالج مرضاه بطريقة أفضل من طبيب آخر.
الشعارات على الجدران:
ـ قلتُم في كتاب (فقه الحياة) إن الكتابة على الجدران لا تجوز، وإن هذا الأسلوب أسلوب متخلّف، ولكن بعض الدول تتخذ الكتابة على الجدران وسيلة لإبراز مظلوميتها وحقوقها الشرعية، فما هو رأيكم؟
يمكن تعليقها بلوحة على الجدران، فالحكم الشرعي هو المذكور في الكتاب، لأن ظاهر البيت كباطنه، فهل يجوز لك أن تدخل إلى داخل البيت وتكتب على جدرانه الداخلية (يعيش) و(يسقط)؟ بالتأكيد لا يجوز، لأنه لا يجوز التصرف بمال امرءٍ مسلم إلا بإذنه، وقد يكون خارج البيت نظيفاً وأنيقاً فعلى أي أساس تقوم أنت بتخريبه وتشويهه.
نعم، عندما تصل القضية إلى حدّ الضرورة ـ كما في القضايا الكبرى ـ السياسية أو بحيث عرفنا أن أهل البيوت متعاطفون معنا في ذلك، فلا مانع من ذلك.
مصافحة أخت الزوجة:
ـ هل تجوز مصافحة أخت الزوجة؟
لا يجوز ذلك، لأنها ليست من المحارم.
حكم التجرّي:
ـ ما هو حكم التجرّي عندكم، وإذا كان المتجري لا يستحق العقاب، فكيف توفّقون بين ذلك وبين الحديث "يحشر الناس على نياتهم" علماً أن نيات المتجري فاسدة، ولو أن الفعل في الواقع غير قبيح؟
التجرّي: هو أن تقدم على فعل معتقداً أنه حرام ولكنه في الواقع ليس حراماً، كمن يقدّم لك كأساً من عصير بلون الخمر واعتقدت أنه الخمر فشربته بروحية الذي يريد شرب الخمر، وبعد أن ذقته اكتشفت أنه ليس خمراً، فيقال عن هذا بـ(التجرّي) أي تجرّأت على الله سبحانه وتعالى عندما أقدمت على شرب هذا العصير معتقداً أنه الخمر، فروحيتك هي روحية الشارب للخمر.
وهناك بين العلماء، خلاف حول مسألة التجرّي، هل هو محرّم أو غير محرّم، فالكثير من العلماء يقول أنه ليس محرّماً ولكنه يعاقب، وبعض العلماء يقولون أنه لا يعاقب، لكن التجرّي يدلّ على سوء نيّة الإنسان، وهو ما يسمّى بـ(القبح الفاعلي) لا(القبح الفعلي) أي أن صاحبه قبيح لكنه لم يعصِ الله.
أما الحديث "يُحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة" فيعني أن مواقعهم في القيامة ستكون من خلال نياتهم، وليس من الضروري أن يعاقب الإنسان، فقد يُلام ويُذم، وقد يُقال بالعقوبة، وتفصيل ذلك في محلّه.
صيد السمك بواسطة الطير:
ـ لو اصطاد الرجل السمك عن طريق الطيور، بحيث يربطها ويشدّ رقبتها كي لا تبلع السمكة، فهل هذا الصيد جائز؟
إذا كانت السمكة في فم الطير فهي محل إشكال.
نقل مدعوس( ) إلى المستشفى:
ـ ما حكم من رأى شخصاً دعسته سيارة واحتمال حياته في حال نقله إلى المستشفى قائم، إلا أنه في حال موته أو فقدانه الذاكرة فإن الناقل قد يتهم بأنه هو الذي دعسه، فهل يجوز تركه في هكذا حالة؟
إذا كان يمكن إنقاذه فيجب عليه ذلك على كل حال، لأن إنقاذ نفس الإنسان المؤمن يتقدم على كل شيء آخر.
الوشم:
ـ ما هو رأيكم في الوشم، خصوصاً إذا كان المكتوب هو أسماء الأئمة(ع) أو الرسول(ص)، وهل هناك كراهة في الوشم على مناطق معينة في الجسم؟
لماذا الوشم؟ لماذا يكتب الإنسان على جسده إسم النبي أو الإمام، هل من أجل أن يتبرّك به؟! إن المهم هو أن تكتب اسم النبي والإمام في قلبك وفي عقلك، حتى تكون البركة متحرّكة حيّة واعية، إلا فيمكن أن تكتب اسم النبي(ص) أو الأئمة على أي مكان في جسمك ولا تلتفت إليه بالمرّة.
أما من الناحية الجمالية فليس فيه شيء من الجمال إلا في بعض الحالات، فالله خلق لك جسماً متناسقاً ولطيفاً، فلماذا تتدخل في خلق اله فيما لا يحتاجه، نعم، قد يحتاج بعض الناس إلى تجميل الأنف أو العين كما هي حاجة بعض النساء إلى ذلك، فهذا له ما يبرره، لكن الوشم من الأمور التي لا معنى لها، بل ربما نقول أنها تشتمل معنًى مضاداً.
اتفاق الوالدين على إسقاط الجنين:
ـ إذا اتفق أبوان على إسقاط جنين، هل يعتبر قتل عمد وهل عليه دية، ولمن تُعطى، وما الذي يفعله الأبوان؟
لا يجوز للأبوين ذلك، لأن الأمر لا يخصّهما كتكليف شرعي، فإذا سار الجنين في رحلة الحياة فلا يجوز إسقاطه إلا في حالة اضطرار فوق العادة بالغة الخطورة أو قريبة من الخطورة، فإذا كان الجنين في مرحلة نفخ الروح يكون الأبوان عند إسقاطه قاتلين، وإذ كان قبل ذلك فهناك ديّة تدفع إلى الطبقة الثانية.
التجويف:
ـ في البلاد غير الإسلامية عند نقل جثمان المسلم إلى بلد آخر يعملون له تشريحاً لإخراج أحشائه تماماً لتبقى البطن خالية من الأعضاء ويسمى ذلك بـ(التجويف)، فهل يجوز ذلك؟
لا يجوز ذلك مطلقاً، بل لا بد أن يدفن الميت في البلد الذي توفي فيه، لأنه لا يجوز لنا أن نمارس شيئاً مستحباً بآخر محرّم، حتى لو أوصى الميت بذلك، فإن هناك إشكالاً في الأمر، لأن التشريح بهذه الطريقة تمثيل بالميت، فلا يجوز ذلك إلا بلحاظ بعض الاستثناءات والعناوين الخاصة وليس هذا منها،  كما لو لم يكن هناك مكان لدفنه، أي لا توجد مقبرة مسلمين أو ما أشبه ذلك.
ولكن ربما تبرز بعض المناقشات الفقهية في الحكم بالحرمة على أساس عنوان التمثيل بأن هذا العنوان يختزن في داخله معنى التنكيل بحسب إيحاء معناه، فلا يصدق في هذا المورد الذي يُراد من خلاله الإحسان إلى الميّت لدفنه في مقابر المسلمين أو في مقبرة أهله مما يؤدي إلى ذكره بالفاتحة أو بقراءة القرآن أو بالدعاء ونحوه.
وكذا تأتي المناقشة إذا كان الأساس في الحرمة الحديث المتضمن أن الله حرّم من المؤمن ميتاً ما حرّم منه حياً، أو "إن حرمته ميتاً كحرمته حياً"، فإن الظاهر من ذلك هو الجانب العدواني فهو الذي يحرم في حال حياته لا الجانب الذي يكون مصلحة له كما في العملية الجراحية التي تشبه عملية إخراج الأمعاء لمصلحة كما ذكرنا..
وكذا يمكن المناقشة في الاستنثاء على تقدير القول بالحرمة، كما إذا لم تكن هناك مقبرة مسلمين، فإن تحريم الدفن في مقبرة الكفار لا يخضع لإطلاق دليل لفظي بل هو خاضع لدليل لبّي أو للزوم هتك حرمته وهما لا ينطبقان على المورد والله العالم.
ـ وإذا كان جائزاً، فكيف يتم تغسيلها وتكفينها والصلاة عليها؟
هذا لا يسقط هذه، فلا بد أن يغسّل ويكفّن ويصلّى عليه.
قطع الأنابيب:
ـ هل يجوز للمرأة إجراء عملية قطع الأنابيب حتى لا تحمل أبداً إذا كان لديه أطفال كثيرون ولا يمكنها استعمال حبوب منع الحمل بكثرة لأنها مصابة بضغط الدم؟
إذا لم تكن هناك وسائل لمنع الحمل غير هذا وكانت تعيش حرجاً وضيقاً وضرراً كبيراً فيجوز، أما إذا كانت هناك وسائل أخرى كربط الأنابيب فإنه يجوز، أما قطع الأنابيب فمحل إشكال إلا في حالات الضرورة،فالفكرة العامة هي أن الإنسان يمكن أن يجمّد طاقته لا أن يقتلها، فكما أن قتل الإنسان لا يجوز، فكذلك قتل الطاقة لا يجوز إلا في حالات الضرورة.
هل جزء الميّت ككلّه؟
ـ إذا قطع الطبيب الجرّاح جزءاً من جسم الإنسان لمرضٍ ما، فهل هذا الجزء المقطوع يكون نجساً، وهل يجب على الطبيب أن يغتسل غسل مسّ الميّت أم لا؟
هذا العضو هو نجس وبحكم الميتة، أما أن يغتسل عند مسّه فقد يُقال مسّ الميت يعني مسّ جسم الميت، فالجزء لا يشمله الدليل على وجوب غسل مسّ الميت، ولكن الأحوط وجوباً هو وجوب الغسل إذا كانت القطعة مشتملة على العظم.
حكم حالات:
ـ ما حكم الحالات التالية:
التشريح إذا كان مادة أساسية في كلية الطب؟
إذا كان الميت مشكوك الإسلام فلا إشكال في ذلك، وإذا كان مسلماً وكانت هناك ضرورة فمن الناحية التكليفية يجوز ذلك.
التشريح في حال الضرورة للتعرف على الجاني أو على طبيعة الجريمة؟
يجوز في هذه الحالات.
رؤية صور متوفية:
ـ تزوجت فتاة والدتها متوفية، فهل يجوز لي رؤية صور والدتها بدون حجاب؟
لا مانع من ذلك.
الوصية:
ـ ما حكم الوصية، وهل هي واجبة أم مستحبة؟
ليست واجبة في الأصل ولكن قد تجب إذا كانت على الإنسان بعض التكاليف، سواء كانت متعلقة بحقوق الله أو بحقوق الناس، وكان من الممكن أن لا يمتد به العمر ليقضيها أو يؤديها، فهنا يجب أن يوصي بذلك إذا خاف ضياعه من بعد.
عمل المحامي في مجتمع إسلامي:
ـ ما هي شرعية عمل المحامي في ظل القوانين الوضعية في مجتمع إسلامي؟
إذا كان المحامي يدقق في كل القضايا التي يكلّف بها في موافقتها للشريعة الإسلامية، فيجوز له أن يدافع عنها، اما إذا كانت غير موافقة للشرع الإسلامي بحيث يقول الشرع إن فلاناً مُدان وهو يريد تبرئته ففي هذه الحال لا يجوز ذلك.
تحويل جزء من مسجد موقوف إلى مكتبة:
ـ إذا كان البناء مخصصاً للمسجد وموقوفاً مسجداً، ولكن ولي المسجد الجديد حوّل جزءاً من المسجد إلى مكتبة عامة، فهل يصحّ هذا التغيير؟
إذا كان ذلك يوجب عدم الصلاة في هذا الجزء فلا يجوز، أما إذا أراد أن يضع المكتبة في الحائط فلا يعطل الصلاة في أي جانب مع حاجة الناس إليها، فلا مانع من ذلك، لأن الوقوف حسب ما يقفها أهلها.
العمل في معمل لا يذبح بالطريقة الإسلامية:
ـ أنا أعيش في الغرب وحصل لي عمل في معمل لحم، ولكن طريقة الذبح ليست على الطريقة الإسلامية، فهل يجوز لي العمل في هذا المعمل، وهل يجوز ملامسة اللحم؟
إذا كان اللحم يُباع لغير المسلمين فيجوز العمل في ذلك، ولا بد من أن يطهّر يده من ملامسة اللحم.
صورتي عند صديقة متزوجة:
ـ طلبت إحدى صديقاتي أن تأخذ معي صورة بالحجاب الشرعي على أن تبقى هذه الصورة كذكرى مع أنها متزوجة؟
ليس محرماً، لكن على المرأة أن تنظر للواقع الاجتماعي في مثل هذه المسائل.
مشاطرة سكارى السكن:
ـ سائل يعيش في بلاد الغربة ويسكن مع شباب مسلمين يتعاطون الخمرة ولا يستطيع دفع الإيجار الشهري بمفرده، فما هو حكمه في حال الضرورة وعدمها، هل تنصحون بترك هؤلاء الشباب واستئجار بيت مع غيرهم؟
إذا كانت هناك ضرورة {فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه}( )، وعليه أن يكون حذراً حتى لا يسيطر عليه الجو، أما إذا لم تكن هناك ضرورة فعليه أن يبتعد عنهم ويستأجر بيتاًمع غيرهم، لأن "المحرّمات حمى الله فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه".
إخبار الأهل بقصد الخروج من البيت:
ـ أعمل عملاً إسلامياً وقد يتطلّب مني أن لا أخبر أهلي بخروجي من البيت وتحديد الجهة التي أتوجه إليها، فهل يجب عليّ إخبارهم؟
إذا كان عملك يفرض عليك السريّة فليس لك أن تخبرهم، ولكن في الوقت نفسه عليك أن تبحث عن أسلوب يجعلهم لا يتعقّدون من ضبابية الجهة التي تقصدها كي لا يقلقوا عليك.
ضرورات العمل الإسلامي:
ـ أعمل في بعض الأعمال الإسلامية، ولكن أهلي لا يرغبون بذلك، فهل يجوز عصيانهم؟
إذا كان هذا العمل ملحّاً وضرورياً وحيوياً وواجباً عليك، فيجوز ذلك أن لا تطيعهم في ذلك.
ذبيحة الكتابي المذكّاة:
ـ هل يمكن أكل ذبيحة الكتابي لو ذكر عليها اسم الله أمام المسلم على الطريقة الإسلامية؟
هناك رأي لأكثر من فقيه معاصر ونحن نستقرب هذا الرأي وهو أنه إذا ذبحها بالطريقة التي يذبح فيها الحيوان وذكر اسم الله عليها، فإن من الممكن أن يُقال بحليّتها باعتبار أن القرآن الكريم أكّد على الاسم كأساس للحليّة والحرمة سلباً أو إيجاباً وذلك قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه}، {وكلوا مما ذُكر اسم الله عليه}، ولم يذكر إسلام الذابح كشرط، وأن الأحاديث الواردة عن أهل البيت(ع) تقول: "إن الذبيحة اسم ولا يؤمن عليها إلا مسلم"، والمسألة محل جدل اجتهادي، ويمكن مراجعة كتابنا (الصيد والذباحة) تقريراً لأبحاثنا الفقهي.
تمثيليات تاريخية من مصادر غير موثوقة:
ـ لأجل لقمة العيش التي قد ضاقت بي ذهبت أبحث عنها هنا وهناك، ولذا فإنني أكتب إلى إحدى الإذاعات تمثيليات تاريخية تعتمد علىمصادر غير موثوقة من وجهة نظرنا فما هو موقفي وما هو تعقليقكم؟
إذا كنت لا تقصد بهذه التمثيليات الحديث عن التاريخ وأنه وقع وإنما أردت أن تصوّر الفكرة من خلال هذه التمثيليات فلا مانع من ذلك.
الإكثار من لعب الشطرنج:
ـ ألعب الشطرنج كثيراً بحيث يشغلني في اليوم أكثر من مرة، فهل الحرمة في الشطرنج أم في الانشغال بها؟
المعروف بين أكثر علماء الشيعة وأكثر علماء السنّة أنّ الشطرنج محرّم في ذاته، ولكن السيد الخميني(رحمه الله) حكم بحليّة الشطرنج إذا خرج عن كونه من آلات القمار في الواقع العملي، ونحن نوافقه أيضاً في الحليّة ولكن بشكل مطلق، فلا يجوز للإنسان أن يمارس هذه اللعبة إلا إذا قلّد من يفتي بحليّتها ولا يجوز له فعل ذلك إذا كان مقلّداً لمن يفتي بحرمته لأنه ينطلق من لا حجة بحسب التزامه المرجعي.
وحتى لو قلنا بحليّة الشطرنج فعلى الإنسان أن يلعبه ـ بقول من يفتي بالحليّة ـ بحدود المعقول، فلا يجوز أن يشغله ذلك عن ذكر الله والصلاة وعن مسؤولياته العامة والخاصة.
العمل في التلفاز والمسرح:
ـ هل يجوز العمل كممثل في التلفاز والمسرح، مع الالتزام بالضوابط الشرعية؟
نعم، يجوز ذلك.



الفهرست

المقدمة
ثقافة السؤال
جدول إحصائي بمحاضرات وأسئلة الندوة

المحاضرة 1: حدود العلاقة مع الآخر الكافر
تخطيط القرآن لمواجهة السذاجة
العنوان الكبير
بين ولائين
طلب العزة عند الكافرين
في النتائج السلبية
العداوة
نماذج إيمانية
التعايش مع غير المسلم
العلاقة مع اليهود
حركة المنهج في الواقع
التعامل الحذِر

المحاضرة 2: بين صلحين: صلح الإمام الحسن(ع) والصلح مع الصهاينة
في ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع)
تربية الرسول(ص)
في البيت العلوي ـ الفاطمي
رجل المهمّات الصعبة
حقيقة الصلح
الأسلوبان: الحسني والحسيني
الصلح مع الصهاينة

المحاضرة 3: في ذكرى وفاة الإمام الرضا(ع): تمثل الرموز المقدسة
في ذكرى وفاة الإمام الرضا(ع)
ثقة العالم الإسلامي بالرضا(ع)
لا إسراف
لا شرك
حقّ الله
المقاطعة على الأجر
شخصية الحاكم
أخوّة الإيمان فوق القرابة

المحاضرة 4: في ذكرى وفاة الرسول الأعظم(ص): المسؤولية القيادية
في ذكرى وفاة الرسول(ص)
بقاء الإسلام
ثلاثة مواقف متباينة
أحاديث النبي(ص) قبل وفاته
ملازمات الإيمان
وصيته لـ(معاذ بن جبل)
الإيمان والنفع للعباد

المحاضرة 5: آثار البهتان
البهتان
الكذب على الله
الكذب على الواقع
الكذب المتصل بالناس
المشكلة في واقعنا الاجتماعي
المسألة في مرآة القرآن
مسلم يسرق ويتهم يهودياً
من موارد البهتان الأخرى

المحاضرة 6: ذكرى المولد النبوي الشريف: يوم اليتيم العالمي
في ذكرى المولد النبوي الشريف
القرآن كتاب السيرة
يوم اليتيم العالمي
أميّة النبي(ص)
الاحتفال بحركة الرسالة
أخلاقية الرسول(ص) في الدعوة
إنسانية النبي(ص)
ماذا علينا في ذكرى مولده؟

المحاضرة 7: عناوين الحركة في مولد الصادقين: المحبة، الوحدة، الأخوّة
في مولد الصادقين
نظرة إلى العالم الإسلامي اليوم
لا جديّة في الحديث عن الوحدة
في إطار الواقع السياسي
في الواقع الأمني
الانفتاح على خط أهل البيت(ع)
الموقف إزاء التحديات

المحاضرة 8: المنهج الإسلامي في الانتماء
المنهج الإسلامي في الانتماء
المنهج قرآنياً
في حركة الواقع
تقدميّة الفكر ورجعيّته
التقليد في الفقه
الأحاديث ترفض وتنهى
خلاصة الفكرة

المحاضرة 9: اللغو
صناعة الشخصية الإسلامية
عمّال الله
اللغو
الإعراض عن اللغو
حركة اللغو في الواقع الاجتماعي
حادثة ذات دلالة
فتّشوا عن الخلفيات

المحاضرة 10: الخاسرون والرابحون
هاجس الربح والخسارة
الخسارة في النموذج
قمة الخسران
الخط العام للخسران
نقض العهد خسارة
اللهو خسارة
الطاعة للمستكبر خسارة
العبادة على حرف خسارة
أشدّ الناس خسارة
الخسارة في كلمات أهل البيت(ع)
الحقّ مسؤوليتنا جميعاً
نحن عمّال الله

المحاضرة 11: المرجعية في الصراع الفكري
حديث المسؤولية
الحجّة
الإيمان باليوم الآخر
من لا يمتلكون المعرفة
إضاءات قرآنية
ما يحتجّ الله به
السبيل إلى فضّ النزاع
حوار الطرشان
شعار (هاتوا برهانكم)

المحاضرة 12: المكر والماكرون
الأخلاق الاجتماعية
تعريف المكر
المكر في الحرب
المكر الاستكباري
التخلّف على أكثر من صعيد
المكر في الكتاب والسنّة
علي(ع) المثل الأعلى
تجربة علي(ع) حيّة
الإسلام أخلاق كلّه

المحاضرة 13: التخطيط السري للإضرار بالمؤمنين
النجوى
معالجة القرآن للنجوى
الله محيط
التناجي بالبرّ والتقوى
النجوى الوبال
تناجي المخابرات
انتبهوا للأساليب الفرعونية
النجوى الشيطانية
النجوى في الأحاديث الشريفة
ليكن خلقنا القرآن

المحاضرة 14: المآسي الكبرى التي صنعت زينب الكبرى(ع)
في مولد الحوراء زينب(؛ع)
المأساة الأولى
المأساة الثانية
المأساة الثالثة
المأساة الرابعة
المأساة الخامسة
العاطفة الزينبية
صور من عاطفتها
صلابة الموقف
الارتفاع إلى مستواها

النصّ الكامل لخطبة فاطمة الزهراء(ع)

المحاضرة 15: فاطمة الزهراء(ع) الرمز الإسلامي المقدس لدى جميع المسلمين
ذكرى الصدّيقة الطاهرة(ع)
كما تصفها عائشة
في طفولتها الأولى
في المدينة كما في مكة
شخصيتها الثقافية
سيدة نساء العالمين
الصدّيقة الشهيدة
خطبتها في المسجد النبوي
الحديث عن النعم الإلهية
فلسفة الشهادة
إبداع الخَلق

المحاضرة 16: أسرار النبوّة والبعثة والقرآن
الفصل الثاني من خطبة الزهراء(ع)
أسرار النبوة
عبودية النبي(ص) لله
سرّ البعثة
بعد رحيله
التذكير بالمسؤوليات
تركة القرآن

المحاضرة 17: أسرار التشريع الإسلامي ومراميه
الفصل الثالث من خطبة الزهراء(ع)
الخروج من جمود الممارسات
أسرار الأحكام الشرعية
الإيمان تطهير من الشرك
الصلاة تنزيه عن الكبر
الصلاة خيرُ موضوع
الزكاة تزكية ونماء
الصوم تثبيت للإخلاص
بالحجّ يُشاد الدين

المحاضرة 18: الإمامة أمان من الفرقة
في ظلّ خطبة الزهراء(ع)
العدل تنسيق للقلوب
الطاعة والإمامة
الإمامة أمان
الجهاد عزّ
الصبر موجب للأجر
الأمر بالمعروف مصلحة
برّ الوالدين وقاية
صلاة الرحم تطيل العمر
القصاص حقن للدماء
وفاء المكيال
النهي عن الخمر تنزيه من الرجس
اجتناب القذف
ترك السرقة
تحريم الشرك

المحاضرة 19: الدفاع عن الحق والحقيقة
حديث الزهراء(ع) عن شخصيتها
حديثها(ع) عن النبي(ص)
حديثها(ع) عن علي(ع)
تقريع المنافقين
حطب الفتنة

المحاضرة 20: منهجية قراءة التأريخ وفهمه
الزهراء(ع) والوحدة الإسلامية
تحكّم العاطفة في حركة البحث
دراسة السند والمتن
الوحدة لا تعني إسلاماً بلا مذاهب
المنهج القرآني
الصراحة الشديدة
كيف نقرأ التأريخ ونفهمه
المثل النسوي الأعلى

المحاضرة 21: الاحتجاج بالقرآن أولاً
عودة إلى خطبة الزهراء(ع)
مناقشة مسألة الإرث قرآنياً
إرث النبوّة
الذريّة الطيّبة
ترك الوصيّة
الاحتجاج بالقرآن
العهد المسؤول
تقريع الأنصار
جواب أبي بكر
ردّ الزهراء(ع)
تعقيب أبي بكر
ردّ الزهراء(ع)

المحاضرة 22: في ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع): القيادة الفكرية والروحية والحركية
ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع)
خوف السلطة من شعبيته
استدعاء الإمام إلى سامراء
رسالة المتوكل إلى الإمام(ع)
منزلة الإمام الرفيعة
عمل وعطاء رغم الحصار
وصيته لأصحابه
تفسير الإمام الهادي(ع) للقرآن
الشك المنهجي
ظاهرة القرآن وتأويله
قبسات من نوره

المحاضرة 23: في ذكرى مولد الإمام الباقر(ع): العلم للاستعمال
ذكرى الإمام الباقر(ع)
مدرسة الإمام الباقر(ع)
الانفتاح على مختلف المذاهب
استلهام كلمات الإمام(ع)
روحيّة العلم
طريقة استيعاب العلم
مواجهة الشيطان
قف عند ما تعلم
مذاكرة العلم
استيحاء القرآن
الوقوف عند الشبهات
شمولية الإسلام في الكتاب والسنّة
درس الذكرى

المحاضرة 24: في ذكرى مولده الأغرّ: هكذا دعا عليٌ ربّه
في مولد الإمام أمير المؤمنين(ع)
ربيب الرسول(ص)
مع أدعية الإمام(ع)
في دعائه لنفسه
في ثنائه على ربّه
في دعائه للنبي(ص)
دعاؤه في الحرب
الدعاء في حالي النصر والانكسار
الاستنهاض للجهاد
من دعائه في لقاء العدوّ
المطالبة بالحكم
مسؤولية الانتماء للإمام علي(ع)

المحاضرة 25: في ذكرى وفاة الإمام الكاظم(ع): السير في الخط العملي للإسلام الأصيل
في ذكرى وفاة الإمام الكاظم(ع)
رواة أحاديثه
لا عذرَ لجاهل
تجويد القرآن
عبادته في السجن
رعايته للفقراء
صور من أخلاقه
محادثة العلماء
موقفه من القياس
معرفة الحقيقة
بين الرشيد والكاظم(ع)

المحاضرة 26: من أجل انبعاثة جديدة في المبعث النبوي الشريف
ذكرى المبعث النبوي
المرأة الداعية
الإحساس بقيمة الإسلام
الكفر المثقّف
نظرة في السياسة العالمية
نظرة إلى داخل الواقع الإسلامي
واقعنا على ضوء القرآن
مسؤوليتنا في ذكرى المبعث
مشكلة الحيادية
نظرة مقارنة
العودة إلى الصورة المشرقة

المحاضرة 27: في مولد الحسين(ع): طلب الإصلاح
في مولد العباس(ع): حماية الدين
في مولد الإمام السجاد(ع): حياطة الإسلام
المواليد الثلاثة
الوضع في عهد الإمام الحسين(ع)
العناوين المشتركة
عناوين الإصلاح
الولادة الثانية: العباس(ع)
الولادية الثالثة: زين العابدين(ع)

المحاضرة 28: في مولد الإمام المهدي المنتظر(عج)
المسؤولية في غيابه: التزام الكتاب والعترة
في ذكرى مولد الإمام المهدي(عج)
الولاية من أعمدة الدين
منهج أهل البيت(ع)
الالتزام بالكتاب والعترة
خطأ النظرية والتطبيق
الدعوة إلى الله
كونوا جنود العدل
دعوة الإمام الخيمني(رض) للوحدة، لنعش مع الله

المحاضرة 29: الإمام علي(ع) مفسّراً
الإمام علي(ع) مفسّراً
خصوصيات الذاكرين
الذكر ـ الدعوة
الذكر جلاء القلوب
الذكر بصر القلوب
عندما يناجي الله عباده
التذكير بأيام الله
الذاكرون مصابيح الظلمات
صورة الذاكرين
الذاكرون محفوفون بالملائكة
الذكر في شهر الله

الفصل الثاني ـ المسائل القرآنية
أولاً: التفسير
البطش جبّارين
الانقلاب بعد وفاة الرسول(ص)
آية الجمع
الدين الإسلام
آيات التسلية
الظلمات
الفرق بين توبتين
اتباع ملّة اليهود والنصارى
أيّام الله
المكر يستبطن الخفاء
حدود المعروف بين الجنسين
إلقاء النفس في التهلكة
الندم على تصديق الفاسق
انتقاد القرآن للشعر
ولاية الله للصالحين
اتخذا المهتدين عضداً
معنى آية
تربّص الأزواج
اللاتي لا يرجون نكاحاً
لقاء المؤمن بأهله في الآخرة
نقض عهد الله
ذكر الله
تفسير سورة النصر
إرث المرأة اليوم
وراثة الموقع
حكم الله
مدلولات آيات الوأد
اكتشاف معنى جديد لآية قرآنية
استيحاء القرآن
الخوف من نذير الله
الإفادة بعد مجيء العلم
الإفادة من الروايات في التفسير
الموقف التبريري لعدم الالتزام
تأويل النص لمصلحة العقل
المعيار في المنهج التفسير

ثانياً: مسائل عامة
القرآن ومستقبل الناس
النص القرآني في الغيبة
حفظ الكتب السماوية الأخرى
القسم بالقرآن كذباً
إجمال وتفصيل
قراءة القرآن على جنابة
المسّ من وراء شفّاف
ابتلاء المؤمن
إخبار عيسى(ع) عن النبي(ص)
في التأويل
تمحيص روايات أسباب النزول
عمل الأنبياء والأئمة(ع) في المساحات الضيّقة
أين الحقيقة التفسيرية
مسّ القرآن بلا طهارة
سرّ وجود المتشابه
تركيب ما يشبه الآيات
كيف يستوعب القرآن كل جديد
تطوّر الدلالات اللغوية
النبوّة ليست إرثاً
اطمئنان نفس الميت بالقرآن
آيات الأحكام في القرآن
الأغراض العامة والخاصة للقرآن
القصص القرآني بالنسبةللمتمردين
الجلد أم الرجم

الفصل الثالث ـ المسائل العقيدية
البداء
في العدالة الإلهية
موقف الدين من علم الكلام
وجود الله وقوى الطبيعة
البروز إلى المضاجع والجبر
ثبوت الخلافة للأئمة(ع)
الغيب والعقل
استعمال العقل في مسائل الدين
هل الاستنساخ خلق
تعريفات جديدة للمفاهيم
تسخير المخلوقات للإنسان
وجهة نظر الإسلام في السعادة
اختيار جنس المولود
سبب انتشار الإسلام في أمريكا
بنات النبي(ص)
أماكن بعث الأنبياء(ع)
متى يُحاسب الميت

الفصل الرابع ـ مسائل السيرة
حاطب بن أبي بلتعة
سيرة الإمام الحسن(ع) خلال إمامته
القعود عن المجابهة
هل إحياء عاشوراء إحياء لفتنة
كيف ندرس سيرته(ص)
أسلوب الرسائل لتلبليغ البيعة
أسباب الانقلاب
هل الصراع على الخلافة طبقي؟
هل نهضة الحسين ثورة؟
خير الأعمال انتظار الفرج
التعيير بقبح الأم
أم حبيبة وأبو سفيان
علي(ع) ومكر معاوية
استثمار المناسبات الكريمة
سيادة النساء في عمر قصير
مناقشة مقولة للعقاد
التأسّي من أجل مجتمع سليم
فلسفة خطبة الزهراء(ع)
الانفتاح على عطاء أهل البيت(ع)
التقية في جواب الإمام(ع)
الأحداث التي تلت وفاة النبي(ص)
تصريحات علي(ع) بخلافته
الدليل على نواب الإمام
أين النساء في زمن سيدة النساء(ع)
مخالفةبعض الأحاديث للنهج الطبي
تعدّد زوجات النبي(ص)
قدرة المعصوم على الإقناع
وكالة الطفل
الإرث في زيارة وارث
معالجة علي(ع) لفدك
الدليل على نبوة النبي(ص)
الإقصاء السياسي لأئمة أهل البيت(ع)
غياب علم الباقر(ع) في الصحاح
البدعة
كيف تخلّى علي(ع) عن تكليف الإمامة
تأسيس المأتم الحسيني
إسقاط الرأي على سيرة الأئمة(ع)
التغيير في منظور الإمام الحسين(ع)
قسيم النار والجنة
تكليم النبي(ص) في معراجه
ترشيخ أم تعيين؟
دور الإمام المهدي(ع) في غيبته
ارتباط الكتاب بالأئمة(ع)
الوراثة أم الكفاءة؟
علم الإمام علي(ع) الجمّ
ما قاله النبي(ص) في خلافة علي(ع)
الإحسان في العقب

الفصل الخامس ـ المسائل الفكرية
هل التراث عائق؟
المشروع الإسلامي المتطور
نحن والعولمة
منع الحجاب في تركيا
هل التخلّف طبيعي؟
مناقشة رأي في الدولة الإسلامية
في أيّ إسلام أدخل؟
مكرهة على الحجاب
مناقشة "الأنبياء لا يورّثون"
النقل بعنوان الرواية
أسس توثيق الحديث
سبب التعصّب
المحامي في القضاء الإسلامي
الموقف من (لجنة المحلفين)
استفتاء القلب
فكرة دورات الحياة والعدل
النتائج السلبية لعيش المرأة في الظل
الاعتراف بعلمانية تركيا
في الشعر الحرّ
دراسة ونقد المسيحية
العقل الحجّة
دور الفلسفة في الاستدلال
ماذا نأخذ من الغرب؟
مناقشةعدم صلاحية النظرية الشيعية للحكم
إثبات جدارة الحضارة الإسلامية
مناقشة "التاريخ لا يعيد نفسه"
كراهة الزواج بالأقارب
كيفية السموّ بالفكر
البطء في تطوّر المؤسسات الإسلامية
مناقشة أفكار
ضرورة الأخذ بالثقافة
الدين والتحرّر من الدين
الحياديون
التخلّص من العصبية
ضعف الإيمان وقوّة الكفر
التبليغ في المناطق النائية
الطموح إلى التطوير
الحوار مع الآخر
هل التعصّب ورائي؟
ساعات العمل
الإسلام وحلّ المشاكل
الغاية الكبرى تنظّف الوسيلة
المجتمع المدني
الحديث عن الإسلام
دين تكفير أم حوار؟
مناظرة (الجزيرة)
منهج دراسة النصوص التأريخية
التعارض بين الأصالة والمعاصرة
المعيار لمعرفة الحق
قيمومة الإسلاميين على الواقع
الدرجات العلمية الفضفاضة
حريّة العقل
أعداد خطباء ملتزمين
الذميّ والحربيّ والمُعاهِد
الإسلام والأقليّات
الثورة الإسلامية والحوزة
ذكر خصوصيات الماضين
ماذا أعددنا للقرن الحادي والعشرين؟
فوائد الحجاب
مواجهة الفكر العلماني
أهمية السند
الضرر النفسي الذي تسببه الضرّة
الخطابة كخطاب للناس
أي فِرَق المسلمين على صواب؟
التخصّص في القصة والمسرح
أدوات الحكم على فكر آخر
الموازنة بين الثقافي والسياسي
علماؤنا في معترك الصراع
تحديد التأريخ الإسلامي
العلم في خدمة المجتمع
العلم الذي هو نور
تطبيق الديمقراطية
العلم بأنساب العرب
العولمة الإسلامية
الوحدة الإسلامية مسؤولية مَن؟
تقييم الصحوة الإسلامية في هذه المرحلة
رصد أساليب أعداء الإسلام
الحيادية في قراءة فكر الآخرين
وكيف نتخلّص من الحالة العصبية والعرقية؟
المبايعة للاستكبار
هل الديمقراطية شرك؟
بأية قوة انتشر الإسلام؟
هل الفتوحات دفاعية؟
فضائية إسلامية

الفصل السادس ـ المسائل التربوية
القرآن أثناء الأرق
التجنّس بجنسية الكافرين
ضعف المودّة للمؤمنين
عذاب بسبب ذنب
حدود الأخوّة في الدين
الخشوع في الصلاة الانفرادية
الثقة برحمة الله
المنع من حضور المحاضرات الدينية
الاعتذار لمن بهتناهم
حقّ المبهوت
الأخلاق الفردية والاجتماعية
التهيّب من ارتداء الحجاب
سُبل تحبيب صلاة الجماعة للأبناء
إرهاق الزوجة بالضيوف
التحيّة الاجتماعية
مفهوم العدل العائلي
الحوار العائلي
رأي كبير العائلة
نصيحة إلى الشباب
مواجهة اليأس
آباء متديّنون وأبناء منحرفون
أسلوب التربية الصحيح
مسؤولية الإنسان عن نفسه
ينتقد ويتراجع
معالجة الازدواجية
آثار الذنوب على الروح
بقاء متزوجة على نصرانيتها
صعوبة أداء صلاة الليل
معاناة المغتربين
الأصالة الإسلامية في مواجهة الانحراف
الحسد بين العلماء
الحقوق.. لمن؟
حكم التخيّلات الباطنية
النهي عن الميوعة
النجوى في الخير
الكذب في الإصلاح
أعطى الذكر ومنع الإناث
التفاهم مع المتعصّب
السباب في النقد
هل أنا مخدوع؟
حساب السادة
برُّ الزوجة بأهل الزوج
الضحك العالي
الصدقة عن الوالد
أسرار الأحكام
قلب من لا يجشع
العيش في أجواء إباحية
بين الشرق والغرب
الخوف من طلب العفو
انحراف أبناء اللاجئين
الذنوب في أدعية المعصومين
التخلّص من النزاعات
صلة الرحم والعمر
منع أبناء اللاجئين من النوادي
ندم على سرقة
الوسوسة في الصلاة
هل الظلم متأصّل في النفوس
التقييم على أساس الشهادة
البرنامج العبادي لزيارة المراقد
دعوة للحوار حول الحجاب
المصافحة وكرامة المرأة
المجالس التي يُهان فيها العلماء
التنصّل من مسؤولية الدعوة
مشكلة عدم فهم الأبناء
الانضمان لـ"شهود يهوه" للحصول على إقامة
تفسير انحراف أولاد الأنبياء والأئمة(ع)
الزواج بأجنبية تتعهّد الالتزام
قاطع الرحم
تقسيط دعاء السحر

الفصل السابع ـ المسائل الفقهية
أولاً: المرجعية والتقليد
أسباب عدم الأخذ ببعض مصادر التشريع
الضرورة
تعليم الجاهل الأحكام الشرعية
إتباع حكم المرجع
ولاية الفقيه والتقليد
من يحدّد الاضطرار؟
مفهوم ولاية الفقيه
شروط وكالة المرجع
شروط اللياقة والأهلية
رأي المرجع السابق واللاحق
حديث حول القياس
منطقة الفراغ
تقليد من لا يرى ولاية الفقيه
باب فقهي خاص بعمل الطفل
عمل الصبي المميز
سيرة العقلاء
مستوى البحث الخارج
الإذن الشرعي
ضابط الوكالة
دور العقل في التشريع
حجيّة الأحاديث القدسية
الفقه السياسي
فقه العامّة والخاصّة
إمام الجمعة وكيلاً للمرجع

ثانياً: النجاسات والطهارات
مطهّرات من شحم الخنزير
الشك في المني
استخدام الخمر في التداوي
شحوم الصابون
دم أثناء الوضوء
قضم الأظافر
شك في التذكية
حساب مدة الاستحاضة
عدم ثبات الدورة
مسّ الطفل الميّت
التيمّم بالملابس
تنجّس الحائط بالبول
كرّ أو غير كرّ؟
ذات العادة المنتظمة
ماء البالوعة المتدفّق

ثالثاً: الوضوء والصلاة والإقامة
تتابع التكبير
الصلاة على المسلم الفاجر
إقامة مقطوعة
الصلاة في الأرض الخراجية
الانفصال عن الإمام
تصحيح السهو أثناء الصلاة
الجمع بين الظهرين والعشائين
حضور الجمعة للمسافر
صلاة الصبيّ في الصف الأول
الصلاة بثوب شفاف
انفصال المأموم عن الجماعة
حاجب على الجبين
صلاة الأخ مع أخته
وضوء المرأة أمام الأجانب
قضاء صلاة
إقامة وعدول
فوات الصلاة في السيارة
الحبر ليس حاجباً
المسح على الشعر الاصطناعي
حركات الأخرس في الوضوء
الكحل في الوضوء
التسبيح أثناء القراءة
صلاة في المعمل
من لا يأمن الطهارة
الكحل كجرم
الصلاة عمّن لم يصلّ
غسل الرجلين أثناء الوضوء
اجتماع غسلين
لماذا نافلة العشاء من جلوس؟
الشك بالطهارة
التيمّم بالملابس
المسلوس والمبطون
صلاة فاقد الطهورين
عدم فهم خطبة الجمعة
إمام يؤخّر الجماعة
عدم إجادة الخطبة
سقوط الظهر بالجمعة
المسح قبل جفاف العضو
خروج المدّعى عن الحدّ
الجهل في الصلاة
الالتفات إلى اليمين واليسار بعد التسليم
نسيان نيّة الإقامة
الشك في صلاة وصيام الطفولة
احتلام مع فقدان الماء
في صلاة الجماعة
التصرّف بمبلغ استيجار صلاة
السجدة الملوّنة
الخروج عن هيئة الصلاة
الصف الأخير من الجماعة
قراءة الفاتحة مرتين
إذا سبق المأموم الإمام بالركوع
الوجه الشرعي لصلاة الاستيجار

رابعاً: الصيام والكفّارات
التكفير بشاة صغيرة
تقطيع صيام نذر
دفع كفّارة الصيام للأقارب
المعفوّ من الصيام طبياً
إنكار القضاء
قضاء الصيام
صوم المصاب بالسكري
من يفطر بمحرّم
الصائم المجنب

خامساً: الخمس والزكاة
حساب خمس
خمس أموال التجارة
خمس تعويض لا إرث
ضرائب وزكاة
كيفية ترتيب الخمس
صرف الخمس للمحتاجين
دفع الحقوق لجمعية المبرّات
سنة مستقلة لكل ربح
التصرّف بحقوق شرعية
زكاة الفواكه
استقطاع حصّة من الزكاة
هل الصدقات من الخمس؟
حساب الزكاة
الحقوق للأغنياء
الخمس من عين المال
تخميس الأموال التي في البنك
التصدّق بمال الآخرين
تخميس أموال مودعة للدراسة
خمس الصور
خمس قسط مدخر
حكم كتاب
خمس مال مجموع للزواج
تخميس الأرض المزروعة
تخميس الأرض غير المستصلحة
رخصة في تأجيل الخمس
مراجعة الحاكم الشرعي في الحقوق
تخميس بيت موهوب
ترخيص
صرف الحق الشرعي
خمس المهر
إعطاء الصدقة للسادة
تخميس أموال شافعي

سادساً: أموال وبنوك
تقاضي ثمن الخنزير
التعامل مع الشركات المتعاونة مع الكيان الصهيوني
وقف الذريّة
طلب الزيادة بقصد الاستنقاذ
الوسيط بين البائع والمشتري
شراء سيارة مغتصبة
خلاف على بستان
تأجير بيت موقوف
التصرّف بالوقف
حقّ المبلغ من الوقف
شدّة أحكام اللقطة
في المضاربة
التصرّف بأموال الأيتام
مسائل في الأسهم
حكم الأطعمة المتبقية
الصورة كشاهد
راتب المعيل أو المجرّد
القروض والودائع
احتكار وارث لبستان
إرجاع السرقات للحاكم الشرعي
استرداد قرض
نقل الحوالة
إنكار مال مقترض
من الربا
بيع العربون
توكيل في مقاصّة
شراء أسهم شركة تتعاطى المحرّم
سرقة الصبي
الحق في أموال الجدّ
ثمن الدجاج ـ الميتة
اختلاف العرف بمالية الشيء
ظاهرة عدم تسديد الديون
علّة تحريم الفائدة المصرفية
تركة ذهب
السطحُ لمن؟
كل الإرث لولد واحد
الربا المرفوض
صحّة وكالة
الرجوع في هدية

سابعاً: الحجّ
استطاعة أم لا؟
كفّارات الحجّ
ارتداء السروال في الإحرام

ثامناً: الزواج والطلاق
حدّ المهر
لماذا النفقة على الرجل؟
المهر حجاً
زواج المسيار
الزواج من أرملة ابن الأخ
فسخ عقد بسبب التدليس
الزواج بمؤمن فقير
الحلف بالطلاق أثناء الغضب
نسيان عقد الزواج
الجمع بين الزوجة وعمتها أو خالتها
زوجة بعنوان الصديقة
علاقة مع محصّنة
طلاق الحامل
حق الحضانة للأم
أخذ الإبن في سنّ الرضاعة
أخت زوجة الوالد
الحقوق أثناء العقد
الاستخارة في الزواج
الطلاق بالفاكس
الزواج بالعقد الضمني
رضع مع ابنة خالته
الإذن بالعقد على ابنة الأخت
عدّة الطلاق
الإجبار على الحلف بالطلاق
الزواج من ابنة المزني بها
عدّة الطلاق الخلعي
إعادة عذرية المغتصبة
زواج مكرهة
وما مادى حليّة زواجها
وما حكم الأولاد
ماذا عليها أن تعمل الآن

تاسعاً: السلوك والمعاملات
التشخيص الطبيّ الخاطئ
العمل في صالون حلاقة للنساء
دخول النساء للملاعب الرياضية
الشراء من خمّار
العمل في مطبعة تطبع كتباً ضد الإسلام
نقبل المقبرة
دفن المسلم في التابوت
الشراء من معتوه سارق
القاضي كطرف في الخصومة
حبوب زيادة الهرمونات
في جواز المسّاج
القانون لا يحمي المغفّلين
التبرّع بالدم للتصدير
فتح محلات تجارية لـ"الأتاري"
المنشّطات التي تؤدّي إلى العقم
المطاعم التي تبثّ الأغاني
عمل يدعو إلى الاختلاط
المعالجة عند الطبيب غير المماثلة
زرع قلب خنزير في جسم الإنسان
أخذ أواني ضيافة الطائرات
ضرب الأم لطفلها
دعس الحيوانات
فرن بمواصفات أخرى
ضابط الموسيقى المثيرة
شهادة من لَم يرضَ أهله عن جهاده
تأخير دفن الميت
الاحتمال الضعيف
كذب وغش
خداع وسائل الإعلان
الفرار من الزحف
مصير هيكل عظمي
حكم الدروس الخصوصية
تسجيل حضور بلا حضور
الطبيب الأرفق
الشعارات على الجدران
مصافحة أخت الزوجة
حكم التجرّي
صيد السمك بواسطة الطير
نقل مدعوس إلى المستشفى
الوشم
اتفاق الوالدين على إسقاط الجنين
التجويف
قطع الأنابيب
هل جزء الميت ككلّه؟
حكم حالات
رؤية صورة متوفية
الوصية
عمل المحامي في مجتمع إسلامي
تحويل جزء من مسجد موقوف إلى مكتبة
العمل في معمل لا يذبح بالطريقة الإسلامية
صورتي عند صديقة متزوجة
مشاطرة سكارى السكن
إخبار الأهل بقصد الخروج من البيت
ضرورات العمل الإسلامي
ذبيحة الكتابي المذكّاة
تمثيليات تاريخية من مصادر غير موثوقة
الإكثار من لعب الشطرنج
العمل في التلفاز والمسرح