آية اللّه العظمى
السيد محمد حسين فضل الله

النـــدوة

سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة


إعداد: عادل القاضي


الجزء السادس









بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة

الحضور القرآني في الندوة

وصف القرآن نفسه بنفسه بما لا يمكن لواصف أن يصفه، فهو {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء/9). وفيه تصريف للأمثال {لَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ من كلّ مثل} (الإسراء/89). وفيه شفاء من أمراض الفرد والمجتمع ورحمة للفرد وللمجتمع {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} (الإسراء/82). وهو المرجع عند الخلاف والمنازعة {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ} (النساء/59). وفيه تبيانٌ لكل شيء {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} (النحل/89). ثم أن هذا الكتاب الحكيم المنـزّل مباركاً للإتباع، وعربيا ليفقهه الناس، ما فرّط اللّه فيه من شيء، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو ميــسّر للذكر، وهـــو فوق هذا وذاك {لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِين} (البقرة/2).
هذه الأوصاف، وما حفل القرآن بغيرها كثير، جعلت من المصحف الشريف كتاب المسلمين الأول، بل الكتاب المهمين على ما سواه من الكتب سماويةً كانت أم أرضية، فهو المرجع في المعرفة، والمرجع في الهداية، والمرجع في الاختلاف.
ولم يوصف كتاب اللّه المجيد، بعد وصفه لنفسه، بوصف أبلغ أو أدقّ من وصف الأحاديث الشريفة عن النبي(ص) والأئمة من آل بيت النبي(ع). ففي خطبة للنبي(ص) يصف فيها القرآن النازل عليه، يقول: «وهو حبل اللّه المتين، وهو الصراط المستقيم، فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودالّ على الحجّة»( ). ويقول الإمام علي(ع) «سمعت رسول اللّه(ص) يقول: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد سيكون في أمّتك فتنة، فقلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم»( ).
وكان الإمام علي بن الحسين(ع) يقول «آيات القرآن خزائن العلم فكلّما فتحت خزائنه فينبغي لك أن تنظر فيها»( ). ويقول الإمام محمد الباقر(ع): «إن اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج الأمة إليه إلاّ وأنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكلّ شيء حدا، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا»( ). وكان(ع) يقول «القرآن هو الدواء» أي العلاج مما يفتك بكم من أمراض فكرية وعقائدية واجتماعية وفردية وسياسية واقتصادية وحكمية.
ويقول لأصحابه لافتا عنايتهم لمصدريّة الكتاب ومعياريته وضرورة عرض كلّ شيء عليه، لأنه المقياس في الصحّة وعدمها، والفرقان بين الحق والباطل والزيف والحقيقة «إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب اللّه»( ). أي أين هذا الذي أجبت به في كتاب اللّه، ليعلّمهم بذلك طريقة الاستدلال القرآني على الأحاديث التي يحدّثهم بها ليروا موافقتها للقرآن، وبالتالي توثيقها على أساس متين لا يقارع بحجّة.
ويقول الإمام جعفر الصادق(ع) في تقييم دقيق لشمولية الكتاب الكريم ووفائه بحاجات الناس كلّها «إن اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيانا لكلّ شيء حتى واللّه ـ وقاطعية القسم هنا لافتة ـ ما ترك اللّه شيئا يحتاج إليه حتى بيّنه للناس حتى لا يستطيع عبدٌ يقول لو كان هذا أنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله اللّه فيه».  وقال(ع) في حديث آخر «ما من أمر يختلف فيه إثنان إلاّ وله اصل في كتاب اللّه عز وجل، ولكن لا تبلغه عقول الرجال». وعلى هذا فالنقص في العقول لا في الخطاب، وفي الذهنية لا في النص.
هذه وغيرها من الأحاديث المرويّة عن أئمة أهل البيت(ع) تلتقي في كلمة جامعة وإن كانت العبارات شتى، وهي أن القرآن دالّ على الحجة، وفيه المخرج، وهو الدواء، وهو ملبّ للحاجات كلّها، وهو المرجع والفيصل والجامع والمانع.
من هنا، فليس طارئاً ولا غريباً أن يكون حضور القرآن في ندوة السبت الحوارية بارزا، كثيفا، لافتا. ذلك أن سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه ـ دام مباركا ـ وضع منذ اللبنات الأولى للمشروع الحواري، القرآن نصب عينيه في كلّ ما يطرحه من فكر، أو يعالجه من عقيدة، أو يناقشه من آراء، أو يستنبطه من أحكام، فهو يرى: «أنّ القرآن هو النور الذي يضيء غيره وهو الذي أنزله اللّه ليخرجنا من الظلمات إلى النور، وهو الهدى الذي يهدينا إلى الحقيقة الإلهية الحاسمة، وفي ضوء ذلك لابدّ لنا من الانفتاح عليه بكلّ فكرنا، والمحافظة على نصوصه وظواهره بطريقة علمية دقيقة. فلا يجوز لنا أن نفرض عقائدنا واتجاهاتنا وأوهامنا عليه، بل لابد من أن نرجع إليه من أجل تصحيح مفاهيمنا من عناصر التخلّف، ومن ركام الأضاليل والأوهام التي فرضت نفسها على الذهنية الإسلامية العامّة، فهو المرجع الذي نرجع إليه، وهو النور الذي نستضيء به، وهو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد تكفّل اللّه بحفظه في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}» (الحجر/9).
من هذا المنطلق الثابت والمتين تحرّك سماحته في محاضرات الندوة الأسبوعية التي تقام في دمشق منذ أكثر من أربع سنوات، ومنه استمدّ واستوحى أجوبته على الأسئلة التي يطرحها جمهور الندوة عليه. والمتابع لتراث ونتاج سماحته يلحظ أن اهتمامه القرآني بدأ في وقت مبكر من حركته في الأمة، أي منذ اللحظات الأولى لنزوله الميدان. ولعلّنا نجد أثر هذا الاهتمام واضحا في دراساته القرآنية سواء في تفسيره الشهير (من وحي القرآن) أو كتابه (الحوار في القرآن) أو دراسته لـ(أسلوب الدعوة في القرآن) أو غير ذلك من البحوث والدراسات والمحاضرات القرآنية القيّمة التي امتازت أنها معالجات قرآنية حركية تعرض الواقع على القرآن لتستلّ المفاهيم والتصورات والرؤى والحلول لمشكلات حركة الواقع وهمومه وقضاياه، ومن هنا شاعت مقولته «إن القرآن لا يفهمه إلاّ الحركيون». انطلاقا من أن الفهم الموضوعي النابض والمتحرّك للقرآن ليس في دائرة المفردات القرآنية القاموسية، وإنما هو استكناه الروح القرآني ـ إذا جاز التعبير ـ وتسييله في آفاق الحركة وأبعادها ـ وهو ما توافر عليه آية اللّه العظمى فضل اللّه حتى في غير الدراسات القرآنية.
يقول سماحته: «للقرآن الكريم في شخصيتنا الإسلامية دور الكتاب الإلهي الذي يؤسّس لنا عقيدتنا ويحدّد لنا مفاهيمنا ويؤصّل لنا تصوراتنا عن الأشياء والمفردات المتصلة بالإسلام كلّه في خطوطه العامّة والخاصّة، ويوجّه لنا تطلّعاتنا الروحية والعملية، ويوجّه خطواتنا اثر الطريق المستقيم»( ).
وإذا ما انتقلنا إلى السيرة النبويّة الشريفة، أو السيرة الإمامية المطهّرة، رأيناه يركّز بشكل واضح على فهم السيرة من خلال الكتاب الكريم، وإلى محاكمتها على ضوء الكتاب، وأعني محاكمة الآراء التي تخرج بالسيرة عن إطارها الصحيح غلوّا وإجحافاً. وحينما يسلّط الضوء على سيرة إمام من الأئمة(ع) تراه يلتقط من تراثه الإشارات الكبيرة والعناوين العريضة الخاصّة بالقرآن وضرورة استنطاقه واستجلائه واستهدائه في خط العاملين إلى اللّه، كما سيتبين ذلك من خلال الخريطة التي توضّح نتاج سماحته القرآني في الندوة.
يقول سماحته «من الضروري أن يكون (القرآن) المصدر الأول للسيرة النبوية الشريفة، فهو كتاب الرسالة الذي يتحدث عن شخصية الرسول في طبيعته وفي قدراته وفي أخلاقه وأساليبه وحركته في الدعوة وفي حياته الخاصّة في بيته وفي حياته العامّة مع الناس، وفي حياته الداخلية في فكره وإحساسه وانفعاله بالتحديات التي واجهته، وفي علاقة المؤمنين به، وفي حربه وسلمه وغير ذلك مما تعلّق بشخصيته الرسولية في صفاته الرسالية من حيث هي العنوان الإنساني للخطوط العامّة للنبوّة في طبيعة النبي وشخصيته، ليكون التصوّر للخط العقيدي في حدودها المفهومة وحركتها التجريبية في حياة الناس منطلقاً من القرآن لا في الأفكار الفلسفية التي تتحدث عن النبوّة بأسلوب المطلق بعيدا عن الظواهر القرآنية الواضحة التي أطلقت الفكرة العامّة من خلال النظرية والتطبيق، ليكون التصوّر الذهني قائما على أساس العناوين القرآنية المحدودة»( ).
ولهذا دعا سماحته دائما إلى دراسة السنّة بالدقة التوثيقية المبنية على المنهج العلمي إن في طبيعة المادة المنقولة أو في مقارنتها بالقرآن «فهو القاعدة التي انطلقت منها السنّة وهو الأصل الذي ترجع إليه كلّ ثقافة إسلامية، والذي يتكامل مع السنّة الثابتة التي تفصّل ما أجمله اللّه، وتوضّح متشابهه فلا يختلف احدهما عن الآخر. لذلك ـ والرأي لسماحته ـ فلابدّ من طرح كلّ ما يخالف الكتاب والقبول بكلّ ما يوافقه، لأنّ ذلك هو الميزان الحقّ لوثاقة ما يردنا من السنّة ولتأكيد كلّ المفاهيم الآتية من هنا وهناك»( ).
وفي الميدان الفقهي، كما في حقول التفسير والسيرة والعقيدة والفكر، فقد أولى سماحته القرآنَ الدرجة الأكبر من الاهتمام في استنباط الأحكام، فمع أنه يُعمل أدواته الأصولية كلّها في ملاكات الأحكام ومناطاتها، ويسخّر كلّ ما بين يديه من وسائل استنباطية تعارف عليها الفقهاء والأصوليون لكنّه يركّز بالدرجة الأساس على مصدر التشريع الأول القرآن الكريم، كما نقرأ ذلك في الشهادة التالية. عن منهجه الاستنباطيّ المميّز، القائم على: «اعتماد الرؤية القرآنية كأساس في الممارسة الاستنباطية ومحاولة تحريك الروايات والأحاديث في خط هذه الرؤية، وهي رؤية تنبع من الاعتماد على القرآن الكريم بوصفه الأساس التشريعي والدستوري الأول في سلّم مصادر التشريع. وعلى ضوء هذا المنهج تمكّن سماحته من الوصول إلى معطيات فقهية جديدة قد لا تلتقي مع مشهور الفقهاء، ولكنها تمثل فهما قرآنيا أصيلا. وقد ترسّخت هذه الرؤية من خلال تواصله مع الكتاب الكريم قراءة وتدّبرا وتفسيرا. وأفرز هذا التواصل منهجه التفسيري الواعي الذي يعتمد أساسا على الظهور العرفي، وبفضله تجنّب كثيرا من التمحّلات التفسيرية التي اضطر إليها المفسرون ممن لهم خبرة ومعرفة بأساليب اللغة العربية وفنونها»( ).
إن هذا النهج الذي اعتمده آية اللّه العظمى فضل اللّه في تصدّر القرآن واستيحائه، هو نفس النهج المعتمد في مدرسة الأئمة من أهل البيت(ع) وهو في ذلك يحاول أن يترسّم خطاهم، مما يمنح نهجه صبغته التأصيلية المتميزة، بالإضافة إلى قدرته التأهيلية الواضحة في فهم النص القرآني من خلال امتلاك الذوق الفني والأدبيّ والذي يتساوق تساوقاً تاماً مع التوافر على القواعد العلميّة في هذا الفهم.
بعد هذا العرض الموجز والسريع لمنهج آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه ـ مدّ ظله ـ في التعاطي مع القرآن الكريم تفسيراً وتشريعاً واستلهاما فكريّاً وحركيّا، أحببت أن أضع قارئ (الندوة) أمام خريطة للحضور القرآني في ندوة السبت من خلال المحاضرات فقط، وإلا فإنني أحيل القارئ على باب (الأسئلة القرآنية) أيضا ليلمس بنفسه الشواهد على ما ذكرت، وبرسم هذه الخريطة أحاول أن أوفّر على الباحثين مادة مفهرسة، وأن أدلّل على ما ذهبت إليه في هذه المقدمة.
 

خريطة توضّح الحضور القرآني في الندوة


ت    المجلد    المحاضرة    عنوان المحاضرة    رقم الصفحة
1    ج1    19    دور القرآن في حياتنا    147
2    ج2    9    العزّة كمفهوم قرآني    77
3        17    خط القرآن في التناجي    157
4        18    بين خطيّ اللّه والشيطان    163
5        21    مقومات المجتمع الإسلامي    197
6        22    الدنيا والآخرة في الميزان القرآني    207
7        27    هكذا احتفل القرآن بالسيد المسيح(ع)    265
8    ج3    3    الطغيان    41
9        6    الرضا(ع): الشخصية الحوارية القرآنية    73

10        10    الباقر(ع): كتاب الله أولا فاستنطقوه    119
11        22    الرسول(ص) في معناه القرآني    261
12        24    كيف نخطط للطريق المستقيم ؟    289
13        25    المنهج الإسلامي الأخلاقي ـ الحسد مثالا    301
14        29    الشرك في صورة التوحيد    345
15    ج4    1    الإيمان الحق    9
16        2    الإيمان الصادق    23
17        3    صفات المؤمن في سورة (المؤمنون)    37
18        4    ولاية الكافرين    49
19        5    الأخوة الإيمانية    59
20        6    ولاية المؤمنين    69
21        11    في ذكرى المبعث ـ السيرة النبوية في القرآن    141
22        12    التوافق بين قول المؤمن وفعله    157
23        14    المجاملة في الدين    179
24        18    إيحاءات واقعة (أحد)    227
25        20    إيحاءات معركة (الخندق)    257
26    ج5    1    حدود العلاقة مع الآخر الكافر    19
27        5    آثار البهتان    77
28        6    ذكرى المولد النبويّ الشريف: يوم اليتيم العالمي    93
29        8    المنهج الإسلامي في الانتماء    119
30        9    اللغو    133
31        10    الخاسرون والرابحون    145
22        11    المرجعية في الصراع الفكري    161
33        12    المكر والماكرون    173
34        13    التخطيط السريّ للإضرار بالمؤمنين    189
35        16    أسرار النبوة والبعثة والقرآن    237
36        21    الاحتجاج بالقرآن أولا    299
37        28    في مولد الإمام المهدي المنتظر(عج)    409
38        29    المسؤولية في غيابه: التزام الكتاب والعترة    
39        29    الإمام علي (ع) مفسّرا    425
40    ج6    1    استيحاء القرآن عند الإمام علي (ع)    15
41        2    تفسير الإمام علي(ع) لسورة التكاثر    31
42        3    (نهج البلاغة) وحي القرآن    39
43        4    القرآن تبيان كلّ شيء    51
44        17    القاعدة في فضّ النزاعات    229
45        22    منهج أهل البيت (ع) في فهم القرآن    287
46        26    الارتباط بالله في الشدّة والرخاء    333

 

لا يسعني ختاماً إلاّ أن أشكر المنعم المتفضّل سبحانه وتعالى على هذا التوفيق، وأن أخصّ الأستاذ محمد الحسيني بالشكر والتقدير على تفضّله بمراجعة مسودات الكتاب... وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.
      عادل القاضي
دمشق 21 رمضان 1420هـ
ذكرى استشهاد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)
المصادف 29/12/1999

 

المحاضرة الأولى:6 شوال 1419هـ الموافق 23 – 1 –1999م



استيحاء القرآن عند الإمام علي(ع)

"الذين يفسّرون القرآن بطريقة فلسفية يبتعدون عن أجوائه، أما الإمام علي(ع) فكان يستوحيه ويطلق الموعظة والفكرة من خلاله"


ـ مذاهب المفسرين.

ـ يا أيها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم.

ـ آفاق الآية الكريمة.

ـ تذكّروا نِعَمَ الله عليكم.

ـ القابلية للغرور.
 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
لقد ودّعنا شهر رمضان بعد أن عشنا أجواءه الروحية، وكان مما عشناه ذكرى الإمام علي(ع) في يوم شهادته، وقد عشنا معه ذلك السموّ الروحيّ الذي يتجلّى فيه الإمام(ع) الذي هو في الإنسانية بعد رسول اللّه(ص) في كل ما انفتح فيه على اللّه في معرفته وإخلاصه وذوبانه فيه ورساليته بل في أموره كلّها. فقد أعطى علي(ع) للّه كلّ ما عنده، فلم يكن لديه شيء للذات في شخصيته حتى أنه قال لأصحابه ((ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم))( ).
وإذ نعيش هذا الجوّ ـ أيها الأحبة ـ نشعر بالحاجة إلى أن نغرف من هذا البحر العلويّ الذي تنطلق أمواجه لتكون أمواج الخير والحق والعدل، وتنفتح أعماقه على لألئ الفكر والسمّو والروحانية والإبداع كلّها.
مذاهب المفسرين:
وقد تحدثنا فيما سبق حول أسلوب الإمام علي(ع) في تفسير القرآن، ونحن نعرف أن هناك أساليب متنوعة في التفسير، فهناك من يفسّر القرآن تفسيراً لغوياً، وهناك من ينطلق به في أبحاث فكرية ربّما تبتعد بالإنسان عن أجواء القرآن وأسلوبه، لأن القرآن ـ وهو كتاب يعطي الفكر والكثير مما تتحرك به مشاكل الإنسان في أوضاعه الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية العامة يتميز بميزة لابد أن يلاحظها كل مفسر، وهذه الميزة هي أنه ينطلق بالإنسان كما لو كان يسير في رحلة إلى اللّه سبحانه وتعالى أمام الأوضاع المتحركة والصراعات الداخلية التي تغرس في الإنسان روحانيته وتذهب بصفائه وتجعله يتجمّد في كل ما يحيط به من ذاتيات وأوضاع خاصة.
فعندما نقرأ القرآن الكريم فإننا نجد أن الآيات القرآنية تنساب انسياباً مع الروح، حتى أنها عندما تتحدث عن الأمور العقلية تعطيها مسحة وجدانية، وعندما تنطلق في التأريخ فإنها لا تريد أن تؤكد على مفردات التأريخ فحسب، بل تريد أن تجعل منه عنصراً نابضاً بالحياة بحيث تشعر بأنه يعيش معك من خلال خطوطه العامة.
ولذلك فإن الذين يفسّرون القرآن بطريقة فلسفية يبتعدون عن أجوائه وإن كان هناك علم يستفيد الإنسان منه. وإن الذين يفسّرون القرآن بطريقة بلاغية أو لغوية أو فكرية يحسنون إلى فكر القرآن وبلاغته وفلسفته، ولكنّك عندما تقرأ التفسير الذي من هذا الصنف فإنك لا تعيش القرآن في حيويته النابضة التي تنفذ إلى مشاعرك وأحاسيسك كما تتحرك مع عقلك لتشعرك بأنك عندما تقرأ آيات القرآن فإنك تتحرك وتسمو وتستوحي الكثير من آية واحدة، لتجد نفسك تطوف في داخل نفسك وآفاق ربّك وحركتك في الحياة من خلال تلك الآية.
وهذا ما نستوحيه من تفسير الإمام أمير المؤمنين(ع) للقرآن مما تركه لنا وجُمع في (نهج البلاغة) فيما أضيع الكثير منه لأن علياً(ع)، فيما نستوحيه من النهج، كان عندما يخطب أو يتكلم فإنه يجعل القرآن العنوان الكبير الذي يستوحيه ويطلق الموعظة والفكرة من خلاله.
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ}:
وكنموذج لهذا التفسير قوله(ع) عند تلاوته: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ  الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ  فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار/6-8).
وقبل أن نتلو كلماته(ع) في استيحاء هذه الآية نحاول أن نلخّص العناوين التي استوحاها الإمام(ع) من خلال ما تحدّث به في خطبته. ففي البداية وصف الإنسان بأنه الذي لا يملك حجة ولا عذرا، ويعاني من إعجاب نفسه بجهالته.
ثم يستوحي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم}. لينفذ إلى داخل شخصية هذا الإنسان في أسلوب إثارة علامات الاستفهام وكأنه يوجّه إلى هذا المغترّ بربه علامات استفهام متعددة حول مواجهة الموقف: كيف جرؤ على ذنبه؟ كيف اغترّ بربه؟ كيف واجه العمل بما يهلك نفسه في حالة مرضية مستعصية؟ وكيف ابتعد عن الرحمة لنفسه مما لو حصل لغيره لرحمه؟
ثم يتوجّه إليه في إقلاعه عن هذه الغفلة بالطاعة للّه والأنس بذكره والالتفات إلى إقبال اللّه عليه مع إعراضه عنه، ثم يتحدث عن لطف اللّه به، وتأكيده بعد ذلك ـ على أن الدنيا ليست هي التي تغرّ الإنسان وإنما هو الذي يغترّ بها، لأن في الدنيا زخارف قد تجذبك ولكن فيها مواعظ لو التفت إليها لوعظتك بكل ما يرجع بك إلى الواقع ويبتعد بك عن هذا الغرور الذي يتحوّل عندك إلى حالة خيال وضياع ووهم.
ثم بعد ذلك، يتحدث عن يوم القيامة ويربط بين واقع الإنسان في كل ما يتحرك به في خط الانحراف وبين مصيره في القيامة، ويدعوه إلى أن يؤكد القيامة في وجدانه عندما يتحرك في حياته. ونخلص من ذلك كلّه إلى أن الإمام أراد أن يعطي لهذه الآية بعداً واسعاً في داخل الإنسان، وبعداً في آفاق حركته، وبعداً في آفاق اللّه سبحانه وتعالى، في مقارنة بين ما يفيضه  عز وجل على عباده وبين ما يتحرك به عباده بالنسبة إليه في إعراضهم عنه.
آفاق الآية الكريمة:
تعالوا ـ أيها الأحبة ـ مع أمير المؤمنين(ع) من أجل أن نستوحي هذه الآية لنستجلي آفاقها كلّها، حيث يقول في توصيف الإنسان الذي خاطبه اللّه تعالى:
((أدحضُ مسؤولٍ حجةً))( ) فهو لا يملك أية حجة يستطيع بها أن يدافع عن نفسه فيما تقترفه من معاصٍ وآثام.
((وأقطعُ مغترّ معذرةً)). فليس له ما يعذر به. ((لقد أبرحَ جهالةً بنفسه)). أي انطلق على أساس أنه يجهل نفسه وهو معجب بها.
((يا أيها الإنسان ما جرّأك على ذنبك)). لقد اغتررت بربك واستهنت به، لأن الإنسان عندما يفكر بربه، الذي خلقه فسّواه فعدله في أي صورة ما شاء ركبّه، فعليه أن يعرف مقام ربه. وعندما يعرف مقام ربه فإن عليه أن يخشع لهذا المقام، وخشوعه يفرض عليه أن يعيش الخضوع والعبودية له فلا يجترأ عليه بمعصية، ولا ينحرف عن طريقه بأية خطوة. فإذا كان اللّه تعالى سرّ وجودك وكنت أنت مجرد صدى لإرادته، فكيف ينبغي لك أن تعرف مقام ربّك؟ إذ لابدّ لك أن تسأل نفسك: ما جرّأك على ذنبك، وما هي الأسس والمعطيات والمفردات التي جعلتك تجرأ على ربّك بارتكاب الذنوب؟
((وما غرّك بربك)). والمقصود بالغرور هنا هو ذاك الذي يجعل الإنسان يتصرّف مع ربه تصرّف المستهين به الذي لا يهمّه رضاه أو غضبه، أو الذي يستسلم لفكرة أن من الممكن أن يعصي ربه من دون أن ينال على ذلك عقاباً.
((وما آنسك بهلكةِ نفسك)). فأنت تهلك نفسك عندما تتمرد على ربك، فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يأنس بهلكةِ نفسه دون ان يشعر بذلك، ولكن ـ للأسف ـ هذا هو الواقع.
((أما من دائك بُلول)). أي أنك مريض، فأنت لا تنطلق في هذا من حالة صحيّة وإنما من حالة مرضية مستعصية، فعليك ان تفكّر في مرضك، وأنْ تعرف متى تشفى منه، وعليك أن تفكّر في علاج هذا المرض، إنّه سؤال يختزن في داخله الدعوة إلى أن يعمل الإنسان في أن يبرأ من مرضه، فقولـه(ع) ((أما من دائك بلول)). يعني أليس منه برء وشفاء؟
((أمْ ليس من نومك يقظة)). فأنت تعيش في حالة نوم لا يبصر فيها عقلك النتائج السلبية، ولا يتحسس قلبك ـ في هذه النومة المطبقة ـ أي إحساس أو شعور بالعاقبة السيئة.
((أما ترحمُ من نفسك ما ترحم من غيرك))؟! ثم يحاول الإمام(ع) أن يطلق اليقظة في إطار أوسع ليجعل الإنسان يقارن بين سلوكه مع الآخرين فيما يعرض لهم ليرحمهم من خلال المشاكل التي يعيشونها، فما يحدث له هو نفسه ما يحدث للآخرين، إلا أنه قد يرحمهم ولا يرحم نفسه.
((فلربّما ترى الضاحي لحرّ الشمس فتظلّه)). أي عندما ترى إنساناً يتعرّض لحرارة الشمس ويعاني ويقاسي من حرارتها فإن الرحمة تأخذك به فتبادر إلى أن تظلّه بأية مظلة تحملها.
((أو ترى المبتلي بألم يمضّ جسده)). تجد الإنسان المبتلى ببعض الأمراض التي تثير الألم في جسده بحيث تجعله يعاني ويتألم ((فتبكي رحمة له)).
((فما صبّرك على دائك))، لاسيما وأنك مريض كمرض هؤلاء الذين ترحمهم. ((وجلّدك على مصابك))، فكيف تتجلّد وأنت واقع في مصيبة؟! ((وعزّاك عن البكاء على نفسك))، تلك التي تسير في خط الهلاك الذي يفرض عليك أن تتحسسه لتبكي عليها، وهي تهلك هلاكاً روحياً يعرّضها لعذاب اللّه وهي أعزّ الأنفس عليك.
تذكّروا نعم اللّه عليكم:
((وكيف لا يوقظك خوفُ بيات نعمة))، فالإنسان عندما يكون في حالة غفلة ونوم وتأتي الأشياء التي تهزّه وتهزّ مشاعره فإنه لا يمكن أن ينام. إنه(ع) يقول له إن هذا النوم الروحي والعقلي الذي تعيشه وأنت مسترخ، ألا تخاف أن تنـزل عليك فيه نقمة من اللّه فتسلبك ما أنت فيه؟!
((وقد تورّطتَ بمعاصيه مدارجَ سطواته))، أي وقعت في ورطة المعاصي التي عصيت بها اللّه وانطلقت في الأماكن والمواقع والمسالك التي تواجه فيها سطوة اللّه.
((فتداوَ من داء الفترة في قلبك بعزيمة))، فحاول أن تداوي هذه الفترة التي عشت فيها النوم والغفلة بعزيمة من عزمات الرجال المؤمنين. ((ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة)). وليس المقصود بالناظر هو النظر الذي في الوجه ولكنه البصيرة أي النظر الداخلي {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج/46).
((وكن للّه مطيعا))، بعد أن عصيته. ((وبذكره آنساً))، بعد أن عشت في وحشة من ذكره ((وتمثل في حال توليك عنه إقباله عليك))، فعندما تعرض عن ربّك أدرس أحوالك لترى كيف يفعل بك ربّك، وكيف يفيض عليك لطفه، وكيف يقبل عليك برحمته، وفكّر في إقباله عليك إقبال الرحمة والمغفرة واللطف والعطاء الذي ليس له حدّ. فلابد لك أن تتمثل صورة ما تراه من إقبال ربّك عليك، وأنت في حال الإعراض عنه.
((يدعوك إلى عفوه)). فهو القائل {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر/39). ((ويتغمّدك بفضله)) بأن يدعوك إلى أن تعيش في نطاق فضله. ((وأنت متولٍّ عنه إلى غيره)). فأنت تعبد هذا وتمتنع عن عبادة الله، وتطيع هذا وتعصيه، وتقبل على هذا وتعرض عنه.
وهذا ما صوّره إمامنا علي بن الحسين زين العابدين(ع) بأوضح صورة في دعائه: ((تتحببُّ إلينا بالنعم ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل وشرّنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك في كل يوم عنّا بعمل قبيح فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمتك أو تتفضل علينا بآلائك فسبحانك ما أحلمك وأعظمك وأكرمك مبدئاً ومعيداً))( ).
((فتعالى من قويّ ما أكرمه))، فهو القوي الذي لا حدّ لقوته التي تفيض بالكرم والعطاء والرحمة. ((وتواضعتَ))، في صغرك وحقارة وجودك ((من ضعيف ما أجرأك على معصيته وأنت في كنف سرّه مقيم))، يسترك في كل ما تتحرك به من فضائح فلا يجعل العباد يطّلعون عليك. ((وفي سعة فضله متقلّب))، فأنت تتقلّب في رحاب فضله مما أعطاك وأنعم عليك وهو القائل {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللّه} (النحل/53)، والقائل أيضاً: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّه لا تُحْصُوهَا} (النحل/18).
((فلم يمنعك فضلهُ ولم يهتك عنك ستره، بل لم تخلُ من لطفه مطرفَ عين))، فهو يعطيك من لطفه على مستوى الثانية بحيث أنك في أية طرفة عين تجد نعمة اللّه تفيض عليك. ((في نعمة يحدثها لك، أو سيّئة يسترها عليك، أو بليّة يصرفها عنك)). فتلك هي حياتنا اليومية فنحن نستقبل نعمة يسبغها اللّه علينا هنا، وسيئة يسترها عنا هناك، وبلية يصرفها عنا هنا وهناك.
((فما ظنّك به لو أطعته؟)) فإذا كان يعطيك وأنت سادرٌ في معصيته فكيف يكون حالك لو أطعته، كيف تكون رحمته، وكيف يكون عطاؤه، وكيف يكون فضله عليك؟ ((وأيمُ اللّه لو أن هذه الصفة كانت في متفقين في القوّة))، أي لم تكن هذه الحالة التي أنت عليها كما أنت مع ربك، فهو القوي العزيز وأنت الضعيف الذليل، ومع ذلك فأنت تفعل ما تفعل معه من جحود، وهو يفعل ما يفعل معك من لطف ورحمة. فلو كانت هذه المسألة بين ((متفقين في القوة متوازيين في القدرة ))، أحدهما عمل مع الآخر مثل هذا فكيف تكون النتيجة ((لكنت أولَ حاكم على نفسك بذميم الأخلاق))، فلو كانت قوتك قوة اللّه أو قوة شخص آخر وفعلت معه ما فعلت، ألا تحكم على نفسك بأنك تعاملت معه بأخلاق ذميمة وأعمال سيئة؟!
القابلية للغرور:
((وحقاً أقول ما الدنيا غرّتك))، كما نقول عندما نحاول إلقاء التبعة على غيرنا إن الشيطان هو الذي غرّنا، لكن الإمام يقول إن في الدنيا بعض ما يغرّ ولكن عندما تدرس الدنيا في متغيراتها ومتطلباتها وأوضاعها فإنك لن تجد واعظاً يعظك أكثر من هذه الدنيا. وقد لخّص الإمام(ع) مسألة التعامل مع الدنيا في كلمة قصيرة وبليغة حينما قال: ((من أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته))( )، فإذا كنت تتطلّع إلى الدنيا فإن الدنيا تعشي نظرك، ولكنك إذا جعلتها في واقعها وعمقها عيناً تبصر بها داخلها لكانت مبصرّة لك بكل حقائقها.
يقول الإمام(ع) ((وحقاً أقول))، فأية عظمة وأي انفتاح وأية رحابة في استيحاء الآية في كل هذه الأجواء العظيمة. ((ما الدنيا غرّتك ولكن بها اغتررت))، فأنت من جعلها وسيلة للغرور ((ولقد كاشفتك العظات))، فلقد كشفت لك المواعظ بنفسها. ((وآذنتك على سواء))، أي علّمتك العدل والإنصاف، ((ولهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك))، فعندما تتحرك في الحياة وترى في كل يوم تناقصاً في جسمك سواء كان مرضاً أو غير مرض، وتلحظ النقص في قوتك البدنية، فأنت تتحرك في خط تنازليّ في القوة. ((أصدق وأوفى من أن تكذّبك أو تغرّك))، فعندما تقدّم نفسك إليك الحقيقة، وأنت تعاني المرض بين وقت وآخر، والنقص في قوتك من مرحلة إلى أخرى فكأن الدنيا تقول لك إنني أصدقك الحقيقة أنني لن أبقى معك إلى مالا نهاية على حال، ولن تستمر الصحة معك إلى ما لا نهاية فسيعرض لك المرض، ولن يستمر الأمن معك إلى الأبد فستواجه الخوف، ولن تستمر القوة معك دائماً فسوف تواجه الضعف. فعندما تناديك نفسك بهذا النداء من خلال واقعك الذي يتحرك في حياتك، فهل هناك أصدق وأوفى من الدنيا عندما تتحدث إليك بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب، فهل تعتبرها غارّة وخادعة لك أم تعتبرها صادقة معك وفيّة لك؟!
((ولربِّ ناصح لها عندك متهم))، أي ربما تأتيك بعض الحوادث التي تقدّم إليك النصيحة بالعبرة فتتهمها، وهذا هو أخطر أنواع الغرور وأسوأ ألوان العجب، ((وصادق من خبرها مكذّب))، فعندما تأتيك أخبارها بما تقدّمه إليك من حقائقها فأنت تحاول أن تقابل ذلك بالتكذيب، كما قال (المتنبي):
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ        فـزعتُ فيه بآمالي إلى الكذب
فأحلام الإنسان قد تكذّب الواقع، فقد يأتيك الخبر صارخاً قاسياً مؤلماً لكنك تحاول أن تكذّبه لأنك تتمنى أن لا يكون الأمر كذلك.
((ولئن تعرّفتها))، فأنت لديك أكثر من وسيلة من وسائل معرفة الدنيا، ((في الديار الخاوية))، التي كانت مزدهرة، ((والربوع الخالية)) التي كانت عامرة، فأدر بصرك في دور آبائك وأجدادك وديار الأولين، ((لتجدّنها من حسن تذكيرك وبلاغ موعظتك بمحلّة الشفيق عليك والشحيح بك))، فالديار الخاوية والربوع الخالية، كما تجدها في القلاع والحصون والآثار القديمة، تقف لتذكرك كما يذكّر الأخ الشفيق عليك والضنين بك بأن تهلك في طريق فيها هلاكك. ((ولنعم دارُ من لم يرض بها داراً))، فمتى تكون الدنيا نعم الدار لك؟ إذا كنت تعرف أن هذه الدار ليست دارك التي تخلد فيها ولكنها الدار التي تنتقل منها إلى دار أخرى.
((ومحلّ من لمْ يوطّنها محلاًّ))، وهي محل الإنسان الذي لم يعتبرها وطناً يستقيم به، ولكنها مجرّد مرحلة من مراحل السفر، ((وإنّ السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم))، هم الذين لا يعيشون حالة الإخلاد إليها والاسترخاء فيها، بل الذين يهربون من ضلالاتها إلى ما يعطيهم محلاً آخر عند اللّه.
((إذا رجفت الراجفة))، وهي كناية عن القيامة التي تجعل الناس يعيشون الرجفة العظيمة لهول ما يلاقونه فيها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّه شَدِيدٌ} (الحج/2). ((وحقّت بجلائلها القيامة. ولحق بكل منسك أهلُه)). أي بكل عبادة، فمن يعبد اللّه يسير في طريق اللّه ويلحق برحمة اللّه، ومن يعبد الشيطان يسير إلى نهايات الشيطان ومقطّعات النيران، ((وبكلّ معبود عبدته، وبكل مطاع أهل طاعته))، فانظروا من تعبدون لأنكم ستلحقون به يوم القيامة، وانظروا من تطيعون فإنكم ستكونون معه يوم القيامة، ((فلم يُجزَ في عدله وقسطه يومئذ خرقُ بصر في الهواء، ولا همس قدم في الأرض إلا بحقه)). والله تعالى يقول {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} (غافر/17)، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} (آل عمران/195). ويقول {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه  وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} (الزلزلة/7-8). فاللّه هو العادل الذي يظلّل الخلائق بعدله ((فكم حجة يوم ذاك داحضة)). فقد نقدّم الحجج الآن لبعضنا البعض ولكننا عندما نقف بين يدي اللّه {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}  (النحل/111). {واللّه يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر/19). فلا نجد فيها أي حجّة بالغة.
((وعلائق عذر منقطعة))، فهناك الكثير من الاعذار التي نستخدمها في الدنيا ستنقطع يوم القيامة لأنها لا ترتكز على أساس ((فتحّرَ من أمرك))، أي حاول أن تجد عذراً حقيقياً لا ينقطع ((وتثبّت به حجتك.وخذ ما بقي لك مما لا تبقى له))، فخذ مـن الدنيا ـ ما استطعت إلى ذلك سبيلاـ ما يبقى لك من المال والجاه والطاقة إلى الآخرة، لأنك لن تبقى لمالك ولأنه لن يبقى لك ولأن جاهك أيضاً لن يبقى لك ولأن طاقتك لن تبقى لك، فحاول أن تعتصر ما عندك لتشربه في الآخرة كأساً روية لا تظمأ بعدها أبداً، وعلينا أن نحصل على عصير العمر في كل ما يعطينا القوة والسلامة عند اللّه، فكل تلك الأشياء قشور تتحوّل إلى تراب.
((وتيسّر لسفرك))، فالله قد قال لك: {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} (الانشقاق/6). ((وشم برقَ النجاة))، أي حاول أن تجد في البرق المعنوي ـ الذي يمثل الطاعات كلّها ـ الطريق إلى النجاة ((وأرحل مطايا التشمير))، أي حاول أن تشمرّ عن طاقاتك كلّها لتصل إلى ما تريد من الهدف.
ما نستوحيه من استيحاء علي(ع):
أيها الأحبة: هذا هو استيحاء الإمام علي(ع) لهذه الآية الكريمة {يا أيها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم}، وعلينا أن نستوحي علياً(ع) في استيحائه للقرآن لنرى كيف يمتد بالآية إلى آفاق النفس ليعطيها الوعي بعد الغفلة والحق بعد الباطل، وما يمكن أن يسير بها إلى اللّه لتلتقي به {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} (الشعراء/88). و{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للّه} (الانفطار/19).
ويبقى الإمام علي(ع) مصدر الوعي واليقظة والسموّ والحق والعدل وإثراء إنسانيتنا بكل ما يغنيها ويرتفع بها، فلا تأخذوا من علي سيفه فقط، وإن كان سيفه سيف الحق، ولكن خذوا من عليّ علمه وفكره فهو الذي يبقى لنا ما دامت السماوات والأرض، لأن علياً هو إنسان الحياة الذي لا يبلى فكره ولا تتجمّد كلماته، فهو تلميذ القرآن، وكما أن القرآن يتحرك غضاً جديداً كلّما تلي في أي زمن وموقع فعليّ يبقى غضاً جديداً في كلماته كلها لأنها مستوحاة من كلمات اللّه وحقائق الحق والحياة كلّها.  والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة الثانية: 13 شوال 1419هـ الموافق 30 – 1 –1999م



تفسير الإمام علي(ع) لسورة التكاثر

"الإمام علي(ع) يستوحي الآية ويحوّلها إلى عالم متنوّع يتحرّك في أعماق النفس، وينفتح في حركة الوعي الداخلي من أجل تحويلها إلى قوة في الالتزام الخارجي"


ـ تفسير الإمام علي(ع) لـ(ألهاكم التكاثر).

ـ القيمة للنوع.

ـ معالجة مسألة التكاثر.

ـ استيحاء الإمام علي(ع) للآيتين.
 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

تفسير الإمام علي(ع) لـ {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ}:
لا نزال نتابع في (نهج البلاغة) أسلوب الإمام علي(ع) في التفسير... كيف يستوحي الآية، وكيف يحوّلها إلى عالم متنّوع يتحرّك في أعماق النفس وينفتح في حركة الوعي الداخلي من أجل تحويلها إلى قوّة في الالتزام الخارجي.
فعندما كان يتلو الآيتين الكريمتين. بسم اللّه الرحمن الرحيم {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ  حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} (التكاثر/1-2). كان يستوحي المعاني العديدة والآفاق الكثيرة التي تنطوي عليها، وهو استيحاء معصوم لا يقبل الخطأ، لكننا قبل ذلك نريد أن نشير إلى أن هذه السورة (التكاثر) قد نزلت في واقع عاشه القرشيون أو المكّيون في مكة حيث بدأوا يتفاخرون ووصلوا إلى حدّ التفاخر بالرقم العددي لهذا الفريق أو ذاك، وقد كانت الأرقام تمثل قيمة متقدمة للأكثر عدداً {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سبأ/35). حتى إذا انتهوا من عداد الأحياء ورأوا أنهم ينقصهم عدد معين ذهبوا إلى المقابر يحصون قبور هذه العشيرة أو تلك ليثبتوا أنهم أكثر عدداً.
ونزلت هذه الآية من أجل أن تضع القيمة في نصابها الصحيح، وهي في إيحائها الأول أن هذا النوع من الجدل يمثّل لهواً في حديث الناس مع بعضهم البعض، ولا يمثّل قيمة جدّية إنسانية فيما يتفاضل فيه الناس، لأن الكثرة لا يمكن أن تمثّل بنفسها قيمة إيجابية في معنى التقويم الإنساني، كما أنّ القلّة لا تمثل قيمة سلبية في الواقع الإنساني من حيث التقدم والتأخر.
فمسألة الكثرة والقلّة خاضعة للظروف الطبيعية الإنسانية التي تحكم هذه الفئة أو تلك. فقد نجد هناك مجتمعاً إنسانياً يتناسل أكثر بفعل العناصر الذاتية لزيادة النسل، أو من خلال العناصر الخارجية التي تحرّك التناسل فيما يشبه الفوضى، بينما نرى أن هناك مجتمعاً آخر لا يتناسل كثيراً من خلال بعض الضوابط التي تحدّد حركة النسل، أو من جهة بعض العناصر الكامنة في هذا المجتمع التي تمنع هذه الكثرة. لذلك لا يمكن أن تكون (الكثرة) هنا الناشئة من ظروف طبيعية خارجية و(القلّة) هناك الناشئة من ظروف أخرى، أساساً للقيمة.
ولعلنا عندما نواجه واقعنا المعاصر فإننا قد نرى كثرة هائلة في بعض المجتمعات التي تصل إلى عشرات أو مئات الملايين، ولكنها تعيش الضعف والتخلّف والانحسار في حركة الواقع الإنساني في العالم، بينما نرى في مقابل ذلك مجتمعات أخرى أقلّ عدداً ولكنها تملك من العناصر في التقدّم العلمي والفكري والتنظيمي بحيث أنها تحكم تلك الأعداد الهائلة، وقد أكد القرآن هذا المعنى في قوله تعالى {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه} (البقرة/249). وتحدّث عن الكثرة في أنها قد تكون ـ بحسب الغالب ـ عنصراً سلبياً في النتائج لا في طبيعتها {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف/103). {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (المائدة/59). {ولكنّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}  (الأعراف/187) وإلى غير ذلك.
القيمة للنوع:
ولذلك فإن القرآن الكريم أراد أن يؤكّد للإنسان أن القيمة إنمّا تكمن في النوعية وليس في الكميّة: كيف أنت في عملك؟ وكيف أنت في تجربتك؟ وكيف أنت في قوّتك؟ وكيف أنت في عطائك؟ وكيف أنت في حركتك كمجتمع؟ لا كيف أنت في عددك. ولذلك فإن مظهر التخلّف هو أن تعتبر الكثرة العددية قيمة تجعلك أفضل من الإنسان الآخر أو المجتمع الآخر، ويتعاظم التخلّف عندما تلجأ إلى الذين ماتوا فتحاول أن تضيف أعدادهم إلى أعداد الأحياء من أجل أن تعطي عائلتك أو بلدك هذا الامتياز في الكثرة العددية.
معالجة مسألة التكاثر:
إن الإمام علي (ع) في خطبته هذه أراد أن يعالج مسألة التكاثر في طبيعتها من خلال إيحاء كلامه أن هذا التخلّف يمثل الانحطاط في تصوّر القيمة الإنسانية بإحصاء عدد الموتى الذين انفصلوا عن الحياة ولم يعد لهم شأن فيها، ولا يمكن أن يعطوا القيمة للأحياء لأن ما يتمثلون به من قيمة في مرحلة كان قيمة لمجتمعهم وليس قيمة للمجتمعات القادمة. وهذا هو الذي رفضه الإسلام والتفكير الحضاري في أنّ مجتمعاً ما يحاول أن يجعل فخره في تأريخه، لأن تأريخك الذي يتشكل من خلال الناس الكبار الذين يتحركون في هذا التاريخ، لا علاقة لك به بشكل مباشر، ولا يعطيك قيمة كبرى لأن القيمة هنا هي قيمتهم، بل ربّما يكون تأريخك لعنة عليك عندما يكون التأريخ كبيراً وعظيماً ومنتجاً ومنتصراً وفاتحاً، وتأتي بعد ذلك ليكون تأريخك تأريخ استهلاك وسقوط وهزيمة وضعف وخوف.
إن الأمة التي لا تكبر بصنع التأريخ هي أمة يلعنها تأريخها، واللّه تعالى يقول لنا بإن كلّ مجتمع له كسبه، ولا يتحمّل مجتمع ما مسؤولية ما كسبه مجتمع آخر {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ}. في إيجابياتها وفي سلبياتها {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ}. في إيجابياتكم وسلبياتكم {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة/134). فلا تشغلوا أنفسكم بما كانوا يعملون، ولكن اشغلوها بدراسته {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف/111) وحاولوا أن تسألوا أنفسكم عمّا عملوا، فهذه هي قصة قوله تعالى {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ  حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ}.
استيحاء الإمام علي(ع) للآيتين:
وتعالوا إلى الإمام علي(ع) لتعرفوا كيف يستوحي هذه السورة وكيف يوسّع مفرداتها ويفتح آفاقها، وكيف يخاطب الإنسان في ذلك كلّه ليوحي إليه بهذا التخلّف الإنساني الداخلي فيما يأخذ به ذلك:
«فيا له مراماً ما أبعده». والمرام هنا هو المطلوب البعيد عن الحق والوعي وخط الاستقامة. «وزوراً ما أغفله ». وزيارة يزورون بها المقابر {حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ}. فأية زيارة أغفل من هذه الزيارة، فالإنسان يزور الأحياء ليأخذ من قوّتهم لقوّته ومن وعيهم لوعيه فيستزيد من ذلك أو يستوحي الأموات استيحاء الفكرة والقيمة، لا أن تزور قبراً عليه شاهدة لتأخذه رقماً، وأن تزور القبور من أجل أن تحصي الأرقام، بل أن تزورها لتأخذ العبرة والموعظة.
«وخطراً ما أفظعه». لأنه الخطر الذي يتهدد الوعيّ والمعرفة والقيمة الإنسانية التي تكبر وتنفتح بها. «لقد استخلوا منهم أيّ مدّكر ». أي أنهم عندما عاشوا ذكرياتهم فإنهم أفرّغوها من الدرس والعبرة، فالذكرى ليست مجرّد حالة نفسية تستحضر بها الماضي، ولكنها حالة ثقافية روحية تأخذ بها العبرة والعظة والدرس من الماضي، ولكنّهم أفرغوها من ذلك فلم تعد تعني سوى رقم يضاف إلى سائر الأرقام.
«وتناوشوهم من مكان بعيد». لقد ماتوا واحتواهم النسيان فابتعدوا عن الحياة والمجتمعات، ولكنّ الأحياء المتفاخرين تناولوهم من مكان بعيد.
ثم يتساءل الإمام لا تساؤل الطالب لمعرفة ولكن تساؤل التوبيخ والإنكار: «أفبمصارع آبائهم يفخرون». هل يتفاخرون بآبائهم الذين صرعهم الموت «أم بعديد الهلكى يتكاثرون». أم يطلبون الموتى في حجمهم العددي. «يرتجعون منهم أجساداً خوت». فلقد ذهبت الأجساد في أعماق الأرض ولكنهم يستعيدونها مجرّد أجساد خاوية سقط بناؤها وخلت من أرواحها. «وحركات سكنت». فهؤلاء ساكنون لا يتحرّكون «ولأن يكونوا عبراً أحقُّ من أن يكونوا مفتخراً». فلو أنصف هؤلاء أنفسهم ونظروا إلى كل الذين ذهبوا في الأرض لكانوا عبرة لهم لأنهم يأخذون من ذلك درساً بأنهم سوف يموتون كما مات هؤلاء ويهلكون كما هلكوا.
«ولأن يهبطوا بهم جنابَ ذلّة، أحجى من أن يقوموا بهم مقامَ عزّة». فهؤلاء الأموات الذين يتمثل الضعف الإنساني كلّه فيهم من جهة فناء أجسادهم وانقضاء أعمارهم هم ـ من الناحية الجسدية ـ في مقام ذلّة. وإلاّ فأية عزّة للأموات في جانبهم الجسدي، فأن يهبطوا بهم هذا المقام أقرب للعقل من أن يقوموا بهم مقام عزّة.
«لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة». والعشوة هي النظر الضعيف، فلم ينظروا إليهم بأبصار صحيحة حادّة تعرف حقائق الأشياء. «وضربوا منهم في غمرة جهالة». أى عاشوا في أجواء الجهالة وانطلقوا بهم في هذا الاتجاه في التفكير. «ولو استنطقوا عنهم». وهنا يقول الإمام(ع) إذا أردت أن تعرف حقائق هؤلاء اسأل وستجيبك هذه الديار بلسان الحال لتعطيك حقيقتهم. «ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية». التي تهدّمت «والربوع الخالية». من أصحابها «لقالت: ذهبوا في الأرض ضُلاّلا». أي ضاعوا في الأرض ولم يعد لهم أيّ أثر. «وذهبتم في أعقابهم جُهّالا». فلقد ظلّت بهم الأرض فضاعوا فلم تعد تميّز عظماً من عظم أو لحماً من لحم أو رفاتٍ من رفات كما تضيع حبات الرمال عندما تتحرك من أماكنها، أما أنتم فبهذا التفكير المتخلّف بقيتم من بعدهم جهّالاً، ومن أعظم مظاهر الجهل أنكم تحدّقون في أجسادهم وتتابعون قبورهم لتحصوا رقماً هنا ورقماً هناك. «تطؤون في هامهم». فعندما نمشي على القبور إنما نمشي على تلك الرؤوس التي كانت مرفوعة ثم استحالت تراباً، تماماً كما قال الشاعر (علي الشرقي) وهو يصوّر هؤلاء الذين تحوّلوا إلى غبار وتراب من موتى (وادي السلام) في النجف:
عبرتُ على الوادي فسفّت عُجاجةٌ   فكـم من بلادٍ في غبار و كم نادِ
و أبقيت لم أنفض عن الرأس تربه   لأرفع ـ تكريماً ـ على الرأس أجدادي
فهؤلاء قد تحوّلوا إلى تراب وانطلقت الرياح لتأخذه وتوزّعه على رأس هذا وعلى أرض ذاك «وتستنبتون في أجسادهم». ألا ترون إلى الحدائق والأزهار والأعشاب التي تنبت في المقابر، أنها تأخذ من أجساد الموتى العناصر التي تنمو بهم، وبذلك يقول الشاعر:
يا منبتَ الأجساد عشباً على الثرى    هل تطلع الأرواح مطلع اوراد؟
«وترتعون فيما لفظوا». فأنتم تتحركون فيما تركوه ولفضوه وأعرضوا عنه. «وتسكنون فيما خرّبوا، إنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم». فأنتم تبكونهم ولكن الأيام تبكي عليكم لأنكم غافلون بطول الأمل، فكلّ يوم يمضي هو دمعة تسفحها الأيام عليكم، لأن كل يوم يموت منك يعني أن قطعة من حياتك قد ماتت، فنحن ـ في واقع الأمر ـ نموت تدريجياً، فحينما تُسقط، في كل يوم، ورقة من التقويم فإنما تسقط شيئاً من عمرك.
«أولئك سلف غايتكم». فهؤلاء الذين سبقوكم يشيرون إلى الغاية الأخيرة وهي (الموت) «وفرّاط مناهلكم». والمناهل هي المياه والينابيع، والفارط هو الذي يتقدّم القوم إلى الماء ليهيئ موضع الشرب، فالموتى يتقدموننا ليهيئوا لنا مكاناً إلى جانب هذا القبر أو ذاك لنشرب من كأس المنية.
«الذين كانت لهم مقاوم العزّ». فلقد كانت لهم أماكن العزّ والشرف «وحلبات الفخر». وكانوا يعيشون الفخر في حركة الحياة من حولهم. «ملوكاً وسوَقاً». أي أسياداً وعواماً. «سلكوا في بطون البرزخ سبيلا». ومعنى البرزخ هنا هو القبر لأنه برزخٌ بين الدنيا والآخرة «سُلطت الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم، فأصبحوا في فجوات قبورهم». أي الشقوق التي في داخل القبر «جماداً لا ينمون». فليس لهم نموّ تماماً كما هو الحجر «وضماراً لا يوجدون». والضمار هو المال الذي لا يرجى رجوعه «لا يفزعهم ورود الأهوال». فالأهوال تحدث في الدنيا وهم ساكنون لا شأن لهم بذلك «ولا يحزنهم تنكّر الأحوال وتقلّبها من حال إلى حال، ولا يحفلون بالرّواجف». أي الزلازل التي توجب الاضطراب «ولا يأذنون للقواصف» أي لا يستمعون الرعد «غيباً لا ينتظرون». فهم في حالة غياب عنّا ولكن من منّا ينتظر (الميّت) الغائب أن يعود؟!
«وشهوداً لا يحضرون». فنحن ننظر إلى أجسادهم ولكنهم لا يحضرون حضور الأحياء «وإنما كانوا جميعاً فتشتتوا». فلقد كانوا عائلة مجتمعة فذهب هذا ورحل ذاك. «وألاّفاً فافترقوا». لا يتعرّف أحدهم على الآخر.
«وما عن طول عهدهم ولا بعد محلّهم». فهذا ليس من جهة طول العهد وبعد المحل ولكنها طبيعة الموت. «عميت أخبارهم، وصمّت ديارهم، ولكنهم سُقوا كأساً». لماذا عميت أخبارهم وانقطعت عن الدنيا؟ لأنهم سقوا كأس الموت. «بدّلهم بالنطق خرساً». فلقد كانوا ينطقون فاصبحوا خرساً «وبالسمع صمما». فبعد أن كانوا يسمعون أصمّهم الموت. «وبالحركات سكوناً، فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات». فكما أنّ النائم لا يعرف ما حوله فكذلك هم «جيران لا يتأنّسون، وأحياء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف». فلقد بليت كلّ هذه العلائق التي كانت تربطهم في الدنيا «وانقطعت منهم أسباب الإخاء فكلّهم وحيد وهم جميع». فهم مجتمعون في المقبرة ولكن كلّ واحد منهم ينام في قبره وحيداً ليخرج منه وحده. {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}(مريم/95).
«وبجانب الهجر وهم أخلاء». أي يهجر بعضهم بعضاً وقد كانوا أخلاّء «لا يتعارفون لليل صباحاً، ولا لنهار مساءً، أي الجديدين ضعنوا فيه كان عليهم سرمدا». والجديدان هما الليل والنهار، فلو ضعنوا في الليل لكان الليل عليهم سرمداً لأنهم لا ينتظرون نهاراً يشرق عليهم ليتحرّكوا فيه. ولو ضعنوا في النهار لكان النهار عليهم سرمداً لا ينتظرون ليلاً يظلم الكون فيه ليأووا إلى مضاجعهم.
«شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا». لأن ما شهدوه أعظم من كلّ ما مرّ عليهم مما كان يخيفهم. «ورأوا من آياتها أعظم مما قدّروا». فلم يكونوا يتصورون ما في الموت وما بعد الموت «فكلتا الغايتين مدّت لهم إلى مباءة». أي أن الجنة والنار مدّت لهم مكان استقرار، فهناك من يستقر في الجنة وهناك من يستقر في النار.
«فأتت مبالغ الخوف والرجاء. فلو كانوا ينطقون بها لعيو بصفة ما شاهدوا وعاينوا». فلم يستطيعوا أن ينطقوا بل أرتج عليهم لهول ما يشهدون، وذلك كناية عن العبرة من معاينة ما في القبور.
ولكلام علي(ع) بقية لا يتسع لها المقام ولكن يتسع لها مقام آخر في أسبوع آخر.
والحمد للّه رب العالمين.

































المحاضرة الثالثة: 20 شوال 1419 هـ الموافق 6/2/1999م

(نهجُ البلاغة) وحيُ القرآن


* يبقى (نهج البلاغة) يعطينا وحي القرآن وامتداده وآفاقه. فانطلقوا مع النهج لتفهموا القرآن جيداً، لأن نهج البلاغة كلّه وحي القرآن *



استيحاء سورة (التكاثر)
تتمة تفسير (السورة)
تساؤلات على الهامش


 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
نص
استيحاء سورة (التكاثر):
ما نزال مع الإمام علي(ع) في استيحائه لـ(سورة التكاثر) التي انفتح على آفاقها كلّها من حيث طبيعة الخطأ الذي كان يعيشه أولئك الذين يرون القيمة في الكثرة، ومن حيث غفلتهم عمّا يمثله الموت والقبر والموتى، ليخرج بنتيجة حاسمة وهي أن الذين يموتون يواجهون أمراً بالغ الصعوبة مما لا يمكن وصفه، كما أنهم ينقطعون عن الأحياء انقطاعاً كلياً كما ينقطعون عن بعضهم البعض.
ولهذا فإن الإمام(ع) يركّز على فكرة أن لا ننظر إلى الموتى إلاّ نظرنا إلى قوم يمثلون العبرة لنا ويوقظون فينا وعي ما نقبل عليه مما أقبلوا عليه فلا ندخلهم فيما نتفاضل فيه، بل إنّ علينا أن ندخلهم فيما نعتبر به.
ولعلنا، ونحن نتابع علياً(ع) في وصف حال هؤلاء، وفي طبيعة الموت وكيف ينفذ إلى حياة الإنسان، لا نجد إنساناً وصف الموت كما وصفه عليّ(ع) في كلّ هذه اللمسات والإيحاءات والعناصر التي تنفتح بها الموعظة ويعي فيها الإنسان معنى الحياة من خلال وعيه لمعنى الموت.
تتمة تفسير السورة:
تعالوا ـ من جديد ـ إلى علي(ع) في وصف هؤلاء تعليقاً على ما قام به أولئك في تعداد الأموات ليضافوا إلى الأحياء ليتضخم عددهم.
«ولئن عميت آثارهم». فلا تبصر شيئاً ولا نبصر منها شيئاً. «وانقطعت أخبارهم». كما يصف ذلك علي بن الحسين(ع) في لمسة روحانية: «مولاي.. يا مولاي وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري وانمحى من المخلوقين ذكري وصرت من المنسيين كمن قد نسي».
«لقد رجعت فيهم أبصارُ العبر». بعد أن عميت الآثار، فكانوا بصراً للعقل وللقلب يبصر به الناس العبر وبصراً للعقل في معنى العبرة يعطيك ما لا يعطيك إياه بصر الوجه.
«وسمعت عنهم آذان العقول». ولم يسمع لهم صوت ولا خبر، فلقد اصبحوا خارج نطاق الضوء فهم في عالم لا يتحدّث عنه الناس، لأن الناس يتحدثون عنهم ـ عادة ـ في الذكريات لا في واقعهم الذي هم فيه. ولكن العقول تسمع بآذانها عنهم عندما يخبرونها بصمتهم وما هم عليه من حال. يقول الإمام السجاد(ع) في دعائه: «وارحمني عند تغيّر صورتي وحالي إذا بلي جسمي وتفرّقت أعضائي وتقطّعت أوصالي». إن آذان عقلك تسمع ذلك كلّه مما يوحي به الواقع الذي يعيشونه.
«وتكلّموا من غير جهات النطق». فكأنك عندما تقف أمام القبور وتسألهم عن حالهم في تلك القبور فإنهم لا يردّون عليك بلسان ناطق كما كانوا يفعلون عندما كانوا أحياء، ولكنهم يجيبون بلسان الحال الذي ينطق عن واقع انقطاع اثرهم من الدنيا، وانهم لو عادوا فربما يعملون صالحا، وأنهم حيل بينهم وبين ذلك ، وأن السعيد فيهم من مهد قبره بعمله والشقي من ارتحل بأوزاره التي تثقل كاهله، وأنهم مقبلون على يوم لا ريب فيه وسيجزون كلّ حسب عمله.
«فقالوا: كلحت الوجوه النواظر». قالوا: هل كنتم ترون هذه الوجوه النضرة التي تنبض بالحياة بين وجه أبيض وآخر ورديّ ووجه تموج الحياة وآثار العافية فيه، أما الآن فقد عبست هذه الوجوه وتكدّرت بعدما كانت تبتسم، وتحوّل ابتسامها إلى عبوس وانفراجها إلى تكشير.
«وخوت الأجساد النواعم». أما الأجساد الناعمة المترفة تلك التي كانت لا تسمح لأي شيء حتى لو كان ناعماً أن يلمسها.. فقد تهدّمت لأنها تقطّعت وتفرّقت وانفصلت عن بعضها وخشنت حتى يعجب من يراها متساءلا: هل هذه هي التي كانت منعّمة ترفل في غضارة العيش وبحبوحة النعيم.
«ولبسنا أهدام البلى». هكذا يتحدثون بلسان الحال الذي يبدو أبلغ من لسان المقال.. يقولون بعد أن كنّا نلبس الرياش والديباج وأنفس الثياب بتنا نلبس ثياب الموت والبلى والفناء.
«وتكاءدنا ضيق المضجع». والتكؤدُّ هو المشقة، أي أننا صرنا في ضيق المضجع الذي يشقُّ تحملّه على من يبيت فيه.
«وتوارثنا الوحشة». فنحن في وحشة لا وحشة مثلها، فليس هناك أنيس، حتى النور الذي كنّا نأنس به، وحتى السماء التي كنّا نتطلع إليها، وحتى السهول والجبال وكل مناظر الطبيعة الأخرى توارت عنّا فأصبحنا في حفرة ضيّقة. وهل يأنس الإنسان وليس له حسّ يوحي له بالأنس؟! بل حتى الحشرات والهوام التي تزحف على أجسادنا لا نحسّ ولا نأنس بها ولا نستوحش منها لأننا لا نملك شيئاً يعطي الوحشة أو يعطي الأنس.
«وتهكّمت علينا الربوع الصموت». وتهكّمت هنا بمعنى تهدّمت، فلقد انهارت وتهدّمت تلك الربوع التي كانت تموج بالحركة فاضحت بعد رحيل سكّانها صامتة خرساء يحكي بلاها وأطلالها قصة الذين كانوا بالأمس هنا واليوم قد رحلوا فلا البانون ولا الساكنون. «فانمحت محاسن أجسادنا وتنكّرت معارف صورنا». وذلك ما قرأناه مع الإمام زين العابدين(ع): «وارحمني عند تغيّر صورتي». «وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا». فلا يعرف إلى أي مدى تكون الإقامة، كم ألف سنة نحتاج ليأذن اللّه لهذه الأجداث أن تبعث من جديد.
«ولم نجد من كرب فرجاً». فالأحياء إذا وقعوا في الكرب فإنهم ينتظرون الفرج ويدعون اللّه أن يفرّج كربهم، ولكن أيّ لسان للموت لكي يطلب به الميتون الفرج.
«ولا من ضيق متسعاً». بل إن الحفرة تضيق وتضيق لأنها تتهدم من جانب فتزحف الحجارة إلى الجسد، ولأنها تتبعثر فتضيق الحفرة على من فيها.
«فلو مثّلتهم بعقلك». وهم تحت الصخور، لا تستطيع أن تبصرهم، ولكنك تستطيع أن تمثلّهم في عقلك. فالإمام يدعونا إلى أن نتمثلهم في عقولنا لأن على العقل أن يستوعب هؤلاء في وعيه ليفهم ماذا هناك وليقول لصاحبه هلّم إلى هناك.
«أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام». أي بالحشرات «فاستكّت». فالسمع عندما يستكُّ يفقد أي قابلية للسمع أو للحياة.
«واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت». لأن التراب دخل إلى عيونهم فخسفت العيون وتعمّقت فإذا بالمهاجر الجميلة حفر مفرغة مفزعة.
«وتقطّعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها». فلقد كان الواحد منهم يخطب ويخطب ويبدع ويبدع في لسان ذلق ويحرّك لسانه في الخير وفي الشرّ، وأمّا الآن فقد تقطّعت الألسنة في أفواههم قطعاً قطعا ولم يعد هناك لسان يفوهون به.
«وهمدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها». وكانت القلوب تنبض فتمنح الجسد الحياة، وتعطي الإنسان الحبّ، وتهبه أحاسيس الخير، ولكنها همدت وسكنت وجفّ نبضها.. فلم يعد فيها أي نبض.
«وعاث في كلّ جارحة منهم جديدُ بلى سمّجها». ويمتد البلى والفناء ليفسد الأعضاء كلّها لأن في كل يوم بلى جديداً وفناء جديداً. فلقد كان يخترق الروح ليأخذها، وأمّا في القبور فإن الفناء يخترق الجسد لينخره ويحطّمه ويبليه، ولذلك ففي كل يوم فناء وبلى.
«وسهّل طريق الآفة إليها». فعندما يأتي جديد البلى فإنه يفتح الطريق لكلّ آفة إلى الجسد لتأكل الجسد.
«مستسلمات». هذه الأجساد الهامدة. «فلا أيد تدفع». الحشرات عنها بجميع أصنافها حيث تنطلق لتأكل شيئاً من عيونهم وشيئاً من قلوبهم وشيئاً من ألسنتهم وشيئاً مما كانوا يعزّزون به وجودهم.
«ولا قلوب تجزع». عندما ترى ذلك، لأنهم يعيشون داخل قبور مغلقة. «ولو مثلّتهم لعقلك». ماذا ترى؟ «لرأيت أشجان قلوب». القلوب التي تعيش الأشجان من خلال الأمر الواقع لا من خلال الإحساس.
«وأقذاء عيون». ورأيت العيون التي ينزل بها القذى وأيّ قذى ينزل بعيون الموتى؟! إنه التراب وفي كل ما في التراب من أوساخ.
«لهم في كل فظاعة صفةُ حال لا تنتقل وغمرةٌ لا تنجلي». فعندما تتصور الفظاعة بكل ما فيها من رعب فإنك ستجد أن لهم صفة في الفظاعة وأنّ لهم غمرة لا تنجلي فهي باقية حتى يأذن اللّه.
ويستمر الإمام علي(ع) في تصوير الموت، ليقول: «فكم أكلت الأرض من عزيز جسد». حتى لم يبق منه إلاّ التراب. «وأنيق لون كان في الدنيا غذيّ ترف». فهذا اللون الذي كان ينفتح عليه أهله المترفون من أجل أن يلونوا وجوههم بالمساحيق ويطيبوا أجسادهم بالعطور، فكيف تحوّل وتبدّل بعدما أكلته الأرض وأتلفته هو منها وديدانها.
«وربيب شرف يتعلّل بالسرور في ساعة حزنه». وهو هنا يصف ما كانوا عليه، فإذا جاءهم الحزن فإنهم يفزعون إلى السرور ليتجاوزوا الحزن وليهربوا منه.
«ويفزع إلى السلوة إن مصيبة نزلت به». فإذا ما نزلت بهم المصائب فإنهم يحاولون أن يتناسوها حتى لا يسيئوا إلى ما هو فيه من غضارة العيش.
«ضنّاً بغضارة عيشه، وشحاحةً بلهوه ولعبه». حتى لا تتحرك المصيبة لتفسد غضارة عيشه ولهوه ولعبه.
«فبينا هو يضحك إلى الدنيا وتضحك إليه». ولنراقب هذه المسألة في حياتنا عندما نضحك للدنيا وتضحك الدنيا لنا فيما تمنحنا من لهوها وعبثها ولذّاتها وشهواتها.
«في ظلّ عيش غفول». لا يفكّر بشيء ولا يعبئ بشيء ولا يكترث لشيء، بل يستغرق في اللذات والشهوات. «إذ وطئ الدهرُ به حسكه». وإذا به من متنعّم يتقلب في الفراش الناعم فيما تفرشه الأرض والحياة له، إلى محاصر بالحجارة والحصى وكل ما يخزه فيبعده عن نعومة الحياة وترفها.
«ونقضت الأيام قواه». والنقض هو الفكّ ويستخدم عادة للغزل {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا}(النحل/92). فدّب الضعف في أجسادهم ففسّخ قواها قوّةً قوّة. «ونظرت إليه الحتوفُ من كثب». واقترب الأجل زاحفاً إليه، وهذا هو تصوير الدعاء للموت كطائر يرفرف على رأس الإنسان.
«فخالطه بثّ لا يعرفه». أي حالة الحزن، ففي القرآن {أَشْكُـو بَثِّي}(يوسف/86). أي هذه الحالة الحزينة التي تزحف إلى المشاعر فتكدّرها.
«ونجيُّ همّ ما كان يجده». فلقد كان يعيش هموماً كثيرة في الحياة، من ضيق الحال والخوف وما إلى ذلك، أمّا الآن فهذا الهمّ جديد بكل عناصره وإيحاءاته ورعبه.
«وتولّدت فيه فترات علل». حيث بدأت الأمراض تزحف إليه. «آنسَ ما كان بصحّته». أي انطلقت أنياب الموت والبلى لتفترس صحّته التي لم يكن يظنّ معها أنه سيمرض. «ففزع إلى ما كان عوّده الأطباء». حيث كان الأطباء يرون أن صحة الجسم تعتمد على التوازن بين الحرارة والبرودة، فإذا ارتفعت الحرارة حاولوا أن ينقصوها بالبرودة وبالعكس.
«من تسكين الحارّ بالقارّ». والقار هو البارد «وتحريك البارد بالحارّ». ولكن النتيجة هنا تختلف عن النتيجة في الدنيا، فلقد كان البارد يطفئ الحرارة، وكان الحار يخفف من البرودة، أمّا الآن «فلم يطفئ ببارد إلاّ ثوّر حرارة». أي انقلب الأمر. «ولا حرّك بحارّ إلاّ هيّج برودة، ولا اعتدل بممازج لتلك الطبائع إلاّ أمدّ منها كلّ ذات داء». أي أنه يمزج الدواء ليعطيه العافية لكنّه ـ بخلاف ذلك ـ بات يعطيه مرضاً جديداً.
«حتى فتر معللّه». أي ضعف. «وذهل ممرّضه». لأنه لا يجد أيّ أمل في التمريض «وتعايا أهله بصفة دائه». أي اظهروا العيّ والعجز والسكوت عند السؤال فلم يجيبوا لأنهم لا يفهمون ماذا هناك ولا يعرفون حدوده. «وخرسوا عن جواب السائلين عنه». فلا يجيبون أحداً لما هم فيه من اليأس.
«وتنازعوا دونه شجيّ خير يكتمونه». أي يتناقشون فيما بينهم في خبر يشجيهم ويحزنهم ولا يريدون أن يظهروه للناس «فقائل يقول: هو لما به». وكلمة (لما به) تقال عندما يصل الإنسان إلى حدّ لا يؤمّل منه الصحّة، فهي تقال في حال اليأس المطبق من السلامة والعافية.
«وممنّ لهم إياب عافيته، ومصبّر له على فقده». فشخص يعزيّهم بأمل استرجاع العافية وشخص يطلب منهم الصبر على المصيبة. «يذكّرهم أسى الماضين من قبله». فيقول لهم تذكّروا الأنبياء(ع) وأهل البيت(ع) وتذكّروا الأولياء وغيرهم. «فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا وترك الأحبّة». وما أروع هذا التعبير الفني الأدبي الموحي، فكأن الموت هو جناح يحمل الإنسان إلى العالم الآخر، جناح يطير به إلى هناك.
«إذ عرض له عارضٌ من غصصه فتحيرّت نوافذ فطنته». فعندما يطبق الموت على الإنسان ويستولي على حسّه كلّه فلا يحسّ شيئاً ولا يفهم شيئا ولا يعي شيئا. «ويبست رطوبة لسانه». أي تجمّد لسانه عن النطق والحركة.
«فكم من مهم من جوابه عرفه فعييَ عن ردّه». فكم هناك من أشياء مهمّة كان يسأل عنها ويجيب لأهميتها، ولكنه الآن لا يستطيع أن يردّ بشيء.
«ودعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصامّ عنه». فربما ناداه شخص يرحمه ويحبّه ولكنه لا يستطيع أن يسمعه فيردّ جوابه. «من كبير كان يعظّمه، أو صغير كان يرحمه».
ثم يلخّص الإمام(ع) معنى الموت. «وإن للموت لغمرات». وهي الشدائد والأهوال. «هي أفظع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا».
تساؤلات على الهامش:
فكيف تفكّرون وتفتخرون بمن مات وتزحفون إلى قبورهم وأنتم في غفلة عمّا كانوا فيه وعمّا هم مقبلون عليه، فالقضية ليست قضية أرقام تتكاثر ولا قضية أشخاص يبعثون على الفخر، ولو سألتموهم وأنتم تتفاخرون بأعدادهم.. كيف أنتم وماذا وجدتم؟! لقالوا لكم: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}(البقرة/197).
هذا هو كلّ زاد القبر وزاد المحشر وزاد المصير {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(المطففين/6). {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}(النحل/111). وينطلق النداء {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}(غافر/17). وينطلق النداء {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّار(غافر/16)}. {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للّه}(الانفطار/19).
أيّها الأحبة: خذوا من علي(ع) هذه الروح التي تحلّق بنا لأجل أن نفهم حقائق الموت.. وخذوا منه هذا العقل الذي يحلّق لأجل أن نفهم حقائق الحياة. وخذوا علياً كلّه لأنّ علياً كان الإسلام كلّه ولأنه باع كلّه للّه، فليس فيه شيء لغير اللّه. ولهذا ليس الانتماء لعلّي نسباً ولا صفة. «الا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد»( ). لقد كانت حياته كلها من اجل اللّه ومن أجل الإسلام فإذا أردتم أن تسيروا معي ـ أي مع علي(ع) ـ فكونوا مع اللّه ومع رسول اللّه ومع القرآن ومع الإسلام لأنه لا مكان في حياتي إلا لهؤلاء، ولأنني كنت مع الحق وكان الحق معي، فمن كان مع الباطل كيف يقترب من علي(ع) وهو لا مكان له في الباطل البتة؟!
 ويبقى (نهج البلاغة) يعطينا وحي القرآن وامتداده وآفاقه فانطلقوا مع النهج لتفهموا القرآن جيداً لأن نهج البلاغة كله من وحي القرآن الذي عاشه علي(ع) فكراً وروحاً وقلباً.
يا سماء اخشعي ويا أرض قريّ                 واخضعي إنـني ذكرت عليّا
والحمد للّه رب العالمين.

 
المحاضرة الرابعة: 27 شوال 1419 هـ الموافق 13/2/1999م




في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)
القرآن تبيانُ كلّ شيء



* القرآن هو القاعدة التي ننطلق منها فيما ننتج من فكر وننفتح عليه من أحاسيس ومشاعر وعواطف، وفيما نخطّطّ له من حركات ومن تطلّعات في مسيرتنا نحو المستقبل *




ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)
حديث الصادق(ع) عن القرآن
فيه تبيان لكلّ شيء
منار الهدى
الحجّة على فكر الحق
حافظ القرآن وحامله
أصناف الناس إزاء القرآن
تقسيم القرآن
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع):
بالأمس مرّت ذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق(ع) وعندما نتوقف عند هذا الاسم الكبير فإننا ننفتح على عالم واسع عميق ممتد في كل قضايا الإنسان في الحياة وكل آفاق المعرفة باللّه وكلّ حركية الإسلام في مواقعه في اتجاه المستقبل، لأن ما ورد عن الإمام الصادق(ع) من تعاليم في مختلف جوانب المعرفة الإسلامية هو مما يمكن للإنسانية أن تغتني به في كلّ زمان ومكان.
وعندما ندرس تراثه(ع) فإننا نشعر أنه يعيش معنا وكأنه يتحدّث عن قضايانا ومشاكلنا الصغيرة والكبيرة وعن تطلّعاتنا للمستقبل، وعن القاعدة التي ينبغي لنا أن نرتكز عليها، ولهذا فلابدّ لنا إنْ مع الإمام الصادق(ع) أو مع الأئمة الآخرين من أهل البيت(ع) بل ومع جدهم الرسول(ص) الذي أورثهم علمه وهديه وروحه وحركته وانفتاحه على الإنسان من خلال انفتاحه على اللّه، أن ندرسهم دراسة ثقافة وفكر، لأن مشكلتنا أننا أخذنا أئمة أهل البيت(ع) كدموع في المأساة وكابتسامات في الأفراح، ولم ننفذ إلى داخلهم ولم نغتنِ بهم، ولم ننفتح على الرحاب الواسعة من حياتهم.
حديث الصادق(ع) عن القرآن:
وفي هذه العجالة نريد أن نستمع إلى الإمام جعفر الصادق(ع) وهو يحدّثنا عن القرآن ومعناه فيما يتمثّله من معنى، وعن امتداداته واعتباره أساساً لتوثيق أي حديث وأي كلام، لأن القرآن هو القاعدة التي ننطلق منها فيما ننتج من فكر وننفتح عليه من أحاسيس ومشاعر وعواطف وفيما نخطط له من حركات ومن تطلّعات في مسيرتنا نحو المستقبل.
ولعل قيمة الحديث عن القرآن في كلمات الإمام الصادق(ع) تنطلق من أن هناك حديثاً مازال يجترّه الكثيرون من الناس عن نظرة الخط الإمامي الذي يمثّله أهل البيت(ع) إلى القرآن كما لو كان كتاباً محرّفاً يزيد فيه بعض الناس وينقص البعض الآخر، فالكثيرون يجترّون هذه النسبة للمذهب الأمامي ولا يستمعون إلى إجماع علماء الإمامية وإلى حديث أئمة أهل البيت(ع) عن أن القرآن كتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الوحيد من بين الكتب التي أنزلها اللّه الذي تكفّل بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر/9).
وعندما نقرأ الإمام الصادق(ع) في حديثه عن القرآن وأنه هو الذي يضيء جوانب المعرفة الإسلامية كلّها، وهو الذي يعطينا الحكم عن كل ما يقدم إلينا من ثقافة ومعرفة باسم الإسلام فإنما يريد للكتاب الكريم أن يكون الميزان الذي يزن ويميّز المعرفة الإسلامية من غيرها. فتعالوا إليه(ع) وهو يحدّثنا عن القرآن.
فيه تبيان لكلّ شيء:
يقول(ع): «إن اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله اللّه فيه»( ).
إن الإمام(ع) يركّز في هذه الكلمة على أن اللّه أنزل القرآن ليحلّ للإنسان قضاياه وليركّز به القاعدة الثقافية والروحية والمنهجية التي تساعده على السير في الخط المستقيم، بحيث أن اللّه عالج له كلّ ما يحتاجه وقدّم له كلّ ما يواجهه من قضايا، حتى أن الإنسان لا يستطيع أن يقول لو أنزل اللّه هذا في القرآن لكان أفضل لأن اللّه بيّن في كتابه كلّ شيء.
فليس المراد من (كلّ شيء) في قوله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}(النحل/89). علوم الطبيعة أو الكيماء أو الفيزياء أو الاكتشافات العلمية، فدور القرآن أن يجعل حياتنا المتحرّكة في الجانب الثقافي والاجتماعي والسياسي والأمني تسير في خط الاستقامة، وأن يفتح لنا باب الحق والخير والعدل في أوضاعنا الشعورية والاجتماعية وحركة العلاقات فيما بيننا. ولهذا بيّنا ـ أكثر من مرّة ـ أنّ القرآن ليس هو الكتاب الذي يحدّثنا عن النظريات العلمية والاكتشافات والمخترعات، وإن كان يشير في بعض لمحاته لبعض أسرار الخليقة وقوانين الحياة الطبيعية.
ويقول الإمام الصادق(ع): «ما من أمر يختلف فيه اثنان». فيثبته شخص وينفيه آخر. «إلاّ وله أصل في كتاب اللّه عز وجل». بمعنى أن الكتاب قد بيّنه بشكل تفصيلي مباشر أو من خلال القاعدة التي يرتكز عليها هذا الشيء أو ذاك، «ولكن لا تبلغه عقول الرجال»( ). مما قد يتضمن بعض الأسرار والامتدادات والسعة في الأفق مما يحتاج إلى مزيد من الفكر ورحابة الأفق. فلا بدّ لمن يريد أن يفهم القرآن ويقرأه من أن يملك الثقافة الواسعة العميقة التي يكبر فيها عقله وينمو فيها وجدانه وتتأصّل فيها فطرته من أجل أن يتفهّم القاعدة التي يركّزها القرآن ليستطيع ـ بعد ذلك ـ أن ينطلق منها لمعرفة هذا الفرع أو ذاك.
«عن عبد الأعلى بن أعين، قال: سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول: قد ولدني رسول اللّه(ص) وأنا أعلم كتاب اللّه». فكأنه يتحدّث عن الولادة النسبية والولادة العقلية والروحية والمعنوية وأن علمه في كتاب اللّه من خلال الامتداد لرسول اللّه(ص) فهو ليس امتداد النسب فحسب ولكنه امتداد المعرفة والعقل والتراث الذي انفتح الأئمة من خلاله على جدّهم رسول اللّه(ص).
«وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة». في خطوات المعرفة في الآيات التي تشير إلى ما يستقبله الإنسان في الحياة باللمحة هنا وبالرمز هناك وبالتصريح هنا وهناك. «وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنّة وخبر النار وخبر ما كان وخبر ما هو كائن. أعلم ذلك كما أنظر إلى كفّى. إن اللّه يقول {فيه تبيان كلّ شيء}..»( ). إشارة إلى قوله تعالى{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}( ).
منار الهدى:
ويقول أيضاً: «إن هذا القرآن فيه منار هدى». فهو النور الذي يهدي الناس إلى سواء السبيل ويهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام. «ومصابيح الدجى فليجُل جالٍ بصرَه». أي يحاول أن ينظر فيه «ويفتح للضياء نظره». والمراد من النظر هنا هو النظر الداخلي وهو النور الذي ينظر به العقل والقلب. «فإن التفكّر حياة قلب البصير». لأن الإنسان الذي يبصر بنور اللّه في عقله لا يستطيع أن يحصل على هذه الحياة الفكرية المتحرّكة إلاّ من خلال التفكّر الذي ينطلق من عقل الإنسان، لأنه الوسيلة في أن يعرف حقائق الأشياء. وهذا ما ركّز عليه القرآن الكريم {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}(آل عمران/191). «كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور»( ). فالإنسان الذي يتحرّك في ظلمات الجهل والتخلّف والعادات المنحرفة والتقاليد الضالة والأفكار الخاطئة، عندما يجعل القرآن منطلق فكره وخطه الذي ينظر من خلاله إلى الحياة ومواقع المعرفة فإنه يسير في نور يكشف له كلّ هذه الظلمات وينقذه منها.
وقال الصادق(ع): «كان في وصية أمير المؤمنين أصحابه: إعلموا أنّ القرآن هدى النهار». فهو يهديهم في النهار بالطرق التي أراد سبحانه لهم أن يسلكوها «ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة»( ). أي أنه يهدي الناس إلى حركتهم في الحياة عندما يُجهدون ليفتح لهم أبواب الراحة، وعندما يعيشون في الفاقة ليفتح لهم أبواب الغنى، غنى العقل والقلب والحياة وذلك بأن يدلّهم على المنهج الذي يستطيعون من خلاله الحصول على الاكتفاء الذاتي في مواقع حياتهم كلّها.
ويقول(ع) عن علي(ع) في وصيته «إن القرآن زاجر وآمر يأمر بالجنّة ويزجر عن النار»( ). فهو يحدّثنا عن الجنّة على أساس أنها كآل المؤمنين العاملين بالصالحات، وعن النار باعتبار أنها نهاية الكافرين والضالين والمنحرفين.
الحجّة على فكر الحق:
وينقل(ع) عن رسول اللّه(ص) أنه قال «إن على كلّ حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً». فكل حق هناك برهان يؤكده ويؤكد معنى الحقيقة فيه، وكلّ صواب وصدق هناك نور وحجّة تؤكد معنى الصدق في داخله. فإذا كان الأمر كذلك فما هي الحجّة على فكر الحق؟ وما هو البرهان على فكر الصواب؟
والناس في ذلك حائرون، فهذا يحدّثهم عن فكر وذاك يحدّثهم عن فكر وهذا عن منهج وذاك عن منهج آخر فيضيعون فلا يعرفون التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، ويقول رسول اللّه(ص) إن الحقيقة في الفكر والنور في الصواب هما في القرآن.
فلتقرأوا القرآن كلّه «فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فدعوه»( ). وعلى ضوء هذا كان الكتاب هو القاعدة، وكأن رسول اللّه(ص) يريد أن يقول للناس وقد كثرت الكذّابة عليه، أيّها الناس إذا أردتم أن تعرفوا ما قلت وأنا لا أقول إلاّ الحق ولا أتحدّث إلاّ بالصواب، وقد يخلط الناس فيما ينسبونه إليّ من كلام بين الحق وبين الباطل وبين الصواب وبين الخطأ، فأنا رسول اللّه وبيدي كتاب اللّه ووحيه، وهو النور الذي يمكنكم أن تضيئوا به الكلمات والأفكار والاتجاهات والمناهج كلّها.
ويقول أحد أصحاب الإمام الصادق(ع) وهو (عبد اللّه بن أبي يعفور) الذي كان قد حضر في مجلس للإمام «سألت أبا عبد اللّه(ع) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به». فماذا نأخذ وماذا ندع ونحن نملك تركة كبيرة، واسعة مما يتحدّث به الناس عن أهل البيت(ع) ومما يؤوّلون به القرآن لحساب هذه الرواية أو تلك أو يخرجون به عن ظاهر القرآن، ومما يمكن أن يكون مصادماً له. وربما نجد من الناس من ليس لديه استعداد لأن يطرح حتى الأحاديث المخالفة للقرآن لأنه يحاول أن يؤوّل هذا بتأويل قد يضرّ القرآن حفاظاً على الحديث، لأن هناك كثيراً من تقديس الحديث حتى الذي لم يوثّق سنداً أو مضموناً.
يقول الإمام(ع): «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه(ص) وإلاّ فالذي جاءكم أولى به»( ). أي اعرضوا الأحاديث التي تسمعونها على كتاب اللّه وقول رسول اللّه لأن أهل البيت لا يحدّثون إلاّ بما قاله اللّه في كتابه وقاله رسول اللّه(ص) في سنّته، فإن وافق الحديث كتاب اللّه وسنّة رسوله فاقبلوه وإلاّ قولوا لمن يرويه لا حاجة لنا بحديثك.. أنت أولى بحديثك.
وعن أيوب بن الحر: قال: سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول: «كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف»( ). أي يحاول صاحبه أن يزخرفه ويزّينه حتى يشبه كتاب اللّه وحديث رسول اللّه(ص) وهو ليس كذلك، فلابد من النظر إلى ظاهر الكتاب وظاهر الحديث، فإذا رأيتم أن ظاهر الحديث يختلف عن ظاهر الكتاب فاطرحوه واضربوا به عرض الجدار.
ويقول الإمام الصادق(ع): «من خالف كتاب اللّه وسنّة نبيه فقد كفر»( ). لأن الإيمان باللّه يقتضي إتباع كتاب اللّه، والإيمان برسوله يقتضي اتباع سنّة الرسول(ص) وعلينا أن نعرف أنه ليس عند أئمة أهل البيت(ع) أيّ شيء خارج عمّا قاله اللّه في كتابه أو قد بيّنة رسول اللّه في سنّته. والإمام الصادق(ع) كان يقول: «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين(ع) وحديث امير المؤمنين حديث رسول اللّه(ص) وحديث رسول اللّه قول اللّه عز وجل»( ). فمن يزعم أن لدى أهل البيت(ع) شيئاً زائداً عن الإسلام وعن كتاب اللّه وسنّة رسوله فهو يسيء إلى أهل البيت(ع) لأنهم هم أئمة الإسلام الذين يؤصّلون لنا فكر الإسلام من خلال تأصيل ما جاء عن رسول اللّه(ص) وعن اللّه سبحانه وتعالى في كتابه.
حافظ القرآن وحامله:
ويحدّثنا عن الحافظ للقرآن العامل به، ليس حفظَ الكلمات فقط بل حفظ الفكرة والخط والأفق والعمل به أيضاً، فيقول(ع): «الحافظ للقرآن العامل به مع السفَرَة الكرام البرَرَة»( ). أي مع الملائكة. ويحدّثنا عن الحاملين للقرآن فكراً ومنهجاً وكلمة ودعوة وحركة، كيف هي أوضاعهم مع الناس؟ كيف هو سلوكهم؟ فهو يقصد علماء القرآن الذين انطلقوا من القاعدة القرآنية التي حملوها في عقولهم وقلوبهم وفقههم وتراثهم الفكري كلّه. فاللّه حدّثنا عن التوراة فقال {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}. فقد حملوها كلمات وكتاباً ولم يحملوها فكراً ومنهجاً وحركة واستقامة وما إلى ذلك. ويقول عنهم {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}( ).
فالصادق(ع) ينقل هذا المعنى عن رسول اللّه(ص) فيقول: «إن أحقّ الناس بالتخشّع في السرّ والعلانية». أن يكون خاشعاً له في سرّه وفي علانيته «لحاملُ القرآن، وإنّ أحقّ الناس في السرّ والعلانية بالصلاة والصوم لحامل القرآن»( ).
ثم نادى رسول اللّه(ص) بأعلى صوته «يا حاملَ القرآن». والكثيرون من حَمَلَة القرآن يتكبرّون عليه، والكثيرون منهم يستطيلون به على الناس، والكثيرون يتحوّلون إلى طبقة ينظرون من خلالها إلى الناس من فوق، والكثيرون من حاملي القرآن يعيشون في أبراج عاجية دون أن ينزلوا إلى حياة الناس ليكون كل واحد منهم كما كان رسول اللّه(ص) «كان فينا كأحدنا». وكما كان الرسل كلّ رسول منهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق متواضعاً.
«يا حامل القرآن تواضع به يرفعك اللّه». فكلّما ارتفعت بالقرآن درجة في المعرفة ودرجة في الروحية تواضع ليرفعك اللّه «ولا تعزّز به فيذلّك اللّه». أي أنك إذا تكبّرت وتجبّرت أذلّك اللّه. «يا حامل القرآن تزيّن به للّه». في أخلاقك وروحانيتك وانفتاحك وخدمتك للناس ورحمتك بهم. «يا حامل القرآن تزيّن به للّه يزينك اللّه به». فيجعله زينة لك يشرق به وجهك وتنفتح به حياتك على الناس. «ولا تزيّن به للناس فيشينك اللّه به». تزيّن به للّه بانفتاحك عليه ولا تحاول أن تتظاهر به وأن تتزين به أمام الناس ليرفع الناس درجتك فيشينك اللّه به.
«ومن ختم القرآن». وتدبّره وعاشه وتأمّله وعمل به «فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه». لأن عظمة النبوّة أنها تحمل القرآن عقلاً وروحاً فكراً وحركة وحياة، فمن ختم القرآن وهو يتأمّله ويتدبّره ويثقّف عقله به ويرفع روحيته به ويتحرّك به فإن النبوة تدرج بين جنبيه ولكنه لا يوحى إليه، فهو يعيش فكر النبوّة وإن كان ليس نبياً. «ومن جمع القرآن لا يجهل مع من يجهل عليه ولا يغضب فيمن يغضب عليه، ولا يحدّ فيمن يحدّ». أي يعيش مع القرآن فيبعده عن الجهل والغضب «ولكنه يعفو ويصفح ويغفر ويحلم لتعظيم القرآن». إذاً لابد أن ينعكس القرآن على حياته ليحاول أن يجسّده في حياته. «ومن أوتي القرآن». في فكره وروحه «فظنّ أن أحداً من الناس أوتي افضل مما أوتي فقد عظّم ما حقّر اللّه وحقّر ما عظّم اللّه».
فلو أن اللّه تعالى أعطى إنساناً القرآن في علمه وروحه وما اشتمل عليه، فقد أعطاه الغنى كلّه والسعادة كلّها، ولو فكّر حامل القرآن ـ الذي جمع له القرآن في عقله وقلبه وحركته ـ أن فلاناً الذي يملك الغنى هو أعظم منه، أو تصوّر أن فلاناً الذي يملك الجاه هو أعظم منه، فقد حقّر ما عظّم اللّه وهو القرآن، وعظّم ما حقّر اللّه وهو المال والبنون وما إلى ذلك من شؤون الحياة الدنيا، لأن اللّه تعالى يقول {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}. وهي مما أضاء اللّه به حياة الناس {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا}(الكهف/19).
أصناف الناس إزاء القرآن:
وعن الصادق(ع) عن أبان بن تغلب، قال: «الناس أربعة، فقلت جعلت فداك، وما هم؟ فقال: رجل أوتي الإيمان ولم يؤت القرآن». أي أنه مؤمن لكنه لا يملك المعرفة القرآنية «ورجل أوتي القرآن ولم يؤت الإيمان». إي ليس لديه الروحية القرآنية، فهو يمتلك ثقافة القرآن. «ورجل أوتي القرآن وأوتي الإيمان ورجل لم يؤت القرآن ولا الإيمان. قال: قلت: جعلتُ فداك فسّر لي حالهم. فقال: أمّا الذي أوتي الإيمان ولم يؤت القرآن فمثله كمثل الثمرة طعمها حلو ولا ريح لها، وأمّا الذي أوتي القرآن ولم يؤت الإيمان فمثله كمثل الآس ريحها طيّب وطعمها مرّ، وأمّا من أوتي القرآن والإيمان فمثله كمثل الأترجّه ـ وهي ثمرة من جنس الليمون ناعمة الورق والحطب ـ ريحها طيّب وطعمها طيّب وأمّا الذي لم يؤت الإيمان ولا القرآن فمثله كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريحة لها»( ). فاختاروا لأنفسكم في أيّ صنف تريدون أن تكونوا من خلال ما تتمثلونه في ذلك.
تقسيم القرآن:
ويقول الإمام الصادق(ع) «إن القرآن نزل أربعة أرباع، ربعٌ حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم»( ).
ومن خلال ما تقدّم ـ وغيره كثير لا يتسع له المقام ـ نخلص إلى أن علينا أن نرجع إلى القرآن لنقرأه ونتدبّره ونفهمه ونعرض عليه مشاكلنا وقضايانا، ونستهدي به في كلّ دروب الحيرة والضياع والتمزّق، وأن نرجع إليه في كل ما اختلفنا فيه من شؤون المعرفة والحياة، لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب/36) ويقول سبحانه وتعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}. وحكم رسول اللّه حكم القرآن {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء/65).
لقد ابتعدنا عن القرآن كثيراً فأصبح عندنا كلمة نحفظها ونغمة نستغرق فيها ولم يعد فكراً نفكّر به وعقيدة ننطلق منها وسنناً وأحكاماً وشرائع نتمثلها.
أيها الأحبة: إن القرآن كلمة اللّه فمن لا يجعل كلمة اللّه عقلاً يعقل به، وقلباً ينبض به وحركة تهديه إلى سواء السبيل فإنه يعيش الضياع كلّه ويبقى في التيه ولا يصل إلى نتائج إيجابية ومرضية. والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة الخامسة: 5 ذو القعدة 1419 هالموافق 20/2/1999م


المعيار في الإسلام والكفر


* إن اللّه لا يشترط في اعتبار الإنسان المسلم مسلما الاعتقاد بما يعلنه من إسلامه، بل يكفي أن يعترف بالإسلام وأن يتحرّك في الخطوط العامّة له *




 نعي الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر (رض)
 في أجواء ذكرى الإمام الصادق(ع)
 المعيار في الإسلام والكفر
 ثلاثة اتجاهات
 الشهادتان والقيام بالفرائض
 الاستماع لما عند الآخر
 لماذا نتعب إسلامنا؟!

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
نعي الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر (رض)*:
عظّم الله أجورنا وأجوركم وأجور المسلمين بهذا المصاب الجلل الذي استهدف عالماَ كبيراً مجاهداً عاش حياته منذ شبابه وهو يدافع عن الإسلام، فلقد كنا ونحن في (مجلة الأضواء) في عام 1380هـ نستقبل شاباً طاهراً طّيباً تشعر بالطيبة والطهارة تفيض على وجهه، وبالروح الإسلامية تتحرك في مواقفه كلّها... فلقد كان يأتي بكلماته إلى (الأضواء) تلك الكلمات التي تعالج قضايا مهمّة لم يكن مجتمع النجف يعالجها آنذاك.
وأنطلق وهو تلميذ ابن عمّه الشهيد السعيد محمد باقر الصدر (رض) حيث عاش حياته معه، وكان الشهيد الصدر قد تنّبأ في مقدمة كتبها لما ألّفه السيد محمد الصدر من (موسوعة الإمام المهدي(عج» بأنه سيكون له شأن كبير في حركة العلم والبحث والانفتاح. وعاش آلام شهادة الشهيد السعيد الصدر وأخته العلوية (بنت الهدى) وعاش مأساة العراق ودخل السجن وعانى الاضطهاد.
وانطلق في خط المرجعية وظلمه الكثيرون ولا يزالون يظلمونه عندما قالوا عنه إنه (مرجع السلطة في العرق) وقالوا عنه كلمات ـ كنا نرى منذ البداية ـ أنها كلمات يأثم صاحبها، وإنني أعتقد أن بعض هؤلاء لو كانوا في زمن أئمة أهل البيت(ع) لاتهموهم بالممالئة للسلطة لأن الذهنية هي نفس الذهنية.
إنني لأتصور طيبته وطهارته وصفاء نفسه، وأنه كان يرى، سواء ناقشته فيما يرى أو لم تناقشه ـ أنه يستطيع أن يقوم بخدمة للإسلام من خلال ما قد يعتبر تقية أو ما أشبه ذلك. ولم ينقل عنه في كلّ حركة مرجعيته أنه قال كلمة في السلطة بالطريقة التي توحي أنه يؤيدها من الناحية الفكرية أو السياسية، فأنا ـ على الأقل ـ لم أسمع ولم ينقل لي شيء من هذا.
وربما كان هناك نوع من الهدنة أو من المداراة التي كان يرى باجتهاده أنها مشروعة لاسيما في وضع كالوضع الذي عاشه في العراق في ظلّ نظام من أكثر الأنظمة شراسة في الجريمة في العالم. فأن تكون خارج العراق لتعلّق على بعض المواقف شيء، وأن تكون في داخل الزنزانة  - حتى وأنت تتحرك في مدينتك - شيء آخر. فلابدّ لنا أن ندرس كلّ ظروف أهلنا وإخواننا هناك، وعلى الإنسان المؤمن عندما يريد أن يحكم على أيّ شخص لاسيما في مثل هذا الرجل الذي أتحف الثقافة الإسلامية علماً وفقهاً، لابد أن يدرس ظروفه النفسية وظروف الساحة والواقع الذي يحيط به ويعيشه. فلقد أصبحنا نقلب كلمة الإمام علي(ع) التي يقول فيها «ضع أمر أخيك على أحسنه ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا»(1). حيث أصبحت: ضع أمر أخيك على أسوئه ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك خيراً وأنت تجد لها في السوء محملا. ولقد أصبحنا نغلب احتمالات الشرّ على احتمالات الخير ونظلم الناس على هذا الأساس، ونحن نعرف القاعدة الحضارية الإنسانية التي تقول «المتهم بريء حتى تثبت إدانته». والإدانة تحتاج إلى حيثيات دقيقة في دراسة الموقف والكلمة، لأن من الممكن أن تكون هناك بعض الظروف الدقيقة التي قد تسمح للإنسان بأن يتكلم بكلمة معينة أو يقف موقفاً معيناً. ونحن نقرأ في أحاديث أهل البيت(ع) كيف كانوا يواجهون الظروف الصعبة التي كانت تحيط بهم بما كانوا يواجهونها به من مداراة حفظا للخط حتى يستمر الخط الأصيل ومن أجل حماية المعارضة والجهات الممانعة.
ومن الطبيعي فإن للتقية حدوداً ولها برامج وقوانين، ولكن علينا أن لا نعذر أنفسنا فيما لا نعذر فيه الناس: «اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك»(2). فالكثيرون ممن يسجّلون ملاحظات قاسية لو كانوا في نفس الموقع، ترى ماذا كانوا يفعلون؟
نحن لا نريد أن نتبنّى الأسلوب كلّه، فقد يكون لنا رأي فيه، فقد نؤيد أسلوباً ونعارض آخر، ولكن هناك فرقا بين أن تعارض أسلوباً معيناً لتجد أنه خطأ أو أن تحكم على الذي يمارس هذا الأسلوب بالخيانة وما أشبه ذلك مما يتحدث به البعض. فقد يخطئ إنسان معين في فكرة ولكنه قد يكون معذوراً في خطأه.. ألسنا نقول بأن للمجتهد أجرين إن أصاب وأجراً إن أخطأ..
فنحن عندما ندرس مبادرته الثورية في صلاة الجمعة التي استطاعت أن تعيد هذه الروح الإسلامية التي غابت عن الشارع العراقي بعد الضغوط التي تسببت في إلغاء مجالس العزاء والمواكب الحسينية وكلّ الحريات.. نرى أن الناس كانوا يتنفّسون الصعداء بالذهاب إلى زيارة الأئمة(ع) وكانت الزيارات المكثفة التي لم يعرفها الناس في تأريخهم هي المتنفس الوحيد، حتى أننا لم نكن نعرف أن هناك أناساً يسيرون على أرجلهم من (البصرة) إلى (كربلاء) لكن هذه المسيرات كانت تمثل المعارضة الصامتة والثورة الصامتة.
وعندما جاءت صلاة الجمعة استطاعت أن تكون المتنفّس للكلمة الإسلامية والموعظة الدينية، ولذلك أيدّناها بكلّ قوة لأن صلاة الجمعة هي الصلاة التي حرمنا منها في مدى القرون، فهي الصلاة التي تجمع المسلمين في كل منطقة ليلتقوا في أجوائها وليسمعوا الكلمات التي تتصل بحياتهم. وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة كيف بدأ الشهيد السعيد السيد محمد صادق الصدر (رض) يخرج عن هذا الطوق حيث راح يتكلّم كلمات فيها من المعارضة ومن النقد للسلطة الشيء الكثير، واعتقد أن جريمة قتله كانت ردّ فعل لما أثاره من التهديد للسلطة بما يمكن أن يقوم به الناس ضدها إذا لم تطلق سراح أئمة الجمعة الذين اعتقلتهم قبل أسابيع.
إن هذا الموقف الذي وقفه الشهيد السعيد كان القمة في إطلاق كلمة الحق، ولعلّ السلطة لم تصبر على ذلك لأنها لا تتحملّ أن تقال كلمة قوية في وجهها، ولم تكن تتصور أن الوضع سوف يمتدّ إلى هذا الالتفاف الجماهيري الكبير، ولذلك ربما خطّطت لشيء ولكنها انطلقت لتلتقي بشيء ربما يهدّد وضعها في المستقبل، لأن هناك صلاة تجمع الناس، وعندما يجتمع الناس في صلاة واعية فإن من الطبيعي أن ينفتح هذا الوعي وأن يتحرك وأن يعبّر عن نفسه لاسيما في هذه الظروف السياسية التي تحاصر السلطة عربياً ودولياً كما تحاصرها محليا.
إننا نعتقد أنه الشهيد المظلوم وأنه الرجل الذي أعطى الإسلام الكثير في كتبه ونشاطه، ولقد انطلق من أجل أن يؤكد حركية الإسلام بحسب ما يتسع له ظرفه، فلا يجوز الحديث عنه بسوء، وقد يملك أحد أن يتحدث عن خطأ في الأسلوب أو في الاجتهاد كما يتحدث عن كل المجتهدين، ولكن أن يتحدث عنه بسوء فهذا ظلم له، لذلك نقول للذين يتحدثون بهذا الاتجاه لقد ُظلم هذا الإنسان الكبير من قبل الطاغية فلا تضيفوا إلى ظلامته ظلامة أخرى.. لقد اغتاله النظام الطاغي جسدياً فلا تغتالوه معنوياً، فمن الممكن أن تناقشوا بعض كلماته وأساليبه، ولكنكم لن تستطيعوا أن تقدحوا في كونه إنساناً صالحاً تقياً يخاف الله ويعمل بما يعتقد أن الله يعذره فيه.
إننا نشعر بخسارة كبيرة، وبظلامة كبيرة جداً، ونشعر بالمأزق الذي يعيشه هذا الشعب الذي تعذّب كثيراً من حاكمه ومن خلال الواقع الدولي ولا يزال يعذّب جوعاً وتشريداً وسجناً وقتلاً وغير ذلك، ولعلّ من أشد عذاباته ما يعانيه الآن من هذه الجريمة، ولا ندري كيف سيكون ردّ الفعل هناك، لكننا سمعنا أن هناك ردود فعل غاضبة، ولكننا نعرف أن العراق كلّه يعيش في سجن كبير في بلد تحكمه المخابرات ويحكمه الحديد والنار.
فليكن الصوت واحداً ضد هذه الجريمة، ولا تتركوا للخطوط هنا وهناك أن تتحرك بين من يشمت وبين من يأثم في كلماته.. ليكن الصوت واحداً.. فلقد كان هذا الرجل شهيداً مظلوماً عاش من أجل الإسلام.. ومات من أجل الإسلام.. وعلينا أن نحفظ البقية الباقية من الحوزة العلمية في النجف التي اغتالها النظام.. ومن المراجع الذين كانوا ولا يزالون في خطر.
رحم الله الفقيد الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر، وإلى روحه الفاتحة.
في أجواء ذكرى الإمام الصادق(ع):
هناك عنوان كبير لا نزال نعيشه في واقعنا الإسلامي وهو يتمحور في محور حيوي في علاقة المسلمين ببعضهم وهو هذه النظرة السلبية التي ينظر بها المسلمون إلى بعضهم البعض عندما ينكر بعضهم أمراً يعتقده البعض الآخر، ويرى أن هذا الأمر من الأمور الأساسية في العقيدة فيكفّر المسلمين الآخرين لأنهم لم يعتقدوا بهذه العقيدة. ونجد الفريق الإسلامي الآخر يتحدّث بهذه الطريقة السلبية أيضاً. فنحن نعرف أن هناك فريقاً من السنّة يكفّرون أهل الشيعة، ونرى أن هناك فريقاً من الشيعة يكفّرون أهل السنّة لأن كلّ فريق يتصوّر أن الفكرة التي يلتزمها تعتبر أساسا في الإسلام، فمن أنكرها فليس بمسلم، وقد تكون هذه المسائل اجتهادية، وقد تكون حقيقة إسلامية ولكن قد تغيب فيظل بعض الاجتهادات او التبريرات.
المعيار في الإسلام والكفر:
فعلينا ـ أيها الأحبة ـ أن نعرف ما هو الأساس أو المعيار في أن يكون الإنسان مسلماً أو أن يكون كافراً. ففي الخط العام للإسلام نقرأ في القرآن أن الله لا يشترط في اعتبار الإنسان المسلم مسلماً الاعتقاد بما يعلنه من إسلامه، بل يكفي أن يعترف بالإسلام وأن يتحرّك في الخطوط العامة العملية للإسلام: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(3). فلقد كان البعض من الناس يدخل الإسلام رغبة ليحصل على مكاسب الإسلام، وكان البعض منهم يدخل في الإسلام رهبة من قوة الإسلام وبسط هيمنته، ونحن نعرف أن الإسلام جعل في الزكاة سهماً للمؤلّفة قلوبهم، هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام ولم يثبت إسلامهم في أعماقهم ووجدانهم.
وكانت سيرة النبي(ص) وسيرة الأئمة(ع) من بعده أنهم يتعاملون مع الذين يختلفون معهم حتى في خط الإمامة تعامل المسلمين سواء في الزواج أو في العلاقات العامّة والخاصة. فقد تحكم على إنسان أنه مسلم ولكنك تعتقد ضلاله لأنه اعتقد ببعض العقائد أو ببعض الالتزامات التي لا تراها إسلامية بحسب اجتهادك وفكرك. فمن الممكن أن يكون هناك مسلم منحرف بحسب ما تعتقده، وربما يراك الآخر منحرفاً بحسب ما يعتقده. والله أشار إلى هذا فقال {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(4). فعندما تتنازعون في أية فكرة ترتبط بالدين ومفاهيمه وعقيدته، حاولوا أن ترجعوا إلى الله في كتابه لأنه هو القاعدة الفكرية والأساس في إسلامية أيّ فكر أو أيّ خط. ولأن النبي(ص) في سنّته يمثل الأساس في تفاصيل الخطوط الإسلامية {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(5).
فهذا هو الذي يمكن أن يؤصّل لنا مواقعنا الإسلامية وأن يجمعنا على كتاب الله وسنّة نبيّه بالطرق العلمية الموضوعية الهادئة المرتكزة على أن هناك علماً يناقش علما، وأن هناك فكراً ينفتح على فكر في هدوء العقل واستقامة الكلمة وروحية المتحاورين على أساس أن يعتبرا نفسيهما سائرين من أجل تأكيد الحقيقة.
ولقد كان بعض هذا الجدل دائراً في المجتمع الخاص للإمام الصادق(ع) وأعني مجتمع أصحابه حيث ينقل صاحب (الكافي) بعض الحوار الذي دار بين شخصين من أصحاب الإمام الصادق(ع) وكيف نقل هذا الأمر إليه، وكيف علّق عليه ـ وعلينا أن ندقق في هذه المسألة جيداً لأن الإمام الصادق(ع) هو الذي يتكلّم، فهو يقول ليس لكم أن تقولوا شيئاً ما لم تسمعوه منّا.
فعن هاشم (صاحب البريد) كما في الجزء الثاني من (أصول الكافي) قال: «كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطّاب مجتمعين، فقال لنا أبو الخطاب: ما تقولون فيمن لم يعرف هذا الأمر (أمر الإمامة) فقلت من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر، فقال أبو الخطاب: ليس بكافر حتى تقوم عليه الحجّة، فإذا قامت عليه الحجّة فلم يعرف فهو كافر، فقال له: محمد بن مسلم: سبحان الله ماله إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر؟ ليس بكافر إذا لم يجحد».
ثلاثة اتجاهات:
فإلى هذا الحد من الرواية نلاحظ أن هناك ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: اتجاه الراوي صاحب البريد، وهو أن من لم يلتزم بأمر الإمامة التزاماً ثقافياً وعقيدياً فهو كافر. والاتجاه الثاني الذي يمثله أبو الخطاب الذي يقول إذا قامت عليه الحجّة ولم يلتزم فهو كافر، فينتظر في الحكم بكفره قيام الحجّة عليه. والاتجاه الثالث: لو قامت عليه الحجّة ولكنه لم يلتزم ولم يجحد، أي بقي في حالة اللاموقف، أو الشك، فليس بكافر، فالكفر هو الجحود، فإذا جحد مع قيام الحجّة عليه بأن هذا يمثل أصلاً إسلامياً، فعند ذلك يمكن أن نحكم بكفره، أمّا الإنسان الذي يكون وضعه وضع اللاموقف أو الشاك فليس بكافر.
ونستمر في تتمة الرواية «قال فلمّا حججت دخلت على أبي عبد الله(ع) فأخبرته بذلك، فقال: إنك قد حضرت وغابا ولكن موعدكم الليلة الجمرة الوسطى بمنى. فلمّا كانت الليلة اجتمعت عنده وأبو الخطاب ومحمد بن مسلم فتناول وسادة فوضعها في صدره، ثم قال لنا: ما تقولون في خدمكم ونسائكم وأهليكم أليس يشهدون أن لا إله إلا الله. قلت بلى، قال: أليس يشهدون أن محمداً رسول الله، قلت: بلى، قال: أليس يصلّون ويصومون ويحجّون، قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه، فقلت: لا، قال فما هم عندكم، قلت: من لم يعرف (هذا الأمر) فهو كافر.
قال: سبحان الله أما رأيت أهل الطريق وأهل المياه، قلت: بلى، قال: أليس يصلّون ويصومون ويحجّون؟ أليس يشهدون أن لا إله الا الله وأن محمداً رسول الله، قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه، قلت: لا، قال: فما هم عندكم، قلت: من لم يعرف (هذا الأمر) فهو كافر.
قال: سبحان الله أما رأيت الكعبة والطواف وأهل اليمن وتعلّقهم بأستار الكعبة، قلت: بلى، قال: أليس يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ويصلّون ويصومون ويحجّون، قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه، قلت: لا، قال: فما تقولون فيهم؟ قلت: من لم يعرف فهو كافر.
قال سبحان الله هذا هو قول الخوارج: «فهم يقولون: كل من فعل كبيرة أو صغيرة وأصرّ عليها، فهو كافر خارج عن الإسلام مستحق للقتل، ولذا حكموا بكفر أمير المؤمنين(ع) للتحكيم مع أنهم أجبروه عليه. ثم قال: إن شئتم أخبرتكم، فقلت: أنا، لا». أي أنه لم يكن مستعداً للتخلّي عن هذه الفكرة، فهو يعرف أن الإمام من خلال أسلوبه في إنكاره عليهم ذلك، أي في أن هؤلاء مسلمون لأنهم يشهدون الشهادتين ويقومون بفرائض الإسلام، سوف يقنعه بتغيير رؤيته.
«فقال: أما إنه شرّ عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا، قال: فظننت أنه يديرنا على قول محمد بن مسلم»(6). أي أنهم إذا كانوا لم يلتزموا ولم يجحدوا بعد قيام الحجّة عليهم فلا يمكن أن نحكم عليهم بالكفر.
الشهادتان والقيام بالفرائض:
هذا هو ما تحدّث به الإمام الصادق(ع). وهناك أكثر من رواية في المضمون نفسه لا يتسع لها المقام، ومن بينها «أن شخصاً كان جالساً إلى جانب الإمام فقال له ما مضمونه: أن كلّ الناس في النار إلاّ نحن، فقال له: أين المرجون لأمر الله، أين المستضعفون في الأرض؟ فهذا هو الخط الذي رسمه الإمام الصادق(ع) الذي أراد أن يبيّن من خلاله أن أساس الإسلام الذي تحقن به الدماء والذي يحلّ به التزاوج وتتحرك به العلاقات الإسلامية هما الشهادتان والقيام بفرائض الله، والاستعداد للالتزام بالإسلام من الناحية العملية، وتبقى مسألة الانحراف الفكري فيما هو حقيقة إسلامية هناك، وحقيقة إسلامية هنا، في مجالات الحوار وفي الموقف عند الله {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}(7). ولله الحجّة على عباده وليس لعباده أية حجّة عليه».
فلندرس الأمور على أساس الحوار العلمي الموضوعي فيما يختلف فيه المسلمون لننفتح بعضنا على البعض الآخر ولنقيم الحجّة على بعضنا البعض من موقع الأخوة الإسلامية، فإن كلّ آية وردت في القرآن الكريم أتي فيها بكلمة (المؤمن) أريد بها الإسلام، أي المسلم الذي اعتقد بالإسلام، وهذا ما ذكره السيد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله) في أبحاثه الفقهية، وهو أن كلمة المؤمن {إنما المؤمنون إخوة}(8). وغيرها يراد بها كل مسلم يشهد الشهادتين ويعتقدهما من دون فرق بين مسلم ومسلمة، وليس معنى ذلك أن نتسامح تسامحا ثقافياً فيما نلتزمه مما نختلف فيه مع الآخرين، فليس معنى ذلك أن نخضع الفكر الإسلامي للمجاملة لنتنازل عن خط فكري هنا وخط فكري هناك، ولكن الله أراد لنا أن نأخذ بالحجة فيما نلتزمه، كما نأخذ بالحجّة فيما يلتزم به الآخرون عندما نريد أن ندخل معهم في حوار.
الاستماع لما عند الآخر:
أيّها الأحبة: إن الواقع الإسلامي الثقافي في مدى التأريخ خلّف أوضاعاً نفسية معّقدة سلبية بحيث عطلّت حيادية الفكر فيما يناقشه الفكر، فاصبح كل فريق يفكر في دائرة الحوار بما عنده من دون أن يكون مستعداً لأن يسمع ما عند الآخر. وهذه هي النفسية التي لا نقول إنها شاملة، فهناك من الفريقين من يملكون هدوء العقل وموضوعية الفكر، ولكن الظاهرة العامّة هي أننا عندما نتحاور فإننا نتحاور من موقع العقدة لا من موقع الفكرة على طريقة أن كل إنسان يريد أن يسجّل نقطة على الإنسان الآخر، بقطع النظر عن الأسلوب الذي تسجّل به تلك النقطة.
إن التحديات الكبرى التي نواجهها كمسلمين في المسألة الثقافية والسياسية والاقتصادية، تفرض علينا أن نجمّع النقاط الإيجابية لا أن نسجلّ النقاط السلبية على بعضنا البعض، فنحن مسؤولون عن تجميع كل النقاط الإيجابية التي تجمعنا، وأن نعالج النقاط السلبية التي تفرّقنا. والله يقول لنا  {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}(9). ويقول {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(10). فكم بيننا وبين أهل الكتاب من فروق في تصوّر الله والتوحيد والكثير من الخطوط الفكرية والشرعية، ومع ذلك يقول ربّ العزّة قولوا لهم تعالوا إلى كلمة سواء، لأنكم إذا وقفتم على أرض السواء حصلتم على جو روحي ومناخ اجتماعي يمكن أن يساعدكم إذا وصلتم إلى الكلمة الفراق أن تعالجوها بحكمة وروية وعدالة وموضوعية. فالانطلاق من موقع الوحدة في العقيدة والسياسة والاجتماع يساعدنا على أن نعرف كيف نعالج الموضوع الذي نفترق فيه.
لماذا نتعب إسلامنا؟
أيها الأحبة: إنّ مشكلتنا هي إننا نتعب إسلامنا، فكم أتعبناه في هذه السلبيات النفسية المعقّدة التي ينقلها جيل إلى جيل، وكم أتعبنا الإسلام بالحقد الذي يحمله مسلم على مسلم بما لا يحمله ضد الكافر.
إن الله ورسوله جعلا الإسلام أمانة في أعناقنا حتى ننقله من جيل إلى جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فتعالوا ننقل إلى الجيل القادم من أولادنا وأحفادنا إسلاماً نعتصم فيه بحبل الله جميعاً.. إسلاماً عقلانياً موضوعياً ينطلق به المسلمون ليتحركوا بالحوار فيما يختلفون فيه، تماماً كما هو المنهج فيما يتحرك به المسلمون بالحوار فيما يختلفون فيه مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن ومع غير أهل الكتاب من المشركين والكافرين بالتي هي أحسن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(11). دينياً ومذهبياً وشرعياً وما إلى ذلك {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}(12). {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا}. تصبر عقولهم على خلافات الآخرين، وتصبر قلوبهم على سلبيات الآخرين، وتصبر حركتهم على تعقيدات الآخرين {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(13). من الوعي والإيمان والروح الرسالية.
أين هؤلاء في مجتمع الحقد والعداوة والضغينة، وقد قال الإمام علي(ع) وهو الذي انفتح قلبه على الله فانفتح حتى على خصومه وأعدائه «إحصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك»(14). فمن يحمل الحقد في صدره لا يمكن أن يكون داعية، ومن يحمل العداوة في واقعه لا يمكن أن يكون رسالياً {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(15). {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلقٍ عَظِيمٍ}(16). تلك هي شخصية الرسالة في الرسول، وتلك هي أخلاقية الرسالة في الرسول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(17). والحمد لله رب العالمين.
 
المحاضرة السادسة: 12 ذو القعدة 1419 هالموافق 27/2/1999م


في ذكرى ولادة الإمام الرضا(ع)
المسؤولية في الواقع السياسي
والالتزام في الواقع الاجتماعي


* لقد عاش كلّ إمام تحديات عصره، سواء تحديات الحكم الذي واجه الخط الإسلامي الإماميّ بكلّ تعسّف، أو تحديات القضايا الفكرية التي كانت تثور بين وقت وآخر *



ذكرى ولادة الإمام الرضا(ع)
التحديات التي واجهها الأئمة(ع)
نشاطه العلمي في المدينة
ولاية العهد
دراسة تراث الإمام
القرآن قاعدة الثقافة الإسلامية
هل أفعال العباد مخلوقة؟
مفاضلة
قيمة الإنسان بجوهره
قيمة الحاكم بعدله
حديثان عن الرسول(ص)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ذكرى ولادة الإمام الرضا(ع):
في هذا اليوم حلّت ذكرى مولد الإمام الثامن من أهل البيت(ع) وهو الإمام علي بن موسى الرضا(ع). وعندما نثير ذكرى أي إمام من أئمتنا المعصومين الأطهار الذين فرض اللّه طاعتهم، نريد أن نعيش حركة الولاية في ولايتهم لأنهم يجسّدون الإسلام الأصيل النقي الذي أخذوه من عين صافية أي من جدهم رسول اللّه(ص). ولم تكن المسألة إرثاً في النسب ولكنها وعيٌّ في العقل والقلب والروح والحركة في جوانب الحياة كلها.
التحديات التي واجهها الأئمة(ع):
ولكل إمام من هؤلاء الأئمة عصر عاش تحدياته كلّها سواء كانت تحديات الحكم الذي فرض نفسه على الواقع آنذاك وواجه الخط الإسلاميّ الإماميّ بكل تعسّف وتعنّت وإرباك وحصار، أو تحديات القضايا الفكرية التي كانت تثور بين وقت وآخر في الواقع الإسلامي من خلال هذا النوع من لقاء الحضارات، لأن الإسلام كان قد انفتح على أكثر من حضارة وعلى أكثر من لون من ألوان المعرفة وذلك عندما بدأت الترجمة تدخل العالم الإسلامي، وبدأ المسلمون يقرأون فلسفة اليونان والطب والكيمياء وعلوم الأديان المختلفة. فلقد كانت الحياة الإسلامية تحفل بالكثير من التحديات الثقافية التي كانت تواجه الإسلام في عقيدته وشريعته ومناهجه ومفاهيمه في الكون وفي الحياة.
وكانت إلى جانب ذلك المشاكل السياسية الداخلية في الواقع الإسلامي وحركة الفتوحات خارج الواقع الإسلامي، وقد كانت ميزة أهل البيت(ع) أنهم كانوا يواجهون ذلك كلّه، فكان لكلّ إمام أسلوبه في التعامل مع الحكم بما يتفق مع حماية الطليعة المؤمنة المثقفة السائرة على الحق بالأساليب والوسائل الواقعية التي لا تعطي الحكم المنحرف شرعيته ولكنّها في الوقت نفسه تدرس الظروف في التعامل معه بكل حكمة ورويّة وحذر.
نشاطه العلمي في المدينة:
وكان الأئمة(ع) يواجهون كل مسألة فكرية مما يدور فيه الصراع بين المثقفين والمفكرين، وكانوا يحاورون العلماء والمفكرين من ذوي الاتجاهات المختلفة، ولذلك كان كلّ إمام يعيش عصره بكل قوة وانفتاح، وهذا ما تمثّل في عصر الإمام الرضا(ع). فقد كان، بعد وفاة أبيه الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) يدير حركة العلم في المدينة، وكان الناس من علماء وغير علماء يذهبون إليه ليسألوه وليستمعوا إلى دروسه ومواعظه، وليستنطقوه بأسئلتهم في كلّ ما يدور به الجدل ويتحرك الصراع فيه كما في الواقع السياسي الذي عاش الإمام مرحلته بين العباسيين أنفسهم في صراع (الأمين) و(المأمون) والحرب الطاحنة التي انتهت بانتصار المأمون على الأمين.
ولاية العهد:
 حيث فكّر المأمون بما قد يفسّره البعض بأنه كان ردّ فعل لالتفاف العباسيين ضدّه، فأراد أن ينقل الخلافة منهم إلى العلويين، أو أن هناك ـ حسب رواية اخرى ـ نذراً نذره، أو ما إلى ذلك مما لا نريد هنا الحديث عنه بالتفصيل. فقرّر أن يجعل ولاية عهده للإمام علي بن موسى الرضا(ع).
وفي عقيدتنا أنّ الإمام هو صاحب الحق في نفسه من خلال الأسس الشرعية الثابتة لذلك، ولكن هذه هي قصة تعقيدات الحياة عندما تبعد صاحب الحقّ عن حقّه، وقد قبل الإمام بذلك، وربما كان هناك رأي يقول أنه قبل ولاية العهد تحت ضغوط مورست ضده، كما في بعض الروايات. وقد يقول البعض إن الإمام رأى أنه يستطيع أن ينفتح على الواقع كلّه من خلال هذا الموقع الذي كان يعرف مقدماً أنه لن يتمّ له.
وأيّا كان الرأي، فقد لاحظنا أن الإمام(ع) وهو في طريقه إلى خراسان - حيث مركز حكم المأمون الذي استدعاه إلى هناك - كان يتمتع بثقة جماهيرية واسعة بحيث أن إقامته في المدينة طيلة ذلك الوقت لم تحجبه عن العالم الإسلامي آنذاك، فكان لا ينتقل من بلد إلى بلد إلاّ ويجتمع إليه الرواة ليأخذوا منه الحديث، فاستطاع الإمام(ع) في رحلته ومستقره أن يحوّل الموقع الذي كان يشغله إلى مدرسة للعلم وحركة في الوعي وساحة للثقافة.
دراسة تراث الإمام:
وعندما نريد أن ندرس تراث الإمام علي بن موسى الرضا(ع) فإننا نجده تراثاً متنوّعاً في ألوانه ومضمونه وأساليبه وحركيّته، وينقل لنا تأريخه أن المأمون، وهو المثقف الذي كان يتمتع من بين بني العباس بثقافة مميزة وبإيمانه بحرية الفكر في مضمار الحوار، كان يجمع إلى الإمام الرضا(ع) النصارى واليهود والبوذيين والصابئة وأصحاب الاتجاهات المادية، ليناقشوه في مجلس المأمون. وينقل تراثه أيضاً أنه كان يناقشهم ويفاجئهم بأنه مطّلع على كتبهم وعلى أفكارهم واتجاهاتهم التي ربما كانوا لا يعرفون بعضها، وبذلك حصل الإمام الرضا(ع) على الثقة الكبرى من خلالهم، بحيث ينقل إلينا تأريخه أنهم لم يستطيعوا أن يناقشوا أيّ فكر مما كان يقدّمه إليهم.
ومن خلال ذلك، نستفيد أن ارتباطنا بأهل البيت(ع) لابدّ أن يرتفع بنا لنكون الطليعة الواعية المثقفة المنفتحة على العصر الذي نعيش فيه، وأن لا نكون غرباء عن كل ما يثور في العصر وفي أية مرحلة من المراحل، وأن يكون علماء الإسلام هم الذين يحرّكون الإسلام في خط المواجهة وساحة الصراع، على أساس ما يقدّمه العلم من أفكار واتجاهات وقضايا متحركة فيما ينطلق به الإنسان في حياته.
فالأئمة(ع) نجحوا في أن يفتحوا الإسلام على كل عقل وكل قلب لأنهم حرّكوا الإسلام في تحديات العصر ولم يبعدوه عن ساحة التحدّي ليعيش في زاوية منكمشة هنا وزاوية منكمشة هناك.
فلقد كان لهم وعيّ الواقع كلّه، وعلينا أن يكون لنا وعيّ الواقع كلّه، بحيث ينطلق العلماء المسلمون ليتحرّكوا مع تطلّعات الجيل الجديد في كل ما يفكّر فيه وما يسأل عنه ويتحرّك فيه. إنّ العالم المسلم لن يكون حجّة للإسلام إلاّ إذا استطاع أن يقيم الحجّة على كلّ من يقف في وجه الإسلام ومن ينحرف عنه. لذلك فنحن ندعو إلى ثورة في الحوزات العلمية من أجل أن تخرّج لنا علماء ينفتحون على عصرهم كله إقتداء بالأئمة المعصومين (ع) الذين كانوا ينفتحون على قضايا العصر كلّه.
القرآن قاعدة الثقافة الإسلامية:
وفي هذا اللقاء نريد أن نلتقط بعض المفردات التي كانت يتحدث بها الإمام الرضا(ع) إلى من حوله. فلقد كان الأئمة(ع) يعملون على أن يتحدثوا عن القرآن باعتباره القاعدة التي ترتكز عليها الثقافة الإسلامية ويرجع إليها المسلمون في قضاياهم كلّها كما أراد اللّه لنا أن نعيش هذا القرآن، وأن لا نجعله على هامش ثقافتنا، كما نجده في بعض الخطوط الثقافية التي تحاول أن تقدّم الحديث على القرآن بما يجعل القرآن على هامش الحديث وليس العكس، فدور الحديث هو أن يفصّل ما أجمله القرآن ويفسّر ما أشكل فيه، ولابد لنا أمام أي بحث معرفي إسلاميّ أن نقرأ القرآن أولا لنستوحيه ونفهمه، ثم نرجع إلى الحديث لنعرف كيف فصّل هذا وفصّل ذاك.
يقول الإمام الرضا(ع) فيما روي عنه كما في (عيون الأخبار) باسناده إلى موسى الرازي قال: «ذكر الإمام الرضا يوما القرآن فعظّم الحجّة فيه». أي اعتبره الحجّة التي لا حجّة فوقها «والآية والمعجزة في نظمه». أي في أسلوبه المعجز الذي لم يستطع أحد أن يحاكيه أو يأتي بمثله. «قال: هو حبل اللّه المتين». والإمام هنا يتحدث بهذا التعبير انطلاقاً من تفسير  {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعًا}(آل عمران/103). الذي هو القرآن ـ كما في بعض التفاسيرـ ومن كلمة النبي(ص) عندما قال «إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي».
فالإمام(ع) هنا يستخدم هذه الكلمة القرآنية والنبوية في تعريف القرآن، ويقول «وعروته الوثقى». التي لابدّ للناس أن يتمسّكوا بها في ثقافتهم العقيدية والشرعية والمنهجية والحركية لأنها العروة الوثقى التي لا انفصام لها. «وطريقته المثلى». فهو طريقة اللّه التي إذا سار الإنسان عليها وصل إلى غايته في السعادة في الدنيا والآخرة. «المودّي إلى الجنّة والمنجي من النار». لأن القرآن هو الذي يبيّن لنا الأساس في طاعة اللّه التي توصل إلى الجنّة، ويبيّن لنا تفاصيل معصية اللّه التي تقود إلى النار. «لا يخلقُ على الأزمنة». فالقرآن يبقى جديداً مهما تقدّم الزمن لأنّ حيويته في داخله، فهو لا يأخذ هذه الحيوية من خلال عمره في شبابه عندما أنزله اللّه على رسوله بل إنه يعيش الحيوية الداخلية الدائمة التي تعطي الحياة في كل قراءة له وكل زمن يتحرّك فيه. «ولا يغثّ على الألسنة». أي لا يقلّ شأنه ولا قيمة  مهما تحركت به ألسن الناس، فهو يبقى قوياً وأصيلاً.
ثم يعلّل الإمام سبب بقاء القرآن جديداً على الأزمنة قوياً على الألسنة بقوله «لأنه لم يجعل لزمان دون زمان». فلو كانت حيوية القرآن تقتصر على الزمن الذي نزل فيه لما استطاعت الأزمنة القادمة أن تعيش الحياة من خلاله، لكن اللّه أودع فيه سرّاً بحيث أنك كلّما قرأت القرآن وكرّرته فإنك تستوحي شيئاً جديداً، وهذا ما عشت تجربته بنفسي، فمنذ أكثر من أربعين سنة وأنا أتحدث في القرآن وأفسّره وأجدني في كل مرة أقرأ فيها القرآن كما لو أنني لم أكن اقرأه قبل ذلك.
«بل جُعل دليل البرهان والحجّة على كل إنسان». سواء عاش في زمن النزول أو في الأزمنة اللاحقة، وإنما يكون حجّة ودليلاً على كلّ إنسان إذا واجه القضايا المستجدّة التي تعيش في هذا الجيل فيكون الحجّة على الإنسان في مواجهة القضايا التي يعيشها، أو في الجيل الآتي فيكون حجّة عليه، لأن الحجّة فيه متحرّكة وليست جامدة، فهو يعطي الفكرة حيوية بحيث تستطيع أن تواجه كلّ فكر مضادّ مهما كان لونه ومرحلته {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}(فصلت/42). ولذلك لا يمكن أن يناله التحريف بالزيادة والنقصان، فهو الحجّة فيما بين الدفتين وليست هناك أية زيادة فيه أو أي نقصان، وهذا هو الدليل على أن القرآن هو نفس الكتاب الذي نزل على رسول اللّه(ص) فليست هناك أية نسخة في العالم لدى أي مذهب تختلف عن نسخته الأصليّة حتى بالضمّة والفتحة والكسرة، لأن الذين ادّعوا تحريفه سقطت دعواهم أمام هشاشة ما قالوه وما أضافوه وانقصوه أمام الحقيقة القرآنية الخالدة.
من هنا كنّا نقول دائما لمن يتهم شيعة أهل البيت(ع) بتحريف القرآن إئتونا بنسخة من القرآن محرّفة في أي بيت شيعي في العالم، وقد هوجمت الكثير من بيوتات الشيعة فلم ير أي قرآن يختلف في كلمة أو ضمّة أو فتحة أو أي شكل في الكتابة عن القرآن المعروف. فلقد حافظ المسلمون حتى على شكل الكتابة كما في كلمتي (الصلوة) و(الزكوة) فهما يكتبان بالآلف، لكنّ شكل الكتابة القرآنية بقي كما هو حتى مع تغيّر أشكال الكتابة، فلقد كانوا حريصين على أن لا يطال القرآن أي تحريف، ليس في المضمون بل حتى في الشكل أيضاً. وقد أجمع علماء الشيعة الإمامية على بطلان التحريف، وهذا هو قول الإمام الرضا(ع) المستوحى من قوله تعالى: «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد»(3).
هل أفعال العباد مخلوقة؟
وهناك كلمة أخرى للإمام تتصل فيما كان يدور من جدل حول ما إذا كانت أفعال العباد من خير أو شرّ مخلوقة، وإذا كانت مخلوقة فكيف يحاسبنا اللّه عليها؟ أما إذا كانت غير مخلوقة، فهل هي أزلية؟ أي هل كانت قبل وجودنا. فلقد سئل الإمام(ع) عن ذلك فعن الفضيل بن يسار قال: «سألت الرضا(ع) عن أفاعيل العباد: مخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ قال(ع): هي واللّه مخلوقة، ويعلق الراوي ـ أراد خلق تقدير لا خلق تكوين». فاللّه عندما يخلق الأشياء فليس هناك خالق غيره {هَلْ مِنْ خَالق غَيْرُ اللّه}(4). ولكن الخلق على قسمين: هناك (خلق تكوين) كما في خلق آدم وخلق السماء والأرض وخلق الإنسان بحسب الوسائل التي جعلها اللّه للخلق بالطريقة المتعارفة، وخلق الزرع والظواهر الكونية الأخرى، أي ـ باختصار ـ هو عملية الإيجاد المباشر أو غير المباشر، ودور الإنسان في هذا الخلق دور آلي.
وهناك (خلق تقدير) وهو خلق الأفعال، ومعنى ذلك أن اللّه قدّر للإنسان أن يفعل كذا، أي أنه خلق الإنسان وخلق له إرادة وعقلاً ووسائل وقال له تصرّف بإرادتك وتحمّل مسؤولياتها، فمن جهة نقول إن للّه دوراً في هذه الأفعال، فلو لم يخلق الإنسان لما انطلقت أفعاله، ولو لم يعطه الوسائل لم يستطع أن يفعل، لكن انطلاقة الفعل صادرة من إرادة الإنسان فهو الذي يفكّر وهو الذي يريد، وهي لم تكن موجودة ثم أوجدها. فاللّه لم يخلقها بمعنى أنه فرضها على الإنسان، بل إنه خلق للإنسان القابلية والطاقات والإرادة والوسائل التي يستطيع بها أن يقوم بهذا العمل أو ذاك.
مفاضلة:
«ثم قال: إن الإيمان أفضل من الإسلام بدرجة». لأن الإسلام يمثّل مجرد التزام بالشكل {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(البقرة/131). فالإسلام هو أن تتحرك ولا تعترض، لكن الإيمان هو أن تتعمّق في حركتك، وأن ينطلق التزامك واستسلامك وطاعتك من خلال اقتناع في داخل عقلك وقلبك. {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(الحجرات/4). فالإيمان أفضل من الإسلام لأنه يمثل الاقتناع الداخلي الذي تتحرّك فيه وهو ينبع من داخلك لا من سطح حياتك أو مما يفرض عليك من الخارج.
«والتقوى أفضل من الإيمان بدرجة». لأن الإيمان يبقى حركة فكرية ثقافية روحية في داخل نفسك، أمّا التقوى فإنها تجمع الإسلام والإيمان والممارسة والمعاناة في الواقع. «ولم يُعط بنو آدم أفضل من اليقين». فباليقين باللّه يعيش الإنسان الوضوح الذي ليس فيه أية ضبابية ولا أي انغلاق، لأن اليقين هو الذي يحرّك الإسلام كلّه والإيمان كلّه والتقوى كلّها، فهو القاعدة التي ينطلق منها ذلك كلّه.
قيمة الإنسان بجوهره:
وهناك نقطة أخرى يثيرها الإمام الرضا(ع)، فلا يزال كثير من الناس يعتبرونها قيمة في خط الإيجاب ضد القيمة في خطّ السلب، فهناك ذهنية اجتماعية تأريخية وهي أن الناس يرسمون أمام الشخص المسؤول الذي يعيش حياة طيبة فيها شيء من الرخاء، أو يلبس لباساً جيداً أو يأكل طعاماً جيداً، علامات الإستفهام على موقعه، كيف يكون مسؤولاً عن المسلمين وهو يلبس اللباس الفاخر، أو يأكل الطعام الجيد؟! ولذلك فقد انطلت على كثير من الناس الخدعة التي يخدعهم البعض بها عندما يتماوت في مشيته ويلبس الخَلِق من الثياب ويأكل الجشب من الطعام ليقول الناس: هذا زاهد! وعلى هذا الأساس فإنه يحصل على الثقة، وعلى أساس هذه الثقة يمكن أن يلعب ما يشاء باسم أنه الزاهد.
ولقد تحدّث بعض الناس إلى الإمام الرضا(ع) عن هذه المسألة وكأنهم يعتبرون مسألة اللباس هي القيمة كلّ القيمة، بحيث يغفلون عن القضايا الحقيقية في الحاكم. فنجد بعض الحكّام يخدعون الناس بالمظاهر لأن القيمة في وجدان الناس هي في المظهر لا في القضايا الحيوية. فتعالوا نستمع إلى الإمام الرضا(ع) لنرى كيف يركّز القيمة في الحاكم حتى لا يمكن لأي حاكم أن يخدع الناس بذلك.
ففي (مكارم الأخلاق) يروي (الطبرسي) باسناده عن (أبي الخراش المهدي) قال: «مرّ بنا بالبصرة مولى للرضا(ع) يقال له (عبيد) فقال: دخل قوم من أهل خراسان على أبي الحسن(ع) ـ وهذه كنية الإمام الرضا(ع) ـ فقالوا له: إنّ الناس قد أنكروا عليك هذا اللباس الذي تلبسه، قال، فقال لهم: إن يوسف بن يعقوب(ع) كان نبياً ابن نبي وكان يلبس الديباج ويتزرُ بالذهب ويجلس مجالس آل فرعون فلم يضعه ذلك». أي لم ينـزله ذلك عن منزلته لأنه كان عادلاً وحاكماً يرعى الناس بعدله «وإنما يذّم لو احتيج إلى قسطه». فإنما يذّم الإنسان إذا ظلم الناس واحتاجوا إلى عدله ولم يعطهم عدله. «وإنمّا على الإمام». الذي يلي أمور المسلمين «أنه إذا حكم عدل، وإذا وعد وفى، وإذا حدّث صدق، وإنّما حرّم اللّه الحرام بعينه ما قلّ منه وما كثر وأحلّ اللّه الحلال بعينه ما قلّ منه وما كثر»(7).
قيمة الحاكم بعدله:
فالقيمة في الحاكم والإمام والمسؤول التي لابدّ أن ترصدوها فيه وأن تحاسبوه عليها هي: كيف يعدل في الحكم، وكيف يفي بالعدل، وكيف يصدق في الحديث، فقيمة المسؤول هي في حركة المسؤولية بما يتصل بشؤون الناس، أمّا ما يتصل بشخصه فهو بشر له أن يأكل ويشرب ويلبس ما يشاء من حلال.{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(8). وقد جاء شخص إلى الإمام جعفر الصادق(ع) وقد رآه يلبس ثياباً بيضاء فأنكر عليه ذلك فقال له الإمام الصادق(ع): «إن الدنيا إذا أقبلت فأحقّ الناس بها أبرارها لا فجّارها وأخيارها لا أشرارها، واللّه ما بتّ ليلة وللّه عندي حق». فإذا أدّيت حقوق اللّه وأكلت من رزقك الحلال، فإن اللّه لم يخلق الدنيا ليحرم منها الأخيار والأبرار ليجعلها مجرد فرصة للفجّار.
فالقصة إذاً ليست قصة المظهر والشكليات، ولكنها أن تنزل إلى واقع هذا المسؤول عندما يحمل مسؤوليته لترى كيف يحكم الناس ويصدق معهم ويفي لهم، وهذا هو الخط الذي يمكن أن يعطينا الوعي كلّه.
حديثان عن الرسول(ص):
وفي الختام يروي الإمام الرضا(ع) حديثين عن الرسول(ص) الأول: عن الرضا عن آبائه عن علي(ع) قال، قال النبي(ص) «من غشّ المسلمين في مشورة فقد برئت منه»(9). فإذا جاءك مسلم يستنصحك سواء كان قريباً منك أو بعيداً عنك، أو كان من خصومك أو من أوليائك، وحاولت أن تنطلق معه من خلال بعض العقد النفسية ضده، فإنك تكون قد غششته وأعطيته شيئاً ضد النصح، والنبي(ص) ـ حسب الحديث ـ بريء منك حتى لو صمت وصليت وحججت واعتمرت.
وأمّا الحديث الثاني: «عن دارم بن قيبصة، عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي(ع) قال، قال رسول اللّه(ص): «من أرضى سلطاناً بما يسخط اللّه خرج عن دين اللّه عز وجل»(10). فإذا عشت مع أي حاكم وأراد منك أن تقوم بعمل فيه معصية للّه ويسخط اللّه عليك وأردت أن ترضيه بذلك لتربح منه ما تريد أن تربح فإنك بذلك تخرج عن دين اللّه، لأن الالتزام بدين اللّه يعني أن لا تفرّط به حتى لو تحمّلت الكثير من المتاعب.
وبذلك نعرف من الإمام الرضا(ع) كيف نواجه الواقع السياسي في خط المسؤولية الإسلامية، وكيف نواجه الواقع الاجتماعي في خط الالتزام الإسلامي، وكيف ننفتح على اللّه من خلال كتابه وسنّه نبيّه {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ}(المطففين/26). والحمد للّه رب العالمين.

 
المحاضرة السابعة: 22جمادى الآخرة 1420 هالموافق 2/10/1999م



الأمل والتفاؤل


*  الأمل ينطلق من الإيمان باللّه القادر على كلّ شيء وبرحمته في كلّ شيء *




الأمل
الأمل في القرآن
الأمل في أحاديث أهل البيت(ع)
تقدير الأمل بشكل واقعي
باطل الأمل
بين الأمل والأجل
سلبيات طول الأمل
إيجابيات قصر الأمل
إستخلاص النتيجة



 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الأمل:
موضوعنا في هذا اللقاء هو (الأمل). هذه الكلمة التي تتوقف عليها كلّ حركة الإنسان في الحياة، لأن الأمل يمثل استشراف الإنسان للمستقبل في قضاياه كلّها، إن في عمره أو في حاجاته أو حركته أو أهدافه أو تطّلعاته كلّها، لأن الإنسان لو تجمّد في دائرة اللحظة التي يعيش فيها ودائرة الظروف التي تحيط به لاختنق عمره في لحظته لأنه يتصوّر أنّ هذه اللحظة هي عمره كلّه عندما لا يكون له أمل في الامتداد.
وعندما يعيش الإنسان ظروفاً صعبة قاسية فإنه يتصوّر ـ بعيداً عن الأمل بالانفراج ـ أنّ هذه الظروف هي التي تعمل على محاصرته. وقل الشيء نفسه عندما يفقد الإنسان الكثير من غاياته، أو مما يعيشه في نفسه، فإن ذلك يمثّل حالة إحساس بالموت، لذلك كان الأمل العنصر الذي أودعه اللّه في وجدان الإنسان وفطرته ليعيش عمره في الامتداد في الحياة، وليعيش حركيّة التغيّر والتبدّل في الظروف التي تواجهه عندما تكون هناك ظروف قاسية تحيط به فيأمل أن تتبدّل. والإنسان ينطلق في عمق الأمل وامتداده من خلال الإيمان باللّه، لأن هذا الإيمان يمنحك الإحساس بقدرة اللّه على كلّ شيء وبرحمته في كلّ شيء، بينما الكفر باللّه يجعلك تعيش في دائرة ظروفك والحالات الصعبة التي تفترس حياتك.
الأمل في القرآن:
وهذا ما نستوحيه من عدّة آيات، فنحن نقرأ في حركة الصراع التي يخوضها المؤمنون ضد القوى الكافرة أو المستكبرة أن اللّه تعالى يقول وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ  إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ(آل عمران/139). فاللّه سبحانه يحدثنا هنا أننا عندما نضعف ويقوى الآخرون فهناك فرصة لنقوى ويضعف الآخرون، لأن اللّه بحسب سنّته في الكون لم يجعل هناك ضعفاً خالداً ولا قوة خالدة، فالضعيف اليوم قد يكون قوياً غداً، والقوي اليوم قد يصبح ضعيفاً غداً.
ومن هنا فإن هذه الآية في الوقت الذي تعطيك إحساساً بالامتداد وبالخروج من الدائرة الضيقة التي تعيشها، تمنحك إحساساً بعدم الاستسلام للواقع المنفتح الذي تعيشه، وإن كان اللّه سبحانه وتعالى يحدّثنا عن أننا في خط الإيمان لابدّ أن ننتظر الخير حتى وإن كان يبتلينا ونحن في طريق الوصول إلى الخير سَيَجْعَلُ اللّه بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا(الطلاق/7).وَمَنْ يَتقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّه بَالغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّه لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(الطلاق/2-3). وننطلق في نفس الاتجاه لنقرأ الآية الكريمة التي تساوي بين اليأس وبين الكفر يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّه إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلاّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ(يوسف/87). لأن اليأس من روح اللّه يختزن في ذاته ـ بطريقة واعية أو غير واعية ـ أن اللّه غير قادر على أن يحلّ المشكلة، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. لذلك فالمؤمن لا ييأس لأنه يعيش الإيمان الدائم باللّه وبرحمته وقدرته سبحانه وتعالى.
وفي ضوء هذا يمكننا أن نعتبر (الأمل) بتغيّر الأحوال وتبدلها، وبانقلاب الضيق إلى سعة، والعسر إلى يسر، والضعف إلى قوة، ينطلق من خلال عمق مفهوم الإيمان باللّه بما نعتقده من صفات اللّه القادر الرحمن الرحيم الحكيم العليم. وبهذا يمكن للمؤمن أن يعيش الأمل الأخضر الذي يبقى في حالة اخضرار بالرغم من الأوضاع الجافّة الصعبة التي يعيشها.
الأمل في أحاديث أهل البيت(ع):
وعندما ندرس ما ورد من الأحاديث في هذا المجال فإننا نؤكد معنى الأمل في الحياة. ولنقرأ بعض الأحاديث المتعلّقة بالأمل. ففي الحديث عن رسول اللّه(ص): «الأمل رحمة لأمتي ولولا الأمل، ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرة».
إن الأم ترضع ولدها باعتبار أنها تعطيه القوة على استمرار الحياة في الوقت الذي تؤمّل فيه استمرار حياته، ولو فقدت الأمل في حياته في لحظة الرضاع لما أرضعته، وكذلك الذي يغرس الشجرة يأمل أن يأكل منها، ولو أنه فقد الأمل في امتداد حياته لما غرس شجرة.
وفي حديث الإمام علي(ع) في (الغرر والدرر) «الأمل رفيق مؤنس». لأنك عندما تعيش في وحشة الواقع وصعوبته وقساوته ويراودك الأمل فإنه يؤنس وحشتك، لأنه يوحي إليك بأن هناك فرصة في المستقبل تجعلك تلتقي بمن تحبّ أو بما تحبّ.
وفي حديث عيسى(ع) «بينما عيسى(ع) جالس وشيخ يعمل بمسحاة يثير الأرض، قال(ع): اللّهم انزع منه الأمل» وربما كان حواليه جماعة من الحواريين وأراد أن يعطيهم درساً في قيمة الأمل في حركية الإنسان في الحياة، فدعا ربّه وهو مستجاب الدعاء عند ربّه «اللّهم أنزع منه الأمل» ونزع اللّه منه الأمل «فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة، فقال عيسى(ع): اللّهم أردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل».
فعندما فقد الأمل في الحياة فقد الرغبة في العمل، لأن الإنسان يعمل عادة من أجل النتائج الإيجابية التي يحصل عليها، أمّا إذا فقد هذه النتائج عند التفكير في الموت فإنه لا يجد أي دافع يدفعه نحو العمل، وكأن عيسى(ع) ـ حسب الرواية ـ أراد أن يؤكدّ هذا المعنى بإعطاء التجربة في اللاأمل أولاً وفي الأمل ثانياً.
تقدير الأمل بشكل واقعي:
فالأمل ـ إذاً ـ هو العنصر الذي تتحرّك الحياة فيه ومن خلاله، ولكن هناك نقطة لابد لنا أن نثقّف فيها آمالنا، وأن لا نستغرق كثيراً بحيث نشعر بأن الآمال كلّها تتحقق أو قابلة للتحقيق. فالأمال لا تنتهي، والإنسان قد يحلم أحلاماً تتصل بالخيال، وقد يؤمّل أشياءً لا ترتبط بالواقع. فعلى الإنسان أن يقدّر أمله تقديراً واقعياً، أي أن عليك أن تدرس ظروفك الحالية وحجم ما يمكن أن تتسع له الظروف في المستقبل وحجم طاقتك الآن وما يمكن أن يحقق لها النمو، وعند ذلك يمكنك أن تخطط لأملك بحيث يجري في الخط الذي تأخذ حياتك فيه طبيعتها، مع ملاحظة أنه ليس هناك في الحياة إنسان يبلغ أمله كلّه.
فإذا وضعت في حسابك آمالك، ووضعت أيضاً أن من الممكن أن الظروف لا تساعدك في المستقبل لتحقيق تلك الآمال، تماماً كما هم الآخرون الذين عاشوا أحلامهم وآمالهم وتمنياتهم ولكنهم لم يبلغوها، فعند ذلك لن تصدم إذا لم يتحقق بعض أملك، بحيث تسقط حياتك، كما نجد أن بعض الناس عندما تضيق الحياة عن أحلامهم يسقطون وربما ينتحرون لأنهم جعلوا الحياة معلّقة بهذا الحلم. فلابد للإنسان أن يكون واقعياً في أحلامه.
وقد ورد في حديث الإمام علي(ع): «اعلم أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك». فأملك مربوط بأجلك وبالظروف الذاتية التي تعيش في داخل وجودك، والظروف الموضوعية التي تحيط بك من خلال ما يتحرّك به الآخرون من حولك «وأنك في سبيل من كان قبلك». فلا بد ـ كما قلت ـ أن تكون واقعياً في أملك بأن يكون في نطاق حركة وجودك وظروفك، وثانياً بأن لا تفكر بأن آمالك سوف تتحقق تماماً، لأن الموت قد يأتي إليك فيكون حاجزاً بينك وبين آمالك، وربما تقف الظروف الصعبة حائلاً بينك وبينها.
باطل الأمل:
ولكن هناك بعض الآمال الخيالية أو غير الواقعية، كما هو حال الإنسان الذي يعيش الأمل بامتداد حياته إلى مالا نهاية فيغفل عن الاستعداد لما وراء هذه الحياة، أو يغفل عن التخطيط للغايات التي عاشت مسؤوليته فيها، وهذا ما يسمّى بـ(باطل الأمل). يقول اللّه تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(الحجر/3). هؤلاء الذين يلهيهم الأمل عن تلمّس مسؤولياتهم فيستغرقون في شهواتهم وأداء واجباتهم.
وقد ورد عن علي(ع) وهو يحدّثنا عن هذا النوع من الآمال: «اتقوا باطل الأمل، فربّ مستقبل يوم ليس بمستدبره، ومغبوط في أول ليل قامت بواكيه في آخره». فمن الممكن جداً أنك تستقبل يوماً ولا تستطيع أن تنتقل منه إلى يوم آخر لأنك تموت فيه، وربما تكون مغبوطاً في بداية الليل بحيث تغبطك الناس عمّا أنت فيه من صحّة وعافية «وتقوم بواكيك في آخره». أي قد يصبح الصباح وأنت ميت.
ويقول(ع): «اتقوا خداع الآمال». وهذه هي عظمة الإمام، فهو يعطينا أسرار الحياة بحسب طبيعة حركتنا فيها، فالآمال الخادعة تجعل الناس يفكّرون بالحياة بطريقة خيالية ليس فيها شيء من الحذر. «فكم من مؤمّل يوم لم يدركه، وباني بناء لم يسكنه، وجامع مال لم يأكله». ويحدّثنا(ع) عن هذا النوع من الآمال، فيقول: «الأمل كالسراب يغرّ من رآه، ويخلف من رجاه». فلا يتحقق رجاءه.
فالإمام(ع) يريد في هذه الكلمات وفي غيرها أن يبيّن أن على الإنسان أن يعطي الأمل حركته ولكنه ينبغي أن لا ينسى الحذر من الواقع الذي يحيط به «الأمل سلطان الشياطين على قلوب الغافلين».
وقد ورد في الدعاء المرويّ عن الإمام الصادق(ع) في (يوم عرفة) «أعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة، ومن حياة تمنع خير الممات، ومن أمل يمنع خير العمل». لأنك عندما تعيش الأمل الطويل فإنك تؤخرّ عملك إلى ذلك الوقت وربما لا يأتيك.
بين الأمل والأجل:
فلابد للإنسان ـ عندما يعيش الأمل ـ أن يفكّر بالموت بحيث لا يجعل الأمل بعيداً عن التفكير بواقعية الموت الذي قد يأتيه في أية لحظة، أي لابد أن يعيش بين الأمل وبين الأجل حركة من يندفع بأمله في مسؤولياته، وأن يعيش الانفتاح على أجله من أجل أن يركّز المسؤوليات على أساس سيرها في الخط المستقيم، حتى يقدّم حسابه بشكل دقيق جداً، ويجعل أمله في نطاق الواقع. فعن علي(ع): «ما أنزل الموت حق منـزلته، منْ عدّ غداً من أجله». فالإنسان الذي يعتبر اليوم الآتي هو من عمره لم ينزل الموت حق منزلته، لأنه لابدّ له أن يفكّر في الموت كما لو كان يأتيه في كلّ لحظة. وهذا التفكير لايبعد الإنسان عن الامتداد في الحياة من خلال الكلمة المأثورة عن الإمام علي(ع) «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».
فعندما تفكّر في الحياة وبمسؤولياتك فيها تصوّر كما لو لم يكن هناك موت لتحقيق أهدافك وغاياتك ومسؤولياتك، ولكن عندما تريد أن تفكّر في حساب المسؤولية فكّر كما لو كنت تموت غداً حتى لا يلهيك الأمل ويشغلك عن تحمّل تلك المسؤولية.
«ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، ولم يضرره أجله». فكأنه يريد أن يقول، إن عليك وأنت تعيش في دائرة الأمل أن تسارع إلى العمل وذلك عندما تتذكر أن الموت سوف يأتيك وربما يقطع عليك عملك ومشروعك. فليكن الأمل المقرون بالأجل حركة من أجل أن تسرع في عملك لتشتغل فيما يمكن أن يحققه العمل من فرصة هنا وفرصة هناك.
فعن النبي(ص): «أنه أخذ ثلاثة أعواد فغرس عوداً بين يديه والآخر إلى جنبه، وأمّا الثالث فابعده، وقال: هل تدرون ما هذا؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: هذا الإنسان وهذا الأجل، وهذا الأمل يتعاطاه ابن آدم ويختلجه الأجل دون الأمل». أي يأتيه الأجل ليقطع عليه آماله، فلابد للإنسان من أن يكون واقعياً في أمله بأن يجعل الأجل إلى جانب الأمل.

سلبيات طول الأمل:
وتتحدث الأحاديث الشريفة أيضاً عن سلبيات طول الأمل، والمقصود بطول الأمل هو أن ينسى الإنسان الآخرة، بحيث يتحرك أمله في الدنيا بما يجعله يفكر أن لا موت وراءه كلية. وهذا هو الذي ورد فيه الحديث عن رسول اللّه(ص): «إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان: الهوى وطول الأمل، أمّا الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة».
لذلك وردت أحاديث في النتائج السلبية لطول الأمل والنتائج الإيجابية لقصر الأمل، فعن علي(ع): «ما أطال عبد الأمل إلاّ أساء العمل». لأن ذلك يدفعه إلى تأخير التوبة، وإلى عدم حساب الآخرة، وهناك حديث آخر عن علي(ع) «فيما ناجى اللّه تعالى موسى(ع): يا موسى لا تطل في الدنيا أملك فيقسو قلبك، والقاسي القلب منّي بعيد». لأن الإنسان عندما يطول أمله لا يخشع قلبه للموت ولا يرقّ ولا يلين للآخرة لأن حالات الخشوع لا تنبض فيه، وكلّما قسا قلب الإنسان ابتعد عن اللّه سبحانه وتعالى.
إيجابيات قصر الأمل:
وفي الجانب الآخر نجد أن هناك امتداحا لقصر الأمل، ففي الحديث عن علي(ع): «من أيقن أن يفارق الأحباب، ويسكن التراب، ويواجه الحساب، ويستغني عمّا خلف، ويفتقر إلى ما قدّم، كان حرياً بقصر الأمل وطول العمل». أي الذي يضع أمامه الحسابات السلبية التي تشجعّه على أن يبادر العمل والتوبة إلى جانب الحسابات الإيجابية التي تجعله يقوم بواجباته ومهمّاته في الحياة.
وقد ورد في الحديث أن النبي(ص) قال لابن مسعود «قصّر أملك، فإذا أصبحت فقل: إني لا أمسي، وإذا أمسيت فقل إني لا أصبح، واعزم على مفارقة الدنيا، وأحبب لقاء اللّه». فهذا هو الذي يجعل الإنسان يبادر ويسارع ويستبق الخيرات.
ولعلّ من أروع الصور في قصر الأمل ما ورد عن الإمام زين العابدين(ع) في أدعية (الصحيفة السجّادية) عندما يقول: «اللّهم اكفنا طول الأمل وقصّره عنا بصدق العمل». فيجعل طول الأمل مشكلة للإنسان باعتبار أنّه يؤخّر عمله ويسوّفه كما يسوّف التوبة حتى يأتيه الموت وهو في حال الغفلة عن ذلك. بينما يجعل قصرُ الأمل الإنسانَ مبادراً للعمل عندما يفكّر أن فرصته في القرب من اللّه والوصول إليه ليست فرصة واسعة: «اللّهم اكفنا طول الأمل وقصّره عنا بصدق العمل حتى لا نؤمّل استتمام ساعة بعد ساعة ولا استيفاء يوم بعد يوم، ولا اتصال نَفَس بنفس، ولا لحوق قَدَم بقدم، وسلّمنا من غروره وآمنّا من شروره، وأنصب الموت بين أيدينا نصباً ولا تجعل ذكرنا له غبّا، واجعل لنا من صالح الأعمال عملاً نستبطئ به المصير إليك، ونحرص له على وشك اللحاق بك حتى يكون الموت مأنسنا الذي نأنس به ومألفنا الذي نشتاق إليه، وحامّتنا التي نحبّ الدنوّ منها، فإذا أوردته علينا وأنزلته بنا، فأسعدنا به زائراً، وآنسنا به قادماً، ولا تشقنا بضيافته، ولا نحزن بزيارته، أمتنا مهتدين غير ضالّين، طائعين غير مستكرهين تائبين غير عاصين ولا مصرّين يا ضامن جزاء المحسنين ومستصلح عمل المفسدين».
استخلاص النتيجة:
ومن كلّ هذه الأحاديث نخرج بنتيجة مهمّة وهي أن الإسلام يمثّل خط التوازن بين الدنيا والآخرة، وبين الموت والحياة، فعلينا أن نعطي الحياة دورها وحركيتها في ما كلّفنا اللّه به من مسؤوليات في أنفسنا وفي الناس والحياة من حولنا، وأن نعطي الآخرة دورها فيما أردانا اللّه سبحانه وتعالى أن نستعد له في الآخرة، وبذلك يتحقّق التوازن لدينا فلا يأس يسقطنا في دائرة اللحظة، ولا أمل يجعلنا نعيش الضياع والمتاهات التي ليس لها أيّ حد.
وفي الختام، لابدّ للإنسان من أن يقطع أمله بكلّ أحد ويبقى أمله باللّه لأنه غاية كلّ أمل. يقول سبحانه في الحديث القدسي «لا قطّعن أمل كلّ مؤمن أمل دوني الناس». لأنه لابد للإنسان المؤمن أن يجعل أمله باللّه وتكون الظروف عنده مجرّد وسائل يعطيها اللّه سبحانه وتعالى للإنسان، فاللّه هو غاية كلّ أمل وكلّ رغبة ومنتهى كلّ رجاء، وعلى الإنسان أن يجعل توحيده باللّه خطاً ثابتاً بأن يكون أمله به وحده في كلّ شيء، وأن يكون أمله بالناس باعتبارهم الأدوات التي يحرّكها اللّه للإنسان في تحقيق أمله.
نسأله تبارك وتعالى أن يحقق لنا آمالنا فيما يريد أن نحققه في الدنيا من الغايات الكبرى، وأن يحقق لنا آمالنا في رضوانه ومغفرته ودخول جنته، إنه أرحم الراحمين. والحمد للّه رب العالمين.(6)
 
المحاضرة الثامنة: 19 ذو القعدة 1419هـ الموافق /1999م



التطيّرة والتشاؤم


* حتى إذا حدّقنا بالظلام، فإن علينا أن نتطلّع إلى نقاط النور التي تمثلها الكواكب التي تقول لنا إنّ بعد الظلام نوراً وفجراً فلا تستسلموا للأحاسيس السلبيّة في الظلام *






التطيّر
التطيّر في القرآن
التطيّر في الروايات والأحاديث
معالجة التطيّر
الطيرة كحالة نفسية
التفاؤل


 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
التطيّر:
كيف ننظر إلى الحياة من حولنا في الحاضر والمستقبل من خلال ما قد يتمثل أمامنا من بعض الظواهر والمظاهر أو الأشياء التي قد توحي إلينا بالتشاؤم، بحيث نقبل على الحياة من خلال هذه النوافذ المظلمة لنتصوّر أن هناك ظلاماً وخسارة وموتاً وما إلى ذلك؟ وربما نلتقي في حياتنا بالمظاهر أو الظواهر أو الأشياء الطيّبة التي توحي إلينا بالتفاؤل وانتصار الطيّب من النتائج، فكيف ينظر الإسلام إلى ذلك كلّه؟
فلقد كان العرب، وربما كان الناس في أكثر من أمّة من الأمم، يتطيّرون أو يتشائمون بالغراب، فإذا رأوا غرابا وهم على أهبة السفر عدلوا عن السفر، وكانوا يتشائمون بالأيام، فكانوا لا يسافرون في آخر أربعاء من الشهر لأنهم يعتبرون أن فيها النحس كلّه والشؤم كلّه.
وكانوا يتشائمون بالأشخاص الذين يأتون إليهم في عملية إصلاح وإنذار، وكان التشاؤم بهذا الشيء أو ذاك هو الطابع الذي يطبع تقاليدهم العمليّة في الحياة، وكانت هذه النظرة المتشائمة تحجزهم عن الكثير من مشاريعهم، وقد امتدت إلينا في الواقع الإسلامي من خلال أحاديث تحدّد أيّاما نحسات قد يعبّر عنها ب(الكوامل) فلا يتزوج الإنسان في هذا اليوم ولا يبدأ سفراً ولا يشتري دارا ولا ينتقل إلى دار أخرى، لأن هذا اليوم نحس وهذا اليوم لا بركة فيه، وهكذا. وهناك اتجاه ـ في بعض الروايات ـ للتشاؤم بالكواكب، فإذا كانت الشمس في برج العقرب فلا ينبغي للإنسان أن يتزوّج أو ينتقل إلى دار أخرى وما أشبه ذلك.
فهذا الخط من السير يعيش في الذهنية ويتحرّك في الواقع، ولكن عندما نقرأ تراثنا من القرآن الكريم، والأحاديث النبويّة، وما ورد عن أئمة أهل البيت(ع) وحديثهم كما قال الإمام الصادق (ع)، هو حديث رسول اللّه(ص) بحيث نستطيع أن ننسب كلّ حديث قاله إمام من أئمة أهل البيت(ع) إلى رسول اللّه(ص). نرى أنّ هذه الأحاديث تنفي المبدأ نفياً تاماً بحيث تتحدد التفاصيل سواء كانت إيجابية أو سلبية في الصحة وعدمها من خلال هذا المبدأ.
التطيّر في القرآن:
فنحن نقرأ في القرآن الكريم، كيف كان الناس يتشائمون بالدعاة إلى اللّه فيعتبرونهم مظهر شؤم لأنهم جاءوا من أجل أن يربكوا ما هم عليه من عقائد كافرة أو مشركة، وكأنهم يرون أن هذا سوف ينذر بالسوء فيما يستقبلون من الأيام {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}. والتطيّر هو عبارة عن التشاؤم حيث كانوا يتشائمون بالطير، ولذلك أخذ التشاؤم اسم التطيّر، فكانوا يستدلّون بحادث من الحوادث على أساس أنهم يرتقبون وقوع الشرّ من خلال هذا الحادث. {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ  قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}(ياسين/18-19)، وكان جواب الدعاة إلى اللّه هو أنهم لا يمثّلون التشاؤم وإّنّما يمثّلون الخير ويعملون على فتح عقول وقلوب الناس على سعادة الدنيا والآخرة، ولكن الشؤم هو عند هؤلاء الذين يتهمونهم، فالشرك والضلال والانحراف يمثّل أوضح مصاديق الشؤم لأنها تقود الإنسان إلى النار وتدفعه إلى الوقوع تحت غضب اللّه سبحانه وتعالى.
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ}(النمل/47)، فاللّه هو الذي يعذّب وهو الذي يبتلي، ولذلك نحن نتحرك معكم على أساس أن نقودكم إلى الخير ولكنكم عندما تواجهوننا بالرفض وبالجحود والنكران فسوف تجدون طائركم عند اللّه فيما يمكن أن يحصل لكم من شؤم من خلال عذاب اللّه.
التطيّر في الروايات والأحاديث:
ففي بعض الكلّمات الواردة عن النبي(ص) في هذا الشأن كما في (كنز العمّال) من احاديث أهل السنّة المروية في أحاديثنا أيضاً: «الطيرة شرك فمن ردّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك». وقال أيضاً «من خرج يريد سفراً فرجع من طير». أي من حالة تشاؤم «فقد كفر بما أنزل على محمد(ص»). وجاء أيضاً «ليس منا من تطيّر أو تُطيّر له».
فهذه الأحاديث الأربعة مروية عن النبي(ص)، ونريد أن نفهم كيف تكون الطيرة شركاً؟ فربما كانت المسألة أن الإنسان عندما يواجه شيئاً يوحي بالشؤم فكأنه يعتقد أن الشؤم هو نتيجة هذا الشيء الذي يكون سبباً لهذا الشؤم، فالغراب ينتج الشؤم بحيث يشعر الإنسان أنه السبب الفاعل لما يتشائم به، وبهذا تلتقي هذه الفكرة بالشرك باعتبار أن الفكرة الإيمانية هي أن اللّه وحده صانع ما في الكون كلّه إما بشكلّ مباشر أو غير مباشر، فهو مسبّب الأسباب، وكلّ شيء في الكون يصدر منه، وليس هناك في الكون أي موجود سواء كان بشراً أو حيواناً أو كوكباً أو أي شيء آخر يستقل بظاهرة من الظواهر، بل إن الجميع يمثّلون الوسائل و الأدوات التي أودع اللّه فيها سرّ الأشياء كما هي نسبة السبب إلى المسبّب ـ فالإنسان الذي يختزن في نفسه أن هذا الحيوان أو أنّ هذا الزمن أو هذا الكوكب ينتج ـ من خلال عناصره الذاتية ـ الشؤم، بمعنى أن يكون هو العنصر الفاعل، فقد أشرك باللّه سبحانه وتعالى لأنه أبعد المسألة عن اللّه واستغرق في هذا بحيث كان يختزن في داخل نفسه ـ بطريقة شعورية أو لا شعورية ـ أنه إذا واجه غراباً فإن هذا الغراب يوحي له بالشؤم وأن اللّه سبحانه وتعالى لن يغير من أمره شيئاً ولن يخرجه من هذا العسر، تماماً كما هو اليأس {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}(يوسف/87) باعتبار أن اليأس من روح اللّه يعني أنك لا تؤمن بقدرة اللّه على أن يخرج لك الأمل من قلب الواقع الذي يوحي لك باليأس.
فالمتطيّر المتشائم من أية ظاهرة، يرى أن ما يقبل عليه هو الشؤم كلّه، وأن أحداً لا يغيّر ذلك فكأنه يرى أن اللّه لا يغيّر ذلك، وهذا هو الشرك باللّه سبحانه وتعالى، وكأن هذا الإنسان أو الحيوان أو الكوكب يصنع شيئاً لا يستطيع اللّه أن يصنعه، فهو خالق من جهة واللّه خالق من جهة، فكما أعطى ـ هذا الحديث الشريف ـ الخط العام عن الفكرة أعطى التطبيق أيضاً «من خرج يريد سفراً فرجع من طير فقد كفر بما أنزل على محمد(ص)». باعتبار أن بعض ما نؤمن به من العقائد في الأشخاص و الأشياء يختزن الشرك من دون أن ننتبه إلى ذلك.
فلابد للإنسان في عقيدة التوحيد أن يعرف الله في صفاته كلّها، بحيث يشعر انه ليس هناك إلا اللّه وكلّ من عدا اللّه فإنه يتحرك بمشيئة اللّه وإرادته في الخلق والحركة من خلال القوانين والسنن التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى في الكون.
معالجة التطيّر:
ولكنّ النبي(ص) يريد للإنسان المسلم أن يتحرّك بالاتجاه المعاكس، حيث يقول: «إذا تطيّرت فامض».أي إذا حدث التشاؤم من خلال بعض الظواهر حاول أن تقتحم ما تتشاءم منه، وقد ورد إكمالاً لهذا «كفّارة الطيرة التوكلّ»..فعليك عندما تتطيّر وتتشاءم أن تتجمّد أمام الخوف والحذر، ولكن حاول أن تكسر هذا الطوق النفسي وهذه الخرافة الجاهلية بأن تتحرّك ولا تتوقّف. ومن الطبيعي أن الحركة لا تعني عدم الحذر، فالمنهج الإسلامي التربويّ يريد للإنسان أن لا يتجمّد عند بعض الأشياء التي تصادفه مما قد تسيء إلى حركته.
وقد لاحظنا ـ في الخط المذكور ـ كلّمة للإمام علي (ع) قال: «إذا هبت أمراً فقع فيه».أي إذا تخوّفت من أمر وتهيّبت الدخول فيه من دون أن تكون لك حجّة تحدّد لك النتائج الإيجابية أو السلبية بشكلّ حاسم، وكنت فريسة القلق الذي يجذبك فيه احتمال من هنا واحتمال هناك، فاقتحم ولا تتوقف، «فإنّ شدّة توقية أعظم مما تخاف منه». فهذه الحيرة والقلق الذي تعيشه أمام هذا الشيء ينتج وضعاً سلبياً على مستوى حركتك في الحياة أكثر من الشيء الذي تخاف أن تقع فيه، لأنّ القلق عندما يبلغ بالإنسان درجة أن يكون طابع الشخصية الغالب فإنه يدمّر حياة الناس كلّها، لأنه يجعلك واقفاً في بدايات الطريق تجترّ مخاوفك ولا تتحرك في أيّ اتجاه، لأنه ما من طريق من الطرق إلا وهناك احتمالات تثير خوفك فيه، ولذلك فإذا قلقت فاقتحم، وإذا تهيّبت فتحرّك، وهذا هو الذي يجعل الإنسان واقعياً أكثر وحركياً أكثر: واقعياً لأنه لا يتجمّد إلا عندما يلتقي بالمعطيات التي تقول له إن ما تقدم عليه فيه خطر محقق. وحركياً: فإن الإنسان عندما يعيش في الهواجس و المخاوف و الاحتمالات التجريدية فإنه يتحوّل إلى إنسان متجمّد أمام الهواجس ولا يستطيع أن ينطلق في الاتجاه الحركيّ الذي يخدم حياته.
وفي الحديث «إن النبي كان يحب الفأل». أي كان يحب الأشياء التي تفتح أمامه أبواب انتظار الخير لأنّ ذلك هو الذي يجعل الإنسان ينفتح على الجانب المشرق من الحياة، وهو الذي ينفتح بالإنسان على حيوية الحركة فيما يستهدفه من أهداف. وكما قلنا ـ ليس معنى ذلك ـ أن لا يكون حذراً ،فثمة فرق بين أن تكون جامداً لا تتحرك وبين أن تكون حذراً وأنت تتحرك. ومن الطبيعي فإن الحذر الذي لا يشلّ الموقف والإرادة حالة طبيعية واقعية في كلّ ما يتحرّك فيه الإنسان حتى ولو كانت الدراسات تقول لك ليست هناك مشكلة، لأنه قد لا تكون هناك مشكلة الآن، ولكن قد تأتي فيما تستقبل ـ بشكلّ طارئ، ولذلك لابد أن تكون حذراً و متحرّكاً.
«وكان يأمر من رأى شيئاً يكرهه ويتطيّر منه». والفعل (يأمر) هنا غير الأمر في صفة الإلزام «أن يقول:اللّهم لا يؤتي الخير إلاّ أنت ولا يدفع السيئات إلاّ أنت ولا حول ولا قوة إلا بك»..هذا التوجيه التعليمي التربوي النبويّ يقول للإنسان المتشائم إنك استغرقت في تشاؤمك من خلال هذه المعطيات التي تثير التشاؤم عندك، فارفع رأسك إلى ربك فهو الرحمن الرحيم القادر على أن يجعل من بعد العسر يسراً، وهو القائل{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} حيث لا مخرج {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}(الطلاق/2-3). ومعنى ذلك ليس فقط أن تلتقي ما يثير في قلبك الخوف من النتائج السلبيّة، بل حتى ولو سدّت كلّ الوسائل و الدروب فإن اللّه قادرٌ على أن يفتح لك الأبواب لأنه مبوّب الأبواب، وهو الذي يملك السيطرة على الأبواب المغلقة، كما يملك السيطرة على الأبواب المفتوحة، فهناك باب مغلق وباب مفتوح وأنتم تتجمّدون أمام الباب المغلق وتندفعون أمام الباب المفتوح، ولكن اللّه سبحانه وتعالى يتساوى عنده كلّ شيء لأنه هو الذي يشيِّئ الأشياء وهو الذي أعطى كلّ شيء حركته وحيويته ونظامه.لذلك قل يا ربّ أريد أن تعطيني الخير وأنا لا أثق بكلّ سبب من أسباب الخير إلاّ إذا أعطيته رعايتك، لأن الخير يكون نتيجة شيء خلقته، ولكنك تقف وراء ذلك بلطفك ورحمتك وعنايتك.
«أن يقول:اللّهم لا يؤتي الخير إلاّ أنت ولا يرفع السيئات إلاّ أنت ولا حول ولا قوة إلاّ بك». فربما أواجه بعض السوء فيما استقبل من أمر ولكنّي وأنا أعرف ـ أنك أنت الذي تدفع السوء ـ فإنّي أثق بك يا ربّ، ومع ذلك فلا حول ولا قوة إلا بك فاعطني يا ربّ الحول والقوة في كلّ ما أخاف منه وكلّ ما أرجوه.
الطِيَرة كحالة نفسيّة:
وهناك حديث عن الإمام الصادق (ع) وهو يفسّر لنا الطيرة كحالة نفسية ربما تثـقل عليك إذا استغرقت فيها، وربما تبتعد عنك وتهوّن عليك الأمر إذا هوّنتها، وعندما تعتبرها لا شيء فلن يكون هناك شيء، فكأنك تركّز المسألة من خلال حالتك النفسية أمام مواقع التشاؤم، حيث يقول: «الطيرة على ما تجعلها». فالأمر إليك لأن الطيرة ليست شيئاً يملك أن ينتج أيّ شيء بل هي مجرد تهاويل ومخاوف تعيش في ذهنك.«إن هوّنتها تهونت وإن شدّدتها تشدّدت وإن لم تجعلها شيئاً».أي أعرضت عنها و انطلقت كما لو لم يكن هناك شيء «لم تكن شيئاً». فالتطيّر والتشاؤم في كلّ مظاهره الواقعية في حياتك ليس شيئاً، فلا تجعله شيئاً.
وقد ورد في أحاديث أئمة أهل البيت (ع) في (الخصال) للصدوق بإسناده عن محمد بن أحمد الدقاق:
«كتبت إلى أبي الحسن الثاني ـ الإمام الهادي (ع) أسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا تدور». أي الأربعاء التي لا تدور في نفس الشهر، والمراد يوم الأربعاء الأخير من الشهر. «فكتب(ع) من خرج يوم الأربعاء لا تدور خلافاً على أهل الطيرة». أي متحدياً الذين يتطيّرون من الخروج والسفر  في هذا اليوم باعتبار أنه تحدّى أهل التطيّر الذين يوحون للناس بالتشاؤم من هذا اليوم، فهذا أمر يرضاه اللّه.«عوفي من كلّ آفة». أي أنه يقلب الموضوع من السلب إلى الإيجاب، فإن اللّه يثيبه على تحديه لأهل التطيّر.
ونفهم من كلّمة الصادق (ع) أن التطيّر بأجمعه ليس شرعياً ولا إسلامياً. «وكتب إليه مرة أخرى عن الحجامة يوم الأربعاء لا تدور، فكتب إليه من احتجم يوم الأربعاء لا تدور خلافاً على أهل الطيرة عوفي من كلّ آفة ووقي من كلّ عاهة ولم تخضّر محاجمه». أي لم تتأثر مواقع الحجامة في جسمه سلبياً.
التفاؤل:
وفي الجانب المقابل، عن النبي(ص):«نعم الشيء الفأل الكلمة الحسنة يسمعها أحدكم». فيتفاءل بها للمستقبل.وعن علي (ع) قال: «تفأّل بالخير تنجح» وعنه (ع): «الفأل حق و الطيرة ليست بحق».
وهذا هو بعض الحديث عن هذين العنوانين اللذين يمكن أن يتركا تأثيرهما السلبي والإيجابي على حركتنا في الحياة، فيما يريدنا اللّه أن نكون متفائلين من خلال دراستنا للواقع و اكتشافنا المعطيات المشرقة في داخل هذا الواقع من جهة، وانفتاحاً على اللّه في ابتهالنا عليه، بأن يهيء لنا من أمرنا رشداً، وأن يدفع عنّا كلّ سوء، ويجلب إلينا كلّ خير من جهة، ليتحرّك الإنسان في الواقع من خلال دراسته للمعطيات التي عنده من جهة، ولإيمانه من جهة أخرى، ولا يتشاءم، بأن يعقّد نفسه على أن الشؤم آت لا محالة وأن الشر آت لا محالة، وانه لا يمكن أن يتغيّر لأن هذا يختزن معنى الكفر ومعنى الشرك وهو تجميد لحركية الإنسان.
فعلينا ونحن نؤمن باللّه أن نحدّق بالشمس دائماً، بل حتى إذا حدّقنا بالظلام فإن علينا أن نتطلّع إلى نقاط النور التي تمثلها الكواكب التي تقول لنا إن بعد الظلام نوراً وفجراً فلا تستسلموا للأحاسيس السلبية في الظلام {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}(الطلاق/7). فانفتحوا على اللّه وقولوا ـ كما جاء في بعض الأحاديث «اللّهم لا خير إلاّ خيرك ولا طير إلاّ طيرك عليك توكلّنا وإليك المصير ولا حول ولا قوة إلاّ بك يا أرحم راحمين». و الحمد للّه رب العالمين.

 
المحاضرة التاسعة: 24ذو الحجة 1419 هـ الموافق 10/4/1999م


في عيد الغدير الأغر
كيف نكون مع علي(ع)!؟

*  لنفهم الحقّ في حياة علي(ع) لنعرف كيف نسير معه، لأنّ السير مع علي هو سير مع اللّه ومع رسول اللّه ومع الإسلام *






الحديث عن الإمام علي(ع)
تجربته مع النبي(ص)
تجربته بعد النبي(ص)
رسالة الإمام علي(ع)
علي حق  كلّه
مسؤوليته الرسالية
كلمات علي(ع) في معنى الحق
الحق في وصاياه
اعرف الحق تعرف أهله
كيف نكون مع علي(ع)؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الحديث عن الإمام علي(ع):
ويبقى ـ ما امتد الزمن ـ الحديثُ عن علي ومع علي(ع) لأن علياً لا يحتويه يوم بل لا يحتويه زمن لأنه انفتح على اللّه بكل أبعاد المعرفة باللّه حتى قال «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً». وانفتح على أبعاد رسول اللّه(ص) حتى عاشه عقلاً في عقله وقلباً في قلبه وحركة في حركته كلّها، سواء في الدعوة أو الجهاد أو حركية الواقع. وعاش الإسلام كلّه في فكره حتى أصبح فكره فكر الإسلام. فلم يكن لعلي(ع) فكر آخر بل إنه عندما تعلّم الإسلام من رسول اللّه(ص) حرّك هذا العلم في امتداد مواقع المعرفة الإنسانية فيما يراد للإنسان أن يعيشه في خط الإسلام وفي تنوعات حياته وتطوراتها وامتداداتها «علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم فتح لي من كلّ باب ألف باب»( ). فلم يكن علمه مجرد نصّ ينقله ولكنه كان حركية يبدع منها كل جديد من دون أن ينفصل عنها في قريب أو بعيد.
وكان علي(ع) إنسان الإنسانية كلّها، فكان منفتحاً على الإنسان سواء الذي يلتزم الإسلام ديناً أو الذي لا يلتزمه «فإن الناس صنفان إمّا أخ لك في الدين وأما نظير لك في الخلق»( ). فالإمام علي(ع) لا يريدنا أن ننغلق على أي إنسان حتى لو كان يختلف معنا، لأن الانفتاح على الإنسان في إنسانيته قد يجعلك تفتح عقله على الإسلام بطريقة وبأخرى، وتفتح قلبه على نبضات الإسلام الإنسانية.
تجربته مع النبي(ص):
وعاش علي(ع) تجربة من أقسى التجارب، فقد كان ملازماً لرسول اللّه(ص) وكان الرسول يضمّه في شبابه كما كان يضمّه في طفولته، وكان يتحسس نبضات قلب رسول اللّه(ص) في قلبه ومشاعره، وبذلك كان يفهم معنى أنه نفس رسول اللّه وأخوه.
وكان رسول اللّه(ص) يعرف معنى علي(ع) في شخصية علي، ولذلك أراد للناس، لا من خلال عاطفة قرابة ولا من خلال علاقة مصاهرة، أن يكون علي مولاهم في حركة المسؤولية كما هو ـ أي الرسول ـ مولاهم في تلك الحركة «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي»( ). و«من كنت مولاه فهذا علي مولاه»( ). لأن الولاية في خط رسول اللّه(ص) في النبوة الحركيّة هي خط علي(ع) في الولاية الحركية لأن الولاية لم تنفصل عن النبوّة في الخط وإن انفصلت عنها في الدور.
تجربته بعد النبي(ص):
وعاش علي(ع) بعد ذلك تجربة من أقسى التجارب، فكان يشعر أنه وحده .. يفكّر وحده .. ويتألّم وحده.. ويواجه التحديات وحده.. وكان يشعر أن محلّه محل القطب من الرحى وليس للرحى سوى قطب واحد.. ينحدر عنه السيل لأنه في القمة، ولا يرقى له الطير لأن قمته لا يقترب منها أحد. وكان يشعر بعلمه الفيّاض الذي لم يجد من ينتفع به، وكان يتألم لذلك: «إن ها هنا لعلماً جمّا لو وجدت له حَمَلة». ولم يكن يبحث عن الحمَلَة لأجل أن يعطى علمه عنفوانه، ولكنه أرادهم حتى يعطي علمه امتداده.
لذلك عاش علي(ع) غريباً في قومه، فمشكلة علي(ع) أنه عاش في مجتمع لم يفهمه جيداً «فياللّه وللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكنني أسففت إذ أسفّوا وطرت إذ طاروا»( ). ولقد عاش التجربة الصعبة كأقسى ما تكون، ولم يكن يبحث عن نفسه فيما كان يريده من الولاية، ولكنه كان يبحث عن الإسلام، ولذلك كانت مشكلته أنه كان يرى أن الإسلام يضيع وينحرف، وربما رأى في حركة الإٍسلام آنذاك حركة قوة امتدّ بها الإسلام في العالم، ولكنه كان يبحث عن امتداد الإسلام في وعي الإنسان في العمق، وكانت طبيعة المرحلة في عهد رسول اللّه(ص) هي أن يمتدّ الإسلام في الناس «من قال لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه حقن بها ما له ودمه وعرضه». قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ(الحجرات/14). وكانت الخطة في عهد النبي(ص) أن يحيّد الناس عن الشرك ليدخلهم في المجتمع حتى يتنفسوا الإسلام ولو بعد حين.
رسالة الإمام علي(ع):
وكانت رسالة الإمام علي(ع) أن يعمّق الإسلام في نفس الإنسان، وأن يعمّق فكر الإنسان في فكر الإسلام، وأن يعمّق قلب الإنسان وحركيته، وأن يصنع إسلاماً يتجسّد في الناس وهو الذي كان يتحسس المسؤولية خارج الخلافة كما يتحسسها في داخلها، لذلك قال: «حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص) فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب فنهضت حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه»( ).
وعندما واجه التحديات في زمن خلافته كان يتحدث مع الناس المختلفة نفوسهم المشتتة مواقعهم، أنه لا يستطيع أن يقوّم بهم اعوجاج الحق، وكان يكلّم ربّه «اللّهم إنه لم يكن الذي كان منّا». فيما نريده من تسلّم المسؤولية «منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك». «اللّهم إني أول من أناب وسمع وأجاب لم يسبقني إلاّ رسول اللّه بالصلاة»( ).
وقد أراد أن يشكو إلى ربّه مما كان يعيشه في معنى الخلافة والإمامة، وكأنه يقول: يا ربّ انت تعلم أني أول من أناب إليك، وأول من صلّى مع رسول اللّه(ص) وأول من سمع الوحي والدعوة وأجابها، ولكن المشكلة هي أن القوم لم يفهموا ما معنى الأول فلم يكن عليّ الأول في الزمن ولكنه كان الأول في وعي رعاية الإسلام كلّه. ولذلك عندما أخّر عن الخلافة لم يتأخر عن موقعه الحقيقي وحسب .
عليٌّ حقٌ كلّه:
كان علي(ع) حقاً كلّه، وعندما تجلس إلى علي(ع) في فكره ومشاعره وأحاسيسه وأخلاقيته وسيرته وابتهالاته بين يدي اللّه فإنك تشعر به الإنسان العاشق للّه عشقاً لا يقف عند حد: «فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك». إن العاشق يتألم ويتألم في كلّ ما يحيط به ولكنه لا يتحمل أن يفارق معشوقه.
«وهبني يا إلهي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك»( ). وأنا أعيش ـ في كلّ يوم ـ ألطافاً شتى من كرامتك فأحسّ ببردها في قلبي وإشراقها في عقلي واستقامتها في حياتي. وعندما تتأمّل علياً(ع) وتخرجه من كلّ هذا الجدل الذي يدور من دون معنى: (من الأفضل؟) فإنك سوف ترى أن علياً(ع) لا يقارن بأحد بعد رسول اللّه(ص) وحرام أن يوضع إلى جنب علي(ع) أي شخص في موقع التفاضل، ولا نقول ذلك عاطفة ولا حبّاً ولا عصبية، ولكننا نقولها حقيقة لا تشوبها شائبة، لأنك لا تجد في المسلمين كلّهم من تمثل الإسلام كله فيه إن في عقله أو في قلبه أو جهاده أو روحانيته أو تواضعه أو في كلّ ما يرتبط بالإسلام من قريب أو بعيد سوى الإمام علي(ع)، وليس هناك من يقترب من علي(ع) فضلاً عن أن يساويه.
وقد قلت في حديث سابق: لماذا عليّ(ع) دون غيره؟ وقلت إنني أفهم ذلك بالطريقة التالية: فالنبي(ص) لم يستكمل في مرحلته التي عاشها بعد الرسالة تنفيذ برنامجه في الدعوة وامتداد الإسلام وتعميقه في نفوس الناس، لأن الحروب شغلت برنامجه عن أن يتحرّك، ولأن المشاكل الداخلية في المدينة من خلال المنافقين واليهود، بعد المشاكل الصعبة في مكة، أخذت عليه الكثير مما كان يريد أن ينفّذه.
مسؤوليته الرسالية:
فما هو الدور المناط بعلي إذاً؟ كان غياب النبي(ص) عن المسرح الاسلامي يفرض أن يأتي شخص يعيش رسول اللّه(ص) بكلّه في معنى الإسلام في شخصية رسول اللّه(ص) في العقيدة والعاطفة والحياة، ويفرض أيضاً أن يكون هناك شخص في مستوى القاعدة وليس سوى علي من هو مؤهل لذلك، فهو الذي يمكن أن يجيب عن كلّ سؤال ويخطط لكلّ مرحلة، ويفتح أكثر من أفق. وهذا ما عشناه من خلال بعض ما وصلنا من تراث علي(ع) ولم يصلنا إلاّ القليل، لأن ما نعتب به على الشريف الرضي(رض) ـ مع كل شكرنا له ـ أنه كان يستهدف الأسلوب الأدبي في (نهج البلاغة) ولم يستهدف المسألة الثقافية المتنوّعة في النهج، لذلك اختصر الكثير من الخطب والكلمات، وكان يريد أن ينهج البلاغة فيما كانت الأمة بحاجة إلى أن ينهج ثقافة علي(ع) كلّها، لأنه حرام أن تضيع كلمة من كلمات علي(ع) ذلك لأن كل كلمة كانت تحمل فكرة وتشير إلى خط وإلى درب.
كان علي(ع) حقاً كلّه، وهذا ما قاله رسول اللّه(ص): «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث ما دار»( ). وكانت مأساة علي(ع) هي هذه الحقّانية «ما ترك الحق لي صديقاً»( ). «قد يرى الحولّ القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة». لأنها تمثل الحيلة في خط الباطل «وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»( ). وهو القائل «واللّه ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس»( ). وكان يتحدث عن أن الوفاء توأم الصدق، فلا يمكن أن تكون صادقاً وغادراً في الوقت نفسه ، فإذا كنت صادقاً فلابد أن تكون وفيّاً.
كلمات علي(ع) في معنى الحق:
ولو درسنا ـ أيّها الأحبة ـ كلمات علي(ع) لرأينا أن كلمات الحق لا تفارق كلماته، فتعالوا ولو على نحو فهرسة الكلمات ـ نستعرض بعض كلماته في معنى الحق.
يقول(ع): «ألا وإن من لا ينفعه الحق يضرّه الباطل». فإذا كنت تتصور أن الحق لا ينفعك لأن أكثر من مشكلة سوف تواجهك بسبب من اتباعه والعمل به، فإن عليك أن تعرف أنك إذا تركت الحق إلى الباطل فإنك سوف تعيش الضرر في الباطل لأنه لا نفع في العمق أبداً ، وإن خيّل لك أن هناك نفعاً في السطح منه.
ويقول الإمام علي(ع): «فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحقّ من جنبه»( ). أي أراد للباطل أن يكون صافياً لا يختلط الحق فيه حتى يخيّل للناس أنه الحق. وقد تحدث أيضاً عن امتزاج الحق بالباطل حتى يخيّل لهم أنه الباطل «فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ولو أنّ الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين»( ). ولكن المشكلة هي أن الحق يلبس بشيء من الباطل فيظهر للناس أنه الباطل، ويلبس الباطل بشيء من الحق فيبدو للناس أنه الحق.
وكان يقول لما سمع كلمة الخوارج: «لا حكم إلاّ للّه». «كلمة حق يراد بها باطل»( ). فلا يكفي أن تسمع كلمة الحق لتزحف إليها، ولكن عليك أن تعرف ما هي الخلفية التي تختبئ وراء الصوت الذي يطلق الحق، لأن البعض قد يحرّك الحق في اتجاه آخر ضد الحق انطلاقاً من بعض عواطف الغوغاء ومشاعرهم كما يحدث عندنا الكثير الكثير من ذلك، فما أكثر كلمات الحق التي يراد بها الباطل.
ويقول(ع) «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه»( ). فموقفه من الآخرين هو موقف من له الحق ممن عليه الحق، فليس مهمّاً أن يكون قوياً أو ضعيفاً، بل من هو صاحب الحق ليقف معه ومن عليه الحق ليقف ضده.
ويقول(ع) وهو يريد أن يفاضل بين الناس على أساس الحق «إن أفضل الناس عند اللّه من كان العمل بالحق أحبّ إليه وإن نقصه وكرثه»( ). كرثه الأمر أي اشتدّ عليه وبلغ منه المشقة فهو كارث.
وكان يقول(ع) لبعض أصحابه عندما يستوحش من خلال ابتعاد الناس عنه ويستأنس من اقتراب الناس إليه «لا يؤنسنّك إلاّ الحق ولا يوحشنّك إلاّ الباطل»( ).
وكان(ع) يقول وهو يتحدث عن خط العدالة عنده «وأيم اللّه لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق ولو كان كارهاً».
وكان يقول للناس الذين يحكمون بما يسمعون ولا ينتظرون حتى يروا ما يمكن أن يكون أساساً للحكم في رؤية مشاهدة أو رؤية قراءة «أما إنه ليس بين الحق وبين الباطل إلاّ أربع أصابع، الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت»( ).
وكان يتحدث مع الناس في أن عليهم أن يتوازنوا حتى في حبّه وبغضه، فلا يتطرّف الحب حتى تغلو فيمن تحبّ، ولا يتطرّف البغض حتى تظلم من أبغضته «سيهلك فيّ صنفان محب مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحق». فيصل إلى درجة الغلّو «ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق»( ). فيصل إلى درجة النصب والعداوة، وكم يهلك الناس في هذه الأزمنة بين محب غال ومبغض قال، كما ورد في كلمة أخرى له.
وكان يتحدث مع الناس وكأنه يعيش معنا ليحدثنا: لماذا هذه الهزائم؟ لماذا هذا التيه؟ لماذا هذا التمزّق؟ لماذا هذا السقوط في الواقع الإسلاّمي كلّه حتى أن الآخرين ينهشون من هذا الواقع قطعة هنا وقطعة هناك.
إنه(ع) يقول: «أيّها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ من قوي عليكم لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل، ولعمري ليضعّـفن لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلـّفتم الحق وراء ظهوركم وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد»( ).
أليست هذه هي صورتنا الآن عندما نتحرك لنطلب النصر من المستكبرين والكافرين والظالمين، أليس هناك من يصفّق لأمريكا لأنها في ظنّه تدافع عن المسلمين، كما كان البعض يصفق لها لأنها في ظنّه كانت تدافع عن المسلمين في (البوسنة والهرسك)، في حين أن أمريكا لا يمكن ان تفكّر بالخير فهي الشرّ كلّه، وإذا رأيت بعض الخير فانظر لترى ماذا هناك من مصالح أمريكا التي إذا التقت بالخير فلابد أن تجعل في داخله شيئاً من الشرّ، وهذا ما رأيناه في تهجير شعب (كوسوفو) هنا وهناك، ونحن نتذكر بهذا تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.
إذا رأيت نيوب الليث بارزة                                فلا تظنّن أن الليث يبتسم
فهو يحاول أن يحضّر أنيابه ليعرف من أيّ مكان يفترسك.
الحق في وصاياه:
وكان يقول للإمامين الحسن والحسين(ع) في آخر وصيته: «وقولا بالحق». في العقيدة وفي الشريعة والأمن والسياسة والاجتماع والقضاء والعلاقات الخاصة والعامّة «واعملا للأجر»( ). أي لما تقبلون عليه عند اللّه سبحانه وتعالى.
وكان يتحدث عن الصلابة في إقامة العدل ـ ففيما كتب لبعض عمّاله الذي أكل مالاً «واللّه لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفرا منّي بإرادة حتى آخذ الحق منهما»( ). ويذكّرنا هذا بكلمة رسول اللّه(ص): «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، واللّه لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها». وفاطمة لا تسرق ولذلك قال (لو) وهي حرف امتناع لامتناع، ولكنه أراد أن يصل بالمسألة إلى أقصى الدرجات في تأكيد العدل.
وكان يريد من الناس أن لا يخذلوا الحق بحجّة أنهم لم ينصروا الباطل لأن على الإنسان أن لا يكون حيادياً بين الحق والباطل، بل لابد أن يكون مع الحق ضد الباطل، وهذا ما قاله عن الذين اعتزلوا القتال بينه وبين معاوية «خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل».
اعرف الحق تعرف أهله:
وقال عن سعيد وعبد اللّه بن عمر أنهما «خذلا الحق ولم ينصرا الباطل». فلا مجال أيّها الأحبة ـ للجلوس على التلّ لأن الذين يجلسون على التلّ يساعدون الباطل حتى لو لم يشاركوا في القتال معه لأنهم عندما يُفقدون الحق موقعاً فإنهم يُضعفون الحق فينتصر الباطل ـ حينئذ ـ من خلال ذلك.
إن الذي يقول إن الصلاة خلف علي أقوم والطعام عند معاوية أدسم والجلوس على التلّ أسلم، يجب أن يعرف أن لا قيمة للصلاة خلف علي إذا لم يعش معنى الصلاة في موقف علي(ع) فأن يكون مع علي(ع) في صلاته يعني أن يكون مع اللّه لأن علياً مع اللّه، فمن صلّى مع علي وعاش مع الشيطان فكيف يكون مع علي(ع). فالجالسون على التلّ (الأكثرية الصامتة) تخوف الخط لأن «الساكت عن الحق». حيث يمكنه أن يقول كلمة الحق «شيطان أخرس». فمشكلة المسلمين اليوم هي الأكثرية الصامتة التي تقول أنا لا مع هذا ولا مع هذا وتردّد «اللّهم اعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجّنا من الشرير». فإذا لم تقف ضد الشرير ولم تكن مع الخيّر فكيف تنجو من الشرير؟
وقال علي في (حرب الجمل) لبعض أصحابه، (الحارث) الذي قال له: أتظن أن أصحاب الجمل على ضلالة وأنا على هدى وهم كثرة، فقال له: «يا هذا إنك نظرت إلى تحتك ولم تنظر إلى فوقك فحرت، إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه». وفي كلمة أخرى له «اعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله» ويقول في المعنى نفسه «لا يعرف الحق بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق». فقد تختلط علينا مواقع الحق عندما ننظر إلى هالة لشخص هنا وهالة لشخص هناك وعنوان كبير لشخص هنا وعنوان كبير لشخص هناك فنرى أنه الحق، ولكن المشكلة هي أننا لا نعرف الحق لنعرف الميزان في تقويم هذا وتقويم ذاك.
ولقد قال لابن عباس كلمة قيّمة بعثها له في كتاب، قال عنها ابن عباس: ما انتفعت بكلمة كما انتفعت بهذه الكلمة: «أمّا بعد يا ابن عباس: فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذّة وشفاء غيظ ولكن إطفاء باطل وإحياء حق فليكن سرورك بما قدّمت». وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( ). «وأسفك فيما خلّفت من الفرصِ وهمّك فيما بعد الموت».
وقال لابن عباس أيضاً «وهو يخصف نعله: ما قيمة هذا النعل . فقلت: لا قيمة لها، فقال: واللّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً»( ). لأن الإمرة لعلي(ع) ليست طموحا ولا حالة ذاتية، ولكن عليا يريد للإمرة أن تكون الوسيلة الفضلى لتأكيد الحق ودفع الباطل.
كيف نكون مع علي(ع):
أيها الأحبة: هذا عليّ الحق في معناه كلّه فهل تريدون أن تكونوا مع علي(ع)، فمن كان مع الباطل فليس لعليّ شغل فيه وليس له شغل في علي، فتعالوا لنفهم الحق في حياة علي(ع) لنعرف كيف نسير معه، لأن السير مع علي هو سير مع اللّه ومع رسول اللّه ومع الإسلام. وقد قال(ع) «ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم للّه وأنتم تريدوني لأنفسكم»( ). وقال «لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليّ خاصّة»( ).
فهل نعمل على أن تسلم أمور المسلمين، نحن الذين نثير في كل يوم فتنة ونزاعاً وخلافاً في هوامش الأمور وتفاهتها، أي إسلام هو هذا الإسلام، وأي تشيّع هو هذا التشيع، «أفيكفي الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاّه ثم لا يكون فعّالاً فرسول اللّه خير من علي». «أفحسب الرجل أن يقول أحبّ رسول اللّه ثم لا يعمل بسنّته». ويتابع الإمام الباقر(ع) فيما روي عنه «من كان ولياً للّه فهو لنا ولي ومن كان عدوا للّه فهو لنا عدو واللّه ما تنال ولايتنا إلاّ بالورع عن محارم اللّه». فالورع الورع.. والاستقامة الاستقامة.. وتبقى الولاية في خط النبوّة وتبقى النبوّة في خط التوحيد ويبقى الإسلام يضم ذلك  كلّه. والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة العاشرة: 16محرم 1420 هالموافق 1/5/1999م


القناعة والطمع


*  القناعة ليست ضدّ الطموح والطمع رغبة مذلّة *







التوازن بين الحاجات والمصالح
مفهوما القناعة والطمع
الجانب السلبي (الطمع)
القناعة في أحاديث أهل البيت(ع)
قصة الفقير الذي أثرى
قيمة الطمع
أخلاق الإسلام



 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
التوازن بين الحاجات والمصالح:
قيمة الإسلام أنه جاء في تشريعاته كلّها ومفاهيمه كلّها من أجل أن يعمّق للإنسان إنسانيته وأن يحقق له التوازن بين حاجاته وبين مصالحه حتى لا تطغى عليه حاجاته لتُسقط مصالحه الحقيقية، ولهذا رأينا كيف أن الإسلام يفتح للإنسان أبواب الحياة، فليس هناك أفق مغلق على الإنسان بحيث لا يمكن أن يقتحمه. ففي العلم إقتحمْ كلّ باب من أبوابه فليس هناك علم محرّم. ونعني بالعلم كلّ حقل معرفي من شأنه أن يفتح للإنسان آفاقاً جديدة بما فيه مصلحته وبناؤه إنسانياً. وفي التجربة انطلق لتكتشف الحقيقة من خلال التجربة لأن بعض الحقائق لا تستطيع أن تكتشفها بالتأمّل. وهكذا الحال في الناحية السلوكية، فلقد أراد اللّه للإنسان أن يعيش مع الإنسان الآخر بسلام، فالأصل السلام في حياة الناس مع بعضهم البعض، والحرب إنما تنطلق ضد الذين يفرضون الحرب على الإنسان ويريدون أن يصنعوا له المأساة، ولذلك فإن الحرب في الإسلام وقائية تارة ودفاعية تارة أخرى.
وهكذا أيضاً أراد اللّه للإنسان أن يحرّك أخلاقه في خط السلوك لتكون له خصائصه الفردية التي تحمي له شخصيته فيما يعيشه من عناصره الذاتية، كما أنها تحفظ له خصائصه الاجتماعية كجزء من المجتمع فيما يراد لعناصره الاجتماعية أن تحمي نفسها من خلال ذلك.
ولابد للإنسان المسلم إذا أراد أن يعيش إسلامه كما أراد اللّه له ذلك، أن يجمع في شخصيتة العناصر الفكرية التي ترتكز عليها العقيدة، والمفاهيمية التي يرتكز عليها التصوّر، والحركية التي يرتكز عليها السلوك.
مفهوما القناعة والطمع:
وهنا نريد أن نتحدث عن مفهومين متقابلين في الاخلاق: مفهوم سلبي وآخر إيجابي. فأما المفهوم الإيجابي فهو (القناعة) وأمّا المفهوم السلبي فهو (الطمع)، ونحاول في البداية أن نعطي فكرة عن مفهوم القناعة كيف نحدده ونوازنه، وعن مفهوم الطمع أيضاً.
ربما يبدو لبعض الناس أن القناعة تعني القبول بالأمر الواقع، فإذا أراد الإنسان أن يكون قنوعاً فعليه أن لا يفكر بتطوير أوضاعه إلى الأفضل، أو تطوير امكاناته إلى الأقوى، أو تطوير حياته إلى الأرحب، بل عليه من وجهة نظر هؤلاء أن يظلّ راكداً في نطاق واقعه، مستسلماً لكلّ ما يفرضه عليه الواقع من فقر وذلّ وجهل وما إلى ذلك.
وربما يفكرّ بعض الناس أن القناعة ضد الطموح، وأن على الإنسان أن لا يكون طموحاً، وأن لا يفكر في تطوير واقعه وتغييره. فيما يرى البعض الآخر أن على الإنسان أن يكون قنوعاً بالعلم فليس من الضروري أن يأخذ بأسباب العلم وأن يستزيد، أو أن يكون قنوعاً في الواقع السياسي، بأن يقبل الاستسلام لحكم الظالمين والمستكبرين. وكذا الحال في الواقع الاجتماعي عندما يواجه الإنسان قضايا التخلّف في الواقع، فإن عليه ـ حسب هذه النظرة ـ أن يقبل بذلك. وأن على المجتمع أن يقنع بما تركه الآباء والأجداد من عادات وتقاليد غدت مقدسة من باب تقديس الخطأ والجهل والتخلّف ليس إلاّ.
ولكن هذا المفهوم مفهوم خاطئ، فاللّه أراد للإنسان أن يكون طموحاً، وأن يظل في حركة تصاعدية بحيث إذا كان في درجة ما فعليه أن يعمل لينطلق إلى درجة أعلى، ولذلك ففي الدعاء «اللّهم أجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه». في واقع الإنسان الإيجابي كلّه. وفي الأذان نقول (حيّ على خير العمل) وخير العمل هو أفضله، وإذا كان مفسّراً بالصلاة فإن الصلاة نموذج ومصداق لخير العمل، ولكن الفكرة هي أن ينطلق الإنسان ليبحث عن العمل الأفضل والأحسن، لذلك لابد للإنسان من أن يكون طموحاً فإذا استطاع أن يوسّع في رزقه فإن اللّه  سبحانه وتعالى يشجّعه على ذلك، وقد اعتبر العمل في سبيل تحصيل الرزق من الحلال والتوسعة على العيال، والتعطّف على الجار، والقيام بالمسؤوليات الاجتماعية الإسلامية، عبادة، ففي الحديث الشريف «العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال»(1). وقد جاء أحدهم إلى إمام من أئمة أهل البيت(ع) وأحسبه الإمام الصادق(ع)، قال له: «إنني هممت أن أدع السوق، قال: إذاً يقلّ عقلك ولا ينتفع منك بشيء». أي إنك بذلك تفقد غنى في التجربة، لأن التجارة ليست مجرد عمل تحصل منه على رزق ولكنها تجربة تحصل من خلالها على خبرة وعقل اجتماعي واقتصادي من خلال حركتك مع الناس في تعقيدات التجارة كلّها.
فإذا قبلت بما عندك فسوف لن ينتفع الناس منك بشيء، ولكنك إذا ركّزت اهتمامك في التجارة وكسبت رزقك فإنك سوف تنفع الناس سواء في الحاجات التجارية أو فيما تعين به الناس في هذا المجال أو ذاك. وقد ورد في بعض أحاديث أهل البيت(ع) أن الإمام الصادق(ع) سئل عن شخص «قال أين هو، قالوا: هو في البيت يعبد ربّه، قال: فمن يقوته؟ قالوا: فلان، قال: إنه أشدّ عبادة منه». لأن اللّه لا يريد لنا أن نجلس في المسجد طوال الليل والنهار حيث يقول تعالى {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّه وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الجمعة/10). ويقول سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكلّوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك/15). فالإسلام لا يريد للإنسان أن يتقاعد في أيّ سنّ بل أن يظلّ يعمل، وإن كان لكلّ مرحلّة من العمر عملها، لكن أن يبقى ينتظر الموت ولا يعمل ولا يكتسب رزقاً فإنه بذلك يعطّل طاقاته، بعكس صاحب ذلك المصنع الضخم الذي قيل له لقد أصبح لديك مال كثير يكفيك ويكفي أجيالاً من بعدك فلماذا لا تتقاعد؟ فقال: إذا تقاعدت فماذا أعمل؟!
أما بالنسبة إلى العلم فإن اللّه أراد للإنسان أن يستزيد منه كما علّم رسوله(ص) {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه/114). فكلّما بلغتَ مرحلة من العلم فعليك أن تستزيد منه، ذلك أن المرء عالم ما طلب العلم، وأن طلب العلم ـ كما في الحديث الشريف ـ من المهد إلى اللحد.
وهكذا الحال في كلّ جهد يقوم به الإنسان، وكلّ طاقة يفجرّها مما يحتاجها الناس ويرتفع بها مستوى الحياة فهي مسؤولية الإنسان، وربما يصل الأمر إلى حدّ الوجوب، عندما تكون الحاجة في مستوى القضايا الكبرى والحاجات الملحّة للمجتمع. فالإسلام لا يقول لك كن قنوعاً ولا تكن طموحاً، بل كن طموحاً في كلّ شيء ولكن ليكن طموحك في خط طاقاتك وامكاناتك، فعليك أن تطوّر أوضاعك وطاقاتك وطموحاتك في حجم إمكاناتك، وحاول أن تجعل إمكاناتك تتحرك بطريقة وبأخرى لتوسّع حياتك وحياة الآخرين أيضاً.
الجانب السلبي (الطمع):
أما الجانب السلبي، فالقناعة هي ضد الطمع بمعنى أن تتحرك لتطمح إلى أن تأخذ مالاً من دون جهد، فقد تمّر بك ظروف معينة تجعل رزقك محدوداً، فالإسلام هنا يقول لك حاول أن يكون لك غنى النفس فلا تلتفت إلى الآخرين لتجعل حاجاتك عندهم بحيث تسقط نفسك وموقعك وموقفك من أجل تلك الحاجات، بل حاول أن تعمل وتعمل وتعمل لتلبّي حاجاتك من خلال جهدك، وحتى إذا كانت حاجاتك مرتبطة بالآخرين فحاول أن تشاركهم في تحصيل حاجاتك لا أن تنحني أمامهم بذلّة. بل إعمل معهم لأنك بالعمل تعطي وتأخذ وهذا لا يناقض القناعة، أما أن لا تعمل وتمدّ يديك إلى الآخرين وتجلس بطاّلاً في البيت وتتطلّع إلى ما رزق اللّه الآخرين من رزق، فهذا ما يرفضه الإسلام، وقد جاءت آيتان في القرآن تحذّران من ذلك كما في قوله تعالى {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا}(طه/131). وفي قوله تعالى {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ}(التوبة55). أي لا تتطلّع إلى الآخرين فيما أعطاهم اللّه سواء كان العطاء بلاء منه واختباراً أو لسبب آخر. فلا تمدّن عينيك إلى ذلك،  بل مدّها إلى طاقاتك وجهدك وظروفك والوسائل التي تملكها.
القناعة في أحاديث أهل البيت(ع):
وتعالوا لنتوسّع بالفكرة من خلال أحاديث أئمة أهل البيت(ع) التي رواها الشيخ الكليني في كتابه (أصول الكافي).
ولعلّ ارتباطنا بأهل البيت(ع) هو ارتباط بالفكر الذي منحونا إياه وليس ارتباط دمعة ولا ارتباط بسمة ولكنه ارتباط عقل وحركة وهدف كبير لابدّ أن نسعى إليه.
ففي الحديث عن الإمام الباقر(ع) قال أبو جعفر وكان يكنّى (بأبي جعفر) : «إيّاك أن تطمح بصرك إلى ما هو فوقك». أي لا تحاول أن تتطلّع إلى ما فوقك لتتّمناه من دون جهد أو لتحسد غيرك على ذلك، بل انظر إلى طاقاتك، ويقول: «فكفى بما قال اللّه لنبيّه(ص) {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} وقال {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} فإن دخلك من ذلك شيء». ورأيت نفسك صغيراً فصغرت نفسك عندك، وتصوّرت أن اللّه عاقبك وأهانك بذلك، وتساقطت أمام الآخرين «فاذكر عيش رسول اللّه(ص) فإنما كان قوته الشعير وحلواه التمر ووقوده السعف إذا وجده»(9). فهل أن اللّه ابتلى رسوله بذلك عقوبة له؟ حاشا وكلاّ، فاعرف إذاً أنها الظروف، فلقد عاش رسول اللّه(ص) في بيئة فقيرة فرضت عليه هذا الفقر فتحرّك من خلال ما أعطاه اللّه من طاقات ورضي بما عنده وربما كان يعمل على أساس تطوير ذلك في حياته.
وعن أبي عبد اللّه الصادق(ع) قال: «من رضي من اللّه باليسير من المعاش رضي اللّه منه باليسير من العمل»(10). فهذا الأمر يتصل بعلاقة الإنسان بربّه في موقع رضا اللّه عليه، فإذا قبلت بظروفك التي تحيط بك من خلال ما ابتلاك اللّه به فقبلت باليسير من المعاش فإن اللّه يحمد لك ذلك ويقبل منك باليسير من العمل ولا يكلّفك غير ذلك.
وعنه(ع) قال «مكتوب في التوراة: إبن آدم كن كيف شئت كما تدين تدان، من رضي من اللّه بالقليل من الرزق قبل اللّه منه اليسير من العمل، ومن رضي باليسير من الحلال فلم يطمح إلى الحرام خفّت مؤونته وزكت مكسبته وخرج من حدّ الفجور»(11). لأن الإنسان الذي لا يرضى بالحلال وينفتح على الحرام فإن ذلك سوف يقوده إلى الوقوع في الحرام والشبهات.
ويقول الإمام علي(ع) فيما يروي عنه الإمام الصادق(ع) «كان أمير المؤمنين(ع) يقول: ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك». فتارة تفكر في الحصول على كفايتك بأن تأكلّ وتشبع وتشرب فترتوي وتنام على فراش لتستريح، فأقلّ ما في الدنيا يكفيك، أمّا إذا كنت تفكّر بأكثر من حاجة الكفاية عندك «وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك فإن كلّ ما فيها لا يكفيك»(12). لأنك ستبقى في حالة طوارئ نفسيّة ربما تدمّر واقعك الداخلي أكثر مما تعطيك من حركة في الخارج.
قصة الفقير الذي أثرى:
وعن الإمام الصادق(ع) في قصة رجل جاء إلى رسول اللّه(ص) يطلب منه أن يعطيه فلما رآه قال: «من سألنا أعطيناه ومن استغنى وصبر فاللّه يغنيه عمّا سألنا عنه. فقال الرجل ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها، فقالت إنّ رسول اللّه(ص) بشر فأعلمه، فأتاه فلما رآه قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى اغناه اللّه حتى فعل الرجل ذلك ثلاثا، ثم ذهب فاستعار معولاً ثم أتى الجبل فصعده فقطّع حطباً ثم جاء به فباعه بنصف مدّ من دقيق فرجع به فأكلّه، ثم ذهب من الغد فجاء باكثر من ذلك فباعه فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع حتى اشترى بكرين (من الأبل) وغلاماً ثم اثرى حتى أيسر فجاء إلى النبي(ص) فاعلمه كيف جاء يسأله، وكيف سمع النبي(ص) فقال له النبي(ص) قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى اغناه اللّه». فعندما اعتمدت على طاقاتك وفتّشت عن الفرص التي يمكن من خلالها أن تجني عيشك ولو بالقليل فإن اللّه سبحانه وتعالى أغناك وزادك من فضله، فنحن نعرف أن البعض من الشبّان يطرق هذا الباب وذاك الباب ويطلب العون والمساعدة وهو ليس مستعداً للعمل في الأعمال المتعبة كالبناء مثلاً، أو يدّعي أن هذا المورد لا يكفيه، فروحية التطّلع إلى ما في أيدي الآخرين والإحساس بالتعب والكسل هي التي تمنع الإنسان من أن ينفتح على الفرص التي يمكن أن يحصل على رزقه من خلالها.
وعن أبي جعفر(ع) قال «قال رسول اللّه(ص) من أراد أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه أوثق منه بما في يد غيره»(13). فأنت غني ومع ذلك تقول إن فلاناً هو الذي يحلّ لي مشكلّتي، في حين أن اللّه هو الغني المطلق الذي أعطى كلّ غني غناه.. ثق بما عند اللّه واطلب منه وتحرّك في الاتجاه الذي أراد لك أن تتحرك فيه، فإنك ستكون حينئذ أغنى الناس لأنك تقطع كلّ تمنياتك على الناس، وتنفتح على اللّه الذي أعطى للغني غناه.
وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع) في (الصحيفة السجادية) «اللّهم إني أخلصت بانقطاعي إليك وأقبلت بكلّي عليك». بعقلي وقلبي وإحساسي وجميع مشاعري «ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه». تماما كمفلس يطلب من مفلس. «وضلّة من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فصحّ بمعاينة أمثالهم حازم وفّقه اعتباره وأرشده إلى طريق صوابه اختياره، فأنت يا مولاي دون كلّ مسؤول موضع مسألتي»(14).
وعن الإمام الصادق(ع) والباقر(ع): «من قنع بما رزقه اللّه فهو من أغنى الناس»(15). لأن الغنى هو غنى النفس، فعندما تشعر بالاكتفاء فمعنى ذلك أنك أغنى من الناس كلّهم لأن كلا منهم يتطلّع إلى الآخر فهو يشعر بالفقر أمامه، ولكنك عندما تشعر بالفقر للّه سبحانه وتعالى فأنت بذلك تعيش غنى النفس كافضل ما يكون الغنى.
قيمة الطمع:
وفي نهاية المطاف نتحدث عن الجانب السلبي في قيمة الطمع، يقول الإمام الصادق(ع): «ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تذلّه»(16). فقد تكون لك أمنيات وأحلام ولكنك لا تملك المعطيات أو الوسائل التي تحقق بها تلك الأمنيات والأحلام، فبدلاً من أن تصبر على رغبتك، حتى تستطيع أن تحقق ما يلبيّها، تحاول اذلال نفسك أمام الآخرين الذين مهما أعطوك فإن عطاءهم لا يكون ثمناً لما تبذله من نفسك. وفي ذلك يقول الإمام علي(ع) ومشكلتنا أننا نأخذ من علي شيئاً ونغفل اشياء، فلقد حبسنا عظمائنا في سجن مشاعرنا ولم نطلقهم في آفاق عقولنا، ولذلك فرغت عقولنا منهم وعاشت أحاسيسنا معهم، فنحن لم نعش الحسين(ع) ولم نعش علياً إلا في إطار العواطف فقط.
يقول(ع) «أكرم نفسك عن كلّ دنيئة». عن كلّ رغبة وضيعة «وإن ساقتك إلى الرغائب». وإن حققت لك بعض الأرباح «فإنك لن تعتاض بما تبذله من نفسك عوضاً». فربما تحصل على مئة ألف دينار لكن ما تبذله من نفسك لا يقدّر بثمن مهما كان ما حصلت عليه.
وعن أبي جعفر الباقر(ع) «بئس العبد عبد له طمع يقوده وبئس العبد عبد له رغبة تذلّه»(17). وعن علي بن الحسين(ع) هذا الذي قد قدّم لنا ثقافة متنوعة من خلال الصحيفة السجادية يغتني بها العقل والروح، ولو درسنا تلامذته الذين رووا عنه لرأينا أن أغلبهم من روّاد الفكر الإسلامي آنذاك، في حين لا نروي عنه سوى أنه ما وضع بين يديه طعام ولا شراب إلا مزجه بدموعه، وحتى في ذلك كان الإمام السجاد(ع) يريد أن يخلّد ويعمّق القضية الحسينية في نفوس الناس من خلال العاطفة.
يقول(ع) : «رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس»(16) . ويقول الصادق(ع) وقد سأله بعض أصحابه «قلت له: ما الذي يثبّت الإيمان في العبد؟ قال: الورع عن محارم اللّه، والذي يخرجه، قال: الطمع» لأن الطمع يقود الإنسان إلى ارتكاب المحرّمات في سبيل الحصول على ما يريد، وقد ورد عن علي(ع) «الطامع في وثاق الذل»(17). وورد عنه «القناعة مال لا ينفد» فهي تعطيك رصيداً من الصبر وعزّة النفس وكرامتها.
أخلاق الإسلام:
أيها الأحبة : الإسلام أخلاق كلّه لأن النبي(ص) قال «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(18). فإذا أردنا أن نكون مسلمين فعلينا أن تكون أخلاقنا أخلاق المسلمين كما كان رسول اللّه(ص) الذي سئلت بعض زوجاته عنه فقالت، هل أوجز أو أطنب، قالو: أوجزي، قالت: «كان خلقه القرآن».
فاقرأوا القرآن بكلّ ما جاء به من أخلاق للإنسان بما يرفع مستوى الإنسان، ولنقرأ رسول اللّه(ص) في أخلاقه، من خلال أخلاق القرآن لأننا سنحشر إلى اللّه بأخلاقنا وأفكارنا ومشاعرنا وأحاسيسنا.. أيها الأحبة: «اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل».  {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للّه}(الانفطار/19). {يَوْمَ تَأْتِي كلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}(النحل/11). {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(الإسراء/14) والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة الحادية عشرة: 22محرم 1420 هالموافق 8/5/1999م




في ذكرى ولادة الإمام زين العابدين(ع)
النظرة الإسلامية إلى المال وحركته


* تراث الإمام زين العابدين(ع) في المجال الفكري ومواقع المعرفة كلّها يزيد كثيرا عن تراثه في الدعاء *




ذكرى وفاة الإمام السجاد(ع)
قوة الإمام(ع)
توظيف العاطفة
الإمام(ع) في المدينة
أستاذ الفكر الإسلاميّ
النظرة الإسلامية إلى المال
كيفية صرف المال
الثراء والطغيان
صحبة الفقراء
الموقف في حالي المنع والعطاء
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ذكرى وفاة الإمام السجاد(ع):
بعد أيام تطل علينا ذكرى وفاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) وعندما نتعامل مع التأريخ ولا سيما تاريخ العظماء سواءً كانوا ممن يملكون القداسة وفي وجداننا الإسلامي أو من الذين يملكون الإنتاج المنفتح على قضايا الإسلام في عقائده ومفاهيمه وشرائعه، فإننا لا نريد أن نغيب في كهوف التأريخ، ولكنّ هناك تأريخاً لا يحتويه الزمن الماضي، أو يستهلكه، لأنه يمثل الحقيقة الباقية على مدى الزمن، وهذا هو تاريخ النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) لأنهم لم يتحركوا في حياتهم من موقع القضايا الصغيرة المحدودة حدود الزمن هناك، بل تحرّكوا من خلال الإسلام كلّه فكان حديثهم إسلاماً وكان دعاؤهم إسلاماً وكانت حركتهم إسلاماً يتجسّد.
الإمام زين العابدين(ع)م يمثل الإمام المتعدّد الأبعاد والمتنوّع الآفاق في حركته في المرحلة التي عاش فيها، فإذا انطلقنا في واقع المأساة فإننا نرى فيه الإنسان الذي عاش المأساة بكل عمقها وبكل قساوتها وبكل فظاعتها، ولكنه كان أكبر من المأساة إذ كان يتابع المعركة بوجدان منفتح على ما يعلمه من معنى المعركة ورسالتها وأهدافها.
قوة الإمام(ع):
لذلك لم نلاحظ في تأريخ الإمام زين العابدين(ع) الكربلائي أي مظهر للحزن في مستوى ما تعطيه كربلاء من دوافع الحزن، ولقد كان حزيناً ولكن حزنه كان حزناً إنسانياً هادئاً مع وظيفته إماماً وقائداً وثائراً أيضاً. وما كان في كربلاء فهو عينه في الكوفة فكان الإنسان الذي وقف أمام ابن زياد في موقف العنفوان الذي لم يهن ولم ينكسر بل تحدّث بلغة إسلامية أحرجت ابن زياد إلى درجة فكّر معها بقتله لولا عمته زينب(ع).
وهكذا كان في الشام القوي أمام يزيد، وبالتالي فإننا عندما ندرس الإمام زين العابدين(ع) في تلك المأساة المتحركة في كربلاء وفي الكوفة وفي الشام نجد أنه كان الإنسان الصلب القوي الواثق بالله الذي لم تأخذه بالله لومة لائم، فلم نجد هناك أي موقف ضعف في تلك المسيرة كلّها، ولذلك فإننا نستنكر بشدة الشعر الذي يردّده البعض من أنه كان يصيح:
واذلاّه أين عشيرتي                    قومي أين أهل ودادي
إنهم يريدون إبكاء الناس على حساب عظمة موقف السجاد(ع) الذي لم يكن يشعر بأي ذل، وإن كان السبي والأسر قاسياً، ولكنه كان ينطلق من قلب هذه القسوة بالموقف الإسلامي القوي.
توظيف العاطفة:
وعندما انطلق الإمام زين العابدين(ع) بعد كربلاء إلى المدنية كان يثير الحزن بين وقت وآخر ومن الطبيعي أن يتحرك هذا الحزن في قلبه فقد كانت المأساة كبيرة وعميقة، وعندما ينفصل الإنسان عن جو المأساة ويخلو إلى نفسه، فإن الذكريات تتعاظم وينطلق الألم عميقاً ولكنه كان يخطّط لشيء آخر، كان يبكي ليعلّم الناس أسلوب البكاء على الحسين وكان يحدّث الناس عن الحسين في كل ألوان المأساة ليخلّد في وجدان الناس تلك المأساة. كان(ص) أول من خطّط لانطلاقة العاطفة في خط القضية الحسينية، لأن أهل البيت كانوا لا يريدون لكربلاء أن تضيع في التأريخ ولا يريدون للنهضة الحسينية أن تبقى في كربلاء لتضمّها كربلاء قبوراً ولينسى الناس في زحمة الأحداث الكبرى كل ما هناك، بل أرادوا أن تكون كربلاء الجرح النازف الذي يبقى ينـزف من أجل أن يتحول هذا النـزيف من هذه الجراح إلى ثورة ضد كل الذين يصنعون المأساة في حركة الإنسان في التأريخ، ولذلك فإن كربلاء تتحرك في وحيها مع مأساة القضية الفلسطينية ومع مآسي الاستكبار التي يسببها للشعوب وهي تتحرك في كل حالات الاضطهاد التي تواجهها مع حكامها، ولكن لكل موقع إيحاء من كربلاء يختلف عن الموقع الآخر، لأن كربلاء انطلقت من خلال الإسلام والإسلام يأبى الظلم لكل أحد حتى للكفّار، لأن الله لا يريد للإنسان أن يظلم بل يريد له أن يأخذ حقه سواءً كان مسلماً أو كافراً. ولذلك فإن كربلاء تمثل صيحة العدل في مقاومة الظلم، لأن كربلاء كانت إسلامية وليست دائرة ضيقة تمثل وضعاً طائفياً معيناً، بل كانت ساحة مفتوحة تمثل إسلاماً يعمل على أن ينقّي الساحة الإسلامية، ولهذا فقد قلناها دائماً بالصوت العالي: من الخطأ بل من الجريمة أن نعتبر عاشوراء موجهة ضد المسلمين السنّة وإنما هي موجهة ضد كل ظالم سواءً كان سنياً أو شيعياً، ونحن نعرف أن يزيد لا يمثل السنّة وأن الحسين كان يمثل الإسلام كلّه «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة». ولذلك فلا بد أن نطلق كربلاء إسلامية من خلال قيم الإسلام التي جسّدها الإمام الحسين(ع) في حركته وفي شعاراته. من هنا كان أهل البيت(ع) يريدون لهذه المجالس أن تتحرك «أحيونا أمرنا». ولا أمر لهم إلاّ الإسلام، ولا أمر لهم إلاّ العدل ولا أمر لهم إلاّ أن يعيش الناس الحق في مواضعهم وفي مجالاتهم كلّها. ولذلك علينا أن نفهم ـ أيها الأحبة ـ مما ينقل إلينا من حزن زين العابدين(ع) ومن بكائه أنه كان بكاء يمثل كلّ هذه الرحلة البكائية التي تريد أن تغسل القلوب بتلك الدموع وأن تحرّك الدموع، الحارة من خلال الرسالة، ولقد كان زين العابدين(ع) يتنقل في سوق القصابين ويسأل قصاباً يريد أن يذبح كبشه: هل سقيته الماء؟ وعندما يجيبه بالإيجاب والناس مشغولون في السوق يطلق(ع) حزناً ذاتياً كان يريد أن يهيئ من خلاله الجو ليتحسس الناس في وجدانهم معنى القضية الحسينية على مستوى المأساة وعلى مستوى الرسالة.
الإمام(ع) في المدينة:
ورأينا كيف أن الإمام زين العابدين(ع) ينتقل إلى المدينة التي كانت تغلي، فكربلاء استطاعت أن تترك تأثيراتها في وجدان أهل المدينة وتمكنت من أن تصنع من هذا الغضب الكربلائي فيما تمثله كربلاء من ارتباط المدينة بالحسين(ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، وفيما اكتشفه الناس من ظلم يزيد ومن انحرافه، ومن هذا الوضع الذي لم يكن للمسلمين عهد به فيما يمثله هذا الموقع الذي أراد الله أن يكون موقعاً للإسلام في أصالته ونقائه، وبذلك بدأت بذور الثورة في المدينة، وكان زين العابدين(ع) يعيش بعض الحرية في المدينة اليت كانت تلاحق الأمويين الذين يتواجدون فيها، ويأتي مروان ومعه من عائلته أربعمائة شخص بين ولد وحفيد وزوجة وما إلى ذلك ويأبى أهل المدينة أن يستضيفوا عائلته ريثما تهدأ الثورة، أما زين العابدين(ع) فقد قال له ضم أهلك إلى أهلي، وتقول بعض نساء مروان ما رأينا مثل رعاية زين العابدين لنا:
ملكنا فكان العفو منا سجية                فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما                عدونا عن الأسرى نعف ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا                وكل إناء بالذي فيه ينضح
لا نقول لقد ارتفع زين العابدين عن الحقد لأنه ككل أهل البيت المعصومين لا يحملون حقداً على إنسان حتى على الذين صنعوا المأساة في حياتهم، فنحن نقرأ معه هذا السمو الأخلاقي الذي يريدنا أن نرتفع إليه في دعائه في (مكارم الأخلاق) (وسدّدي لأن أعارض من غشّني بالنصح وأجزي من هجرني بالبر وأثيب من حرمني بالبذل وأكافي من قطعني بالصلة وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة)( ). أي سمو هذا الذي يرتفع به الإنسان المؤمن عن كل التعقيدات الموجودة في نفسه أمام الذين يطلقون العقدة في حياته؟! ولكن أهل البيت(ع) هم رسول الله(ص) في أخلاقهم فلقد عاشوا رسول الله نسباً وفكراً وروحاً وخطاً والتزموه منهجاً واستطاعوا أن يؤصّلوا ما جاء به رسول الله في حياتهم وفي حياة الآخرين.
أستاذ الفكر الإسلامي:
وكان الإمام زين العابدين(ع) في تلك الفترة وبعدها العالم المعلّم، ولو درسنا ما جاء عنه من تراث متنوّع في أكثر من موقع من مواقع المعرفة الإسلامية لرأينا أن زين العابدين كان أستاذ الفكر الإسلامي آنذاك، وعندما نعدّد تلامذته فإننا نرى أنهم يتنوعون فهناك مْن يختص بالتاريخ ومنهم من يختص بالتفسير ومن يختص بالفقه ومن يختص بالثقافة الاجتماعية وما إلى ذلك، ولذلك فإن تراث الإمام زين العابدين(ع) الذي يجهله الكثيرون منا في المجال الفكري الثقافي في مواقع المعرفة كلّها، يزيد كثيراً عن تراثه في الدعاء، ومع الأسف فإن بعض الناس يرى أن أسلوب زين العابدين الرسالي منحصرٌ في الدعاء فقط في حين أنه لم يختص بأسلوب معين بل كانت حركته حركة علمية في كل أبعاد العلم آنذاك، وكان الدعاء هو أحد هذه الوسائل لتأكيد المفردات الفكرية والإسلامية والثقافية التي يؤكدها في أحاديثه الأخرى، ولذلك نحن نعتبر أن هناك تجديداً في أسلوب الدعاء لدى زين العابدين(ع) وهو أنه أدخل إلى الدعاء المفاهيم الإسلامية التي يختزنها الداعي بين يدي الله فيستوعب في دعائه بشكل لا شعوري كل القيم والمفاهيم الإسلامية، ولذلك فنحن ندعو إلى دراسة أدعية زين العابدين(ع) ولا سيما (الصحيفة السجادية) كثروة للوسائل الروحية التي تغني في حركتها النتاج الثقافي للإسلام.
وأحب ـ أيها الأحبة ـ أن ننتقي بعض ما ذكره الإمام زين العابدين(ع) في أدعيته من المفاهيم الإسلامية التي يعيش الناس الانحراف عنها، فهناك دعاء في المعونة على قضاء الدين، ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يريد أن يدعو اللّه في أن يقضي دينه لابد أن ينشغل بمشكلة الدين وآلام الدين وبما يترتب عليه من سلبيات أمام الدائنين، ولعل ذلك يشغله عن كل المفاهيم الأخرى التي تبتعد عن هذا الموضوع. أما جربتم ذلك؟ فعندما تطبق عليكم الديون وتبتهلون إلى اللّه بسدادها هل تفكرون بمفهوم إسلامي أو بواقع منحرف في الحياة.
النظرة الإسلامية إلى المال:
فلنستمع إلى الإمام زين العابدين(ع) كيف أنه انطلق من الحاجة إلى قضاء الدين ليعطينا الفكرة الإسلامية التي ترصد بعض القضايا السلبية في النظرة إلى المال «اللّهم صلِّ على محمد وآله وهب لي العافية من دين تخلق به وجهي». لأن الإنسان قد يعيش الذل في وجهه أمام الدائن «ويحار فيه ذهني». وعندما يعيش الإنسان الضيق الذي يسببه الدين يحار كيف يحل هذه المشكلة «ويتشعّب له فكري». ينطلق فكره إلى هذا الموقع أو إلى ذاك بحثاً عن حل مناسب «ويطول بممارسته شغلي». لأنه يشغل الإنسان تحت تأثير الضغط النفسي وتحت تأثير الضغط الخارجي في مطالبة الآخرين له «وأعوذ بك يا ربي من همّ الدين وفكره وشغل الدين وسهره». انه يطلب من اللّه أن يقضي له دينه، لأن هذا الدين يشغله ويبعده عن كثير من مسؤولياته فيملأ نفسه بالهم فلا ينفتح على قضايا المسؤولية في الحياة، ويملأ فكره بالإرباك فلا يستطيع أن يتحرك في خط التفكير السليم، ويشغله عن كل ما حوله، ويسهر عينه فيمنعه من النوم والراحة، وبذلك يترك تأثيره على مجمل حركته في الحياة «واعذني منه واستجير بك يا ربِ من ذلّته في الحياة ومن تبعته بعد الوفاة». لأن الإنسان سيسأل عن ما للآخرين من حقوق عليه عندما يقوم الناس لربّ العالمين «وأجرني منه بوسع فاضل». بسعة من المال تترك لي فضلاً منه «أو كفاف واصل». أو تعطينا الكفاف الذي لا يزيد ولا ينقص عن حاجتي.
كيفية صرف المال:
إلى هنا ينتهي موضوع الدين لتبدأ التعليمات عن كيفيه صرف المال وفي كيفيه مواجهة التأثيرات السلبية التي يعيشها الإنسان عندما يكثر ماله «اللّهم صلّ على محمد وأله واحجبني عن السرف والازدياد»( ) (2). عن أن أعمل على أساس أن أسرف فيما ترزقني به من مال فأتجاوز الحدود المعقولة في الصرف وأحاول أن أنظر إلى أن هذا المال الذي أعطيتني إياه على أنه طاقة فلابد لي من أن أحافظ عليها كما يحافظ الإنسان على كل الطاقات التي أعطاه اللّه إياها في الحياة فلا يصرفها فيما لا غنى منه ولا فائدة.
وقد حدّد الإمام الصادق(ع) موضوع الاقتصاد والسرف في كلمة قال فيها «إن القصد أمر يحبه اللّه وان السرف أمر يبغضه اللّه»( ). ثم مثّل بمثال، فقال: «حتى طرحك النواة».. فقد تأكل تمراً وتأكل زيتوناً وتأكل أي شيء له نواة وترمي النواة في الأرض «وحتى صبّك فضل شرابك». تملأ الكأس بالماء وتشرب نصفه وتعزف عن نصفه الآخر، فقد تصلح النواة لشيء يمكن للمجتمع أن يستفيد منه في إنتاج أشياء كثيرة، فلماذا تطرح هذه الثروة التي يمكن أن تعطيك إنتاجا كبيرا، والماء هو طاقة الحياة، املأ نصف الكأس واشربه حتى لا تفّرط بالباقي الذي يمكن أن يروي غيرك، ومن هنا تمتد المسألة إلى الوضوء وللكثير من الناس الذين يعتبرون الوسوسة ديناً وهي في الحقيقة شيطنة وليست ديناً، لأن الوسواسي كما يقول الإمام الصادق(ع) يعبد الشيطان لأنه يعبد أوهامه ووسوسته. فعندما تتوضأ أو تغتسل وتريق الكثير من الماء تذكّر أن الماء طاقة الحياة، فخذ منه بمقدار حاجتك لأن هناك من يحتاجه غيرك لاسيما أمام المشاكل التي يعيشها الناس في هذه المنطقة من نقص في الماء «واحجبني عن السرف والازدياد». في المصرف أو الازدياد في المال بنحو الطمع أو ما أشبه ذلك «وقوّمني بالبذل». أن أعطي مما أعطاني اللّه «والاقتصاد».   {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}(الفرقان:67). يقال إن الإمام الصادق(ع) قرّب الفكرة هكذا: فتارة يأتي بالماء ويضعه بيده ولا تسقط منه قطرة، وقد يضعه بطريقة لا يبقى منها شيء، وتارة يضع الإنسان بيده الماء بشكل يُبقى قسماً ويُنزل قسماً، وهذا هو الشيء الطبيعي في الحياة.
ويقول زين العابدين(ع) «وقوّمني بالبذل والاقتصاد وعلّمني حسن التقدير». أن أقدّر حاجاتي وأن أقدّر إمكاناتي لا حرّك حاجاتي في مستوى إمكاناتي، كما في المثل الشعبي (على قد بساطك مد رجليك) وربما يريد الإمام أن يوحي بأن كثيراً من الدين ينطلق من الاسراف، لأن الإنسان إذا قدّر حاجاته مقارنة بإمكاناته فسوف تتوازن حاجاته مع إمكاناته وسوف لا يضطر في كثير من الحالات إلى أن يمد يده إلى الناس من دين أو غير دين «واقبضني بلطفك عن التبذير»( ). {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}(الإسراء:27). «وأجرِ من أسباب الحلال رزقي». اجعلني يا رب عندما أسعى في رزقي انطلق من أسباب الحلال ليكون رزقي من الحلال «ووجّه في أبواب البرّ إنفاقي». اجعلني أيضاً أنفق مالي في أبواب الخير، وهذا هو حال الإنسان المسؤول عن ماله ممن اكتسبه وانفقه فليست القضية فقط أن يكون رزقك حلالاً بل لابد أن يكون انفاقك في الحلال، وهذه النقطة يركزها الإمام في أن يحكم الحلال حياتك كلها..أن تكسب في الحلال وأن تـنفق في الحلال، وأن تحرّك شهوتك في الحلال وأن تقف مواقفك في الحلال، وأن تسكن في الحلال وما إلى ذلك، فليس بين الدنيا والآخرة إلاّ الحلال والحرام. ولقد جاء رجل إلى الإمام الصادق(ع) فقال له: «ما الزهد في الدنيا؟ قال: ويحك حرامها فتنكّبه». أي اجتنب الحرام وستكون أزهد الزاهدين.
ثم يحدّد الإمام علي بن الحسين(ع) حجم المال الذي يريده من اللّه تعالى، فنحن ـ عادة ـ إذا أردنا أن نطلب رزقا من اللّه فلا نضع حداً لذلك بل نطلب الدنيا كلّها، ولكن الإمام(ع) يعلّمنا أن امتلاك المال لابد أن لا يؤثر على مبادئك على أخلاقك وعلى علاقتك بالآخرين.
الثراء والطغيان:
«وأزو عنّي من المال». أبعده عني وامنعني من أن أحصل عليه إذا كان «ما يحدث لي مخيلة». أي يحدث لي انتفاخ الشخصية، فأعيش الخيلاء الذي ينطلق من الإعجاب المرضي بنفسي، وأتحرك في الحياة على هذا الأساس، كمثل من قال عنهم اللّه {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا}(الإسراء:37). وأن لا أكون يا رب مثل قارون.
«أو تأديّا إلى بغي». أو ما يجعل عندي من الإمكانات ما تؤدي بي إلى البغي على الناس وإلى ظلمهم.
«أو ما اتعقّب منه طغياناً»( ). أن أتحوّل إلى طاغية أطغي على الفقراء والضعفاء بفعل ما أملكه من قوة مالية، ونحن نعرف في الواقع الذي نعيشه أن في مقدمة قوى الاستكبار في العالم ما يعبّر عنه في هذه الأيام بالقوة الاقتصادية التي أصبحت تجرف معها السياسة والأمن بل حتى الثقافة.
فالعولمة الآن تنطلق من منطلقات اقتصادية تنتج عولمة سياسية حتى تخضع سياسة العالم للذين يملكون الاقتصاد (أي السبعة أو الثمانية الكبار) السبعة الغربيون ومعهم اليابان واضيف إليهم (روسيا) مؤخراً، فالاستكبار الاقتصادي هو الذي أدّى إلى الطغيان، فلقد اصبحوا نتيجة الاستغراق في القوة الاقتصادية يعملون على مصادرة ثروات الشعوب ويحوّلون تلك الشعوب إلى قوة استهلاكية بحيث يمنعونها من الإنتاج ويثيرون فيها المشاكل حتى يستنزفوا القوة الاقتصادية عند هذا الشعب أو ذاك، فدورهم هو إفقار شعوب العالم الثالث، حتى أن هذا النوع من القوة الاقتصادية راح يفرض نفسه على القوى الاقتصادية المتحركة كما في الصراع الاقتصادي بين أوروبا وأمريكا، وبين اليابان وأمريكا وربما تدخل الصين في هذا الصراع، وهذا هو قوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}(العلق:6-7).
فالإمام(ع) يريد أن يقول إن أخلاقي ومبادئي وروحيّتي وإنسانيّتي هي أعظم من المال الذي يفترس كلّ هذه الأمور عندما يزيد عن الحدّ المطلوب في حياتي، مما يفرض على الإنسان المؤمن أن يدخل الجانب الأخلاقي في تأثير المال على شخصيته بشكل سلبي فيكون مرفوضا، أو بشكل إيجابي فيكون مقبولا.
صحبة الفقراء:
ثم ينطلق الإمام في اتجاه آخر وهو أن الإنسان عادة يحبُّ صحبة الأغنياء ولا يحبُّ صحبة الفقراء، وهذا ما نلاحظه في أغلب الطبقات الاجتماعية التي تملك نوعاً من أنواع الجاه أو المال أو السلطة وغير ذلك، فالفقراء هم الفئة المنبوذة والمستغلّة في المجتمع التي يعمل المجتمع الطاغي المستكبر على أساس أن يعتصر طاقاتهم ثم يتركهم من دون طاقة ولا يفكرون بأيّ ضمان لحياتهم ولا أيَّة وسائل إنسانية تحفظ كرامتهم، بل يرتفع بنفسه ويعتبر أن من إنزال قدره والإقلال من شأنه أن يصاحب الفقراء، وربما يحدّثك هذا الإنسان الذي يرفض صحبة الفقراء بأن لديهم مشاكل كما كان المشركون يقولون للنبي(ص) إنه يخرج منهم ما يشبه الصنان (العرق) وأن ثيابهم رثّة أو وسخة. فكانوا يطلبون من النبي(ص) أن يبعدهم عن مجلسه، وقد أنزل اللّه ( عدة آيات في هذا المجال، فالموقف هو هذا: لماذا تصاحب الفقراء والمتخلّفين الوسخين الذين لا يعرفون آداب اللياقة ولا يتكلّمون كلاماً حضارياً بل يستخدمون الكلمات الخشنة. فالإمام السجاد(ع) يعالج النقطتين معاً، فيقول «اللّهم حبّب إليّ صحبة الفقراء». لأنهم الفئة الإنسانية التي هي أقرب إلى الأصالة وإلى الفطرة والإنسانية لأنهم لا يزالون يعيشون معنى القيم في كلّ ما يتحركون فيه، ولا يزال الفقراء كما يصفهم القرآن {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(الحشر:9). ولا يزالون يعيشون الوفاء في علاقاتهم ببعضهم البعض ويعتبرون للصداقة معنى ويتحركون على أساس أن هناك قيماً تشدّهم إلى بعضهم البعض.
ومن هنا نفهم معنى قول الإمام(ع) «حبّب إلّي صحبة الفقراء». لانهم يختزنون من هذه القيم الطيّبة، وإذا كانت هناك مشاكل تسببها صحبة الفقراء من جهة ما يعيشونه من نقاط الضعف السلوكية أو الاجتماعية، فالإمام يقول: «وأعنّي على صحبتهم بحسن الصبر». أي اجعلني أصبر على ما يبدو منهم ولا تجعلني أبتعد عنهم نتيجة ذلك، فقد تكون هناك بعض السلبيات في صحبتهم ولكن الإيجابيات الإنسانية التي أغتني بها في صحبتهم هي أكثر من هذه السلبيات.
الموقف في حالي المنع والعطاء:
ثم يتحدث الإمام(ع) عمّا منعه اللّه من المال وعمّا أعطاه منه «وما زويت عنّي من متاع الدنيا الفانية فاذخره لي في خزائنك الباقية». عندما تقدر عليّ رزقي وتضيّقه، فأنا يا ربّ أشكرك على ما أعطيتني وما منعتني لأنك تمنعني عن مصلحة وتعطيني عن مصلحة فأنت الذي تعلم بما يصلحني وما يفسدني، وأنت القائل {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الملك:14). فأنت أعلم، بي من نفسي وأنت يا ربّ الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولقد منعتني هذا المتاع في الدنيا وأنت الكريم فاعطني مقابله في الآخرة ما هو خير وأبقى، لأنك القائل {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}(العنكبوت:64).
«وأجعل ما خوّلتني من حطامها» أمّا ما أعطيتني من مواهب فما هي مشاعري اتجاهه. «وعجّلت لي من متاعها بلغة إلى جوارك» أي أجعلني يا ربّ ـ استفيد من هذا المال الذي أعطيتنيه في الدنيا ليبلغ بي جوارك «ووصلة إلى قربك». بحيث يقرّبني إليك «وذريعة إلى جنّتك إنك ذو الفضل العظيم وأنت الجواد الكريم»( ).
هذا هو الإمام زين العابدين(ع) في هذا السمّو وهذه الفلسفة الاجتماعية الإنسانية في النظرة إلى المال وحركته، وفي حركة الإنسان في نفسه وبالنسبة إلى غيره، وفي نظرته إليه وانفتاحه على الذين لا يملكون المال، كما قال اللّه لرسوله(ص): {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(الكهف:28).
ولقد كان رسول اللّه(ص) كذلك، وكان الأئمة(ع) كذلك وهم القدوة فهل نكون نحن كذلك .. سؤال يبحث عن جواب لا في كلماتنا ولكن في أعمالنا {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(التوبة:105). وسنتابع ـ في الأسبوع القادم ـ بعض الأدعية التي تتصل بهذا الجانب، وبذلك نعرف أن أدعية أهل البيت(ع) وأدعية الإمام زين العابدين(ع) بالخصوص هي أدعية تثقّف لنا فكرنا وتمنهج لنا حياتنا وتخطّط لنا السير في الخط المستقيم. والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة الثانية عشرة: 30محرم 1420 هـ الموافق 15/5/1999م




تأملات في أدعية السجاد(ع)


* يتدخل البلاء في إثراء الشخصية ليصلّبها في المرحلة الراهنة من أجل أن يفتح لها ألطافا في المرحلة اللاحقة *




في رحاب أدعية السجّاد(ع)
النظر إلى أهل الدنيا
الرضا بحكم اللّه
عدالة اللّه في العطاء
فضل اللّه على خلقه
فتنة العطاء
طيب النفس بالقضاء
الشكر على كلّ حال
القيمة الحقيقية
الثروة التي لا تنفد
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
نص
في رحاب أدعية السجّاد(ع):
تحدّثنا ـ في الأسبوع الماضي ـ عن الإمام زين العابدين(ع) كقمّة من قمم الفكر والروح والحركة في إغناء الإنسان بما يرفع مستواه عقلياً وروحياً وحركياً بحيث يقوده ـ وهو يتلمّس دربه في الطريق إلى الهدف ـ إلى مواقع الطريق ومعالمه، ويرتفع به ـ وهو يدعو ربّه ـ إلى مسؤولياته في الحياة، ويعطي الدعاء أسلوباً جديداً يفلسف فيه الكثير من القضايا التي يدعو فيها الإنسان ربّه.
وتحدّثنا عن نظرة الإسلام إلى المال وإلى مدى تأثيره السلبي والإيجابي في حياة الإنسان، وإلى حركته في الإنتاج والإنفاق، وذلك من خلال دعاء الإمام(ع) (في المعونة على قضاء الدين) الذي تجاوز فيه العنوان إلى كل ما يتحرك في داخله.
أمّا في هذا اللقاء فنبقى في الجوّ نفسه ولكن من خلال أفق آخر، فالإنسان الذي يشكو بعض الحرمان في الوضع المالي قد يواجه تجربة صعبة في حياته يسقط فيها الكثيرون ويبقى القليلون في حالة التماسك. فإذا نظر الإنسان إلى أصحاب الدنيا وهم يتقلّبون في مواقع الرخاء والرغد وحركة الثروة فيما تقدّمه إليهم من الملذات والمشتهيات، ويرى أنه يعيش الحرمان من ذلك كلّه وربما يضيق به الحرمان إلى الدرجة التي يفقد فيها بعض ضرورياته، فكيف يفكّر الإنسان المسلم تفكيراً إسلامياً وهو بين يديّ اللّه إذا نظر إلى أصحاب الدنيا، هل يستغرق في هذه الظاهرة فينكر على ربّه ما أعطاه لهؤلاء وما حرّمه من ذلك؟ هل يبتعد عن مبادئه في الخط الإسلامي الأصيل في الرضا بقضاء اللّه تعالى في كلّ شيء والتسليم له في كل شيء أم أنه يسقط أمام ذلك؟
النظر إلى أهل الدنيا:
إن الإمام زين العابدين(ع) يعالج هذه المسألة معالجة دقيقة، ويريد ـ ضمناً ـ أن يوجّه الإنسان المسلم لمعالجتها وإيضاح ردّ فعله في ذلك. إنه يبدأ دعاءه الذي عُنون في (الصحيفة السجادية) بِ(في الرضا بالقضاء)( ). وكلمة (الرضا) تختصر الدعاء كلّه، فالإنسان يتقبّل الواقع لا كما يتقبّل المشكلة على أساس أنها البلاء الذي ينزل به ويصبر عليه، لأنه لا حيلة لديه إلا أن يصبر من دون اقتناع ورضا، بل هو الإنسان الذي يعتبر أنه عبدٌ للّه لا يملك من نفسه شيئاً، ولا يملك لها شيئاً، وأن إيمانه بالربوبية المطلقة الرحيمة والحكيمة والقادرة والمنعّمة يفرض عليه أن يرضى رضاً يختزن الطمأنينة كلّها والقبول كلّه والتسليم كلّه في مجالاته كلّها من خلال الإيمان وحركية الرضا في نفسه، وحركيّته في الواقع التي تنطلق من قاعدة يجب على الإنسان أن يعيشها في نفسه.
يقول(ع) «الحمد للّه». وهذه هي الفاتحة التي تبدأ بها دعاءك بأن تحمد اللّه لأنك تتصوره في مواقع الحمد والثناء ولا يُتصوّر اللّه تعالى شأنه إلاّ في مواقع الحمد، فحمده نابع من كلّ ما تتخيله من عناوين الحمد وهو سرّ معنى ربوبيته. وليس الحمد فقط هو الذي يختزن الشكر، ولا يتحرك في نفس الإنسان من خلال ما يحصل عليه من إيجابيات فقط، بل فيما يواجهه من السلبيات في حياته أيضاً، لأن اللّه هو الذي لا يحمد على مكروه سواه، ففي المكروه حمده وفي المحبوب حمده لأن المكروه والمحبوب ليسا هما التفاعلات الشعورية التلقائية أمام ما يقبل عليه الإنسان، بل المسألة هي في عمق المحبوب والمكروه فيما يختزنانه من المصلحة والحكمة، لأن اللّه برحمته لا يصدر إلاّ عن مصلحة للإنسان فيما يختاره له، ولأنه برحمته لا يصدر إلا عما ينفع الإنسان فيما يمنحه له.
الرضا بحكم اللّه:
«الحمد للّه رضىً بحكم اللّه». إن اللّه تعالى حكم عليّ بأن أعيش في ضيق من رزقي، وحكم على الآخرين أن يعيشوا في سعة من رزقهم، وهو عندما يحكم إنما يحكم من خلال سننه التي أودعها في الكون وفي حركية الإنسان.
فاللّه تعالى حينما خلق الكون وخلق الإنسان أوكل له مهمة إدارته في المجالات التي يملك الوسائل التي تمكّنه من ذلك، فلقد أودع في الكون القوانين التي تحكمه بحيث لا تنحرف عن الخط قيد شعرة، وجعل للإنسان في تكوينه وحركة عقله وانفتاح قلبه ومشاعره وحركة طاقاته، سننا وقوانين تحكم مسيرته من خلال ما يختزنه في الداخل والمؤثرات التي تحيط به من الخارج. فاللّه عندما يحكم فإنه يحكم من خلال حكمتـه التي تـنطلق من مواقع رحمته وقدرته وما يصلح الكون والإنسان معاً: {قَدْ جَعَلَ اللّه لِكُلِّ شَيْءٍ قَـدْرًا}(الطلاق/3). {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي  وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي(الفجر/15-16)}. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ}(القصص/68). واختياره ناشئ من حكمته، ولذلك نحن نرضى بحكم اللّه، وقد لا نفهم سرّ الحكم في هذا الجانب أو ذاك، وقد لا نفهم المصلحة هنا وهناك لأننا نحتاج إلى كثير من المعاناة الفكرية والحركة التجريبية لنفهم ذلك وقد لا نفهمه، ولكننا إذا لم نفهم سرّ الخلق فإننا نفهم سرّ الخالق في أنه الحكيم الخبير الذي قال {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الملك/14). بعلمه لعناصر وجود الإنسان وحاجاته فيما يصلحه منها وما يفسده.
«الحمد للّه رضى بحكم اللّه». وهذه هي الحالة النفسية التي قد تتمثل بكلمة، وقد تتمثل بموقف، وقد تتمثل بتطلّع إلى اللّه. ولكن هناك الشهادة على أن اللّه حكيم فيما أعطى وفيما منع، فمن خلال إيمانك ومعاناتك ودراستك لحركة التوازن في الحياة لا ترى هناك سلبية مطلقة في الفقر ولا إيجابية مطلقة في الثراء في حياة الإنسان، وإنما حركته تقوم أساسا على خط التوازن الذي يحفظ له حركيته الإجتماعية، وللواقع توازنه في عملية التوزيع.
عدالة اللّه في العطاء:
«شهدتُ أن اللّه قسّم معايش عباده بالعدل». فقد أعطى كل إنسان من موقع ما يعرفه من قدراته وحاجاته ومما يريد له أن يعيش من البلاء الذي يتدخل في إثراء شخصيته من أجل أن يصلّبها في مرحلته الراهنة ليفتح له في المرحلة الأخرى ألطافاً من خلال ما حصل عليه من صلابة في المرحلة السابقة، لأن البلاء ـ أيها الأحبة ـ يصلّب للإنسان موقفه وإرادته وخبرته وقدرته على الوقوف أمام القضايا الصعبة فيما يعانيه ويكابده.
وليس البلاء سلبياً كما يتصوّر الإنسان في انفعالاته ولكنه يمكن أن يغنيك في التجربة بأن يعطي عقلك قوة وانفتاحاً، ويعطي قلبك واقعية في مشاعرك وعواطفك، ويعطي جسدك صلابة في حركته داخل البلاء.
لذلك، فإن على الإنسان أن يحدّق في الكون ليدرسه دراسة واقعية لا من خلال الجوانب المادية الطارئة، ولكن أنظر إلى تأثير البدايات في النهايات، فقد تكون البدايات صعبة ولكنها تسهّل للنهايات حركتها في بلوغ الأهداف.
«شهدتُ». وهنا يقف الإنسان بعدما أوحى إلى نفسه بحمد اللّه وبالرضى بحكمه، ليشهد اللّه على ما يعيشه في موقع عبوديته وإسلامه له، ويشهد الناس على هذه الحقيقة ليعطيها بذلك بعداً إعلامياً ثم ينطلقون للتفكير به.
«شهدتُ أن اللّه قسّم معايش عباده بالعدل». فهو العادل الكريم إن أعطى، والعادل الكريم إن أخذ أو منع، وهو العادل عندما يضيّق على الإنسان رزقه لأن ذلك هو مصلحته، والعدل عندما يوسّع على الإنسان رزقه فإن ذلك هو مصلحته، أو ليبتلي هذا ليحرّك طاقته على الصبر أو ليبتلي ذاك ليحرّك طاقته على الشكر.
والعدل ليس هو أن يعطيك كما يعطيني، وإنما هو أن يوازن بين ما تحتاجه في الجانب المادي والمعنوي في حاضرك ومستقبلك وفي جانبك النفسي والجسدي والروحي وأن يعطي الآخر كذلك، وليس العدل هو المساواة بين الناس ولكنه أن يعطي اللّه لكل ذي حق حقّه، ونحن لا نستحق على اللّه شيئاً ولكنه هو الذي جعل لنا حقوقاً من خلال فضله ونعمه، وقد جعل لنا حقوقاً من خلال ما يعرفه من حاجاتنا وأوضاعنا.
فضل اللّه على خلقه:
«وأخذ على جميع خلقه بالفضل». فله الفضل عليهم ولا فضل لأحد عليه لأنه هو الذي خلقهم، فوجودهم منطلق من خلال خلقه وإرادته، وهو الذي أعطاهم وهيّأ لهم الوسائل كلّها، ولو درس الإنسان ما أعطاه ربّه لعرف بأنه ليس له شيء على ربّه. فلو عبدت اللّه طوال عمرك فإنما تعبده بما أعطاك من خلقه، فأنت تعبده بعقلك وعقلك هبة منه، وتعبده بلسانك ولسانك نعمة منه، وتعبده بيديك ورجليك وجسدك، فماذا أعطيت ربّك منك؟ إن كلّ ما قدّمته لربك هو منه.
ولذلك نقرأ في بعض كلمات الإمام علي(ع) «أقل ما يلزمكم للّه أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه». فهل تراك تقدر على ذلك؟! فإذا أردت أن تعصي اللّه تعالى بجسدك تذكّر أنه هو الذي أنعم عليك بأعضاء هذا الجسد التي تمكنك من الفعل والحركة، فليس لنا فضل على اللّه في أيّ شيء بل له الفضل علينا في كلّ شيء {بَلْ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}(الحجرات/17).
فتنة العطاء:
«اللّهم صلّ على محمد وآله ولا تفتنّي بما أعطيتهم». والفتنة هي الحدث الذي تخضع فيه للإمتـحان {الم  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}(العنكبوت/1-2). لا يبتلون ولا يختبرون؟ فهل تكفي مجرد الكلمة كلمة نحن مؤمنون؟ {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت/3). فكل ما نواجهه من التحديات التي تجابه إيماننا هو فتنة، فالولد فتنة، والمال فتنة {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}(الأنفال/28). فتنة تختبرون وتبتلون بها هل تشكرون أم تكفرون، هل تقومون بما أراده اللّه سبحانه وتعالى منكم فيما حمّلكم مسؤوليته، أو أنكم لا تقومون بذلك. ولذا يدعو الإمام(ع) اللّه سبحانه وتعالى أن يحميه من هذه التجربة عندما يواجه الإنسان من أعطاهم اللّه وأغدق بنعمه عليهم ووسّع عليهم من رزقه.
«ولا تفتنهم بما منعتني». فهو لا ينظر فقط إلى موقفه منهم، ولكن ينظر أيضاً إلى موقفهم منه، فيا ربّ لا توقعهم في التجربة التي يسقطون فيها ولا توقعني في التجربة التي اسقط فيها. فكلمة (لا تفتني) تعني لا توقعني ـ يا رب ـ في الخطأ أو السقوط في الفتنة ولا توقعهم.
«فأحسد خلقك وأغمط حكمك». فلا تفتني ـ يا ربّ ـ بما أعطيتهم حتى أعيش في نفسي مشاعر الحسد التي تمثّل إعتراضي عليك، لأن الحسد هو أن أتمنّى انتقال النعمة من المحسود إليّ، ومعنى ذلك أني أعترض على عطائك ـ يا ربّ ـ لهذا أو ذاك، وعلى منعك إيّاي، فكأنك تقول: يا ربّ هذا ليس بعدل، فالعدل ـ كما تتصوّر مخطئاً ـ أن ينقل اللّه ما اعطى لذاك إليك. وكلمة (أغمط حكمك) أي أنكره وأحتقره «وحكمك العدل يا ربّ». أمّا فتنتهم بما منعه فهو أن يعيشوا التكبّر عندما يرون أنفسهم في سعة من المال ويرون الإنسان الآخر فقيراً ليس له أية إمكانية أو موقع، ولذلك فإنهم يعيشون الاحتقار لإنسانيته لأنهم يعتبرون قيمة الإنسان هي بمقدار ما يملك من مال، فمن لا يملك المال لا قيمة له كما يتصور الناس ذلك.
وهذا المعنى هو نفسه الذي نراه يتحرك في السوق عندما يسأل التجّار بعضهم البعض: كم يساوي فلان؟ ويقدّرونه بالمال، فهذا يساوي مئة ألف وذاك مليوناً وهكذا، وكأن قيمة الإنسان تتحدّد بقدر ما يملك، فقد يفتن أصحاب المال ويختبر إيمانهم والطريقة التي يفكرون بها انطلاقاً من إنسانية الإنسان أو مما يملكه فيدفعهم ذلك إلى التكبّر والتجبّر والخيلاء واحتقار وازدراء الآخرين.
طيب النفس بالقضاء:
«اللّهم صلّ على محمد وآل محمد وطيّب بقضائك نفسي». فأنا لا أريد ـ يا ربّ ـ أن أقف هذا الموقف بين يديك على أساس عقلاني، لأنّ إيماني يقودني إلى ما تحدثت به، ولكنّي أريد ـ يا ربّ ـ أن تجعل إنطلاقي في ذلك من خلال مشاعري وكأنه شيء أحبّه واستطيبه وأفرح به لأنه منك يا ربّ ولأنه من قضائك ولأنه لم يجر إلاّ بالخيرة لي.
«ووسّع بمواقع حكمك صدري». إجعل ـ يا ربّ ـ صدري يتسع ليكون الرحب الذي يتقبّل كل موقع من مواقع حكمك فيما تحكم به عليّ ومما تعطيني وتمنحني أو تمنعني من حياتي.
«وهب لي الثقة». أعطني ـ يا ربّ ـ الثقة بك، لأثق بك ثقة لا أتحسس معها أيّ شيء سلبيّ فيما تقضيه عليّ، واجعلني أثق بك ثقة مطلقة، تماماً كما هو الإسلام  الذي  مثّله وجسّده إبراهيم(ع) {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(البقرة/131). إجعلني ـ يا ربّ ـ أشعر أن ليس لي أمامك شيء، فلا كلمة لي في قبال كلمتك ولا موقف لي إزاء ما تريده ولا حكم لي أمام حكمك، فأنت وحدك إلاله الذي يعطي عبده ما يشاء، كيف يشاء، بما يشاء، فيشعر عبده بالثقة في ذلك كلّه، فلا يرى هناك إلاّ الخير. وهب لي الثقة ـ يا ربّ ـ لأقرّ معها بأن قضاءك لم يجر إلاّ بالخيرة لي.
الشكر على كلّ حال:
«واجعل شكري لك على ما زويت عنّي أوفر من شكري إيّاك على ما خوّلتني». إجعلني ـ يا ربّ ـ أشكرك على ما منعتـني لأن ما منعتني إياه كان من خلال معرفتك بمصلحتي وسعادتي فيه، وأنك لو أعطيتني ما منعتني إياه لوقعت في الخطيئة والبغي، كما قلت في كتابك {وَلَوْ بَسَطَ اللّه الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ}(الشورى/27). لأن البعض قد لا ينفعه الرزق كما أن البعض الآخر قد لا ينفعه المنع، فالشكر في حقيقته ينطلق من أنك تشعر أن الآخر أعطاك شيئاً لمصلحتك. فأنت تشكر الطبيب الجّراح عندما يفتح جسدك ليقوم بعملية جراحية، فقد يقطع عضواً من أعضائك وقد يؤلمك كثيراً ولكنك تشكره لأنك تعرف أن النتائج من خلال ذلك هي الحفاظ على حياتك. فقد تشكر إنساناً على ما منعك كما تشكره على ما أعطاك، فكيف باللّه تعالى الذي يعلم عمق مصلحتك وعمق ما فيه مفسدة عليك.


القيمة الحقيقية:
ثم ينطلق الإمام علي بن الحسين(ع) ليؤكّد القيمة وليفرز السلبيّ من الإيجابي من القيم المادية، فهل أن الفقر قيمة سلبية؟ فإذا واجهنا فقيراً في فقره، فهل علينا أن ننظر إليه نظرتنا إلى الخسيس الحقير؟! وإذا نظرنا إلى الغني رأينا أنه الشخص الشريف العظيم الكبير صاحب الفضل، أو أن القيمة هي غير ذلك؟
إن القيمة هنا تتحرك من الجانب الماديّ إلى الجانب المعنويّ. يقول الإمام السجاد(ع) في دعائه: «واعصمني». وهو المعصوم مما يتداوله الناس الذين لا يفكرون بالقيمة إلاّ بجانبها الماديّ «من أن أظنّ بذي عدم». والعدم هو الفقر «خساسة أو أظنّ بصاحب ثروة فضلاً». لأن هذه ليست هي القيمة فالمال يذهب ويزول، وهو لا دخل له بالإنسان، فالمال ليس شيئاً في تكوينك، وهو ليس عقلا في عقلك وليس قلباً في قلبك، وليس جوهراً في ذاتك، بل هو شيء تجنيه وتحصل عليه ولا علاقة له بك وإنما هو في خزائنك أو في الأرض أو ما يحيط بك، ولكنه ليس أنت، في حين أن العقل هو أنت، والقلب هو أنت، والخُلُق هو أنت، والطاعة هي أنت، والمعصية هي أنت، أمّا المال فليس هو شخصيتك إنما هو شيء يضاف إليك، أليس كذلك؟! وإذاً فالشيء الذي ليس منك ولا يدخل في تكوينك، كيف يكون قيمة سلبية إذا فقدته وقيمة إيجابية إذا حصلت عليه؟!
«فإن الشريف من شرّفته طاعتك». لأن طاعتك ـ يا ربّ ـ تمثل حركة الإنسان في إنسانيته بما يحقّق له وللناس وللحياة الخير، لأن الطاعة ـ يا ربّ ـ تمثل الشرف وشكر المنعم، وأيّ شرف أعظم من أن تقدّر نعمة المنعم فتشكره على ذلك، والطاعة تغني عقلك باعتبار أنها تجعله يتحرك في دائرة التوازن والانضباط، وتغني قلبك لأنها تجعلك تتوازن من خلال ما يخططه عقلك للخير وفي التفكير بالخير.
والطاعة تغني قلبك لأنها تجعله خاضعاً لقاعدة راسخة في حالي حبّه وبغضه، وتغني حياتك كلّها لأنها تجعل حياتك في الخط المستقيم.. فالطاعة إذاً هي أنت لأنها تنظّم عقلك الذي له طاعته في أن يحرّك الفكر في اتجاه الحق لا الباطل والخير لا الشر. ولأن للقلب طاعته في أن يحرّك مشاعره ونبضاته في حب الخير وبغض الشرّ. وكذلك الحال في حركتك نحو الخير أو الشر، وبذلك ترتفع بانسانيتك ووجودك كلّه.
«والعزيز من أعزّته عبادتك». فالعزّة تعني القوة، والعزيز هو الذي يعيش القوّة، وأية قوة أعظم من أن تـكون مرتبطاً بخالق القوة الذي له القوة جميعاً والعزّة جميعاً {أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جـَمِيعًا}(البقرة/165). {فَإِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا}(النساء/139). فإذا عبدت اللّه وأخلصت له في عبادتك قربت منه، وإذا قربت منه أعطاك قوة من قوته وعزّة من عـزته، فمن ذا الذي يا ترى يغلب قوتك ويقهر عزّتك إذا كان اللّه هو الذي أعطاك ذلك كلّه وهو الذي يملك ذلك كلّه {قُلْ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(آل عمران/26).
وقد استوحى الإمام الحسن بن علي(ع) هذه الفكرة حينما قال «من أراد عزاّ بلا عشيرة و غنى بلا مال وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية اللّه إلى عزّ طاعته»( ). لأن ذل المعصية يسقطك عند اللّه، وإذا سقطت عند اللّه فمن أنت وماذا تمثّل؟!
ونحن نقرأ في القرآن عن إهمال اللّه سبحانه لهؤلاء في يوم القيامة {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا}(طه/125). أي تصبح كمية مهملة لا غنى فيها، فلا وجود لك هناك.{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}(طه/126).
الثروة التي لا تنفد:
«فصلّ على محمد وآله ومتّعنا بثروة لا تنفد». لأن خزائن السماوات والأرض بيدك ـ يا ربّ ـ فهب لنا ثروةً في الجسد، وثروة في المال، وثروة في الروح، وثروة في العقل «وأيدّنا بعزّ لا يفقد». عزّ في النفس وعزّ في مواقع القوة في الحياة. «وأسرحنا في ملك الأبد». أي أجعلنا ـ يا ربّ ـ ننطلق ونمتدّ ونتحرك في ملك الخلود فالخلود منك ـ يا ربّ ـ ومن خلال لطفك ورحمتك ونعمتك، إنك الواحد الأحد لا شريك لك، الصمد الذي يرجع إليك في الحوائج كلّها، لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفواً أحد. فأنت المغيث وأنت المستعان وأنت المدد فكيف يمكن أن نطلب شيئاً من غيرك وغيرك محتاج إليك! وحدك ـ يا ربّ ـ من نطلب منه. وحدك من نخضع له، وحدك ـ يا ربّ ـ من نستعين به ومن نعبد، فوحدتك هي سرّ إحساسنا بوحدة الكون من حولنا ووحدتنا مع الكون، لأنك خالقه وخالقنا، فأنت ربّ العوالم كلّها ورب العالمين جميعاً، يا أرحم الراحمين.
ذلك هو الأفق الذي يحملنا إليه الإمام زين العابدين(ع)، وعلينا ـ أيها الأحبة ـ أن ننفتح على هذه الآفاق مع القرآن ومع الرسول(ص) ومع أئمة أهل البيت(ع) لأننا بذلك نسمو ونسمو ونصفو ونصفو ونعيش معنى إنسانيتنا.
أيها الأحبة: لنعش مع أئمة أهل البيت(ع) الفرح الروحيّ فلا هم مجرد دمعة ولا مجرد مأساة، فالمأساة ـ كلّ المأساة ـ هي أن لا نرتفع إلى آفاقهم، والدمعة ـ كلّ الدمعة ـ هي أن نفقد الانفتاح على فكرهم وروحانيتهم وعلمهم. والحمد اللّه رب العالمين.

 
المحاضرة الثالثة عشرة: 7صفر 1420 هـ الموافق 22/5/1999م



في ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع)
خمسة عناوين: المودة ـ الأخ الصالح ـ المروءة ـ العقل ـ الشورى


* الارتباط بأئمة أهل البيت(ع) يمثّل الانفتاح الفكري والعملي على الإسلام من خلال ما يجسّده من صورة إسلامية مشرقة على مستوى الكلمة والحركة والموقف *



ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع)
وارث خصال جده وأبيه
بعد خلافته
في المدينة
شخصيّة الإمام الحسن(ع)
من كلماته(ع)
صفة الأخ الصالح
المروءة
العقل
الشورى
درس الإمام الحسن(ع)
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع):
في هذه الليلة نلتقي بذكرى وفاة الإمام الحسن بن علي(ع) سبط رسول اللّه(ص) وابن علي(ع) وسيد شباب أهل الجنة مع أخيه الحسين(ع).
وعندما نقف أمام هذه الذكرى فإن علينا أن ندخل إلى داخل شخصية الإمام الحسن(ع) وأن نقف معه في بعض كلماته التي تمسّ حياتنا في الصميم مما كان يتحدث ويوجّه ويعظ به، لأن الارتباط بأئمة أهل البيت(ع) يمثل الانفتاح الفكري والعملي على الإسلام من خلال ما يجسّده من صورة إسلامية مشرقة على مستوى الكلمة والحركة والموقف.
وعندما ندرس الإمام الحسن(ع) من الداخل فإننا نجد أن طفولته امتصت الكثير من إيحاءات رسول اللّه(ص)  في أخلاقيته وروحانيته ورساليته، لأن الطفولة قد لا تمتلك التعبير عمّا يحيط بها ولكنها تختزنه في العمق شعوراً وإحساساً وربما فكرة يحيط بها الضباب لتتمثل ذلك كلّه في المستقبل.
وارث خصال جده وأبيه:
وفي الحديث أن النبي(ص) أعطى الإمام الحسن(ع) هيبته وسؤدده مما يفهم منه أن هذا العطاء لم يكن مجرد منحة غيبية، بل كان النبي(ص) يغرسه في شخصية الإمام الحسن(ع). ومما ينقل في سيرته أنه(ع) في أيامه التي برز فيها إلى الناس وعاشوا معه في أكثر من موقع، كان يمثل الهيبة التي ينحني لها كبار القوم، فكان إذا جلس على باب داره فان الطريق ينقطع من المارّة لأنهم عندما يتطلّعون إليه تأخذهم هيبته فلا يملكون أن يمرّوا أمامه، فإذا علم ذلك قام ودخل البيت حتى لا يعطّل الطريق.
ويقال إنه(ع) كان يحجّ إلى بيت اللّه الحرام ماشياً فإذا رآه الناس وفيهم علّية القوم لم يملكوا أنفسهم إلاّ أن يترجّلوا ويسيروا معه. وينقل أيضاً أن من بين هؤلاء (سعد بن أبي وقاص) الذي كان وجهاً من وجوه قومه.
وقد اختزن الإمام الحسن(ع) تلك المرحلة كلّها، حتى أن صاحب (البحار) ينقل أنه كان في طفولته يجلس إلى جدّه رسول اللّه(ص) في المسجد وكان يحفظ كلامه فينقله إلى أمّه، ويأتي الإمام علي(ع) فيجد علم ذلك عند الزهراء(ع) ويسألها: ما مصدر ذلك، خاصة وأنها لم تحضر معهم في المسجد، فتقول: إن ابني هذا هو الذي حدّثني. كما عاش الإمام الحسن(ع) بعد جده رسول اللّه(ص) الأحداث الصعبة التي حدثت في تلك المرحلة، فرأى كيف كان التهديد بإحراق البيت، ورأى كيف اختلفت الأمور وابتعدت عن مسارها الطبيعي، ورأى أن صبرَ أبيه كان صبر الرساليين حفاظاً على الإسلام، وكيف ابتعد عن موقف الحياد، بل اندفع ليعطي للمجتمع الإسلامي في مدى خمس وعشرين سنة علمه كلّه وخبرته وجهده كلّه من أجل الحفاظ على الإسلام والمسلمين. وكان الحسن والحسين(ع) مع أبيهما حينما ودّعوا أبا ذر عندما نفي إلى الربذة، وتكلّما بكلام يوحي بالموقف الصلب مع هذا الرجل الإسلامي المميز الذي لم تأخذه في اللّه لومة لائم، فلقد سمع المسلمون من رسول اللّه(ص) قوله بحقه: «ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر»( ).
وامتدت الظروف وصعد الإمام علي(ع) إلى موقع الخلافة وهو موقعه الطبيعي، ورأى الإمام الحسن(ع) كيف زرعت الأشواك في طريق أبيه، وكيف انطلق الناكثون والقاسطون والمارقون ليعطّلوا خطّته، ولم يكن له خطّة خاصة به لأنه لم يكن لعليّ شيء خاص، فلقد باع نفسه للّه وجعل طاقاته كلّها للإسلام، واختزن الإمام الحسن(ع) ذلك كلّه حيث أرسله أبوه في المهمات الصعبة إلى الكوفة عندما اضطربت الأمور هناك، ولاحظنا موقفه القوي أمام الذين حاولوا أن يربكوا الواقع، وخطابه الحاسم في تقريعهم.
بعد خلافته:
وعندما ارتفع الإمام علي(ع) إلى رحاب اللّه تعالى، بويع الإمام الحسن(ع) بالخلافة، ولكن المشكلة أن خلافته كانت في الكوفة ولم تكن في المدينة، فلقد كانت الكوفة مضطربة ـ آنذاك ـ لأن المجتمع الكوفيّ لم يكن  صافياً ولا منفتحاً على المعنى الرساليّ الذي يمثله الإمام الحسن(ع) الذي هو سيد شباب أهل الجنة بنصّ رسول اللّه(ص) مما يعني أن حياته كلّها وحركته كلّها وتصرفاته كلّها شرعية بمعانيها وآفاقها، لأن سيد شباب أهل الجنة لا يمكن أن يخطئ في فكر أو قول أو فصل، ولكن القوم الذين منعوا الإمام علي(ع) من تنفيذ خطته فأربكوا حكمه وأضاعوا النهج الذي نهجه لهم، عادوا من جديد ليمنعوا الإمام الحسن(ع) من أن ينفتح على منهجه الجديد في الرسالة. وكان ما كان من الأحداث التي انتهت بالصلح، ولم يكن صلحاً منطلقاً من اقتناع لأن الحسن (ع) لا يرى أية شرعية للحكم الآخر آنذاك، فهو حكم لم ينطلق من أية شرعية إسلامية حتى على مستوى الشورى بين المسلمين، ونحن نعتقد أن الإمامة تتم بالنص لا بالشورى. ولقد كان الحكم الأموي ينطلق من خلال القوة والألاعيب المتحركة هنا وهناك، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) في كلمتين: «واللّه ما معاوية بأدهى منّي ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس»( ). وفي الأخرى أشار إلى معاوية بقوله «قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»( ).
في المدينة:
وعندما رجع الإمام الحسن(ع) إلى المدينة وعاش الفترة الأخيرة من حياته معلّماً ومرشداً وهادياً وناصحاً وراعياً ومنفتحاً على المجتمع كلّه أخذ بمجامع قلوب الناس. وتروي الروايات صوراً عن حلمه وكرمه ورعايته للناس وروحانيته في الحجّ إلى بيت ربّه. وكانت قمة صبره وحلمه ومسؤوليته عن دماء المسلمين أنه أوصى أخاه الحسين(ع) أن إذا لم توافق الفئات المضادّة على دفنه إلى جانب قبر جده فلا يهريق في أمره ملء محجمة دما، فقال له:
«أناشدك اللّه بالقرابة التي قرّب اللّه وبالرحم الماسّة بيني وبينك أن لا تهريق في أمري ملء محجمة دما». اتركهم يحقدون ويمنعون لأني لا أريد أن تسقط نقطة دم من مسلم في فتنة جديدة، ولذلك ادفني في البقيع، وبالفعل فقد دفنه الإمام الحسين(ع) حيث مرقده الشريف الآن.
شخصية الإمام الحسن(ع):
وعندما ننفذ إلى داخل شخصية الإمام الحسن(ع) فإننا نرى فيها شخصية رسول اللّه(ص) في عناصرها الإنسانية والروحية والأخلاقية، ونرى فيها علم علي بن أبي طالب(ع) وروحانية فاطمة الزهراء(ع)، فلقد كان الإنسان الذي يمثل هؤلاء كلّهم، وكانت شخصيته اختصاراً لشخصياتهم، لذلك فإننا عندما نلتقي بالإمام الحسن(ع) فعلينا أن نخرجه من جوّ المأساة إلى آفاق الرسالة، وعلينا أن نقتدي به في صبره وحلمه وانفتاحه على المجتمع وإحساسه بالمسؤولية في الحياة. وهكذا فقد كان أئمتنا(ع) في خط جدّهم رسول اللّه(ص).. الخط المستقيم، وعلينا أن نحسّ أنهم حاضرون معنا من خلال ما نمارسه من قول هو قولهم، ومن فعل هو فعلهم، ومن موقف هو موقفهم. وقد ذكرنا مراراً أن هناك فرقاً بين(الحبّ) وبين (الولاية) فالحبّ نبضة قلب وخفقة إحساس ودمعة تسيل، ولكن الولاية هي موقف، فعلينا أن نقف حيث وقفوا وأن ننفتح حيث انفتحوا وأن نسير حيث ساروا وأن نحقق الأهداف التي انفتحوا عليها، فهم قادة المسيرة في حياتهم وقادتها بعد مماتهم، لأن كلماتهم لا تزال تشير إلى الطريق المستقيم، وعلينا أن نكتشف الطريق المستقيم في كلماتهم.
من كلماته(ع):
تعالوا إلى بعض كلماته المرويّة عنه(ع). ففي موضوع العلاقات الإنسانية نلاحظ تأثير المودّة في هذه العلاقات، فكيف نؤاخي الناس، ومن هو الذي نؤاخيه ونصادقه، وما هي صورة الرجل الصالح الذي نتمثله لنجعله الأخ والصديق، لأن المهم في هذا العنوان هو حيوية المودّة في حياتنا كلّها، فتأثير الصديق والأخ في حياة الناس هو تأثير كبير جداً، لأننا نتأثر بمن نؤاخيهم ونصادقهم بشكل قد يتمثل في السلب في أخلاقنا وسلوكنا عندما يكون الصديق والأخ سائراً في طريق السلبية، أو في الإيجاب عندما يكون سائراً في طريق الإيجابية، لأن الإنسان الذي ينفتح قلبك على قلبه ربما ينفتح عقلك من خلال ذلك على عقله، وتنفتح حركتك على حركته، فلا بدّ لك من أن تختار هؤلاء، لأنك إذا أسأت الاختيار أسأت التخطيط للمستقبل، وإذا أحسنته أحسنت التخطيط للمستقبل، فتأثر الإنسان بمن يصاحب قد يكون لا شعورياً.
ومشكلتنا ـ أيها الأحبّة ـ أن منطقة اللاشعور التي تنطلق مما نمتصه من المرئيات والمسموعات هي التي تحكم أكثر خطوات حياتنا، فلو فكّرنا فيما نملك من طباع أو ما نعيشه من أخلاق أو نتحرك به من خطوات لرأينا أن أغلب هذه الأمور منطلقة من واقع لا شعوري يمتصه الإنسان من بيئته ومن خلال مشاهداته وأوضاعه الاجتماعية، أما الأشياء التي نختارها بشعورنا فقد لا تكون إلا بنسبة 25% ولذلك يراد لنا أن نحاسب أنفسنا دائماً لنكتشف الأشياء التي زحفت إلينا من دون اختيار، وتلك التي كانت بمحض اختيارنا، فمن غير الطبيعي أن تجعل مصيرك خاضعاً لتأثيرات بيئية أو عاطفية لم تملك أمامها أيّ خيار.
يقول الإمام الحسن(ع) في تأثير الجانب العاطفي على الإنسان أن الشخص الذي ترتبط به عاطفياً هو أقرب إليك من هذا الذي ترتبط به نسبياً، لأن النسب هو مجرد علاقة بينك وبين إنسان آخر من خلال الأب فيما هي رابطة الأخوّة بينك وبينه، أو أية رابطة في نسب آخر.
أمّا المودّة فإنها شيء يدخل في تكوين شخصية الإنسان كما أنها تدخل في تكوين شخصية الآخر، فبالمودة يدخل كلّ في شخصية الآخر، فهي تمثل حالة اندماج يترك تأثيره في حياتيهما معاً. والإمام الحسن(ع) يقول: «القريب من قربّته المودّة وإن بعد نسبه». لأن الناس يلتقون بمشاعرهم وأحاسيسهم وأفكارهم لا بالجسد، فعلاقتك بأخيك علاقة جسدية لأنك انطلقت من الصلب الذي انطلق منه، ولأنك عشت في الرحم الذي عاش فيه، أمّا غير ذلك فليست هناك علاقة بينكما إلاّ علاقة الفطرة، فإذا لم تضف المودة إلى الأخوّة النسبية فإن هذه لا تمثل عندئذ شيئاً.
ويقول(ع): «والبعيد من باعدته المودّة وإن قرب نسبه». وفي وصية لولده يقول: «يا بنيّ لا تواخ أحداً حتى تعرف موارده ومصادره». فعندما تريد أن تصادق شخصاً حاول أن تعرفه معرفة كاملة، ما هي أفكاره، ما هي عواطفه، ما هي مشاعره، ما هو طريقه وما هو انتماؤه وما هي خلفياته التي انطلق منها، وما هي مشاريعه التي كان يخطط لها، أي أن تعرفه بكلّه ولا يجوز أن تؤاخي أحداً لا تعرف إلاّ جانب السطح من شخصيته لأن الأخوّة ربما تؤثر فيك ليكون عقله عقلك، وقلبه قلبك، ولتكون حياته حياتك لأن تأثيره السلبي والإيجابي أعمق من كل تأثير.. ويمكن تلخيص ذلك في هذه المعادلة: قل لي من تصادق أقل لك من أنت.
صاحب أخا ثقة تحظى بصحبته        فالطبع مكتسبٌ من كلّ مصحوبِ
والريحُ آخذةٌ مـما تمرّ به       نتناً من النتن أو طيباً من الطيبِ
ولا فرق بين النتانة المادية وبين النتانة الروحية والأخلاقية والثقافية والسياسية والاجتماعية.. إلى آخر القائمة، فكما ينفر الإنسان من النتانة المادية ينفر كذلك من أخلاق السوء والفحشاء والبذاءة، فكم نجد من الناس من ضلّوا لأنهم آخوا أناساً ضالّين {وَيَوْمَ يـَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا  يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا}(الفرقان/27-29). واللّه تعالى يقول أيضاً {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللّه رَبَّ الْعَالَمِينَ}(الحشر/16). فكم من الأصدقاء من يخذل صديقه عندما تقع الواقعة.
صفة الأخ الصالح:
وقال(ع) في وصف أخ صالح كان له، وكأنه يقول عليكم أن تصادقوا أمثاله: «كان من أعظم الناس في عيني». أي كنتُ أعظّمه وأشعر بعناصر العظمة في شخصيته، ولم أكن أعظّمه عاطفة ولكنّي عظمّته عقلاً. «وكان رأس ما عظم به في عيني». قمة عظمته. «صغر الدنيا في عينه». فلقد كانت الدنيا بالنسبة إليه وسيلة، ولم تكن هدفاً وكانت موقعاً للمسؤولية لا فرصة للذة والشهوة، لم تكن مجرد حاجة يقيم بها جسده ولكنها كانت رسالة ينفتح بها على ربّه. وكانت الدنيا صغيرة في عينه لأن الآخرة كانت كبيرة فيها، وكان يدخل في مقارنة بين الدنيا وبين الآخرة فيرى الدنيا صغيرة في أمدها وشهواتها، ويرى الدار الآخرة من خلال قول اللّه تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}(العنكبوت/64).
«كان لا يشتكي». مهما انطلقت نفسه بالشكوى من خلال الآلام والمشاكل «ولا يسخط ولا يبرّم». كان هادئاً أمام الأمور التي توحي بالسخط وبالشكوى والتبرّم، كان مبتسماً دائماً وراضياً دائماً، وقانعاً دائماً.
«كان أكثر دهره صامتاً». ولكنّ صمته لم يكن عن عييّ، بل كان صمته صمت الفكر والتأمل بحيث يحاول أن يأخذ من فكره وتأمله موعظة هنا وفكرة هناك، وخطة عمل هنا وبرنامجاً هناك، وما إلى ذلك مما يرتفع بثقافته ويغني مسؤوليته.
«فإذا قال». حينما يجيء وقت الكلمة «بَذ القائلين». سبقهم، لأن قوله عندما ينطلق من فكر عميق في تأملاته سوف يكون ناضجاً عميقاً منفتحاً لا يملك القائلون الذين يستهلكون الكلام أن يبلغوه.
«كان إذا جالس العلماء على أن يستمع أحرص منه على أن يقول». فلقد كان جلوسه إلى العلماء جلوس تعلّم، وكان يريد أن يأخذ من علمهم وفكرهم وتجربتهم، ولذا كان يعتبر الجلوس فرصة للاستماع لا فرصة للكلام، لأن الكلام سوف يضيّع عليه كلمة علم هنا وكلمة تجربة هناك. وكان إذا جالس العلماء فإنه مستمع لما يقولون أحرص منه قائلاً.
و«كان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت». فكان إذا تنافس الناس فقد يغلبه هؤلاء على الكلام في كثرته، ولكن إذا كانت المناقشة في السكوت فلن يغلبوه على السكوت في عظمته، فلقد كان يقلّ من كلامه إذا كانت الكلمات الزائدة لغواً لأنه يعرض عن اللغو، ولكن إذا كانت المنافسة في السكوت كان الأول في ذلك لأن سكوته كان سكوت فكر وتأمل وتدبّر وخشوع وابتهال إلى اللّه بحيث يرتفع به إلى اللّه سبحانه وتعالى وإلى مواقع العلم العليا.
«كان لا يقول ما لا يفعل». كالكثيرين الذين يقولون مالا يفعلون من أجل استعراض أنفسهم أمام الناس دون عمق. «ويفعل مالا يقول». كان صامتاً في فعله يترك الفعل يتحدث ويمنع اللسان أن يتحدث عن الفعل.
«كان إذا عرض له أمران لا يدري أيّهما أقرب إلى ربّه». فيقف بين أمرين صالحين لا يعرف أيهما أكثر قربة إلى اللّه تعالى، فكلاهما في خط القربة إليه. «نظر أقربهما من هواه فخالفه». فهو ينظر إلى نفسه ماذا تحبّ؟ هل تحبّ أن يختار هذا أو ذاك، فيختار ما خالف هوى نفسه، لأنه يسمع قول اللّه تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى  فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(النازعات/40-40).
فهو يمثل صلابة الإرادة في مواجهة النفس حتى تختار ما هو أقرب إلى اللّه سبحانه وتعالى وإن كان الآخر قريباً إلى نفسه، لأن اللّه سبحانه يريدنا أن نختار دائماً خير العمل وأفضله، وهذا ما توحي به كلمة (حيّ على خير العمل) أي أقبل على أفضل العمل، فإذا وقفت على عمل فيه فضل وعمل أفضل منه فاختر الأفضل لأنه يعطيك درجة عند اللّه لا يعطيك إياها العمل الآخر.
و«كان لا يلوم أحداً على ما قد يقع العذر في مثله». فإذا رأى بعض الناس يخطئ، فإنه يجد له عذراً في خطأه فلا يلومه، بل كان يبحث عن العذر الذي يبرّر به ما يقوم به الناس من أخطاء، لأنه يريد أن يحمل الناس على الخير. «ضع أمر أخيك على أحسنه ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنـت تـجد لها فـي الخـيـر مـحـمـلا». واللّه تـعالى يـقـول {وَقــولُـوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}(البقرة/83). أي أحسن ما تحبّون أن يقولوه لكم.
هذه هي صفات الرجل الصالح، فأين نجد هذا الرجل الصالح؟! علينا أن نبحث عنه، وإذا لم نجده في هذه الصفات فعلينا أن نبحث عمّن فيه بعضها حتى نحصل على القدوة.
المروءة:
وقد سئل الإمام الحسن(ع) عن المروءة: كيف يصبح الإنسان صاحب مروءة، قال: «شحّ الرجل على دينه». أي أن تمسك دينك وأن لا تعطيه لأحد ولا تتنازل عنه لأحد مهما كان، لأن صاحب المروءة هو الذي يصرّ على الالتزام بما تكون فيه سعادته في الدنيا والآخرة وسعادة الناس من حوله.
«وإصلاحه ماله». فصاحب المروءة لا يفسد ماله بالتبذير والإسراف والصرف في غير محلّه. وقد ورد في حديث الإمام جعفر الصادق(ع) عن صفة المؤمن حيث قال في صفة المؤمن «المؤمن حسن المعونة خفيف المؤنة، جيد التدبير لأمر معيشته، لا يلسع من جحر مرتين»( ).
ويضيف الإمام الحسن(ع) صفة أخرى إلى صاحب المروءة هي «وقيامه بالحقوق». أي حقوق الناس عنده. لأن ذلك يدلّل على إحساس الإنسان بمسؤوليته عن قيمة العدل في علاقاته بالناس وتقديره للقاعدة الاجتماعية الإنسانية المتربطة بالوفاء بحقوق الناس عنده.
العقل:
وفي نهاية المطاف ننقل حديثه(ع) عن العقل، حيث يقول «لا أدب لمن لا عقل له». فالأدب هو أسلوب حركتك في الحياة وهو الذي ينظّمه العقل «ولا مروءة لمن  لا همّة له». فالكسول يرضى بالمواقع السفلى وهو قادر على أن يرتفع إلى المواقع العليا، ولذلك لا مروءة له لأن من المروءة أن تكون صاحب همّة عالية تحاول أن تحرّك طاقاتك فيما ينفع نفسك وينفع الناس والحياة من حولك إلى أعلى المواقع، لأن اللّه تعالى لم يخلق طاقاتك لتجمّدها ولكن خلقها لتطلقها، وهي ليست ملكك وإنما هي ملكك وملك الناس الذين يحتاجونها وملك الحياة التي تحتاجها.
«ولا حياء لمن لا دين له». لأن الدين هو الذي يحقّق الحياء، باعتبار أنه قيمة دينية في التحفّظ من الإتيان بما نستحي للتأثيرات السلبية على النفس وعلى الواقع الاجتماعي. «ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل». فإذا أردت أن تعرف عقل إنسان ما فاعرف كيف يعاشر الناس، هل يعاشرهم بالجميل من أخلاقه وكلماته ومزاجه أو يعاشره بالقبيح، فإذا فعل هذا فسوف يعزل نفسه عن الناس ويعزل الناس عنه فلا يفيدهم في شيء ولا يستفيد منهم في شيء، وبالتالي فإنه يعمل على إسقاط هذا الجانب من الحياة في المجتمع، بينما إذا عاشرت الناس بالجميل فتحوا لك عقولهم واستفدت منها، وفتحوا لك قلوبهم وحياتهم كما تفتح لهم قلبك وعقلك وحياتك.
«وبالعقل تُدركُ الداران جميعاً». أي أنك بالعقل تدرك الدنيا لأنه يخطّط لك كيف تعيش فيها وتجتنب مزالقها ومهالكها وانحرافتها، وبه تدرك الدار الآخرة عندما تعمل على تحقيق الأهداف التي خلقت من أجلها. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّه الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا}(القصص/77). ف«الدنيا مزرعة الآخرة».
«ومن حرم العقل». بحيث عاش هواه وشهوته وجعل حياته تحت تأثير غريزته، حرم الدنيا والآخرة، «حرمهما جميعاً».
الشورى:
ويقول(ع): «ما تشاور قوم إلاّ هدوا إلى رشدهم». فهو يلفت الانتباه إلى أولئك المستبدين برأيهم الذين يتصورون أنهم يملكون العقل ولا يملكه غيرهم، إنه يقول لهم إن الشورى تضمّ عقلاً إلى عقلك وخبرة إلى خبرتك، وتفتح الطريق الذي كنت تظنّه مغلقاً، وتحلّ لك المشكلة التي كنت تحسبها معقدة. يقول الإمام علي(ع): «من شاور الرجال شاركها عقولها». فلماذا تنطلق في رأيك من عقل واحد قد يكون خاضعاً لظروف محدودة، لماذا لا تطلق رأيك سيما إذا كان يتصل بحياة كثير من الناس، كما لو كنت مسؤولاً في موقع ما من مواقع المسؤولية، وإذا فليكن رأيك نتيجة تلاقح وتلاقي عقول تتفاعل وتتكامل وتتحاور فإن الرأي عندها سيكون أكثر نضوجاً وصواباً وواقعية.
درس الإمام الحسن(ع):
أيها الأحبة: هذا هو بعض كلام الإمام الحسن(ع) ومشكلتنا أننا في يوم وفاته لا نعرفه، بل نعرف مصيبته في سمّه فقط، ولا نعرفها في حركته التي تشبه مصيبة أبيه الذي كان يقول «واللّه لو أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم»( ). لأنه كان يرى السبب في قوله: «إني واللّه لأظنّ أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقتم عن حقكم وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل»( ). فمأساة أهل البيت(ع) أنهم كانوا يريدون أن يرتفعوا بالناس إلى المستوى الذي يبلغون فيه الدرجات العليا في الدنيا والآخرة، وكان الناس يريدون أن يهبطوا بهم إلى شهواتهم. وهذا هو قول الإمام علي(ع): «ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم للّه». لتقتربوا منه ولترتفعوا إليه وتنفتحوا عليه «وتريدونني لأنفسكم». لشهواتكم ولذاتكم وأطماعكم.
أيها الأحبة: انفتحوا على أئمة أهل البيت(ع) بالعقل وبالروح وبالحركة ولا تجمّدوهم في نفوسكم عند حدّ المأساة وإن كانت المأساة تصنع في قلبك حزناً وفي عينك دمعاً لكن الدمع ليس الحياة كلّها، والحزن ليس الحياة كلّها. ففي ذكراه(ع) لابدّ أن نفرح به ونكبر به وننفتح به، نفرح به الفرح الروحي الذي قد ينزف الدمع الرساليّ الحار، وقد يصنع الحزن لكنه الحزن الذي يصفّق للرسالة وإن كان يعتصر داخله بالمأساة. والحمد للّه رب العالمين.( )
 
المحاضرة الرابعة عشرة: 14صفر 1420 هـ الموافق 29/5/1999م


الموقف من المجالس المريبة


* الالتزام بالإسلام يفرض علينا آن نعزّ الإسلام في مواقفنا، وأن نواجه الذين يعملون على إضعافه وإذلاله بالوسائل الإيجابيّة إن أمكن ذلك والسلبيّة إن لم يمكن ذلك... فالمهم أن يكون الإنسان صاحب موقف *



في المنهج التربوي الإسلامي
أسلوب الانسحاب
مجالس الكفر والاستهزاء
الموقف في السنّة المطهرة
مقاطعة أهل الشك والبدع
مجالس الانتقاص من المؤمنين
إتقاء أماكن الريبة
المجالس الممقوتة
حضور مجالس السبّ معصية

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في المنهج التربوي الإسلامي:
في المنهج التربوي لا يكتفي الإسلام أن يوجّه الإنسان إلى الالتزام بالبرامج الأخلاقية التي لابدّ له من أن يتمثلها في ذاته، بأن يطيع اللّه في كل ما أمره به وأن يطيعه فيما نهاه عنه، ولكن أراد أن يضع له منهجاً معيناً في موقفه من الآخرين الذين يواجهون الحق بالتحدي، ويتحركون في الخط المضاد للإسلام وأهله، فيوجّهنا اللّه تعالى إلى أن نقف منهم موقفاً احتجاجياً إيجابياً إذا كان الإيجاب هو الأسلوب الذي تسمح به الظروف، وذلك بأن نواجههم بالحوار وبالحجة والبرهان إذا كانوا ممن يطلقون كلمة الكفر أو نقد الإسلام من مواقع التحدي الفكري، أو نمنعهم من الخوض في ذلك بالقوة إذا كانت الظروف تسمح بذلك، ولم تكن هناك مفاسد إضافية من اللجوء إلى هذا الأسلوب، ولكن إذا كان الموقف لا يسمح بالردّ الفكري لأن القوم ليسوا أصحاب فكر، أو لأنهم يملكون من القوة ما لا نستطيع أن نواجهه بحسب طبيعة الواقع. فكيف نقاوم هذا الوضع؟
أسلوب الانسحاب:
إن اللّه تعالى بَيّنَ هذا الموضوع في آيتين،  فقد ورد في قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }. والخوض في آيات اللّه يعني الحديث السلبي ضد المفاهيم التي تتضمنها آيات اللّه، أو ضد الشخصيات الرسالية التي تشير إليها آيات اللّه. فإذا لم تستطع أن تواجه هؤلاء لتردعهم عن ذلك {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. حاول أن تنسحب، أو إذا لم تستطع الانسحاب فلابدّ أن يتمثل الرفض في وجهك بحيث لا تقبل عليهم في المجلس، بل لابدّ أن يكون موقفك موقف الإعراض عنهم والإهمال لهم كما لو كانوا غير موجودين، لأن المطلوب ليس أن تقاطعهم تماماً إذا كانت لديك مصلحة باللقاء بهم، ولكن أن تحتجّ على حديثهم السلبي وأن تظهر ذلك في إمارات وجهك، فإذا انتهى حديثهم في هذا الاتجاه فيمكنك أن تعود إلى المجلس، وأن تلتفت إليهم بما تحتاجه من الحديث معهم إذا لم تكن هناك مصلحة في المقاطعة الشاملة.
{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ}. وأما إذا كنت في حالة غفلة عن الموقف ثم انتبهت إلى حديثهم وذكرت الموقف والمنهج الإسلامي {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
واللّه تعالى يقول في المقطع الثاني {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}. أي أنك لن تحاسب أمام اللّه على ذنب ما تحدّثوا به فإنهم يتحمّلون مسؤولية حديثهم، {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. فربما بموقفك الذي يمثّل الصدمة لهم عندما تنسحب من المجلس أو عندما تهملهم في حديثهم يتذكرون ويتراجعون عمّا خاضوا فيه {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(الأنعام/68).
مجالس الكفر والاستهزاء:
وهناك آية ثانية، وهي {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّه يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا}. فإذا جلست في مجلس وسمعت قوماً يكفرون بالإسلام وبرموزه أو يستهزئون بهم {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. أي إذا قعدتم معهم وأقبلتم عليهم ولم تظهروا الاحتجاج على ذلك بالانسحاب أو بالإهمال {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}. لأن «الساكت عن الحق شيطان أخرس».  {إِنَّ اللّه جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}(النساء/140). فموقفك حينئذ يكون موقف النفاق حيث أنك تلتزم الإسلام ولكن ترضى بموقف من يهاجم الإسلام دون أن تحتج عليه.
وهذا الخط ـ أيّها الأحبة ـ لا ينحصر في الذين يكفرون بآيات اللّه أو يستهزئون بها، بل يشمل الذين يغتابون المؤمنين، أو الذين يتحدثون بالسوء عن المجاهدين والمصلحين، فالجريمة هي الجريمة، والموقف هو الموقف، لأنك عندما تتعدى على مؤمن فتغتابه أو تشوّه صورته أو تتهمه أو تنسب إليه ما ليس فيه، فإنك بذلك تغدو ممن يخوض في آيات اللّه في حين أن اللّه تعالى أراد لنا أن لا نؤذي المؤمنين وأن لا نغتابهم وأن لا نذلّهم وأن لا نضرّهم، وما إلى ذلك، ولهذا ينبغي أن يكون الموقف ـ من خلال الوحي القرآني ـ هو أننا إذا جلسنا في مجلس ينتقص فيه رمز من رموز الإسلام، أو يكفر بحكم من أحكام الإسلام، أو بعقيدة من عقائده، ولم نستطع أن نردّه بأسلوب من أساليب المواجهة الفكرية أو العملية، فإن علينا أن نحتجّ بالموقف السلبي وهو الانسحاب من المجلس، أو بإيجاد جوّ يشغل هؤلاء عمّا هم فيه ويربك الجلسة، أو بإهمالهم بشكل لافت.

الموقف في السنّة المطهّرة:
هذا ما جاء في القرآن الكريم، فلنأت إلى السنّة المطهرة لنجد النتائج السلبية للجلوس في مثل هذه المجالس. ففي الحديث عن أبي عبد اللّه الصادق(ع) قال: «لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى اللّه فيه ولا يقدر على تغييره». فلا بد له أن ينسحب حتى يكون انسحابه احتجاجاً على هذه المعصية وإعلاناً بأنه لا يرضى بها.
وفي الحديث عن (الجعفري) قال: «سمعت أبا الحسن(ع) يقول: مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟». أي تجلس مجلسه «فقال: إنه خالي، فقال: إنه يقول في اللّه قولاً عظيما، ويصف اللّه ولا يوصف». أي يصف اللّه تعالى بما لا يتناسب مع جلاله وهو لا يوصف «فإمّا جلست معه وتركتنا وإمّا جلست معنا وتركته ». اختر أحد الأمرين، فلا يمكن لك أن تجمع بين الجلوس معه والجلوس معنا، لأن الإنسان عندما يندمج في مجلس من المجالس، فمعنى ذلك أنه يلتزم هذا المجلس ويلتزم أهله والقائمين عليه، وبالتالي فإنه يلتزم الفكر الذي يتحرّك فيه ويوافق عليه ولا يرفضه. ولمّا كان مجلسنا ـ أي مجلس الإمام الصادق(ع) ـ من المجالس التي تـعظّم اللّه  في صفاته ولا تصفه بما لا يوصف به في مستوى الحقيقة، فهو مجلس الإسلام في صفائه ونقائه، أمّا مجلسه (أي مجلس عبد الرحمن بن يعقوب) فإنه مجلس الانحراف.
«فقلت: هو يقول ما شاء، أيّ شيء عليّ منه إذا لم أقل ما يقول؟». فأنا أسمعه وهو يتحدث ولا التزم بكلامه، فأنا لا أقول قوله، وما دمت كذلك فأنا لا أتحمّل مسؤولية فكره حتى يعاقبني اللّه على ذلك، فكأنه يقول إن القضية ليست في أن يحضر الإنسان هذا المجلس، بل هي أن يلتزم فكر وقول صاحبه.
«فقال أبو الحسن(ع): أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً». إنه مجلس سخط اللّه، ومجلس الذين يمكن أن ينزل اللّه بهم عذابه لأنهم يتعدّون حدوده. «أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى(ع) وكان أبوه من أصحاب فرعون فلمّا لحقت خيل فرعون موسى تخلّف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى، فمضى أبوه وهو يراغمه». أي يغاضبه فلا يتقبّل منه «حتى بلغا طرفاً من البحر فغرقا جميعاً، فأتي موسى(ع) الخبر، فقال: هو في رحمة اللّه، ولكنّ النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب المذنب دافع»( ).
ولذلك فإن على الإنسان أن لا يجلس في مجالس أهل الكفر والمعصية عندما يخوضون في حديث الكفر والمعصية، لأن اللّه قد ينزل بهم عذابه فيعمّهم، حتى لو لم يكن الجالس معهم من أهل المعاصي.
مقاطعة أهل الشك والبدع:
وفي الحديث عن النبي(ص) مما رواه الإمام الصادق(ع) قال: «قال رسول اللّه(ص) إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي». هؤلاء الشكّاكون الذين يقفون ضد حركة اليقين، أو أهل البدع الذين يدخلون في الدين ما ليس فيه وينسبونه إلى الدين. «فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة». أي الذم واللوم «وباهتوهم». أي واجهوهم بأن تجعلوهم متحيرين «كي لا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس». أي حاولوا أن تعزلوهم عزلاً اجتماعياً وفكرياً بحيث يعرف الناس طبيعة الخط الذي يتحركون فيه والهدف الذي ينشدون ليسقطوا أمام الناس «ولا يتعلّمون من بدعهم». شيئاً، فإذا فعلتم ذلك «يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم من الدرجات في الآخرة». لأن ذلك يمثل حالة من حالات الجهاد والرفض للباطل كلّه.
مجالس الانتقاص من المؤمنين:
وفي حديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر». والتفتوا هنا إلى ربط الإمام(ع) بين الجلوس في مثل هذه المجالس وبين الإيمان باللّه واليوم الآخر الذي يفرض عليكم اعتزالها، فمن لم يلتزم بهذا فإن إيمانه ضعيف «فلا يجلس مجلساً ينتقص فيه إمام أو يعاب فيه مؤمن». ذلك لأن الإيمان باللّه واليوم الآخر يفرض عليك أن تعظّم الأئمة وترفض انتقاصهم، وتعظّم المؤمنين وترفض أن يعيبهم أحد.
اتّقاء أماكن الريبة:
وفي الرواية عن الإمام الصادق(ع) قال: «قال أمير المؤمنين(ع) من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة». أي لا يجلس المجالس التي يتهم فيها بالفسق أو بالضلال أو ما إلى ذلك، باعتبار أن الذين يقومون عليها ويتحرّكون فيها هم من هؤلاء، وبذلك فإن جلوسه في هذا المكان يوجب اتهام الناس له وربما يوجب تلوّث قلبه وإغلاق روحه، لأن الإنسان إذا ألف مواقع الريبة والفسق والفجور فإن ذلك يدخل قلبه ويسيطر على مشاعره وأحاسيسه، وربما ينفذ إلى عقله، والكثير من الناس استبطنوا الكثير من الأفكار الضالّة أو الأخلاق المنحرفة أو المشاعر السيئة من خلال ما عاشوه من ذلك في بيئة ملّوثة، فلما ألفوها ألفوا أفكارها ومشاعرها ودخلت إلى قلوبهم وعقولهم بطريقة لا شعورية.
ولو جلسنا مع أنفسنا ودرسنا ما تختزنه عقولنا من بعض الأفكار وقلوبنا من بعض العواطف وحياتنا من بعض الخطوط لرأينا أننا لم نختر ذلك، بل إن البيئة التي عشناها، سواء بيئة البيت أو المحلّة أو المدرسة أو المجتمع هي التي أدخلت ذلك كلّه في شخصياتنا، لأن الإنسان يألف فكر من يألفهم من الناس.
المجالس الممقوتة:
وعن أبي عبد اللّه الصادق(ع)، قال «ثلاثة مجالس يمقتها اللّه ويرسل نقمته على أهلها فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم: مجلسا فيه من يصف لسانه كذباً في فتياه». أي الفتيا التي لا ترتكز على الصدق ولا على الحق «ومجلساً ذكرُ أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رثّ». أي أن الجالسين فيه هم من الذين ينصبون العداوة لأهل البيت(ع) فيتحدثون عن فضائل أعدائهم ولا يتحدثون عن فضائلهم. «ومجلساً فيه من يصدّ عنّا وأنت تعلم». أي المجلس الذي يخذّل فيه الناس عن أئمة أهل البيت(ع) بحيث يُردع الناس عن محبتهم وولايتهم والتزام خطهم في الحياة الذي يعيشون  فيه، وإذا كان ذلك فإن الأمر سوف يمتد إلى المجالس التي ينتقص فيها من الإسلام وأحكامه ونبيّه، بل تمتد إلى المجالس التي يذكر فيها المستكبرون والظالمون والكافرون بالخير، بينما يذكر المستضعفون والمظلومون والمؤمنون بالشرّ، وكذلك المجلس الذي ينتقص فيه من المجاهدين الذين يجاهدون أعداء اللّه ويطلب فيها العذر للظالمين والمحتلين الذين يحتلّون بلاد الإسلام.
«ثم تلا أبو عبد اللّه(ع) ثلاث آيات من كتاب اللّه كأنما كنّ في فيه ـ أو كفّه ـ{ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}»(الأنعام/108). أي أن الإمام(ع) في مقام توجيه أن لا يتحدث الإنسان بحديث ضد أعداء اللّه بطريقة العصبية البعيدة عن العقل والإقناع بحيث يجعل الآخرين يقومون بردّ الفعل ضد أولياء اللّه {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}(الأنعام68). {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}(النحل/116).
حضور مجالس السبّ معصية:
كما ورد في الحديث عن أبي عبد اللّه(ع): «من قعد عند سبّاب لأولياء اللّه». سواء كانوا من الأئمة أو من العلماء المجاهدين أو من المؤمنين الصالحين بحيث يخوض أهل هذا المجلس في هذه الأحاديث من خلال عقدة، أو بغض للّه أو لأوليائه أو ما إلى ذلك. «فقد عصى اللّه تعالى». أي القعود أو البقاء في المجلس الذي لا تنطلق المواجهة فيه بالكلمة أو الموقف يعدّ معصية إذا لم ينسحب الإنسان منه.
وقد ورد عن الإمام الباقر(ع) «من قعد في مجلس يسبّ فيه إمام من الأئمة، يقدر على الانتصاب». أي على القيام والاعتزال، وفي بعض النسخ (على الانتصاف) وهو الانتقام، أي يستوفي الحق ويدافع عنه «فلم يفعل ألبسه اللّه الذلّ في الدنيا وعذّبه في الآخرة وسلبه صالح ما منّ به عليه من معرفتنا».
وعن (اليمان بن عبيد اللّه)، قال: رأيت (يحيى بن أمّ طويل) وقف في الكناسة (وهي محلّة واسعة في الكوفة ) ثم نادى بأعلى صوته: «معشر أولياء اللّه إنا براء مما تسمعون، من سبّ علياً فعليه لعنة اللّه، ونحن براء من آل مروان وما يعبدون من دون اللّه». ثم يخفض صوته فيقول: «من سبّ أولياء اللّه فلا تقاعدوه، ومن شكّ فيما نحن فلا تفاتحوه، ومن احتاج إلى مسألتكم من إخوانكم فقد خنتموه». أي لم تعطوه الرأي. «ثم يقرأ {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}(الكهف/29).
إن أحاديث أهل البيت(ع) المروية عن رسول اللّه(ص) وما استوحوه من أحاديثه(ص) تؤكد على المنهج الإسلامي التربوي الذي يتلخص في أن ننكر على الذين يتحدثون بالطريقة السلبية أو الأساليب المهينة للإسلام ولأهله وللمجاهدين والصالحين من عباد اللّه، وأن نردّهم بالكلمة القوية إذا استطعنا، وأن نحاورهم إذا كانوا من أهل الحوار لنثبت لهم خطأهم، فإذا لم نستطع ذلك فعلينا أن ننسحب من المجلس أو نهملهم حتى نذلّ موقفهم ونبعد الناس عنهم وعن كلماتهم من أجل أن يبقى الحق قوياً عند أهله والباطل ضعيفاً عند أهله.
أيّها الأحبة: إن الالتزام بالإسلام يفرض علينا أن نعزّ الإسلام في مواقفنا، وأن نواجه الذين يعملون على إضعافه وإذلاله بالوسائل الإيجابية إن أمكن ذلك والسلبية إن لم يمكن ذلك، المهم هو أن يكون الإنسان صاحب موقف لا أن يكون حيادياً سلبياً فلا هو مع الحق ولا هو مع الباطل، لأن الذي لا يكون مع الحق فهو مع الباطل حتى لو لم ينصر الباطل، فاللّه تعالى يريدنا أن نقول كلمة الحق وأن نقف موقف الحق وأن نساند أصحاب الحق و أن نخذل الباطل بكل ما عندنا من فكر وقوة وعلم {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(التوبة/105). والحمد للّه رب العالمين( ).
 
المحاضرة الخامسة عشرة: 21صفر 1420 هـ الموافق 5/6/1999م




في أربعينية الحسين(ع)
مفهوم الإمامة

* من كان مع كربلاء فلا يمكن أن يبايع ظالما أو يقاتل مع ظالم أو يعذر ظالماً أو يبرّر لظالم ظلمه *



استيحاء ذكرى الإمام الحسين(ع)
نقاط مهمّة
طلب الاصلاح
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحق هو الفيصل
مفهوم الإمامة
النظرة العشائرية للخلافة
دوره(ع)  في تصحيح المفهوم
تشخيص المشكلة ومعالجتها
كيف نكون مع كربلاء الحسين(ع)؟
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
استيحاء ذكرى الإمام الحسين(ع):
ويبقى لنا الكثير مما يمكن أن نستوحيه من ذكرى الإمام الحسين(ع) لأنه في معنى عقله الذي اختزن الإسلام كلّه، وفي معنى قلبه الذي انفتح على الإنسان كلّه، وفي معنى حركته التي انطلقت من أجل العدل كلّه والخير كلّه والحق كلّه، كان اختصاراً لمعنى الإنسان الذي عاش مع اللّه واستوحى عناصر شخصيته كلّها من اللّه، ومن خلال ذلك فإننا عندما نستوحي الإمام الحسين(ع) فإنه لا يمكن أن يتجمّد في زمن، ولا يمكن أن يحاصره مكان، ولا يمكن أن تختصره حادثة. وقد رأينا أن بعض السير تختصر الحسين(ع) في معنى كربلاء وتختصر كربلاء في معنى المأساة، وإذا أرادت أن تطّل على معنى الثورة في كربلاء فإنها تحصرها في دائرة ضيّقة.
نقاط مهمّة:
لهذا علينا ـ أيها الأحبة ـ أن نفهم بعض النقاط في حركة الإمام الحسين(ع).
النقطة الأولى: أن نجيب على السؤال التالي: هل أطلق الإمام الحسين(ع) كلمة العنف في معنى القسوة في مسيرته من المدينة إلى مكة ومنها إلى كربلاء؟ أو أن الحسين(ع) كان في تلك المسيرة داعية إلى اللّه متحركاً في خط الإصلاح منفتحاً على الأمّة كلّها فيما كان يعيشه من المعاناة لكلّ آلام الأمة في انحرافاتها عن الخط المستقيم؟
ففي وصيته لأخيه (محمد بن الحنفية) يعبّر عن مسيرته في عناوين قرآنية حركية في الروحية التي تندفع إلى الدعوة لهذه العناوين وإلى تحقيقها بكل قلب مفتوح، فليس فيها أية حالة متشنّجة معقّدة تعمل من أجل قهر الذين يقفون في مواجهتها. «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين»( ). وهذه حسب السيرة الحسينية هي أول ما صدر عن الإمام الحسين(ع) من بيانات في بداية مسيرته، فماذا نقرأ فيها؟
إننا نقرأ أن الإمام الحسين(ع) أراد أن يجرّد حركته من العناوين التي كان الآخرون يتحرّكون فيها على اعتبار أن أساس الحركة في واقعهم هي إعطاء الذات فرصتها لتحكم ولتتسلّط ولتقهر ولتتكبّر، فمن يخرج أشراً أو بطراً أو ظالماً للموقع، فإنه ينطلق من خلال إفساد حياة الناس على مستوى المفاهيم والواقع سواء كان واقعاً اجتماعياً أو سياسياً.
طلب الإصلاح:
كان المنطلق لدى الإمام الحسين(ع) هو أن ينفذ إلى واقع الأمة مجرداً عن ذاته، بما هو معنى الذات في نطاقها الضيّق وإن كانت ذاته في معناها الرسالي هي الإسلام كلّه، لأن الإمام الحسين(ع) هو الإمام المعصوم وهو سيد شباب أهل الجنّة لا انفصال بين واقع الذات لديه وبين واقع الرسالة. ولقد كانت كلمته رسالة وكان عمله رسالة وكان إقراره للواقع الذي لا يعترض عليه ويرضاه رسالة، لأنه عاش الرسالة في أنفاس رسول اللّه(ص) الذي كان يتنفس بها عليه من أجل أن يعطي الطهر كلّه في أنفاسه. وعاش روح رسول اللّه(ص) التي كان يعمل على أن يغرسها في روحه أبّان طفولته الأولى، فوجد في أحضان رسول اللّه(ص) حضن الإسلام الذي يضمّه والذي يرتاح إليه والذي عاش هدهداته كلّها ومشاعره كلّها وأحاسيسه كلّها، وبالتالي فقد عاش مع الحق الذي مثّله كلٌ من رسول اللّه(ص) وعلي(ع) الذي قال عنه رسول اللّه(ص) «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار»( ).
فعندما ندرس حياة الإمام الحسين(ع) بموضوعية وحيادية فإننا لن نجد في التأريخ الذي أرّخ طفولة الحسين(ع) وشبابه وبداية كهولته، كلمة في ذلك كلّه تحصي عليه أو ترصد فيه خطأ في فكر أو قول أو فعل ـ بغض النظر عما نؤمن به من عصمته ـ فكان إسلاماً يتجسّد، مما يجعلنا نؤكد على أنه ليس هناك انفصال بين الذات لديه وبين الرسالة.
ومن هنا أراد الحسين(ع) أن يقول للناس أدرسوا تأريخي كلّه وانظروا هل ظلمت أحداً في كلمة أو فعل، وادرسوا حركتي في الحياة وانظروا هل أفسدت على المستوى الفردي أو الاجتماعي، هل انطلقت في حالة خيلاء أو بطر أو كبرياء في حياتي كلّها؟ ألم أكن المتواضع الذي يعيش مع الناس كواحد منهم، والذي يحترمهم في حقوقهم كلّها ومواقعهم كلّها؟!
إذاً ليست المسألة مسألة ذات تريد أن تحكم أو تظلم أو تفسد ولكنها ذاتٌ تريد أن تصلح لأن الواقع الذي يعيش فيه الناس كان واقع الفساد في المفاهيم والحكم والعلاقات العامّة. ولذلك قال(ع): «خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي». ونسبة الأمة إلى جدِه(ص) ليست حصراً للأمة في الدائرة النسبية ولكنها تعني أن الرسول(ص) الذي أطلق الرسالة وجسّدها أراد لها أن تتحرك من بعده لأن اللّه يقول {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّه شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّه الشَّاكِرِينَ}(آل عمران/144). فمعنى أن جدّه هو الرسول(ص) هو أنه عاشه في رسالته فيه وتلك هي كلمته «حسين مني  وأنا من حسين»( ).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ثم يقول(ع) في وصيته «أريد أن آمر بالمعروف». والمعروف هو كلّ أما أحبّه اللّه ورضيه مما يرفع مستوى الإنسان في مجالاته كلّها. «وأنهى عن المنكر». والمنكر هو كلّ ما يسخط اللّه وينحط بمستوى الإنسان إلى أسفل درك. وتلك هي صورة الحركة التي أراد أن يطلقها الإمام الحسين(ع) في الأمة «فمن قبلني بقبول الحق». لا من خلال علاقته بي ذاتاً فأنا لست ذاتاً تفرض على الناس حبّها في دائرتها الخاصة، ولكنّي  رسالة تعيش في الذات لتجعل علاقة الناس بتجسيد الرسالة في حركة الذات وليست في الذات، فكأنه أراد أن يقول للناس إنكم عندما تقبلوني في دعوتي فإنكم تقبلون دعوة اللّه لأن الدعوة ليست دعوة الحسين الشخص ولكنّها دعوة الحسين الرسالة بما تمثله من وحي اللّه وكلمته.
الحق هو الفيصل:
« فاللّه أولى بالحق». فجزاءُ من يقبل دعوتي أنّ أجرَهُ على اللّه. «ومن ردّ عليّ ». ورفضني ورفض رسالتي. «أصبر» صبر الأنبياء والرسل والمصلحين لا صبر التراجع، ولكنّي أصبر لأعطي لهؤلاء الذين يردّون عليّ، والذين يعيشون تحت رواسب الجاهلية، وتحت تأثير الأجواء المنحرفة التي يتقلّبون فيها، صورة عن صبر رسول اللّه(ص) عندما قال «اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»( ). فربما يلتقون بالنور في موقع هنا أو موقع هناك، لأن الإنسان يمكن أن يتكامل وينمو وإذا ضغط عليه موقع فانحرف به فقد ينفتح له موقع آخر فيستقيم. «حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق» فالذي بيني وبين الذين يردّون علّي ليس شيئاً في الذات بل هو شيء في الحق، واللّه ربي وربهم هو الذي يحكم بالحق. {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للّه}(الانفطار/19). ومن هنا نعرف أن الأمر لم يكن عنفاً للعنف ذاته. وإنما رسالة تعمل على فتح قلوب الناس.
مفهوم الإمامة:
ويمكن أن نلاحظ أيضاً كيف أن الأمام الحسين(ع) كان يريد أن يؤكد مفهوم الإمام في نفوس الناس لأن المشكلة منذ البداية، أي منذ أن أقصي الإمام علي(ع) عن حقّه، هي مشكلة الانحراف عن معنى إمامة المسلمين، وليست في سنّ متقدّمة أو سن متأخرة، ولا هي صحبة متقدمة وصحبة متأخرة، بل كانت في عمقها ـ الذي نعيه الآن ـ أن يختزن الإمام الذي يحمل الرسالة في داخله شخصيتين متكاملتين: شخصية الذي يعرف الإسلام كلّه وعياً والتزاماً وحركة وتجربة ومنهجاً، وشخصية الإنسان الذي يملك وعي الحركة الإسلامية في عناوينها الكبيرة في حركة الواقع.
أما المسلمون في ذلك العهد وبعده فقد كانت الإمامة ملتبسة لديهم ـ بغض النظر عن عوامل الالتباس هذا ـ بالرغم من أن الرسول(ص) حدّثهم عن علي(ع) مما لم يتحدث به عن أي صحابي آخر، فلقد حدثهم في يوم الغدير عن الولاية، وحدّثهم في حديث المنزلة عن أنه بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعده. إلاّ أن فهمهم للإمامة كان يتحرك في السطح، أما في العمق فكان يتصل بشيء يقترب من رئيس العشيرة. ولهذا أبعدوا علياً(ع) وقال البعض للزهراء(ع) عندما طالبتهم بحقه في الخلافة، لو أن علياً تقدّم إلينا قبل أن نبايع لكنّا معه، وكأن المسألة هي مجرد بيعة في معنى الالتزام بالشخص لا بالمضمون وبالرسالة.
النظرة العشائرية للخلافة:
ورأينا ـ بعد ذلك ـ كيف تحركت الأمور في الكثير من التعقيدات، وكيف أضحت المسألة عندما ولي علي(ع) الخلافة، وكيف انتـفض طلحة والزبير باعتبار أنهم يريدون له أن يشركهما في الحكم تماماً كما لو كانت الخلافة والإمامة شركة في حكم الناس أو في الامتيازات.
وهكذا انطلقوا في أول حرب استخدموا فيها زوجة رسول اللّه(ص) ورأينا أيضاً كيف أن معاوية بدأ يفكر في الخلافة بلافتة قميص عثمان. وقد حاوره الإمام علي(ع) كثيراً وسجّل عليه أكثر من مؤاخذة ومنها أنه كان قادراً على أن ينصر عثمان ولم ينصره.
وعندما انطلق الإمام الحسن(ع) بعد أبيه وكان ما كان، انطلق الناس بأجمعهم إلاّ قلّة من المعارضة ليصنعوا من معاوية خليفة، ثم أنهم ومن خلال معاوية صنعوا من يزيد خليفة وهم يعرفون ما معنى معاوية وما معنى يزيد، كما يعرفون ما معنى الإمام علي(ع) وما معنى الإمام الحسن(ع) ولكنهم كانوا لا يعيشون عمق معنى الإمامة.
دوره(ع) في تصحيح المفهوم:
ولذلك كان همّ الإمام الحسين(ع) كلّه القيام بحملة توعية فيمن يكون الإمام، فلقد قال مخاطباً الجيش الذي كان مع (الحر بن يزيد الرياحي) خطبها وقال فيها «أيها الناس إن رسول اللّه(ص) قال من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم اللّه ناكثاً بعهده مخالفاً لسنّة رسول اللّه يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام اللّه وحرّموا حلاله وأنا أحق من غيّر». فلقد قدّم لهم صورة الإمام المنحرف، فالذي يحكم باسم الإسلام لا يمكن أن يكون ظالماً للناس {إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}(النحل/90). ولا يمكن أن يكون ناكثاً بعهده، لأن اللّه يقول {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا }(النحل/91). ولا يمكن أن يخالف سنّة رسول اللّه(ص) لأن اللّه يقول {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر/7). ويقول {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه}(النساء/80). ولا يمكن أن يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان لأن اللّه سبحانه وتعالى يرفض الظلم لعباده. ولذلك كان رسول اللّه(ص) يقول حاولوا أن تغيّروا الإمام الذي يتصف بهذه الصفات لأنه سوف يهدم قواعد الإسلام في حركة حكمه ذلك أن مثل هذه العناوين التي تتمثل في الحكم تقف في الضد من عناوين الإسلام الحقيقية.
ثم يركّز الإمام الحسين(ع) في إعطائه للخط العام على الواقع «إن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله». لذلك قال: «أنا أحقّ من غيّر». لأنني أنا الذي أحمل الإسلام عقلاً في عقلي، وقلباً في قلبي، وحركة في حركتي، ومنهجاً انفتح به على قضايا الإنسان مما يريد اللّه له أن يتحرّك فيه.
ولنقرأ أيضاً نصاً آخر، فلقد سأله رجل من بني أسد «يا ابن بنت رسول اللّه أخبرني عن قول اللّه عز وجل يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم؟ فقال الحسين(ع) نعم يا أخا بني أسد هم إمامان: إمام هدى دعا فهدى من أجابه إلى الجنّة إلى هدى، وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة ومن أجابه إلى الضلالة دخل النار». فكأنه يقول ادرسوا الإمام الذي يؤمّ المسلمين من خلال سيرته لتروا هل هي سيرة ضلال أو هدى، وادرسوا مضمون دعوته لتتأكدوا هل هي دعوة إلى ضلالة أو هي دعوة إلى هدى، فإذا رأيتم أن دعوته هي دعوة هدى، وسيرته سيرة هدى، فاتبعوه فإن من اتبّعه لابدّ أن يصل إلى الجنّة، وإذا كانت سيرته سيرة ضلالة ودعوته دعوة ضلالة فإنه يسير به إلى النار.
ورأيناه أيضاً يتحدث في حديث آخر حول مفهوم الإمام، حيث يقول «ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات اللّه». بحيث لا يتحرك في أي دائرة غير ما يمثله اللّه. ثم يقول «ليس الإمام العامل بالكتاب والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحق ولا يهدي ولا يهتدي جمعنا اللّه وإيّاكم على الهدى، وألزمنا وإياكم التقوى إنه لطيف لما يشاء ».
وفي رسالته إلى أهل البصرة نجد أن الإمام الحسين(ع) أراد أن يؤكد لهم معنى الإمام في دعوته هو، وكأنه يجسّد لهم شخصه « وأنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيّه فإنّ السنّة قد أُميتت والبدعة قد أحييت وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد»( ).
وعلى ذلك نعرف أن الإمام الحسين(ع) انطلق من أجل أن يؤكد هذا المفهوم وأن يرصد الواقع من خلال ذلك، وعندما نزل ما نزل بسفيره مسلم بن عقيل(ع) وعندما واجه الفئات المضادّة تحدّث بمرارة عن ذلك الواقع في لقائه مع الحرّ، حيث قال «إنه نزل من الأمر ما قد ترون وأن الدنيا قد تغيّرت وأدبر معروفها واستمرت جدّاً ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقاً حقاً فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما». وقال بعد ذلك مشيراً إلى الواقع الذي لم ينفتح على رسالته وعلى دعوته « إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديانون».
وقال لجماعة الحرّ بعد صلاة العصر «أمّا بعد - أيها الناس - فإنكم إن تتقوا اللّه وتعرفوا الحق لأهله تكن أرضى للّه عنكم ونحن أهل بيت محمد وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلا الكراهية لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم»( ).
تشخيص المشكلة ومعالجتها:
أيها الأحبة: لقد كانت رسالة الإمام الحسين(ع) في ذلك كلّه تتمثل في تأكيده للناس على معنى الإمامة في الإسلام وصفة الإمام الحقّ في الإسلام. وكان يريد أن يختصر المشكلة الإسلامية بعد رسول اللّه(ص) في هذه المسألة، باعتبار أن الناس لم ينفتحوا على مفهوم ودور الإمامة في الإسلام من خلال حركتها في حماية الإسلام من الانحراف ودعوة الناس إلى الإسلام في كلّ جيل والقيام بالقسط في حياة الناس وواقع الحكم الإسلامي.
ولعلّ هذه المسألة التي ركّز عليها الإمام الحسين(ع) هي التي أراد للناس أن يعرفوا من خلالها أن مشكلتهم التي يعانون منها، والفساد الذي يتقلّبون فيه، والمنكر الذي يفعلونه، والمعروف الذي يتركونه، إنما حصل لأنهم أفسحوا المجال للقيادة غير الشرعية، لأن الإمامة أو الحاكمية هي التي يمكن أن تقود الناس إلى الخط المستقيم أو التي يمكن أن تنحرف بهم إلى الخط المنحرف. ولعلّ هذا هو ما عاشه المسلمون بعد ذلك، سواء فيما انطلقوا به في عهد الخلافة الأموية أو عهد الخلافة العباسية أو الخلافة العثمانية، أو ما يلتزم به المسلمون اليوم مما ينفتحون به على سلطان هنا ليس له من معنى الشرعية الإسلامية أي موقع، وسلطان هناك لا يحمل من معنى الشرعية شيئاً، وهذا هو سرّ الواقع اللاإسلامي في الحياة الإسلامية، لأن الناس إذا عاشوا مع الحكم المنحرف والحاكم المنحرف والتيار الذي يبتعد عن الإسلام في مفاهيمه وشرائعه وتطبيقاته فإن من الطبيعي أن يكون الإسلام شيئاً ويكون المسلمون شيئاً آخر.
ومن هنا، فإننا عندما نثير مسألة الإمامة لا نثير مسألة تأريخية تعيش في تعقيدات التأريخ، ولكننا نتحدث عنها ونحرّك مفهومها كيما تمتد في الوجدان الإسلامي حتى ينطلق المسلمون ليعرفوا أين هو إمام الهدى ليتبعوه وأين هو إمام الضلالة ليتركوه. وتلك ـ أيها الأحبّة ـ قصة امتداد قضية الإمام الحسين(ع) فإن الأئمة من أهل البيت(ع) لم يريدوا لعاشوراء أن تكون مجرد دمعة وإثارة مأساة وإنما أرادوا للدمعة أن تشير إلى تلك الدموع التي عاشها المسلمون عندما ابتعدوا عن الإسلام وفرضت عليهم المشاكل الكثيرة التي صادرت حقوق المستضعفين وأبعدتهم عن معنى العدل والاستقامة، وأرادوا للمأساة أن تنطلق لتعيش في مشاعر الناس في مدى الزمن وفي مواقعهم كلّها، لا لتكون مأساة كربلاء معنى في ذاتية المأساة ولكن لتكون واجهةً لكل مآسي الإنسان التي يتحرك المستكبرون من أجل أن يصنعوها في واقع المستضعفين، والتي يتحرك فيها الظالمون ليصنعوها في واقع المظلومين.
كيف نكون مع كربلاء الحسين(ع)؟
أيّها الأحبة: من كان مع كربلاء الحسين فلا يمكن أن يبايع ظالماً، ومن كان مع كربلاء الحسين فلا يمكن ان يقاتل مع ظالم، ولا يمكن أن يعذر ظالماً، أو يبرّر لظالم ظلمه، لذلك اختصروا دموعكم عندما تكون دموع التأريخ، وأطلقوها عندما تكون دموع الإنسان المظلوم والمقهور والمستضعف. لقد كانت كربلاء مظلومة كلّها، لأنها انطلقت بالرسالة في خط العدل وانطلقت من قلب الواقع لتحتج عليه ولتثور عليه ولتغيّره. هل تريدون أن تكونوا حسينين؟ ليست القضية إذاً أن تبكوا كثيراً وإن كان للبكاء معناه، وليست القضية أن تلطموا كثيراً وإن كان للطم رمزه، ولكن القضية هي أن تواجهوا الواقع كلّه، وأن تعيشوا الواقع كما عاشه الإمام الحسين(ع) والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، فلم يكونوا حياديين أمام واقع الظلم والاستكبار.
أيها الأحبة: لا تحرّكوا مع الحسين في التاريخ بل تحركوا معه واقعا وثورة وتغييراً، وليكن كلّ واحد منا حسيناً ولو بنسبة الواحد بالمئة. فعندما نعيشه في منهجه وفكره وروحه وانفتاحه على قضية العدل والحرية في الإنسان فإن كربلاء عند ذلك تستطيع أن تجد جمهورها فينا ولا تتحدث فقط عن جمهورها في سنة 61 ه. والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة السادسة عشرة: 27صفر 1420 هـ الموافق 12/6/1999م



في ذكرى وفاة الرسول(ص)
دروس في كيفيّة توديع الدنيا

* يعلّمنا رسول الله(ص) أن لا يخرج أحدنا من الدنيا إلاّ وهو محلّل له من حقوق الناس حيث يؤدّي حقوقهم التي عليه في حياته قبل أن يأتيه الموت *






في ذكرى وفاة النبي(ص)
ذهنية المجتمع الإسلامي آنذاك
حسبُنا كتاب اللّه
كيف نبيّ ويهجر؟
الشك في موت النبي(ص)
ما أوصى به(ص) في مرضه
روايتان

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في ذكرى وفاة النبي(ص):
في هذه الليلة نلتقي ذكرى وفاة النبي محمد(ص) وقد تحدّث الإمام علي(ع) عن هذه المناسبة وهو يلي غسل رسول اللّه(ص) ليدلّل على مدى فداحة الخسارة التي أصيب بها المسلمون بانتقال رسول اللّه(ص) إلى الرفيق الأعلى: «بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء». لأن رسول اللّه(ص) كان خاتم الأنبياء، لذلك اختلفت مرحلته عن المراحل التي مرّ بها الأنبياء من قبله لأنه كان إذا مات نبي فلا ينقطع خبر السماء بموته ولا تنقطع النبوّة بموته، لأن هناك نبيّاً يأتي من بعده. أمّا رحيل النبي(ص) عن هذه الدنيا فإنه يمثل الوفاة التي انقطع بها خبر السماء عن الأرض وانتهت بذلك مرحلة النبوّة والأنبياء.
ويقول(ع): «خُصّصتَ حتى صرت مسلّياً عن سواك». إنه يصف النـبي(ص) في خصوصيته بما أعطاه اللّه من الميزات، وبما انفتح به على الواقع من حوله، بحيث أنه استطاع أن يكون السلوى عمن سواه لأنه ملأ الساحة كلّها بما أعطاه اللّه سبحانه وتعالى من خصائص لم يعطها لسواه.
«وعمّمت حتى صار الناس فيك سواء». بحيث أنه عاش الشمولية للناس، وانطلق هؤلاء ليشعر كلّ واحد منهم بامتداد رسول اللّه(ص) الذي لا يختصّ به أحد دون أحد. «ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفذنا إليك ماء الشؤون». والشؤون هي منابع الدمع من الرأس. «ولكان الداء مماطلا». أي لا يسرع بالشفاء «والكمد محالفاً». أي أن الحزن يبقى ملازماً لنا «وقلاّ لك» أي أنهما قليلان بالنسبة إليك «ولكنه ما لا يملك ردّه». أي قضاء اللّه. «ولا يستطاع دفعه بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك»( ).
هذه هي كلمات الإمام علي(ع) وهو يلي غسل رسول اللّه(ص) كما جاء في [نهج البلاغة]. وهناك نقطة لابد من التنبيه إليها، وهي تأكيد أمير المؤمنين(ع) عن النهي عن الجزع، والأمر بالصبر، فالرسول(ص) كان قد نهى عن الجزع ولو كان جائزاً فأية شخصية يعيش المؤمنون معنى مأساة فقدها أعظم من شخصية رسول اللّه؟! ولكنه(ص) نهى عن الجزع لأنه أراد للحزن أن يكون متوازناً وأن يكون إنسانياً، وأن لا يخرج الإنسان عن طوره. ويبقى الحزن ـ مع ذلك ـ عاطفة إنسانية «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما لا يرضى اللّه». والصبر لا يستثنى فيه موقف عن موقف ولا موقع عن موقع.
ذهنية المجتمع الإسلامي آنذاك:
ونريد هنا أن نثير نقطتين تتصلان بأجواء وفاة النبي(ص):
النقطة الأولى: هي دراسة ذهنية المجتمع الإسلامي في تلك المرحلة: كيف كان يتعامل مع رسول اللّه(ص) وكيف يمكن السيطرة عليه بالأساليب الانفعالية من جهة أخرى، ونذكر في هذا المجال ثلاث قضايا:
القضية الأولى: هي ما جاء في الحديث عن ابن عباس وعن الإمام علي(ع) وعن كثير ممن عاشوا تلك المرحلة، وهي أن رسول اللّه(ص) عندما كان في مرضه الذي توفي فيه وكان المسلمون مجتمعين عنده، قال لهم «إئتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً»( ). وهذه هي رواية ابن عباس: قال اشتكى النبي(ص) يوم الخميس فجعل ابن عباس يبكي ويقول يوم الخميس وما يوم الخميس اشتدّ بالنبي(ص) وجعه فقال: «إئتوني بدواة وصحيفة اكتب كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً». فقال بعض من كان عنده «إن نبي اللّه ليهجر» قال: «فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟  قال: أو بعد ماذا، قال: فلم يدع به».
وهناك روايات تتحدث عن اختلاف المسلمين في حضرة النبي(ص). وهذا ما رواه ابن عباس قال: «لمّا حضرت رسول اللّه الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال رسول اللّه: هلّم أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده». فقال عمر «إن رسول اللّه قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول اللّه، ومنهم من يقول ما قال عمر فلمّا كثر اللغط والاختلاف وغمّوا رسول اللّه، فقال: قوموا عنّي». وهذه الرواية رواها البخاري في صحيحه أيضاً.
حسبنا كتاب اللّه:
وهنا لابد من دراسة المسألة من زاوية الكلمة التي قيلت وهي: «حسبنا كتاب اللّه». فما أراد النبي(ص) أن يكتبه ليس مما أنزله اللّه في القرآن حتى يقال «حسبنا كتاب اللّه»، فنحن نقرأ في النص أن النبي(ص) تابع دراسة المجتمع الإسلامي آنذاك وما كان يدور في خلفياته وما كان يهمس به بعض هنا وبعض هناك، وكيف أن الغدير الذي أعلنه وأكّده وركّزه في وجدانهم ابتعد عن أذهانهم، لأن هناك من أبعدهم عنه، ولذلك كانت المسألة في هذا الكتاب، كما نستوحي ذلك من النص الذي بين أيدينا أن النبي(ص) أراد أن يؤكد أهم القضايا الحيوية في الواقع الإسلامي وهي قضية الولاية التي تمثل الأساس فيما أراد النبي(ص) أن يؤكده، لأنها تمثل الخط المستقيم في مستقبل الإسلام، فالأمر لا يتعلق بالمواعظ العامّة أو التعليمات التي جاء بها القرآن، ولذلك جاء القول «حسبنا كتاب اللّه» كرّد فعل، لذلك فهو لا يلتقي مع طبيعة الأمور.
كيف نبيٌّ ويهجر؟!
وأما النقطة الثانية، فهي أن يطلق رجل من المسلمين القول بأن النبي(ص) يهجر ويتكلّم بدون وعي من خلال الوجع والحمّى التي أصابته، وكأنه يتكلّم كلاماً لا يفقه معناه. إنّ هذا القول خطير جداً لأنّ مثل ذلك يمكن تصوّره في أي إنسان آخر، في حين أن اللّه تعالى أرسل النبي(ص) ليعطي العالم عقلاً لأنه هو عقل العالم. وقد ورد عندنا في بعض الكلمات المأثورة أن «الرسول عقلٌ من خارج». فكيف يمكن أن ينسب لهذا العقل ابتعاده عن مساره الطبيعي، وكيف يجرؤ أحد أن يتحدث عن ذلك والآية الكريمة صريحة قاطعة {وما ينطق عن الهوى} ( ). فهي ليست مختصّة بزمان دون زمان وبحالة دون حالة بالنسبة للنبي(ص).
ثم كيف يختلف المسلمون على ذلك وهم في حضرة رسول اللّه(ص)؟ وكيف ينظر المسلمون آنذاك إلى النبوّة وإلى شخصية النبي(ص)، وكيف يختلفون في ذلك، فيقول بعضهم: القول ما قال فلان، والبعض يقول إئتوا رسول اللّه بدواة وكتف ليكتب لكم. إننا نفهم من ذلك كلّه أن ذهنية المجتمع الإسلامي آنذاك كانت محكومة بالكثير من القلق الفكري أو الانحراف العقيدي. وليست هذه هي القضية الأولى، بل هناك قضية أخرى يذكرها المؤرخون وهي أن النبي(ص) كان قد خطط لإرسال جيش بإمرة أسامة بن زيد، وكان النبي(ص) يستعجل هذا الجيش، ولقد أراد من كبار الصحابة أن يلتحقوا به بالرغم من أن أميره كان شابّاً، ولكن القوم تخلّفوا عنه والنبي(ص) يقول: نفّذوا جيش أسامة، يقولها مرة بعد أخرى والقوم يتباطئون، فهذا يعتذر بأن رسول اللّه(ص) مريض ولا يريد أن يسأل عنه الركبان وما شاكل من الأعذار. فكيف يفهم هؤلاء معنى النبوة وكيف يفهمون كلام النبي(ص) واللّه تعالى يقول لهم {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر/7). إنّ هاتين القضيتين تدللان على طبيعة الذهنية التي تحكم المجتمع الإسلامي آنذاك، فهي ليست الذهنية المنفتحة على معنى النبوة كما ركّزها القرآن، فهل نستطيع أن نفسّر بذلك مسألة الإمامة؟ إن هذا يمكن ان يلقي ضوءاً على ذلك بشكل كبير جداً.
الشكّ في موت النبي(ص):
وهناك نقطة ثالثة، فبعد وفاة رسول اللّه(ص) وإعلان ذلك حدثت حادثة غريبة ينقلها لنا المؤرخون كما جاء في طبقات ابن سعد، فعن عائشة قالت: «لما توفي رسول اللّه(ص) استأذن عمر والمغيرة بن شعبة فدخلا عليه فكشفا الثوب عن وجهه، فقال عمر: واغشياه، ما أشد غشي رسول اللّه. ثم قاما فلما انتهيا إلى الباب قال المغيرة: يا عمر مات واللّه رسول اللّه، فقال عمر: كذبت ما مات رسول اللّه ولكنك رجل تحوشك فتنة ولن يموت رسول اللّه حتى ينفى المنافقين»( ).
ثم جاء أبو بكر وعمر يخطب الناس، فقال له أبو بكر: أسكت، فسكت فصعد أبو بكر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قرأ: {إنك ميت وإنهم ميتون} ثم قرأ {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}(آل عمران/144) حتى فرغ من الآية ثم قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حي لا يموت: قال عمر: هذا في كتاب اللّه؟ قال: نعم. فقال: أيّها الناس هذا أبو بكر وذو شيبة المسلمين فبايعوه. فبايعه الناس».( )
فماذا نفهم من ذلك؟ هل أن من المعقول ان يشك هذا الرجل في موت رسول اللّه(ص) وقد أكّده له رفيقه المغيرة؟ وهل أن من المعقول أن هذا الرجل لم يسمع بهذه الآية وقد نزلت في معركة أحد التي قاتل فيها المسلمون جميعاً؟! ولكن قد تكون المسألة أنه كان ينتظر شخصاً يأتي ليبايعه الناس حتّى لا يستعجلوا بيعة غيره. ثم كيف يندفع الناس إليه، وكيف يشك بعضهم ويعصي البعض؟ إن هذه القضية تثير أكثر من علامة استفهام، وعلينا أن لا ندرسها بالذهنية العصبية المذهبية العاطفية، بل بالنقد التأريخي الذي لا بد أن نحرّكه في وجداننا الإسلامي لنفهم تأريخنا، ونفهم كيف كانت البداية في حركة الانحراف، وكيف أن المجتمع كان يحمل الكثير من الأثقال، ولا نريد أن نعيد التأريخ لنختلف عليه، ولكننا نريد أن نؤكد حقيقة مهمة وهي أن هذا التأريخ قد أثّر فينا، وفي أكثر من حقبة تأريخية أعقبته، ومازال يترك تأثيره على الواقع عندنا. لذلك نريد أن ندرسه جيداً حتى نستطيع أن نتخلّص من بعض السلبيات الكامنة فيه ونستزيد من إيجابياته، لأن الأمة هي نتاج التأريخ، فإذا لم تعرف تأريخها بالطريقة العلمية الموضوعية فإن التأريخ قد يفرض عليها ما ليس في مصلحتها. ونحن ندعو إلى قراءة التأريخ من جديد وإلى كتابته على أساس هذه القراءة حتى يستقيم وجداننا ووعينا الإسلامي للقضايا الإسلامية الحقيقية التي لا تزال تفرض نفسها علينا.
ما أوصى به(ص) في مرضه:
والنقطة الثانية التي نريد أن نستوحيها من حياة رسول اللّه(ص) في آخر لحظات عمره، هي كيف تحدث مع المسلمين، وكيف أبدى اهتمامه بأن يخرج من الدنيا وليس لمسلم عليه أيّ حق، وأن يخرج منها وقد أعطى كلّ ذي حاجة إليه حاجته، وكأنه كان يريد أن يستكمل رسالته بإعطاء النموذج الأعلى للإنسان ـ النبي الذي عاش مع الناس وانفتح عليهم وأدّى حقوقهم كلّها، ليستوحي من ذلك كلّ صاحب موقع كبير في المجتمع الإسلامي، عندما تتصل قضايا الناس بحياته الخاصّة، أن لا يغمط إنساناً حقه وأن لا يستفيد من موقعه ليصادر حقوق الناس عنده، ثم أنه كان يريد أن يخرج من الدنيا وقد استمع إلى أصحاب الحاجات الخاصّة، بعدما أدّى للمسلمين الحاجات العامّة كلّها حتى يعطيهم في خصوصياتهم ما أعطاهم في الجوانب العامّة من حياتهم.
ولنقرأ كلماته الأخيرة، ففي طبقات ابن سعد دخل الفضل بن عباس على النبي(ص) في مرضه فقال: «يا فضل شدّ هذه العصابة على رأسي فشدّها، ثم قال النبي(ص): أرنا يدك». أي إعطني يدك لأتكأ عليها، ثم قال: «إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم». فهناك حقوق قد تكون لكم عليّ «وإنما أنا بشر». وهو البشر الذي لا بشر فوقه، ولكنه أراد أن تكون لهم الجرأة في التعامل معه، وهذا خلق نبويّ عظيم، فلقد كان(ص) لا يريد للناس أن يتعاملوا معه تعامل العبيد مع السيد بل تعامل الرسول الرحيم مع المؤمنين والمسلمين، ولا يريد للناس أن يتعاملوا معه من موقع الهيبة التي توحي بالفوقية. ففي سيرته أن إمرأة رأته فارتعدت لهيبته، فقال لها: «هوّني عليك إنما أنا ابن إمرأة مثلك كانت تأكل القديد». فهل ترتعدين إذا رأيت ابن امرأة تأكل كما تأكلين؟
ويمضي(ص) في خطبته التي قدمنا جانباً منها فيقول «فأيما رجل كنت أصبت من عرضه شيئاً». والعرض هو الكرامة، أي تكلمت بشيء يسي إليه، والنبي(ص) لا يفعل ذلك، ولكنه أراد أن يعطي الموعظة من نفسه «فأيما رجل كنت أصبت من عرضه شيئاً فهذا عرضي فليقتص». لأن اللّه جعل القصاص حتى في الكرامة. «وأيّما رجل كنت أصبت من بشره شيئاً» أي ضربته على جسده «فهذا بشري فليقتصّ، وأيّما رجل كنت أصبت من ماله شيئاً فهذا مالي فليأخذ واعلموا أن أولاكم بي رجل كان له من ذلك شيء فأخذه أو حلّلني فلقيت ربيّ وأنا محللّ لي». فهو(ص) لا يريد أن يلقى اللّه ولأحد من المسلمين في عنقه أو ذمته حق. «ولا يقولن رجل إني أخاف العداوة والشحناء من رسول اللّه فإنها ليستا من طبيعتي ولا من خلقي. وأما من غلبته نفسه على شيء فأخذه فليستعن بي حتى أدعو له. فقام رجل فقال: أتاك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم. قال: صدق، إعطها إياه يا فضل». وكان فضل بن عباس هذا خازناً لأمواله. «ثم قام رجل، فقال يا رسول اللّه: إني لبخيل وإنيّ لجبان وإني لنؤوم». أي أحب النوم كثيراً «فادع اللّه أن يذهب عني البخل والجبن والنوم». فدعا له، ثم قامت امرأة، فقالت: إنيّ لكذا وإني لكذا فادعُ اللّه أن يذهب عني ذلك! قال: «اذهبي إلى منزل عائشة». فلما رجع رسول اللّه(ص) إلى منزل عائشة وضع عصاه على رأسها ولم يضع يده وإن كانت محجّبة ليعطينا درساً في العفّة «ثم دعا لها، قالت عائشة: فمكثت تكثر السجود، فقال «أطيلي السجود فإن أقرب ما يكون العبد من اللّه إذا كان ساجداً، فقالت عائشة فواللّه ما فارقـتـني حتى عرفت دعوة رسول اللّه(ص) فيها». أي أن الدعاء استجيب فيها( ).
ومن هذه القصة نفهم عظمة الرسول(ص) في هذا التواضع النبويّ الذي يقف فيه أمام الناس كلّهم ليطلب منهم أن يطالبوه بما لهم عليه من حق لو كان لهم حق، حتى يعلّم المسلمين من بعده سواء كانوا قادةً أو رعية أن لا يتهاونوا في ذلك، فإن على القادة أن لا يتكبّروا على الناس من خلال موقعهم بحيث يمتنعون عن دعوة الناس ليطالبوهم بحقوقهم، وعلى الرعية أن يتحرّكوا ليطالبوا قيادتهم بما لهم عليهم من حقوق، وأن لا يكون الموقع مانعا لصاحب الحق من أن يطالب بحقّه، وأن لا يكون الموقع مانعاً لمن عليه الحق أن يعطي الناس ما لهم عليه من حق. فهذه الروح الإنسانية التي يعيشها رسول اللّه(ص) في روحانيته تجعله يفكّر في آلام الناس فهو يدعو لهم لأن اللّه يستجيب دعاءه.
وهناك لفتات أخرى في هذا الدرس، فمنها أن على الإنسان أن يعمل على أن لا يخرج من الدنيا إلاّ وهو محلّل له من حقوق الناس، وحيث يؤدي للناس حقوقهم التي عليه في حياته قبل أن يأتيه الموت. وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين(ع) بقوله «كن وصيّ نفسك فاعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك». وأن يعمل على أن يتسامح من الناس إذا لم يستطع أن يؤدّي إليهم حقوقهم.
ومنها أن لا يتعقّد الإنسان الكبير في الموقع الاجتماعي المميز سواء كان كبيراً في مقام السلطة المادية، أو السلطة الشرعية الروحية، أو في مقام السلطة الاجتماعية، وأن لا يحمل العداوة للإنسان الذي ينبهه على خطأ أو يطالبه بحقه وأن لا يتعقّد منه، فالرسول(ص) بعظمته، يقول «ولا يقولن أحدٌ إني أخاف العداوة والشحناء من رسول اللّه فإنهما ليستا من طبيعتي ولا من خلقي».
روايتان:
وهناك روايتان لا تحتاجان إلى تعليق، لأن كلاً منهما تدّل على مضمونها، فالرواية الأولى تقول إن الرسول(ص) قال في مرضه الذي توفي فيه «أيها الناس لا تعلّقوا عني بواحدة». أي أن أحدا لا يمكن أن يسجلّ أية نقطة مهما كانت صغيرة ضدي «ما أحللت إلاّ ما أحلّ اللّه وما حرّمت إلا ما حرّم اللّه»( ).
والرواية الثانية عن عبيد بن عمير قال: قال رسول اللّه(ص) في مرضه الذي توفي فيه: «أيها الناس: واللّه لا تمسّكون عليّ بشيء، إني لا أحل إلاّ ما أحلّ اللّه ولا احرّم إلا ما حرّم اللّه، يا فاطمة بنت رسول اللّه يا صفية عمّة رسول اللّه إعملا لما عند اللّه، إني لا أغني عنكما من اللّه شيئاً»( ). وقال(ص) «يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من اللّه شيئاً! يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من اللّه شيئاً، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من اللّه شيئاً، سلوني ما شئتم»( ).
إنه أراد أن يبيّن من خلال ذلك أن الأمر الإساس في حسابات اللّه مع الناس وحسابات الناس مع اللّه هو العمل، {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون اللّه ولياً ولا نصيرا}( ). {وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون }( ).
وهذا هو درس رسول اللّه(ص) في ذكرى وفاته وعلينا أن نتعلّم منه وهو على وشك الموت كما تعلّمنا منه حيّا {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشاكرين}( ). والحمد للّه رب العالمين.

المحاضرة السابعة عشرة: 6ربيع الأول 1420 هـ الموافق 19/6/1999م



في المولد النبويّ الشريف
القاعدة في فضّ النـزاعات


* حياتنا مع رسول الله(ص) لا تحصر في مناسبة، فنحن معه في كلّ أذان يؤذّنه المؤذنون، وكلّ صلاة يصلّيها المصلّون، وكلّ صلاة عليه، وكلّ آية قرآنية نقرأها *





في استقبال المولد النبويّ
شهادة علي(ع)
الإحالة إلى القرآن
قاعدة فضّ النزاع
دراسة السنّة
التوثيق من المضمون
صفة المنافقين
التحرّز في منح الثقة
مشكلة الحياديين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

في استقبال المولد النبويّ:
لا نزال في أجواء رسول اللّه(ص) في مناسبة الوفاة التي ودّعناها والمولد الذي نستقبله، وحياتنا مع رسول اللّه(ص) لا تحصر في مناسبة، فنحن معه في كلّ أذان يؤذنه المؤذنون وكلّ صلاة يصلّيها المصلّون وكلّ صلاة عليه، وكلّ آية قرآنية نقرأها، لأنه هو الذي بلّغها للناس عندما أوحى اللّه تعالى بها إليه، وفي كلّ حكم شرعي نلتزم به، وهو معنا ونحن مع علي(ع)، لأن عـلياً(ع) كان تلميذه فكراً وخلقاً وروحاً وجهاداً ومنهجاً وسمّوا في مواقع السموّ كلها..
ونحن معه نتذكره عندما نعيش مع أهل البيت(ع) الذين أعطاهم معناه لأنه هو صاحب هذا البيت، وهو المشرف والموجّه والمرّبي لأهل هذا البيت الذي أذهب اللّه تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
شهادة علي(ع):
ونريد ـ أيّها الأحبّة ـ أن نتابع مع الإمام علي(ع) الرسول(ص) فيما حدّثنا(ع) عنه في بعض كلماته. فنحن نلاحظ في (نهج البلاغة) أن عليّاً(ع) يلتقط الفكرة ويطرحها ويوسّعها ويفصّلها ثم يجمع هذه الفكرة من خلال كلمة لرسول اللّه(ص). وقد روى علي(ع) عن رسول اللّه(ص) في (نهج البلاغة) الكثير مما يؤكد العديد من المبادئ، ويفتح الكثير من الآفاق، ويركّز الكثير من القيم، ويوّجهنا إلى الكثير مما نحتاجه في الحياة مهما امتدت الحياة..
ففي البداية نقرأ تعليقاً وتفسيراً لقول اللّه سبحانه وتعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ}(النساء59). هذه الآية التي خطّطت للمسلمين المنهج، وقد عرف اللّه أنهم سوف يتنازعون، وقد نهاهم عن أن يتنازعوا من دون قاعدة تحلّ المشكلة فيما بينهم، لأن النزاع من غير قاعدة يجعل الناس يتحركون مع الأهواء والغرائز ويفشلون وتذهب ريحهم. واللّه تعالى يريد أن يبيّن لنا أننا إذا تنازعنا في الإسلام، إنْ في عقائده أو مفاهيمه أو شرائعه أو مناهجه أو وسائله وغاياته، فإن للإسلام مصدرين: (الكتاب والسنّة) أي (اللّه والرسول) فعلينا أن نرجع إليهما لنستنطقهما في هذه المسألة ما هو حكمها، وفي هذه المشكلة ما هو حلّها، وفي هذه المتشابهات ما هو محكمها وما هو الطريق إلى وضوحها.
الإحالة إلى القرآن:
الإمام أمير المؤمنين(ع) يقول في (نهج البلاغة): ((وقد قال اللّه سبحانه)). وهو هنا يريدهم ان يقرأوا القرآن جيداً ليروا أن حقه ثابت في كتاب اللّه وسنّة نبيّه، بحيث يستنطقون القرآن من دون أفكار مسبّقة، ويفهمونه من دون أن يفرضوا عليه ما ورثوه، لأن مشكلة الناس مع القرآن هي أنهم يفهمونه من خلال ما ورثوه وسمعوه، لا من خلال الفكر الموضوعي العقلاني الصافي الذي ينفتح على القرآن ليفهمه كما هو. ولذلك رأينا كيف أن الكثير من أصحاب الآراء والمقالات والأهواء حاولوا أن يفرضوا على القرآن آراءهم وأهواءهم ومقالاتهم فأصبح القرآن خاضعاً لهم بدلاً من أن يكونوا خاضعين له. ولذلك فنحن لا نجد مقالة إسلامية أو رأياً إسلامياً فيما اختلف فيه المسلمون إلاّ وهناك من يقول إن القرآن يؤكد رأيي ـ في هذا أو ذاك ـ لأنه يؤوّل القرآن على طريقته الخاصة، ولأنه يبتعد بالقرآن عن ظاهره من دون أساس للابتعاد عن الظاهر.
قاعدة فضّ النزاع:
يقول(ع) ((وقد قال اللّه سبحانه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ}. فردّه إلى اللّه أن نحكم بكتابه، وكتاب اللّه هو الكتاب الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}(فصلت/42). وقد تكفّل اللّه بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر/9). وكلّ حديث عن تحريفه وزيادته ونقصانه ليس من العلم في شيء.
((وردّه إلى الرسول)). والرسول ليس بيننا، فما العمل؟ ((أن نأخذ بسنّته فإذا حكم بالصدق في كتاب اللّه فنحن أحقّ الناس به)). لأننا ـ أي أهل البيت(ع) ـ أهل الكتاب الذين نزل الكتاب عندنا ووعيناه قبل أن يعيه الناس وسمعناه قبل أن يسمعه الناس، وتعلّمنا من رسول اللّه(ص) تفاصيله كلّها قبل أن يتعلّمها الناس، ((وإن حكم بسنّة رسول اللّه(ص) فنحن أحقّ الناس وأولاهم بها)). لأن رسول اللّه(ص) قال ((أنا مدينة العلم وعليّ بابها)). وقال علي(ع) ((علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم فتح لي من كلّ باب ألف باب)).
ونريد أن نعلّق على هذه الآية من خلال حديث الإمام علي(ع) عنها، فأما فيما يتعلّق بكتاب اللّه فقد بيّناه، وهو أن نفهم القرآن من خلال ثقافتنا في فهم النص وفهم اللغة، ثم بعد أن نفهمه بالطريقة الموضوعية العلمية ننتقل إلى ما فهمه الآخرون، فقد نكتشف خطأ في فهمنا، وقد نكتشف خطأ في فهم الآخرين، وإذا عرفنا أن كتاب اللّه كما يقول الإمام الباقر(ع) ((إن القرآن يجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر)). فإن كتاب اللّه يتحرك مع الأجيال كلّها، ويمكن لكلّ جيل أن يكتشف خطأ في فهم الجيل الأول، كما يمكن أن يكتشف خطأ فهمه من خلال ما قرأه وما إلى ذلك. فلابد لكلّ جيل أن ينفتح على كتاب اللّه كما لو لم يفهمه أحد من قبل، ثم يدخل في المقارنة بين فهمه وبين فهم الآخرين.
دراسة السنّة:
أمّا سنّة رسو ل اللّه(ص) فلابدّ من أن نوثّقها، أي أن ندرس ونبحث: هل قال رسول اللّه(ص) ذلك أو لم يقله، خاصة وأنه يؤكد(ص) أن الكذّابة كثرت عليه، حيث يقول ((من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار)).
وقــال(ص) ((لقد كثرت عليّ الكذّابة)). وقد كثر الكذّابون من بعده، لأن أرباب السياسة الذين جاءوا بعده في الكثير من الأوضاع المعقّدة، كانوا يطلبون من بعض الرواة أن يحدّثوا عن رسول اللّه(ص) بأحاديث تبرّر أوضاعهم وتعظّم شؤونهم، لأنهم كانوا يريدون الشرعية من رسول اللّه(ص) وكان البعض هنا وهناك يضع الحديث ويكذب فيه لأن السياسة كانت تفرض ذلك.
ولذلك فإن على العلماء أن يدرسوا الأسس التي ينطلقون منها إلى معرفة وثاقة الحديث، إمّا من خلال وثاقة رواته، أو من خلال القرائن الداخلية والخارجية التي تدّل على الوثوق به. وقد ذكر العلماء أن المذهبية لا تعتبر أساساً في قبول الحديث من قبل أصحاب المذهب ولا تعتبر أساساً لرفضه إذا جاء به منْ هم من مذهب آخر، لأنهم يرون ـ كما هو المعروف ـ أنه لا بد أن يكون الراوي ثقة في النقل سواء كان منطلقاً من خلال عقيدة الحق أو عقيدة يشوبها الباطل، لأن الإنسان قد يكون معتقداً بغير الحق ولكنه لا يكذب، فالمهم أن يكون الراوي ثقة، ومن المؤسف أنّ نرى أن الواقع الإسلاميّ قد تحوّل إلى ذهنية مذهبية جعلت هذا الفريق من المسلمين لا يحاول أن يبحث عن الأحاديث المروية لدى الفريق الآخر ليكتشف هل فيها خبر الثقة أو الخبر الموثوق.
التوثيق من المضمون:
وإذا كنّا نأخذ بخبر الثقة، فقد نجد وثاقة عند هؤلاء ووثاقة عند أولئك، فلا بدّ من أن نعمل على توثيق السنّة ليثبت لدينا أن رسول اللّه(ص) قال ما نقل عنهُ لنعرف أن الكلام هو كلامه وأن الفعل هو فعله وأن التقرير هو تقريره. فلمعرفة وثاقة الراوي من عدمها هناك ميزان لقبول الأحاديث من خلال المضمون، فقد ورد عن رسول اللّه(ص) وعن أئمة أهل البيت(ع) ((لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق كتاب اللّه)). و((ما خالف كتاب اللّه فذروه))( ). و((ما خالف قول ربّنا لم نقله)). فلابدّ من عرض الأحاديث كلّها على القرآن فما خالف المفاهيم الحقّة فيه، مما كان القرآن حجّة فيه من حيث فهمه وظاهره، فعلينا أن نرفضه، وهكذا إذا كان الحديث يخالف العقل القطعي، وعلى هذا الأساس لابد لنا من أن نعتبر أنّ طريقنا كمسلمين هو أن نرجع إلى اللّه تعالى وإلى الرسول(ص) وأن لا يتعصب أحدنا لموروثاته إذا قدّمت إليه، حجّة من كتاب اللّه وسنّة رسوله. بحيث يحاول أن يؤول مالا يقبل التأويل أو يرفض ما لا يقبل الرفض، فذلك هو الذي يوحّد المسلمين.
وقد أراد اللّه تعالى بقوله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ} أن يجعل للمسلمين قاعدة يمكن أن يتوحدّوا من خلالها، لأننا عندما نقول قال اللّه وقال الرسول فعلى كل خلاف وكلّ نزاع أن ينتهي وعلى كل صوت أن يسكت. فالقول ما قاله اللّه الحق والقول ما قاله رسوله الذي جاء بالحق وصدّق به. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب/36). {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء/65).
صفة المنافقين:
هذه هي كلمة علي(ع) التي تتصل بالأجواء التي نعيشها في ذكرى رسول اللّه(ص). ويحدّثنا(ع) عن الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه الناس، ويشرح لنا خطورة بعض النماذج الموجودة في المجتمع الإسلامي ممن ظاهرهم شيء وباطنهم شيء آخر، فهو يريد أن يقول لنا أننا عندما نعطي الثقة للناس بأن نتبعهم ونسلّم أمورنا وعقولنا إليهم بحيث يكون قولهم قولنا وفعلهم فعلنا، فإن علينا أن نعرفهم من الداخل ولا يكفي أن نعرفهم من الخارج. ففي تعاملك العام مع الناس يمكن أن يجعلك حسن الظاهر تنفتح على شخص فتصلّي خلفه جماعة، ولا تحكم عليه بالسّوء، كما جاء عن علي(ع): ((ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا))( ). وكما جاء في الحديث ((من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته وكملت مروءته وظهر عدله ووجبت أخوته))( ). فلا تحكم على إنسان إلاّ بأن تتوثق منه ولا تستسلم له حتى بعد أن تتوثق منه لأن المنافقين كثير، وهذا ما عبّر عنه الرسول(ص) بطريقة فيها الكثير من الإنذار بالخطر.
يقول الإمام علي(ع) في حوار رسول اللّه(ص) معه ((ولقد قال لي رسول اللّه(ص): إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً أمّا المؤمن فيمنعه اللّه بإيمانه)). لأن إيمانه يمنعه أن يعقّد حياة المسلمين ويظلمهم ويعمل بالسوء معهم. ((وأما المشرك فيقمعه اللّه بشركه)). لأن اللّه سبحانه وتعالى ينصر عباده المؤمنين ((ولكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجنان)). أي الذي يسرّ في قلبه شيئاً ويظهر في لسانه شيئاً آخر. ((عالم اللسان)). فهو عندما يتحدث يتحدّث حديث العالم. ((يقول ما تعرفون)). أي أنه يتكلّم بالأمور التي لا ترفضونها (( ويفعل ما تنكرون)) فهو عندما يتحرك وينطلق فإنه يحرف المجتمع الإسلامي بخططه ومؤامراته وحقده وانحرافه.
التحرّّز في منح الثقة:
إن هذه الكلمة التي رواها الإمام علي(ع) تجعلنا لا نعطي الثقة فيما نأخذ من علم، وفيما نتبع من خط ولا نطرح الثقة فيما نخضع له من حكم أو خطة، حتى نعرف الإنسان بالوسائل التي نكتشف بها داخله وخارجه. وقد جاء عن علي(ع) ((إذا غلب الصلاح على الزمان وأهله وأساء إنسان ظنّاً بإنسان فقد ظلم، وإذا غلب الفساد على الزمان وأهله وأحسن إنسان ظنّاً بإنسان فقد غرّر)).
ولسنا نقول أو ندعو إلى أننا عندما نواجه الشكّ في الناس، فإن علينا أن نرفض التعامل معهم بخير، فهناك فرقٌ بين أن تحكم على الناس بالشك فهذا لا يجوز {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(الحجرات/12). وبين أن تحكم على إنسان بالخير من دون أن يثبت لك الخير بحجة تطمئن بها بحيث تشعر بالسكينة في عقلك ونفسك حياله، فإنك بذلك تغرّر بنفسك، وهذا هو السبيل لأن نطرد المنافقين وننجو من تأثيراتهم السلبية على واقع المجتمع. فعندما ندرس هذا التمزّق الاجتماعي بين المسلمين، وفي داخل كل مذهب، فإننا نرى أن الذين يقولون ما تعرفون ويفعلون ما تنكرون هم السبب في ذلك كلّه. فالمنافقون هم الذين يمكنّون الكفر من أن ينفذ إلى الواقع الإسلامي، وهم الذين يشجّعون الاستكبار من أن ينفذ إلى مواقع القوة الإسلامية ليضعفها. فهناك فرق بين أن تحكم بالسوء مع الاحتمال وبين أن تحذر.. إحذر وتعامل مع الناس، ففي أحد الأبيات الشعرية حديث عن الذئب ربما نحتاجه في هذه الأيام:
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي            بأخرى المنايا فهو يقظانُ نائم
فعليك أن لا تستغرق في نومك ولا تتعب بدنك في يقظتك. وقد ورد في كلمة لعلي(ع) ((لا تثقنّ بأخيك كلّ الثقة فإن صرعة الاسترسال لا تستقال)).
مشكلة الحياديين:
وفي كلمة لرسول اللّه(ص) يحمّل فيها الأمّة كلّها مسؤولية ضعفها عندما تنتهك حقوقها، ويحمّل الأمّة التي تقف على الحياد بين الظالم وبين المظلوم وبين الضعفاء وبين الأقوياء وبين المستكبرين وبين المستضعفين المسؤولية، يقول أمير المؤمنين(ع) ((إني سمعت رسول اللّه(ص) يقول في غير موطن)). أي انه كان يؤكد ذلك الأمر مراراً لخطورته ((لن تقدّس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متعتع))( ). أي بشكل كامل فالأمة كلّها مسؤولة، ونفهم من هذا أن الأمة سواء بحسب سعتها في كلّ أفرادها تنطلق لتقف مع الضعفاء في أخذ حقوقهم من الأقوياء. وهذا في القضايا العامّة والكبرى التي تتصل بالأمور الحيوية والمصيرية للأمة، أو قد تطلق الأمة على جماعة من الناس، أو بلد معين أو قرية معينة أو عائلة معينة. فالأمة التي لا يتحرّك أفرادها ليأخذوا للضعيف حقه من القوي من غير مهادنة ولا مجاملة ولا تقصير أمة غير مقدّسة، أي أنها أمة لا تسير في خط القداسة الإسلامية التي تمثل الخط المستقيم الذي يريده اللّه ورسوله.
وهذا أمر نحتاجه في واقعنا الذي نعيشه الآن عندما تتعرض الأمة في مواقعها كلّها لضغوط المستكبرين، فيقف المستكبرون ليصادروا حقوق الأمة وليضطهدوا المستضعفين في حقوقهم الاقتصادية والسياسية والأمنية وما إلى ذلك. وهكذا نجد أن الأقوياء في العائلة أو في القرية أو المدينة أو الوطن يأخذون حريتهم في اضطهاد الضعفاء في حقوقهم، من دون أن يقف الناس ليدافعوا عن الضعفاء ليسترجعوا حقوقهم، لأن المشكلة في الناس هم الأكثرية الصامتة، فهذه التي تملك مواقع القوة في المجتمع هي التي تصمت ولا تنكر ولا تأمر بالمعروف، وفي القول المأثور ((إن الساكت عن الحق شيطان أخرس)).
وقد ورد في حديث الإمام علي(ع) عن بعض الناس أنهم ((خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل)). ويعني الحياديين الذين وقفوا على التلّ فلم يحاربوا مع الباطل ولم يحاربوا مع الحق، في حين لا حيادية بين الحق وبين الباطل، ولقد كانت آخر وصايا علي(ع) لولديه الحسنين(ع) ((كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا)). وهذا هو خط الإسلام المستقيم.
ويبقى حديث رسول اللّه(ص) يغنينا فكراً وحركة ومجتمعاً وسياسة: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر/7).{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّه وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّه كَثِيرًا}(الأحزاب/21). وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.
 

المحاضرة الثامنة عشرة: 13ربيع الأول 1420 هـ الموافق 26/6/1999م




في أجواء ولادة النبي(ص)
كيف نولد في مولده؟


* في مولد الرسول(ص) علينا أن نولد كأمّة تنفتح على مواقعها كلّها لتتحسّس مسؤوليتها في قضاياها الحيوية *

في أجواء ذكرى المولد
لنولد في مولده(ص)
ضلال الأمس وضلال اليوم
صدقه وأمانته
المعرفة في التفاصيل
التدرّج تثبيت للفؤاد
الحديث عن نقاط الضعف
محاسبة القيادات
خط الرسول(ص)
الحاجة إلى ولادة جديدة
(الضَلال المثقّف)
لنولد كأمّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في أجواء ذكرى المولد:
لا نزال في ذكرى مولد رسول اللّه(ص) ننفتح على النبوّة في حركة الزمن كلّه من بعد رسول اللّه(ص) ونعيش آفاقها الواسعة التي تريد للإنسان أن يرتفع ويسمو ويصفو وينمو وينطلق من أجل أن يحوّل الحياة كلّها إلى حياة تتنفس الروح والريحان، وتعيش الحق والعدل والقيم التي يكتشف فيها الإنسان إنسانيته. فهي نبوّة تختصر نفسها في أنها تؤنسن الإنسان وتعمّق له إحساسه بإنسانيته في عقله فيكون عقله إنسانياً في حركة الفكر، وفي قلبه فيكون إنسانياً في حركة العاطفة، وتفتح له إنسانيته في حركته لتكون حركة في خط الوصول إلى أهدافه الكبرى في الدنيا والآخرة.
لنولد في مولده(ص):
في مولد النبي(ص) نريد أن نولد كأمّة حتى تنفتح على مواقعها كلّها، لتتحسس مسؤوليتها في قضاياها الحيوية، ولتكون كما أرادها اللّه خير أمة أخرجت للناس. فالمسألة لا تتصل بقومية الأمّة ولا بعدد أفرادها لكنها تتّصل برسالتها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ}(آل عمران/110).
وإذا فهمنا أن المعروف هو كلّ عمل يرضاه اللّه ويحبّه ويرفع مستوى الإنسان، والمنكر هو كلّ عمل لا يرضاه اللّه ولا يحبّه وينزل بمستوى الإنسان، عرفنا معنى أن تكون الأمة خير أمة أخرجت للناس، لأن الأمة التي تحمل الرسالة للإنسان كلّه وللحياة كلّها ولا تحدّد حركتها في دائرة ضيقة هي أمة لابد أن تكون خير الأمم.
ونحتاج إلى ولادة جديدة، لأننا نعيش موتاً في السياسة، وموتاً في الاقتصاد، وموتاً في الاجتماع، وموتاً في الأمن. فنحن المستضعفون الذين يعملون على أن يعمّقوا استضعافهم، ويعملون على أساس أن ينظّروا لهزائمهم، وأن يعملوا على أن لا يكونوا أقوياء لأنهم يخافون ذلك، فالقوة مكلّفة، أمّا الضعف فقد يخلق عذراً من منطلق {لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}(البقرة/286). ولكن القوة تتحداك لتقول لك إن عليك أن تواجه الأقوياء، وإن عليك أن تضرب الأقوياء في مواقع ضعفهم أولاً، ثم تكتسب من ذلك قوة جديدة لتضربهم في مواقع قوتهم ثانياً.. ونعني بالأقوياء المستكبرين، أمّا الأقوياء الطيبون فإنك تتعاون معهم على أساس تعاون القوي مع القوي.
لقد فقدنا ـ أيّها الأحبة ـ أمام تاريخ التخلّف كلّه، وحركة الجهل فينا، الكثير من الإحساس بحاجتنا إلى أن نكون شيئاً حيوياً في الكون، وأصبح جزءاً من واقعنا الذي نعيش فيه أن جعلنا الجهل مقدساً، وبذلك رجمنا العلم بالحجارة لأنه يقف ضد المقدسات، وجعلنا التخلّف حضارة ولذلك رجمنا الحضارة بكلمات الكفر والضلال وما إلى ذلك، وبهذا نكون قد قلبنا المفاهيم فأصبح الإنسان يعيش سجين ذاته ولا ينفتح على الآخر والواقع كلّه.
ضلال الأمس وضلال اليوم:
لذلك جاء رسول اللّه(ص) إلى ذلك الواقع الغارق في الضلال ليخرجه من الظلمات إلى النور، و هذا ما ذكره اللّه تعالى في (سورة الجمعة) {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(الجمعة/2). فلقد كان الضلال آنذاك في المفاهيم، و في العقيدة و في العبادة و في العلاقات، و في المفردات الأخرى التي كان يعيشها الناس في الجاهلية.
وجاء رسول اللّه(ص) بعد أربعين سنة من ولادته، وبعد أن أكمل اللّه له عقله وقلبه وروحه ووعيه وجعله الإنسان المعصوم الذي يحمل الرسالة بعمقها وحيويتها وإنسانيتها وحكمتها وامتدادها كلّه في عقله وقلبه وروحه.. جاء(ص) إلى النبّوة إنساناً تتمثل فيه معاني الإنسان كلّها، وأخذ اللّه سبحانه وتعالى بعدما بعثه رسولاً يعلّمه التفاصيل، فلقد ألهمه أولاً الخطوط العامّة وربّاه على معنى الروح في امتداده إلى اللّه والناس والحياة، فكان روحاً تتجسّد.
صدقة وأمانته:
وكان(ص) الصادق الأمين، وكان الناس يرون فيه الصدق كأفضل ما يكون الصدق، والأمانة كأفضل ما تكون الأمانة حتى غلب ذلك على اسمه فكانوا يقولون جاء الصادق الأمين. والسؤال الذي يطرح هنا: لماذا أراد اللّه له أن يكون صدقاً كلّه وأمانة كلّه؟ ما ذاك إلاّ لأن الصدق والأمانة تجمعان الرسالة كلّها. فالصدق يمثل الانفتاح على الحق لأن الكذب باطل، ومن هنا فمن يكون صادقاً لا يمكن أن يكذب على اللّه ولا على الناس ولا على الحياة.
ولذلك كان(ص) صادق العقل، فلا يتحرّك عقله إلاّ في مواضع الصدق، وكان صادق القلب فلا ينفتح قلبه إلا على صدق العاطفة المعمّقة التي ترتكز على أساس متين. وكان صادق الموقف والكلمة، وفي ذلك كلّه كان صادق الدعوة والرسالة.
أمّا الأمانة، فأن يكون الرسول أميناً يعني أن يكون أميناً على رسالة اللّه وعلى مسؤوليته في الدعوة إلى اللّه وفي رعاية شؤون الناس وأمورهم كلّها، وأن يكون أميناً على الحياة كلّها.
وخلاصة التشريع الإسلامي هي أن اللّه أراد في كلّ حكم شرعي أن يمثل الإنسان الأمانة على نفسه فلا يبتعد بها عمّا يصلحها ولا يقترب بها ممّا يفسدها، وأن يكون أميناً على الناس فلا يحكم عليهم إلا بالعدل ولا يتحرّك معهم إلا بالحق، وأن يكون أميناً على الحياة ليرفعها وليفتح آفاقها على كلّ خير.
المعرفة في التفاصيل:
ولقد عرّفنا اللّه تعالى في كتابه الكريم أن النبي(ص) كان لا يعرف التفاصيل، كما في قوله تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(العنكبوت/48). فأنت ـ أيها الرسول ـ لم تقرأ كتاباً لتكون ثقافتك من الكتاب، ولم تكتب كتاباً لتنقل ما تريده من هذا المصدر وذاك المرجع، بل جئت بأعظم ما قرأه الناس من كتاب، وبأوسع ما عرفوه من شريعة، ولذلك كانت معجزة النبي(ص) الأولى هي الإسلام والرسالة التي امتلأ بها عقله وقلبه وتحرّكت في حياته كلّها، وقد كان الأميّ لا عن جهل بل عن حكمة إلهية في ذلك.
وقال اللّه تعالى عنه {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ}. وقال  {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ}. في تفاصيله كلّها { وَلا الإِيمَانُ} بمفرداته كلّها، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الشورى/52).
وكان(ص) يخاطب قومه وهم الشهود على تأريخه كلّه، فيقول {قُلْ لَوْ شَاءَ اللّه مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ}. فلقد تلوته عليكم لأن اللّه شاء ذلك بما أوحى به إليّ وقد عرفتموه لأن اللّه أراد أن يدريكم به، والشاهد هنا {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ}. ولم تسمعوا مني آية ولم تعرفوا مني مضمونها لأن اللّه تعالى لم يأذن بذلك ولم يكن قد عرّفني ذلك بعد. {أَفَلا تَعْقِلُونَ}(يونس/16).
ونستطيع أيّها الأحبة ـ أن نعتبر هذه الآيات التي تلاها الرسول(ص) على الناس الذين عايشوه ولم يرتفع منهم صوت واحد يقول لقد رأيناك تقرأ، أو رأيناك تكتب، حجّة تأريخية على مضمون هذه الآيات، بالإضافة إلى حجّة ما نعتقده من أن القرآن كلام اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولذلك سقطت كلمتهم التي ذكرها القرآن {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}(النحل/103). وقولهم في القرآن {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا}(الفرقان/5). لقد سقطت كلماتهم تلك لأنهم كانوا يعرفون أن هذه المقولة أو تلك لا تنطلق من واقع تأريخي لأن تأريخ الرسول قبل البعثة كان على خلاف ما يقولون.
التدرّج تثبيت للفؤاد:
وانطلق النبي(ص) بالرسالة، ويمكننا أن نفهم من قوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(الجمعة/2). أنه(ص) كان يجمع هذه الأدوار كلّها منذ أول يوم بعث فيه، ولكن اللّه أراد أن يثبّت فؤاده بأن يواكب حركته في الدعوة والتحديات والحرب والسلم والتعليم والتقنين على حسب ما كانت تحتاجه الرسالة من كلّ هذا التدرّج الذي ينطلق من طبيعة الأمور، لأن بعضها يتوقف على ما يسبقه من أمور أخرى. ولهذا نزل القرآن نجوماً، ولعلّ عظمة القرآن ـ أيّها الأحبة ـ أنه كان الكتاب الإلهي الحركي الذي واكب الحركة الإسلامية موقفاً بموقف ومنعطفاً بمنعطف ومشكلة بمشكلة.
فلقد كان المسلمون يعيشون مشكلة ما وتتفاعل فيهم المشكلة ويريدون من الرسول(ص) أن يحلّها، وكان(ص) يريد أن يركّز فيهم معنى الرسول الذي يتّبع اللّه في وحيه، فكان يقول: إني أنتظر أمر ربي!! وتنزل الآية التي تعالج المشكلة التي تفاعلت وراح الناس يبحثون عن حلّها حتى تتعمّق في نفوسهم.
ورأينا أيضاً كيف أن القرآن يلاحق المسلمين عندما يدخلون حرباً كما في (معركة بدر) وكيف يتحدث عن نقاط ضعف المسلمين، ومن هم المسلمون يومذاك؟ إنهم البدريون. {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ  يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ  وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}(الأنفال/5-7).
الحديث عن نقاط الضعف:
وهذه هي عظمة الإسلام وعظمة القيادة الإسلامية، فهي لم تكن تخاف الحديث عن نقاط الضعف في مجتمعها، وبذلك استطاعت أن تجعل المجتمع ينفتح على نقاط ضعفه من أجل أن يصلح هذه النقاط، بينما نرى أن مشكلتنا على مستوى العالم الإسلامي والأنظمة والقيادات السياسية والاجتماعية والأمنية، أننا غالباً ما نخفي نقاط ضعفنا ولا نريد أن نعترف بها، وبذلك تتراكم نقاط الضعف لتأكل نقاط القوّة ويصبح الواقع كلّه نقاط ضعف. وكذلك هي عظمة المسلمين ـ كما علّمهم القرآن ـ في أن يتحدثوا عن نقاط ضعفهم ثم عن نقاط قوتهم، كما نستوحي ذلك من (غزوة أحد) حيث تتحدث (سورة آل عمران) في الكثير من آياتها عن الحالة التي انتصر فيها المسلمون والأخرى التي انهزموا فيها، وأشارت صراحة إلى نقاط الضعف التي عاشها المسلمون في (أحد) ووجهتهم إلى الابتعاد عن هذه النقطة وتلك. وكذا الأمر عندما نقرأ (سورة الأحزاب) حيث نجد أنها تحدثت بصراحة تامة عن هذا الزلزال الذي عاشه المسلمون {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّه الظُّنُونَ  هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا  وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}(الأحزاب/10-12).
وفي المحصلة، فإن القرآن كان ينزل ليعطي المؤمنين الصورة عن واقعهم بما فيه من نقاط الضعف ونقاط القوة، ليوجههم بعد ذلك كيف يستقيمون، وكيف يعدلون، وكيف ينفتحون على القوة، وما ناظر ذلك. وهذا ما يجب أن ندرسه في القرآن الكريم حتى نتعلّم من ذلك لاسيما ونحن نعيش الأزمات تلو الأزمات والتحديات تلو التحديات، ونتحرّك في أرض سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية تهتزّ تحت أقدامنا. فنحن بحاجة إلى أن نكون المجتمع الذي يستهدي القرآن في الاعتراف بنقاط ضعفه بشجاعة والانفتاح على نقاط قوّته بواقعية.
محاسبة القيادات:
كما أن علينا ـ أيّها الأحبّة ـ أن نتعلّم كيف نحاسب القيادات على أعمالها كلّها، فالقائد لا يملك نفسه في أي موقع من مواقع القيادة سواء كانت القيادة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو أمنية، فالقيادة مسؤولة أمام الناس الذين تقودهم بعد أن تكون مسؤولة أمام اللّه تعالى، ومن حق الناس أن يسألوها عن تصرفاتها ومواقفها كلّها، فهي ـ أي القيادة ـ ليست امتيازاً شخصياً للقائد ولا تشريفا له ولا موقعاً اجتماعياً ينفتح به ولكنها مسؤولية أمام الناس، وعليه أن يقدّم حسابه للناس. ونتعلّم ذلك من الآيات والأحاديث التي تريدنا أن نتحدث بصراحة مع القيادة أية قيادة صغيرةً كانت أو كبيرة، واللّه تعالى يحدّثنا كيف أن بعض القيادات تخدع الناس في البداية فإذا وصلت إلى ما تريد من خلال التفاف الناس حولها نسيت ذلك كلّه{ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ  وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّه لا يُحِبُّ الْفَسَادَ  وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ}. إن منطق أحدهم إذا آخذته بشيء: من أنتم حتى تقولون لي اتق اللّه فأنا الذي أعظ الناس فكيف تعظونني؟!
إن كثيراً من القادة يرى نفسه فوق أن يوعظ وأعظم من أن ينصح أو يناقش أو يحاور، لأنه يعتبر أن كلمته هي الكلمة العليا التي لا كلمة فوقها {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(البقرة/204-206).  
خط الرسول(ص):
أيّها الأحبة: هذا هو الخط الذي انطلق به رسول اللّه(ص) وعلينا كمسلمين نؤمن باللّه وكتابه ورسوله أن نقرأ القرآن قراءة حركية، ولا أقصد بالحركية الحزبية وإنما أن نقرأ القرآن في حركة الواقع لأنه كان يتحرك في شوارع مكة والمدينة وفي بدر وأحد وحنين والأحزاب،وكان يلاحق المسلمين في واقعهم بل حتى في القضايا الخاصة {قَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللّه}(المجادلة/1). وكان يرصد كلّ شيء، ونحن نعرف أن القرآن ليس كتاباً يتحدث عن تأريخ محصور في منطقة معينة بل إنه كان يتحدث عن نماذج لابد لنا أن ننفتح من خلالها على ما يماثلها في الواقع، لأنّ القرآن هو كتاب الحياة وليس كتاب مرحلة معينة، وهذا ما جاء عن الإمام الباقر(ع) ((لو أن القرآن نزل في قوم وبقي فيهم لمات ولكنه يجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر)). فكما تتجدد الليالي والأيام وحركة الشمس والقمر في انفتاحها على الأرض والناس، كذلك يتجدّد القرآن فنستطيع أن نأخذ من نموذج أهل بدر كلّ ما يماثله في مدى التأريخ، وهكذا الأمر في درس أحد وحنين والأحزاب وسواها من غزوات النبي(ص) وعلاقاته ومعاملاته وقضائه وغير ذلك.
الحاجة إلى ولادة جديدة:
وكما قلت في البداية، فنحن بحاجة إلى ولادة جديدة لأنّ الإسلام مات في نفوسنا، وأصبح شيئاً تقليدياً، وأصبحنا نتحرك بفعل العادة، فنحن نعتاد الصلاة فنصلّي من دون روح، ونعتاد الصوم فنصوم من دون تقوى، ونعتاد الحج فنحجّ من دون انفتاح على معانيه، ومات القرآن فينا بحيث أصبحنا نقرأه للبركة وللثواب ولا نقرأه للوعي، واللّه يقول {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(محمد/24).. افتح قلبك.. والقلب في المفهوم القرآني هو المنطقة الداخلية من جسم الإنسان، هو عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك، وعندما تقرأ القرآن افتح ذلك كلّه، ليكن عقلك مفتوحاً وقلبك مفتوحاً وإحساسك مفتوحاً ووعيك للحياة وللواقع مفتوحاً حتى تفهم القرآن، وأن لا تقرأه مجرد كلمات بل علينا أن نتدبره ونعمل به وأن نتفاءل به في حركة الحياة ووعي الواقع ومواجهة التحديات.
(الضَلال المثقّف):
أيها الأحبة: ولد النبي(ص) في مرحلة كان الضلال فيها يغمر الواقع كلّه، ونحن الآن نعيش في عصر ينفتح فيه الضلال المثقف والكفر المثقف والاستكبار المثقف على الواقع ليحارب الإسلام والمسلمين في ثقافتهم، لذلك نحتاج إلى إيمان مثقف وحركة مثقفة ووعي مثقف، ونحتاج إلى أن نواجه الثقافة بثقافة والقوة بقوة والخطّة بخطّة، فكم نحن في العدد، نحن نمثل الآن أكثر من خمس العالم كمسلمين، ولكن اليهود الذين لا يزيد عددهم عن العشرين مليون في العالم استطاعوا أن يهزموا المليار ونيّف مسلم، لأنهم استنفروا قوتهم كلّها فأصبح الكيان الصهيوني قضية كلّ يهودي. أما المسلمون فقد ابتعدوا عن كلّ معنى فلسطين، وعندما بدأ الزمن يتقدّم في مداه في التأريخ ويتأخر في مداه في القضايا أصبحت القضية ليست في أن (نحرّر) فلسطين بل كيف (نتحرّر) من فلسطين.
 ولذلك نجد أن الكثيرين من هؤلاء الذين يجلسون على قلب العالم الإسلامي ويجثمون على صدر الأمة الإسلامية ممن وظّفهم المستكبرون من أجل أن يحرسوا مصالحهم، يلهثون ويلهثون حتى يأتي شخص صهيوني ليتحدث بطريقة دبلوماسية ويذبحنا بطريقة حضارية، فالمشكلة بين رئيس صهيوني يذهب وآخر يأتي هي أن ذاك يذبحنا على الطريقة البدوية وهذا يذبحنا على الطريقة العصرية. ولقد قلت إن الفرق بين مسؤول ومسؤول هو الفرق بين سرطان الرئة وسرطان المعدة، أيّهما تختار.. تلك هي القضية.. ولقد كان اليهود في زمن الرسول(ص) {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}(الحشر/14). وكان المسلمون في ذلك الزمن مصداقاً للآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ}(الفتح/29). وانقلبت الصورة اليوم فأصبحنا تحسبنا جميعاً وقلوبنا شتى وأقطارنا شتى وأحزابنا شتى ومذاهبنا شتى وأهواؤنا شتى وإلى آخر القائمة من هذه الـ(شتى).. بينما اليهود أصبحوا أشدّاء علينا رحماء بينهم، واللّه يجري النصر والهزيمة على حسب سننه، لأنه تعالى أقام الكون على سنن في نظام الكون وفي الإنسان.
لنولد كأمّة:
أيّها الأحبة: أصبحنا نفكّر كأفراد ولا نفكّر كأمّة، ونعمل على أن يقول كلّ واحد منا اللّهم استر علي وعلى عيالي ومالنا والدخول بين السلاطين.. واللّه تعالى يقول {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}(آل عمران/104). ويقول {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(لقمان/17). {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر/10). ونحن بحاجة إلى أن نصبر على كثير من البلاء السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي.. أن نصبر صبر العاملين الذين يخطّطون ويحاولون أن ينفذوا الخطة على مراحل..
القوم يخططون وعلينا أن نخطّط.. والقوم يفكّرون وعلينا أن نفكّر وان نعيش كأمة تهتم بقضاياها كلّها.. ((من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم، ومن أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)).
أيها الأحبة: في مولد الرسول(ص) علينا أن نولد كأمة حتى نستطيع أن نقف بين الأمم في العالم، وذلك هو معنى ذكرى المولد، فليس هو أهازيج ولا أناشيد ولا مواليد فقط. إننا ـ للأسف ـ مشغولون بالسطح فيما العمق يفترس واقعنا كلّه. والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة التاسعة عشرة: 20ربيع الأول 1420 هـ الموافق 3/7/1999م


في ذكرى ولادة الصادقين(ع)
التحرّك الرساليّ في دوريّ النبوّة والإمامة



* عندما نثير ذكرى الإمام الصادق(ع) فإنما نثير حركة الإمامة التي انطلقت من أجل أن تعطي المضمون الرسالي الذي انفتح به الرسول(ص) حركةً وتجديداً وصفاءً *




 التأريخ حركة حياة
 ذكرى النبوّة والإمامة
 محاصرة خط الإمامة
 شخصية الإمام الحوارية
 استثمار الظرف السياسي
 من ثمار البستان النبويّ - الإماميّ
 المُلك القائم على القتل والظلم
 شذرات أخلاقية


 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
التأريخ حركة حياة:
في السابع عشر من شهر ربيع الأول التقى مولد النبوّة في مولد النبي محمد(ص) ومولد الإمامة في مولد الإمام جعفر الصادق(ع). وعندما نتذكّر التأريخ فإننا لا نريد أن نستغرق فيه لننسى حاضرنا بل نريد التأريخ الذي يبقى مضمونه في حيويته كلّها بأن يعيش معنا، لأنه ـ في هذا المفهوم ـ لن يبقى تأريخاً بل إنه سيتحوّل إلى حركة حياة يتجاوز فيها الماضي لينفتح على الحاضر والمستقبل، وهذا هو نهج القرآن في قصص التأريخ كلّها.
فاللّه تعالى عندما يقدّم لنا القصص في القرآن يقول {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}(يوسف/111). فدعوة القرآن هي أن نأخذ من القصص الدرس والعبرة و أن لا نستغرق فيها. أما مسؤوليتنا فهي أن نعيش عصرنا في قضاياه كلّها ومفاهيمه كلّها، وأن نعمل على أن نحرّك الإبداع فيما نرويه لنبدع في فهمه وما ننتجه لنبدع في حركته.
ذكرى النبوة والإمامة:
ولهذا فإن ذكرى النبي(ص) هي ذكرى النبوّة في حركتها في الزمن، وحركتها هي حركة الرسالة التي أراد اللّه لها أن تكون في حجم الحياة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال/24). الآن وغداً وبعد غد، لأنه يحمل في طبيعته سرّ الحياة المتجدّدة.
ومثل ذلك يقال عندما نثير ذكرى الإمام(ع) فنحن بذلك نثير حركة الإمامة التي انطلقت من أجل أن تعطي المضمون الرسالي الذي انفتح به الرسول(ص) حركة وتجدّداً وصفاءً، وأن تحميه من كل تحريف وانحراف.
ومن هنا فإننا عندما نستذكر الشخص العظيم هنا والشخص العظيم هناك، فإننا لا نستذكر الذات، من حيث الذات وإن كانت ذات الرسول(ص) تمثل تجسيد الرسالة، وذات الإمام(ع) تمثل التجسيد لخطّ الإمامة، لكننا فيما يبقى لنا من الحياة نتحرك مع الرسالة في دور النبوّة ومع الرسالة في دور الإمامة.
محاصرة خط الإمامة:
وقد نطلّ على تأريخ الإمامة في إمامة أهل البيت(ع) لنرى أن دور الإمام ـ كما نفهمه ـ هو أن يعطي الناس الرسالة بكلّ حجمها وامتدادها وعمقها في القضايا كلّها. ولكن المشكلة التي عاشها الأئمة من أهل البيت(ع) هو هذا الحصار السياسي والثقافي بل والجسدي أيضاً، كما هو ظاهر في حركة كلّ إمام، ممّا قلّص المساحة التي يتحرّك فيها هذا الإمام أو ذاك الإمام وذلك من خلال ما وضعوا من حواجز وما بنوا من أسوار. وقد لا نجد في تراث الكثيرين منهم هذه السعة والشمولية بالمعنى الذي ينفتح فيه الإمام(ع) على عصره كلّه. ولكننا رأينا بعد الإمامين الحسنين(ع) اللذين كانا يعيشان ظروفاً صعبة معّقدة شملت المساحة الزمنية التي عاشاها، أن الإمام علي بن الحسين(ع) قد استطاع أن يعطي شيئاً كبيراً. وقد أشرنا في أكثر من حديث إلى أن ما يتحدث به الناس من أن تراث الإمام زين العابدين(ع) هو تراث الدعاء فقط ليس دقيقاً.
شخصية الإمام الحوارية:
فالإمام(ع) شارك في أكثر مفاصل الثقافة الإسلامية في ذلك الوقت. فلقد تحدث في العقيدة والشريعة والأخلاق وكثير مما كان يدور بين الناس من قضايا ومنازعات وغير ذلك. حتى إذا جاءت مرحلة الإمام الباقر(ع) والصادق(ع) انفتحت الساحة انفتاحاً كبيراً. ولذلك فإننا عندما نقرأ سيرة الإمامين(ع) فإننا نجد أنّ هناك مشاركة في كلّ ما كان يثار في الواقع الإسلامي من قضايا في الفلسفة والكلام والفقه والأخلاقيات مما لا تجد موضوعاً من الموضوعات التي تطرح في الساحة الإنسانية الإسلامية إلاّ وتجد معه كلمة لهذا الإمام أو ذاك، لاسيما بالنسبة للإمام جعفر الصادق(ع) الذي كانت مدرسته مفتوحة ومنفتحة على التيارات والمذاهب الإسلامية، بحيث لا نجد هناك أي مسلم سواء كان في درجة العلماء أو الرواة يحمل أية عقدة بالنسبة للإمام الصادق(ع) لأنه كان الإنسان المنفتح على عصره كلّه.
وعندما نتابع آثاره فإننا نجد أنه لم يعش أيّ حاجز نفسي إزاء أيّ شخص سواء اختلف أو اتفق معه. وليس هذا بغريب طالما انه كان إمام الفكر الإسلامي والخط الإسلامي الذي لم يقدّم و هو يحاور الآخرين أي تنازل عن أيّ شيء في الإسلام، لكنّه في شخصيته الحوارية كان يفتح قلبه حتى للملحدين والزنادقة، وكان لا يعنف مهما كان أسلوب الطرف المقابل هجومياً و عنيفاً، وكان الهادئ في أسلوبه الإنساني المنفتح، لأنه كان الهادئ في عقله. وهذه مسألة يجب أن نعرفها جميعاً وهي أنك كلّما كنت قوياً في حجتك كنت هادئاً في حوارك، فالذين يعنفون ويشتمون ويتحدثون بالكلمات الّلامسؤولة هم الذين يعيشون الهزيمة النفسية حتى أمام فكرهم، لأنك إذا أردت أن يحترمك الآخر فعليك أن تحترمه.
لقد كان الإمام الصادق(ع) وهو يرى أن الإسلام هو خط اللّه الوحيد في الحياة، لا يلغي الآخر، كما أنّ القرآن لم يلغ الآخر حيث اعترف بعدّة وجودات: فلقد حاور الملحدين لأنهم موجودون في الساحة، ولم يكن ذلك اعترافاً بشرعيّتهم بل بوجودهم. واعترف أيضاً بالمشركين لأنهم موجودون وهكذا بأهل الكتاب. ولهذا فإنك عندما تعترف بوجود الآخر فلابدّ لك أن تخطّط لكيفية التعامل معه، لأنّ إلغاءك له لن يلغي وجوده. وهذا ما فعله الإمام الصادق(ع) الذي حاور الجميع، وربما يتوهم بعض الناس أن الإنسان لابدّ أن يواجه التيارات المضادة بالعنف والقسوة والشتيمة دائماً ولكن هذه النظرة غير قرآنية، لأن اللّه تعالى قال لنا {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل/125). وقال {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}(العنكبوت/46). وقال {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت/34). لذلك فإن الذين يشتمون ويعنفون ويكفّرون ويضلّلون حتى في الدائرة الإسلامية ليسوا بإسلاميين، لا في الخط ولا في المنهج وإن كانوا يصومون ويصلّون.
استثمار الظرف السياسي:
و لقد كانت المساحة السياسية التي عاش الإمام الصادق(ع) فيها تكفل له أن يمارس حريته الكاملة، لأن الحكّام كانوا يعيشون في مرحلة انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، فكانوا مشغولين عن الإمام و عن خطّ الإمامة. و لذا فإنه أعطى عطاء لا يملك الإنسان أن يحصيه حتى أن (جابر بن حيان) ينقل عنه أنه هو الذي ألهمه علم الكيمياء، و كان يتحدث في رسائله التي كان الغرب إلى وقت قريب يقرأها ويدرسها، ويقول ((حدّثني سيدي جعفر)). أو ((أملى علّي سيدي جعفر)).
وفي مولد الصادق(ع) نريد أن نعيش رسول اللّه(ص) فقد كان حديثه كلّه هو حديث رسول اللّه، ولقد أثر عنه قوله ((حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث رسول اللّه)). وكان عندما يتحدث عن رسول اللّه(ص) لا يأتي بالعنعنة الروائية، بل يقول: ((قال رسول اللّه)). لأنه يلتقي به من أقرب موقع ووسيلة.
من ثمار البستان النبويّ ـ الإماميّ:
وكما ذكرنا فإننا نتذكر الرسالة بالرسول، والإمامة بالإمام، لذلك تعالوا إلى هذا البستان النبويّ ـ الإماميّ المزهر المثمر لنستمع إلى بعض كلمات الرسول(ص) المروية من قبل الإمام في القضايا التي تتصل ببعض حياتنا الأخلاقية، و ما نحتاجه في الواقع. ولنسأل أولاً: كيف يمارس الإنسان الدين؟ هل يملأ وقته كلّه بالصلاة وعمره بالصوم وبالحج، وهل يجهد نفسه بالعبادة حتى يستنفد طاقته كلّها بحيث تتحول المسألة عنده بعد ذلك إلى ردّ فعل سلبيّ على العبادة؟ أو أن المسألة ـ إسلامياً ـ ليست كذلك؟! فهي أن تعبد اللّه تعالى وأن تأخذ الدين من الموقع السهل الذي لا تطبق فيه على نفسك ولا تقهر فيه طاقتك،بل تأخذ منها عفوها ونشاطها ليمكن لك أن تحبّ عبادة اللّه، وليمكن لجسدك أن يبقى معك في طاقته لتواصل حياتك.
فليس الالتزام بالعبادة اختناقاً، وليس قهراً، بل هو رفق ولين ويسر. ولنستمع إلى رسول اللّه(ص) في هذا الحديث، فعن أبي عبد اللّه(ع) ((قال رسول اللّه(ص) يا عليّ إن هذا الدين متين)). أي صلب ومتماسك ((فأوغل فيه برفق)). فإذا أردت أن تدخل فيه فادخل فيه برفق، لأنك إذا دخلت في الشيء الصلب بقوة فإنك سوف تكسره أو يكسرك، أمّا إذا حاولت أن تدخل فيه بيسر فإنك تستطيع أن تخضع جسدك لصلابته. ((ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك)). لأنك إذا قهرت نفسك وأجهدتها، وللنفس طاقة محدودة، فربما تتمرّد عليك في نهاية المطاف وترفض العبادة بعد ذلك، لأن اللّه تعالى يريد للإنسان أن يعبده من خلال جهد إنسانيته {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}(البقرة/286).
ويمضي الحديث بالقول ((إنّ المنبتّ)) أي المفرّط الذي يفرّط في طاقته ((لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع)). وهو مثل يضرب للذي يركب دابّة ويسير بها ليلاً ونهاراً فتسقط الدابّة في منتصف الطريق، فلا هو أبقى على دابّته، ولا هو أيضاً قطع الطريق، لأن الدابّة توقّفت في بعض الطريق جرّاء التعب والإنهاك، وهكذا الإنسان إذا أجهد نفسه بما يقهر طاقته ويستنفدها، فسوف لن يستطيع الاستمرار في العبادة.
((فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما)) أي أنك عندما تعمل فلا تتصور أنك ستموت غداً، بل اعمل عمل من يرجو طول الأمل، حتى تعيش روحانية العبادة ويسرها ومعناها. ((واحذر حذر من يتخوّف أن يموت غدا))( ). فإذا دعتك نفسك إلى ما يمكن أن يضلّك أو ينحرف بك عن الطريق فعليك أن تكون حذراً، وهذه هي نفس الفكرة التي طرحها الإمام علي(ع) في الرواية المشهورة ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً)). فإذا كانت لديك مشاريع فلا تفكّر بالموت غداً، بل تصوّر أنك لن تموت حتى تستكمل مشاريعك ((واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)). وعندما تفكّر بالمسؤولية فيما تقوم به تصوّر أنك ستموت غداً حتى تعدّ العدّة جيداً لملاقاة اللّه سبحانه وتعالى.
الملك القائم على القتل والظلم:
وعن أبي عبد اللّه(ع) قال: قال رسول اللّه(ص) ((سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلاّ بالقتل والتجبّر)). أي أن المسؤولين ـ في ذلك الزمان ـ لا ينطلقون من موقع تأييد الناس بكلّ محبة وعفوية، ولكن من خلال القوة القاهرة المسلّحة التي تعتمد على قوة قاهرة مسلّحة أكبر منها، كما نعرفه في هذه الأيام التي يوظّف فيها المستكبرون من خلال قوتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية الكثيرين ممن يتولون أمور الأمة ليحرسوا مصالح المستكبرين. وهذه هي مشكلة العالم الإسلامي، وهي أن هناك حرّاساً يحرسون مصالح المستكبرين ولا يحرسون مصالح المستضعفين.
((ولا الغنى إلا بالغصب والبخل)). وهذا ما نعيشه أيضاً، حيث نرى أن الكثير من الناس يتحركون بالإثراء غير المشروع وبالبخل عما فرض اللّه عليهم من حقوق ((ولا المحبّة إلاّ باستخراج الدين واتباع الهوى)). فالبعض من الناس يحاول الحصول على محبة الآخرين من جهة تقديم تنازلات دينية لحسابهم، أو يتحرك من خلال أهواء الناس وأهوائه ليرضوا عنه. ((فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى )). فلقد كان الغنى في قبضة المستكبرين فهم يعطونه من أموالهم ليعطيهم هو من مواقفه، وكان الجاه في قبضة أعداء اللّه فهم يمنحونه شيئاً منه ليمنحهم تنازلات من دينه، فعليه في هذه الحال أن يصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، لأنّ عليه أن يقف مع مبادئه ودينه ولا يبيع دينه بدنيا غيره. ((وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبّة)).
فإذا أراد الناس منك أن تقدّم التنازلات من دينك ليحبّوك، فعليك أن تعرف أن محبة اللّه لك أعظم من محبة الناس لك لأن {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}(النحل/96). وحسبنا بذلك كلمة رسول اللّه(ص) ((إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي)). ووصي محمد(ص) علي(ع) يقول هو الآخر ((ما ترك لي الحقّ من صديق)). ويقول ((قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)).
وعوداً إلى الحديث، يقول الرسول(ص) لاحقاً ((وصبر على الذلّ)). وهو هنا الضعف ((وهو يقدر على العزّ)). والمراد العزّ الظاهري، لأن الإنسان الذي لا يبيع دينه ولا يعطي بيده إعطاء الذليل حتى لو استضعف، ولا يقرّ إقرار العبيد، فهو العزيز في نفسه وإن كان ذليلاً عند الناس. فإذا فعل ذلك ((آتاه اللّه ثواب خمسين صديّقاً ممن صدّق بي))( ). ولكن دون ذلك خرق القتاد، فليس سهلاً أن يأخذ الإنسان بذلك كلّه و لكنه ليس مستحيلاً.
شذرات أخلاقية:
وعلى صعيد الأخلاقيّ، قال رسول اللّه(ص) في رواية الصادق(ع): ((أفضلكم أحسنكم أخلاقاً)). أي الذي يتميز بالأخلاق كأفضل ما تكون ((الموطّؤن أكنافا)). أي الذين لا يستعلون على الناس، وهم المتواضعون الذين يخفضون جناح الذلّ من الرحمة لإخوانهم ((الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم))( ). أي تنزل منازلهم للضيافة أو لطلب الحاجة، فيرحّبون بضيوفهم وقاصديهم بالخُلق والبشاشة بحيث يشعرون بأنهم أصحاب البيوت لا ضيوفها.
وعن أبي عبد اللّه(ع) قال، قال رسول اللّه(ص): ((يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر))( ).
ونختم هذه الباقة العطرة من الأحاديث الشريفة بقول الرسول(ص) المروي عن الإمام الصادق(ع) ((قال رسول اللّه(ص) لرجل أتاه ألا أدلك على أمر يدخلك به اللّه الجنّة)). ومن منّا لا يشتهي ذلك ((قال: بلى يا رسول اللّه، قال أنل مما أنالك اللّه)). أي اعط مما أعطاك اللّه، فإذا كان لديك مال فاعط الناس من مالك ممن يحتاج إلى هذا المال. ((قال: فإن كنت أحوج ممن أنيله؟)). أي لا مال ليّ فهل تغلق عني أبواب الجنّة ((قال: فانصر المظلوم)). فإن لم يكن لك مال فقد تكون لديك قوة، سواء قوة جاه أو قوة عضلات أو قوة سلاح توظّفها في نصرة المظلوم أيّا كان فرداً أو جماعة ((قال: فإن كنت أضعف ممن أنصره؟ قال: فاصنع للأخرق)). أي الأحمق الذي لا يستطيع أن يتعرّف طبيعة الأمور ولا يقدر أن يدبّر أمر نفسه، أي أشر عليه وقدّم له النصح والتعليم والخبرة. ((قال: فإن كنت أخرق ممن اصنع له؟ قال: فاصمت لسانك)). إي اعقله وألجمه إذا دعاك إلى الشرّ، واجعله ناطقاً إذا دعاك إلى الخير. ((أما يسرّك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرّك إلى الجنّة))( ).
وعلى ضوء هذا ـ أيها الأحبة ـ فباب الجنّة مفتوح والطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق، ونحن في مرحلة هدنة، فعلينا أن نجلس لنتأمّل ونفكّر وندرس الأمور بوعي وعمق، فالحياة تسير بنا ((ومن كان مطيّته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفاً)).
فنحن نأكل شيئا من عمرنا في كلّ يوم، وقد بقيت لكلّ منّا بقية من عمر، وإننا مسؤولون ـ في غضون ذلك ـ عن الإسلام وعن الخط الأصيل فيه، وعن أن نفهم الإسلام ونعمل به وندعو له، ومسؤولون عن المسلمين أن نعيش الاهتمام بكلّ أمورهم، وأن نعاونهم ونساعدهم فيما هم فيه.
إن علينا أن نكون في حجم الأمّة القوية من أجل أن نجمع هذه الأعداد الكثيرة حتى نستطيع أن نكون كما كان رسول اللّه(ص) {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(سبأ/28). وليكن طموحنا أن نؤسلم العالم، والعالم مفتوح للإسلام بشرط أن تكون عقولنا مفتوحة للإسلام، وأن لا تحمل التخلّف والخرافة أو تتحرك على أساس أن تجمّد تفكيرها، وأن لا نكون مع الذين يصادرون الفكر ويقمعون حرية الإنسان الذي يفكّر، بل علينا أن ننفتح على اللّه، وان تكون لنا آذان نسمع بها{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(الزمر/18). وأن تكون لنا عيون نبصر بها وعقول نفكر بها {ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولا}(الإسراء/36). والحمد للّه رب العالمين.









 
المحاضرة العشرون: 27ربيع الأول 1420 هـ الموافق 10/7/1999م



حقيقة الانتماء لخط أهل البيت(ع)

* أن تلتزم أهل البيت(ع) في خط الإسلام يتطلّب ذلك منك أن تلتزم بالإسلام في خط المنهج الذي نهجوه والفكر الذي أعطوه *







حقيقة الانتماء
نقد الفكرة الخاطئة
المفهوم في أحاديث الأئمة(ع)
صدق التشيّع
الوسطيّة
التقوى تكثّر العمل
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
حقيقة الانتماء:
هل يكفي في الانتماء أن تكون مسلماً، أو تكون شيعياً مسلماً في خط أهل البيت(ع)..هل يكفي أن تلتزم شيئاً من الفكر وأن تنفتح على جانب من الخط، أو أن الانتماء يفرض عليك أن تلتزم بالخط كلّه وبالدين كلّه؟.
 إن الدين ليس هو العقيدة فحسب، ولكنه عقيدة وشريعة ومنهج وحركة وأسلوب وهدف، وهو أن تكون مسلماً بالإسلام كلّه. وأن تلتزم أهل البيت(ع) في خط الإسلام يتطلّب منك ذلك أن تلتزم بالإسلام في خط المنهج الذي نهجوه والفكر الذي أعطوه لا أن تنفتح على ولايتهم بالعقل وبالقلب ثم تطلق حركتك وحياتك على كلّ حالة انحراف من حيث العمل والمنهج، فهذا ليس إسلاماً وليس تشيّعاً. فأن تكون مسلماً هو أن تسلم كيانك كلّه للّه، وأن يكون عقلك له فلا تفكّر إلا في الحق، وأن يكون قلبك له فلا تتحرك عاطفتك إلاّ بالحق، وأن تكون حركتك له فلا تنطلق إلاّ في الصراط المستقيم، وأن يكون المنهج والأسلوب والوسيلة كلّها له، وأن تلتزم بأهل البيت(ع) لا يعني أن يخفق قلبك بحبّهم فقط بل أن تتحرك حياتك في ساحاتهم ومنهجهم.
وإذ نؤكد هذا فلأنَّ هناك بعض المفاهيم التي يأخذ بها الناس تنطلق في اتجاه القول: كن مسلماً في عقيدتك وافعل ما شئت، أو كن موالياً لأهل البيت وافعل ما شئت. وقد روى الناس حديثاً ـ إذا صحّ ـ فهموه في السطح لا في العمق وهو «حب علي حسنة لا تضرّ معها سيئة». أي أن معنى ذلك أنك إذا أحببت علياً(ع) فلك أن تعمل السيئات كلّها فإن حبّ علي سوف ينقذك مما يترتب عليك من عقاب وغيره.
وقد جاء شخص إلى الإمام جعفر الصادق(ع) كما في كتاب (الكافي) ليقول له: لقد روي عنك أنك قلت: إذا عرفت فافعل ما شئت، ومعنى إذا عرفت أي واليت أهل البيت(ع) لأنه كان يطلق على الموالي العارف. «قال: بلى، قال وإن زنى وإن سرق، قال: ما أنصفتمونا أن كلّفنا بالعمل ووضع عنكم». فليس من الإنصاف والعدل أن يحرّم اللّه علينا الزنا والسرقة ونحوهما ويوجب علينا ما أوجب ويحرّم علينا ما حرّم ويضع عنكم ذلك كلّه لمجرد أنكم تحبوننا.؟! «قال: كيف قلت؟ قال: قلت إذا عرفت فاصنع ما شئت من قليل الخير أو كثيره فإنّه ينفعك». أيّ أنك إذا ركّزت عقيدتك في الخط المستقيم فإن عملك كلّه ينفعك إذا كان خيراً.
نقد الفكرة الخاطئة:
ونريد هنا أن ننطلق في معالجة هذا المفهوم أو نقد هذه الفكرة الخاطئة من خلال آية في كتاب اللّه وأحاديث مروية عن أئمة أهل البيت(ع). فأمّا الآية فاللّه يقول {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ}. ليس بأحلامكم وأوهامكم أيها المسلمون وأيّها المؤمنون {وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}(النساء/123). ليس الأمر مجرد أمنيات في أن تقولوا طالما أننا مسلمون فالجنّة مفتوحة لنا ولن يحاسبنا اللّه على شيء، أو أن يقول أهل الكتاب من اليهود والنصارى إنّ الجنة لنا ولا يحاسبنا اللّه{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}(البقرة/111).
وينقل في سيرة النبي(ص) أنه كان في مرضه وجاءت إليه عمّته (صفيّة) وابنته (فاطمة الزهراء) سلام اللّه عليها وعمّه العباس (رض) فالتفت إليهم وقال: «يا عباس بن عبد المطلب يا عمّ رسول اللّه اعمل لما عند اللّه فإني لا أغني عنك من اللّه شيئاً، يا صفية بنت عبد المطلب يا عمّة رسول اللّه اعملي لما عند اللّه فإني لا أغني عنك من اللّه شيئاً،يا فاطمة بنت محمد يا بنت رسول اللّه اعملي لما عند اللّه فإني لا أغني عنك من اللّه شيئاً».
وقد قال في خطبته الأخيرة «أمّا انه ليس بين اللّه وبين أحد من عباده شيء يعطيه به خيراً أو يدفع به عنه شرّاً إلا العمل، أمّا إنه لا ينجي إلا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت». فاللّه هو الذي جعل لنبيه(ص) الشفاعة للمذنبين، ولكن النبي(ص) يريد أن يقول للناس انطلقوا بالعمل وانتظروا رحمة اللّه وشفاعته ولا تتجرؤوا على ترك العمل والابتعاد عن الخط المستقيم بحجّة الحصول على الشفاعة. {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}(الأنبياء/28).
المفهوم في أحاديث الأئمة(ع):
ونأتي إلى الأحاديث التي نلاحظ فيها أن هذا المفهوم كان موجوداً في زمان الأئمة(ع) ولذلك كانوا يؤكدون المفهوم المضاد له بطريقة فيها الكثير من الحسم وربما الكثير من القسوة. ففي الحديث عن أبي جعفر محمد الباقر(ع): «لا تذهب بكم المذاهب» أي لا تذهبوا المذاهب في طلب الرخص والمعاذير في تقصيركم في طاعة اللّه بسبب انتسابكم إلينا ولا تحسبوا أن مجرد القول بالتشيع كاف في النجاة من دون مشايعة لنا في طاعة اللّه تعالى. «فو اللّه ما شيعتنا إلاّ من أطاع اللّه عزّ وجل». فهذه هي الصفة الطبيعية للتشيّع لأنه هو الإسلام في خط أهل البيت(ع) الذين عاشوا الإسلام كلّه في عقولهم وقلوبهم وحركتهم وحياتهم كلّها.
وهناك حديث عن أبي جعفر(ع) قال: خطب رسول اللّه(ص) في حجة الوداع فقال: «يا أيّها الناس، واللّه ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلا وقد نهيتكم عنه. ألا وإنّ الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب». أي لا ترهقوا أنفسكم فوق ما تحتمل في طلب الرزق ولكن اطلبوه بما تحتمله أجسادكم. «ولا يحمل أحدَكم استبطاءُ شيء من الرزق أن يطلبه بغير حلّه». أي إذا ضاقت بك الحياة وعرض عليك مال بشرط أن تعصي اللّه في موارده ومصادره، فإن عليك أن لا تستعجل رزقك لأن اللّه جعل رزقك في الحلال وربّما أخّره لمصلحة لك، فإنه لا يدرك ما عند اللّه إلا بطاعته فهي الأساس في خط الإسلام العملي والعقيدي معاً.
وفي الحديث عن الباقر(ع) وهذا من الأحاديث التي توضّح الفكرة بطريقة واعية وحاسمة وواسعة، فعن جابر عن أبي جعفر(ع) «قال لي: يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع». أي من يقول أنا شيعي «أن يقول بحبّنا أهل البيت، فواللّه،ما شيعتنا إلا من اتقى اللّه وأطاعه وكانوا لا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر اللّه والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير. وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر فقلت: يا ابن رسول اللّه ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة». تصوروا أن هذا في زمن الإمام الباقر(ع) فكيف بنا الآن. «فقال: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب حسب الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاّه ثم لا يكون فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أحبّ رسول اللّه، فرسول اللّه(ص) خير من علي(ع) ثم لا يتبّع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين أحد وبين اللّه قرابة، أحبّ العباد إلى اللّه عزّ وجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر: واللّه ما يتقرّب إلى اللّه تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على اللّه لأحد من حجّة، من كان للّه مطيعاً فهو لنا وليّ ومن كان للّه عاصياً فهو لنا عدوّ وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع». فهل هناك وضوح أكثر من هذا. فمراد الإمام(ع) من قوله «ما معنا براءة من النار». انه ليست هناك براءة مثل هذه إلا من خلال معرفة الولي باللّه وطاعته له، ونحن نعرف بأن أهل البيت(ع) ارتقوا إلى أعلى مقام عند اللّه في المعرفة والطاعة ولذلك كانت معهم براءة من النار وكانت معهم الجنّة بكل ما فيها.
صدق التشيّع:
إن هذا الحديث يؤكد ـ أيّها الأحبة ـ على أن الصادق في تشيّعه لابد أن يكون متحرّكاً في القيم الإسلامية كلّها، لأن التشيّع ليس شيئاً غير الإسلام، فأهل البيت(ع) لم يفتحوا حساباً خاصاً بهم وليست لديهم دفاتر وسجلاّت خاصة بهم فليس لهم سوى سجلاّت اللّه وحساباتهم هي حساباته سبحانه وتعالى، وخط الولاية مرتبط بخط الطاعة والعمل، فينبغي أن لا تنفتح الأذهان على ما يتحدث به الكثير من الناس في السطح من أن عليك أن تحبّ علياً(ع) وتأخذ مفتاح الجنّة حتى لو قتلت وزنيت وسرقت وكنت مع الظالم والظالمين، في حين أن آيات القرآن لا تفرّق ـ في ذلك ـ بين إنسان وإنسان آخر.
وعن أبي عبد اللّه الصادق(ع) قال: «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس». أي جماعة «فيأتون باب الجنة فيضربونه فيقال لهم: من أنتم، فيقولون: نحن أهل الصبر، فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون كنّا نصبر على طاعة اللّه». فإذا أوحت نفوسنا الأمّارة بالسوء إلينا بأن الإقبال على طاعة اللّه قد يحرمنا من الراحة فإننا نصبّر نفوسنا على ذلك. «فيقول اللّه عز و جل صدقوا، أدخلوهم الجنّة، وهو قول اللّه عز وجل {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}»(الزمر/10).
ومن هنا فقد اعتبر أمير المؤمنين(ع) الصبر بمنزلة الرأس من الجسد حينما قال «وعليكم بالصبر فإن الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد فكما لا خير في جسد لا رأس معه لا خير في إيمان لا صبر معه». لأن الصبر هو الذي يثبّت أقدامك في حالات الزلزال وهو الذي يركّز إيمانك إزاء التحديات.
وعن أبي جعفر قال: «كان أمير المؤمنين(ع) يقول: لا يقلّ عمل مع تقوى وكيف يقلّ ما يتقبّل». أي أنك إذا كنت تقيّا بحيث تعيش خوف اللّه ومحبّته في قلبك وتتحرك في طاعة اللّه، وكان عملك قليلاً فإن اللّه يجعله كثيراً بتقواك، والعمل الذي يقبله اللّه لا يمكن أن يكون قليلاً بل هو كثير من خلال نتائجه التي يحصل عليها المتقي من اللّه.
الوسطية:
وفي الحديث عن أبي جعفر(ع) والملاحظ هنا أن أغلب الأحاديث هي عنه(ع) لأن هذه المفاهيم ـ في المرحلة التي عاشها ـ كانت متداولة بين أصحابه: «يا معشر الشيعة ـ شيعة آل محمد ـ كونوا النمرقة الوسطى». أي الوسادة الصغيرة لا العالية ولا المنخفضة. «يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي فقال له رجل من الأنصار يقال له (سعد): جعلت فداك ما الغالي؟ قال: قوم يقولون فينا مالا نقوله في أنفسنا». أي هؤلاء الغلاة الذين ينسبون إلينا الربوبية أو أفعالها أو صفاتها أو قدراتها من التفويض وغيره ويرفعوننا عن مراتبنا التي رتبنا اللّه فيها. «فليس أولئك منا ولسنا منهم. وقال: فمن التالي؟ قال: المرتاد يريد الخير ويبلّغه و يؤجر عليه». أي هذا الذي ينطلق في الخير ويبلّغه ويؤجر عليه فإنه يرجع إليهم ـ أي إلى أهل البيت(ع) ـ ليتوازن في عمل الخير الذي أراد اللّه له أن يعمله «ثم أقبل علينا فقال: ما معنا من اللّه براءة ولا بيننا وبين اللّه قرابة ولا لنا على اللّه حجّة». لأن الحجّة للّه على جميع خلقه «ولا نتقرّب إلى اللّه إلاّ بالطاعة فمن كان منكم مطيعاً للّه تنفعه ولايتنا ومن كان منكم عاصياً للّه لم تنفعه ولايتنا ويحكم لا تغترّوا». إنّها كلمات فيها الكثير من العنف لمن يحاول أن يتحدث عن انتمائه إلى التشيّع ولكنه لا يطيع اللّه ولا يتقيه.
التقوى تكثّر العمل:
وعن مفضّل بن عمر قال: «كنت عند أبي عبد اللّه(ع) فذكرنا الأعمال فقلت أنا: ما أضعف عملي فقال: مه، استغفر اللّه، ثم قال لي: إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى. قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطئ رحله». كناية عن التواضع والتذلّل. «فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه». أي أنه إنسان طيب لا يسرق لأنه لا يملك أن يسرق ولا يقتل لأنه لا قوة له على القتل ولا يظلم الناس لأنه ليس له أية فرصة للظلم، ولكن بمجرد أن تتاح له هذه الفرص فإنه يدخل فيها على طريقة ذلك الشاعر الذي كان يشرب الخمر ويصوم شهر رمضان فإذا جاء العيد قال:
رمضان ولّى هاتها يا ساقِي           مشتاقة تسعى إلى مشتاق
فبعض الناس هكذا، فهو متدين لأنه لا فرصة لديه لعدم التديّن، ومخلص لأنه لا فرصة له للخيانة وهكذا. فالإمام يريد أن يركّز هذا المفهوم وهو أن التقوى لابد أن تكون قاعدة ثابتة في عقلك وقلبك وحياتك، أي أن تكون إنسان القيم بحيث تكون القيم الروحية والأخلاقية ثابتة في كيانك بحيث تكون في حال الشدّة والرخاء والغضب والرضا على حد سواء، وأن لا تكون مؤمن الرضا كافر الغضب.
«ويكون الآخر ليس عنده». أي يصلّي صلاته الواجبة وليس لديه أعمال خير كثيرة. «فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه». فمعنى أن تكون تقياً ليس أن يكثر عملك بحيث تكون أرقامه كثيرة، بل أن تكون لك مناعة ضد المعصية والانحراف، فإذا كان عملك قليلاً فإن التقوى تكثّره.
ويقول أحد أصحاب الإمام الصادق(ع) «سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول: ما نقل اللّه عزّ وجل عبداً من ذلّ المعاصي إلى عزّ التقوى إلاّ أغناه من غير مال وأعزّه من غير عشيرة وآنس من غير بشر»..فإن التقوى هي أنسك عندما تعيش في ظل وحشة الناس، وهي عزّك عندما تعيش في ذلّة من الضعف، وهي غناك عندما تعيش في قلّة من المال. وقد عبّر عن ذلك الإمام الحسن(ع) بقوله «من أراد عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية اللّه إلى عزّ طاعته». وعبّر عنه الإمام علي بن الحسين(ع) في دعائه إذا نظر إلى أصحاب الدنيا «اللّهم واعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة أو أظن بصاحب ثروة فضلاً فإن الشريف من شرّفته طاعتك والعزيز من أعزّته عبادتك».
أيّها الأحبة: علينا أن نأخذ الإسلام كلّه، والخط كلّه لأن اللّه أراد أن يعرّفنا كيف يتحرك الإيمان في الواقع. والتقوى هي الخط الإيماني العملي المتحرك في الحياة والتي بها يتقرب الإنسان إلى اللّه ويحصل بها على رضوانه ونصيبه في جنته {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(البقرة/197). والحمد للّه رب العالمين.( )
 
المحاضرة الحادية والعشرون: 4ربيع الآخر 1420 هـ الموافق 17/7/1999م



الوساوس الشيطانية

* مشكلتنا هي أننا نجلس مع الآخرين أكثر مما نجلس مع أنفسنا، حتى أنّ البعض منّا يخاف الجلوس مع نفسه لأنه يستوحش من ذلك *






الخواطر والهواجس
علاج الأئمة(ع) للمشكلة
خاطر: منْ خلقَ اللّه؟
وساوس شيطانية
الإيحاء الذاتي
خواطر الأخلاق الفاسدة
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الخواطر و الهواجس:
   هناك حالات للقلب يمكن للإنسان المؤمن أن يشعر بمشكلة إيمانية في طبيعتها، فنحن مؤمنون ـ كما نزعم لأنفسنا ـ ولكن قد تخطر للإنسان خطرات تتنافى مع طبيعة هذا الإيمان فيشعر من خلال ذلك بالإحباط كما لو كان قد كفر، أو كما لو كان قد فقد إيمانه ـ لأن هناك من الهواجس ما يخطر في نفس الإنسان، وهناك من أحاديث النفس ما ينفتح على أفكار لا تتناسب مع الإيمان. وقد يحدث هذا في الجوانب العقيدية أو الشرعية العملية، فهل يشعر الإنسان أنه فقد إيمانه أو بأن الشيطان قد سيطر عليه؟ وكيف يواجه هذا الوسواس؟
علاج الأئمة(ع) للمشكلة:
لقد عالج الأئمة من أهل البيت(ع) هذه المسألة من خلال ما رووه عن رسول اللّه(ص) وما أثاروه في علاجها والإشارة إليها. ومن بين ما روي عن رسول اللّه(ص) ما جاء في كتاب (الكافي) عن أبي جعفر محمد الباقر(ع) قال: ((إن رجلا أتى رسول اللّه(ص) فقال يا رسول اللّه إني نافقت)). وفي رواية أخرى ((إني هلكت)). فقال((واللّه ما نافقت ولو نافقت ما أتيتني تعلمني ما الذي رابك، أظنّ العدو الحاضر - وهو الشيطان - أتاك، فقال لك: من خلقك؟ فقلت: اللّه خلقني، فقال لك: من خلق اللّه؟!)). وكأن النبي(ص) يقول له كأنك ارتعبت وشعرت بالسقوط أمام هذا السؤال الذي يوحي بأنك ابتعدت عن خط الإيمان ((قال إي والذي بعثك بالحق لكان كذا)). أي أن هذا التساؤل حدث لي بالفعل. ((فقال: إن الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم)). فلقد أراد لكم أن تتركوا الصلاة والصوم وأن تشربوا الخمر وتلعبوا القمار فلم يقو عليكم، ((فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلّكم)). أي لكي يسقطكم ((فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم اللّه وحده)).
والعلاج هنا من جانبين: جانب المشكلة من خلال السؤال: لماذا شعر هذا الإنسان بها؟ فالإنسان المؤمن يرى أن اللّه هو الخالق الأزليّ الأبديّ الذي لم يسبقه عدم ولم يخلقه أحد، فهذه هي العقيدة الإسلامية الحقّة، فاللّه خالق غير مخلوق، وعندما يأتي السؤال: من خلق اللّه؟ فإن معنى ذلك أنه ينطلق من هاجس نفسيّ، وهو أن اللّه مخلوق، ولذلك يسأل المصاب بالهاجس الشيطاني: من خلقه؟ وعندما خطرت هذه الفكرة في ذهن هذا الإنسان المؤمن الذي جاء النبي(ص) يشتكي ما أصابه شعر أن عقيدته اهتزت وأنه فقد إيمانه باللّه كما يجب للإنسان أن يؤمن باللّه. وعندما قال النبي(ص) ((ما نافقت وما هلكت)). فلأن هذا القلق النفسي والرعب الفكري والروحي الذي انتابه من هذا الهاجس يدّل على أنه يعيش الإيمان كأعمق ما يكون، ولذا هرع إلى رسول اللّه(ص) ليشكو إليه ذلك.
وفي رواية أخرى أنه قال له ((ذلك واللّه محض الإيمان)). لأنك لم تسمح لهذه الفكرة أن تتعمق في نفسك، وإنّما هربت منها حتى أتيتني، ولذلك اعتبر النبي(ص) الخاطرة التي خطرت على قلبه لا استقرار لها وإنما هي طارئة، فقال له: أذكر اللّه وحده، أي اصدم الشيطان بإعلانك الإيمان باللّه وحده كما يجب الإيمان به.
خاطر: من خلق اللّه ؟!
وهنا نريد الوقوف أمام هذا السؤال، لأنه كما خطر لهذا المؤمن يمكن أن يخطر للكثير من المؤمنين: من خلق اللّه ؟ وفي الحقيقة فإن السؤال المذكور سؤال خاطئ، لأنه ينطلق من فكرة أن الإنسان يتصوّر ربّه كما يتصوّر أي شخص يعيش معه، أي أنه يتصوّر أن اللّه مخلــوق يحتاج إلى خالق كما أنه ـ أي الإنسان ـ مخلوق يحتاج إلى خالق.
ولكي نناقش الفكرة نقول إن كلّ من تتصوره مسبوقاً بالعدم فهو ليس اللّه، ذلك أن معنى اللّه هو أن نتصوّره دون أن نتصوّر شيئاً قبله. فكلّ شيء نتصور أن له قبلاً أو أن هناك عدما قبله أو عدما بعده فهو ليس اللّه، فسؤال من خلق اللّه غير صحيح، لأن أي شي مخلوق هو ليس اللّه، فاللّه هو الذي تنتهي سلسلة التصوّر والاحتمال اليه فلا احتمال قبله. ولذا فإن النبي(ص) اكتشف أن هذا الإنسان يعيش الإيمان العميق ولكنها خاطرة خطرت له من خلال الشيطان وخاف أن تؤثّر فيه فعاش الرعب منها.
وساوس شيطانية:
وقد وردت عدة أحاديث في الوسوسة، كما لو يأتي الشيطان للإنسان فيقول له: من قال إن هناك حالة بعث من الموت {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ  قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}(ياسين/78-79). وهذه الأسئلة من قبيل من قال إن هناك جنة أو نار.. فهذه خواطر تخطر على نفس الإنسان وعقله و عليه أن يواجه هذه الحالة بأن يرفض هذه التساؤلات حتى يركّز إيمانه في العمق، ثم إذا بقى منها شيء في نفسه فعليه أن يرجع إلى أهل الذكر {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(النحل/43). لأن على الإنسان ـ كي يركّز عقيدته وقناعاته ـ أن لا يترك سؤالاً بدون جواب، لأنه إذا تركه فسوف يتعمّق في نفسه ويخلق له حيرة، وهذه هي حجّة اللّه على الإنسان حيث يقال أنه ((يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له لِمَ لمْ تعمل فيقول لم أعلم. فيقال له: هلاّ تعلّمت)). وقد كان طريق العلم مفتوحاً أمامك. فلنقرأ أحاديث أهل البيت(ع) ثم ننطلق إلى الجانب الثاني وهو الخواطر التي تمسّ الجانب الأخلاقي.
فعن محمد بن حمران، قال ((سألت أبا عبد اللّه(ع) عن الوسوسة وإن كثرت قال: لا شيء فيها)). أي لست مسؤولاً عنها لأنها ليست اختيارية، والإنسان يسئل عمّا هو مختار، أمّا هذه الأفكار والوسوسات فإنها تهجم عنوة فلا تحاسب عليها، ((وإذا جاءتك تقول: لا إله إلا اللّه)).
وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه ((قال: قلت له إنه يقع في قلبي أمر عظيم)). كما لو أنه ينكر وجود اللّه أو ينكر الرسالة لا إنكاراً فعليا وإنما من خلال خطرات تخطر في ذهنه بنحو سريع عابر. ((قال: قل لا إله إلا اللّه. قال: (جميل): فكلّما وقع في قلبي شيء قلت لا إله إلا اللّه فيذهب عني)). فكأن الإنسان يستنفر هذا الإيمان العميق المركوز في داخل شخصيته فيطرد هذه الأفكار الطارئة.
وعن علي بن مهزيار، قال: ((كتب رجل إلى أبي جعفر(ع) يشكو إليه لمماً (أي صغار الذنوب) يخطر على باله فأجاب في بعض كلامه: إن اللّه عز وجل إن شاء ثبّتك فلا يجعل لابليس عليك طريقاً، وقد شكى قوم إلى النبي(ص) لمماً يعرض لهم لأن تهوي بهم الريح أو يقطّعوا أحبّ إليهم من أن يتكلّموا به، فقال رسول اللّه أتجدون ذلك ؟ قالوا: نعم، قال: والذي نفسي بيده إن ذلك لصريح الإيمان، فإذا وجدتموه فقولوا: آمنا باللّه ورسوله ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه)).
وربما نستوحي ذلك من القرآن الكريم في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}(الأعراف/201). ففي حالة الغفلة عن إيمانه ودينه قد تخطر له أشياء كثيرة لكن إيمانه سرعان ما يستيقظ في أعماقه فيذهب ذلك منه. وهذا قد يحدث في غير جانب العقيدة، كما في الجانب الشرعي العملي، فربما تخطر في ذهن الإنسان بعض الأشياء غير الأخلاقية، كما هي خطرات شهوة المحرّمات من سرقة أو خيانة الأمانة، وما شاكل من الهواجس النفسية التي يواجه فيها الإنسان بعض التمنيات والأحلام غير الأخلاقية، كما يخطر له ـ مثلاً ـ أن يقتل شخصا ً لكنه سرعان ما يشعر بالقلق ويعاتب نفسه ويلومها على التفكير بذلك فيرجع إلى إيمانه، وقد تنطلق بعض الأخيلة من خلال بعض الرواسب النفسية التي تعيش في أعماق الإنسان من خلال بعض الأجواء البيئية المنحرفة التي يعيشها أو القراءات الفاسدة التي يقرأها أو العلاقات الاجتماعية السيئة، فيشعر الإنسان بخطورتها فيستيقظ إيمانه من جديد.
الايحاء الذاتي:
ولو لاحظنا علاج النبي(ص) والأئمة(ع) في القول للمبتلى بالوسوسة: آمنا باللّه وبرسوله أو لا إله إلا اللّه، لرأينا أن ذلك إيحاء بأن الإنسان إذا غفل وحدثت له بعض الهواجس والأفكار الطارئة فإن عليه أن يلجأ إلى إيقاظ إيمانه في عمق الفطرة كيما يعود إلى صفائه. ولكي نحقّق ذلك فإننا نحتاج إلى أن نعمّق الإيمان في نفوسنا، أي لا يكون إيماننا سطحيا بل يعيش في العمق، فكما أن على الإنسان أن ينمّي جسده، فعليه كذلك أن ينمّي إيمانه ويلاحق الأسئلة التي يمكن أن تنطلق في وجدانه ليفكّر فيها أو ليسأل عنها. وعلى العلماء الذين يملكون ثقافة العقيدة أن يجيبوه على ذلك. ونحن نرفض أن يمتنع العالم عن الإجابة على الأسئلة مهما بدت تافهة ومهما كانت محرجة، فلابد للإنسان من أن يفرّغ نفسه من أساس الشك بالوسائل التي يمكن له أن يرفع فيها شكّه، ولابد للعلماء أن يعينوه في ذلك.
خواطر الأخلاق الفاسدة:
أما بالنسبة للتمنيات غير الأخلاقية، أو الأفكار غير الأخلاقية فلابد للإنسان إذا طرأت عليه أن يتعامل معها بالطريقة التي يعمّق فيها القيمة الأخلاقية. فمثلاً بالنسبة للعفّة سواء كانت أمام شهوة الإنسان فيما يحرم عليه أو عفّة اليد من أن يسرق أو يخون الأمانة، أو غيرها، فلابد للإنسان أن يربّي العفة في نفسه بالتفكير بالسلبيات التي يمكن أن تحدث لو اندفع فيما يتمناه هنا أو هناك على مستوى الدنيا والآخرة.. وهذا يجمعه شيء واحد وهو أن نسهر على قلوبنا وعقولنا بحيث يحاول أحدنا أن يربّى قلبه وعقله وإحساسه وشعوره لأن ما في الخارج ينطلق مما في الداخل ـ فإذا كان داخلك ثابتاً مستقراً واعياً عاقلاً منفتحاً على الحقيقة فإن حركتك في الخارج كلّها سوف تكون بهذا الاتجاه وعلى هذا المستوى. وهذا ما يؤكده اللّه في مستوى القاعدة {إِنَّ اللّه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}(الرعد/11). فلا بد أن تغيّر ما في نفسك من القلق والحيرة والأحلام غير الواقعية وغير الشرعية لتغيّر واقعك.
لهذا فلابد لنا أن نجلس مع أنفسنا، لأن مشكلتنا هي أننا نجلس مع الآخرين أكثر مما نجلس مع أنفسنا حتى أن البعض منا يخاف الجلوس مع نفسه لأنه يستوحش من ذلك. ونضرب على ذلك مثلاً، فقد يحصل وأنت تسير في السيارة والطريق طويل وفرصة التفكير حينئذ جيّدة ـ لكنك تفتح المذياع أو المسجّلة على أي شيء، فالمهم أن لا تصمت أو تخلد إلى الهدوء الذي يقودك إلى التفكير و محاسبة النفس، فإذا لم يكن لديك من تتكلّم معه فإنك لا تتكلّم مع نفسك، بل تحاول أن تسمع كلاماً يشغلك عن هذا الهدوء الذي تعيشه. فما أحوجنا إزاء هذا الضجيج: ضجيج الواقع وضجيج السياسة وضجيج الاقتصاد، أن نمنح أنفسنا فترة من الهدوء لنفهم أنفسنا جيداً، فإذا لم تفهم نفسك فيما تعتقده وفيما تحب وتبغض، وفيما هو خطك في الحياة وأهدافك فيها، فمن الصعب أن تجيب على الأسئلة الحيوية والمهمّة التي تطرح عليك لأنك لا تعرف النفس و ما يطوف به الشيطان عليها حتى تجعل المنطقة الداخلية منطقة رحمانية بحيث لا يكون في عقلك إلا اللّه من خلال الحق ولا في قلبك إلا اللّه، ولا في حركتك في الحياة إلا اللّه.. فاللّه أولاً واللّه أخيراً ـ وهذا ما يحتاج إلى معاناة ووعي يتحرك فيه الإنسان، ونسأل اللّه أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم. والحمد اللّه رب العالمين.
 
المحاضرة الثانية والعشرون: 11ربيع الآخر 1420 هالموافق 24/7/1999م



منهج أهل البيت(ع) في فهم القرآن

* القرآن كتاب الإنسان في الحياة لكنّ المسلمين جمّدوه *






منهج أهل البيت(ع) في فهم القرآن
كلّ شيء في الكتاب والسنّة
معارضة الفهم الجديد للقرآن
تمحيص الروايات
المقياس في معرفة الاختلاف
اختلاف الفقهاء
شواهد من بعض الأحاديث



 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
منهج أهل البيت(ع) في فهم القرآن:
في منهج أهل البيت(ع) هناك تأكيد بطريقة مركّزة ومتحرّكة على أن يفهم الناس القرآن، لأن في القرآن كما ورد في حديثهم(ع) تبياناً لكل ما يحتاجه الناس. فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه عز وجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال». وهذه الكلمة توحي بأن على العلماء أن يدقّقوا في فهمهم للقرآن بحيث يستوحون عمقه وامتداده ولا يتجمّدون عند حروفه وكلماته، لأنّ اللغة العربية في قواعدها قد تقف بالإنسان على المعنى الحرفي للكلمة، ولا تنفتح على الإنسان بالآفاق الواسعة لها. فقد تكون القصة في موقع معين ولكنها تجتذب آلاف القصص المماثلة في حركة الإنسان في التأريخ. وقد تنزل الآية على جماعة ولكنها تمتدّ إلى الجماعات كلّها في واقع الإنسان في العالم.
ولهذا فإن القرآن الذي جعله اللّه سبحانه وتعالى كتاب الإنسان في الحياة بحيث يستلهمه في كلّ ما يواجهه من قضايا ومشاكل وتطورات ومتغيرات، يحتاج إلى فهم أكثر عمقاً، وحركية وحيوية في واقع الإنسان. ولكن المسلمين جمّدوه وحصروه في دوائر صغيرة وأدخلوه في خلافاتهم بحيث فرض كل فريق رأيه على القرآن وأخضعه لما يرتأيه بدلاً من أن يخضع رأيه للقرآن، ولذلك تجمّد القرآن فينا وأصبحنا نتحرك به على أنه كتاب محدود المعاني باعتبار أنه محدود الكلمات، ولكنه في الواقع محدود الكلمات ولكنه منفتح المعاني.
كلّ شيء في الكتاب والسنّة:
وقد ورد في الحديث عن أبي الحسن موسى(ع) قال الراوي «قلت له أكلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه أو تقولون فيه». وهذا السؤال كان ناشئاً من  الجدل الذي كان يدور في الدائرة الإسلامية في زمن الأئمة(ع) حول ما إذا كان المسلمون يحتاجون إلى القياس الذي جاء به (أبو حنيفة) أو أنهم لا يحتاجون إليه، لأن أبا حنيفة كان لا يرى أن ما صحّ من السنّة، بالإضافة إلى الكتاب، يفي بالحاجات العامّة للإنسان فيما يراد له أن يعرف حكمه. ولذلك اعتمد القياس كما يقول بعض أصحابه من جهة انسداد باب العلم عنده بالأحكام الشرعية.
وقد تصدّى أئمة أهل البيت(ع) لهذا الاتجاه الذي يعتقدون أنه محق للدين لأنه يجعل الدين منطلقاً من خلال عقول الرجال في ظنونهم التي لا تبلغ الحقيقة. وقد ورد في الحديث «إن السنّة إذا قيست محقت». وهناك روايات كثيرة في هذا الخصوص، فحديث الإمام موسى الكاظم(ع) حول هذه المسألة يتصل بالردّ على أولئك الذين يقولون لا يكفينا ما جاء في كتاب اللّه وسنّة نبيه لتغطية الأحكام التي يحتاج الناس إلى معرفتها فيما يبتلون به.
«قال: قلت له : أكّل شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيه أو تقولون فيه؟ قال: بل كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيه». ونستوحي من هذا ما تحدّث به الحديث الأول من أن المشكلة ليست في  قصور كتاب اللّه وسنّة نبيّه ـ والعياذ باللّه ـ عن تلبية الحاجات العامّة والخاصة للإنسان، مما يحتاج إلى أن يتعرّف أحكامه، بل المشكلة هي في جمود الذهنية التي تفهم كتاب اللّه.
معارضة الفهم الجديد للقرآن:
وعلى ضوء هذا نجد أن هناك فريقاً كبيراً من الناس وأهل العلم ممن يواجهون أي فهم جديد للقرآن ينطلق من خلال قواعد اللغة العربية، بالإضافة إلى القواعد الأخرى، بالكثير من التضليل والتكفير وغير ذلك، ولو أنهم رجعوا إلى اجتهادهم وعقولهم لرأوا أن للناس أن يفهموا القرآن بطريقة غير الطريقة التي فهمها العلماء السابقون. فإن للعلماء السابقين ثقافتهم وفهمهم وللآخرين فهمهم. فلقد فسّر الشيخ الطوسي القرآن وفسّره الطبرسي وفسّره آخرون، ولكنّهم لا يمثلون في تفسيرهم الحقيقة المطلقة وإنما يمثلون وجهة نظر معينة. فهم مجتهدون كبقية المجتهدين ولم يقف الاجتهاد عندهم، وعندما ننقد وجهات نظرهم فإننا لا نسيء إليهم، بل إنك عندما تنقد فكر شخص فإنك تحترمه تماماً كما كانوا ينقدون من كان قبلهم أو في عصرهم. وإذن فمن حق العلماء الآخرين أن ينقدوا بعضهم أو من سبقهم. كما أننا إذا كنّا لا نقدّس الشيء القديم فيما أتى به العلماء القدامى فلسنا نقدّس الشيء الجديد فيما يأتي به العلماء المحدثون. وتبقى القضية مورداً للنقاش والاجتهاد وبذلك نخرج الواقع الثقافي الإسلامي في فهم الكتاب والسنّة عن الغوغائية التي قد تكون «غوغائية مثقّفة». ينطلق بها مثقفون، ولكنهم يتحرّكون بها من خلال غرائزهم وتقديسهم للماضي. ونحن لا نقدّس إلا من جعلهم اللّه مقدسين وهم النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع).
تمحيص الروايات:
ولذا فإن علينا أن ندقّق فيما ورد عن رسول اللّه(ص) وأئمة أهل البيت(ع) من أحاديث، لأنه كثرت الكذّابة عليه وعليهم هنا وهناك. ونحن معنيون بأن نأخذ ما صحّ عن رسول اللّه(ص) وأئمة أهل البيت(ع) ولسنا معنيين بأن نأخذ كلّ ما روي عنهم سواء كان ذلك متصلاً بتفسير القرآن أو بتفسير السنّة، لأن اللّه تعالى، قال {وَمَا اتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ }(الحشر/7). فهل هذا مما أتانا الرسول أو ليس منه، وليست المسألة هل نطيع الرسول أو لا نطيعه؟ هل نقبل قوله في تفسير هذه الآية أو لا نقبل؟ فتفسيره للقرآن تفسير المعصوم الذي لا يخطئ، لأن اللّه أراد لنا أن نأخذ القرآن من الرسول(ص) لفظاً ومعنى، ولكن السؤال هو : هل قال الرسول(ص) هذا أو لم يقله؟
وقد ركّز الأئمة(ع) كما ركّز الرسول(ص) في بعض أحاديثه في مواجهة ركام الأحاديث التي ربما تتدخل في تبيان بعض المفاهيم التي تختلف مع مفاهيم القرآن أو مع مفاهيم السنّة القطعية، فربما يأخذ بعض الناس حريته ويحاول أن يؤوّل القرآن لمصلحة هذه الأحاديث التي يخالف ظاهرها  القرآن. فلحفظ القرآن والسنّة الصحيحة أطلق الأئمة(ع) الصيحة في أن علينا أن نعرض الأحاديث كلّها على القرآن وعلى سنّة النبي(ص) التي ثبت صدورها عنه.
ففي الحديث عن أبي عبد اللّه الصادق(ع) قال «قال رسول اللّه(ص) إن على كلّ حق حقيقة». أي أصل ثابت مستند يشهد لها.«وعلى كلّ صواب نوراً». والصواب هنا في مقابل الخطأ، أي أن في القرآن  نورا يدلّ على الصوابية. «فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فدعوه». فمعرفة الحقيقة والصواب تنبع من القرآن ذاته، فلو عرض علينا مفهوم أيّا كان قائله أو من خلال آية ورواية، فلابد أن نعرف هل أنه يلتقي بالمفاهيم القرآنية أو أنه يتعارض معها. فإذا التقى بها أخذناه لأن لقاءه بالقرآن دليل على أنه حق لأن القرآن هو الحق {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْه ولا من خلفهِ}(فصلت/42). أمّا إذا خالف كتاب اللّه في مفاهيمه بحيث كان الكتاب يتحدث في هذه المسألة عن المفهوم الفكري وكان هذا يتحدث عمّا يخالفه فإن علينا أن نطرح المخالف.
المقياس في معرفة الاختلاف:
وفي الحديث عن أبي عبد اللّه(ع) قال بعض أصحابه «سألت أبا عبد اللّه(ع) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به». فلدينا ركام من الأحاديث، والظاهر من ذلك أن الاختلافات كانت موجودة حتى في عهد الإمام الصادق(ع). فهذا يروي عنه شيئاً والآخر يروي شيئاً آخر، فكيف نفعل إزاء هذا الركام من الأحاديث؟ قال «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه(ص) فخذوا به وإلا فالذي جاءكم به أولى به». أي أرجعوه لصاحبه ليعمل به وحده.
فهذا هو المقياس الدقيق لمعرفة الاختلاف في الأحاديث. وفي الحديث عن بعض أصحاب الإمام الصادق(ع) يقول «سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول: كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة». فليحمل الناس من المفاهيم والأفكار والأحكام ما شاءوا، ولكن عليهم إذا أرادوا أن يعرفوا الحقيقة في ذلك أن يردّوه إلى الكتاب والسنّة، فما وافقهما يؤخذ به. «وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف». أي أن ظاهره أنيق ولكن باطنه خاو.
وعن الإمام الصادق(ع) قال «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف». وعن أبي عبد اللّه(ع) قال «خطب النبي(ص) بمنى قال: أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله». فلقد أراد أن يربط الناس بالقرآن على أساس أنه الأصل، وأراد أيضاً أن يكذّب الكذّابة التي كثرت عليه بإرجاع الناس إلى القرآن فلا يتركهم يستغلّون قداسته عند الناس ليقدّموا إليهم أحاديث خلاف القرآن.
اختلاف الفقهاء:
وروي عن بعض أصحاب الإمام الصادق(ع) قال «سمعت أبا عبد اللّه يقول من خالف كتاب اللّه وسنّة محمد(ص) فقد كفر». والمراد هنا المخالفة الاعتقادية، أو إنكار ما ثبت بشكل أساسي عن النبي(ص) ومن الحقيقة الإسلامية. قال علي بن الحسين(ع) فيما روي عنه «إن أفضل الأعمال عند اللّه ما عمل من السنّة وإن قلّ». أي أن على الناس أن يلتزموا ولو بالقليل من السنّة النبوية الشريفة، فإن وافق هذا القليل السنّة، وكان يمثّل الحقيقة فيها فإنه من أفضل الأعمال عند اللّه.
وعن أبي جعفر الباقر(ع) «سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال الرجل إن الفقهاء لا يقولون هذا». كما نلاحظ ذلك اليوم فيما لو أن عالماً أفتى بفتوى جديدة فإن الناس يقولون إن العلماء لا يقولون بهذا وكأن قول العلماء هو حجّة على المفتي، مع أن القضية تخضع للأدلة الاجتهادية فهم علماء وهو عالم.
«فقال الرجل إن الفقهاء لا يقولون هذا، فقال : يا ويحك وهل رأيت فقيهاً قطّ؟! إن الفقيه حق الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة». الذي لا يدفعه طمعه في الدنيا إلى أن يبيع آخرته بالفتيا واتّباع السلطان «المتمسّك بسنّة النبي(ص) ». وهل المتمسكون هم العاملون بالأهواء وبالظنون وغير ذلك؟!
وعن الإمام الصادق(ع) عن آبائه عن أمير المؤمنين(ع) «قال رسول اللّه لا قول إلا بعمل». فلا قيمة للقول إذا لم يوافق العمل «ولا قول ولا عمل إلا بنيّة». لأن الأعمال بالنيّات، فالنيّة هي روح العمل وهي التي تعطيه معناه وحيويته. «ولا قول ولا عمل ولا نيّة إلا بإصابة السنّة». أي أن تكون الأقوال والأعمال والنوايا مصيبة لسنّة رسول اللّه التي تتحرك في خط كتاب اللّه الذي يقول {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى   إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}(النجم/3-4). ويقول {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ  لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ  ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ  فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }(الحاقة/44-47). فكلّ ما تعدّى السنّة ردّ إليها.
شواهد من بعض الأحاديث:
فنحن ننطلق في هذا الخط وهو إرجاع كلّ ما ورد من أحاديث إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه، فمن بين الشواهد على ذلك ما ورد في بعض فتاوى العلماء من كراهية تزويج الأكراد  والسود وأهل السند، والكراهية ناتجة من أن هناك سلبيات في أصل خلقهم وإنسانيتهم. فعندما تمرّ بنا مثل هذه الأحاديث ونعرضها على القرآن نلاحظ أنه يقول  { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا }(الإسراء/70). فاللّه تعالى كرّم الإنسان بإنسانيته ولا ينقص من موقع إنسانية الإنسان أن يكون كردياً فهذا أمر لا علاقة له بمسؤوليته، فلقد خلق العربي من عنصر وخلق الكردي من عنصر آخر، فكيف تكون قيمة الإنسان سلبية لمجرد النظر إلى عنصريته؟! ونفس الشيء يقال بالنسبة للزنجي أو السندي. وهذا ما استوحاه السيد الشهيد الصدر (رض) من القرآن.
وهناك مثلاً روايات تفسّر ثلثي القرآن بأهل البيت(ع) في حين يقول صاحب الميزان أن بعض الآيات لا تعني أنها وردت فيهم تحديداً، وإن كانت هناك آيات نزلت فيهم بشكل خاص. فالآيات الأخرى تعني أن أهل البيت(ع) يمثّلون النموذج الأكمل للمفهوم القرآني، أي الاستدلال على عظمة أهل البيت(ع) من خلال انطباق المفاهيم القرآنية الإيجابية عليهم، ولذلك يقول بعض العلماء إن القرآن لا يختص بهم فقط وإنما يمثل النماذج التي يصدق عليها المفهوم أو العنوان القرآني، وغاية ما هناك أن أهل البيت(ع) يمثلون النموذج الأكمل في ذلك.
لهذا فإن علينا أن نفهم القرآن من خلال القواعد التي يرتكز عليها الفهم القرآني، من خلال الاستعارة والكناية والمجاز والمعاني الحقيقية، بحيث يمكننا أن نقدّم القرآن إلى الإنسان في كلّ عصر ليجد فيه حلّ مشاكله ومعالجة قضاياه وتوجيهه إلى أن ينفتح على المستقبل ويواكب حركة التطوّر العلمي الإنساني بما لا يتنافى مع المفاهيم الإسلامية، وبذلك نستطيع أن نكبر بالقرآن وأن نتطوّر بالقرآن وأن ننفتح على قضايا الإنسان في العالم من خلال المفاهيم القرآنية. ولكن مشكلة القرآن كما وصفها الإمام(ع) أن عقول الرجال لا تبلغه، لأن الذين يفهمونه لا يتعمّقون فيه بالدرجة التي يمكن أن يبلغوا فيها معناه وأسراره وحيويته في قضايا الناس.  والحمد للّه رب العالمين.( )

 
المحاضرة الثالثة والعشرون: 19ربيع الآخر 1420 هـ الموافق 1/8/1999م



دور اللسان في حياتنا

* باللسان يمكنك أن تعمّر الدنيا وأن تخرّبها *





جارحة اللسان
تركيز الأحاديث على اللسان
خطورة اللسان
حفظ اللسان
المعرفة بالزمن
عصرُ كفر وانحراف
فضل الكلام وذمّه
سجن اللسان
حقيقة الشيعي

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
جارحة اللسان:
ليس هناك عضو من أعضاء الإنسان يحمل خطورة في جانبيه الإيجابي والسلبي كاللسان، لأننا عندما ندرس دور أي عضو من هذه الأعضاء، فإننا نجد أن مهمته في الخير أو في الشر مهمة محدودة بحدود معينة في العناوين العامة للخير والشر، ولكن اللسان هو الذي يدير حركة الحياة في مواقعها كلّها.
فباللسان ومن خلال ما يصدر منه يمكن أن تعمّر الدنيا ويمكن أن تخرّبها، ويمكن أن تفتح عقل الإنسان على الحق، ويمكن أن تفتحه على الباطل، ويمكن أن تثير فيه الفتنة ويمكن أن تحقق به الوحدة. ولذلك نجد أن العناوين الاجتماعية والفردية في البعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني التي تتصل بمهمة اللسان ودوره تشمل حركة الإنسان في الواقع كلّه.
تركيز الأحاديث على اللسان:
ولهذا نلاحظ أن ما ورد في الأحاديث عن النبي(ص) وعن أهل بيته كثير في اللسان وفي دوره وانضباطه وتوعيته وتوجهيه، مما لم يرد في مهمة أو مسؤولية أي عضو آخر. ولا بد أن نتوقف عند ذلك من أجل أن نعرف كيف نحرك مسؤولياتنا في حركة اللسان، لأن ذلك يتصل بحياة الإنسان مع ربه مع نفسه عندما يحدّث نفسه، وفي حياة الإنسان مع الإنسان ونداءاته وتحليلاته واستنتاجاته فيما يطلقه الناس في الجانب السياسي أو الاقتصادي مما يمكن أن يعطي الحياة جانب السلب أو الإيجاب.
ولذلك ارتبط المصير بالآخرة بحركة اللسان في الدنيا، وهذا ما تحدّث عنه النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) في الجانبين السلبي والإيجابي. فنحن نقرأ في هذا الباب أن شخصاً جاء رسول الله(ص) وطلب منه وصية، وعندما يطلب شخص من رسول الله(ص) وصية فإنه يريد وصية تشمل جوانب حياته كلّها مما يمكن أن يكون السير عليها إنقاذاً له في مواقعه كلّها. فما كان من النبي(ص) إلاّ أن قال له: «احفظ لسانك، قال يا رسول الله: أوصني، قال: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم». من كلمات الكفر والشرك والباطل والغيبة والنميمة والكذب وإيذاء الناس وسبّهم والفحش معهم وكلمات الفتنة وغيرها، فهذه هي التي تجعل الناس يدخلون النار.
خطورة اللسان:
ونقرأ أيضاً في الحديث عن الإمام علي بن الحسين(ع) في صورة تقريبية لخطورة اللسان من خلال موقف الأعضاء منه، قال: «إن لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه كلّ صباح، فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون بخير إن تركتنا». أي أنك إذا تركتنا ولم تأتِ بكلام يسخط الله ويجعلنا في موقع عذابه، أو بكلمات تتعبنا وتهدّد مصيرنا فنحن بخير ونجاة، لأن الكلمة قد تقطع اليد وتفقأ العين وقد تقتل الإنسان تماماً.
«ويقولون الله الله فينا، ويناشدونه ويقولون: إنما نثاب ونعاقب بك». فأنت سرّ الثواب إن أطلقت الكلمات التي يحبها الله وسرّ العقاب أن أطلقت الكلمات التي لا يحبّها الله.
وكان الإمام الصادق يحذّر أصحابه من الكلمات غير المسؤولة التي قد تذيع سرّ أهل البيت وقد توّرطهم في مشاكل كثيرة تهدّد حياتهم وتهدّد المسيرة الصالحة لشيعتهم، لأن بعض الناس قد يفشون السرّ ولأن بعضهم قد يتكلمون بالكلمة التي تورّط المجتمع في فتنة أو تدخله في حرب، أو تمكّن الظالم من المجتمع.
يقول أحد أصحاب الإمام الصادق(ع) وهو أبو علي الجوّاني «شهدت أبا عبد الله(ع) وهو يقول لمولى له يقال له (سالم) ووضع يده على شفته، وقال يا سالم احفظ لسانك تسلم ولا تحمل الناس على رقابنا». وهذه الوصية لا تقتصر على سالم فقط بل تشمل كلّ مجتمع يخضع لقيادة صالحة أو يتحرك في حركة جهاز يخطّط لقضية تخدم مصلحة المجتمع إن في سياسته أو في اقتصاده أو أمنه. أو قد يكون الإنسان من فئة إذا قام بعض أفرادها بعمل فإن الظالمين يحمّلون الفئة كلّها المسؤولية عن ذلك، أو أنهم يربكون واقع هذه الفئة بما يفرضونه عليها من القيود والحصار وما إلى ذلك.
فعندما تعيش في مجتمعٍ ما، فإن عليك في كلماتك كلّها أن تدرس النتائج الإيجابية والسلبية في الجانب السياسي والاجتماعي في حركة هذه الكلمة، فلا تحمل الناس على رقاب القيادة الصالحة أو الجماعة الصالحة... ولذلك فعلينا أن نتحمّل مسؤولية ما ننتمي إليه ومن ننتمي إليه في ساحة الصراع والتحديات، فلا نحرّك كلماتنا في هوى أنفسنا أو في انفعالاتنا أو في حماسنا، بل لا بدّ أن نحرّك الكلمات في تخطيط عقولنا، لأن العقل هو الذي يحدّد للكلمة المصلحة والمفسدة والحق والباطل والخير والشر.
حفظ اللسان:
وتنطلق الوصية في أسلوب آخر حينما تتوجه إلى شخص لا يمثل ذاته في هذه الوصية، ولكنه يمثل الجماعة التي يأخذ عنوانها. يقول حضرت أبا الحسن(ع) والمراد الإمام الكاظم(ع) وقال له رجل أوصني؟ فقال: «احفظ لسانك تعزّ ولا تمكّن الناس من قيادك فتذلّ رقبتك». أي ادرس كلمتك حتى لا تنحرف بك إلى قول كلام لا فائدة فيه لقضيتك أو وضع الخطّة التي تؤمن بها وتعمل لها، ولكنها قد تكون من خلال شهوة الكلمة أو انفعال الذات بحيث تنطلق الكلمة من حالة انفعال، فتخضع رقبتك لمن يضلّها مستغلاً كلمتك التي لم تنطلق من موقع دراسة ومسؤولية.
وقد ورد عن أبي عبد الله(ع) أنه قال لرجل وقد كلّمه بكلام كثير «أيها الرجل تحتقر الكلام وتستصغره». ولقد علّقنا فيما سبق على الموقف الإسلامي السلبي من كثرة الكلام، في حين أن الإمام هنا يوجه إلى هذا الرجل، بالقول: «إن الله لم يبعث رسله حيث بعثها ومعها فضة ولا ذهب ولكن بعثها بالكلام. وإنما عرّف الله نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والإعلام». فالكلام عندما ينطلق بالحق وبما يصلح الناس وبما يهديهم إلى الحق فإنه يرفع درجة الإنسان عند الله سبحانه وتعالى.
المعرفة بالزمان:
وقد جاء عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال في كلمة آل داود، والأئمة(ع) يتحدثون بين وقت وآخر عن الرسالات السابقة باعتبار أن كلام الله واحد، وأنه سبحانه كان يلهم أنبياءه فيتمكنون بها من أجل إيجاد حالة التوازن في حياة الناس ليأخذوا بالحكمة ويضعوا الأشياء في مواضعها. وقد ورد أن القرآن الكريم جاء: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}(البقرة:97). ولم يأت بالجديد في كلّ ما أتى به، بل جاء ليكمل الرسالات التي بدأت.  «قال في حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفاً بأهل زمانه». لأن الكلام ينطلق من العلم والمعرفة والعقل، فلا بد للإنسان أن يعرف عصره وأهل عصره، كيف يفكرون وكيف يتحركون وكيف يركّزون علاقاتهم وكيف يفهمون الحرب والسلم والوعي والتخلّف. فالإنسان الذي يعيش عصره وهو لا يفهمه هو إنسان يعيش العمى العقلي والعمى الروحي والعمل الحركي في حياته، ولعلّ مشكلة الكثير من العلماء والمصلحين، وهم المخلصون لعملهم ولرسالتهم أنهم يعيشون خارج عصرهم، بين من يعيش في زمن ما قبل الألف عام، ويقرأ الكتب التي ألفت آنذاك مما يمثل تجربة العالم أو المفكر في ذلك المجتمع، ولكنه لا يدرس الواقع الذي يعيشه مجتمعه الآن.
ونحن نعرف أن الذهنية لغة، فكما أنك لا تستطيع أن تكلم من يعرف العربية بالإنجليزية لا يمكن أيضاً أن تكلم من يعيش ذهنية القرون الوسطى في طريقة تفكيره ومواجهته للأشياء بذهنية معاصرة، والعكس صحيح. لذلك جاء التأكيد في أكثر من حديث على أن يكون العاقل عارفاً بأهل زمانه، والربط بالعقل يوحي بأن من العقل ذلك، لأن العقل يريد منك أن تندمج في مجتمعك وتحقق برسالتك فيه، وأن تدخل فكرك إلى عقول المجتمع الذي يعيش معك، وأن تتحرك معهم للتكامل معهم.
عصر وكفر وانحراف:
وقد يقول الناس إن هذا العصر هو عصر كفر وفساد وانحراف فعلينا أن نرفضه، ولكننا نقول لأنه عصر كفر وفساد وانحراف فلا دب لنا أن نفهمه حتى ننقله من الكفر إلى الإيمان، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الانحراف إلى الاستقامة. وهل جاء الأنبياء(ص) في عصر خير كله؟ أم أن كل نبي جاء إلى مجتمعه وحيداً وكان المجتمع كله ضده ولكنه بدأ بالواحد والاثنين والثلاثة إلى أن دخل الناس في دين الله أفواجاً.
فإذا كنت صاحب قضية ورسالة فلا بد لك أن تدرس عصرك، وأقول لكم ناصحاً، اقرأوا 75% في كتاب الواقع و25% في الكتب المسطورة، لأنك لن تستفيد مما في الكتب إلا إذا فمهت الواقع. ولهذا حدثنا الله تعالى عن أن النبي(ص) وكل نبي جاء بالكتاب والحكمة. فالكتاب هو خط النظرية، والحكمة هي خط التطبيق، فعليكم إذاً أن تحركوا الكتاب في مواقع الناس بأن تدرسوا عقولهم لتدخلوا فيها. فكما أننا نريد مهندساً يشق الطرقات، نريد كذلك مهندساً يشق الطريق إلى العقول. فما يمكن الوصول إليه في مسافة كليو مترين قد يتسبب في حوادث مؤسفة كثيرة، لكن الهندسة قد تجعل المسافة ثلاثين كيلو متراً لكنها محفوفة بالأمن والسلامة. وعلى ضوء ذلك فنحن نحتاج إلى أن يشق الطريق إلى عقول الناس فيما نقوله وما نتّبعه من الأساليب وأن ندرس خلفياتهم: ما هي نقاط ضعفهم وما هي نقاط قوتهم، وعلى هذا الأساس يتم البناء {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53).
وعوداً إلى حديث الإمام الصادق(ع) قال: «في كلمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفاً بأهل زمانه مقبلاً على شأنه». واعياً لمسؤولياته وحياته ومدبّراً لأموره، وأن لا يعيش اللامبالاة فيما يتصل بحياته ومسؤولياته بل يكون مقبلاً، واعياً ومنفتحاً على كلّ مفردة من مفردات حياته بحيث لا يصدر منه شيء إلا وقد فكر فيه وانفتح عليه «حافظاً للسانه» بحيث يملك لسانه بشكل دقيق كيما ينظّم للسان كلماته حتى تتحرك ضمن النظام العام.
فضل الكلام وذمّه:
في وصية أمير المؤمنين(ع) لولده محمد بن الحنفية، قال: «وما خلق الله عز وجل شيئاَ أحسن من الكلام ولا أقبح منه». هو الأقبح في جانب وهو الأحسن في جانب. «بالكلام ابيضت الوجوه». هو الأقبح في جانب وهو الأحسن في جانب. «بالكلام ابيضت الوجوه». عندما انطلقت الكلمات فيها ضوء الحق كله ونور الاستقامة كلها. «وبالكلام اسودت الوجوه» واعلم أن الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به». فقبل أن تطلق الكلمة سواء كانت مسموعة أو مكتوبة، وقبل أن توقع بلسانك أو بيدك فكر في الكلمة وطبيعتها، هل لك فيها مصلحة أو مفسدة؟ هل تجرك إلى الجنة أو إلى النار؟ هل تخلق لك مشكلة أو تحل مشكلة؟ «فالكلام في وثاقك» فأنت تمسك بزمامه بحيث يمكنك أن تطلقه وأن تحبسه «ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه». فالكلمة عند ذلك تسجنك في مسؤوليتك لأنها مسؤوليتك، فعندما تلتزم بعقد مع شخص في بيع أو شراء أو إجارة أو في زوجية، فإن عليك أن تفكّر قبل أن تطلق الكلمة. وإذا أطلقتها فعليك أن تلتزم بتبعاتها كلّها، وأن تتحمّل نتائجها كلّها، فلا تقل كيف تكلّمت بعد أن تتكلم، ولكن قل كيف أتكلّم قبل أن تتكلم. «واعمل أن الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك». لأنك قد تخسر إذا لم تخزن ذهبك وفضتك بعض المال، وكذلك عندما لا تخزن كلامك فقد تخسر حياتك ومصيرك. «فإن اللسان كلب عقور». كما هو الكلب عندما يهدم في حالة هيجانه ويعقرك «فإن أنت حلّيته عقر». أي إذا لم تضبطه عقرك. «وربّ كلمة سلبت نعمة من سيّب عذاره إلى كل كريهة وفضيحة ثم لم يخلص من دهره إلاّ على مقت من الله وذمّ من الناس».
سجن اللسان:
وجاء في الحديث عن الإمام علي(ع) وهو ينوّع الأساليب في تصوير القضية «ما من شيء أحقّ بطول السجن من اللسان» ليكون أمره بيدك في هذا وذاك.
ويقول بعض أصحاب الإمام الصادق(ع) وهو سليمان بن مهران: «دخلت على الصادق جعفر بن محمد(ع) وعنده نفر من الشيعة فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً». أي كونوا الناس الذين إذا نسبوا إلينا تزينّا بهم كما يتزيّن الإنسان بأصحابه ولا تكونوا من الناس الذين إذا نسبوا إلينا تعيّبنا بهم «قولوا للناس حسناً». عندما تتحدّثون مع الناس ليكن حديثكم الحديث الحسن الذي لا يثير مشكلة ولا فتنة ولا يدخلكم في أمر يفسد حياتكم. «واحفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول». أي عن الكلام الذي لا يعنيكم ولا مصلحة لكم به. وفضول الكلام هو الكلام الذي لو عفرتموه لم ينفعكم وإذا لم تعرفوه لن يضرّكم، وهو الذي لا علاقة لكم به لأنه لا يتصل بعقيدتكم ولا بشريعتكم ولا حركات حياتكم تماماً كطواحين الهواء.
ولقد أراد الأئمة(ع) من شيعتهم أن لا يتحدثوا بالكلام الذي يعقِّد علاقتهم بالمسلمين الآخرين لأن الله أراد للمسلمين مهما اختلفوا ومهما سار أحد خطوط الباطل وامتد، أن يكونوا إخوة، وكلمة (المؤمنون) في القرآن في قوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10]. يراد بها المسلمون كلهم الذين يلتزمون الإسلام عن إيمان، وهذا ما ذكره علماؤنا ومنهم أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي(رض) الذي ذكر في كتاب فقهه أن كلمة (الذين آمنوا) أو (المؤمنون) في القرآن يراد بها دائماً كل المسلمين الذين يلتزمون بالإسلام عن عقيدة. وربما ترد كلمة (المؤمن) في مصطلحات أهل البيت(ع) ويراد بها الرجل العارف، ولكنها في القرآن تعني المسلم الذي يعتقد بالإسلام.
وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) قال: "ما أيسر ما رضي الناس به منكم كفوا ألسنتكم عنهم" حتى يقولوا رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدّب أصحابه. فإن هذا من الأدب. ولقد كان الكلام هو مشكلة الأئمة(ع) مع شيعتهم، حتى قال أحد الأئمة عن بعض أصحابه الذين عذبوا "إن فلاناً ابتلي بالإذاعة فأذاقه الله حر الحديد". أي إذاعة السر.
حقيقة الشيعي:
وفي الحديث عن أبي جعفر محمد الباقر(ع) قال: "يا فضيل أبلّغ ما لقيت من موالينا عنا السلام". ونحن من مواليهم وهذا السلام يصلنا لأن الإمام(ع) يتصل بمواليه في زمانه وفي المستقبل لأنه إمام الحاضر والمستقبل. "وقل لهم إني لا أغني عنهم من الله شيئاً إلا بالورع". فلا يقول الشيعي إنني أحب الأئمة ولا مشكلة إذا زينت وسرقت وتعاملت مع الظالمين وتجسست لحسابه انطلاقاً من مقولة "حب علي حسنة لا يضر معها سيئة". بل لا بد أن يفهم ذلك على ضوء المنهج القرآني {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً} [النساء؛ 123]. وهذا المفهوم أكده أهل البيت(ع) كما عن الباقر(ع) "من كان ولياً لله فهو لنا ولي ومن كان عدواً لله فهو لنا عدو والله ما معنا براءة من النار وما تنال ولايتنا إلا بالورع".
ونرجع إلى وصية الإمام الباقر(ع) لفضيل "وقل لهم إني أقول إني لا أغني عنكم من الله شيئاً إلا بالورع". كونوا الورعين وسأكون شفيعكم في يوم القيامة، أما الحب المجرد فلا يكفي. وفي حديث للإمام الباقر(ع) "أفحسب الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاه ثم لا يكون فعالاً". والله تعالى يقول: {وقل اعملوا} [التوبة:105]. وقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} [آل عمران:31]. فالحب في الإسلام ـ كما أكدنا مراراً ـ ليس فقط نبضة قلب بل هو موقف بأن يكون موقفك في خط الرسالة، فالفرزدق يقول للإمام الحسين(ع) "قلوبهم معك وسيوفهم عليك". وفي السيرة الحسينية أن عمر بن سعد عندما جاءته زينب(ع) رأته يبكي لأنه يحب الحسين(ع) لكنه يحب جيبه وأطماعه أكثر من حبه للحسين.
"فاحفظوا ألسنتكم". فأنتم جزء من مجتمع ومن خط فلاحظوا تأثير كلماتكم السلبي أو الإيجابي على الخط الذي تنتهجونه فعندما تنطلق كلمتك من خلال انعكاسها السلبي على مجتمعك وعلى من يماثلك في الانتماء فعليك أن تتحفظ في كلماتك. "وكفوا أيديكم وعليكم بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين".
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه(ع) "إن رسول الله(ص) قال إن على لسان كل قائل رقيباً فليتق الله العبد ولينظر ما يقول". ليحدد ما يقول وليفكر فيما يقول. ونسأل الله أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم إنه أرحم الراحمين.
 
المحاضرة الرابعة والعشرون: 25ربيع الآخر 1420 هالموافق 7/8/1999م




كيف نكافح السُباب في علاقاتنا؟


* السُباب لا يتصل بمن تسبّ بل بأخلاقيتك وأسلوبك في التعامل *




أخلاق الإسلام
الخط الإسلاميّ للسباب
مكسب السبّ: العداوة
سبّ المؤمنين
موقف الإمام علي(ع) من السبّ
تجربة علي(ع) الحربية
منطق التكفير السائد
السبُّ غير البراءة
الوسيلة الأفضل لكسب الناس


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
أخلاق الإسلام:
أن نكون مسلمين يعني أن نعيش أخلاقية الإسلام مع الناس جميعاً، لأن أخلاقية الإسلام لا تفرّق بين إنسان وآخر. فاللّه يريد للإنسان المسلم أن يعيش أخلاقيته في نفسه بحيث يكون إنسان القيمة الإسلامية. ويريد له أن يقتدي برسوله(ص) الذي كان يعيش قمة الأخلاق مع الكافرين قبل المسلمين، ولقد كان قرآناً كله في أخلاقه. فعلينا أن ندرس أخلاق الإسلام في أنفسنا وفي علاقتنا بالآخرين.
فنحن نعرف أن في الأخلاق خطوطاً سلبية وهي الأخلاق التي لا يريد اللّه للإنسان أن يتصف بها وخطوطاً إيجابية يريد له أن يتصف بها. وإذا تأملنا في الكلمة الواردة عن رسول اللّه(ص) «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». فإننا نفهم أن الإسلام كلّه حركة أخلاق، فالأخلاق تشمل الفقه كلّه والمنهج كلّه والأسلوب كلّه.
ومن بين الأخلاق السلبية التي ركزّ اللّه سبحانه عليها في كتابه نهياً هو (السباب). ونحن في الشرق قوم نتحرك في علاقتنا السلبية مع بعضنا البعض بهذا الأسلوب. فنحن نسبّ الذين نختلف معهم في الدين، أو نسّب الذين نختلف معهم في المذهب، ونسّب الذين نختلف معهم في الخطوط السياسية والاجتماعية والعلاقات الشخصية. حتى أننا لو نفذنا إلى أغلب البيوت لرأينا الزوج يسبّ زوجته، والأبّ يسبّ أولاده، حتى أصبح السباب طابع الحياة العامّة والخاصّة عندنا، بل تحوّل الأمر إلى مشكلة في العلاقات بين الناس.
الخط الإسلامي للسباب:
وهنا نحاول استهداء الخط الإسلامي للسباب في الكتاب والسنّة. ففي الكتاب يقول اللّه سبحانه وتعالى وهو يوجّه الخطاب للمسلمين الذين عاشوا الصراع كأعنف ما يكون الصراع مع المشركين. وقد ساهم المشركون بحروبهم المتوالية في تعطيل حركة النبي(ص) في الدعوة. ولولا أن اللّه فتح لنبيّه الكثير من الآفاق وهزم الشرك حتى دخل الناس في دين اللّه أفواجا، لكانت المرحلة مرحلة تملؤها الحروب والمنازعات.
يقول اللّه سبحانه وتعالى في الأدب الإسلامي حتى مع المشركين والكافرين {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}(الأنعام:108). فاللّه تعالى لم يحرّم سباب المشركين لأنهم لا يستحقون السبّ فهم بشركهم وكفرهم وظلمهم للإسلام وأهله يستحقون كلّ الصفات التي تتمثل في السباب، ولكن اللّه سبحانه وتعالى أراد للمسلمين أن يأخذوا بالأسباب الاجتماعية لحفظ المقدسات الإسلامية أن تسبّ من قبل هؤلاء باعتبار أن الفعل يجتذب ردّ الفعل. فأنت عندما تسبّ مقدسات الآخرين فإنهم - بفعل هذا العنف الذي توجهه إليهم - سوف يبادلونك عنفاً بعنف مثله، فيسبّون مقدساتك {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}(الأنعام/108). لأنهم يجهلون اللّه ويجهلون عظمته وسبّكم لمقدساتهم لا يجعلهم ينفتحون على اللّه، بل سيكون ـ هذا السبّ ـ فعلاً سلبياً ـ يجتذب فعلاً سلبياً موازياً له أو أشدّ منه. واللّه تعالى يعلّل هذه المسألة بقوله { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}(الأنعام108). لأنكم كما ترون أن عملكم هو العمل الصحيح فإن الآخرين يرون أن عملهم هو العمل الصحيح، والسباب ليس هو الأسلوب الذي تثبت به للآخر فساد عمله، بل إنك تجعله يتعصّب أكثر.
مكسب السبّ العداوة:
وفي بعض الأحاديث عن رسول اللّه(ص) أنه جاءه رجل من بني تميم، فقال أوصني يا رسول اللّه، فكان فيما أوصاه أن قال «ولا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم». ونلاحظ في هذا الحديث أن الناس في عهد النبي(ص) لم يكونوا بأجمعهم مسلمين، ولذلك أراد النبي(ص) أن يبيّن أن السباب هو إحدى وسائل اكتساب العداوة، لأنك عندما تسبّ الإنسان فإنك تمتهن كرامته وتهتك حرمته وتثير في نفسه التعقيدات التي سوف تتحول إلى عداوة. واللّه يريد من المسلمين أن يحوّلوا أعداءهم إلى أصدقاء بدلاً من أن يحوّلوا أصدقاءهم إلى أعداء أو يحوّلوا الناس إلى أعداء {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت/34).
 ليكن أسلوبك مع الناس هو الأسلوب الذي تفتح به قلوبهم عليك وعلى ما تمثل، ليتحوّلوا بعد أن كانوا أعداء لدينك إلى أصدقاء لهذا الدين، أو أعداء لقضاياك إلى أصدقاء لقضاياك. فالإسلام يستهدف أن نربح صداقة العالم بأساليبنا الإنسانية،لأن الإنسان مهما كان معقّداً ومغلقاً فإن الكلمة الحلوة والأسلوب الحلو يزيل تعقيداته ويفتح قلبه. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }(آل عمران/157).
سبّ المؤمنين:
ونقرأ في السيرة، كيف أن رسول اللّه(ص) كان يؤكد هذه المسألة في علاقة المؤمنين بعضهم ببعض. ففي الحديث عن الإمام الصادق(ص) عن جده رسول اللّه(ص) «سبّاب المؤمن كالمشرف على الهلكة». أي أنك إذا سببت مؤمناً، والمؤمن هو المسلم الذي يعتقد الإسلام في قلبه، فإن سبّك إياه في نتائجه السلبية الأخروية من حيث عقاب اللّه يكون كما لو أنك أشرفت على الهلكة وهي النار.
وعن الباقر(ع) عن رسول اللّه(ص) «سباب المؤمن فسوق». لأن اللّه حرّم أن تسبّ المؤمن، فإذا سببت المؤمن فقد ارتكبت معصية من معاصي اللّه وبذلك تكون قد اكتسبت صفة الفسق، لأن الفسق هو تجاوز الحدّ الذي أراد اللّه للناس أن يقفوا عنده. «وقتاله كفرٌ». أي أن تكون مستحّلاً لقتاله من دون أن يكون هناك سبب شرعي للقتال. «وأكل لحمه معصية». وهو كناية عن الغيبة «وحرمة ماله كحرمة دمه». وقد جمع رسول اللّه(ص) في هذه الفقرات علاقة احترام المؤمن للمؤمن.
وفي الحديث عن الإمام الكاظم(ع) في رجلين يتسابّان قال: «البادي منهما أظلم». لأنه هو الذي فتح الباب للسباب. «ووزره ووزر صاحبه عليه». فالساب كان المباشر والسبب في ردّ الآخر عليه من دون أن يزول وزر الساب الآخر عنه. «مالم يعتذر إلى المظلوم». لأنه إذا اعتذر فإنه يزول سبب ذلك.
ويتحدث أحد أصحاب الإمامين الصادقين (الباقر أو الصادق) قال سمعته يقول «إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها». كمن يلعن زوجته أو جاره أو زميله فإن اللعنة واعية تفهم مسارها جيداً. «ترددت». أي تقف في الطريق متساءلة: هل أن الذي لُعن يستحق اللعنة أولا يستحقها «فإن وجدت مساغاً». انطلقت في طريقها «وإلا رجعت إلى صاحبها»( ). أي توجهت إلى صاحبها باللعن.
موقف الإمام علي(ع) من السبّ:
ونجد أن التعليم الإسلامي في سبّ الذين نختلف معهم في المذهب والخط ممثلاً في النهج الذي رسمه لنا الإمام أمير المؤمنين علي(ع) وذلك في (حرب صفين). فلقد قال: وقد سمع قوما من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين «إنني أكره لكم أن تكونوا سبّابين»( ). فأنا ـ أي أن علياً(ع) ـ يقول: لا أريد للمسلمين معي والسائرين في خطي أن يكون أسلوبهم في علاقتهم مع الآخرين، حتى لو اختلفوا معهم اختلافاً يصل إلى حدّ الحرب أسلوب البذاءات اللفظية.
ثم يبيّن لهم أن بإمكانهم أن يتحدثوا عنهم بلغة النقد لا بلغة السبّ، فيقول «ولكنكم لو وصفتم أعمالهم». أي لو قلتم أنهم خالفوا الشرعية الإسلامية فتمرّدوا عليها واتبعوا من لا يملك أية شرعية إسلامية ولم ينفتحوا على الحق واعتدوا على المسلمين وما إلى ذلك.
«وذكرتم حالهم». أي الواقع الذي كانوا فيه «لكان أصوب في القول ». لأن هذا القول هو الذي يفتح عقول هؤلاء الناس الذين تتحدثون إليهم عن طبيعة هؤلاء فينكرون عليهم ذلك ولا يتبعونه «وأبلغ في العذر». ولعذركم الناس في قتالكم عندما يعرفون السلبيات التي تعيش في المعسكر المعادي.
ثم أنه(ع) يعلّمنا أنك عندما تعامل مسلماً فلا تعش الحقد ضده، وعندما تنازع مسلماً فلا تحاول أن تحمل الرغبة في تدميره، ولتكن الإنسان الذي يفكّر بالإسلام دائماً بأن يجمع المسلمين وأن يخفّف من منازعاتهم. «وقلتم مكان سبّكم إياهم ربنا احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم». وهذا هو خط علي(ع) وهذه هي عظمة علي(ع) فلم يعرف الحقد إلى قلبه سبيلا.. كان يحب الذين يتفق معهم ليتعاون معهم علىالحق.. وكان يحبّ الذين يختلف معهم ليهديهم إلى الحق.. ومشكلتنا هي أننا لا نعيش رحابة عقل علي(ع) ولا رحابة قلبه لأننا لا نعيش خط علي الرساليّ، بل استبدلنا الرسالة بالعصبية، ولذلك أصبح المسلمون يعيشون روح التدمير لبعضهم البعض.
تجربة علي(ع) الحربية:
لقد حارب علي(ع) لا من موقع عقدة ضد الآخرين بل من موقع رسالة تفرضها مصلحة المسلمين، ولذلك قال «ربّنا احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به»( ).
ويحدّثنا علي(ع) عن تجربته في الحرب عندما سمع قوماً من أصحابه المنتظرين أن يأذن لهم بالقتال وقد استبطئوا إذنه لهم في القتال، فلم يأذن لهم لا في اليوم الأول ولا الثاني ولا الثالث، فقالوا «أكان ذلك شكّاً في أهل الشام أو كراهية للحرب؟!». فوقف فيهم، وقال «أمّا قولكم اكلّ ذلك كراهية الموت فو اللّه ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلي». فلا أكره الموت إن كان في خط الرسالة. «وأما قولكم شكّاً في أهل الشام فواللّه ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا اطمع تلحق بي طائفة وتعشوا إلى ضوئي وذلك أحبّ إلي من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها»( ).
فهو يقول إنه ليس هاوي حرب، بل إنه يستعمل الحرب كوسيلة ضغط فلعلّهم يرجعون، وذلك أفضل وأحبّ إليه أن يحاربهم حتى لو كانوا يستحقون الحرب.
منطق التكفير السائد:
وقد يقول بعض الناس إن الآخرين يكفّروننا ويضلّلوننا ويفسّقوننا، فلابد أن نقابل ذلك بالمثل تكفيراً بتكفير وتضليلاً بتضليل وتفسيقاً بتفسيق وحقداً في مقابل حقد. حتى أن بعض المسلمين، من هذا الجانب أو ذاك، أصبحوا يقولون كما كان اليهود يقولون عن المشركين { هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا}(سبأ/51). فلقد وصل الحدّ بنا في التعصّب في الواقع الإسلامي إلى أن يقول المسلم عن المسلمين الآخرين إن الكافرين أهدى منهم، في حين أن المسلم مهما بلغ من الانحراف فلا يمكن أن يكون الكافر أفضل منه لأن القضية هي قضية الإسلام والإيمان وهي الأساس في ذلك.
وهذا درس لابدّ أن نتعلّمه ـ أيها الأحبة ـ فلا فرق بين (السبّ) وبين (اللعن) وقد يقول البعض إن السبّ شيء واللعن شيء آخر فنحن لا نسبّ ولكننا نلعن. صحيح أن هناك فرقاً في المفهوم اللغوي، لكن في المنهج هما سواء.. وكما قلنا في البدء عما إذا كان فلان يستحق السبّ أو لا يستحق، فإننا نقول إن الكافرين والمعاندين والظالمين يستحقون اللعن، ولكن ثمة فرق بين استحقاقهم لذلك وبين حركتك في السبّ واللعن، باعتبار أن النتائج السلبية التي تحصل للإسلام والمسلمين أكثر من النتائج الإيجابية وليست هناك أية نتائج إيجابية في السبّ ـ فلقد فرّق الإمام علي(ع) بين السبّ والنقد..
وعلى ذلك أطلق حجتك ولا تطلق كلماتك البذيئة والنابية، حاول أن تدخل في حوار ونقاش ومناظرة.. حاول أن تحدّث الناس بالحق والحقيقة ولغة الأرقام.. فلو بقيت تسبّ إنساناً وتلعنه من الصباح حتى المساء، فهل يقنعه ذلك بالحق الذي أنت عليه، أم أنه يعقّده ضد الحق الذي أنت عليه ؟! وقد ذكرت لكم أكثر من مرّة أنّ الإمام جعفر الصادق(ع) كان من حديثه لأصحابه «ما أيسر ما رضي الناس منكم كفّوا ألسنتكم عنهم».
السبّ غير البراءة:
وقد كان أمير المؤمنين(ع) من رحابة الأفق بحيث يبيح لشيعته أن يسبّوه إذا كان في ذلك نجاة لهم، شريطة أن لا يعيشوا ما يريده الأعداء منهم وهو البراءة منه. ففي (نهج البلاغة) يقول(ع): «أما أنه سيظهر عليكم من بعدي رجل رحب البلعوم (كناية عن الشراهة ) مندحق البطن (عظيمها) يأكل ما يجد ويطلب مالا يجد فاقتلوه ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة مني، فأمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة، وأمّا البراءة فلا تتبرؤا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة»( ).
ويتحدث الأئمة(ع) عن الذين يكفّرون الناس، فالإمام الباقر(ع) يقول «ما شهد رجل على رجل بكفر إلاّ باء به أحدهما إن كان شهد به على كافر صدق وإن كان مؤمناً رجع الكفر عليه فإياكم والطعن على المؤمنين».( )
وعن الإمام الصادق(ع) «إذا قال الرجل لأخيه أفّ خرج من ولايته ـ أي ولاية المؤمنين لبعضهم البعض ـ وإذا قال: أنت عدوّي كفر أحدهما». لأن اللّه تعالى يقول{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات/10). فاللّه يقول لك هذا أخوك وأنت تقول إن هذا عدوّي فتخالف بذلك قول اللّه: «ولا يقبل اللّه من مؤمن عملاً وهو مضمر على أخيه سوءاً». ويقول الإمام الصادق(ع) «إ ن أبغض خلق اللّه عبد اتقى الناس لسانه»( ).
الوسيلة الأفضل لكسب الناس:
أيّها الأحبّة: لتكن أخلاقيتنا الإسلامية هي الوسيلة الفضلى لأن نربح قلوب الناس وعقولهم وحياتهم، وعلينا أن نكون أم الولد كما في قصة سليمان(ع) حيث جاءته امرأتان تختلفان في ولدٍٍ أيّهما أمّه. فقال سليمان تعالوا نقسم الولد بينكما نصفين فنعطي هذه نصفاً وتلك نصفاً، وهنا هرعت الأم الحقيقية فقالت: أعطها ولدي وليسلم، فقال لها: انت أمّ الولد.. فلنكن أم الولد في معنى الإسلام، فالأعداء يتربصون بالإسلام الدوائر ويريدون أن يسقطوا الإسلام في نفوس المسلمين، ويتربصون بالمسلمين الدوائر ليصادروا اقتصادهم ليكون على هامش اقتصادهم، وليصادروا سياستهم لتكون على هامش سياستهم، وليصادروا أمنهم ليكون على هامش أمنهم.. يريدوننا أن نكون مجرد هامش لا أكثر.
 فلتفتحوا ـ ايها الأحبة ـ قلوبكم للحب كما قال السيد المسيح(ع) والرسالات واحدة «أحبّوا أعداءكم». وليس المراد أن تحبّوا ما هم فيه من حقد وبغضاء ولكن أحبُّوا إنسانيتهم تفتحوها على الحق.. وعلينا ـ أيها الأحبة ـ أن نكون شيعة علي(ع) في الخط لا في الكلمة فهو القائل «لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة». فهل نبدأ التجربة ! فلننظف ألسنتنا من السباب كلّه، ونزرع بدلاً عنه ورود الحوار كلها، والموضوعية كلها، واحترام الإنسان كله، واحترام المؤمنين لبعضهم البعض، فنحن متعبون في بيوتنا ومتعبون في قرانا وفي مدننا وأوطاننا وأمتنا، فلماذا نعمل على أن نزيد تعبنا بهذه الأساليب؟
لنحاول أن نفتح قلوبنا للحب.. ولنقتد بكلمة علي(ع) «إحصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك». وعلينا أن نصبر على تعقيداتنا وعصبياتنا مهتدين بقوله  {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ}. والحسنة أسلوب الرفق والسيئة أسلوب العنف {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ  وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا}. والصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصلت/34-35). من الوعي وسعة الأفق ورسالية الخط والحياة. والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة الخامسة والعشرون: 3جمادى الأولى 1420 هالموافق 14/8/1999م




التوازن بين الخوف والرجاء

* التوازن بين الخوف والرجاء يجعل الإنسان لا يسقط أمام المعصية ولا يمتدّ فيها *




التوازن في الإسلام
الخوف والرجاء
الخوف والرجاء في أحاديث المعصومين(ع)
نور الخوف والرجاء
الخوف من اللّه
معرفة اللّه والثقة به
حقيقة الخوف والرجاء
الخوف عبادة
قصة ذات عبرة
بين مخافتين
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
التوازن في الإسلام:
الإسلام دين التوازن الذي يريد للإنسان أن يعيش في خط التوازن في علاقته باللّه، وخط التوازن في علاقته بنفسه، وخط التوازن في وقوفه بين الدنيا والآخرة كما هو خط التوازن في موقفه بين المادة والروح وبين الشخصية الفردية والاجتماعية، فلا يطغى جانب على جانب لأن المسألة تتصل بالخط المستقيم الذي يريد اللّه للإنسان أن يسير عليه.
الخوف والرجاء:
وحديثنا في هذه الليلة حول عنوان الخوف والرجاء، كيف هي علاقتنا باللّه، فنحن نتحرك في خط المسؤولية مما أمرنا اللّه به ونهانا عنه. ففي كثير من الحالات تدفعنا النفس الأمّارة بالسوء من خلال وسوسة الشيطان في داخلها إلى أن نقع في الخطيئة تارة، وننحرف عن الخط المستقيم أخرى. واللّه سبحانه وتعالى حمّلنا مسؤولية ما نخطئ فيه وتوعّدنا بالعذاب على ما نسيء به إليه، ولكنّه في الوقت نفسه فتح لنا باب المغفرة، وذكر لنا أن رحمته وسعت كلّ شيء. والناس في هذا الخط بين من يُطبق الخوف عليه فلا يأمل برحمة اللّه، وبين من ينفتح على رحمة اللّه فلا يخاف عقابه، وبذلك يعيش الفريق الأول في زنزانة روحية ونفسية ضيّقة يختنق فيها لأنه لا ينفتح على الأمل وعلى روح اللّه وبذلك يبقى كئيباً كاسفا باله قليل الرجاء.
وأمّا الفريق الثاني الذي يمتدّ الرجاء به بحيث ينسى مسئوليته وعقاب ربّه، فإن هذا الرجاء الواسع الممتد قد يدفعه إلى أن يمتد في الخطيئة على أساس أن اللّه غفور رحيم، وأنّه يغفر لمن يشاء، وأن رحمته سبقت غضبه، فيسرف ويتجاوز الحدّ. وكلا الفريقين لا ينفتحان على خط التوازن لأن اللّه يريد للإنسان أن يعيش الخوف في جانب من شخصيته فيشعر بأن غضب اللّه في انتظاره، وأن يعيش الرجاء في جانب من شخصيته فيشعر أن مغفرة اللّه أمامه.
هذا التوازن بين الخوف والرجاء يجعل الإنسان لا يسقط أمام المعصية ولا يمتدّ فيها، بل إنه إذا أخطأ استغفر حتى يتخلّص من عذاب اللّه ويبقى يأمل في رحمته.

الخوف والرجاء في أحاديث المعصومين(ع):
وقد حدّثنا رسول اللّه(ص) كما حدّثنا الأئمة من أهل البيت(ع) عن خط التوازن بأكثر من أسلوب. ففي الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال بعض أصحابه قلت له: ما كان في وصية لقمان؟ ونحن نلاحظ هنا أن الأئمة(ع) كما هو القرآن في خط الهدى الذي اهتدوا به يتحدثون كما تحدث عن لقمان، لأن اللّه آتاه الحكمة فلم يتحدث لغواً ولا هذرا بل كانت كلماته تنطلق من عين صافية.
«قال كان فيها الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف اللّه عز وجل خيفة لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك، وارج اللّه رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك». وهذا هو التوازن، فأنت تخاف اللّه كما لو كان العذاب كلّه أمامك حتى لو جئته بحسنات الثقلين {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}(المؤمنون:60). ولكنّك عندما تقف في خط الرجاء فتصوّر أن اللّه سبحانه وتعالى سوف يرحمك حتى لو جئته بذنوب الإنس والجنّ.{قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزمر/53). {إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}(سبأ:48).
نور الخوف والرجاء:
ثم قال أبو عبد اللّه(ع) «كان أبي يقول إنه ليس من عبد إلاّ وفي قلبه نوران نور خيفة ونور رجاء». ونحن نعرف أن الخوف الذي يعيش في قلبك يجعله يشرق بخوفك من ربّك من خلال معرفتك به. وعندما يعيش الرجاء في قلبك فإن الرجاء يشرق في قلبك كما النور، لأنه ينطلق من معرفتك باللّه، فهو غفور رحيم كما هو شديد العقاب.
وفي (دعاء الافتتاح) نقرأ القول المأثور «وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة».
ويقول الصادق(ع) «لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا». بحيث يتساوى الخوف والرجاء فلا يتحوّل الخوف إلى يأس ولا الرجاء إلى ميوعة وتمنٍّ عار عن العمل.

الخوف من اللّه:
في الحديث عن أبي عبد اللّه الصادق(ع) عن اسحق بن عمار، قال «يا اسحق خف اللّه كأنك تراه». فنحن عندما نعيش في حياتنا بعض المعاصي فإننا قد نخشى الطفل الصغير إذا كان شيئا يُستحى منه، وقد نخشى إنسانا عاديا. والإمام(ع) هنا يدعو اسحق إلى إن يعيش حضور اللّه في حياته ووجوده أمامه كما لو كان مجسّما بحيث يراه. «فإن كنت لا تراه». أي تعيش حضوره لكنك لا تعيش الإحساس الماديّ به. «فإنه يراك». والإمام هنا يركّز على نتائج الفكرة الأولى في رؤية اللّه لك أو رؤيتك له. «فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت». لأن اللّه سبحانه وتعالى يعلم كلّ شيء {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ}(المجادلة:7). {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ}(الأنعام:59). وكما في الدعاء «يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين». فالكفر هنا هو إنكار للبديهية الدينية التي لا يشك فيها مسلم «وإن كنت تعلم انه يراك ثم برزت له في المعصية». أي واجهته وجاهرته بالمعصية «فقد جعلته من أهون الناظرين إليك». فلو فعلت ذلك أمام شخص ما فإنك تجعل وجوده وعدمه سواء، فإذا كنت ترى أن اللّه يراك ومع ذلك فلم تستح منه وأنت تفعل المعصية فمعنى ذلك أنك ترى أنه أهون الناظرين إليك.
وقال بعض أصحاب الإمام الصادق(ع): سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول «من خاف اللّه أخاف منه كلّ شيء». لأن اللّه يزرع الهيبة في قلوب الناس ممن يخافه ويخشاه. وهذا ما جاء في حديث الإمام الحسن (ع) مما روي عنه «من أراد عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية اللّه إلى عزّ طاعته». ويقول الصادق(ع) بعد ذلك «ومن لم يخف اللّه أخافه اللّه من كلّ شيء». لأن الإنسان عندما يخاف اللّه ويثق به فإنه يشعر بالأمن والطمأنينة النفسية، فمن كان اللّه معه فلا يشعر بأي قلق أمام أي خطر، وهذا ما صوّره اللّه لنا في موقف نبيّه(ص) ليلة الغار {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنَا}(التوبة:40). وليس بينه وبين القوم إلا أشبار أو دون ذلك، ولكنه كان مطمئنا يعيش السكينة الروحيّة كلّها، فهو يحسّ بمعيّة اللّه كما لو كان اللّه معه ماديّا وحسيّا، لأن الذين يعرفون اللّه هم الذين يستوي عندهم إحساسهم المادي وإحساسهم الروحي به.

معرفة اللّه والثقة به:
ولهذا نجد أن عليا(ع) هذا الإنسان الذي عرف اللّه كما لم يعرفه أحد بعد رسول اللّه(ص) كان يقول «لو كشف لي الغطاء». ولن يكشف الغطاء لأحد لأن اللّه ليس جسماً «ما ازددت يقينا». بحيث أن يقينه باللّه وصل إلى الحد الذي لو كشف له الغطاء عن اللّه سبحانه وتعالى فإن يقينه يبقى على حاله ولا يزيده ذلك يقينا فوق يقينه، وبذلك ارتفع عن مستوى معرفة إبراهيم شيخ الأنبياء(ع) باللّه عندما قال لربّه {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(البقرة:260). وكان علي(ع) يعيش الاطمئنان في قلبه.
فهذه هي الثقة باللّه والتي نجدها عند المؤمنين في وقعة (أحد) {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ  فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّه وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللّه وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ  إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(آل عمران/173-175).
أمّا الذي لا يعيش اللّه في قلبه وعقله وحياته فإنه يعيش القلق والحيرة والتمزّق الداخلي أمام أية حال خطر أو خوف.وعن ابن حمزة قال: قال أبو عبد اللّه(ع): «من عرف اللّه خاف اللّه». لأن من يعرف اللّه في مواقع عظمته ومواقع نعمته فإنه لا يستطيع إلا أن يتصاغر ويتصاغر ويتصاغر أمام عظمة ربّه { وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(الزمر/67).
ويقول الصادق(ع) «من عرف اللّه خاف اللّه ومن خاف اللّه سخت نفسه عن الدنيا». أي لم يستغرق فيها ولم يعتبرها كلّ شيء، والمقصود بالدنيا هنا شهواتها ولذاتها ومطامعها لا مسؤولياتها وقيمها وحركتها في خط الطاعة.
حقيقة الخوف والرجاء:
ويتحدث الإمام الصادق(ع) فيما ينقله بعض أصحابه عن بعض الناس الذين يتحدثون عن أنهم يرجون اللّه. «قال: قلت له قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو». أي نرجو أن يغفر اللّه لنا فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت». فهل إن هذا الرجاء واقعي؟ فقال: «هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني. كذبوا ليسوا براجين إن من رجا شيئا طلبه ومن خاف من شيء هرب منه». فإذا كنت ترجو الجنّة فمعنى ذلك أن عليك أن تطلبها وتسعى إليها وتأخذ بما يقرّبك منها، وإذا كنت تخاف من النار فعليك أن تهرب منها ومن كلّ ما يقرّبك منها.
وقال بعض أصحاب الإمام الصادق(ع) قلت لأبي عبد اللّه(ع) «إن قوما من مواليك يلمّون بالمعاصي ويقولون نرجو، فقال كذبوا ليسوا لنا بموال». لأن الموالين الحقيقيين لا تصدر المعصية عنهم إلا في حالة طارئة كما في دعاء الإمام زين العابدين(ع) مما رواه أبو حمزة الثمالي «إلهي ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا لعقوبتك متعرّض ولا بوعيدك متهاون ولا بأمرك مستخف ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانتني عليها شقوتي». فالمعصية لا تنطلق من قاعدة في النفس ولا من حالة تبريرية يقبل فيها الإنسان على المعاصي وهو يتصور أن اللّه سيغفرها له. «أولئك قوم ترجّحت بهم الأماني من رجا شيئاً عمل له ومن خاف من شيء هرب منه».
الخوف عبادة:
وورد أيضاً عن الإمام الصادق(ع) الذي كان لا يترك مناسبة للناس الذين يلتقيهم إلا ويحاول أن يفتح عقولهم على الحق ليكون فكرهم فكر الحق، ويفتح قلوبهم على الخير لتكون نبضات قلوبهم في خط الخير ويفتح حياتهم على الاستقامة لتكون حياتهم حياة المسؤولية الرسالية. فما روي عنه من الأحاديث في مختلف جوانب المعرفة الإسلامية ما لو اقتدى به العلماء في هذه الأيام لاستطاعوا أن يملؤوا حياة الناس بكلّ ما يقرّبهم إلى اللّه، فلم يكن له(ع) من خلال المساحة الزمنية التي تنشَّقّ فيها الحرية، وقت راحة، ولم يكن لديه وقت فراغ، فقد كان يتحسّس مسؤوليته إزاء الناس وهو خارج مسؤولية الإمامة الفعلية ليرى نفسه إماما خارج نطاق السلطة كما لو كان إماما داخل السلطة لأنه يرى أن من واجب الذين يحملون علم الإسلام أن يستنفدوا جهدهم كلّه في تعليم الناس الإسلام لاسيما إذا ظهرت البدع، ففي الحديث«إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة اللّه».
يقول الصادق(ع): «إن من العبادة شدّة الخوف من اللّه عز وجل يقول اللّه {إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(فاطر:28). وقال جلّ ثناؤه: {فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي }(المائدة:44). وقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}(الطلاق:2). وقال أبو عبد اللّه: «إن حبّ الشرف والكبر لا يكون في قلب الخائف الراهب». فالذي يفكّر دائما في كيفية الحصول على الوجاهة الاجتماعية وعلى ذكر الناس له، هو إنسان لا يعيش الخوف من اللّه لأنه يستغرق في الدنيا.
قصة ذات عبرة:
ويروي لنا الإمام زين العابدين(ع) قصة موحية يرويها أبو حمزة الثمالي عنه. قال «إن رجلاً ركب البحر بأهله فكسر بهم، فلم ينج ممن كان في السفينة حتى ألجأت على جزيرة من جزائر البحر، وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق، ولم يدع للّه حرمة الاّ انتهكها، فلم يعلم إلاّ والمرأة قائمة على رأسه فرفع رأسه إليها فقال: إنسية أم جنيّة ؟ فقالت: إنسيّة، فلم يكلّمها كلمة حتى جلس منها مجلس الرجل من أهله (أي حاول اغتصابها) فلما أن همّ بها اضطربت، فقال لها مالك تضطربين؟ فقالت: أفرق (أخاف) من هذا، وأومأت بيدها إلى السماء ـ قال: فصنعت من هذا شيئاً؟ (أي هل زنيت سابقاً) قالت: لا وعزّته، قال: فأنت تفرقين منه هذا الفرق (الخوف) ولم تصنعي من هذا شيئاً وإنما أستكرهك استكراهاً، فأنا واللّه أولى بهذا الفرق والخوف وأحقّ منك، قال فقام ولم يحدث شيئاً. ورجع إلى أهله وليست له همّة ألا التوبة والمراجعة فبينما هو يمشي إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشاب: أدع اللّه يظلّنا بغمامة، فقد حميت علينا الشمس. فقال الشاب ما أعلم أن لي عند ربي حسنة فأتجاسر على أن اسأله شيئا، قال: فأدعو أنا وتؤّمن أنت؟ قال: نعم، فأقبل الراهب يدعو والشاب يؤمّن فما كان بأسرع من أن أظلتهما غمامة، فمشيا تحتها مليا ثم تفرقت الجادة جادتين (أي مفترق طريق) فأخذ الشاب في واحدة وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشاب، فقال الراهب: أنت خير مني، لك استجيب ولم يستجب لي، فاخبرني ما قصتك؟ فأخبره بخبر المرأة، فقال: غفر لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل». فهذا الخوف من اللّه والندم العميق والاستعداد للتوبة محا عنك السيئات كلّها فاستقبل حياتك في طاعة اللّه سبحانه وتعالى. وهذا هو الذي تؤكده الآية الكريمة {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا}. أي تجاوزوا الحد {عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزمر:53). ولكن بشرطها وشروطها {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ  وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}(الزمر:54-55).
وهذا خطاب لكل الشبّان الذين كانت ظروفهم تدعوهم إلى الإسراف في معصية اللّه، وهو أن على الإنسان أن يتوب إلى ربه والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
بين مخافتين:
وعن النبي(ص) برواية الصادق(ع) «إن مما حفظ من خطب النبي(ص) أنه قال: «يا أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم». أي أن هناك علامات تستدّلون بها على الطريق وتنفتحون بها على الهدى فحاولوا أن تأخذوا بها. «وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما اللّه صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما اللّه قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه}(البقرة:110). ومن دنياه لآخرته {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّه الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا}(القصص:77). وفي الشيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات فو الذي نفسي بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب».فهنا في الحياة الدنيا نقول لك العتبى حتى ترضى ولكن «اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل».
«وما بعد الدنيا من دار إلا الجنّة أو النار». فكلّ منا يحمل على كتفيه جنّته وناره { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه  وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}(الزلزلة:7-8).
وعن أبي عبد اللّه(ع) في قول اللّه عز وجل {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}(الرحمن:46). وإنها لجائزة كبيرة عملتها الحسنات، قال «من علم أن اللّه يراه ويسمع ما يقوله ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال». فاللّه مطّلع على كل شيء {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(غافر/19). فإذا وعيت ذلك ابتعدت عن العمل القبيح «فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى».
فلابد ـ أيّها الأحبة ـ أن نربّي في أنفسنا معرفة اللّه سبحانه وتعالى لنعرفه حتى تنفتّح المعرفة على معرفة مقام ربنا، لنخاف منه إذا عرفنا مقامه ولنرجوه وليتوازن الخوف والرجاء فينا ولتتوازن ـ بالتالي ـ خطواتنا في الطريق المستقيم الذي يصل بنا إلى اللّه وينتهي بنا إلى جنّته.. هناك عندما ننطلق ونحن نعيش الإيمان في قلوبنا والحق في عقولنا والعمل الصالح في خطواتنا، نكون إخوانا {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}(الحجر/47). والحمد للّه رب العالمين.( )
 
المحاضرة السادسة والعشرون: 10جمادي الأولى 1420 هـ الموافق 21/8/1999م



الارتباط باللّه في الشدّة والرخاء

* المصلّون لا يجزعون عند الشرّ ولا يمنعون عند الخير، لأنّ من يفكّر باللّه لا ييئس ولا يجزع ولا يسقط ولا يعيش البخل *






خط التوازن
نظرة قرآنية
اللّه يتجلّى في مظاهر العظمة
أسئلة تقود إلى التوحيد
معرفة اللّه في وقت الشدّة
الارتباط باللّه في الشدة والرخاء
استثناء المصلّين
عبادة اللّه على حرف



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
خط التوازن:
ونبقى في الحديث عن خط التوازن في الإسلام. وهنا نتحدث عن التوازن في علاقة الإنسان بربه من حيث قاعدة التوحيد، فلابد للإنسان عندما يعيش الحياة أن تكون علاقته بربّه في حالتي الشدة والرخاء بحيث تتساوى الحالتان لديه فيدعو اللّه في الرخاء كما يدعوه في الشدة، وينفتح على اللّه في هذه الحالة كما ينفتح عليه في تلك الحالة، لأن عقيدة التوحيد تقول لك {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللّه}(النحل:53). فاللّه هو الذي أنعم عليك بالصحة تماماً كما أنه، من خلال الأسباب التي وضعها في حركتك في الكون، ابتلاك بالمرض.
واللّه تعالى هو الذي ينعم عليك بالأمن كما يبتليك بالخوف، وينعم عليك بالغنى كما يبتليك بالفقر. وهكذا في الأمور السلبية والإيجابية بما يتصل بحياة الإنسان. فأنت عندما تعيش حالة الرخاء فعليك أن تعرف أنه من اللّه، فهو الذي أعطاك العناصر التي تحقّقه في حياتك، كما أن حالة الخوف في الشدة ناشئة كذلك من ابتلاء اللّه. وهذا مما أراد اللّه للإنسان أن يتعرّف عليه بحيث يفكّر في نعم اللّه عليه في حال الرخاء بأنها  بيد اللّه، ويعتقد بأن اللّه قادر على ان يسلبه ما هو فيه من نعمة فلا يستطيع أحد أن يرجعها إليه، مما يجعله يشعر بالحاجة إلى أن يبقى في حالة ابتهال ودعاء دائمين للّه سبحانه وتعالى وهو في ظلّ النعمة وبحبوحتها كما لو كان في حال سلب النعمة وقحطها، لأن اللّه قادر على أن يسلب نعمته في حال الرخاء، كما هو قادر على أن يعطيه في حال الشدّة.
نظرة قرآنية:
وفي القرآن الكريم نلاحظ أن اللّه يريد للإنسان أن يستشعر فقد النعمة في حال النعمة، ثم يلتفت في أوضاع الكون كلّها ليرى هل أن أحداً يملك إذا فُقدت هذه النعمة أن يرجعها إليه أم لا؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}(القصص:71). فالليل حالة طبيعية نعيش فيه، لأن حياتنا ألفت الليل والنهار، ولذلك فإن النهار المبصر هو الذي يمنحك حرية الحركة في كلّ ما تحتاج إليه من شروط حياتك لتبتغي مما يعطيك اللّه من فضل ورزق وغير ذلك. وعندما يتحرك النهار في حياتك الخاصّة فلن يخطر في بالك أن يزول بشكل دائم، بل من خلال ما اعتدت عليه ترى أنه سوف ينقلب إلى ليل يأتي النهار من بعده، ولن يخطر في بالك أن تعتبر النهار نعمة، لأن الإنسان إذا اعتاد على الشيء فقد الشيء عظمته وهيبته في نفسه، ولذلك فإننا نلاحظ أن الشمس لا تثير فينا الإحساس بالعظمة وكذلك القمر والجبال والأنهار لأننا اعتدنا عليها.
فإذا أراد الإنسان أن يستشعر معنى النعمة في العمق فإن عليه أن يتصوّر زمناً لا نهار فيه، وأن اللّه الذي خلق النهار قادر على أن يجعل الليل سرمداً ويزيل النهار من الزمن. فلك أن تتصوّر مثلاً ـ لو أن اللّه جعل عليك الليل سرمداً، وفكّرته في أولئك الذين يعظّمهم الناس ويؤلهونهم تأليها واقعياً وإن لم يعطوهم صفة الإله، فهل يمكن أن يعيدوا عليك النهار {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}(القصص/71). وكما يأتي السؤال ـ الفرضية في النهار أمام الليل السرمديّ، يأتي أيضا أمام الليل في النهار السرمديّ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}(القصص/72). ثم يوجّه اللّه الإنسان إلى أن ينظر إلى الليل والنهار كظاهرتين كونيتين تمثلان رحمة اللّه، بحيث أن على الإنسان عندما يقبل النهار أن يشعر بالنعمة والرحمة الالهية به، وعندما يقبل الليل أن يشعر بالرحمة الالهية في ذلك ليتعمّق إحساسه بأن اللّه وراء كلّ شيء وهو القادر أن يعطيك رحمته وأن يمنعها. {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} في الليل {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} في النهار {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(القصص/73). وهذا أسلوب قرآني يريد اللّه به من الإنسان أن يستشعر الظواهر الكونية التي ترتبط بحركة وجوده التي ألفها في حياته، كما لو كانت حدثاً يحمل الكثير من معاني الرحمة والعظمة.
اللّه يتجلّى في مظاهر العظمة:
ثم نقرأ في سورة (الواقعة) أن اللّه يطوف بنا مع هذه النطف التي تخرج منّا لتنتج الذرية، وهذا الزرع المختلف الألوان والأشكال والطعوم، وهذه النار التي نواجهها فلا تخطر في بالنا العلاقة بينها وبين اللّه، فمن منّا يرى - وهو مستغرق في الزراعة أو في اللذة الجنسية أو في إشعال النار، أن اللّه في ذلك كلّه؟! إنه أمرٌ اعتدناه فلا نجد للّه أي دور في ذلك كلّه بحسب طبيعة الأمور. ولذلك يريدنا اللّه سبحانه وتعالى أن نتساءل {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ}(الواقعة:57). هل تفكّرون وتصدّقون بأن مصدر الوجود من اللّه، وهل يخطر في بالكم ذلك كحالة شعورية تنفتح من خلال إحساسكم عندما تواجهون هذه المسألة { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ}(الواقعة:58). من المنيّ {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}(الواقعة:59). فمن الذي حوّل الدم إلى مني؟! ومن الذي أودع في النطفة سر الحياة؟! ومن الذي حرّك فيها حالة النمو؟! ومن الذي أودع فيها الخصائص الإنسانية التي تنطلق من خلال عدة أجيال من آبائك وأجدادك؟! من؟ أأنتم؟ لم يصدر منكم إلا هذه الحالة الآلية التي أودعها اللّه فيكم في إخراج المني، أما الذي خلقه وخلق عناصره كلّها، وأودع فيه الأسرار كلّها وعناصر الشخصية فيما تستقبل مما أسلفت أو أسلف من  قبلك فهو اللّه الذي خلق ذلك كلّه {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}(الواقعة:60). فاللّه هو الخالق وهو المميت، والموت ليس حالة طبيعية تنطلق من العوامل المادية بعيداً عن قدرة اللّه سبحانه وتعالى ولكن اللّه عندما خلق الاجهزة في داخل كيانك ربط بينها وبين العوامل السلبية التي توقف هذا الجهاز فيموت، أو توقف ذاك الجهاز فتفقده القدرة على استمرار الحياة {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}(الواقعة:61). ثم يأتي البعث الذي لا يعلمون ما يقبلون عليه منه.
أسئلة تقود إلى التوحيد:
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى} التي بدأت الحياة فيكم {فَلَوْلا تَذكَّرُونَ}(الواقعة:62).{أفرأيتم ما تحرثون   أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون}(الواقعة:63-64). فهذا الزرع الذي تزرعونه من زرعه؟ هل هو انتم؟ إنه ليس لكم إلا أن وضعتم البذرة في الأرض وسقيتموها الماء وتعهدتموها بالرعاية، ولكن من ذا الذي خلق في البذرة سرّ النمو والحياة، وكيف تحوّلت الحبّة إلى سبع سنابل في كلّ سنبلة مئة حبّة، من الذي جعل الأرض الرحم كما هو رحم المرأة إذ يحتضن النطفة مع البويضة؟ من الذي أعطى الأرض صفة الرحم الذي يحضن البذرة ثم يمنحها من خلال العناصر الموجودة في الأرض سرّ النمو والتكاثر والحيوية. ومن ذا الذي يعطي الزرع بعد أن تتحوّل البذرة إلى الزرع  خصائصه، ومن ذا الذي يعطيه القدرة على النمو والاستمرار، هل أنتم؟ كلاّ، فانتم أخذتم البذرة التي خلقها اللّه ووضعتموها في الأرض التي أودع فيها الأسرار، وحرّكتم فنون الفلاحة والزراعة من خلال ما ألهمكم اللّه من ذلك، ثم إنك بعد أن زرعت الزرع، فمن ذا الذي يبقيه لك؟{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} يتفتت ويجف  وتذروه الرياح {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}(الواقعة:65). أي تعيشون حالة اليأس والشعور بالحرمان.
وأنت كذلك تشرب الماء ومن منّا ـ بربّكم ـ على مستوى الظاهرة لا الشمولية، عندما يشرب الماء يعيش الإحساس العميق بأن اللّه هو مصدر هذا الماء؟ وقد نقول (الحمد للّه ) ولكنها كلمة اعتدناها ولا نعيشها. فالمراد هو أن يتحرك إحساسك بعمق شعوريّ أنك تشرب الماء وترى اللّه فيه من خلال قدرته.. إننا ـ بشكل عام لا نعيش ذلك {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ  أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنـزلون}(الواقعة:68-69). هل فكّرتم في المطر الذي ينزل بالماء، وما هي القوانين التي تحكم نزول المطر؟ {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا}. فقد جعل اللّه البحر أجاجاً وقد جعل بعض الآبار أجاجاً، وهو قادر على أن يجعل الماء كلّه أجاجاً (مالحاً). {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}(الواقعة:70). على أن أعطاكم ماء فراتاً عذباً حلواً تستمر حياتكم من خلاله.
ثم هذه النار {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ}(الواقعة:71-72). فهذه الشجرة التي توقدون النار منها بعدما تستحيل حطباً، من جعلها شجرة ومن جعل في الحطب القدرة على الاشتعال {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}(الواقعة:74-75). أي عظّمه ونزّهه وعش في مواقع عظمته ونعمته لتشعر بارتباطك باللّه وأنت تعيش في نعمه وتتقلب فيها، ولتدرك بأن اللّه وراء ذلك كلّه.
إن القرآن الكريم يريد أن نعيش مع اللّه ونتحسّس عظمته ونعمته وقدرته في حال الرخاء بالتحديق في نعمه، وبالتفكير في أنه قادر على أن يزيل هذه النعم، وأن نفرض أنه لو أزالها فليس هناك من يستطيع أن يرجعها إلينا؟ ولذلك فنحن نعيش التوحيد لا من خلال الفلسفة ولكن من خلال المفردات المتناثرة في حياتنا العامة من خلال ما نأكل ونشرب ونزرع ونتحرّك فيه.
معرفة اللّه في وقت الشدة:
ولكن اللّه يحدثنا عن أن مشكلة الإنسان هي انه لا يعرف اللّه إلا في وقت الشدّة فيدعوه ويبتهل إليه ليرفع عنه تلك الشدة، ولكنه إذا خرج من ذلك نسي اللّه ونسي ما كان يدعو إليه مما قد يؤكد فكرة الماديين الذين يقولون إن الناس إنما يؤمنون باللّه من خلال عقدة (الخوف) لأن الإنسان الذي لا يفهم الكون يخاف منه، فإذا استطاع أن يفهم أسراره فإنه لا يحتاج ـ حسب نظرتهم ـ إلى الإيمان باللّه لأنه سوف يربط الأشياء بالأسباب وهذه مغالطة. لأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي أكّد قانون السببية في الكون وهو الذي أنزل في آياته أن لكلّ ظاهرة قانوناً وسرّاً وحكمة وسبباً، وأراد لنا أن نكتشف أسباب هذه الظواهر والقوانين التي أودعها فيها، ولكن هب أننا عرفنا السبب ولكن من الذي أعطى السبب سببيته؟ ومن الذي أعطى القوانين التي تنزل المطر  أو تنتج الزرع هذه الخصائص والعناصر. فالسؤال لا ينتهي إذا عرفنا الأسباب ليقال إننا لا نحتاج إلى أن نطرح فكرة اللّه لأن اللّه هو سرّ كل وجود وهو الذي يفسّر معنى الخلق، ولو لم نفرض فكرة اللّه كما هي الحقيقة فلا يمكن أن نفسّر الوجود، لأن كلّ ظاهرة من هذه الظواهر يستوي فيها الجانبان السلبي والايجابي، فليس وجودها ضرورياً وحتمياً وليس عدمها ضرورياً وحتميا، فلا بد من قوة من الخارج تفرض جانب الوجود، فلو لم نفرض وجود اللّه فلا نستطيع أن نفرض وجود الكون لأن وجود الكون يفسّره وجود اللّه. ولذلك فهؤلاء يطرحون المسألة في شكل مغالطة.
الارتباط باللّه في حالي الشدة والرخاء:
لكن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن يقول للإنسان إن عليك أن تذكر اللّه وترتبط به وتبتهل اليه وتخشع له وتطيعه في حالي الرخاء والشدة، كما نقرأ ذلك في عدة آيات: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}، فكأنه لم يبتهل إلى اللّه {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(يونس:12). فعندما أزال اللّه الضرّ عنه تحرّك في دروب الضلال وأسرف على نفسه عندما نسي ربّه.
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} أي أعطيناهم الغنى بعد الفقر، وأعطيناهم الصحّة بعد المرض والأمن بعد الخوف {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} أ ي أنهم يحاولون التحرّك في التدبير الخفيّ الذي يستبطن المكر والمعصية {قُلْ اللّه أَسْرَعُ مَكْرًا}(يونس:21). فإذا كنتم تتجبرون وتصنعون الحيلة بعد الحيلة، فإن اللّه هو المهيمن على الأمر كلّه وهو القادر على تحريك كل الوسائل في الدنيا والآخرة. فالعبرة في النتائج وليست في المكر الذي تصنعه، ذلك أن اللّه أسرع مكراً عندما يبتليك في الدنيا، والآخرة هي نهاية المطاف. ولكن اللّه عادل حليم، كما ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع) «وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة إنما يعجل من يخاف الموت». فإلى أين تذهب، حتى لو صعدت إلى آفاق السماء ونزلت إلى أعماق الأرض، فآخر أمرك {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}(ق:19). {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}(يونس:21). وستحاسبون على ذلك ثم أن اللّه بعد ذلك يعطي المصداق {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} كما لو أحاط الأعداء بالإنسان من كل جانب فلا يستطيع الدفاع عن نفسه { دَعَوْا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ}(يونس:22). سنؤكد الشكر العملي بعبادتنا لك وطاعتك والسير فيما تريده لنا {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ}. وفي غير الاتجاه الصحيح {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(يونس:23). اعمل ما تشاء ولكن إلى أين؟ إنك مقبل على ربك وسيرتد عليك سلباً ما قمت به من بغي ضد نفسك وضد الرسالة وضد الناس لأنك ستواجه اللّه سبحانه وتعالى فينبّئك بما كنت تعمل.
وفي آية أخرى {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا}. فهناك نعمة استحالت إلى نقمة، وهنا رحمة كانت موجودة ثم نزعت {مِنه إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}(هود:9). أي أنه لا يعتبر أن هذه الحالة الطارئة قد يختبر اللّه الإنسان بها ولكنه ييئس ويكفر بربّه {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} أي أعطيناه الصحّة بعد المرض {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} ولا يذكر ربه {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ(هود:10)}. فرح بما حدث وفخور كناية عن أنه لا يعيش وعي ما أفاض اللّه عليه من ذلك.
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللّه}. أي فكّر في النعم التي تحيط بك عندما تأكل وتشرب وتتلذّذ وترتاح وتنام وتستيقظ، واقرنها بذكر اللّه لأن هذه النعم هي من اللّه {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}(النحل:53).  أي تصرخون، فأنتم لا تذكرون نعم اللّه في الرخاء والحالات الطبيعية بل في حالة الضرّ فقط. {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ}. وزال المرض أو الخوف عنكم {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}(النحل54).
 { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ } كما في الحالة التي وصفها القرآن {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ}. فالآية استدلت كدليل على أن الإيمان باللّه ينطلق من عمق الفطرة. فللإمام الصادق(ع) حديث في هذا المضمون أراد من خلاله أن يثبت أن اٌلإنسان يتجه بفطرته إلى اللّه في وقت الشدة حيث لا معين ولا منجي غيره، حيث قال لأحد أصحابه مدلّلا على وجود اللّه، هل حدث أن كنت في البحر وكسرت السفينة بك وليست هناك أرض تقف عليها ولا أمل في النجاة، قال:نعم، قال: هل تعلّق قلبك بشيء ينجيك، قال: بلى، قال: «ذلك هو اللّه» فالإنسان يندفع إلى اللّه في مثل هذه الحالات من عمق فطرته {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} عن اللّه وعن طاعته وعبادته {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا}(الإسراء:67).
استثناء المصلّين:
ويقول تعالى {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا  إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا  وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا  إِلا الْمُصَلِّينَ}(المعارج:19-22). فلماذا استثنى المصلين؟ لأن الصلاة تنفتح بالإنسان على اللّه وتجعله يعيش العروج بروحه إليه سبحانه وتعالى . فعندما تقول في صلاتك (اللّه أكبر) فإنك تشعر بأن كل شيء صغير أمام اللّه. وعندما تقول (لا إله إلا اللّه) فإن كل الآلهة التي يزعمها الناس تسقط أمام اللّه الواحد الأحد. وعندما تقول {إياك نعبد وإياك نستعين}(الحمد:4). لتوحّد اللّه في العبادة ولتعتبر أن ليس غير اللّه أحد يمكن أن يعينك، وهكذا في تعظيمك للّه في الركوع والإعلان أنه الأعلى في سجودك وفي تهليلك وتحميدك وتكبيرك وتسبيحك، فإنك بذلك تعيش اللّه في عقلك وقلبك وجوارحك وأحاسيسك ومشاعرك، وبهذا لن تكون جزوعاً أمام الشرّ ولا منوعاً أمام الخير، لأنك تفكّر باللّه ومن يفكّر باللّه لا ييئس ولا يجزع ولا يسقط ولا يعيش البخل في نفسه.
{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي}(الفجر:15). يزهو ويفرح وتعظم نفسه عنده فيقول إني أنا الذي أكرمني اللّه والدليل على ذلك ما أعطاني من مال {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} فضيّق عليه رزقه {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي}(الفجر:16). بحيث يسقط ويشعر بالذل (كلا) لم يبتلك اللّه عندما أعطاك مالا، بل ابتلاك بعطائه ليرى هل تشكر أم تكفر {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ }(النمل:40). هل تسخّر المال فيما يرضيه أو فيما يسخطه، وإذا منعك اللّه بعض المال فإنه يختبرك بذلك، فهل تصبر أم تجزع.
عبادة اللّه على حرف:
وفي نهاية المطاف، نقرأ ما يقوله القرآن الكريم عن الإنسان الذي يعيش في آفاق الإيمان عندما يكون بعيداً عن التجربة، فأنت لا تسرق لأنك غير قادر على السرقة، وأنت لا تنحرف لأنك غير قادر على الانحراف، فإذا جاءتك التجربة وقدرت على السرقة والانحراف والظلم فإنك قد تنفتح على ذلك كلّه وتسقط.
{ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ} وكلمة (على حرف) مفسّرة بتفسيرين: إما على الحافة، أو محدودية الوعي والثقافة، أي لا يعبد اللّه في كل ما يعطي الوعي الإيماني { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ } فإذا مرّ بالاختبار {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}. فعندما تأتي الريح العاصفة على الذين يقفون على الجبل فإنهم ينقلبون إلى الوادي {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الحج/11). فعلينا أن نطلب من اللّه سبحانه وتعالى أن ينقذنا من الإيمان المستودع ليمنحنا الإيمان المستقر الذي مهما واجهته المشاكل والصدمات والعقبات والتحديات فإنه يبقى ثابتاً ثبات الجبال {ألم  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}(العنكبوت/1-2). بالصحة والمرض، وبالفقر وبالغنى، وبالخوف وبالأمن {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } واختبرناهم بالتجربة الصعبة {فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ صَدَقُوا}. واللّه يعلم ما يقبلون عليه ولكن ليظهر ذلك من خلال التجربة {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت/3).
أيها الأحبة: الإيمان هو خط التوازن.. أن تتوازن في عقيدتك باللّه والإيمان به بأن تكون معه في حال الشدّة وحال الرخاء، كما جاء في دعاء الإمام علي بن الحسين(ع) «واجعلني ممن يدعوك في الرخاء دعاء المخلصين المضطرين في الدعاء إنك حميد مجيد». والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة السابعة والعشرون: 17جمادى الأولى 1420 هـ الموافق 28/8/1999م


في ذكرى رحيلها
عصمة الزهراء(ع)


* الزهراء(ع) مع الحق والحق مع الزهراء(ع) *

في ذكرى الزهراء(ع)
الإرادة التكوينية
نورٌ كلّهم
المعصومة فاطمة(ع)
أشبه الناس بأبيها
التقييم الدقيق للكفاءة
رضا اللّه وغضبه
الحق كلّه مع الزهراء(ع)
حزن الزهراء(ع)
حزن علي(ع) على فاطمة(ع)
درس الزهراء(ع)




 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في ذكرى الزهراء(ع):
لا نزال في هذه الأيام نعيش ذكرى سيدتنا.. سيدة نساء أهل الجنة.. سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها. ونريد أن ندقق في العناوين الكبيرة التي تمثل الإطار الروحي لأهل البيت(ع) والعنوان الكبير الذي يتمثل في شخصية الزهراء(ع).
أما العنوان الكبير الذي يجمع أهل البيت فهو {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33). وقد ذكرنا أكثر من مرة أن السنّة والشيعة التقوا على أن هذه الآية نزلت في هؤلاء (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين) وان كان موقعها يوحي أنها في سياق زوجات النبي(ص) ولكننا ذكرنا أن هذه الفقرة من الآية نزلت بمفردها ولم تنزل مع ما قبلها وما بعدها، ولكنها وضعت في هذا السياق من أجل المناسبة.
الإرادة التكوينية:
ونريد هنا أن ندقّق في كلمة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه} فالإرادة الإلهية في كلّ ما جاء في القرآن الكريم كما في قوله تعالى {يُرِيدُ اللّه بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(البقرة/158). وأمثالها هي لبيان ما قد يعبّر عنه بالإرادة التشريعية، أي أن اللّه يشرّع لكم ما يشرّعه ويبيّن لكم ما يبيّنه مما يأمر به أو ينهى عنه أو يقرره في الخط المستقيم. بمعنى أن اللّه يريد أن تختاروا هذا الخط، فهو يريد بكم اليسر لأن ما جاءكم هو الشريعة السهلة السمحة ولأنه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج:78). و {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}. بل يريد اللّه ليخفف عنكم من خلال ما رخّص لكم هنا وهناك. فهذه قد يطلق عليها الإرادة التشريعية، فاللّه يريد للناس أن يتصفوا بشيء وأعطاهم الوسيلة أو الآلية التي يمكنهم من خلالها أن يحقّقوا ذلك، أو أن ما أعطاهم من التشريع هو يسر وتخفيف وسعادة وما إلى ذلك.
أما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فالآية ليست بصدد الحديث عن الإرادة التشريعية، بحيث يكون المراد من قوله تعالى (يذهب الرجس) بمعنى أن يخطّط ويشرّع لكم ويأخذ بأيديكم لما يذهب الرجس عنكم، وأن يطهرّكم بوسائل التطهير التي تأخذون بها، لأن هذا أمر لا يختص بأهل البيت(ع) فاللّه من الناحية التشريعية يريد ليذهب الرجس عن كلّ إنسان بالشريعة الإسلامية، ويريد أن يطهرّ الناس كلّهم بهذه الشريعة، ويريد منهم أن يبتعدوا عن أسباب الرجس وأن يأخذوا بأسباب الطهر والطهارة. وإذاً فلابد أن يكون المراد من قوله عز وجل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ}. الإرادة التكوينية ومعناها في هذا المجال ـ أن اللّه أودع في أهل البيت(ع) من عناصر العلم والروح وخصائص القدس ما يذهب به الرجس عنهم وما يحقّق الطهارة فيهم.
وقد يقول قائل: ألا يلزم ذلك سلبهم الاختيار بمعنى أن يكونوا الطاهرين بغير اختيارهم، والبعيدين عن الرجس بغير اختيارهم بحيث يتحركون بالطهر تحرّكا آلياً كما تتحرك الآلة من دون وعي، أو أن المسألة ليست كذلك؟
نورٌ كلّهم:
قلنا فيما سبق إن اللّه أودع فيهم نورا يتحرّكون فيه من خلال وعيهم لكل خطوط النور وآفاقه، فاللّه أعطاهم النور والعلم والروحانية التي تلتقي كلّها عند وعي اللّه في معرفته ووعي الإسلام في عمقه وامتداده بحيث يتحرّكون في الطهر بوعي، ويبتعدون عن الشرّ بوعي، لأن هذه العناصر التي أُعطُوها هي التي تعمّق الوعي ولكنها لا تتحرك تلقائيا. وقد يقول قائل آخر: لماذا أعطى اللّه أهل البيت ذلك ولم يعط غيرهم؟! وهذا السؤال يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: هو أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الكون كلّه والإنسان كلّه وأراد له أن يتحرّك بما يصلح أمره في الدنيا والآخرة، فأعطى الكون شمساً لا ظلمة فيها، وأنزل قرآنا نوراً كلّه، وأراد أن يخلق نماذج بشرية هي نور في عقلها كلّه، وقلبها كلّه، وحركاتها كلّها، لتكون الشمس الإنسانية. فاللّه يختار من الإنسان شمساً نوراً كلّها كما اختار للكون شمسا نوراً كلّها {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ}(القصص:68).{إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}(آل عمران:33). بأن جعلهم أنبياء وحمّلهم رسالاته.
والجواب الثاني: هو قوله تعالى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(الأنبياء:23). فمصلحة الإنسانية الغارقة في الظلمات أن يكون هناك إنسان يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهذا ما أراده اللّه للأنبياء من أن يحملوا الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور ليكونوا الكتاب الناطق ويقدّموا للناس الكتاب الصامت {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}. ولا يكتفي بتلاوتها {وَيُزَكِّيهِمْ}. بأن يعطيهم التزكية كلّها في عقولهم وقلوبهم وحياتهم {وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ}. بمفاهيمه وأسراره كلّها {وَالْحِكْمَةَ}(الجمعة:2). في حركة الواقع، فدور النبي(ص) دور الإبلاغ والتعليم والتربية والتزكية حتى يعطي الناس نورا من عقله الذي هو عقل الكتاب ومن قلبه الذي هو قلب الكتاب ومن حياته التي هي حركة الكتاب في الواقع «كان خلقه القرآن».
وهذا ما ينطبق على الأئمة(ع) أيضا فإنهم يمثّلون في معنى الإمامة امتداد النبوّة من غير نبوّة «يا علي أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي». فهي نبوّة في المضمون من حيث طبيعة الدور والمهمّة وليست في العنوان. ولذلك فإن دور الإمامة هو دور النبوّة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور وحراسة الإسلام وحياطته من كلّ تحريف وأية ظلمة تزحف إليه. لذلك فلابد أن يعطي الإمامة من هذا اللطف الإلهي ما يعطيه للنبي.
المعصومة فاطمة(ع):
أمّا فاطمة الزهراء(ع) فليست في موقع نبوّة ولا في موقع إمامة، وإن كانت بنت النبوّة وسرّ الإمامة لأنها والدة الأئمة(ع) وزوجة الإمام علي(ع). فلقد أعطاها اللّه تعالى العصمة فأذهب عنها الرجس وطهرّها تطهيرا، لأنه سبحانه يريد الإيحاء للناس بأن المرأة يمكن أن ترتفع وتسمو في تقويم اللّه وتكريمه لها بأن يعطيها العصمة، لأن لها دوراً في الواقع يقع على ضفاف دور النبوّة والإمامة من جهة، ولأن اللّه أراد أن يجعلها مثلاً للناس لتكون للنساء وللرجال النموذج الأمثل الأفضل الذي يحمل عقلا نورانيا وقلبا نورانيا وعلما ينفتح على الناس ويأخذ ببعض ملامح النبوّة والإمامة.
ولهذا فقد كانت فاطمة(ع) معصومة لأن لها دورا في طبيعة موقعها وفي امتداد العنوان الأمثل في حياة المرأة، ليقول اللّه للمرأة إن المرأة التي كرّمها فأبعدها عن الرجس وطهّرها تطهيرا، يمكن أن توحي للمرأة في مجتمعها وفي خط الامتداد بأن اللّه كرّمها وأراد لها أن تتحرّك في خط هذا النموذج لتقتدي به المرأة، لأن اللّه كما أراد للرجال وللنساء الإقتداء بالرجل النبي وبالرجل الإمام وبالرجل الولي، أراد أيضا للرجال وللنساء أن يقتدوا بالمرأة المعصومة وبالمرأة الوليّة، حتى تكون المثل للرجال وللنساء معاً.

أشبه الناس بأبيها:
هذا من جهة موقع الزهراء(ع) في أهل البيت(ع). أمّا الموقع الآخر المميّز في شخصية فاطمة(ع) فهو ماورد في أكثر من حديث يرويه السنّة والشيعة أن رسول اللّه(ص) الذي وصفه القرآن الكريم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى}(النجم:3)، قال «إنها سيدة نساءأهل الجنّة». وفي رواية قال «إنها سيدة نساء العالمين». وفي رواية أخرى، قال «إنها سيدة نساء المؤمنين»، وهذا مما رواه السنّة والشيعة معاً. فقد ورد في (صحيح البخاري) عن عائشة قالت «أقبلت فاطمة تمشي كأنها مشي النبي، فقال النبي(ص) مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم أسرّ اليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ثم أسرّ اليها فضحكت؟ فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عمّا قال، فقالت: ما كنت لأفشي رسول اللّه(ص) حتى قبض النبي(ص) فسألتها عمّا قال، فقالت: أسرّ إلي أن جبرئيل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي فبكيت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين فضحكت لذلك».( )
وفي رواية أخرى في (حلية الاولياء) لابي نعيم «إن النبي(ص) قال لها: يا بنيّة أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين؟ قالت: يا أبت فأين مريم ابنة عمران؟ قال: تلك سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك، أما واللّه زّوجتك سيداً في الدنيا والآخرة». ولقد ضيّقت هذه الرواية ما وسّعته تلك الروايات لدى السنّة والشيعة، فهي سيدة نساء عالمها وهي سيدة نساء المؤمنين ونساء أهل الجنة.
التقييم الدقيق للكفاءة:
وهنا نريد أن نتوقف لنتساءل: هل هو مجرد لقب تكريم أعطاها إياه رسول اللّه(ص) ورسول اللّه(ص) لا يعطي الألقاب جزافاً؛ لأنّه ينطلق مع أقربائه ومع غيرهم من موقع التقييم الدقيق للكفاءة الواقعية فيما يمدح به هذا بمرتبة أو يمدح به ذاك بمرتبة، ولو لم ينطلق من الموقع العميق الموجود في هذه الشخصية الذي يجعلها في مستوى الكلمة لكانت الكلمة عن هوى، والله تعالى يقول: {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:4). فأن تكون سيدة نساء أهل الجنّة معناه أنها تجمّعت في عقلها وقلبها وفضائلها كلّ فضائل أهل الجنة وفضائل نساء المؤمنين بل وتفوّقت عليهم في ذلك، لأن معنى أن تكون سيدة القوم هو أن تملك الميزة التي بها تكون لك السيادة، وإلاّ فكيف تكون سيداً لجماعة لا تفضلهم بشيء، فلابد أن يكون رسول اللّه(ص) وهو الذي يتكلّم إسلاما، فكلّ كلامه إسلام، وهو الذي يتحرّك إسلاما بل حتى في عواطفه لا يملك عاطفة ذاتية ليس في عمقها شيء من معنى الإسلام، لأنه هو النور كلّه والإسلام كله والقرآن كلّه، فلابد أن يكون(ص) قد اطلع على ما تحمله فاطمة(ع) من علم يتفوّق على علم نساء العالمين كلّهن، ولابد أنه اطلع على أن لديها من المعرفة باللّه ومن الروحانية وقيم الإنسانية ما تتفوق به على سائر هؤلاء، ولابد أن يكون قد اطلع على صفاتها الرسالية مما تتفوّق به على من سواها.
ففي حديث عائشة عن فاطمة(ع) قالت: «ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة». وتستثني النبي(ص) فكم هناك من الصحابة الذين عاشوا مع رسول اللّه(ص) ولكن فاطمة ـ حسب شهادة عائشة ـ هي الأعبد وهي المثقلة بالأولاد وأتعاب البيت ورعاية رسول اللّه(ص) ورعاية زوجها وبدورها الرسالي مما كانت تتحدث به عن رسول اللّه(ص) ومع ذلك كانت الأكثر عبادة، وينقل عنها ولدها الإمام الحسن(ع) أنها كانت تقوم الليل حتى تتورم قدماها.
وتقول عائشة عنها أيضا «ما رأيت أصدق منها إلا أباها». إنّه الصدق في الكلمة والموقف والانتماء، وكلّ الذين كتبوا عن سيرة الزهراء(ع) لم ينقلوا في تأريخها أي خطأ في الكلمة وأي خطأ في الفكر وأي خطأ في العمل، بل كان الناس يلمسون عصمتها على الطبيعة بطريقة ميدانية، ولذلك كانت(ع) الإنسان الأحب للمسلمين جميعا بحيث لا يعلو عنها في محبّة المسلمين إلاّ محبتهم لرسول اللّه(ص) فلا غرابة أن يلتقي المسلمون جميعا ـ منذ ذلك الوقت حتى الآن ـ على محبتها.
رضا اللّه وغضبه:
ولقد رأيت في (البخاري) و(الترمذي) و(مسلم) و(الكافي) أنهم يتحدثون عن أنّها سيدة نساء العالمين، وأن النبي قال «أنّها بضعة مني يغضبني ما يغضبها ويرضيني ما يرضيها». و«أن اللّه يغضب لغضبها ويرضى لرضاها». فلماذا ذلك؟ لماذا يغضب اللّه لغضب إنسان ويرضى لرضاه؟ لأن هذا الإنسان عاش مواقع رضا اللّه كلّها وابتعد عن مواقع سخطه كلّها، وهذا ما عبّر عنه الإمام الحسين(ع) بقوله «رضا اللّه رضانا أهل البيت». فهم يغضبون لغضب اللّه ويرضون لرضاه.
وبناء على ذلك، نقول إن هذا السلوك الذي حدث في تأريخ الزهراء(ع) بعد رسول اللّه(ص) الذي أسيء به إليها من منعها (فدك) التي ذكر العلماء من السنّة والشيعة أنها كانت حقّ فاطمة. فقد ذكر (السيوطي) في (الدر المنثور) في تفسير قوله تعالى {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}(الإسراء:26). أنها لما نزلت وكانت فدك لرسول اللّه صالحه اليهود عليها في حربه معهم، فنحلها فدكا. والظاهر أن فدكا كانت معروفة لدى مجتمع المسلمين بأنها حق فاطمة حتى في الامتداد التأريخي، لذلك رأينا أن عمر بن عبد العزيز وهو خليفة أمويّ أرجع فدكاً إلى أهل البيت، ثم أخذت منهم، وجاء السفّاح أول خلفاء بني العباس وأرجعها إليهم، ثم جاء المنصور فأخذها، وينقل عن هارون الرشيد انه عرض على الإمام الكاظم(ع) أن يرجع إليه فدكا ولكن الإمام عندما حدّد فدكا حدّد الدولة الإسلامية كلّها.
ولم تكن الزهراء(ع) تهتم بفدك من الناحية المالية، ولكن كما قال بعض علماء المعتزلة أن فدكا كانت جسرا للعبور نحو حق علي(ع) لكنها ـ أي فاطمة ـ ُظلمت ودافعت عن حقها دفاعا فيه الكثير من عمق المعرفة الواسعة للتشريع الإسلامي، ثم كان التهديد بإحراق بيتها، ولكن الزهراء(ع) كانت ـ وهي في المستوى القيادي ـ تهتم بالإسلام ولا تهتم بفدك، حتى أنها لم تظهر ما عرض لها من آلام تماما كما هو علي(ع) «بلى كانت في أيدينا فدك وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غد جدث». لكنها كانت تريد أن تثبت حقاً و تشجب انحرافا عن الحق فعاشت آلاما قاسية وكان ألمها الكبير إبعاد علي(ع) عن حقّه وهو ما عبّرت عنه في المسجد في خطبتها،وما عبّرت عنه في لقائها نساء المهاجرين والأنصار، وما عبّرت عنه في لقائها رجال المهاجرين والأنصار، وما عبّرت عنه في طواف علي(ع) بها على جموع المهاجرين والأنصار، فلقد كانت تلك قضيتها كلّها لأنها كانت ترى أن الإسلام ينفتح وينمو ويسمو ويتقدّم ويتعمّق ويستقيم عندما يتحرك علي(ع) في قيادته، كما قال عمر بن الخطاب «لو وليها عليّ لحملهم على المحجّة البيضاء». لأن عليا لم يكن عنده إلا اللون الابيض، ولأن رسول اللّه(ص) قال «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار». وقد قال علي(ع) للناس في زمنه «ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم».
ولقد أرادت الزهراء(ع) أن تقف هذا الموقف الصلب لتعطينا الدرس في أن علينا أن نقف الموقف الصلب ولكن بحكمة وبوعي، ولقد تكاملت مع علي(ع) فكان هو يتحرك في تأكيد الحق بأسلوب وكانت تتحرك بأسلوب آخر. ولكنهما كانا يتكاملان في ذلك كلّه.
الحق كلّه مع الزهراء(ع):
وهناك نقطة أحب أن أشير إليها في كلّ ما واجهته الزهراء(ع) سواء ما يتصل بشخصها أو بالقضية الكبرى، فإذا كان المسلمون بأجمعهم متفقين بأنّها سيدة نساء العالمين، أو على الأقل سيدة نساء عالمها، فهل يمكن أن تتحدث سيدة نساء العالمين كذباً أو لغوا أو ترتبط في موقفها من حيث القيادة الإسلامية ارتباطاً عاطفيا يبتعد عن الحق، ولو أنصف المسلمون أنفسهم لرأوا في موقف الزهراء(ع) الحجّة كلّ الحجّة من دون نقاش في رواية تروى هنا أو في موقع هناك لأن سيدة نساء العالمين أو سيدة نساء أهل الجنّة أو سيدة نساء المؤمنين لا يمكن إلاّ أن تكون مع الحق وأن يكون الحقّ معها. ولقد قلنا هذا القول بالنسبة للإمامين الحسنين(ع) من أن شرعية موقف الإمام الحسن(ع) في الصلح وشرعية موقف الإمام الحسين(ع) في الثورة تنطلق من أن الحسن(ع) سيد شباب أهل الجنّة والحسين(ع) سيد شباب أهل الجنة، وسيد شباب أهل الجنة لا يمكن أن ينحرف عن الخط الإسلامي، بل لابدّ أن يكون خطّه هو الخطّ الإسلامي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
حزن الزهراء(ع):
كما أننا نعلم أن الزهراء(ع) لم تعرف الفرح بعد الفترة القصيرة التي أعقبت وفاة الرسول(ص) إلى حين وفاتها، فلقد كان حزنها على رسول اللّه حزناً إسلامياً.. لم يكن جزعا ولا ابتعادا عن خط التوازن، فالرواية الصحيحة هي أنها كانت تظهر في الأسبوع مرتين إلى قبر رسول اللّه(ص) وتأخذ ولديها الحسن والحسين(ع) وتبكي بكاء رسالياً لتتذكر رسول اللّه(ص) كيف كان يخطب هنا، وكيف كان يصلّي هنا، وكيف كان يعظ الناس هناك. فلقد أرادت أن تعيد لهم رسول اللّه(ص) في معناه الرسالي ولم تتحدث عنه فيما نقل من الروايات الموثوقة حديثا عاطفياً شخصياً، لأنها كانت الرسالة مجسّدة. وقد أرادت أن تخلّد احتجاجها بعد الموت فأوصت بأن تدفن ليلا وعفّى علي(ع) موضع قبرها، ثم جاءت الروايات من أهل البيت(ع) لتشير إلى أنها دفنت في بيتها أو في الروضة، فلقد ذكر أنها كانت مدفونة في بيتها، وحينما وسّع بنو أمية المسجد، أدخلوا بيتها في المسجد، فصار قبرها داخل المسجد. وقد ذهب الشيخ الطوسي(رحمه الله) إلى هذا الرأي، ولذلك تزار الزهراء(ع) إلى جانب قبر رسول اللّه(ص) وقد أيّد ذلك صاحب (البحار) في الرواية المعروفة «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة». وكأنه(ص) يشير إلى ذلك.
حزن علي(ع) على فاطمة(ع):
وفي ختام هذا الحديث، نحبّ أن نتلو عليكم حديث علي(ع) عند دفن الزهراء(ع).. كيف هي مشاعره وعواطفه وحزنه الكبير.. إنني أتصوّر أن علياً(ع) كان يشعر بالسكينة والاطمئنان مع رسول اللّه(ص) وعندما غاب رسول اللّه عاش هذه السكينة الروحية مع الزهراء(ع) وعندما ذهبت الزهراء شعر علي(ع) لأول مرة بالغربة، لا من جهة قرابة هنا وقرابة هناك ولكنّه لم يكن هناك شخص يعيش علي(ع) معناه ويعيش معنى علي إلاّ رسول اللّه(ص) والزهراء(ع) فلقد كانت رفيقة علي(ع) في التتلمذ على يدي رسول اللّه(ص) ولذلك قيل «لو لم يكن علي لما كان لفاطمة كفؤ». لأن عقلها عقله ولأن قلبها قلبه. وأنتم تعرفون ـ أيّها الأحبة ـ أن الإنسان عندما يفقد من يمثّل كيانه كلّه فإنه يشعر بالغربة، ونستشعر ذلك في كلمته التي رواها الشريف الرضي في (نهج البلاغة) والرواية عن الإمام الحسين(ع): «السلام عليك يا رسول اللّه.. عني وعن ابنتك النازلة في جوارك». وهذه إشارة إلى انه دفنها إلى جوار رسول اللّه(ص) «والسريعة اللحاق بك.. قلّ يا رسول اللّه عن صفيّتك صبري». فقد وصلت إلى حد أكاد افتقد فيه الصبر، وهي مبالغة فيما كان يتحسسه من ألم الفقد وإلا فإن عليا هو الصابر الذي لا صبر كصبره «ورقّ عنها تجلّدي». أي لم أستطع أن اتماسك «إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك». فلقد فارقتك وأنت الأعظم والأكبر والأحب والأقرب «وفادح مصيبتك». لأننا فقدنا بفقدك الوحي الذي كان ينزل علينا من السماء بألطافه كلّها. «ولقد وسّدتك في ملحودة قبرك». لأنه هو الذي قام بدفن رسول اللّه(ص) والقوم مشغولون عن ذلك. «وفاضت بين نحري وصدري نفسك». فلقد كان يحتضنه أثناء لفظ أنفاسه «فلقد استرجعت الوديعة» وكانت فاطمة الزهراء(ع) عند علي(ع) الذي حافظ عليها أعظم محافظة لا كما يقول الناس الآخرون «وأخذت الرهينة». فلقد كانت الرهينة عند رسول اللّه(ص) «أما حزني» الذي يعيش في القلب.. الحزن الرسالي.. الذي يتحسس معنى من فقد «فسرمد» أبدي «وأما ليلي» حينما افتقدك يا رسول اللّه يا من كنت أنس ليلي، وافتقد الزهراء(ع) التي كانت أنس ليلي «فمسّهد» فلا أستطيع أمام هذا كلّه أن أملك عيني لتنام لأن ذكرياتكما تفرض علي اليقظة كلّها. «إلى أن يختار اللّه لي دارك» فأنا وحدي.. أعيش في الليل وحدي وأسير في النهار وحدي وإن كان الناس كلّهم معي لأن العلاقة العميقة بين رسول اللّه(ص) وعلي(ع) هي علاقة ليس مثلها علاقة، فرسول اللّه(ص) هو أبو علي بالتربية ومعلّمه ومرشده وأخوه ورفيقه، لذلك نمت بين رسول اللّه(ص) بالنسبة لعلي(ع) وبين علي(ع) بالنسبة لرسول اللّه(ص) العلاقة التي لا فراغ فيها قط «وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها». فيما ظلمت به «فأحفها السؤال». والإنسان عندما يفارق شخصا وتحدث بعده مشاكل فانه يحاول أن يحفي السؤال أي يكثره «واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر». فقد عشنا ذكراك وما تركه عهدك لنا من ذكرى.. «والسلام عليكما سلام مودّع لا قال ولا سئم فإن أنصرف لا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الصابرين» ليس جزعاً أن أقف على قبرك فلست أتنكّر لقضاء اللّه وقدره.
درس الزهراء(ع):
أيّها الأحبة: إذا ذكرتم الزهراء(ع) فاذكروها بالفرح الروحي.. وإذا ذكرتم الزهراء(ع) فاذكروها في مواقع القدوة.. كانت الأصدق فكونوا الصادقين.. وكانت الأعبد فكونوا العابدين.. كانت التي تقول «الجار ثم الدار» فحاولوا أن تهتموا بالآخرين قبل الاهتمام بأنفسكم.. وكانت العظيمة التي أحبّت اللّه وأحبّت رسول اللّه وأعطته عقلا كلّه وقلبا كلّها حتى قال عنها (أمّ أبيها) ورعت علياً(ع) فأعطته بيتا إسلامياً فريداً كأفضل ما يكون البيت الإسلامي النموذجي.. كانت رفيقة عقله وروحه وجسده فإذا ذكرتم الزهراء(ع) فاذكروا هذه الروحانية كلّها المنفتحة على اللّه وهذه المحبة للناس كلّهم، وقد قال أمير الشعراء (شوقي) وهو يتحدث عنها:
ما تـمنّى غيرها نسلا ومن                 يلد الزهراء يزهد في سواها
والسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حيّة. والحمد للّه رب العالمين.
 
المحاضرة الثامنة والعشرون: 25جمادى الأولى 1420 هـ الموافق 4/9/1999م



احتقار الذنب واستكثار الخير


* الشيء البسيط الذي لا اعتبار له عندك قد يكون فيه رضا اللّه *








الخير والشرّ في التربية الإسلامية
محقّرات الذنوب
الفكرة في الواقع
محقّرات الذنوب لا تغفر
استكثار الخير
الأماني الكاذبة
لا تستصغرنّ خيراً أو شرّاً
كلمات النور

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الخير والشّر في التربية الإسلامية:
في منهج التربية الإسلامية يتعين على الإنسان عندما يتوجّه للخير في عمله أن يشعر بأن حياته لابد أن تكون كلّها خيراً، بحيث كلّما عمل الخير أكثر شعر بالحاجة إلى الاستزادة منه أكثر، فلا يخيّل إليه في أية حالة من الحالات أنه اكتفى من الخير وأنه عمل الكثير منه، وأنه قام بواجبه تجاه الخير، بل لابد أن تكون حياته كلّها، في جميع لحظات عمره ومواقعه حركة خير منفتح على العناصر في أيّ جانب من الجوانب.
وفي الجانب الآخر، جانب الشر، قد يواجه الكثير من الناس انطباعا بأنّ هناك شرّاً كبيراً وأن هناك شرّاً صغيراً، وأن هناك شراً لا يمتلك الكثير من العناصر السيئة أو الخبيثة التي تلفت النظر إليه، حتى إذا مرّ الناس به لم يلتفتوا إليه واحتقروه بحيث لا يوجّهون إلى فاعله الكثير من اللوم. وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بـ(اللمم) وهناك شرّ كبير قد يشعر الإنسان بأن عليه أن يجتنبه بحيث كلّما فعله شعر بثقل المسؤولية أكثر.
محقّرات الذنوب:
فهناك الكثير من الناس ممن يواجهون محقرّات الذنوب ويمتدون بها على أنها ذنوب صغيرة، فيما التوجيه الإسلامي يريد أن يقول للإنسان لا تحتقر الذنب الصغير، كما لا تستكثر الخير الكبير لأن ما يريده اللّه تعالى من الإنسان في تربية نفسه أن يكون خيراً كلّه وأن لا يقترب الشرّ ـ ولو بنسبة صغيرة ـ من حياته، بحيث يكون طموح الإنسان المؤمن هو ذلك، فإذا فعل الخير كثيراً استزاد منه واعتبر أن عليه أن يأتي بأكثر مما فعل، وعليه أن لا يستكثر من صغير الشرّ وأن لا يحتقره.
وقد وردت عدة أحاديث عن رسول اللّه(ص) وعن أئمة أهل البيت(ع) الذين تعبّر أقوالهم كلّها عن أقوال رسول اللّه(ص). فنلتقي بالدرجة الأولى بحديث نبوّي شريف يمثل تجربة نبوية أمام أصحاب النبي(ص) حيث أراد أن يعطيهم الفكرة مجسّدة في الواقع.
الفكرة في الواقع:
ففي الحديث عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضّال والحجّال جميعاً، عن ثعلبة، عن زياد قال: قال أبو عبد اللّه(ع): «إن رسول اللّه(ص) نزل بأرض قرعاء (لا نبات فيها) فقال لأصحابه: إئتوا بحطب فقالوا: يا رسول اللّه نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، فقال(ص): فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول اللّه(ص): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرّات من الذنوب، فإن لكلّ شيء طالباً ألا وإن طالبها يقول {ونكتب مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(ياسين:12). فقد يشعر الإنسان في حياته أن لا ذنب له لأنه فعل ذنباً صغيراً كالقشّة أو العود الهائم في الصحراء. فهو يتصوّر أنه لم يرتكب ذنبا لأنه لم يفعل شرّاً مجتمعا، بل كانت الشرور أو الذنوب متفرّقة في حياته بحيث لم يتلفت إليها. فأراد(ص) أن يعطيهم المثل بأن يقول لهم: ها أنتم عندما سألتكم اجمعوا الحطب في هذه البادية قلتم لا حطب فيها لأنكم كنتم تنظرون إلى الأشياء في ضخامتها ولم تنظروا إليها في محقراتها، وعندما تحركتم وبحثتم فإنكم رأيتم حطباً كثيراً، وهكذا الحال في إطار الذنوب، فعندما تتحركون من ذنب يفصله عن الذنب الآخر زمان أو مكان بعيدان لا يشعر الإنسان بكمّية الذنوب مع بعضها البعض، فلا تشعرون بمقدار ما ارتكبتم من ذنوب كما تنظرون إلى الحطب وهو عيدان متفرّقة حتى إذا اجتمعت استحالت حطباً كثيراً.
محقّرات الذنوب لا تغفر:
وقد ورد أيضاً عن الإمام جعفر الصادق(ع) «اتقوا المحقّرات من الذنوب فإنها لا تغفر» لماذا؟ لأنكم تتجرّؤون على معصية اللّه من خلالها وتستهينون بارتكابها، فالإنسان إذا قدم على المعصية مستهيناً بها فإن خطورتها تتحرك في خطين:
الأول: في طبيعة المعصية، وهي أنك خالفت أمر ربك.
الثاني: في الخلفية النفسية التي تختفي وراء المعصية في دلالتها على أنك تستهين بربّك فتحتقر معصية ربك،وتتجرّأ على أن تعصيه في الصغير. فاللمم الذي يتحدث عنه القرآن في أنه يغفر إنما هو الذنب الطارئ في حياة الإنسان لا الذي يقدم عليه وهو يعلم أنه حرام فلا يراقب اللّه فيه، بل إنه يتحرك فيه متمرّداً على اللّه سبحانه وتعالى. إن احتقارك للذنب وجرأتك عليه،في دلالته على تمرّدك على اللّه، لا يغفره اللّه «قلت: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك». أي أنه يقول ـ كما هو حال الكثيرين ـ الحمد للّه على أن لا ذنب لي سوى هذه الصغيرة أو تلك ـ فكأنه يوحي لنفسه بالأمن من مكر اللّه وعذابه بلحاظ أن ذنوبه ذنوب محدودة، في حين أن على الإنسان أن يستعظم الذنب من نفسه حتى لو كان قليلاً أو صغيراً.
استكثار الخير:
وفي الحديث عن سماعة، قال: سمعت أبا الحسن ـ الإمام الكاظم(ع) ـ يقول: «لا تستكثروا كثير الخير». أي إذا فعلت الخير الكثير في الحياة فلا تقل إنني قد فعلت ما يجب عليّ ولا يجب عليّ أن أفعل أكثر من ذلك، أو أنك تتباهى بما فعلته من كثرة الخير. «ولا تستقلّوا قليل الذنوب». فأنت عندما تحصي ذنوبك قد تشعر أنها قليلة أمام ذنوب الآخرين. «فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيراً». فربما لا تشعر بضخامة هذه الذنوب لأنها متفرقة ولكنك عندما تجمعها إلى بعضها البعض فإنك حينئذ تراها ذنوبا كثيرة. «وخافوا اللّه في السرّ حتى تعطوا من أنفسكم النصف». أي أن تنصف نفسك بنفسك.
وهذا ما نلاحظه في حياتنا اليومية، فقد يستيقظ أحدنا صباحا وقبل أن يخرج من العمل قد ينزعج من زوجته فيسبّهاّ وربما يضرب ابنه لأنه لم يفعل ما يريده منه، وفي مكان العمل قد يرتكب خطأ هنا وخطأ هناك، فيقول في نهاية النهار: الحمد للّه على أنني ما زنيت ولا سرقت... وينسى السبّ والشتائم والضرب والكذب والغيبة واحتقار المؤمنين، فأنت كما البائع الذي يبيع بسعر زهيد هنا وسعر زهيد هناك ثم يمتلئ الصندوق من هذا وذاك فيمسي مالاً كثيرا. وهكذا بالنسبة للإنسان عندما يمارس هذه الذنوب في يومياته فقد لا يجد انه فعل ما يغضب ربه، لأن ذهنيته ترتكز على أن الذنب الذي يستحق عليه العقاب هو الزنا أو السرقة أو القتل وغير ذلك مما يستعظمه الناس، في حين أننا استهلكنا الغيبة فصارت بالنسبة لنا أمراً عاديا لا ذنبا نحاسب عليه، فقد يغتاب بعض الناس مائة غيبة في اليوم ولا يشعر بالإثم، مع أن الغيبة هي من الكبائر التي تؤدي إلى النار. وكذا سوء الظنّ بالناس، والحكم على الأشياء بدون حجّة، فهذه الذنوب الصغيرة ـ في ذاتها أو عند صاحبها تجتمع فتصبح كثيرة لكننا لا نشعر بخطورتها لتفرّقها أو صغرها.
الأماني الكاذبة:
وعن أبي جعفر الإمام الباقر(ع) عن أبي بصير قال سمعته يقول «اتقوا المحقرات من الذنوب فإن لها طالبا». وهو اللّه «يقول أحدكم أذنب واستغفر». فهو يمنّي نفسه أن اللّه أعطاه التوبة ووسيلة الاستغفار، وأن نفسه الأمّارة بالسوء قد تشتهي حراما في طعام أو حراما في شراب أو حراما في لذة، فهو يذنب بذلك ثم يستغفر. وقد يقول بعض الآباء لأبنائهم من الشباب، أنت شاب فعش حياتك في لهوها وعبثها ولذاتها فدور الشباب هو دور اللذة والحرية ـ وحينما يصبح عمرك (50-60) سنة اذهب إلى الحج واعتق رقبتك هناك، فإن الإنسان إذا خرج من الحج خرج كيوم ولدته أمّه فتكون قد حصلت على الدنيا والآخرة. فمن قال لك ـ يا ترى ـ انك ستعيش إلى ذلك الوقت، ثم من قال لك أنك سوف تتوب في ذلك الوقت، فالإنسان الذي يركّز ذهنيته على أساس أن يتجرّأ على معصية اللّه سبحانه وتعالى ويمتد فيها فسوف تتأكد المعصية في عقله وقلبه وحياته حتى لا ينفتح على توبة.
 فقد ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(ع) «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء». وقلبه يشمل الذهنية التي تشمل الجانبين العقلي والعاطفي أي الجانب الشعوري «فإذا تاب انمحت وان زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا»( ). أي تتسع تلك النكتة السوداء حتى تشمل القلب وإذا شملته انتكس فصار أسفله أعلاه وأعلاه أسفله، أي انقلب وعيه فراح ينفتح على السيئة كما لو كانت حسنة {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}(فاطر:8). وعندئذ تنقلب المفاهيم والتصورات، فمن الصعب أن يأمن الإنسان على نفسه من انه سيتوب في المستقبل، ولهذا قال الشاعر:
لا تقل في غد أتوب لعلّ           الغد يأتي وأنت تحت التراب
وفي (مناجاة الشاكين) للإمام زين العابدين(ع): «إلهي أشكو إليك عدوّا يضلّني وشيطاناً يغويني قد ملأ بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي، يعاضد لي الهوى ويزيّن لي حبّ الدنيا ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى».
«يقول أحدكم أذنب واستغفر، إن اللّه عزّ وجل يقول: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(ياسين:12). وقال عزّ وجل {إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّه إِنَّ اللّه لَطِيفٌ خَبِيرٌ}(لقمان:16).
لا تستصغرنّ خيراً أو شرّاً:
وقال أمير المؤمنين(ع) «لا يصغر ما ينفع يوم القيامة ولا يصغر ما يضرّ يوم القيامة». فكلّ شيء من الخير قد ينفعك يوم القيامة حتى ولو كان صغيرا فلا تصغّره، فقد يرفع قدرك عند اللّه ويمنحك مغفرته ويقرّبك إليه والى الجنة، وكلّ شيء من الشرّ يضرّك يوم القيامة حتى لو كان بنسبة الواحد بالمائة بحيث يبعّد خطواتك عن الجنة فلا تصغّره، فقد يهوي بك إلى الجحيم.
«فكونوا فيما أخبركم اللّه عزّ وجل» { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}(الزلزلة:7-8). «كمن عاين» كما لو كنت ترى الخير رأي العين ماثلا أمامك في نتائجه الايجابية أما كنت تسرع نحوه؟ وعندما ترى الشر رأي العين أما تهرب منه ؟ فالنفس تقترب من الربح وتبتعد عن الخسارة، فالإمام ينصحنا في أن نجسّد الأعمال التي تقرّبنا والتي تبعّدنا عن اللّه كما لو عايناها.
وعن أمير المؤمنين(ع) في (نهج البلاغة): «أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه». فالمسألة ليست في حجم الذنب بل في دلالته وهي أنك تستهين بغضب اللّه وبالجرأة عليه.
وعن الصادق(ع) عن آبائه ـ في حديث المناهي ـ «إنّ رسول اللّه(ص) قال: لا تحقّروا شيئاً من الشرّ وإن صغر في أعينكم، ولا تستكثروا شيئاً من الخير وإن كثر في أعينكم، فإنه لا كبير مع الاستغفار ولا صغير مع الإصرار». فإذا أصررت على الصغيرة فإنها تتحوّل إلى كبيرة، وإذا استغفرت وندمت وتبت من الكبيرة فإنها تصغر لأنّ اللّه يغفرها إذا رأى منك التوبة النصوح.
وفي الحديث عن أحد الأئمة(ع) أنه قال: قال رسول اللّه(ص): «إن اللّه كتم ثلاثة في ثلاثة: كتم رضاه في طاعته، وكتم سخطه في معصيته، وكتم وليّه في خلقه». أي أن هناك من الطاعات التي إذا فعلتها رضي اللّه عنك وأن هناك من المعاصي التي إذا فعلتها فإن اللّه يسخط عليك في ذلك. كما أن هناك من الناس ممن تزدريهم عينك وقد يكونون من أولياء اللّه «فلا يستخفّن أحدكم شيئاً من الطاعات». فربّ نافلة من النوافل، أو صدقة على مؤمن، أو إدخال السرور عليه أو عفو عنه تستخف بها وفيها الخير الكثير، فما يدريك أنها رضا اللّه. فالشيء البسيط الذي لا اعتبار له عندك قد يكون فيه رضا اللّه. «ولا يستقلّن أحدكم شيئا من المعاصي فإنه لا يدري في أيها سخط اللّه، ولا يزرين أحدكم بأحد من خلق اللّه». فلا تحتقرن شخصاً فقيراً لا وجاهة له حتى إذا جاءك لم تقم له ولم تصافحه ولم تقبل عليه، فقد يكون وليا من أولياء اللّه وأنت لا تدري فتكون ـ بذلك ـ قد احتقرت وليا من أولياء اللّه. «فإنه لا يدري أيهم ولي اللّه». أي احترم الناس جميعاً.
ومن كلامه(ص): «لا تنظروا إلى صغير الذنب ولكن انظروا إلى ما اجترأتم». أي إلى دلالة الذنب، لأن الذنب ـ كما أسلفنا ـ يمثل الجرأة على اللّه سبحانه وتعالى. ولا بدّ للإنسان أن يعلّم نفسه أن لا يهمّ بالسيئة. فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) قال: «من همّ بالسيئة، فلا يعملها فإنه ربّما عمل العبد السيئة فيراه الربّ فيقول: وعزّتي وجلالي لا أغفر لك أبداً». فقد تكون السيئة الصغيرة هي مثار غضب اللّه.
كلمات النور:
أيّها الأحبة: هذه هي كلمات النور لأنها كلمات الحق من رسول اللّه(ص) وهي كلمات الحق من أبناء رسول اللّه (ع) الذين هم خلفاؤه وأوصياؤه، وهي تمثل الخطوط التربوية التي تريد من الإنسان أن يكون إنسانا مؤمنا بربّه، منفتحا عليه، محبّا له، يعمل على أن تكون حياته كلّها في رضاه فلا يجترأ على الصغير ولا على الكبير حتى إذا عصى ربّه بادر بالاعتراف إلى ربّه أن معصيته لم تكن معصية تمرّد وجرأة ولكنها النفس الإمّارة بالسوء.
 وعلينا أن نتعلّم من أدعية القران والنبي(ص) وأئمتنا(ع) ولا سيما دعاء الإمام علي بن الحسين(ع) الذي رواه (أبو حمزة الثمالي) الذي يقرأ في أسحار شهر رمضان وينبغي أن يقرأ في كل يوم لأن هذا الدعاء وسواه من الأدعية تمثّل مفردات الثقافة الروحية التي تعرّف الإنسان ربّه، وكيف يخاطب ربّه وكيف يحبّه، وكيف يتضرع بين يديه، كما تعرّفه كيف يتحرك في الحياة مع الناس في الخط الذي يرضاه اللّه «الهي ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا لسخطك متعرّض ولا بأمرك مستخفّ ولا بوعيدك متهاون، ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك المرخى عليّ فقد عصيتك وخالفتك بجهدي فالآن من عذابك من يستنقذني ومن أيدي الخصماء غداً من يخلّصني وبحبل من اتصل إن أنت قطعت حبلك عني فوا سوأتاه على ما أحصى كتابك من عملي الذي لولا أرجوه من كرمك وسعة رحمتك ونهيك إياي عن القنوط لقنطت».
أيها الأحبة: رحلتنا مع اللّه طويلة وهي الرحلة التي ننطلق فيها بأعمالنا في هذه الدنيا {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}(الانشقاق:6). فانظر ما هو كدحك: هل هو الذي تتقرّب به إلى اللّه أو الذي تبتعد به عن اللّه ـ لأن ذلك اليوم هو يوم التغابن وهو اليوم الذي لا تملك فيه نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ للّه. والحمد للّه رب العالمين ( ).
 
المحاضرة التاسعة والعشرون: 15جمادى الآخرة 1420 هـ الموافق 25/9/1999م


مشكلتان: علمٌ بلا عملْ وعملٌ بلا علم



* هناك من تخشع لتقواهم ولإخلاصهم ولكنّك تكتشف أنها تقوى تفتقد عمق الوعي، وإخلاص يفتقد العلم والمعرفة *





 لنبدأ من جديد
 بين العلم والعمل
 الخطان في أحاديث المعصومين(ع)
 حركة الرسالة في الواقع
 العمل بغير علم إفساد
 الحبّ معرفة
 في خط العمل الإسلامي
 في واقع الإسلام السياسي
 العلم أولاً
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لنبدأ من جديد:(*)
لا أملك الكلمة التي تمتلئ بكلّ ما أعيشه من إحساس بكلّ هذه القلوب النابضة بالحب التي عشت نبضاتها بنبضات قلبي، واستطعت ـ من خلالهاـ أن أعيش قوة هذه النبضات.. أيها الأحبة: إنّي استحضر كلمة إمامنا زين العابدين(ع) عندما أستمع إلى كلمات الحب التي انطلقت في أكثر من مكان من إخواني وأخواتي في العالم «اللّهم إني أعوذ أن أحبّ فيك وأنت لي مبغض».. فأسأل اللّه أن يوفقني لأن أسير في الطريق المستقيم الذي يصل إلى رضاه، وأن يوفقني أن أعيش معكم.. مع كل هذه الطلائع الإسلامية الواعدة التي نريد منها أن تملأ الدنيا إسلاما.. وأن تملأ الدنيا هدى، لأن مسيرتنا ـ أيّها الأحبة ـ هي جزء من المسيرة الكبيرة التي قادها وأطلقها وعلّمها وزكّاها رسول اللّه(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته(ع).
معاً نسير من أجل أن تكون كلمة اللّه هي العليا، وأن تبقى كلمة الشيطان هي السفلى.. أشكركم جميعاً من كلّ عقلي ومن كلّ قلبي.. ولنبدأ من جديد.. مع رسول اللّه ومع الأئمة من أهل بيته(ع).
بين العلم والعمل:
عندما ندرس تأريخ المسيرة الإسلامية فإننا نلاحظ أن المشكلة كانت تتحرك في مواقف المسلمين أو مواقعهم في خطين: مشكلة عمل بدون علم، ومشكلة علم بدون عمل. فهناك الكثيرون في هذا التاريخ من تخشع لتقواهم ولإخلاصهم ولكنك تكتشف أنها تقوى تفتقد عمق الوعي، أو أنه إخلاص افتقد العلم والمعرفة، وهؤلاء كثر في مجتمعنا الإسلامي. وقد عاش هذا المجتمع ولا يزال الكثير من مشاكل هؤلاء لأنهم قد يحصلون على الثقة الاجتماعية بين المسلمين من خلال عملهم فتفرض هذه الثقة على الواقع الإسلامي جهلهم.
وهناك الأشخاص الذين يملكون العلم كأرحب ما يكون العلم ولكنهم لا يملكون العمل ولا يملكون مسؤولية هذا العلم ورساليته فينطلقون إلى المجتمع من خلال ما يفرضونه عليه بالثقة بهم من خلال عملهم ولكنهم يسيئون إلى مسيرته من خلال انحراف خط العلم عندهم عن خط العمل.
ولعلّ الكلمة المشهورة التي لم ندقّق في سندها «قصم ظهري إثنان جاهل متنسّك وعالم متهتّك»..تمثل واقع المسيرة الإسلامية كلّها.
الخطّان في أحاديث المعصومين(ع):
وقد عالج رسول اللّه(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) ذلك كلّه، فلنقرأ بعض ما ورد عنهم ولنستوح ـ بما يتسع له المقام ـ حركة الواقع في هذين الخطين:
ففي الخط الأول: وهو العمل بغير علم، نقرأ في الحديث عن بعض أصحاب الإمام جعفر الصادق(ع) قال: «سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول: العالم على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده سرعة السير إلا بعدا». فعندما تبدأ خط السير فعليك أن تعرف الطريق الذي تسير فيه والهدف الذي تسعى إليه، لأنك عندما لا تعيش ثقافة المسيرة في بداياتها ونهاياتها وخطوطها فقد يخيّل إليك أنك تسير في الطريق الذي يصل بك إلى الهدف، وإذا بك تسير في الطريق الذي يصل بك إلى ما هو ضد الهدف. ولذلك فقد تكتشف وأنت في نهاية الطريق أنّك ابتعدت عن الطريق أكثر، بعدما كنت أقرب إليه في البدايات، ولكن عندما تنطلق تلك البدايات في خط الانحراف فانك تبتعد عن الطريق كثيراً، ولو وقفت لاستطعت أن تهتدي أكثر.
حركة الرسالة في الواقع:
وفي حديث آخر عن بعض أصحاب الإمام الصادق(ع) وهو (حسين الصيقل) قال: سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول «لا يقبل اللّه عملا إلا بمعرفة». فاللّه تعالى يريد منّا أن نعرف من قبل أن نعمل لأن العمل ليس مطلوبا في ذاته من خلال ذاتيات العامل فيما ينطلق به، ولكن العمل المطلوب هو الذي يجسّد الفكرة. وهو أن تتحرّك الرسالة في الواقع، فإذا كنت تجهل الرسالة فإن معنى ذلك أن ما يتحرك في الواقع باسم الرسالة ليس هو الرسالة.
وقد كانت عظمة الأنبياء(ع) وفي مقدمتهم سيدهم وخاتمهم رسول اللّه محمد(ص) هي أن الرسالة كانت تتجسد في خطواتهم عندما تنطلق من كلماتهم، لأن المسألة هي أن تتجسد الرسالة، ولذلك فإن اللّه لا يقبل عملاً بغير علم ـ ولاحظوا هذه الكلمة الحاسمة ـ فقد تكون إنسانا مخلصا ولكنك جاهل بمقدار إخلاصك، فإذا كان إخلاصك يشدّك إلى اللّه في نظرك فإنّ جهلك يبعدك عن اللّه أكثر لأنك لم تخلص للّه ولكنك أخلصت لما تتصوّر أنه للّه، فأنت بالتالي لم تخلص للحقيقة.
يقول الإمام الصادق(ع): «لا يقبل اللّه عملا إلا بمعرفة ولا معرفة إلا بعمل». فلابد من أن يكون هناك نوع من الانسجام بين المعرفة والعمل. «فمن عرف دلّته المعرفة على العمل». فإذا كان لديك وعي الفكرة ووعي الرسالة فإن الفكرة والرسالة تدلّك على الطريق. فالذين يجهلون يتخبّطون في الطريق لأنهم يعيشون عمى الفكر، في حين أن المعرفة تدلّك على الطريق وتحدّد لك معالم الطريق وتحدّد لك الذين يقودونك في الطريق.
 «ومن لم يعمل فلا معرفة له ألا إن الإيمان بعضه من بعض». فالإيمان ليس فكرة مجردة عن العمل ،كما أنّ الإيمان ليس عملا مجردا عن الفكرة.
العمل بغير علم إفساد:
وفي الحديث عن أبي عبد اللّه الصادق (ع) عن رسول اللّه(ص) قال: قال رسول اللّه(ص) : «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح». لأنك عندما تتحرك في خط العمل فإنك ترمي إلى تغيير الواقع، وعندما تغيّر الواقع على أساس الخطأ والجهل، فإن معنى ذلك هو أنك تخلق مشكلة للواقع أكثر من المشكلة التي كانت فيه قبل أن تبدأ العمل.وهذه مسألة ـ أيها الأحبة ـ عشناها ولا نزال نعيشها في المسيرة الإسلامية كلّها، حيث نواجه من لا يبلورون الفكرة قبل البدء بالعمل ولا يتعمّقون في خطوطها وطبيعتها وإيحاءاتها، الأمر الذي يؤدي إلى الوقوع في الكثير من الأخطاء والتسبّب في العديد من الأضرار والمفاسد.
الحبّ معرفة:
فعندما تنفتح على حبّ اللّه فإن عليك أن تعرف اللّه في طريق هذا الحب، لأنّ بعض الناس ربّما عاشوا الحبّ للّه فانحرفوا عن طريق هذا الحب لأنهم لم يعرفوا اللّه كما ينبغي أن يعرف مما يمكن للعبد أن يعرفه.
وعندما تحبّ رسول اللّه(ص) فعليك أن تعرف رسول اللّه مما عرّفنا اللّه من صفاته في كتابه الكريم ومما جسّده(ص) في حياته وحركته. وعندما تحبّ أهل البيت(ع) فإن عليك أن تعرف أهل البيت(ع) من خلال مفردات هذه المعرفة فلا تغمط حقّهم كما غمط الكثيرون حقّهم، ولا تغلو فيهم كما غلا الآخرون، وهذا هو قول أمير المؤمنين(ع) «هلك فيّ اثنان: محبّ غال ومبغض قال». فعليك أن تحبّ من موقع المعرفة ولن تكون المعرفة حقيقية إلا من خلال المصادر الأصيلة والدقيقة التي يمكن لك أن تجعلها حجّة بينك وبين اللّه، بحيث إذا سألك اللّه عن ذلك أجبت جواباً يمكن أن يكون عذرا لك أمام اللّه سبحانه وتعالى.
في خط العمل الإسلامي:
وعندما نتحرّك في خط العمل الإسلامي فإن علينا أن نعرف الإسلام، فلا يكفي أن ننفتح على الإسلام بطريقة ضبابية، أو أن ننادي بالإسلام من دون أن نعرف الخطوط الأصيلة له، ومن دون أن نعرف المفردات المنهجية للإسلام، ومن دون أن نعرف الحلول التي يقدّمها الإسلام إلى العالم.فأن تعمل للإسلام قيادةً في موقع ثقافي، أو قيادة في موقع سياسي، أو قيادة في موقع اجتماعي، لابد أن يكون لديك وعي الإسلام ولن يكون لديك مثل هذا الوعي إلا إذا كان لديك وعي القرآن، فمن لا يقرؤون القرآن علما وثقافة وروحا وحركة ليسوا مؤهلين أن يكونوا في أيّ موقع قيادي للإسلام، لأن القرآن هو النور الذي يضيء الطريق.
ولعلّ مشكلتنا ـ أيّها الأحبّة ـ فيما نأخذ به من مواقع الثقافة والعلم، هي أن القرآن يعيش على هامش ثقافتنا الحوزوية، وأن الكثيرين ممن ينفتحون على الفقه علماً لا ينفتحون على القرآن علما، ولذلك فإنهم قد يتصورون الانحراف استقامة والاستقامة انحرافا، وقد يتصورون الضلال هدى والهدى ضلالة. فلن نعرف الإسلام إلا إذا قرأنا رسول اللّه(ص) بكلّه، وقرأنا علياً وأبناءه الطاهرين بكلّهم، بأن نقرأهم فيما يعيشونه مع اللّه وفيما قدموه للأمة من فكر وهدى، وفي مسيرتهم من مناهج في الحياة، وأن لا نقرأهم في الشهود فقط ولا نقرأهم في الغيب فقط وإن كانت لديهم مساحة كبرى في الغيب بل نقرأهم في هذا وذاك لأنّ مشكلة الكثيرين هي أنهم عاشوا مع الأنبياء والأولياء في الغيب ففقدوا معرفتهم للأنبياء وللنبوات في عالم الشهود، فضاع الغيب منهم عندما ضاع الشهود ذلك لأن الغيب مرتبط بالشهود كما أن الشهود منفتح على الغيب.
في واقع الإسلام السياسي:
لذلك أيها الأحبة ـ «لا عمل بدون معرفة». فمن لا يعرف السياسة الإسلامية فيما هو واقع الإسلام في ساحات الإسلام كلّها، وواقع التحديات التي تواجه الإسلام وواقع الاستكبار العالمي والمستكبرين كيف يشتغل في السياسة الإسلامية؟! إنه قد يشتغل في السياسة الاستكبارية باسم الإسلام، وقد يشتغل في السياسة العبثية الضائعة باسم الإسلام. ولهذا نجد أن لدينا مخلصين كثيرين، كما أن لدينا جهّالاً كثراً في مواقع الإخلاص، ولدينا أتقياء كثر في معنى الروحية التي يعيشونها، ولكن لدينا أيضاً الأتقياء الذين لا يعرفون خطوط التقوى، ولدينا المواقع الكبيرة التي يمكن أن تكون عنوانا للإسلام، ولكننا نجد في كثير من هذه المواقع عنوانا بدون معنون.
 فلنتأمل في الكلمة النبوية «من عمل على غير علم». علمٍ في كلّ مفردات الموقع الذي تمثله، وكلّ خطوط الدرب الذي تسير فيه، وكلّ ساحات الصراع التي تدخل فيها.. وكلّ الآفاق التي تتحرك فيها. لأن لكلّ ساحة علمها، ولأن لكل طريق علمه ، ولأن لكل موقع علمه.
العلم أولاً:
أيها الأحبة : إن الإسلام مثقل بكل الجراحات التي أثخنّاه بها، وإن الإسلام يعيش أكثر من مشكلة كنّا نحن المنتمين إليه السبب فيها، فلنوفّر على الإسلام الكثير من جهلنا، ولنقرأ قبل أن نبدأ الخطوة الأولى ، ولنعرف نهايات الأمور قبل أن ننطلق في بداياتها، لأن الساحة واسعة واسعة، والتحدي كبير كبير، والمرحلة صعبة صعبة على مستوى الثقافة والسياسة والأمن والاجتماع.
أيها الأحبة: إن الواقع الذي يعيشه الإسلام هو واقع ينادي «هل من ناصر ينصرني»!!. ناصر يعرف كيف ينصر الإسلام لا أن يخذل الإسلام باسم الانتصار له. والحمد للّه رب العالمين.( )

 
المحاضرة الثلاثون: 22جمادى الآخرة 1420 هـ الموافق 2/10/1999م


استعمال العلم


 * علينا أن نأخذ العلم ممن يعيش العلم نورا في عقله، ونورا في قلبه، ونورا في حياته، فأولئك هم الذين يهدوننا إلى اللّه ويقرّبوننا إليه *
نور الإسلام
الواقع العملي
استغلال ثقة الناس
معرفةُ حقّ وحركةُ باطل
معالجة القرآن للمشكلة
خداع الناس بالعلم
كيف عالجت الروايات المشكلة؟
استعمال العلم
أخذ العلم من أهله
حبُّ العالم للدنيا
إتباع السلطان
نماذج من الواقع




 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
نور الإسلام:
لقد أرسل اللّه رسوله(ص) بالهدى ودين الحق وهو (الإسلام) من أجل أن يتحوّل إلى فكر في عقول الناس، ويخرجهم من الظلمات إلى النور في عقولهم لأن ظلمة العقل هي السبب في كلّ المشاكل التي عاشتها الإنسانية، فالناس عندما غرقوا في ظلمات التخلّف الذي انطلق من خلال ظلمات الجهل، ارتبكت تصوراتهم ففقدوا وضوح الصورة في تصوّر اللّه، وعندما فقدوا وضوح الصورة في تصوّرهم لله سبحانه وتعالى فقدوا وضوح الصورة في تصوّرهم للكون وللإنسان، ولذلك كانوا يخبطون خبط عشواء. وهذا هو هدف من الأهداف التي استهدفها الإسلام كرسالة بلّغها رسول اللّه(ص) للناس من أجل أن يخرجهم من الظلمات إلى النور.
الواقع العملي:
والهدف الثاني هو أن يحوّل الإسلام كدين وكرسالة الواقع من واقع مظلم إلى واقع مضيء لأنه لا يكفي أن يشرق الحق في عقلك، بل لابد من أن تعمل من أجل أن يتحرك الحق بإشراقته في واقعك، لأن العلم إنما أراده اللّه تعالى للعمل، وأن يحوّل الفكرة إلى واقع بحيث يعيش الناس واقع الحق في أنفسهم وعلاقاتهم ومسؤولياتهم في الكون كلّه, وعلى ضوء ذلك فإن اللّه أراد للناس أن يتعلّموا وأن يعملوا بما تعلّموه. وقد قلنا بأن هناك مشكلتين عاشهما الإنسان المسلم في تأريخه كلّه، هما: مشكلة العاملين غير العالمين ومشكلة العالمين غير العاملين، وضاع الواقع الإسلامي بين هاتين المشكلتين وضاع الإنسان المسلم بينهما أيضا.
استغلال ثقة الناس:
وقد تحدّثنا - في المحاضرة السابقة - حول الذين يعملون من دون علم فيتحركون ويحصلون من خلال حركتهم على ثقة الناس بهم، فقد يستغلّون خطّاً عاطفيا يعيشه الناس فيحرّكون تخلّفهم في إغناء هذا الخط العاطفي بمفردات التخلّف، وقد يجدون فراغا سياسيا يبحث الناس عمن يملؤه فيملؤون هذا الفراغ بما يختزنونه من جهل وتخلّف وانحراف. وقد ينطلق أناس بروحانيتهم لامتلاك ثقة الآخرين لأنهم يشغلون وقتهم بالعبادة بحيث يرى الناس فيهم صورة الرجل الروحاني، ولكن مشكلتهم أن روحانيتهم لم تنطلق من معرفة عميقة واسعة باللّه، ولم تتحرك من وعي لما هي خطوط الروح في شخصية الروحاني فيتبعهم الناس على أساس ما يمنحونهم من قداسة ويتحرك جهلهم ليفرض نفسه على الناس فيكون الجهل مقدسا نتيجة قداسة الذين يحرّكون الناس في خط الجهل.
معرفةُ حق وحركةُ باطل:
أما في حديثنا اليوم فإننا سنتناول مشكلة العالمين الذين امتلأت عقولهم بالعلم فهم مثقفون بالحق ومنفتحون على قضايا الإنسان، ولكن مشكلتهم هي أن شهواتهم أكثر تأثيرا على حركتهم في الحياة من عقولهم، وأن غرائزهم هي التي تتحرك في خط مشاريعهم في الحياة، فهم يملكون معرفة الحق ولكنهم يتحركون في خط الباطل، وهم يعيشون معنى العدل في أذهانهم في الوقت الذي يتحركون فيه مع الظالمين ليؤيدوا ظلمهم، وهم ينظّرون للاستقامة في الفكر ولكنهم ينحرفون في أحكامهم وفي مسيرتهم، لأنهم يعرفون اللّه في عقولهم فكراً ولكنهم يعيشون الشيطان قلباً وإحساساً وحركة وشعوراً، وهؤلاء هم الذين يمثلون الخطر على الإنسان والإسلام كلّه، ولعل مشكلتنا في ذلك تتمثل في الكثيرين ممن أطلق عليهم (وعّاظ السلاطين) هؤلاء الذين يعطون السلطان الجائر فتوى بالحرب إذا أراد حرباً، وفتوى بالسلم إذا أراد سلماً، وهكذا يزيّنون له الظلم والانحراف من موقع شرعي وما هو من الشريعة في شيء
معالجة القرآن للمشكلة:
وقد عالج القرآن وضع هؤلاء العلماء بأكثر من آية، وتحدث الرسول(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته (ع) حول هذا الموضوع بالأسلوب الذي يشير أو ينذر بالخطر. ففي القرآن الكريم نقرأ قوله تعالى { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}.  فتثقّف بها وحصل على الفكر الذي تتضمنه فأصبح ممن يملكون الخطوط الثقافية التي تتحرك في هذه الآيات. { فَانسَلَخَ مِنْهَا}. فلم يلبسها كما يلبس الإنسان ثوبه، فهو لم يلبس فكر الآيات لتكون شخصيته شخصية هذا اللبوس الثقافي الذي تمثله الآيات {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}.  فعندما انسلخ من آيات اللّه وأتبع شهواته {فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ  وَلَوْ شِئْنَا}.  بالطريقة الغيبية {لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}(الأعراف:175-176). لأن الآيات التي تمثل المعرفة التي يلقيها اللّه إلى عباده ترفع الإنسان {يَرْفَعْ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(المجادلة:11). {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ}.  فلم ينفتح على السماء ولكنّه التصق بالأرض فكان فكره فكر الأرض في معناها المادي، وكانت طموحاته طموحات أرضية، وكانت تطلّعاته تطلّعات أرضية وليس للسماء، بمعنى السموّ والانفتاح والصعود إلى اللّه ـ أي دور في ارتقائه. ولم أر تعبيرا قرآنيا يمثل الإنسان الذي ينفصل عن كلّ شيء يتصل باللّه وبالسموّ مثل هذا التعبير{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ}. أي استسلم إلى الأرض وترابها وما فيها من معاني المادة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}. فلم ينفع فيه أي كلام {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}.  وكم في الناس من هؤلاء {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}(الأعراف:176). فهم لا ينفتحون على الحقيقة التي تقدم لهم ولا يسمعون للمواعظ التي يوعظون بها ولا يتجاوبون مع أية دعوة للحوار بل تبقى كلمة الظلال عندهم هي النباح المتكرر الذي يمارسونه في المواقف كلّها، تماما كما هو الكلب الذي يحمل النباح طبيعة له بقطع النظر عن الحالة التي تواجهه بها. إنّ هذه الصورة القرآنية هي من أروع الصور التي تمثل صورة العالم الذي لا يستعمل علمه بل ينقلب على علمه ويتجه اتجاها آخر.
خداع الناس بالعلم:
والآية الأخرى تتحدث عن نموذج آخر {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.  لأنه يملك ثقافة وفكراً وأحاديث تنفتح لها وعليها القلوب فيخيّل إليك أنه يمثّل الحقيقة في حركة الواقع، أو يمثل العدالة في حياة الناس. وإذا رأى منك شكاً وتساؤلا فإنه لا يتردد في القسم{وَيُشْهِدُ اللّه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}. حيث يكون في مقام تأكيد جدّيته وأحقيّته بأن يشهد اللّه على ما في قلبه {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }.  حمله الناس على أكتافهم وأصبح يمثل موقعا اجتماعيا أو سياسيا أو دينيا أو ما إلى ذلك {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ }.  ابتعد عن خط الصلاح وأخذ بخط الفساد، وابتعد عن خط العدالة وأخذ بخط الظلم. {وَاللّه لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}. وبالتالي فهو لا يحب هذه النماذج التي تتخذ العناوين الكبرى للعدل وصولا إلى الظلم.. وتتخذ العناوين الكبرى للحق لتصل إلى الباطل {وَإِذَا قِيلَ لَهُ}  أين كلامك؟ أين مواعظك؟ أين شعاراتك؟ اتق اللّه فيما تأخذ به من ظلم وفيما تتحرك به من انحراف. {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْم}.  فهو يقول: أنا أكبر من أن تقولوا لي {اتق اللّه}.. أنا الذي أأمر الناس بالتقوى والواعظ الذي ليس لأحد أن يعظه، وأنا الذي أعطي الناس علما وليس هناك من يعطيني العلم.. فلقد تضخّمت شخصيته من خلال كلّ هذه الغرائزية التي تحوّلت إلى انتفاخ للذات ضاع منه كلّ الشحم الحقيقي الذي كان يحمله، كما قال المتنبي:
أعيذها نظراتٍ منك صادقةً       أن تحسب الشحم فيمن شحمُه ورم
فليس كلّ من انتفخ يحمل شحما حقيقيا لأن الانتفاخ قد يكون ورما. { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(البقرة:204).
وربما نستوحي هذا المعنى من آية أخرى أيضاً كما في قوله تعالى{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الحج:11).  
كيف عالجت الروايات المشكلة؟
وأما في الروايات والأحاديث الواردة عن النبي(ص) وعن أهل بيته(ع)، ففي الحديث عن (سليم بن قيس الهلالي) قال: «سمعت أمير المؤمنين(ع) يحدّث عن النبي(ص) أنه قال في كلام له: العلماء رجلان رجل عالم أخذ بعمله ـ أي عمل به ـ فهذا ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى اللّه فاستجاب له وقبل منه فأطاع اللّه فأدخله اللّه الجنّة وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتّباعه الهوى وطول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحق». لأن الهوى يتجه غالباً إلى الباطل، وإذا استحكم على الإنسان منعه عن الأخذ بالحق الذي يجعله يخسر الكثير «وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة».
وفي كلام لأمير المؤمنين(ع) خطب به على المنبر، وعلينا أن نتصوّر علياً وهو يحدّثنا بنفسه لأن عليا في وعينا هو علم عليّ وعقله وروحه وكلماته ومواقفه فهذا هو الذي يخلد لنا من علي(ع). قال: «أيها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون». أي اجعلوا علمكم طريقا للهدى الواقعي في السير على الطريق المستقيم. «إن العالم العامل بغيره» الذي يعمل بغير علمه «كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله». لأن النتيجة واحدة، فالعالم الذي يعمل بغير علمه إنما يعمل بالجهل، لأن غير العلم هو الجهل، فالنتيجة سواء بين أن يكون عالماً أو جاهلاً لأن قيمة العلم هي في أن يتحوّل إلى نور في حياتك تستهديه وتتحرك من خلاله فإذا لم يتحوّل إلى ذلك، فكأنه جهل «بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم». لأن اللّه سبحانه وتعالى قد يعذر الجاهل في جهله أما العالم  فكما قال سبحانه وتعالى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ  قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللّه مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِير}(الملك:8-9).  «والحسرة أدوم». على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحيّر في جهله، «وكلاهما حائر بائر». هذا حائر في فكره وذاك حائر في حركته «لا ترتابوا فتشكّوا». أي خذوا بالعلم ولا تأخذوا بالريب لأنه يوصلكم إلى الشك «ولا تشكّوا فتكفروا». وهذا تأكيد أن على الإنسان أن يتعمّق بعلمه ويحرّكه في طريق إيمانه. «ولا ترخّصوا لأنفسكم» بحيث تقولون هذا حلال وهذا حرام ولا مانع في هذا أو ذاك «فتدهنوا». أي تتساهلون في أمر دينكم «ولا تدهنوا في الحق» فتتركوه وتتسامحون فيه «فتخسروا، وإن من الحق أن تفقهوا». وأن تتعلموا وتحصلوا على فقه الدين وفقه الحياة من خلال أن الفقه هو الذي يمكن أن يحقق لكم النجاة. «ومن الفقه أن لا تغترّوا» فإذا كنت فقيها فإن معنى فقهك هو أن لا تكون الإنسان الذي يعيش الغرور بعلمه لأن الإنسان كلّما علم أكثر، كان متواضعاً أكثر. «وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربّه» لأن الإنسان الذي يطيع اللّه سبحانه وتعالى ويرتفع بالطاعة هو الذي ينصح لنفسه لأنه يفتح لها باب رضوان اللّه وباب الوصول إلى الجنّة «وأغشّكم لنفسه أعصاكم لربّه». فأيّ غش أعظم من أن تقود نفسك إلى ما يدخلها جهنم وإلى ما يبعدها عن اللّه. «ومن يطع اللّه يأمن ويستبشر لأن اللّه قال للذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا {أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا}(فصلت:30). «ومن يعصي اللّه يخب». أي يصاب بالخيبة «ويندم».
استعمال العلم:
وفي حديث للإمام الباقر(ع) فيما رواه بعض أصحابه، قال: «سمعت أبا جعفر(ع) يقول: إذا سمعتم العلم فاستعملوه». أي كلّ حكم شرعي تسمعه، وكلّ فكرة إسلامية تدخل في عقلك، وكلّ خط من الخطوط الثقافية الإسلامية التي تنفتح عليها لابد أن تنتقل من طور الاستماع إلى طور التنفيذ والعمل. «ولتتسع قلوبكم». أي افتح قلبك للعلم الذي تسمعه، والمقصود بالقلوب ـ كما ذكرت مرارا ـ العقول والمشاعر والوعي الداخلي، حتى تملؤوا قلوبكم بهذا العلم ليكون هو الأساس الذي ترتكز عليه حركة العقل «فإن العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله قدر الشيطان عليه». فإذا لم يتسع قلبك للعلم ولم يتحمّل هذا العلم فكرا وعمقا وحركة في ما يمكن لك أن تستنبط من هذا العلم علما جديدا بحيث يستقر في عقلك فإن العلم الناقص غير الناضج «إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله قدر الشيطان عليه، فإذا خاصمكم الشيطان فاقبلوا عليه بما تعرفون». أي عندما يأتيك الشيطان من أجل أن يأخذ بك يمينا وشمالا وينحرف بك عن الخط المستقيم فإن عليك أن تستحضر علمك كلّه، وثقافتك في الحق ومعرفتك باللّه لتحارب بها الشيطان لأن كيد الشيطان ضعيف، ذلك لأنه يستغل جهلنا وغفلاتنا وابتعادنا عمّا علمناه، «فإن العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله» بمعنى أنه يعجز عن احتماله وتحويله إلى عمل «قدر الشيطان عليه فإذا خاصمكم الشيطان فأقبلوا عليه بما تعرفون فإن كيد الشيطان كان ضعيفا، فقلت: وما الذي نعرفه». أي ما هو الشيء الذي نوجهه للشيطان لنضعفه «قال خاصموه بما ظهر لكم من قدرة اللّه عز وجل». لأن الشيطان يحاول أن يملأ قلوبكم بقدرة هذا الطاغية وذاك الحاكم وهذا الغني ليضعفكم أمام هؤلاء، وعليكم أن تقارنوا بين قدرة اللّه سبحانه وتعالى وقدرة هؤلاء حتى يمكن لكم أن تقهروا الشيطان لأن الحجة في أنفسكم سوف تكون أكثر ولأن استحضاركم لعلمكم يعني أن تملؤوا كيانكم كلّه بهذا العلم فلا يملك الشيطان أن يدخل إليكم الضلال في أي مدخل.
أخذ العلم من أهله:
وقد جاءتنا الأحاديث عن بعض العلماء والفقهاء في هذا السياق حيث يقول سليم بن قيس: «سمعت أمير المؤمنين(ع) يقول: قال رسول اللّه(ص): منهومان لا يشبعان: طالب دنيا وطالب علم. فمن اقتصر من الدنيا على ما أحلّ اللّه له سلم». أي إذا كنت طالب دنيا فعليك أن تقتصر على الحلال منها إنْ أردت السلامة عند اللّه سبحانه وتعالى، لأن اللّه لم يحرّم عليك الدنيا ولكنه حرّم عليك حرامها فقط، أمّا حلالها فقد أحلّه لك {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ}(الأعراف:32).  «ومن تناولها من غير حلّها هلك إلا أن يتوب أو يراجع» أي يراجع نفسه في ذلك ليرجع إلى الحق. «ومن أخذ العلم من أهله». لأن الذي يأخذه من غير أهله فإنما يأخذ جهلاً ولا يأخذ علماً «وعمل بعلمه نجا، ومن أراد به الدنيا». أي استعمل العلم ليصل إلى الدنيا «فهي حظّه». أي يحصل على الدنيا ولكنه لا يحصل على الآخرة لأنه طلب بعلمه الدنيا ولم يطلب به الآخرة.
حب العالم للدنيا:
وقد ورد في الحديث عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق(ع) قال «إذا رأيتم العالم محبّا لدنياه». بحيث أن همّه وشغله ونشاطه ووسائله وأساليبه تكون من أجل الدنيا «فاتهموه على دينكم». فلا تأخذوا منه دينكم لأن محبّته للدنيا قد تدخل الدنيا في الدين فتخلطهما فتبتعد بكم عن صفاء الدين والإخلاص له. «فإن كلّ محب لشيء يحوط ما أحبّ». أي يكون جهده كلّه وحفظه ورعايته لما أحب، فإذا أحب الدنيا فإنه يحوطها ويحفظها ويرعاها ويسخّر علمه لمصلحة شهواتها التي لا يحبها اللّه. وقال(ص): «أوحى اللّه إلى داود لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا، فيصدّك عن طريق محبتي». لأنه إذا كان مفتونا بالدنيا فإنه سوف يقودك إلى الدنيا وإلى شهواتها وغرائزها ويبعدك عنّي «فإن أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين». أي أن هؤلاء العلماء المفتونين بالدنيا، كما هم قطّاع الطريق الذي يتربصون بك ليسرقوا منك مالك، فإنهم يقطعون الطريق ليأخذوا منك دينك وموقفك «إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم». ذلك أن قلوبهم مشغولة بالدنيا ومن كان قلبه كذلك كيف يذوق حلاوة المناجاة؟!
أتباع السلطان:
وقد ورد في الحديث عن أبي عبد اللّه الصادق(ع) قال «قال رسول اللّه(ص): الفقهاء أمناء الرسل». فهم الذين يأتمنهم الرسل على رسالتهم ليحفظوها ويبلّغوها إلى الناس من بعدهم «مالم يدخلوا في الدنيا». وإنما يكونون أمناء الرسل إذا كانوا أمناء على الرسالة ودليل أمانتهم على الرسالة أن لا يدخلوا في الدنيا بحيث تكون الدنيا كلّ همهم «قيل يا رسول اللّه: وما دخولهم في الدنيا، قال: اتّباع السلطان». هؤلاء الذين يتبعون سلاطين الجور فيحسّنون لهم القبيح إذا أرادوه ويقبّحون لهم الحسن إذا رفضوه ويعطونهم فتوى من هنا وفتوى من هناك وتأييدا من هنا وتأييدا من هناك بحيث يكونون من حاشية السلطان. «فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم».
نماذج من الواقع:
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ أراد اللّه لنا أن نتعرّف على هذه النماذج التي توجد في كل زمان ومكان لنعرف كيف نستطيع أن نحذر منهم ونبتعد عنهم. وهذا مما قد نعيشه في أكثر من نموذج، فنجد مثلاً أن اللّه أراد للأمة أن تكون أمة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِي}(الأنبياء:92). {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}(آل عمران:103). ولكننا نجد أن هناك من العلماء والفقهاء منْ يعملون من أجل تمزيق وحدة الأمة فيثيرون بين وقت وآخر ما يمزّقون به هذه الوحدة فيشغلون الأمة بالخلافات والمنازعات التي تبعدهم عن صفاء الإسلام ومواجهة التحديات الكبرى التي توجّه إلى الإسلام وإلى المسلمين كالتحديات السياسية والثقافية والاجتماعية.
وهناك في العالم الإسلامي أيضاً من يعمل من اجل تأييد الظلم والظالمين والانحراف والمنحرفين، كأولئك الذين يتحركون مع الاستكبار العالمي ومع الاستكبار الصهيوني والاستكبار المحلي من أجل أن يدعموا المستكبرين مستغلّين ما يملكونه من علم يعطيهم الثقة في نفوس الناس فيستغلهم المستكبرون في الإيقاع بالمستضعفين.
وهناك من العلماء من يربكون الواقع الإسلامي ويمزّقون وحدته من خلال أحكام غير عادلة وتصرفات غير مسؤولة تنطلق من منطلق العقدة والحقد بما يثير العصبيات الإسلامية، فبدلاً من أن يعمل هؤلاء على توحيد الصف ورأب الصدع وتقريب المسافات يعملون على تعميق الهوة وإثارة الحزازات والتنفيس عن العقد بما يثير في الساحة غبارا كثيفا قد تتعذر معه الرؤية أحيانا.
وإن من هؤلاء من يحرّكون التخلف في نفوس الناس ويعملون على ركوب الموجات العاطفية التي ترتكز على التخلف وعلى الجهل، ويعملون على إرضاء الناس بأي شكل كان، فيبتعدون عن خطوط العلم الصحيحة من أجل أن يحصلوا على موقع هنا ومركز هناك.. فاحذروهم على دينكم لأن علينا أن نأخذ العلم ممن يعيش العلم نوراً في عقله ونوراً في قلبه ونوراً في حياته، فأولئك هم الذين يهدوننا إلى اللّه ويقربوننا إليه. والحمد لله رب العالمين.( )
 

الفصل الأول

المسائل القرآنية

* إذا نزل القرآن بقوم فهو لا يختصّ بهم. ولذلك نحتاج أن نمدّ القرآن في حركة الإنسان في الحياة حاضرا ومستقبلا، وأن نستوحيه لننطلق من الماديّ الحسيّ إلى المعنويّ، ومن النماذج المحدودة إلى النماذج الواسعة والمطلقة *



 
أولاً: في التفسير

ثانياً: مسائل قرآنية عامّة


 

أولا: في التفسير
استثناء ظواهر القرآن من الحجّية:
* ذهب جماعة من العلماء إلى استثناء ظواهر الكتاب المجيد من الحجّية وقالوا بأنه لا يجوز العمل بما يتعلق بالقرآن العزيز إلاّ بما كان نصّاً في المعنى أو مفسّراً تفسيراً محدداً من قبل النبي(ص) والمعصومين(ع) فكيف استدلّوا على ذلك، وما هو رأيكم بما ذهبوا إليه؟
- إنّ مستندهم في ذلك هو اشتمال القرآن على المتشابهات، والمتشابه هو مجمل فلا يعرفون أين المتشابه من المحكم وبذلك يفقدون المعرفة القرآنية، فلابد أن نردّ القرآن إلى أهله الذين نزل القرآن فيهم. وروي أن من فسّر القرآن برأيه فقد هلك، إلى غير ذلك مما لا يثبت أمام النقد على مستوى أسانيد بعض الروايات أو دلالاتها على المدعى، هذا فضلا عن منافاة هذه الدعوى للقرآن نفسه الذي وصف أنه نور {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللّه نُورٌ}(المائدة:15). ويحدّثنا أن القرآن بنفسه {يَهْدِي بِهِ اللّه مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ}(المائدة:16). وان المتشابهات تفسرها المحكمات.
لذلك فإن الظهور هو الذي تقوم الحياة عليه، فلو لم نأخذ بظهور الكلمات لما استطعنا أن نتفاهم مع بعضنا، وقد جاء النبي(ص) بالقرآن وتركه بين أيدي الناس ليفهموه وفقا لما هو المتعارف عندهم، بل وكان يطلق الآيات عندما تتحرك في القضايا والوقائع والناس يفهمون تماماً ما يقول، وهناك القليل القليل مما كان يستعصي على الناس مما احتاجوا إلى أن يسألوا النبي(ص) عنه، لذلك نقول إن مثل هذه الأقوال تنطلق بعيداً عن القرآن، أي أن هناك مدرسة لا تحاول أن تستنطق القرآن فيما هو وفيما هي حقائق الإسلام، بل تحاول أن تتعلق بحديث هنا وحديث هناك مما لا يراد به التحفّظ على ظواهر القرآن، ولكن يراد به جانب التطبيق تارة أو يراد به الآيات التي يمكن أن تحتمل أكثر من وجه تارة أخرى.
التفسير بدون الرجوع إلى المفسرين:
* إن ظواهر القرآن تكاد تكون بيّنة وواضحة في أكثر آياته بحيث تتجلّى المعاني لمجرد تلاوة الآية فهل يجوز أن تفسّر الآية على المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن من دون الرجوع لآراء المفسرين أم أن ذلك يعدّ من التفسير بالرأي الذي نهت عنه الروايات؟
- لننتبه أولا: أن كلمة تفسير القرآن غير صحيحة، فمحاولة استظهار المعنى من القرآن فيما يكون القرآن ظاهراً ليست تفسيراً إلا في الظهور المعقّد الذي يستبطن بعض الخصوصيات التي لا يلتفت إليها إلا الألمعي. والتفسير بالرأي معناه أن تفسّر ما يكون غامضاً وله وجهان وأنت تختار أحد الوجهين، أما عندما يكون ظاهراً، بمعنى أنه واضح فالواضح لا يفسّر، لذلك فالأخذ بظواهر القرآن مما يسمّى بالآيات الواضحة في القرآن لا يعتبر تفسيراً.
موارد تفسير القرآن:
* ما هي بنظركم موارد تفسير القرآن، وكيف تدخلون كلام الإمام علي(ع) حول (سورة التكاثر) في التفسير؟ وهل يشمل التفسير استنتاج العبر والتوسّع في شرح المفاهيم؟
- في تصوّري أن قيمة القرآن ليست في هذه المفردات اللغوية التي نحاول أن ننفتح عليها من خلال القاموس، لكن قيمة القرآن فيما يستوحيه المفسّر من الكلمة التي تتحرّك في الإنسان لتفتح له كل آفاقه على إيحاءات الكلمة وتنـزل به إلى أعماق نفسه وتحرّك فيه مشاعره وأحاسيسه، بالإضافة إلى ما تحرّك به من أفكار من اجل أن يحقق القرآن غايته في صنع الإنسان.
إنّ عظمة القرآن أنه أراد أن يصنع الإنسان على الصورة التي فطر اللّه الناس عليها بحيث يعيش الإنسان في القرآن مع ربّه ليعرف ربه، ويعيش في الحياة ليتعرّف على مواقعها كلّها في العمق وفي الامتداد، وينفتح على الحاضر والمستقبل من خلال ما يأخذ من دروس الماضي التي تمثل مرحلة إنسانية في حركة الحياة علماً وفكراً وموعظة وما إلى ذلك.
لذلك فالقرآن ليس كلمات جامدة نزيدها جموداً في التفسير، لكنّ القرآن حياة متحركة ولهذا تجد انك كلّما قرأت القرآن أكثر انفتح لك باب جديد وأفق جديد ومعنى جديد، لأن ما يختزنه القرآن الكريم من إيحاءات أكثر ممّا يمثله من معان مختلفة، ولذلك فإنني أتصور أن قيمة التفسير القرآني هو أنك تمشي مع القرآن في آفاقه ومعطياته الحركية ولا تتوقف عند معاني المفردات، ولعل أكثر التفاسير تعطينا فكراً وفلسفة ومفاهيم، ولكنّك تشعر ـ وأنت تقرأها ـ أنك تتجمدّ أمام الآية ولا تنطلق من خلالها في آفاق الحياة كلها، لذلك فإن أسلوب الإمام(ع) في هاتين الكلمتين {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ  حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} استوحى من خلال المقابر وإيحاءاتها ما يجعلك تنفتح على ما قبل دخول هؤلاء القبور، وبعد دخلوها وبعدما يخرجون منها، ويعلّمك كيف تتعامل معهم من خلال ما تعيشه من واقعهم، وكيف تستوحي منها واقعك لتسقط القيمة المتخلّفة وهي التكاثر الذي يدعو إلى زيارة المقابر، فهو يفتح لك أبواب الموعظة والعبرة، وهذا هو التفسير.
نفي الحياة:
* أكد القرآن الكريم على وجود حياة للأموات غير محسوسة، فهل يقصد الإمام علي(ع) من نفي الحياة عنهم نفي الحياة بنظرنا أم نفي مطلق الحياة؟
- الإمام علي(ع) يتحدث عن الأجساد والأجساد تموت، أمّا ما يتحدث عنه القرآن وتتحدّث السنّة الشريفة عنه من حساب القبر أو عالم يتحسس فيه الأموات بعض الأمور فإنه عالم لا نعرفه، فهو عالم من الغيب مما قد لا يكون للأجساد ـ بجانبها المادي ـ أي دخل فيه، ولكنه مما اختصّ اللّه بعلمه. إننا نقرأ المفاهيم في ذلك ولكننا لا نستطيع معرفة حدوده، ولذا لو كشفتَ القبر وأبقيته مكشوفاً فإنك لا تستطيع أن تطّلع على الملكين اللذين يحاسبان الإنسان، ولا تستطيع أن تتعرّف كيف يخاطب الميت أهله وهم يبكون أو كيف يتحدّث إليهم. فهناك عالم آخر يختلف كليةً في طبيعته عن عالمنا وهو من الغيب الذي نعرف مفاهيمه ولكننا لا نستطيع الإحساس به فلنترك علمه للّه.
المنهج الاجتماعي للتفسير:
* إذا كان المنهج هو طريقة البحث ووسائل الاستدلال والبرهنة، فهل يدخل في المنهج النزعات والغايات كالاهتمام بالجوانب الاجتماعية في تفسير القرآن، وهل يمكن القول إنّ هناك تفسيراً اجتماعياً للقرآن؟
- طبعاً، فالقرآن نزل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ونحن نتصور أن هناك ظلمات فكرية وظلمات سياسية وظلمات اجتماعية وظلمات ذاتية، ولذلك فإن القرآن جاء من أجل أن يضيء للناس كل ما يمكن أن يخفى عنهم مما يمثّل ظلمة في الاجتماع أو في السياسة أو في الفكر أو ما أشبه ذلك.
ففي القرآن آيات يمكن للإنسان عندما يدرسها أن يخرج منها بمنهج اجتماعي في تعامل الناس مع بعضهم البعض، والخطوط العامّة التي ينبغي لهم أن يتحرّكوا فيها على هذا الأساس.
الاختلاف في فهم القرآن:
* قال تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(النمل:76). فالقرآن الكريم هو العصمة من الاختلاف، إلاّ أننا نلاحظ أن المفسّرين اختلفوا كثيراً في آياته، فكيف ذلك؟
- القرآن يقدّم للناس الوسائل والأساليب والمناهج التي تمنعهم من الاختلاف، فالاختلاف ليس ناتجاً من خلال القرآن نفسه بل من خلال ما يحاول المفسرون أن يطرحوه من فهم للقرآن.
ودُّ ذوي القربى:
* ما معنى الودّ الوارد في القرآن لذي القربى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(الشورى:23). وهل يسري إلى بني هاشم؟
- المقصود الودّ العملي وهو الالتزام إضافة إلى المحبة، ولا يسري إلى كلّ بين هاشم بل إلى الأئمة الذين فرض اللّه طاعتهم( ).
المنهج التفسيري عند فضل اللّه:
* ما هو منهجكم في تفسير القرآن، وما هو موقفكم من تفسير القرآن بالعقل وبالأخبار؟
- القرآن هو كلام اللّه، وكلام اللّه هو كلام عربي، وللكلام العربي قواعد ينطلق منها في فهم القرآن. ولذلك لابد أن نستهدي قواعد اللغة العربية التي يمكن أن نستخدمها ونستفيد منها في فهم القرآن، ثم لابد لنا أن ندرس هذا الظاهر القرآني، فإذا كان بعض الظاهر في معناه الحقيقي يختلف مع حكم العقل القطعي فلابد لنا أن نحمل الظاهر على معنى يتفق مع حكم العقل القطعي لنحكم بأن هذا اللفظ لم يأت على نحو الحقيقة بل أتى على نحو المجاز أو على نحو الاستعارة أو الكناية. فمثلاً قد نقرأ في القرآن بعض الآيات التي توحي بأن اللّه جسم في حين أن القرآن يصرّح {ليس كمثله شيء}(الشورى:11). وعندما نرجع إلى الدليل العقلي فإنه يقول لا يمكن أن يكون اللّه جسماً لأن الجسم يخضع للحاجات واللّه هو الغني في كلّ شيء فلا يخضع في وجوده لأي حاجة.
لذلك يقول العلماء لابد أن نؤوّل الآيات التي يرد فيها (وجه اللّه) مثلاً بأن يقال إن المراد من الوجه هو الذات كما في قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه}(البقرة:115). لأنه مظهر الذات. وهكذا اليد {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(المائدة:64). فهي أداة العطاء، ولذلك استخدم اللّه سبحانه وتعالى هذه الكلمة ليوحي بأن عطاءاته مبسوطة، فاستعار هذه الكلمة لتدلّ على معنى النعمة والعطاء. ولذا فكما تستعمل الكلمات في اللغة العربية بالمعنى الحقيقي تستعمل كذلك في المعنى المجازي كناية واستعارة، وما إلى ذلك.
فإذا رأينا إطلاق الكلمة على معنى حقيقي يجعلها تخالف العقل القطعي، أو تخالف آية ثانية، فلابد لنا من أن نحملها على المعنى المجازي الذي هو من وسائل الظهور. فكما أن الحقيقة تمثل ظهوراً للفظ في المعنى كذلك المجاز يمثل ظهوراً للفظ.
أمّا منهجنا في التفسير فهو إستيحاء القرآن بأن نستوحي ما يحدّثنا القرآن فيه عن الماضي للحاضر وللمستقبل، ونستوحي النماذج الصغيرة للمعاني الكبيرة لأن القرآن «يجري مجرى الليل والنهار ومجرى الشمس والقمر». فإذا نزل بقوم لا يختص بهم، ولذلك نحتاج أن نمدّ القرآن في حركة الإنسان في الحياة حاضراً ومستقبلاً، لأن القرآن عندما يحدّثنا عن أناس في الماضي فإنه يحدّثنا عن نماذج معينة، وهذه النماذج كما هي موجودة في الماضي فإنها موجودة في الحاضر أيضاً. كما نحاول أن نستوحي القرآن لننطلق من المادي الحسي إلى المعنوي، وننطلق من النماذج المحدودة إلى النماذج الواسعة والمطلقة.
برهان ربّه:
* يقول تعالى في سورة يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}(يوسف:24). فما هو هذا البرهان؟
- الظاهر واللّه العالم ـ إن البرهان هو الوعي والعصمة الداخلية الذاتية التي تنفتح على الإنسان عندما يتجّه جسده للغريزة، لأن للجسد حالة انجذاب لا شعوري كمثل الإنسان الجائع الذي ينجذب للطعام ولكنه يمتنع عن تناوله ـ امتثالاً لأمر اللّه تعالى ـ كما في شهر رمضان، فخوفه من اللّه وتقواه وحبه للطاعة هو الذي يمنعه من ذلك. فالمراد من برهان ربّه هو الحجّة التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى في عقله وفي شخصيّته لأنها هي التي تعصم النبي. ويمكن أن نستوحي ذلك من قوله {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ}(يوسف:33). فأراد أن يستعين بقوّة اللّه فيما يعطيه سبحانه وتعالى من هذه القوة الروحية التي تعصمه من أن يسقط تحت تأثير نقاط الضعف البشرية الموجودة في جسده.


البلاغة وتفسير القرآن:
* المتسالم عليه أن علم البيان والمعاني والنحو والمنطق أتى بعد نزول القرآن، فكيف يكون اللاحق مبيّناً للقرآن؟
- هذه العلوم جاءت لتمنهج اللغة العربية، وغاية الأمر أن علم النحو جاء ليبيّن قواعد اللغة العربية، فلقد كان العرب يتكلّمون باللغة الفصحى وفقاً للقواعد المطروحة وما كانوا يلحنون لأنهم كانوا ينطلقون من فطرتهم. ولمّا اختلط العرب مع غيرهم أصبحوا يخطئون في الكلام. ويقال إن علم النحو نشأ عندما سمع أبو الأسود الدؤلي شخصاً يقرأ {أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ}(التوبة:6). أي أن اللّه بريء من المشركين ومن رسوله، فنقل الكلمة للإمام علي(ع) فبيّن له القواعد، وقال: انحُ هذا النحو، فالآية هي {أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. أي أن اللّه بريء من المشركين ورسوله بريء منهم أيضاً.
وأمّا علم المعاني والبيان فهو عبارة عن اكتشاف الأساليب التي كان يستعملها العرب في الإيجاز والإطناب والحصر والاستعارة والكناية والمجاز. فهي ليست أشياء اخترعت ولكنها بيّنت كيف كان العرب يفكّرون. وهكذا علم المنطق، فلا شيء جديد أو غريب عن اللغة العربية أو عن طريقة الذكر ولكنها حاولت أن تبيّن للناس الذين ابتعدوا عن صفاء اللغة العربية قواعدها لينهجوا عليها وليفهموا القرآن كما أنزل.
اشتراك أصحاب الاختصاصات في التفسير:
* هناك رأي يقول بضرورة اشتراك أصحاب الاختصاصات المهمة الأساسية في التفسير من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الطب بالإضافة إلى الفقهاء وغيرهم، ليأتي التفسير منسجماً وروح العصر الذي نعيشه، فما هو رأيكم؟
- أقول لابد أن يملك المفسّر ثقافة في هذه الأمور التي تتصل في بعض الآيات القرآنية، ولكن ليس من الضروري أن يكون عالماً بها، فعندما يصل إلى قضية تتصل بعلم النفس ولم تكن عنده ثقافة نفسية فإنه يرجع إلى أصحاب علم النفس وهكذا. وإذا كان هناك تكامل ولجنة من اختصاصات متنوعة فقد يكون ذلك أفضل للتفسير.
دور الأئمة(ع) في تفسير القرآن:
* هناك أشياء لم تذكر في الكتاب ولم يستطع الرسول(ص) أن يوضّحها في حياته، لذا فإننا نأخذ كثيراً مما لم يذكر أو يوضّح من الأئمة(ع) لأنهم معلَّمون من قبل رسول اللّه، فهل أن ما عند الأئمة(ع) هو غير ما عند الرسول(ص)؟
- إن الأئمة يقولون إن كلّ ما أخذوه هو من رسول اللّه(ص) كما يقول الإمام علي(ع) «علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم فتح لي من كلّ باب ألف باب». وكما يقول الإمام الصادق(ع) «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث رسول اللّه». فهم يضعون قواعد لذلك ولا يأتون بشيء مغاير.
شرط التدبّر في القرآن:
* هل هناك قاعدة ننطلق منها في التدبّر والتأمّل في آيات القرآن الكريم؟
- ليست هناك قاعدة إلاّ أن يملك الإنسان الثقافة التي يستطيع أن ينطلق منها في التأمّل في هذه الآية أو تلك( ).
فهم القاصرين للقرآن:
* كيف يفهم الإنسان المؤمن القرآن الكريم فهماً صحيحاً وهو لم يتزوّد بوسائل الفهم الصحيحة من قبيل معرفة علم اللغة وفقه اللغة والبلاغة القرآنية وعلوم القرآن؟
- على الإنسان أن يقرأ ويتفهّم ما هو الظاهر القرآني مما يمكن أن يفهمه ويرجع في ذلك إلى من يفهمون ثقافة القرآن.
* ثم هل هناك مرجعية فكرية نستطيع الرجوع إليها في هذا الفهم، مع العلم أن الآراء الكثيرة والمتناقضة لعلماء التفسير قد تصل إلى حد التقاطع مما يزيد الأمر تعقيداً؟
- إن القضية ليست بهذا الشكل، فالخلافات بين المفسرين لم تصل إلى حد لا نقدر معه أن نفهم ما يقولون، فغالباً ما يختلف المفسرون في أشياء جزئية وغالباً ما تكون هناك نقاط التقاء فيما بينهم.
التدبّر ومراجعة أهل الذكر:
* إن اللّه يقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(النحل:43) فكيف نفهم قولكم إن علينا أن نتدبّر القرآن ونفهمه؟
- قلت نحن نستطيع أن نفهم القرآن، فاللّه يقول {وَقُلْ الحقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(الكهف:29). وهو القائل {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللّه نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}(المائدة:15). ويقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّه}(الجمعة:9). فالقرآن ـ في هذه وفي غيرها من الآيات ـ هو ظاهر ومعلوم ولكن قد تكون لدى جماعة من الناس ثقافة أكثر من ثقافتنا وهم يفهمونه أكثر منا، فلابد للإنسان أن يرجع إلى الأشخاص الذين يؤمن بثقافتهم ومعرفتهم بالقرآن ليزداد معرفة به.
الأمل والأماني والشفاعة:
* ما هي علاقة الآية الكريمة لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ(النساء:123). ببحثكم عن الأمل، وبالشفاعة عند بعض العوام حيث تفهم بشكل واسع من غير ضوابط؟
- هذه الآية ـ واللّه العالم ـ توحي بأن مجرد التزام الإنسان بالدين الذي أوصى اللّه به من الناحية الانتمائية البعيدة عن الانتماء العملي لا يمكن أن يوحي للإنسان بالنجاة في الآخرة والحصول على الجنة، لأن أهل الكتاب كانوا يرون أنهم يدخلون الجنة وأن اللّه يغفر لهم كل ما يعملونه من جرائم لمجرد انتمائهم إلى الكتاب باعتبار أن انتماءهم يمثل امتيازاً معيناً وأنهم لن يدخلوا النار، وأن اللّه لن يحاسبهم على أعمالهم.
ولعل هذا كان يتمثل بالنسبة إلى اليهود وقد تحداهم اللّه سبحانه وتعالى بقولهفَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(البقرة:94). وكذلك بالنسبة للمسلمين، فاللّه يريد أن يقول إن الانتماء وحده لا يكفي وأنه أنزل في كتبه العقاب على أعمال السوء، وبالتالي فهذا شامل لأهل الكتاب وللمسلمينلَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ. في انطلاق هذه الأماني بالفكرة التي تقول إن اليهودي والنصراني والمسلم لن يعذب لو عصى اللّه وإن قام بأعمال السوء في حين مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ. سواءً كان من المنتمين للأديان غير العاملين بها أو من غير المنتمين وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(النساء:123).
أما (الشفاعة) فهي ثابتة عندنا وقد تحدّث القرآن عنها، ولكن اللّه ربطها بإذنه وجعل خط الشفاعة للشفعاء هو ما ارتضاه لهم من خط وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى(الأنبياء:28). والمقصود بقوله (لمن ارتضى) ـ واللّه العالم ـ من تُرتضى الشفاعة له من خلال الخط الذي رسمه اللّه للشفعاء في ذلك، وليست الشفاعة عشوائية، كما أنها ليست لازمة فكما أن اللّه يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ(آل عمران:129). كذلك الشفعاء قد يشفعون لك وقد لا يشفعون، فلا يمكن أن يستسلم الإنسان للشفاعة فيقبل على المعاصي والكبائر بحجّة أنه سيشفع له رسول اللّه(ص) أو الأئمة(ع) فقد لا يشفعون لأنهم لا يرون أنك تخضع للبرنامج الذي وضعه اللّه لهم في الشفاعة.
المصطلحات القرآنية التي تستعدي الآخر:
* هناك بعض المصطلحات الواردة في القرآن التي توحي بمعان قد تستعدي الآخر ولا تجلب وده من قبيل (الكافر) و(المستكبر) فما هو قولكم في ذلك؟
- أما مصطلح (الكفّار) فهو موجود في كلّ الأديان، بل كلّ المبادئ والتيارات إذ ما هو الكفر؟
الكفر: هو الجحود، والكفر نسبيّ، فقد يكون إنسان كافراً باللّه و بكلّ ما يتصل به، وقد يكون مؤمناً باللّه ولكنه كافر بالرسول و بالرسالة، أو كافر باليوم الآخر، فالكفر إذاً نسبي، وعندما نقول إننا مؤمنون ومسلمون فهذا يعني أننا كفرة أيضاً، ولكننا نكفر بالطاغوت {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا}(البقرة:256). ألا ترانا نكفر بالطاغوت؟ ألا نكفر بكلّ اتجاه غير الإسلام؟فلماذا يتعقّد الآخرون عندما نقول عنهم كفرة ونحن نتحدّث عمّا هم فيه.
وأذكر مرة أنني تحدّثت مع بعض الماركسيين العقائديين، فقلت لهم:لماذا تتعقدون عندما يقول شخص أنكم تكفرون في حين أن فلسفتكم قائمة على المادة وعلى إنكار كلّ ما وراء الطبيعة. فنحن إذاً نتكلّم عن واقع كلمة الكافر، فلماذا تتألم مني عندما أتحدّث عنك بما تلتزمه فكرياً؟! ولذلك فعندما نفهم أن الكفر جحود فإن الجحود قد يتعلّق بمفردة أو بجميع المفردات الدالّة عليه، فالإنسان قد يكون مؤمناً من جهة وكافراً من جهة. فنحن ـ كما قلت ـ نكفر بالأصنام و بالأوثان وبكلّ شريك للّه، ولذا فنحن كفرة من جهة ومؤمنون من جهة أخرى، ولكن الكفر هنا يتعلّق بشيء و الكفر هناك يتعلّق بشيء آخر.
أما مصطلح (المستكبر) فلا أدري من يتعقّد منه، فالمستكبر هو الذي يرى نفسه رباً أو إلها أو نصف إله، وينظر إلى الناس من فوق، ويتعامل معهم باعتبار أنه أكبر منهم وأعظم، ولكن بعض الناس لا يرتاحون للكلمات القرآنية، فلو قلت: يسقط الاستعمار فهذا كلام سياسي جيد، أما حينما تقول:يسقط الاستكبار فإن هذا يستعدي الآخرين. مع أننا نعتبر أن قيمة الإمام الخميني (رض) هو أنه أتى بكلّ الكلّمات القرآنية و حوّلها إلى مصطلحات متداولة في الساحة السياسية الإسلامية. فالاستكبار عندنا مصطلح مثل مصطلحات الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية أو الإقطاعية عند الماركسيين، والقرآن يركّز على أن المشكلة هي مشكلّة مستكبرين ومستضعفين مالياً وسلطوياً وغير ذلك، فمشكلة الإنسان ـ منذ أن وجد وحتى الآن ـ هي مشكلة مستكبرين ومستضعفين، فلقد كانت مشكلة إبليس أنه كان مستكبراً بالنسبة إلى آدم، وقابيل كان مستكبراً بالنسبة لهابيل، وأتمنى أن نكون في مستوى حركي بحيث نستبدل كلّ الكلمات التي جاء بها الغرب في الحركية السياسية بكلمات إسلامية دالّة على ما نريد أكثر من دلالة تلك الكلمات المستوردة.
الإفادة من الشعر الجاهلي لفهم الكتاب:
* هل صحيح أنه يمكن الاستفادة من ألفاظ الشعر الجاهلي في فهم وتفسير الكثير من آيات القرآن كما يزعم بعض الكتّاب؟
- إن القرآن نزل بلغة عربية، ولذلك فمن الطبيعي أن نستشهد على بعض ما في القرآن بما ورد بشكل مؤصّل من الشعر الجاهلي. وقد أثيرت في بدايات هذا القرن مشكلة التشكيك في الشعر الجاهلي وهل أنه يمثل المرحلة التي ينتسب إليها أم لا، حيث أثير جدل كثير ـ في حينه ـ واعتبر أن هذا التشكيك الذي بدأه (طه حسين) وربما كان مستمداً من مستشرق تتلمذ عليه هو (مرجليوث)، يمكن أن يسيء إلى إعجاز القرآن. وهناك من اعتبر أن من الصعب جداً أن ينسب كل هذا التراث الجاهلي لأشخاص محدثين إذ ليست هناك أية ظروف تفرض ذلك. ولكننا نرى أن القرآن هو الأصل في اللغة وإذا أردنا ان نعرف صحة كلمة في اللغة العربية فإننا نعتبر القرآن هو الأصل ولا نريد أن نستشهد بشعر أو غيره عليه، لأن القرآن هو كتاب اللّه الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(فصلت:42).
الكلمات غير العربية في القرآن:
* هل توجد كلّمات غير عربية في القرآن، وإذا كان الجواب نعم فكيف يتفق ذلك مع قوله تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}(الشعراء:195)؟
- ليس معنى أن ينزل القرآن بلسان عربي مبين أن كلّ كلّمة فيه عربية، بل أن يكون الأسلوب عربياً وأن تكون الروابط بين الكلمات عربية منطلقة من قواعد اللغة العربية. وليس هناك لغة في العالم ليس فيها كلمات أجنبية، فكم في اللغة الفارسية من الكلمات العربية لكن حتى هذه الكلمات تُنطق بلهجة فارسية، لذلك نقول بأن فلاناً يتكلّم الفارسية مع أنه يأتي ببعض الكلّمات العربية، فلا توجد عندنا لغة في العالم صافية مئة بالمئة لأن تداخل الشعوب وتفاعل الحضارات جعل اللغات تتداخل أيضاً، فوجود كلمات غير عربية في الأصل لا ينافي عربية القرآن الذي فيه بعض الكلّمات غير العربية ولكنها تنطلق بالأسلوب العربي وبالكلام العربي.
وفي كثير من الحالات عندما تدخل الكلمة في جسم اللغة تصبح جزءاً منها أي أنها تتعرّب، ويقولون عنها كلمة معرّبة، بمعنى أن اللغة تفرض نفسها على اللغة الأخرى في هذا المجال تماماً كما في زراعة القلب أو الكلية التي تصبح جزءاً من الجسد الجديد، حتى أن العلماء يقولون بأنه إذا فرضنا زراعة قلب خنزير في جسم الإنسان فإن القلب يصبح طاهراً، وكذلك الكلمات التي تدخل في اللغة تصبح من جسم اللغة وكيانها.
خير أمة:
* يقول تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران:110). فمن هي الأمة المخاطبة في هذه الآية؟
- المقصود ب(كنتم) أي (أنتم) وهي الأمة المسلمة، لأنه يقول لاحقاً {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه}(آل عمران:110). فالأمة التي أخرجت للناس هي الأمة التي تلتزم بالرسالة وتتحرك في خطها، باعتبار أن الرسالة التي حملت الأمة المسلمة مسئوليتها هي خير رسالة لأنها تشمل كلّ الرسالات وتمتاز عنها، ولعل من الطبيعي أن تختلف قيمة الأمة في عنوان الخيرية تبعا لالتزامها بجعل الرسالة في حركية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا تركت ذلك انحدرت إلى الدرجة السفلى التي تجعلنا في موقع الدونية في الأمم الأخرى القائمة على السير في خط المسؤولية. واللّه العالم.
موقف القرآن من الأنبياء:
* ورد في القرآن نصّان، يقول أحدهما {لا نفرّق بين أحد منهم}(البقرة:136). والآخر يقول {فضّلنا بعضهم على بعض(البقرة:253)}. فكيف يمكن الجمع بينهما؟
- في قوله تعالى: {لا نفرّق بين أحد منهم}. يعني في الرسالة، فلا ننكر بعضاً دون بعض إذ نصطفيهم جميعاً بالرسالة، وأن على المؤمنين أن يؤمنوا بالأنبياء والرسل جميعاً لا يفرّقون بين أحد منهم يقول تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسله}(البقرة:285). ولكن لا إشكال في أن بعض الأنبياء أفضل من البعض الآخر بما جعله اللّه تعالى لكل نبيّ.
درس الفتية أهل الكهف:
* في قضية أصحاب الكهف ما هي العبرة أو الدرس الذي استفاده أهل ذلك الزمان من هذه الواقعة، مع العلم أن الفتيه خرجوا من قريتهم هرباً ولم يعرف الناس عنهم شيئاً حتى تغير الحال وجاء قوم موحّدون، وعندها أحياهم اللّه سبحانه وتعالى سرعان ما أماتهم، علماً أنه لابد لكل واقعة من هدف وحكمة؟
- إنهم خرجوا تحت تأثير الضغط الذي كانوا لا يملكون أمامه أية فرصة للتماسك، فعندما خرجوا وغابوا عن الناس فمن الطبيعي أن يكون هؤلاء قد افتقدوهم وبحثوا عنهم ولكن لم يجدوهم وبقيت الأجيال اللاحقة تتحدث عنهم، ولذلك عندما كشف اللّه أمرهم كانوا ماثلين في وعي الناس ووجدانهم بالرغم من مرور ذلك التاريخ كلّه الذي يُعد بالقرون. ولهذا عندما جاء الناس إليهم كانوا يتبرّكون بهم حتى أماتهم اللّه وذلك قوله تعالى: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}(الكهف:21).
لذلك فموقف الفتية أصحاب الكهف يمثّل الصلابة في الحق بمعنى أنهم لم يخضعوا للطاغوت بل تركوا أهلهم وبلادهم لأنهم لو بقوا هناك لأضلهم المستكبرون، وهذا ما تعبر عنه الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}(النساء:97). وهذا هو المثل الذي يمكن أن نأخذه ونعتبر به.
في قانون الاستبدال:
* كيف نفهم الارتداد عن الدين الإسلامي من منطلق الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحبهم ويُحِبوُنَهُ}؟
- هذه الآية واردة في مقام أن الذين يرتدّون عن الدين لن يكونوا آخر الناس بل إن اللّه سيّعوض الدين عن هؤلاء بأناسٍ يحبّونه {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}(المائدة:54). فهذه الآية لم ترد في بيان حكم الارتداد.
رضا أهل الكتاب والحوار معهم:
* قال تعالى في كتابه {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(البقرة:120). فكيف تتفق هذه الآية مع ما يعرف اليوم بالحوار الإسلامي ـ المسيحي؟
- لا علاقة بين الموضوعين، فإذا أردت أن تجاملهم وأن تتنازل عن بعض ما عندك حتى يرضوا عنك فلن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، لأنهم يعتقدون بأن ملتهم هي الحق وأنك على الباطل. أمّا بالنسبة للحوار فاللّه سبحانه يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَــابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(العنكبوت:46). {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل:125). فالمراد من هذا الجدال إقناعهم. لذا فإن هناك فرقاً بين أن تستسلم لهم أو تتـنازل لهم، أو تعتقد أن بعض المجاملات أو بعض الأساليب يمكن أن ترضيهم عنك فهذا أمر غير واقعي، وبين الجدال من أجل إفهامهم ما هو الإسلام وما هي عناصر القوة في الإسلام.
مقابلة المُثلة بالمثل:
* إذا مثل الأعداء بالأسرى الذين عندهم فهل يحق لنا نحن المسلمين أن نمثّل بقتلاهم انطلاقاً من قوله تعالى { فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}(النحل:126)؟
- قوله تعالى { فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. واردٌ في أن المسألة إذا كانت تتعلق بالشخص الذي عاقب شخصاً ضربه أو اعتدى عليه، فعليه أن يردّ ذلك بمثله، أمّا إذا مثّل شخص بأسراك فنحن نقول عن المثلة أنها محرّمة حتى بالكافر كما يذهب الكثيرون إلى ذلك. وقد ورد في الحديث أنه «إياكم المثلة ولو بالكلب العقور». كناية عن النهي الشديد لممارسة التمثيل بجثة القتيل. فالقضية حينئذ لا تتعلّق بالذي يمثّل بل تتعلق بالشخص الذي سيمثّل به ولا يجوز ذلك.
السياق في فهم النص:
* نتمنّى معرفة رأيكم فيما يتعلق بالاجتهاد القائم على وضع السياق في فهم النصوص القرآنية، أي فهم سياق ما قبل الإسلام بكل تفاصيله الاجتماعية والثقافية والفكرية سواء كان في الجزيرة العربية أو العالم ككل؟
- إن القرآن حدّثنا عن المجتمع الذي انطلقت فيه الرسالة، وعن كثير من أوضاع الواقع العربي في أفكار الجاهليين وفي أساليبهم وفي بعض عاداتهم وتقاليدهم وما إلى ذلك. فنحن نستطيع أن نأخذ من القرآن فكرة عن المجتمع الذي نزل فيه ولكننا لا نستطيع أن ندخل هذا السياق التاريخي في فهم القرآن، لأنّ القرآن لم ينـزل للمجتمع العربي فقط، ولو كان القرآن كما يقول هؤلاء العلمانيون نتيجة تأريخية انطلق بها النبي(ص) من خلال معاناته وتجربته ومحيطه ليرتفع به، لأمكن لنا أن ندخل السياق التأريخي في فهم النص، لأن القرآن إذا كان كتاب رسول اللّه(ص) وليس كتاب اللّه فمن الطبيعي أن يخضع هذا الكتاب البشري لكل الأوضاع والمنطلقات التي يعيشها هذا الإنسان في هذا الظرف أو ذاك، ولكن عندما نعرف أن القرآن هو وحي اللّه، وأنه نزل ليعالج قضايا الإنسان كلّها {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107). و{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(السبأ:28). وإذا كان اللّه أراد لنبيّه(ص) أن ينذر أم القرى وما حولها، فإنما أراد له ذلك في المرحلة الأولى في عملية التدريج في التبليغ، وإلاّ فاللّه تعالى خاطب النبي(ص) منذ الآيات الأولى بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}. والقرآن هو وحي اللّه وليس للنبي فيه شيء من قليل أو كثير {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ}(الشورى:52).
وهكذا نجد أن اللّه يتحدّث عن سلامة القرآن من خلال أن النبي ـ على ما هو عليه من مكانة عند اللّه ـ لا يستطيع أن ينقص حرفاً ولا يزيد حرفا ً{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ  لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ  ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ  فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}(الحاقة:44-47). إننا نعرف من ذلك أنه لا يمكن أن نفسّر النص القرآني، وأن نفهمه من خلال السياق التأريخي، إلاّ في الآيات التي كان القرآن يتحدث فيها ويردّ على هذا الواقع التاريخي الذي نزل فيه، ومع ذلك فإننا نفهم من خلال أن القرآن أرسل للناس كافّة، أن الواقع الذي كان يعيه يمثل نموذجاً من نماذج واقع الإنسان كلّه. فالقرآن كتاب اللّه، وكلمة اللّه لا تخضع لأي ظرف تأريخي في فهم الأوضاع أو الأشخاص أو أسلوب الردّ، لنأخذ من ذلك العناصر الحيوية التي يمكن أن تعيش في مدى الزمن كله والإنسان كله، ولا هي تخضع لأي وضع اجتماعي ولأية حالة بشرية في السياق، بل إن علينا أن نفهم القرآن على هذا الأساس، ويمكن أن نفهم النص الذي نزل في معالجة بعض الأوضاع أو في الردّ على بعض الأقاويل بأن نستفيد ذلك من خلال السياق التاريخي.
معنى (الفتنة):
* علّق أحد المفسرين للقرآن الكريم على الآية: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ}(البقرة:191).. بأن المراد بالفتنة هو فتنة الناس عن دينهم وإبعادهم عنه، بينما يقول أحد الخطباء بأن المراد بالفتنة في الآية هو ما يقع بين جماعتين من الناس من المشاكل والحالات التي قد تؤدي إلى إراقة الدماء، فمن هو الصحيح والمصيب في تفسيره للفتنة؟
- الظاهر من السياق القرآني أن المراد من الفتنة فتنة الناس عن دينهم، لأنّ هذا ما كانت قريش تفعله عندما تضغط على المسلمين بكلّ الوسائل من أجل أن يتركوا الالتزام بالإسلام. ولعلّ الشاهد على ذلك قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّه}(الأنفال:39). أي قاتلوهم حتى تضعفوهم وتكسروا شوكتهم فلا يملكون أن يفتنوا الناس عن دينهم بما يملكون من قوة الضغط، وحتى ينطلق الإسلام في حريته في الدعوة ويكون الدين كلّه للّه.
ولكننا نقول إنّ الفتنة عن الدين هي مفتاح كلّ الفتن، لأنك عندما تبعد الإنسان عن القيم الدينية التي تمثل حركته في الجوانب الروحية والأخلاقية فإنّك بذلك تفتح آفاقه على معاني الفتنة في الواقع كلّه، لأنّ الإنسان الذي لا يخاف اللّه، والذي لا يعيش مسؤوليته كمؤمن وكإنسان، سوف يتحرّك في عقدته من أجل أن يفتن الناس عن دينهم وعن سياستهم وعن قضاياهم الاجتماعية والاقتصادية وعن علاقاتهم، وما إلى ذلك.
أجر الحسنة:
* ورد في القرآن الكريم في باب الأجر أن الحسنة بعشر أمثالها وفي بعضها بأكثر من ذلك، والسؤال ما هو مقدار الاستحقاق من ذلك ومقدار التفضّل. فهناك رأي يقول الأمر كلّه تفضّل من اللّه تعالى، وهناك رأي يقول ما زاد من الأجر عن الواحد فهو تفضّل والواحد استحقاق، فما هو رأيكم؟
- لا يستحق الإنسان على ربه شيئاً أبداً، لأن الإنسان في كلّ ما يفعله لربّه متقرّباً إليه سبحانه لم يقدّم شيئاً من ذاته. فالعامل مثلاً يستحق أجراً معيناً على صاحب العمل، لماذا؟ لأنه قدّم جهده الذي يملكه، ولكن هل نملك جهدنا إزاء اللّه؟ كلاّ، فنحن نسبّح اللّه باللسان الذي خلقه سبحانه وتعالى ونصلّي بالجسم الذي خلقه، ونجاهد بالقوة التي رزقنا، ونعطي الصدقة من المال الذي آتانا، وهكذا في سائر الأشياء، واللّه تعالى يقول {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللّه}(النحل:53).
 ولذلك فإن للإمام علي(ع) كلمة في هذا الصدد يقول فيها «أقلّ ما يلزمكم للّه أن لا تستعينوا بنعمِهِ على معاصيه». فإذا أردت أن تعصي اللّه فافعل ولكن بشرط أن تعصيه بشيء لم ينعمه عليك، فهل يمكنك ذلك؟! والخلاصة هي إننا لا نستحق على اللّه شيئاً، فإذا كان أجر الحسنة واحداً مقابل واحد فهو تفضّل من اللّه، أو عشرة بواحد فهو تفضّل من اللّه، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}(البقرة:254). {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}(البقرة:261). كلّ ذلك تفضّل سواء الواحد أو العشرة أو السبعمائة أو ما زاد أو قلّ. و قد عبّر الشاعر عن ذلك بقوله:
شـكرُ الإله نعمة موجبةٌ لشكره           وكيف شكري برّه وشكرهُ من بره
الغَرور والغُرور:
* يقول تعالى {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ}(لقمان:33). وفي الدعاء «اللّهم إني أعوذ بك أن أكون مغروراً». فما هو الفرق بين (الغرَور) و(الغُرور)؟
- (الغرَور) يعني الشيطان و (الغُرور) هو انتفاخ الشخصية، وقد يقال بأن الغرور هو خداع، لأن المغرور يعطي نفسه أكثر مما تستحق فيخدع نفسه بذلك وهو يظن أنه يخدع الآخرين.
الصلاة و الصلوات:
* جاء في (سورة المؤمنون ) في الآية الثانية {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}(المؤمنون:2). وجاء في الآية التاسعة {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}(المؤمنون:9). فلماذا أتت في الأولى كلمة الصلاة مفردة و في الثانية بصيغة الجمع؟
- في الأولى ربما أراد أن يبيّن أن طبيعة الصلاة ترتكز على الخشوع، أما المحافظة على أدائها فتختلف بين فرد و آخر، فأراد أن يبيّن الذين يحافظون على صلاتهم من الذين هم عن صلاتهم ساهون وربما يكون هناك تفنّن في التعبير، واللّه العالم بحقائق وأسرار آياته.
القصاص قبل الجناية:
* تقول القاعدة الفقهية (لا يجوز القصاص قبل الجناية) ولكننا نلاحظ في قصة العبد الصالح وموسى(ع) مقتل الفتى الذي يخشى أن يرهق والديه طغياناً وكفراً، قبل الجناية، فكيف يتفق هذا مع ذاك؟
- يقال إن ما قام به العبد الصالح ليس جارياً على حسب الشريعة، وإنما هو أمر أراد اللّه أن ينفّذه لمصلحة ما، وهو قوله تعالى {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}(الكهف:82). فهو ليس مبادرة من العبد الصالح. ونفس الشيء يقال عن ثقب السفينة وإقامة الجدار. {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}(الكهف:82). فكأن اللّه تعالى أراد أن يعلّم موسى أن للقضايا ظاهراً وباطناً، فعليك أن تحدّق في باطن الأمور كما تحدّق في ظاهرها.
أمّا تكليفه عندما يحدّق في الباطن فليس من الضروري أن يرى الشيء سيئاً في الظاهر فيحكم عليه بالسوء من خلال الظاهر، ولكن قد تكون هناك معطيات في عمقه تجعله حسناً أو خيّراً، والعكس صحيح.
{اخلع نعليك}:
* ما معنى {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى}(طه:12). وهل تقبلون التفاسير الصوفية من أن المقصود هو الهوى والشيطان؟
- المراد ـ كما هو ظاهر القرآن ـ خلع النعلين بالمعنى اللغويّ للكلمة، لأنك في حضرة اللّه تعالى. فاللّه أراد لموسى(ع) أن يعيش قداسة الموقف والموقع، وأن يواجه اللقاء باللّه من خلال الشعور بعظمته. فمن مظهر الاحترام للموقع المقدس أن يخلع نعليه. أما تأويله بما يذكرونه من أن على الإنسان أن يخلع هوى نفسه فصحيح، لكن ليس هذا هو المراد من الآية.
تفسير القرآن بالقرآن:
* إذا كانت السنّة مختلفاً فيها ففيها الصحيح وفيها السقيم، فلماذا لا نلتجئ إلى تفسير القرآن بالقرآن لاسيما وأن أهل البيت(ع) قد ذكروا في أحاديثهم أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً وبذلك نتجنّب ما اختلف فيه المسلمون؟
- يقول اللّه تعالى {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}(الحشر:7). فالقرآن وحده لا يكفي كمفسّر، والسنّة جاءت لتفصّل ما أجمله، وتضع النقاط على الكثير من الحروف التي أوكل اللّه فيها المهمة إلى نبيه، باعتباره المفسّر الأول للقرآن. ولذلك فإن علينا أن نبحث ما صحّ عن النبي(ص)، وهناك أسس لمعرفة الصحيح من غير الصحيح لنثبت صحة هذا وعدم صحة ذاك، حتى نأخذ بالصحيح ونترك غير الصحيح.
وللأسف فإن هناك اتجاها هذه الأيام يقول أن لا حاجة لنا بالسنّة فالقرآن موجود، وهذا شيء خطر، فمن الخطأ والخطر أن نترك سنّة النبي(ص) التي أكّدها اللّه وأرادنا أن نعرف نبيه جملة وتفصيلاً بأن نعرف ما آتانا وأن نعرف خلقه { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّه وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّه كَثِيرًا}(الأحزاب:21).
عليكم أنفسكم:
* ما هو المعنى الواضح لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(المائدة:105). هل تعني عدم الاهتمام بالناس وعدم النهوض بالمسؤولية كما يقول البعض، أم ماذا؟
- هذه الآية تريد أن تقول للإنسان إن ضلال غيرك لا يضرّك عندما تكون مهتدياً، و(عليكم أنفسكم) أي حاولوا أن تتعرّفوا مسؤولياتكم..وعليك نفسك أي ينبغي أن تسعى لإنقاذها من النار وأن تقرّبها من الجنة وأن تدفعها إلى أن تعيش مسؤولياتها أمام اللّه، ومن مسؤولياتنا هي أن ندعو الناس إلى الحق وأن نهديهم إلى اللّه.فالآية واردة في مقام أنك عندما تقوم بمسؤوليتك ولا يتقبّل الناس ذلك، أو عندما تعيش في موقع لاتستطيع فيه تحريك مسؤوليتك ويضل من يضل من أقربائك ومن أصدقائك ومن الناس الآخرين، فسوف لن تسئل عنهم الا بقدر مسؤوليتك عنهم وإنما تسئل عن نفسك. وهي أشبه إلى حدٍ ما بقوله تعالى{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(الأنعام:164). أي أن كلّ إنسان يتحمّل مسؤوليته، وليس معنى ذلك أن لا تهتم بالناس ف{لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(المائدة:105). يعني أنكم لا تتحملون مسؤولية ضلال الآخرين ولا تعاقبون على ضلالهم مهما كانت قرباكم ولكن بشرط أن لا تكونوا مسؤولين عن ضلالهم، تحملوا هدايتهم ودعوتهم إلى الحق.
متاع الغرور:
* ما المقصود بقوله تعالى { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُور}(آل عمران:185)؟
- المقصود بها ـ واللّه العالم ـ اعتبار الحياة الدنيا هي الفرصة الأولى والأخيرة للإنسان، وهي كلّ شيء في الحياة الدنيا من خلال الاستسلام لها والإخلاد إليها. فوصفُ الدنيا بأنها متاع الغرور ناشئ من أنها لن تدوم لك، ولأنك سوف تنتقل منها إلى الدار الآخرة. وقد أعطانا
اللّه سبحانه وتعالى الخط البياني الإسلامي للنظرة إلى الحياة الدنيا { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّه الدَّارَ الآخِرَةَ}. أي أن تنفتح في طاقاتك كلها لتكون في الخدمة التي تؤدي بك إلى الآخرة، وأن تجعل من الدنيا في قيمتها وأخلاقياتها وخطوطها العامة جسراً موصولاً إلى رضوان اللّه {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا}(القصص:77) في حاجاتك الدنيوية مما تأكل وتشرب وتلبس وتلهو وغير ذلك.
إلحاق الأبناء بالآباء:
* قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}(الطور:21). جاء في التفسير إن الأبناء يلحقون بدرجة الآباء، وكلّنا أبناء آدم، فهل من باب التسلسل نلحق بأبينا آدم ويصبح الآباء والأبناء في درجة واحدة؟
- قوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. ليس بمعنى أنهم سيكونون في درجة واحدة فهي ـ واللّه العالم ـ قريبة من قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}(الرعد:23). بأن يجمع اللّه هؤلاء الأبناء عندما يكونون مؤمنين مع آبائهم في الجنّة ولا يفرّق بينهم، أي ما نصطلح عليه ب(جمع الشمل). أما الدرجات فمن الطبيعي أن الآباء إذا كانوا بدرجة عالية من الإيمان والصلاح والتقوى كالأنبياء والأئمة(ع) فإن درجاتهم تختلف عن درجات أبنائهم، أما كيف يكون الحال في الآخرة وما هي قيمة الدرجات فقد لا تكون درجات مادية وربما تكون درجات روحية في زيادة القرب من اللّه ورضوانه، فقد يكونون في مكان واحد ولكن أحدهم أعلى من الآخر مقاماً عند اللّه لأنه أكثر حبًاً وقرباً وإخلاصاً له وما إلى ذلك. وهذا ليس هو تكليفنا، فتكليفنا أن نعرف كيف ندخل الجنة كذلك الذي سمع قوله تعالى (ومن زحزح عن النار) فقال كفى ـ أي لا حاجة لإكمال الآية ـ فالمهم أن لا ندخل النار.
لعن الكافرين والفاسقين:
* في القرآن الكريم الكثير من آيات اللعن للكافرين و الفاسقين، فماذا تقولون عنها؟
- اللعن في القرآن على الكافرين و الظالمين وغيرهم وارد في الخط العام ولا مشكلة في ذلك. فاللّه يلعن الظالمين والفاسقين والكافرين. وحديثنا عن اللعن المباشر، أي اللعن الشخصي أو اللعن للعشيرة أو الفئة، وهذا في الحالات التي لا مصلحة إسلامية عليا فيه. أما في العناوين الثانوية فقد تكون هناك مصلحة، علماً أن سبّ الظالمين والفاسقين لا يعطي نتائج سلبية مباشرة، أما السبّ الشخصي والمباشر فهو الذي يعطي نتائج سلبية مباشرة.
 (لا جناح عليكم) وتوهّم الحرمة:
* كيف تفسّر قوله تعالى (لا جناح عليكم) الدالّة على الأحكام، هل هي من باب الأمر والوجوب أم من باب الحرج عن التشبّه وأخذ بعض أحكام الجاهلية؟
- إن كلمة لا جناح عليك تفيد نفي الحرج عن الإنسان الذي يقوم بالعمل الذي تتعلّق به فلا مسؤولية له في الإتيان به مما يوحي بالرخصة ولكنّها قد ترد في موقف توّهم الحرمة وهي لا تنافي الوجوب مـثل قـوله تـعالى{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(البقرة:158). لأن الأصنام كانت موجودة في الصفا والمروة فكانوا يعتقدون حرمة السعي فيها، فقال اللّه تعالى إن ذلك ليس حراماً لأنه سبحانه تعالى هو الذي يأمرهم بالسعي هناك.
العصمة من الناس:
* قال تعالى {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}(المائدة:67). فما المراد بالناس هنا هل هم الصحابة، فالآية الكريمة تشير إلى أن النبي(ص) كان يخاف الناس لأمر ما فمم كان خوف النبي(ص)؟
- كان اللّه يريد أن يبين واقع المسألة لأن هذه المسألة من أصعب المسائل التي طرحت يومذاك، فالنبي(ص) كان يتحدث مع المسلمين في تعيين صهره وابن عمه لولاية الأمر، ومن الطبيعي أن يتكلّم الناس ـ ولاسيما إذا كانوا من الكافرين الذين يثيرون الشبهات على النبي(ص) ـ عن أن النبي إعتمد على قرابته وابن عمه في هذا المجال وربما يعتبرون القضية قضية شخصية. أوليس يتكلّم الناس الآن ضد مرجع ما إذا اعتمد على ابنه أو صهره حتى لو كانا كفوئين، فاللّه أراد أن يبيّن للنبي(ص) أنك عندما تعيّن علياً فعلي(ع) من الناس في مستوى الكفاءة التي ليس يمتلكها أحد. لذلك فسوف لن يتكلّم الناس عنك في ذلك لما يعرفونه من أنك لا تنطق عن الهوى، ولما يعرفون من أن علياً(ع) كما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي «إحتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل أنه إمام الكل». ولم يكن خوف النبي محمد(ص) خوفا شخصيا يتصل بالذات بل هو خوف رسالي يتعلق بمصلحة الرسالة.
معنى (المرقد):
* في سورة (يس) {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}(ياسين:52). كيف يمكن فهم كلمة المرقد والأحاديث التي تتحدث عن القبر وحياته؟
- المرقد في القبر يمثل المكان الذي يقيم فيه الإنسان بحسب ظاهر الجسد، فالقبر هو مرقده ومحل سكونه فيه. أما عذاب القبر وحياته فهي عالم يتجاوز معنى الجسد المحسوس لأنه عالم آخر إذ لو فتحنا القبر وكان الميت يتعذّب أو يتنعّم لرأينا أن الجسد على حاله لأن عالم الآخرة يختلف عن عالم الدنيا.
الاستعاذة بالرحمن:
* وردت آيات في القرآن الكريم تبين الاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم وما شابه ذلك، ولكن السيدة مريم العذراء { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا}(مريم:18). ولم تقل (إن كنت شقيا) أو ماشابه ذلك؟ فلماذا الاستعاذة بالرحمن؟
- يقول بعضهم إن (تقيا) كان رجلاً وكان شقياً وخافت منه وهذا غير ظاهر. ولكن الظاهر من قوله تعالى {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ}. كأنها تريد ان تقول ان كنت تقياً فاني أعوذ منك بالرحمن ـ الذي تعرفه وأعرفه حق المعرفة ـ بمعنى ان لايسيطر عليك الشيطان فيوسوس لك فعل المنكر.
{ اسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}:
* هل الآية {اسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}(الأعراف:204). تدل على الوجوب؟
- تدل على ابن عم الوجوب فهي كناية عن أن على الانسان أن يفتح عقله وقلبه للقرآن على نهج الأمر الارشادي. ولكن مع الاسف نرى ان القرآن تجمّد لدى المسلمين فاصبح لا يمثّل شيئاً بالنسبة لهم. لذلك علينا أن نستمع إلى القرآن وان ننصت له، وعلينا أن لا نطيل قراءة القرآن في المجالس العامّة بنحو نثقل به على الناس بحيث لا يتمكنون من الاستمرار في الانصات.
{لا يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ}:
* مامعنى هذه الآية { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}(الأنبياء:23)؟
- إن ما يفعل اللّه هو الحكمة ولا نحاسب اللّه ونقول له لماذا عملت كذا وكذا فلا اعتراض ولا ملامة، لأن اللّه هو أعلم بالحكمة التي قد نعرفها وقد نجهلها، ولكنّنا في كلّ الاحوال نؤمن بها ونقرّ بالتسليم لأنها صادرة عن حكيم يضع كل شيء موضعه. {وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(البقرة:216).
التطهير من الرجس:
* هل معنى الرجس في آية التطهير النجاسة المعنوية أم المادية؟
- المراد النجاسة المعنوية لأن النجاسة المادية هي أمر جسدي يعرض لكل الناس.
{ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}:
* قال تعالى في فاتحة الكتاب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(الفاتحة:5). ولم يقل (بك نستعين)فما هو الفرق؟
- لأن كلمة {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. تعني أننا نستعين بك ولا نستعين بغيرك ففيها حصر. وتقديم (إياك) على (نستعين) تدلّ على الحصر الذي يعني أننا نستعين بك ـ يا ربّ ـ ولا نستعين بغيرك.وهكذا الأمر في{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. أي أننا نعبدك ـ يا رب ـ ولا نعبد غيرك. أمّا لو قال نستعين بك فالدلالة تكون على معنى الاستعانة باللّه ولا تنفي الاستعانة بغيره إذ لا دلالة في (بك نستعين). على ذلك.
{ أَتَيْنَا طَائِعِينَ }:
* يقول تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(فصلت:11). فما معنى الإتيان طوعاً؟
- هذا وارد مورد الكناية وليس معناها أن للسماء أو الأرض عقلاً ووعياً حتى يخاطبها اللّه بهما، فكأنه أراد أن يبيّن أن السماء والأرض مزوّدتان بنظم وبقوانين تتحركان على ضوئها، تماماً كما لو كان لهما عقل فتطيعان اللّه في ذلك فهي إطاعة تكوينية وليست إطاعة إختيارية، فهي واردة على نحو الكناية أو التصوير كما في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ}(الأحزاب:72). فليس معنى ذلك أنه تحدّث مع الجبال والسماوات والأرض إنما أراد أن يبيّن الأمانة فيما لو عرضها على السماوات والأرض والجبال لتتحمّل مسؤولية أنفسها وتحاسب أمام اللّه لأبت.أما الإنسان فقال إني لها ولم يكن لها{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا}.
التكرار في القارعة:
* ما معنى التكرار في قوله تعالى { الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَة * ُوَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة}(القارعة:1-3)؟
- هذا التكرار ـ واللّه العالم ـ لتهويل الأمر ويعني أتعرفون القارعة وهولها وعظمتها؟ إنكم لا تدركون ذلك مهما فكّرتم. وهذا التعظيم ليوم القيامة له وهو من أجل أن يخشع الإنسان أمام عظمة يوم القيامة فيستعد له.
ارجع البصر:
* قال اللّه سبحانه {ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}(الملك:4). فمن هو المخاطب؟
- كلّ إنسان مخاطب بذلك، فاللّه يقول أنظر إلى الدنيا فماذا ترى؟{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}(الملك:3). فإذا كنت تريد معرفة اللّه فادرس كيف نظّم اللّه الكون لترى انه ليست هناك أية ثغرة في هذا النظام، وهذا كناية عن أنك عندما ترى الكون كله لا ترى أي خلل في هذا الكون المنظّم تنظيماً دقيقاً غاية في الدقّة.
السبيل إلى اكتساب الغفران:
* ورد في كتاب اللّه الكريم قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}(الشمس:7-8). فما هو السبيل إلى اكتساب غفران اللّه تعالى، وهل هو تنبيه من قبل اللّه في هذه النفس أم هو زجر أم نهي؟
- هذه الآية تتحرّك في خط التوعية لتقول لك: إنّ اللّه عرّفك سبيل الهدى وعرّفك سبيل الضلال، لأنه أراد لك أن تختار نهجك وانتماءك ومصيرك ومسيرتك من خلال إرادتك واختيارك {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا  وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(الشمس:9-10). وطالما أن اللّه عرّفك النتائج الطيّبة للتقوى والنتائج السلبية للفجور، فعليك أن تعمل لتزكّي نفسك من خلال ما تعرفه من التقوى، لأن ذلك هو سبيل الفلاح فلا تجعل نفسك تختبئ في ظلمات الفجور لأن ذلك هو سبيل الخيبة.
كلّ يوم هو في شأن:
* حضرت إحدى المواعظ فقال الواعظ في شرح قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}(الرحمن:29).إن اليوم هو في شأن وليس اللّه، فهل يجوز لنا أن نفسّر مثل هذا التفسير؟
- هذا تفسير على خلاف الظاهر، لأن الآية واردة في مقام الكناية، فليس معناها أن اللّه يتغير لنحمل اللفظ على خلاف ظاهره بأن اللّه اليوم هو ليس غدا وغدا ليس بعد غد. بل الظاهر من الآية إن اللّه سبحانه وتعالى يحرّك الكون في كلّ يوم حسب تقديره و قضائه وإشائته، وهذا هو كناية عن رعاية اللّه للكون وتدبيره له، واللّه العالم بأسرار آياته.
ثانياً: مسائل قرآنية عامّة
القرآن في الحوزات:
* من خلال النصوص القرآنية والحديثية المباركة تظهر لنا أهمية القرآن المجيد في فهم الإسلام في قبول أو رفض الأحاديث الشريفة، فلماذا يكون نصيب هذا الكتاب العظيم قليلاً في الدراسات الحوزوية أو يكاد يكون معدوماً؟
- أنا أضمّ صوتي إلى صوتك، وأرى أن دراسة القرآن هي في أساس الإسلام كلّه، وهو الأساس في قبول الأحاديث وعدم قبولها ف{ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف}( )( ).
علاقة القرآن بالعلوم الحديثة:
* عند الحديث عن علاقة القرآن بالعلوم الحديثة فإن هناك عدة آراء:
الأول: هناك من يقول إن القرآن كتاب هداية فقط وليس له علاقة بالعلوم الحديثة.
والثاني: إن القرآن كتاب هداية، وفيه القوانين العلمية، فهو مصدر لجميع العلوم.
والثالث: إن القرآن كتاب هداية وله علاقة بالعلوم الحديثة من خلال الإشارات التي وردت فيه، فما هو قولكم في علاقة القرآن بالعلوم الحديثة؟
- سبق أن أكدّنا ـ أكثر من مرّة ـ أن القرآن ليس كتاب فيزياء ولا كيمياء ولا يتحدث عن علوم الحيوان والنبات، فهو نور {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللّه نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ  يَهْدِي بِهِ اللّه مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلام}(المائدة:15-16). وقد أنزله اللّه على نبيه(ص) نوراً يبدّد ظلمات الجهل {وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(المائدة:16). فالأساس في القرآن أنه جاء نوراً ليخلّص العقل من ظلمات الباطل والتخلّف، وجاء نوراً يضيء القلب ليكون ميداناً للحب وللخير، وجاء نوراً يضيء الحياة لتكون مرتكزة على أساس العدل، وجاء من أجل أن ينفتح بالإنسان على اللّه من أجل أن يعبد اللّه في كل خير وكل عدل وكل علم وكل ما يرفع الإنسان.
لذلك لم يأت القرآن ليؤسس علوماً طبيعية أو علوماً رياضية فهذا ليس شأنه، ولكنه جاء ليؤسس للإنسان المنهج، وليقول له انك من خلال هذا المنهج تستطيع أن تحصل على المعرفة في كل ما أودعه اللّه في الحياة {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا}(آل عمران:191). {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(العلق:1). {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(يونس:101).
ومن الطبيعي أن نلتقي في القرآن وهو يتحدث عن السماوات وعن الأرض وعن مظاهر قدرة اللّه بالإشارات العلميّة هنا وهناك، مما يمكن لنا أن نلاحقها لنوسّع ونطوّر معرفتنا بها. ولهذا استطاع المسلمون من خلال القرآن أن ينشئوا ـ في مدى مئة سنة ـ حضارة قيل عنها إنها أمّ الحضارات الحديثة. وعندما ترك الناس استيحاء القرآن في المنهج واستبدلوا إنتاج الفكر بتقليد الفكر، وانطلقوا على أساس قوله تعالى {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}(الزخرف:23). عند ذلك تخلّفوا لأن المسألة ليست مختصة بالمشركين في هذا الجانب بل هي حتى في المسلمين عندما يتجمدّ جيل على أساس تقديس الآباء الذين يخطئون ويصيبون، فالتخلّف هنا هو نفس التخلّف هناك، فاللّه تعالى يقول لك إن آباءك لا يمثلون قاعدة فكر {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}(البقرة:170). {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}(الزخرف:24). لذلك فإن قيمة القرآن في أنه يخطط لك الطريق نحو اكتشاف المعرفة في الأرض وفي السماء وفي مجالات الفكر كلّها.
معجزة القرآن العصرية :
* السؤال الذي أود أن أعرف جوابه هو أن القرآن الكريم نزل قبل ما يزيد على 1400 سنة حيث كان سائداً في المجتمع الذي نزل فيه البيان والفصاحة والبلاغة، فكانت معجزة القرآن في بلاغته وفصاحته التي تحدّى بها بلغاء قريش من أجل أن يأتوا بآية واحدة مثله، ولكنهم عجزوا. ولكن في هذا العصر وهو عصر العلم والتكنلوجيا، ما هو نوع المعجزة التي يمكن الوقوف بها أمام العالم بكل طمأنينة؟
- قيمة المعجزة ومعناها أنها تمثل الظاهرة غير العادية التي تدّل على أن الذي أتى بها يتصل باللّه لأنه لا يملك أن يفعل ذلك، فهي تأتي في مقام التحدّي كما بالنسبة إلى موسى(ع) الذي حوّل العصا إلى ثعبان بإذن اللّه وإرادته، وعيسى(ع) الذي أحيا الموتى وأبرئ الأكمة والأبرص بإذن اللّه. والقرآن الكريم أثبت هذا التحدي الذي لم يستطع كل فصحاء العرب أن يقفوا أمامه، فلا يمكن أن يكون من عند النبي محمد(ص) بل هو من عند اللّه سبحانه وتعالى. وأكد القرآن هذا المعنى في قوله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}(النساء:82). لذلك يكفي في كون القرآن معجزة أنه يعجز الناس في كلّ العصور. أما كيف ندعو الناس إلى الإيمان بالإسلام؟ فالقرآن ما زال المعجزة من حيث الفصاحة والبلاغة، وعلاوة على ذلك فإن مفاهيم القرآن وأفكاره ومناهجه تمثّل أفضل العناصر الحضارية التي مهما تقادمت السنون فإنها تمثل حاجة الإنسان من خلال التقدّم الحضاري.
آجال الأمم :
* هل جعل اللّه للأمم آجالاً كما جعل للإنسان أجلاً، بحيث لا تستطيع أن تستبطئ أجلها مهما حملت من وسائل البقاء وعوامل الحياة؟
- لقد جعل اللّه سبحانه وتعالى للأمم والحضارات آجالاً باعتبار عناصر الضعف الموجودة في داخلها، فعندما يطول الأمد بالأمم ربمّا تكثر فيها نقاط الضعف وتسقط حضاراتها بفعل العوامل الطبيعية لسقوط الحضارة، لهذا فإن فرضية الآجال مع بقاء عناصر القوة فرضية غير واقعية( ).
كيفية عرض الحديث على القرآن
* كيف يمكن لنا عرض الحديث على القرآن؟ وما هي القرائن التي نعلم من خلالها صحة الحديث؟ وهل يكون العقل هو الفاصل بين هذه الأحاديث؟
- للقرآن ظاهر يفهمه الناس، وللحديث ظاهرٌ تدلّ عليه ألفاظه ومفرداته وتراكيبه، فإذا خالف ظاهر الحديث ظاهر القرآن فعلينا أن نأخذ بظاهر القرآن ونطرح ظاهر الحديث بعد تأمّل في عمق ظاهر الحديث وتأمّل في عمق ظاهر القرآن. وليست القضية قضية معادلات عقلية إنما هي ما نفهمه من القرآن الذي هو نور في كل ما تحدّث به إلى الناس.
أما متشابهات القرآن فنردّها إلى محكماتها، وهذا هو الذي أكده أئمة أهل البيت(ع) بعد أن أكّده النبي(ص) «لئلا يعبث الوضّاعون بالإسلام». من خلال ما يضعونه من أحاديث تخالف ظاهر القرآن والمفاهيم القرآنية، حتى يسلم القرآن من كل تحريف ومن كل ما يبعده عن معناه.
هل النار مطهّرة؟
* النار كما يقول بعضهم تطهّر كلّ شيء، وهي تطهّر من يستحق العقاب يوم القيامة، أليس هذا مخالفاً لظواهر الآيات من كون جهنم دار إذلال واحتقار ومهانة إضافة إلى كونها جزاء وعقوبة لمن يستحق؟
- من قال إن النار تطهّر؟ فالفقهاء الإماميون ـ على أقل تقدير ـ لا يقولون بأن النار تطهّر بمعنى التطهير من الخبث إلاّ إذا استحال الشيء النجس إلى رماد لا من جهة إن النار بخصوصيتها مطهّرة. لذلك فأصل الفكرة خطأ والمبني على الخطأ خطأ أيضاً، فالنار لا تطهّر بل تنضّج {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللّه كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}(النساء:56).
مصادر القصص القرآني:
* ما هي المصادر الصحيحة للقصص القرآني، أهي كتب التفسير أم كتب التأريخ؟
- هي كتب التفسير والتاريخ، لكن بشرط أن يكون التفسير موثوقاً والتاريخ موثوقاً من حيث التفاصيل.
المنهج الفني للقصص القرآني:
* يوجد مصطلح الفن القصصي في القرآن، فما هو تعليقكم على هذا المصطلح؟ وهل يوجد فعلاً منهج فني في القصة القرآنية؟
- لا أجد هناك أية سلبية في هذا المصطلح، لأن هناك فعلاً منهجاً فنياً للقصة القرآنية، فالقرآن حرّك القصة من خلال الرسالة لتعطي الفكرة ولتنفتح على بعض خطوط الرسالة في حياة الإنسان من خلال ما عاشه في الماضي على أساس قضايا الأنبياء أو الأمم الآخرين. لذلك يمكن القول إن القرآن يختصر كثيراً من التفاصيل، أي أنه ينتقل من حالة إلى حالة ويتجاوز ربما تفاصيل كثيرة، فالقرآن لا يتوقف عند هذه التفاصيل وإنما ينتقل إلى موقع آخر لأنه يريد أن يؤكد على مفاصل القصة الأساسية التي تعطي بعض الإيحاءات المرتبطة بالفكرة من دون أن يكون للتفاصيل أية مدخلية، وهذا ما يمكن أن نأخذه كمثل على الأسلوب الفني في حركة القصة التي قد يتخمها الكثير من القصّاصين بالكثير من التفاصيل والهوامش التي لا دخل لها في غرض القصة الأصلي( ).
كما أن القرآن الكريم عندما يكرر القصة في أكثر من سورة فباعتبار أنه يأخذ جانباً منها في هذه السورة لعلاقته بالخط العام والفكرة الأساسية ويأخذ في السورة الثانية جانباً آخر من القصة. لذلك اعتقد أن دراسة الفن القصصي في القرآن تعطينا منهجاً فنياً في إدارة القصة ربما نستطيع أن نستوحي منه الكثير في حركية القصة في واقع الإنسان.
تصريح القرآن بالولاية لعلي(ع):
* ما الحكمة من عدم بيان الولاية لعلي(ع) بصريح الاسم في القرآن الكريم الذي صانه اللّه تعالى وحفظه من التحريف، وبالتالي لا يدع مجالاً لاختلاف المسلمين فيما بعد مع وجود النص الصريح بين أيديهم؟
- أليس قوله تعالى { وما ينطق عن الهوى}(النجم:3)،  صريحاً وقد اختلف القوم في تفسيره؟ ثم أن هناك آيات اتفق المسلمون على نزولها في علي(ع) ومنها { إنّما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة وهم راكعون}(المائدة:55). فلماذا لم يستفيدوا منها، ذلك لأن هناك تراكمات تأريخية وأخرى عصبية ربما تجعل الإنسان يفهم الأشياء بعقدته ولا يفهمها بعقله وثقافته، ومشكلتنا أحياناً هي الفهم بالغريزة وبالعقدة لا الفهم بالعقل والمنطق.
العلوم في القرآن:
*القرآن الكريم كتاب جامع لكلّ العلوم، وكلّ اكتشاف يخرج به علماء الغرب ندّعي بأن القران أشار إليه، فلماذا لم يكتشف علماء المسلمين شيئاً من ذلك في عصرنا الحديث، مع أن الكتاب كتابهم وبين أيديهم؟
- من قال إن العلوم كلّها هي من القرآن، فالقرآن {ونزلنا عليك الكتاب تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}(النحل:89). مما يحتاجه الإنسان ومما يريد اللّه له أن يفعله، وفيما يريد له أن يتركه أو أن يعتقده أو أن يمنهجه. نعم، هناك بعض الإشارات الدالّة على ذلك، كما يذكر سبحانه وتعالى الآيات التي تتحدث عن مظاهر خلقه وعظمته وبعض الأسرار الموجودة في الكون، وإلاّ فاللّه سبحانه وتعالى أراد منا أن نكتشف الأسرار والعلوم بأنفسنا {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا}(آل عمران:191). فهو سبحانه يدعونا إلى النظر والبحث والتأمّل والدراسة والاستكشاف لنرى ماذا في السموات وماذا في الأرض.وقد أعطانا المنهج التأمّلي فقال سبحانه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}(الحشر:2). وأن ننطلق من خلال التجربة.
 أمّا من يقول {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}(الزلزلة:7). بأن هذه الآية تدلّ على علم الذرّة فهو تحميل للآية، فالمقصود بالذرّة هنا المقدار القليل جداً وليس علم الذرّة، وإذا كان كما يقولون فلماذا لم يكتشفوها؟! نعم، القرآن يؤكد بعض المسائل العلمية، كما في قوله تعالى {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ  بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}(القيامة:3-4). والبنان هو بصمات الأصابع التي تتباين بين أفراد البشر، فنحن نقول بأن هناك إشارات, ولكن أن يقال بأن في القرآن العلوم كلّها فهذا غير صحيح ولا يعني ذلك نقصاً في القرآن الكريم أبداً.
البسملة في (المسد):
* تفضّلتم في محاضرة سابقة أن البسملة تعني أو تتضمّن الرحمة، فلذلك لم تذكر في سورة (براءة) فلماذا ذكرت في سورة (المسد) مع أن السورة من أولها إلى آخرها ذم ووعيد لأبي لهب وامرأته حمّالة الحطب؟
- هذا لا ينافي ذاك، باعتبار أن سورة براءة موجّهة لمجتمع المشركين كلّه {بَرَاءةٌ مِنْ اللّه وَرَسُولِهِ}(التوبة:1). ويراد إعلانها بمكة وليس من الطبيعي أن تعلن البراءة وهي غضب كلّها مسبوقةً بشعار الرحمة (البسملة) مع العلم أن هذا هو مجرد أمر استحساني ولا ندّعي أنه الحقيقة، فاللّه هو العالم بحقائق آياته وسوره.
جدوى الحوار الإسلامي ـ المسيحي:
* يقول اللّه تعالى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(البقرة:120) وبما أن اللّه جلّ جلاله أخبرنا عن اليهود والنصارى أنهم لن يرضوا عنّا حتى نتبع ملتهم، فلماذا نتعب أنفسنا بحوارهم ومناقشتهم، ولماذا ندعو إلى الحوار الإسلامي ـ المسيحي ألا تجدون أن في ذلك مضيعة للوقت؟
- الآية في جانب، وملاحظة الأخ السائل في جانب آخر، فالآية تقول إن عليك أن لا تطلب رضا اليهود والنصارى عنك بتقديم التنازلات لهم لأنهم لن يرضوا عنك بهذه المجاملات أو بعض هذه التنازلات التي تقدمها لهم، بل يطالبونك بأن تتبع ملتهم كأي صاحب فكرة أو خط لا يرضى عنك مهما قدمت له من مجاملات وتنازلات إلاّ إذا اتبعت ملّته وسرت معه كما يشاء، وهذا أمر إنساني في الخط العام.
أما الحوار الإسلامي ـ المسيحي، فإن المشكلة هي أننا نريد أن نتناقش فيما هم فيه ونريد أن نهديهم سواء السبيل ونقدم إليهم فكرنا ليطلعوا عليه ويقدّموا إلينا فكرهم من أجل أن نناقشه، وهذا ليس تنازلاً لهم ولكنه أخذٌ بأسباب الدعوة إلى اللّه سبحانه وتعالى. فقد حاور النبي(ص) الملحدين والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين من أجل أن يجلبهم إلى الحق.وهناك فرق بين أن تتحدث معهم في أسلوب الدعوة وبين أن تتحدث معهم في أسلوب الواقع الذي تعيش فيه وذلك بتقديم التنازلات. ونحن نقرأ أيضاً قول اللّه {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت:46).
(الاخلاص) ثلث القرآن :
* ورد في بعض الروايات أن قراءة سورة (الإخلاص) تساوي ثلث القرآن، فما هو المراد من ذلك؟
- ذلك لأن القرآن ينطلق أساساً من توحيد اللّه تعالى فكلّ ما جاء به الأنبياء(ع) هو {وَاعْبُدُوا اللّه وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}(سبأ:36). فالقرآن تأسس على أساس التوحيد، وقيمة سورة التوحيد هي في المفهوم الإسلامي الذي يقوم في مرتكزاته كلّها على التوحيد {قل هو اللّه أحد  اللّه الصمد}. الذي يصمد إليه ويرجع إليه في كلّ شيء {لم يلد ولم يولد  ولم يكن له كفواً أحد}(الإخلاص:1-4). فهي تختصر ما فصّله القرآن من توحيد اللّه عز وجل.
تساؤلات القرآن:
* في القرآن الكريم كثير من التساؤلات التي يطرحها اللّه مثل {أَءلَهٌ مَعَ اللّه}(النمل:60). {أَفِي اللّه شَكٌّ }(إبراهيم:10). وغيرها، فعلى من يطرح القرآن هذه التساؤلات؟
- هذا من قبيل الاستفهام الإنكاري، أي هل من المعقول أن يكون هناك إله مع اللّه. وهذا موجّه للذين يشكّون باللّه وبوحدانيته، وهو ليس سؤالاً يراد الإجابة عنه إنما هو دعوة للتفكّر.
حدود الإصلاح وشروطه:
* في القرآن الكريم حديث متكرّر عن الصلاح والإصلاح والصلح، فهل للصلح في نظركم حدود وشروط؟
- إنّ الصلح هو الذي يحلّ المشكلة الاجتماعية إن بين الأخوة المؤمنين أو بين الزوجين واللّه تعالى يقول {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(الحجرات:10). وهو عز وجل يقول {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}(النساء:128). والإصلاح هو الخط الذي يريد اللّه للناس أن يسيروا عليه كمنهج اجتماعي في تسوية الخلافات بين المؤمنين.
قبول الأوامر وكراهيتها:
* جاء في كتاب (كيف تكسب الأصدقاء) الذي يبحث في فن العلاقات الإنسانية أن الإنسان أي إنسان يكره توجيه الأوامر إليه، وإنما تقدّم إليه بصيغ أخرى كأن تكون على شكل أسئلة، بينما في القرآن كما في وصية لقمان {يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(لقمان:17). فكيف تقيّمون المنهج الأخلاقي الغربي؟
- إنّ النفس الإنسانية تعيش على أساس تلقّي الأوامر، لكنّ من الذي يأمر؟وكيف هو أسلوب الأمر؟إنّ اللّه تعالى عندما يأمرنا وهو خالقنا فإننا لا نشعر بمشكلة من خلال هذا الأمر، لأن اللّه هو الذي خلقنا وهو الذي يعرف ما يصلحنا ويفسدنا، وهو الذي يرغّبنا بأننا إذا أطعنا هذه الأوامر فانه يعطينا رضوانه ويدخلنا جنته. وهكذا الحال إذا تلقّيت الأوامر ممن تجد أن من شأنه أن يطلق لك الأوامر كنبيّ أو كإمامٍ أو كقائد وما إلى ذلك.
ولكن متى نرفض الأوامر ؟نرفضها عندما تنطلق من إنسان بطريقة تضطهد كرامتنا ويسيء بها إلى نفسيتنا.أما الحياة فنجد أنها تنطلق في خط إصدار الأوامر ممن يملك الأمر ويعتقد الإنسان أنه يملك الأمر وهو اللّه تعالى.وعندما ندرس وصايا الأنبياء فإننا نجدها ممزوجة بالإنسانية عندما يتحدث النبي بصفته ناصحاً مشفقاً يخاف على قومه {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم}(لقمان:17). حتى أن اللّه سبحانه وتعالى وهو يأمرنا فإنه يتحدث إلينا بكل حنان {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60). { فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ}(البقرة:186). قريب لأحلامكم ولآمالكم ولمشاكلكم {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة186).
التصريح باسم مريم:
* لماذا ذكر اللّه اسم العذراء مريم بنت عمران باسمها الصريح على عكس العديد من النساء اللاتي ورد ذكرهن في القرآن ؟
- لأنها كانت موضع إظهار قدرة اللّه عز وجل ولأنها الإنسانة التي أراد اللّه سبحانه وتعالى لها أن تكون أماً لعيسى بالطريقة التي توحي بقدرة اللّه سبحانه وتعالى في أن يخلق إنساناً من دون أب. ثم هي تمثل في حياتها قبل أن تعيش هذه التجربة الروحية المتبتلة للّه تعالى. فلقد عاشت كإنسانة متعددة الأبعاد مما يجعل منها قدوة في هذا المجال، خاصة وأن اللّه سبحانه وتعالى أنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريا، وقد طلبت أمها من اللّه أن يعيذها من الشيطان { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ  فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}. وهي الإنسانة التي تتميز بأن اللّه رعاها رعاية شبه مباشرة { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه}(آل عمران:36-37). ثم هذا الموقف الذي وقفته عندما رميت بالانحراف وهي التي قال اللّه عنها { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ}(التحريم:12). كلّ ذلك يدل دلالة واضحة أنها كانت تختلف عن النساء اللاتي ذكرن في القرآن. فلها ـ مثلاً ـ خصوصية تختلف عن خصوصية امرأة فرعون {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}(التحريم:11). فهي امرأة صلبة الإيمان استطاعت أن تعيش إيمانها، في قصر فرعون وان لا تتنازل عن إيمانها وتمنّت أن يخلّصها اللّه من ذلك في خط هذا البعد الواحد. فلشخصية مريم أبعاد كثيرة بحيث تصلح أن تكون قدوة في أكثر من بعد.
الإلحان في القرآن :
* هناك شخص لا يجيد قراءة القرآن أي أنه يلحن وهو يعلم ذلك، فهل يصّح أن يقرا القرآن في نهار شهر رمضان؟
- يجوز له أن يقرأ إذا لم يستطع أن يصلح لسانه، ولا يصدق عليه عنوان الكذب فيقال بمفطريته كما هو المشهور عند الفقهاء. نعم في الصلاة لابد أن يصحّح لحنه. فإذا لم يستطع ذلك أيضا صحّت صلاته.
مرجعية المرأة:
* يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ}(يوسف:109). ألا يعني هذا أن المرأة لم تكن يوماً ما عبر مسيرة البشرية مرجعاً للمؤمنين؟
- أولاً: إن الآية بصدد الحديث عن الرسالة وربما لم يكن هناك نساء بهذا المستوى، فاللّه كما يمكن أن يرسل رجلاً يمكن أن يرسل امرأة، وعليه فالآية لا تدل على نفي مرجعية المرأة بل يدلّ أنه لم يقع ذلك في التاريخ لأنه لم تكن في التاريخ امرأة مؤهلة للرسالة، وثانيا: يمكن أن تكون هناك امرأة مؤهلة للمرجعية بأن يكون عندها معرفة بالفقه أفضل من كثير من الرجال بحيث يرجع إليهن الرجال.فالفقه علم من العلوم وإذا كانت هناك امرأة تقيّة ورعة فما المانع من تقليدها، لكن أن لا يهضم الناس ذلك شيء وأن تكون له شرعية شيء آخر. ولم نجد دليلا واضحا على المنع منه، واللّه العالم.
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } :
* في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}(الأحزاب:33) الآية تمنع أزواج النبي(ص) الخروج من المدينة، ولكن مع ذلك نجد أن قبور بعض أزواج النبي موجودة في دمشق فكيف نفسّر ذلك؟
- ليس المقصود ب{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أنه لايجوز لهن أن يخرجن من بيوتهن، بل كان هذا توجيهاً بلحاظ بعض الظروف التي كانت موجودة آنذاك حيث يراد أن لا تخرج زوج النبي(ص) كما تخرج بعض نساء الناس في حالة تبرّج {ولا تبرّجّن تبرّج الجاهلية الأولى}. وقد ورد في الآية {أنْ يُعْرَفن فَلا يُؤذَيْنَ}(الأحزاب:59). وكانت نساء النبي يخرجن معه للقتال وكنّ يخرجن أيضاً لحاجاتهن. أما وجود قبور لأزواج النبي(ص) في دمشق وغيرها، فهذا أمر تاريخي يخضع بثبوته وعدمه للأدلّة التاريخية.
أسلوب القرآن في طرح العقيدة :
* من خلال المحاضرة يتبيّن أن القرآن المجيد يقدّم العقيدة من خلال الظواهر الحياتية المعاشة كالزرع والإنجاب إلا أننا نجد في الكتب العقيدية المتداولة في الأوساط العلمية ومنها الحوزة أنها تنحو منحى تجريبياً، فماذا تقولون في ذلك ؟
- أعتقد أن علينا أن نأخذ عقيدتنا من القرآن وأن ننهج منهج القرآن والأسلوب القرآني في التعريف بعقائدنا لان هذا هو الذي ينفتح بالعقيدة على الفطرة. أما الفلسفة فنحتاجها لردّ الشبهات وليس لبناء الإيمان، لأن الإيمان لا يأتي بالفلسفة.
مناط قبول العقل للآيات:
* يقال إن الآية التي لا توافق العقل ولا يقبلها العقل تؤوّل، فما هو المقياس أو المناط لقبول العقل للآيات، وما هي كيفية التأويل: هل هي مزاجية، أم أنها خاضعة لأطر محدودة؟ وهل هذه الأطر التي تحدد التأويل كالأطر التي تحدد التفسير لتبعده عن المزاجية أو الرأي؟
- العقل الذي تؤوّل الآية لحسابه أو لأجله هو العقل القطعي الذي يحكم باستحالة المعنى الذي يظهر من الآية. فمثلاً عندنا آيات تقول {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(النحل:93). فهذه تدل على أن الهداية من اللّه وأن الضلال من اللّه، فإذا كان اللّه يجبرنا على الضلال فكيف يعاقبنا عليه؟! لذلك فالعقل يقول باستحالة ذلك على اللّه إذ لا يمكن أن يفرض عليك شيئاً في تكوينك ثم يحمّلك مسؤوليته فهذا هو الظلم بعينه، والظلم مستحيل على اللّه. لذلك فلابد هنا أن نقول إن الآية لا يراد منها ظاهرها وليس معنى (يضلّ من يشاء) أن اللّه يجبره على الضلال، بل معنى يضلّه يتركه إلى نفسه. فاللّه أعطاه سبيل الهدى ولكنه لم يأخذ به فتركه لنفسه فضّل ضلالا مبينا.
أو مثلا هناك الآيات التي يظهر منها أن اللّه جسم ومنه لوازم الأجسام كما في قوله تعالى{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(المائدة:64). {يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}(الفتح:10). {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}(القصص:88). فهذا يدل على أن اللّه جسم فله وجه وله يدان، ولكن العقل في دراسته للذات الإلهية يقول باستحالة ذلك على اللّه، فلا يمكن أن يكون جسماً لأن اللّه سبحانه وتعالى غنيّ عن كلّ ما في الوجود، والجسم يمثل الفقر إلى كثير مما يحتاجه، واللّه سبحانه وتعالى يقول {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(الشورى:11). فالمراد من اليد أنها كناية عن القوة والنعمة ومن الوجه أنه كناية عن الذات وما إلى ذلك.
فليست المسألة مسألة مزاجية وليست خاضعة للعقل الظنّي بل إلى العقل القطعي الذي يحكم بأن ظاهر هذه الآية مستحيل، ومن الطبيعي أن اللّه لا يمكن أن يؤكّد في آياته المستحيل، وعند ذلك لابد من التأويل.
مسّ الكتاب:
* هناك اختلاف في مسألة مسّ المصحف والقراءة فيه للحائض والجنب والنفساء، فما هي الفتوى في ذلك؟
- رأينا أنه يجوز للجنب والحائض والنفساء أن يقرأوا القرآن، وأما المسّ فهذا محل احتياط لأنه {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ}(الواقعة:79). وهذا يمكن أن يفسّر بالطهارة الحدثية.


 
الفصل الثاني


المسائل العقيدية

* علينا أن نأخذ عقيدتنا من القرآن وأن ننهج منهجه وأسلوبه في التعريف بعقائدنا، لأنّ هذا هو الذي يفتح العقيدة على الفطرة، أمّا الفلسفة فنحتاجها لردّ الشبهات لا لبناء الإيمان *








 

عقيدة الشيعة في المعاد:
* ما هي رؤيتكم أنتم الشيعة نحو المعاد، هل هو عود الأرواح إلى الأجساد، أم أنكم تؤمنون فقط بالمعاد الروحاني؟
- ليست المسألة مسألة شيعية أو سنيّة، بل هي مسألة قرآنية، فالقرآن عندما يحدّثنا عن المعاد فإنه يحدّثنا عن المعاد الجسماني {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ  قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}(ياسين:78-79). إنه يتحدّث عن إحياء الجسد لا عن إحياء الروح، لأن الروح لا تموت والذي يرجع هو الجسد، أمّا الروح فهي باقية لا تموت.
لهذا فإن ظاهر القرآن عندما يحدّثنا عن اللذات الحسيّة في الجنة وعن الآلام الحسيّة في النار فإنما يحدثنا عن الأشياء المادية في هذا المجال {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللّه كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}(النساء:56). هل هذه الجلود هي من الروح أو من المادة؟ إنها بالتأكيد من المادة، وعندما يحدّثنا اللّه عن الجنة في شرابها وفي طعامها فإنه يتحدث عن جسد ماديّ. لذلك نقول بأن القرآن خير دليل على أن المعاد جسماني وليس روحانياً.
أدلّة الرجعة؟
* هل تؤمنون بما يقوله الشهيد (مطهري) من أن أدلة الرجعة ليست كأدلة المعاد قطعيّة؟
- صحيح ذلك، لأن أدلة المعاد جاء بها القرآن وهي مما تسالم عليه المسلمون. أمّا الرجعة فقد دلّت عليها الأحاديث وهي متواترة وإن اختلفت في مفرداتها، فمن ثبتت عنده دلالة هذه الأحاديث أخذ بها من خلال قيام الحجّة عليها، ومن لم تثبت له لسبب أو لآخر فإن عليه أن يتوقف نتيجة عدم قيام الحجّة عليها، فهناك فرق بين دليل المعاد ودليل الرجعة.
التقيّة اليوم:
* هل يمكن القول أنه لا حاجة اليوم للتقيّة، خصوصاً بعد أن اطّلع معظم العالم على الشيعة فكراً وسلوكاً؟
- التقية تنطلق من خلال الواقع الموضوعي الخارجي الذي يعيشه المكلّف، فإّذا كان هناك خطر على حياته أو على خططه أو على الناس من حوله لزمت التقية.
شرك أم قدر؟
* هل أن مجموعة الحوادث أو الأخبار التي تسبق حدثاً معيناً والتي تمنعنا من القيام به، هي شرك، ـ حسب الحديث الشريف الخاص بالتطيّر ـ في حين قد نراها قدراً من قدر اللّه يحفظ العبد في مواقف يضعف فيها باتخاذ القرار؟
- التطيّر يأتي من خلال أن الإنسان قد يختزن في نفسه أن التشاؤم حاصل، وأن ما يتطيّر به يُنتج ذلك وأنه لا مجال للتخلّص منه، وأما إذا كان الإنسان يعمل على أساس أن هناك بعض الأمور التي توجب الحذر فيحذر منها فهذا ليس من التطيّر.
وجوه نحسة:
* البعض من الناس يتشائم من البعض الآخر، كما نجد أن هناك من يعيش النحس و التشاؤم إذا خرج في الصباح و رأى شخصاً يحتمل أنه سبب نحس يومه، فماذا تقولون لأمثال هؤلاء؟
- أقول لهم «إذا تطيّرت فامض». و«كفّارة الطيرة التوكّل». فعليك أن تتوكلّ على اللّه، أما أن تعتبر أن شخصاً ما نحس فهذا أمر ليس له أساس في الدين، وليس له أساس في الدنيا، بل هو مرض.
حتى أن المتشائم قد يصل به الوسواس إلى حد يقلب الحسن عنده قبيحاً، ويذكر ـ في هذا المجال ـ أن (ابن الرومي) الشاعر المعروف كان من المتشائمين وكان أصحابه يعرفون هذا الشيء عنه، فخرجوا ذات يوم إلى بستان فأرسلوا إليه شاباً يطلب منه القدوم إليهم وكان اسمه يبعث على التفاؤل يقال له (حسن) وعندما استقبله سأله:ما اسمك، قال (حسن) فقال إذا قدّمنا النون في (حسن) تصبح نحساً فاغلق الباب بوجهه. فبعثوا له شخصاً اسمه (إقبال) فقلب الكلمة فأصبحت (لا بقاء) وتشاءم (ابن الرومي) من هذا الاسم أيضاً. وهذا هو حال بعض الناس عندما يعيش التشاؤم، فلربما يتحوّل عنده عقدة مرضية بحيث لا يرى شيئاً حسناً فيسقط أو يتجمّد أمام كلّ الحالات التي يمكن أن تدفعه للعمل.
مراهق يشك بوجود اللّه:
* عندي ولد مراهق عمره (12) سنة وقد قال لي ذات يوم أنه يشك بوجود اللّه وأجبته على أسئلته، ولكنه بقي يشك في كلّ شيء فكيف أواجه حالة الشك باللّه لديه؟
- كثير من حالات الشك قد تكون مجرد وسوسة وهي ليست عميقة كما لدى كثير من الناس، لذلك فإن محاولة البحث عن أساس هذا الشك وعن الأساليب التي يمكن أن تقنعه أو تفتح قلبه هي المهمة المطلوبة لغرس اليقين في قلبه.
الجوع وتكفّل اللّه بالرزق:
* يقول تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللّه رِزْقُهَا}(هود:6). فإذا كان اللّه قد تكفّل برزق كلّ دابّة في السماء والأرض، فلماذا نسمع عن المجاعات هنا وهناك؟
- إن اللّه تكفّل بالرزق ولكن الناس يأكلون رزق الضعفاء والفقراء «ما جاع فقير إلاّ بما متع فيه غني»( ). كما يقول أمير المؤمنين(ع) واللّه تكفّل بالرزق وهيّأ وسائله للدواب كلها وللناس كلهم، ولكن الناس صرفوا رزق اللّه في الحروب والمصارف التي تبدد الرزق، فاللّه يهيء الوسائل والظروف ولكن {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(النحل:118). واللّه تعالى يقول في واحدة من سننه {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(الأعراف:96).
للّه رجال إن أرادوا أراد:
* ورد في كتابكم (تحدي الممنوع) حديث «إن للّه رجالا إذا أرادوا أراد» فهل لنا أن نعرف من رواه؟
- هذا كلام معروف ولم أنقله كرواية وإنما نقلته كمثل، لأن الناس الذين ينطلقون من إرادة اللّه ومن طاعته لابدّ أن تكون إرادتهم وإرادة اللّه واحدة، لأن إرادتهم في الأساس منطلقة من الشروط التي يريد اللّه للأشياء أن تتحرك فيها.
حكم الكافر في بلادنا :
* ما حكم الكافر في بلادنا الإسلامية العربية، هل يعتبر من أهل الذمّة فتطبّق عليه أحكامهم، أم أن له حكماً آخر باعتبار أن أهل الكتاب عاشوا مع آبائنا وأجدادنا وما زال أحفادنا يعيشون معهم بوئام وربما كانوا في بعض مدننا جيراناً لنا ويحترمون الإسلام ويحسنون لنا من خلال العلاقات الاجتماعية وحقوق الجوار؟
- أولاً : إن حكمهم يمكن أن يكون حكم المعاهدين باعتبار أن هناك عهداً بينهم وبين المسلمين بشكل عام. وثانياً: إن اللّه يقول {لا يَنْهَاكُمْ اللّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة:8). فعلينا أن نعيش معهم فنحسن إليهم كما يحسنون إلينا ونعدل فيما بينهم في أن نعطيهم حقوقهم كما نريد أن يعطونا حقوقنا.
تولّي غير الموالي :
* ما معنى حديث الرسول(ص) «يا علي من تولّى غير مواليه فقد كفر بما أنزل اللّه»( ). وفي حديث آخر «من والى غير مواليه فعليه لعنة اللّه»( )؟
- هذا يعني الشخص الذي ينكر مواليه وهم أولياء اللّه من أنبياء ورسل وأوصياء وما إلى ذلك، فالمقصود بمواليه من أراد اللّه سبحانه وتعالى أن نواليهم وفي مقدمتهم رسول اللّه(ص) وأهل بيته والسائرون في خطه، وبالتالي فإن تولّي من يتبرأ منهم الإنسان المسلم يعدّ كفراً.
لماذا خُتمت النبوة؟
* قيل في تعليل تعدد الأنبياء إن البشرية مرّت بأدوار في التكامل والنضج، فلكل مرحلة نبي ثم ختمت النبوة بالنبي محمد(ص)، والسؤال هو أليست البشرية تسير نحو التكامل دائماً، فلماذا ختمت وتوقّفت النبوّة؟
- إن الحديث بهذه الدقة عن أن التعدد كان يتحرك من خلال عملية تكامل أدوار البشرية بحيث أن كلّ مرحلة تكمّل المرحلة الأخرى ربما نجده بشكل وبآخر فيما جاء عن عيسى(ع) وربما جاء مثله عن موسى وإبراهيم(ع). فعيسى(ع) يقول «جئت لأكمل الناموس» ورسول اللّه(ص) يقول «إنما بعثت لأتمم( ) مكارم الأخلاق». ومن الطبيعي فإن هناك أنبياء إلى جانب هؤلاء أولي العزم، ولا مانع من أن نقول إن كلّ نبي يكمل ما جاء به النبي الذي قبله على أساس أن هناك فراغات اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو ما إلى ذلك. وقد تحدث هذه الفراغات عندما يتقدّم الزمن وتنشأ حاجات أو أوضاع جديدة تفرض إكمال الرسالة، لأن الرسالة السابقة لم تعد تعالج المشاكل كلّها.
أمّا كيف ختمت النبوة مع أن البشرية لا تزال تتكامل وتنضج، فباعتبار أن النبوّة الخاتمة وهي نبوة رسول اللّه(ص) كانت النبوة التي تنفتح على التطوّر كلّه، وعلى حركية الإنسان في النمو الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي كلّه، وباعتبار أن هذه النبوّة أكّدت على لزوم انفتاح الإنسان على العقل. وهذا ما جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت(ع) كما في الحديث مع (ابن السكيت) عندما ذكر أن موسى جاء بالعصا وعيسى جاء بالطب والنبي جاء بالبلاغة. فلقد سأل الإمام قائلاً: ما الحجة على الناس اليوم «قال العقل»، فهو الذي يعرف الصادق على اللّه فيصدّقه والكاذب على اللّه فيكذّبه. ولذلك نقول إن العناصر الأساسية التي جاء بها الإسلام هي عناصر تحرّك البشرية من اجل أن تتكامل في داخلها، وتنضج من خلال ما تختزنه من تلك العناصر التي تنمّي في الإنسان قلبه وعقله وحركته في الحياة. ولو درسنا الإسلام دراسة دقيقة في العناوين العامة التي وضعها للإنسان لرأينا أن كلّ التطوّر الإيجابي الذي عاشه الإنسان كان موضع إشادة إسلامية هنا وهناك، وأن كل التطورات السلبية كانت موضع نهي الإسلام وتحفّظه عليها.
ثم أن الإمامة عندنا قيادة معصومة تكمل مشروع الرسول الأعظم وبرنامجه.
إجتهاد النبي(ص):
* لماذا تتضايقون أنتم الشيعة من اجتهاد النبي وهو بشر، هل تمنعون الإنسان من التفكير والاجتهاد، ولماذا لا يكون فهمه قابلاً للخطأ؟
- هذا السؤال يمكن أن يصاغ بأسلوب آخر، فكأن السائل يريد أن يقول إن النبي(ص) معصوم في التبليغ ولكن لماذا تريدون أن تقولوا إنه معصوم في فهم ما بلّغه، فهو ينقل الرسالة ـ كما يرى السائل ـ مثلما أنزلها اللّه ولكنه بشر وفهمه فهم بشري فيمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب، لكننا نقول إن هذه الرؤية الاعتقادية هي ليست رؤية الشيعة فقط، بل نظرة الرأي العام الإسلامي أيضاً، هي أن النبي(ص) معصوم في فهمه للقرآن ولما أوحى به اللّه، فهو لا يخطئ. والسبب في ذلك هو أن اللّه سبحانه عندما أنزل الرسالة على النبي(ص) وهي القرآن الكريم أراد له أن يبلّغ القرآن في المبنى وفي المعنى، لأنه مبلّغ رسالة لا مجرد كلمات حيث لم يرد له أن يبلّغ كلام اللّه فقط ويترك للناس الحرية في أن يفهموه كيفما يريدون، بل أراد اللّه له أن يبلّغ الرسالة كلّها وأن يشرحها وأن يفصّلها وأن يفرّعها وأن يحرس حتى تطبيقاتها الواقعية. أي أنه سبحانه وتعالى أراد للنبي(ص) أن يبلّغ الرسالة فكرياً في الخط الفكري للرسالة وعملياً في الخط التطبيقي للرسالة، ولهذا فإن اللّه سبحانه وتعالى أكد على أن كلّ ما يأتي به الرسول من كلام ومن فكر هو ما يجب على الناس أن يأخذوه {ما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا}(الحشر:7). وكلمة (ما آتاكم) تعني ما جاءكم به من القرآن والسنّة في القول أو العمل أو التقرير، واللّه تعالى يقول أيضاً {لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر}(الأحزاب:21) ويقول سبحانه {من يطع الرسول فقد أطاع اللّه}(النساء:80). لذلك لا يمكن أن نقول إن رسول اللّه كان مجتهداً كبقية المجتهدين الذين قد يخطئون وقد يصيبون إنما كان معصوماً بكلّه، حتى إننا لا نوافق من يقول إنه كان معصوماً في التبليغ وحسب، ولم يكن معصوماً في أمور الحياة، بل نقول إنه معصوم بكلّه إن في التبليغ وإن في شؤون الحياة المختلفة لأن عمله كلّه و حركته في الحياة كلّها هي رسالة.
ولذلك فلا تجزيئية في شخصية النبي(ص) بحيث نقول إنه معصوم بهذا الجانب وليس معصوماً بذاك الجانب، فالعصمة سرّ عقله و قلبه و إحساسه وشعوره و حركته في الحياة. وما نقوله عن رسول اللّه(ص) نقوله أيضاً عن خلفاء رسول اللّه الأئمة(ع). ولذا فلسنا نوافق على التسمية التي يطلقها البعض «المذهب الجعفري» لأن جعفراً(ع) ليس له مذهب اجتهد فيه كالمذاهب الأخرى، فلقد كان يقول «وحديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث رسول اللّه». فهم(ع) يأخذونها من عين صافية ولا يجتهدون في فهم كلام رسول اللّه(ص) كما يجتهد الآخرون. وهذه المسألة كنّا قد أكدناها مراراً في محاضراتنا وكتبنا.
تحميل الخالق سبب التعاسة:
* هناك شخص يحمّل الخالق سبب تعاسته وهو مسلم ويقول وصلتُ إلى اليأس من روح اللّه، فما هي نصيحتكم له؟
- يقول تعالى: {ولا تيأسوا من روح اللّه إنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون}(يوسف:87) فاليأس من روح اللّه من الكبائر، وهذا الإنسان يبدو أنه لا يفهم اللّه سبحانه وتعالى ولا يفهم معنى الخلق ولا الحياة كلية. ولذا عليه أن يعيد حساباته في معرفته باللّه وبسننة في الكون وبالأمل الذي ينبغي للإنسان أن يعيشه مع اللّه.
حسن الحظ وسوء الحظ:
* هل يوجد من هو سيئ الحظ ومن هو حسن الحظ، أم لكل شيء علة ومعلول؟
- سوء الحظ وحسن الحظ قد يكونان ناشئين من اختيار الإنسان، باعتبار أنه قد يسيء اختياره لبعض التحركات أو الأوضاع التي يعيشها. يقول اللّه تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(النحل:118).
وربما يكون سوء الحظ وحسن الحظ ناجمين عن أوضاع خارجة عن إرادة الإنسان، كما لو فرضنا أن شخصا يولد من أب فقير أو في بلد فقير، وآخر يولد من أب غني أو في مجتمع تتوفر فيه كلّ فرص العمل والثراء، فقد تتهيأ الظروف لشخص كي يصبح شخصية اجتماعية ولا تتوافر للآخر، وقد يكون أفضل من ذاك. ولذلك فهذه القضية قد تخضع لعوامل اختيارية في نفس الإنسان، وقد تخضع لأوضاع اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو كونية، وقد يمرض الإنسان نتيجة وضع معين أو نتيجة وراثة معينة و هكذا.
* ثم يتابع السائل قائلاً وإذا كان لكلّ شيء علة ومعلول فما هو تفسير من يعيش سيء الحظ في الدنيا منذ ولادته وحتى مماته، وأين هي عدالة اللّه في الدنيا في مثل هذه الحالة؟
- إن عدالة اللّه تعالى هي أن يعطي لكلّ ذي حق حقه، والظلم هو أن يمنع الإنسان من أن يأخذ حقّه، فهل لنا على اللّه من حق؟ب التأكيد لا، فاللّه هو الذي صنعنا ومالنا عليه أيّ حق، فنحن ملكه وهو لا يظلم إنساناً قط بل أجرى العدل بين عباده وجعل للكون ولحركة الإنسان في السنن التاريخية للكون أنظمة، وهو يلاحظ الإيجابيات النوعية للإنسان التي لو أهملها لحساب حالة معينة أو شخص معين لكان التأثير السلبي على هذه الحالة أو هذا الشخص أكثر مما حصل عليه من مراعاة حالته الخاصة، بلحاظ ما يفقده من السنّة الكونية أو التأريخية من نتائج إيجابية في الأمور الأخرى، وليست القضية هي عدم قدرة اللّه ـ تعالى عن ذلك علّواً كبيراً ـ وإنما هي قضية الإنسان المحدود فلا يمكن أن تكون هناك حلول مطلقة، فعندما تربح شيئاً لابدّ أن تخسر شيئاً، وهذه سمة من سمات الطبيعة المحدودة.
 فاللّه سبحانه وتعالى جعل قانون الوراثة، الذي يمكن بموجبه أن ترث صفات سيئة أو أخرى حسنة، ويمكن أن ترث أمراضاً أو تولد معافى، و قد ترث عناصر قوة أو عناصر ضعف وهكذا. ونحن عادة نلاحظ القضايا من جانب واحد، فمثلاً قد نرى الغنيّ ونقول هذا حسن الحظ، ونرى آخر فقيراً فنقول إنه سيئ الحظ لكن هذا الغني قد يكون غبيّاً، وقد يعيش في شقاء في ماله، ويعاني من المشاكل العائلية والاجتماعية والصحيّة وغيرها، فقد يكون المال عنده كثيراً، لكنّه يعاني الضغط والسكري وأمراضاً أخرى فلا يلتذ بطعامه وشرابه، فيما الفقير يأكل كل شيء ويحصل على مشتهياته بلا منغّصات. ويمكن أن تكون لشخص منزلة اجتماعية ولديه مشاكل بحيث يتمنّى أن يعيش حياته كإنسان عادي لأنه لا يملك حريته.
 ولذلك فاللّه سبحانه وتعالى عندما يأخذ منك شيئاً فإنه يعطيك شيئاً آخر مكانه. ولكن غالباً ما يرى الإنسان السعادة في الجانب الذي يفقده أما الجانب الذي يمتلكه فلا يرى فيه السعادة. وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع) إذا نظر إلى أصحاب الدنيا «رضاً بحكم اللّه شهدت أن اللّه قسّم معايش عباده بالعدل وأخذ على جميع خلقه بالفضل اللّهم لا تفتني بما أعطيتهم ولا تفتنهم بما منعتني فأحسد خلقك وأغمط حكمك و اعصمني من أن أظّن بذي عدم خساسة أو أظن بصاحب ثروة فضلاً، فإن الشريف من شرّفته طاعتك والعزيز من أعزّته عبادتك».
العقيدة الإسلامية في مواجهة المتغيرات:
* ما هو السبيل أمام من يحملون في عقولهم وقلوبهم العقيدة الإسلامية في مواجهة المتغيرات المتلاحقة في عالم اليوم؟
- على المثقفين والعلماء والمسلمين أن يتصدوا لهذه الصرعات الثقافية والسياسية من أجل أن يعالجوها معالجة إسلامية «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه».
إساءة فهم الشفاعة:
* الشفاعة من ضرورات الإسلام الثابتة بأدلَّة قطعية، والسؤال هو لماذا أساء المسلمون فهمها، وما هو دورها في التربية الإسلامية؟
- لعلّ الذين أساءوا فهمها لم يفهموا معناها، فالشفاعة تسير في خط مغفرة اللّه، لأن اللّه تعالى قد يغفر للإنسان بشكل مباشر، وقد يغفر له بواسطة الشفعاء الذين أذن لهم بالشفاعة. وكما أن اللّه يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء، فالشفعاء أيضا قد يشفعون لمن يشاء اللّه لهم بأن يأخذوا ببرنامج الشفاعة، وقد لا يشفعون لمن قد يتصور أنه سينال شفاعتهم و هو لا يعمل بعملهم ولا يسير بسيرتهم، إذ من قال لك إن النبي(ص) يشفع لك.وإن الأئمة(ع) يشفعون لك لمجرد أنك تحبّهم؟ بل هناك مبدأً للشفاعة لا يمكن أن يُتخطّى. أمّا أن تعتبر أن الشفاعة مضمونة سلفاً مهما عملت ومهما أسأت، فهذاسوء فهم للشفاعة كما يسيء البعض فهم المغفرة، فاللّه يقول {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(الأعراف:156). ويقول {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء}(المائدة:18). وقد يقول قائل لابد أن يغفر اللّه لي وهو لم يتب ولم يستغفر ربّه، في حين لابد أن ينطلق المؤمن ولديه خوف من جهة و رجاء من جهة «خف اللّه خوفاً لو أتيته بحسنات الثقلين لعذّبك، وارجوا اللّه رجاءً لو أتيته بذنوب الثقلين لعفا عنك». هذه هي المسألة.
أما دور الشفاعة في التربية الإسلامية فهي أنها تجعل الإنسان يثق بهؤلاء الذين أعطاهم اللّه تعالى الشفاعة لأنهم أطاعوه واتقوه حق تقاته، ولأنهم جاهدوا في سبيله حتى أتاهم اليقين، ودعوا إلى دينه بالحكمة و الموعظة في جنبه.ثم أن الشفاعة تعطي الإنسان الرجاء عندما يعرف أن هناك شفعاء أعطاهم اللّه الأذن في الشفاعة و جعل لهم برنامجا في ذلك، فإنه سبحانه يغفر لك من أجل شفاعة الشافعين لك.
هل الشفاعة أمر صوريّ:
* لماذا جعل اللّه سبحانه تعالى الشفاعة لبعض المؤمنين و لبعض الأعمال مع أن الشفاعة تنتهي إليه، وهل الشفاعة، على هذا، أمر صوري؟
- إن اللّه جعل الشفاعة للمؤمنين و لبعض الأعمال تكريماً لهم وتقديراً لأعمالهم بحيث أراد سبحانه أن يعرّف الناس قيمتهم عنده ومنزلتهم لديه، وليست الشفاعة أمراً صورياً كما قد يتصور البعض، بل هي حقيقة واقعة ولكنّ الشفعاء يعرفون البرنامج الذي وضعه اللّه لهم في الشفاعة، وليس معناها أن اللّه يقول لهم إشفعوا لفلان أو لفلان كما لو كانوا يتلقون قائمة بأسماء هؤلاء {ولايشفعون الاّ لمن أرتضى}(الأنبياء:28). {لا تنفع الشفاعة الاّ لمن أذن له}(سبأ:23). فالأئمة(ع) عندهم برنامج مقنّن، واللّه يشفّعهم فيما سمح لهم ولايشفعون كما يشفع الناس على طريقة الرهبة و الرغبة و الوساطة و الاعتبارات الدنيوية الأخرى، ولكنهم يشفعون من خلال القاعدة التي تلتقي مع حكمة اللّه ورحمته. كما أن اللّه يغفر لمن يشاء من خلال رحمته وحكمته.
المس بالذات الإلهية:
* يمسّ بعض الناس الذات الإلهية فهل هو في حكم الكافر أم يجب تجنّبه وما الحكم؟
- تارة ينطلق المسّ من قبيل سبق اللسان، كمن يكفر أثناء الغضب ثم يستغفر اللّه {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ}(البقرة:225). وتارة يستقر هذا المعنى في نفسه فعندئذ يكون كافراً. وان لم يصدق الكفر على القسم الاول فهو يستحق التغرير لأنه جرأة على اللّه تعالى.
مرتكب الكبيرة :
* ما رأي الشيعة في مرتكب الكبيرة هل هو مخلّد في النار أم لا؟ وما هو البديل للخلود إذا كان الجواب لا؟
- بعض الآيات الكريمة تقول إنه مخلّد في النار بالنسبة إلى بعض الكبائر كمن{يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}( ). ولكن ربما تأتيه المغفرة من اللّه سبحانه وتعالى بعد ذلك. واللّه تعالى يقول في سورة النبأ{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}( ). أي أن هناك مدة معينة علمها عند اللّه ولكن المهم هنا هو أن لا نرتكب الكبيرة حتى لا ندخل النار.
الابتلاءات كعقوبة:
* كثيراً ما يصاب الإنسان في الحياة الدنيا بمصائب وحوادث هي عقاب من اللّه  لذنب اقترفه، فهل في الحياة الدنيا عقاب للإنسان، وهل أن هذا يعفيه من الجزاء في الآخرة؟
- ربما كانت هناك بعض الإيحاءات في القرآن أو في الأحاديث إلى أنه عقاب، لكنّه عقاب بما كسبت يدا الإنسان {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ }( ). فاللّه عاقبك ولكن من حيث عاقبت نفسك، لأنك قمت بالعمل الذي يتحوّل إلى عقاب لك. ومثل ذلك قوله تعالى{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم}( ). فأنت عندما غيّرت ما في نفسك من عمل إلى الشر فمن الطبيعي أن يتغير وضعك تبعاً لذلك.
أما البلاء بشكل عام، فإن اللّه يعتبره اختباراً وامتحاناً وتجربة للإنسان لكي يدخل في التجربة الصعبة، فإذا كان إيمانه صادقاً فإنه يجتاز التجربة بنجاح، وإذا كان إيمانه مهتزاً فإنه يسقط في أثناء الطريق { الم  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ  وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}( ). {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ  وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ  كلاّ }( ). أي لا ذاك إكرام ولا هذا إهانة، وإنما هو ابتلاء هنا وابتلاء هناك.
الإيمان بالرسالات:
* هل يجب الإيمان برسالات أولي العزم في زمانهم؟
- طبعاً، فعلينا أن نؤمن باللّه وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد منهم.
الإمامة أصل أم فرع؟
* قرأت في كتاب (مستند العروة الوثقى) للمرحوم الخوئي يقول فيه«إن الإمامة من فروع الدين» فكيف يصحّ ذلك ونحن نعتبرها من أصول المذهب؟
- هي من أصول المذهب ويمكن أن تكون من فروع الدين، وإنما نقول من أصول المذهب لأن الذي لا يعتقد بالإمامة ليس شيعياً ولكن من لم يعتقد بالإمامة فهو مسلم. وأما بالنسبة للمسلمين الآخرين فلا نقول أنهم كفرة إذا لم يقولوا بالإمامة. فالإمامة من حقائق الدين ولكن ليست من أصوله، وحقائق الدين ليست فقط خمسة بل هي عديدة، ولكننا نقصد بأصول الدين تلك التي بها يكون المسلم مسلماً وبإنكار بعضها يكون كافراً. وبهذا فأصول الدين هي ثلاثة (التوحيد والنبوة واليوم الآخر) لأن أصول المذهب يمكن للإنسان المسلم أن يبقى مسلماً من غير الاعتقاد بها لكنه يعاقب بإنكارها وليس معذوراً في ذلك فهو مخطئ ومنحرف.
معرفة اللّه :
* جاء في الحديث القدسي عن اللّه سبحانه انه قال «كنت كنزا مخفياً فأحببت أن أعرف» فما هي حقيقة المحبة التي يشير لها الحديث القدسي، وكيف للّه أن يعرف؟
- ليس المقصود هنا أن اللّه يحب أن يُعرف من خلال شيء في نفسه، كما يحدث لنا نحن البشر، فنحن قد نحب أن نعرف من خلال حالة فراغ نريد أن يملأها الناس من خلال معرفتهم بنا، فيما المعرفة في الحديث واردة كنايةً عمّا يريده اللّه باعتبار أن إرادة اللّه بالشيء تختزن في داخلها ما يناسب معنى حب اللّه للشيء الذي يختلف عن الحب العبادي للشيء، أي أردتُ أن أعرف.
أما لماذا أراد اللّه أن يعرف، فمن الطبيعي أن ذلك ليس من أجل عقدة نقص ـ كما يحدث بالنسبة لغيره ـ ولكن لأن اللّه هو الذي يبدع الأشياء بحكمته {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهم يسئلون}(الأنبياء:23) ، وبالتالي فإن مردود المعرفة هو على الإنسان ذاته لا على اللّه جلّ وعلا { يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }(فاطر:15).
(الرحمن):
* ما معنى كلمة ( الرحمن )؟
- هي صفة للّه. وعندنا (الرحمن) و (الرحيم). فالرحيم هي صفة الرحمة في اللّه من خلال علاقتها بالناس وتعني كثير الرحمة. وأمّا (الرحمن) فهي صفة رحمة اللّه في ذاته وتعني دائم الرحمة، ولذا لا نقول اللّه رحمن بعباده بل نقول رحيم بعباده والمعنى واحد. ولكن لوحظ في كلمة (الرحمن) الصفة من حيث الرحمة في الذات وفي كلمة (الرحيم) من خلال تعلّق الرحمة بالعباد، واللّه العالم.
تبجيل اسم اللّه :
* لماذا عندما يذكر اسم رسول اللّه محمد(ص) نصلّي عليه ولا نقول عند ذكر اسم اللّه (جلّ جلاله) أو (جلّ ثناؤه)؟
- لأن اللّه أمرنا بذلك بقوله { إِنَّ اللّه وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(الأحزاب:56). لا من جهة حاجة النبي إلى ذلك ولكن حتى نرتبط به. ولم يأمرنا بأن نذكر شيئاً فيما يعنيه اسم اللّه لأن هذا مختص باللّه سبحانه وتعالى وعندما نذكره نذكر كل الأشياء التي تتصل بكل مسؤلياتنا وحياتنا، لكن المسلمين درجوا أيضاً على تبجيل اسم اللّه وتسبيحه وتعظيمه والحمد والثناء عليه حيثما ورد ذكره تعالى.
الإيمان الفلسفي:
* ما زلنا نشعر بأن الشعور الإيماني الفعلي بكل مظاهر الحياة والتأسيس النظري الذي نحت به الفلسفة الإسلامية اتجاه اللّه بوصفه الوجود المحض لاسيما عندما نطّلع على أسفار بعض الفلاسفة نجد الفارق جليّاً حيث يكاد يضيع المرء في متاهات الوجود والماورائية والمشيئة العقلية والوجود المنبسط وبسيط الحقيقة لكل الأشياء وغير ذلك، فما هو رأيكم؟
- إذا أردتم أن تعيشوا معنى الإيمان باللّه فلا تقرأوا الفلسفة، لأن الفلسفة قد تعطيكم بعض القواعد العقليّة التي تؤكّد وجود اللّه ولكنها لا تعطيكم هذا الإيمان العفوي الروحي.. اقرأوا القرآن.. واقرأوا أحاديث النبي(ص) وأحاديث الأئمة(ع) وأدعية القرآن وأدعية النبي والأئمة(ع) فإنكم بذلك تعيشون الإيمان الصافي والعميق.. وفكّروا في عظمة اللّه ومواقع نعمته.. خذوا الإيمان في كلّ وسائله من القرآن ولا تأخذوها من الفلسفة فإن ذلك هو السبيل الأفضل لتحصيله.
نتائج الخير السلبية :
* مما لا شك فيه أن الخير هو عنصر جيد ولا يختلف اثنان على أن الشّر هو عنصر خبيث أينما وجد، ولكننا نلاحظ أن كثيراً ممن يفعلون الخير يؤتيهم اللّه شراً أو يزيدهم بلاءً على بلاء مما يؤدي في أكثر الأحيان أن يبتعد الإنسان عن فعل الخير، فما نصيحتكم لكل الذين يحملون تلك الفكرة؟
- من الخطأ أن يفكّر الإنسان أن البلاء الذي يعرض له في الدنيا هو عقوبة له أو هو شّر له لأن الشّر ـ يحسب مفهومه ـ هو الفعل أو الحدث الذي يمثّل في عمقه النتيجة السلبية على مصير الإنسان وعلى حياته. ولذلك فإن على الإنسان عندما يواجه البلاء أن لا يدرس الصورة في السطح، بل عليه أن يدرسها في العمق، وعمق الصورة هو أن البلاء عندما ينزل غالباً لا ينزل بشكل مباشر بل إن طبيعة الدنيا هي البلاء. فعندما تولد وتعيش جهداً مؤلما فإنك تعبّر عن آلامك بطريقة البكاء، والمرض حالة طبيعية في الدنيا من خلال أسباب المرض، والحوادث التي تصيب جسدك كالفقر والخوف وغيرهما لها أسبابها. فلو درست الدنيا في أوضاعها الطبيعية لرأيت أنها تختزن ذلك كله فإنك تمرض وتحزن وتخاف وتفقد عينك أو يدك، وكلّها أمور طبيعية وقد تقول لماذا لم يخلق اللّه دنيا لا حزن ولا خوف ولا مرض فيها، والجواب هو أن اللّه عندما خلق هذه الدنيا فإنه خلقها من المادة والمادة لا تحمل معنى المطلق، فلا يمكن أن يكون هناك أي شيء ايجابي إلاّ والى جانبه شيء سلبي كما ذكرنا ذلك مرارا. وقد قال الشاعر:
إن الحياة لشوكٌ بينه زهر                 فحطّم الشوك حتى تبلغ الزهرا
وقال آخر:
تريدين إدراك المعالي رخية                ولا بد دون الشهد من إبر النحل
فالحياة إذاً هي عالم محدود، وفي العالم المحدود لا تلتقي بأي شيء إيجابي بشكل مطلق إلاّ على حساب أن تعيش السلبي إلى جانب الإيجابي أو في داخله. فالبلاء هو من طبيعة الحياة والوجود، كما قال أبو العلاء المعري:
ومـــكلّف الأيــام ضد طباعها        متــطلّب في الماء جذوة نـــــار
 لذلك لم يجعل اللّه الدنيا للمؤمنين أجرا بل جعل الآخرة كذلك {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ  نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}(فصلت:30-31). وفي أية أخرى {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابسَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارٍِ}(الرعد:23-24). والقرآن يحدّثنا أن هناك نعيماً أكبر في الجنة {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللّه أَكْبَرُ}(التوبة:72). تشعر فيه بالسعادة أكثر من السعادة التي تعيشها في الجنة وذلك عندما يفيض عليك رضا اللّه تعالى.
الشرّ الغالب :
* في الصراع المستديم بين الخير والشر منذ أيام هابيل وقابيل نجد أن الشّر هو الغالب وهو المنتصر، فما هي الأسباب التي تجعل الشر في موقع الغالب والخير في موقع المغلوب؟
- الشّر والخير ينطلقان من الإنسان نفسه، واللّه لم يفرض الخير على الإنسان تكويناً {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}(هود:118). ولكنه أراد للإنسان أن يتحرّك في حياته من موقع إرادته واختياره. فالذي يربي نفسه على الخير فإنه بطبيعة الحال يأتي بالخير، ومن يهمل نفسه، وغالب الناس يهملون أنفسهم خصوصاً مع وجود الغريزة ومثيراتها، فإنه سيرتكب الشر. فالغريزة تحتاج إلى التربية والى التنظيم، لأن اللّه خلق الغريزة حتى تمنح الإنسان شروط حياته بشكل معقول لا بشكل منفلت. وغالب الناس لا يعملون على ضبط هذه الغرائز مما ينتج عن ذلك المزيد من الشرور.
إثبات وجود اللّه بلا أحاديث :
* إذا سافرت غلى دولة أهلها لا يؤمنون باللّه وأردت أن ابلّغ هناك وأثبت وجود اللّه فكيف اثبت لهم وجوده بغير الاعتماد على الأحاديث؟
- إن إثبات وجود اللّه لا يحتاج إلى الأحاديث ولا إلى النصوص بل هناك أدلة فطرية وعقلية وعلمية، والقرآن أرشد إلى ذلك بقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}(فصلت:53). ويقول الشاعر:
فيا عجباً كيف يعصى الإله                    أم كيف يجحده الجاحد
وفي كلّ شيء له آية                         تدل على انه واحد
فمن ينكر وجود اللّه فإنه ينكر عقله، ففي القرآن سؤال مطروح على العقول كلّها {أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(إبراهيم:10). وإذن فمعنى وجود الكون هو وجود اللّه سبحانه وتعالى.
 
الفصل الثالث

مسائل السيرة

* لا بدّ أن نقدّم أهل البيت(ع) بالصورة المشرقة التي يمكن للناس أن يجدوا فيها الإسلام الصحيح المنفتح على قضايا الإنسان والحياة. وهذا هو المنهج الذي اخترناه في الحديث عن أئمة أهل البيت(ع) *








 

دور (مصعب) في إيمان أهل المدينة:
* كيف آمن أهل المدينة المنوّرة بالنبي(ص) وبالإسلام من خلال كلمات (مصعب بن عمير).. هل كان لأسلوبه دورٌ أم أنها آيات القرآن التي كانت تتلى عليهم من خلال مصعب، أم الإثنين معاً؟
- قبل أن يجيء النبي(ص) إلى المدينة استطاع أن يخلق في داخلها مجموعة كبيرة جداً من المسلمين وذلك في بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية، وكان يرسل إليهم المسلمين، حتى أصبحت المدينة مهيأة للنبي(ص).
ثم أن اليهود كانوا يتحدّثون مع المسلمين من أهل يثرب بأنه سيأتي نبي فيما صوّره القرآن في قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ}(البقرة:89). فكانوا يحاولون أن يثقّفوا أهل المدينة بمجيء نبيهم وكانوا يقولون لهم إننا سنكون معه وأنتم تكونون ضده. وعـندما جاءتهم دعـــوة النبي(ص) قالوا هذا الذي كانت تحدثنا به اليهود. فالمدينة إذاً كانت مهيأة لقبول الإسلام والنبي(ص). وكانت أول بلد استطاع النبي(ص) أن يخطط ويخلق القاعدة الأولى فيه قبل أن يذهب إليه، حيث كان يرسل المسلمين تباعاً إلى المدينة وكان (مصعب بن عمير) الداعية الذي يملك ثقافة الإسلام حيث كان يحدّثهم بالإسلام، ومن الطبيعي فإن شخصية الداعية لها دورٌ كبير جداً في هداية الناس الآخرين.
الرجوع إلى السنّة مع اختلافها:
* كيف يمكن أن نرجع إلى سنّة رسول اللّه {فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ}(النساء:59). مع أننا نختلف في مصادر السنّة، فالسنّة هي محور الاختلاف فكيف يمكن أن تكون مرجعاً؟
- المقصود من الردّ إلى الرسول هو أن نعرف أن الرسول(ص) قال ما نقل إلينا لنأخذ به ونجعله ميزاناً للحق. وعلى ضوء ذلك فلا بد من التدقيق في صحة الرواية فلا ترجعوا إلى كل ما روي أو إلى كلّ ما فسّر به القرآن، ففي ذلك الوقت كان النبي عندما ينزل القرآن موجوداً ولم تكن هناك مشكلة خلافية، إلا انه بعد وفاته لابد من أن نوثق مضمون ما قاله رسول اللّه ـ فلقد كثرت الكذّابة عليه ـ حتى نعرف أن الرسول قال ذلك فعلا.
رعي الرسول(ص) للأغنام:
* هناك عدة روايات تدل على أن رسول اللّه(ص) كان يرعى الغنم فهل هي صحيحة، وهل أن رعي الأغنام مهمة غير شريفة في ذلك الوقت، حيث توجد بعض الكتب تنفي عن الرسول مهنة رعي الأغنام؟
- هناك بعض الأحاديث تقول إن اللّه ما بعث نبياً إلاّ وهو يرعى الغنم، حيث يمكن أن يعود رعي الغنم على الإنسان بالكثير من المسؤولية في إدارة شؤون هذه المجموعة التي وأنت ترعاها ترى أن واحدة تخرج من هنا وواحدة تخرج من هناك وواحدة تقف وأخرى تقع وهكذا، فيكون الإنسان الذي يرعى الغنم وكأنه في عملية توجيه وتربية ورعاية مما يجعله يعيش الصبر والمواصلة وهذا الأفق الرحب المنفتح، ولا إشكال فإن هذا يعين الإنسان على القيام بالرسالة التي تحتاج إلى كثير من الصبر والانفتاح، فالرعي ليس مهنة سيئة إذا أضيفت إليها عناصر الشخصية الأخرى.
متمّمة أو ناقضة؟
* هل كانت الديانات السابقة على الإسلام متممة لبعضها البعض أم ناقضة لبعضها البعض، وهل كانت لفئة أو قوم معينين أم للناس كافة، وإذا كانت لكل الناس، فما حكم من كان على دين النبي إبراهيم(ع) وما هي الديانة التي كان يتعبّد بها نبينا(ص) قبل الإسلام؟
- لم تكن الديانات تختلف عن بعضها البعض في أشياء كثيرة ذلك أن مصدرها واحد، فعيسى(ع) مثلاً يقول ـ حسب الروايات ـ «جئت لأكمل الناموس». والنبي(ص) يقول «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»( ). وكانت ديانة إبراهيم(ع) هي الديانة الجامعة لكل الديانات، ولكن هناك تفاصيل دينية موجودة هنا وهناك لا تبتعد عن شريعة إبراهيم(ع)، والنبي(ص) كان يقول «أنا على دين إبراهيم»( ). فلم يكن آنذاك التعقيد الذي نعيشه الآن.
كمال الأنبياء الجسدي:
* اقتضت حكمة اللّه عز وجل إرسال الرسل في أعلى درجات الكمال، فما الحكمة في إرسال نبي اللّه موسى وفيه عقدة عدم البيان والفصاحة وذلك باعترافه(ع)؟
- أولاً: المقصود بالكمال هو الكمال الأخلاقي وليس الكمال الجسدي. ثم أنه لم يقل إنّ عندي عقدة بل قال وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا(القصص:34). فليس من الضروري أن يكون لدى الأنبياء(ع) كمال جسدي بل المهم هو الكمال الروحي والأخلاقي والعلمي، وهذا هو المطلوب.
رواية أن النبي(ص) سُحر:
* ما رأي مدرسة أهل البيت(ع) في الروايات الحديثية التي تقول إن الرسول قد سُحر من قبل اليهودي (لبيد بن الأعسم)؟
- هذه روايات موضوعة، لأن اللّه  الذي بعث النبي(ص) هادياً ومبشراً ومذكراً لا يمكن أن يسلّط عليه أحداً يتحدّى أعظم شيء فيه وهو عقله، فهذا كلام لا يمكن أن يقوله من يفهم معنى النبوّة.
إسلام أبي طالب (رض):
* هل أسلم والد علي(ع)؟
- هو في قمة الإسلام وقمة المسلمين وهو القائل:
ولقد علمت أن دين محمد                    من خير اديان البرية ديناً
فهل يقولها غير مسلم؟!
* وما سبب نزول قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ(البقرة:280)؟
- بعض الناس يرون أنها نزلت في النبي(ص) بما كان يتمناه من اهتداء أبي طالب الذي كان يحبه، ولكن هذه رواية غير صحيحة بل أن أبا طالب كما قلنا من خلال دراسة حياته كلّها ورعايته لرسول اللّه(ص) وتشجيعه ولده جعفر ـ عندما رأى النبي يصلي وعلي على يمينه وخديجة خلفه، قال لجعفر «يا بني صل جناح ابن عمك»( ). لذلك فالكلام في أن أبا طالب مات كافراً كلام الإنسان الذي لا يحترم عقله ولا يحترم ثقافته. ولذلك فنحن نعتقد أنه مات مؤمناً مسلماً خالص الإيمان.
الصلاة على آل النبي(ع):
* لو كان حكم الصلاة على الآل وارداً فلماذا اقتصرت الآية القرآنية على النبي(ص) فقط {إِنَّ اللّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(الأحزاب:56)؟
- تارة نقول إنه واجب وتارة نقول إن الأمر ورد في السنّة. ففي القرآن وردت الصلاة على النبي(ص) كما وردت الصلاة على المؤمنين أيضاً{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}(الأحزاب:42). وأيضاً على الصابرين {وبشر الصابرين  الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا للّه وإنا إليه راجعون  أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}(البقرة:155-157). فالصلاة هي أيضاً على المؤمنين والطائعين والمتقين، لكن وردنا أيضاً حديث عن النبي(ص) يقول: «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء». أي أن تصلّوا عليّ من دون أن تصلّوا على آلي، ونحن نعرف أنه في الصلاة الإبراهيمية التي يقول بها السنّة والشيعة ورد ذكر الآل «اللّهم صلّ على محمد وآله كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين»( ). هذه الصلاة الإبراهيمية معروفة عند كلّ المسلمين وقد أكّدّ فيها الصلاة على الآل، ونحن نعرف أنه {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7). فالنبي(ص) أمرنا بذلك ونحن نلتزم به. صحيح أنها لم ترد في القرآن بشكل مباشر لكنها وردت في السنّة بشكل مباشر، وهذا مما يرويه السنّة والشيعة.
الاختلاف في حضرة النبي(ص):
* حينما قال القائل «إن النبي ليهجر» وفي البيت رجال، فلم لم نسمع من يقول له «وما ينطق عن الهوى». خاصة وأن القائل يحيلهم إلى كتاب اللّه ويقول إنه حسبهم وأن المسلمين يعرفون ذلك جيداً وقد جرّبوه على مدى (23) عاماً؟
- أولاً: هناك من قال آتو بالدواة والكتف وهذا ردّ على مقولة الرجل. وثانياً: إن هؤلاء كما اختلفوا في كلام رسول اللّه(ص) فقد يختلفون في تفسير الآية فقد يقولون {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}(النجم:3-4). المراد هو القرآن أو التشريع، لكنه قد ينطق عن الوجع كلاماً آخر، فمن يريد أن يركّز الفكرة الخطأ فإنه يحاول أن يخرج الخطأ حتى من قلب الصواب، كما نجد مصاديق ذلك في زماننا حيث يكثر الذين يحرّفون الكلام عن مواضعه ويحاولون أن يفسّروا الكلام بغير ظاهره.
هل نجح النبي(ص) بتربية أصحابه؟
* إذا سلّمنا ببعض الروايات التي تتحدث عن حالة الأصحاب وقت وفاة النبي(ص) نصل إلى الحكم على النبي(ص) بعدم النجاح في تربية الأصحاب طيلة هذه الفترة مع أنه اكتشف المنافقين كلهم، فلماذا لم يكتشف هؤلاء أيضاً؟
- نحن لم نتحدّث عن الأصحاب كلّهم بل تحدّثنا عن مجموعة منهم، وإلاّ فاللّه حدّثنا عن الجانب الإيجابي لأصحاب النبي(ص) بقوله تعالى {محمدٌ رسول اللّه والذين معه اشدّاء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجدّاً يبتغون فضلاً من اللّه ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل}(الفتح:29). فأصحاب رسول اللّه(ص) هم الذين قاتلوا معه، وعندما يشذّ البعض هنا والبعض الآخر هناك، فليس من الجائز أن ننظر إلى الصحابة بأجمعهم النظرة السلبية ذاتها. نعم هناك صحابة قد انحرفوا وهناك صحابة آخرون نافقوا وهناك بعض الصحابة قد أخطاوا كما أن هناك صحابة التزموا النهج الصحيح.
الوصية بالخلافة أثناء المرض:
* القارئ للتاريخ يرى أن الخليفة الأول أوصى في حال مرضه للخليفة الثاني، وكذلك الحال بالنسبة للخليفة الثاني الذي أوصى وهو على فراش الموت بالخلافة ولقد عملوا بوصية الشيخين، فلماذا تراهم اعترضوا بهذا الاعتراض على سيد الخلق؟
- ذلك لأن الموقف الأول أريد به تركيز المنهج، أي كان المقصود من ذلك أن ينحرف الواقع عن المنهج الصحيح، وبعد أن تبدّل المنهج بالطريقة التي أرادوا أصبحت القضية تتحرك بشكل طبيعي.
تياران أم رواسب الجاهلية؟
* يرى (الشهيد الصدر) (رض) أن المسلمين في عصر الرسول(ص) كانوا تيارين: تياراً يتعبّد بالنص وتياراً يجتهد في مقابل النص، ويرى الدكتور (علي شريعتي) أن هذا الرأي غير واضح الصحّة لأن الذين ابتعدوا عن النصوص والوصية كانت لديهم رواسب وقصور في الفهم وعدم إدراك لخطورة الإمامة ولهم مصالح وحب للرئاسة والهيمنة وفهم عشائري لمسألة الإمامة، فما هو رأيكم في هذين الرأيين؟
- إنني أميل للرأي الثاني، لأن دراستنا للوقائع التي ذكرت في هذا المجال دلّت على أنّ الرواسب هي التي كانت تحكم. فمثلاً عندما ينقل لنا التاريخ أن الزهراء(ع) كانت تطوف على جموع المهاجرين والأنصار وتطالبهم بحق علي(ع) في الخلافة، كان الردّ هو لو أن علياً تقدّم إلينا بذلك لبايعناه، فكانت القضية عشائرية، فإذا بايع شخص فعليه أن يلتزم ببيعته بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك خطأ أو صوابا فلو درسنا الواقع الإسلامي آنذاك بشكل عام، لرأينا أنه عندما جاء الأنصار إلى السقيفة وقالوا «منا أمير ومنكم أمير». جاء عمر ومعه أبو بكر وقال الأول: بايعوه (يعني أبا بكر) بعد أن وضع يده في يده، نرى أن الناس الحاضرين كلّهم بايعوه فأين هو التيار الثاني؟ نعم كان هناك أشخاص من بني هاشم ومن غيرهم مثل الزبير وسلمان وآخرون وهم معدودون. ولم يكن هناك تيار بالمعنى المصطلح للتيار، بل كانت المسألة كما يقول المحقق السيد (عبد الحسين شرف الدين) رحمه الله في تفسير تلك المرحلة: لم يكن هناك نضج في فهم الإمامة بل كانوا يعتبرون القضية سارية بالشكل الطبيعي كما كانت قبل النبي(ص) ولهذا اعتقد أن الرأي الثاني أقرب إلى طبيعة الوقائع التاريخية التي ينقلها التاريخ إلينا في هذه المسألة، مع كلّ الاحترام والتقدير لفكر وعبقرية السيد الشهيد (رض).
الأفضل بين الأنبياء:
* لماذا النبي(ص) أفضل الأنبياء؟
- أولاً: لأنه هو نبي الحياة كلّها، وكانت رسالته ونبوّته تتحرك منذ انطلاقه إلى آخر الزمان. ثم إن مسألة الفضل هي من اللّه  {إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}(آل عمران:33). فاللّه هو الذي يعطي الفضل وهو الأعرف بخلقه وقد أعطى رسوله(ص) هذه المنزلة العليا وعلينا أن نسلّم بها، لأن اللّه هو الذي أعطاه ذلك ولأن رسول اللّه(ص) في ملكاته وفي أخلاقه وفضائله وروحانيته وجهاده وشجاعته اجتمع فيه ما لم يجتمع في نبيّ قبله، ويمكن أن ندرس ما وصلنا من خصائص النبي إبراهيم(ع) والنبي موسى(ع) والنبي عيسى(ع) والأنبياء الآخرين لنعرف أنهم إنما وصلوا إلى مرتبة الكمال لأنهم المعصومون، ولكن عندما ندرس رسول اللّه(ص) نجد أن الخصائص التي اجتمعت في شخصيته لم تجتمع في شخصية نبي من قبل وهذا هو الذي يوحي بأفضليته في ذاته من خلال عناصره الخاصة التي عاشها.
حبيب اللّه:
* لماذا هو حبيب؟
-  لأنه أحب اللّه تعالى كما لم يحبّه أحد من خلقه، واللّه يحب من يحبه، ولأن اللّه رأى فيه عناصر الحبّ مجتمعة. واللّه تعالى يقول لنا {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللّه}(آل عمران:31). فإذا كان اللّه يحبنا إذا اتبعنا رسوله، فكم هو حبّ رسول اللّه(ص) للّه وكم هو حبّ اللّه لرسوله، ذلك أنّ حب اللّه لرسوله بمقدار ما كان يمثله(ص) من الإسلام حتى لا انفصال بينهما، فهو التجسيد الكامل له، وأن حبه(ص) للّه بمقدار معرفته باللّه تعالى التي لا تدانيها معرفة.
التفريق بين الأنبياء:
* هل يعد ذلك تمييزاً أو تفريقاً بين نبي وآخر؟
- يقول تعالى {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}(الأنعام:165). فاللّه عز وجل هو اعرف بخلقه وأعرف بأنبيائه وهو الحكيم في كلّ ما يعطيه وما يفعله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}(الأنبياء:23). فَمَنْ نحن حتى نقول للّه إنك ميّزت وفرّقت، وما حجم ما نعقل وما نحمل من هذا، فعندما يكون الأمر أمر اللّه فيما يخلق {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ}(القصص:68). فعلى الناس كلّهم أن يخشعوا ويخضعوا ويكفّوا عن الكلام.
هل الرسول(ص) يسهو؟
* هناك بعض الروايات تقول إن الرسول(ص) كان يسهو، وإذا كان سها في حياته فهل أنه سها في التبليغ أم في التطبيق أو في أعماله الاعتيادية؟
- لا إشكال أن النبي(ص) بحسب ما نعتقده معصوم في التبليغ بإجماع كلّ المسلمين. والتبليغ على قسمين: فقد يكون بالفعل وقد يكون بالكلمة لأن السنّة هي قول المعصوم وفعله وتقريره، وبذلك فهو لا يخطأ ولا يسهو في أي شيء من الأشياء التي تتصل بعملية التبليغ. أما السهو في الصلاة أو في بعض الأفعال فهناك روايات ينقلها بعض العلماء كالشيخ الصدوق وابن بابويه أنه سها في الصلاة، ولكن المشهور، بل إجماع المتأخرين هو إن السهو ممنوع عن النبي(ص) ونحن نستقرب ذلك.
 الاحتفال اللاهي بالمولد:
* يقوم البعض في ذكرى المولد النبوي الشريف باستعمال الدفوف واللجوء إلى الصفير والتصفيق، مع ملاحظة اجتماع الرجال والنساء بما لا يليق مع الذكرى أو بعض الأماكن التي يقام فيها الإحياء، فما هو تعليقكم؟
- إن تعليقي هو أن هؤلاء لا علاقة لهم بالنبي(ص) فهم يريدون أن يسلّوا أنفسهم بأن يلهوا باسم النبي(ص). ونحن لسنا ضد الفرح ولكن من يريد أن يقيم ذكرى المولد النبوّي الشريف عليه أن يجعل هذه الذكرى مملوءة بكلّ ما جاء به النبي(ص) من أخلاق وقيم ومثل، ونحن نفرح بالرسالة كما نفرح بالقيم وبكلّ البرامج الإسلامية، و نفرح بأن يرتفع مستوانا إلى أن نقف في طليعة الأمم لنكون خير أمة أخرجت للناس، لا أن نجعل من ولادة النبي(ص) مناسبة لهو و عبث و قضاء وقت، فهذا شيء يريدونه لأنفسهم، و النبي(ص) غائب ـ في هذه الاحتفالات اللاهية ـ غياباً مطلقاً.
المولد النبويّ ومولد المسيح(ع):
* لماذا تقتصر الاحتفالات بمولد رسولنا الكريم(ص) على بعض المحاضرات و الخطب المحدودة بينما نشاهد الاحتفال بمولد السيد المسيح(ع) يتصف بأكثر من ذلك؟
- نحن لا نشجّع الاحتفالات بالسيد المسيح بالطريقة المعروفة، إذ لا علاقة بالسيد المسيح(ع) بكل الاحتفالات التي تقام باسمه، فهي احتفالات غناء ورقص وشرب خمر، فأين السيد المسيح(ع) من ذلك كلّه؟ نعم، نحن نقول لابدّ أن نجعل الاحتفالات حيوية لا أن تكون جامدة و مملّة و منفّرة، بل أن يكون فيها فرح رسالي و برامج للأطفال و للنساء و الشباب، و أن نخطّط ليكون المولد مناسبة ننفتح فيها على الإسلام و على النبي(ص) و على أخلاقه و سيرته و على واقعنا الذي نعيش فيه، حتى نعطي المناسَبة صورتها المناسِبة في أن نأخذ من الذكرى ما ينفعنا في حياتنا، بأن نولد في المولد أمّة وأفراداً، وأن نحيا بإحيائه من خلال معطياته الكثيرة، و بذلك نكون قد عظّمنا المناسبة و أثرينا الحياة.
وصية الوارث:
* ما صحة الحديث عن رسول اللّه(ص) «ليس للوارث وصية»؟
- هذا على خلاف ما جاء في كتاب اللّه { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}(البقرة:180). أي أنه لا صحة للحديث الذي ذكرت. ولذلك يرى المسلمون الشيعة شرعية الوصية للوارث مستندين إلى الآية التي يدّعي الآخرون أنها منسوخة ولم يثبت عندنا النسخ، هذا بالإضافة إلى النصوص الواردة عن أئمة أهل البيت في شرعية ذلك.
الأحاديث المباشرة عن الرسول(ص):
* تفتقر الكتب الشيعية للأحاديث المروية مباشرة عن رسول اللّه(ص) إذ قلّما ترى حديثاً مروياً عن الرسول، فما هو السبب في ذلك؟
- من قال ذلك؟ ألسنا نقرأ أحاديث الرسول المروية عن أهل البيت(ع). ثم أن كثيراً من أحاديث البخاري ومسلم غير مروية مباشرة بل تروى عن ابن مسعود أو أبو هريرة أو غيرهما، في حين أن أغلب الرواة عن النبي(ص) عندنا هم الأئمة(ع) وهم أصدق الرواة لأنهم قالوا كما قال الإمام الصادق(ع) «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث رسول اللّه».
فوالِ أناساً قـولهم وحديثهم                  روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
الاحتكام إلى السنّة والقرآن:
* دعا الإمام علي(ع) عبد اللّه بن عباس (رض) لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج أن لا يخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّال ذو وجوه،وطالبه أن يحاججهم بالسنّة ـ فإنهم كما يقول ـ لا يجدون عنها محيصاً،فهل هذا قائم حتى الساعة؟ ألسنا نجد الاختلاف في السنّة أيضاً،فكيف الاحتكام إلى ما هو مختلف فيه؟
- هنا ـ واللّه العالم ـ لم يقصد الإمام علي(ع) أن القرآن لا يصلح أن يكون وسيلة من وسائل الاحتكام، ففي القرآن الحجّة كلّ الحجة، واللّه أنزل القرآن على الناس ليكون الحجة عليهم من اللّه، وقد أقام اللّه بالقرآن الحجة على المشركين وعلى الكافرين وعلى المنافقين، وهذا ما نلاحظه في كل ما نقرأه في القرآن.
ولكن قضية الإمام(ع) مع الخوارج الذين اعترضوا عليه في قوله تعالى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلا للّه}(الأنعام:57). هي أنه كيف يجوز أن نحكّم الرجال في دين اللّه، بل اللّه هو الحكم، وهذه المسألة لم يتعرّض لها القرآن بشكل تفصيلي،لذلك إذا حاججهم ابن عباس في هذا الموضوع فسينبري له من يقول {إِنْ الْحُكْمُ إِلا للّه}  فيمكن أن يأتوا ببعض الآيات التي يمكن أن تفسّر على أكثر من وجه فلن يصل معهم إلى نتيجة،ولكنه أراد له في هذه القضية الخاصّة بالخوارج أن لا يحاججهم في القرآن، لأنهم لم يعترضوا على الإمام(ع) مثلاً في التوحيد و لا في النبوة بل اعترضوا في هذه النقطة (الحكم) والتي لم يفهموها كما يجب، مما دفع الإمام(ع) إلى التعبير عن ذلك بقوله «كلمة حق يراد بها باطل» وبيّن أن الحكم هو للّه وعندما دفعنا الحكمين ليحكما أوصيناهما بأن يحكما بكتاب اللّه وأن يكون القرآن أمامهما ولكنهما لم يأخذا به، وليس معنى إن الحكم إلا للّه هو أن اللّه يحكم بشكل مباشر، فاللّه تعالى يحكم من خلال خلقه الذين ينطلقون من خلال حكمه في القرآن والسّنة.
فكأنّ الإمام(ع) أراد أن يقول له حاججهم بالسنّة التي تمثل الصراحة في مثل هذا الأمر حتى لا يقفوا موقف المجادل لأنهم لا يجدون محيصاً في ذلك.ربما كان الإمام(ع) يقصد ذلك، واللّه أعلم.
الدعوة بين الأمس واليوم:
* في المحاضرة السابقة تكلمتم عن الدعاة إلى اللّه وحملتموهم المسؤولية كلها، وقلتم إذا لم تنجح بطريقة ما فهناك طريقة أخرى، والسؤال هو أن رسول اللّه(ص) كان سيد الدعاة، ولكن نلاحظ حتى على زمنه بقي أناس كافرين، بل حتى على زمن الأئمة(ع). فهل تستطيع أن تقول أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا عقول الناس؟
- نحن لم نقل ذلك، بل قلنا إن على الدعاة إلى اللّه أن لا ييأسوا بمجرد فشل تجربة واحدة، وأن لا يتهموا الناس بأنهم لم يفهموهم، بل على الداعية إلى اللّه أن يعيش قلق الدعوة بحيث يحاول أن يعرف إذا لم يقبل الناس عليه هل أنهم لم يقبلوا عليه من جهة بعض العناصر أو الظروف التي تبعدهم عن خط الدعوة مع فهمهم لها، أو أن الداعية لم يستطع أن يفهم الناس جيداً. ثم أن الدعوة إلى اللّه تعالى قد تحتاج إلى زمن طويل بحيث إذا فشلت في تجربة فعليك أن تتحرك في التجربة الثانية والثالثة والرابعة. ولذلك نجد أن الرسل كانوا يمارسون تجارب عديدة ولا يقفون عند الفشل مشلولين. وفي القمة من ذلك تجربة نوح(ع) الذي لبث في قومه ألف سنة الا خمسين عاماَ وقدم تقرير نهاية الخدمة بعد ذلك، حيث يقول { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا  فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا  وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}(نوح:5-7). وبعد كل هذا الصبر والعناء والتحمّل أوحى اللّه اليه أنه{لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ }(هود:36). فقال نوح { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}(نوح:26). ليس من جهة العقدة من عزوف الناس عن الدعوة بل {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا}(نوح:27). ولذلك علينا أن نعمل على مواصلة التجارب، وكما أكدنا دائما فإنّ فشل التجربة عدة مرات لا يعني أن الفكرة فاشلة.
معنى البدعة:
* ما معنى البدعة بدقة؟ وهل تخص البدعة العبادات أم تشمل المعاملات كذلك حيث يقال إن (كلّ بدعة حرام)؟
- البدعة بحسب المفهوم العام هل كلّ شيء جديد مبتدع ومبتكر ولم يكن موجودا فوجد، إذا فسّرنا البدعة بالشيء الجديد فلا يمكن أن نقول بأن كل شيء من اختراعات وتقنيات وإبداعات وابتكارات علمية حديثة حرام. لكن البدعة المحرَّمة هي أن تدخل في الدين شيئا ليس من الدين، بمعنى أنك تقول بأن هذا الشيء مستحب في الصلاة وهو ليس مستحباً، أو إن هذا الشيء مستحب في الأذان والإقامة وهو ليس مستحباً، أو إن هذه المعاملة التي ورد الدليل على كونها باطلة صحيحة،فالبدعة هي أن تدخل في دين اللّه وتنسب إليه ما ليس منه أو ما لم تعلم أنه من دين اللّه {أَاللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه تَفْتَرُونَ}(يونس:59).
روايات أهل السنّة عن الزهراء(ع):
* لقد قرأنا عدداً من كتب السنّة في الأحاديث النبوية فلم تذكر هذه الكتب أحاديث عن فاطمة الزهراء أو علي بن أبي طالب، أليست فاطمة (ع) أرفق الناس بالرسول(ص) فما هو السبب؟
- في كتاب (مسند الزهراء) للسيوطي وهو من علماء السنّة يذكر العديد من الروايات التي رويت عن الزهراء(ع) كما أن هناك روايات متفرقة ذكرت عن الزهراء(ع) في كتب أحاديث أهل البيت التي روت الكثير عن علي(ع) أيضاً. لكن كتب علماء السنّة متفاوتة من حيث مقدار الروايات الذي يروى عنها.
أريدكم للّه:
* ما المقصود من قول الإمام علي(ع) «أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم»؟
- هو أراد أن يسير بهم من أجل الخطوط العامة التي يريدها اللّه ويحبّها فيما يصلح أمرهم وفيما يسير بهم إلى الطريق المستقيم،أما أنهم يريدونه لأنفسهم فأن يراعي مصالحهم الخاصة ولو على حساب المصالح العامة.
مشهور المهاجرين والأنصار:
* قال الإمام علي(ع) في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان «إن المشهور المهاجرون والأنصار فان أجمعوا على رجل وسمّوه إماماً فإن ذلك للّه رضا». ألا ينافي هذا القول دعوانا أن الإمام يعيّن بالنص؟
- إن الإمام يتحرّك على أساس «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم». فهم يعتبرون الشورى أساساً للخلافة ومع ذلك تمرّدوا على أمير المؤمنين(ع) الذي انتخبه المهاجرون والأنصار، فالإمام هنا يلزمهم بما التزموا به.
قلوب الرجال:
* قال الإمام علي(ع) «إن قلوب الرجال وحشيّة فمن تألّفها أقبلت عليه» فهل لكم أن توضّحوا لنا الغموض في هذا القول؟
-ليس هناك أي غموض في هذه الكلمة فكلّ إنسان يستوحش من الشخص الذي لا علاقة له به. وفي المثل الشعبي (البعد جفا) فأنت عندما ترى شخصاً غريباً لا تعرف عنه شيئاً ما وليس لديك أية علاقة معه تشعر أنك تستوحش منه، وهو بدوره يستوحش منك للسبب نفسه، لكنّه إذا تألّفك بأن تكلّم معك باللطف وإذا انفتح عليك أو اقترب منك فيقيناً سوف تقبل عليه والعكس صحيح. وفي خط هذه الروح العلوية يقول الإمام(ع) «احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك».
بخل الولاة:
* هناك روايات تقول بعدم لياقة التصدّي من الولاة إذا كانوا يتسمون بالبخل ـ كما في عهد الإمام علي لمالك الأشتر ـ، فما علاقة البخل بالتصدّي؟
- الإنسان البخيل إنسان أناني يفكّر بذاته ولا يفكر بروحية العطاء، والإنسان الذي يتحمّل مسؤولية الأمّة يبخل حتى في مال الأمة على الأمة واللّه تعالى يقول في صفة البخل{وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِه}(محمد:38). ويقول عن البخلاء {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}(النساء:37). لذلك فالبخل يمثّل صفة سلبية إنسانية تمنع الإنسان من العطاء، فالإنسان الذي يريد أن يتسلّم مقاليد الأمّة لابد أن يحبّ الأمّة كما يحب نفسه ويعيش همومها وقضاياها وحاجاتها.
القول بأن علياً تنقصه السياسة:
* تحدث أحد الخطباء عن الفتنة التي حدثت في خلافة الإمام علي(ع) فقال إنه رجل فقيه وشجاع وذو علم ولكن تنقصه السياسة، ولذلك قامت الحروب في زمنه، فهل هذا صحيح؟
- إن بعض الناس لا يفهم السياسة جيداً ولا يفهم الرسالة بعمق، فأولاً قد لا يكون الإمام علي(ع) سياسياً بمعنى السياسي الذي يحافظ على حكمه وأن يتشبّث بالحكم كيفما كان، كمثل منْ يريد أن يصبح حاكماً ولو بالتعامل مع الشيطان ومع الأميركان ومع القوى الصهيونية. وتراه ـ إذا حكم ـ يظلم الناس ويفسد في الأرض ويعمل كل شيء حتى يبقى في الحكم. في حين أن عظمة الإمام علي(ع) هي أنه أعتبر أن دوره هو أن يعطي للرسالة واقعيتها وأن يثبت أن هناك حاكماً يريد أن يطبّق الإسلام حتى لو كان ذلك على حساب بقائه في الحكم، كما كان يقول «.. قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»( ).
وكان يقول ردّاً على من كان يقول في ذلك الوقت أن معاوية أدهى من علي «واللّه ما معاوية بأدهى مني ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس»( ). فالإمام علي(ع) يريد للسياسة أن تتحرك من أجل أن تعمّق للناس القضايا الكبرى ولا يريد للسياسة أن تتحرك من أجل أن تزوّر روحية الناس وأن تقودهم إلى أن يجعلوا السياسة لعبة للذات ولمصلحة الذات. فالإمام كان يقول «ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم»( ). ولعلكم سمعتم مني أكثر من مرة أسأل لماذا الخلافة لعلي؟ نحن نعتقد إن الخلافة لعلي(ع) لأنه هو المسلم الوحيد الذي عاش الإسلام كلّه وعرف الإسلام كلّه وانفتح على روحانية الإسلام كلّها وعاش مع النبي(ص) الذي لم يستطع بفعل الحروب والأوضاع والمشاكل أن يكمل مشروعه في تركيز القيم الإسلامية في نفوس الناس، فكان يحتاج إلى شخص هو نفس رسول اللّه(ص) لإكمال الشوط، وليس هناك إلاّ علي(ع). ولذلك كانت الخلافة هي الحق الطبيعي لعلي(ع) بشكل طبيعي.
وكان دوره(ع) هو أن يحمي الإسلام، وهذا هو الذي يفسّر أنه تعاون مع الخلفاء الذين سبقوه مع أنهم أبعدوه عن حقه، ويعتبر نفسه مسؤولاَ خارج الخلافة وداخلها، فدور الإمامة هنا هو دور النبوة بدون نبوة «أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي»( ). فدور الإمام علي(ع) هو أن يؤكد الحق حتى يعطي الناس فكرة عن الحكم الإسلامي وكيف يؤصّل القيم الإسلامية في تجربته حتى على حساب الكثير من السلبيات في حياته.
تكذيب:
* ينقل عنكم أنكم ذكرتم في مقابلة صحفيّة مع جريدة (الحياة) أن ولاية علي(ع) لا تصل إلى حدّ القطع؟
- يكذبون في ذلك،فنحن نقول إنه ثبت لدينا بالقطع أن النبي(ص) ولّى علياًَ(ع) بنصّ من اللّه  في يوم الغدير و في غير يوم الغدير. ولكننا كنّا نتحدّث عن أن هذه المسألة هي من المسائل النظرية التي هي محل خلاف بين السنّة و الشيعة، فالشيعة يقطعون بذلك و السّنة لا يقطعون به،ولذلك وضعت موضع الجدل. وثمة فرق بين من يقول إنها من القضايا البديهية التي لا يمكن لأحد أن يناقش فيها، وبين من يقول إنها من القضايا النظرية. فكلّ العلماء يقولون إنها من القضايا النظرية التي لابدّ من تقديم البرهان عليها من قبل علمائنا و أن يقدّم علماء السّنة البرهان النافي و السلبي لها.أمّا الشيعة فإنهم يقطعون بذلك.
دور الإمام علي(ع) في عصر الخلفاء:
* ما هو دور الإمام أمير المؤمنين في ال(25) سنة من معاصرة الخلفاء؟
- كان دوره أعظم دور، لأن الإمام يعتبر نفسه أنه أمير المؤمنين خارج الخلافة كما هو أمير المؤمنين داخل الخلافة، وأنه مسؤول عن الإسلام كلّه سواء كان هو على رأس المسؤولية أو لم يكن.
ولذلك وقف الإمام علي(ع) مع الذين أبعدوه عن الخلافة وغصبوا حقه، وقف أمامهم ليعطيهم المشورة كلّها والنصيحة كلّها وليحلّ لهم المشاكل التي تواجههم من دون أية عقدة، لأنّ الفرق بين الإمام علي(ع) وبين الآخرين هو أن علياً كان إسلاماً كلّه وكانت مسئوليته عن الإسلام كمسؤولية
الرسول(ص) من دون نبوّة،ولذلك قال «لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة». ولهذا نجد أنه نصح كلّ الخلفاء الذين تقدّموه في سيرته. وينقل أنه دافع عن عثمان وأرسل ولديه للدفاع عنه، وليس معنى ذلك أنه ترك أو تنازل عن حقه ولكنه كان يراعي مصلحة الإسلام العليا.وعلينا أن نتعلّم من علي(ع) سعة الأفق بحيث نفكّر بالإسلام وبرحابة الصدر واستقامة الخط لأن علياً علّمنا ذلك قبل خلافته وبعد خلافته.
علي(ع) الأول في الوعي:
* جاء في ( فكر وثقافة ) قول لعلي(ع) «يا ربِّ إنك تعلم أني أول من أناب إليك وأول من صلّى مع رسول اللّه وأول من سمع الوحي والدعوة وأجابها». ولكن المشكلة هي أن القوم لم يفهموا ما معنى الأول، فلم يكن علي(ع) الأول في الزمن ولكنه كان الأول في رعاية الإسلام، أليس كذلك؟
- لم يكن علي(ع) من حيث التسلسل الزمني الأول في الخلافة لأنهم أبعدوه عنها، ولكنه كان الأول في وعي الإسلام، وكان الخليفة الحق في الواقع سواء كان داخل السلطة أو خارجها. لأن علياً كان يحمل مسؤولية الإسلام وهو خارج السلطة، كما حمل المسؤولية وهو في داخلها، فالمقصود بالأول ليس موقعه في الترتيب الخلافي فلقد كان الخليفة الرابع، ولكنه كان الأول في كلّ شيء بعد رسول اللّه(ص).
نقل الخلافة إلى الكوفة:
- ما هي الأسباب التي دعت علياً (ع) إلى نقل مقر الخلافة إلى الكوفة رغم ما للمدينة في نفس الإمام(ع) من مكانة؟
* باعتبار أن الإمام(ع) عندما رجع من البصرة رأى أن الظروف المحيطة به تدعو إلى اختيار الكوفة ليحقق سيطرة اكبر على الواقع في عمل الخلافة.
حظر العلم:
- في كتاب (نهج البلاغة) لسيدنا علي(ع) «إذا أرذل اللّه عبداً حظر عليه العلم» فلماذا نجد الكفّار والمنافقين وكثيراً من الناس غير الملتزمين معهم الشيء الكثير من العلم؟
* هذا لا يعني أن كلّ إنسان أعطاه اللّه العلم فهو ممن يحبّه اللّه ويرضاه،بل هو وارد على نحو الكناية من أن حظر العلم على الإنسان هو حالة من الرذالة له، باعتبار نسبة الأشياء إلى اللّه الذي هو مسبّب الأسباب.
الصلح مصلحة أم اضطرار؟
* هل أن الإمام الحسن(ع) كان يرغب بالصلح عن طريق ما كان يراه من المصلحة أو أنه كان مضطراً إلى أن يصالح؟ وهل أثمر هذا الصلح عن نتائج سياسية ناجحة؟
- لأنه كان مضطراً إلى ذلك كان يرى فيه المصلحة، لا من جهة خضوع لحالة الاضطرار، ولكن لأن الإمام الحسن(ع) جرّب أن يؤكد الحق في موقعه، ولكن جيشه كان جيشاً يخذل قائده بدلاً من أن ينصره. ولذلك رأى(ع) من خلال دراسته للواقع وللظروف ولما يصلح أمر الأمة أن الاستمرار في الحرب لن يحقق أية مصلحة حتى على مستوى ما حدث للإمام الحسين(ع) بعد ذلك، لأن الناس كانوا محكومين آنذاك بأجواء الحرب وكان الوضع ضبابياً، لأن الحرب عندما تستمر فالناس يفقدون وضوح الرؤية، ولذلك كان الإمام الحسن(ع) يريد أن يحفظ ما نسميه هذه الأيام المعارضة وخط الوعي وخط الإسلام الأصيل لأنه لو استمر في الحرب لقتلوا جميعاً. كان يريد لهم أن يبقوا للمستقبل وكان يريد للأمة أن تعيش حالة من السلم بحيث تنفتح على الواقع الذي سوف تبصره جيداً من خلال وضوح الرؤية.
وهكذا خطط الإمام الحسن(ع) لثورة الإمام الحسين(ع) فكانت ثورة الإمام الحسين(ع) صدى لصلح الإمام الحسن، وكان موقف الحسين(ع) مع الإمام الحسن(ع) في صلحه، وقد بدأت النتائج تظهر عندما بدأ الناس يرون الظلم والانحراف الذي كانوا يعيشونه، ولذلك انفتحوا على الحسين(ع) ليكون قائد المسيرة الجديدة، ولولا ما حدث من التعقيدات ومن الألاعيب لأمكن للإمام الحسين(ع) أن يحل مشكلة الإسلام في الحياة ومشكلته في واقع الحكم الذي كان يعيشه.
هل أن صلح الحسن(ع) رمز للوحدة؟
* هناك من يزعم أن الإمام الحسن(ع) مدّ يده ليضعها بيد معاوية وهذا ما يشكّل عنواناً للوحدة الإسلامية بين السنّة والشيعة، ويدعو أصحاب هذه النظرة إلى إقامة مؤتمر انطلاقاً من موقف الإمام الحسن(ع) هذا فما هو رأيكم بهذا الزعم؟
- لم يكن معاوية ممثلاً للسنّة بل كان ممثلاً للملك، فهو الذي حوّل الخلافة إلى ملك عضوض، علماً أن بعض الناس يتحدثون عنه أنه خال المؤمنين، ولا ندري لماذا يقتصرون على هذا الخال مع أن أمهات المؤمنين كثيرات؟! فلماذا ـ مثلاً ـ لا يتحدثون عن (محمد بن أبي بكر) أنه خال المؤمنين وعن غيره. وكما قال الإمام علي(ع) إن معاوية كان يغدر ويفجر ولم يكن من الذين يحملون الرسالة ليكون ممثلاً للمسلمين السنّة في خط الرسالة، ولم يكن الإمام الحسن(ع) ممثلاً للشيعة فقط بل هو ممثل للمسلمين كلّهم. ونحن هنا نقرأ في كتاب اللّه قوله تعالى{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ}(الحجرات:9). ونحن نعرف إن معاوية كان باغياً لأن الخلافة كانت لعلي(ع) على مستوى بيعة المسلمين له لا على مستوى (الغدير) فحسب. ولا علاقة للصلح بين الإمام الحسن(ع) وبين معاوية بوحدة المسلمين. فالإمام(ع) عندما رأى أن المسلمين تعبوا من الحرب وأن الاستمرار في هذه الحرب لن يحقق نتيجة بينما تجميد الحرب يمكن أن يحقق نتائج كبيرة، لذلك صالح. وكان يقول لأصحابه الذين كانوا يعاتبونه على ذلك «إنني أردت صلاحكم وصلاح المسلمين».
هل نصح الحسن(ع) علياً(ع)؟
* هل صحيح أن الإمام الحسن(ع) كان ينصح أباه وكان الإمام لا يأخذ بنصيحته خصوصاً فيما يتعلق بالخلافة والخروج من المدينة؟
- كان الإمام الحسن(ع) تلميذاً لأبيه(ع) ومطيعاً له، وكان يعرف أن أباه يملك الحقيقة التي لا يملكها أحد، وأنه لا يخطئ في تقديره للأمور ولا في كلماته وأفعاله. لأننا عندما ندرس علياً(ع) فإن معرفتنا به محدودة وبالتأكيد فإن الإمام الحسن(ع) يعرف أباه معرفة أوسع وأشمل وأعمق، فإننا نعرف علياً(ع) من خلال ما يملك من علم بحيث لو كشف له الغطاء لما ازداد يقيناً، وأن علمه كما وصفه هو نفسه «علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب»( ). ومن ذلك نخلص إلى أنه لا يمكن أن يصدق أن الحسن كان يخطّئ أباه أو انه كان ينصحه، لأنه تلميذ رسول اللّه(ص) كما أنه تلميذ علي(ع) وفاطمة(ع) ولذلك فإنه يعيش فكرهم في فكره وروحهم في روحه وعصمتهم في عصمته. ولم يؤثر عنه في سيرته أنه فعل ما ذهب إليه السؤال.
دور الإمام الحسن(ع) بعد الصلح:
* ما هو دور الإمام الحسن(ع) في الفترة التي أعقبت الصلح، وكيف كان يعمل للإسلام؟
- كان يرعى المجتمع الإسلامي علماً وحكماً وحركة بكلّ ما كان يحتاج إليه، ولذلك فإننا يجب أن ندرس حركة الإمام الحسن(ع) خصوصاً مع ولاة معاوية وكيف كان يواجههم بكلّ قوة وصلابة، وكيف كان يعطي الناس الأمثولة في الأخلاق العالية وفي العلم الغزير، لنعرف أنه كان يملأ الحياة الإسلامية بعناصر شخصيته.
مزاج الحسن(ع) ومزاج الحسين(ع):
* يقول (خالد محمد خالد) الكاتب المصري في كتابه (أبناء الرسول في كربلاء) «إن مزاج الحسن يختلف عن مزاج أخيه الحسين، فالأول يميل إلى الدعة والهدوء لذلك صالح معاوية، وأمّا الثاني فهو يميل إلى الشدة والحدّة والانفعال، ولذلك ثار على يزيد». فما هو تعليقكم؟
- هذا الكاتب لم يفهم الحسن(ع) فهما صحيحا ولم يفهم الحسين(ع) فهما صحيحا، فلو قرأ كتب الإمام الحسن(ع) إلى معاوية لرأى كيف كان يخاطبه بكل صلابة وبكل عنف، ولرأى علياً(ع) متجلياً في الحسن(ع) في أسلوبه في مخاطبة معاوية من موقع متقدّم صلب قوي عنيف وعنيد. وقد انطلق الإمام الحسن(ع) محارباً لمعاوية في أول الأمر، وأما صلحه فلم يكن نابعاً من مزاجه الذي كان مزاج المقاتل حيث يكون القتال مصلحة للمسلمين، ومزاج المسالم عندما يكون السلام مصلحة للمسلمين. وهذا هو أسلوب الإمام الحسين(ع) فليس صحيحاً أن أسلوب الحسين(ع) كان أسلوب عنف في البداية، فنحن عندما نقرأ كلمة الإمام الحسين(ع) «إني ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسدا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحقّ ومن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين»( ). نرى أنه بدأ مسالما وانتهى مقاتلا حينما أصرّ العدو على مقاتلته.
فأسلوب الإمام الحسين(ع) في الإيام التي سبقت شهادته في كربلاء هو أسلوب الحوار الذي كان يريد أن يجتذب الآخرين ليدرسوا الفكرة والموقف معه، وكان يقوم خطيباً بين وقت وآخر ليقيم الحجّة عليهم. لقد كان الحسين(ع) في كربلاء المحاور والمفاوض، ولكن عندما قالوا: «ما ندري ما تقول يا ابن فاطمة ولكن إنزل على حكم بني عمك». قال لهم «لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد»( ). إلى آخر كلماته التي عبّر فيها عن موقف الرفض.. ومن ذلك يتضح أن الحسين(ع) كان حسنياً في مرحلة الحسن(ع)، ولو عاش الحسن(ع) مرحلة الحسين(ع) لكان حسينياً في مرحلته، ولكن بعض الناس يفهمون من القضايا السطح لا العمق ويفهمون طبيعة النتائج لا طبيعة الخلفيات.
لماذا لم يكرّر الأئمة(ع) الثورة الحسينية؟
* عندما ثار الإمام الحسين(ع) أعاد للإسلام روحه، فلماذا لم تتكرر ثورته من خلال حياة باقي الأئمة(ع)؟
- للإمام الحسين(ع) ظرفه الذي تحرّك فيه بالأسلوب الذي أعاد للإسلام روحه وللأئمة(ع) ظروفهم التي تحركوا فيها فأعادوا للإسلام روحه وعقله وحركيته ولكن بأسلوب آخر، ولكلّ واحد منهم أسلوب ينطلق من خلال طبيعة الظروف المحيطة به، ولذلك فإنهم يتكاملون في ذلك لأن الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق، ولو انهم تبادلوا المواقع لعمل كلّ إمام بدور الإمام الآخر.
مقولة ل(مطهري) في المنبر:
* هناك مقولة للشهيد المطهري (رض) حول المنبر يقول فيها «لقد استشهد الحسين(ع) مرتين مرة في كربلاء على أيدي الجناة، والثانية على أيدي بعض خطباء المنبر الحسيني من خلال ما يطرح من أكاذيب وتحريفات للواقع» فما هو رأيكم بهذه المقولة؟
- أنا معه مئة في المئة، لأن كثيراً من مظاهر المنبر الحسيني أصبحت تثير التخلّف بكلّ ما للتخلف من معنى، وأصبحت تثير الكثير من الأكاذيب التي تصل إلى حد الخرافة من أجل أن تصبح القضية هي كيف يمكن أن نستـنزف دموع الناس، لا كيف يمكن أن نفتح عقولهم على الرسالة وعلى الحق.
* وكيف يمكن التمييز بين ما هو كذب ومحرّف عن غيره؟
- من الطبيعي أن الإنسان الذي يدرس حقائق السيرة في الكتب الموزونة والموثوقة فإنه يستطيع ان يعرف الأكاذيب. وعندما نقرأ سيرة الحسين في (تاريخ الطبري) أو في (الإرشاد للشيخ المفيد) فإننا نستطيع أن نجد فيها سيرة تصوّر الواقع بما يقترب من طبيعة العناوين الكبيرة للواقعة.
سيرة الحسين(ع) قبل عاشوراء:
* يلاحظ أن الكثير من الخطباء والدارسين والعلماء يختصرون الحسين(ع) في الفترة الزمنية المحصورة من خروجه من المدينة إلى استشهاده، في حين أن سيرة حياته مليئة بمفاهيم الحياة. أما يوجد مشروع توحيدي موسّع لتغطية ذلك؟
- إن المسألة الآن تدور في أن نرتبط بالحسين الذات وحسب وليس الحسين الرسالة، وحيث إن الحسين الذات عاش في فترة تاريخية معينة، فإن من الطبيعي أن نتحدث عن الحسين في تلك الفترة. أما إذا فهمنا الحسين(ع) على أنه حسين الرسالة فالقضية تختلف، فإنه(ع) حينئذ سيكون موجوداً معنا من خلال رسالته وثورته لنقتدي به ولنصوغ ثورته من خلال واقعها الحقيقي. وهناك عدة تجارب كتابية وخطابية ناجحة، كما أن هناك خطباء رساليين استطاعوا ان يجسّدوا هذا المعنى حيث يركّزون للناس حضور الحسين(ع) في الواقع.
طلب الحسين(ع) الماء:
* أنتم الشيعة عندما تُسئلون عن علّة طلب الحسين الماء لطفله الرضيع تقولون لكي يلقي الحجّة على الأعداء، في حين أن طلبه للماء يضعف من مبدأه الذي خرج من أجله ومن قوّته التي ترونها من خلال أحاديثكم، فما معنى طلبه الماء؟
- إن طلبه الماء ليس من الضروري أن يكون لإقامة الحجّة، بل كان طلباً حقيقياً. وغاية الأمر أن مواجهتهم لهذا الطلب بهذه الطريقة المستنكرة والمستهجنة قد أصبحت حجّة عليهم في داخلهم، وحجّة عليهم في التاريخ.أمّا متى يكون طلب الماء إضعافاً للمبدأ، فهو عندما يتنازل طالبُ الماء عن مبدئه أو بعض مبدئه في مقابل شربة ماء وهو ما لم يحصل في كربلاء، لا في مقابل الماء ولا في مقابل غيره.
الملحمة الحسينية:
* ما رأيكم في كتاب (الملحمة الحسينية) للشهيد مطهري؟
- أنا انصح بقراءته وقراءة كتب الشهيد مطهري (رض) فهو من العلماء الواعين المنفتحين الذين سبقوا عصرهم، ولو كان الشهيد مطهري موجوداً الآن لما عشنا كلّ هذا التخلّف الذي يطرح نفسه هنا وهناك وتحت عناوين مختلفة.
عصمة الأئمة التسعة(ع):
* عند الحوار مع أهل السنّة يسهل علينا إقناعهم بعصمة أهل الكساء(ع)، فكيف نستطيع إقناعهم بعصمة الأئمة التسعة من ذرية الحسين(ع)؟
- نحن نقول بعصمتهم لأن أهل الكساء الخمسة ذكروا فيما ورد عنهم، أن هؤلاء هم الأئمة وهم المعصومون، ذلك لأن الإمام ـ باعتباره خليفة لرسول اللّه(ص) ـ لابد أن يكون معصوماً بلحاظ ما ذكرناه في تلازم الإمامة ـ التي هي امتداد للنبوة في الدور من دون نبوّة ـ مع العصمة.
عصمة العبّاس والطيّار وزينب:
* لماذا لا يعتبر أبو الفضل العباس وجعفر الطيار وزينب الكبرى من المعصومين؟
- هم ليسوا واجبي العصمة، ولكن قد يكون الإنسان معصوماً لنفسه من خلال التزامه واستقامته على الخط.
العاطفة لتوطيد العلاقة بالحسين(ع):
* كيف نوظّف العاطفة وخاصة البكاء في توطيد العلاقة بالإمام الحسين(ع) وخط أهل البيت (ع)؟
- بالنسبة إلى الإمام الحسين(ع) هو إمام نحبّه بعمق الحبّ حتى قبل أن يستشهد، لأن الحسين(ع) يحبُّ من خلال ما يملك من عناصر الشخصية في الجوانب الروحية والأخلاقية والعلمية وكلّ الجوانب التي عاشها(ع)، ولذلك فأنت لا تملك إلاّ أن تحبّه، ولكن هناك في حركة العاطفة جانبان، هناك عاطفة من جهة طبيعة المأساة، ومن الطبيعي في هذه الحال فإن مأساة كربلاء لا يملك الإنسان فيها إلاّ أن يبكي، ولذلك يقول الشاعر:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة                        لكنما عيني لأجلك باكية
وعندما يعيش الإنسان جو المأساة بكلّ معانيه فلا يحتاج إلى المزيد من الإثارة المصطنعة، فان مأساة الحسين(ع) والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه هي في غنى عن كلّ الزيادات وعن كلّ الإضافات التي أضيفت إليها، ولكنها تحتاج إلى قرّاء يملكون الفن في الأسلوب وفي التصوير بحيث يكون القارئ أديباً لأنه لا يمكن لأحد أن يعطي لذكرى الإمام الحسين عناصرها وكلّ معانيها بحيث يخلط بين المأساة وبين القضية وبين الرسالة إذا لم يكن أديباً ومثقفاً.
ومع الأسف فإن الكثيرين لا يملكون من الأدب ولا من الثقافة شيئاً، فتراهم يحتاجون للكثير من الأساليب الاستعراضية وللكثير من الخرافات حيث نسمع في مجالسهم أطيافاً كثيرة، ولا نقول أنه لا توجد أطياف في السيرة الحسينية لكن كربلاء ليست كلّها أطيافاً، فلو كان هناك إنسان أديب يصوّر قضية الحسين بالعناصر الفنية للتصوير والإخراج فلا يحتاج أن يقرأ بيت نعي لأن القضية - كما ذكرت - تحمل عناصر المأساة في داخلها، ولذلك فليست المأساة بالعناصر الإنسانية التي تجعل الإنسان يتفاعل معها عاطفياً كوسيلة من وسائل الاستمرار في التفاعل الرسالي، لكننا أخذنا المأساة وتركنا الرسالة ولذلك ترانا نتنازع في عاشوراء، في حين أن الإمام الحسين(ع) كان حوارياً مع أعدائه، ففي كلّ يوم من أيام عاشوراء كان يقف ويدعوهم للحوار، وكانت مشكلة الحسين مع أعدائه أنهم كانوا لا يستجيبون للحوار بل كانوا يقولون «لا ندري ما تقول ولكن انزل على حكم بني عمك». فكم منا الذين إذا اختلفوا مع الآخرين يقولون لا ندري ما تقول ولكن تنازل عن رأيك واعمل كذا.
هل نحن حواريون؟ما الفرق بيننا وبين جماعة (عمر بن سعد)، أولئك كانوا يرفضون الحوار مع الحسين(ع) ونحن عندما نرفض الحوار مع العلماء ومع المصلحين ومع المفكرين نقول لهم ما ندري ما تقولون. لذلك نحن نبكي أحياناً بعيون غير إسلامية وبقلوب غير رسالية والبكاء ـ أحياناً ـ ينطلق من الخارج وليس من الداخل، لذلك فإن البكاء من الداخل يعني أن تأخذ الحسين كلّه وتبكي كيف تحمّل كلّ تلك المعاناة الشاقّة من أجل الرسالة.
ولقد تحدث الإمام الحسين(ع) كثيراً، تحدث خطيباً، وتحدّث بكلّمات كثيرة ولكن الكلمة الرائعة العظيمة هي تلك التي اطلقها في اشد ساعات العسرة «هوّن ما نزل بي أنه بعين اللّه»( ). فلقد كان يعيش مع اللّه في الرسالة ومع اللّه في الحركة ومع اللّه في الحوار ومع اللّه في المواقف الصعبة كلّها حتى وهو يبارز:
الموت خير من ركوب العار                      والعار أولى من دخول النار
ونحن لا نزال نقول النار ولا العار، ألسنا نقول ذلك؟
لذلك ـ أيها الأحبة ـ يجب أن تبقى العاطفة في قضية الحسين، ولكن علينا أن نعرف ما هي الأساليب العاطفية الأكثر تعبيراً عن عمق الفاجعة، فالزمن يتطور بكلماته وبوسائله الحياتية ويتطوّر كذلك بأساليب العاطفة، ولا نزال في الأساليب التي عفا عليها الزمن وفي تلك التي تمثل التخلّف، ونقول {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}(الزخرف:22). {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}(الزخرف:24). قالوا لا نفهم ما تقول، لذلك علينا أن نعيش الحسين(ع) بكلّه رسالياً لا مجرد موضوع للمأساة.
تدوين المذهب الجعفري:
* عندما تسأل بعض الأخوة من المذاهب الأخرى عن المذهب الجعفري يحتجّون دائماً بان المذهب لم يدوّن ولم يكتب بشكل صحيح مع العلم بأن الإمام أبا حنيفة والشافعي هما من تلامذة الإمام جعفر الصادق(ع) فما ردّكم على تلك الاحتجاجات مما قد يشكل حجّة دائمة بعدم الاعتراف بمذهب الإمام جعفر الصادق؟
- أولاً: الشافعي ليس تلميذ الإمام الصادق(ع) ولكنه تلميذ تلميذه. وثانياً: في العقيدة الإمامية أن الإمام جعفر(ع) ليس له مذهب بمعنى الاجتهاد، فالأئمة عندنا ليسوا مجتهدين بل إنهم ينفتحون على الحقيقة الإسلامية عقيدة وشريعة ومنهجاً من خلال ما توارثوه عن رسول اللّه(ص). وهذا ما كان يتحدّث به الإمام جعفر الصادق(ع) نفسه حيث كان يقول «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه وحديث رسول اللّه قول اللّه  عز وجل( ). وإنما سميّ هذا المذهب بالجعفري لا لأنه مذهب في قبال المذاهب الأخرى أي كاجتهاد في قبال الاجتهادات الأخرى، بل لأن علوم أهل البيت(ع) انتشرت في زمان الإمامين الباقر والصادق(ع) من جهة الفرصة التي أتيحت لهما بسبب الأجواء السياسية إن في ظل الدولة الأموية والعباسية أو الفترة الانتقالية بالنسبة للإمام الصادق(ع).
ولذلك نقول بأن كلّ ما جاء من الإمام الصادق(ع) دوّن، ولعلّ دراسة الإمام الصادق(ع) في التراث المروي عنه تجعلنا نشعر أنه ما من قضية من القضايا التي عاشها المسلمون فيما أخذوا به وفيما انطلقوا به وفيما اختلفوا فيه، إلاّ وللإمام الصادق(ع) كلمة في ذلك. ونحن عندما ندرسه نجد أنه تحدّث عن الفلسفة وعن الأخلاق، وعن الفقه، وعن العقيدة، وعن حياة الناس بكلّ سعتها وكلّ امتداداتها.
علم الصادق في الكيمياء:
* يقال إن (جابر ابن حيان) كان قد تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق(ع) حتى في العلوم العلمية كالكيمياء فمن أين للإمام هذا العلم؟
- إنّ للأئمة(ع) ملكات قدسية أفاضها اللّه عليهم، ولهذا لم يعهد في أي إمام أنّه تعلّم على يد أستاذ هنا أوهناك. ولهذا فإن لعلم الإمام ـ من خلال كل ما نعرفه من حياة الأئمة(ع) ـ خصوصية تختلف عن الآخرين.
الصادق(ع) في خضمّ الصراع:
* كيف طرح الإمام الصادق(ع) نفسه للناس كإمام معصوم في خضمّ تلك الصراعات السياسية والفكرية التي كان يعيشها عصره؟
- إن هذه التجاذبات والصراعات السياسية والفكرية تحتاج إلى حَكَمْ لا يعيش نقاط الضعف التي يعيشها الناس، ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن يملك الضعف لا يمكن أن يعطي القوة، ومن يعيش الجهل لا يمكن أن يعطي العلم. ومن الضروري من أجل أن تنقذ الناس من نقاط الضعف أن تكون قوياً، وبعبارة أخرى فإن اللّه تعالى كما خلق شمساً ليس فيها أي شيء من الظلام فلابد أن يخلق شمساً إنسانية تتمثل في الأنبياء والأولياء ليس فيها شيء من الظلام حتى تعطي الناس النور كلّه، لأن النبي إذا كان يأتي ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وكانت هناك ظلمة في عقله أو في قلبه أو في حياته فكيف يعطي الناس النور؟ والإمام ـ باعتباره وصيّاً للنبي لابدّ أن يأخذ مثل هذا الدور أيضاً ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبهذا نستدلُّ على العصمة.
تلامذة الإمام الصادق(ع) الأبرار:
* كيف يمكن أن نرى أنفسنا تلاميذ حقيقيين للإمام الصادق(ع)؟
- أن ندرس ماذا قال في كلماته، وما عمل في سيرته، وماذا أطلق من آفاق لنستوعب ذلك كلّه ونحاول أن نحوله إلى فكر وإلى منهج للفكر وسلوك في السيرة وما إلى ذلك.
الفرج قبل العام 2000:
* كثر الحديث في أوساط الشيعة عن تأمّل الفرج قبل العام 2000، فهل من شيء تذكره لنا يدخل السرور إلى أنفسنا؟
- كذب (الوقّاتون) الذين يضعون مثل هذه المواقيت التي علمها عند اللّه، ولكن {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا  ونراهُ قريبا}(المعارج:6-7). أما متى يكون الفرج فعلمه عند اللّه ولم نكلّف به، واللّه وحده الذي أطلق غيبته(عج) من خلال غيبه وهو الذي يظهره عندما يأتي الموعد المقرر. وعلينا أن نعمل فنحن مسؤولون عن الإسلام. وأمّا لماذا ننتظر الإمام؟ فلكي يقودنا حتى نقوم بمسؤولياتنا الإسلامية. وقد قال(عج) «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه»( ). فللإمام نوّاب فلنبق مع نوّابه إلى أن يظهر(عج) فالمهم أن نعدّ أنفسنا حتى إذا ظهر في أي وقت فإننا نكون مستعدين للسير معه.
التنبّؤ بظهور الإمام(عج):
* نسمع كثيراً عن تنبؤات تصدر عن مشايخ وعلماء دين بقرب ظهور الحجّة المنتظر(عج) بحيث أن أحد المشايخ وهو من بلد أوروبي حدّد الشهر التاسع من هذا العام لظهوره(عج) وأن معظم أمور الحياة ستتعطل من وسائل اتصال ومن ثروات باطنية وإلى آخره، فما هو تعليقكم؟
- لا يعلم الغيب إّلا اللّه، فقول هذا مثل قول بعض الناس إن العالم سيفنى وحدّدوا موعداً لفنائه وهو الأحد الماضي، وهناك من يقول إننا يجب أن نستعد إلى يوم (11) آب لأنه عند كسوف الشمس ستبرد الأرض ويأتي الفناء( ). إن هذه المسألة لم يعط اللّه فيها علمه لأحد «كذب الوقّاتون». لكن يبقى الأمل كبيراً {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا  وَنَرَاهُ قَرِيبًا}(المعارج:6-7). لذا يجب أن نشغل أنفسنا في كيف نستعد لظهوره. أما متى يظهر وكيف غاب فهذا أمر اللّه، ولماذا غاب فعلمه عند اللّه. إنّ علينا أن نكون من أنصاره وأعوانه وأن نكون مصداق ما جاء في(دعاء الافتتاح)«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك». بحيث تربّي نفسك تربية الداعية إلى اللّه في دولة الإمام(عج) وتجعل من نفسك مشروعاً قيادياً، لأن دولة الإمام تحتاج إلى قياديين. نعم نحن نعيش مع الحجّة(عج) ونشعر ببركته وبوجوده وبروحانيته وعطفه وحنانه وهو يقول لنا «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجّة اللّه». إن مشكلتنا أن ما كلّفنا به اللّه لا نعمله وما لم نكلّف به نعمل به، وهذا هو التعبير عن التخلّف.
واجبات المنتظرين:
* يطلق على أهل مذهبنا بالمنتظرين، فما هي واجباتنا، وما هي الأمور التي يجب أن نخطوها لنكون أفضل المنتظرين؟
- أن لا ننتظر الإمام(عج) في الغرف المكيفّة التي نشرب فيها الشاي ونطلق النكات ونسترخي في اللامبالاة، وأن لا ننتظره ونحن نكفّر بعضنا بعضا ونضلّل بعضنا بعضا، وأن لا ننتظره ونحن نعيش الحقد والعداوة والتمزق فيما بيننا. بل علينا أن ننتظره في الطريق الذي يأتي منه، فهو سيأتي ليملأ الأرض قسطا وعدلا.. وعلينا أن ننتظره في طريق العدل بأن نكون العادلين في بيوتنا لنكون من المنتظرين عندما نعدل مع أسرتنا.. وأن نكون العادلين في منطقتنا عندما نعدل مع جيراننا.. وأن نكون العادلين مع أهل ملّتنا ومع الناس كافة، لأنك إذا لم تكن عادلاً مع زوجتك ومع جارك ومع ابن بلدك وابن ملتك فهل تضمن نفسك بأن لا تكون من المحاربين له(ع)؟!
فالقضية هنا هي أن علينا أن نربّي أنفسنا لنكون في خط الجندية الأول معه. فنحن عندما نقول «واجعلنا من أنصاره وأعوانه». فإن ذلك يعني الذين يعيشون في خط النصرة دائماً، ولعلكم تقرأون في (دعاء الافتتاح) الحديث عن الدولة الكبرى «اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك». فالمنتظر الحقيقي هو مشروع قائد ومشروع داعية، حتى إذا ظهر الإمام(عج) اليوم أو غداً فانك تكون جاهزاً لتكون من الدعاة إلى طاعة اللّه والقادة إلى سبيله، فهو لا يأتي ليضع يده على رأس أحدنا ويقول كن داعية وكن قائداً فهذا أمر غير ممكن.
وفي واقع الأمر فنحن لسنا من المنتظرين لأننا نعيش اللامبالاة فليس لدينا همّ الإسلام، بل نحن كما قال ذلك المستشرق الألماني عندما درس الإسلام فأعجب به، وعند ما جاء إلى المجتمع الإسلامي قال:الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر.
إنكار وجود الإمام الحجّة(عج):
* هناك من ينكر وجود الإمام المهدي(عج) وأنه حي يرزق بل إنه ينفي أصل ولادته،فما هو الجواب المناسب لهؤلاء؟
- هناك المئات من الروايات الدالّة على ذلك، وهناك العديد من الأدلّة التي تؤكّد ذلك وقضية الإمام(عج) من القضايا التي تحتاج إلى بحث علمي، وقد توافر العلماء على بحثها بما لا مزيد عليه.
استعظام فضائل أهل البيت(ع):
* نجد بعض الباحثين يردّ أو يستكثر بعض فضائل الأئمة (ع) أو بعض الصحابة مستدلاّ بأن الإسلام لا يلي الاهتمام بالشخص بقدر اهتمامه وتركيزه على المنهج، فما رأيكم؟
- صحيح أن الإسلام يرتكز على المنهج ولكن من المنهج الإيمان بأنّ اللّه يعطي أنبياءه وأولياءه بعض المعاجز والكرامات. ومن المنهج الإسلامي الإيمان بالغيب وبأن اللّه يمكن أن يطلع بعض أنبيائه وأوليائه على غيبه ويمكن أن يعطيهم بعض كراماته.
صحة بعض روايات الطيرة:
* هناك روايات في مجال الطيرة كتلك التي تقول يكره الزواج في المحاق والسفر في اليوم الفلاني، فهل هذه الروايات صحيحة؟
- حسب ما حققناه فإن أغلب هذه الروايات غير صحيحة.
روايات تبعث على التفاؤل:
* في مقابل الروايات التي تنهى عن التشاؤم في الأيام، هناك روايات تعتبر بعض الأيام من أيام التفاؤل ـ إذا صحّ التعبير ـ كما في رواية أن العمل الذي يبدأ في الأربعاء يكتب له الديمومة و الاستمرار، فما هو رأيكم؟
- هذه روايات حتى لو لم تكن صحيحة لكنها مبعث للتفاؤل وهي أمر حسن بقطع النظر عن كونه وارداً في رواية أو غير وارد، فإذا ورد في رواية فعندنا حديث عن الإمام الباقر(ع) يقول: «من بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه»( ).
العارف بحق أهل البيت(ع):
* ما هي الطريقة التي ندعو بها عندما نزور قبور آل النبي(ص) وما المقصود بما جاء في الزيارة «عارفاً بحقكم»؟
- أن يعرف بحقهم أنهم الأئمة الذين أراد اللّه لنا أن نعترف بإمامتهم وأنهم الأدلاّء على اللّه تعالى والحجة علينا وما إلى ذلك( ).
تحقيق مشاريع الإمامة:
* إذا كانت المرجعية نيابة عن الإمام المعصوم في الإشراف على تثقيف المؤمنين وتربيتهم، فما هو أفضل سبيل لتحقيق مشاريع الإمامة تقوم بأدائه المرجعية الصالحة في ظل تطوّر آليات الإعلام والتوجيه؟
- أولاً: أن ينطلق المرجع بثقافة إسلامية واسعة تعرّف الناس خطوط الثقافة الإسلامية، وتواجه الشبهات التي توجّه إلى الإسلام من خلال الكتب التي يقوم المراجع بتأليفها، ومن خلال حضورهم الدائم في الساحة عندما تطرح بعض المشاكل الفكرية التي تبحث عن حل، والمشاكل السياسية التي تبحث عن موقف، والمشاكل الاجتماعية التي تبحث عن خط للمعالجة بحيث يعيش الناس مع المرجعية ليجدوها حاضرة في ذلك كلّه، وهذا ما عشناه مع رسول اللّه(ص) ومع الإمام علي(ع). فنحن عندما ندرس علياً في خارج الخلافة وفي داخلها، نرى أنه كان يتابع أحداث الواقع الإسلامي فيعالجها بفكرةٍ هنا ويحل مشكلة هناك، وما إلى ذلك.
وهكذا عندما ندرس حياة الأئمة(ع) ولا سيما الإمامين الباقر والصادق(ع) ومن تقدمهم ومن تأخر عنهم، فإننا نرى أنهم كانوا يواجهون التحديات الثقافية والفكرية والاختلافات التي تحدث بين المسلمين من أجل أن يعطوا الرأي فيها ويعالجوها أو يوجّهوا تلامذتهم لمواجهتها.
ولا بد أيضاً من تأسيس النوادي الثقافية والمدارس التعليمية وإرسال المبلّغين إلى سائر العالم الإسلامي، واستخدام وسائل الإعلام الجديدة من أجل إبلاغ صوت الإسلام إلى أكبر مكان في العالم مما لا يستطيع المبلّغون أن يصلوه. فهناك فرق بين مرجعية في الفتوى تعطي الفتوى فتكفي بالاستغراق في ثقافة الفقه والأصول لتطلق الفتوى من دليلها، وبين مرجعية شاملة يرجع الناس إليها في أمورهم كلّها، وبالتالي فإن المرجعية الشاملة تقدّم ثقافة إسلامية واسعة بحجم العصر ووسائل متطوّرة وحركية وحضوراً دائماً في قضايا الإسلام والمسلمين، مع ملاحظة مهمّة وهي أن ابتعاد الفقيه المرجع عن حركة الحياة وعن وعي تفاصيل الواقع وأسراره قد يضعف قدرته على الفتوى المتعلّقة بها، ونحن نلاحظ أن بعض المراجع قد يعطون الرأي في كثير من المواقف أو المواقع أو الأشخاص فيما لا يملكون معرفته اعتماداً على نظرات سريعة، أو على نقل بعض الأشخاص الذين لا يملكون الثقة أو دقة المعرفة.
علم الجرح والتعديل:
* هل عند الشيعة علم الجرح والتعديل؟
- نعم والمقصود به جرح الرواة وتعديلهم، وهذا في أمر التدقيق في الروايات، كأن يقول قائل إن هذا الراوي غير موثوق و هذا الراوي ثقة، وهذا هو المقصود من الجرح والتعديل اصطلاحاً. ويشرع الجرح والتعديل في القضاء أيضاً، فقد يقول أحدهم إنه عادل، وربما يقول الثاني إنه فاسق وهكذا.
* وما هو موقف علماء الحديث من أهل السنّة من رواة أهل الشيعة؟
- بعضهم يقبل بعض روايات الشيعة، ولكن المشهور أنهم لا يأخذون بذلك.
الثقة بالروايات:
* نحن العامّة لا نستطيع أن نردّ الحديث الوارد عن رسول اللّه(ص) والأئمة إلى القرآن، وانتم تختلفون في قبولكم صحة الروايات، فكيف السبيل؟
- حاولوا أن ترجعوا لمن تثقون بعلمه ودينه وصفاء فهمه للأشياء.
تغييب أطروحات الأئمة(ع):
* مع كلّ عطاء وثراء تجربة الأئمة(ع) فإن هناك جهلاً أو تغييباً لمواقفهم وأطروحاتهم في الساحة الإسلامية، فكيف السبيل لكي ينفتح المسلمون في المذاهب المختلفة على أئمة أهل البيت(ع)؟
- ذلك بأن نقدّم أهل البيت(ع) بالصورة المشرقة التي يمكن للناس أن يجدوا فيها الإسلام الصحيح المنفتح على قضايا الإنسان والحياة. وهذا هو المنهج الذي اخترناه في الحديث عن أئمة أهل البيت(ع) مما كلّفنا الكثير من عنت المتخلّفين.
أين تراث أهل البيت(ع)؟
* المتسالم عند أبناء الطائفة الحقّة أن أهل البيت (ع) هم الأئمة باختيار اللّه تعالى وسيرتهم حافلة بالعلم وبالجهاد،وكلّ معالم الخير متحقّقة فيهم، ولكن لا نملك من علومهم الكثير في مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فغاية ما هناك أننا نرى جملة أحاديث متناثرة عن أخلاقهم. وإذا تسامحنا وقلنا بوجود هذه المعاني فمن المسؤول عن هذا المخزون المتناثر، أليس ذلك من مسؤولية المفكرين الإسلاميين بأن يستخرجوا المفاهيم ويضعوها كلّ في مجاله حتى نتعامل مع مناهجهم على كافة الأصعدة؟
- اعتقد أن هناك كثيراً من المؤلفات لدى كثير من المثقفين وعلماء المسلمين في التعرّض لتراث أهل البيت(ع) وهناك من تحدث عن المنهج وعن كثير من الموضوعات الحديثة، ولكننا نحتاج إلى أكثر من ذلك.
أهل البيت(ع) والصدقات:
* قرأت مقالاً لأحدهم قال فيه إن محمد وآله(ص) لا يأكلون الصدقات لأنها وسخ الدنيا، ولأن الرسول ارستقراطي، وأنهم يتعالون عن أكلها، وأنهم يجيزونها لأصحابهم فقط، فما هو تعليقكم على ذلك؟
- لقد دققنا في سند الرواية التي تقول «إن الزكاة هي أوساخ الناس». فوجدنا أنها غير صحيحة، فالمسألة ليست كذلك ولكن ربمّا كان النبي(ص) وأهل بيته(ع) لا يأكلون الصدقات باعتبار أن الزكاة لها دلالات تتنافى مع الرسالة أو ما أشبه ذلك من الأمور، فكأنما أريد لهم أن يتنزّهوا عنها لأن بعض الناس قد يحسبها أجراً للرسالة أو ما إلى ذلك، كما نرى أن بعض الناس عندما يعطون العلماء الخمس فإنه في تصورهم أجرة على عملهم. ولسنا نقول إن هذا هو السبب الفعلي لذلك بل هو أمر أختص اللّه به.
ولكن النبي(ص) وأهل بيته أعلى وأرفع وأعظم من أن يتعالوا على الناس بل كانوا متواضعين للناس في أمورهم كلّها وفي واقعهم كله ومواقفهم كلّها. وعندما ندرس حياة النبي(ص) وحياة الأئمة(ع) نجد أنهم كانوا القمة في التواضع وفي نكران الذات، ولذلك لا يمكن أن تكون المسألة بهذا الشكل الذي يطرحه هذا الكاتب، ثم لا ننس أن هذا التشريع هو من عند اللّه وليس من عند النبي(ص).
 
الفصل الرابع

المسائل الفكريّة


لا بدّ أن يكون الداعية إلى الله مسلّحاً سلاحاً ثقافياً، وأن يمتلك روحية الدعوة إلى الله، ويحب الناس الذين يدعوهم ويحب هدايتهم، وأن يراعي الظروف الموضوعية المحيطة بهم كما يراعي عناصرهم الذاتية.
 

التعاطي السليم مع التاريخ:

س: كيف يمكن لنا أن نتعاطى مع التاريخ بشكل سليم، هل نتركه وندعه لنصنع تاريخنا الخاص بنا، أم نبقى مستغرقين فيه ونترك الحاضر، أم نجمع بين الأمرين: دراسة التاريخ للاعتبار مع صناعة التاريخ الخاص بنا، فأي هذه المناهج الثلاثة هو الصحيح في نظركم؟
ج: لا قيمة للمنهجين الأولين، فلا يصحّ أن نهمل التاريخ ونحن أبناء هذا التاريخ، وأقول: أبناؤه لأن الكثير من تقاليدنا هي تقاليد التاريخ، ولأن كثيراً من عاداتنا هي عادات التاريخ، ولأنّ كثيراً من مفاهيمنا وطريقتنا في تصوّر هذه المفاهيم هي من وحي التاريخ، ولأنّ سلبياتنا وإيجابياتنا في مناهج التفكير وفي مفردات الفكر هي من إرث التاريخ، ولأن رواسبنا في العناصر الوراثية التي تكمن في داخل تكويننا هي من رواسب التاريخ أيضاً وعن إرثه.
لكن من جهة أخرى لا بد لنا أن لا نستغرق في التاريخ ونترك الحاضر، فهذا تخلّف أيضاً، لأن الحاضر هو مسؤوليتنا وإذا عشنا في التاريخ فإننا لن نستطيع أن نغيب فيه خاصة ونحن نعيش حياتنا ونتحمّل مسؤولية صنع هذه الحياة من الناحية الفكرية والعلمية.
لذلك فالتاريخ هو صناعة أناس مضوا بكل سيئاته وحسناته وبكل هزائمه وانتصاراته وبكل نقاط ضعفه وقوته، وعلينا أن ندرس ذلك التاريخ دراسة دقيقة لنأخذ منه العبرة إن في نتائجه السلبية أو الإيجابية، وذلك من خلال دراسة التاريخ في الماضي ودراسته من خلال ما تعيشه في داخل شخصيتك من آثاره.
والعبرة ليست فقط في أن نعرف كيف كانوا، بل أن نعرف كيف يكون أثر التاريخ فينا بشكل اختياري أو بشكل غير اختياري، لنأخذ منه العبرة، وهذا هو قوله تعالى: {لقد كانَ في قصصهِم عِبْرَةٌ لأُولي الألْبابِ} (يوسف/111)، فلو قارنّا بين هذا وبين قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة/134)، لعرفنا أن الله يقول لا تشغلوا أنفسكم بمن يدخل الجنة منهم ومن يدخل النار وما هي مسؤولية هذا وما هي مسؤولية ذاك، بل خذوا الخط العام لتعرفوا هل أنهم كانوا يسيرون في الخط المستقيم أو في الخط المنحرف، وهل أننا باعتبارنا نتاج ذلك التاريخ، قد سيطر علينا فخلّد لنا عاداته في عاداتنا وتقاليده في تقاليدنا.
ثم ندرس هذه النتائج في حياتنا لنتخفف من السلبيات ونستزيد من الإيجابيات، فنحن ننفصل عن التاريخ الذي لا يمثل حركة في كثير من عناصر وجودنا، لذلك لا بد أن نطرد العناصر التي تثقلنا ونفرز العناصر التي عاشت في الماضي وماتت فيه، ونبقي عناصر الحياة التي يمكن أن تغني الحاضر والمستقبل كما أغنت الماضي.

الحثّ على كثرة النسل:
س: ورد في الأحاديث المروية عن النبي(ص) وآله(ع) ما يتضمن الحثّ على الإنجاب وزيادة النسل،ومن سننهم كثرة التزويج والإنجاب، ألا يدلّ ذلك على أن المجتمع يحتاج إلى الكثيرة في عدد أبنائه ليزداد قوة؟
ج: صحيح أن هذه الأحاديث قد تكون واردة في سياق تكثير المسلمين في مقابل الآخرين، ولكن هناك حديثاً آخر يقول: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا أو من قلّة ذلك يا رسول الله؟ قال: إنكم لكثير لكنكم غثاء كغثاء السيل)).
إننا نفهم من ذلك أن الكثرة ليست ملحوظة إلا عندما تكون قوة في مواجهة قوة أخرى عندم يحتاج المجتمع إلى الكثيرة في ساحة الصراع، ولكن النبي(ص) يقول إن عليكم أن تكونوا كثرة تختزن في داخلها النوعية التي تحوّلها إلى قوة، ولا تكونوا غثاء كغثاء السيل، هذه هي المسألة، وإلا فإننا نجد القرآن يرفض كون الكثرة قيمة عندما يتحدث عن الكثرة الكاثرة بطريقة سلبية.
لذلك لا بد أن نقارن بين الأحاديث وبين قضايا الواقع، فربما نجد في بعض الحالات أن الكثرة تمثل قيمة سلبية عندما لا تتوفر العناصر التي تجعل منها قوة وربما تكون الكثرة قوة.. لذلك ليست الكثرة هي القيمة وليس القلة ضد القيمة، لأن القيمة إنما تتحرك في الكثرة والقلّة بحسب النتائج الإيجابية التي قد تحصل من خلال الكثرة تارة وقد تحصل من خلال القلّة تارةً أخرى.

المباهاة بكثرة النسل:
س: كيف يباهي رسول الله(ص) الأمم بكثرة أتباعه، حتى السقط، فهل يعتبر كثرة الأتباع فخراً حسب قوله: ((تناسلوا وتكاثروا حتى أباهي بكم الأمم ولم بالسقط))؟
ج: ربما كان معنى ذلك أن المباهاة في يوم القيامة ليست بالكثرة، بل بالمسلمين الذين اتّبعوا الإسلام، فعندما ينطلق المسلمون بهذه الكثرة العددية التي قد تتفوق على بقية الأديان فإن رسول الله(ص) يباهي، لا بالأرقام، ولكن من خلال أتباع رسالته والعاملين بها، قد يكون مقصود الرسول(ص) ما ذكرناه، والله العالم.
مناقشة قول لمستشرق:
س: يقول المستشرق (لامنس) إنّ سبب فتح مكة لا يعود إلى شجاعة المسلمين وحنكة قياداتهم، بل إلى اتفاق سري بين النبي(ص) وأبي سفيان والد (أم حبيبة) زوجة الرسول(ص) مما أدى إلى أن يمنع أبو سفيان القرشيين من إعداد جيشهم، وجلّهم من العبيد، للمعركة، فكيف يمكننا مناقشة قوله؟
ج: إن المستشرق (لامنس) معروف بعدائه للإسلام وما يقوله واقع على خلاف التاريخ، فالواقع هو أن النبي(ص) لم يعقد أي اتفاق مع أي شخص، ومن يريد أن يحكم على أي تأريخ لا بد له أن ينطلق من خلال النصوص الموجودة، وليست هناك أيةنصوص تاريخية في ذلك، حيث لم يُذكر أن النبي(ص) عقد اتفاقاً، بل إنه كان يعدّ الجيش الإسلامي بالمستوى الذي يمكنّنه من دخول مكة دون قتال، بمعنى أن يطوّق مكة ويفرض عليها هذه القوة ليهزم قريش نفسياً.
ومن الطبيعي فإن النبي اتّخذ ما قد يسمّى خطة سياسية عندما قال: ((من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن))، فلقد أراد أن يشعرهم أن هناك مجالاً للأمن، فاستعمل أسلوباً نفسياً سياسياً وإنسانياً، فلقد كانت خطة النبي(ص) تقضي أن يدخل مكة بدون قتال، لأنه لا يريد أن ينتهك حرمة مكة، ولذلك بقي يخطّط لفتح مكة، وهو إنما عقد (صلح الحديبية) من أجل أن لا يسقط خطة فتح مكة، ولكن ليهدّئ الجو العام في المنطقة، بحيث لا يكون هناك قتال يربك الخطة..
وقد جمع النبي(ص) المسلمين من سائر المناطق الإسلامية حتى قيل إن أبا سفيان عندما كان مع العباس عمّ النبي وكانت القوافل تسير أمامه، قال له: ((لقد أصبح ملك إبن أخيك عظيماً، قال له العباس: إنها النبوّة))..فأبو سفيان كان مجرّد متفرّج، فيما كان النبي(ص) يريد أن يعرّفه قوة الإسلام حتى يسقط نفسيّته، ونحن نعرف أن التاريخ ينقل لنا بأن أبا سفيان جاء إلى المدينة بعد أن سمع بهذا الحشد الهائل حتى يأخذ الأمان لا بمعنى أنه يمنع فتح مكة.
لذلك فإنّ هذا المستشرق يحاول دائماً أن يشوّه صورة حروب النبي(ص)، فبدلاً من أن يأخذ الفكرة التي تقول بأن قوة الإسلام استطاعت أن تهزم النفسية القرشية والتي هيّأت للنبي(ص) دخول مكة بدون قتال، وهذه هي الروح الإنسانية التي كان يحملها النبي(ص) تراه يقول ما يسيء إلى النبي(ص) ومواقفه.
ومن الأمور التي تذكر في فتح مكة أنه عندما أعطيت الراية لـ(سعد بن عبادة) كان يقول: ((اليوم يوم الملحمة اليوم تُسبى الحرمة))، فأخذ النبي(ص) الراية وأعطاها للإمام علي(ع) وقال: ((اليوم يوم المرحمة اليوم تُصان الحرمة))، فلقد أراد(ص) أن يوحي لأهل مكة بأنه دخل مكة من خلال القوة الإسلامية التي عملوا على إضعافها وإجهاضها، وأنه دخل مكة وسيطر عليها مبقياً على حياتهم وعلى دمائهم وأعراضهم، ولذلك نحن ننصح عند قراءة كتب المستشرقين الذين قد يوحون بأنهم يتحدثون بطريقة تحليلية علمية معاصرة، أن نعرف أنهم دائماً يبثّون السمّ في الدسم.

دراسة تاريخ الغرب المسيحي:
ـ انطلقت المحاولات الاستشراقية في معظمها من الحقد الصليبي على المسلمين، ومن خلفيّة الصراع بين المسلمين والمسيحيين في الأندلس، فمتى يمكننا كمسلمين دراسة تأريخ الغرب المسيحي وإبراز ثغراته بشكل موضوعي؟
ج: أعتقد أن هناك من المسلمين من درسوا ذلك، وعلينا دائماً أن ندرس تأريخنا بأصلة وموضوعية، فلا نعتبر أن تأريخنا كله هو تاريخ حق أو تاريخ باطل كما يصوّره المستشرقون، بل إن علينا أن ندرس الإيجابيات والسلبيات، مستهدين بنهج بالقرآن الكريم الذي تحدّث عن الجوانب السلبية في المسلمين الأولين كما في (واقعة أحد) و(واقعة بدر) و(الأحزاب)، وتحدث عن الجوانب الإيجابية أيضاً..
وهكذا الأمر بالنسبة للمستشرقين، فليس كل المستشرقين مثل (لامنس) بل فيهم من ينصفون الإسلام والمسلمين.

العيش في ظلّ الطواغيت:
س: هل يلزم الإنسان المؤمن الفرار من الظالمين، أم يمكنه العيش محافظاً على إيمانه في كنفهم؟
ج:  هناك الكثير من الصالحين والأنبياء والمؤمنين عاشوا في كنف الطغاة وتمكّنوا من البقاء على التزامهم في أفكارهم وفي دينهم وما إلى ذلك من غير أن يدخلوا في جهازهم أو يكونوا دعائم لوجودهم.

مشاريع (الصدر) المتوقّفة:
س: كانت هناك عدة مشاريع علمية ثقافية كبرى يفكّر بها الشهيد الصدر، إلا أن شهادته حالت دون تنفيذها وإنزالها إلى الواقع مثل كتاب (مجتمعنا) ومثل (القانون الدولي المقارن)، فهل تفكّرون من خلال شخصكم أو من خلال لجان اختصاصية في تنفيذها، لأنها ذات فائدة عظمى؟
ج: نحن فكّرنا وبدأنا بدراسة موضوع المجتمع، ولكن الانشغال والمشاكل أبعدتنا عن ذلك. وأعتقد أن هناك تجارب وإمكانات لا بأس بها، والمشكلة هي أن الشهيد الصدر(رض) لم يترك أي تصوّر لما أطلقه من عناوين، فلقد سألت بعض تلامذته أو الذين كانوا يعيشون معه عمّا هي الخطوط التي كانت عنده في بحث (مجتمعنا) فما رأيت أنه بيّن ذلك لأحد.
ولذلك فأنا أعتقد أن هناك تجارب تتحدّث عن المجتمع الإسلامي وما إلى ذلك، وحتى قضية القانون المقارن فهناك بعض التجارب التي تقارن بين الشريعة الإسلامية وبين القانون الوضعي كما في (التشريع الجنائي الإسلامي) لعبد القادر عودة، وهناك الآن بعض الكتب الأخرى التي تحاول تكرار التجربة وربما تطويرها.

تقييم الظاهرة الدينية:
س: كيف تقيّمون الظاهرة الدينية الجديدة التي انتشرت في أوساط العراق؟
ج:  إنني أعتقد أن الشعب العراقي المسلم متديّن، وقد عاش مع الخط الإسلامي الحركي طيلة هذه المدة، ورأى أن الإسلام الحركي لم يجلس في أبراجه العاجية يعطي الناس مواعظ من فوق، بل عاش مع الناس وقدّم الدم من قياداته العلمائية والشعبية والسياسية، وقد سالت الدماء أنهاراً في العراق من خلال هؤلاء المؤمنين الذين لم يزدهم الاضطهاد والشهادة إلا صلابة. لقد استطاع الإسلام الحركي في العراق أن يعمّق القاعدة الإسلامية بالطريقة التي تتحرك في الزيارة من جهة وفي صلاة الجمعة من جهة وفي حركة المجاهدين في الأهوار وفي غيرها من جهة أخرى.

تطوير أساليب الدعوة:
س: أريد أن أطوّر أساليب الدعوة والإقناع عندي، لأنني ألاحظ أنني أفشل أحياناً في إقناع الآخرين بالالتزام على الرغم من أنني أتمكن من دحض حججهم كلها، فكيف السبيل إلى ذلك؟
ج: إن مسألة الدعوة هي مسألة تتصل بثقافة الداعية، إذ  بد أن يملك العناصر التي يحتاجها الآخرون في إمكانات اقتناعهم بالفكرة، أي أن تكون ممن يهضم الفكرة ويتفهمها في العمق والامتداد، لأن مشكلة بعض الذين يقومون بالدعوة إلى الله أنهم لا يملكون ثقافة ما يدعون له، بل يأخذون القضايا من الجانب السطحي، وربما يتصور بعضهم أن الآخرين بسطاء سذّج يمكن أن تنطلي عليهم أية كلمة سطحية ساذجة هنا وهناك.
لذلك، لا بد أن يكون الداعية إلى الله مسلّحاً سلاحاً ثقافياً، ثم عليه أن يمتلك روحية الدعوة إلى الله، بحيث يكون رسالياً يعيش همّ الناس الذين يبتعدون عن الرسالة كما حدّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه عن رسوله(ص) عندما كان يقول: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر/8)، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ} (الكهف/6)، {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام/33).
كان النبي(ص) يتألم وكان قلبه يبكي وكان عقله يبكي عندما يرى الناس يبتعدون عن الخط الصحيح، وكان يحب الناس الذين يختلفون معه كما يحب الذين يتفقون معه، فإذا لم يكن الداعية إلى الله يحب الناس الذين يدعوهم ويحب هدايتهم بحيث يكونوا هماً عنده، فمن الصعب أن ينجح، وثالثاً أن تراعي الظروف الموضوعية المحيطة بمن تدعوه، وكذلك العناصر الذاتية، فلا تتألم عندما تعطي كل ما عندك ولا ترى نتيجته، فالله يقول لنبيِّه(ص): {فإنَّما علَيْكَ البَلاغُ} (آل عمران/20)، {إنَّما أنْتَ مُذَكِّرٌ} (الغاشية/21)، {لَيْسَ علَيْكَ هُدَاهُم} (البقرة/272)، لأن عناصر الاهتداء لا تنحصر بأسلوب الداعية بل ترتبط بشخصية المدعوّ بالعناصر التي يمكن أن تجذبه إلى الأسفل أو ترفعه إلى الأعلى، لذلك لا تتعقّد من ذلك إذا أحسنت أسلوبك وثقافتك ودراستك للواقع في عملية الدعوة.

تقييم مسيرة الشهيد الصدر الثاني:
س: كيف تقيّمون مسيرة الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر، وماذا تقولون لمحبيه ولمريديه من الشبان وطلبة العلوم الدينية؟
ج: لقد تحدّثت عن هذا الموضوع في أكثر من حديث إعلامي، وقلت إنّ سرّ هذا الرجل الكبير هو أنه أعطى الأمة وعياً حيث أريد للأمة أن تبتعد عن خط الوعي، وربما عن لم يتحرّك سياسياً بالمعنى الفاقع للحركة السياسية، لأن الظروف لم تسمح له بذلك، ولكنه استطاع أن يعطي الناس المحاصرين فكرياً وروحياً وإسلامياً وسياسياً واقتصادياً، المفاهيم التي كانت تنمّي الوعي السياسي في نفوسهم، كما كانت تفتح لهم النافذة على الوعي الإيماني والروحي، وذلك من خلال المواقف الشجاعة التي انطلق فيها من خلال صلاة الجمعة التي كان بركة وخيراً على الناس، وهي أول صلاة جمعة تُقام من قِبَل الإمامية في الكوفة.
ونحن نعرف أن الأئمة من أهل البيت(ع) تحدّثوا عن صلاة الجمعة بما يفرض على الناس إقامتها في حدود إمكاناتهم، فقد ورد في حديث الإمام الباقر(ع) ما مضمونه ((من لم يحضر ثلاث جمع من دون عذر كان ممن طبع على قلبه))، وقد ورد في الحديث عن النبي(ص) أنه جاءه رجل وقال له: ((يا رسول الله إني أحبّ الحجّ ولكنّي لم أستطع ذلك، قال: عليك بصلاة الجمعة فإنها حجّ المساكين))( ).
ونحن نجد أن الله لم يتحدث عن صلاة في القرآن كما تحدث عن صلاة الجمعة، فهو لم يتحدث عنها في ذاتها، بل في مواجهة الذين لا يحضرونها {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (الجمعة/11)، بحيث دخل القرآن في عملية صدام مع الذين يرفضون حضور الجمعة.
لهذا كان هذا العالم الكبير شجاعاً في التحدي في ظل الوضع الذي كان يعيشه الناس هناك من عدم إقامة صلاة الجمعة، كما استطاع أن يتحدى السلطة بكثير من خطبه ومفاهيمه، ولعل التعجيل من قبل النظام في شهادته يعود للكلمات القوية التي قالها في آخر حياته، ولهذا الالتفاف الشعبي الذي لم يكن الطاغية يتوقعه بهذه الكثافة التي انطلقت في العراق من أقصاه إلى أقصاه.

علم الأديان المقارن:
س: هل أن دراسة علم الأديان المقارن تفيد طلاب الحوزات العلمية، وما هي المنهجية التي يفترض اتّباعها في هذه الدراسة؟
ج:  تعتبر دراسة علم الأديان من أشد الدراسات ضرورةً لطالب الحوزة، والسبب أنك الآن عندما تقرأ القرآن تراه يتحدث عن النصارى وعن عقائدهم وعن فرقهم وعن اليهود وعن المشركين، فإذا كنت قد درست علم الأديان فإنك تستطيع أن تفهم أن هؤلاء النصارى الذين تحدث عنهم القرآن بقوله تعالى: {إنّ الله ثالِثُ ثلاثة} (المائدة/73)، و{لا تتَّخِذوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّما هُوَ إلَهٌ واحِدٌ} (النحل/51)، أو {كفَرَ الذِينَ قالُوا إنَّ الله هُوَ المسِيحُ ابْنُ مرْيَمَ} (المائدة/17)، أو {وَمَا قتَلُوهُ ومَا صلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهَ لَهُم} (النساء/157)، فإذا لم تكن لديك ثقافة في الدين المسيحي فلا يمكن أن تناقش مسيحياً.
ولقد دار بيني وبين أحد العلماء المسيحيين حوار، فقال لي: نحن لا نقول بالتثليث المادي، بل كان علماء في السابق يقولون بالتثليث، ونحن عندما نقول إن لله ولداً نعني به الولد المعنوي كولادة الفكرة من الفكر.
فإذا لم تكن عندك فكرة عن عقائد النصارى أو عن الإنجيل أو عن اليهود والتوراة فكيف تستطيع أن تواجه هذا الصراع، والقرآن يقول: {قُلْ يا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إلى كَلِمَةٍ سواءٍ} (آل عمران/64)، ويقول: {ولا تُجَادِلُوا أهْلَ الكِتَابِ إلا بِالّتي هي أحْسَن} (العنكبوت/46). فنحن لا نستطيع أن نجادل أهل الكتاب إذا لم نفهم أهل الكتاب ونفهم عقائدهم، وهكذا، لذلك نعتقد أن دراسة علم الأديان ضرورةية لطلاب الحوزة.
س: ولدراسة هذا العلم فإنه يلزم أن نقرأ ونبحث عن الكتب الضالة والمنحرفة، فما حكم هذه الكتب؟
ج: يجب أن نقتنيها وندرسها إذا كنّا في مقام دراسة وطلب علم، وإذا أشكل علينا شيء نرجع إلى أهل الذكر لحلّه وتوضيحه {فاسألوا أهْلَ الذِّكْر إن كُنْتُم لا تعْلَمونَ} (النحل/43).
الأمل يوم القيامة
س:يقول الكسيس:كاريل الحائز على جائزة نوبل في الجراحة ومؤلف كتاب الإنسان ذلك المجهول إنّ هناك لحظات تمر على الإنسان تكشف عن أنّه لم يخلق لهذه الأرض بحيث يشعر فيها أنّ العالم على سعته لا يكفيه فهل نستفيد من ذلك أنّ الأمل دليل على وجود يوم يحقّق آمال البشرية بالعدالة وهذا اليوم هو يوم القيامة وهو أيضاً عصر ظهور الإمام الحجة عج قبل يوم القيامة
ج: ليس من الضروري ذلك فربما كان هذا نوعاً من أنواع الآمال الضبابية التي يمكن أن ينفتح فيها الإنسان على طموح لعالم أوسع باعتبار أنّ المادة مهما كانت لا تجعل للإنسان امتداداً كما يعيش الامتداد في روحه ولكنّ الأمل بعالم تسوده العدالة سواءً كان في الدنيا كاليوم الموعود وهو يوم الظهور أو في اليوم الموعود في الآخرة قد ينطلق من إحساس:الإنسان بأنّ هذا الوضع الذي يعيش فيه يسوده الظلم في كل جوانب الحياة مما يدفعه إلى أن يحلم بالعدالة من خلال إحساسه بقسوة الواقع لأنّ الإنسان عادة عندما يحاصره الواقع ولا يجد هناك أية وسيلة للخروج من هذا الحصار فإنّه يبدأ في الحلم بعالم أفضل أو مستقبل أجمل بحيث يستطيع أن يتحرّر فيه من الحصار الذي يتمثّل في الظلم لينطلق إلى العدل وما إلى ذلك
وربما يحمل هذا الحلم بعض الإيحاءات التي تجعله ينفتح على الإيمان بالآخرة أو الإيمان باليوم الموعود بالدنيا بشكل أكثر واقعية وانفتاحاً على ما يعيشه الإنسان في مشاعره وأحاسيسه
الأسس:التي يبتنى عليها الأمل
س:ما هي ميزة المنهج الإسلامي على باقي المناهج في مسألة الأمل وبتعبير آخر ما هي الأسس:التي يبتنى عليها الشعور بالأمل
ج: إنّ كلّ الاتجاهات تعتبر أنّ الأمل يمثّل حالة إنسانية فطرية كما عرفنا ذلك من خلال ما ورد من أحاديث أشارت إليها المحاضرة وقد قال الشاعر
أعلّل النفس:بالأمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
فالأمل هو حالة إنسانية ولكن في المبادئ الأخرى ولا سيما الماديّة التي لا تفتح الإنسان على الإيمان بالله وما يوحيه الإيمان به من قدرة على تخطي اليأس:عندما يصطدم أحدهم بالمشاكل المادية بالمستوى الذي لا يجد فيها أيّة ثغرة ينفذ منها إلى الأمل يقع في اليأس:ولذلك نجد أنّ الذين ينتحرون بسبب اليأس:هم الذين لا يؤمنون أو الذين يعيشون في غفلة عن إيمانهم أمّا الإنسان الذي يؤمن بالله فإنّه لا يمكن أن يشعر بالانغلاق المطلق وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}[الطلاق؛2] وكلمة يجعل له مخرجاً تشير إلى أنّ الإنسان الذي يتقي الله والذي يبقى ينتظر الفرج والمخرج حتى لو سدت كل الأبواب في وجهه
وهذا هو سرّ حركة الأمل في معنى الإيمان بالله وقيمة المنهج الإسلامي في الأمل هو أنّه كما لاحظنا فيما تلوناه من آيات وأحاديث أن يمنهج لك الأمل بمعنى أنّه يجعله مؤطراً بواقع الحياة فلا يغلق عنك باب الأمل ولا يجعله خيالياً بعيداً عن الواقع بل يجعل الأمل متحركاً في نطاق الأجل بحيث يكون أملاً واقعياً ينفتح على القضايا التي تبني الحياة ولا تسقطها.
شروط المبلغ في دول الغرب
س: ما هي الشروط الواجب توافرها في المبلّغ الذي يبلّغ في دول الغرب
ج: الشرط الأول الأساس أن يكون مثقفاً إسلامياً بحيث يملك ثقافة الإسلام في عقيدته وشريعته وأسلوبه ومنهجه والآفاق التي يمكن أن ينفتح عليها الإنسان المسلم في واقع النّاس في أي مكان
والثاني أن تكون له ثقافة تتيح له معرفة الخطوط الفكرية الموجودة لدى النّاس هناك كما ورد عن الإمام موسى الكاظم ع وجدت علم النّاس كلّهم قد اجتمع في أربع أولها أن تعرف ربّك والثانية أن تعرف ما صنع بك والثالثة أن تعرف دينك والرابعة أن تعرف ما يخرجك من دينك وقمة الشروط هي أن يكون هذا الإنسان على درجة كبيرة من التقوى بحيث لا تغريه الأوضاع الموجودة في الغرب والتي تقدّم له المعصية على طبق من ذهب
وأن يجمع المسلمين في عقله وفي قلبه فلا يكون سبباً للفتنة بينهم, وإنّني إذ أشير إلى ذلك فلأنّنا قد نلتقي بعض النّاس الذين يتولّون التبليغ من أجل أن يثيروا الفتنة بين المسلمين في الدائرتين العامّة والخاصّة لذلك على المبلّغ هناك أن يقتدي برسول الله ص ليرى كيف كان قلبه مفتوحاً للنّاس كلّهم وكيف كان رؤوفاً ورحيماً بهم كلّهم وكيف كان ليّن اللسان وليّن القلب وكيف كان يحزن على الذين لا يؤمنون به لأنّ عدم إيمانهم يعرضهم لغضب الله
هل أخبار التاريخ حجّة شرعية
س :ما هو رأيكم في أخبار التاريخ وهل هي حجّة في الشرعيات فقط أم غير الشرعيات أيضاً
ج: أخبار التاريخ ككّل الأخبار الأخرى التي لا بدّ لنا من أن نوثّقها في مصادرها بحيث ندرس من الذي روى لنا أخبار التاريخ هل هو شخص موثوق به حتى يكون خبره خبراً موثوقاً به أو ليس موثوقاً به فإذا أحرزنا الثقة في ذلك بشكل نطمئن به فإنّنا نأخذ أخبار التاريخ سواءً في الشرعيات أو غيرها وإذا لم يكن الخبر موثوقاً بهذا فعلينا أن لا نلتزم أي مضمون فكري أو شرعي لم تقم الحجّة عليه.
دلالات بعض الإشارات
س: إذا تحرك الإنسان في الواقع ورأى في الطريق بعض الإشارات التي قد يستدل من خلالها أنّ الله قد ساقها إليه ليشير له أنّ هذا العمل صحيح أو خطأ فهل يعتبر هذا من التطيّر
ج: إذا لم تكن هذه الإشارات ذات دلالة حاسمة أو منطلقة من أسس ثابتة وموثوقة فقد تكون من قبيل التطيّر خاصّة إذا كانت تشير إلى أمر سلبي.

خطوات توحيد الصف المسلم:

س: في ظلّ التكتّلات والتحالفات الدولية، أما يجب توحيد الصف المسلم على اختلاف مذاهبه، وما هي برأيكم الخطوات العملية لتوحيد هذا الصف بوجه الاستكبار العالمي؟
ج:  الواقع الإسلامي الممزّق هو واقع يعيشه المسلمون منذ مئات السنين، لأنهم ظلّوا يعيشون التخلّف لسنين طويلة، وأعتقد أن السبيل الذي يمكن أن يفتح للمسلمين باب الوحدة هو أن يفكر المسلم كمسلم، يعني أن تفكر كشيعي بأنك  مسلم شيعي، وكسني بأنك مسلم سني، أي أن تعتبر أن الإسلام هو الأساس، لأنك عندما تفكر أنك مسلم فمعنى ذلك أنك تشعر أن هناك ما يجمعك بالطرف الآخر، في حين نرى الآن أن التشيّع والتسنّن تحوّلا عندنا إلى أكثر من دين ينفصل به المسلم عن المسلم الآخر.
ونرى الشيعة المتعصبين والسنة المتعصبين يفضّلون غير المسلم على المسلم الآخر، بل ونعرف أن بعض السنّة عندما يتحدث عن الشيعة يقول إنهم مشركون وأن اليهود والنصارى أهل كتاب وأما الشيعة فليسوا بأهل كتاب، لذلك يجب ـ وهذه هي نظرة البعض من هؤلاء ـ أن نعاملهم معاملة مشركين، وقد نجد في الشيعة من يفكر بهذه الطريقة حتى الآن.
وما أكثر دعوات التقريب ولكن لم يعقد مؤتمر إسلامي من السنة والشيعة يحدّد فيه مفهوم الكفر، أي بِمَ يكون الإنسان كافراً، وهل يصحّ للشيعة أن يكفّروا السنّة لمجرد اختلافهم معهم في بعض التفاصيل، وهل يجوز للسنّة أن يكفّروا السنة لمجرد اختلافهم معهم في بعض التفاصيل، وهل يجوز للسنّة أن يكفّروا الشيعة على هذا الأساس؟! فحتى الآن هناك فوضى في فهم الكفر، والمشكلة هي أننا لا نتحسّس الإسلام، ولذلك عندما تكون هناك مشاكل أو مِحَن في منطقة سنية ربما نقول لا علينا، لأنهم سنّة، وإذا حدثت مشاكل أو ابتلاءات في منطقة شيعية ربما نقول نفس الشيء، أليس هذا هو الواقع؟
لقد أصبح واقع الإسلام لا يمثل شيئاً من حقيقة الإسلام، وإلا فلنختلف في مسألة الخلافة والإمامة وفي إسبال اليدين في الصلاة أو التكتف أو في غسل الرجلين أو مسحهما، لكن يجب أن لا نختلف أن هناك استكباراً عالمياً صادر الثروة الإسلامية كلها والسياسية الإسلامية كلها، والأمن الإسلامي كله، فلقد أصبحنا نعيش الآن تحت تأثير الواقع الاستكباري الكافر في اقتصادنا وسياستنا ومع ذلك لا نزال كما قال ذلك الشاعر:
    ونبقى نلفُّ ونبقى ندور        ونحن نفتش عن قافية    
    ألا قتل الضعفُ فينا        فقد أضاع الرعية والراعية    

إقامة العدالة:
س: كيف يشعر أي إنسان لم يذُق طعم العدالة في مجتمعٍ ما بضرورة إقامة أو تحقيق العدالة في المجتمع؟
ج: شعوره شعور من لم يذق طعم أكلة يشتهيها، حتى إذا ذاق طعمها تعلّق بها ولم يطلب عنها بدلاً، فعليه أن يسعى في سبيل الحصول عليها ولو في دائرة خاصة ثم يعمل على أن تتسع هذه الدائرة.
لهذا، لا بد أن تبقى المبادئ والأهداف الإنسانية معنا، بحيث تنطلق حركتنا من أجل تحقيق العدالة بالوسائل التي نملكها، فإذا لم تتحقق لنا في حياتنا فإننا نكون قد مهّدنا للجيل القادم أن يحصل عليها بطريقة أقلّ تبعاً وأقلّ جهداً (غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون)) فعلينا أن لا نيأس، فهناك من المشاكل الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية ما يحتاج إلى أجيال حتى يحلّ، ودور الأجيال إن هي أخفقت أو لم تسعفها الظروف أن تعهد للجيل الذي يأتي من بعدها حلّها، فقد لا تيأس من ذلك.
وعلينا أن نكون واقعيين في فهم المشكلة، وأن لا نواجه المشاكل بانفعالاتنا بأن نبكي أو نصرخ أو نفرح، بل أن نواجهها بواقعية، فربما يكون عمر مشكلةٍ ما خمسين سنة وربما يتطلّب حلّها وقتاً، فعلينا أن ننتظر خمسين سنة، وربما يكون عمر مشكلة سنة أو يوم، فكلّما كنا مرتبطين بالواقع أكثر كنا دقيقين في فهمه أكثر.. ومشكلة هذا الشرق هو الانفعال والاستعجال، فإما أن يحصل هذا الأمر اليوم أو أننا لا بد أن نموت أو ننتحر.
فأنت تحب الولد وتريد أن يكون لديك ولد في أقصر وقت، والحال أنه ليس هناك معمل لإنتاج أمثال هذا الولد، فالله جعل سنّة معينة للولادة، ولا بد من انتظار تسعة أشهر، وهناك قضايا تحتاج إلى سنين، فلنتعلّم فهم الواقع أكثر وأن نفهم مشاكلنا أكثر، وأما المشكلة التي لا يمكن لنا حلّها مرحلياً لا يجوز أن نسقط أمامها، بل علينا أن نتعايش معها كما المرض المستعصي على الشفاء، فهو لا يبرّر لنا الانتحار، بل يمكن لنا أن نتعايش معه، فالمشكلة التي لا تقدر على حلّها اليوم حاول أن تتعايش معها، وحاول وأنت تفعل ذلك أن تفهمها أكثر حتى تتمكن من حلها.
لنكن واقعيين، فنحن ـ للأسف ـ خياليين في هذه القضايا.

دور المرأة الإيرانية الثوري:
س: كيف تجسّد دور المرأة الإيرانية في نجاح الحركة الثورية؟
ج: لقد كان لها دور في المظاهرات والتعبئة السياسية، ونحن نعتقد أن دورها في هذه الحركة الثورية جيد، بل ساهم في تسيع نجاح الثورة، وفي الحفاظ على مكتسباتها، ولكن المرأة الإيرانية تحتاج كما هي أي امرأة مسلمة إلى الكثير من الجهد حتى تأخذ دورها الإنساني الإسلامي، الذي يجعلها عنصراً فاعلاً قوياً في حركة الواقع الإسلامي.

الأمن المائي:
س: نتمنَّى أنْ تحدّثونا عن الأمن المائي في ضوء الكتاب والسُنّة؟
ج: عندما ندرس المفردات الموجودة في الكتاب والسُنّة، نجد أنَّ الله قد أعطانا فكرةً عامّة عن أهمية الماء {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}(الأنبياء/30). وأنَّ الله أنزل الماء وسلكه ينابيع في الأرض لنفع الإنسان كلّه، وعندما ندرس المفردات الإسلامية الأخلاقية التي تنهى عن الإسراف حتى في فضل الشراب، نرى أنها مفردات صغيرة، لكننا نستطيع أن نفهمها في ضوء التخطيط الإسلامي لحركة الطاقات في الحياة.
فالله سبحانه وتعالى لا يريد أن يطغى جانب على جانب أو فئة على فئة أخرى، وهو القائل سبحانه: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}(الرحمن/10) بكل ما فيها، ولا نريد الآن أنْ نستنتج من ذلك حكماً شرعياً، كما يحاول البعض القول إنّ الأرض مشاع للناس أجمعين، فهناك تفاصيل فقهية ليس هنا مجال البحث فيها، لكننا نستوحي من ذلك أنَّ الله خلق الكون للإنسان كلّه، فلا يمكن لإنسان من الناحية الأخلاقية أنْ يصادر الأمن المائي بأن يمنع الناس من الماء الذي يستغني عنه.
وقبل أن يصبح الماء مشكلةً في مجتمعاتنا، كان الحديث الشريف يقول: ((الناس شركاء في ثلاث: النار والماء والكلأ)). فلا يجوز لأحد أن يحرم إنساناً من ماء يستغني عنه، فللمياه أحكامٌ في الإسلام. إنّ العنوان الأولي أو العنوان الثانوي قد يجعل الأمن المائي كالأمن السياسي والأمن الاجتماعي والأمن الغذائي، الذي لا يجوز لأحد أنْ يسقطه إذا كان يترك تأثيراً سلبياً شديداً على حياة الناس.
إدراك العقل والشرع:
ما هو الفرق بين إدراك العقل وإدراك الشرع؟
ج: إنَّ الشرع لا يبتعد عن العقل، ولكنّ العقل قد لا يدرك بعض مقاصد الشرع.

معالم المعارضة في الدولة الإسلامية:
س: الإسلام نظام وعقيدة وهو نظام متكامل لحياة رسم نظرية الحكم، ولكن هل حدّد معالم واضحة للمعارضة الإسلامية داخل الدولة الإسلامية، وما هي حدود هذه المعارضة إن وجدت؟
ج: إن الدولة الإسلامية ليست معصومة حتى مع قيادة المعصوم لها، لأن المعصوم ليس كلّ الدولة وإنما المعصوم يحكم الناس في الدولة والناس ليسوا معصومين، وهو يعطيهم الفكر وقد ينسجمون معه وقد يبتعدون عنه، ويرسم لهم القانون وقد يخضعون له وقد يبتعدون عنه. ولذلك جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل المجتمع الإسلامي.
وفي دولة الرسول(ص) كان النبي(ص) هو المعصوم ولكن كم كان هناك من المنافقين في الدولة الإسلامية؟ وقد حدّثنا القرآن عن المنافقين بشكل لافت لأنهم كانوا يربكون الواقع الإسلامي، بل حتى المتقين قد يخطئون {إن الذين أتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرونْ}[الأعراف؛201]. وعندما ندرس نصاً لعلي(ع) في (نهج البلاغة) يقرّر علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة هذا بذاك نرى أن التوجيه الإسلامي لحركة الحكم يفرض على الأمة أن تدقق حتى في الحاكم وأن تطالب بتفسير حكمه او أنها تعارضه في حكمه إذا رأت فيه خطأ، ولعل هذا النص هو أعظم النصوص الإسلامية الصادرة من مسؤول إسلامي في حجم علي (ع) وهو المعصوم عندنا. وأنا لا أتصوّر علياً ـ بقطع النظر عن كلّ علم الكلام ـ إلاّ معصوماً في أعلى درجات العصمة لأن علياً هو الفكر الذي لا يمكن أن يخطئ، ولأن علياً في روحانيته لا يمكن ان يعصي الله ولو في كلمة فهو فوق ذلك كله، نعم هو بشرّ ولكنه في أعلى درجات البشرية ولا نريد ان نناقش هذه المسألة، ولكن أحببت ان أشير إليها عرضاً.
فعلي(ع) عندما يتحدث ـ وهو الحاكم آنذاك ـ إلى الناس يقول لهم:"فلا تكلّموني بما تكّلم به الجبابرة". أي تعتبروني جبّاراً أحكم بالجبروت لتخافوا من الكلام معي أو لتتحدثوا بطريقة الخضوع أو المجاملة او المصانعة. "ولا تتحفظوا مني خوفاً بما يتحفظ به عند أهل البادرة"ـ وهم أهل السيف ـ "ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنّوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس اعظام لنفسي فأنه من استثقل الحق أن يقال له أو لعدل أن يعرض عليّه كان العمل بهما عليه أثقل". فمن لا يتحمّل الكلمة كيف يتحمّّل العمل؟! "فلا تكفوا" فهو يطلب منهم أن ينقدوه "عن مقالة بحق" أعطوني الرأي الحق "أو مشورة بعدل فإني" وهنا تكمن العظمة "لستُ في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذاك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي". ونحن نعرف ملكاته فهو فوق أن يخطئ لكنه أراد أن يشجعهم على أن يدققوا في حكمه ليتعلّموا كيف يتعاملون مع الحكم الذي سيأتي من بعده إذا كان الحاكم غير معصوم.
لذلك فالمعارضة أساسية في الدولة الإسلامية ويجب على الأمة أن تعارض الحاكم لا لأجل المعارضة، ولكن إذا وجدت في الحاكم ظلماً أو خطأً أو إنحرافاً فعليها أن تمارس دورها في معارضة ذلك لأجل تصحيحه وتقويمه. وعلى الدولة ان تعطي الحرية للمعارضة في غير حالات الطوراىء التي يمكن ان تسيء فيها المعارضة إلى سلامة البلد. وإنّ أي حكم يعطي المعارضة حريتها في نطاق المسؤولية هو حكم يملك القدرة على الاستمرار ويملك كل عناصر السلامة.
ولا حدود للمعارضة إلا حدود الحق والعدل، فعلى المعارضين أن لا ينطلقوا بالمعارضة على أساس اللعبة السياسية بل على أساس القضايا الحيوية.
دور الأمة في الدولة الإسلامية:
س: في الدولة الإسلامية ما هو دور الأمة، هل ينحصر في المراقبة أم في المراقبة والمحاسبة، وما هي آليات هذه الأدوار؟
ج: يتمثل دور الأمة في الدولة الإسلامية في المراقبة والمحاسبة والمجاهدة في بعض الحالات، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مسؤولية الأمة جمعاء "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". لذلك فالدور ليس منحصراً في المراقبة ولا المحاسبة فقط بل في الحالات التي يؤدي تصرّف الحاكم فيها إلى الخطر على الأمة، فإن على الأمة أن تجاهده.
أما ما هي الآليات التي تنطلق منها الأمة في تفعيل هذا الدور فلا بد لها أن ترتب المر والصيغ المباحة والشرعية وان تقيم المؤسسات التي تحاكم الحاكم بل تسقطه في حال هدّد كيان وسلامة الخط الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية.
هل الغنى مذموم؟
س: هل الغنى مذموم في الإسلام، وهل يعني هذا أن الدنيا سجن المؤمن وهل السعي نحو الغنى أمر مكروه؟
ج: من قال إن الغنى مذموم في الإسلام وإن الفقر محبوب؟ إن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يشتغل في الدنيا وأن يصبح غنياً ولكن عليه أن يأخذ ماله من حلال ويصرفه في الحلال{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} [الأعراف: 32]. أمَّا كلمة ((الدنيا سجن المؤمن))، فإنَّها واردة في مقام المقارنة بين واقعه في الدنيا وما ينتظره من الخير والنعيم في الآخرة.

اهتمام الإسلام بالحب:
س: (الحب) كلمة صغيرة كثيرة المعاني فهل اهتم الإسلام بالحب، ولماذا كثيراً ما نسمع أن الإسلام لا حب فيه والدليل على ذلك أن العلماء أو المشايخ معقدون من هذا الموضع لدرجة انك تكاد لا تسمع أحداً منهم ينفتح على هذه الكلمة؟
ج:يقول النبي(ص) "لا يستكمل المرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" سواء كان أخوة ذكراً او أنثى، وهناك حديث للإمام الصادق(ع) يقول"وهل الدين إلا الحب". أما حب الشبان فالإسلام لا يحرم الحب من حيث الأصل لكنه لا يريد أن ينطلق هذا الحب في الاتجاه الغريزي الذي يقود الإنسان إلى المعصية، في حين ترى أن أغلب حب الشبان هو حب مراهقة، والمراهقة حالة وليست عمراً او سناً معينة، نعم هي تغلب في سن البلوغ وما بعده، ولكن بعض الناس قد يصبح مراهقاً في الأربعين او الخمسين. فالإسلام يعتبر الحب قضية إنسانية تتصل بالعاطفة ولا يريد الله تعالى للإنسان ان يكون قاسي القلب بل يريد الإنسان الرفيق القلب الذي يحب الناس، وعلينا أن نفرق بين الحب الذي هو غريزة في الجسد والحب الذي هو طاقة طهر أو عاطفة نبيلة في القلب، فالحب السريع الاشتعال سريع الانطفاء لا يمثل عاطفة صادقة بل يمثل أحلاماً وأمنيات.
لذلك نقول للشبان يجب أن يكون الزواج 75%عقلاً و25%عاطفة، أما عندما يكون الحب75% عاطفة 25%عقلاً فمن الصعب أن ينجح الزواج..
هل الحجاب اجتهاد فردي؟
س: يقول أحد الكتاب "إن الحجاب بشكله الحالي هو مسألة اجتهاد فردي وإن من حق النساء الأخذ برأي أي من المجتهدين ونزع غطاء الرأس من دون ان يكون في ذلك مخالفة لنصوص الله" فماذا ترون؟
ج:إذا كان ما يقول بأنه اجتهاد فردي في الحكم بوجوب الحجاب، فنحن نقول بأن اجتهاده في كلمته هذه اجتهاد مزاجي، فقضية الحجاب هي من القضايا الشرعية في رأي الذين يرون الحجاب، ولا أظن ان هناك من علماء وفقهاء المسلمين السنة والشيعة في الماضي وفي الحاضر من لا يرى الحجاب واجباً. نعم هناك بعض الناس ممن يحاول أن يتفلسف في هذه الأمور، ولذلك نقول لهذا الكاتب إذا كنت تقول بأنه اجتهاد فردي فماذا عندك من وسائل الاجتهاد حتى تناقش المجتهدين لتثبت خطاهم؟ وما هي حجتك على ان اجتهادهم فردي نابع من الذات لا من الدليل.
شعار (الجدل حرام):
س: يطلق شعار(الجدل حرام) فما هو الفرق بينه وبين الجدل المحلل؟
ج: من قال ذلك‘ فالله تعالى يقول: {وجادلهم بالتي هي احسن}[النحل:125]{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي احسن}[العنكبوت] فالجدل الحرام هو الجدل الباطل{وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق}[غافر:5]. أو الجدل بما لا يملك معرفته{ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم}[آل عمران:66].

الدعوة إلى قلة الكلام:
س: هناك عدة نصوص تدعو إلى عدم الإكثار من الكلام ومنها حديث الإمام علي(ع) "إذا تم العقل نقص الكلام". ومنها حديث لموسى الكاظم(ع) "المؤمن قليل الكلام كثير العمل والمنافق كثير الكلام قليل العمل". ومنها حديث لعلي(ع) "من كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار". فبماذا تفسرون هذا الحث على التقليل من الكلام وترجيح الصمت وأنه حكمة وقليل فاعله؟
ج: عندما ندرس هذه النصوص فإننا نستوحي منها نسبية هذه المسألة، فهناك أناس يتكلمون لأنهم يحبون الكلام باعتبار ان الكلام يجعل لهم موقعاً أو لأنه يشغل لهم وقتا. وهذا ما نفعله في سهرات الشتاء عندما يسهر الساهرون ويتكلم هذا ويتكلم ذاك ثم يصمت الجميع وينطلق صوت ليقول: تكلموا لماذا انتم صامتون!! وكأنه يقول إن القضية هي أن نتكلم كيفما كان. إن هذه الكلمات كلها تتحدث عن الكلام الذي لا يحمل في داخله هدفاً أو قضية يحتاج الناس أن يعرفوها أو مشكلة يريدون أن يحلوها، أو دعوة لا بد أن يسمعوها او حركة لا بد أن يأخذوا بها.
كما أن هذه الكلمات تتحدث عن الكلام الذي لا يفكر صاحبه به، وتدعو إلى الصمت الذي يفكر لا الصمت الغبي ولا الذي يعيش اللامبالاة. لذلك فإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، باعتبار أن الأساس هو أن يفكر الإنسان قبل أن يتكلم.. فكر وعندما تنضج الفكرة في نفسك وبعد ان تدرسها في سلبياتها وإيجابياتها، وعندما تتعمق في كل ما يمكن أن تمتد تلك الفكرة إليه، عند ذلك قل كلمتك أو فاسكت"قل خيراً أو فاسكت".
وقد ورد في حديث الإمام علي(ع) أنه قال "لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه". وفسر (ع) ذلك بما مضمونه بان العاقل إذا خطرت الكلمة في ذهنه تدبرها فإن رأى حقاً أبداها وإن رأى شرا واراها. أما الأحمق فإنه يقول الكلمة ثم يطلب من العقل أن يحل المشاكل التي أنتجتها الكلمة. والنتيجة هي أن هذه الكلمات التي سمعناها، وغيرها كثير، تقول لك لا تتكلم بشهوة الكلام ولكن تكلم من خلال الفكر إلى ان يفصح عن نفسه بالكلام. ونحن نقرأ في الحديث الشريف"تفكر ساعة خير من عبادة سنة".
إرشاد العقل النسوي:
س: نرجو التركيز والاستمرار في إرشاد العقل النسوي لأن التمرد في الغرب أصبح واقعاً مأساوياً نعيشه يومياً بكل ما يحمل من المرارة؟
ج:مثلما نريد ان نرشد العقل النسوي نريد أيضاً ان نرشد العقل الذكوري، لأننا قد نجد الكثير من المفارقات في تصرف الرجل والمرأة من خلال ما يعطيهما الغرب من حرية بحسب قوانينه الخاصة، لا سيما بالنسبة للمرأة حيث يمكن أن ينقذها من واقعها فتتمرد عليه. لكننا ندعو كلا الجنسين إلى سبيل الرشاد وتحكيم العقل وعدم الانجرار إلى ما يسيء إلى سلامة العلاقة الزوجية، فالأمر ليس مقصوراً على المرأة دون الرجل بل هو مطلوب منهما معاً.
البنك اللاربوي في النظام الإسلامي:
س:أفاد الشهيد الصدر(رض) في كتابه(البنك اللاربوي) بان هذه الأطروحة هي لبنك يعمل في ظل نظام بعيد عن الإسلام كثيرا أو قليلا. وفي مورد آخر نقرا في الكتاب قوله بأن أطروحة البنك اللاربوي في ظل النظام الإسلامي هي غير الأطروحة الأولى، فهل يطرح السيد الشهيد(رض) أو أحد تلامذته خصائص البنك الإسلامي في ظل نظام إسلامي، وهل يمكنكم بيان أهم ملامح مثل هذا البنك؟
ج: من أهم فوائد أطروحة البنك اللاربوي هي أن يستفيد أصحاب رؤوس الأموال من أموالهم عندما يودعونها في البنك أو عندما يعطونها للناس كدين مقابل فائدة. وهناك حل واحد للإسلام في ذلك وهي (المضاربة) باعتبار أن النظرية الإسلامية تقول "إن المال لا ينتج" بل إن الإنتاج يتكون من تزواج شركة المال والعلم والعمل وحده لا ينتج مالا إذا عملت به، فإن تزاوج المال والعمل فسوف ينتجان مالاً، أما إذا كنت لا تريد أن تعمل وعندك رأس مال فهناك أناس يملكون العمل ولا يملكون الرأسمال، وعلى هذا الأساس تكون هناك شركة بينهما، فإذا خسر العامل فيتحمل حينئذ رأس المال الخسارة. وإذا ربح كان الربح بينهما حسب الاتفاق الجاري بينهما.
ففي النظام الربوي عندما تحدث الخسارة فإنها تقع على العامل دائماً، والذي يأخذ المال هو صاحب راس المال فهو رابح دائماً من خلال العلاقة بينه وبين العامل. فلو فرضنا أن إنساناً أقترض مالاً وخسر فيه فإن صاحب العمل لا يخسر ماله بل يحصل في كل الحالات على ربح من جهد العامل أو أكثر، ولكن النظام الإسلامي يرتكز على أساس الشركة بين العمل وبين رأس المال، والبنك او الشخص الذي تقرضه قد لا يشتغل أو قد يخسر، وهنا يأتي الحل الذي ذكره السيد الشهيد (رض) وهو محاولة إعطاء بعض العناوين الشرعية لبعض المعاملات وبعضها غير واقعي فهي افتراضية، والسبب في ذلك هو انه من الصعب جداً ان تدخل في حلول شرعية في ظل نظام يختلف عنها في العمق إلا بما يعرف من الحيل الشرعية التي يختلف الناس فيها، وهناك بعض الكلمات المأثورة التي تشير إلى ذلك"أفضل الحيلة الفرار من الحرام إلى الحلال". وربما كانت هذه الكلمة من أجل مواجهة الحالات الطارئة الصعبة التي يعيشها بعض الناس، ولكن الناس جعلوها قانوناً ونحن نعرف أن أغلبها لا يقصد به عناوينها الشرعية.
حدود التخلف:
س: التخلف مصطلح لا نعرف حدوده وأبعاده فهلا أشرتم إلى ذلك من خلال تعقيدات الواقع؟
ج: التخلف ليس معنى محدوداً بحسب الواقع وإنما هو كل فكر وخط يؤدي إلى سقوط الإنسان وتأخره، ونحن نعرفه من خلال طبيعة القضايا التي يحدد بها الإنسان ما يوجب التخلف أو يؤدي إليه.
إذا تم العقل نقص الكلام:
س: ذكرتم في تعليقكم على النصوص التي تدعو إلى قلّة الكلام ان المسألة في ذلك نسبيّة وأنها ناظرة إلى الذين يتكلّمون بدافع الشهوة في الكلام، وأمّا إذا كانت مع التفكير فلا بأس. ولكنّ أحد النصوص يقول "إذا تمّ العقل نقص الكلام" وتمام العقل يعني تمام التفكير، أي أنّ النسبة بين تمامية العقل والتفكير وبين نقصان الكلام هي نسبة طردية، وهذا على خلاف ما تذهبون إليه من عدم البأس إذا كان الكلام مع التفكير؟
ج:إنّ معنى "إذا تمّ العقل نقص الكلام" أن الإنسان لا يتكلم إلا بما يعنيه وبما ينضّجه في عقله بما يدرسه دراسة وافية مستفيضة، وليس معناه أنه إذا تم العقل نقص الكلام، أو حتى فيما ينبغي للإنسان أن يتكلم به، وإلاّ فإنّ الأنبياء ملئوا الدنيا كلاماً نافعاً ومفيداً ومؤثراً تأثيراً بليغاً باعتبار انهم كانوا يتحدثون بكل ما يحتاجه الناس، فهل تقول إنهم ممن نقص عقلهم؟! وكيف نفسّر كلام أمير المؤمنين(ع) الذي كان يتحدث مع الناس دائماً سواء في إجابة عن سؤال أو إذا لم يسأله الناس إبتدأهم، أو عندما يخطب فيهم. وعندما نحصي كلام الإمام جعفر الصادق(ع) فإننا نحتاج إلى مجلدات كثيرة بحيث أننا لو أحصينا ما صدر عنه لربما كان يقدّر بعمره في كل دقائقه وثوانيه.
إن الحديث عن نقصان الكلام إنّما هو في أن لا يتكلم الإنسان إلا بما يشعر أنه بحاجة إليه بعد أن ينضّج الكلام وان يدرسه، ذلك أن الإسلام ينهى عن فضول الكلام، أما الكلام النافع فهو يدعو له ويدفع إليه "قل خيراً أو فاصمت".
نشر ثقافة الإسلام في الغرب:
س: في حديث متشعّب مع كاهن في الدنمارك عن الإسلام والمسيحية قال في آخر كلامه: (حاولوا أن تنشروا ثقافة الإسلام لكي يتعرّف الدانمركيون على هذه الثقافة) فما هو تعليقكم على هذا الكلام؟
ج: نحن نريد للمثقفين الذين اضطرتهم ظروفهم ان يسافروا إلى البلاد الغربية أن يبتعدوا عن كلّ هذا اللغو والجدل الذي يتحركون فيه من خلال بعض الخلافات والمنازعات والهوامش وعمّا يزيدهم فرقة وأن يصرفوا ما عندهم من ثقافة في أن يتعلموا اللغة الدانمركية ـ أو اللغات الأجنبية الأخرى ـ وأن يقدّموا الإسلام إلى الدانمركيين وأبناء الغرب الآخرين بصورته المشرقة المشجّعة الجاذبة، لأنني أعتقد أننا إذا قدمنا الإسلام بصورته الحضارية إلى الغرب فإن الغرب سيدخل في دين الله أفواجاً، ولكن مشكلتنا أننا ننفّر الغرب من الإسلام بالصورة التي نقدمها في مجتمعاتنا الإسلامية، ولذلك قال بعض الغربيين عندما درس الإسلام في البلدان الإسلامية "إن الإسلام شيء والمسلمين شيء آخر".
بين الحب والابتلاء:
س: جاء في الحديث الشريف "إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتّه في البلاء". فهل يعني هذا ان كلّ عبد يحبّه الله يكتب له أن يعيش في هذه الدنيا شقياً طيلة حياته؟
ج: ربما لا يوجد مانع من ذلك لأن الله يريد ان يزيد من أجره فينزل عليه البلاء وهو يعرف أنه سوف يصبر ويتصلّب ويقوى عوده ويزداد تحمّله ولا يتنازل أمام المغريات والتحديات والضغوط وكل ذلك من أجل أن يعطيه الأجر الكبير{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.بالبقرة/286] وهناك معنى آخر لهذا الابتلاء الذي يصيب المؤمنين في الحياة الدنيا وهو أن طبيعة الدنيا هي أنها طبعت على كدر وبلاء وشقاء وليس معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يتنزّل البلاء من السماء على عباده المؤمنين تنزيلا، فالدنيا ليست مفروشة بالورد وإنما هناك فرح وحزن وألم ولذة وفقر وغنى ومرض وصحّة إلى غير ذلك من الابتلاءات وهي كثيرة. على أن هذه البلاءات الطبيعية تنطلق من طبيعة النظام التي جعلها الله سبحانه وتعالى في الكون واعتبرها اختباراً للمؤمن.
وربما تتمثل القضية في طبيعة التزامات المؤمن في حركة إيمانية، مما يجعله يجاهد نفسه في حرمانها من لذات الحياة المحرّمة أو من الحصول على المكاسب في مواقع الانحراف، أو يجاهد الآخرين الذين يملكون القوة والسلطة فينال من ذلك الكثير من المتاعب ويوقعه في الكثير من المشاكل ويحرمه الكثير من الفرص. وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر الذي يجري مع التيار في الواقع وفي حركة الشهوات.
أمّا قول السائل {لئن شكرتم لأزيدنّكم} فالشكر يزيد في البلاء، ولا دخل لهذا بهذا المعنى، فهذا وارد في عالم النعمة وهي ابتلاء أيضاً {ليبلوني أأشكر أم اكفر}.[النمل/40] ويقول تعالى في سورة الفجر {فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه ربّه فقتر عليه رزقه فيقول ربي أهانن. كلاّ}.[الفجر/15 - 17] فهذا ابتلاء وذاك ابتلاء، وعندما نقول بأن الدنيا قائمة على الابتلاء فلأنّ طبيعتها هي هذه، والسبب هو أن الدنيا هي عالم المحدود، فأنت لا تستطيع أن تحصل أي شيء فيها إلاّ إذا خسرت شيئاً في قبال ذلك، فلكي تصبح كبيراً لا بد من ان تفقد قوة بصرك وجهدك وربما الأوقات التي نحتاجها في غير ذلك، لذلك قال الشاعر:
تريدين إدراك المعالي رخيصة                   فلا بد دون الشهد من إبر النحل
ويقول آخر:
إن الحياة لشوك بينه زهرٌ                         فحطّم الشوك حتى تبلغ الزهرا

التزاحم بين أماكن التبليغ:
س: هل يمكن السفر إلى الغرب للقيام بالواجب الإسلامي من تبليغ وتربية ووعي ودعوة، علماً بأن المكان الأول محتاج للمبلغين أيضاً؟
ج: لا بدّ أن يوازن المبلّغ بين الحاجتين، فإذا كانت الحاجة هنا أكثر، فعليه أن يبقى حيث الحاجة إليه، أما إذا كانت الحاجة هناك أكبر فبإمكانه ان يذهب ليؤدي رسالته هناك، فالأمر راجع إلى تقدير الحاجة إلى المبلّغ التي قد تكون هناك أكثر لجهة حاجة بعض البلدان لعدد أكبر من المبلغين.
مشروعية ممارسة السلطة
س: ما هو أساس مشروعية ممارسة السلطة في الإسلام من الناحية النظرية المجردة؟
ج: للسلطة أسس شرعية مثّبتةٌ في مظانّها فلا بد أن تنطلق منها، ولها برامج أيضاً لا بدّ أن تتحرك فيها، فهي تنفيذ لإرادة الله ووحيه ووسيلة من وسائل عبادته وليست اتخاذ ماله دولاً وعباده خولا.
الزواج من بنت البلد:
س: هناك بعض الكلمات في الزواج مؤدّاها أنه لا بد ان يتزوج أبن البلد من بنت بلده بحجة اختلاف العادات والتقاليد بين بلده والبلدان الأخرى، ونرى هذا حتى في الأطر الدينية، فهل لهذا الأمر مبرر؟
ج: من منظور إسلامي ((المؤمن كفء المؤمنة)). وربما كان لذلك بعض الواقعية بلحاظ انطلاق الزواج الناجح من الانسجام في التفكير وفي العادات والتقاليد، مما قد يتوفر في أبناء البلد الواحد، ولكنّ ذلك ليس شاملاً، فقد يجد الإنسان الانسجام خارج بلده، وربما يحصل على الغنى والتفاعل بين العناصر المختلفة المتنوعة مما لا يجده في مواقع العنصر الواحد، وفي جميع الحالات لا بد أن يكون ذلك كله مرتكزاً على قاعدة الإيمان.
اتساع الفقر في المجتمع الإسلامي:
س: الإسلام دين متكامل للبشرية عامة وفيه حلول لكل المشاكل خاصة الاجتماعية، فلماذا يكثر الفقر عند المسلمين يوما بعد يوم؟
ج: لقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين(ع) "ما جاع فقير إلا بما متع به غني". وهناك حديث عن الأئمة(ع) يقولون فيه "إن الله فرض في أموال الأغنياء للفقراء ما يكتفون به ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم، وإنما يؤتى الفقراء فيما آتوا من منع حقوقهم لا من الفريضة". فالقضية هي ليست قضية الإسلام، ولكنها قضية الالتزام بالإسلام في هذا المجال لأن المسلمين لا يخرجون ما فرضه الله عليهم من حقوق من الخمس والزكاة والصدقات، ولهذا أصبحت المسافة بعيدة جدا بين واقع الأغنياء وبين واقع الفقراء.
هذا بالإضافة إلى نقطة أخرى وهي انه ليست هناك دول إسلامية تطبق الإسلام بنحو تقضي فيه على الأزمة الاقتصادية، وحتى لو فرضنا وجود دول إسلامية مثل إيران وهي دولة إسلامية تتحرك في خط الإسلام بحسب ما ترتأيه أو بحسب ما تقتنع به، ولكن الحصار الاقتصادي العالمي والحرب التي دمرت بنيتها التحتية وما إلى ذلك هو الذي عطل برنامجها في حل الأزمة الاقتصادية. وبمعنى آخر لو أنك امتلكت نظاماً اقتصادياً كأروع ما يكون وليس لديك ثروة يمكن أن يتحرك بها هذا النظام لأجل توزيعها على حسب الإمكانات فماذا بوسعك ان تصنع؟لأنه لا بد من مصانع وأسواق ومواد أولية وأجهزة تصنيع وما إلى ذلك، ولو أخذنا أسواق البترول وتسعيره وتسويقه لرأينا أن كل ذلك بيد الغرب، ولذلك فنحن نملك ثروة ولكننا لا نملك تسويقها ولا تسعيرها ولا تصنيعها في كثير من الحالات. وإذا فالقضايا لا تعالج من جانب واحد بل لا يكفي حل الأزمة الاقتصادية بأن يكون هناك نظام اقتصادي جيد بل أن يكون هناك واقع اقتصادي يسمح بتطبيق هذا النظام على مستوى الواقع.
الإجبار على الحجاب:
س: لماذا تجبر النساء في المجتمع على الحجاب كما في بعض الدول الإسلامية كإيران والسعودية، أليس هذا ضغطاً على الذين لا يؤمنون بالحجاب؟
ج:إذا كنت تعتبر الالتزام بالحجاب في المجتمع الإسلامي ضغطاً، فلماذا نضغط على الناس الذين يريدون ان يتعاطوا المخدرات، أليس في هذا ضغطاً على الحريات؟ ثم ألا ترى أن العالم كله الآن ينطلق في حرب شديدة على الذين يدمنون المخدرات او يتاجرون بها فلماذا لا يتركهم يفعلون ما يريدون؟ فإذا قلت إن هذا شيء وهذا شيء آخر، فإننا نقول لا فرق، فالإسلام ينظر إلى الحجاب على انه يمثل وسيلة من وسائل التوازن في العلاقة بين الجنسين في مجتمعنا، ويحق لنا أن نسأل أيضاً لماذا يضغط على الذين يريدون ان يخرجوا عراة أو أن يقيموا نوادي كنوادي العراة في أمريكا وأوروبا؟. ولو فرضنا أن بعض الناس يريد أن يأخذ إجازة فتح ناد او جزيرة للعراة ألا يمنع من ذلك؟ فلماذا؟ ما ذاك إلا باعتبار أن هذا العمل يمثل إخلالاً بالنظام العام.
فنحن نقول إن الفرق بيننا وبين الذين يقولون بالسفور هي قطع الثياب، فدعاة السفور يريدون للمرأة أن تغطي صدرها وللرجل والمرأة ان يغطوا العورة ويكشفوا عما عدا ذلك، ألا يمكن أن يقول قائل أن هذا لون من ألوان الضغط على الحريات؟ فقضية الحرية ليست من الأمور التي يمكننا أن نعالجها بشكل مطلق. وإذاً ليست عندنا حرية مطلقة. نعم الشارع العام ملك المجتمع فأيما شخص يقوم بأي عمل يؤدي إلى السلبيات الأخلاقية الاجتماعية أو الأمنية فمن حق الدولة ان تضغط عليه بطريقة وبأخرى حفاظاً على الأمن او الجو العام الذي لا يجوز لفرد ان يخرقه.
ازدواجية المتصدين:
س: هل تتفق معنا بأن مشكلة واقعنا الإسلامي مضطربة بسبب الازدواجية التي يعيشها المتصدون من حيث انهم يدعون الناس إلى التخلق بأخلاق أهل البيت(ع) وهم يمارسون خلاف المطلوب؟
ج:إن علينا أن لا نجعل لهؤلاء موقعاً متقدماً في المجتمع، لأنهم يمثلون القدوة السيئة للإنسان المتصدي أو المسلم المسؤول لأن الله يقول{يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله ان تقولوا مالا تفعلون}.[الصف/2/3] ويقول {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}[البقرة/44]. وهذا ما يفرض علينا أن ننظر إلى الجانب السلوكي للواعظ والمرشد والموجّه عمدما ننظر إلى كلماته الوعظية أو التوجيهية لنقارن بينهما. فإذا كان فعله مخالفاً لقوله أبعدناه عن ساحة القيادة؛ لأنّ وجوده في هذا الموقع يؤدي إلى نتائج سلبية على صعيد حركة الازدوتاجية بين الكلمة في لسانه وبين الحرية في سلوكه.

قناة تلفزيزنية شيعية عالمية:
س: متى تصبح لدينا قناة تلفزيزنية شيعية عالمية تبث عبر الأقمار الصناعية وتخاطب الفكر والعالم العربي والإسلامي وتوضّح حركة التّشيّع الصحيحة؟
ج: لقد أوضحت مراراً أنّ المسالة ماليّة أكثر منها فنيّة، فالمحسنون عادةً يعمّرون حسينيات ومساجد، ولكنّهم لا يعمّرون أجهزة إعلام، مع نّها قد تكون من أفضل وسائل الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ.

الحوار الإسلامي ـ المسيحي:
س: في حواركم مع شباب لبنان الواحد، تكلّمتم ـ قبل أيام ـ عن الحوار الإسلامي ـ المسيحي، وفي كثير من محاضراتكم تدعون الإسلاميين إلى الحوار مع المسيحيين، فهل يجب علينا كمسلمين أن ندعو دائماً إلى الحوار؟ ولماذا لا نسمع دعوة للحوار من الطرف الآخر؟
ج: إن مسؤوليتنا هي أن نحاور أهل الكتاب، لأن الحوار هو جزء من الدعوة إلى الله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}[النحل:125].{وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}[ العنكبوت:46]. {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}[آل عمران :64]. فمن هذا المبدأ ننطلق، وكلّ صاحب دعوة عليه أن يعمل على أن يحاور الملحدين والمشركين وأهل الكتاب وكلّ الناس، لأن الحوار هو الوسيلة الأهم من أجل إقناع الآخر وفهم ما عنده، فالحاجة في ذلك هي حاجتنا لنهديهم إلى سواء السبيل.
أسباب اختلاف المذاهب الإسلامية:
س: يقول الله عز وجل:{إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدونِ}[الأنبياء:92]. ويقول المصطفى(ص): "كونوا عباد الله إخواناً". والسؤال: ما هو سبب اختلاف المذاهب الإسلامية حيث نرى أن البعض يكفّر البعض الآخر على مسائل صغيرة؟
ج: هناك أسباب اجتهادية، فربما يسلك بعض الناس منهجاً اجتهادياً في قبول بعض الروايات الواردة من بعض الثقات، أو أنه يفسر القرآن بطريقة معينة، فيما لدى الآخر منهج اجتهادي آخر، وربما يكون الأمر حسب قوله تعالى:{وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم}[الشورى:14]، كما أن للعوامل النفسية والعصبيات والتراكمات التاريخية وما إلى ذلك دور في اختلاف المذاهب وتفرّقها.
الإسلام الغريب:
س: هناك رواية تقول إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فما مدى صحة هذه الرواية وماذا تعني؟
ج: هذه الرواية مشهورة، وربما تكون كلمة مأثورة، فإني لم أدقق في صحتها وعدم صحتها، لكن معناها أن الزمن سوف ينقلب بالنسبة للإسلام من جهة أبنائه، وهذا ما نراه الآن بشكل عام، وهو قول الإمام أمير المؤمنين(ع) في أنه زمن لا يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه ومن الدين إلا رسمه.

مفهوم العصبية وحدودها:
س: في حديثكم في جلسة تفسير القرآن ذكرتم عبارة ان العصبية تغلق العقل، فما هي حدود العصبية، وما مفهومها، وكيف يمكن العقل الابتعاد عن العصبية والانفتاح على حركة التفكير حتى يستطيع أن يسيطر على العصبية ويضعها في سجن لا تخرج منه؟
ج: إن العصبية هي أن تستغرق في خصوصياتك بحيث أنك لا تلتفت إلى ان هناك خصوصيات عند الآخرين، فإذا كنت تفكر بطريقة معينة أو تنتمي إلى خط معين فإنك لست مستعدا، إذا كنت متعصباً، أن تسمع وجهة نظر الآخر أو تعترف بأن من حق الآخر أن يفكر كما لك حق أن تفكر. وإذا كانت الخصوصية خصوصية العشيرة فإنك تعتبر أن أهل عشيرتك هم الذين يملكون القيمة ولا يملكها غيرها. وإذا كنت تتعصب لبلدك أو لعرقك أو لقوميتك فإن العصبية تغلق عقلك فلا ينفتح على العقل الآخر ولا يجعلك تفكر فيما وصلت إليه من فكرت لتحتمل هل أن من الممكن أن يكون هناك خطأ فيه، وهي أن تعتبر نفسك معصوماً فيما فكرن فيه وأنه لا ضرورة أن تعيد النظر في تفكيرك من جديد على أساس معطيات جديدة، أو على أساس حركة الواقع.
وهناك نص رائع للإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) مما رواه الزهري عنه، وهو يعالج المسألة القومية والإقليمية والعائلية في إطار الدائرة الإسلامية، لأن الإسلام لا يريد منا أن ننكر خصوصياتنا الإنسانية، فنحن عرب أو ترك أو سود أو بيض أو من العائلة الفلانية أو من البلد الفلاني، فالإسلام أبقى خصوصية الشعب والقوم، لكنه أرادها أن لا تكون دائرة مغلقة، فلا مشكلة أن تكون من العشيرة الفلانية ولكن أفتح خصوصيتك العشائيرية على العشيرة الثانية، أي أن الدائرة الصغرى تنفتح على الدائرة الوسطى والوسطى تنفتح على الأكبر منها حتى تتصل بالدائرة الإنسانية الأوسع.وعلى هذا فإن الخصوصيات الإنسانية تختزن في داخلها ثروة تجربة وفكر، ولذلك يقول الله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل}. فنحن نتنوع شعوبا ونتنوع قبائل لنجعل خصوصياتنا مفتوحة على الآخر{لتعارفوا}[الحجرات:13]. لأنني أحتاج إلى ما عندك من خبرة ومن تجربة ومن ثروة وأنت تحتاج إلى ما عندي من خبرة وثروة وتجربة، فأنا أعطيك ما عندي وأتعرف عليك من خلال ما عندك وأنت تتعرف علي من خلال ما عندي، وبذلك يكون التعارف في الخط الإنساني العام منطلقاً من خلال هذه الخصوصيات التي هي أساس التعارف. والله يريدك ان تعترف بالخصوصيات التي أملكها كما اعترف بالخصوصيات التي تملكها لنستفيد من بعضنا، وتبقى التقوى هي معيار التفاضل. {إن أكرمكم عن الله أتقاكم}[الحجرات:13].
فالإمام(ع) يريد أن يراعي هذا الجانب عندما يقول "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين". أي نرى أن الشرير الذي عندنا أفضل من الخير عندهم، في حين أن كونك مسلماً يقتضي أن يكون الخط الإسلامي هو الذي يحكمك، إذا أن عليك أن تؤمن بالخير حتى عند أعدائك، وعليك أن ترفض الشر حتى عند أقربائك، أما أن تنكر الخير عند الفئة الثانية وتؤكد الشر عند فئتك، فأنت تأثم بذلك "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه". فكل فرد يحب أبناء عشيرته وأبناء بلده وأبناء لغته وينجذب لهم إنجذابا فطرياً، وهذه العاطفة الإنسانية ليست فيها مشكلة، شريطة أن لا تصل لديك إلى الحد الذي تبتعد فيه عن المبادئ، "ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم". هذه هي المسألة والإمام علي (ع) في (نهج البلاغة) يقول إن إبليس إمامه المتعصبين فمن أخذ بالعصبية ـ في أي جانب من العصبية ـ يعتبر إبليس إمامه لأن إبليس هو الذي تعصب لناريته في مقابل طينية آدم {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}[ص:76].
أما كيف يخرج الإنسان من العصبية، فقد يقول قائل إننا ملتزمون بالإسلام أفلا نتعصب للإسلام؟ ونحن منتمون لخط أهل البيت ألا نتعصب لأهل البيت؟ فالصحيح هو أننا لا نتعصب لا لهذا ولا لذاك بل نلتزم هذا وذاك، إذ أن هناك فرقاً بين التعصب والالتزام، فالالتزام ان تصر على فكرك ولكنك تنفتح على فكر الآخر وتحاوره وتفسح المجال لأن يناقشك فيما أنت فيه لتناقشه فيما هو فيه. ولذلك نقول لنبق على التزامنا ما دام التزامنا حقا عندنا ولم يثبت عندنا خلافه، ولكن علينا أن لا نتعصب وان يبقى عقلنا مفتوحا للآخر، فكما أن من حقك أن تفكر بطريقتك الخاصة فللآخر حقه أن يفكر على طريقته الخاصة، ولكن {وجادلهم بالتي هي أحسن}[النحل:125].
القياس والعقل والدين:
س: كيف يكون القياس ممحقة للدين ولا يكون العقل، ممحقة للدين، علماً أن العقل حجة عند الشيعة والقياس معتمد على العقل وليس أمرا مزاجياً، ثم أن الكتاب والسنة لم يستوعبا الأمور الحياتية كلها في عصرنا الحاضر حيث وضعا الخطوط العريضة للحياة. ثم إننا الآن سنة وشيعة نتعاطى القياس شئنا أن أبينا بأسلوب أو بآخر وهناك أمثلة كثيرة على ذلك؟
ج: أولاً: إن القياس يعتمد على الظن و{إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}[يونس:36]. أما القياس القطعي فأمر مختلف فإذا عرفنا قطعاً أن هذه هي العلة فإن القياس المعلل صحيح ونأخذ به لأننا نأخذ بالقطع والقطع حجة. أما العقل عند الشيعة فهو العقل القطعي وأما العقل الظني فليس بحجة. أما أننا جميعنا نأخذ به ففي الواقع وليس في التشريع.
ولقد قيل إن دين الله "لا يصاب بالعقول". فمن أين يا ترى نعرف هذه الخصوصية الموجودة في الموضوع الذي ثبت الحكم له أنها نفسها العلة في الحكم إذا صار عندنا قطع بذلك؟ ولذا نقول بالقياس المنصوص العلة، أما القياس في الأمور الخارجية فممكن من باب أنها قضايا حياتية، ولكن لا يجوز القياس في الأمور الشرعية وفي استنتاج الحكم الشرعي.
الكتاب والسنَّة والقضايا المعاصرة:
س: هل أن كل شيء من الحلال والحرام قد ذكر في كتاب الله وسنة نبيه، فإذا كان كل شيء مذكورا، فأين هي المسائل المستحدثة في عصرنا؟
ج: إن القرآن والسنة قد ذكرا العناوين العامة والخطوط العريضة كما في النهي عن الأمور التي فيها مفسدة {والله لا يحب الفساد} [البقرة:205]. {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}[هود:8]. فعلينا أن ندرك طبيعة الأشياء فما كان فيه مفسدة فهو حرام وما كان فيه مصلحة فهو حلال، وما كانت مفسدته أكثر من مصلحته فهو حرام. فنحن نستوحي من العناوين العامة الكثير مما تتحرك به الموضوعات الخاصة باعتبار أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

مشكلة الدوائر المغلقة:
س : من كلام لكم أنكم قلتم "إن مشكلتنا هي الدوائر المغلقة: التراث المغلق والعقلية المغلقة والبلد المغلق والقومية المغلقة". والسؤال هو كيف يمكننا كمسلمين في ظل التحديات الصعبة التي نمرّ بها أن نفتح كل تلك الدوائر المغلقة؟
ج : عندما ندرس الخط العام في الإسلام نراه يعترف بالخصوصيات الإنسانية فهناك شعب له خصوصية معينة وللشعب الآخر خصوصية معينة وهكذا، والقومية لها خصائص في اللغة والعادات والتقاليد والجغرافية وللقومية الأخرى خصائصها وهكذا، ولكن الله لا يلغي قبليتنا ولا قوميتنا ولكنه عز وجل يريدني وأنا أعيش في دائرة أن أنفتح على جيراني وعلى المنطقة التي نحن فيها وعلى البلد الذي نحيا فيه ثم ننفتح على الناس الآخرين من العرب كلهم ثم ننفتح على المسلمين كلهم وعلى الإنسانية كلها، فكل دائرة تنفتح على الدائرة الثانية حتى تعطيها من خبرتها وتجربتها ليكون هناك تنوع في الخصوصيات يثري التجربة الثانية {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات:13]. فإذا انفتح هذا الشعب على الشعب الآخر وهذه القبيلة على القبيلة الثانية فإن كل شعب يعطي للشعب الثاني حاجته بحيث نستطيع أن نتحرك في حياتنا بثراء أكبر، لذا نقول إن الله يريدنا أن نعيش في الدوائر المفتوحة من دون أن نتنازل عن مبادئنا.
أبعاد الفتنة واتقاؤها:
س : في الحديث "الفتنة أشد من القتل". فما أبعاد هذه الفتنة في عصرنا الحاضر وكيف السبيل إلى اتقائها وما هو دور الإنسان المسلم في ذلك؟
ج : المقصود من الفتنة هي فتنة الناس عن دينهم بمعنى إبعادهم عن دينهم بالضغوط والإغراءات وما إلى ذلك:"والفتنة أشد من القتل" لأنك إذا فتنت إنساناً عن دينه بحيث أخرجته عنه، تكون قد دمرت مصيره في الدنيا والآخرة. وعلينا أن نلاحق كل الذين يفتنون الناس عن دينهم.

مواجهة الحرب الإعلامية:
س: كيف السبيل لمواجهة الحرب الإعلامية وبالخصوص الفضائيات؟
ج: إن مشكلة الأغنياء أنهم يبنون مساجد وحسينيات يتقربون إلى الله بها وفي البلد عشرون مسجداً ويزيد، ولكنك إذا قلت له إعمل لنا فضائية إسلامية فإنها تفيدنا أكثر من ألف حسينية فإنه غير مستعد لذلك، فذهنية الخير عندنا لم تتطور بعد ويقيناً أن الفضائية الإسلامية في خط أهل البيت(ع) تستطيع أن توفر علينا ألف عالِم نبعثهم إلى هذا البلد أو ذاك.

سب المشركين:
س: لقد مارس الإسلام الحرب ضد المشكرين وهي أشرّ من السباب، أفلا يكون السباب من باب الأولى؟
ج: هناك فرق بين ان تحارب عدوك وعدو الدين من أجل أن تمنعه من الوقوف حاجزاً يحجز حركة الإسلام عن الانطلاق، أي ان تحاربه لتدافع عن الإسلام والمسلمين وبين السباب، فهو لا يتصل بالعدو ولكن يتصل بأخلاقيتك وبأسلوبك في التعامل. ولقد قلنا إن الكافرين والظالمين يستحقون السباب في كفرهم وظلمهم ولكن هناك فرقا بين أنه يستحق ذلك وبين أن تمارس ذلك. فالقيم الإنسانية تتصل بأخلاقية الإنسان المسلم، فلا يجوز لنا أن نكذب على الكافر وعلى المسلم على حد سواء لأنّ قضية الكذب تتصل بأخلاقيتك وبأسلوبك في أن تقف مع الحقيقة ولا تتصل بالآخر.
الموقف الديني من الكسوف:
س: كثر الحديث هذه الأيام حول كسوف الشمس المرجّح في يوم11/8 فهل لك ان تشرح لنا شيئاً حول ذلك من الناحية الدينية، وما هو الواجب علينا اتباعه عند هذا الحدث؟
ج: من الناحية الدينية فإن الكسوف والخسوف، كما قال رسول(ص) عندما كسفت الشمس يوم وفاة ولده إبراهيم وقال المسلمون إنها كسفت لموته، قال(ص) فيما روي عنه، إنها لا تكسف لموت أحد وهما آيتان، فالشمس والقمر من آيات الله والخسوف والكسوف يحدثان من خلال النظام الكوني الطبيعي للشمس والقمر. والعلماء اليوم يستطيعون ان يتحدثوا عن ذلك بعد ألف سنة لأنه نظام كنظام الليل والنهار محدّد ودقيق. ومن هنا نقول بأن علينا أن نحسم اعتبار الصوم في بداية شهر رمضان والإفطار في نهايته خاضعاً للرؤية، فالمسألة راجعة إلى النتائج العلمية الدقيقة في هذا المضمار، لأن التوليد والدخول في المحاق والخروج منه وإمكانية الرؤية أصبحت كالعملية الحسابية(1+1=2). وهؤلاء العلماء يقدّمون هذه المعلومات من خلال ان هناك نظاماً لحركة القمر والشمس وعلاقتها ببعضهما وعلاقتهما مع الأرض. ولقد أصبحت نسبة الخطأ في الحسابات الفلكية ضيقة بما لا يقاس.
ويحذّر العلماء من التحديق في الشمس أثناء كسوفها ويقولون بأن التحديق فيها يورث العمى ولا دواء له. ولذلك لا يجوز لنا أن ننظر إلى الشمس وهي في مرحلة الكسوف، وعلينا أن نحفظ أولادنا ـ في هذه الفترة ـ من النظر إلى الشمس لأن القضية خطيرة جداً ولذلك يجب أخذ التحذيرات التي تطلق في أنحاء العالم من هذا الكسوف بجدية تامة.
أما صلاة الآيات فيمكن ان توجّه إما على أنها تعظيم لله تعال من حيث أن هذه الظاهرة الكونية تستوجب شكر الإنسان لله وعبوديته له وتعظيمه في آياته. أو من جهة إزالة ما قد يحدث من النفس من بعض حالات الخوف والقلق والرعب فيقف الإنسان بين يدي الله ليشعر بالأمن والطمأنينة والسكينة ذلك أنه مهما كانت هذه الظواهر من الخسوف أو الكسوف او الزلزال او الريح السوداء أو ما إلى ذلك فإن الإنسان يستجير بالله ويستعين به في صلاته، والله العالم.
س: وهل تقام صلاة الآيات جماعة أم فرادى؟
ج:يمكن أن تقام جماعة متابعة أو فرادى.
الفارق العمري في الزواج:
س: أنا شاب عمري(27) سنة أنوي الزواج من فتاة اكبر مني بـ(9) سنين وأنا والفتاة مقتنعان ببعضنا ولكن أهلي كلهم يرفضون هذا الزواج وأمي تقول لو تزوجت من تلك الفتاة فإني أغضب عليك إلى يوم الدين فهل أرضي أمي وأهلي أم أرضي نفسي؟
ج: لا مشكلة ان يتزوج الشاب إمرأة اكبر منه سناً فالنبي(ص) تزوج خديجة(رض) وهي أكبر منه سناً، ولا مشكلة ان تتزوج المرأة رجلاً أكبر منها، ولكنني أوصي في هذا المجال بالتدقيق ودراسة الموضوع دراسة متأنية لأن الإنسان عندما يتزوج فكما أن عليه أن يدرس حاضر الزواج فإن عليه أيضاً أن يدرس مستقبله فهذا الفارق العمري بينه وبين هذه الفتاة قد لا يكون ذا شأن في الحاضر ولكن قد يؤدي إلى تعقيدات في المستقبل فيعقّد حياته في ذلك الوقت.
أما إذا فرضنا انه كان مقتنعاً بأنه سوف لن يسيء إلى الفتاة في المستقبل لو تزوجها الآن وسوف يتقبّل وضعها حتى مع هذا السن المتقدم بالنسبة إليها فمن الناحية الشرعية لا يجب عليه طاعة الأم في هذا المجال لأن المطلوب هو الإحسان إلى الوالدين، فلو رأى أن مصلحة نفسه في ذلك من ناحية إلزامية فلا يجب عليه طاعة والديه في ذلك، ولكن إذا لم تكن المسألة ملحة فإن بّره بأمه وطاعته لها أفضل من زواجه من هذه الفتاة.
الخوف من الفقر:
س: من كلام لعلي (ع) وهو يوصي إبنه محمد بن الحنفية "يا بني إنّي أخاف عليك الفقر فاستعذ منه فإنّ الفقر منقصة للدين ومدهشة للعقل وداعية للمقت". فلماذا يخاف الإمام على إبنه من الفقر والله هو الذي يرزق من يشاء، وكيف يكون الفقر منقصة للدين وأن اكثر أهل الدين هم من الفقراء، وما علاقة الفقر بالعقل؟.
ج: إن الإمام(ع) يتكلم عن تأثيرات الفقر الواقعية، فالفقر قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الإنسان بحيث يخرجه من دينه"كاد الفقر أن يكون كفراً". و"إذا دخل الفقر إلى بلد قال الكفر خذني معك". وطبعاً فإن الإنسان مأمور إذا تعّرض للفقر أن يجاهد نفسه وأن يعلم بأن الفقر اختبار وابتلاء وليس عقوبة من الله ولكن هو بحسب طبيعته مثل المرض الذي يطلب الإنسان من الله الشفاء منه لأنه يهدّد الحياة. وكذلك الفقر فقد يهدد الدين من خلال ان الشيطان قد يدخل من بابه ويجعل الإنسان الفقير يعترض على الله وعلى حكمته، او يتنازل عن بعض مواقفه للأغنياء كيما يوظفونه في طريق الفساد او الظلم فربما يستغلون فقره ليسخروه في مآربهم الشيطانية. والفقر"مدهشة العقل" لأن الإنسان الفقير يبقى ذاهلاً مشغول البال شارد الذهن يفكر في عياله وليس عنده ما يمكنه أن ينفقه عليهم من طعام ومسكن ولباس ومصاريف دراسية، فهذا كلّه يشغل عقله فيدهشه, وهكذا فإن الفقر أيضاً "داعية للمقت" إما مقت النفس أو مقت الآخرين. فالإمام يتحدث عن واقع اجتماعي كمشكلة يعيشها الإنسان المبتلى بالفقر ثم يطلب منه أن يدعو الله ان يوسّع عليه في رزقه ولا يدعوه إلى أن يتعقد من الفقر في ذاته بل يقول له أدع ربّك ليزيل عنك الفقر لأن الفقر يمثل مشكلة في حياة الإنسان قد تؤدي إلى نتائج سلبية.
تقديس السر:
س: قلتم في محاضرة سابقة لا نقدس العلماء ونناقش أراءهم وقد نختلف معهم، والسؤال تقولون عن السيد الخوئي مثلاً قدس سره ـ فكيف ذلك؟
ج: ليس معنى قدّس سرّه قدّس فكره، فتقديس السر باعتبار إيمانه وتقواه وعمله الصالح. أمَّا قولنا إننا لا نقدّس العلماء فنحن لا نقدّس فكرهم، بمعنى أنَّ الخطأ والاشتباه واردٌ فيه. نعم نحن نقدّس النبي(ص) وما جاء عنه ونقدّس الأئمة المعصومين(ع) وما جاء عنهم لجهة عصمتهم. أمّا العلماء فهم يخطئون ويصيبون، ولكننا نحترم فكرهم بأن ننقد فكرهم ونناقشه؛ لأنّك إذا ناقشت فكراً فإن ذلك يعني أنّك تحترمه، والاحترام والتقدير غير التقديس.

ضغوط العادات على الدعاة
س: لطالما تعرّض الدعاة في كل وقت إلى ضغوط المجتمع وخاصة عاداته الموروثة، فما هي توجيهاتكم للشباب الذين بدأو طريق الدعوة حديثاً في مواجهاتهم الصعبة مع التقاليد والعادات اللا إسلامية؟
ج: نحن نقول لكل الدعاة إلى الله إنّ عليهم أولاً: أن تكون لهم ثقافة ما يدعون إليه. وثانياً: أن يتعرفوا الأسلوب الذي يدخلون به إلى عقول الناس ونعبّر عنه ان علينا أن نهندس الطريق إلى عقول الناس{وقُل لعبادي يقُولوا التي هي أحسن}[الإسراء:53]. {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}[النحل:125]. وأن يكون الداعية واسع الصدر بحيث لا يضيق بأي اعتراض أو اضطهاد ولا يضيق بأي حصار، بل يعرف أنه موظّف عند الله سبحانه وتعالى الذي يقول لرسوله(ص) {فإنهم لا يُكذبونك}[الإنعام:33]. لذلك فعلى الإنسان أن يستنفد جهده كلّه في سبيل الوصول إلى عقول الناس وإقناعهم وعليه أن لا يتهم الناس. فبعض الدعاة يقولون إن العمل لا ينفع مع الناس فهم لا يفهمون.. إن عليك أن لا تقول إن الآخر لا يفهمك بل عليك أن تتهم نفسك أنك لم تفهمه جيداً وإذا لم ينجح أسلوب ما إبحث عن أسلوب ثان وثالث حتى تستطيع أن تصل إلى العقول، فالعقول لها مفاتيح والقلوب لها مفاتيح ولهذا يجب علينا اكتشاف مفاتيح كل شخصية على حدة، وهذا يحتاج إلى صبر والله سبحانه وتعالى يتحدث عن كيف نربح الأصدقاء{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}[فصلت:34] إننا نحتاج إلى صبر وإلى حظ عظيم.

الإسلام والدولة
س: هل إن الحكم في الإسلام من خلال السلطة الدينية أو الحكم بالحق الإلهي ام أن هناك فرقا وتمايزا ما بين الدين وبين الدولة؟
ج: الإسلام أساسا هو دين يختزن الدولة في داخله، إذ ما هي عناصر الدولة؟ إنها حكم وقانون، والشريعة الإسلامية هي القانون الذي يشتمل على كل ما يحتاجه الإنسان، فالذي يريد أن يطبق القانون هل يمكن له ذلك بدون دولة وبدون حكم وحاكم؟ لذلك نقول بالنسبة إلى الإسلام إنه الدين الذي يختزن في داخله عناصر الدولة كلها.
وأما فكرة فصل الدين عن الدولة فقد جائتنا من نتائج حكم الواقع المسيحي في القرون الوسطى عندما كانوا يحكمون باسم الله ولكنهم يطلقون الحكم من جانب ذاتي. أما عندنا فالدين والدولة معا، فالواقع الإسلامي ومنذ ما يقرب من أربعة عشر قرنا يحكم الحياة الإسلامية بالقانون الإسلامي، أما مسألة ان هذا الحكم صحيح أو غير صحيح فأمر ثان، ولكن الخلافة سواء كانت شرعية أو غير شرعية فإنها كانت تحكم بالإسلام من حيث العنوان العام فلم يكن هناك غير قانون الإسلام وهذا الذي يميز الحكم في الإسلام عنه في التيارات الوضعية.
المشاركة في حوار الفضائيات
س: إن القنوات الفضائية وسائل إعلامية كبيرة وإن فائدتها عن طريق استغلالها لبث الوعي الإيماني والرد على المتهجمين على مذهب أهل البيت(ع) بمشاركة الواعين من أهل الإسلام عظيمة، فأرجو المبادرة لسد هذا النقص؟
ج: إن للقنوات الفضائية سياستها الخاصة في مشاركة الواعين من العلماء والمثقفين فلكل قناة فضائية سياسة خاصة، ونحن ندعو لأن تكون هناك قناة فضائية إسلامية تتولى الوعي الإسلامي، ولكن المشكلة كما قلنا أكثر من مرة هي في وعي الإنفاق في مجالات الدعوة إلى الله وهذه من أهمها.
الخطاب الموجه للنخبة الصالحة
س: أين موقع الخطاب الديني في إعداد النخبة الصالحة في خضم هذه الأحداث المتلاطمة، وما مدى تأثيره على الواقع المعاش، هل هو قريب من كتاب الله وسنة رسوله، وكيف السبيل إلى تفعيل هذا الخطاب؟
ج: لا بد للخطاب الديني من أن يكون على مستوى حاجة العصر وحاجة الناس في العصر وأن لا يتنازل عن أي شيء مما يتضمنه الدين، وعلينا أن نحرك المنهج والأسلوب في عرض الدين وفي توجيه الناس إليه بالطريقة التي يفهمها إنسان هذا العصر وفاقا لقول رسول الله(ص) "إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم" وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}[النحل:125].

ثورة الإمام الخميني الفكرية
س: لقد فجّر الإمام الراحل السيد الخميني (رض) ثورة فكرية بغض النظر عن الإنجاز السياسي فهل تخشون على هذه الثورة الفكرية، وما مدى قدرتها على البقاء والفعّالية في ظل هذه التحديات التي يضعها الأستكبار العالمي بوجهها، وهل هناك ما يوحي بالاطمئنان والثقة بحملة هذه الثورة الفكرية قيادة وشعباً؟
ج: لا شك أن التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية عطّلت الكثير من المشاريع الفكرية في الجمهورية الإسلامية، ولكنني أعتقد أن هناك آمالاً كبيرة في أن تتكامل هذه المشاريع وهناك مفكرون في الجمهورية الإسلامية وفي الحوزة العلمية من الشباب الطالع وهم يفكرون في قضايا وشؤون الساحة الإسلامية القيادية ولذلك فنحن قد نعيش بعض القلق ولكننا لا نعيش اليأس. ولكن لا يمنعنا ذلك من دعوة قيادة الجمهورية الإسلاميّة ومفكّريها إلى تقديم النموذج الإسلامي الأمثل للعالم على صعيد النظرية والتطبيق؛ لأنَّ الثورة الإسلاميَّة الثقافية هي التي تعمل على إنتاج الصورة الحضارية للإسلام التي يمكن لها الإجابة على كل تطلعات الجيل المعاصر، وحل مشكلات الإنسان في هذا العصر، وهذا مما لم تقم به حتى الآن بالمستوى المطلوب.
الوحدة الإسلامية
س: كنتم ولا زلتم من الدعاة إلى الوحدة وخصوصاً الوحدة الإسلامية وقلتم إنّ الوحدة لا تعني ان نقول للسني كن شيعياً ولا للشيعي كن سنياً، وقلتم إن الوحدة هي أن لا يتنازل أحدهما عن فكره لحساب الآخر، والسؤال إذا بقي كلّ من السني على فكره والشيعي على فكره فماذا نستفيد من تلك الوحدة حيث يحمل كلّ منهما فكره ولا يعيش الإحساس بالاخر؟
ج: ما معنى الوحدة أساساً؟ هي أن نلتقي على ما اتفقنا عليه، وما اتفق عليه السنّة والشيعة أكثر من 80% سواء في كلمة التوحيد، والنبوة والمعاد والقرآن والإيمان بالرسل والإيمان بالملائكة والصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعندما نأتي إلى الفقه نجد أنه ما من رأي فقهي عند السنّة إلاّ هناك رأي فقهي يقابله عند الشيعة. أمّا في مسألة الخلافة فالإمام أمير المؤمنين(ع) مارس فكرة الوحدة في فترة الخلافة ولم يتنازل عن حقه ولم يتنازل الجماعة عن موقفهم، ولكن أمام مصلحة الإسلام قدم علي(ع) المعونة لأولئك الذين أبعدوه عن حقه حتى قيل:" لولا علي لهلك عمر". فنحن نرى كسبيل للوحدة ان نلتقي على ما اتفقنا عليه بأن نتعامل كمسلمين نعيش أخوّة الإسلام مع بعضنا البعض ونتحاور فيما اختلفنا فيه {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}[النساء:59]. ولا يجوز لمسلم أن يحقد على مسلم{إنما المؤمنون إخوة}[الحجرات:10]. فالمقصود بالمؤمنين كل المسلمين الذين يعتقدون بالإسلام وهذا هو رأي السيد الخوئي (رحمه الله). وقوله تعالى {إنَّما المؤمنون إخوة} يشمل السنّة والشيعة معاً وكلّ من دخل في الإسلام لا رغبة ولا رهبة {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا }[الحجرات:14].
مقومات الحب
س: في إحدى خطب الجمعة تحدّث الخطيب عن الحب وقال إن الحب مقدّم على العلم الجاف الذي لا يختزن الحب وأستشهد بالواقع الذي يعيشه الغربيون فواقعهم كشعوب يلغي أواصر المحبّة بينهم، وعلى مستوى القيادة استشهد بحديث رسول الله عندما قال"لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله"(1) فما هي المقومات التي يحملها الحب في الإسلام؟
ج: لا بد في الحب من الوعي أي لا بد أن يكون حب الإنسان بالقلب المفتوح حتى لا يحب تقليداً وبشكل روتيني، وحتى لا يكون حبّه بلا أساس، فبالعلم يكون الحب كبيراً، أمّا بالجهل فيتحوّل الحب إلى مشكلة لأن الكثير من الناس قد يحبون ـ بسبب جهلهم ـ الطغاة والمنحرفين فلا بد أن يسبق العلم الحب حتى يكون الحب حباً مفتوح العينين بحيث يتحرك بوعي ويقظة.

التفاوت بين الفكر والواقع:
س: ألا ترون أن الواقع الإسلامي في الجانب الفكري لا ينطبق مع الجو العملي، حيث نرى التفاوت الكبير بينهما، ما ينطبق علينا قوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنُوا لِمَ تقولُون ما لا تفعَلُون} (الصف:2)، فما المخرج من هذا الواقع وكيف النهوض بالجانب السلوكي لنصل إلى المجتمع المسلم؟
ج: لقد اختصر الله هذا الموضوع كلّه بشكل مكثّف جداً في سورة العصر {والعصْر* إنّ الإنسان لفي خُسر* إلا الذين آمنُوا وعمِلوا الصالحات وتوَاصَوا بالحقّ وتواصَوا بالصَبْر} (العصر/1-3)، فالمشكلة هي أننا عندما نتحرك فإنما نتحرك كأفراد بحيث يعيش كل إنسان مع نفسه ولنفسه، لكن الله يريد لنا أن نعيش الحياة الفردية والاجتماعية، أي كُن مؤمناً وكُن من العاملين الصالحين، وربِّ نفسك على الإيمان، واجعل إيمانك إيماناً حركياً، بحيث يقودك إلى العمل الصالح.. ثم كمجتمع إذا أصبح الحق تكليفاً فلا يمكن للناس أن يضعفوا عن الحق أمام التحديات، وإذا حصل ذلك فعليهم أن يتواصوا بالحق، بحيث يوصي بعضهم بعضاً وأن لا يسقطوا أمام الباطل، وإذا جاءت التحديات قاسية بحيث أرادت أن تسقط الناس فإنهم يتواصون بالصبر.
ولذا فإن علينا أن نعمل على أن ننتج ولو مجتمعاً صغيراً يكون نموذجاً من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
وهناك عنصر ثالث في الجانب الاجتماعي {ثمّ كانَ مِنْ الذينَ آمَنُوا وتواصَوا بالصَّبْر وتواصَوا بالمرحمة} (البلد/17)، فهذا كإنتاج يحتاج إلى تذكير وتوعية وشعور بقيمة المجتمع المؤمن وهي قضية تحتاج إلى جهود متضافرة من المجتمع.. فكما أن المرض إذا تفشّى نحتاج إلى تلقيح الأطفال وإلى حالة طوارئ، فكذلك ((إذا ظهرت البدع فعلى العالِم أن يُظهر علمه))، وليس كما يقول بعض الناس أنه يجب أن يكون العالم مثل الشجرة، فإذا هززته تساقط الثمر، بل نقول إنه يجب عليه أن ينزل هو إلى الأرض ((ومن لم يفعل فعليه لعنة الله))، لأن سلامة المجتمع متوقفة على ذلك.

الحوار الإنساني ـ الإنساني:
س: إن المتتبّع لحركتكم في الحياة والمطّلع على آرائكم وأقوالكم يلاحظ شيئاً جديداً في الفكرالذي تحملونه، وهو أنكم كنتم تدعون دائماً إلى الحوار الإسلامي ـ المسيحي، أو الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، ولكن منذ مدة وجيزة قلتم أن علينا أن نقول بالحوار الإنساني ـ الإنساني، بحيث ينطلق الحوار على أساس أنك إنسان والآخر إنسان.
والسؤال هو: من خلال الحوارات التي أجريت رأينا أن هناك أناساً يتخلّون عن إنسانيتهم في الحوار، بحيث أنك تحاور إنساناً ولكن لا إنسانية لديه، فكيف نستطيع أن نحاور أمثال هؤلاء، وكيف نفتح إنسانيتنا على إنسان لا إنسانية لديه؟
ج:  لماذا قلنا بالحوار الإنساني ـ الإنساني؟ لأن الحوار ينطلق من خلال أنّ لك فكراً وأن لذاك فكراً، وأنت إنّما أصبحت مسلماً من خلال فكرك ومن خلال أن إنسانيتك تمثل عقلك وقلبك وشعورك، فاخترت الإسلام، واختار الآخر المسيحية لأسباب مماثلة، وهكذا السنيّ والعلماني والمتدين وما إلى ذلك.
إذاً علينا أن نخاطب الإنسان المسلم في إنسانيته عندما نحاوره إسلامياً، والمسيحي في إنسانيته عندما نحاوره مسيحياً، لأن الفكر إنساني ينطلق من عمق الثقافة الإنسانية والوعي الإنساني حتى يكون الحوار حواراً شاملاً لكل الواقع ولا نبقى منحصرين في دائرة ضيّقة.
أما قول السائل بأن بعض الناس لا يملك إنسانية في حواره، فعليّ ـ كمحاور ـ أن أفتح أبواب إنسانيته، فبعض الناس إذا دخل في حوار مع إنسان آخر وفشل في إقناعه فإنه يقول لا فائدة من الحوار معه في حين أن عليك أن تجرّب ((فمن طرق الباب ولجَّ ولج))، والله تعالى يقول: {وإذْ قالَتْ أمَّةٌ منْهُم لِمَ تعِظُون قوماً الله مُهلِكُهُم أو مُعَذِّبَهُم عذاباً شديداً قالوا معذِرةً إلى ربِّكُم ولعلَّهُم يتّقون} (الأعراف/164).. فربما نجد تجاوراً بنسبة ضئيلة فيجب أن نلاحق هذه النسبة البسيطة، فالإنسان يحتاج إلى صبر في الإقناع والهداية {ادْفَع بالّتي هي أحسنُ فإذا الذي بينَكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنَّهُ وليٌ حميم} (فصلت/34)، بحيث تصبر على انفعالاتك وتصبر على مشاعرك وعلى توتراتك وعلى تعقيداتك {وما يُلقَّاها إلا الذينَ صَبَروا ومَا يُلَقَّاها إلا ذُو حظٍّ عظيم} (فصلت/35)، من الوعي.

موقع الضمير:
س: أين يقع الضمير في جسم الإنسان؟ هل هو شيء روحي، وما هي وظيفته في حركة الحياة؟
ج: الضمير ليس شيئاً عضوياً، ولكنه يمثّل هذه الحالة الداخلية النفسية الوجدانية التي تثير فيك الإحساس بالمسؤولية، ولعتل القرآن الكريم عبّر عن الضمير بأفضل تعبير عندما ركّز على أن الضمير هو الإنسان كلّه {لا أُقسِمُ بِيَومِ القيَامة* ولا أقسِمُ بالنَّفْسِ اللَّوامَة} (القيامة/1-2)، فكما أن عندنا نفساً أمارة بالسوء هناك نفس لوّامة، وهذا هو عمق الإحساس بالمسؤولية.

بناء قاعدة فكريّة محصّنة:
س: كيف يمكن للشخص أن يبني قاعدة فكرية تحصّنه من الأفكار السامّة وتجعل منه شخصاً مؤمناً؟
ج: عليه أن يثقّف نفسه وأن يدرس الإسلام والأسس التي يرتكز عليها الإسلام، ويدرس الأفكار المضادة الأخرى، وفي الحديث: ((وجدت علم الناس قد اجتمع في أربع: الأول؛ أن تعرف ربك، الثاني؛ أن تعرف ما صنع بك، الثالث؛ أن تعرف دينك، والرابع؛ أن تعرف ما يخرجك من دينك)). فإذا فعلت ذلك تكون قد ركزت قاعدة فكرية متينة، بحيث تدرس الإسلام كما تدرس التيارات الأخرى وتحاول أن تردها من خلال القاعدة الإسلامية.

النبوءات:
س: حسب علم الحساب والنجوم يكتشف الحاسب مرض الأشخاص وتخمين حظوظهم وحالهم، فما هو رأي الشارع المقدّس بالنسبة للكاشف وللمكشوف؟
ج:  يقول تعالى: {إن يتّبعون إلا الظنّ وإن الظنّ لا يُغني من الحقّ شيئاً} (النجم/28)، فمسألة المرض والحظ والمستقبل ليست كالمسائل الطبيعية أو الأمور الطبية أو ما إلى ذلك، ولم يعط الله هؤلاء علم الغيب ليكتشفوا الغيب من خلال ذلك.

القناعة ابتكار رأسمالي:
س: أحد الفلاسفة يقول إن هذه المفاهيم أي (القناعة) وضعها الرأسماليون ليحدّوا من طموح الفقراء وكي لا ينظروا لما بين يدي الأغنياء، فما هو رأيكم؟
ج:  في المفهوم السلبي الذي ذكرناه للقناعة(*) يكون ذلك صحيحاً، ولكن عندما نقول بأن القناعة ليست ضد الطموح ولكنها ضد الطمع، وهو أن يحاول الإنسان أن يحصل على الأشياء من دون أي جهد ومن دون أي طاقة، أي يبقى عاطلاً يعيش البطالة فلا يشتغل بل يتطلع فقط لما في أيدي الناس، فهذا لا يحتاج إلى فلاسفة وإنما هي إنسانية الإنسان تفرض هذا.

 

الفصل الخامس

المسائل التربوية



"على الإنسان كلّما ابتُليَ أكثر أن يرجع إلى الله أكثر، وعليه أن يلجأ إلى من عنده الحلّ، وإلى من هو قادرٌ على ذلك، وهو الله عزّ وجل {أليس الله بكافٍ عبده}"


 

موقف الأولاد في نزاعات الوالدين:
س: حصلت مشكلة بين أب وأم بحيث وصل الأمر بالأب إلى طرد الأمر بالأب إلى طرد الأم من المنزل فاضطرّ أحد الأولاد إلى الذهاب مع أمه وسافر الأب إلى عمله وسأل عن الولد فأخبر أنه ليس في البيت مع أنه عاد إليه، ووصلت الأمور إلى حد كبير من التعقيد حيث أن معظم الأولاد وقفوا مع أمهم وقاطعوا أباهم، فما هو واجب الأبناء في هذه الحالة؟
ج: عليهم أن يكونوا الجسر الذي يربط بين الأب والأم، وعليهم أن يحاولوا إعطاء المحبة لأمهم إذا كان مظلومة من قبل الأب، ولكن عليهم أن يوازنوا الأمور.

مخالفة الشرط والعهد في الدعاء:
س: من دعاء التوبة للإمام السجاد(ع) بلسان الإنسان ((ولك يا ربّ شرطي أن لا أعود في مكروهك وضماني أن لا أرجع في مذمومك وعهدي أن أهجر جميع معاصيك)) أفلا يكون في هذا العهد الذي قطعه مع الله كفّارة العهد إذا لم يستطع الابتعاد؟
ج:  إذا فرضنا قصد العهد بمعناه القانوني، فمن الطبيعي جداً أنّ ذلك يحتاج إلى كفّارة.

دوافع الاستمرار في العمل:
س: ما هي أهم الدوافع في نظر الإمام علي(ع) التي تدفع الإنسان المؤمن إلى الاستمرار في طريق العمل لدين الله وخدمة عباده؟
ج:  أهم الدوافع التي تشجّع على مواصلة العمل هي مراقبة الله وإحساس الإنسان بمسؤوليته أمام الله فيما كلّفه سبحانه وتعالى من ذلك.

تقبيل يد العلماء:
س: ما وجهة نظر الإسلام في تقبيل يد العلماء أو الوالدين؟
ج: هذا نوع من أنواع الاحترام، فالإسلام أباح للناس أن يطوّروا وسائل الاحترام مما لم يؤدّ إلى الشرك، وهذا شبيه بما يفعل اليابانيون في الانحناء الذي يشبه الركوع في أثناء التحية، أو كتقبيل الجبهة أو الأنف عند بعض الشعوب العربية، فهذه تعتبر من التقاليد التي لم يتحدّث الإسلام عنه بطريقة سلبية. نعم هناك حديث بالنسبة إلى تقبيل اليد أنها لا تصلح إلا لرسول الله(ص) ومن أُريد به رسول الله، ولذلك فإن احترام العلماء والأتقياء والمجاهدين إنما هو على أساس ما يمثلونه من علاقتهم برسول الله(ص).

الارتباط التفصيلي بالله:
س: يتحدث الشهيد السعيد السيد الصدر(رض) عن أوضاع طالب العلم في الحوزة العلمية ومسيرته فيها وعن أسباب عدم نهوضه بمسؤوليته الرسالية، فيذكر من بين العلل في كتاب (المحنة) عدم وجود الارتباط التفصيلي بالله في حياته، فما الذي يعنيه بالارتباط التفصيلي بالله؟
ج: المقصود هو أن يعرف عظمة الله سبحانه وتعالى ومقام ربه {وأما مَن خافَ مقام ربّه ونَهى النفْسَ عن الهَوَى} (النازعات/40)، وأن يتعرف مواقع عظمة ربه ومواقع نعمه ليخشع أمام ربه، وعند ذلك يعرف قيمة المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى.
فالسيد الشهيد(رض) يريد أن يقول: نحن نعرف الله بطريقة رسمية إجمالية، ولكننا لا نعيش الشعور برقابة الله ولا نعيش الشعور بمحبته {قُلْ إن كنتُم تحِبُّون الله فاتّبعوني يُحبِبْكُم الله ويغْفِر لكُم ذنُوبكُم والله غفورٌ رحيم} (آل عمران/31)، وقوله: {ومِن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحِبّونهم كحُبّ الله والذين آمنُوا أشدّ حباً لله} (البقرة/165)، فالمعرفة التفصيلية تعني أن يشعر الإنسان بأن حياته كلها مرتبطة بالله سبحانه وتعالى وفي تفاصيل حياته كلها وفي مواقع عظمته كلها، علماً أن بعض الآيات تركّز هذا المعنى {وما قدَروا الله حقّ قدْرِهِ والأرضُ جميعاً قبْضَتُهُ يومَ القيامةِ والسماواتُ مطْوِياتٌ بيمينه} (الزمر/67). وما أشبه ذلك.

الفقه والأصول والتقوى:
س: يقول الشهيد المعظّم السيد الصدر(رض) أن الفقه والأصول لا يربيّان في طالب العلم الوجدان والتقوى، فما هي وجهة نظركم في ذلك؟
ج: نحن نتفق مع السيد الشهيد في هذا، لأن الفقه والأصول هي مواد علمية يتحرك فيها الإنسان كما يتحرك في أي مواد علمية أخرى، وغاية الأمر أن هذه المواد العلمية تتصل بعلمه ولكنها لا تربّي له روحه، ولا تربّي له معرفته بالله سبحانه وتعالى.
س: وإذا كنتم تذهبون إلى ما يذهب إليه الشهيد الصدر، فما هو السبيل لإيجاد حالة التقوى والوجدان والضمير الحيّ لدى الدارسين؟
ج: بعلم الأخلاق، بأن نعرف الله سبحانه وتعالى وأن نقرأ القرآن ونفهمه وأن نعرف الله من خلال القرآن ومن خلال المنهج القرآني في التفكير بعظمة الله والتذكّر لنعمه {فذكِّرْ إنْ نفَعَتِ الذِّكْرى* سيذكَّرُ مَنْ يخْشَى* ويتجنَّبُها الأشقى* الذي يصْلَى النار الكُبْرى} (الأعلى/9-12)، {وذكِّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات/55)، فهذه المفاهيم القرآنية في التذكر تجعل قلبك ذاكراً وعقلك وحياتك ذاكرة من خلال ما يعطيه الذكر من مفرداته من معرفة الله سبحانه وتعالى، وهذا هو قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهُم إيماناً وعلى ربّهم يتوكلون} (الأنفال/2).. والمؤسف أنه لا توجد ـ في أغلب الحوزات العلمية ـ دروس أخلاق.

الضنين بوقته:
س: هل ترون أن من هو حريص على وقته سواء كان يصرفه في القراءة والعلم أو مع عياله، يمكنه لو طرق عليه الباب أن يقول لزوجته إن كان عند الطارق شيء مهم فقولي نعم إنه موجود، وإن كان عكس ذلك فقولي له إنه غير موجود، فهل يعتبر كاذباً في هذه الحال؟
ج: لو قالت إنه غير موجود وقصدت عدم وجوده في البيت، فقد كذبت، ولكن إذا فرضنا أنها استعملت التورية بمعنى أن تقول له إنه غير موجود عند الباب وفهم أنه غير موجود في البيت وهي بينها وبين الله كانت تقصد أنه غير موجود في هذا المكان، فهذا يسمّى التورية وهو مما لا ينبغي للإنسان أن يفعله إلا في الحالات الضرورية().

تبنّي يتيم:
س: هناك عائلة على استعداد لتولّي إعالة وتربية يتيم أو يتيمة، بحيث يعيش هذا اليتيم في بيتهم، هل لـ(جمعية المبرات) توفير يتيم لهم؟
ج: هذا يحتاج إلى موافقة أهل اليتيم، مع دراسة وضع هؤلاء الناس الراغبين بالتبنّي، لأن قضية تكفّل اليتيم ليست قضية تكفّل مادي فقط، بل يجب التكفّل التربوية والأجواء المحيطة باليتيم أيضاً.

المستظلون بظلّ الله:
س: جاء في الحديث الشريف عن السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه ((ورجلان تحابّا في الله وافترقا عليه)) فما معنى الحب في الله؟
ج:  يعني أني أحبك لأنك سائر في طريق الله، وأحبك لأنك مسلم، وأحبك لأنك تقي، وأحبك لا لشيء إلا الله وأنت تحبني لذلك، وهذه درجة عظيمة جداً، حيث اعتبرها الرسول الأكرم(ص) أوثق عرى الإيمان.

علاج المشاكل النفسية:
س: هل التمسّك بتعاليم الإسلام قادر على حلّ المشاكل النفسية أم أن منها ما يحتاج إلى الطبّ النفسي؟
ج:  عندما يعيش الإنسان في الأجواء الروحانية، أي عندما يعيش مع الله سبحانه وتعالى ويرجع إلى الله ويبكي بين يديه فإنه يعيش في أجواء الرحمة والأمل والثقة بالله. وأعتقد أن الكثير من الحالات النفسية تزول لأن أغلب العقد النفسية ناتجة عن أننا نراقب الناس وأننا نفكر بردود أفعالهم ونخاف من فلان أن يضرنا أو من فلان أن يؤذينا، لكن عندما ننطلق إلى الله سبحانه وتعالى يكون عندنا ثقة مطلقة به {مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف/87)، ولكن بعض القضايا لها جانب مرضي عميق، فقد نحتاج إلى الطب النفسي بطريقة وبأخرى لمعالجتها.

عدم الذوبان الروحي في الصلاة:
س: في الحديث ((الصلاة عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها))، وهناك العديد من الشبان يعانون من عدم الذوبان الروحي في الصلاة، فكأنما يتلون الصلاة كمحفوظة لا يعون منها سوى ما يقرؤون، فما هي السبل التي تستطيع من خلالها أن نؤدّي الصلاة بحيث تكون عماداً لديننا؟
ج: إن كل عمل يريد أن يقوم به الإنسان لا بد أن يكون واعياً له، بمعنى أنك تعي معنى هذا العمل وما هي غايته وطبيعته وما هي رسالته، فأي عمل تقوم به خصوصاً إذا كان في هذا العمل جانب حركي فلا بد لك أن تعي أبعاده، ففي الصلاة نقف ونكبّر ونركع ونسجد، ولا بد لك أن تسأل لماذا أنا أقف هذه الوقفة؟ وما معنى ما أتكلم به من كلمات؟ ولمن أركع؟ وعلى أي أساس أركع؟ ولمن أسجد، وعلى أي أساس أسجد؟ وهذا النوع من الحركية في الصلاة لا بد أن يفهمها المصلي، فحتى في الرياضة الجسدية إذا أنت لم تفهم طبيعتها ولم تكن عندك ثقافة الرياضة فسوف لا تستطيع أن تنجح في اللعبة الرياضية، ذلك أن الذين ينجحون في اللعب هم الذين يمتلكون ثقافة الحركات الرياضية.
ولذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن نعيش جوّ الصلاة في الأذان والإقامة والتكبير، فمعنى أن تقول (الله أكبر) هو أن جوّك السابق على الصلاة ـ بما فيه من صخب وضوضاء ـ انتقل إلى صلاتك بما فيها من طمأنينة وسكينة، ولكن الوضع سوف يتغير عندما يكون هناك فاصل في الأذان والإقامة، وعندما تذكر بأن الله هو الأكبر ولا إله إلا هو، وأن محمداً رسول الله، ثم تقول لنفسك (حي على الصلاة) أي يا فلان أقبل على الصلاة و(حي على الفلاح) فالفلاح هو في الصلاة و(حي على خير العمل) أي أن الصلاة خير الأعمال، ثم تكبّر بعد الإقامة لتقول لنفسك انفصل عن كل ما يشغلك سابقاً، فقد قامت الصلاة، ثم تأتي للتكبير والفاتحة والسورة الأخرى، ثم تركع وتهوي إلى السجود وإلى ما في ذلك كله من إيحاء ومعنى، فإذا أردتم أن تعيشوا جوّ الصلاة فحاولوا أن تفهموا كل كلمة تتكلمون بها وأن تعرفوا موقعكم بين يدي الله سبحانه وتعالى.

إرشاد الشباب في الواقع المظلم:
س:  بماذا تنصح جيل الشباب الذي يبحث عن شعاع أمل في عالم تلفّه الظلماء من كل مكان ولا يجد من يدلّه أو يوجّهه بصدق، وإذا حاول أن ينهض أثقلته القيود التي كبّل بها الجيل الذي يحاول دون جدوى أن يصلح ما حوله وإذا به يجد نفسه وحيداً في الساحة؟
ج:  إن علينا أن نعيش الثقة بالله والثقة بأنفسنا وأن ندرس الواقع الذي نعيش فيه لنعرف الثغرات التي يمكن أن ننفذ إليها، وعلينا أن نصبر على التجربة {مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف/87). والحياة ـ أيها الأحبة ـ تختصرها التجربة، وإن فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، فعلينا أن نجرّب ونجرّب، ولا بد أن نلتقي في نهاية المطاف بالنتائج الإيجابية.
إننا نجد أن تقدّم العلم سواء في مجال الطب أو غيره انطلق من خلال مواصلة التجربة، فكم من السنين انقضت والعلماء يبحثون عن دواء للسرطان أو دواء للإيدز أو ما إلى ذلك وهم يقتربون تارة ويبتعدون أخرى، وربما إذا لم ينجحوا في عصرهم الراهن فهم يهيئون الفرصة لجيل آخر ولعصر آخر.
لذلك نقول للشباب أن لديكم طاقات يمكن أن تنمّوها وتقوّوها وتطوّروها، وإن لكم إرادة يجب أن تصلّبوها، وإن هناك أفقاً كبيراً يجب أن تقتحموه ولا تيأسوا، لأن الشباب إرادة وعزيمة وقوة، وإذا فقدنا هذه العزيمة في الشباب فمن ذا الذي يمكن أن يبني الحياة ويمكن أن يحمي القضايا الكبرى؟!

طلب الموت في حال اليأس
س:كثيراً ما يتملكني اليأس:والقنوط فأدعو الله على نفسي بالموت أو يريحني عز شأنه بالموت فهل في ذلك معصية من باب عدم الرضا بالقضاء أو هو القنوط واليأس:من روح الله عز وجل
ج :إنّ الله سبحانه وتعالى لا يريد للإنسان أن يدعو على نفسه بالموت نتيجة حالة نفسية ضيقة لأنّ هذه الحالة النفسية الضيقة تختزن في داخلها معنى أنّ الله لن يرحمك ولن يجعل لك من بعد عسر يسراً وقد تكون غافلاً عن ذلك ولكنّ اليأس:يختزن ذلك
والنقطة الثانية من قال إنّك ترتاح بالموت فقد تكون عندك الآن مشكلة عاطفية أو مشكلة مالية أو أية مشكلة أخرى لكنّك عندما تنتقل إلى الموت فهل تثق بأنّ كل حساباتك عند الله سبحانه وتعالى قد صفيت ولذلك لا تتمنى الموت إلاّ بشرط وثيق لأنّك حينئذ تخرج من مشكلة لتواجهك مشكلة فربما كانت لديك حقوق لم تؤدها وصلوات لن تقضها وأناس:أخطأت في حساباتك معهم ولم تتحلل أو تتسامح منهم فأنت كما يقول ذلك الشاعر
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكننا إذا متنا بعثنا ونُسأل بعده عن كل شيء
التستر على المنحرفين
س:ما المقصود بالستر في حديث "ليستر المؤمن أخاه المؤمن" فهل يجوز مثلاً الستر على السارق أو المجرم أو المرتشي أو الكاذب
ج: المقصود بالستر هو ستر عيوبه الخفيّة أمّا العيوب التي لها تأثير سلبي على واقع الحياة الاجتماعية فيجوز التحدث عنها من باب النصيحة للمؤمنين
دعاء طلب الرزق
س:لماذا نقرا دعاء طلب الرزق أليس:الله هو الرزّاق العليم الذي يعلم جميع حاجات عباده
ج: ربما يكون من سبب رزق الله لك أن تدعوه ففي الحديث "قال هل يخرق الدعاء القدر قال الدعاء من القدر" هذا يعني أنّ الله ربما يجعل دعاءك له ضمن تقدير رزقك
رفع الظلامة
س:لو ثبت ثبوتاً شرعياً أنّ شخصاً ظلم آخر وأهانه فهل يكون واجبنا الشرعي المطالبة برفع ظلامته وإذا صمتنا فهل ينطبق علينا القول المشهور"الساكت عن الحقّ شيطان أخرس"
ج: يجوز لنا في بعض الحالات وقد يجب في حالات أخرى والأمر يقدر حسب طبيعة الظلامة
الذنوب وحجب الرحمة
س:إنّ للذنوب الكبيرة أثاراً وعواقب على مرتكبيها ومنها اللعنة من الله فكيف يهتدي التائب من الذنوب والرحمة محجوبة عنه ذلك أنّ الله هو الهادي وبدون هدايته يبقى العبد في ضلالته وبالتالي كيف يمكن للعبد أن يزيح عنه آثار تلك الذنوب
ج: يقول تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون}[الشورى:25] وقد ورد في الحديث"التائب من الذنب كمن لا ذنب له" 3 أي أنّ الآثار الوضعية والآثار التكليفية إذا صحّ التعبير تزول بالتوبة النصوح.

اتهام المتّقي لنفسه:
س: ورد في خطبة المتقين في (نهج البلاغة) أن من صفات المتقين ((فهم لأنفسهم متهمون))، فما معنى ذلك؟
ج: هذا يعني أن المتقي يحاول دائماً أن يتهم نفسه ليكتشف العناصر الخفيّة في داخلها، وعندنا حديث يقول ((إن المؤمن لا يمسي ولا يصبح إلا ونفسه ظنون عنده))( )، فهو يحاول دائماً أن يوجّه لنفسه الاتهام حتى يكتشف واقعها ليرى هل التهمة حقيقية أم غير حقيقية.

اصطحاب الأبناء إلى المساجد:
س: هناك بعض الآباء يقومون باصطحاب أبنائهم إلى صلاة الجماعة وإلى المجالس والمحاضرات، وهذه ظاهرة صحيّة وصحيحة ولكن بعض الآباء لا يفكّرون بذلك، فبماذا توصون هؤلاء الآباء؟
ج: بما أوصاهم اله به {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم/6)، ولا إشكال بأن الإتيان بالأولاد إلى مواقع التذكير بالله والحصول على ثواب الله نوع من أنواع الوقاية الروحية للولد من النار.

الصرع والأرواح الشريرة:
س: هناك بعض المشايخ يرون أن سبب مرض الصرع هو الأرواح الشريرة التي تسكن الشخص المصروع، فهل لهذا صحة؟
ج: ليس هذا صحيحاً، وإنما علينا أن نأخذ المصروع إما لأطباء النفس أو لأطباء الجسد.

تمنّي الموت:
س: هل يجوز للإنسان أن يتمنّى الموت على كلّ حال؟
ج:  لماذا نتمنّى الموت؟ إنّ الشخص إنما يتمنى الموت من جهة أن عنده مشكلة وينسى أنه ربما يقع في مشكلة أكبر بعد الموت، ونعني ما ينتظره بعد الموت من حساب، ولذا ((لا تتمنَّ الموت إلا بشرطٍ وثيق))، أي حينما تستعد وتمهّد لآخرتك فيما يرضي الله حتى إذا جاء عزرائيل ليقبض روحك فإنك تكون قد أمّنت الوصول إلى الجنة، أما إذا كنت تعرف أن عندك ذنوباً كثيرة وتطلب الموت كملاذ منها، فأنت ستتخلص من هذه المشكلة لتقع في مشاكل لا مخرج منها، لأن ((اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل)).
والإمام زين العابدين(ع) يقول في دعاء (مكارم الأخلاق) عندما ذكر مسألة تمنّي الموت (وعمّرني ما كان عمري بذلةً في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتلك إليَّ أو يستحكم غضبك عليَّ))، وفي دعاء (يوم الثلاثاء): ((واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، والوفاة راحةً لي من كل شر))، وفي دعائه إذا ذكر الموت: ((أمتنا مهتدين غير ضالّين، طائعين غير مستكرهين، تائبين غير عاصين ولا مصرين))، ويقول الشاعر عندما يتحدث عن الذين يتمنون الموت:
        ولو أنّا إذا متنا تركنا        لكان الموت راحةَ كلّ حيّ    
        ولكنّا إذا متنا بعثنـا        ونسئل بعده عن كلّ شيء    
لذلك ((لا تتمنّ الموت إلا بركنٍ وثيق)).

البكاء والنواح على الموتى:
س: كيف نحزن على الذين نفقدهم، وهل يجوز البكاء والنواح عليهم؟ وإن فعلنا فهل نأثم؟
ج: إن الله لا يريد للإنسان أن يكون قاسي القلب، بل أن يسير على المنهج الذي جاء به رسول الله(ص): ((تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما لا يرضي الله، وإنا على فقدك يا إبراهيم لمحزونون)).

إهداء ثواب الفاتحة للرسول(ص):
س: ما هو حكم إهداء ثواب سورة الفاتحة للرسول(ص)؟
ج: لا بأس بذلك وهو مما يوحي بالإخلاص للرسول وبالمحبة له.

قطيعة أولي الرحم:
س: من هم أولو الأرحام الذين تحرم قطيعتهم؟
ج: هم أقرباء الإنسان الذي يلتقي نبسه بنسبهم ولكن بشكل ليس بعيداً جداً، فلا يصحّ أن تقول عن بعض العشائر مثل (بني تميم) التي هي من أكبر العشائر الموجودة في العالم أنهم أقرباؤك أو ذوو رحمك كما لو كانوا أعمامك أو أجدادك، وحسب العرف العام فالناس الذي يحيطون بك هم من أرحامك، أما إذا كانوا ينحدرون من عشرين ظهر فلا يُقال عنهم أرحام، نعم يقال عنهم عائلة كبيرة.

حال السائل طالب الصدقة:
س: في الحديث (إذا صدق السائل هلك المسؤول))، تبعاً لهذه المقولة، هل يجب علينا التصدّق على كل سائل يطرق بابنا حتى لو لم نقتنع بوضعه المادي؟
ج: إذا كنت مطمئناً أن هذا غير محتاج، فلا يجوز أن تعطيه، لكن الكلام في إذا كنت شاكاً وظهرت عليه آثار الفقر والحاجة فيجوز ذلك.

الموازنة بين العلم والعبادة:
س: يُذكر في مجال صلاة الليل أن طلب العلم أفضل من هذه الصلاة المستحبة، فهلا سمعنا منكم التوجيهات المناسبة للموازنة بين طلب العلم ومشاغل الإنسان وبين العبادات؟
ج: هذه الفرضيات هي فرضيات غير واقعية.. إذ بإمكانك أن تصلّي صلاة الليل وأن تطلب العلم، إذ ما مقدار ما تأخذه هذه الصلاة من وقت؟ هل هو ربع ساعة أو نصف ساعة أو أكثر أو أقل، فهل هذه المدة الزمنية المحدودة تعطّل الإنسان عن طلب العلم؟ والشارع حلّ هذه المسألة، فبإمكان الإنسان أن يصلي قبل منتصف الليل أو أنه إذا لم يستطع كليةً فبإمكانه أن يقضي صلاة الليل في النهار أيضاً وله ثواب كبير..
وبالنسبة لطالب العلم، فإنه يحتاج إلى الروحانيات أكثر من أي إنسان آخر، لأن الدراسة لوحدها لا تصنع ذلك، وكما يقول الشهيد الثاني ـ أحد علمائنا الكبار ت فإنّ طلب العلم يقسّي القلب، لذا فإن طالب العلم يحتاج إلى أن يكون عنده وقت معين للذكر والصلاة أو أية عبادة أخرى حتى ترقّق قلبه وتليّنه حتى يقوى إيمانه في الجانب الروحي، فعلم الفقه والأصول يحتاج إلى تربية روحية تعيش القرب من الله، بحيث تجعل الطالب يحسب حسابات الله في القضايا كلها.

تبعيض القدوة؟
س: إن مسألة القدوة من المفاهيم المهمّة، ولربما حتى عند غير الإسلاميين؛ لما تلعبه من دور في حياة الأمم والشعوب. والسؤال هو هل القدوة الإسلامية منحصرة بالمعصوم فقط؟ وإذا لم تكن منحصرة به فما هي شروطها خصوصاً إننا لا نجد قدوة متكاملة في جميع الجوانب، وهل يمكن التبعيض في مجال القدوة؟
ج: القدوة مسألة نسبية، فقد يكون الشخص معصوماً يجسّد المبادئ في أفعاله وأقواله كلّها ويكون قدوة في ذلك كلّه، وهذا ما اطلقه الله سبحانه وتعالى بالنسبة إلى رسوله(ص){لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}[الأحزاب؛21] ولكنك ربما تجد إنساناً قدوة في الصدق فتقتدي به في صدقه او قدوة في الأمانة أو تحمل المسؤولية أو ما إلى ذلك. فليس هناك إنساناً كامل فيما عدا المعصومين، لكننا نجد أناساً يملكون من المزايا والقيم والأعمال التي يمكن للناس أن يقتدوا بها لأن قيمة القدوة في أنها تعطيك القيمة الروحية أو القيمة الأخلاقية متجسدة في الأرض. ولهذا يقال أن القدوة هي أعظم من الفكرة لأنها أبلغ في التأثير. فالإمام الصادق(ع) يقول: "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعية"(6). وهذا ما كنّا نتحدث عنه دائماً ونقول إن موقف صدق واحد هو أعظم من ألف محاضرة عن الصدق، ولذلك فنحن نقتدي بالطيبين فيما يملكونه من مواقع الطيبة.
تليين القلب القاسي:
س: إذا قسى قلب الإنسان وماتت العاطفة في داخله فهو قد يفعل بعض الأشياء في سبيل الله ولكن دون عاطفة أو روح، فكيف السبيل إلى تليين القلب وبث روح العاطفة في الفكر والعمل؟
ج: أن يستمر الإنسان في العمل، لأن العمل هو الذي يعطي الإنسان معناه وإن كان بطريقة خفية طويلة، فالعمل يحرّك العاطفة ويليّين القلب، كما أن التفكير في الله وفيما عند الله والتفكير في ما أراد الله للإنسان أن يعيشه كل ذلك يليّن القلوب ويجعلها تخشع لله سبحانه وتعالى. ومن الوسائل الأخرى: الذكر والقرآن والصلاة والدعاء والتأمّل ومحاسبة النفس ودراسة الجوانب الإيجابية في الإنسان الآخر والانفتاح على المأساة، وعندما تتكامل هذه الأمور فإنها تستطيع أن تعيد للقلب ليونته وأن تعيد للإنسان عاطفته.
التعامل مع العصاة:
س: ما هو موقف الإسلام أو ما هي طريقة التعامل التي يجب أن نتعامل بها مع بعض الذين نظنهم أو نعتقد أنهم مؤمنون مع العلم أنهم عصاة لا يصومون ولا يصلون وذلك بغض النظر عن مذاهبهم ودينهم؟
ج: إذا فرضنا أنهم كانوا غير مؤمنين فعلينا أن نتعامل معهم كما نتعامل مع غير المؤمنين وما داموا متجاهرين بالعصيان فعلينا أن نتحدث عنهم بمقام النصيحة للمؤمنين حتى لا يقعوا تحت تأثير المعصية.
التعصب دليل ضعف الإيمان:
س: هل يدل التعصب على ضعف الإيمان؟
ج: نعم، فالمؤمن ملتزم وليس متعصباً، لأن التعصب فيه شيء من العدوان على الآخر، فيما الالتزام فيه شيء من الانفتاح على الآخر.
المجالس النافعة:
س: هل نفهم من حديثكم أن على المؤمنين ان يحوّلوا المجالس إلى مجالس نافعة وتربوية بدلاً من مجالس اللهو والغفلة، أم يكفي في المجالس ان تكون غير متضمّنة للإساءة لفكر الإسلام؟
ج: إن حديثنا كان يتناول جانباً من المنهج التربوي الإسلامي وهو أن ترفض المجالس التي ينتقص فيها الإسلام ورسوله وأولياء الله أو الخط الحركي الإسلامي.
ولكن هناك منهجاً تربوياً آخر في الإسلام وهو أن تكون الداعية إلى الحق بمختلف أساليب الدعوة إلى الله بأن تدعو إلى الله بشكل فردي تارة وبشكل جماعي تارة أخرى وذلك بالتعاون مع الدعاة إلى الله الإدلاء عليه، وأن تهيء المناخ الفكري والروحي والحركي للناس من خلال المجالس والندوات والاجتماعات التي يذكر فيها الله تعالى ويدعى فيها إلى الإيمان بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر، وأن تحرّك الناس نحو الإسلام في مفاهيمه وشرائعه ومناهجه وأساليبه، لأن الإسلام لا يكتفي من الإنسان أن يرفض الباطل وأن يضعفه، بل إنّه لا بد من ان يقوّي الحق وينصره. هذه هي المسالة فلا حيادية بان لا تكون مع الباطل وأن لا تكون مع الحق ضد الباطل. وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين(ع) في (دعاء الصباح والمساء) حيث يقول (اللهم ووفقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه باستعمال الخير وهجران الشّر وشكر النعم واتباع السنن ومجانبة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحياطة الإسلام وإنتقاص الباطل وإذلاله ونصرة الحق وإعزازه".
ان تذل الباطل وأن تنقصه وأن تنصر الحق وتعزّه، فهذا هو الموقف الإسلامي الصحيح.
لذلك لا بد أن تكون مجالسنا ذكر الحق والدعوة إلى الحق وتربية الناس على الإسلام وإيجاد المناخات الإسلامية التي يتنفس فيها الناس جوّ الإسلام، ونبتعد عن أن تكون مجالسنا مجالس اللهو والغفلة والبطالة لأنها مجالس يمقتها الله ولا يرضى عن أهلها.
اتقاء من يبغضه القلب:
س: ورد في الحديث "اتقوا من تبغضه قلوبكم". ألا يتناقض هذا مع الأحاديث الواردة في الحثّ على الحب وودّ المؤمن؟
ج: لا أدري ما هو مدى وثاقة مثل هذه الأحاديث لأن المسألة هي أن على الإنسان ان يأخذ ظاهر المؤمن عندما يريد ان يحكم عليه، ولكن إذا صحّ هذا الحديث فليس المراد رفض من يبغضه قلبك ولكن الحذر منه، وهو عندما تقبل على إنسان وترى ان قلبك يرفضه فإن ذلك قد يكون من فراسة المؤمن، فمعنى ان تحذره هو ان تدرسه جيداً وتدرس سبب هذا الموقف السلبي الشعوري الذي يقفه قلبك منه: هل هو لحالة ذاتية أو لأن لهذا الشخص خلفيات لا تتناسب مع ظاهره وما إلى ذلك.
فهناك إذاً فرق بين الحذر واتقاء الشخص ورفضه، فمثلاً في القول: "اتق شر من أحسنت إليه". يمكن أن يفهم بعض الناس منه أن على الإنسان ان لا يحسن إلى احد لأن كلّ إنسان تحسن إليه سوف يواجهك بالشر، في حين أن معنى ذلك أن عليك أن لا تستسلم لمن أحسنت إليه ولا تقل إني أحسنت إلى فلان فلا يمكن أن يجيئني منه الشر، فمن الممكن أن بعض الناس وليس كلهم يتعقد من الإحسان فيحاول ان يبادلك الخير بالشر تنفيساً لعقدته "وطالما استعبد الإحسان إنساناً"، فاتق شرّه يعني ضع في حسابك ان من الممكن ان يأتيك الشر منه فتعامل معه تعامل الحذر المستسلم.
أزمة الثقة بين الأصدقاء:
س: أنا شاب أعيش أزمة ثقة في الأصدقاء لأنني مررت بعدة تجارب فظهر لي زيف بعضهم أو أنهم لا يتجاوبون معي في العمل، فما هو موقفي منهم؟
ج: إن وجود تجارب سلبية لا يعني أنّ التجارب التي لم تخضها مماثلة لهذه التجربة، فمن الممكن ان يكون الأصدقاء الذين التقيت معهم لا يمثلون الصفات التي تدفعهم إلى الوفاء، ولكن قد يكون هناك أصدقاء كثيرون طيبون، فحاول أن تتابع التجربة ولكن عليك أن تأخذ من تجاربك السابقة درساً لتستفيد منها في تجاربك الجديدة.
هذه نقطة وأما النقطة الثانية فهي ربما تكون المشكلة منك لا من أصدقائك فلماذا تعتبر نفسك في موقع العصمة وأصدقائك في موقع الخطأ، فربما يحمل أصدقاؤك من المشاعر السلبية ضدك ما تحمله منها ضدهم، وربّما يقولون إن فلاناً لم يف لنا وربما أخطأت معهم وربما كنت تطلب منهم ما لا تطلبه من نفسك، لهذا فعليك أن لا تحكم على هذه التجربة بالسوء بل حاول أن تدرس ذلك، أما أنهم لا يتجاوبون معك فبما لا يقتنعون بما قدمت لهم.
التجاوب مع الصديق:
س: هل من المفروض بالصديق أن يتجاوب مع صديقه على طول الخط؟
ج: من قال ذلك؟ أليس لنا أصدقاء نحبهم ويحبوننا ولكن نختلف معهم ويختلفون معنا في بعض الحالات، وقد قال الشاعر:"اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية".
معاملة الصديق بالمثل:
س: ما معنى هذا الحديث "لا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل الذي يرى لنفسه"(5)؟
ج: إن معنى الصداقة لا بد ان تقوم على ان يحب الصديق لصديقه ما يحبّ لنفسه"عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به". فإذا كان يرى لنفسه مالا يرى لك بحيث يرى لنفسه الحق عليك ولا يرى لك الحق عليه، فإن الصداقة عند ذلك تكون من طرف واحد في حين لا بدّ أن تكون الصداقة من طرفين أثنين، بحيث أنك تريد له الخير ويريد هو لك الخير أيضاً، أمّا أن تريد له الخير ولا يريد لك الشيء نفسه فهذه ليست صداقة بل هذا استغلال، فإذا احببت ان تضحي فلا بأس عليك ولكن هذا لا يسمى صداقة.
ارتداء غير العالم العمامة:
س: آباؤنا وأجدادنا لم يدخلوا الحوزات العلمية إلا إنهم يمتلكون ثقافة دينية وفقهية لا بأس بها وربما يخطئون في بعض الأحكام، فهل أن في أرتدائهم العمامة إشكال، وهل ان بيان الحكم الصحيح للناس هو سوء أدب منا إتجاههم؟
ج: غنَّ لبس العمامة لمن لا يملك العلم الذي تمثله العمامة تزيّ الإنسان بغير زيّه، وعلى الإنسان الذي يتزيا بغير زيّه ان يتحمل المسؤولية أمام الله لأنه يخدع الناس ويغشهم في ذلك، ولما كثر عندنا المعمّمون الذين لا يملكون الثقافة العلمية الفقهية الصحيحة، فإن على الناس أن لا يستسلموا لكل من يلبس هذا الزي، وإن كان لا بد من احترام هذا الزي لأنه يمثل رمزاً إسلامياً لكن لا ينبغي أن تستسلموا لكل معمّم إلا من تثقون بعلمه ودينه، وإني لأسألكم، فلو فرضنا أن أحد الأشخاص أتاك وطلب منك أن تقرضه مالاً وأنت لا تعرف سوى أنه معمّم هل تعطيه بلا تحر أو أنك تسأل عنه؟! بل حتى مع غير المعمم فإذا أردت أن تعطي إنساناً مالاً فكيف يمكن لك أن تفعل ذلك من دون تدقيق ومن دون معرفة. أما بيان الحكم الصحيح للناس فلا يعدّ سوء أدب منا تجاههم لأنهم إذا كانوا يعطون الحكم الخطأ للناس، فعلينا أن نصححّ لهم حكمهم على طريقة {وصاحبهما في الدنيا معروفاً}[لقمان؛15]. وبالأسلوب الطيب{أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة][النحل؛125].
السلام على تارك الصلاة:
س: هناك حديث عن رسول الله(ص) يقول "لا تسلموا على تارك الصلاة"، فهل يمكن العمل بهذا النص أم أن له ظروفاً خاصة لا بد أن تتهيأ حتى يمكن الالتزام بالنص المذكور؟
ج: إنّ المقصود من هذا لإعلان الرفض لترك الصلاة وإعلان الإنكار عليه باعتبار أن السلام يمثل المسالمة والمحبة وما إلى ذلك، والمسلم التارك للصلاة لا بد من ان ننكر عليه عصيانه من باب إنكار المنكر، أما إذا كان هناك بعض المصالح أو أن السلام عليه ربّما يجذبه ويجعلنا نستطيع أن نربح قلبه وصداقته وتستعمل ذلك لهدايته فعند ذلك تكون المسألة عكسية.
الغيبة أشدّ من الزنا:
س: ما رأيكم في حديث الإمام الصادق(ع) "إياكم والغيبة فإن الغيبة أشدّ من الزنا أن الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه وأن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه". فهل أن هذا الحديث يخفف من الزنا مقابل الغيبة؟
ج: هو لا يسهّل الزنا ولكنه يقوّي الرفض للغيبة لأن الزنا محرم{كان فاحشة وساء سبيلا}[الإسراء؛32] وإنما أراد ان يقول إذا كان الله سبحانه وتعالى يغفر برحمته للزاني زناه فإن غفرانه له لا يتوقف على شيء، بينما الغفران للإنسان الذي يغتاب الناس يعدّ من حقوق الناس، فالله سبحانه وتعالى لا يغفر للمغتاب غيبته حتى يغفرها صاحبها، وكلاهما ارتكب كبيرة فالغيبة من الكبائر والزنا من الكبائر والله سبحانه وتعالى قد يغفر لصاحب الكبيرة كبيرته ولكن من يغتاب الناس لا يغفر الله له غيبته إلا إذا غفر له صاحبها.
جديد عهد بالإسلام:
س: كنت جديد عهد بالإسلام وفي بداية تجربتي قرات كتباً فكرية قيّمة، لكنني أدخلت أمراضي النفسية إلى إسلامي فكان فكري هو فكر تلك الكتب القيمة لكن عملي هو عمل الشخص صاحب تلك الأمراض التي لم يتخلص منها بعد، فخسرت الكثير من القلوب فكيف السبيل إلى معالجة ذلك: هل أصمت حتى أقوّي إسلامي أو لا أقول الحقيقة النظرية التي أؤمن بها ولا أبين الخط حتى أتمكن من تطبيقه، أم أن هناك حلاً آخر؟
ج: عليك ان تحاول تربية نفسك على الإسلام ولا يكفي ان تحمله نظرياً وفكرياً بل لا بدّ لك من ان تربّي نفسك على الإسلام من خلال أخلاقية الإسلام وأن تجاهد نفسك في ما ورثته من عهد كفرك من الأخلاق غير الإسلامية.
رفع اليد نحو السماء:
س: إذا كان الله ـ جل جلاله ـ لا يحدّه مكان ولا يجري عليه زمان ولا هو في جهة محدّدة، فلماذا نرفع أيدينا في الدعاء نحو السماء؟
ج: لعل ذلك من جهة ان الله يمثل قمة السمّو وقمة العلو باعتبار علو مكانته وعلوّ موقعه، فالمسألة مسألة رمزية وليست مكانية، لأننا لو صعدنا إلى هذه السماء لرأينا أن الأرض سماء أيضاً فهذه كلّها كواكب متناثرة في الفضاء، أن المسألة هي أقرب إلى الرمز منها إلى الحقيقة، ثم ان حركة اليد في الاستعطاء تأخذ هذا الشكل، وفي الدعاء "فأليك يا رب نصبت وجهي وإليك يا رب مددت يدي".
الخطيب الذي يستغيب:
س: هل يجوز الاستماع إلى الخطيب الذي يستغيب المؤمنين؟
ج: علينا أن لا نشجّع من يكون ديدنه اغتياب وهتك المؤمنين حرمتهم، ولا سيما هتك حرمة العلماء، حيث ينبغي لنا كما قلنا في حديث الأسبوع الماضي أن على الناس عندما يجدون خطيباً يتحدث في غيبة المؤمنين ويهتك حرمة العلماء المجاهدين ان يقوموا من المجلس احتجاجاً عليه حتى يعرف كيف يتوازن في ذلك، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إزعاج الناس:
س: يحرم عندنا إزعاج الناس، فهل هناك فرق بين ما إذا كان ذلك بمضامين حقة وبين ما إذا لم يكن كذلك؟
ج: لا فرق بين الأمرين، إذ لا يجوز لنا ان نفرض أصواتنا العالية على الناس حتى نمنعهم من النوم أو القراءة او من الراحة، ولذلك حرّمنا إطلاق مكبّرات الصوت من اجل الاحتفالات بما يزعج الناس ويمنعهم من النوم. وهكذا بالنسبة إلى الناس في رفع صوت التلفاز أو المسجّلة او المذياع إلى أعلى درجة، فهذا تخلّف من جهة وحرام من جهة ثانية لأنه يزعج الناس إلا في الحالات التي تكون هناك قضية فوق العادة تقتضي إيصال ذلك إلى الناس، لأننا في الشرق أصبحنا نعيش هذه العادات فنعمل على أساس تحويل مناطقنا إلى مناطق لا يستطيع الإنسان ان يجد فيها طعم الراحة، والله يريد لنا ان يكون ذوقنا ذوقاً مرهفاً في الصوت سواء ما نطلقه من صوت او ما نسمعه من صوت أو ما نحرّكه من صوت.
اليأس من مستقبل العراق:
س: أعيش في أمريكا وأشعر بالإحباط بسبب أوضاع العراق وتردي أحوال الناس هناك بالموت طوال الوقت؟
ج: يقول تعالى( ولا تيئسوا من روح الله انه لا ييئس من روح إلا القوم الكافرون) [يوسف:87] ويقول عز وجل ( سيجعل الله بعد عسر يسرا) [الطلاق؛7] ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا*ويرزقه من حيث لا يحتسب) [الطلاق؛ 2ـ3] فيجب عليك أن تعيش الأمل والثقة بالله وعليك أن تنتظر الفرج في كل ساعة ( إنهم يرونه بعيداً*ونراه قريباً) [المعارج:6 ـ7] سواء الفرج الصغير أو الفرج الكبير عجل الله فرجه وسهل مخرجه وجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه.

معرفة عفة المرأة:
س: إن من أهم الأمور التي ينبغي ان تكون في المرأة هي العفة فكيف للإنسان أن يعرف العفة في المرأة في حال التقدم لخطبتها دون معرفة؟
ج: كما أن العفة مطلوبة في المرأة كذلك هي في الرجل، فعفته أن لا يزني ولا يرتكب الفواحش، ولقد سال أحدهم النبي(ص) قال: من أتزوج؟ يا رسول الله قال"عليك بذات الدين" فالمرأة المتدينة يمنعها دينها من منافيات العفة، أما بالنسبة للواقع الاجتماعي فيمكن للإنسان أن يتعرف على ذلك من خلال السؤال والشهود والمعارف.
أسباب عدم التوفيق:
س: كلما نويت أن أعمل عملاً، مهما كان هذا العمل، أرى نفسي غير موفقة ولا يتم العمل، فما هي الأسباب في ذلك، وهل من نصيحة تنصحوننا بها؟
ج: ربما كان عدم التوفيق ناشئاً من ظروف طبيعية عادية في الواقع وليس من الضروري أن تكوني إنسانة غير موفقة عند الله، فالله تعالى جعل للتوفيق أسباباً ولعدم التوفيق أسبابا، فيمكن أن تمر عليك بعض الأسباب التي لا ينجح العمل فيها، لهذا عليك أن تتابعي التجربة وإن شاء الله {سيجعل الله بعد عسر يسرا}[الطلاق:7].
على المرء أن يسعى بمقدار جهده                  وليس عليه أن يكون موفّقا
غفران العقوق والإضرار بالناس:
س: يقول تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك}[النساء؛48] والحديث يقول"إن الذنوب التي لا تغفر هي الإشراك بالله وعقوق الوالدين والإضرار بالناس" فما رأيكم؟
ج: بالنسبة لعقوق الوالدين والإضرار قد تكون باعتبار أنها الذنوب التي لا يغفرها الله إلا أن يغفرها صاحبها، ولكن الشرك بالله لا يغفر مطلقاً، وقد ورد في الحديث "الغيبة أشد من الزنا،قالوا كيف ذلك؟ قال: الزنا قد يغفره الله ولكن الغيبة لا يغفرها الله حتى يغفرها لصاحبها" ذلك من جهة تعلق حق الغير بها.
دعوة الزوجة للصلاة:
س: إن زوجتي لا تصلي ولا تلتزم بأكثر الواجبات فما هو تكليفي الشرعي اتجاهها؟
ج: يقول تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}[النحل:125]. ولقد قلنا دائماً من يريد أن يتزوج فإن عليه قبل كل شيء أن يفهم الشخص الآخر ويفهم نقاط الضعف ونقاط القوة لديه. ولذلك نقول لهذا الشخص حاول أن تفهم زوجتك جيداً وتعامل معها من منطلق الفهم الواعي لكل جوانب شخصيتها بحيث تركز وتنمي الإيجابي عندها وتقلل أو تزيل السلبي لديها ولكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالاكراه والتعنيف وإثارة ردود الفعل السلبية أو العكسية.
متابعة العبادات:
س: ذكرتم في حديث المقدمة ان الحياة لا ينبغي ان تكون عبادة كلّها صلاة أو حجّاً أو صوماً إلاّ أن الإمام الصادق(ع) يقول "لا أحبّ لأحدكم أن ينتهي من الحجّ إلا ويبدأ بالاستعداد لحج آخر"؟
ج: لا مانع من ذلك فهذا كناية عن ان على الإنسان أن يتابع الحجّ، لكن ليس معناه أن ينفق حياته كلّها في الحج ويعطّل أعماله وأموره المهمة الأخرى بما يجهد نفسه وبما يبغّض العمل من نفسه.
حقوق الجار والصديق غير المسلم:
س: ما هو تكليفنا الشرعي اتجاه الجار والصديق غير المسلم؟
ج: للجار حق الجوار حتى لو كان كافراً، وقد ورد في الحديث أن "للإنسان ثلاث حقوق وهو جار الرحم المسلم، وقد يكون حقان وهو الجار الرحم، وقد يكون له حق واحد وهو الجار الكافر". أمّا الصديق غير المسلم فأن تكون أخلاقك معه جيدة باعتبار أنّ له حق الصحبة.
المعرفة بالتهذيب:
س: قال أمير المؤمنين(ع) "ليس العلم في السماء فينزل إليكم وليس في الأرض فيصعد إليكم وإنما هو مجبول في صدوركم فتخلقوا بأخلاق الروحانيين يظهر إليكم". فما هو قولكم بالمعرفة عن طريق تهذيب النفس بمقدار من العلم يصل بعدها إلى مراتب عليا؟
ج: إن الله لم يرد للإنسان في الجانب المعرفي بان يهذب نفسه بطريقة ذاتية تلقائية فقط، وإنما انزل الكتب وأرسل الأنبياء وأراد للناس أن يفكروا في خلق السماوات والأرض، وأن يسيروا في الأرض ليعتبروا أن الله أراد للإنسان ان يأخذ المعرفة من مصادرها المتعددة سواء من تأملاته أو قراءاته او من تجاربه او حواراته مع الآخرين. وهذا هو الذي يهيّئ للإنسان المؤمن الوسائل المعرفية للارتفاع إلى مستوى الروحانيين من خلال المعرفة الصافية لأخلاقهم، ليقتدي بهم بطريقة وأخرى، ولا يكفي في ذلك الاستغراق في الجانب الذاتي.
صيغة الأمر في (استجب لي):
س: في الدعاء "اللهم إني أدعوك كما أمرتني فاستجب لي كما وعدتني". هناك نوع من صيغة الأمر بعبارة فاستجب؟
ج: ليس في كل صيغة أمرٍ أمرٌ، بل إن الأمر إذا كان صادرا من العالي إلى الداني فإنه يصبح أمرا، أما إذا كان من الداني إلى العالي فيصبح توسلا وخضوعاً ودعاء.
القواطع الأربعة:
س: قرأنا في بعض الحكم: احذر القواطع الأربعة "كثرة المنام وكثرة الطعام وكثرة الكلام وكثرة الجلوس مع الأنام" فما هو تعليقكم على هذه الحكمة، وما هو المراد من الجلوس مع الأنام؟
هذه حكمة سجعيّة، لكنّ مفاهيمها معقولة، وكثرة الجلوس مع الأنام تأتي في مقابل أن يخلو الإنسان مع نفسه، وأن يتأمّل ليستطيع أن يتعرّف على عظمة الله ونعمه وأن يتعرّف على نفسه وما هو المطلوب منها، وليس مجرّد الجلوس مع الأنام أمراً سلبيّاً ولكن كثرة الجلوس التي تمنعه من التأمل والتدبر والصمت والعمل.

مزاج الرسالة الإلهية:
س: تكررون القول وتؤكدون أن الإنسان المسلم ينبغي أن يتصرف مع الناس والأحداث وفق مزاج الرسالة وليس وفق مزاجه الذاتي الشخصي، والسؤال هو كيف للمؤمن الوصول إلى مستوى التصرّف وفق مزاج الرسالة الإلهية؟
ج: كنت أقول ذلك على أساس أن الذين يتحركون في القضايا العامة، سواء كانت قضايا رسالية في الدعوة إلى الله، أو كانت قضايا المسؤولية الهامة، يعيش أحدهم مزاجاً انفعالياً حاداً اتجاه فريق من الناس كما لو كانت لديه عداوة أو عقدة ضد بعض الناس، فإذا أراد الإنسان أن ينطلق في القضايا العامة أو القضايا الرسالية على أساس أن يحرّك انفعالاته الذاتية أو مزاجه الحّاد في عداوة هذا وبغض ذاك أو في عقدته النفسية من هذا الشخص أو تلك الجماعة، فإنه قد يسيء للقضايا العامة وقد يسيء للرسالة التي تحتاج في بعض الحالات إلى أن يتسع صدرك لأعدائك حتى تستطيع أن تحطّم عداوتهم، وقد تحتاج في بعض الحالات إلى أن تسكت عمّن يسبّك أو يتهمّك أو ما أشبه ذلك، فلو تصرفّت هنا بردّ الفعل فربما تعطل الخطة، لأن الإنسان عندما يكون مسؤولاً عن الجوّ العام فلا بد أن يتسع صدره لأعدائه ولأصدقائه. ولهذا نقول إن الإنسان عندما يريد أن ينطلق في القضايا العامّة كمسؤول على مستوى الأمة وعلى مستوى الجماعة، فإن عليه أن يضع مزاجه جانباً إذا كان يشتمل على بعض السلبيات، وأن يتحرك بمزاج الرسالة ومقتضاها {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}[الإسراء:53]، {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}[النحل:125]،{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}[فصلت:34]... إلى غير ذلك، فالمزاج الرسالي، أو لنقل الخط والمنهج الرسالي، يقول لك افتح قلبك للآخر حتى تكسبه أو تحيّده، وهذا ما ورد في كلمة الإمام علي(ع): "احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك". أي بادر إلى أن تقتلع البغضاء والعداوة من قلبك أولاً. أمّا كيف يربّي الإنسان نفسه على أن يكون رسالياً، فعليه أن يقتدي برسول الله(ص)، وقد دعانا الله تعالى إلى ذلك:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}[الأحزاب:21]. فلقد كان خلق رسول الله(ص) القرآن، كما قالت إحدى زوجاته، ومن بين أخلاقه رفقه{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}[آل عمران :159]. فإن علينا أن ندرس القرآن في أخلاقه والنتائج الإيجابية من قيمه، وأن ندرس رسول الله(ص) والأئمة (ع) في أخلاقهم حتى نستطيع أن نصوغ أنفسنا صياغة إسلامية.
إنّ الإسلام يريد منا ـ أيها الأحبة ـ أن نكون إسلاماً يتحرك في عقولنا وقلوبنا وحركتنا.. فكن صورة الإسلام بحيث إذا رآك الناس رأوا الإسلام من خلالك، وهذا ما قاله إمامنا جعفر الصادق(ع): "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعية". كونوا دعاة صامتين بحيث تتحرك الدعوة من خلال هذا الصمت الروحاني والأخلاقي والسلوكي الذي لا تخرقه بالكلام ولكنه يتمثل فيك بحيث إذا رآك الناس قالوا هذا هو الصدق وهذه هي الأمانة وهذا هو الورع.
السهر حتى ساعة متأخرة:
س: هناك بعض الناس يسهرون ليلاً حتى ساعة الفجر وقبيل أذان الفجر بنصف ساعة ينامون فلا يقومون لصلاة الصبح، فهل يكون سهرهم جائزاً أو محرماً لفوات صلاة الصبح أداءً؟
ج: لا يحرم عليهم السهر، ولكن في بعض الحالات يخسرون أكثر مما يحصلون عليه من الراحة والاسترخاء والثرثرة، ولقد ذكرت مراراً هذا المثل الافتراضي، فلو أن أحدهم قال لك إذا صليت صلاة الصبح أعطيك مكافأة، ألا تأخذ المنبهات حتى تسهر حتى ساعة الصلاة.. فلنتذكر قول الله عز وجل:،{المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً}[الكهف:46]. لذلك فإذا كان الإنسان مؤمناً فعليه أن يشعر بأن ما عند الله هو الذي يبقى له وهو الذي ينبغي له أن يصرف نشاطه كله وهمّه كله من أجله.
ارتكاب البالغ للذنوب:
س:هل يوجد فرق بين البالغ والبالغ الراشد بالنسبة لارتكاب بعض الذنوب؟
ج: لا يجوز ارتكاب الذنوب للبالغ، سواء كان راشداً أو غير راشد.
اكتئاب مانع للصلاة:
س: عندي اكتئاب حادّ لدرجة أنني أترك الصلاة، فما هو العلاج؟
ج: عليك أن تنفتح على الله تعالى وأن تلتفت إلى قوله عز وجل:{ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}[يوسف:87]. وعليك أن تعيش الأمل الكبير في الحياة من خلال الإيمان بالله ورحمته ولطفه بعباده.
الرياء الخفي:
س: ما هو الرياء الخفيّ وكيف السبيل إلى التخلص منه؟
ج: إن الرياء الخفيّ هو عبارة عن الأحاسيس النفسية التي تنطلق لدى الإنسان من حالة ربما لا يستشعرها بشكل مباشر ولكنه يعيشها في نفسه، كأن يعمل ليراه الناس أو ليمدحوه تارة بشكل بارز وظاهر في مشاعره وتارة بشكل غير بارز فيها، ولكنه شيء يعيشه بطريقة لا شعورية.
ضعف العلاقة مع الله:
س:تراكمت عليّ النوائب فأصبت بوهن في العلاقة مع ربي، فكيف التخلص من ذلك لا سيما أن النوائب تزداد حدّة؟
ج: على الإنسان كلما ابتلي أكثر أن يرجع إلى الله أكثر، وعليه أن يلجأ إلى من عنده الحل وإلى من هو قادر على ذلك، وهو الله عز وجل{أليس الله بكاف عبده} [الزمر:36].
عمل الواعظ بوعظه:
س: بالنسبة للعامل الرسالي أي الذي انتهج الوعظ هل يجب أن يكون عاملاً بما يقول أم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيء والعمل به شي آخر؟
ج: من الطبيعي أن على الإنسان الذي يأمر بشيء أن يلتزم به، فمعنى أن يقول للناس إن هذا هو الذي يصلح أمركم وهو الذي ينقذكم ان يكون أول مصدق به وبالتالي أول عامل به، فإذا رآه الناس غير عامل بما قال فإنهم قد يشكون في صدقية ما قال ويقولون لو كان هذا صادقاً في كلامه لعمل به. ولذلك فإن المسألة تتصل في نفس رسالة الوعظ. ونحن نعرف أن الله قد تحدث عن هذه الظاهرة بقوله {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}[البقرة:44]. وهكذا في قوله {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}[الصف:2ـ3]. ومن الطبيعي ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب حتى لو لم يعمل بهما الإنسان لكن هذا لا يحقق نتائج طيبة ومؤثرة من خلال المساحة الفاصلة بين القول والفعل التي قد تجعل الناس يشكون في صدقية القائل وما قال.
اتخاذا ابليس شماعة لأخطائنا:
س: إبليس هو ذلك العنصر الذي يمثل الشر كله ويحاول جاهداً بكل أسلوب أن يوقع الإنسان في الحيرة والمتاهات في سبيل أن يجعله حطبا لجنهم، لكن بعض الناس يحاولون ان يحملوه أخطائهم بحيث أنهم كلما اخطأوا خطيئة قالوا: لعن الله إبليس فهو السبب، فما هو تعليقكم؟
ج: إن الله يحدثنا عن إبليس عندما يقول{مثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك}. أي لا تحملني مشكلتك {إني أخاف الله رب العالمين}[الحشر:16]. والأهم من ذلك هو أن الله يحدثنا عن مشاهد القيامة في القرآن فيقول {وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}[إبراهيم:21]. {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق}[إبراهيم:22]. كما في قوله تعالى{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شر يره}ل[الزلزلة:7ـ8]. {ووعدتكم فأخلفتم}. والله تعالى بين لكم هذا الشيء {لأن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}[فاطر:6].{وما كان لي عليكم من سلطان}. فلست أقدر أن أحول الإنسان المؤمن إلى كافر أو الإنسان الملتزم إلى فاسق فالله تعالى يقول {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}[الحجر:42]. {إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي}. في وقت اللهو والفساد والظلم {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم}[إبراهيم:22]. فأنا أرفض بأن تشركوني بالله وأنتم الذي تتحملون مسؤوليتكم في ذلك.
ثقافة المراهق:
س: ما هي الثقافة التي يحتاجها المراهق؟
ج: أن تعطيه عناوين الخير وعناوين الالتزام بما يتناسب مع عقله لتجنبه فترة المراهقة.
أخلاق الشيعة:
س: لماذا لا تقف الحوزات موقفا سلبيا من التعصب اللاأخلاقي للشيعة فإننا نرى شيعة هذا البلد قد لا يحبون شيعة البلد الآخر، وشيعة هذه المحافظة لا يحبون شيعة المحافظة الأخرى، فهل نحن حقا حز//ب الله الغالبون؟
ج: هؤلاء لا يصدق عليهم أنهم حز//ب الله، فحزب الله هم الذين يحبون في الله ويبغضون في خط الله، أما إذا كانوا يحبون من يخالف السير في خط الله، أو يبغضون من هو سائر على خط الله، فعليهم أن يعيدوا النظر في إيمانهم. وقد ورد في الحديث عن أئمة أهل البيت(ع) "إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع من أحب".
ولا بد أن نلاحظ في موضوع السؤال أنَّ الله يقول (إنما المؤمنون إخوة) ويقول النبي محمد(ص) : "مَثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى". ممّا يؤكّد ضرورة الإحساس بالارتباط العضوي بين المؤمنين بحيث يكون الإيمان هو الأساس في توثيق العلاقة وتأكيد الرابطة، فلا تؤثر فيها الخصوصيات الإقليمية أو العائلية أو الذاتية التي لا بد من التغلّب على سلبياتها بالروح الإيمانية في القاعدة الإسلامية التي أكّدها النبي محمد(ص) : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره". ممَّا يوحي بأنّ الإيمان يفرض الحبَّ للمؤمن أيًّا كانت انتماءاته الأخرى.
السبيل للتخلص من آفات اللسان:
س : كيف نكافح شهوة الاغتياب وفضح الأسرار ومحاولة كشف المستور لنتخلص من عورات اللسان مع معرفتنا بأضرار الغيبة وإذاعة السر في مختلف الجوانب في الدنيا والآخرة؟
ج : عندما تحس بحضور الله أكثر، وعندما تحس بمعنى الآخرة أكثر وبلذعات النار أكثر وبإنسانيتك أكثر ستكافح هذه الشهوة المردية، والله سبحانه وتعالى قدم لنا الغيبة بقوله {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} [الحجرات:12]، بطريقة مقززة تمثل الإنسان كوحش لأن كرامة الإنسان أعظم من لحمه، ألا يقول لك أحدهم لو تقطع لحمي أهون من أن تمس كرامتي؟! ثم "اجتنبوا الغيبة ـ كما في الحديث ـ "فإنها أدام كلاب أهل النار".وعندنا "إن الغيبة أشد من الزنا. قالوا: كيف؟ قال: لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه ولكن الغيبة لا يغفرها الله إلا إذا غفرها صاحبها". فعندما نتعمق في هذه الأمور بالآخرة وبالدنيا وبلذعات النار، تبرد عند ذلك الشهوة لهذا الانحراف، فكما أن عندنا ثلاجات تبرد الماء والأكل نريد (ثلاجات أخلاقية) تبرد لنا الشهوات وهي التقوى {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 1 ـ 2]. فإذا عشنا القرآن فإننا نعيش هذا الجو الوقائي.
تأثير وسائل الإعلام الغربية على الشباب:
س : نرجو أن تشرحوا لنا مدى تأثير وسائل الإعلام على الشباب والمراهقين خاصة الذين يعيشون في الغرب؟
ج : إن وسائل الإعلام التي تخاطب في الشباب غرائزه الجنسية أو تخاطب عنصر الجريمة الذي قد يكون كامناً فيه وما إلى ذلك تضل كثيراً من الناس وليس الشبان فقط، لكن الإنسان الذي يعيش دائماً مع نفسه ومع ربه يستطيع أن يحمي نفسه من ذلك. لذلك نحتاج أن نعيش مع شبابنا كما نعيش مع أنفسنا ونربيهم بحيث نعمق القيم في نفوسهم، لكننا في شغل عن شبابنا بل حتى في شغل عن أولادنا فمن منا يعرف ماذا التقط ابنه في المدرسة أو ماذا التقط من هذا الفيلم أو من هذه القصة أو من تلك الجماعة أو ماذا التقط من هؤلاء أو أولئك الرفاق؟، المهم عندنا هو أن نطعمهم ونكسوهم فنحن للأسف مع أولادنا في الخارج وليس معهم من الداخل بل أتصور أن بعض العاملين في حقل الوعظ والإرشاد لا يعيشون مشاكل الشباب لأنهم لا يعيشون مع الشباب، لذا يجب أن تعيش مشاكل الشباب وأحلامهم وآلامهم وشهواتهم وانحرافاتهم وأن تقرأهم قراءة مباشرة وبالكتب التي يقرأونها، وفي بعض الحالات قد يحتاج الواعظ والمرشد إلى أن يقرأ المجلات الفنية حتى يعرف كيف يتأثر الشاب بهذا الممثل وهذا المغني وذاك الفنان، ذلك أن عناصر التأثير هي من بين عناصر ثقافة الشباب، ومع كل هذا أعرف كثيراً من الشباب المؤمنين في الغرب تقدم لهم المعصية على طبق من ذهب وهم من أشد الناس التزاماً وجهاداً لأنفسهم لأنهم عاشوا الإيمان بعمق ولم يعيشوه في السطح.
غلبة الشهوات على العقل:
س : في (نهج البلاغة) من كلام لعلي(ع) "الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع فاستر خلل خلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك". والسؤال إننا في أكثر الأحيان نلاحظ أن هوى النفس والشهوات هي التي تتغلب على العقل فكيف يمكن لنا أن نجعل العقل يتغلب على تلك الشهوات؟
ج : أتعرفون لماذا تتغلب الشهوات على العقل، لأننا نعطي العقل إجازة، في حين يمكنك أن تعطي إجازة لكل شيء إلا العقل، فلماذا مثلاً حرم الله الخمر؟ لأنه يريدك أن تكون مسؤولاً في جميع فصول أو تفاصيل حياتك وعند شربك الخمر يذهب عقلك لذلك كان ذلك سبباً مهماً من أسباب تحريمه، فالمشكلة هي أننا لا نربي عقولنا بل نربي شهواتنا وغرائزنا ولا ندرس الأشياء التي تملأ عقولنا بالحقيقة ونوجهها نحو الحق ونربيها على الصلابة والقوة والانفتاح. كما نربّي أنفسنا على سعة الصدر الذي يغطي نقاط الضعف في شخصياتنا.
الأخلاق والفطرة:
س: ما الفرق بين الخلاق والفطرة؟
ج: الفطرة هي عبارة عن عمق الجوهر الإنساني الذي أودعه الله في أصل خلقه الإنسان، وهي ما جبل عليه من الإيمان بالله تعالى والتي بها ينفتح الإنسان على حقيقة التوحيد، وربما كانت بعض الأخلاق من الفطرة ولكن بعضها الآخر يأتي من خلال الوحي والتشريع.
ترويض النفس الغاضبة:
س: في بعض الأحيان يثار الإنسان ويغضب فكيف يروّض نفسه؟
ج: عليه أن يجاهد نفسه ويلقنّها أن هذا شيء يغضب الله، وأن نتائجه الشخصية عليه والاجتماعية على المحيطين به سلبية ومؤذية ومنفّرة.
تسمية المحلات المشبوهة بأسماء الصالحين:
س:هناك محلات بأسماء بعض الأئمة(ع) أو بأسماء بعض الصحابة ولكنها تمتهن أعمال مشينة؟
ج: لا يجوز ذلك، ففي ذلك إهانة وهتك حرمة من جهة أنها إهانة للاسم المحترم في هذا المجال.
اللعن على العقوق:
س: سمعت حديثاً ينسب للإمام الصادق(ع) يقول"لعن الله إمرءًا أعان ابنه على العقوق". فكيف يمكن اللعن في ذلك؟
ج: أي أنه يجبره بتصرفاته غير المسؤولة على عقوقه ومجافاته وعدم الإحسان إليه. وهناك حديث في قبال هذا يقول"رحم الله من أعان ولده على برّه. قال: قلت كيف يعينه على بره قال: يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به فليس بينه وبين أن يصير في حد من حدود الكفر ألا أن يدخل في عقوق أو قطيعة رحم". وقد قلنا إنَّ اللعن غير المباشر ـ للعنوان ـ لا إشكال فيه.
المتبرجات اللواتي يزرن العتبات المقدسة:
س: كثيراً ما نرى المتبرجات واللابسات الملابس غير اللائقة يقمن بزيارة السيدة زينب(ع) فهل من كلمة اتجاه ذلك وبالذات إلى أولياء الأمور كالآباء والأزواج والأخوة؟
ج: نحن نقول بأن زيارة السيدة زينب(ع) مستحبّة ولكن التبرّج حرام، فإذا كان المقصود من الزيارة الحصول على الثواب والتقرب من الله فإن الالتزام بحدود الله في ذلك متعين. وعلينا أن ننكر ذلك. وأن نوجههم إلى التصرف الصحيح، ولكن علينا أيضاً أن لا نخرج هؤلاء عن الإسلام فنحن ننكر التبرج والسفور ولكن الزيارة جانب إيجابي. فيمكن استثمار هذا الأمر بغير تثقيف الناس من غير الملتزمين، وربما اطّلعوا على الدين أكثر فيكون سبباً في هدايتهم، وبعبارة أخرى فلا بدّ أن يكون الإنكار وسيلة للهداية لا للتنفير.
السب بدل الضرب:
س: السب هو رد فعل يحصل للمرء أحياناً فإذا استعمله بدلاً من اليد تنفيساً لغضبه فهل في هذا عيب؟
ج: تارة يسب إنساناً رداً على سبه وهذا جائز باعتبار{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}[البقرة:194] فإذا سب شخصك فلا تسبّ أبوه أو أمه فهذا لا يجوز، وإذا سبّك بالحق أي بشيء موجود فيك وسببته بشيء غير موجود فيه فهذا يصبح بهتاناً. فلو لأن الشهوة دفعت إنساناً بدلاً من ان يزني إلى ان يقبل امرأة أو يداعبها فهل تصبح المسألة حلالاً؟ كلا.. فهذا وذلك حرام إذا ليس هناك حرام بنسبة 10% أو 50% بل كله حرام وعليك ان تجاهد نفسك وان لا تعصي في ذلك كلّه.
كيفية التوازن
س: طلب منا الإسلام كما ذكرتم التوازن ولكننا نجد في واقعنا أن أكثر الناس يعيشون بين التفريط والإفراط، والسؤال هنا ما هو العامل الذي يجعل من الإنسان المسلم متوازناً؟
ج: عليه أن يفهم الإسلام فهماً جيداً، لأن مشكلة الكثير من الناس انهم ينفتحون على جانب واحد من الإسلام ولا ينفتحون على الجانب الآخر. فبعضهم مثلاً قد يعيش العزلة في نفسه على أساس أن العزلة هي التي تنجيه من الانحراف لأنه قرأ أحاديث العزلة وأخذ بها. وبعض الناس يعيش النشاط أو العلاقات الاجتماعية كأوسع ما يكون ولا يحاول أن يعتزل في وقت معين أو وضع معين أو عن جماعة معينة لأنه قرأ الأحاديث الداعية إلى مخالطة الناس، كما أن بعضهم يقرأ أحاديث الزهد ولا يقرأ أحاديث المسؤولية في الحياة أو يفهم ما هو معنى الزهد، وهكذا في الخوف والرجاء. لذلك ندعو إلى أن نفهم الإسلام وأن نتعلّمه أياً كانت ثقافتنا، فالمثقفون تنفتح لهم معارف الإسلام من خلال إمكاناتهم الثقافية وعلى غير المثقفين أن يتعلموا جيداً لأن الله أراد للناس أن يتعلموا ولم يجعل الجهل عذراً، ففي الحديث في تفسير قوله تعالى {فلله الحُجة البالغةُ}[الأنعام:149]. "يؤتى بالإنسان يوم القيامة فيقال لم تعمل فيقول لم أعلم، فيقال له:هلاّ تعلمت؟". لأن التعلّم واجب على الإنسان، والجاهل المقصّر الذي يستطيع ان يتعلّم ليس معذوراً.
مقاطعة الأبوين
س: هل يجوز للابن أو البنت مقاطعة أبويهما، وما تقول في أبن يقاطع أمّه ولا يكلّمها؟
ج: هذا من قطيعة الرحم وهو غير جائز.
التسويف في الصلاة
س: أنا شاب مهمل جدا في صلاتي ولا التزام بأوقاتها فما هي الطريقة التي أستطيع من خلالها الالتزام بأوقات الصلاة؟
ج: أن تنفتح على الله وتعتبر أن الله يقول عن هؤلاء الذين في سقر{كلُّ نفس بما كسبت رهينة* إلا أصحاب اليمين* في جنَّات يتساءلون* عن المجرمين* ما سلكم في سقر* قالوا لم نكُ من المُصلين}[المدثر:38ـ43]. ويقول عنّ الذين يهملون صلاتهم ويسوّفون فيها {أرأيت الذي يُكذب بالدين* فذلك الذي يدعُ اليتيم* ولا يحُضُّ على طعام المسكين* فويل للمصلين* الَّذين هُم عن صلاتهم ساهون}[الماعون:1ـ5]. لذلك يجب على الإنسان أن يذكّر نفسه أن الصلاة عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها.. وهكذا.
الفتور بعد تيسير الأمور
س: أنا شاب جامعي يضايقني جداً الفتور الذي يلازمني بعد استجابة دعائي من الله سبحانه وتعالى وبعد تيسير الأمور، فما هو علاج هذه الحالة، وهل أن ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه}[الزمر:8] هو تعبير عن حالة الإنسان العامة أم هو تقريع له؟
ج: هو وصف لحالته يختزن التقريع فكأنه حالة لوم وذم له، لأن الله يريد عندما يكشف عنه ضره أن يذكر هذه النعمة في السير في طريق الله سبحانه وتعالى. أما هذا الفتور الذي يلازمك بعد استجابة الدعاء فقد لا يكون ناشئاً مما يتحدث عنه القرآن بل قد يكون ناشئاً من خلال بعض الأمور التي قد تحجبك عن الله، لذلك فلا بد لك ان تعمق إيمانك حتى يتحول هذا الفتور إلى حيوية إيمانية.
الزواج بمعاقة
س: شاب يرغب بالزواج من فتاة معاقة جسدياً مع أن أهله يرفضون ذلك فما هو رأيكم في هذا الزواج وبم تنصحون هذا الشاب وتنصحون أهله؟
ج: نحن نقول إن هذا الشاب إذا كان صادقاً في إحساسه ومشاعره بحيث كانت مشاعره وأحاسيسه تنطلق من دراسة واعية ومتأنية لهذا الموضوع، بمعنى دراسة مشاعره فيما يستقبل من الزمن بحيث قد ينظر إليها الآن بشفقة وغدا عندما يجتمعان معا فمن الممكن ان يتعقد منها ويحاول أن يسيء إليها بعنوان أنه متعقد من زواجه، فإذا كان واعياً لذلك فهو من أفضل الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى الله. ونقول لأهله إن عليهم أن لا يمنعوه من هذا الخير. أما إذا لم يكن واعياً فندعوه إلى ان يعي ذلك وعيا واقعياً حتى لا يخلق لنفسه ولها مشكلة في المستقبل.
الإجابة على أسئلة الأولاد الجنسية
س: هل تنصحون الآباء والأمهات بالإجابة على أسئلة أولادهم المتعلقة بالشؤون الجنسية حتى لا يذهبوا للبحث عن الإجابة من مصادر مشبوهة؟
ج: نعم أنا أؤمن بالثقافة الجنسية ولكن بالطرق العلمية السليمة، وطبعاً لكل سن أسلوب معين وله وسائل إيضاح معينة وذلك حتى لا يبحثوا ـ كما يذكر السؤال ـ عن أفلام الفيديو الجنسية الخليعة التي لا تعلم إلا الميوعة والاستهتار. وفي واقع الأمر فإن فقهنا يعطي ثقافة جنسية واضحة، فعندما تحدث أحدا من الشبان عن الجنابة أو بالنسبة للفتيات عندما تدرسها مسائل الحيض والاستحاضة والنفاس او قضايا الزواج فإننا نرى أن فقهنا مملوء بالثقافة الجنسية، وهذا معناه أن الإسلام لا يتعقد من هذا المعنى. ولكن غاية ما هناك أن علينا أن ندرس القضية بحكمة وبأسلوب متوازن ككل القضايا التي ينبغي لنا ان نعرف أولادنا عليها باعتبار أن عليهم أن يعرفوا الوظائف الجسدية وأن لا يسيئوا استغلالها، ولكل مجتمع ظروفه وأساليبه التي يوضح بها هذه الأمور، ونحن هنا نتكلم من حيث المبدأ إذ قد تكون هناك بعض السلبيات، وعلينا أن نختار الأسلوب الأمثل في ذلك لأنك إذا لم تجبه(الفتى) ولم تجبها(الفتاة) بالطريقة الطبيعية فسيسأل رفاقه وستسأل صديقاتها وقد يستغل بعض الناس جهلهم بالقضايا الجنسية ليثيروا لهم مشاكل عديدة.
إن مشكلة مجتمعنا سابقا هي أنه كان مغلقاً فكنا إلى حد ما مطمئنين، ولكن الأمر الآن اختلف فنحن نعيش في أرض لا سقف لها ولا حيطان ولا أبواب والعواصف تأتيك من هنا ومن هناك فيجب ان تتدبر أمرك وتعد ابنك بأن يعيش في هذا الجو بأقل قدر ممكن من الخسائر.
التنصت على هواتف الأولاد
س: هل يحق لي أن أتنصت على هواتف أولادي المراهقين من بنين وبنات دون علمهم لغرض صيانتهم، وهل يعتبر هذا العمل من باب التجسّس؟
ج: هو تجسس لأنه لا يجوز للإنسان أن يتجسّس على أولاده، فأولادك هم أولادك في النسب ولكنهم أخوتك في الإيمان {ولا تجسسوا}. لكن إذا فرضنا كانت هناك دلائل توحي بأن هذا الابن قد ينحرف في علاقاته أو ان هذه البنت قد تنحرف في علاقاتها فيجوز ـ عند ذلك ـ مع التدقيق في هذه المسألة.
في زواج المتعة
س: من اكثر المسائل الخلافية بين المسلمين(زواج المتعة) فهل لزواج المتعة شروط، وهل يجوز لمن عنده زوجة صالحة وجميلة أن يلجأ لهذا الخيار، ألا يكون الإنسان في هذه الحالة كالحيوان الذي يجري وراء شهواته؟
ج: من المسلمين من يقول بأنها نسخت وحرمّها رسول الله(ص) بعد أن حلّلها، ومنهم من يقول ـ وهم جمع من السنّة والشيعة بشكل عام من خلال أئمة أهل البيت(ع) ـ أنها بقيت مشرّعة، والحديث المعروف عن أمير المؤمنين "لولا ما نهى عنه عمر من أمر المتعة ما زنا إلا شفا أو شقي". أما الفرضية التي ذكرت في السؤال فمن الطبيعي أن الإنسان الذي يريد الاستقرار في الحياة الزوجية ويريد أن يفي لزوجته نفسياً كما تفي له أن لا يقدم على ذلك، وإن كان يجوز له ذلك، لكن المودة والرحمة التي جعلها الله عنوان الحياة الزوجية ربما تتجاوز الرخص الشرعية، فالإنسان يجب أن يعطي من نفسه وكلّما ابتعد عن عنوان المودة والرحمة فكأنه يبتعد عن الطابع الذي يريده للحياة الزوجية {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}[الروم:21].
حدود غفران الله:
س: ألا يتنافى حديث الإمام الصادق(ع) الذي ذكرتموه ((اتقوا المحقّرات من الذنوب، فإنها لا تُغفر))، مع قول الله تعالى: {إن الله لا يغفر الذنوب جميعاً} (الزمر/53)، ومع قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(النساء/116)؟
ج:  هذا معناه أن الله يمكن أن يغفر الذنوب، وليس معناه أن الله أصدر عفواً ومغفرةً عن الذنوب كلها، فهو سبحانه يقول اعملوا ما شئتم فإنني أغفر لكم إن تبتم وعملتم صالحاً ثم اهتديتم، فالذين يصرّون على المعاصي لا يغفر الله لهم، والله بكرمه ولطفه يعفو ويغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء.

أفضل طريقة لمحاسبة النفس؟
س: ما هي أفضل طريقة لمحاسبة النفس؟
ج: أن تختار وقتاً معيّناً وتحاسب نفسك عن كل عمل عملته وكل كلمة قلتها، وأن لا تجامل نفسك، أو تبرر أخطاءها، أو تستصغر ذنوبها، وأن تحملها على فعل الخير.

النقد الفكري والغيبة:
س: هل النقد الفكري غيبة؟
ج: النقد الفكري ليس غيبة بشرط أن يكون بدون تجريح.

الكسل والغيبة:
س: هل ذكر صفة الكسل والغباء في شخص مما يعدّ غيبة؟
ج: إذا كان هذا عيباً مستوراً عن النّاس فهو غيبة.

تارك الأمر بالمعروف:
س: يعتبر تارك الصوم والصلاة آثماً وفاسقاً، بينما لا يعتبر تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك، فما هو السبب؟
ج: لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يجبان مع توافر شروطهما، وربما تكون الشروط غير متوافرة، أما إذا فرضنا أنه كان قادراً على ذلك ولم يكن هناك ضرر بالغ في هذا المجال، فإنه يكون فاسقاً إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الإصرار على ترك الصلاة:
س: ما حكم الرجل الذي أصبح عمره (40) عاماً ولم يصلّ، وكلما يُقال له قُم وصلِّ يقول غداً أصلي وأصوم؟
ج: هذا من الذين يصرّون على ترك الصلاة وهي كبيرة الكبائر.
س: ما حكم صدقته في الإسلام؟
ج: إذا تصدّق تقبل الصدقة منه، ولكن التقوى لا تتحقق بالصدقة فقط {إنّما يتقبَّل الله من المتقين} (المائدة/27).

المسامحة عن الإساءات:
س: إذا أساء أحدنا إلى الآخر في أمور قد تسيء إلى حياته العائلية، وصرّح بها أمامه من باب الترضية، فهل يصح أن يطلب منه المسامحة على أمر واحد قاصداً في قلبه المسامحة عن الكل؟
ج: لا بدّ في المسامحة التي يطلبها أن تكون عن الكل باعتبار أنك إذا قصدت الكل وفهم البعض، فهذه ليست مسامحة، لأن المسامحة الحقيقية تنطلق من خلال نيّة المسامح، كما لو كان عليك دين وطلبت من شخص أن يسامحك عن إساءة فلا تشمل المسامحة الدين الذي في ذمّتك، أي المسامحة على قدر على ما يسامحك به صاحب الحق.

مقاطعة المرأة المذنبة:
س: إذا أذنبت المرأة، فهل يجوز أن يكون العقاب مقاطعتها مقاطعة تامة مع السماح لها بالبقاء في نفس البيت، والله يقول: {فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان} (البقرة/229)؟
ج: إذا كانت المقاطعة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتجوز مع عدم الإخلال بحقوقها في النفقة والعلاقة الزوجية الخاصة وما إلى ذلك.

طالب العلم وصلاة الجماعة:
س: إذا كان العلم للعمل فما هي نصيحتكم لمن يدرس في الحوزة ويسمع أذان الصلاة والجماعة منعقدة، فيترك الصلاة ويتوجّه إلى سكناه، هل أن دروس الحوزة تؤدي إلى هذه النتيجة؟
ج:  الشهيد الثاني(قده) يقول في (منية المريد) لا بد لطالب العلم أن يكون له ورد يداوم عليه، والورد تعبير عن أنه ينفتح على الله سبحانه تعالى بالذكر لله والدعاء له حتى يرقّ قلبه، لأن العلم يقسّي القلب.. لذلك نقول كما إن على طالب الحوزة أن يدرس علم الفقه والأصول، فإن عليه أيضاً أن يدرس خط التقوى وخط التقرّب إلى الله والمعرفة به سبحانه.. ومن الطبيعي فإن الإنسان الذي يريد القرب من الله يعمل جاهداً على أن يأتي بكل شيء يقرّبه إلى الله تعالى، ولا سيما صلاة الجماعة عندما تستكمل شروطها.
 
الفصل السادس

المسائل الفقهية



"لا يصحّ أن نقول بتجديد الفقه، بل لا بد لنا من أن نقرأ الكتاب والسنّة بطريقة تختلف عمّا قرأه الآخرون، وأن نفهم النصوص الإسلامية فهماً جديداً بما نملك من العناصر الاجتهادية المعذّرة أمام الله، وقد نلتقي بالجديد، وقد نبقي على القديم".


 

أولاً: المرجعية والتقليد

قول المجتهد في الموضوعات:

س: هناك من يقول إن قول المجتهد في تحديد الموضوعات ليس حجة، ويرى آخرون خلاف ذلك، فكيف تنظرون للمسألة وما رأيكم فيها؟
ج: هناك رأيان في الموضوعات، فهناك رأي يقول إن المجتهد ليس من شأنه تحديد الموضوعات لأن الاجتهاد يمثل الطريقة أو الثقافة التي يملك الإنسان فيها أن يستنبط الحكم الشرعي من الأدلة، فدوره في ثقافته أن يستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها، فهذا هو اختصاصه. ولذلك فإننا نقبل قوله في استنباط الحكم الشرعي على أساس أنه من أهل الخبرة الذي نقبل قولهم كما نقبل قول الطبيب في الطب، وقول الحقوقي في القانون وما إلى ذلك.
أما الموضوعات من قبيل هل هناك هلال أو ليس هناك هلال، فهذا ليس من شأنه،نعم ربما يستعمل الشهادة كطريق إلى البيّنة وكطريق إلى معرفة ما إذا كان هناك هلال أو ليس هناك هلال، وهذا أمر يمكن أن يقوم به أي إنسان يعرف أن البيّنة حجة ويعرف ما هي المواصفات التي يمكن أن يكون عليها الهلال، وبالتالي يستطيع أن يحكم بذلك تماماً كأي إنسان آخر، فالقضية ليست خاصة بالمجتهد، فربما يكون غير المجتهد قادراً على تشخيصها بالاعتماد على من يملك الخبرة في تحديد ملامح الموضوع.
لذلك فهناك رأي غالب كان يتبنّاه السيد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله) في هذا المجال، فقد كان يقول إن حكم الحاكم في الموضوعات ليس بحجة، ولذا ـ والقول له ـ لو حكمت بالهلال فلا يجب على مقلديَّ أن يأخذوا برأي إلا إذا حصل لديهم الاطمئنان بهذا الرأي، بحيث لا بد أن يكون عند المقلد حالة شخصية وجدانية تدعو إلى الاطمئنان، لهذا فليس من شؤون الاجتهاد الحكم على الموضوعات والأدلة التي دلّت على عدم جواز ردّ حكم الحاكم لا تشمل الموضوعات إلا في حالات القضاء، فهذا رأي.
وهناك رأي آخر يرى أن حكم الحاكم ماضٍ في كل شيء، ونحن نقول باتّباع حكم الحاكم في شؤون الحكومة العامة للمسلمين، لأن الحاكم إنما يجب اتّباعه بناءً على نظرية ولاية الفقيه أو ما يقرب من هذه النظرية، أو في الشورى، فإذا كانت مسألة الهلال من المسائل العامة للناس وهي كذلك، فعند ذلك يمكن أن نقول إن حكمه نافذ في هذا المجال بالأدلة التي تدل على صفة الحاكمية لا بكونه مجتهداً مقلَّداً لكن بصفته حاكماً يحكم في القضايا الإسلامية العامة من موقع شرعيته كحاكم، لأنه لو لم يقبل حكمه في قضايا الموضوعات الخاصة لأمكن أن تتجمّد قضية الحاكمية في أكثر القضايا، لأن أغلبها من الموضوعات وليس من الأحكام، لذلك نقول إن حكم الحاكم المجتهد نافذ بلحاظ حاكميته لا بلحاظ اجتهاده.
ولكننا لا نقول بحجيّة حكم الحاكم بقول مطلق، بل إن حكم الحاكم نافذ إذا لم يعلم خطأ مستنده، وأما إذا اطلعنا على أنه اعتمد على شيء وثق به،ولكننا نعرف أنه ليس صحيحاً، فلا يمكن حكمه نافذاً وهذا ـ كماذكرت ـ في غير القضايا النظامية لعلاقتها بحفظ النظام، لأنه إذا فرضنا أن كل واحد يبحث عن المستند ويقول بأنه خطأ تصبح المسألة فوضى، ولذا فإن الحكم في القضايا النظامية خاص، أما في غير مثل رؤية الهلال أو غيرها، فإذا علمنا بخطأ المستند فيمكن أن نتحفّظ فيه.

الفتوى بالاحتياط والاحتياط بالفتوى:
س: هل هناك فرق بين الفتوى بالاحتياط والاحتياط بالفتوى؟
ج: الفتوى بالاحتياط هي عندما تقتضي القاعدة الاحتياط، كما لو شك الإنسان العادي في دوران الواجب بين القصر أو الإتمام، أو في أن أمامه إنائين أحدهما نجس والآخر طاهر، ولكن لا يميز الطاهر من النجس، فهنا الفتوى بالاحتياط تقول له يجب أن يحتاط.
وأما الاحتياط بالفتوى فتعني أن الحكم عندما لا يكون واضحاً لدى المجتهد، فإنه يقول بالأحوط، باعتبار أن لا فتوى لديه في ذلك، وعندما لا يكون هناك فتوى فلا بد للمكلف أن يحتاط.

العدول إلى مجتهد آخر:
س: شخص عمل على تقليد مجتهد، وبعد وفاته عدل إلى مجتهد ميت ظناً منه أنه توفي بعده، وانكشف أن المجتهد الثاني الذي عدل إليه قد توفي قبل المجتهد الذي قلده، فما حكم أفعاله في هذه الفترة؟
ج: عليه أن يعدل إلى مجتهد آخر.

الرجوع إلى أكثر من مرجع:
س: ما هو رأيكم فيمن يرجع في أمور دينه إلى أكثر من مرجع ديني؟
ج:  مسألة الرجوع إلى أكثر من مرجع تختلف حسب اختلاف المبنى الفقهي، فعلى قول من يقول أنه لا بد من الرجوع إلى الأعلم وكان هناك مجتهدٌ أعلم فيتعيّن الرجوع إلى الأعلم، فإذا كان المجتهد غير أعلم بمقتضى نظرية وجوب تقليد الأعلم لا يجوز الرجوع إليه.. وإذا كان الأعلم اثنين فهناك رأي يقول إذا اختلف المجتهدان وكانا في مرتبة واحدة فلا بد من الاحتياط كما يقول السيد الخوئي(قده).
وهناك رأي آخر أنه إذا كانا في مرتبة واحدة فالحكم هو التخيير، والتخيير يمكن أن يتحوّل إلى تبعيض.
وهناك رأي آخر لا يرى وجوب تقليد الأعلم ـ كما نرتئيه نحن ـ فيمكن التبعيض، ولكن لا بد أن يقلّد من يقول بالتبعيض ليأخذ برأي أكثر من مرجع، فهذه المسألة تقليدية ولا يستطيع الإنسان أن يستقلّ بنفسه.

زهد المرجع:
س: هل من شروط المرجع أن يكون زاهداً ومتواضعاً في حياته؟
ج:  من شروط المرجع أن يكون عدلاً في دينه، وأن لا يأكل حراماً ولا يتكلم حراماً وأن لا يتكبّر على الناس وأن لا يتحول إلى نوع من الطبقية الدينية التي تنظر إلى الناس من فوق ((وفي جميع الأحوال متواضعاً)).

الأعلم والأحسن:
س: لماذا نسأل دائماً عن التفضيل بين هذا المرجع وذاك المرجع، ولا نسأل أيّهما أحسن وأعظم خُلُقاً؟
ج:  لأن قضية تقليد الأعلم هي قضية فقهية، لا بد أن نعرفها، أما المرجع وصفاته النفسية فلا بد أن يُسأل عنها فيما يتصل بخط الاستقامة في الدين.

مخالفة الواقع القطعيّة:
س: لا يجوز عندكم التبعيض في التقليد في حالة كون العدول بعد العدول يؤدي إلى مخالفة الواقع، فما هو دليل ذلك؟
ج:  لأن مخالفة الواقع القطعية غير جائزة..

الإجبار على تقليد مرجع:
س: هل يجوز للوالد أن يجبر أولاده على تقليد أحد المراجع؟
ج: لا معنى للجبر، لأن هذا الولد إذا لم يعتقد بهذا المرجع فلا يجوز له أن يقلده، وإذا كان معتقداً فيه فلا يجوز للوالد أن يجبره على ذلك.. فدور الوالد هو أن يوجّه ولده وأن يقنعه، وعلى الآباء أن يفهموا أن أولادهم مستقلون عنهم فيما يؤمنون به وفيما يفكرون به وفيما يختارونه.
وعلى الأب أن لا يعتبر الولد ملكاً من أملاكه، كالخزانة أو الأثاث، وكالأغنام أو الدجاج فيتصرّف بأولاده على أنّهم جزء من خصوصياته.. إن الولد بمجرد أن يبلغ سنّ الرشد يصبح رجلاً مستقلاً في كل شيء كأبيه، وكذلك البنت عندما تبلغ سن الرشد فليس لأبيها ولا لأمها ولا لأحد عليها أية سلطة، اللهم إلا في بعض الطوارئ التي تفرض فيها المصلحة ذلك، فقد تدخل المسألة في عنوان ثانوي، ولكن من ناحية الولاية الشرعية فالله تعالى يقول: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح}، واليتامى من الذكور والإناث معاً {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} (النساء/6)، ودفع المال كناية الاستقلال القانوني، فالولد عندما يبلغ سن الرشد يصبح شخصية قانونية مستقلة سواء كان ذكراً أو أنثى.

حماية المرجعية الدينية:
س: ما الذي تنصحون به جيل الشباب لحماية المرجعية الدينية في العراق؟()
ج: إنني أعتقد أن علينا أن نرفع الصوت واحداً ليفهم العالم أننا ضد كل هذه الجرائم، وأن نخطط بعقل وحكمة، لأن الانفعال لا يوصلنا إلى أهدافنا، إن شعباً لا يخطط ربما يتحرك به انفعاله إلى أن يكون ضد قضيته، لذلك فإنني أعتقد أن على الجهات الدينية والسياسية أن تدرس عناصر حركة الطاغية في العراق، وأن تتعرف نقاط ضعفه ونقاط قوته ثم تتوزّع الأدوار في عملية المواجهة ليكون لكل فريق دوره حتى تتكامل الأدوار في إسقاط هذا الواقع الثقيل على الشعب كله وعلى الإسلام كله.

الخوف من صلاة الجمعة:
س: لماذا تضايق صلاة الجمعة النظام في العراق؟
ج: لأنه كان يتصور أنها سوف تكون صلاة محدودة تقليدية، ولكنها عندما حقّقت هذا الامتداد باعتبار أن هناك ضغطاً وحرماناً رأى فيه الشعب المتنفّس الذي يمكنه فيه أن يعبّر عن نفسه ولو من خلال خطاب الجمعة، أو من خلال هذا الالتفاف حول الرمز الديني الذي حاربه النظام في العمق.
لقد شعر النظام أن صلاة الجمعة انقلبت عليه، ولذلك فإنه بدأ يفكر بطريقة أخرى لإسقاطها، خصوصاً في الوسط الإسلامي الشيعي في العراق، لأنها كانت صلاة عبادية تختزن الإحساس السياسي في الداخل وإن لم تعبّر عنه بطريقة صريحة.

الحوزة بعد غياب الصدر الثاني:
س: كيف تنظرون إلى الحوزة في النجف بعد غياب السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(رض) وما يرافق ذلك من إرهاب؟
ج: لقد بقيت بقيّة من الحوزة في النجف، لأن النظام اغتال حوزة النجف التي كانت القاعدة للدراسة الدينية الإسلامية في الخط الإمامي في العالم، لقد اغتالها وبقيت منها بقيّة، إننا نخشى على هذه البقية أن تضطهد أكثر وأن تحاصر أكثر وأن تجمّد أكثر، ونخشى على مراجع الدين في النجف أن يكونوا في موقع تفكير النظام بالجرائم المماثلة إذا انطلقت منهم أية بادرة توحي بما لا يرتاح إليه.

سدّ فراغ المرجع إذا مات:
س: كيف يمكن سدّ النقص الذي يتركه المرجع إذا توفي أو استشهد؟
ج:  في الحديث الشريف ((إن الأرض لا تخلو من حجّة)) وعلى الناس أن يبحثوا فيما بين أيديهم من الطاقات العلمية الواعية المنفتحة على حركة الواقع وعلى حاجة الإسلام إلى المرجع الذي يستطيع أن يواجه التحديات بكل علم وخبرة وتقوى ووعي.

اعتذار من أساء للشهيد الصدر:
س: أنا من الأشخاص الذي تكلمت بشكل سلبي على سماحة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(رض) ولكنني كنت مشتبهاً واستغفرت الله وتبت، فهل هذا يكفي؟
ج: الله تعالى يتوب على من تاب إليه في ذلك، وعلينا أن نأخذ درساً من خلال هذه التجارب، فلقد اغتيل السيد الشهيد معنوياً من قبل كثير من الناس قبل أن يغتال جسدياً، لأنهم كانوا يقولون إنه مرجع السلطة أوأنه عميل السلطة بأن هذا الكلام حرام، لأن الرجل ـ حسب معلوماتنا ـ لم يقل أية كلمة تأييداً للسلطة، لكنه انطلق لخدمة الإسلام من خلال ما يعتقده من كفاءته، وصادف أن السلطة كانت تريد أن تدعمه لغاية في نفسها، فأن يكون الإنسان مرجع السلطة يعني أن يتم ذلك من خلال صفقة، وأعتقد أن الرجل بريء من ذلك.
وعلينا أن لا نستعجل الحكم على الظواهر، بل علينا أن نعمل على ما قاله الإمام علي(ع) أولاً: ((ضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً))( ). وثانياً: ((من عرف من أخيه وثيقة في دين وسداد رأي فلا يقلبنّ أقاويل الرجال به))( ).
فنحن نعيش تعقيدات كثيرة يتحرك بها كثير من الناس بطريقة سلبية ضد العلماء المجاهدين في الكثير من الأكاذيب والكثير من تحريف الكلام عن مواضعه والكثير من سوء الظن، وعلى الأمة أن تحمي علماءها المجاهدين من كل هؤلاء الذين يصطادون في الماء العكِر، لأن ذلك لن يخدم إلا الكفر والاستكبار والصهيونية وما إلى ذلك، فذلك هو الذي يربك الحياة الإسلامية التي تعيش مشاكل ليس لها أول وليس لها آخر.. لذلك فإننا نحتاج إلى الوعي الإيماني الإسلامي وإلى مراعاة الجانب الأخلاقي، وبذلك يمكننا أن نواجه الأمور لندرس عمقها ولا نقف على السطح.

تجديد الدين كل مئة عام:
س: يقول أحد العلماء أنه يفترض تجديد الدين كل مئة عام، فهل هذا صحيح، وما المقصود منه؟
ج: هناك حديث يقول إن الله سبحانه وتعالى يبعث على رأس كل قرن من يجدد الدين، وهو حديث غير ثابت، ثم إن مصطلح تجديد الدين خطأ، فـ ((حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة))، نعم يمكن القول بتجديد الفهم للدين وتجديد حركية الدين باعتبار ما يواجه الحياة من أشياء جديدة، فنحن نحتاج أن نفكّر في الدين على أساس أنه يحل مشاكل الحياة بطريقة لا تبتعد عن حاجات الحياة.

تقليد المرأة المجتهدة:
س: هل يجوز تقليد المرأة المجتهدة، وهل كان بنت الهدى(رض) مجتهدة؟
ج: بنت الهدى(رض) لم تكن مجتهدة، وليس عندنا مجتهدات، ولكن لو فرضنا ذلك، فالقاعدة تقتضي أن نرجع إلى العالم سواء كان ذكراً أو أنثى، مثلما نرجع إلى الطبيبات أو المهندسات الخبيرات باختصاصهنّ، فالاجتهاد ليس زعامة، واجتهاد المرأة من حيث القاعدة موجود، لكن الارتكاز الشرعي عند المسلمين لم يثبّته، وهذا الرأي ليس رأيي فقط، فالسيد الحكيم والشيخ الأصفهاني وكثير من علمائنا يقولون إذا كانت المرأة مجتهدة فيجوز الرجوع إليها في الفتيا مع توافر الشروط.

إيجابيات التشريع وسلبياته:
س: ما المقصود بقولكم إن لكل تشريع إيجابيات وسلبيات؟
ج: ذلك لأنه ليس عندنا شيء مطلق في الدنيا، فمثلاً الزواج مشروع ومستحب، لكن الزواج يحجز حريتنا ويحمّلنا مسؤوليات أخرى كثيرة، فهو مشكلة للزوج وللزوجة، ولكن أيضاً هناك إيجابيات، وأفضل دليل على ما نقوله هو قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة/219). وأنا دائماً أضرب مثلاً بالدنيا، فهي الدار المحدودة.
وأفضل مثال على ذلك هو أننا الآن جالسون في هذه القاعة التي فيها دفء وفيها حماية السقف والجدران، لكننا نفقد فيها كمية من الهواء والنور، أما أنك تريد الدفء والحماية والهواء والنور بالكمية التي تريد أن تأخذها في الفضاء، فهي لا تتحمل ذلك، وعندما تريد أن تربح شيئاً لا بد أن تخسر شيئاً، فإذا كنت تدرس في الليل وفي النهار حتى تنجح يجب أن تذهب لطبيب العيون ولطبيب الأعصاب جرّاء التعب والإرهاق الشديدين، وكذا التجارة قد تفقدك راحتك في مقابل ما تكسبه من أرباح.. لذلك فإن الله وحده هو المطلق وكل من عداه محدود، وفي المحدود حواجز وسلبيات وخسائر، فما أن تحصل على شيء حتى تفقد شيئاً، وهذا هو حال الدنيا في جميع مرافقها.

التجديد الفقهي:
س: كيف يمكن لنا أن نفهم عصر التجديد الفقهي؟
ج: لقد قلت أكثر من مرة أن التجديد ليس عقدتنا، بمعنى أننا لا نضيع أمام سؤال التجديد كيفما كان، ليكون حالنا حال الذين يغيّرون ملابسهم بتغيير الموضة حتى لو كانت ملابسهم جديدة ولطيفة، وكذا تغيير السيارات والأثاث، فهذه سياسة احتكارية استهلاكية تقوم على خلق أوهام لاستغلال أموال الناس.
ونفس الشيء يقال في الفقه، فالبعض من الناس يقول بضرورة تجديد الفقه، في حين أن الفقه هو علم نحصل من خلاله على أحكام الله، وهي تنطلق من الكتاب والسنّة، فلا يصح أن نقول بتجديد الفقه، بل نقول أنه لا بد لنا من أن نقرأ الكتاب والسنّة بطريقة تختلف عما قرأه الآخرون، لأن الآخرين تركوا لنا شيئاً وحصلنا على شيء آخر، فالمسألة هي (كم ترك الأول للآخر).
فعلينا أن لا نتجمّد أمام القديم وأن لا نقدّس المجتهدين الذين سبقونا، فـ(هم رجال ونحن رجال)، فلقد كانوا يملكون علماً، وقد نملك علماً يختزن أكثر مما اختزنوه، لأننا أخذنا علمهم وعلم ما جاء بعدهم وعلم ما نعيشه الآن.
لذلك، فنحن لا نقول بوجوب تجديد الفقه، لأننا عندما نعيش عقدة التجديد فربما نحرّم الحلال ونحلل الحرام من خلال هذه العقدة، لا من خلال أن الدليل يدلّ على ذلك، لكن علينا أن نفهم النصوص الإسلامية فهماً جديداً بما نملك من العناصر الاجتهادية المعذرة لنا أمام الله، وقد نلتقي بالجديد، وقد نبقي على القديم.

الدليل والحجّة:
س: ما هو الفرق بين (الدليل) و(الحجة) في المعنى الأصولي؟
ج: إذا كان الدليل حجّة فلا فرق بينهما، فكل دليل شرعي ثابت بأصول الدليلية حجة وكلّ حجة دليل.

ثبوت ولاية الفقيه:
س: ما هو رأيكم بولاية الفقيه، هل ثبتت عندكم بالأدلة اللفظية أم أنها بالقدر المتيقّن؟
ج: ثبتت عندي بالقدر المتيقّن من باب حفظ النظام، أما الأدلة اللفظية فإننا نلتقي مع السيد الخوئي(قده) في أن الأدلة اللفظية لا تدل على ولاية الفقيه.

العلماء المتحجّرون:
س: ذكرتم في خطبة الجمعة أن هناك الكثير من العلماء المتحجرين والذين يمثلون الخطر الأكبر على الإسلام الحركي، فماذا تقصدون بذلك؟
ج: نقلت تصريحاً في خطبة الجمعة عن الإمام الخميني(رض) الذي يقول: إن الرصاص الذي كان يوجّه إيه في الحرب المفروضة على إيران آنذاك لا قيمة له أمام الرصاص الذي يوجّه إليه من الفئات المتحجّرة من الذين يعتبرون أنفسهم مقدّسين، ولكنهم كانوا يتهمونه ويحاربونه ويحاربون ثورته وإصلاحه بكل الوسائل وهم موجودون في الحوزات وغيرها.

الاختلاف في الاجتهاد:
س: ألا تعتقدون أن الاختلاف في الاجتهاد يؤدّي إلى بروز مدارس مختلفة بعضها يخالف بعضها الآخر؟
ج:  هذا صحيح، ولكن هناك فرق بين من يتحدث بطريقة موضوعية علمية وبين من يتحدث بخلاف ذلكن فالسيد الخوئي مثلاً كان لا يرى ولاية الفقيه العامة، في حين أن السيد الخميني كان يشجّع جماعة من المؤمنين أن يدفعوا الحقوق الشرعية للثورة الإسلامية في وقتها. وأنا أعرف أن الحكومة العراقية حاولت الضغط على السيد الخوئي لإصدار ولو موقف حيادي بين العراق وبين إيران في الحرب ولكنه رفض ذلك..
ولقد قلت مثلما قال الإمام الخميني إن هذا يحزّ في قلبي ويدميه أكثر من الرصاص، وليست الوحيد في ذلك، فالكثير من العلماء المصلحين المجاهدين يواجهون من قوى التخلّف العنت، فهؤلاء غير مستعدين للحوار ولا هم يقرؤون أو يسمعون، بل يصدرون الفتاوى الضالة والكلمات النابية.. وإني لأعتبر الفتاوى التي تتحرك بلا حساب من دون ارتكاز، فتاوى ضالة ولا غرابة أن نرى أنه من نفس الموقع الذي كان يُواجه الإمام الخميني بالأمس يواجه العلماء الصالحون والمجاهدون اليوم.

الرابط بين المقلَّد ومقلِّديه:
س: ما هو الرابط بين المقلد ومقلديه، وما هي أهمية المرجع ودوره في المجتمع؟
ج:  أما التقليد في الفتوى فهو أن يرسل المقلد فتاواه وأن يجيب على الاستفتاءات، أما المرجع ففي المرجعية في الفتيا، ويكفي فيه أن يكون مجتهداً عادلاً، أما المرجعية العامة التي تتطلب أن يرجع الناس إليه في قضاياهم وفي أمورهم العامة والسياسية والاجتماعية والثقافية، فلا بد أن يكون المرجع بهذا المعنى مثقفاً بذلك كله، وأن يكون واعياً لعصره ومتابعاً لقضاياه حتى يعطي الناس الرأي الصحيح في ذلك كله.

دعوة المرجع لنفسه:
س: لماذا نرى العديد من المراجع يدعون كلٌ إلى نفسه فيما هناك تفاوت واضح في أعلميتهم، فلماذا لا يدعون إلى واحد منهم، أليس في ذلك مصلحة عامة؟
ج: نحن دعونا إلى مؤسسة المرجعية التي يلتقي فيها العلماء على مرجع واحد تتوافر فيه الصفات القيادية التي يمكن أن تتحرك لقيادة الأمة، لأن المرجعية لم تعد مجرد فتوى، بل أصبح الناس يرجعون إلى المرجع في أمورهم كلها حتى السياسية والاجتماعية، فلا بد أن يكون المرجع منفتحاً على ذلك كله..
وللمؤسسة أجهزة ولجان وتخصصات متنوعة في السياسة والاقتصاد والاجتماع ومقارنة الأديان، بحيث يقدّمون للمرجع دراسة عن كل قضية يريد التحدث بها، أو في كل قضية يفتي بها، لأنه يحتاج إلى معرفة بالواقع.
ومع الفرق الكبير بيننا وبين المسيحيين الكاثوليك، لكنهم من الناحية التنظيمية أفضل منا، فالبابا ينتخبه كل كرادلة العالم ولديه أجهزة متعددة بحيث يمثل جهازاً حكومياً، إذ أن لديه ما يمثل دور وزير الخارجية وآخر للعلاقات مع الأديان وغير ذلك، وعندما يذهب الباب إلى أية منطقة أو يستقبل أي وفد فإن أجهزته تقدّم له دراسة عن كل ما يحتاجه.
إن ما تدعو إليه في سؤالك وندعو إليه يحتاج إلى رأي عام، وهناك شروط فقهية لذلك حتى يركّز موقع المرجعية، بحيث تكون منفتحة على العالم، وحين تصبح المرجعية على شكل مؤسسة فإنها ستحلّ مشاكل كثيرة.

الولاية وقبول الناس:
س: هل يأخذ الولي الفقيه عند من يقولون بذلك ولايته من قبول الناس به؟
ج: ولايته مأخوذة من شرعية الخط الفقهي في الولاية، ولكن الناس يعيّنونه من بين المجتهدين الآخرين.

الإيمان بولاية الفقيه:
س: إني مقلدكم وأنتم تؤمنون بولاية الفقيه وأنا لا أؤمن بها في هذا العصر، فهل يجوز لي ذلك؟
ج: ليست القضية أنك تؤمن أو لا تؤمن، إنما هل لك الحجة على هذا أم لا؟ فإما أن تكون مجتهداً واجتهادك يفضي بك إلى عدم إيمانك بولاية الفقيه، وإما أن تكون غير مجتهد، وفي هذه الحالة قد تقلّد من لا يقول بولاية الفقيه، أو أنك تقلد من يقول بها على مستوى العالم كله، في كل موقع يملك الفقيه فيه السلطة، لكن أن تقول أنا لا أؤمن بالولاية من ناحية مزاجية، فهو أمرٌ غير مقبول، فربما تكون لديك حساسية أو ما أشبه ذلك من وضع معين، وهو ما لا يبرر لك موقفك السلبي منها. أمَّا رأينا فهو ثبوت ولاية الفقيه على قاعدة وجوب حفظ النظام، فإذا توقَّف النظام على ذلك ثبتت الولاية، وإلاَّ فلا ولاية له، فليست الولاية مطلقة في مستوى العالم كلّه حتى في الموارد التي لا يملك فيها الفقيه سلطةً فعليَّةً، أو ليس هناك نظام عامٌ للمجتمع يتوقّف على ولايته.
الالتزام بفتوى مجتهد معين:
س: لماذا حتّم على المقلد أن يلتزم بفتوى مرجع معين، وما الضير في الأخذ من جميع المراجع؟
ج: لا بد أن يرجع إلى مرجع يرى جواز التبعيض وإلا فما الحجة عنده في التبعيض؟ وإذا رجع إلى من يرى جواز ذلك، فإنه يمكن أن يبعّض بفتوى هذا المرجع.
على أهبة التقليد:
س: لدي أبن يراهق البلوغ فما هي أفضل السبل إلى إرشاد، وتوجيهه في اختيار المقلد؟
ج: هنا يجب أن تفهمه معنى التقليد وأنه عبارة عن رجوع الجاهل إلى العالم وأن تبين له لو أن أحدا مرض فإنه يذهب إلى الطبيب، وإذا أراد أن يبني بيتاً فإنه يذهب إلى المهندس أو المعماري ليقوم بذلك، وباعتبارنا مسلمين وليس لدينا ثقافة الإسلام والأحكام فعلينا أن نرجع إلى العالم المتخصص في مجال الفقه. ولا بد أن تبحث عن الشخص الجامع للشروط والمرجع والفقيه المتقي المنفتح على الحياة وعلى الواقع الإسلامي لتقلده، فالمهم ان تفهم عقله لتحدثه بحسب عقله.
الفرق بين القياس والاجتهاد:
س: ما هو الفرق بين القياس والاجتهاد وإذا كان كل شيء موجود في الكتاب والسنة فلماذا الاجتهاد؟
ج: ضرورة الاجتهاد نابعة من الحاجة إلى فهم الكتاب والسنة. أما القياس فهو إلحاق موضوع حكم بموضع آخر ظنا بأن ملاكه هو نفس الملاك وهو عمل بالظن والظن ليس اجتهادا.
المانع من المرجعية المؤسسة:
س : إنكم من دعاة المرجعية المؤسسة ونحن كذلك نؤيد هذا المشروع ولكن ما هو المانع من الشروع به ولو بشكله البدائي كأن يتألف ولو بعدد بسيط من المراجع الذين يؤيدونكم في ذلك ثم يأخذ بالنمو والازدهار وخصوصاً إذا استطاع أن يخدم الأمة أفضل مما هي عليه الآن خاصة وأنها تعاني الروح الفردية؟
ج : المرجعية المؤسسة هي أن يلتقي المجتهدون على انتخاب مرجع تلتف الأمة حوله، وأن تتحول إلى مؤسسة بمعنى أن يكون المرجع على رأسها وفيها جهاز يدرس الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم بحيث يقدم للمرجع عندما يريد أن يصرح أو عندما يزور بلد أو يريد أن يدخل في المفاوضات والمحاورات مع جهة، يقدم له دراسة دقيقة ينطلق من خلالها ليعرف كيف يتكلم وكيف يصرح وكيف يتفاهم أو يتحاور. وقد يلتقي بعض المراجع بهذه الفكرة ولكن حتى الآن ليس هناك مرجعية مؤسسية بالمعنى الدقيق للمرجعية، فكل المرجعيات تتحرك بشكل فردي.
وكمنطلق يمكن أن يحاول المرجع أول الأمر أن يدخل في تجربة المؤسسة بأن يكون عنده مركز دراسات وأجهزة ومستشار في الحقول المختلفة فهذا ممكن ولو في داخل المرجعية الفردية التي تستطيع أن تتحرك بأسلوب جديد من خلال المؤسسات التي تسدد لها حركتها. ثم أن الحاجة إلى المرجعية المؤسسة تنبع من تعبئة عامة في الواقع الشيعي وفي واقع الحوزات العلمية حتى تتحول إلى أمر واقع، لأن المرجعية الفردية التي لا ننكر خدماتها ونحترم القائمين عليها إذا كانت نافعة في الماضي فإن حاجات الواقع الشبابي الشيعي المعاصر في العالم قد تجاوزتها.
خلافات المرجعية:
س : أعتقد أن المدارس المرجعية ستصبح يوماً ما مذاهب مستقلة بذاتها نتيجة لكثرة الاختلافات بالفتاوى المرجعية، فهل توافقون على ذلك؟
ج : لا أعتقد أن الخلافات المرجعية سوف تتحول إلى مذاهب لأن هذا المرجع يختلف غالباً عن ذاك المرجع بفتاوى قليلة فلا يوجد حد فاصل بحيث يتخذ كل مرجع لنفسه فتاوى تختلف اختلافاً كلياً عن المراجع الآخرين.
المزاجية ف يالتقليد:
س: البعض يبني تقليده لأحد المراجع على أساس مزاجي وفقاً لما يرتاح إليه، فما هي نصيحتكم لهؤلاء ليكون تقليدهم عن وعي والتزام؟
ج: من الطبيعي أن التقليد هو عملية رجوع الإنسان إلى من يمثل الخط الاجتهادي العالي من خلال الممارسة الطويلة في هذا المجال مع الاستقامة والعدالة، وهذا له عدة وسائل منها شهادة أهل الخبرة والشياع والاطمئنان العقلي الذي لا ينطلق من حالة عاطفية.

تقليد المجتهد غيره:
س: إذا وصل المجتهد إلى حقيقة ما وإلى اجتهاد ما بعد أن استنفد كلّ القوى وبحث في كلّ الجهات واقتنع بهذا الاجتهاد فهل يجوز له أن يقلّد غيره؟
ج: لا يجوز للعالم الذي استكمل مفردات علمه بحيث حصل على النتيجة الحاسمة التي هي حجّة بينه وبين الله أن يقلّد عالماً آخر.

الروايات المتعارضة:
س: إذا كان المذهب الجعفري يقوم على علم خاص ورثه أئمة أهل البيت(ع) من النبي(ص) فبماذا نفسر ورود أقوال متناقضة عن الإمام جعفر الصادق(ع) في المسألة الواحدة مثل حكم النجاسة إذا وقعت في البئر، فقد أفتى فيها بثلاثة أقوال هي (بحر لا تنجس) (تنزح كلها) (يخرج منها سبعة دلاء)؟
ج: لقد عالج العلماء الروايات المتعارضة وقالوا إن بعضها وارد على نحو الاستحباب فمعنى أن ينزح منها سبع دلاء أي يستحب، وليس من الضروري فالنزح قد يكون من جهة النجاسة وقد يكون من جهة أن هذا هو نوع من الاستقذار المزاجي مما يدعو إلى أن تنزح من هذا البئر مقداراً من الماء كما أن بعض النجاسات تحتاج إلى تزيل القذارة بنزحها كلها، وهذا لا ينافي الطهارة.
لذلك فمسالة الروايات المتعارضة لها علم يحدد طبيعتها ويستدل بالرواية على ما يرد في الرواية الثانية وهذا موجود في اللغة العربية أيضاً بالجمع بين النصوص المتعارضة سواء كانت نصوصاً شرعية أو نصوصاً اخرى، حتى أننا نجد هذا عند إخواننا من أهل السنّة أيضاً في شأن الروايات المتعارضة، فهذا يروي عن النبي(ص) شيئاَ وذاك يروي عنه(ص) شيئاً آخر، فهل يمكن أن يناقض النبي نفسه؟ لا يمكن ذلك إطلاقاً، ولكن المسألة هي أن بعض الروايات قد تكون صحيحة وبعضها قد تكون ضعيفة وهكذا. أو لا يكون ثمّة تعارض أصلاً كما في حالات الجمع العرفي.

 

ثانياً: النجاسات والطهارات

إدخال اليد في الإناء بعد مس الميت:
س: إذا أدخل الإنسان يده في الإناء قبل الغسل من مس الميت، هل يتنجس؟    
ج:  إذا كانت يده يابسة عند مسّ الميت فإنها لا تتنجّس، فغسل مسّ الميت حدث مثل الجنب، فإذا أدخل الجنب يده في الإناء ولم تكن عليها نجاسة فلا يتنجّس الماء.
عدم الإنزال والغسل:
س: يعتقد أحد الأشخاص أن عدم الإنزال في المعاشرة مع أهله لا يوجب غسل الجنابة، فلم يغتسل في رمضان ولا في غيره، فما هو حكم صلاته وصومه بخصوص هذه الحالة باعتبار أنه جاهل بالحكم؟
ج: عليه إعادة الصلاة، ولكن لا يجب عليه إعادة الصوم باعتبار القول بأن تعمد البقاء على الجنابة يكون مفطراً في صورة ما إذا كان الإنسان عالماً بالحكم أو جاهلاً مقصراً، أما إذا كان جاهلاً قاصراً فرأينا أنه لا يبطل الصوم بذلك.
دم البثور الجلدية:
س: إذا كانت هناك بثور على الجسم وكان حكّها بصورة لا شعورية بسبب خروج قليل من الدم على شكل نقاط ضئيلة تسبب تلويث الملابس، فما هو الحكم في الصلاة؟
ج: هناك حجم معين فيما يُعفى عنه في الصلاة وهو الذي يكون أقل من الدرهم أو الذي يحدد براحة اليد أو الإبهام، فإذا كان أقل من هذا فلا مشكلة فيه.

الأنفحة والاستحالة:
س: هل حكم الأنفحة الحيوانية كالجلاتين الحيواني من حيث الاستحالة كما ذكرتم؟
ج: هذه الاستحالة يجب أن نستفتي بها الكيمياويين، لن هذا من الموضوعات التي نحتاج فيها إلى رأي أهل الخبرة، أما الجلاتين فقلنا بأنه يستحيل من عناصره الأولى، لذلك فهو طاهر وحلال بناءً على شهادة كثير من المختصين الذين يملكون خبرة في هذا الموضوع.

ملاقاة عين النجاسة:
س: إذا كان على الثوب بقعة دم يابسة ولا مست الإصبع المبللة بالماء بقعة الدم مباشرة فهل تتنجس الإصبع مع فرض عدم إنتقال أي أثر للدم على الأصبع؟ وعلى فرض تنجسها فهل تكون الإصبع متنجساً أول أو ثان؟
ج: تتنجس الإصبع لملاقاتها عين النجاسة وتكون متنجساً أول لأنها لامست النجاسة العينية.
النجاسة لا تزول بالجفاف:
س: الثوب إذا أصابه بول وجفّ هل تزول عين النجاسة بالجفاف أو تبقى؟
ج: هذه قضية خارجية فربما يبقى أثر البول، صحيح أنه بول جف، لكن إذا كانت آثاره موجودة فالجفاف وحده لا يلغي نجاسته.
س: وعليه فلو وضع هذا الثوب في طشت فيه ماء فهل يكون الماء متنجساً أول او ثان؟
ج: إذا كان البول باقياً وإن كان بشكل جاف لأن عين النجاسة باقية ولم تزل بالماء أو بغير الماء فيعتبر ملاقياً لعين النجاسة.
الغسل في حال الحرج:
س: هل يجوز التيمم بدل الغسل للإنسان إذا أستيقظ وهو يشعر بدوران الرأس وعدم القدرة على الغسل؟
ج: إذا كان الغسل عليه حرجاً أو كان يستوجب الضرر فيمكن ذلك.
ترديد الشهادة في الحيض
س: تعوّدت منذ زممن طويل أن أردد الشهادة وقراءة بعض الآيات القصيرة كل يوم قبل النوم، فهل يجوز لي هذا أثناء أيام الحيض؟
ج: ما المانع من ذلك؟ يجوز بل يستحب للحائض أن تذكر الله في وقت الصلاة التي لا تجب عليها، وذلك بأن تجلس في مصلاّها وتذكر الله. ورأينا أنّه يجوز للحائض أن تقرأ القرآن ولا تقتصر على سبع آيات.
الشك في مشروب
س: في أحد ليالي شهر رمضان الماضي وجّهت لي دعوة لحضور إحدى المناسبات في البلد الذي أقيم فيه وهو أحد بلاد الكفر، وخلال جلوسي قمت بشرب كأس من أحد القناني وبعد ذلك تبيّن لي بأنه كحول فما هو حكم الصيام؟
ج: أنت معذور باعتبار جهلك "رفع عن أمتي ما لا يعلمون". ولكن عليك أن تكون حذراً في المرات القادمة، وأن تتأكد من نوع المشروب والمأكول حتى لا تقع في المحذور.
الغضروف والخميرة:
س: ما هو حكم الغضروف الحيواني الذي يستخدم في صناعة البوظة، وما هو حكم الخميرة الحيوانية المستخدمة في صناعة الأجبان؟
ج: إذا عرفنا أن الحيوان غير مذكى فلا يجوز ذلك لأنه نجس.
صحة الغسل:
س: بلغ عمري (23) سنة ولا أعلم متى بلغت سن التكليف ولما وصل عمري(20) عاماً اتضح لي أن غسلي غير صحيح فما الحكم في صلاتي؟
ج: إذا كان الغسل غير صحيح فالصلاة غير صحيحة لأنه"لا صلاة إلاّ بطهور" فيجب عليك القضاء بالقدر المتيقن.
نجاسة الكلب:
س: ما هو سبب اعتبار الإسلام الكلب نجساً علماً أن علماء الغرب أثبتوا أن لعق الكلب للمواضع الجلدية المصابة ببعض الأمراض يعتبر علاجاً فعالاً،، وثانياً: فإن المعروف أن الله سبحانه وتعالى لا يخلق خلقاً عبثاً وأنه خالق الكلب؟
ج: الله أيضاً خلق البول والغائط والدم والنجاسات الأخرى ويقول لك بأنّك تقدر ان تستعمل الكلب خصوصية معينة. أما لماذا شرّع الله ذلك فهو أمر تعبّدنا به وعلينا أن نمتثل له، ولا يغير من الحكم شيئاً أن يكتشف العلماء دواء في الكلب وفي غيره.
انقطاع الماء أثناء الغسل:
س: إذا دخل المجنب الحمام وهو ناوٍ لغسل الجنابة وبعد تنظيف جسمه انقطع الماء، فهل يُعتبر الغسل الأوّل مجزياً عن غسل الجنابة؟
ج: إذا كان مجرد تنظيف بحيث نوى أنّه سيغتسل بعد ذلك ونظّف جسمه بالصابون ليغتسل غسل الجنابة فلا يجزي.
تحريم الخمر:
س: متى حرّم الله شرب الخمر، هل كان ذلك قبل البعثة أم بعدها؟
ج:في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ((إنّ الله لم يُنزل شريعةً إلاّ وفيها تحريم الخمر)). والسبب ـ كما نتصوّره ـ هو أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل الرسالات من أجل أن ترتفع بعقل الإنسان، فلا يمكن أن يبيح المشرّع للإنسان شيئاً يُسقط عقله، والله يريد منك أن تكون مسؤولاً في حالاتك كلها ما عدا النوم، فإذا فرضنا أنك شربت خمراً وسكرت فمعناه أنك لم تقدر ولن تقدر على ممارسة مسؤوليتك.
الدم المتخلّف في الذبيحة:
س: يوضع اللحم في البرّاد لمدّة أيام وبعد إخراجه من الثلاجة ينفصل الدم بشكل واضح عن اللحم، ما حكم هذا الدم، وما حكم هذا اللحم؟
ج: إذا فرضنا أنّ هذا الدم كان من الدم المتخلّف من الذبيحة وخرج كلا الدم منها فهذا الدم طاهر ولكن لا يجوز أكله.
طهارة فرن:
س: في بعض مطاعم الغرب يستخدمون أفراناً لعمل أقراص البيتزا وتكون درجة حرارة الفرن(350) درجة مئوية وعندما تقع قطعة لحم الخنزير تتحول بعد فترة وجيزة إلى رماد، فهل الفرن بهذه الدرجة من الحرارة عندما تقع فيه قطعة اللحم طاهر ام نجس؟
ج: الفرن يبقى نجساً فالذي يتحوّل إلى رماد هو اللحم بمعنى انه بمجرد وضع قطعة اللحم عليه تنجس، فالنار حوّلت قطعة اللحم إلى رماد ولم يتحول الفرن إلى رماد ولذلك يبقى متنجساً.
الشك في غسل الجنابة:
س: إذا دخل شخص للحمام ناوياً لغسل الجنابة ثم بعد خروجه شك فيما إذا اغتسل غسل الجنابة أم لم يغتسل فهل يعتبر نفسه قد اغتسل؟
ج: إذا شك في أصل الغسل فعليه ان يبني أنه لم يغتسل، نعم إذا فرضنا أن الشخص كان من قبيل الوسواسي الذي يشك بدون أساس فالوسواسي لا يعتنى بوسوسته.
 

ثالثاً: الوضوء والصلاة والإقامة

السجود على الأظافر:
س: بعض الناس عندما يفقد تربة السجود يسجد على أظافر الإبهامين، فهل يجوز السجود عليهما؟
ج: لا يجوز ذلك إلا في حال الاضطرار وعدم وجود ما يسجد عليه كلياً.

صلاة الزوجة الأميّة:
س: ماذا يفعل الزوج إذا كانت زوجته أميّة لا تعرف الصلاة ولا أمور الدين، وقد طلب منها زوجها الصلاة فنفّذت أمره ثم تركت وطلب منها ثم تركت، وهكذا أكثر من مرة، فماذا يفعل؟
ج: يبقى يطلب منها ويضغط ضغوطاً خفيفة ويرغّبها ويحسّن الأسلوب، فقد يعمّق الأسلوب الناجح الفكرة في نفس الإنسان، فتصبح جزءاً ن ذاته، والجرعات الوعظية والتوجيهية كالجرعات الدوائية لا بد أن تكون متدرجة من الأضعف إلى الأقوى. والذي يعظ الناس ويرشدهم يجب أن يكون لديه نفسٌ طويل، لأن ضبط يقاع الإنسان أمر صعب، فقد يكون في الصباح على حال وعند الظهر على حال أخرى، وقد يأكل شيئاً فيتغيّر، وقد يسمع شيئاً فيتغيّر، وهكذا، فلا بد أن تلاحقه حسب المتغيرات التي تحصل عنده في الحياة، فعملية رعاية الإنسان تختلف عن رعاية الحيوان، فالحيوان إذا أعطيته منهجاً يتعوّد عليه، لكن الإنسان {خصيمٌ مبين} (يس/36)، يخاصم حتى ربّه الذي خلقه ويتمرّد عليه.
ولذلك فعملية رعاية الإنسان وتوجيهه تحتاج إلى ملاحقة دائمة حتى تستطيع بمجرد أن ينحرف أن تعيده إلى الاستقامة، وفي الدعاء ((اللهم إني أستغفرك لما تبتُ إليه ثم عدت فيه، وأستغفرك لكل خيرٍ أردت وجهك فخالطني فيه ما ليس لك))، لأن مشكلة الشيطان هي أنه يلازم الإنسان فيمنّيه ويزيّف له ولكن الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف/201).

تفاوت الأذان:
س: يوجد تفاوت في وقت أذان المغرب بين من يقول بحلول المغرب بسقوط القرص وبين من يقول بغياب الحمرة المشرقية مقداره (12-15) دقيقة، فهل يوجد تفاوت في وقت أذان الصبح ووقت أذان الظهر؟
ج: ليس هناك تفاوت في رأينا بين كل الأوقات، فنحن نقول وفاقاً للسيد أبو القاسم الخوئي(ع) في رأيه العلمي ووفاقاً لأكثر من عالم من العلماء، إن الغروب يتحقق بسقوط القرص ومن أحب الاحتياط فليحتط، لأن هناك علماء يفتون بهذا من قبيل محاذرة الخروج عن مخالفة الآخرين، أما رأينا أنه لا فرق في ذلك، وبعبارة أخرى فإن التوقيت له حسابات دقيقة، وأعتقد أن الأوقات التي اتفق عليها الناس في الحسابات الفلكية هي مجزية. وأما في موضوع سقوط القرص أو الحمرة المشرقية، فالذي يحب أن يحتاط فله، ولكن نعتقد أن الاحتياط ليس واجباً.

الصلاة على القبر:
س: استشهد أحد الأخوة في جبهة القتال، فقام صاحبه بدفنه مع عدم وجود من يساعده إلى سحبه إلى الخلف، ولكن من دون أن يصلّي عليه، فهل يمكن الصلاة عليه وهو مدفون؟
ج: نعم يمكن الصلاة على قبره إذا لم تكن هناك طريقة شرعية لإخراجه والصلاة عليه مباشرة.

لإشارات المرورية كحدّ ترخّص:
س:توجد في أوروبا وضعية لحساب المسافة بين المدن وهذه تحسب من قلب المدينة الأولى إلى قلب المدينة الثانية فهل نحكم على قصر الصلاة ووجوب الإفطار في حال السفر مع العلم أنّ المسافة ما بين المدينتين حسب ما هو موصوف في الرسائل العملية هو نهاية المدينة
ج: لا نستطيع أن نعمل على أساس:هذه الإشارات إذا كانت من قلب المدينة بل لا بدّ أن تقيس:المسافة من نهاية المدينة الأولى وبداية المدينة الأخرى.
زيت تصفيف الشعر:
س: هل الزيوت والكريم الذي يستخدم لتفيف شعر الرأس يحجب وصول الماء؟
ج: الظاهر أنّها لا تحجب لأنهّا خارجية، وكل شيء يمكن أن يذهب ويأتي كالزيت فلا يعدّ حاجباً، لأنّه لا يمنع وصول الماء إلى البشرة. أمّا الكريم فيختلف بحسب نوعه فقد يكون حاجباً وقد لا يكون.

قصر الصلاة لمجرد النيّة:
س: هل يجوز قصر الصلاة لمجرد نية السفر أو مجرد العزم على سفر من دون قطع المسافة الشرعية؟
ج: لا بد أن يقطع المسافة الشرعية قاصداً، ويتحقق ذلك بالوصول إلى حدّ الترخّص.


في ذمّته صلاة ويصلّي النافلة:
س: أدّيت الفرائض كالصلاة والصيام في سنّ التاسعة عشرة وليس في سنّ التكليف، فهل تسقط عني السنوات الأربع أم أقضيها، وهل يمكن أن أصلي صلاة الليل، وهي شرف المؤمنين أم أصلي ما في ذمتي من قضاء؟
ج: صلّ القضاء، فالمدين لا يتبرّع.

الصلاة بغير طهور:
س: في الحديث ((لا صلاة إلا بطهور))( )، فإذا أصبح المكلف فاقد الطهورين فلا يجد تراباً طاهراً ولا ماءً طاهراً، فهل يصلي بغير طهور أو تسقط عنه الصلاة؟
ج: إن الصلاة لا تسقط بحال، ورأينا الذي ننطلق فيه من بعض الخصوصيات في فهم النص أن ((لا صلاة إلا بطهور)) هي لمن يتمكن من الطهور، ونحن نستفيد من الحديث المعروف المشهور ((الصلاة لا تسقط بحال))، ولذا فإن الإنسان الفاقد للطهورين يجب عليه أن يصلّي بغير طهور، ولا يجب عليه القضاء إلى احتياطاً، وهناك علماء يقولون أن الصلاة تسقط عنه ويجب عليه القضاء، وبعضهم يقول إن عليه أن يحتاط بأن يصلي ثم يقضي بعد ذلك.

مكان المصلّي:
س: هناك رأي فقهي يقول باستحباب أن يصلّي الإنسان في أماكن عديدة لتشهد له هذه الأماكن يوم القيامة بالصلاة، وهناك رأي يقول باستحباب أن يتخذ الإنسان مكاناً خاصاً للصلاة بناءً على روايات ذكرت، فبماذا تفتون بالأول أم بالثاني؟
ج: بالأول والثاني، بمعنى أن هناك عناوين مثل ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد))( )، فالمسجد الذي فيه جماعة يختلف عن المسجد الذي ليس فيه جماعة، والمسجد الجامع يختلف عن مسجد المحلّة، ولكن لا بأس للإنسان أن يجمع بين هذا وهذا، فكل مكان يصلي فيه الإنسان يشهد له يوم القيامة، وبهذا يمكنه أن يصلي في هذا المكان المميز ويصلي في المكان الآخر مرة أو مرتين ليشهد له أيضاً بالصلاة.

في عدالة الإمام:
س: إذا كان شخص يعلم بنفسه أنه غير جدير بإمامة الناس في الصلاة، ولكنه لا يستطيع البوح بذلك، كما أن الناس يجبرونه على أن يأمّهم، فهل يكون مأثوماً بذلك؟
ج: إذا عرف نفسه انه غير عادل وأن صلاته لا تجزي المأمومين عن صلاتهم، فليس له أن يقدّم نفسه، ولكن إذا ائتمّ الآخرون به من دون أن يدعوهم إلى ذلك فلا مشكلة.

الظنُّ بالقبلة:
س: إذا صلّى المصلّي في بيت جديد ظناً منه أن القبلة باتجاه الشمال، وهكذا لمدة شهر، ثم تبيّن أن القبلة في الجنوب، فهل عليه إعادة الصلاة؟
ج: في هذه الحال، نعم تجب الإعادة.

غسل الجمعة خارج الوقت:
س: ما رأيكم بغسل الجمعة خارج الوقت أي بعد الزوال فيمن يقلد من يقول إنه يجزي عن الوضوء؟
ج: لما كان غسل الجمعة مشروعاً حتى بعد الزوال فيكون مستحباً وإذا كان مستحباً فإنه لا فرق بينه وبين غسل ما قبل الظهر حيث انه يجزي عن الوضوء.
شرط العدالة في الجماعة:
س: هناك شرط في صلاة الجماعة هو العدالة مع ملاحظة أن الإنسان خطّأه فعندما يذنب المرء امامي وانا واثق من إيمانه ومن انه سوف يتوب فهل يتوجب علي أن أتاكد من استغفاره أم يكفيني ما رأيت؟
ج: إن الإنسان عادة يتوب من الصغائر ولا تؤثر هذه في العدالة خصوصاً إذا كانت عن غفلة.
إعادة بعض الآيات في الصلاة:
س: هل إن اعادة بعض الآيات في فاتحة الكتاب بالنسبة للإمام يبطل الصلاة؟
ج: يجوز للإنسان سواء كان إماماً أو مأموماً إعادة بعض الآيات، وقد ورد أنَّ بعض الأئمة(ع) كان يعيد {إياك نعبد وإياك نستعين}[الفاتحة:5] عدة مرات، فلا مانع من إعادة الآيات اختياراً للمأموم وللإمام معاً.
زيادة سجدة:
س: بعد أن انتهى المصلي من الصلاة تأكد أنه سجد ثلاث سجدات في ركعة واحدة فهل يعيد صلاته؟
ج: زيادة سجدة سهواً لا تبطل الصلاة، بل يلزمه الاتيان بسجدتي السهو عقب التسليم من صلاته.
تأدية الصلاة أثناء العمل:
س: ما حكم من لا يستطيع تأدية الصلاة أثناء العمل لضرر يتعرّض له بسبب أدائها؟
ج:لا يجوز للإنسان ان يعمل عملاً يضطر فيه إلى ترك الصلاة، وعليه ان يتجاوز الحرج ويتحمّل الضرر في هذا المجال إذا أراد البقاء في عمله.
التيمم على البلاط:
س: هل يجوز التيمم والسجود على بلاط المنازل العادي؟
ج: هناك رأي في جواز ذلك، ولكن هناك رأي مشهور انه لا يجوز.
صلاة الأبن الأكبر:
س: أب لم يصل في حياته قط وأولاده يصلون بالنيابة عنه بعد مماته فهل يمكن التكليف بالصلاة لغير أولاده؟
ج: رأينا أنه لا يجب على الولد الأكبر أن يصلّي عن أبيه إذا كان الأب متمرداً على الصلاة كلية، فإذا أراد أولاده أن يقوموا بالصلاة عنه فبها، وإن لم يكن ذلك واجباً، ولكنّ هذا الدين الذي قُضي عنه لا يسقط عنه العقاب بالنسبة إلى ترك الصلاة في وقتها.
الصلاة خلف ضرير:
س: هل يجوز لمسلم أن يصلي خلف إمام ضرير؟
ج: وهل العمى يخل بالعدالة؟ إن صلاة الجماعة تحتاج من الإمام أن يكون عادلاً، وقد يكون بعض المكفوفين أكثر عدلاً من بعض المبصرين، فليس ذلك شرطا في صحة الصلاة.
القراءة أثناء الصلاة الإخفاتية:
س: هل يجوز للمأموم قراءة الفاتحة وسورة في الركعتين الأوليين مع الإمام، علماً أنّ الإمام لا يقرأ بصوت مسموع، وفي حال لا يجوز فما هو المطلوب من المأموم، القراءة أم عدمها؟
ج: إذا كان لا يقرأ بصوت مسموع كلية فيجوز للمأموم أن يقرأ في الصلوات الجهرية، وأما الصلوات الإخفاتية فلا يشرع للمأموم أن يقرأ.
الجماعة بلا وضوء:
س: صليّت جماعة وأثناء الصلاة علمت أنّي لست على وضوء، فما هو تكليفي الشرعي؟
ج: عليك أن تترك صلاتك، ولكن لو بقيت على نحو المتابعة الشكلية حتى لا تسيء إلى الذين من حولك فلا مانع من ذلك، ولكن عليك أن لا تقصد الصلاة بذلك.
وحدة صلاة الإمام والمأموم:
س: إذا حضر المأموم صلاة الجماعة ظهراً وتأخر عن الإمام بحيث لم يلتحق بالصلاة لأنها فاتته، وحضر صلاة العصر، فهل يصلي المأموم صلاة الظهر فرادى؟
ج: بل يصلي الظهر جماعة، إذ ليس من الضروري أن يكون الإمام والمأموم على صلاة واحدة، فقد يصلي هو الظهر وأنت تصلي الصبح قضاء وعندما يتشهد تكون أنت في التسليم، فلا يشترط وحدة الصلاتين : صلاة الإمام وصلاة المأموم.
التحديد بالمسافة:
س: ما هو رأيكم فيمن يقول إن الصلاة قصراً وإفطار الصائم لا يتحقق بقطع ثمانية فراسخ بالوسائل الحديثة للنقل، وإنما حددت المسافة بالفراسخ الثمانية لأنها كانت تمثل مسيرة يوم وكانت وسائط النقل آنذاك الجمال؟
ج:هناك اختلاف في بعض الآراء الفقهية التي ترى المدار على الزمن أو المسافة، لكن الظاهر من الأحاديث أنها ركزت على المسافة، حيث يرى مشهور الفقهاء أن التحديد بالمسافة هو أكثر دقة من التحديد بالزمن.
تأمين دعاء الإمام:
س: هل يجوز في قنوت صلاة الجماعة سماع دعاء الإمام دون تكراره، أي هل يكفي التأمين عليه؟
ج: نعم، يجوز أن يقول: يا رب أو (آمين)، فهذا أيضاً دعاء.
الاكتفاء بالشفع والوتر:
س: بالنسبة لصلاة الليل، هل يتم الاكتفاء بركعتي الشفع والوتر، وهل يمكن الإتيان بهما بعد صلاة العشاء؟ وماذا يمكن القراءة من الآيات؟
ج: صلاة الليل(11) ركعة وفي آخرها الشفع والوتر، فإذا لم يستطع أن يأتي بكل هذا فعليه أن يأتي بالشفع والوتر. وللشاب الذي لا يستطيع أن يسهر أن يصلي بعد العشاء، ولكن موعدها هو منتصف الليل. أما ما يقرأ من الآيات، فله أن يقرأ من الكتاب ما يشاء، وإن كانت هناك بعض السور المخصوصة كالمعوذتين بعد الفاتحة والإخلاص في ركعة الوتر.
المسح على الرأس مرتين:
س : لقد صليت لمدة سبع سنوات وكان وضوئي المسح على رأسي ورجلي مرتين لأنه لم يكن لدي معرفة سابقة بالوضوء الصحيح فما هو حكم صلاتي السابقة؟
ج : هناك وجه لصحة الوضوء فمسح الرأس مرتين لا يعتبر ماءً جديداً.
الآية بعد الفاتحة:
س: لو أتى المكلف بأية آية بعد الفاتحة من الصلاة هل تصح أم لا؟
ج: هناك رأي بأن يكتفي بالآية بعد الفاتحة، وهناك رواية عن الإمام الصادق(ع) في هذا الخصوص وهناك بعض العلماء الذين يفتون بذلك ونحن نستقرب ذلك.
القراءة الصحيحة:
س: في رسالتكم العملية تؤكدون على لفظ البسملة والقراءة بشكل صحيح، وأنا أعاني من لكنة في اللسان، فما حكم صلاتي؟
ج: صلاتك صحيحة لأنك معذور في ذلك إذا لم تستطع تصحيح ذلك.
الصلاة بلباس مصوّر:
س: هل يجوز الصلاة بلباس يحمل صورة إنسان او حيوان أو تمثال؟
ج: يجوز ذلك ولكن يكره.
موارد التخير
س: حسب بعض الفتاوى وربما المشهور أنه يمكن للمسافر أن يتم صلاته عند الحائر أي عند الإمام الحسين(ع) فهل يصدق ذلك على المسافر إلى بيت الله الحرام؟
ج: العلماء الذين يقولون بالتخيير المذكور يعتبرون إن موارد التخيير أربعة منها البيت الحرام.
الشك في وقت الصلاة
س: إذا شك المكلّف هل انتهى وقت صلاة الصبح أم لا وكذلك وقت الظهر بسبب عدم وجود تقويم معتبر فماذا يفعل وبأية نيّة يصلي؟
ج: إذا شك واحتمل بقاء الوقت فبها، فينويها صبحاً أو ظهراً، أو يأتي بالصلاة بداعي الأمر المتوجه إليه.
الصلاة خلف مرتكب الكبيرة
س: هل تجب الصلاة خلف رجل ارتكب كبيرة كالزنا واللواط ثم تاب بعد ذلك، وإذا كان الجواب نعم، ألا يتعارض ذلك مع العدالة التي يشترطها الفقهاء؟
ج: إذا تاب وأصلح وسار على خط الاستقامة في الدين بحيث ترك ماضيه جانباً واستقبل حياته بالطاعة والاستقامة فإنه يصبح عادلاً؛ فإنّ الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحب التوابين.
قضاء الصلاة عن الأب
س: بالنسبة لقضاء الصلاة عن الأب المتوفي هل يمكن للإبن أن يطلب من إخوته وأمّه التعاون في ذلك؟
ج: نعم يمكن ذلك، إذ عليه أن يؤدي ما فات أباه من صلاة إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر أي بتبرّع الآخرين أو بالأجرة.
س: هل المسألة نفسها في الصيام، أي أن يشركهم معه؟
ج: الحكم نفسه.
س: هل يمكن استقطاع صيام التطوع الذي صامه الابن قضاء ليكون من أبيه؟
ج: عندما صام تطوّعاً فقد صام عن نفسه فالمفروض أن يصوم عن أبيه ناوياً ذلك.
قطع الجماعة بصلاة القصر
س: نرى بعض المصلين يصلّون قصراً خلفكم لكنهم لا يكملون الصلاة بركعتين قربة إلى الله أو قضاء في الذمّة، وقد يصل العدد إلى صف كامل، اما في هذا قطع لصلاة الجماعة لمن يصلّي خلفهم؟
ج: من أراد أن يصلي قصراً فعليه في الصفوف الخلفية حتى لا يسيء إلى نظام الجماعة بالنسبة للآخرين.
المسكوكات المصوّرة
س: هل يجوز للمرأة ارتداء الملابس والمسكوكات الذهبية الحاوية على صور الإنسان والحيوان أثناء الصلاة علماً أنها تحت الثياب؟
ج:يجوز ولكن يكره ذلك.
الإقامة في المدن الكبيرة
س: ما هي حدود المدن الكبيرة، فمثلاً هل تعتبر أطراف دمشق جزءاً منها؟
ج: إن منطقة (الزبداني) وغيرها ليست من دمشق، فالمدن الكبيرة هي ما يصدق عليها عرفاً ونظاماً إدارياً أنها كبيرة مثل مدينة طهران، لكن عندما يذهب الإنسان إلى الزبداني يقال خرج خارج دمشق، فالضواحي المسمّاة بأسماء مخصوصة وهي منفصلة إدارياً وعرفياً ليست من البلد.
تنبيه المصّلي للآخرين:
س: رفع الصوت في الصلاة أثناء القراءة والتكبير المستحب بقصد تنبيه شخص، هل يبطل الصلاة أم لا؟
ج: لا يبطل الصلاة ولكنه يمنع عن التوجّه أو يدل على عدم التوجّه إلا إذا كان التنبيه على شيء خطر.

نيّة عشرة أيام:
س: جئت زائراً للسيدة زينب(ع) وقد قطعت المسافة ونويت أن أقيم عشرة أيام، وبعد انقضاء العشرة واصلت صلاتي تماماً وبعد عدة أيام اتّضح لي أنه يجب أن تكون صلاتي قصراً، فماذا أعمل؟
ج: من قال إن صلاتك قصر، فليس معنى الإقامة عشرة أيام هي العشرة فقط، بل العشرة فصاعداً إلا إذا خرجت في أثناء المدة إلى المسافة الشرعية.
 

رابعاً: الصيام والكفّارات

تحديد الهلال:
س: ما هو المقياس الذي يمكن بواسطته تحديد بداية الشهر، هل هي مسألة تعبّدية، ولماذا ح صل الاختلاف في هذه السنة في هلال شهر شوال؟
ج: إن الهلال ظاهرة كونية مثله مثل الشمس وهي مرتبطة بالنظام الكوني، والله جعل للشهور نظاماً {إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله} (التوبة/9)، وهو كتاب الكون، فالقمر لا يغيب عن الكون غياباً تاماً، أي ليس له حالة انعدام كلي، ولكن ما الذي يجعل هذا الشهر شهراً مميزاً عن شهر آخر؟ إنه دخول القمر في المحاق، حيث يبدأ الشهر الثاني بخروجه من حالة المحاق، والمحاق يعني أنه ليس للقمر كمية من الضوء، بحيث يمكن أن يرى عندما يخرج من المحاق، وتسمّى هذه الحالة بولادة الهلال، وعندما يولد الهلال فإنه لا يختزن كمية من الضوء إلا عندم يكون عمره ـ كما يقول علماء الفلك المختصون ـ بين (13-14) ساعة، وتستحيل الرؤية بأقل من ذلك، فكيف يمكن أن نعرف أن الهلال قد ولد؟
نحن نقول إن معرفة الهلال تحصل من خلال أهل الخبرة الموثوقين، فإذا عرفنا أن الهلال قد ولد وأنه وصل في عمره إلى مستوى يختزن كمية كافية من الضوء، بحيث يمكن رؤيته، وأحرزنا إمكانية الولادة والرؤية أمكن الاعتماد على قول أهل الخبرة والإفتاء طبقاً لشهادتهم، ولا تكون هناك مشكلة في الرؤية، وهذا هو الرأي الذي يتبنّاه علمياً السيد الخوئي، ونحن نتبنّاه أيضاً.
وعلى هذا الأساس حكمنا هذه السنة ببداية شهر رمضان ونحن في شعبان، وحكمنا ببداية شوال ونحن في شهر رمضان، وأعلنّا ذلك، لأننا اطّلعنا من خلال أكثر مراصد العالم ـ بحسب نشاطنا التجوالي في هذا المجال ـ في أمريكا وفي أوروبا وفي المنطقة، وثبت عندنا أنه يستحيل رؤية الهلال مساء الأحد ـ ليلة الإثنين برأي مرصد (لوس انجلوس) في أمريكا الشمالية ومرصد بريطانيا وفرنسا والبرازيل وأساتذة الفل في طهران وبعض الفلكيين الموثوقين في الكويت، فهناك إجماع فلكي على أنه يستحيل رؤية الهلال يوم الأحد ـ ليلة الاثنين، وأن هلال شوال هو الثلاثاء، حتى أنه جاءنا تقرير من أكبر مؤسسة فلكية أن من ادّعى الرؤية في مساء الأحد ـ في أي مكان في العالم ـ فهو مخطئ، وعلى هذا الأساس نرى أن الوسائل العملية قطعية بالمعنى العرفي حيث أن نسبة الخطأ في التوليد وإمكانية الرؤية نسبة الواحد إلى المليون، بينما ما أكثر الخطأ في الرؤية.
لذلك اعتبرنا أن الشهود الذين شهدوا، وفيم الموثوقون، مشتبهون من قبيل من يرى هلالاً وهو ليس بهلال، وهناك العلماء الذين نحترمهم ممن يعتمدون على الشهادة ولا يرون للفلك قيمة علمية، بل قد يعتبرون الفلك من موضوع التنجيم ويرون أن الشهادات هي الحجة، وأما الفلك فليس عندهم بحجة، لأنه لا يفيد إلا الظنّ {وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً} (النجم/28)، وعلى هذا الأساس لما كان هناك شهود في إيران وفي الكويت والبحرين فإنهم حكموا منسجمين مع ما يعتقدونه من حجة وهم معذورون.
لكننا نقول بأن الفلك الحديث يختلف عن الفلك القديم، وأن الحسابات الفلكية الآن هي التي تخطط لرحلات الفضاء والصعود إلى القمر، مما يعني أن الفلك أصبح في الحسابات من الدقة، بحيث تحوّل إلى ما يقرب من الحقيقة العلمية لا النظرية، ولذلك نقول إنه عندما يشهد شاهد فيكون الشهود شهوداً بولادة القمر قبل أن يولد، فكيف يأتي من يشهد والقمر لا يزال في المحاق، فمثلاً في طهران يولد الهلال بعد الغروب بساعة ونصف أو ساعتين، وفي الكويت والبحرين يولد بعد الغروب بـ(92) دقيقة، ومعنى ذلك أنه عند الغروب يكون الهلال في لمحاق ولم ينفصل بعد من الشمس، فإذا كان الهلال في المحاق فكيف يُرى؟
وكما قلت فإن كون الهلال في المحاق كان إجماعاً فلكياً في العالم، ومن قال برؤيته يكون كمن يقول رأيت الجنين في بطن أمه من دونوسائل الرؤية الحديثة، لذلك نقول إن الذين قالوا برؤيته مخلصون ولكنهم مشتبهون، ونحن بينّا أنه مع كل الاحترام لكل من حكم ولمن رأى أن الذين ادعوا الرؤية مشتبهون وأن الذين حكموا منسجمون مع مبانيهم الفقهية، وهذا هو كل شيء..
ونحن نقول دائماً لكل إخواننا وأخواتنا لا تجلعوا من هذه المسائل أساساً للتنازع والاختلاف وإثارة المشاكل، فمشكلتنا أو بلاؤنا هو هذا النوع من التعدد في التقليد ليس فقط في الهلال، بل حتى في البيت الواحد، فهذا يقلّد من يفتي بنجاسة أهل الكتاب وهذا يقلّد منيفتي بالطهار.
وليس هذا الأمر عند الشيعة فقط، بل عن السنة أيضاً، ففي أول شهر رمضان اختلفوا فقال بعضهم إنه السبت أما بقية الدول الإسلامية ـ غير إيران ـ مثل الباكستان وتركيا وماليزيا وأندونيسيا، فقد قالت بالعيد يوم الثلاثاء.
فالمسألة ليست مسألة سنة وشيعة، ففي أمريكا الشمالية كان العيد بالنسبة للسنّة والشيعة الثلاثاء، وإنما هي مسألة عدم وجود أساس يمكن أن يرجع إليه الجميع، فإذا استطعنا من خلال بحث فقهي أن نصل إلى نظرية فقهية تعتمد العلم، فالعلم واحد، ونستطيع أن نلتقي على عيد موحّد، وما دامت الرؤية في أن هذا لا يثق بشهود ذاك وذاك لا يثق بشهود هذا، فإننا سوف نظل في هذه الفوضى.

الإفطار في يوم الشك:
س: هل يجوز لي الإفطار في يوم الشك في العيد إذا لم يحصل الاطمئنان بالرؤية،أم يجب عليّ السفر؟
ج: ما دام الإنسان شاكاً فلا يجوز له أن يفطر، بل لا بد له أن يصوم إلا إذا أحب الاحتياط فيسافر.

الصوم في الأماكن الساخنة:
س: درجة الحرارة في بعض البلدان كغرب أفريقيا تصل إلى ما فوق الـ(40) طوال النهار، فماذا يفعلون بالنسبة لصيامهم؟
ج: يصومون كما يصوم الآخرون، فإذا أصابهم الضرر من الصوم فإنهم يفطرون.

زكاة الفطرة لفقراء العراق:
س: حسب رأيكم، هل من الممكن إرسال زكاة الفطرة إلى العراق، وهل يمكن إرسالها إلى الأهل هناك؟
ج: إذا كان هناك فقراء في المكان الذي يسكن فيه الإنسان، فالأحوط وجوباً أن يصرفها في منطقته، أما إرسالها إلى بلد آخر فلا يجوز على الأحوط وجوباً، إلا إذا لم يكن هناك فقير في البلد الذي تقيم فيه..

زكاة الفطرة بعد الزوال:
س: هل يجوز دفع زكاة الفطرة بعد زوال ظهر يوم العيد، وما هي النية بعد فوات وقتها؟
ج: تُدفع برجاء المطلوبية بما في الذمّة.

حيض قبل الغروب:
س: جاء الحيض لامرأة أثناء أذان المغرب ولم تصلِّ ولم تفطر بعد، فهل يحسب لها ذلك صيام يوم؟
ج: إذا كان الحيض قد جاءها بعد الغروب فيحسب يومها صياماً، أما إذا كان قد حصل قبل الغروب ولو بلحظات فلا يحسب.

التأخر في الوفاء بصيام نذر:
س: نذرتُ صيام ثلاثة أيام فيما إذا تحقق لي أمر وقد تحقق، فهل لي أن أتأخر في صيام هذه الأيام؟
ج:  إذا كنتِ قد نذرتها بعد تحقّق الأمر مباشرة فلا يجوز لك تأخيرها، فالنذور على ما نذرت، فإذا نذرته سريعاً فعليك أن تنفذه بسرعة، وإذا نذتره على نحو يكون لك الخيار في تعيينه في أي وقت فيجوز لك ذلك.

المراصد الفلكية لحسم خلاف الرؤية:
س: كل شهر هلالي يقع فيه اختلاف بين المسلمين، ولا سيما الأشهر المهمة كشهر رمضان وشوال وذي الحجة، فلماذا لا تُنصب المراصد الفلكية العلمية في البلدان صاحبة القرار في هذا الصدد من سنيّة وشيعية ليحسم الخلاف وتتحد الأمة على رأي موحّد؟
ج: كان رأينا هو اعتماد الحسابات الفلكية الدقيقة التي تبعث على الاطمئنان والتي لا يقع فيها الخطأ بقدر ما يتعلق الأمر بالهلال إلا بنسبة بسيطة جداً لا اعتبار لها، ولأننا إذا بقينا على مسألة الاعتماد على الشهود والرؤيا، فإن الخطأ في هذا سوف يكون، وكما هو كائن، كثيراً، وقد أثار موقفنا الكثير من الجدل ونحن ننتظر الكثير من الجدل أيضاً، فلعل مثل هذا الجدل العلمي يتحول إلى رأي موحّد في هذا الجانب.

كفارة واحدة
س:إذا نذر شخص أن يصوم اليوم الثاني عشر من ذي الحجة من كل سنة ثم عزم على عدم أداء النذر فلم يصم طوال عمره فهل تجب عليه الكفارة عن كل يوم
ج: تجب عليه كفارة واحدة فقط
 
خامساً: الخمس والزكاة

تأجيل الخمس
س:رأس السنة للخمس هو 15/1 من كل عام، فهل يجوز تأجيله لمدة محددة لارتباطي بمحل وبشركاء وذلك لغرض الجرد؟
ج:يمكن لغرض الجرد الاستجازة من الحاكم الشرعي فإذا أجازه يمكن ذلك.

تخميس المال الحلال المختلط بالحرام
س:أعيش أنا وأخواني في أميركا نعيش في أميركا وأحدهم لديه مطعم يبيع فيه لحم الخنزير والخمور وقد تبرع بمبلغ من المال لحج النيابة عن والدنا فماذا نفعل بحصته فهل نخمسها أم لا وهل يجوز التصرف بهذه الحصة في موارد أخرى للميت
ج:المال الحلال المختلط بالحرام يجب تخميس:إذا لم يتميز باعتبار أنّ الشخص لا يبيع فقط لحم الخنزير والخمر وإنمّا يبيع أشياء أخرى فإذا فرضنا أنّ الحلال كان مخلوطاً بالحرام فتطهيره بتخميسه وعندما يخمّس يمكن بذله للحج أو في أي مورد آخر.

إعطاء الحقوق لمن لا يستحق:
س: أعطيت جزءاً من الحقوق الشرعية إلى شخص من ذوي رحمي، ثم اكتشفت أنه غير مستحق لأنه غير محتاج، فما هو الحكم لوحصل الشك في هل أنه مستحق أم لا؟
ج: لا بد أن تتأكد من أنه مستحق، ولذلك أعانك الله على أن تدفع بدل ما أعطيته لمن يستحق ذلك.

المهر والخمس:
س: إذا كان مهر المرأة عبارة عن قطعة أرض أو بستان أو عمارة، فهل يتعلق به الخمس؟ ولو باعت الأرض فهل يتعلق الخمس بالمال حينئذٍ؟
ج: لا يتعلق الخمس بالمهر سواء كان نقداً أو عقاراً، أما المال الذي هو ثمن الأرض فلا خمس فيه، ولكن إذا فرضنا أنها ربحت من هذا المال ففيه خمس.

صرف الخمس بلا إذن:
س: شخص صرف الحقوق الشرعية (الخمس) على مستحقيه وللسادة من دون إذن المقلد، فهل يجب عليه إعادة الخمس؟
ج: عليه أن يستجيز منه، ولا أظن أن أحداً من المقلدين لا يجيز ذلك إذا عرف أن هذا الصرف كان في محله.

الخمس بعد المؤنة:
س:قرأنا في فتواكم بأن الشخص الذي بدأ بناء بيته يعطى من الخمس بينما الإنسان الذي لديه بعض المال ويدخره لبناء بيته لا يعفى من الخمس، فما هو الفرق؟
ج: لا يصدق على المال أنه من المؤنة فلا يستثنى من الخمس، فالفرق هو أن الإنسان الذي يجمع مالاً ولا ينفقه خلال سنة فالمستثنى منه هو المؤنة فـ(الخمس بعد المؤنة) فما يستثنى للإنسان هو المؤنة والمؤنة هو ما يصرفه الإنسان في حاجاته أثناء السنة أو حاجاته المستقبلية التي لا يستطيع أن يحصل عليها من خلال سنين متعددة.
أما المال الذي اختزنه ولم يصرفه في المؤنة فهذا ليس من المؤنة. نعم يمكن أن يصرفه في المستقبل على أنه من المؤنة وهو ليس مؤنة وهذا هو الفرق بين الموردين.

خمس تعويض التأمين:
س: انا موظف أعمل في شركة حكومية وقد أصبت خلال عملي بمرض مهني، وقد تقاضيت شركة التأمين تعويضاً عن الأصابة فهل يتوجّب علي دفع خمس المبلغ، وإذا كان كذلك فهل يجب دفعه فور تقاضيه أم بعد أنقضاء عام؟
ج: يجب إخراج الخمس منه بعد انقضاء عام على تقاضيه، أو عند مجيء رأس السنة إذا كان له رأس سنة.
الخمس من الغنائم:
س: نعلم أنّ الخمس قد فُرض على الغنائم التي استحوذ عليها بالحرب، فما هو دليل فرض الخمس على بعض الأموال؟
ج: الدليل أولاً: من قوله تعالى {ما غنتم من شيء فإنه لله خمسه}[النفاق:41]. صحيح أنّ هذه الآية وردت في أجواء الحرب لكنها لم تقيد (فما غنتم من شيء) تطلق على الشيء الذي يحصل عليه الإنسان في الحرب وفي غيره، ولذا نقول غنائم دار الحرب. وثانياً: وجدنا في رسائل الرسول(ص) التي كان يبعثها للناس أنه كان يقول (عليكم الخمس). ثم إنّ أهل البيت(ع) الذين يتحدثون عن رسول الله(ص) كانوا يتحدثون عن الخمس وقد طبّقوه في حياتهم.
استثمار مبلغ الخمس:
س:هل يجوز لأحد مقلديكم ان يستثمر مبلغاً لا بأس به من الخمس من سهم الإمام في مشروع مربح جداً بحيث يكون هذا المبلغ هو السهم الشريف10% أو 20% بصورة مستمرة؟
ج: لا بد في ذلك من استئذان الحاكم الشرعي ليدرس القضية ويرى ما هو مصلحة الحق الشرعي في ذلك.
المدين والخمس:
س: هل على المدين خمس؟
ج: إذا كان دينه مترتباً من سنين سابقة وعنده رأس سنة فيجب أن يخمّس، أمّا إذا كان دينه في نفس السنة ومن مؤنة السنة وبقي عنده مال في آخر السنة فلا يجب عليه الخمس.
الخمس من عين المال:
س : هل يتعين في إخراج الخمس أن يكون من عين المال نفسه أم أنه يكفي بأن أخرج من غير المال الذي دارت عليه سنة؟
ج : يجوز للإنسان أن يخرج الخمس من أي مال كان لكنه إذا كان المال الذي أخرج منه الخمس ليس من مجموع هذا المال الذي تعلق فيه الخمس بل من المال الآخر كما في أرباح السنة القادمة فلا بد أن يخمس المال عينه، أما إذا كان في أثناء السنة ومن نفس مال السنة أو من مال مخمس سابقاً فلا مشكلة.
مس الطوابع:
س: هناك هواية جمع الطوابع لدى الكثير من الشبان فكيف يكون خمسها؟
ج:إذا فرضنا أنه كان لها ثمن فيخمّس ثمنها. أو يدفع قسماً كبيراً منها بمقدار الخمس للفقراء المستحقين.
إعطاء الخمس لغير المرجع
س: هل يجوز إعطاء الخمس لغير المرجع الذي أقلّده؟
ج: تارة يقول المرجع الأحوط إعطاؤه إلى المرجع، فيمكن له ــ في هذا الفرض ــ أن يقلّد غير المرجع ممن يفتي بالجواز فيمكن أن يعطيه الخمس، وأما إذا عيّن ذلك وعرفنا أن المرجع يصرفه من خلال نفسه أو وكلائه في الموارد الصحيحة فعلينا دفعه له، أما إذا عرفنا أنه يصرف من خلال وكلائه في الموارد غير الصحيحة فمشكل.
 

سادساً: أموال وبنوك

المغالبة في اللعب:
س: يقوم الأطفال أحياناً باللعب بالصور الملونة المطبوعة على شكل بطاقات مما يستدعي أن يأخذ أحدهما بطاقات الآخر عندما يغلبه، فهل هناك إشكال في ذلك، بحيث يدخل اللعب في عملية المقامرة؟
ج: إن كل عملية يستهدف منها الربح على طريقة المغالبة بين شخص وآخر، بحيث من غلب يربح تعدّ من القمار.

مشكلة بين شركاء:
س: هناك ثلاثة شركاء في محال لبيع المواد الغذائية، وقد حدثت مشكلة فأراد أحدهم ترك العمل قاطعاً بعدم الرجوع مطالباً بحقه، فهل يعطى حقه مما بيع من البضاعة أم تنتظر حتى تباع البضاعة كلها؟
ج: الشركة من العقود التي يفتي مشهور العلماء أنها جائزة، حيث يستطيع في أثناء الشركة أن ينسحب، وإذا انسحب فلا بد أن يعطى حقه إلى حين انسحابه.

التصرّف بهبة:
س: إذا قدّم شخص لشخص مالاً لغرض معين ولم يتحقق الغرض، فهل يعتبر المال الموهوب ملكاً للشخص الثاني بحيث يحقّ له التصرف فيه في غرض آخر أم يعيده لصاحبه الواهب؟
ج: تارةً تكون الهبة بأن يقول له أعطيتك المبلغ بشرط أن تعمل كذا وإذا لم تعمل فعليك أن ترد المبلغ، ومرة يريد أن يعطيه من دون أن يشترط عليه شيئاً، ولكن ثمة دواعٍ معينة تدفعه إلى ذلك، كما لو يعطيه مبلغاً لإنجاز بعض المطالب، ففي هذه الحالة له أن يمتلك الهبة، والدواعي النفسية التي تبعث على الهبة وعلى العطاء لا تقيّد المال الموهوب، فإذا كان هناك شرط فالتمليك باطل.

أجرة اتصال هاتفي:
س: أتصل أحياناً من محل الاتصالات التلفونية فينفتح الخط وأسمع الطرف الثاني ولا يسمعونني فأغلق السماعة، وبذلك لا أستفيد من هذه المكالمة، إلا أن صاحب المحل يطالب بأجرة هذا الاتصال الذي لم أستفد منه، ويقول لي أن الجهات الرسمية تطالبني بالأجرة المقررة رسمياً، فهل يستحق صاحب المحل ذلك؟
ج: ذلك حسب العرف العام، فإذا كان صاحب المحل يقول لك إنك لمجرد استعمالك للهاتف يجب أن تدفع ـ بقطع النظر عما إذا هاتفت أم لا ـ فيجب عليك ذلك، وإلا لا يجب، وعليه فالمسألة تختلف حسب اختلاف البلدان والعرف العام.

إبراء ذمة:
س:كان لديّ مبلغ لصديق لغرض عمل تجاري مشترك، وحدثت خسارة بسيطة وتحاسبنا بعد ذلك فسلّمته المبلغ الذي اتفقنا على إعادته إليه، فقال لي أنني أبرئت ذمتك فشكرته وشكرني.. وبعد ذلك قال لأحد الأصدقاء خلاف ذلك، فما هو الحكم؟
ج: إذا أبرأك بالصراحة فأنت بريء من ذلك ولا تأخذ بقول بعض الأصدقاء فذمتك بريئة حتى إذا تغيّر رأيه بعد ذلك.

التصّرف بأمانة:
س: ما هوحكم من تصرّف بالأمانة المودعة عنده من غير علم صاحب الأمانة، وهل يجوز أن يكون التصرّف بالفحوى؟
ج: إن ا لأمانة على قسمين: فتارة تكون أمانة نقدية وتارة تكون أمانة عينية، فلو أودع شخص عندك سيارة مثلاً أو أودع عندك صحوناً أو ما أشبه ذلك، فيجوز للإنسان التصرّف بها إذا أحرز رضا صاحبها بإذن الفحوى من خلال القرائن الموجودة لديه.. أما التصرّف بالأمانة النقدية بيعاً وشراءً فلا تصح المعاملة بمجرد إحراز الرضا على المشهور من علمائنا، بل لا بد من الإذن أولاً أو الإجازة، فإذا فرضنا أن عندك أمانة مالية من شخص أودعها عندك ولا يصحّ لك التصرّف بها واحتجت بأن تسدّد قرضاً مثلاً أو إلى شراء شيءٍ ما فالمعاملة تبقى معلّقة إلى أن يأتي صاحب الأمانة لتطلب منه أن يجيز ما فعلت وعندها تصحّ المعاملة، وإلا فهي باطلة وتسمى (معاملة فضولية) فلا يجوز التصرف بالأمانة النقدية المودعة عندك إلا إذا أذن لك صاحبها أو أجازها بعد ذلك.

قيمة المثل:
س:استأجرت بيتاً وبعد أن انتهت المدة المقررة خرجت منه ولكن صاحب البيت فحص كل جهاز البيت وبعد شهر أو أكثر من تاريخ خروجي وجد حسب ادعائه جهازاً عاطلاً عن العمل فاشترى مكانه جهازاً جديداً دون علمي وأمرني بدفع قيمة الجديد علماً أنّ الجهاز العاطل لا يقل عمره عن أربعة عشر سنة فهل يجب علي دفع قيمة ما اشترى أم أعطيه قيمة المثل؟
ج: لا يجب عليك إلاّ دفع قيمة المثل أمّا قيمة ما اشتراه فلا

إدانة السارق بتجريبه
س:لو سرق لشخص مال فشك بأحد الأشخاص باعتباره يملك مفتاح المنزل فقام صاحب المال المسروق بعمل ما ليجربه فهل يجوز لصاحب المال أن يدين السارق شرعاً أو يهدده لإرجاع المال بعد أن جربه
ج: لا يجوز له ذلك لأنّ هذا العمل المجرب ليس:حجة على أنّ هذا الشخص هو السارق فتجربته في موقع لا تعني أنّه هو السارق ولذا لا يجوز أن نحكم على إنسان بمجرد وقوع بعض هذه الأعمال حتى لو قيل أنهّا من العمال المجربّة بل لا بدّ من اعتماد قول الرسول ص في القضاء"إنمّا أقضي بينكم بالبينات والأيمان" 4 فإذا كان عندك بيّنة فيها وإلاّ فلا يكفي التجريب.

إرث ابن الزنا
س : المتولد من علاقة غير شرعية هل تترتّب عليه الآثار الشرعية نفسها كما لو كان ولداً شرعياً؟
ج: نعم تترتّب عليه كل الوسائل الشرعية فهو كالولد الشرعي وهذا هو رأي السيد الخوئي والآراكي وجماعة من العلماء ما عدا الإرث ويمكن أن ينظر إلى محارمه ولا يجوز أن يتزوج أخته من النسب وكل الأمور التي تترتب عليه لأنّه ولد حقيقي وغاية الأمر أنّ الشارع لم يجعل له حقّاً في الإرث فهو لا يرث ولا يورّث.
الخجل من المطالبة بوفاء قرض:

س: اقترض شخص مني مالاً منذ سنة ولم يردّه لي أو يقول لي سأرده، وأنا أخجل من مطالبته به، فماذا أفعل؟
ج: إذا كان معسراً {فنظرة إلى ميسرة} (القصص/56)، إذ عليك ـ والحال هذه ـ أن تصبر عليه، وإلا أخبره بطريق أو بأخرى بذلك حتى يسدّد ما بذمته.

أعمال طالب الحوزة الحرّة:
س: من أجل تحسين المستوى المعاشي لطالب الحوزة، هل من مانع يحول من ممارسته لعمل تجاري أو كأجير في مهنة لا تخلّ بوضعه الاجتماعي؟
ج:  المهم أن لا تخلّ بوضعه الدراسي.

س: وإذا كان ثمة تعهد من الطالب بعدم العمل أمام الإدارة، فما هو الجواب؟
ج:  عليه إذا التزم وتعهّد أن يفي بعهده {وأوْفوا بعهْدِ الله إذا عاهدتُم} (النحل/91)، {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (المائدة/1).

شرط عدم تحمّل الخسارة:
س: الشريك في عمل تجاري إذا اشترط عدم تحمّله الخسارة في العمل وحدثت خسارة عند الشريك الأول، فهل يمضي شرطه على الشريك الثاني إذا وافق بالشرط ابتداءً؟
ج: يُقال هذا شرط مخالف للعقد، لكن العلماء حلّوا هذا الإشكال بأن يقول تارةً أنا أشاركك بشرط أن لا أخسر، ومرة بشرط أن أعوّض لك خساتك، فشرط عدم الخسارة على خلاف قانون الشركة لأن الربح للطرفين والخسارة للطرفين أيضاً، ولكن مراعاةً لظروفك فأنا مستعد لأن أعوضّك بشيء من المال، وليس هذا جزءاً من قانون الشركة، وإنما يشبه من يتصدّق على شخص آخر، فإذا كان الأمر بهذا الشكل فيجوز.

حجب الإرث عند الأولاد:
س: عند الجمهور يجب الإرث عن الأولاد إذا توفي والدهم وما زال جدهم على قيد الحياة، فأخوة المتوفى يرثون في حين أن أولاده لا يرثون، فما هي العّلة في ذلك؟
ج: هناك طبقات في الإرث، فولد الولد ليس من طبقة أعمامه، فلماذا لا يرث الأولاد الأخوة؟ البعض ينظر إلى المسألة من ناحية العطف والشفقة، حيث أن أباه قد توفي فلا يصحّ أن يترك وإنما يجب أن يرث من جده، ولكن السؤال هو أن أخاه فقير أيضاً وأخته فقيرة أيضاً، ولذلك فالقضايا لا تعالج بهذه الطريقة، وإنما نظّم الإسلام طبقات الإرث، فكل طبقة تحجب الطبقة التي بعدها.
والله تعالى يقول {وأولوا الأرحام بعضُهم أولى ببعضٍ في كتاب الله} (الأنفال/75)، فالأقرب يمنع الأبعد، فالبنت الواحدة ـ مثلاً ـ لها النصف {وإن كانت واحدة فلها النصف} (النساء/11)، وأما النصف الآخر فيقول إخواننا السنّة يرثها الأقرب، فهم يقولون إن الله فرض لها النصف، ولكننا نرى أن الآية الآتية تقول {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله}، فهي ترث النصف بالفرض والنصف الآخر بالقرابة.

ثبوت ثلث الميت:
س: بالنسبة إلى ثلث الميت هل يثبت سواء أوصى به أم لم يوص به؟
ج: لا يثبت إلاّ بالوصية.

شك في أموال المسجد:
س: تبرّع شخص لمسجد وهو مسؤول عن أموال المسجد وأموال شرعية أخرى، وعند جرد هذه الأموال نجد أحياناً أموالاً ناقصة وأحياناً أموالاً زائدة، وأشك بأنّ ذلك ناتجٌ عن عدم التسجيل؟
ج: إذا كان ذلك مجرد الشك فليس له قيمة، أما إذا أحرزت أنك السبب في نقصان هذه الأموال فعليك أن تضمنها.

مأتم من ريع الوقف:
س: هل يجوز إقامة مأتم من ريع الوقف علماً بأن الوقف موقوف فقط للطبخ في الليالي المخصصة وهي العاشر من شهر محرم وثلاث ليال من شهر رمضان في وفاة علي(ع)؟
ج: (الوقوف على حسب ما يقفها أهلها)، فلا يتعدّى منها إلى غيرها.

الحطب المسروق للطبخ:
س: إذا كان الوقود او الحطب المستعمل في الطبخ مسروقاً أو مغصوباً فما هو حكم الطعام المطبوخ من حيث جواز أكله؟
ج: لا مانع من ذلك، فالطعام ملك الشخص، وإذا كانت الحرارة التي أنضجت الطعام انطلقت من حطب مسروق فإن السارق هو الذي يتحمل المسؤولية في ذلك، ولا دخل للطبخ فيه.

في هبة الأعضاء وبيعها:
س: هل يجوز للإنسان أن يوصي بأعضائه عند الموت هبة؟
ج: نعم يجوز ذلك.

س: وإذا كان عكس ذلك أي باع الإنسان أعضائه بثمن معين خاصة ونحن نعلم أن المتاجرة بمال الله لا تجوز؟
ج: هذا البيع باطل لأن بيع الأعضاء غير جائز، نعم في التنازل عنها أو الوصية بها في قبال أن يعطيه مالاً فليس في ذلك مشكلة.

العربون والإيجار:
س: يدفع بعض الراغبين في إيجار شقة (عربوناً)، ثم يعدل بعد ذلك عن الإيجار، فهل يخسر هؤلاء الراغبون في الإيجار العربون في حال العدول عن الإيجار؟
ج: تارة يكون هناك عقد إيجار، وهناك شرط بدفع العربون كدفعة أولى للإيجار، ويشترط في ضمن العقد أنه إذا فسخ المستأجر العقد أو لم يقم بما عليه فإن هذه المقدّمة تعود للمؤجر سواء كان الشرط مصرحاً به أو كان ضمنياً (فالمؤمنون عند شروطهم). أما إذا كان يريد أن يستأجر ولم يحصل عقد إيجار ودفع عربوناً فليس له أن يأخذه حتى لو فرضنا أن الآخر تراجع.

بيع الأرصدة المجمدة:
س:هل تجوّزون بيع الأرصدة المجمدة في البنوك لأجل معلوم بأقل من قيمتها مثل الألف دولار المحجوزة لمدة سنة بتسعمائة دولار نقداً؟
ج: إذا تحقق عنوان البيع أو كانت المسألة مسامحة بالمئة الأخرى فلا مانع من ذلك.

تجميد المال في المكتبات المعطلة:
س: هل يجوز شراء الكتب الدينية وغيرها لغرض كنزها لا لغرض قرائتها، وإذا قلتم بالجواز أليس ذلك من باب تجميد الأموال وعدم توظيفها، وقد رأينا أن لدى بعض الوجهاء مكتبة ضخمة اشتراها بأموال طائلة ولكنه لا يطالعها ولا يسمح لأحد باستعارة كتبها؟
ج: هناك من الناس من يضع الكتب كديكور في بيته مثل الخزانة، وقد تحولت المكتبات في بعض الأحيان إلى تقليد، فترى تاجراً لا شغل له بالعلم ولكنه يقتني الكتب كما يقتني اللوحات، فإذا كان هناك عرف اجتماعي يخرجها من الإسراف أو من التبذير فلا مانع، لكن عليه أن يخمّسها.

المعاملة بالتشويق:
س: في تركيا توجد معاملة تعرف بالتشويق وهي ان المواطن يشتري من المصنع بضاعة ويأخذ فاتورة ويسلّمها للدولة وهي تسدّد المبلغ لصاحب المصنع لغاية سنّة واحدة ولا تزيد في القيمة وإذا تجاوزت السنة فإنها تزيد 20% علماً بأن قيمة العملة التركية تنخفض دائماً فهل هذه المعاملة صحيحة؟
ج: إن هذه المعاملة بطبيعتها ليست محرّمة، لكن إذا قصد بها الالتزام بإعطاء الفائدة للدولة فلا يجوز ذلك، أمّا إذا لم يقصد ذلك فيجوز له التعامل بها.

من الجعالة:
س: ما رأيكم في أخذ(قمسيون) أي عمولة مكتب من معلمين يريدون الذهاب إلى الخليج، وما هي النسبة الشرعية في ذلك؟
ج: العمولة أو (القمسيون) هي عبارة عن شرط جعالة أي أن شخصاً يعمل لك عملاً ما على ان تعطيه مبلغاً من المال في قبال عمله، فإذا تمت بدون غش فهي ليست محرّمة.

استثمار الدور الأرضي لحسينية:
س: هل هناك إمكانية لاستثمار الأرض المقامة عليها الحسينية ببناء الحسينية في الدور الأرضي، وبناء أمكنة في أعلاها كشقق للإيجار، بحيث يكون نصف الإيجار للمستثمر والنصف الآخر للحسينية او يصرف في أوجه الخير الأخرى؟
ج: إذا كانت أرض الحسينية هي فقط الطابق الأرضي وكان البناء لا يضر بما أوقفت الحسينية له بحيث لا يؤثر عليها كلية فلا مانع من البناء عليها، لكن على ان يصرف في شؤون الحسينية او في شؤون الخير. أما حصة المستثمر فبمقدار استثماره وليس الأمر مفتوحا للنهاية، ففي ذلك إشكال.

الوسيط بين البنك والمشتري:
س: ما هو حكم الوسيط بين البنك الربوي والمشتري؟ فمثلاً أنا أعمل في بيع السيارات في أمريكا وكثير من المشترين يرومون شراء سياراتهم عن طريق البنك شرط أن أكون وسيطا بينهم وبين البنك، وقد تكون قيمة سيارة (3000) دولار أما عن طريق البنك ف(5000)دولار، وبذلك تكون لي حصة من هذه الأرباح؟
ج: إذا كنت وسيطا في المعاملة الربوية فتارة البنك هو الذي يتولى بيع هذه السيارة، ولا مشكلة على الشخص في ذلك، أما عن طريق الربا فلا يجوز للوسيط ممارسة هذه الوساطة لأنها محرمة.
الصدقة للمتسولين:
س: هل يجوز إعطاء الصدقة إلى المتسولين خاصة إذا كان على حساب المستحقين مما يمكن أن يشجعهم على ذلك؟
ج: إذا عرفنا أنهم متسولون ممتهنون فلا، أما إذا احتملنا أن يكون قد دفعتهم الفاقة فيجوز ذلك.
تحويل أرض موقوفة إلى مخزن:
س: أرض موقوفة من قبل أولياء الوقف على أساس بناء مسجد على تلك الأرض، فهل يجوز تحويل هذه الأرض إلى مخزن كتب بحيث يدخله الجنب والحائض؟
ج: إذا تم وقفها بشروط الوقوف كانت مسجداً حتى لو لم يبنَ عليها، فلا يجوز التعامل معها إلا بشروط التعامل مع المسجد والوقوف على ما أوقفها أهلها.
شراء مزرعة مغصوبة:
س: هناك مزرعة مغصوبة فهل يجوز شراؤها؟ وما هو حكم من اشتراها؟
ج: لا يجوز له ذلك، بل عليه أن يرجعها إلى أصحابها الذين غصبت منهم.
سرقة ثمن قطعة أرض:
س: هناك قطعة أرض هي حق لي وقد ورثتها عن أبي، والآن يستثمرها أخي ولا يردّها لي، فهل يحق لي أن أسرق ثمنها منه، وما هي الإجراءات الممكنة مع أنه لا يخضع لحكم الشرع الإسلامي؟
ج: إن القضايا التي تتعلق بين اثنين لا يمكن أن يعطى فيها رأي مطلق، فلا بد من دراسة الموضوع من جميع جوانبه وبشكل ميداني بحيث يستطلع فيه رأي الأطراف كلها. وإذا لم يستطع إرجاع الأرض بالطرق الشرعية أو القانونية أو الاجتماعية أو غيرها فيمكنه المقاصّة بأخذ ثمنها منه بطريقة خفيّة، والأحوط أن يكون ذلك بإجازة الحاكم الشرعي.
شركة مساهمة لبيع الخمر:
س: شاركت في شركة لديها أسهم فأخذت بعض أسهمها ثم علمت أن الشركة تعمل في بيع الخمر؟
ج: عليك أن تخرج منها إذا كان كل بيعها الخمر، أما إذا كانت تبيع الخمر وغيره فأخذ المال من هذا وهذا يكون من قبيل المال الحلال المخلوط بالحرام.
الشك بسرقة المبيعات:
س : يحصل أن يبيعك شخص أرخص بكثير من سعر المحلات وإذا شككت بالبائع فماذا يكون موقفي؟
ج : إذا بلغ الشك مرتبة الاطمئنان بأنه سرقها فلا يجوز ذلك.
استقطاع أموال من نفط العراقيين:
س : المفوضية العليا للاّجئين تستقطع جزءاً من صادرات النفط العراقي وتعطيه بشكل رواتب للاّجئين العراقيين، والسؤال ما حكم هذه الأموال، هل هي أموال عامة متوقفة على الإذن الشرعي أو أنها مغصوبة؟
ج : الشعب العراقي أحق بها، وهي ليست من أملاك الحاكم الظالم، وعلى فرض احتياجها للإذن فنحن نأذن باستلامها.
قرض من بنك ربوي:
س: أخذت قرضاً من بنك أجنبي من دون أذن شرعي وذلك للزواج وشراء قطعة أرض للسكن، فما الحكم في هذا القرض؟ وما حكم الخمس فيه، وهل يجوز اقتراض الخمس؟
ج: القرض صحيح ولكن قصد الفائدة حرام، وإذا بقي قرضاً ولم يفه فلا خمس فيه لأن الخمس هو للغنيمة، أما القرض فلأنه لا يزال قرضاً فلا خمس فيه.
بيت من مال حرام
س: شخص جمع مالاً من الحرام مثل بيع الخمر وبنى له بيتاً وبعد عشرين سنة تاب إلى الله تعالى فما هو حكم هذا البيت وكيف يتصرف به؟
ج: البيت ليس محرماً، والسبب هو انه لما بناه لم يبنه بعين أموال الخمر فعندما ذهب ليشتري الإسمنت أو الخشب أو الحديد لم يقل للبائع بعني الفلوس كما كانوا سابقاً يفعلون بالدراهم والدنانير حيث توزن الدراهم والدنانير ويقول المشتري للبائع: بعني بهذه فيكون البيع عندئذ باطلاً. أما في هذه الأيام فكل البيع بالذمّة فمثلاً يقول له ابعث لنا مقداراً من الإسمنت ثم هو يفيه بأموال مختلفة فيها الحرام وفيها غيره فالوفاء غير صحيح ولكن البناء صحيح لأنه بنى بمال في ذمته، نعم ذمته مشغولّة لذلك الشخص لأنه مال حرام فلا يصحّ أن يفي به دينه. وبالنسبة للبيت فلا مشكلة ولكن عليه إذا استطاع أن يتسامح مع هؤلاء الناس أو يفي لهم بمال شرعي أو أن يدفع المال الحرام إلى الحاكم الشرعي إذا لم يعرف أصحابه لأنه يكون من قبيل مال مجهول المالك.
استلام راتب متزوّج
س: في الوقت الحاضر أحضر بعض الدروس الحوزوية بدافع مادّي وللحصول على راتب الحوزة فهل يحلّ لي أن آخذ الراتب كطالب، وهل يحق لي أن آخذ راتب متزوج وأنا أعزب؟
ج: إذا لم تكن طالباً متفرّغاً فلا يجوز ذلك، وأما راتب المتزوج لغير المتزوج فلا يجوز أيضاً.
حفظ المال بالبنوك
س: هل في وضع النقود في البنوك الحكومية مثل (بنك الإسكان) أو (البنك العربي) للحماية من الضياع بأس، علماً أن هذه البنوك تقدم الفائدة؟
ج: إذا كان ذلك لغرض الحفظ لا لغرض ربوي فيجوز.
مصرف ثلث الميّت:
س: إلى من يُصرف ثلث الميّت؟
ج: يُصرف في الخيرات، وإذا كان عليه صلاة وصوم فيُصرف ذلك كله حسب الوصيّة.
أجر تسريع المعاملات
س: لدينا مكتب لتعقيب المعاملات العقارية وعمل المكتب هو إعطاء مال لموظف ما مقابل تسريع المعاملة ولكن دون غش وتزوير، فهل يجوز لي أن أعمل فذ هذا العمل؟
ج: نعم يجوز ذلك ما لم يكن هناك إضرار بالآخرين أو تجاوز لحقوقهم.
عوض أجور النقل:
س: إنني أعمل في شركة تقدم شهرياً مقابل عدم توفير المواصلات مبلغاً نقدياً، وتارة أخرى تقدم بدلاً عن المبلغ النقدي قسائم بقدر معين من ليترات من البترول، والسؤال هنا هو أنه في كثير من الأحيان يبقى في نهاية الشره لديّ قسائم فهل يجوز التصرّف بها؟
ج: تارة تعط هذه القسائم على أساس أن يستخدمها الإنسان في حاجاته ويرجع ما فضل منها، وتارة أخرى تقدم له في مقابل هذا التنقل كمثل الراتب الشهري، فهناك راتب يلحظ فيه التنقّل سواء ركب سيارة أجرة أو سيارة صديق أو ما أشبه ذلك، فإذا كان بالنحو الثاني فيجوز له ان يستثمرها وان يبقيها عنده. أما إذا كانت على النحو الاخر بمعنى ان يعطى هذه القسائم على أن يصرف منها ما يحتاجه ليرجع الباقي إلى الشركة فعليه أن يرجعه.
 
سابعاً: الحج
طواف النساء للصبي:
س: إذا ذهب صبيٌ إلى حجّ بيت الله الحرام ولم يطف طواف النساء فهل تحرم عليه النساء عندما يكبر وعندما يبلغ سن البلوغ؟
ج: لا يبعد ذلك، ولا بد أن يُطاف عنه بعد ذلك.
الحج نيابة عن الأمّ العاجزة
س:أريد أن أحج نيابة عن والدتي العاجزة فما هي نيّة طواف النساء فهل أنوي عن نفسي أم عنها
ج: تنوي عنها ففي طواف النساء ينوي الشخص عن المنوب عنه باعتباره جزءاً من الحج وعلى الإنسان إذا ناب عن شخص أن ينوي الحج بجميع أجزائه عن المنوب عنه لكن نتيجة النيابة عن الميت أو الحي العاجز هو أن تتحرر من حرمة النساء عليك لأنّك إذا أحرمت حتى إذا كان الحج نيابة عن الآخر فإن النساء تحرم عليك.
نيابة عن جدّ لا أدري استطاعته
س:إذا كان الشخص ينوي النيابة في الحج عن جدّه وهو لا يعلم هل كان مستطيعاً أم لا فكيف تكون النيابة
ج: ليس ضرورياً أن ينوي حجة الإسلام الواجبة بل ينوي الحج عن جدّه بحسب ما عليه في الواقع.
إحرام المرأة
س:هل يجوز أن يكون لباس الإحرام للمرأة مطرّزاً بالأبيض؟
ج: لا يشترط إحرام خاص للمرأة بل يمكن أن تحج بثيابها.

حبوب منع الدورة لأداء الحج:
س: هل يجوز للمرأة استعمال حبوب منع العادة الشهرية في أيام الحج؟
ج: يجوز ذلك، ولكننا لا ننصح به، لأن أحكام الحج واضحة بالنسبة لذات العادة أو لغيرها، علماً أن كثيراً من النساء اللاتي يستعملن الحبوب ربما يقعن في مشاكل عندما لا تؤدي الحبوب دورها، فقد تقع المرأة في إشكالات من قبيل هل أنّ هذا عادة أو ليس عادة.

ثواب الحج عن الوالد المتوفى:
س: ما هو ثواب من حجّ البيت الحرام نيابةً عن والده المتوفى أو العاجز، وهل تحسب حجة إلى بيت الله الحرام أم أن عليه إعادة الحج عن نفسه في العام القادم؟
ج: إذا كان مستطيعاً للحج الآن فلا يجوز له أن يحجّ عن والده سواء كان متوفياً أو عاجزاً  {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً} (آل عمران/97)، نعم إذا كان قد حجّ سابقاً وناب عن والده فقد ورد في بعض الأحاديث أن له تسعاً من عشر من الثواب، ولا يكون حجاً عن نفسه لأن الحجّ الواجب لا يكون إلا عن شخص واحد.

التقصير للغير أولاً:
س: بعد رجم العقبة الكبرى وبعد الذبح قصّرت لأخي قبل أن أقصّر لنفسي سهواً، فما هو الحكم الشرعي؟
ج: ليس عليك شيء.

حج غاصب المال:
س: تقولون في كتابكم (مناسك الحج) إن من له أموالاً مغتصبة لا يجب عليه الحج ولو حج فله أن يستقرض لشراء ثوبي الإحرام والهدي ليكون الحج مقبولاً، فلماذا لا يكون الحكم عدم الجواز ليس للمالك الحقيقي، كما في المسألة، تخميس الأموال؟
ج: أولاً: إن النقل غير دقيق فنحن نقول إن الإنسان الذي لديه أموال مغصوبة لا يجوز ان يحج بها، ومن الطبيعي أن يحرم عليه الحج إذا لم يكن مستطيعاً من جهة ثانية، لكن لو فرضنا أنه مستطيع وحج بالأموال المغصوبة فهو مأثوم ولكن حجه صحيح لأنه لم يصرف الأموال في نفس الحج، أي كان ثوب الإحرام غير مغصوبين، فتارة يحج بالمغصوب أي أنه يلبس المغصوب فهذا لا يجوز، أما إذا كان عنده مال مغصوب ودفع أجرة الطائرة أو أجرة المنزل فهذا لا يفسد حجه، فالذي يفسد الحج هو ثوب الإحرام إذا كان مغصوباً، فالحكم الوضعي ـ كما يقال ـ شيء والحكم التكليفي شيء آخر.
التحلل من الإحرام:
س: في مكة تحرم على الحاج امور منها النساء، فإذا حصل للحاج طارئ ما وأجبره أن يترك الحج ويعود إلى أهله فهل تبقى الأمور التي حرمت عليه؟
ج: هناك طريقة للتحلل من الإحرام، فهناك باب فقهي يقال له (المصدود والمحصور) فهذا حكمه حكم الإنسان الذي صدّ عن الحج إمّا بمرض أو بعدوّ أو ما إلى ذلك، فهناك طريقة للتحلل من الإحرام، وإذا لم يفعل هذه الطريقة يبقى محرما وتثبت عليه آثار المحرم كلها.
شرط الختان في الحجّ:
س: من شروط الحاج أن يكون مختوناً، فما حكم من ذهب إلى بيت الله دون ان يختتن جهلاً بالحكم الشرعي؟
ج: يبطل طوافه. ويقول بعض الفقهاء إنه في حالة الجهل او اذا كان قاصراً يمكن أن يصح ذلك، ولكن المشهور على خلاف ذلك.
لم أضحِّ ولم أصم:
س: حججت السنة الماضية ولكنني في عيد الأضحى لم أذبح البقرة أو الهدي ولم أصم بدلاً عن ذلك، فكيف أفعل الآن بعدما رجعت إلى بلدي؟
ج: عليك أن تقضي هذا الذبح في السنة القادمة.
الحج قبل الوالدين:
س: هل يجوز لي ان أحج بيت الله الحرام قبل والديّ، علماً بأن المال المتوفر لدي يكفي لأن أحج لوحدي؟
ج: لا يجوز لك أن تعطي مالك الذي استطعت به لوالديك، بل يجب عليك أن تحج لأنك مستطيع. وأما والداك فإنهما ليسا مستطيعين، فلا يجوز لك أن تبطل استطاعتك بأن توفر لهما الاستطاعة.
الحج وزواج الأولاد:
س: يوجد لديّ أولاد استحقوا الزواج، فهل يجوز لي الذهاب للحج قبل زواجهم علماً بأن المال يكفي فقط للذهاب إلى الحج ولا يوجد مال لزواجهم؟
ج: إذا استطعت الحج فيجب عليك الحج، ولكن إذا فرضنا أن مسؤوليتك في زواجهم كمسؤوليتك في الإنفاق عليهم، بحيث لو أنك صرفت هذا المال في الحج فسيكون هناك حرج شديد في تأخير زواجهم، فهنا في هذه الحالة يقول الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}[الحج:78]. ولكنّ فرضيّة السؤال هو عدم قدرتك على تزويجهم حتى لو أخّرت الحجّ لعدم وجود مالٍ كاف لذلك، ولهذا فلا بدّ لك من القيام بالحجّ على كل حال في الفرض المذكور.
حج بلا خمس:
س: ذهبت إلى الحج ولم أدفع الخمس لأنه لا توجد حوزة علمية في اليمن ولا يوجد شخص يمثل المرجع والسؤال هو هل يحق لي الان دفع الخمس وهل تعتبر حجّتي باطلة؟
ج: حجّك صحيح، ولكن يجب عليك دفع الخمس إذا كان عليك خمس.

ثامناً: الزواج والطلاق

إذن الولي بزواج البكر من الكفؤ:
س: لو فرضنا أن امرأةً بكراً اختارت الإنسان الكفؤ للزواج ولم يرضَ وليّها، فما الحكم بناءً على اشتراط زواجها بإذن وليّها؟
ج: أولاً؛ نحن لا نشترط إذن الولي إذا كانت المرأة بالغة رشيدة تعرف مصلحتها، نعم الاحتياط يقتضي ذلك، وثانياً: إن العلماء يشترطون إذن الولي، يقولون إذا عضلها الولي بمعنى إذا منعها من الزواج بالكفؤ سقط إذنه، وهذا ينطبق على الصورة التي يفرضها السؤال.

زواج المطلّقة الحامل:
س: يجوز لامرأة مطلقة وهي حامل أن تتزوج أو يعقد عليها شخص آخر غير الزوج المطلّق؟
ج: المطلّقة الحامل عدّتها تنتهي عند وضع الحمل {وأولاتُ الأحمالِ أجلُهُنَّ أن يضَعْنَ حمْلهُنَّ ومَن يتَّقِ الله يجعل له من أمره يُسراً}، فلذلك ما دامت حاملاً فهي في العدّة، وإذا كانت في العدّة فلا يجوز لأي رجل أن يتزوج امرأة في عدتها.

إرضاع إبنة البنت:
س: إذا أرضعت المرأة ابنة ابنتها رضاعاً مستوفياً للشروط، فهل تحرم الزوجة على زوجها؟
ج: نعم تحرم على رأي المشهور من العلماء، بل يكاد أن يكون إجماعاً، فلا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن، ولكننا نتحفّظ في ذلك تبعاً للشيخ الطوسي(رحمه الله) الذي يرى أن هذا الرضاع ليس محرّما، وقد ذكرنا في كتبنا الاستدلالية الفقهية أنه لا يحرم أيضاً.

إجبار الزوجة على ارتداء الحجاب:
س: هل يحق للزوج إجبار زوجته على ارتداء الحجاب؟
ج: طبعاً، من حيث المبدأ، فهذا من الأمر بالمعروف وليس من جهة العلاقة الزوجية، فزوجتك كأي امرأة أخرى في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغاية ما هناك أنك تملك الضغط عليها أكثر من الآخرين، فمن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجوز أن يجبر إنسانٌ إنساناً على أن يرتدع عن المنكر، ولكن على الإنسان أن يدرس الموضوع بعيداً عن تأثيراته العكسية ومضاعفاته، لأن الإجبار ليس هو الأسلوب الأمثل لتطبيق الحكم الشرعي، بل ربما يؤدي إلى نتائج سلبية كبيرة في هذا المقام، لذلك على الإنسان أن يوازن القضايا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواءً مع زوجته أو مع الناس الآخرين.

إجهاض جنين مشوّه:
س: امرأة حامل في الشهر الخامس تبيّن بعد إجراء الفحوصات الحديثة بأن جنينها مشوّه جسدياً فأجريت لها عملية إجهاض، فما حكمها الشرعي؟
ج: الحكم الشرعي هو الكفّارة، فلا يجوز إجهاض الجنين إذا كان مشوّهاً، ولا سيّما إذا نفخت فيه الروح فيكون الإجهاض حينئذٍ عملية قتل، وإلاّ فلو فرضنا كان التشويه وسيلة من وسائل إباحة الإجهاض، فعلينا أن نقتل كلّ المشوّهين، لأنه ليس هناك فرق بين مشوّه وهو جنين أو مشوّه وهو طفل، ولا حاجة حينئذٍ لجمعيات المعاقين، بل نحقنهم ـ حسب رأي هؤلاء ـ بحقن مميتة لنستريح منهم ونريحهم، فإذا كان البناء هو أن المشوّه سيتعب والديه في تربيته، سواء تشوّه بمتفجرة أو بمرض أو بأي سبب آخر،فيجب قتله حسب هذا التصوّر، فإن الحكم الشرعي يقضي بأن التشويه لا يبرّر قتل الجنين قبل أن تنفخ فيه الروح أو بعد النفخ.
والإجهاض إنما يجوز على رأي بعض العلماء، أما رأينا ورأي السيد الخوئي(رحمه الله) أنه إذا فرضنا أن الحمل أوجب ضرراً صحياً بالغاً على الأم، بحيث يشكل خطراً على حياتها فيجوز، وإلا فبمجرد أن تنعقد النطفة في أول يوم فإنه يحرم الإجهاض ولو كان عمره يوماً أو ساعة، أما ذريعة أن الأب لا يقدر أن يربّي الولد المشوّه أو المعوّق وأن الأم سوف تتعب في تربيته، فهذا كلّه لا يبرّر الإجهاض. فالحكم الشرعي هو أن التشويه لا يبرّر الإجهاض، والإجهاض حرام من جهة ويستوجب الدية من جهة أخرى والدية تختلف حسب اختلاف العمر.

خروج الأرملة في العدّة:
س: هل عدّة الأرملة تجيز لها الخروج من البيت والتكلّم مع الناس أم لا يجوز؟
ج: يجوز لها ذلك مع بعض القيود.

معاهدة الزوج أن لا يتزوج على زوجته:
س: قال تعالى: {يا أيّها النبيّ لِمَ تحرِّم ما أحلَّ الله لك تبتغي مرضاةَ أزواجك} (التحريم/1)، فإذا عاهد الزوج زوجته خارج العقد على أن لا يتزوّج عليها فهل يكون قد حرّم ما أحلّ الله له، وهل يعتبر ذلك حراماً أو مكروهاً؟
ج: هناك في هذا السؤال نقطتان: الأولى هي أن الآية تنطلق من أن النبي(ص) كان في خلقه العظيم يحرم نفسه مما يشتهيه إذا كانت بعض أزواجه تكره ذلك، فقد يحب أكلة معينة لا تحبها زوجته أو يحبّ طيباً معيناً ولكن زوجته لا تحبّه، ومن الطبيعي أنه كان يعاني من ذلك لأنه يمنع نفسه مما يحب ويشتهي.. والنبي(ص) كان ذا خلقٍ عظيم يحب أن يتعب نفسه ليريح من حوله، وقد ورد عندنا في بعض الأحاديث ((المؤمن يأكل بشهوة أهله، والمنافق يأكل أهله بشهوته))( )، فبعض الناس يفرض مزاجه على زوجته وأولاده إذا كانوا لا يحبون أكلة معينة، حيث يجبرهم على أكلها، أو أن له مزاجاً في لباس معين ويريد لزوجته ولأولاده أن يلبسوه وهم لا يرغبون فيه، وهكذا.
فالنبي(ص) كان ذا خلقٍ عظيم، فهو يحرّم لا بمعنى التحريم الشرعي، لأنه لا يتحرك بعيداً عن طاعة الله وعن حدود شرع الله، ولكنه يمنع نفسه على شاكلة من يقول حرّمت على نفسي هذا الشيء، فـ(حرّمته) تعني منعت نفسي عنه، وأما المسألة الثانية وهي أن لو اشترطت زوجته عليه شرطاً فهناك كثير من العلماء يرون أنه يجب أن يفي بهذا الشرط وإذا لم يلتزم به يأثم، والزواج لا يصحّ والمسألة تدخل في الجدل الفقهي.

التأكد من صحة قول المرأة:
س: هل يُؤخذ بصحة رأي المرأة في الزواج منها بقولها أنها غير متزوجة، في هذه الأيام التي كثُر فيها الكذب؟
ج: المرأة مُصدّقة على نفسها أنها خليّة، ولكن الإنسان في بعض الحالات قد يحصل عنده اطمئنان بالعدم أو ظنّ قوي به، فعليه أن يحتاط في مثل هذه الحالة.

حماية الزوجة في عقد الزواج:
س: ما هو الأمور التي يمكن من خلالها أن تحمي الفتاة في عقد الزواج، ولا سيّما أن بعض الرجال يعقدون على الفتاة ثم يسافرون سفراً طويلاً دون أن يصطحبوا معهم زوجاتهم، وما هو الدليل الشرعي على ذلك من الكتاب والسنّة؟
ج: في الحديث الشريف ((إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه))،بحيث يتعيّن على الفتاة أن تدرس الشخص إما بشكل مباشر، لو كانت الوسائل لدراسة هذا الشخص في دينه وأخلاقه ممكنة بشكل مباشر، أو بشكل غير المباشر عن طريق أهلها أو من تثق به.
وعلى الفتاة أن لا تنظر إلى الجمال فحسب، بحيث تعتبره هو الأساس، لأنها لا تتزوج مال الرجل وجماله فقط، وإنما تتزوج شخصيته.. ولذا أقول إن على الفتاة التي ترغب بالزواج أن تعدّ ليس للعشرة بل للمائة قبل أن توافق على الزواج، لماذا؟ لأن العلاقة الزوجية هي شراكة بحيث تدخل الفتاة مع الإنسان في عقد يملك أمرها ولا تملكه هي، بحيث تعيش معه في الليل والنهار، ولكي يكون الزوج القادم معقولاً إنسانياً فعلى الفتاة أن تدرس المسألة من جميع جوانبها.
فنحن نعرف أناساً يصلّون ويصومون ويحجّون وهم أسوأ الناس أخلاقاً، فالبعض من الناس يعرف أن الدين صلاة وصوم وحج وعمرة، أما الدين فهو أخلاق وأن تحترم الإنسان الآخر الذي معك وتلحظ إنسانيته وتقدّر ظروفه النفسية والاجتماعية، فغالباً ما يسقط الناس ذلك من الدين، وقد روي عن النبي(ص): ((خيركُم خيركُم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)).
لهذا لا بد للمرأة أن تنظر إلى المسألة بهذا المنظار، أما كيف تحمي نفسها من الطوارئ المستقبلية السلبية فأن تشترط لنفسها في عقد الزواج أن تكون وكيلة عنه في طلاق نفسها، وهذا شرط غير قابل للعزل.

الإلحاق بالنسب:
س: هل يجوز تسجيل طفل من أبناء أقاربي باسمي في الدوائر الرسمية لمساعدته ومساعدة والده كون أمه متوفية أثناء الولادة؟
ج:  لا يجوز ذلك {وما جعل أدعياءكُم أبناءكم} والداعي يعني الولد المتبنّى {ادعوهُم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين} (الأحزاب/4-5).. فالتبنّي ـ بمعنى الإلحاق بالنسب ـ حرام في الإسلام لأي اعتبار من الاعتبارات، نعم التبني بمعنى التربية والرعاية أمر يُثاب عليه الإنسان.

الزوجة التي لا تلبّي حقوق زوجها:
س: ما حكم الزوجة التي تعصي زوجها في حقوقه الشرعية؟
ج: ورد في الحديث أن مثل هذه المرأة تلعنها ملائكة الأرض والسماء، وكذلك الرجل الذي لم يعطِ زوجته حقوقها الشرعية {ولهُنَّ مثلُ الذي عليهِنَّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة}( )، وقد قلنا مراراً أن الدرجة ليست ناطحة سحاب وإنما هي درجة محدودة.

منع الحمل بدون إذن الرجل:
س: هل يجوز استخدام منع الحمل بدون علم الرجل أو بدون رضاه؟
ج: رأينا جواز ذلك.

الزواج بمرتكبة الفاحشة:
س: ما هو موقف الإسلام من الحالتين التاليتين: أوَّلاً؛ الزواج من المرأة المرتكبة للفاحشة أو التي يدلّ ظاهر تصرفاتها على أنها لا تتعفّف عن ارتكاب الفاحشة؟
ج: بالنسبة للزواج هو شركة حياة ولا توجد علاقة إنسانية تتحرك بتأثيرها السلبي أو الإيجابي على الإنسان مثل الزواج، فصديقك يرافقك في الصبح والعصر والمساء، وقد تسهر معه ثم يذهب كلٌ لحاله، لكن هذا الإنسان (زوجاً أو زوجة) يرتبط طعامه بطعامك وشرابه بشرابك وشهوتك بشهوته ومنامك بمنامه، وإذا عشت معه (50) سنة بعد الزواج فذلك يعني الرفقة في الليل والنهار وفي جميع الأحوال، ولذلك فإن على الإنسان أن يختار في هذه الحالة شخصاً ينسجم مع مبادئه وأفكاره وسلوكياته ومزاجه وأوضاعه وظروفه، وإلا فأنت ـ حينما تتزوج ـ تحدث وضعاً مربكاً في حياتك.
ولذلك فالمرأة بهذا الشكل، أو الزانية وليست بغيّاً مشهورة بالزنا، قد يأمل الإنسان المؤمن بأن يهديها، فهي كالشجرة التي يأكل منها حراماً ثم يأكل حلالاً كما جاء في الحديث، لكن النبي(ص) يقول: ((إياكم وخضراء الدِمَن، قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء)). وليس المعنى هنا أهلها فقط، فربما كان أهلها سيئين، لكنها فاضلة، ولكن المقصود بمنبت السوء هو التربية والخلق والواقع والسلوك، فامرأة فرعون كانت من الناس الذين ذكرهم الله في القرآن وجعلها مثلاً للذين آمنوا من الرجال والنساء.
وفي الحديث يقول رجل يا رسول الله: ما أتزوج؟ قال: ((عليك بذات الدين))، وأيضاً: ((وإذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه))، وهذا كله من أجل أن يعيش الإنسان في بيته جواً ينسجم مع ما يمكن أن يرتفع به إلى الله سبحانه وتعالى.

أوقات المعاشرة:
س: قد تكون المرأة غير مستعدة لمعاشرة زوجها إلا في أيام تكون هي راغبة بذلك، فهل للزوج الحق أن يجبرها على ذلك في الوقت الذي يرى نفسه محتاجاً إليها؟
ج: نعم يحق له ذلك، ولكن بالمعروف الذي يجعلها الخاصة ـ بطريقته ـ منسجمة معه انسجاماً، ولكننا لا نشجعه على ذلك، فعليه أن يكتم رغبته مهما ملك إلا أن تكون المسألة ملحّة لديه بشكل ضاغط، وهذا لا يمثل إساءة للزوج، ومع الأسف نرى في أوروبا وأمريكا ما يسمى بعمليات اغتصاب الزوجة وهو قانونياً مرفوض، فالزوجة عندما انطلقت من عقد التزامها بالحقوق الزوجية أياً كانت الحقوق، إنما التزمت بعقد الزواج والله يعبر عن ذلك بقوله: {وأخذْنَ منكُم ميثاقاً غليظاً} (النساء/21).
هو ـ أي الزواج ـ عقد ومعاهدة بين الزوج والزوجة، فكما يجوز لها أن تجبره على أن يمنحها حقوقها بأية طريقة، له الحق أيضاً أن يجبرها على ذلك، وهذا لا يعدّ عملاً غير إنساني بالنسبة للزوج، فغاية ما هناك أن الزوجة يجب أن تفهم نفسها وأن تجعل حياتها الزوجية ناجحة، ونجاح الحياة الزوجية يأتي من خلال انسجام مشترك بين الزوجين: {ولهُنَّ مثلُ الذي عليهّن بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة} (البقرة/228).
وعلى الرجل أن يتحرك في حياته الزوجية بأسلوب يمكنه من أن يفتح أجواء زوجته بالطريقة التي تمنعها من أن تتصرّف هذا التصرّف، والله يقول: {وجعلَ بينكُم مودَّةً ورحمةً} (الروم/22). والإنسان قبل أن يدخل حياته الزوجية يجب أن يتعلّم كيف يجب أن يتعلّم كيف يجب أن يكون زوجاً ناجحاً والفتاة كذلك، وعلى أمها ليس فقط أن تعلمها الطبخ والخياطة، بل يجب أن تعلّمها كيف تكون زوجة ناجحة، وعلى الأب أن يعلّم ابنه كيف يكون زواجاً ناجحاً، فالمعادلة الإنسانية هي (أنا والآخر) ومشكلة العالم أنه يعيش على طريقة (أنا لا الآخر) كما قال الشاعر (الشبيبي):
        كلّنا يطلب ما ليس له        كلّنا يطلب ذا حتى أنا    

إهمال الزوجة سبع سنوات:
س: ماذا تفعل المرأة التي أهملها زوجها سبع سنوات دون أيّ حق وقد تقدّم لها في أثناء فترة الإهمال خاطبٌ؟
ج: لا تطلَّق المرأة من زوجها إلاَّ بطلاقه شخصياً أو طلاق الحاكم الشرعي. فعليها أن ترفع أمرها للحاكم الشرعي فقد يجد أساساً لطلاقها في مثل هذه الحالة. ولا يجوز التعرّض للمتزوّجة بالخطبة ولو كانت مهملة لأنّها زوجة على كل حال.
الرضاع المباشر وغير المباشر:
س: إذا شرب الطفل حليب المرضعة بعد ان اخرج منها بآلة ساحبة فهل ينشر الحرمة، وما هو الفرق بين أخذ الحليب مباشرة من الثدي أو اخذه عن طريق الآلة؟
ج: حسب المشهور لا يحرم هذا، وربما كان لطريقة التقام الثدي فوائد أخرى غير شرب الحليب كما لو يشرب دفء العاطفة وحرارة الاحتضان مما له دور في تامين حاجاته النفسية. وهناك وجهة نظر تقول في التساوي بينهما.
انفصال المسيحية التي أسلمت عن زوجها:
س: امرأة مسيحية اطلعت على الإسلام واقتنعت به وأرادت أن تدخل فيه إلا ان هناك صعوبة في صميم الإسلام وهو أن عليها أن تنفصل عن زوجها وهذا أمر صعب بالنسبة لها ولحياتها الزوجية فما هو الحل؟
ج: عليها أن تسلم إذا اقتنعت بالإسلام، أما بقاؤها مع زوجها فهو معصية وهو علاقة غير شرعية في هذا المقام عليها أن تكون ذكية في معالجتها.
خروج المطلقة أثناء العدة الرجعية:
س: من المعلوم أنه لا يجوز لرجل ان يخرج الزوجة المطلقة أثناء العدة الرجعية من بيتها إلا في ظروف وشروط خاصة كما أنها لا يجوز لها ان تخرج من بيتها دون رضاه، فهل أن بقاء الزوجة في بيت الزوجية أمر تعبدي بحيث لا يجوز أن تمضيها خارج البيت الزوجي ام ان الحرمة منحصرة فقط في حال عدم رضا الطرفين، وهل إذا تراضيا على امضاء العدة في بيت أهلها يرتفع الأشكال؟
ج: إن المطلقة بالطلاق الرجعي هي زوجة مع وقف التنفيذ وحكمها حكم الزوجة فيجوز له أن يلمسها وأن ينظر إليها وأن يواقعها من دون عقد، ويجب أن يجري النفقة عليها فحكمها هو حكم الزوجة {لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}[الطلاق؛1] وحكمها حكم الزوجة في عدم خروجها من بيت زوجها بغير إذنه ولكن إذا تراضيا ان تعتد في بيت أهلها فلا مشكلة.
التراجع عن طلاق رجعي:
س: رجل طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم تراجع خلال العدة، ولكن الزوجة لم تعلم بهذا الرجوع، وانتهت العدة وتزوجّت برجل آخر، ثم علمت برجوع زوجها فما حكم زواجها؟
ج: الرجوع صحيح وزواجها الثاني باطل، وعليها ان تنفصل عن زوجهاٍ الثاني من دون طلاق.
مشكلة زوجية:
س: ذهبت زوجتي إلى أهلها عندما جارت عليّ الأيام وقلّ عملي وأنا أسعى إلى عمل يرضى الله ولا أقصِّر، والآن تطلب مني أشياء لا أقدر عليها مثل دفع مبلغ من المال ولا تريد الرجوع إلا إذا لبّيت لها هذا الطلب، وأنا محتاج إلى زوجتي فماذا أفعل وأنا معترف بخطئي وأريد أن أصلحه؟
ج: إذا كنت لا تنفق عليها فهناك رأي للسيد الحكيم(رض) ونحن نراه والسيد الشهيد يراه أيضاً وهو أن الزوج إذا لم يقم بحقوق زوجته وخصوصاً النفقة فمن حق زوجته أن تمتنع عن أداء حقوقه باعتبار أن {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}[النساء:34] فإذا لم ينفق على زوجته ولو لجهة عجزه، فللحاكم الشرعي أن يطلّقها إذا طلبت منه ذلك، ولذا نرى أن هذه القضايا يجب أن تُعالج بالمعروف ومن خلال أهل الخير الذين يدخلون في وساطة حميدة ما بين الزوج وزوجته.
ميزان الدِّين:
س: في الحديث "إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه" فما المقصود بذي الدين والأخلاق، وما هو ميزان الدين؟
ج: ميزانه هو أن يخاف الله في نفسه وفي الناس، فالشخص المتدين لا يظلم زوجته ولا يسبها ولا يهينها ولا يطردها من بيتها ولا يتعسف معها بل يعاشرها بالمعروف، وكذلك فإن صاحب الخلق هو الذي يعيش الأخلاق قيمة تنفتح على الناس كلهم بالخير، فالدين ليس فقط بأن يصلي ويصوم، وإنما هو ضمير روحي يمنعه من ظلم الآخرين ومن الإساءة لهم. ومن كان لديه خلق فإن خلقه يجعله ينفتح على الآخرين بالخير ويعطيهم ويحسن إليهم وما أقل هؤلاء في أيامنا هذه. فمن الناس من يصلي ويحج ويصلي صلاة الليل وأهله أشقى الناس، فعن النبي(ص) "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". ومن أخلاقية النبي(ص) وإنسانيته أنه كان يحرم نفسه من بعض ما تشتهيه من المأكول والمشروب والروائح الطيبة لأن أهله كانوا يتأذون بذلك{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك}[التحريم:1].
هل تستحق مؤجلها؟
س: عقدت امرأة عقد الزواج وحكم عليها بنشوزها وهي في نفس الوقت لم تلتزم بواجبها الشرعي ولم يحصل الدخول فهل تستحق الغائب عندما نريد طلاقها؟
ج: إذا لم تبذل مهرها فإنها تستحق نصف المهر، أما إذا بذلت فذاك شيء آخر.
هل هي زوجته؟
س: شخص يعيش في بلاد الغرب وقد خطبت له أمه امرأة وعقدتها له ولا يدري بتفاصيل ذلك، علماً أن الأم أخذت منه وكالة غير صريحة فهل هذه زوجة له وهل تستحق النفقة؟
ج: إذا وكل أمه وكالة مطلقة في أن تزوجه أية امرأة كانت ونفذت أمه الوكالة فهذه زوجته وعليه أن يتحمل المسؤولية، لأن الوكيل كالأصيل في هذا المقام. أما إذا لم يكن وكلها وكالة مطلقة وكانت الوكالة غامضة وهو أعرف بينه وبين الله فهذا أمر آخر، ولكن الناس تعمل بحسب الظاهر، فهو بحسب ما يعرف من نفسه ينظر كيف أعطى الوكالة هل بالإحراج أو بالحياء، فإذا كان كذلك فهذه وكالة غير صحيحة.
العاقر ليست يائساً؟
س: من الأحكام التي يأمرنا الشارع بها هي أن لا نعتبر المرأة العاقر والمرفوع رحمها بحكم اليائس، فما العلة في ذلك، ولماذا هي من الأمور التعبدية مع أنها تحتاج إلى تفسير؟
ج: هذه القضايا مثل العدة حيث لا يلاحظ فيها وفي التشريعات الأخرى الحالة المعينة لوحدها بل يلاحظ فيها الحالة العامة أي النوعية، ولذلك لا نجد هناك تشريعاً في العالم سواء كان علمانياً أو شرعياً يستقصي كل حالة من حالات الناس فغالباً يلاحظ التشريع المصلحة بنسبة 70% أو 80% ولا أظن بأن هناك تشريعاً يمثل المصلحة أو المفسدة بنسبة 100%.
لذلك ففي المسألة المذكورة لوحظ الحفاظ على النسل أو ما إلى ذلك، وإذا كانت العدّة في بعض الحالات رجعية فقد لوحظ فيها إمكان رجوع الزوج في أثناء العدة وهناك أشياء غير الحفاظ على اختلاط المياه.
ناشز أخذت اكثر من استحقاقها:
س: خطبت لشخص امرأة ولم يحصل الدخول وحكم بنشوزها، وفي نهاية المطاف أريد طلاقها فاستلمت الحاضر ولكنها تطالب بالغائب، علماً أنها أخذت أموالاً أكثر من الغائب بطريقة وبأخرى فهل تستحق الغائب؟
ج:إذا طلقّت قبل الدخول فهي تستحق نصف المهر الحاضر والغائب، وإذا كان ما أخذته من الحاضر بمقدار نصف المجموع فليس لها أن تطالب بشيء، أمّا إذا كان الأخذ بحيلة بمعنى أنها أخذته بطريقة غير شرعية فيجب عليها أن ترجعه، أمّا إذا كان بحيلة عاطفية وما أشبه ذلك فلا ترجعه ولا دخل لذلك بالمهر.
الزواج من أخرى:
س: هل يجوز لشخص ما الزواج من زوجة أخرى علماً بأنه لا يوجد أسباب تدعو للزواج الثاني؟
ج: إن الله لم يشترط شروطاً في ذلك ولم يقيد الزواج الثاني بأسباب خاصة بحيث انه يحرم ذلك. ولكن على الإنسان أن يدرس قدرته على القيام بمسؤولياته حيال الزوجتين على نحو إعطاء كل منهما حقها بالعدل والإنصاف، وعليه في هذه القضايا أن يدرس الأمر دراسة واقعية باعتبار أن الزوجة الثانية قد تسبب مشاكل شخصية وحياتية إذ لا يكفي أن يكون الشيء حلالا بذاته لنعمل به، بل قد تكون هناك بعض العناوين الثانوية التي إذا لم تجعله حراما فقد تجعله أبن عم الحرام.
زوجة سجين تطلب الطلاق:
س: زوجة حكم على زوجها بالسجن لمدة عشرين سنة ولم تستطع أن تصبر على ذمته، فهل من حقها أن تطلب الطلاق كي تتزوج من آخر مع العلم أن لديها استطاعة مادية؟
ج: إذا كان زوجها لا يقوم بشؤونها في هذا المجال فيمكن أن ترفع أمرها للحاكم الشرعي ليطالب لها بالنفقة، وإذا رأى أن هناك مبررات للطلاق فإنه يطلقها بناءً على ذلك.
مصافحة المتزوجة للأجنبي:
س: امرأة متزوجة فهل يجوز لها مصافحة الأجنبي من الرجال؟
ج: لا يجوز للمرأة المتزوجة ولا لغير المتزوجة أن تصافح الأجنبي، ولا للرجل المتزوج الأعزب أن يصافح أجنبية.
س: وما هي طبيعة علاقة المرأة المتزوجة بالرجال إن كانوا من أقاربها؟
ج: أن تتحدث معهم بما لا ينافي الشرع، وأن تلتزم بما تلتزم به في حضرة الأجانب من الحشمة والعفة والحجاب.
عقد على مخطوفة:
س: قام أحد الشباب بخطف فتاة في سن الخامسة عشرة ووافق أحد المشايخ على عقد قرانه على الفتاة دون موافقة أهلها الذي يصرون على الرفض، فهل الزواج صحيح، وهل على الشاب أن يطلقها بإرادته حتى لا تكون هناك أثار شرعية؟
ج: حتى الذين يقولون بجواز العقد على البكر بدون إذن وليها، إنما يقولون ذلك على البالغة الرشيدة، أما إذا كانت بالغة ولم تكن رشيدة فالعقد عليها لا يجوز إلا بإذن وليها، وعادة لا يكون سن الخامسة عشرة سن رشد، ولذلك فالعقد موقوف على رضا الأب أو جد الأب إذا كانا حيين، والأحوط له ان يطلقها حتى يحل لها أن تتزوج غيره بلا إشكال.
كراهية الزوجة لزوجها:
س: هناك إمرأة تكره زوجها ولا تقدر العيش معه فهل يجوز شرعا إخضاعها لبيت الطاعة؟
ج: يجوز إخضاعها بمقتضى التزامها، فهي ملزمة بجميع حقوق الزوجية كما يلتزم الزوج بكل حقوق الزوجية، ولذا تجبر على آداء هذه الحقوق بمقتضى التزامها، وهذا لا يعتبر ظلما حيث كان بإمكانها ان لا تتزوج هذا الرجل، ولكنها عندما قبلت بالزواج منه فمعنى عقد الزواج هو ان تلتزم بما فرض الله عليها من حقوق الرجل، كما يلتزم الرجل بما فرضه الله من حقوق المرأة. ولكن لا بد من مراعاة مثل هذه القضايا بالحكمة والروية والمصلحة العامة.
حسن اختيار الزوج:
س : يلزم الشاب أو الشابة أن يحسن اختيار الزوج أو الزوجة ولكن الاختيار صعب، فماذا إذا كان أحدهما جاهلاً والآخر متعلماً، وماذا إذا كان أحدهما متديناً أو كريماً والآخر عكس ذلك، كيف نختار قبل الزواج للتعرف على مزايا الطرف الثاني وما هو الطريق للتعرف؟
ج : يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة التي يريد الزواج بها، أما في الجوانب الأخرى فهناك بعض المجتمعات التي تكفل الجلوس بينهما بما لا يكون مخلاً بالالتزام الشرعي، ثم يمكن أن يتعرف من خلال السؤال ممن يثق بهم سواء الأصدقاء أو الناس الذين يعاشرونه أو يعاشرونها.

اللولب والإجهاض:
س: آلية اللولب الأساسية في منع الحمل هي منع استقرار البيضة الملقّحة في الرحم بعد الإلقاح لسبعة أيام، حتى أن بعض الأطباء يسميه إجهاضاً باكراً، أليست هذه الآلية كفيلة بتحريمه حتى لو قامت الطبيبة بوضعه للمرأة خاصة وأن هناك مواد في اللولب تؤثر في النطفة؟
ج: إن المحرم هو إجهاض البويضة الملقّحة بعد استقرارها في جدار الرحم، أما اللولب فيمنع استقرارها، وعلى هذا الأساس حتى لو أسميناه إجهاضاً باكراً فهو ليس محرّماً، لأن الإجهاض المحرّم هو إذا استقرّت البويضة في الحم وبدأت عملية الحياة.

موانع الحمل:
س: ما هو الحكم في موانع الحمل التي نعرف أنها مختلفة؟
ج: الحبوب إذا لم تضرّ البدن ضرراً بالغاً جائزة، واللولب كذلك إذا كان الحمل ضررياً جداً ولم تكن هناك وسائل منع حمل أخرى، وما عدا الإجهاض والتعقيم فكل وسائل منع الحمل جائزة مع توافر الشروط الشرعية.
قصاص ضرب الزوجة:
س: لقد ضربت زوجتي ضرباً شديداً حتى ظهر أثر على جلدها فتأسفت على ذلك كثيراً، فهل يوجد قصاص على ذلك؟
ج: إذا فرضنا أنك قدّمت القضية إلى الحاكم الشرعي فلا بدّ ان يدرس طبيعة هذا الأثر وموقع القصاص، ولكن بإمكانك ان تتسامح من زوجتك وأن تحسن إليها وان تعتذر إليها، ولا تتصور ـ كما هو حال بعض الأزواج ـ ان الاعتذار من زوجاتهم لا يتناسب مع موقعهم الزوجي ومع عنفوانهم الذكوري لأن "فضوح الدنيا" كما ورد عن رسول الله(ص) هو "أهون من فضوح الآخرة". إعتذر لزوجتك الآن قبل أن تضطر إلى أن تعتذر غداً عندما ينطلق النداء{اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب}[غافر:17]. فكل مظلوم سوف يأخذ حقه من ظالمه.
 

تاسعاً: السلوك والمعاملات

الكتابيّون في هذا العصر:
س: ما حكم الكتابيين في هذا العصر، فهم يعيشون بسلام مع المسلمين، إلا أنهم لم يعقدوا معهم أية معاهدة سلم؟
ج:  حكمهم ما قاله الله تعالى: {لا ينهاكُم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسِطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين} (الممتحنة/8)، أي أن نحسن إليهم ونتعامل معهم بالعدل فلا نأخذ حقوقهم ولا نظلمهم في شيء من ذلك.

عادة دفن الموتى وحرقهم:
س: كيف أتت عادة دفن الموتى المسلمين، وهل كان العرب قبل الإسلام يدفنون موتاهم، وما هو رأيكم بحرق الميت؟
ج: كان العرب ـ قبل الإسلام ـ يدفنون موتاهم وأغلب الناس يفعلون ذلك، أما عادة حرق الميت فكانت موجودة لدى بعض الشعوب ـ كالهندوس ـ باعتبار أن دينها أو معتقداتها الخاصة تفرض عليها ذلك، أما العرب والمسلمون وغيرهم فكانوا يدفنون موتاهم، وقد وضع الإسلام تشريعات معينة لدفن الموتى.

إطلاق شعر الرأس والعرف:
س: ما هو حكم إطلاق شعر الرأس، وإذا كان جائزاً ولكن العرف العام في بلد معين لا ينظر له بعين الاحترام، فهل يجوز مخالفته؟
ج: لا بد للإنسان العاقل أن ينطلق فيما يمارسه من أعماله من دراسة الموضوع، ولو فرضنا أن الإنسان كان يطيل شعر رأسه في زمن النبي(ص) بأن يعمل جدائل مثل النساء، فالعرف لم يكن يستنكر ذلك، أما إذا تغير العرف وأصبح موجباً لهتك الحرمة فقد لا يجوز في بعض الحالات، وقد لا يكون راجحاً في حالات أخرى..
لذلك على الإنسان أن ينسجم مع الموضوع الاجتماعي العرفي  حتى لا يكون كالنغمة النشاز حسب التعبير الموسيقي، فالمجتمع له إيقاع معين والعلاقات الاجتماعية لها إيقاع معين ولها نوع من التوازن، والإنسان لا يصح أن يقف ضد العرف الاجتماعي إلا إذا كان هذا العرف يمثل انحرافاً أخلاقياً أو فكرياً أو عملياً أو ما إلى ذلك.
والمؤسف أن كثيراً من الناس في هذه الأيام يقلدون الصرعات الغربية، فهم غالباً يقلدون القوي، وتسمى عملية التقليد هذه بـ(عقدة الخواجة) وهي دليل الضعف، لأننا نرى أن الشعوب تعتز بما هي عليه في بلادها ولا تشعر بالضعف وهي تمارس عاداتها وتقاليدها وأعرافها، لكن الكثير منا يشعر بالضعف عندما يذهب إلى أوروبا، فلا يقدر ـ مثلاً ـ أن يلبس لباسه الوطني، بل يحاول أن يكون صورة للآخر فيقلده في زيّه وفي غير زيّه.. ونصيحتي لمثل هؤلاء: كُن صورة نفسك ولا تكن صورة غيرك.

دراسة علم التنجيم والفلك:
س: ما حكم المسلم الذي يدرس علم الفلك والتنجيم فقط من دون ممارسة له، أي من دون أن يكون منجماً بل يدرسه كعلم قائم بحدّ ذاته لما فيه من الأمور والظواهر الموجودة في حياتنا اليومية؟
ج: أما علم التنجيم فإنه لا مانع من أن يدرسه ولكن عليه أن يكون حذراً من أن تدخل بعض الدراسات التي لا ترتكز على قاعدة علمية حقيقية في ذهنه.. وأما علم الفلك فهو لا علاقة له بالتنجيم إلا على تفسير من التفاسير وهو علم كأي علم من العلوم.

التجميل والإعانة على الإثم:
س: هل تدخل عملية تجميل المرأة التي تستخدم وسائل التجميل للإثارة في مجال الإعانة على الإثم؟
ج: إن أصل التجميل لا يدخل في ذلك وإن كان الأحوط تركه، لأن المرأة عندما تستخدم التجميل تنطلق من خلال مبادراتها لا من خلال تجميلها، أي أن التجميل ليس هو العلة التامة للوقوع في الحرام.

الضرر والتهلكة:
س: في حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) ما هي حدود الضرر المقصود في الحديث، هل هي التهلكة أم دونها؟ وما هو الدليل؟
ج: المقصود به كلّ ضرر، والدليل هو إطلاق كلمة الضرر ((لا ضرر ولا ضرار)، لذلك ترى العلماء يجرون هذه القاعدة حتى في صورة إذا كنت تريد أن تتوضّأ وكان وضوؤك ضررياً أي يوجب الضرر، كما لوكان يسبِّب لك حمّى فإنهم يقولون إن الوضوء يسقط عنك مع أنه لا يؤدي إلى التهلكة، وهكذا.

شراء البرامج المنسوخة:
س: هل يجوز شراء برامج وألعاب الكمبيوتر المنسوخة غير الأصلية؟
ج: بناءً على القول بالملكية الفكرية بأن الإنسان يملك ما ينتجه فإنه يملك البرامج كما يملك الكتاب في حقّ النشر وحق الطباعة، أما إذا افترضنا أنه لا يملك ذلك فلا يجوز.

بلوغ المرأة:
س: هل يعتبر في بلوغ النساء مرور تسع سنوات هلالية، ولماذا لا يكون في تحديد بلوغها هو العادة الشهرية كما في الاحتلام؟
ج: المشهور عند الشيعة وحتى عند السنّة أن بلوغ المرأة في تسع سنين هلالية، ولكن هناك رأي نستقربه وإن كنا نحتاط فيه ـ احتياطاً وجوبياً ـ وهو أن تكون العادة الشهرية هي الأساس.

اللحية بين الحرمة واستحباب الترك:
س: تقولون دائماً بأنكم تجوِّزون حلق اللحية، ولكنكم لا تحبذون ذلك، فلو حلق أحد مقلديكم اللحية، فهل يرتكب في ذلك مخالفة شرعية من باب ولايتكم عليه أم ماذا؟
ج: هنا فرق بين أن أحكم بحرمة ذلك وبين أن أحكم باستحباب تركه، فنحن نقول يجوز حلق اللحية ولا يأثم حالقها ممن يقلدنا، ولكن نقول إن من الأفضل بقاؤها، فمعنى أنني لا أحب ذلك من جهة أنه يستحب ابقاؤها، وهناك فرق بين أن لا أحب ذلك أو بين أن لا نرضى به.
هل البنطلون حجاب؟
س: هل يعتبر البنطلون حجاباً شرعياً للمرأة مع أنه يظهر محاسن المرأة ويجسمها خاصة إذا لم تلبس فوقه شيئاً؟
ج: هو قد يكون حجاباً مادياً بلحاظ إخفائه للبشرة ولكنه سفور معنوي، وقد يكون تبرجاً، لأنه هناك حجاب مادي وهو ستر الجسد وهناك حجاب معنوي وهو ان لا تظهر المرأة بطريقة توحي بالإثارة{فيطمع الذي في قلبه مرض}[الأحزاب؛32].
التذكية بعد إطلاق النار:
س: نحن في دولة أجنبية ولا نأكل اللحوم إلا ما نقوم بذبحه بأيدينا ولكن يحصل أن نخاف من هيجان لحيوان أحياناً فيقوم صاحب المزرعة بإطلاق النار على رأس الحيوان ثم نقوم بتذكيته علماً إن الروح باقية فيه فهل هذا جائز؟
ج: إذا فرضنا أن هذه الطلقة كانت قاتلة يصبح ميتة. ولكن إذا كانت تخدره مثل بعض الرصاص الذي يخدر الحيوان او يفقده الإحساس فلا مشكلة لأنه لا يجوز التذكية إذا كان الحيوان حيا وإن كان فاقد الإحساس.
السباحة المختلطة لدون سن البلوغ:
س: ما حكم السباحة المختلطة بالنسبة لأطفال دون سن البلوغ علما أن ذلك يعتبر أحد الدروس في المدارس الأوروبية وان مثل هذه السباحة المختلطة مما يترك أثراً سلبياً في المستقبل بالنسبة للأطفال؟
ج: هو في ذاته جائز لأنه رفع القلم عن الطفل، ولكن كما ذكر السؤال فإن هذا يؤدي إلى ان يتربى الطفل على هذه العادة ويعتبرها أمراً طبيعياً جداً، وربما امتدت معه إلى حال البلوغ، وقد يصعب ان نمنعهم من ذلك عندما يكبرون.
كيفية ردّ الظالم:
س: قد سمعت من بعض الإخوة أنّه يجب أن تردّ جميع المظالم التي صدرت منا تجاه الآخرين حتى إذا كان ذلك في أيام الطفولة، فكيف يمكن أن تُردَّ تلك المظالم؟
ج: المقصود أنه إذا سرق من دكان أو من شخص وهو طفل فإن استطاع أن يردّها إلى صاحبها إذا كان يعرف صاحبها فبها وإلاَّ فليتصدّق بمقدار ما اخذ في طفولته عن أصحابه لأن الله لا يحاسب الطفل على ما فعل، ولكن على هذا أن يضمن أموال الناس التي أخذها منهم.
مسجد بطابقين:
س: هل يجوز بناء مسجد بطابقين: الأول دكاكين والثاني مسجداً للمصلين، وما حكم الحائض والجنب إذا دخلت الدكاكين ليشتروا حاجياتهم، أي هل تعتبر الدكاكين تابعة للمسجد؟
ج:"الوقوف على حسب ما يقفها أهلها" فيمكن للإنسان الذي يريد أن يقف هذه الأرض أن يبني الدكاكين فوق الأرض، ثم يوقف الطابق الثاني مسجداً فلا يكون ما تحته مسجداً، ويصحّ للجنب أو الحائض الدخول فيه لأنه مجرد تابع للمسجد، ولا يحرم دخوله ولا يكون محكوماً بأحكام المسجد ولا يترتب عليه أحكام المسجد.
العمل غير القانوني:
س: افتيتم بحرمة العمل غير القانوني في الغرب، وفي بعض الأحيان تتفق مكاتب العمل مع الشركات لتوفير عمال، فيقوم صاحب العمل بالاحتفاظ بوثائقنا الرسمية عنده، ويكون الاتفاق بين الشركة وبين مكتب العمل، وذلك بدون علم دوائر الضريبة، لكن في حال مجيء الرقابة يقومون بتقديم أوراقنا إليها، فتعتقد أننا نعمل وفقاً للقانون المرعي، علماً أن أجر الضريبة مستقطع من راتبنا؟
ج: المسألة ليست مسألة مكتب الشركة، فالإنسان اللاجئ أو المغترب كان قد أخذ على نفسه عهداً ان لا يعمل بأية طريقة غير قانونية، وربما كان بإمكان من يرجعون إلينا في التقليد إلى مجتهد آخر في ذلك، فإذا كان هناك من يفتي بالجواز فيمكن ان يرجعوا إليه.
الكولا و البيبسي تدعمان الصهاينة:
س: يقال والإشاعة منتشرة بشكل كبير عن شركتي (الكولا)و(البيبسي)انها تدعمان الكيان الصهيوني، فهل ان مقاطعتهما جزء من عملنا الديني في الغرب؟
ج: لم يثبت لنا ذلك، وإنني أقول إن علينا ان نستغني عن ذلك كلّه فنحن الآن لدينا الكثير من الأمور التي لا تمثل الضرورة، بل حتى أنّها ليست من الكماليات وما إلى ذلك، ثم أن العصير أفضل ـ وعندنا آلات تعصر بشكل طبيعي ـ وطازج وجيد، فلماذا لا نشجّع الزراعة والفلاحين ولماذا يخلق الغرب دائماً حاجاتنا من السجائر والمرطبات وسواها سواء كانت تدعم "إسرائيل" أو لا تدعمها، فلماذا لا ندعم اقتصادنا وزراعتنا وحياتنا، ولكن للأسف لا يوجد عند البعض حس إسلامي ولا وطني ولا قومي بل لديه حسّ ذاتي، فالمهم أن أتلذّذ بهذا الشيء بقطع النظر عن كل النتائج السلبية الأخرى، فنحن نقول إنّ كلّ شيء نستطيع أن نستغني عنه فينبغي أن نستغني عنه، ولقد كان بعض العلماء الزهّاد في النجف مثل(الشيخ القمّي) لا يلبس إلا القماش الإسلامي أي المصنوع في البلاد الإسلامية، ولقد قلنا مراراً إن أمريكا تضطهد الواقع السياسي الإسلامي وهي صنعت إسرائيل وتدعمها وتقويها، بينما اليابان أو الدول الآسيوية أخف في سياستها من أمريكا، فلماذا لا نشتري إلا بضاعة أمريكية، ومن المفارقات أننا نحتّج على أمريكا ونقدر على مقاطعتها كلية فالبضاعة الأمريكية لها بدائل من البضائع الأوروبية او اليابانية أو الآسيوية، فنحن نقول(الموت لأمريكا) وندخن(مالبورو) ونشرب الـ(سفن آب) او (البيبسي) وما أشبه ذلك، فأنت تقول بلسانك(الموت لأمريكا) وتاخذ بفمك ما يعطي الحياة لأمريكا، والحال أن أمريكا لا تتعامل مع الصراخ، فلو رددت من الصباح إلى المساء(الموت لأمريكا) وأنت تشتري(مالبورو) او (سفن آب) أو (بيبسي)، فإن مصانع أمريكا لا تتأثر، لكننا للأسف شعب يقول كثيرا ويعمل قليلاً.
عشرة يقتلون واحد:
س: إذا اتفق عشرة أشخاص على قتل رجل وقتلوه فهل يقتل العشرة؟ أم ماذا يُفعل في هذه الحالة؟
ج: يُقتلون جميعهم، ولكن تدفع الدية عن القتيل إذا كانت نسبتهم واحدة إليه، أما إذا كان احدهم معاوناً أو كان الآخرون مساعدين فالحكم يختلف.
الحلف كاذبا:
س: شخص لا خيار أمامه إلا أن يحلف اليمين كاذبا فإذا قال الحقيقة ربما تحصل فتنة وربما يقتل شخص بسبب ذلك فماذا عليه: هل يقول الحقيقة أم هل يجوز حلف اليمين كاذباً أم عليه قول الصدق؟
ج: بل يجب عليه أن يكذب، ففي الحديث"احلف بالله كاذبا ونجّ أخاك من القتل" وعندما حرّم الله الكذب لما فيه من مفسدة للإنسان، فإذا تحول الموضوع وبات في الصدق مفسدة وكان في الكذب مصلحة وجب عليه أن يكذب، وطبعاً هذا في القضايا الحيوية وليس في القضايا الشخصية الخاصة والأطماع الإنسانية.
اليمين الكاذب لتحصيل الحق:
س: أوضحتم في الأسبوع الماضي أن اليمين الكاذب في سبيل رفع الضرر جائز بل واجب أحياناً، لكن هل هو جائز في سبيل تحصيل الحق علماً ان الحالف باليمين ليس له أي حق وإنما يريد إيصال الحق لأخيه؟
ج: لا يجوز له ذلك، فما ذكرناه يأتي باعتبار القضايا الكبرى التي يكون فيها الكذب مصلحة أساسية مثل "احلف بالله كاذبا ونج أخاك من القتل" كما لو أنك جالس عند محققي العدو ويطلب منك أن تفشي أسرار الأمة، أو أنك تتحدث عن مؤمنين أبرياء سوف يعتقلهم فهنا يحرم الصدق ويجب الكذب.
سرقة المياه والكهرباء:
س: ما رأيكم في سرقة المياه والكهرباء؟
ج: لا يجوز سرقة المياه والكهرباء سواء كانت حكومية أو أهلية لأنها قضايا تتصل بالنظام العام وبالصالح العام.
التحريم الكيفي:
س: هناك بعض الناس يحاول أن يعقّد الأمور والمسائل فإن رأى أحداً يبتسم قال هذا حرام، وإذا سمع صوت إمراة قال هذا حرام وهكذا، فهل نشأ هذا النوع من التعقيد من الدين أو نتيجة تربية معينة؟
ج: هذا ناشئ من تربية معينة لأن النبي(ص) كان يستمع للنساء وكان يبتسم وكان ضحكه التبسّم. وفي مدح الفرزدق للإمام زين العابدين (ع) يقول
يغضي حياءً ويُغضى من مهابته                           فلا يُكلّم إلاّ حين يبتسمُ
والنبي(ص) كان يبتسم لكل من يلتقيه، ولنا في النبي(ص) وآل بيت النبي(ع) أسوة حسنة، فلماذا نجتهد في قبال سيرتهم وهي محجّة بيضاء، ولماذا نعقّد ما ليس معقداً؟ إن التحريم أو التحليل الكيفي الذي لا يستند إلى حجه شرعية علاوة على انه غير جائز ومنهي عنه، يسيء إلى الشريعة وإلى الإسلام بما يدع فرصة للمتقولين أن قائمة المحظورات والمحرّمات في الإسلام طويلة، وهو بريء من ذلك كلّه.
الضربة الأولى والجهاد الابتدائي:
س: يتوقف بعض الأحيان النصر في الصراع بين طرفين على من يسدد الضربة الأولى للطرف الآخر، فما هو رأيكم في الجهاد الابتدائي في عصر غيبة الإمام المنتظر(عج)؟
ج: عندما تكون هناك حرب بحيث يقف الطرفان استعداداً لتوجيه الضربة للطرف الآخر ويكون المسلمين في حال اعتداء عليهم، فإن من الطبيعي أن على المسلمين ان يوجهوا الضربة الأولى باعتبار أن في الحروب جانباً دفاعياً وآخر وقائياً. فالمهم أن تكون الحرب شرعية بحيث يملك المسلمون الشرعية في الدخول فيها مع الآخر. اما حركية الحرب فتنطلق من خلال دراسة المسلمين لمسالة النصر والهزيمة، فإذا كانت المسألة تفرض أن نبدأهم بقتال فعلينا أن نبدأهم بقتال، لأن الحرب الإسلامية دفاعية ووقائية.
اما الجهاد الابتدائي فأنه لا يفرق بين الأزمنة السابقة وبين هذا الزمان وهذا هو الرأي الذي نرتأيه ويرتأيه السيد الخوئي(رحمه الله) فأنه يرى شرعية الجهاد الابتدائي حتى في عصر الغيبة، ولكن طبعاً بشرطها وشروطها كأن تكون هناك مصلحة للإسلام في الجهاد الابتدائي، وعند ذلك يمكن للمسلمين ان ينطلقوا في هذا الخط على حسب البرنامج الإسلامي في حركة الجهاد.
قسم المُنكر:
س: هل يقسم المنكر حتى لا يأتي المدعي بالبينة، أم أن عليه القسم سواء أتى بها أو لم يأت بها؟
ج: إنما يقسم المنكر إذا لم يأت المدعي ببينة وطلب المدعي اليمين.
السمك البحري:
س: هل هناك طعام بحري يحرم أكله غير السمك الذي ليس له حراشف كالأخطبوط؟
ج: كل حيوان لا يصدق عليه اسم السمك فهو محرم.
النقاب:
س: زوجتي تغطي وجهها حسب فتوى السيد الخوئي فهل يحق لها ارتداء الحجاب من غير غطاء للوجه في ظروف حرجة؟
ج: السيد الخوئي لا يفتي بالحرمة ولكنه يحتاط فيمكن الرجوع إلى من يُجّز كشف الوجه واليدين.
الأمر بالمعروف في الشارع الإسلامي:
س: هل نعمل في شارعنا الإسلامي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ج: للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط فإذا تحققت هذه الشروط فلا بدّ من القيام بهذه الفريضة التي هي من أعظم الفرائض وأجلّها.
البيتزا والشحم الحيواني:
س: عند الدخول إلى مطاعم أوروبية نتناول طعاماً غير اللحوم كالبيتزا، فهل يجب السؤال عما إذا كان الشحم الحيواني يدخل في تركيبها، وكذلك عند شراء الحلوى أو البوظة؟
ج: إذا كان الغالب أن البيتزا ـ وهو الظاهرـ يوضع فيها شحم حيواني فينبغي للإنسان أن يسأل ليحصل على الاطمئنان. أما بالنسبة للحلوى او البوظة فلا حاجة للسؤال إلا إذا كان الغالب فيها ذلك.
طعام مسلم:
س: تقدم شركات الطيران الأوروبية طعاماً يسمى(طعام المسلمين) لمن يريد من المسلمين، فهل يجوز تناوله مع العلم أن لحومه غير مذكاة لأن بعض الأخوة يستحلون طعام أهل الكتاب دون تذكية؟
ج: على الإنسان أن يأكل غير اللحم وأما اللحم فلا يجوز أكله إلاّ إذا حصل الاطمئنان بأنه مذبوح على الطريقة الإسلامية الشرعية من خلال القرائن المتوفّرة لديه فيجوز.
كتابــة الوصيــة:
س : هل كتابة الوصية واجب، وماذا إذا توفي الإنسان بدونها؟
ج : الوصية هي أن يوصي الإنسان بما هو واجب عليه في الحياة خشية أن يأتيه الموت قبل أن يؤدي هذا الواجب، أما إذا لم تكن عليه واجبات فلا يجب عليه بل يستحب له أن يوصي، والإمام علي(ع) يقول: "يا بن آدم كُن وصيّ نفسك فاعمل في مالك وأعمل فيه ما تؤثر أن يُعمل فيه من بعدك". في حين أن بعض الناس يوصي بالثلث ويضعه تحت رحمة الوارث وأنا أعرف أشخاصاً وصوا بأثلاثهم وماتوا منذ 20 سنة ولم يصرف من أموالهم شيء، فالورثة ينتظرون الظروف الاقتصادية الأفضل، وهناك أناس أوصوا بالحقوق الشرعية وفي حياتهم لم يدفعوها، ويقال أن النبي(ص) كان وصياً في أن يصرف مقداراً من التمر عن شخص كان عنده نخل وبعد أن فرغ النبي(ص) من توزيع التمر بقيت تمرة مسوسة فرفعها النبي(ص) وقال: "لو تصدق بهذا في حياته لكان أفضل مما تصدقنا به عنه".
مصافحة الأجنبية من قِبَل الطبيب:
س : ما هو حكم مصافحة المرأة الأجنبية في بلاد الغرب إذا كان ذلك ضمن سياق المهنة الطبية عند استقبال المريض في العيادة في مستشفى أجنبية حيث يتوقف شرط القبول للعمل كطبيب على حسن استقبال المريض والمرأة بشكل خاص خصوصاً إذا تذكرنا أنه بعد هذه المصافحة يتم الكشف على المرأة بأكملها؟
ج : هذه حالة تختلف حسب الأشخاص فإذا كان الشخص يقع في حرج شديد فإنه يجوز ذلك {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78]. لكن إذا تمكن أن يلبس قفازات ولو بلاستيكية فيجب عليه ذلك. هذا لو فرضنا أنّ هناك حرجاً، وإلاّ فإنّ البعض يحاول خلق الأوهام في هذا المجال، ولا يتوقّف حسن الاستقبال على ذلك، بل يمكن التعويض عنه بالعناية الشديدة بالمريض وبطرق أخرى عديدة.
النقر على الدفوف:
س: هل الضرب على الدف في المواليد مكروه؟
ج: هناك بعض العلماء يرون أنه لا يجوز استعمال آلات اللهو حتى في الحلال مثل السيد الخوئي الذي كان يرى جواز الاستماع إلى الموسيقى التي لا تثير الغرائز والشهوات فليس كل الموسيقى حرام، ولكنه يقول لا يجوز استعمال آلات اللهو حتى في الحلال، فلك أن تسمعها أمّا أن تستعملها فلا. وهناك علماء آخرون يفتون ـ ونحن أيضاً نفتي بما أفتوا ـ أنه يجوز استعمال آلات اللهو الموسيقية الحلال، أما المحرم فهو استعمالها في الحرام، وعلى هذا الأساس فإن ضرب الدف إذا كان بطريقة تتناسب مع ألحان أهل الفسوق فلا يجوز.
موسيقى الرقص:
س: إذا كان يجوز رقص الزوجة للزوج فهل يجوز استخدام الموسيقى؟
ج: إذا كانت الموسيقى محرمّة فلا يجوز ذلك.
نذر عن الأبناء:
س: ما حكم النذر من قبل أحد الوالدين في حق أبنائهم؟
ج: لا يجب الوفاء في نذر الأب أو الأم عن ابنهما، إنّما النذر الواجب على الابن هو من قبل نفس الابن.
إحياء فريضة الأمر بالمعروف
س: نادرا ما نرى في هذه الأيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخاصة في ظل انتشار الفساد على الأرض، فما هي السبل الكفيلة بإعادة إحياء هذه الفريضة التي تعود بالنفع العام على الإسلام والمسلمين، وهل إذا أصاب الإنسان ضرر ما جراء قيامه بهذا الأمر يستمر به أم ماذا؟
ج: للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرائط مثل احتمال التأثير وأن لا يصيبه ضرر جراء أمره بالمعروف والنهي عن المنكر وما إلى ذلك، ولا بد لنا أن نتعرف على وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الممارس قد يخطئ في هذا الأسلوب او ذاك وقد يخطئ في دراسته الأجواء التي يمكن أن يتحرك فيها فقد لا تجتمع فيها هذه الشروط.
تحايل المحامي على القانون
س: إن القانون يقوم على أساس الحجّة والبرهان والدلالة الظاهرة وعلى أساس ذلك يصدر حكمه القاضي على الشخص الذي أدانته الأدلة حتى إذا كان في الحقيقة على حق وحكمه على باطل. والسؤال هنا هل يجوز للمحامي أن يستلم دعوى تظهر له من خلال الأدلة أن موكله على باطل ولكنه يستطيع بالقانون أن يخرجه من هذه الورطة؟
ج: لا يجوز له ذلك إذا كان هذا الإنسان مجرماً، وأما إذا كان بريئاً فلا يجوز له أن يجرّمه، إذ لا بد للمحامي أن يحكم بالحق.
تغيير ملابس الأم أمام الأولاد
س: هل يجوز للمرأة أن تغيّر ملابسها أمام أولادها؟
ج: إذا لم يكن فيه كشف للعورة فيجوز ذلك ولكنه ليس مألوفاً.
الحلول الشرعية لمشاكلنا
س: ما حكم المسلم الذي يعتقد بعجز التربية الشرعية بشكل عام والقرآن بشكل خاص عن حل مشاكل الحياة في زماننا الحاضر؟
ج: لا بدّ لهذا الشخص أن يدرس الشريعة دراسة إسلامية شاملة؛ لأنّ الذي يفهم الأمور بهذا الشكل لا يفهم طبيعة مواجهة الحلول الشرعية لمشاكل الإنسان ولا يفهم القرآن جيداًً.
صناعة التماثيل الآن:
س: ألا تعتقدون أنّ صناعة التماثيل والخزفيات اتّخذت غير المنحى الذي كان في زمن تحريم صناعتها، فلا يُراد بها الآن إلاّ التزيين للساحات أو للبيوت. ثمّ ما حكم من يعمل في صناعة التماثيل التي تجسّد أشخاصاً؟
ج: في السابق ــ أي عند زمن التحريم ــ لم تكن التماثيل كله تستعمل كأصنام، فنحن عندما نرى المنحوتات الموجودة في العالم نلاحظ أنها لم تكن منحوتات صنمية أو وثنية، لذلك نقول ليس من الضروري أن يكون أساس تحريمها هو أنها وسيلة صنمية؛ لأنّه لو أردنا أن ندرس تاريخ النحت كنحت الحيوانات والإنسان في العالم، فإن التاريخ لا يدل على أنها كلها كانت تتحرّك في الحالة الصنمية والوثنية، فالأحاديث التي وردت في هذا الشأن لا تركّز على الصنميّة بل على أن هذا تشبّه بالخالق، وقد جاء في حديث أئمة أهل البيت عليهم السلام: (( من صوّر صورة كُلِّف أن ينفخ فيها وليس بنافخ))، والمشهور بين الفقهاء هو الحرمة ولكنّنا نحتاط في ذلك. وعلى الشخص الذي يعمل في هذا المجال أن يرجع إلى الفقهاء الذين يجوّزون ذلك..
خلط ماله فلس بما ليس له فلس:
س: الأسماك المعلبة تصطاد بواسطة السفن الكبيرة وتكون مخلوطة بالسمك بدون فلس مع السمك بفلس، فما هو الحكم بالخصوص لمن يعيش في الدول الغربية؟
ج: إذا كنا نعرف أن هذه الأسماك مختلطة بما له فلس وما ليس له فلس فلا يجوز أن نأكلها، فلا بد أن نحرز ان السمك الذي نأكله أو نشتريه لنأكله ذو فلس، فإذا شككنا في ذلك فلا يجوز لنا أن نأكله.
إثم المجتمع:
س: إذا أجبر مجتمع على تغيير طبائع وعادات شخص كأن يتحول كلامه إلى إيمان بالله لأنه إذا لم يقسم بالله لا يصدّقه أحد، فهل في هذه الحالة يستحق المجتمع بمجموعة إثماً لقاء هذه الأعمال وغيرها ام لا؟
ج: على الإنسان أن لا يخضع للمجتمع بان يحلف بالله كذباً، فمجرد ان يسير الوضع العام في المجتمع على هذا المنوال لا يمثل حالة ضغط أو إكراه نعم يأثم المجتمع بمقدار التزامه بمثل هذا الخط المنحرف أو بمقدار ضغطه على الناس ليسيروا في الخط المنحرف ومن شارك في هذا الضغط وفي هذا الالتزام لا يكون معذورا بل يكون مأثوماً.