النـدوة
آية اللّه العظمى
السيد محمد حسين فضل الله
النـــدوة
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة
إعداد: عادل القاضي
الجزء السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
ثوابت الندوة
في 8 شوال 1420ه المصادف 15/1/2000 تحدّث سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه – دام ظله –عن ثوابت الندوة كمنطلق للتوعية، وتجلية المفاهيم الإسلامية وكونها ساحة من ساحات الحرية الفكرية ، مبيّناً أن لا أحد مهما كان – عدا من اختارهم اللّه – يملك بشكل كامل الحقيقة المطلقة.. ورحّب سماحته من جديد بالأسئلة كلّها والنقد كلّه. لذا ارتأينا تثبيت ذلك لما تنطوي عليه ندوات الحوار الجماهيرية من أهميّة في الوعي والحركة والنقد وحرية إبداء الرأي.
نعودُ من جديد لنلتقي بكم في هذه الندوة التي أريد إليها أن تكون منطلقاً للتوعية الإسلامية، وأن تتحرك من أجل توضيح وتجلية المفاهيم الإسلامية، ولتكون ساحة من ساحات الحرية الفكرية التي تفسح المجال لأيّ سؤال في هذا الإطار الإسلاميّ العام. وقد كنّا نودّ منذ البداية، لكلّ الناس الذين يطرحون الكلمات في الهواء الطلق ومن بعيد، أن يقتربوا إلى هذه الندوة ليأخذوا حريتهم في أيّ سؤال يوجّهونه، وسيعرفون أنّهم يملكون الحرية في طرح أيّ سؤال، لأننا لا نضيق بسؤال أحد، ولا نضيق بنقد أحد، بل إننا نتقبّل كلمات النقد البنّاء أكثر مما نتقبّل كلمات المديح، ولكن المشكلة هي أننا نعيش في مجتمع تتعقّد فيه الكلمة من خلال الذين يعيشون عقدة الفكر وعقدة الموقف.
إن المصلحة الإسلامية العليا هي أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمع حوار يُفسح فيه المجال لكلّ الناس، سواء كانوا مسلمين مختلفين في الآراء، أو كانوا غير مسلمين من أصحاب الأديان الأخرى، أو من أصحاب التيارات الأخرى. ومن مصلحة الإسلام أن تكون الساحة الإسلامية ساحة مفتوحة للحوار بحيث يحقّ لكلّ صاحب فكر أن يسأل ما يشاء. ويجب على القائمين على العمل الإسلاميّ أن يجيبوه على أيّ سؤال، وأن لا يتعقّدوا من أيّ سؤال. وعلينا أنّ نعرف حقيقة بشرية إنسانية وهي أنه ليس هناك، فيما عدا الذين اختارهم اللّه للحقيقة، إنسان يملك الحقيقة المطلقة بشكل كامل، وليس هناك إنسان يستطيع أن يقول من غير دليل قطعي: أنا الإسلام والآخرون ليسوا إسلاماً. وليس هناك من يستطيع أن يقول من غير برهان: أنا الهدى كلّه ومن يختلف معي هو الضلال. وليس هناك من يستطيع أن يقول : أنا الاستقامة كلّها، والذين لا يلتقون معي هم الانحراف كلّه بلا دليل يقدّمه. إنّ هناك فرقاً بين أن تكون عالماً فتكون متواضعا،ً وبين أن لا تكون عالماً فتكون مغروراً متكبّراً تنتفخ ذاتك وتتضخّم شخصيتك كمثل الورم الذي يصيب الأجساد.
ولذلك فمن موقع هذه الندوة، ونحن نبدأ فصلاً جديداً، نقول لكلّ الذين لا يقرأون جيدا،ً ولا يسمعون جيداً، والذين لا يفهمون كلمة الإمام علي(ع) ((بين الحق والباطل أربع أصابع)). تعالوا إلى هذه الندوة فهناك الحوار الحرّ والساحة التي لا تتعقّد من سؤال ولا تتعقّد من نقد وترحّبُ بكل علامة استفهام حتى لو كان النقد موجّهاً إلى صاحب الندوة، لأننا نلتزم كلمة علي(ع) ونتعلّمها في طريق دعوتنا إلى اللّه ((رحم اللّه امرؤا أهدى إليّ عيوبي)). ونبدأ من جديد.
آية اللّه العظمى السيد
محمد حسين فضل اللّه
- دام ظله الشريف –
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
منهج التعامل مع الأئمة من أهل البيت(ع)
لو نظرنا إلى ما بين أيدينا من بحوث ودراسات وتراجم ذاتية للائمة من أهل البيت(ع) لرأينا أن بعضها يمكن عدّه دراسة شمولية مستقصية لجميع جوانب حياة الإمام موضع الدراسة: (من المهد إلى اللحد) وهذا المنهج الاستقصائي لم يتعرّض للائمة(ع) كلّهم، بل تناول سير بعضهم ممن ترك لنا التأريخ صفحات كثيرة عن حياتهم الإمامية والمراحل التي سبقت تولّيهم شؤون الإمامة.
وأنّ بعضها تناول جوانب بعينها ضمن التقسيم المتعارف على اشتهار إمام بحقل من حقول المعرفة والجهاد والعبادة، كما هو التصنيف المعروف بالثورة عند الإمام الحسين(ع) والدعاء عند الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) ومدرسة الباقر(ع) والصادق(ع) الفكرية والعقائدية، فظهر كلّ إمام من هؤلاء الأئمة وكأنما أنيطت به مهمة محدّدة بذاتها قام بها على خير وجه. ومع أنّ أصحاب هذه الدراسة يعزون السبب في ذلك إلى المرحلة التي عاشها كلّ إمام، الأمر الذي استدعى التركيز على هذه الجوانب، الاّ انهم اغفلوا الجوانب الأخرى، أو قلّلوا – ربّما عن غير عمد – من أهميتها لإخلاء الساحة للجانب الذي امتاز به الإمام بحيث طغى على غيره واستأثر بسيرته، فبدت الصفحات الأخرى باهتة، ضامرة.. خابية.. حتى لم يعد لها ذكر أحياناً.
وقد نظر سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه – دام ظلّه - فرأى أنّ ما وصلنا من سيرة أهل البيت(ع) ضيّق المساحة لم يقدّم تغطية وافية وشاملة لحياة الأئمة المعصومين(ع) إمّا لضياع الكثير من تراثهم، أو لتضييعه من لدن أقلام غمطت أهل البيت(ع) حقّهم فخلعت بعضاً من سيرتهم على سير غيرهم، أو طمست تراثهم حتى لا تصل إشعاعاته إلى مدياتها المفترضة، الأمر الذي نجم عنه ثغرات وفراغات قد يجد الدارس صعوبة في ملئها، وربما تجاوزها إلى غيرها لا زهداً فيها وإنما لقلّة ما تحت يده من معلومات عنها.
ونظر فرأى أن تراث الأئمة من أهل البيت(ع) دخل فيه ما ليس منه، فلقد كثرت الكذّابة عليهم، مما اقتضى التنقيب والغربلة عن الأحاديث الصحيحة والأخبار الثقة، وما لا يتعارض أو يتناقض مع كتاب اللّه المجيد، ومع الخط العام لسيرتهم.
ونظر فرأى أنّ أحاديثهم قد سطّرت في الكتب التي اهتمت بجمع تراثهم الحديثي دون أن يستنبط منها منهجهم(ع) في النظر إلى القرآن والعقيدة والفكر والعلاقات الاجتماعية والأخلاق والعمل وما إلى ذلك – فكانت تساق كأحاديث ربما تندرج تحت عنوان معين يوحّدها فتأتلف تحته، غير أنّ استخلاص التفسير الموضوعي لها نادر، لكنّه قيّم، لأنه أبرز الوجه الحقيقي لإمامتهم ومواقعهم الاجتماعية والفكرية والأخلاقية في الأمّة.
ولذا، ومن خلال هذه المنطلقات، اهتمّ سماحته باكراً في إعادة قراءة الأئمة المعصومين(ع) قراءة تعتمد في الأساس ما ورد عنهم من أحاديث وروايات ثابتة بشكل قطعيّ لتناغمها مع سياق النصّ القرآني، وهو المعيار الذي قدّمه أهل البيت(ع) لدارس تراثهم.. ((ما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتابه فذروه أو اضربوا به عرض الجدار)).
ففي كتابه (قضايانا على ضوء الإسلام) وفي مقال تحت عنوان [حول دراسة حياة الأئمة من أهل البيت(ع)] كتب سماحته يقول في تبيان ضرورة هذه الدراسة: ((إنّ دراسة الأئمة من أهل البيت(ع) من الأمور التي نحسّ ويحسّ كثير من المسلمين وغيرهم بضرورة العمل على تحقيقها بدقّة ووضوح، لأنّ لها صلة كبيرة بالجانب العقائدي من حياتنا، وبالجوانب الفكرية والروحية من ثقافتنا وديننا وتأريخنا، فالحاجة إلى دراسة أهل البيت(ع) ناشئة من حاجتنا إلى فهم عقائدنا فهما صحيحاً، فمع أنّ القرآن الكريم قد جلّى لنا هذه العقائد بما لا لبس فيه، لكنّهم كشفوا من خلال أسئلة طرحت عليهم أو حوارات أجريت معهم عن السبل والوسائل المقنعة بإثبات أصالة ونصاعة كلّ عقيدة، وإزالة ما علق فيها من شبهات الفلاسفة والمتكلّمين والملاحدة. فلم يكن تراثهم في هذا المضمار شيئاً إلى جانب النصوص القرآنية، إنما هي نصوص وأحاديث وروايات تستوحي النص القرآني وتفهمه فهماً معصوماً من الخطأ أو الزلل، ولذلك فهو مرجعهم في محاججاتهم ومناقشاتهم لا يخرجون عنه قيد أنملة، فكلّ ما يفعلونه هو أنّهم يقدمون الفهم الصحيح والأصيل لظواهر القرآن التي قد يؤولها الناس في غير المعنى المراد بها.
((ونستطيع – والقول لسماحته – أن ندرك جيداً مدى ضرورة هذه الدراسة، ومدى صلتها بحياتنا إذا لاحظنا أنّ الأئمة من أهل البيت(ع) – في ما نراه – يمثلون الامتداد الرسالي للدعوة الإسلامية، فقد كانت مهمتهم توضيح القضايا الإسلامية التي اعتراها الغموض والإبهام بعد النبي(ص) بسبب الظروف والملابسات الكثيرة التي رافقت الإسلام في تلك الفترات، والقيام بدور الحارس الأمين للقيم والمفاهيم الإسلامية، حذراً من أن تشوّه أو تحرّف وفقاً لمقتضيات الظروف السياسية للحاكمين)).(1)
وهو إذ يقدّر الحاجة الماسّة إلى دراسة حياة الأئمة(ع) يرى ((أنّ مثل هذه الدراسة تلتقي بآفاق جديدة في العلم والدين والأخلاق والسلوك والنفس والمجتمع، كما أنّها تستطيع أن تعطينا حلولاً كثيرة لما نجابه من مشاكل فكرية وروحية وتبعدنا عن جوّ السطحية والسذاجة اللتين ما نزال نعالج مشاكلنا على أساسهما))(2).
وهذه النقطة جوهرية في الهدف من دراسة سيرة وتراث الأئمة(ع) فبالإضافة إلى دور التوضيح والكشف عن المفاهيم الإسلامية في أصالتها، فإنها تقدم للدارس آفاقاً جديدة في مجالات علمية وفكرية وعملية وتربوية كثيرة، وهي لمن درسها بعناية وعمق آفاق لا تبلى لأنّها تستمد خلودها من خلود النهج الذي اتبعه الأئمة من أهل البيت(ع) وهو نهج قرآني أولاً وأخيرا، حتى ليمكن القول إنّ الفيصل في المنازعات الدائرة بين المسلمين هو الرجوع إلى أهل بيت العلم لأنّ كلامهم كلام رسول اللّه(ص) وكلام رسول اللّه هو كلام اللّه عزّ وجل، فهذه الأنوار من هذه المشكاة.
وفوق هذا وذاك يرى سماحته أنّ دراسة خط ومنهج وسيرة الأئمة من آل بيت العصمة(ع) يعطي للأمة حلولاً جذرية لما تجابهه من مشاكل على أصعدة حياتها المختلفة، وهذا الأمر يجرّنا إلى الحديث عن الأسلوب الأمثل في استخراج الكنوز من هذا البحر، فكما أنّ القرآن لم يقرأ القراءة المطلوبة إلاّ من ثلّة مؤمنة درسته دراسة حركية وموضوعية واستجلائية لما يطرحه من حلول ناجعة وبرامج عمل حركية، فكذلك هي سيرة الأئمة الإثني عشر لم تحظ الاّ بالقليل من الدراسات التي عرفتهم حقّ معرفتهم.
يقول سماحته: ((إننا نحتاج إلى أن ندخل الأئمة(ع) في حياتنا العملية من خلال التأكيد على دورهم الرسالي في حياتنا، لنشعر بأنهم يتحركون معنا في مواقعهم القيادية على صعيد الخط التربوي والسياسي والاجتماعي في حركة الفرد والأمة، مما يجعل من تأكيدنا للجانب الولائي لهم، تأكيداً للخط الفكري والعملي المتمثل بفكرهم وسلوكهم)).(3)
إنّ هذه الدعوة لإدخال الأئمة(ع) في حياتنا دعوة حركية لأن نحياهم لا أن نحي ذكراهم وحسب، وهي دعوة مفتوحة يردّد فيها سماحته دائماً قولهم(ع) ((أحبّونا حبّ الإسلام)). وبذلك نشعر - كما يذكر ويذكّر دائماً – أنهم موجودون معنا بفكرهم ومنهجهم وكلّ ما جاءنا بطريق صحيح عنهم. وهذه هي دعوتهم أيضاً: ((شيعتنا من اتقى اللّه وأطاعه)).
ومن هنا أيضاً فقد نظر سماحته فرأى أنّ هناك من يتعامل مع قضية الأئمة(ع) من منظور غيبيّ بحت يرسم حدّاً فاصلاً بين واقعهم كأسوات حسنة وبين واقع أتباعهم الذين يفترض بهم أن يتاسّوا بهم ليرتقوا في مراقي العلم والمعرفة والعبودية والعمل، في حين أن الواقع الولائي أفرز أمّة تعيش الجانب العاطفي فيما هو التعلّق الشخصي بذات الشخصية المحبوبة أو المعشوقة من خلال النظر إليهم كنجوم متألّقة في السماء، دون الاهتداء بهديها ونورها وصولاً إلى شاطئ السلامة أو برّ الأمان في عباب الليل البهيم.
يقول سماحته: ((وقد نحتاج إلى إثارة قضية بارزة مهمّة جداً في الصورة التي قدّمها الوعّاظ والخطباء عن الأئمة(ع) للوسط الشعبيّ، فنرى أنّ التأكيد يتركّز على جانب الغيب في شخصيته (أي الإمام المعصوم) فيما هي الأسرار الغامضة، وفيما هي المعاجز الخارقة، وعلى جانب المأساة التي تستنزف الدمع بحيث تتحرّك المسألة في حشد أكبر عدد ممكن من العناصر المأساوية كيفما كانت، للإيحاء بشخصيته المضحيّة، التي تضيع أمامها شخصية البطل)).(4) وإذا ضاعت شخصية البطل خلف غيم الدموع وطغت عليها شخصية الضحيّة، فإننا لا نعود نبصر سوى الانكسار والضعف والجراح النازفة، في الوقت الذي ليس في حياة أيّ من الأئمة(ع) شيء من ذلك، فلا ضعف ولا انكسار ولا هزيمة ولا انطواء، بل حتى نزيف جروحهم كان في الميدان الذي قاتلوا فيه فقتلوا وقُتلوا، فهو في عين اللّه وفي سبيله ومن أجله.
هذه النظرة المحصورة في فهم عاطفي مجرّد عمّا يترتب عليه الولاء من التزامات الاتباع والتأسيّ، قادت إلى تحجيم الأئمة(ع) في أطر الابتهاج بمواليدهم والبكاء في وفياتهم حتى لم يعد لبعض من يواليهم سوى ذلك ظنّاً منه أنه وفّى قسطه للعلى.
ضرورات دراسة تراثهم الحديثي:
يقول الإمام علي بن موسى الرضا(ع): ((أحيوا أمرنا رحم اللّه من أحيا أمرنا؟ قيل وكيف يُحيي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ثم يعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعّونا))(5).
فإحياء أمرهم(ع) يتم بالتعلّم وبالتعليم، أن نتعلّم علومهم ثم نعلّمها الناس، ذلك أن لكلماتهم وأحاديثهم وقعاً حسناً على النفوس، فهي إذا علمت كلامهم وكلامهم – كما قلنا – كلام رسول اللّه(ص) وكلامه كلام اللّه تبارك وتعالى، فسوف يقبلون عليهم وينهلون من معارفهم ويتّبعوهم، والاتباع غاية كلّ مدرسة تنشد أن تستقطب المزيد من الأبناء والأتباع والتلامذة.
ومن هذا المنطلق كان التركيز في منهج سماحة السيد فضل اللّه على محاسن كلامهم(ع) لشدّ الناس، ممن تشيّع لهم، وممن لم يذق بعد حلاوة معرفتهم، إلى هذا البيت الطاهر الذي زقّ العلم زقّا. وبذلك يمكن الإشارة إلى أهم الدواعي لاعتماد هذا المنهج، من خلال النقاط التالية:
1. إحياء أمر أهل البيت(ع) – وهو حي لا يموت ما بقيت الحياة – لكنّها دعوتهم في نفض الغبار والنسيان والحيف عمّا لحق بتراثهم من الأصدقاء والأعداء، حتى تستشرف الأمة آفاقهم العالية في كلّ ما قالوه وفعلوه وقرّروه، وبذلك يكون أمامها رصيد ضخم من عطاء لا يستهان به في مجالات المعرفة كلّها.
2. من فوائد هذا المنهج أنه يغربل المأثور عنهم(ع) ليثبت الصحيح وينبذ غير الصحيح مما لم يوافق كتاب اللّه عز وجل، أي أنه يتيح للدارس فرصة مناقشة كلّ ما ورد عنهم حتى يأخذ الناس بالصحيح ويتركوا السقيم، خاصّة وأنّ الكذّابة كثرت عليهم، والغلاة بالغوا في بعض الأوصاف، وربّما قوّلوهم ما لم يقولوا، أو أوّلوا ما قالوا بغير ما أرادوه..
3. يتولى هذا المنهج أيضا تبيان منهجهم العلمي والفكري في النظرة الأصيلة إلى الإنسان والكون والحياة، مما يمكّن الدارسين من استلال نظريات معرفية ضخمة، وأخرى منهجية في حقول التربية والتعليم والعمل الحركي وفي مجال العلاقات وما إلى ذلك مما لم يتركوا شاردة ولا واردة منه الاّ وأشبعوها بحثاً وتجلية وإقناعا.
4. إن تراثهم(ع) الفكري والثقافي يمثل، كنتيجة مستخلصة من دراستهم باعتماد هذا المنهج، صورة ناطقة بمرحلتهم التي عاشوها إن من خلال الشبهات والإشكالات وعلامات الاستفهام المثارة، أو من خلال ما يقدمونه للأمّة كزاد فكري وثقافي يأتي مبادرة وتطوّعاً من قبلهم(ع) تقديراً منهم أنّ ذلك يشكل حاجة ماسّة لراهن الأمّة ومستقبلها، وبالتالي فإن البحث في أحاديثهم ورواياتهم يقدّم للمؤرخين والدارسين لسيرتهم معالم مجهولة أو مغفول عنها، أو لم يتبيّنها المؤرّخ الذي يستقرئ السيرة كمراحل حياة وحسب. فمن خلال حوارات الإمام الصادق(ع) مع الملاحدة نتبيّن وضع الساحة الثقافية آنذاك، والأسئلة المطروحة فيها، والمنهج الذي يعتمده الإمام(ع) في الردّ على خصوم العقيدة، لا باستخدام الأسلوب البرهاني التدليلي على صحة ما يطرحه فقط، بل على أدب الحوار والمناقشة والاحتجاج، مما لم يثبت عنه وعن آبائه وعن أبنائه أنّهم كفّروا ملحداً أو أشاحوا وبوجوههم عنه أو عنّفوه، أو انتقصوا من قدره، وهذا واحد من انطباعات كثيرة عن أنّ الساحة المحتدمة ثقافياً كانت مفتوحة بشكل حرّ لا تمنع الرأي المضاد ولا تحجبه ولا تهزأ به وبقائله، بل تتيح له المجال كاملاً كيما يدلي بما عنده، ثم تناقشه بالرأي وبالبرهان وبالحجّة وبالأسئلة التحريضية وبالأسلوب الدافق بالمشاعر، الأمر الذي أفرز نتائج إيجابية كثيرة لا سيما على مستوى الاستجابة لفكر أهل البيت(ع) والاعتقاد بما يعتقدون.
5. يكشف هذا المنهج أنّ كلام الأئمة من أهل البيت(ع) هو كلام رسول اللّه(ص) فتارة يروون عنه(ص) ومن أصدق منهم(ع) رواة لأحاديث جدهم(ص). وتارة يصوغون قوله بعباراتهم الخاصّة، حتى أنك تلتقي بأحاديث ذات مضامين واحدة وإن كانت عباراتها شتى. كما أنك تجد ما يمكن الاصطلاح عليه بالأحاديث المفسّرة لبعض أحاديثه(ص) وفي هذا وذاك فإنّهم، وكما نتبيّن ذلك من منهج دراسة أحاديثهم، لا يخرجون عن هدي القرآن وأسلوبه ونهجه فيما يطرحون، فكم حفلت أحاديثهم(ع) بآيات من الذكر الحكيم كاستدلال على ما يقولون، الأمر الذي يدعونا إلى انتهاج النهج ذاته فيما نطرح ونناقش، فالقرآن أولاً والسنّة ثانياً.
إيجابيات هذا المنهج:
ويمكن هنا رصد أهم الإيجابيات التي يغتني بها هذا المنهج:
1. الكشف عن الجوانب المغفول عنها من سيرة الأئمة(ع) والتي تشكل الملامح البارزة لشخصياتهم الإمامية القيادية والعلمية والاجتماعية.
2. التركيز على جانب العطاء الذي يمتد مع الحياة، لا الوقوف فحسب عند الجوانب التأريخيه من سيرتهم فيما عاشوه من حياتهم الخاصّة، أو ما عاصروه من قضايا ومشكلات وتجارب، وإن كان في هذا ما يثري تجاربنا أيضاً.
3. التفسير الموضوعي لأحاديثهم ورواياتهم بما يربط بعضها بالبعض الآخر لينتج لنا مناهج متعددة في الفكر والعمل والسلوك، فبدلاً من هذا المتناثر من أحاديثهم يعمد الدارس إلى استخلاص مناهج في التربية والتعامل والأخلاق وغير ذلك.
4. التفسير الحركي لهذه الأحاديث، أي استنباط الدروس الحركية فيما ينفع العاملين في سبيل اللّه والمبلّغين رسالاته والدعاة إليه في خطواتهم على طريق الإسلام.
5. يعمد هذا المنهج أيضا إلى تصحيح الكثير من المفاهيم الدارجة والسائدة من أعراف الناس وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم مما يتنافى أو يتناقض مع الخط الإسلامي الأصيل، فيعرضها على أحاديث الرسول(ص) وأحاديث الأئمة من أهل البيت(ع) يتكشّف الصالح من الطالح والصحيح من السقيم والأصيل من الدخيل. ولذلك فقد طرح سماحته منذ أربعة عقود بحثاً في (منهج الدراسات الإسلامية بين السند والمتن) قال فيه إنّ علينا أن ندرس ما جاءنا من نصوص الإسلام من خلال الخطين الذين كان العلماء يركّزون عليهما، وهما السند والمتن ((أمّا الذي يفرض علينا التزام هذا المنهج، فهو أن المؤرخين والرواة لا يرتفعون فوق مستوى الشبهات فهم أفراد من البشر، لهم ما للبشر من ميول وأفكار وطبائع مختلفة وصفات متباينة))(6). وباعتماد هذا المنهج يمكن تنقية تأريخ وروايات أهل البيت(ع) من المدسوس والموضوع والدخيل والغريب والهجين مما هم بريئون منه، وبما يمكّن الباحث والدارس من إعطاء الصورة المشرقة لسيرتهم(ع) بما حفلت به من مواقف وأحاديث وروايات.
نماذج تطبيقية:
ولأنّ الحديث منصبٌ على نتاج (الندوة) تحديداً، فإننا سنغفل أحاديث سماحته قبل العام 1416ه بدء تأريخ ندوة السبت في (حوزة المرتضى) بدمشق، وإن كانت الدراسة الوافية تقتضي دراسة كلّ ما أثر عنه قبل هذا التأريخ، ولكن ذلك ربّما يكون من شأن دراسة أكثر عمقاً واستيفاءً للمطالب ذات العلاقة بهذا المحور.
فلو وقفنا في محطات سريعة مع محاضراته عن الأئمة من أهل البيت(ع) خلال السنوات الخمس الماضية لرأيناه حينما يتحدث عن فاطمة الزهراء(ع) فإنه يعرض لسيرتها – وكما هو شأنه مع سائر المعصومين من آل البيت(ع) – من خلال شهادات معاصريها بالإضافة إلى تقييمات وشهادات نبوية وعلوية بحقّها.
وهو حينما يدعو إلى استكناه الدروس الحركية من سيرتها(ع) يكاد يطرح درساً واحداً مستخلصاً من سيرة الأئمة أجمعين(ع) حيث يقول (إن الزهراء(ع) وقفت من خلال القضية، ومن خلال الإسلام، فإذا أردتم الاحتفال بها فليكن احتفالاً بهذا الجوّ الرساليّ المنفتح على حياتها كلّها)).(7) ويخلص إلى نتيجة تكاد تكون واحدة، بل هي واحدة فعلاً في حياتهم(ع) لأنهم كانوا الأمناء على الرسالة بل الممثلين والمجسّدين لها ((فلنكن مع عظمائنا رجالاً ونساءً من حيث كانوا مع الرسالة، فذاتهم ذات رسالية، فلننطلق مع ذاتهم الرسالية لا ذاتهم الشخصية)).(8)
وحينما يتحدث عن الإمام علي(ع) فكأنّما يتحدث عن سائر الأئمة(ع) بلا استثناء، حيث يقول: ((أمام هذه الذكرى المجيدة لابدّ لنا أن نتوقّف لنعيشه، نعيش فكره وروحه وانفتاحه على ربّه، وتحسّسه المسؤولية بأن يعطي الناس علمه كلّه، فلقد كان يعيش قلق الدعوة إلى اللّه وقلق الوعي الذي يحتاجه الناس)). (9) وهكذا حينما يخلص من دراسته(ع) يؤكد ما يؤكّده في نهاية أية محاضرة أو حديث عن أي إمام آخر، فيقول: ((ينبغي أن نفهم علياً(ع) وأن نفهم معنى التشيّع لعلي(ع) بأنّه تشيّع للرسالة وللخط وللمنهج))(10).
وحينما يتناول حياة الإمام الحسن(ع) بالدرس والتمحيص، فإنه يقف من اتهام المؤرخين له بالضعف موقفاً علمياً يرفض وصف الإمام الحسن(ع) بالشخصية الضعيفة، حيث يقول: ((إنني أتدعو كلّ الباحثين من أجل أن يتعرّفوا على شخصية الإمام الحسن(ع) في إرادة القوّة في كلّ كيانه، وفي العنفوان الإسلامي في عقله. وعندما نقرأ الرسائل التي تبادلها مع معاوية ونقارن بينها وبين الرسائل التي دارت بين علي(ع) وبين معاوية، فإنّنا لا نجد أيّ فرق في كلمات القوّة والمسؤولية والوعي والرسالية والتحدّي والعنفوان الإسلامي))(10). فهو ينفي التهمة عن الإمام(ع) نفياً علمياً قائماً على دليل دراسة الرسائل الموجهة إلى معاوية، وعملية إجراء مقارنة مع رسائل الإمام علي(ع) مع الأخير.
وحينما يدرس صلحه(ع) يطرح جانباً الآراء التي تدعو إلى اعتبار هذا الصلح مبرراً للصلح مع الأعداء الصهاينة وغيرهم، كما اعتبر بعض الباحثين صلح الحديبية مبرراً شرعياً للصلح معهم، في حين أن لا مماثلة بين الصلحين، ولا يصح بحال قياس صلح الحديبية وصلح الإمام الحسن(ع) بما يدور من حديث عن الصلح مع أعداء الأمّة، حيث يقول مدافعاً عن صلح الإمام(ع): ((أمّا صلح الإمام الحسن(ع) فهو صلح في الساحة الإسلامية من أجل مصلحة المسلمين الذين أتعبتهم الحروب، إذ لم تنتج الحرب شيئاً في الواقع جرّاء التعقيدات والظروف الصعبة، ولأنّه(ع) كان يخطّط لثورة الإمام الحسين(ع))) (12). ويضيف مقارناً بين الصلحين فيقول: ((إفهموا معنى الصلح هناك ومعنى الصلح هنا لتعلّموا الأمّة الإسلامية أو العربية التي تختزن الإسلام في عمقها كيف تفهم أنّ الصلح مع إسرائيل ليس له أي مبرّر شرعي))(13).
وهكذا في قبول الإمام الرضا(ع) ولاية العهد وغير ذلك من تصحيح الفهم والنظرة لمواقفهم(ع) مما لا يسعنا إيراده في هذه المقدمة، لكننا يمكن أن نثبّت ملاحظات عامّة عن دراسته لهم استقصيناها من خلال متابعتنا للندوة على مدى السنوات الخمس الماضية، وهي:
1. الدعوة إلى دراسة الأئمة(ع) دراسة شمولية لا دراسة تجزيئية، بمعنى أن تدرس جميع جوانب شخصية الإمام المعصوم(ع) وهي لمن درسها بعمق غنيّة في أكثر من جانب وليس في الجانب الذي اشتهر به الإمام(ع) أو الذي ركّز عليه المؤرخون وكتّاب السيرة. يقول مثلاً في دراسته للإمام علي بن الحسين(ع). ((لو درسنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في جوانب حياته كلّها لرأينا أنّه كان إمام المرحلة بكلّ حركية المرحلة في حاجاتها العملية والروحية والحركية بحيث يشعر الإنسان أنّه عندما يدخل إلى حياته فإنّه يلتقي بالغنى كلّ الغنى العلمي والروحي والأخلاقي وفي مختلف جوانب حركة الإنسان في الحياة)).(14) وما يصدق على الإمام علي بن الحسين(ع) يصدق على آبائه وأبنائه(ع).
2. إنّ وحدة الإمامة تفرض وحدة الرسالة ووحدة الهدف ولا تفرض وحدة الخطّة المرتبطة الحلقات، ولذلك فإنّ سماحته يختلف مع النظرة القائلة بتعدّد الأدوار وتنوّعها لدى الأئمة(ع) فلقد شغلوا مراحلهم بكلّ ما تقتضيه الإمامة كقيادة شرعية للأمّة، وإذا برز دور معين وطغى على باقي الأدوار فذلك لا يعني أن دورهم الوحيد هو ذلك الدور فحسب، لأنّ إمامتهم لم تكن مختصّة أو متخصّصة في ذلك الجانب دون غيره وإنّما هي إمامة جامعة مانعة في كلّ الشؤون والمجالات والحقول، حتى ليمكن القول إنّ الإمام الحسين(ع) لو كان في عصر الإمام الصادق(ع) لمارس المهمّات التي كان يمارسها الصادق(ع) والعكس صحيح. ولو أنّ الإمام الباقر(ع) كان في عهد الإمام الرضا(ع) لقبل ولاية العهد، وهكذا، فهم ذرية بعضها من بعض، وقد ملأ كلّ منهم مرحلته باحتياجاتها ومتطلّباته كلّها.
3. إنّ العصر الذي عاشه كلّ إمام من أئمة أهل البيت(ع) هو جزء من التأريخ، ولقد انصرمت تلك العصور وغاب شخوصها عن مسرح الحياة، وربما كان من غير المجدي أن نسترجع ما دار على ذلك المسرح من خصوصيات ]تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[(15). ومن هنا كان سماحته يؤّكد على الدوام على هذا الفهم لمناسبات التأريخ، حيث يقول: ((لمناسبات التأريخ الذي نتصل به اتصال الانتماء لما يحمله في داخله من حركة الرسالة وحركة الرساليين ولا سيما إذا كانوا ممن أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.. لهذه المناسبات معنى التأمّل والتفكير والانفتاح على خصائص هذا التأريخ، لا لنستغرق فيه فلسنا من أهله، ولكن لنستوحيه ولنأخذ منه الدرس والفكرة والعبرة)) (16).
وفي هذا الصدد يقول أيضاً: ((عندما نريد العيش مع تأريخنا الإسلامي في نماذجه كلّها، فعلينا أن نبحث عن إيجابياته وعن ما بقي لنا من هذا التأريخ، فالكثير مما عشناه من أحداث التأريخ كان متحرّكاً في دائرة الماضي، وهناك أشياء تبقى للحياة، وبالنسبة إلى عظمائنا رجالاً كانوا أو نساء يبقى لنا منهم ما يمكن أن يغني حياتنا، وأن يساهم في تأصيل مواقعنا الإسلامية، وفي تقويم من انحرف منا، وفي إصلاح ما فسد منّا))(17).
4. إنّ دراسة كلّ إمام من الأئمة(ع) تؤكّد على حقيقة أن الأئمة(ع) وإن رحلوا بأبدانهم عن هذه الحياة الدنيا وحالت بيننا وبينهم تلال السنوات الطويلة، إلاّ انهم حاضرون في حياتنا حضوراً أقوى من كلّ حضور. ولقد أكّد سماحته على ذلك في شتى المناسبات [ولادات ووفيات الأئمة(ع)]. فهو لا يتصوّر غياب أي منهم عن حياتنا طالما أنه حاضر في الكتاب والسنةّ والسيرة المعطرة المطهّرة الغنية الثرية المليئة بالدروس الحركية الممتدة مع امتداد الزمن، فلا يجوز تجميد حياتهم(ع) في داخل مرحلتهم الزمنية، وما يقوله سماحته عن الإمام المهدي المنتظر(عج) يقوله عن النبي المصطفى(ص) وعن علي(ع) بل وعن كلّ الأئمة(ع): ((نحن نعيش حضوره في كلّ هذا الخطّ الإسلاميّ من الكتاب والسنّة بكلّ امتداداتها وتفاصيلها، فنحن لا نشكو فراغاً من خلال فراغ حضوره، لأنّ هذا الفراغ يمتلأ بهذا التراث الديني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه))(18). بل إنّ سماحته يدعو إلى تجديد مضمون زيارة مراقدهم بأن تكون الزيارة بمثابة استذكار واستلهام لكل هذا التأريخ الحافل.
5. إخراج العلاقة مع الأئمة من أهل البيت(ع) من إطار الحب العاطفي المجرّد إلى آفاق أرحب، تأتي الولاية لهم في الصدارة منها، ثم العمل بما جاءوا به والالتزام بتقوى اللّه وطاعته، بل وحتى الحب إنّما هو حب للإسلام الذي يمثّلونه لا الحب الشخصي، وإن كانوا(ع) يحبّون لشخوصهم وشخصياتهم معاً. ولذا فإن سماحة السيد فضل اللّه يركّز باستمرار على ضرورة العمل بمنهجهم والالتزام بخطّهم والتعرّف على معالم مدرستهم، وان لا يكتفي من ينتحل التشيع أن يقول أحبّ علياً وأتوّلاه ثم لا يكون فعّالاً، فالدعوة قائمة ودائمة من لدن سماحته إلى استيحاء سلوكهم(ع) في حياتهم والإقتداء بمواقفهم، حيث يقول: ((إنّ التزامنا بأئمة أهل البيت(ع) هو الالتزام بالإسلام النقي الصافي، وعسى أن تكون ولايتنا لهم ولاية موقف لا ولاية عاطفة، لأنّهم انطلقوا من خلال الإسلام، فمن تحرّك في خط الإسلام فهو معهم، ومن لم يتحرّك في خط الإسلام فليس معهم)).(19)
6. التنبيه باستمرار إلى أن الأئمة(ع) كانوا يعتمدون القرآن كمنهج ثابت، فيه تبيان لكلّ شيء، فكانت حواراتهم وأجوبتهم ومعالجاتهم للإشكالات والمشكلات الفكرية والعقيدية والتربوية مستوحاة من الكتاب الكريم. وهذا ما ركّز عليه سماحة السيد في الأعّم الأغلب من محاضراته التي تناولت ذكرياتهم ومناسباتهم(ع). فحينما يتحدث عن الإمام الباقر(ع) ويلتقط من أحاديثه ما يتعلق بالقرآن يقول: ((إنّ عليّنا في كلّ ما يطرأ من مشاكل وقضايا فكرية، أن ننطلق إلى كتاب اللّه وسنّة نبيّه لنجد فيها ما يحلّ لنا مشكلاتنا، ولكن لا نضيع فيما ضاع أو يضيع فيه الآخرون))(20).
7. التأكيد الدائم على أن إحياء ذكرى أي إمام من الأئمة(ع) هو إحياء للإسلام في صفائه ونقائه ((لأنّهم كانوا الدعاة إلى اللّه، الأدلاء على سبله، المؤتمنين على الإسلام، ليصحّحوا ما انحرف فيه المسلمون، وليصوّبوا ما أخطأوا فيه، لأنّ تلك هي مهمّة كلّ إمام يراقب الوضع، ويعمل على أن يجعله مستمراً في الخط المستقيم))(21).
وبالتالي فإنّ سماحته عمل وعمد إلى استنطاقهم في كلّ ما يعتري الواقع الإسلامي من مفاهيم مغلوطة أو منحرفة، ومن مشاكل خلافية تصل إلى درجة التناحر، ومن أخلاق غريبة وافدة، ليعيد لذلك كلّه صفاءه ونقاءه وأصالته باتخاذ الصحيح من أحاديثهم(ع) معياراً للفصل.
بقي أن أشير إلى أنّ سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه – دام ظلّه – لم يكن ليغفل الإشارة ضمناً إلى ابرز معالم مرحلة كلّ إمام ودوره البنّاء والمعطاء فيها، والرجوع إلى آراء الذين عاصروه لينطلق من ذلك كلّه إلى تقييم لشخصية الإمام المعصوم من خلال شهادات معاصريه. كما أنه لا يهمل الوقوف عند المحطّات الرئيسية التي وقف عندها كتّاب السيّر ناقداً ومحلّلاً وكاشفاً عن إبعاد لم تعط من البحث الاهتمام الكافي.
ولكي نعين الباحثين على الرجوع إلى ثبت بالمحاضرات التي طرحت عن الأئمة من أهل البيت(ع) خلال خمس سنوات، فقد أعددنا الجدول الكاشف التالي نضعه بين أيديهم تييسيراً لمهمتهم. واللّه نسأل القبول والتوفيق.
دمشق 5 جمادى الأولى 1421 ه
الواقع في 5 آب 2000م
عادل القاضي
الــتسلسل |
مـجـلــد الندوة |
عـــــنــــــــــوان الــــمـــــحــــــــاضــــــــــــــــرة |
رقم الصحفة |
|
1 |
الأول |
في ذكرى ولادة صادق أهل البيت(ع)مفهوما (العزّة) و (الحرية) |
21 |
|
2 |
في ذكرى الزهراء(ع):الدفاع عن الحق |
37 |
||
3 |
في ذكرى وفاة سيدة نساء العالمينفرح الرسالة وحزنها |
55 |
||
4 |
في ذكرى البضعة الطاهرة:هموم الناس أولا |
73 |
||
5 |
في ذكرى الإمام الهادي(ع) |
87 |
||
6 |
في مولد إمام المتقيّنبين الفتنة والحق |
95 |
||
7 |
في ذكرى استشهاد الإمام الكاظم(ع)موقف المسلم أمام التحديات |
103 |
||
8 |
في ذكرى مولد إمام العصر (عج)إطلاق العدل في الحياة كلّها |
131 |
||
9 |
في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)رحابة الإنسانية |
169 |
||
10 |
في ذكرى ولادة الإمام الرضا(ع)الحكمة في التعامل |
185 |
||
11 |
الثاني |
في ذكرى رحيل الرسول الأكرم(ص)ذكرى الكبار تفرض علينا أن نكون كبارا |
45 |
|
12 |
في ذكرى المولد النبويّ الشريفرسالة العظيم هي القيمة الكبرى |
59 |
||
13 |
في ظلال المولد النبويّلنتجدّد بتجدّد ذكراه |
76 |
||
14 |
في ذكرى العطرة لمولدهاكيف نعيش الزهراء |
187 |
||
15 |
في ذكرى مولد إمام المتقين(ع)ليس بين عليّ وبين الحقّ مسافة |
219 |
||
16 |
في ميلاد الحسين والعباس والسجاد(ع)ليكن الخيرُ سيدّ كلّ العلاقات |
253 |
||
17 |
الثالث |
في وفاة الإمام الصادق(ع)موقعُ العقل في حياتنا |
51 |
|
18 |
في ذكرى مولد الإمام الرضا(ع)الشخصية الحوارية .. القرآنية |
73 |
||
19 |
في ذكرى الرضوية ايضاًالإرتفاع بإنسانية ومسؤولية الإنسان |
83 |
||
20 |
في ذكرى وفاة الإمام الباقر(ع)كتاب اللّه أولاً.. فاستنطقوه |
119 |
||
21 |
في ذكرى الإمام زين العابدين(ع)كيف نتمثّل صورته الحقيقية |
179 |
||
22 |
في ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع)واقعةُ الصلح ومواقعها |
201 |
||
23 |
في ذكرى وفاة الإمام الرضا(ع)حركة المقاطعة والمشاركة في الحكم |
213 |
||
24 |
في ذكرى اربعينيتهلنأخذ الإمام الحسين(ع) كلّه |
225 |
||
25 |
في ذكرى وفاة الإمام الحسن العسكري(ع)المسؤولية عن تصحيح المسار |
249 |
||
26 |
في ذكرى الولادة المحمدّيةالرسول(ص) في معناهُ القرآني |
261 |
||
27 |
في ذكرى مولد الإمام الصادق(ع)قيمةُ العمل وأسلوب التعامل |
275 |
||
28 |
في ذكرى سيدة نساء العالميننداء الزهراء(ع): كونوا للإسلام |
359 |
||
29 |
الرابع |
في واحة السلام (رجب)وذكرى إمام السلام (الباقر)(ع) |
81 |
|
30 |
في ذكرى وفاةالإمام الهادي(ع) |
97 |
||
31 |
كيف نولد في مولد الإمام علي(ع) ؟! |
111 |
||
32 |
زينب(ع)..نموذج التحدي من أجل الحق |
125 |
||
33 |
في ذكرى مولد الإمام المهدي(ع)معطيات الغيبة |
167 |
||
34 |
في ذكرى الإمام الصادق(ع)العلماء الواعون .. والأمة المسؤولة |
243 |
||
35 |
في مولد الإمام الرضا(ع)لا تشتغلوا بتمزيق بعضكم بعضا |
283 |
||
36 |
الإمام الحسين(ع)رسالة شاملة ورمز للوحدة |
343 |
||
37 |
في ذكرى وفاته ..الإمام زين العابدين(ع) الصلبُ العزيز |
373 |
||
38 |
الخامس |
بين صلحينصلح الإمام الحسن(ع)والصلح مع الصهاينة |
35 |
|
39 |
في ذكرى وفاة الإمام الرضا(ع)تمثّل الرمز المقدّسة |
49 |
||
40 |
عناوين الحركة في مولد الصادقينالمحبّة .. الوحدة .. الأخوّة |
107 |
||
41 |
المآسي الكبرىالتي صنعت زينب الكبرى |
201 |
||
42 |
فاطمة الزهراء(ع)الرمزُ الإسلامي لدى جميع المسلمين |
225 |
||
43 |
الإمامة أمانٌ من الفرقة |
263 |
||
44 |
الدفاع عن الحق والحقيقة |
275 |
||
45 |
الاحتجاج بالقرآن أولاً |
299 |
||
46 |
في ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع)القيادة الفكرية والروحية والحركية |
315 |
||
47 |
في ذكرى مولد الإمام الباقر(ع)العلم للاستعمال |
331 |
||
48 |
في ذكرى مولده الأغرّهكذا دعا عليٌّ ربَّه |
345 |
||
49 |
في ذكرى وفاة الإمام الكاظم(ع)السير في الخط العملي للإسلام الأصيل |
365 |
||
50 |
في مولد الإمام الحسين(ع): طلبُ الإصلاحفي مولد العباس(ع): حمايةُ الدينفي مولد الإمام السجّاد(ع): حياطةُ الإسلام |
397 |
||
51 |
في مولد الإمام المهدي (عج)المسؤولية في غيابه التزام الكتاب والعترة |
409 |
||
52 |
الإمام علي(ع) مفسّراً |
423 |
||
53 |
السادس |
إستيحاء القرآن عند الإمام علي(ع) |
15 |
|
54 |
|
تفسير الإمام علي(ع) لسورة التكاثر |
29 |
|
55 |
|
(نهج البلاغة) وحيُ القرآن |
39 |
|
56 |
|
في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)القرآن تبيانُ كلّ شيء |
51 |
|
57 |
|
المعيار في الإسلام والكفر |
65 |
|
58 |
|
في ذكرى ولادة الإمام الرضا(ع)المسؤولية في الواقع السياسيوالالتزام في الواقع الاجتماعي |
81 |
|
59 |
|
في عيد الغدير الأغركيف نكون مع علي(ع)؟! |
119 |
|
60 |
|
في ذكرى ولادة الإمام زين العابدين(ع)النظرة الإسلامية إلى المال وحركته |
145 |
|
61 |
|
تأملات في أدعية السجّاد(ع) |
161 |
|
62 |
|
في ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع)خمسة عناوين: المودة – الاخ الصالح – المروءة – العقل – الشورى |
175 |
|
63 |
|
في أربعينية الحسين(ع)مفهوم الإمامة |
203 |
|
64 |
|
في ذكرى ولادة الصادقين(ع):التحرّك الرسالي في دوري النبوّة والإمامة |
255 |
|
65 |
|
حقيقة الانتماء لخط أهل البيت(ع) |
267 |
|
66 |
|
منهج أهل البيت(ع) في فهم القرآن |
287 |
|
67 |
|
في ذكرى رحيلها:عظمة الزهراء(ع) |
347 |
|
68 |
|
في ذكرى مولد الإمام الباقر(ع):
|
|
|
69 |
|
في ذكرى ولادة الإمام علي(ع):
|
|
|
70 |
|
في ذكرى وفاة الإمام الكاظم(ع):
|
|
|
71 |
|
في ذكرى ولادة الإمام علي بن الحسين(ع):
|
|
|
72 |
|
في ذكرى ولادة الإمام المنتظر (عج):
|
|
|
73 |
|
في أجواء ولادة الإمام المهدي (عج):
|
|
|
74 |
|
في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)
|
|
|
75 |
|
في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع):
|
|
|
76 |
|
في مجلس الإمام الرضا(ع) الثقافي |
|
|
77 |
|
موقع الغدير في السيرة الإسلامية:
|
|
|
78 |
|
كما طرحها الإمام علي(ع) في (نهج البلاغة):
|
|
|
79 |
|
في ذكرى مقتله(ع):
|
|
|
80 |
|
الوجه الآخر للإمام الحسين(ع) |
291 |
|
81 |
في ذكرى وفاة الإمام علي بن الحسين(ع):
|
305 |
||
82 |
أفق الإمام زين العابدين(ع) الروحانيّ |
319 |
||
83 |
الوجه الآخر للإمام الحسن(ع) |
333 |
||
84 |
مأساة العالم الذي يبحث عن حملة لعلمه |
345 |
||
85 |
الفتنة والموقف منها |
357 |
||
86 |
أحاديث الرضا(ع) في العقيدة والتفسير والاخلاق |
373 |
||
87 |
في ذكرى وفاة الإمام الحسن العسكري(ع):
|
389 |
||
88 |
في ذكرى المولدين: النبوي والصادقي:
|
407 |
||
89 |
في ذكرى مولد الإمام الصادق(ع):
|
421 |
||
إحصائية بمحاضرات واسئلة (الندوة) ج 7 |
||||
المحاضرات |
30 محاضرة |
|||
المسائل القرآنية |
85 مسألة |
|||
المسائل العقيدية |
30 مسألة |
|||
مسائل السيرة |
70 مسألة |
|||
المسائل الفكرية |
65 مسألة |
|||
المسائل التربوية |
80 مسألة |
|||
المسائل الفقهية |
266 مسألة |
|||
مجموع أسئلة الندوة ج7 |
596 مسألة |
|||
باب المحاضرات
المحاضرة الأولى: 29 جمادى الأول 1420 هـ المصادف 9/10/1999م
في ذكرى مولد الإمام الباقر (ع)
تنظيم علاقات المجتمع الإسلامي وأخلاق الإنسان المسلم
إنّ استعدادنا لذكرى أهل البيت(ع) هي استعادة لحركية الإسلام في حركتهم من خلال المفاهيم التي طرحوها مما لا يختلف فيها زمان عن زمان ولا مكان عن مكان.
مولد الإمام الباقر(ع)
إغناء الواقع الإسلامي
الفترة التي عاشها(ع)
دراسة تراثه(ع)
أسلوب الإمام(ع)
مواجهة الغلوّ
العلاقة بين المؤمنين
الأخلاق صلب الإيمان
قابلوا الناس بوجوه باسمة
تأكيده(ع) على الصدق
كظم الغيظ
خطّ الرفق
قولوا الحسنى
قضاء حوائج الناس
أنواع الظلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
مولد الإمام الباقر(ع):
نلتقي خلال هذين اليومين بذكرى مولد الإمام محمد الباقر(ع). ونحن في لقائنا بأي إمام من أئمة أهل البيت(ع) في حركة التأريخ لابد لنا من أن نحرّك تاريخهم في تاريخنا, لا من جهة أننا نريد أن نغيب في الماضي لنستغرق فيه. فنحن قوم مسؤولون عن الحاضر وعن المستقبل بمقدار ما نستـطـيع أن نتحمّل مسؤولية ما نصنعه من المستقبل. ولكن قـصـة أهل البيت(ع) هي قصة الإسلام, والإسلام ليس شيئا يتأطّر في التأريخ ولكنّه ينفتح على الحياة كلّها، لأن الإسلام هو الرسالة التي أراد اللّه أن يحيينا بها، وأن يعطي الحياة لكلّ جيل بحسب ما تحتاجه الحياة في عناصرها كلَها إن في الجانب الفكري أو في الجانب العملي. ولذلك فإن استعادتنا لذكرى أهل البيت(ع) هي استعادة لحركية الإسلام في حركتهم من خلال المفاهيم التي طرحوها مما لا يختلف فيه زمان عن زمان ولا مكان عن مكان.
إغناء الواقع الإسلامي:
والإمام الباقر(ع) هو الذي استطاع أن يغني الواقع الإسلامي في العمق وفي الامتداد، ذلك أنّ الظروف السياسية كانت بين وقت وآخر تضغط على هذا الإمام أو ذاك فتمنعه من أن يبلّغ رسالته كاملة غير منقوصة بفعل الاضطهاد الجسدي والاضطهاد المعنوي ومصادرة الحريات وما إلى ذلك، مما منع بعض الأئمة(ع) من أن يمتدوا في عطائهم الإسلامي فيما يمتدّ به الإسلام عقائد وقضايا ومفاهيم ومناهج ووسائل وأهدافا. فلقد كانت مشكلتهم مع أكثر من حاكم في تلك المراحل هي أن هؤلاء الحاكمين كانوا يعرفون ما يملكه أئمة أهل البيت(ع) من غنى الفكر والروح والحركة مما لو اطلع الناس عليه لأقبلوا عليهم كما يقبل الظامئ على الماء. ولذلك كانوا كالكثير من الحكّام في الماضي والحاضر الذين يمنعون الإنسان أن يفكّر بحرية، ويمنعون المفكّر من أن يعلن عن فكره بحرية، فهم يحاصرون الحرية لأنهم يخافون منها ومن الفكر عندما يعبّر عن نفسه في مستوى قضايا الناس في العدالة والقوّة وما إلى ذلك. إنهم يخافون من الناس فيحاصرونهم، وهذه هي مسألة كلّ ظالم. وقد عـبّـر الإمــام عـلي بن الحسين(ع) في بعض أدعيته عن هذه الحقيقة وهي أن قضية الظالم ليست قضية قوة يملكها، ولكنّها قضية عقدة ضعف يعيشها، حيث يقول: ((وقد علمت يا الهي أن ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة وإنما يعجل من يخاف الفوت، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّا كبيرا))(1). فالظالم يخاف من المظلومين فيظلمهم حتى لا يسقطوا موقعه في خط ظلمه.
الفترة التي عاشها(ع):
ولقد عاش الإمام الباقر(ع) في أواخر الحكم الأموي، وامتدّت حياته إلى نهايات هذا الحكم وبدايات الحكم العباسي، فكان الأمويون مشغولين عنه من أجل الحفاظ عــلى ملكهم. وكان العباسيون مشغولين عنه وعن ابنه الإمام الصـادق(ع) من أجل تأسيس ملكهم، ولذلك اندفع الإمامان الباقر والصادق o ليغنيا الساحة الإسلامية بما وهبهما اللّه من علم. ونحن نقرأ في تراثه وتراث ولده الإمام الصادق(ع) أن علمهم هو من علم رسول اللّه(ص) ، فاللّه أعطى لرسوله علم ما أراد له أن يبلّغه مما يحتاجه الناس، وهم قد أخذوا من رسول اللّه(ص) ذلك كلّه.
دراسة تراثه(ع):
وعندما ندرس التراث الواسع الذي تركه الإمام محمد الباقر(ع) نجد أن الإمام عاش مع الحكم الأموي الذي لا يوافق على شرعيته لأنه هو الشرعية، ولكنّه لم يكن سلبيا في الحالة التي تتعرّض فيها المصلحة الإسلامية للخطر، فعندما هدّد عبد الملك بن مروان أن الروم يصنعون طنافس وبها شعارات للديانة غير الإسلامية منع من استيراد هذه الطنافس من بلاد الروم. والتاريخ يذكر كذلك قضية ضرب العملة الإسلامية، فلقد كان المسلمون يستعملون عملة الروم، فهدده ملك الروم بأن يضرب عملة يسبّ فيها رسول اللّه(ص) فحار عبد الملك في أمره وقيل له أن يستشير الإمام محمد الباقر(ع) فأشار عليه بأن يكون للمسلمين عملة إسلامية تتضمن العناصر التي توحي بالشخصية الإسلامية للعملة، وطمأنه أن ملك الروم لن يجرؤ على أن يضرب عملة يسيء فيها إلى الرسول(ص) وهكذا كان.
ونقرأ في تراث الإمام الباقر(ع) أنه جلس مع عـمـر بـن عــبـد العـزيز - الخليفة في ذلك الوقت - وتحدّث معه بالموعظة والنصيحة التي خطط له من خلالها كيف يمارس حكمه وحدّد له الخطوط العامة لشخصية المؤمن في رضاه وفي غضبه ومواقع قدرته حتى اهتزّ عمر بن عبد العزيز – كما تقول السيرة – لهذه الموعظة وأعلن عن ردّ فدك إلى أهل البيت(ع).
ونجد في تراثه(ع) كيف كان يحرّك الإعلام الشعري في تلك المرحلة من خلال شاعر معروف آنذاك وهو (الكميت بن زيد) فأراد له – وقد استمع إلى مدحه لهم – أن ينظم قصيدة تساعد على إسقاط الحكم الأموي آنذاك، وهكذا كان.
أسلوب الإمام(ع):
أمّـا كـيـف كـان أسلوب الإمام(ع) فكما هو أسلوب القرآن وأسلوب النبي(ص) وأسلوب الأئمة(ع) وهو أن يركّز بناء المجتمع على القاعدة الفكرية الإسلامية بحيث لا ينحرف المجتمع عن الخط الإسلامي الأصيل في غلوّ هنا أو في عداوة هناك، حتى في المسألة التي تتصل بأهل البيت(ع). فلقد رأى الإمام(ع) أن فرصة أن يتسلّم الحكم لم تكن واقعية آنذاك، ولكنّه كان يرى أن مسؤوليته خارج الحكم في بناء المجتمع على قاعدة ثابتة منفتحة واسع هي نفسها مسؤوليته عندما يحكم. وهكذا كان الإمام علي(ع) فلم يتوقف عطاؤه عندما كان خارج الخلافة، لأنه كان يشعر أنه مسؤول عن الإسلام خارج الحكم كما هو مسؤول عنه في داخل الحكم لأن عليه أن يحفظ الإسلام ((فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة بهما عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب فنهضت حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه))(2).
مواجهة الغلوّ:
كما أراد الإمام(ع) أن يركّز القاعدة الفكرية، وأن يخطط للخطوط العملية التفصيلية في حركة القيم من خلال علاقات المجتمع بنفسه، أو علاقاته ببعضه البعض. فنقرأ في البداية كيف كان يخاطب الشيعة، فلقد كان يخاف على التشيع أن يدخل في دائرة الغلوّ انطلاقا من أن الحب عندما يزداد فإنه قد يتجاوز الحدود، ولذلك أراد أن يركّز القاعدة على أساس التوازن الذي أراده الإسلام. ((فعن أبي جعفر (أي الباقر)(ع) قال: يا معشر الشيعة – شيعة آل محمد – كونوا النمرقة الوسطى)). وهي الوسادة الصغيرة التي يجلس عليها الإنسان بارتياح فلا هي عالية ولا هي منخفضة ((يرجع إليكم الغالي)). ليجد الاعتدال عندكم ((ويلحق بكم التالي)). فقال له رجل من الأنصار يقال له سعد: ((جعلت فداك من الغالي؟ قال: قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا)). فقد يرتفعون بنا إلى ما يقترب من الخالق الذي لا يقترب منه أحد، فهم ينسبون إلينا –ونحن المخلوقون – صفات الخالق ((فليس أولئك منا ولسنا منهم. قال: فما التالي؟ قال: المرتاد يريد الخير يبلغه الخير يؤجر عليه. ثم أقبل علينا فقال: واللّه ما معنا من اللّه براءة ولا بيننا وبين اللّه قرابة ولا لنا على اللّه حجة ولا نتقرب إلى اللّه إلا بالطاعة)).
فالطاعة هي التي يتقرب بها الأنبياء إلى اللّه لأنهم يؤدّون رسالته، ولأنهم يتحرّكون في الحياة على أساس تجسيد الرسالة في أنفسهم وفي الناس. وهكذا الأولياء والأئمة {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}{لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(3). ((فمن كان منكم مطيعا للّه تنفعه ولايتنا)). فالولاية قاعدة لقبول العمل، ولكنّها ترتكز على خط الإسلام والإيمان والتقوى. ((ومن كان منكم عاصيا للّه لم تنفعه ولايتنا ويحكم لا تغتروا ويحكم لا تغتروا))(4).
وفي حديث آخر حدّث به الإمام(ع) جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: ((فو اللّه ما شيعتنا الاّ من اتقى اللّه وأطاعه وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر اللّه والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء . قال جابر: فقلت يا ابن رسول اللّه ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهب بك المذاهب حسب الرجل أن يقول أحبّ عليا وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالا، فلو قال إني أحبّ رسول اللّه فرسول اللّه(ص) خير من علي(ع)، لم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نصحه حبه إياه شيئاً فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه ليس بين اللّه وبين أحد قرابة أحب العباد إلى اللّه عز وجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته ، يا جابر واللّه ما يتقرب إلى اللّه تبارك وتعالى إلا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على اللّه لأحد من حجة من كان للّه مطيعاً فهو لنا ولي ومن كان اللّه عاصياً فهو لنا عدو وما تنال ولايتنا إلاّ بالورع))(5).
هذا هو الخط الذي أراد أن يركّزه الإمام الباقر(ع) بحيث يستقيم الناس عليه حتى لا يكون التشيّع شيئا زائدا عن الإسلام، بل ينطلق من عمقه ويتحرّك في خطّه وينفتح على الدعوة إلى الإسلام في كلّ ما قاله اللّه وما صدق الرواة فيه عن رسول اللّه(ص).
ويقول(ع) في هذا السياق لمحمد بن مسلم ((لا تذهب بكم المذاهب فو اللّه ما شيعتنا الاّ من أطاع اللّه عزّ وجل))(6). لأننا نتحرّك في خط طاعة اللّه ولا نتحرّك بعيدا عن هذا الخط.
العلاقة بين المؤمنين :
وكان يؤكد(ع) على علاقة المؤمنين في المجتمع في الدرجة العليا التي يصبح فيها المجتمع كالجسد الواحد، فقد سأله بعض أصحابه وهو سعيد بن الحسن قال: ((أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت: ما أعرف ذلك فينا. فقال أبو جعفر(ع) فلا شيء إذاً)). أي أين إيمانكم إذا؟! وأين الوحدة الإيمانية بين المؤمنين؟! وأين الجسد الواحد الذي يمثله المجتمع المؤمن؟! ((قلت: فالهلاك إذاً، فقال: إن القوم لم يعطوا أحلامهم بعد))(7). أي لم تكمل عقولهم بعد وما زال إيمانهم غير ناضج، فهم بحاجة إلى تعميق للإيمان أكثر وإلى وعي لمسؤولية الإيمان في العلاقة بين المؤمنين أكثر.
الأخلاق صلب الإيمان:
وكان يريد من المؤمنين أن يشعروا أن قصة الأخلاق تتصل بالإيمان اتصالا وثيقا ، فمن حسنت أخلاقه كمل إيمانه، ومن ساءت أخلاقه كان إيمانه ناقصاً. فبمقدار ما تكون حسن الأخلاق أكثر بمقدار ما تكون مؤمنا أكثر. وهذا ما جاءت به الكلمة عن الإمام(ع): ((إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا))(8). لأنّ اللّه يؤكّد الأخوّة الإيمانية بين المؤمنين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(9).
ولذلك فإن المسألة تفرض أن يعيش الإنسان امتداد الأخوّة في العلاقات بكلّ العناصر التي تتمثل فيها الأخوّة في إيجابية الإنسان مع الإنسان الآخر وحتى مع غير المؤمنين. فاللّه يصف عظمة الرسول(ص) في أنّه على خلق عظيم، وأنّه كان رقيق القلب لطيف اللسان، وكان الرؤوف الرحيم، وكان الإنسان الذي يتألّم لمن حوله إذا تألّم، وكان يحرص على من حوله عندما يمتدون في خطّ الضياع.
قابلوا الناس بوجوه باسمة:
كان(ع) يحدّث الناس بذلك، وكان يريد للناس في المجتمع عندما يلتقون بعضهم البعض أن لا يلقوا بعضهم بعضا بوجه عابس أو كئيب لأنّ وجهك في تقاطيعه الإيجابية أو السلبية يترك تأثيرا إيجابيا أو سلبيا على الذي تلتقي معه، فإذا كنت ضاحكا منبسطة أساريرك فإن ذلك يمثل إشراقة تدخل قلب الذي تلتقيه. وجرّبوا ذلك في حياتكم، فإنك عندما تلتقي إنسانا مبتسما فإنك تشعر أن بسمته تشرق في قلبك قبل أن تشرق في عينيك، لذلك كان من صفات رسول اللّه(ص) أنه كان لا يُرى إلا مبتسما وهذا ما تحدّث عنه (الفرزدق) في مدحه للإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) الذي عاش العبادة كما لم يعشها أحد بعد رسول اللّه(ص) وأمير المؤمنين(ع):
يغضي حياء ويغضى من مهابته فلا يكلّم إلاّ حين يـــبــتســــم(10)
كان المبتسم دائما، بل كان حتى في حزنه بذكرى كربلاء، وحزنه بين يدي اللّه يبتسم إبتسامة النفس المطمئنة، لأنه كان يشعر أنّه في العمق من طاعــة اللّه وفـي القـرب القريب منه. لذلك قال(ع) وهو يروي عـن رسول اللّه(ص) قال: ((أتى رسول اللّه رجل فقال: يا رسول اللّه أوصني فكان فيما أوصاه أن قال: الق أخاك بوجه منبسط))(11).
تأكيده(ع) على الصدق:
وكان يريد للناس أن يكونوا الصادقين، وكان يريد للمحدثين إذا أرادوا أن ينقلوا الحديث، وكانوا يقصدونه ليرووا الحديث عنه، أن يصدقوا فيما ينقلونه وأن لا يكذبوا، انطلاقا من شهوة للفكرة التي يكذبون فيها، أو من خلال عقدة، أو أن الناس يرتاحون للكذب، كما يكذب البعض من المبلّغين والمرشدين عندما ينقلون أحاديث ليس لها أي أساس من الحق، لا لشيء إلا لأنّ الناس تحبّ الكذبة فيما تحبّه وفيما تبغضه. ومن هنا فقد كثر الكذّابة على رسول اللّه(ص) وكثر الكذّابة على أئمة أهل البيت(ع). فعن عمرو بن أبي المقدام قال: ((قال لي أبو جعفر(ع) في أول دخلة دخلت عليه: تعلّموا الصدق قبل الحديث))(12). فقبل أن تصبح فقيها أو خطيبا أو واعظا أو مبلّغا أو سياسيا أو شخصية اجتماعية في حركة المجتمع، تعلّم أن تكون صادقا حتى تعطي الناس الصدق، لأنك عندما تملك موقعا يحترمه الناس فإن خطورتك عندما تكون كاذبا ستكون أكبر، لأن كذبك سوف يكون محترما عندهم – فيكون الفكر الذي يفكّرون فيه والحياة التي يحيونها.
وعن الربيع بن سعد قال ((قال لي أبو جعفر(ع): يا ربيع إن الرجل ليصدق حتى يكتبه اللّه صدّيقا))(13). فيحشره مع الصديقين، وأية درجة يبلغها الإنسان أعظم من درجة الصديقين ؟! والقضية تحتاج إلى أن تكون صادقا مع نفسك ومع ربّك ومع الناس فيما تتحدث به إليهم.
كظم الغيظ:
كان يريد للناس، وهم يختلفون ويتنازعون عادة ويعيشون بعض النوازع النفسية السلبية ضد بعضهم البعض، أن لا يفجّروا غيظهم لمن اغتاظوا منه. وكان يريد للصدر أن يتسع وأن يكون الإنسان حليما عندما يواجه الغيظ ممن أغاظه. وكان يريد للإنسان - من خلال الخط القرآني - أن يسيطر على انفعالاته السلبية فلا يدع انفعالاته تدفعه إلى كلمة سلبية قد يندم عليها، أو إلى عمل غير مسؤول قد يعيش التأنيب عليه. وكان(ع) يقول ((من كظم غيظه وهو يقدر على إمضائه)). أي وهو قادر على أن يفجّره بكلمة أو بضربة أو يقوم بأي عمل يشفي فيه غيظه ((حشا اللّه قلبه أمنا وإيمانا يوم القيامة))(14). فلنوازن بين هذا الانفعال الذي نعيشه عندما نكظم غيظا وبين الأمن والإيمان الذي يمنحنا اللّه ونحن في أشد الحاجة إليه. فعندما نريد الانحراف عن الخط الأخلاقي أو الخط الشرعي، فعلينا أن نستحضر النتائج الذاتية التي نحصل عليها من خلال هذا الانحراف، والنتائج الكبرى التي نحصل عليها إذا امتنعنا عن ذلك. ولذلك ترى القرآن يركّز دائما على الآخرة وعلى يوم القيامة حتى يدخل الإنسان في عملية مقارنة بين الدنيا وبين الآخرة.
خطّ الرفق:
وكان يريد للناس في هذا الخط أن يعيشوا الرفق ولا يعيشوا العنف، فعندما نعيش مشاكل كثيرة، ونحتاج إلى حلّ فقد نستطيع أن نحلّها بالعنف ونختصر الوقت في ذلك، وقد نستطيع أن نحلّها بالرفق واللين والأسلوب السلميّ، ولكن ذلك يحتاج إلى صبر ووقت. ولكن الإمام الباقر(ع) يقول ((إنّ اللّه عزّ وجل رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف))(15). فالرفق صفة اللّه، واللّه سبحانه وتعالى يحب الرفق من عباده، ويحب الرفقاء بالناس، وإذا أردت أن تحلّ مشكلة فاجهد على أن تحلّها بالرفق، فإن اللّه يعطيك من الثواب أكثر مما لو حللتها بالعنف، فعن أبي جعفر(ع) قال: ((قال رسول اللّه(ص): إن الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه ولا نزع من شيء إلاّ شانه))(16).
قولوا الحسنى:
وكان يريد للناس عندما يتحدثون مع الناس ويطلقون كلماتهم أن يفكروا بالكلمة التي يتكلّمون بها مع الآخر، فهل أنت مستعد أن يتكلّم الآخر معـك بكلمة مماثـلة؟ فـكّر بـالكلمة إذاً عـندما تطلقها اتجاه الآخر. إن الإمـام(ع) يستوحي ذلك من آية قرآنية، قال ((في قول اللّه عزّ وجل {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}(17). قال: قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال فيكم))(18). فكما تحبّ أن يخاطبك الناس خاطبهم، وقل الكلمة التي تحب أن يقولها الناس لك.
قضاء حوائج الناس:
وكان(ع) يوازن بين العبادة والعطاء في حلّ مشكلة بيت من بيوت المسلمين، فلو أنّك حججت الحجّ الواجب، وأحببت أن تحجّ حجّة مستحبّة، ولم تكن هناك مصلحة إسلامية كبرى في أن تحجّ حجّة مستحبّة ولكنك تحب الثواب، وسمعت أن بيتا من المسلمين يشكون الجوع والعوز، ودار الأمر بين أن تحجّ وبين أن تصرف هذا المال في سدّ جوعة هؤلاء وكسوة عورتهم وما إلى ذلك، فأيهما تفضل؟ استمعوا إلى الإمام الباقر(ع) يقول: ((ولأن أعول أهل بيت من المسلمين أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ ألي ّ من أن أحجّ حجة وحجة ومثلها ومثلها حتى بلغ عشرا ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين))(19). فأنت عندما تعطي مصرف الحج للفقراء ليكون لك به ثواب سبعين حجّة، فأيهما تفضّل؟!
((عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر(ع) قال: قال أبو جعفر يا سليمان أتدري من المسلم؟ قلت: جعلت فداك أنت أعلم، قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)). فالإسلام في العمق لا يتمثل بالكلمة ولكنه يتمثل في تأثير الشهادتين في حركتك في الواقع. ((ثم قال: وتدري ما المؤمن قال: قلت أنت أعلم، قال: أن المؤمن من ائتمنه المسلمون على أموالهم وأنفسهم، والمسلم حرام على المسلم أن يظلمه أو يخذله أو يدفعه دفعة تعنّته))(20). أي توقعه في المشقة والهلاك.
وقال في حديث عن رسول اللّه(ص) وهو يحدّد من هو المؤمن، وهو ما تحدث به مع عمر بن عبد العزيز ((إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل)). فليكن إيمانك معك عندما تحبّ، فلا ترفع من تحب إلى درجة لا يستحقها فتبالغ في مدحه بحيث تظلم الحقيقة عندما تمدحه. ((وإذا سخط لم يخرجه سخطه عن قول الحقّ)). فلا تظلم عدوك وخصمك في حديثك عنه عندما تتكلم،بل تكلّم بالحقّ حتى لو كان الحق على خلاف مزاجك {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(21). وقل الحق حتى لو كان مع عدوك، فهذا هو الخلق الإسلامي الأساسي الذي يحكم سيرتنا الإسلامية، ونحن نريد أن نجسّد عدالة الإسلام حتى مع أعدائنا. وإني لأقول دائما لإخواني وأخواتي إقرأوا أدعية الإمام زين العابدين(ع) فهي برامج تثقيفية للخطوط الأخلاقية الإسلامية ((اللّهم صل على محمد وآله، وارزقني التحفّظ من الخطايا والاحتراس من الزلل في الدنيا والآخرة في حال الرضا والغضب، حتى أكون بما يرد عليَّ منهما بمنزلة سواء، عاملا بطاعتك، مؤثرا رضاك على ما سواها.. في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوي من ظلمي وجوري، وييأس وليي من ميلي وانحطاط هواي))(22)
ثم يقول الإمام الباقر(ع) في تتمة الحديث عن المؤمن ((والذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحقّ))(23).
أنواع الظلم:
ويقول(ع) ((الظلم ثلاثة)) - ونحن قوم نعيش الظلم للّه وللناس ولأنفسنا ((ظلم يغفره اللّه، وظلم لا يغفره اللّه، وظلم لا يدعه اللّه ، فالظلم الذي لا يغفره اللّه فالشرك، وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين اللّه، وأما الظلم الذي لا يدعه اللّه فالمداينة بين العباد))(24). أي حقوقهم.
هكذا كان الإمام الباقر(ع) يريد أن ينظّم للمجتمع علاقاته على أساس الإسلام، وينظّم للفرد أخلاقه على أساس الإسلام، فهل تستمعون إليه؟! يقول أمير المؤمنين(ع) ((ألا وإن إمامكم قد اكتفى)) والإمام علي(ع) هو أبوهم وسيدهم وخطهم خطه ((من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد))(25). والحمد للّه رب العالمين.
المحاضرة الثانية: 7 رجب 1420 ه المصادف 13/10/1999م
مسؤولية الإنسان
المسلم عن
سلامة دينه
إذا حصل الإنسان المسلم على سلامة الدين، فإن هذه السلامة تمثّل الوعي الإيماني والعملي.
المسؤولية عن الدين
التوازن في كلّ شيء
المسألة في تراث الأئمة(ع)
سلامة الدين
الله يعطي دينه لمن يحب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
المسؤولية عن الدين:
من القضايا التي يؤكد عليها الإسلام هي مسؤولية الإنسان عن دينه بأن يعمل على أن يكون دينه سالماً من كل انحراف على مستوى الفكر، وعلى مستوى القلب، وعلى مستوى الحركة في الحياة، بحيث يرقى الاهتمام بسلامة الدين إلى الدرجة التي لا بد للإنسان أن يقدم ماله في سبيل دينه إذا توقف حفظ دينه وسلامته على أن يبذل ماله، وأن يقدّم نفسه في سبيل دينه إذا توقف حفظ دينه على بذل نفسه. لأن مسألة الدين ليست مسألة تتصل بالهامش من حياة الإنسان بل إنها تنفتح على الإنسان بكلّه في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ذلك أن الدين يمثل بمفاهيمه ومناهجه وشرائعه وأساليبه الأسس التي يرتكز عليها توازن الحياة في نفس الإنسان وعلاقته بمجتمعه وبالحياة كلّها.
وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}[الأنفال؛24]. كما أننا نقرأ في أكثر من آية أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله وكل رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وأراد للرسل أن يندفعوا إلى الحياة في حركتهم الرسالية من أجل أن يعلّموا الناس فلا يتركوهم في جهل، وأن يزكّوا الناس فلا يتركوهم في حالة الانحراف الروحي والأخلاقي، وأن ينهجوا بالناس في خط الاستقامة في قضاياهم كلها.
التوازن في كل شيء
وعندما ندرس هذه المفردات وهذه العناوين فإننا نجد أنها المفردات التي تحقق للإنسان التوازن في حياته كلّها فلا يميل فيه جانب عن جانب. ففي الدين الإسلامي يسود التوازن بين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية، بين الدنيا والآخرة، بين المادة والروح بحيث يعيش الإنسان دنياه ليعمق المعنى في هذه الدنيا وليقوّم الحركة في دروبها كلّها، وأن ينفتح على أخراه بكلّ القيم والمعاني والالتزامات والمسؤوليات التي تمثل العناوين الكبرى للسلامة في الآخرة، لذلك فأن يعيش الإنسان الاهتمام بدينه كما لم يهتم بشيء آخر مثله فهذه وظيفة أساسية للإنسان في حياته كلّها، بحيث يكون دينه معه وهو يفكر ويكون دينه معه وهو يحرّك العاطفة، ويكون دينه معه وهو يركّز العلاقات، وأن يكون دينه معه وهو يقول ما يقول ويعمل ما يعمل ويؤيد ويرفض ما يرفض ومن يرفض، وأن لا يقدّم رجلا ولا يؤخر أخرى حتى يعلم أن ذلك لله رضا.
المسألة في تراث الأئمة(ع):
نقرأ في تراث الأئمة من أهل البيت (ع) ما يؤكد ذلك ويشير إليه، ففي الحديث عن الإمام الصادق(ع) وهو يروي عن جدّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) قال أبو عبد الله(ع) "كان في وصية أمير المؤمنين(ع) لأصحابه: والنهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة".
فكأن الإمام (ع) يريد أن يقول، إنكم تتحركون في الليل وفي النهار في دروب كثيرة تتصل بكل ألوان حياتكم، فقد تتحركون في درب ينفتح بكم على العبادة وقد تنفتحون على درب يطل بكم على المعاملة، وقد تنفتحون على درب يطلّ بكم على حركة الواقع الاجتماعي في داخلكم والواقع السياسي فيما ترتكز عليه قضاياكم الكبرى وفي الواقع الأمني الذي تعيشون فيه التحديات الأمنية مما تواجهون به العداء، وفي الدروب الثقافية والعاطفية، وقد تتحركون في الكثير من حولكم، لذلك فأنتم تعرفون أن الإنسان عندما يسلك طرقاً فقد يؤدي به ـ إذا عرف معالمه كلّها ـ إلى الهدى، ويؤدي به إزاء جهل معالمه إلى الضلال، لذلك اهتدوا بالقرآن سواء سلكتم دروبكم في النهار فإن في القرآن علامات تدلّكم على طريق الهدى في الليل عندما يطبق الظلام على الكون، وفي النهار عندما تتحرك الغيوم هنا وهناك لتحجب عنكم وضوح الرؤية.. حاولوا أن تهتدوا بالقرآن واعلموا أنه هدى الليل والنهار ونور الليل المظلم فهو الذي ينير لكم ظلمات عقولكم وظلمات قلوبكم وظلمات حياتكم.
"على ما كان من جهد وفاقة". أي مهما عشتم الفقر والتعب فإنكم تجدون في القرآن الكثير من يريحكم ويغنيكم. "فإذا حضرت بلية ـ وأردت أن تبعدكم عن الصراط المستقيم ـ فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم".
لأن الإنسان عندما يملك المال فإنما يملكه ليجلب لنفسه الخير ويدفع عنها الشر من أجل أن يحمي حياته ويحفظها من الهلاك ومن كلّ ضرر ومن كل سوء، "وإذا نزلت نازلة". أي كارثة أو مصيبة تريد أن تنحرف بكم وتهزّ توازنكم وقاعدتكم "فاجعلوا أنفسكم دون دينكم". فعندما يتعرّض الدين للخطر ويراد لكم أن تضلّوا وتنحرفوا فاجعلوا أنفسكم دون دينكم.
"واعلموا أن الهالك من هلك دينه". فليس الهالك من هلك جسده لأن جسدك عندما يهلك فهناك حياة أخرى يمكن أن تجد فيها جسداً حيا منفتحاً وقد يكون منعّماً، ولكن إذا هلك دينك خسرت الدنيا والآخر. "والحريب من حرب دينه". والحريب هو من سُلب ماله. "إلا وأنه لا فقر بعد الجنّة". فالناس يخافون من الفقر فيتنازلون عن دينهم ليحصلوا على الغنى وبذلك يستمتعون ببعض المال الذي باعوا به دينهم. وعلى الإنسان أن يفكّر في أن فقر الدنيا مهما كان فإنه إلى فناء، كما أن غنى الدنيا مهما عظم فإنه إلى فناء. فإذا حصلت على الجنّة بكلّ ما فيها مما أعدّه الله للمتقين ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فأي فقر تشكوه بعد ذلك.
"ألا وإنه لا غنى بعد النار". فلو كنت غنياً صاحب ثروة طائلة إذا جاءت الساعة وأمر بك إلى النار فكلّ ما اغتنيته واقتنيته من ألوان المال "لا يفكّ أسيرها". والإمام هنا يصف النار على انها سجن موصد لأن هناك خلوداً في سجن النار فلا مجال لإطلاق سراح الأسير فيها:"ولا يبرأ ضريرها". أي يبقى المرء في النار إما ضريراً من الضرّ أو من العمى.
على ضوء حركة الواقع:
وعلى ضوء هذا نفهم في الكثير من حركة الواقع أن البعض منّا قد يهاجر من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر لأنه يعاني بعض المشاكل المالية، وهناك تنصب اهتماماته على كيفية ترتيب أمر عيشه ولا يكون له أي اهتمام في ترتيب أمر دينه، فقد يضعف دينه أمام رغبته في المال، وقد يفقد دين أهله عندما يلقيهم في تلك الساحات التي تملأ بالكفر والضلال فيكفرون من دون أن تكون لهم أية حماية ضد الكفر، فلا بد للإنسان الذي يعيش الحاجة إلى الهجرة أن يدرس البلد الذي يحل فيه: هل يضمن له المحافظة على دينه وعلى دين أهله، أو انه لا يضمن له ذلك، فلا ينبغي أن يكون اهتمامنا هو كيف نعيش بما يحفظ لنا أجسادنا، بل لا بدّ لنا أن نفكّر بالطريقة التي تحفظ لنا ديننا.
الفتنة في الدين:
وفي الحديث عن أبي عبد الله (ع) في قول الله عز وجل {فوقاه الله سيئات ما مكروا}[غافر:45]. قد يتبادر إلى ذهن البعض أن الله وقاه مما كانوا يريدون أن يضطهدوه أو يضغطوا عليه أو يعذّبوه، ولكن الإمام (ع) يتجه بها اتجاها آخر، فيقول "أما لقد بسطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه". فلقد كانوا يريدون أن يبعدوه عن دينه، وكانوا يريدون له أن يعود إلى مجتمعهم وإلى ملّتهم وأن ينحرف عن الخط ولكن الله أعطاه صلابة الموقف وقوة الإرادة والاستقامة على الخط حتى لقي الله عز وجل وهو في سلامة من دينه.
سلامة الدين:
وعن الإمام محمد الباقر(ع): "سلامة الدين وصحة البدن خير من المال". فعندما يخيّر الإنسان بين أن يحصل على صحّة بدنه وبين أن يحصل على المال، فماذا يختار عندئذ؟! إنه يريد المال من اجل حياته فماذا ينتفع بالمال إذا كان مريضاً عليلاً لا يلتذ بشيء من حياته؟! ونحن نعرف أن كثيراً من الناس الذين يملكون الملايين لا يستطيعون أن يأكلوا مما يأكله الفقراء ويتلذذزن به، فأموالهم في المصارف وأوراق الطابو ولكنهم يعيشون عيش الفقراء بل لا يملكون راحة الفقراء ولذتهم، وقد نجد بعض الفقراء الذين يملكون سلامة البدن يشعرون بالسعادة من خلال الظروف التي يعيشونها حتى لو عاشوا بعض الشقاء في الجانب الآخر لأن الشقاء في مرض البدن لا يعادله الشقاء في فقدان المال.
فإذا دار الأمر بين أن يسلم دينك أو يسلم مالك فإن سلامة الدين خير من وفرة المال، والمال من زينة الدنيا لكنه لا يمثل الأساس الذين تقاس به السعادة والشقاء عندما يقارن بسلامة الدين وصحة البدن. وقد ورد في الحديث أنه :"كان رجل يدخل على أبي عبد الله (ع) من أصحابه فغبر زمانا لا يحجّ". وغبر أي غاب "فدخل عليه بعض معارفه، فقال له: فلانٌ ما فعل؟ قال: فجعل يضجّع الكلام". أي يحفّضه أو يقصّر ولا يصرح بالمقصود ويشير إلى سوء حاله تعبيراً عن إفلاسه وصعوبة أوضاعه المعيشية "يظنّ أنه يعني الميسرة والدنيا". أي تصورّ أن سؤال الإمام (ع) عن ثروته.
"فقال أبو عبد الله (ع): كيف دينه؟ فقال: كما تحبّ". فلا يزال ذلك الرجل المؤمن الصالح الصادق والمخلص والمنفتح على الإسلام في خط الإيمان والاستقامة والعمل الصالح.
"قال: هو الله الغني". فلا قيمة لفقره إذا كان دينه في خير لأن ذلك هو الغنى الحقيقي لأنه هو الذي يغني له روحه وفكره ويحقق له السعادة الكبرى في قضية المصير.
الله يعطي الدنيا لمن يحب ويبغض:
وقد نجد ـ أيها الأحبة ـ في تراث أهل البيت(ع) ما يوحي أن الإنسان إذا حصل على سلامة الدين فإن هذه السلامة التي تمثل الوعي الإيماني والعملي تدلّ على أن هذا الإنسان هو الإنسان المحبوب من قبل الله سبحانه وتعالى، لأن الله يعطي الدين لمن يحبّه بأن يوفقه ويهديه ويقوي إرادته على الدين لأنه وجد في داخل عقله وقلبه الإخلاص له فأحبّه فثبّته على دينه.
ففي الرواية عن عمر بن حنظلة قال "قال لي أبو عبد الله(ع) يا أبا الصخر ـ وكانت هذه كنيته ـ إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض". فالله جعل الدنيا لكل الناس لأنه خلقهم وتكفّل برزقهم، فهو يعطي الدنيا لمن يحب ولمن يبغض لأنه لم يجعل الغنى كرامة لعباده فهو القائل {فإما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمني * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلاّ}[الفجر:15/17]. فلا الغنى كرامة ولا الفقر إهانة ولكنه بلاء واختبار وتجربة للإنسان.
"ولا يعطي هذا الأمر". وهو الهداية إلى مذهب الحق إلا صفوته، "وأنتم والله" وهنا يخاطب أتباعه السائرين على خط الإسلام السائرين على خط أهل البيت(ع) وخطّهم هو خط الإسلام الأصيل. "على ديني ودين آبائي إبراهيم وإسماعيل، لا أعني علي بن الحسين(ع) ولا محمد بن علي وإن كان هؤلاء على دين هؤلاء". أي أنكم في خط الأنبياء وخط الأئمة(ع) محمد بن علي وعلي بن الحسين فهما سائران على خط الأنبياء خط إبراهيم وإسماعيل(ع).
الله يعطي دينه لمن يحب:
وفي الحديث عن مالك بن أعين الجهني قال "سمعت أبا جعفر(ع) يقول: يا مالك إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض ولا يعطي دينه إلاّ من أحبّ". وفي حديث آخر مماثل لهذا الحديث عن الإمام الباقر أيضاً "إن هذه الدنيا يعطيها الله البرّ والفاجر ولا يعطي الإيمان إلا صفوته". ولذلك فعلى الإنسان الذي أعطاه الله دينه وثبّته على دينه وجعل له الوعي في عقله وفي قلبه وفي حركته في الحياة على خط الإسلام أن يشعر بالسعادة، لأن ذلك دليل على محبة الله له وعلى أنه من صفوة أوليائه وأنه في خط الرسل والرسالات، وهذه هي السعادة القصوى التي لا بد للإنسان أن يعمل لها وأن يحافظ عليها.
ونقول في ختام هذا الحديث إن على الإنسان المؤمن الذي يعي معنى مصيره غدا بين يدي الله أن يؤكد وعيه العاطفي لدينه، ووعيه العلمي لدينه، ليكون الإنسان الذي يعيش الدين فكرا وعاطفة وحركة في الحياة لأن الدين ـ أيها الأحبة ـ ليس مجرد كلمة ولكنه يمثل فكرة وعاطفة وحركة في الحياة كما يمثل سعادة الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثالثة: 13 رجب 1420 هـ المصادف 23/10/1999م
في ذكرى ولادة الإمام علي(ع)
البائع نفسه لله
في يوم علي(ع) نكبر ونسمو ونصفو وتتفتح لنا آفاق الروح كلّها وتتعمّق فينا مواقع العقل كلّها، ونشعر بإنسانيتنا كيف تنفتح على الإنسان كله من خلال انفتاحها على الله بكلّها.
في ولادة أمير المؤمنين(ع)
علي(ع) في القرآن
علم علي(ع)
الشعور بالمسؤولية الإسلامية
رساليته(ع) وروحيته
حبّ علي(ع)
إسلام علي(ع)
حضور علي(ع)
دعاء علي(ع)
تواضع علي(ع)
برنامج أخلاقي للولاة
ذلك هو علي(ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
في ولادة أمير المؤمنين(ع):
في يوم علي(ع) نكبر ونسمو ونصفو وتتفتح لنا آفاق الروح كلّها وتتعمّق فينا مواقع العقل كلّها، ونشعر بإنسانيتنا كيف تنفتح على الإنسان كله من خلال انفتاحها على الله بكلّها.
وفي يوم علي(ع) نتطلّع إليه وهو يعيش عقله كلّه وحياته كلّها مع الله، فليس فيه شيء لغير الله، وليس فيه شيء حتى لنفسه فلقد كانت نفسه لله، وكان عقله في خدمة الحق، وقلبه في خدمة الخير، وحياته في خدمة الإنسان كلّه باعتبار أن الإسلام كلّه عيال الله فهو(ع) يقول :"إن الناس صنفان إمّا أخ لك في الدين"، تعيش معه آفاق دينك "وإمّا نظير لك في الخلق". تعيش معه آفاق إنسانيتك.
علي(ع) في القرآن:
وعندما نقرأ القرآن فيما نزل بعلي(ع) بما يرويه رواة السنّة والشيعة فإننا نجد أن القرآن يتحدث في آيات بارزة عن علي(ع) مع الله سبحانه وتعالى {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}[البقرة:207]. وفي الروايات أن هذه الآية نزلت في علي(ع) عندما بات على فراش النبي(ص) ليلة الهجرة. وهي لم تتحدث عن الواقعة ولكنها تحدثت عن سرّ علي(ع) في هذه التجربة الإيمانية الفدائية بأنه شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، والشراء هنا بمعنى البيع ويمكن أن يأخذ الشراء معناه ويصحّ الإيحاء.
إذن سرّه(ع) هو هذا: أنه باع نفسه لله فلم يفكّر، وهو الشاب الذي لم يتخط العشرين إلاّ بسنة او سنتين، في نفسه وهو يبيت على فراش النبي(ص) ليغطي انسحابه كما نقول في المصطلح العسكري المعاصر، وكانت هناك عشرة سيوف مسلطة فوق رأسه، وهذا هو الذي يفسّر حياة علي(ع) كلّها، فعندما حمل سيفه في سبيل الله لم يحمل في نفسه عقدة أن يقتل الناس، فليست بطولته في هذا ـ وإن كانت في ميدان الحرب لا تضاهى ـ بل كانت بطولته الحقيقية هي البطولة الروحية وهي أن يهدي الناس إلى سبيل الرشاد، وأن يتخذ الحرب وسيلة من وسائل الضغط على الناس الذين عاشوا تحت تأثيرات معقدة أبعدتهم عن الله ليعودوا إلى الله، ولقد قالها في صفين "فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشوا إلى ضوئي وذلك أحبّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها". وكانت بطولته الروحية هي أنه كان يتحرك من أجل أن يخترق جسد الكافر في الإنسان بعقله قبل ان يفكر في أن يخترق الكافر بسيفه.
علم علي(ع):
ولقد عاش علي(ع) عقله الذي اتسع لعلم رسول الله(ص) كلّه الذي قال فيه "أنا مدينة العلم وعلي بابها". وحرّك ما أعطاه رسول الله من العلم في آفاق جديدة وإيحاءات جديدة وتجارب جديدة، حيث قال: "علمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب". فلم يكن علي(ع) يحفظ علم رسول الله (ص) حفظ الكلمة ولكنّه كان يحرّك علم رسول الله في كلّ ما استحدثه الناس من قضايا ومشاكل وتجارب، ولذلك كان يحدّق في المستقبل من أجل أن يعطي هذا العلم حركيته وامتداده ورحابته للمستقبل لأنه لم يجد أناساً يفهمون علمه في مرحلته، ولذلك أطلق علمه للأجيال القادمة، وقد عبّر عن ذلك بقوله "إن ها هنا لعماً جمّا لو أصبت له حملة". ولم يصب له حملة، وكان علمه كلّه لله.
الشعور بالمسؤولية الإسلامية:
وكانت حركيته لله، فلم يتعقّد عقدة ضد الذين تقدموه ولكنه أعطاهم في سبيل الله ولمصلحة الإسلام كلّ العلم الذي يحتاجونه في القضايا الشائكة الصعبة، وكلّ النصيحة فيما كانوا يستنصحونه به. وكان(ع) في تلك الفترة، وهي من أقسى الفترات التي عبّر عنها في الخطبة الشقشقية، يلاحق قضايا المسلمين كلّها، ولم يلتفت أو يفكّر، انطلاقاً من رحابة الإسلام في عقله ورحابة المسؤولية عن الإسلام في رساليته كلّها ومسؤوليته كلّها من الذي يحكم المسلمين في الموقع الذي يملك شرعيته هو، بل كان يفكر، والمسلمون يخوضون حروباً والإسلام يتلقّى التحديات الثقافية والسياسية والعسكرية، كيف يحضن الإسلام كلّه وكيف يحضن المسلمين بعقله وفكره وحركته. وإنما قال "لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة وخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة". وحدقوا في كلمة (المصيبة) التي تعبر عن أحاسيس علي(ع) في لهفته على الإسلام "به علي أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي". في الحسابات الذاتية "متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب وكما ينقشع السحاب".
رساليته وروحيته:
وكان(ع) يشعر أنه في موقع الخلافة وهو خارجها لأن الخلافة لم تكن لديه كرسياً يجلس عليه بل كانت بالنسبة له رسالة يتحرك فيها. ولذلك كان علي(ع) في الأفق الأعلى، الواسع، الكبير، ومن خلال علوّه كان يعيش مع الله ابتهالاته كلّها ودموعه كلّها وخشوعه كلّه، وكان يمرّغ وجهه لا جبهته بالتراب حتى مرّ النبي (ص) ذات يوم ليقول له: انهض أبا تراب وكانت أحبّ كناه إليه، كما ورد في السيرة.
وعندما نتذكر علياً فإننا لا نستطيع أن ندخله في الدهاليز التي حاول الكثيرون أن يدخلوه فيها، لأن علياً(ع) لم يعرف الدهاليز في حياته، فلقد كان الرحب في عقله وكانت رحابته تتسع وتتسع وتضيء وتضيء حتى قال "لو كشف لي الغطاء ما ازددت إلاّ يقيناً". فلقد استطاع أن يندمج في بحار المعرفة بالله حتى استطاع أن يعرف الله بالمقدار الذي يمكن أن يصل إليه البشر، ولم يتقدمه أحد في ذلك إلا سول الله(ص).
حبّ علي(ع):
من كلّ ذلك وتأسيساً عليه، لا نملك إلا أن نحب عليا(ع) لا من ناحية مذهبية، وللمذهب دوره في إعطاء الصورة والفكرة، ولكنني لا أتصور إنساناً يفهم علياً أو يطلّ على آفاق علي إلا ويحبّه، أمّا الذين أبغضوه فإنهم لم يلتقوا بالله لأن من يحب الله لا بد أن يحبّ عليا، لأن عليا(ع) أحب الله ورسوله وذلك هو قول رسول الله (ص) "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله". وذلك هو قول علي(ع) للناس في خلافته "ليس أمري وأمركم واحد إنني أريدكم لله". فليس لي عمل معكم من خلال ما تملكون مما يملكه الناس من امتيازات بل عملي معكم هو عملي مع الله لأقرّبكم إليه ولأرفعكم إليه ولأجعلكم تعرفونه أكثر وتعبدونه أكثر وتطيعونه أكثر وتحبّونه أكثر وتقومون بمسؤوليتكم إزاء الله أكثر.
كان(ع) وحده، ولكلّ صحابي ممن سار في الخط الرساليّ فضله.. كان وحده الذي عاش رسول الله (ص) كلّه حتى أن طفولته استطاعت أن تختزن شباب رسول الله(ص) ولذلك كبر علي(ع) في طفولته فكان شاباً لأن رسول الله أعطاه شباب عقله وروحانيته وقلبه.
إسلام علي(ع):
حتى إذا بعث الله رسوله بالنبوة كان علي(ع) أول من أسلم لا من الصبيان بل من الشبان والرجال فلقد كان جسده جسد الصبيّ ولكن عقله كان عقلاّ شاباً حياً متحركاً. ولقد قيل له، كما نقل في بعض الروايات"هل استشرت أباك عندما أسلمت؟ فكان جوابه(ع): إن الله لم يستشر أبي عندما خلقني، فهل أستشير أبي إذا كنت أريد أن أسلم لله؟ وكان العقل الشاب وشباب عقله هو ما تعلّمه من شباب عقل رسول الله(ص)"وقد قال(ع) في (نهج البلاغة) عن ذلك "كان يلقي إليّ كل يوم علماً أو خلقاً من أخلاقه".
لذلك ـ أيها الأحبّة ـ لا تدخلوا علياً في خلافاتكم ولا تحتجوا لعلي بحديث هنا وحديث هناك، فعليّ(ع) أكبر من الاحتجاج لأنّ النظرة إلى علي(ع) في عقله وروحانيته وقضائه كلّه تعطينا الفكرة أنّه هو وحده الذي يملك أن يقود المسيرة الإسلامية بالإسلام كلّه. وكان الآخرون ممن تقدموه وممن تأخروا عنه يحتاجون إلى أن يسألوا عالماً هنا وعالماً هناك عن حكم إسلامي هنا وعن حكم إسلامي هناك في زمانه، وهذا ما جاء على لسان الخليل بن أحمد الفراهيدي مخترع علم العروض وصاحب أول قاموس في اللغة "احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل أنه إمام الكلّ".
حضور علي(ع):
إننا ـ أيها الأحبة، لا نشعر أن علياً(ع) غائب عنّا، وإنني لأنقل إليكم تجربتي في ذلك، فلم أستطع أن أشعر في حياتي كلّها أن علياً(ع) ميت مع الأموات بل هو أكثر من حياة من الكثير من الأحياء، فهو يعيش معنا لأن عقله وروحانيته وفكره لا يزال معنا، لذلك فإن الانتماء إلى علي(ع) يكلّف كثيرا من عقل نحمله من خلال عقله ومن قلب نعيشه من خلال سعة قلبه، ومن خط مستقيم نتحرك فيه من خلال خطّه المستقيم، فلنرتفع إلى علي حتى نرتفع إلى الإسلام.
دعاء علي(ع):
ومع ذلك كان علي(ع) على جلالة قدره وسمّو مكانته وعظم منزلته المتواضع لله، وتعالوا لنقرا بعض أدعيته التي كان يدعو الله بها لنعرف كم يعيش علي(ع) التواضع في نفسه، فهو يقول "اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك". يا ربّ عندما يستوحش أوليائك في غربتهم الروحية كلّها، وعندما يعيشون في ظلمات الواقع فإنهم يتطلّعون إليك ويأنسون بك. وربما يأنسون بمن يملك قربى منهم ولكن لا أنس كالأنس بك ـ يا رب ـ لأنك الفرح كلّه ولأنك السرور كلّه، فأية سعادة تفيض على أوليائك عندما تطلّ عليهم برحمتك وتؤنسهم بلطفك.
"وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك". وهم الذين يعيشون حضورك كما لا يعيشون حضور أحد، ويتحسسون كفايتك في كلّ ما أهمّهم وفي كل ما احتاجوه من أمور الدنيا والآخرة، وفي الدعاء عن الإمام زين العابدين(ع) "يا من يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء". فكيف يتصورونك؟
"تشاهدهم في سرائرهم". والسرائر مغلقة في صدورهم ولكنهم يشعرون أنّك تشاهد سرائرهم وأنت تشاهدهم في جميع وجودهم. "وتطلّع عليهم في ضمائرهم". فيما يضمرونه فيحسون بحضورك في قلب السريرة، ويحسون برقابتك عليهم في حركة الضمير. "وتعلم مبلغ بصائرهم". فيما يضمّرونه من فكر، ولذلك يحذرون أن لا يكون فكرهم فكرا منحرفاً عما أردته لعبادتك من الحقيقة في الفكر. "فأسرارهم لك مكشوفة وقلوبهم إليك ملهوفة". لأنّ قلوبهم تعيش الحبّ وما أشدّ لهفة الحبيب لحبيبه. "إن أوحشتهم الغربة". فعاشوا في غربة الروح أو غربة الوطن أو غربة الأهل "آنسهم ذكرك وإن صبّت عليهم المصائب". من هنا وهناك كاد اليأس أن يزحف إليهم، وكاد السقوط أن يطبق عليهم "لجأوا إلى الاستجارة بك علماً بأنّ أزمّة الأمور بيدك". لأنك تقدر على ما لا يقدر عليه غيرك. "ومصادرها عن قضائك" وقضاؤك لا يجري إلاّ بالخير لأوليائك.
"اللهم إني فههت عن مسألتي". فلم أستطع أن أعبّر عما أسألك عنه. "أو عميت عن طلبتي". فعشت في الحيرة التي تجعلني لا أعي جيداً ولا أبصر ما اطلبه منك. "فدلّني على مصالحي". اجعلني يا رب أدرك ما يصلحني حتى لا أطلب منك شيئاً يمكن أن يفسدني، ووجّه ـ يا ربّ ـ مطالبي وأعط مسائلي وعي الحق كلّه حتى لا أطلب منك إلاّ ما يصلح أمري في ديني ودنياي. "وخذ بقلبي". عندما ينبض ويخفق بحبّ هذا وبغض ذاك، فلا تجعله يعيش فوضى العاطفة أو متاهات المشاعر والأحاسيس، ولكن ـ يا ربّ ـ أرشد قلبي حتى يحبّ الحبّ الذي ترضاه، وحتى يبغض البغض الذي ترضاه. "وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكر من هداياتك". فأنت الذي تهدي عبادك كلّهم إلى الخير. "ولا بدع من كفايتك". عندما تكفي عبادك ما يثقلهم في حياتهم.
"اللهم احملني على عفوك". فلقد أخطأت ـ يا ربّ ـ في القيام بحقّك، والأولياء ـ وهم يطيعون الله ويعبدونه ويحبونه يشعرون بالتقصير، ويطلبون من الله أن يعفو عنهم تقصيرهم من خلال طموحاتهم فيما يريدون أن يقوموا به من حقوق الله ولا يستطيعون ذلك من خلال قدرة البشر ـ ولذلك فإنهم يطلبون عفوا لا عن ذنب ولكن عفوا عن قصور في حركة الطموح: "ولا تحملني على عدلك يا رب "[نهج البلاغة. ص:357.[
وتعالوا نتطلع إلى علي(ع) في تواضعه له سبحانه وتعالى, فلقد التقى ذات يوم قوما مدحوه في وجهه، ونحن عندما نسمع المديح ننتفخ وتتضخمّ شخصيتنا ونبحث عن لقب أكبر وأعظم لأنّ عندنا عقدة ضعف نشعر أنها تتنفس من خلال الكلمات التي نسمعها، فالكثيرون منا لا يستطيعون أن يسيروا على أقدامهم بل يحتاجون إلى عربة من الألقاب نتيجة عقدة ضعف لا عقدة قوة، لذلك قال علي(ع) "اللهم إنك أعلم بي من نفسي". لأنك تحيط بنفسي بما لم أحط بها، ولأنّ هناك في نفسي الكثير من الأسرار التي لم اكتشفها ومن العيوب التي لم أطلع عليها، ولذلك فأنا لا أستعير معرفتي بنفسي من الناس ولكني أريدك ـ يا رب ـ وأنت تعلم ما في نفسي في العمق أن تدلّني على نفسي، فمنك أريد أن أعرف نفسي. "وأنا اعلم بنفسي منهم". لأنني جلست مع نفسي كثيراً وحدّثت نفسي كثيراً وحاسبت نفسي وجاهدتها كثيراً حتى اطلعت على آفاقها كلّها بقدر ما أستطيع من المعرفة بنفسي خلافاً للذين لا يجلسون مع أنفسهم بل يجلسون مع غيرهم أكثر من جلوسهم مع أنفسهم ولذلك فهم لا يفهمون أنفسهم، وتلك هي مشكلة الكثير من الناس الذين لا يعرفون أنفسهم ولذلك يستطيع الخدّاعون والغشّاشون والمضلّون أن يضلّوهم عن الحق عندما يقدمونه لهم في صورة الباطل.
"اللهم أجعلني خيرا مما يظنون". إنهم يتحدثون عنّي بالخير وربما يتصورنه فيّ درجة محددة من الخير، فإذا كانت هذه الدرجة التي يتصورونها هي فيّ الحقيقة فارفعني درجات أكثر، وساعدني ـ يا ربّ ـ على أن أرتفع أكثر وأن أجعل نفسي تنطلق في مدارج الكمّال أكثر. "واغفر لي ما لا يعلمون" [نهج البلاغة.ص:366 ـ 367]. ونحن نعرف أن علياً(ع) كان في ملكاته كلّها العصمة كلّها ولكنه يتواضع لله.
ونقرأ نصاً آخر يتحدث فيه عن تواضعه لله. "اللهم إني أعوذ بك من أن تحسّن في لامعة العيون علانيتي"، أعوذ بك ـ يا ربَّ ـ من أن تلتمع عيون الناس، وهم يحدّقون بي كيف أتحدث وكيف أتصرف وكيف أسلك وكيف أعيش معهم في هذه العلانية التي تبدو أمامهم فيرون علانية فيها الحسن كلّه والخير كلّه فتلتمع عيونهم دهشة وإعجابا عندما يحدّقون في ذلك كلّه. "وتقبّح فيما أبطن لك سريرتي". لا تجعل ـ يا ربّ ـ علانيتي مخالفة لسريرتي لتكون علانيتي التي أظهرها حسنة وسريري التي أبطنها سيئة، بل أجعلها يا رب منفتحة على الانسجام على علانيتي. "محافظاً على رئاء الناس من نفسي بجميع ما أنت مطلّع عليه مني فأبدي للناس حسن ظاهري وأفضي إليك بسوء عملي تقرّباً إلى عبادك وتباعدا من مرضاتك.[نهج البلاغة .ص:396[.
إن علياً لا يتحدث في ذلك عن علي الإمام والولي لأن علياً كان باطنه اكبر وأرفع وأصفى وأحسن من ظاهره وإن كان ظاهره قد أخذ بالألباب وفرض الهيبة ولكن الناس كانوا يعرفون من علي(ع) شيئاً محدوداً، وكان باطن علي(ع) ينفتح على آفاق لا ينفتح عليها الناس ولا يكتشفونها لأن سرّ علي مع الله كان في عمق العمق، ولكن علياً(ع) يتحدث عن الإنسان الذي يختلف ظاهره عن باطنه وعن المرائي الذي يقدّم نفسه للناس بصورة حسنة ولكنه يختزن في داخل شخصيته صورة سيئة.
ولقد لاحظنا أنّ علياً(ع) كان يرفض الامتيازات الظاهرية، ففيما ينقله السيد الرضي في (نهج البلاغة)"خرج حرب بن شرحبيل الشامي وكان من وجوه قومه يمشي معه وهو (عليه السلام) راكب فقال (عليه السلام): ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلّة للمؤمن [بنهج البلاغة ص:401] فأنا لا أقبل أن تمشي وأنا راكب فأنت مؤمن وهذا مظهر للذلّة في المؤمن وهو نوع من أنواع الفوقية، كما أن ذلك عندما ينطلق كسنّة في الولاة وهم يشعرون بانسحاق الناس أمامهم مما قد يفتنهم ويضخّم شخصيتهم ويشعرهم بالفوقية على الناس.
وقال(ع) وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار ـ وهم زعماء الفلاحين في العجم ـ فترجّلوا له ـ وهو راكب ـ واشتدوا بين يديه". في عملية انسحاق وتواضع خائف فقال: "ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا خلق منّا نعظّم به أمراءنا". أي أن هذه هي تقاليدنا في تعظيم أمرائنا، فقال :والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم". فلو ترجلتم أو ركبتم ما يزيد ذلك بي في شأن من شؤوني وإنكم لتشقون بذلك على أنفسكم في دنياكم". فهذه التقاليد التي تسقط نفوسكم تتعبكم وتتعب المجتمع والواقع "وتشقون به في أخرتكم". لأنكم تعظّمون الظالمين والطغاة والمستكبرين ويحاسبكم الله على هذا التعظيم.
"وما اخسر المشقّة وراءها العقاب". فتعب وراءه الجنة يستحق منا أن نجهد أنفسنا ولكن ما بالكم بتعب يصل إلى درجة المشقة ويواجه الإنسان عليه العقاب. "وأربح الدعة معها الأمان من النار". [نهج البلاغة: ص:360[.
برنامج أخلاقي للولاة:
وفي ختام الحديث ننقل هذا النص الذي يعطي فيه الإمام أمير المؤمنين(ع) برنامجاً للولاة يعلّمهم كيف يتواضعون وكيف يعيشون ويتحركون مع الناس كما لو كانوا واحد منهم، كما قال (ضرار) في وصفه لعلي(ع) عندما طلب منه معاوية ذلك (كان فينا كأحدنا). ومع ذلك كانوا يتطلّعون إليه وهو في حياته العادية معهم فلا يملكون الكلام معه هيبة له ما عاشوه في أنفسهم من الإحساس بعظمته.
يقول في خطبة له وهو في موقع الخلافة "وإن من أسخف حالات الولاة". وكلمة (أسخف) تمثل سخافة الولاة الذين يبحثون عن التعظيم وهم يتصورون أن ذلك يمثل مواقع العظمة عندهم. "عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر. أن يفخروا بما عندهم من جاه ومن سلطة وما إلى ذلك :ويوضع أمرهم على الكبر". أي في مواقع الكبر التي يتميزون بها على الناس. "وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء ولست بحمد الله كذلك، ولو كنت أحب أن يقال ذلك". ولست أحب ولكن لو كان ذلك في نفسي "لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء". فالله هو الذي يجب أن يحمد ويمدح ويثنى ويطرى عليه لأنه أهل ذلك كله، ولا أريد أن أكون في هذا الموقع "وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء". بعدما تتقدم التجارب "فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله". إنني لست مشغولا بما يقوله الناس عني، ولكني مشغول بحقوق الناس كيف أقوم بها وحقوق الله كيف أحافظ عليها "وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لا بدّ من إمضائها فلا تلكموني بما تكّلمون به الجبابرة ولا تتحفّظوا مني بما يتحفّظ به عند أهل البادرة". بحيث تخافون الكلام معي كما يخاف الناس الحديث في حضرة أهل السلطة والسيف "ولا تخالطوني بالمصانعة" أي بالمجاملة والمداهنة بل كونوا صرحاء معي "ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي". فإذا رأيتم أن هناك حقاً قصّرت فيه وتريدون أن تقولوه لي فلا تتصوروا أنني استثقل ذلك "ولا التماس إعظام لنفسي فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه". فالذي لا يبدي استعدادا لسماع كلمة الحق وكلمة العدل كيف يمكن أن يقوم بالحق وبالعدل، فلكمة الحق أخف عندما يتحرك الإنسان بالحق وإن كلمة العدل أخف من حركة العدل في تنفيذه في الواقع.
"فلا تكفوا عن مقالة بحق". وهو هنا يدعوهم لأن ينقدوه "أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطئ" في إنسانيتي وإن كان علي(ع) فوق أن يخطئ في عصمته "ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو املك به منّي". وقد كفاه الله ذلك كله. "فإنما أنا وانتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا مما لا نملك من أنفسنا وأخرجنا مما كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا البصيرة من العمى". [نهج البلاغة ص:344ـ345].
ذلك هو علي(ع):
ذلك هو علي(ع) بسموّه كله.. علي الذي لا يحتاج إلى أي كلمة أخرى لكي تنحني بعقلك أمام عقله وبروحك أمام روحه، وعلينا ـ أيها الأحبة ـ أن نعيش مع علي(ع) ونتحرك في خطّه بالتوازن في حبّه، فقد قال وهو يشير إلى الناس في موقفهم معه "هلك فيّ رجلان محبّ غال ومبغض قال" [نهج البلاغة. ص:370]. وقال "سيهلك فيّ صنفان محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق وخير الناس فيّ النمط الوسط فألزموه".[نهج البلاغة .ص:131]. فلا تعلوا بي فوق بشريّتي وأفهموني في نطاق ما أنا فيه.
ويقول(ع) "لو ضربت خيشوم المؤمن". وهو أقصى الأنف "بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني". لأن الإيمان يفرض عليه أن يحب عليا(ع) فهو يمثل سرّ الإيمان في معانيه كلّها. "ولو صبّت الدنيا بجمّاتها". أي بكل ما فيها بجليلها وحقيرها "على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني". لأن المنافق يختزن في داخل نفسه كل هذا السواد الروحي وكل هذه الظلمة النفسية والظلام لا يمكن ـ بحال ـ أن يحبّ النور. "وذلك انه قضي فانقضى على لسان النبي الأمي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: يا علي لا يغضبنك مؤمن ولا يحبك منافق"[نهج البلاغة. ص:361]. والله تعالى يقول {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}[المائدة:55]. {ويطعمون الطعام علي حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا *إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءٌ ولا شكورا* إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا}[الإنسان:8/10[.
وما أحسن ما قاله الشاعر المسيحي بولس سلامة:
يا سماء أشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنني ذكرت عليا
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الرابعة: 30 رجب 1420 ه المصادف 30/10/1999م
في ذكرى وفاة الإمام الكاظم (ع)
رصد الانحرافات
وتقويمها
علينا أن ندرس تراث أئمتنا (ع) لأنّه يضيء لنا العقيدة والشريعة والمنهج، ويضيء لنا ظلمات الحياة كلّها.
مرحلة الإمام الكاظم (ع)
التوحيد كما يراه الكاظم (ع)
جذور الفلسفة اليونانية
تصحيح بعض الأدعية
تفنيد آراء المجسمّة
مفهوم الرزق والقضاء
الخروج من حدّ التقصير
صفة الشيعي
الصبر على الحسد
الزيارة لوجه الله تعالى
النيروز ليس عيداً إسلامياً
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
مرحلة الإمام الكاظم(ع):
بعد أيام نلتقي بذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم(ع) ونحن أمام أيّ ذكرى من ذكريات أئمة أهل البيت(ع) لا بدّ لنا من أن ننفتح على آفاقهم، وان نتحرك في الطريق الذي أرادوا أن نتحرك فيه لنبلغ الأهداف الكبرى التي أرادنا الله أن نبلغها.
وقد كانت عظمة أهل البيت(ع) ـ كما هو دورهم ـ أن يرصدوا الساحة كيف تتحرك وإلى أين تتجه وما هي السلبيات التي يمكن أن تدخل في عمق الفكر الإسلامي من خلال خط هنا وحركة فوضى في الوعي الثقافي هناك لما هو الإسلام في العقيدة وفي الشريعة والمنهج وحركة الحياة.
والإمام الكاظم(ع) عاش حياة متحركة في الواقع الإسلامي سواء كان ذلك في الوضع السلطوي الذي امتّد من عهد المنصور إلى هارون الرشيد والذي كان ينفتح على تطورات ومشاكل وحركات متنوّعة انطلقت من خلال أكثر من موقع من مواقع الهاشميين وتمثلت فيها أكثر من مجزرة تقترب في بعض مشاهدها من مجزرة كربلاء.
وكانت الحركة الثقافية في ذلك الوقت تنطلق لتثير الكثير من علامات الاستفهام حول مفردات العقيدة من جهة وحول خطوط الشريعة من جهة أخرى، وحول الواقع السياسي من جهة ثالثة. وكانت المرحلة لا تخلو من العنف في الجانب السياسي والأمني لأن السلطة التي كانت تتمثل في الخلفاء لا سيما المنصور والمهدي والهادي والرشيد، كانت لا تزال تخشى الاتجاهات المضادة، ولذلك كانت تعنف في المواجهة إلى حدّ الوحشية في التعذيب والقتل وإزهاق أرواح الناس ببناء الزنزانات عليهم فلا ينفذ الهواء إليها.
لقد عاش الإمام الكاظم(ع) في هذه المرحلة وقد استطاع أن يملأها علماً وفكراً وروحانية، وأن يرصد الانحرافات التي كانت تفرض نفسها على حركة الفكر الإسلامي ليصححّها ويقوّمها في الاتجاه الصحيح.
التوحيد كما يراه الكاظم(ع):
وفي هذا اللقاء نحاول أن نثير بعض الأحاديث بما كان يثار في الوسط الثقافي الإسلامي حول عقيدة التوحيد، فلقد كانت هناك حركة تتحدث عن الله وعن صفاته: هل هو جسم كبقية الأجسام أو هو جسم لا كالأجسام، أي أنه جسم من نوع آخر لا نعقله وليس كالأجسام التي يعرفها الناس في الموجودات المادية.
وقد دخل الإمام الكاظم(ع) هذه المعركة فتحدّث بأكثر من أسلوب وفي أكثر من فكرة، ففي الحديث الأول عن محمد بن حكيم، قال: "كتب أبو الحسن موسى بن جعفر(ع) إلى أبي: إنّ الله أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته فصفوه بما وصف به نفسه وكفّوا عمّا سوى ذلك". [الكافي:ص:155]. ففي الحديث نجد أن الإمام (ع) يريد أن يشير إلى أننا لن نستطيع أن نعرف الله في صفاته إلاّ من خلاله لأنه لا يعرف الله حق معرفته إلاّ هو، فهو الذي أحاط بذاته ولم يحط بذاته أحد إلاّ من خلاله لأنّ الله سبحانه وتعالى هو المطلق الذي لا حدود لأية صفة من صفاته، ولهذا فإن المحدود مهما كانت عظمته لا يستطيع أن يفهم حقيقة الله. وعلى ضوء هذا فإن الإمام (ع) يقول لنا إذا أردتم أن تعرفوا الله في صفاته فاعرفوه بما وصف به نفسه فإن ما وصف به نفسه هو الذي يمكن لنا أن نطّل من خلاله على الحقيقة الكامنة في صفات الله، أما انتم فقد تصفون الله من خلال ما تتخيلونّه وتنظّرونه.
جذور الفلسفة اليونانية:
وبهذا نفهم ـ أيها الأحبة ـ أننا عندما نريد أن ننفذ إلى صفات الله فإن علينا أن لا نأخذ بأساليب الفلسفة في ذلك لا سيما إذا عرفنا أن الفلسفة الإسلامية في أصولها انطلقت من الفلسفة اليونانية وبهذا فقد تختلط جذور الفلسفة اليونانية التي فرضت نفسها على كثير من مناهج الفلاسفة المسلمين، ولا أقول الفلسفة الإسلامية، في امتداد الواقع الإسلامي فيخيّل إلينا أننا نقرأ فلسفة إسلامية في عناوين الإسلام ولكنها في العمق والمنهج قد تأخذ الكثير من ملامح الفلسفة اليونانية التي ولدت في بيئة ثقافية أخرى تختلف عن البيئة الثقافية التي ولدت فيها الفلسفة الإسلامية.. وفي الوقت الذي نقدّر فيه الفلاسفة المسلمين الذي درسوا الفلسفة اليونانية وحاولوا أن يسجّلوا ملاحظات عليها نرى ان المنهج بقي يفرض نفسه على مدى التفكير، لذلك أراد الإمام (ع) من خلال ما نستوحيه من هذا الحديث ان يقول لنا إذا أردتم أن تأخذوا عقائدكم فخذوها من القرآن، وليس معنى ذلك انتقاصاً من السنّة فالسنة أكدّها القرآن في قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[الحشر:7]. لكن الإمام أراد أن يؤكد على الفكر الذاتي في هذا المجال.
وفي حديث آخر عن الحسن بن عبد الرحمن الحمّاني، قال :"قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (ع) إنّ هشام بن الحكم زعم أنّ الله جسم ليس كمثله شيء"، أي أنه جسم ليس كالأجسام التي يراها الناس في الموجودات المادية ولكنه جسم من نوع آخر، ويقال إن هشام قد ترك هذا المنهج إلى منهج آخر وبعد أن صحّح له الأئمة الذين عاصرهم وعاشرهم ذلك.
وتابع هشام كلامه قال: "عالم سميع بصير قادرٌ متكلم ناطق والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد ليس شيء منها مخلوقاً". فحتى الكلام كأنما هو شيء في ذاته وكذلك القدرة والعلم لا فرق، فكأنه لا يقول بخلق الكلام"فقال ـ أي الإمام ـ قاتله الله أما علم أن الجسم محدود". والكلام هنا موجّه إلى الفكرة لا إلى الذات "والكلام غير المتكلّم". فلا يمكن أن يكون الكلام صفة في الذات بمعنى أن يكون داخلاً في تكوين الذات كما يظهر من كلام هشام "معاذ الله وأبرئ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكلّ شيء سواه مخلوق، إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردّد في نفس ولا نطق بلسان"[الكافي:ص:158] فليست كالكلمات التي تخطر في الذهن وتتردد في الفكر ثم تنطلق بعد ذلك، فالإمام (ع) يريد أن يصحّح هذه الفكرة المنحرفة التي تبتعد عن صفاء التوحيد في صفات الله.
تصحيح بعض الأدعية:
وكان(ع) يصحّح حتى الدعاء، ومن ذلك يمكننا أن نرصد نقطة مهمّة وهي أن لا نأخذ كلّ دعاء أخذاً مسلّماً، لأن المشكلة هي أن كتب الأدعية امتلأت بالكثير من الأدعية التي لا نعرف مصادرها حتى أن السيد ابن طاووس ـ رحمه الله ـ في الإقبال يتحدّث فيقول: وجدت في كتاب عتيق، وقل كذا، وادع كذا، وما إلى ذلك مما قد يكون من تأليفه فيقبله الناس كما لو كان من مصدر معصوم في حين أن الأدعية تمثل الثقافة الروحية التي تنطلق فيها المفاهيم الإسلامية. فعندما ندعو الله ونتحدث عنه وصفاته وعن النبي وصفاته وعن الإمام وصفاته، فذلك يمثّل بمجمله منظومة المفاهيم الإسلامية، وقد يقول بعض الناس عن الله أو الحديث عن أنبياء الله وأوليائه، أو الحديث عن بعض الخطوط الروحية والأخلاقية والفكرية بأنّها تمثل منهجً إسلامياً في المفاهيم الإسلامية المتصلة بهذا الجانب أو ذاك.
ولذلك علينا أن لا نأخذ من الأدعية إلاّ ما ثبت لنا صحّته إمّا من القرآن أو من النبي(ص) أو من الأئمة (ع) بشكل دقيق، فالدعية وحتى الزيارات بحاجة إلى توثيق تماماً كما نوثّق الحكام الشرعية، فكما أنّ لدينا أحكاماً شرعية تحتاج إلى بحث وتمحيص كذلك لدينا مفاهيم إسلامية تحتاج إلى ذلك، وهذه المفاهيم تمثّل أساس التصوّر الإسلامي، ولذلك نعتقد بأن تراثنا كلّه سواء في باب الواجبات أو باب المستحبّات أو باب الأدعية أو باب الزيارات والحكم والمثال، لا بد من أن نخضعه للدراسة العلمية حتى لا ينفذ إلينا مفهوم غير إسلامي من خلال تراث يتعنون على انه تراث إسلامي ولكن لم يدقق انتماؤه إلى المصادر الأصلية للإسلام.
فعن عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال:"كتبت إلى أبي الحسن(ع) في دعاء: الحمد لله منتهى علمه، فكتب إليّ: لا تقولنّ منتهى علمه فليس لعلمه منتهى، ولكن قل منتهى رضاه".[الكافي:ص159]. فكم هي دقيقة هذه الملاحظة، ولعلّنا ندعو دائماً فنقول: الحمد لله منتهى علمه غير عارفين ان ذلك يجعل علم الله محدّداً فيما بين البداية والنهاية، والحال ان علم الله يتحرك في خط اللانهاية لأنه العلم اللامحدود، فينبغي أن نقول: منتهى رضاه لأنّ رضاه يتصل بالمخلوقين في درجات تتحرك حتى تبلغ منتهاها ولا يتعلّق ذلك في ذاته وفي صفته.
تنفيذ آراء المجسّمة:
وعن يعقوب بن جعفر الجعفري عن أبي إبراهيم(ع) وهذه هي كنية الإمام الكاظم(ع) قال"ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا. وهذه الفكرة كانت موجودة عند بعض المجسّمة وربما تصل إلى حد الخرافة في وصف الله ـ تقدّس عن ذلك ـ فهم يقولون انه ينزل على حمار بصورة شاب أمرد وما شاكل. "فقال: إن الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل إنّما منظره". يعن بمراقبته للأشياء بالعلم والإحاطة"وفي القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد ولم يحتج إلى شيء بل يحتاج إليه، وهو ذو الطول لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم، أمّا قول الواصفين إنه ينزل ـ تبارك وتعالى ـ فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص وزيادة". لأن الحاجة إلى النزول وإلى الارتفاع إنما تكون في الممكن الذي ينقص فيحتاج إلى أن يكمّل نقصه ويزيد فيحتاج إلى أن يستزيد من زيادته أو يعتدل "وكلّ متحرك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرك به فمن ظنّ بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدّ تحدّونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرّك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فإن الله جلّ وعزّ عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهّم المتوهمين وتوكّل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقّبك في الساجدين"[الكافي ج1؛ص:176].
فمن ذلك نلاحظ كيف أن الإمام(ع) رصد الانحراف في تصوّر الله سبحانه وتعالى، وكيف وضع المسألة في نصابها التوحيدي بالدرجة التي جرّدت الله سبحانه وتعالى عن كلّ صفات الممكن ووجهت الناس أن لا يخوضوا في صفاته بما لا يملكون معرفته وعمقه بل إنّ عليهم أن يصفوه بما وصف به نفسه فإنه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلّها.
مفهوم الرزق والقضاء:
ويتحدث الإمام (ع) عن موقف الإنسان المؤمن من الله عندما يعيش بعض الضيق في رزقه، وعندما يعيش المشكلة في قضائه، فنحن عندما يلمّ بنا ضيق العيش كما نتضايق من بعض القضاء الذي يمثل لونا من ألوان القسوة في حياتنا الخاصّة أو العامّة.
فعن صفوان الجمّال عن أبي الحسن(ع) قال "ينبغي لمن عقل عن الله". أي وعاه وعرفه واستطاع أن يعرف صفاته في حكمته وقدرته ورحمته "أن لا يستبطئه في رزقه". فإذا أبطا عليه الرزق فلا يشعر بالسلبية في ذلك لأن الله عندما يقدّر عليك رزقك أو يوسع عليك رزقك فإن ذلك ينطلق من معرفته بمصلحتك. فقد لا يصلحك إلا الضيق في بعض مراحل حياتك وقد لا يصلحك إلا السعة في بعض هذه المراحل"ولا يتهمه في قضائه". أي لا يتهمه بالظلم ولا بأي شيء لا يتناسب مع حكمته ورحمته وعظمته ولطفه ورعايته لعباده.
الخروج من حدّ التقصير:
وكان(ع) يعلّم بعض أصحابه كيف يدعون في القضايا التي تتصل بالجانب الحيوي من حياتهم. فعن الفضل بن يونس عن أبي الحسن(ع) قال "قال أكْثِر من أن تقول: اللهم لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من حدّ التقصير. قال، قلت: أمّا المعارون فقد عرفت أن الرجل يعار الدين ثم يخرج منه". فالمعار في إيمانه هو الرجل الذي يعار الدين ثم يخرج منه، فالبعض من الناس لا يثبت الدين في عقولهم وفي قلوبهم بل إنّ الدين يدخل في شخصياتهم كشيء مستعار يحصل عليه الإنسان ثم لا يلبث أن يعيده إلى موقعه.
قال صفوان: "فما معنى لا تخرجني من التقصير". فهذه كلمة غامضة، فقال الإمام الكاظم(ع): "كلّ عمل تريد به الله عزّ وجل فكن فيه مقصّرا عند نفسك". فلا تشعر بأنّك أدّيت إلى الله حقّه مهما عبدته ومهما قدّمت له من ألوان الطاعة بل عليك أن تشعر أنّه لا يمكن للإنسان ان يبلغ حق الله في كل ما يعمل من عمل او يطيع من طاعة "فإن الناس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرّون إلاّ من عصمة الله عز وجلّ"[الكافي:ص:79]. وبلغ الدرجة العليا في ذلك، وحتى الذين عصمهم الله عندما يتحدثون مع الله فإنهم يتحدثون معه بلغة التقصير تواضعاً في ذلك.
وفي حديث آخر عنه(ع): "فإن الله لا يعبد حقّ عبادته". [الكافي؛ ج:2؛ ص:78]. ولو درسنا ذلك لرأينا أنه يمثل أمراً طبيعياً، فلو فكرنا فيما أعطانا الله من نعمه التي لا تعد ولا تحصى لرأينا أنه قد أعطانا الوجود فهوّ سرّ وجودنا، وقد أعطانا كل مفردات هذا الوجود مما جعل وجودنا وجودا كاملاً في أكثر مواقعه بحيث تنطلق فيه من موقع الراحة والطمأنينة.
ثم أننا عندما نعمل الخير لنسأل أنفسنا هذا السؤال: ما هي الوسائل التي نستخدمها لعمل الخير؟ إنّها كلّ أعضائنا وجوارحنا فحتى العقل الذي نستلهم منه الخير لو سألنا: من الذي خلق العقل الذي تنطلق منه فكرة الخير، ومن الذي خلق اللسان الذي ننطلق به كلمات الخير، ومن الذي خلق لنا أعضاءنا كلّها التي نحركها في عمل الخير، ومن الذي هيا لنا الأدوات المحيطة بنا وسخّر لنا الظواهر الكونية ومن الذي أعطانا ذلك كلّه؟
الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطانا ذلك وليس لنا ـ نحن البشرـ أيّ شيء حتى في عبادته، فنحن نعبد الله بما أعطانا، فليس هناك شيء منك بحيث تستقلّ فيه مما لا دخل لله فيه لتقول إنني أديّت حق الله. فهمل الخير الذي يمثل طاعة الله هو عمل ينبغي أن تشكر الله عليه، كما قال ذلك الشاعر.
شكر الإله نعمة موجبة لشكره وكيف شكري برّه وشكرهُ من برّه
فلا شيء لنا البتة، ولذا استوحى الإمام أمير المؤمنين(ع) في إطار المعصية وبيّن ذلك في قوله "إن أقل ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه". فإذا أردت أن تعصي الله فهل يمكن أن تعصيه بشيء لم يمنعه عليك؟!
صفة الشيعي:
وعن أبي الحسن الأول(ع) قال، وهو يوجّه كلامه إلى الشيعة، فمن هو يا ترى الشيعي الذي يمثل النموذج الذي يحبه الله ورسوله وأهل بيته، "ليس من شيعتنا من لا تتحدث المُخدرات بورعه في خدورهّن". فالذي يصل إلى مرتبة من الورع عن الحرام في قوله وفعله وعلاقاته وموقفه بحيث أن أمره ينتشر بين الناس حتى أن المخدرات المحجبات اللاتي لا يتحركن في المجتمع تصلهن أخبار ورعه بحيث يتحدثن عن ورعه. "وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشر آلاف رجل فيهم من خلق الله من هو أورع منه"[الكافي ج2؛ ص:84]. فلو كان عندنا عشرة آلاف رجل وفيهم شيعي لا بد أن يكون هذا الشيعي أورع من هؤلاء كلّهم.
ومن هذا نعرف أن التشيّع ليس كلمة وليس عاطفة وليس مجرد دمعة ـ وإن كان لذلك كلّه دور ـ ولكن التشيّع هو كما قال الإمام الباقر(ع) "والله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه وكانوا يعرفون بالتواضع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء".
الصبر على الحسد:
ويقول الإمام الكاظم(ع) وهو يشير إلى الذين يحسدون غيرهم لأن الله أعطاهم من النعم ما لم يعطهم ويحقدون عليهم لأن الله جعل لهم فضلا لم ينعم عليهم به، "إصبر على أعداء النعم". هؤلاء الذين يعادون نعم الله عليك فيتعقّدون منها ويحاولون ان يثيروا الحقد في أنفسهم ضدك، فإن من يحقد عليك إنما يحقد على نعمة الله التي أنعمها عليك مما أعطاك الله من علم أو كرم او خلق او ما إلى ذلك "فإنك لن تكافي من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه". فهو قد عصى الله فيك فحقد عليك وحسدك، فأطع الله فيه بأن تكظم غيظك "بكظم غيظك والعفو عنه فتكون من المحسنين"[الكافي؛ ص:117]. والله تعالى يقول {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يُحب المحسنين}[آل عمران:134].
الزيارة لوجه الله:
وعن أبي حمزة قال:"سمعت العبد الصالح". وهو من ألقاب الإمام الكاظم(ع) "يقول: من زار أخاه المؤمن لله لا لغيره يطلب به ثواب الله وينجز ما وعد الله". فالزيارة على قسمين فتارة تزور أخاك لغرض في نفسك أي زيارة تجارية أو مصلحية نفعية لأنه زارك أو لتحصل على مكسب من خلال زيارتك له، وتارة تزوره قربة إلى الله تعالى من اجل أخوّة الإيمان بينك وبينه "وكلّ به سبعين ألف ملك من حين يخرج من منزله حتى يعود إليه فينادونه: ألا طبت وطابت لك الجنّة، تبوأت من الجنة منزلا".[الكافي ص:185].
النيروز ليس عيداً إسلامياً:
وقد تحدث الإمام(ع) عن يوم النيروز الذي دخل في تقاليدنا الإسلامية وجاءت به أحاديث من أنه يستحب الغسل والصلاة فيه وأنه من الأيام المباركة التي كانت بركتها ممتدة في الزمن من خلال أن الله سبحانه وتعالى جعل الكثير من نشاطات الأنبياء في هذا اليوم. يقول صاحب(البحار): "حكي أن المنصور"، وحكي تعني أن الحديث غير مسند"تقدّم إلى موسى بن جعفر(ع) بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز وقبض ما يحمل إليه من الهدايا فقال(ع) إني قد فتّشت الأخبار عن جدي رسول الله(ص) فلم أجد لهذا العيد خبرًا وانه سنّة للفرس ومحاها الإسلام ومعاذ الله أن نحيي ما محاه الإسلام"[البحار ج:48. ص:108].
وكما ذكرنا فإن صاحب الوسائل يذكر ثلاثة أحاديث كلّها مروية عن شخص واحد وهو (المعلّى بن خنيس) ولقد اختلف الرأي في هذا الشخص، فهناك من علماء الرجال من لا يوثّقه وهناك من يوثّقه انطلاقاً من أنه قتل مظلوماً على يد بعض ولاة بني العباس. وجاء في الحديث عن الإمام الصادق(ع) أن الله يدخله الجنّة. والملاحظ أن العنصر الفارسي وغير العربي دخل في الخلافة العباسية، ولذلك ردّ المنصور على الإمام الكاظم(ع) أن ما تقوله صحيح لكننا نريد أن نجامل الجند في ذلك.
فالسؤال هنا هو: لماذا لم يرو عن الإمام الصادق(ع) ذلك إلاّ المعلّى بن خنيس والرواة حوله كثر، وينقل في هذا المجال أنه جيء إلى الإمام علي(ع) بحلوى، فقال: ما هذا فقيل: نيروز، فقال(ع): إذن نيروزونا كلّ يوم، فلم يعطه الأهمية إلا بمقدار اعتبار اليوم مناسبة لتوزيع الحلوى،. والمسألة تحتاج إلى بحث علمي دقيق لأن إدخال أي يوم ليكون عيداً في التقاليد الإسلامية أمر يحتاج إلى التأكيد من خلال المصادر الأصلية إمّا من القرآن أو السنّة الشريفة أو من أحاديث الأئمة من أهل البيت(ع). فالإشكال في أن نحتفل به كعيد شرعي وإسلامي، أما الاحتفال به كمطلع للربيع وما يسمّى اليوم بـ(عيد الشجرة) فلا بأس. فنحن لا نعتبر حتى مواليد النبي(ص) والأئمة (ع) أعياداً شرعية ولكنها مّما ينبغي أن نحتفل به باعتبار ما تمثله شخصية النبي(ص) والأئمة(ع).
ولقد أعطانا الإمام علي(ع) خطاً عاماً للعيد حينما قال "كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد". وبذلك نستطيع أن نجعل أيامنا كلّها أعياداً إذا كانت أيامنا في طاعة الله وبعيدة عن معصيته، فأي عيد أكبر من رضا الله عن الإنسان ومن القرب منه.
إن علينا ـ أيها الأحبة ـ أن نقرا تراث أئمتنا من أهل البيت(ع) لأنه يضيء لنا العقيدة ويضيء لنا الشريعة ويضيء لنا المنهج ويضيء لنا ظلمات الحياة كلها.
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الخامسة: 27رجب 1420 هـ المصادف: 6/11/1999م
في ذكرى المبعث النبوي الشريف:
يوم الإسلام
(المبعث) هو يوم الإسلام.. لأنّ الإسلام كرسالة ولد في حياة الناس في يوم المبعث، وهو يوم الكرامة والمعجزة.
في ذكرى المبعث النبويّ الشريف
حديث القرآن عن المبعث
مهمّة النبي(ص) الرسالية
فهم النصّ القرآني
تعليم الحكمة
دور التزكية
ثقافة الكتاب والإيمان
كيف قدم النبي(ص) نفسه للناس؟
ردود الفعل إزاء القرآن
مواجهة التحديات
تثبيت الرسول(ص)
الإسراء والمعراج
نداء الذكرى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
في ذكرى المبعث النبويّ الشريف:
هذا هو يوم الإسلام.. لأن الإسلام كرسالة ولد في حياة الناس في يوم المبعث.. وهذا هو يوم الكرامة والمعجزة.. لأنّ الكرامة التي أكرم الله بها نبيّه هي انه أسرى به من الأرض إلى السماء في عروج ببدنه لا بروحه. وعندما نلتقي هذه الذكريات الثلاث فإنّ علينا أن نستنطقها وأن نستوحيها، وان ندرس تأثيراتها العملية في حياتنا بالإضافة إلى مسؤولياتنا أمامها، لأنّ النبي (ص) كان رسول الحياة بكلّه.. رسولها في مضمون الرسالة {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}[الأنفال:24]. ورسول الحياة من خلال امتداد رسالته في الحياة كلّها "لا نبي بعدي". {ولكن رسول الله وخاتم النبيين}[الأحزاب:40]. فعندما ننطلق مع موعد تأريخي في أيّ موعد من المواعيد النبوية فإن علينا أن نشعر أنه موعدنا لنا في حاضرنا وفي مستقبلنا.. فكيف يمكن لنا أن نستوعبه، وكيف يمكن لنا أن نقرأه وأن ندرسه؟
حديث القرآن عن المبعث:
ولقد تحدّث الله سبحانه وتعالى عن المبعث في أكثر من آية كقوله تعالى {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويُزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}[الجمعة:2] ولقد كرر هذا المضمون مع بعض الزيادات كما في قوله تعالى {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}[البقرة: 151]. فهناك آفاق يلهمه الله الانفتاح عليها ويوحي له بها غير ما أنزل عليه من كتاب مما يمثل الثقافة الجديدة التي يثقّفكم بها.
ويمنّ الله على المؤمنين بذلك {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164]. فالله يحدثنا عن الدور الذي أوكله إلى رسوله من أجل أن يفتح عقول الناس على أفاق جديدة للمعرفة، وعلى خطوط جديدة للحركة، وعلى مواقع روحية عالية تمنح الإنسان الصفاء والنقاء. فالنبي(ص) جاء من أجل أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وكان المجتمع مجتمع ضلال، ولعلّ أعظم الضلال هو هذا العقل المتحجّر الذي يستغرق في حجر ليحولّه إلى إله يسقط إنسانيته عندما يجعل هذه الإنسانية تتعبّد للتراب وتتوهّم أن له أسراراً ليس لها أية حقيقة، وكانت الصنميّة والوثنيّة منهجاً ينفتح على ذهنية تجعل الحجر صنماً، وتجعل الشهوات صنما والتخلّف صنما وتقدّس الجهل تماماً كما تقدّس الحجر. فلم تكن المسألة مسالة عبادة للحجر ولكنها كانت منهجاً للتفكير وللعبادة وللسلوك وللعلاقات العامّة. وذلك هو الذي عبّر عنه بـ "الضلال المبين".
ومن الطبيعي أن ذلك كلّه كان يمثل حالة من الظلمة الروحية والعقلية والعاطفية والحركية. ومن هنا يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن المهمة التي أوكلها لرسوله وجعل كتابه الأداة التي تحمل الإشراق والنور {الر، كتاب انزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}[إبراهيم:1]. فأن يخرجهم من الظلمات إلى النور يعني ان يكتشفوا صراط الله الذي يتميز بالعزة التي توحي بالقوة، ويتميز بالحمد الذي يوحي بامتداد صفاته في مواقع الحمد التي تطلّ على الإنسان ليتخلّق بأخلاق الله.
مهمة النبي (ص) الرسالية:
ومن خلال هذه الآيات نستوحي أنَّ مهمة النبي(ص) إذا كانت تتمثل في تلاوة آيات الله وتعليم الكتاب والحكمة، فإننا نرى انه لم يكتف بتلاوة آياته بل أضاف إلى ذلك صفة المعلّم. وعلى ذلك نقول دائماً إن النبي (ص) استوعب الرسالة كلّها في عقله وقلبه وإحساسه وشعوره وآفاقه بحيث كان المعلّم للرسالة في مفرداتها كلّها فلا يغيب عنه شيء منها، ولا يمكن أن يخطئ في شيء من ذلك، فكما انه لا يخطئ في استيعاب الكلمات فكذلك لا يخطئ في استيعاب المعاني ولا في تفريعها ولا في امتداداتها ولا في تطبيقاتها على الواقع، ولذلك فإنه عندما يريد له أن يعلم الناس الكتاب ـ والكتاب يتحرك بحجم الحياة ـ فإن ذلك جعله واعياً وعيّ الحق لمفردات الحياة كلًها التي تتصل بالكتاب في خطّ النظرية وبالكتاب في خط التطبيق.
فهم النص القرآني:
ومن هذا المنطلق قلنا لبعض الباحثين الذين يحاولون ان يفلسفوا بعض المناهج كطريقة جديدة في فهم النص، وكانوا يقولون ـ فيما ينسب إلى بعضهم ـ إنّ النص إلهي في طبيعة كلماته لكن فهم النصّ ـ بما فيه فهم النبي(ص) للنص ـ بشريّ. وهم يقصدون بكلمة البشري ّ إمكانية وقوع الخطأ والصواب. وقلنا لبعض هؤلاء في لقائنا معه: إن دور النبي (ص) ليس دور ساعي البريد الذي ينقل النصّ للناس، بل إن دوره ان يعلم الناس الإسلام بكلّ مفاهيمه وامتداداته وآفاقه ومفرداته، فكما أنّ نقل النبي(ص) للنصّ لا بدّ أن يكون معصوماً فلا بدّ ان يكون فهمه للنص معصوماً. وقد غيّر رأيه فقال إذن أقول ان النبي يفهم القرآن فهماً لا يقع فيه خطأ.
تعليم الحكمة:
وأمّا الدور الثاني الذي جعله الله تعالى للنبي(ص) فهو أن يعلّم الحكمة، وليس المراد بالحكمة هي مضامين الكتاب لأن كلمة الكتاب تكفي في الدلالة عليه، ولكن الحكمة فيما نستوحيه منها هي حركيّة الكتاب في الواقع، فالكتاب يعطي النظرية ولكن الحكمة تعطي التطبيق {ولقد آتينا لقمان الحكمة} [لقمان:12]. بمعنى انه كان يملك ثقافة يستطيع أن يحرّكها في الواقع بحيث تصل إلى النتائج السليمة من خلال ما يملك من وضوح الرؤية للأشياء في حركة الفكرة والتطبيق.
وقد عرّف اللغويون الحكمة بأنّها وضع الشيء في موضعه، بمعنى أن لا تبعد الأشياء عن مواقعها سواء في الفكر أو في الواقع، وربما يقترب من كلمة الحكمة ما ذكره البلغاء في تعريف البلاغة في قولهم إنّها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وذلك بان تتعرّف مقتضيات الأحوال ومناسبتها في الشخص والزمان والمكان والثقافة والخصوصية لتعطي كلّ واحد منها ما يتلائم ويتناسب معه من دون انحراف.
دور التزكية:
وقد تحدث الله سبحانه وتعالى عن دور ثالث وهو دور التزكية، وهي المهمة التربوية التي يشرف فيها النبي(ص) على حركة المجتمع ليرصد الانحرافات التي تحدث هنا وهناك ليندفع إليها فيصحّح ما أخطأوا فيه ويقوّم ما انحرفوا فيه. ولقد كان دور النبي(ص) هو أن يدخل إلى إنسانية الإنسان من أجل أن يزكّيها ويطهّرها وينميّها ويفتح لها آفاق الروح بحيث يتروّح الإنسان وهو جسد. ولذلك فقد أراد الله للنبي(ص) أن يقوم بهذا الدور وقد قام (ص) به على أكمل وجه.
والقرآن يحدّثنا أن النبي(ص) عندما انطلق بنبوّته إلى الناس لم ينطلق بطريقة يستعرض فيها ما نعبّر عنه هذه الأيام بعضلات القوّة، بأن يحدثّهم عن الغيب في صفاته في حين أن هناك جانباً من الغيب في شخصيته ولكنه كان يقدّم نفسه إليهم بأنه بشر ترتفع بشرّيته بالوحي {قل إنما أنا بشر مثلكم}[الكهف:110]. آكل كما تأكلون وأشرب كما تشربون وأمارس متطلبات الجسد كما تمارسون وأتألم كمما تتألمون وأمرض كما تمرضون ولكنّي بشر يوحى إليّ بما يريد الله للعقل أن يعيشه من الوحي وللقلب أن يحياه وللأذن أن تتلقاه وللسان أن يحمله، أي أن الله أراد أن يصوغ بشريته بوحيه كلّه ليجعل في كل عنصر من عناصر بشرّيته شيئاً من الوحي.
ثقافة الكتاب والإيمان:
ونلاحظ ـ وتلك هي عظمة القرآن وعظمة النبي(ص) ـ أن الله أراد أن يقدّم النبي(ص) للناس على أنه لم يكن قد تلّقى من قبل الرسالة الكتاب، بل كان يمثل الشخصية المنفتحة على الرسالة من خلال قابليتها وعناصرها وأخلاقها.. فكان الشخصية التوحيدية بالمعنى الأكمل ولكنّه لم يكن له عهد بالتفاصيل فالله كان يعطيه التفاصيل تدريجياً لأن حركة الرسالة في نموّها كانت تفرض ذلك. ونقرا في هذا الجانب قوله تعالى وهو يحدّثنا عن ذلك {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا}. وهو الوحي {ما كنت تدري ما الكتاب}. فلم تدرسه عند دارس {ولا الإيمان}. في تفاصيله وخصوصياته التي أرسلنا بها إليك {ولكن جعلناه نورا}. بعد أن أنزلناه عليك {نهدي به من نشاء من عبادنا}. ومن خلال هذا النور {وإنك لتهدي إلى صراط المستقيم} [الشورى:52].
ونقرأ في آية أخرى قوله تعالى {وما كنت ترجوا أن يُلقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك}. فليست هناك أية بوادر ظاهرة تدلّ على انتظاره(ص) لأن يلقى إليه الكتاب ولكنها رحمة من ربّه رحمه بها، فعليك ـ أيها الرسول ـ أن تتابع رسالتك {فلا تكون ظهيراً للكافرين}[القصص:86]. الذين يحيطون بك فلا تساعدهم في شيء بل حاول أن تواجههم بالتوحيد في مقابل الشرك بشكل حاسم. {قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا انتم عابدون ما اعبد، لك دينكم ولي دين}[الكافرون:1-6].
{ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك}، أي تابع مسيرتك مهما وضعوا أمامك من حواجز ومهما واجهوك بألوان الاضطهاد {وادع إلى ربك}. تابع دعوتك {ولا تكونن من المشركين}[القصص:87]. بعد أن كنت الموحدّ الأول.
كيف قدّم النبي نفسه للناس؟
ونلاحظ كذلك كيف قدّم النبي(ص) نفسه للناس في بداية الدعوة الإسلامية في قوله تعالى {قل ما كنت بدعا من الرسل} فلقد كان تصوّر الناس أن يكون الرسول مزّودا في داخل شخصيته بقوة غيبية، أو أن يكون من الملائكة، أو ينـزل معه من الملائكة، أو تكون له خزائن الأرض، فلا بدّ أن يقدّم نفسه من خلال الأشياء الماديّة الكبرى حتى يجتمع الناس حوله ولا بدّ أن يقدّم نفسه من خلال الأشياء الغيبية والوحي غيب.
{وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يُوحى إلي}. فليست لديّ قدرات ذاتية في أصل تكويني بشكل مستقل بحيث اعلم الغيب وإنما اتبع ما يوحى إلي مما يمنحني الله إياه {وما أنا إلا نذير مبين} [الأحقاف:9] جئتكم لأنذركم ولتفكّروا فيما أتحرك به حتى أفتح عقولكم على ما أوحى به الله إلي لتفكّروا به، فليست الرسالة صرعةً من الصرعات تصدم الإنسان، بل هي فكر يراد له أن يفتح عقل الإنسان ليفكروا به ولينطلق بالحوار من خلال ذلك مع الرسول ومع كل الذين يؤمنون بذلك.
كما نجد انه(ص) يتحدث مع الناس بطريقة لا تتحدث عن أمور استثنائية {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني املك إن أتبع إلاّ ما يوحى إلي}[الأنعام:50]. فإذا كنتم تلتفون حولي باعتبار ظنكم اني أملك خزائن الله لتغرفوا منها فأنا أفقر إنسان فيكم من الناحية المادية, وإذا كنتم تسألون عن خصوصيات الغيب في حياتكم فلست أملك الاستقلال في الغيب، ولست ملكاً من الملائكة بل أنا بشر مثلكم أن اتبع إلا ما يوحيه الله إلي من وحي وغيب.
ردود الفعل إزاء القرآن:
والقرآن ـ أيها الأحبة ـ خير تأريخ يعبّر لنا عن الأجواء التي كان يعيشها التي(ص) في بداية الرسالة، فالله تعالى يقول عن مجتمع النبي يومذاك {وإذا تُتلى عليهم آياتنا بينّات}. ويطلب منهم أن يسمعوها ويفكّروا فيها {قال الذين لا يرجون لقاءنا}. هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا يؤمنون انهم سيواجهون الحساب أمامه {ائت بقرآن غير هذا أو بدّله}. أي هات لنا قرآناً آخر أو بدّل هذا الذي جئت به، وهذا طلب سخيف تافه فإذا كان بشراً كما يعتقدون لأتى بقرآن غير هذا على اعتبار من كان قادراً على أن يصوغ القرآن بثقافته هذه فهو قادر على أن يصوغ قرآناً مثله أو يبدّله. فلم يكن هذا الطلب طلبا معقولاً بل كان مجرد لعب بالكلمات. وكان النبي (ص) ـ كما يحدثنا القرآن ـ واضحاً في هذا المجال، حيث قال لهم إنني لا أستطيع أن آتيكم بغير هذا القرآن ولا أستطيع أن أبدّله لأنه ليس من صنعي وإنما هو من وحي الله {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلي}. فأنا أقرأ عليكم ما يوحى به الله أي ليست في الموقع الذي يتيح لي الدخول في هذه التجربة {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس:15]. فلا يكون لي أن اعصي الله بأن أنسب إليه ما لم يقله، أو أن أحرف ما قاله بطريقة أخرى، وقد قال الله عنه {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين}[الحاقة:44]. والنبي(ص) لا يفعل ذلك ولذلك عبّر القرآن بحرف (لو) الذي هو حرف امتناع لامتناع.
مواجهة التحديات:
ثم أننا نجد في القرآن كيف كان النبي(ص) يواجه قومه وتحدياتهم {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنزٌ أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل}[هود:12]. عليك ـ يا رسول الله ـ أن تنسجم مع مهمتك ودورك ولا تلتفت إلى كلماتهم، لأن مشكلتهم هو أنّ مفهومهم للنبوة ليس هو المفهوم الصحيح، فهم يفهمون النبوّة على انها تتصل بالجانب المادّي في الغنى أو بالجانب الغيبي بأن يكون ملكاً أو يأتي معه الملائكة.. فالله أراد للنبي(ص) أن يقدّم نفسه للناس منذ البداية كما بالجانب الغيبي بأن يكون ملكاً أو يأتي معه الملائكة.. فالله أراد للنبي(ص) أن يقدّم نفسه للناس منذ البداية كما هو {إن أنت إلاّ نذير}[فاطر:23]. فدورك أن تنذرهم وتبصّرهم فإذا تعقّدوا في البداية فإن الإصرار على الدور وإيضاحه والسير فيه سيجعلهم في نهاية المطاف يخضعون إلى كلّ إيحاءات هذا الدور {إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره أنّه كان تواباً}[النصر:1 ـ3].
تثبيت الرسول(ص):
وكان الله ـ كما نرى في القرآن ـ يثبّت رسوله إزاء الاهتزازات التي تعترضه. وكان ينميّه بتجارب الأنبياء السابقين {وكُلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثّبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}[هود:120] ويحدثنا عز وجل في آية أخرى بقوله {وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}[القرآن:32]. كما حدثنا عن محاولات الكافرين زحزحته عن موقفه {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وانزل الله عليك الكتاب والحكمة}. وصاغ شخصيتك من خلال الكتاب والحكمة {وعلمك ما لم تكن تعلم}. حتى استطعت أن تكون المعلم الأول للإنسانية في قضايا الإنسان من خلال ما علّمه الله {وكان فضل الله علي عظيماً}[النساء:113].
وهكذا نعيش هذه الأجواء التي يمكن أن نتوسّع في قراءتنا الواعية للقرآن لنعرف من خلاله معاناة النبي (ص) ولنتعرف على الأساليب التي كانوا يستخدمونها من أجل إضعاف موقفه لكنه كان ينطلق في كلّ مرة بقوة ليواجه مواقع الضعف بقوة جديدة وروح جديدة وتحرّك جديد.
الإسراء والمعراج:
وننفتح من خلال الكتاب الكريم على الإسراء من خلال قوله تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} [الإسراء:1]. فنحن نقرأ إن هذا الإسراء كان يمثل المعجزة باعتبار أنه اختصر الطريق في لحظة أو لحظات حيث استطاع النبي (ص) أن يقطع تلك المسافة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في أثناء الليل {لنريه من آياتنا}. أي ليطّلع على مهد الرسالات الأول، وعلى ساحة الأنبياء الأولى، وعلى ذلك المسجد الذي تحرّك فيه الأنبياء وصلّوا فيه تماماً كما هو المسجد الحرام الذي بناه شيخ الأنبياء إبراهيم(ع) من أجل هذا التواصل الروحي بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى الذي سوف يتحوّل في المستقبل إلى تواصل ثقافي وسياسي في كلّ ما نعيشه في مشكلة القدس وبيت المقدس.
فلقد أراد الله أن يوسع آفاق النبي(ص) من الناحية الحسيّة بعد أن وسّع آفاقه من الناحية الروحية، فجاء به إلى بيت المقدس ليطّلع عليه وعلى المسجد الأقصى، وليلتقي ـ كما ورد في السيرة ـ بالأنبياء ليصلّي بهم وليتحدّث إليهم وليتحدّثوا إليه عن تجاربهم وعن تجربته بالذات لأنه كان في وقت الإسراء قد مضى عليه في حركة الدعوة والرسالة ما يقرب الإثني عشر سنة.
كما أن الله سبحانه أراد أن يرى رسوله(ص) آيات الله الكبرى في السماء، كما أراد له أن يرى آياته في الأرض لينطلق فيما يحدّث به الناس عن السماء والجنّة وعن النار وعن كل تلك المفردات القرآنية بشكل حسّي، فكما هنا قوله تعالى {لنريه من آياتنا}. هناك قوله تعالى {أفتمارونه على ما يرى}[النجم:12]، إلى أ يقول {لقد رأى من آيات ربّه الكبرى}[النجم:18].
ومن كلّ ذلك نعرف أن الإسراء والمعراج يمثلان حركتين ثقافيتين أراد الله من خلالها أن يرى النبي(ص) آيات ربّه في الأرض وفي السماء ليزداد بذلك معرفة وقوة في الروح، ولينطلق في أكثر من إيحاء ليقول لهم إن رسالة الإسلام هي الرسالة التي تجمع الرسالات كلّها {لا نفرق بين احد من رسله} [البقرة:285]. فهي الرسالة التي جمعت الكثير من حقائق التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم، ولذلك كان القرآن خلاصة الرسالات مع ما تحتاجه الرسالة في مستقبل حركتها في الواقع.
نداء الذكرى:
أيها الأحبة: في يوم الإسلام.. يوم المبعث.. علينا أن نتحسس مسؤوليتنا عن الإسلام كلّه، فالنبي (ص) جاء من أجل أن يؤسلم العالم {وما أرسلناك إلا رحمة لعالمين}[الأنبياء:107]. {وما أرسلناك إلا كافة للنَّاس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون[سبأ:28] {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}[الأعراف:157]. وإذا كانت الرسالة تتحرك من أجل الإنسان كلّه والحياة كلّها فعلينا أن نعمل من أجل أن نحرّك الإسلام في العالم من خلال ما نتزوّد به من ثقافة، وما ننفتح به من روح، وما نتحرك به من خطوات سليمة في الدرب المستقيم.
أيها الأحبّة: لم يكن الذين سبقونا من الذين عاشوا مع الرسالة وبلّغوها |أكثر منا فهما ـ ما عدا فئة معينة من الناس ممن عصمها الله ـ ولم يكونوا أرحب منا ساحة ولا أوسع منا ظروفا لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم عاشوا الرسالة بكلّها وأننا لم نعشها.. بل جمّدناها وحصرناها وحسبناها في أطماعنا وفي المواقع الضيّقة من حياتنا.. اتركوه يتنفس في الهواء الطلق.. اتركوه ينطلق في ثقافته في حجم العالم.. اتركوا الإسلام يتخلّص من تخلّفكم وجهلكم ومعاني الخرافة التي ألصقتموها به، وستجدون أن العالم يهتف للإسلام. وقد قرأنا لبعض المفكرين في الغرب أن المستقبل في العالم سوف يكون للإسلام لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يجمع بين المادة والروح وبين الفردية والجماعية، وبين العقلانية والغيرية، لكن المشكلة هي في المسلمين الذين لا يتعلّمون الإسلام ولا يعيشونه جيدا ولا ينطلقون في خط الرسالة جيداً.
لقد جمّدناه وعلّبناه وجعلنا جسراً نقطعه من أجل أسمائنا حتى تكبر أكثر ومن أجل مطامعنا حتى تتضخّم أكثر.
أيّها الأحبة: لنكن جند الإسلام ولنجعل الذات من أجل الإسلام ولا نجعل الإسلام من أجل الذات.
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السادسة: 3 شعبان 1420 هـ المصادف 12/11/1999م
في ذكرى ولادة الإمام السجاد(ع)
تجسيد الإسلام
إنّ السير مع الذين يجسّدون الإسلام فكراً وعاطفة وحركة ومنهجاً ووسيلة وهدفاَ هو الذي يقرّبنا من الله ويقودنا إلى سعادة المصير.
ذكرى ولادة الإمام السجاد(ع)
موقفه من التوحيد
العلم للعمل
الصبر والرضا
خير الناس
المداومة على العمل
الصبر رأس الإيمان
ضريبة الحق
حسن الخلق
إدخال السرور على المؤمنين
الغنى في القناعة
درس الذكرى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
ذكرى ولادة الإمام السجاد(ع):
في هذا اليوم حلّت ذكرى ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع). ونحن نعيش مع هذا الإمام الدعاء عندما نقرا ابتهالاته وأدعيته، ونعيش معه في قلب المأساة عندما نثير ذكرى كربلاء التي عاش قمة مأساتها وكان جزءاً من هذه المأساة، ولكن القليل، عاشوا مع الإمام زين العابدين(ع) في البعد الفكري الذي كان يتحرك به في حديثه مع الناس في كلّ أزمات الصراع التي كانت تدور حول العقيدة أو حركة الانحراف في علاقات المجتمع ببعضه البعض أو في سلوك الإنسان وأخلاقياته.
فكيف كان الإمام يتحدث مع الناس؟ فنحن نعرف جيدا أن أئمة أهل البيت(ع) كانوا يتحسسون مسؤوليتهم عن فكر الإسلام.. فعملوا على أبعاده عن أي اتجاه منحرف عارض.. وإيضاحه حتى لا تحيط به الشبهات، وفي هذا اللقاء نحب أن نتحرك مع زين العابدين(ع) في كلماته التي كان يطلقها في أحاديثه مع الناس في بعض قضايا العقيدة وفي بعض قضايا الحياة في الجانب الأخلاقي والسلوك الاجتماعي.
موقفه من التوحيد:
من بين هذه الأحاديث أنه سئل عن التوحيد، وربما كانت المرحلة التي عاش فيها هي المرحلة التي بدأ فيها الحديث عن التجسيم وعن صفة الله كصفات المخلوقين. ومن هنا فقد كثرت الأسئلة حول هذه المسألة، فكان روّه عليها "إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمن متعمّقون". ونفهم من هذه الكلمة أن الناس ولا سيما في مجتمع الدعوة الأول كانوا لا يفكرون في عالم التوحيد بالطريقة التي تتنوع فيها الأبعاد، بل كانت المسألة في أفكارهم شركاً وتوحيداً من دون أن يستغرقوا في عناصر هذا التوحيد أمام مسألة الشرك، لأن المجتمع لم يكن مجتمعاً فلسفياً بحيث يثير القضايا التي يمكن أن تثار أو التي أثيرت بعد ذلك في مسألة الذات الأزلية والسرمدية وما إلى ذلك في مسالة البعد عن المحدودية وعن التجسيم. لذلك قال إن الله أنزل كتابه ليؤكد توحيده بطريقة حسم فيها الجدل حول هذه المسألة، حيث قال: "إن الله عزّ وجل علم انه يكون في آخر الزمان متعمّقون فانزل الله تعالى "قل هو الله أحد" هذه السورة الصغيرة في مبانيها الكبيرة في معانيها والتي تمثل هذه البساطة المتعمّقة ـ إذا صح التعبير في تصور الذات الإلهية البعيدة عن التعقيد الذي تصوره النصارى في هذا المجال عندنا جمعوا بين التوحيد وبين التثليث من دون أن يعقلنوا ذلك بتحليل وتدقيق عقلاني، معتقدين بان الإيمان يتكفل بحل هذه المسألة لا العقل، لأن الإيمان فوق العقل.
أمّا القرآن الكريم فقد طرح العقيدة الإسلامية التوحيدية بوضوح وبساطة بحيث يمكن للإنسان العادي أن يتمثّل الإلهية في نفسه ببساطة، ويمكن للإنسان العالم أن يتعمّق في فهم صفات الذات الإلهية بعقله وبعلمه {قل هو الله أحد}[الإخلاص:1]. هذه الأحادية التي يتحسسها الإنسان عندما يتطلّع إلى العناصر التي تربط بين الظواهر كلّها، وينفتح بعد ذلك على أن الخالق هو الأحد إذ ليس هناك إثنينية من خلال ترابط الكون في قانون واحد مع تنوّع الخصائص فلا بدّ أن يكتشف وحدة الخالق {قل هو الله أحد، الله الصمد} [الإخلاص:1ـ2] فهو الذي يصمد إليه، في كل حاجات المخلوقين أيا كانت تلك الحاجات سواء حاجاتهم في الوجود أو في مفردات الوجود أو في التفاصيل الحركية في الوجود، ويرجع إليه فهو المرجع الذي يُحتاج إليه وننفتح إليه وينفتح علينا {لم يلد}. فلم ينطلق في عملية الولادة ليكون له وارث يرث ما عند، ولذلك فالله هو وحده لم يلد أحداً فلا يرثه أحد في صفة من صفاته ولا في أي شأن من شؤونه كما يرث الوارث الموروث {لم يلد ولم يولد}[الإخلاص:3]. لم ينفصل عن موجود آخر حيث ليس له أية علاقة عضوية بأي مخلوق لا في جانب الصدور ولا في جانب الإيجاد {لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً احد}[الإخلاص:4] فهو واجب الوجود ولا يماثله أحد في وجوب الوجود في أي موجود في الكون.
وهذه هي العقيدة التوحيدية التي إذا أراد الإنسان أن يتعمّق فيها أمكنة القيام بدراسات كثيرة في تفسير هذه الآيات، وإذا أراد أن يبسطها فإنه يمكن أن يتصور ربّه بصورة يستطيع فيها أن يتمثّل وحدانية ربّه من جميع الجهات، فهو الأحد وحده الذي يصمد إليه في الحوائج، ووحده الذي لم يلد ووحده الذي لم يولد، ووحده في عمق صفاته التي لا يماثله فيها أحد.
العقيدة التوحيدية الإسلامية التي جاءت بها (سورة الإخلاص) هي العقيدة الوحيدة في العالم التي استطاعت أن تصوّر لنا التوحيد بصورة مبسّطة لا تمتنع عن العمق لمن أراد أن يتعمّق وبذلك امتازت على كل الفلسفات، ولذا قال(ع) "فأنزل الله تعالى {قل هو الله أحد}. والآيات في سورة الحديد إلى قوله {وهو عليم بذات الصدور}[الحديد:6]. "فمن رام وراء ذلك هلك"[الكافي:ج:1. ص:147]. فالله تحدث عن التوحيد فيما ذكره في سورة الحديد {سبح لله ما في السموات والأرض}. وهذا يدلّ على شمولية كلّ المخلوقات في تسبيحها للخالق عزّ وجل وفي إدراكها له، فكلّ ما في السموات والأرض ينفتح ـ كلّ بطريقته ـ على وجود الله وعلى الإحساس بظهوره في مواقع العظمة فيسبحه بما يوحي له التسبيح بظهوره في مواقع العظمة {وهو العزيز الحكيم}[الحديد:1]. فالله يحدّثنا انه العزيز الذي لا يغلب من خلال ما يملكه من مواقع القدرة المطلقة ولا يخطأ في تقدير أي شيء من خلال حكمته المطلقة في معرفته بالأشياء {له ملك السموات والأرض}. فهو وحده المالك للسموات والأرض وما فيهم لأن كلمة السموات تختزن ما فيها من عوالم، وكلمة الأرض تختزن ما في داخلها من موجودات. فهو المالك وحده لكل هذا مما يعني أن السماوات والأرض في ظواهرها وفي موجوداتها كلّها مملوكة له، فلا مالك غيره، {يحي ويميت} فكلّ حي يأخذ الحياة منه وكلّ ميت ينزل به الموت من خلاله، ولذلك فهو وحده الحي لا من خلال حياة تأتيه من خارج، وهو الذي لا يموت لأن ينطلق الموت إنما ينطلق من عرضية الحياة، فإذا كانت الحياة في عمق الذات فكيف يمكن أن يأتيها الموت {وهو على كل شيء قدير}[الحديد:2]. فهو الواحد أيضاً في وحدانية القدرة الشمولية وليس هناك غيره في ذلك، وهو "الأول فلا شيء قبله، وهذا هو الذي يعي معنى الأزلية، "والآخر فلا شيء بعده" وهو الذي يعطي معنى الأبدية، والظاهر الذي يمثل الظهور والكشف بحيث أنه هو الظاهر الذي لا خطاء فيه، فالإنسان لا يملك إلا أن يتصوره وأن يتحسسه من خلال أن ظهوره أكدّ حضوره في الفطرة الإنسانية فلا يغيب عنها شيء "والباطن" الذي اختزن الأسرار التي لم يختزنها أحد فلا يدرك سرّه أحد {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}[الحديد:3]. فعلمه اتسع لكلّ شيء فلا يمكن أن يغيب عن علمه أي شيء.
أن الإمام يرشدنا إلى هذه الصفات الإلهية التي وصف الله نفسه من أجل أن يعرفه الناس من خلاله لا أن يعرفوه من خلال بعض التعقيدات الفلسفية وبعض التصورات التي لا تلتقي بحقيقة أوصافه الذاتية. ولذلك يقول الإمام(ع) "فمن رام وراء ذلك هلك" [الكافي:ج:1، ص174]. فعلينا أن نأخذ صفات الله من الله ولا نأخذها من غير الله لأن الله هو العارف بنفسه ولا يعرفه غيره وليس معنى ذلك أننا لا نفكر في فهم هذه الصفات ولكن الإمام يريد أن يقول إن علينا أن نقف في صفات الله بما وصف به نفسه ولا نتجاوزها إلى غير ذلك، لأننا لا نملك ونحن المحدودون المرتبطون بكلّ الأوضاع المادية أن نعرف المطلق، لأن معرفتنا تنطلق من فكرة لها أسبابا مخصوصة وتجربة لها موارد مخصوصة، ولا نملك أن نعرف ما يتجاوز تفكيرنا لأننا لم نعش كلّ مفرداتها أو ما يتجاوز تجربتنا في ذلك.
وعن أبي حمزة قال . ليكن الحق حياتك كلّها، إن في الفكر عندما ينطلق من أجل أن يؤكد الحق، أو في العاطفة عندما ينطلق القلب ليؤكد حبّه وبغضه في خط التوازن الذي يقدّم على الحق، أو الحق في الحركة عندما تنطلق حركتك في الحياة لتؤكد موقف حق هنا وموقف حق هناك. وقد يكلّفك الحق شيئاً مما ورثته من الباطل،وقد يكلفك شيئاً مما تشتهيه من اللذات، أو مما جنيته من المال، أو مما حصلت عليه من الحرية، وقد يسلب الحق حريتك عندما ينطلق أهل الباطل من أجل أن يسلبوك حريتك لأنك تقف مع الحق، وقد يسلبك الحق شهوتك لأنه يسير في غير تيّار الشهوة، وقد يسلبك مزاجك عندما يقف على خلاف مزاجك، وقد يكلفك مالك وربما حياتك فاصبر على الحق فالحق هو سرّ حياتك وهو سرّ مصيرك وهو الله {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل}[الحج:62]. لذلك كن مع الحق في جميع أمورك وأصبر عليه ولا تهزك الخسائر ولا يضعفك الحرمان وإن كان مراً لأنه إ كلمة لا تخدم حياته أو في موقف لا يخدم مصيره، لذلك كان يقول لا تحسبوا كظم الغيظ ذلاّ ولكن اعتبروه بطولة وعزّة لأنك بكظم الغيظ تسيطر على نفسك وعواطفك وإحساسك، فإن من الخطأ أن يندفع الإنسان في غيظه ليفجّر غيظه دون تخطيط عقلاني لبدايات الأمور ونهاياتها ليعتبر أنّ حبس الغيظ ذلّ. فهو (ع) يقول عن نفسه "ما أحبّ أن لي بذّل نفسي حمر النعم". وكانت حمر النعم تعتبر من الثروات المهمّة ويكنّى بها عن أي شيء قيّم ونفيس، فانا أرفض الذّل حتى لو كانت الثروات والشهوات في مقابله "وما تجرّعت جرعة أحبّ إلي من جرعة غيظ لا أكافي صاحبها".[الكافي:ج:2ـ ص:117]. فهو يقول إن أحلى جرعة لديه هي الغيظ الذي يصدر من الآخر ضده فلا يكافي صاحبه بمثله بل يكظم غيظه، وهي جرعة حلوة بل أحلى الجرعات لأنه انتصر بها على نفسه وليس في نفسه ضعف أو غيظ لكنه يتحدث عن الإنسان بصفة عامّة.
وعن أبي جعفر الباقر(ع) "قال لي أبي يا بني ما من شيء أقرّ لعينيّ أبيك من جرعّة غيظ عاقبتها صبر وما من شيء يسرنّي أن لي بذلّ نفسي حمر النعم"[الكافي"ج2 ـ ص119]. لأن ذلك ليس ذلا بل يمثل العزّ الذي لا عزّ مثله، فقيمة العزّ أن تكون قوياً في السيطرة على نقاط ضعف نفسك لأنها هي التي تذّلك، فما يذّل الناس هو سقوطهم أمام حاجاتهم، فالإنسان الذي ينتصر على حاجاته لا يمكن أن يذّل لأحد، ما يستعبدنا هي حاجاتنا وضعفنا أمام شهواتنا ولذّاتنا.
حسن الخلق:
ويقول (ع) نقلاً عن رسول الله (ص) "قال رسول الله (ص) ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق". فصلّ ما شئت وصم ما شئت وحج ما شئت وكن سيء الخلق فلا يرتفع ميزانك، ولكن كن حسن الخلق وليكن لك بعض نقاط الضعف فيما عبدت وعملت فإن حسن الخلق يمثل العنصر الذي يعتبر من أحسن ما يوضع في ميزانك، لأن الله أراد للمجتمع أن يحمي نفسه من النتائج السلبية على مستوى العلاقات من خلال حسن الخلق فهو الذي يهيئ للبيت وللناس الإحساس بالراحة والطمأنينة لأنه يعني أن الآخر عندما يعيش معك فإنه يشعر بمسؤوليته في إدخال السرور عليك وأنه لا يجلب إليك الحزن والسوء.
إدخال السرور على المؤمنين:
ويقول (ع) "قال رسول الله (ص) إن أحبّ الأعمال إلى الله إدخال السرور على المؤمنين". ويتحدث كذلك عمّا يعجبه في الرجال فيقول "إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه" [الكافي:ج2 ص130]. فإذا غضبت زوجتك أو على ولدك أو على جارك أو على الناس الذين تتعامل معهم فعليك أن توسّع صدرك لتكون الحليم أمام الغضب الذي يعمل على تهدئة غضبه حتى يتصرّف بعقله لأن من ملك غضبه ملك عقله، ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله.
الغنى في القناعة:
ويؤكد الإمام(ع) على أن غنى النفس في القناعة التي يعيشها الإنسان أمام حاجاته هو الغنى، وأن الطمع هو الفقر، فيقول "رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس". [الكافي:ج:2، ص:56] لأن ذلك يذلّك ويسقطك ويجعلك خاضعاً لهذا الطمع ليستغلك الناس فيما لا تؤمن به ولا تريده مما قد يؤدي بك إلى الانحراف بينما يؤدي الانتصار على الطمع إلى التمرد على كل عوامل الشر في نفسك ليجتمع الخير لديك مما تملكه من نفسك، وليس معنى أن تقطع الطمع عمّا في أيدي الناس أن لا تعمل معهم ولا تتعامل معهم ولا تطلب الربح منهم، ولكن عليك أن تطلب الربح من خلال جهدك مع الناس وعملك معهم... اقنع بجهدك وبالنتائج التي تحصل عليها {ولا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه}[طه:131]. بان تبذل نفسك في مقابل ما تأخذ، وقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) "أكرم نفسك عن كل دنيئة". أي عن كلّ ما يسقط شخصيتك وإنسانيتك وكرامتك "وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تعتاض بما تبذله من نفسك عوضاً". فلو حصلت على مال الدنيا وقدّمت نفسك في ذلك أو جزءا منها فأنت مغبون في هذه المعاملة لأنك لن تستطيع أن تحصل في مقابل ذلك عوض ما قدّمت إلى الآخرين. "ومن لم يرج الناس في شيء". أي في رغباته "وردّ أمره إلى الله عزّ وجل". وشعر أن الرزق منه وأن عليه أن يعمل كما كلّفه الله ليرزقه "استجاب الله عزّ وجل له في كل شيء".
درس الذكرى:
أيها الأحبة: إذا أردتم أن تنفتحوا على أئمة أهل البيت (ع) فانفتحوا عليهم من خلال الإسلام وفكره وأخلاقه وروحيته، فقد ورد عن الإمام علي بن الحسين(ع) قوله "أحبّونا حبّ الإسلام". أن نحبّهم من خلال الإسلام في شخصياتهم ومن خلال الإسلام في خطّهم ومن خلال الإسلام في دورهم، لأن السير مع الذين يجسّدون الإسلام فكراً وعاطفة وحركة ومنهجاً ووسيلة وهدفاً هو الذي يقرّبنا من الله ويقودنا إلى سعادة المصير.
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السابعة 10 شعبان/1420هـ المصادف: 19/11/1999م
في ذكرى مولد الإمام المنتظر(عج)
يوم المستضعفين
الخطّ الإسلامي: لا تستضعف نفسك، بل حاول أن تكون قوياً فليس هناك إنسان ربّاً لإنسان.
يوم المستضعفين
مشكلة البعد الواحد
قيمة الإنسان
سيادة الإنسان
قرار الهجرة
مواجهة الاستكبار
نتائج الاستضعاف السلبية
الشيطان يتنصّل من المسؤولية
القوة المنشودة
من هم جنوده؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
يوم المستضعفين:
نلتقي في هذه الأيام بذكرى مولد الإمام الحجة(ع) الذي كانت أفضل تسمية ليوم مولده هي(مولد المستضعفين) لأن مسألة الاستضعاف في واقع الإنسان في الأرض هي مسألة المقهور الذي يقهر فكره فلا يسمح له أن يفكر بحرية، ولا يسمح له أن يتطلب الفكر من مواقعه الأصلية، بل قد يفرض عليه هنا وهناك الجهل باسم الفكر، والتخلف باسم التقدم، فيختزن ذلك من خلال الظروف الموضوعية التي تحيط به أو تفترس ذاته.
ويمثل الاستضعاف أيضاً استضعاف القوة بمعنى أن تتحرك القوة هنا وهناك من أجل أن تستغل ضعف الإنسان، لأن الاستضعاف قد يكون استضعافا اقتصادياً يتمثل في الفئات الفقيرة المحرومة التي لا تحصل على العيش الكريم، أو الاستضعاف السياسي الذي يتحرك فيه شعب هنا وشعب هناك تحت تأثير سلطات ظالمة مستكبرة قاهرة تملك من وسائل القوة ما تستطيع بها أن تسقط حركة الشعوب في تقرير مصيرها، أو حركة الإنسان في تأكيد إرادته في القضايا التي تمثل إنسانيته.
وهناك الاستضعاف الأمني الذي يعيش فيه الإنسان الذي لا يملك سلاحاً ولا المواقع الأمنية التي تحمي له أمنه وتحفظه من سلطة الآخرين في أجهزتهم التي يملكونها هنا وهناك، وبذلك تتحول مشكلة الحياة في مواقعها كلها إلى مشكلة استكبار يفرض نفسه على الضعفاء، واستضعاف يختزنه الضعفاء ليستضعفوا أنفسهم وليخضعوا لاستضعاف الآخرين لهم.
مشكلة البعد الواحد:
ولعل قيمة الخط الإسلامي إنه تجاوز كل عناصر البعد الواحد في مشكلة الحياة بالنسبة للإنسان فلم يركز المشكلة عند الجانب الاقتصادي، وإن كان قد أعطاه بعض الدور في حركة المترفين، ولم يتوقف عند الاستكبار العسكري ولم يتوقف عند عنصر الرأسمال هنا، أو عنصر الجنس هناك، أو بقية العناصر ذات البعد الواحد وإنما اعتبر المسألة في الحياة هي مشكلة المستضعفين بمواقع الاستضعاف كلها، والمستكبرين في مواقع الاستكبار كلها.
إنه يقول للإنسان لا تستضعف نفسك بحيث تسقطها عند الضعف، بل حاول أن تكون قوياً، وأن توحي إلى نفسك بالقوة من خلال فكر يحمل إليك القوة في الارتفاع بإنسانيتك إلى أن تقابل الإنسان الآخر على أساس أن تكون في خط المساواة له، فليس هناك إنسان ربّاً لإنسان، وليس هناك ـ في معنى الإنسانية ـ إنسان فوق إنسان بعيداً عن الدرجات في معنى القيمة في العلم أو في الإيمان أو ما إلى ذلك.
وبذلك رأينا أن الله يقول لهؤلاء الذين يخضعون ويتعبدون لإنسان مماثل لهم {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم}[الأعراف:194]. {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله}[آل عمران:64].
قيمة الإنسان:
فالإنسان هو أخو الإنسان يماثله ولا يرتفع عنه إلا بارتفاع مستوى إنسانيته في غنى الإنسانية من خلال غنى العقل أو غنى الروح أو الحركة. فليس هناك ميزة لإنسان على إنسان آخر في درجة إنسانيته "كلكم من آدم وآدم من تراب". وفي الخط القرآني {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}[الحجرات:13]. فالقيمة هي فيما تنطلق به إنسانيتك لتكبر بالعلم {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}[الزمر:9]. وبالعمل {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}[الملك:2]. وبالإيمان {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة:18]. أن ترتفع من خلال القيمة الكامنة في حركية الإنسان فيك لا من خلال شيء خارج إنسانيتك. فالمال ليس أنت، والسلاح ليس أنت، وإنما المال هو شيء تنتجه ليكون مضافا ومنسوباً إليك لكي تستخدمه وتستعمله، فهو ليس السيد بل هو الخادم، والسلاح ليس سيدا بل أداة تدافع بها عن إنسانيتك. فما يفضلك عن الآخر هو ما يأتي من داخل إنسانيتك لا ما يأتي من هنا ومن هناك.
سيادة الإنسان:
فالإسلام ـ على ضوء هذا ـ يريد للإنسان عندما يحاول إنسان آخر أن يفرض عليه سيادته وسيطرته، أن يقف أمامه موقف الإنسان الذي يحترم إنسانيته في ذاته أمام الإنسان الآخر، فلا يسقط إنسانيته أمام أحد حتى الذين جعلهم الله في موقع القيادة لك... وعليه أن يغني إنسانيته بما يعطونه إياه مما يغني الإنسان، فالأنبياء لا يريدون للناس أن يسجدوا لهم وأن يستعبدوا أنفسهم لهم، بل يريدون للناس أن يكونوا مؤمنين بهم سائرين معهم في خط الرسالة. وإن الأنبياء لا يبحثون عن أتباع يستعبدونهم لحساب ذواتهم لأن النبي يفقد ذاته أمام رسالته بعدما حوله الله إلى رسالة تتجسد، بل إن الأنبياء يبحثون عن الرساليين الذين يؤمنون برسالتهم لكي يبلغوها للناس {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله}[الأحزاب:39].
قرار الهجرة:
لذلك فإن الإسلام يقول لك: كن قويا ولا تخضع للمستكبر، بل حاول أن تسقط استكباره، وعندما بعرض عليك سيطرته ويحاصرك من جميع الجهات ليفرض عليك فكره مما لا تقتنع به من فكر، أو ليفرض عليك خطه مما لا تقتنع به من خط، أو ليفرض عليك موقفه أو موقعه مما لا تقتنع به من موقع أو موقف، حاول أن تبحث عن أرض لا يملك فيها السيطرة لتحصل على قوة أخرى لتعود بعد ذلك لتواجه قوته بقوة أخرى. ولذلك لم يجعل الله الضعف الذي يمكن أن يجد الفرصة ليتحول إلى قوة مبررا {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض}. لماذا انحرفتم واتخذتم مواقف سلبية في غير الخط المستقيم؟ لماذا اعتنقتم أفكارا غير فكر الحق؟ لماذا شاركتم في الحرب التي لا شرعية لها؟ {ظالمي أنفسهم}. من خلال سلوكهم الذي يبتعد عن خط العدل مع النفس الذي يوجهها إلى ما في نجاتها في الدنيا والآخرة. {قالوا كنا مستضعفين في الأرض}. لقد فرضوا علينا الموقف والحرب معهم والفكر الذي يريدونه والسياسة التي يخططون لها ولا حول ولا قوة لنا. {قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}[النساء:97]. فليس الموقع الذي انتم فيه هو الدنيا كلها وليست الأرض التي تعيشون فيها تحت رحمة هؤلاء هي الأرض كلها{يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة}[العنكبوت:56].
فأولئك لا يملكون مبررا ولا يقبل لهم عذر لأنهم استراحوا للضعف وللراحة المتخلفة الذليلة في مواقعهم ولم ينفتحوا على مواقع القوة الأخرى. {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا}. فهؤلاء الذين أطبقت الظروف على مواقعهم فحاصرتهم فيما يشبه الزنزانة سواء كانت ظروفاً فكرية حاصرتهم في فكر معين، لأنهم لا يملكون حرية الانفتاح على الفكر الآخر، ولا يجدون الوسيلة للتعرف عليه، ولا ينطلق الاحتمال في أذهانهم لوجود وجهة نظر أخرى، فهم لا يملكون القاعدة التي يرتكزون فيها على خط الإيمان، بل إنهم لا يجدون الفكر الذي يبررون فيه لأنفسهم الكفر لأن الكفر لا يملك قاعدة في ذاته.
أو في الجانب السياسي فيما إذا كانت الحواجز تحيط بهم من كل جانب ـ أو في الجانب العسكري فيما إذا كانوا لا يملكون الدفاع عن أنفسهم ولا الهجرة إلى بلد آخر {ولا يهتدون سبيلا}. {فأولئك عسى الله}. فالله لم يرد أن يعطيهم الأمن بشكل حاسم حتى إذا شعروا بوجود مشكلة في المصير فربما يبحثون عن بعض الوسائل الخفية ليدققوا أكثر {أن يعفوا عنهم وكان الله عفوا غفورا}.
ثم يؤكد سبحانه وتعالى لكل المستضعفين في الأرض الذين يفرض عليهم المستكبرون في أماكنهم ما يريدون {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيرا وسعة}. ثم يعطي الله للإنسان المهاجر البشارة {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت}. وهو في الطريق {فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما}[النساء:97 ـ 100]. فالله تعالى يريد أن يقول لك إذا كانت لك أية فرصة للخروج من الطوق الذي يفرضه عليك المستكبر فلا عذر لك إذا بقيت تعيش تحت وطأة استكباره عندما يفرض عليك الانحراف في ذلك.
مواجهة الاستكبار:
ويحدثنا اله سبحانه وتعالى عن جماعة من الناس واجهوا المستكبرين في استكبارهم بقوة، وهذا ما نقرأه في قصة صالح (ع) عندما جاء المستكبرون إلى المستضعفين الذين آمنوا بصالح وهم يريدون أن يقنعوهم بطريقة الضغط النفسي {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه}. هل يمكن أن تقتنعوا بذلك؟! هل لديكم علم بذلك؟ أم أنكم أخذتم المسألة بطريقة عاطفية {قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون}. فلقد رفعوا أصواتهم ووقفوا في خط المواجهة{قال الذين استكبروا}. عندما لم يستطيعوا أن ينحرفوا بهم {إنا بالذي آمنتم به كافرون} [الأعراف:75 ـ76].
وعندما واجه السحرة الذين أرادهم فرعون أن يهزموا موسى(ع) فقد سجدوا جميعاً، وعندما هددهم فرعون {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين}[الأعراف:124]. واجهوه بالقول {قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا}[طه:72]. لأنهم آمنوا بالحق، ولأنهم أخذوا القوة من خلال إيمانهم، فواجهوا المستكبرين ولم يسقطوا تحت تأثير الضعف الذي كانوا يعيشونه من ناحية مادية، أمام القوة المادية.
نتائج الإستضعاف السلبية:
ويريد الله سبحانه وتعالى أن يحدث المستضعفين عن النتائج السلبية التي تصيب مصيرهم في نهاية المطاف من خلال أتباعهم للمستضعفين الذين سوف يخذلونهم ويتبرأون منهم في الموقف الصعب، ويتخلصون من النتائج التي يمكن أن تحصل لهم، وذلك عندما يحدثنا الله في أكثر من حوار قرآني بين المستضعفين وبين المستكبرين في يوم القيامة فنقرأ في بعض الآيات{إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب}. من خلال خط الكفر الذي ساروا فيه ودفعوا المستضعفين إليه وأرادوا أن يتخلصوا من مسؤوليتهم عن إضلال هؤلاء التابعين، لأن ذلك سوف يزيدهم عذاباً فوق العذاب {وتقطعت بهم الأسباب* وقال الذين اتبعوا}. عندما رأوا الذين خدموهم وحاربوا معهم وسقطوا تحت تأثير أوامرهم أو شهواتهم أو امتيازاتهم أو ما إلى ذلك {لو أن لنا كرة}. رجعة إلى الدنيا فتنفتح الساحات وتتحرك المسؤوليات وتقف التحديات ويدعونا هؤلاء إلى أن نكون معهم {فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا}. ولكن لا مجال {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}[البقرة:166ـ 167]. {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم}. قفوا {أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون}. أي لا دخل لنا في عبادتكم لنا {فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين}. فلم ندعكم لعبادتنا بل إنكم كنتم تعيشون ضعف النفس الذي يجعلكم تمارسون عبادة الشخصية لمن يملك مالا أكثر أو سلطة أوسع أو علماً أكبر أو موقعاً اجتماعياً أكثر تأثيرا.. لقد عبدنا الضعف الكامن فيكم ولم ندعكم للعبادة {هناك تبلو كل نفس ما أسلفت}. يختبر كل إنسان ما أسلف من مواقف ومن علاقات والتزامات {وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون}[يونس:28ـ30]. وفي آية أخرى يقول تعالى {وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا}. وهم يشعرون بالإحباط والسقوط والهزيمة النفسية في الموقف {لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}.
الشيطان يتنصل من المسؤولية:
ويأتي دور أبليس وكأني بالناس يهرعون إليه في ساحة القيامة عندما يعرفون مكانه ليحملوه المسوؤلية كلها ظناً منهم انهم بذلك يتخلصون من تبعاتها، فهو الذي غرهم وفي القاعدة الفقهية (المغرور يرجع على من غره). {وقال الشيطان لما قضي الأمر}. وهو محام من الدرجة الأولى لأنه قضى هذا العمر الإنساني وهو يعيش معه في التزيين والخداع والتضليل والبحث عن الأساليب التي تضلل الإنسان وتحمله مسؤولية ضعفه أمامه {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان}. فقد قال الله {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}[الحجر:42]. {إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي}. فلماذا لم تفكروا في طبيعة دعوتي؟ ولماذا إذا دعيتم لا تفكرون في شخصية الداعي من هو وما هي خلفياته وما هي خطته ونتائجه؟ ولماذا تنفعلون بالصوت الذي يدعوكم ومن غير أن تفكروا فيمن أطلق هذا الصوت؟ {فلا تلوموني}. لأن هذا هو عملي، فلقد قلت لله عندما أنظرني {لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيدهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}[الأعراف:16 ـ 17]. فدوري أن أخرجكم من الجنة كما أخرجت أبويكم لأنهما كانا السبب في سقوطي وقد كنت طاووس الملائكة أعيش معهم.
{ولوموا أنفسكم}. لماذا استضعفتم أنفسكم أمامي؟ ولماذا خضعتم لي وقد كنتم قادرين على أن تقفوا للمواجهة، وقد قال الله لكم {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}[فاطر:6]. حاربوه ولا تتبعوا خطواته {ما أنا بمصرخكم} فلن أدافع عنكم إذا استغثتم أو صرختم {وما انتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم}[إبراهيم:21 ـ 22]. فوقف المستضعفون الذين استضعفوا أنفسهم أمام الشيطان صفر اليدين لا يحيرون جواباً.
{وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}[العنكبوت:25]. وهذا هو قوله تعالى{الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}[الزخرف:68].
وفي حوار آخر يقول تعالى{ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم مؤمنين* قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم}. لقد سمعتم النبي(ص) كما سمعناه، وعرفتم الحقيقة من خلاله كما عرفناها، قد نستطيع لضغط على الجسد ولكن لا نستطيع مهما كانت قوتنا أن نضغط على العقل، فلماذا أخضعتم عقولكم لنا ولم تخضعوها للحقيقة {قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذا جاءكم بل كنتم مجرمين}. فالجريمة الثقافية والفكرية الروحية تجري في دمائكم{وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار}. أي لمكركم وخطتكم في الليل والنهار بحيث أبعدتمونا عن أن نستخدم عقولنا في الفكر الحق، أو أن نفتح آذاننا لدعوة الحق، أو نحرك خطواتنا في طريق الحق {إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسرّوا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون][سبأ:31ـ33].
ويستمر الجدل والحوار إلى النار{وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً}. وهم يحترقون {فهل انتم مغنون عنا نصيباً من النار}. لقد أخذنا عنكم نصيباً من كل الضغوط التي كان يوجهها إليكم أعداؤكم وجماعتكم، فخذوا عنا نصيبا من النار التي احترقنا بها من أجلكم... شاركونا في النار كما شاركناكم في مسؤولياتكم. {قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}[غافر:47ـ48]. حكم على الذين يضلون وعلى الذين يصلون لأنهم لم يستخدموا عقولهم.
إن القرآن الكريم يؤكد للمستضعفين انه لا مبرر لهم ليكونوا تحت الضغوط ما داموا يملكون قابلية تحريك عقولهم وعناصر القوة فيهم أو يغيروا عناصر الضعف إلى عناصر قوة، أو يرفضوا ولو باللسان وبالقلب، فمشكلة المستضعفين هي أنهم يفتحون عقولكم للمستكبرين حتى تهتف نبضات قلوبهم لهم. ولذلك فإن الإنسان قد يرتاح لضعفه، وقد يخاف الضعفاء كثيرا أن يتبعوا عندما يحولون ضعفهم إلى قوة لأن القوة تكلف الإنسان جهادا وصراعا. وبعض الناس يحبون دائماً أن يتلقوا الأوامر ولا يحبون أن يواجهوها بالتمرد عندما لا تكون في مصلحتهم، ولذلك فإن هناك إنسانا يجتذب القوي إليه عندما يقف أمامه بنقاط ضعفه، فكأن نقاط ضعفه تصرخ بالقوي أن يضطهده، وهناك شعوب فيها قابلية الاستعمار، وهناك شعوب أخرى تشعر بالغربة عندما تتحرك، وثالثة تشعر بالإحباط عندما تتحرر وهكذا.
القوة المنشودة:
لذلك يريد الله تعالى للإنسان أن يعيش القوة به حتى لا يخضع لقوة الآخرين {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله}[آل عمران:28]. إن الذين يسقطون أمام الكافرين بتصور أنهم يعطونهم العزة له ينسون أن العزة لله جميعاً وأن القوة لله جميعاً. وقد أعطانا الله مثلا للمستضعفين {الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم* إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} مستغلا نقاط الضعف {فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}[آل عمران:173ـ175]. {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين* إن يمسسكم قرح فقد مس لقوم قرح مثله}[آل عمران:139 ـ 140]. إنها طبيعة الصراع {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}[النساء:104]. إن الله يحشد عناصر القوة كلها من خلال العقيدة والواقع وإنتاج الإنسان للقوة في فرص كثيرة، ولكن المشكلة هي أن بعض الناس يستضعفون أنفسهم كالذين يجلسون في البيوت وأبخرة الشاي تتصاعد في الغرفة وهم ينادونه "عجل على ظهورك" وهم ينتظرونه في استرخاء أمام التحديات كلها لأنهم لا يطيقون أن يواجهوا التحديات وهم يسبّحون بحمد الظالمين وينتظرونه، وهم يسقطون أمام المستكبرين وينتظرونه، وهم يذلون أنفسهم وينتظرونه.
من هم جنوده؟
هل يأتي من أجل أن يبرر للضعفاء ضعفهم؟ هل جنوده هم المهزومون؟ في الدعاء "إجعلني من جندك فإن جندك هم الغالبون". وتلك هي القضية.. أن تكون الغالب في فكرك، وأن تكون الغالب في إرادتك وان تكون الغالب في موقفك.. لذلك فإنه ينطلق من أجل أن يكون أتباعه القادة ومشاريع القادة ولن يكون الإنسان مشروع قائد إلا إذا عاش في عناصر إنسانيته كلها عناصر القيادة في الفكر وفي الحركة وفي الواقع. ألا تقرأون في (دعاء الافتتاح) "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله". بجهاد المجاهدين "وتذل بها النفاق وأهله". بموقف الأعزاء "وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك". من خلال انفتاحنا على المسؤولية في قيادة الواقع "وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة" ولن تكون كرامة الدنيا والآخرة إلا للرساليين والمجاهدين والمتمردين على المستكبرين، وللعاملين الذين يعدون ما استطاعوا من القوة.. وللسائرين إلى الله في دروبه {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}[المنافقون:8].
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثامنة: 19شعبان/ 1420 هـ الموافق: 27/11/1999م
في أجواء مولد الإمام المهدي (عج)
الدعوة إلى النصر
وتحقيق أسبابه
ليست القضية هي أن تحقّق النتائج في حياتك بصفتك الشخصية بل أن تحقّقها لرسالتك ولأمّتك وللمستقبل الذي يمهّد لمستقبل أوسع.
في أجواء المولد المهدويّ
دور الغيب في النصر
المرور بالتجربة الصعبة
استعجال النتائج
حركة الغيب في قصة موسى(ع)
الحياة ساحة صراع
معادلة النصر
الدعوة إلى تحقيق الانتصار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
في أجواء المولد المهدوي:
لا نزال في أجواء مولد سيدنا الحجة(عج). ولقد كان حديثنا عن المستضعفين، وأن الله يريد من الإنسان أن يكون قوياً بحيث يبحث عن عناصر القوّة في داخل شخصيته، وفيما يحيط به من كلّ العوامل والأوضاع التي تكسبه قوة الموقف في ساحة الصراع وفي حركة المواجهة، فلا عذر للمستضعفين الذين يملكون الخروج من دائرة الاستضعاف إلى دائرة القوة.
ونريد ـ في هذا اللقاء ـ أن نطلّ على سنّة الله في الكون في عملية تغيير الواقع، والوصول إلى النتائج الحاسمة التي قدّرها الله في الكون. فقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية عن إرادته في وصول رسله والمؤمنين من عباده والمستضعفين إلى النتائج الحاسمة في النصر على المستوى المحدود أو على المستوى الكبير.
وفي هذا الاتجاه فإنّ الله يحدّثنا عن أنّ الانتصار في أي موقع من المواقع، سواء كان انتصارا رسالياً في تأكيد الرسالة في وعي الناس، أو اجتماعياً أو سياسياً مما نستوحيه من القرآن الكريم، لا بدّ من أن يدفع العاملون في سبيله الثمن من حياتهم ومن ثرواتهم ومن طاقاتهم، لأنّ الله لم يجعل في سنتّه أن يصل الإنسان إلى أية نتيجة حاسمة كبيرة إلا بعد أن يستنفد كلّ عناصر القوة ليحشدها في الساحة من أجل أن تتكامل العناصر المادية مع العناصر الغيبية.
دور الغيب في النصر:
ففي القرآن الكريم نجد أنّ للغيب دوراً في بعض ما أعدّه الله للمؤمنين من النصر، ولكنّ الغيب وحده لا يحكم الحياة حسب سنّة الله في الكون، بل هناك حركة وهناك غيب يحرّك بعض الظروف والأوضاع، ويمنح بعض القوة لهذه العناصر، وهذا ما لاحظناه في بداية الدعوة الإسلامية فقد أراد الله للمسلمين أن ينتصروا في بدر ولم تكن هناك أية ظروف موضوعية من خلال عناصر القوة في واقع المسلمين في بدر.
ففي دراستنا للقرآن نلاحظ أن المسلمين لم يدخلوا في تجربة الحرب، ولم يكن لهم من خلال ظروفهم الطبيعية الموضوعية أية عناصر للقوّة من الناحية المادية والمعنوّية في الدائرة الاجتماعية، بل كان العدو هو الذي يملك القوّة المعنوية والمادية كلّها. فنحن نلاحظ أن قريشاً كانت سيدة العرب باعتبار موقعها كراعية للبيت الحرام الذي يحجّ إليه كلّ الناس، وقوتها الاقتصادية من خلال رحلتي الشتاء والصيف، موقعها الثقافي، بالإضافة إلى ما نصطلح عليه في هذه الأيام بالقوة السياسية. وربما يستوي الإنسان وجود شيء من القوّة العسكرية، بينما كان المسلمون الذين أسلموا مع النبي(ص) لا يتمتعون بكثير من هذه المواصفات لأنهم كانوا يمثّلون أفراداً من مجاميع مختلفة ومتنوعة. وأراد الله هنا أن يدخلهم في قلب التجربة، وعندما انفتحوا على التجربة الصعبة برزت عناصر الضعف فيهم، وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه وتعالى بقوله {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون* يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون}[الأنفال:5ـ6]. فنحن نلاحظ أن هؤلاء المؤمنين كانوا يجادلون النبي(ص) حتى أنّ بعضهم قال: "يا رسول الله هذه قريش ما ذلّت منذ عزّت". ولكن بعضهم ـ وهم القلّة ـ قالوا: "يا رسول الله لن نقول لك كما قال قوم موسى لموسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون ولو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك".
المرور بالتجربة الصعبة:
{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودّون أنَّ غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين}[الأنفال: 7]. حتى أنهم عندما دخلوا في التجربة تمثلت نقاط الضعف في الاستغاثة {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني مُمدكم بألف من الملائكة مردفين* وما جعله الله إلاّ بشرى ولتطمئن به قلوبكم}[الأنفال:9_10]. فالله سبحانه وتعالى أعطى الغيب دوره بهذا الإيحاء بوجود الملائكة في الساحة، ويبدو من خلال ما نستفيده من القرآن وبعض الروايات أن الملائكة كانوا يمثلون قوة معنوّية تعطي للمسلمين قوة ماديّة، وهكذا انتصر المسلمون.
فهناك جانب من الغيب تدخّل ليقويّ هذا الجانب المادي الضعيف. ونلاحظ في آية أخرى قوله تعالى {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولماّ يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب}[البقرة:214]. فالصورة هي أن النبي(ص) والمؤمنين معه ساروا في خط النصر وقطعوا شوطاً بعيداً ووقتاً طويلاً حتى أصيبوا بما يشبه الزلزال، وكادوا أن يصلوا إلى حافّة اليأس.. وبشّرهم الله سبحانه وتعالى أن نصره قريب.
ونلاحظ كذلك في وقعة الأحزاب كيف أن الله سبحانه وتعالى أدخل المسلمين في التجربة الصعبة {وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون* هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً* وإذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}[الأحزاب:10ـ12] ولكن الله سبحانه وتعالى كفى المؤمنين القتال ونصرهم بعد أن عاشوا التجربة الصعبة.
ومن هذه اللقطات التي تمثل نماذج يكثر أمثالها في القرآن الكريم، نخلص إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل الغيب في حركة المسلمين والمؤمنين في خط النصر العنصر الوحيد، بل أنه يدخل المؤمنين في التجربة الصعبة ويبتليهم ويحرّك الطاقات الكامنة في داخل مواقعهم، حتى يعطيهم الصلابة أكثر وحتى يعيشوا التجربة بقوة وفاعلية أكبر وحتى يؤسسوا المجتمع القوي الذي إذا واجهته التحديات استطاع أن يثبت إزاءها، وهذا هو سرّ التربية القرآنية الإسلامية التي تؤكد للإنسان أن يقدّم كلّ ما عنده ثم يدعو الله، وان يأخذ بالأسباب المتاحة بين يديه وكلّ ما يمكن أن يحصل في حركته في الواقع ثم يتوكل على الله.
ولذلك فإننا نرى أن في الإسلام حركة غيب تطلّ على حركة الواقع، فينفذ إلى الثغرات الموجودة في الواقع من أجل أن يسدّها لتتكامل المسيرة، وربّما تتعلّق إرادة الله بأن النصر لن يتحقّق إلاّ بعد أن تتجاوز الأمّة كثيرا من الظروف الصعبة على مستوى الأجيال، ولكن كلّ حركة تهيء الظروف الموضوعية لحركة الأخرى حتى تتكامل مع الظروف في المستقبل، ليكون النصر في نهاية المطاف.
استعجال النتائج:
ولعلّ مشكلة الكثير من الناس الذين يضعفون أمام البلاء وأمام تحديات القوّة الموجودة لدى الآخرين، هو أنهم يستعجلون النتائج قبل أن تنضج المقدمات، ويتطلّعون إلى تحقيق المسببّات قبل أن تحصل الأسباب. إن الله سبحانه نظّم الكون كلّه على أن ترتبط المسببات بالأسباب في سننه في الكون كما في سننه في الإنسان. فالإنسان يولد من خلال أسباب معينّة محدودة بزمن خاص وبظروف خاصة، والزرع كذلك ينمو من خلال ظروف طبيعية معين، والنصر والهزيمة كذلك. فلقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن أن التحديات التي تواجه المؤمنين تحتاج إلى صبر {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}[آل عمران:186]. والصبر في الإسلام ليس وسيلة تراجعية أو انهزامية، ولكنه يمثل حركة القوة التي تستعملها من اجل مواجهة نقاط الضعف في داخل شخصيتك، وفي ساحة الصراع حتى تتجاوز المرحلة لتحضّر الأسباب التي توصلك إلى النتائج.
حركة الغيب في قصة موسى(ع):
ويحدثنا الله سبحانه وتعالى في هذا الاتجاه عن بعض المؤمنين في تأريخ النبوّات، أو الذين كانوا في أشدّ حالات الضعف، ولكن الله نصرهم في حركة الثبات التي عاشوها، وحركة التحدّي التي انطلقوا بها، وفي حركة الغيب التي استمدوا منها الثقة والعزيمة وذلك في المعاجز التي حققها الله لهم كما في قصة موسى(ع). فقد كان ببنو إسرائيل مستضعفين، وكان فرعون يذبّح أبناءهم ويستحيي نسائهم، وجاء موسى وليس معه أيّ سلاح وزوّده الله بالغيب في المعجزتين(العصا) التي تحوّلت إلى ثعبان و(اليد البيضاء). وانتصر في الجولة الأولى على فرعون عندما ألقي السحرة ساجدين {قالوا آمنا برب العالمين* رب موسى وهارون}[الأعراف:120ـ121]. وثبتوا أمام فرعون الذي هدّدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم وأن يصلّبهم {قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا[طه:72]. وعندما انتصر موسى(ع) على فرعون أمام الناس كلّهم شعروا أن هنالك قوتين، فلم يعد فرعون القوّة الوحيدة، بل أصبحت هناك قوة أخرى تتمثل بموسى(ع). وبذلك تحرّكت القضية في خط التوازن، وبدأ فرعون يخطّط لاغتيال موسى(ع)، واشتدّ اضطهاد بني إسرائيل، حتى انهم واجهوا موسى(ع) بالقول {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا}[الأعراف:129]. ولكن موسى(ع) صبر، واشتدّ الاضطهاد إلى أقصى درجة وأنزل الله تسع آيات بينات، فلقد سلّط عليهم الدم والضفادع والقمل وغير ذلك مما ذكره القرآن في قصة بني إسرائيل. ولقد شعروا بأنّ هذه الحرب الخفية قد جعلتهم لا يستطيعون أن يعيشوا حياة طبيعية، فجاءوا إلى موسى يطلبون منه أن يرفع ذلك عنهم، ورفع الله ذلك عنهم تدليلا على القوة التي تمثلت في موسى بخضوعهم له. وأراد فرعون في النهاية أن يلاحقهم عندما بدأوا الرحلة إلى خارج مصر ليؤكدوا القوة الجديدة في مواقعهم الجديدة. وقد أغرق الله فرعون وأنجى موسى وبدأت رحلة بني إسرائيل من جديد، وانطلقت التجربة من جديد.
فنحن نلاحظ أنّ الله تعالى لم يحقّق النصر الأول لموسى إلاّ بعد ان دفعه ودفع قومه معه في ساحة المعركة بكلّ قوة ليواجهوا الموقف بالثبات من جهة، وليدعم الغيب الموقف من جهة أخرى. ولولا أن الغيب أسند العناصر المادية الموجودة لديهم لما استطاع موسى أن يحقق الانتصار، لأنه ليس هناك أي توازن في القوة. وقد تحدث الله عن هذه المسألة بقوله تعالى {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين* ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}[القصص:5ـ6].
الحياة ساحة صراع:
كما تحدث سبحانه وتعالى بعد ذلك عن إعطاء المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها. ونجد أنه عزّ وجل يحدّثنا في آية أخرى عن حركة الصراع، وأنّه جعل الحياة ساحة صراع، فالقوة تدفع القوّة، والتوازن في القوة يحقّق التوازن في الواقع، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره}[الحج:40]. فهل تريد أن ينصرك الله، عليك إذاً أن تنصر الله، وأن تنصر الله يعني أن تجرد طاقاتك كلّها على مستوى ما تملك من طاقة العقل الذي يخطّط، والجسد الذي يتحرك والوسائل التي تحصل عليها من هنا وهناك لتنصر كلمة الله وخطّه والقيادات التي تنطلق من خلال رسالات الله {إن الله لقوي عزيز}[الحج:40]. فمن هم الذين ينصرون الله؟ هم{الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}[الحج:41]. فهؤلاء هم الذين تبقى حركتهم في خط الرسالة حتى بعد الانتصار، لأن المشكلة في الكثير من الذين يبدأون الحركة من موقع الرسالة أنهم ينسون الرسالة وتبقى الحركة، وهذا ما قد نبتلى به في بعض الحركات الإسلامية، حيث ينطلق الحزب والحركة والمنظّمة ولو على حساب الإسلام.
معادلة النصر:
ولذلك أكّد الله سبحانه وتعالى المسألة في قوله {الذين إن مكناهم في الأرض}. أي حققّوا الرسالة والتي عنوانها الكبير(الصلاة والزكاة) باعتبار أنّ الصلاة تمثل معراج المؤمن إلى الله، والزكاة تمثل حركة العطاء عند الإنسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أنهما الوسيلتان اللتان تحقّقان الإصلاح في المجتمع وتسقطان الفساد فيه.
فلا بدّ أن تنصر الله بنصرك، والله عزّ وجل لا يحتاج إلى أن ننصره، ولكن أن ننصر دينه ورسالته ورسله وما إلى ذلك. ونقرأ في قوله تعالى ما يحدث في نهاية المطاف، وهو ما بشّرنا به النبي(ص) والأنبياء من قبل ذلك في المصلح المهدي المنتظر(عج) {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهّم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}[النور:55]. ولقد حقق الله هذا الوعد في مرحلة قريبة للنبي(ص) وترك المرحلة البعيدة للمستقبل.
ففي المرحلة القريبة حقّق وعده للرسول وللرسالة في خط الإسلام من خلال انتصار النبي(ص) من بعدما كان المسلمون يتخطّفهم الناس من حولهم، فأعطاهم الله النصر واستخلفهم في الأرض بانتصار الإسلام في المرحلة النبوية وفيما أعقبها من مراحل، ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وعبده الذين عبدوه في خط الإسلام بكل حريّة ولم يشركوا به شيئاً. فأعطي الله بذلك النموذج بمن نصروا وانتصروا، ومن أخذوا بأسباب تحقيق الوعد الإلهي في حركة الإنسان في الحياة، وكأنه سبحانه يريد أن يقول لنا ونحن نتحرك في خط المستقبل الذي ننتظره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، أن المسالة لن تكون غيباً مطلقاً، بل فيها شيء من الغيب وشيء من الجهد، وإلاّ كيف نقول في زيارتنا له (عج الله فرجه) "واجعلنا من أتباعه والمستشهدين بين يديه". فإذا لم تكن هناك مقاومة وجهاد ومواجهة للتحدّي فكيف نفسر الشهادة ؟فلا بد لنا في الموعد المنتظر أن نعدّ أنفسنا للدعوة وللجهاد ليطلّ علينا غيب الله ولينصر الله تعالى من ينصره. ومن الطبيعي أن الغيب هناك أوسع من الغيب الذي عاش في بداية الدعوة، لأنّ الدعوة كانت تريد أن تشقّ الطريق، وتحقق بعض المواقع هنا وهناك. أمّا الدعوة النهائية فإنها تريد أن تملأ الأرض بالإسلام، لتمتلئ الأرض بالعدل من خلال الإسلام.
ونستوحي من هذا أنه ما دامت المسالة في النهاية عندما يأذن الله لوليّه بالقيام، لا تخلو من جهد وجهاد ودعوة وحركة فهل تخلو الآن منهما ونحن في خط الانتظار؟ هل هي مرحلة الهدوء والإخلاد إلى الأرض والابتعاد عن ساحة الصراع، والهروب من إقامة الدولة الإسلامية هنا وهناك؟ فهؤلاء الذين يقولون بذلك لا يفهمون الإسلام الذي لم يكن لمرحلة معينة، بل كان للزمن كلّه، ولا يفهمون مسألة الانتظار ولا يفهمون مسالة النصر النهائي الذي أعطى الله نموذجه في النصر في البدايات.
الدعوة إلى تحقيق الانتصار:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ نحن مدعوون إلى الانتصار، وإلى أن نحقّق أسباب النصر في غيبته، كما أننا مدعوون أن نحقق أسباب النصر في ظهوره، وأن تكون لنا إرادة النصر في موقع هنا وموقع هناك، وكما أن الله تعالى أرادنا أن لا نيأس، أرادنا حتى ونحن نعيش الزلزال أن لا نسقط، وأن ننطلق إلى ما قاله تعالى {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}[الصف:13]. وحتى نعرف كيف نحتفظ لعقولنا بانفتاحها على الحق في خط المستقبل، ولطاقاتنا لثباتها في الواقع، علينا أن نقف أمام فكرة مهمّة وهي أن القضية ليست هي أن تحقق النتائج في حياتك بصفتك الشخصية، بل أن تحققها لرسلتك، ولأمتك وللمستقبل الذي يمهّد لمستقبل أوسع. فهب أنك لم تستطيع أن تصل إلى النتيجة النهائية لما تحبّ فهل يقال عنك إنك فاشل؟ كلا، فلا تعتبروا أنفسكم فاشلين إذا لم تحققوا أهدافكم القريبة، بل إن هناك من ينجح في الوصول إلى بعض الأهداف، وهناك من ينجح في تقريب الساحة نحو الأهداف، فكلّ جيل يحقّق مرحلة للجيل الآخر، حتى يأذن الله للنتائج أن تحصل من خلال استكمال الأسباب والظروف الموضوعية, {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}[الأنبياء:105]. فعلينا أن نعمل من أجل تهيئة هؤلاء العباد الصالحين وإعدادهم في خط الدعوة وخط الرسالة وخط الجهاد وخط الحركة، حتى يكونوا في خط الإعداد لوراثة الأرض، وحتى ترتفع رسالة الله في الأرض، وتمتلئ قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا.
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة التاسعة 26 شعبان/ 1420 هـ الموافق: 4/12/1999م
في استقبال شهر رمضان المبارك
تدريب الإرادة
على تقوى الله
للعبادات دائرتان: عبادية هي سرّ التعبّد لله. وتربوية تتمثل بإيحاءات العبادة لعناصر الشخصية الإنسانية.
على أعتاب شهر رمضان
الدائرة العبادية
الدائرة التربوية
حديث القرآن عن شهر رمضان
هدى.. وبيّنات
تدريب الإرادة
الله رفيق بعباده
تكبير الله تعالى
مفتاح شهر رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
على أعتاب شهر رمضان:
بعد أيام نستقبل شهر رمضان وهو شهر الإسلام وشهر الطهور كما عبّر عنه الإمام زين العابدين(ع). وهو (شهر أُمتي) كما عبّر عنه رسول الله (ص)... وعندما نستقبل هذا الشهر الكريم فإننا نحاول أن نكتشف فيه العناصر التي تتصل ببناء الشخصية الإسلامية، لنّ هناك نقطة مهمّة لا بدّ لنا من أن نتأملّها في العبادات كلّها وهي أن الله سبحانه وتعالى جعل للعبادات دائرتين:
الدائرة العبادية:
الدائرة الأولى هي سرّ التعبّد لله، فالإنسان في العبادة يشعر بمعنى العبودية لله الذي يفرض عليه أن يذوب فيه، وأن يتجاوز المعاني الذاتية في شخصيته فينحني عقله بين يدي الله، وينحني قلبه أمام الله، وينحني جسده بين يدي الله راكعاً يعظّم الله في ركوعه، وساجداً يعظّم الله في سجوده، ومسلماً مستسلماً يعظم الله في قيامه وفي الكلمات كلّها.
وعندما تتعبد خلايا الإنسان في الصوم لربّها فإنها تجد العناصر التي تجدّد لها حيويتها خضوعاً لله بعد أن يعيش الإنسان الصوم في وعيه كلّه ليقدّم لله صومه. وعندما ننفتح على الحج فإن الإنسان يُحرم هنا ليصوم في إحرامه عن كثير من الأشياء التي تشتهيها نفسه، ويطوف حول البيت ليختصر في طوافه الساحات التي يحبّها الله وهي الساحات التي يطوف بها في الحياة. وان يكون سعيه في طريق الله. وأن يتأمل هنا وهناك، وأن تكون المواقع كلّها والمواسم كلّها خضوعاً لله يمارسها الإنسان وغن لم يفهم سرّها ويعي معناها. ويتمثل الإنسان في العبادة المعنى الذي يجعله يسقط ذاته في معنى عناصره الشخصية ليذوب في الله وليشعر أنه ليس شيئاً أمام الله إلا من خلال ما منحه الله من الإحساس بالشيئية في معنى العبودية.
الدائرة التربوية:
وأمّا الدائرة الثانية، فهي الدائرة التربوية والتي تتمثل بإيحاءات العبادة لعناصر الشخصية الإنسانية. فنحن نقرأ ـ مثلاً ـ في القرآن الكريم {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}[العنكبوت:45]. فالإنسان عندما يصلّي ويستجمع عناصر الصلاة كلّها فيما يقرا وفيما يركع ويسجد ويجلس ويقوم، فإنه ينفتح على عالم يشير إليه بأن يكون الإنسانَ الإنسان الذي يعيش معنى أخلاقيته، وليمتنع عن كلّ ما يتجاوز الحدود، وليبتعد عن كلّ ما ينكره الله وينكره الناس.
وعندما يصوم الإنسان فإن المراد من الصوم أن يربّي الإنسان على التقوى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}[البقرة:183]. فأن تصوم لله وتجسَّد عبوديتك له يعني أن تكون الإنسان الذي يحركه صومه ليكون الإنسان الذي يراقب عقله حتى لا يدخل في عقله إلاّ الحق، ويراقب قلبه حتى لا يدخل في قلبه إلا الحب، ويراقب حركة جسده حتى لا يتحرك إلا في الخير، فأن تتقي الله يساوي أن تعيش مواقعك في الحياة فلا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى حتى تعلم أن ذلك لله رضا. وبذلك فإن الصوم يقول لك: كن الإنسان المتوازن في أفكاره وعواطفه ومشاعره وحركته، لأنّك كلّما كنت تقياً أكثر كنت متوازناً أكثر، ولأنّ الانحراف عن التقوى هو انحراف عن خطّ التوازن في الحياة في كلّ ما تفعل وفي كلّ ما تترك.
حديث القرآن عن شهر رمضان:
وعلى ضوء هذا يمكننا أن ندخل إلى شهر رمضان من خلال الآيات التي تحدثت عن الشهر بالذات حيث يقول تعالى {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هُدىً للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}[البقرة:185]. إننا نلاحظ في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى وهو يتحدث عن شهر رمضان ينقلنا من خلال إيحاءات هذا الشهر إلى القرآن، ليحدثنا عن أن الله أنزل فيه القرآن، وإذا عرفنا أن الله أنزل القرآن من أجل أن نتفهّمه وأن نستوحيه وأن نستضيء به وأن نخرج به من الظلمات إلى النور، وان نعمل به، فإن معنى ذلك أن شهر رمضان ارتبط بحركية القرآن في حياة كل إنسان، لأن الله أنزل القرآن فيه من أجل أن يعيش الناس القرآن كلّها في أجواء هذا الشهر.
فلقد انطلقت أول آية أنزلها الله في أجواء الإنسان من خلال هذا الشهر فاحتضن الشهر القرآن ودخل فيه دخولاً حيوياً، كما لو كان القرآن يجري في عروقه.. في ثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه، وبذلك تحوّل الزمن إلى روح قرآنية الإنسان فيها وهو يستوحي القرآن، وحيث لم ينزله في شهر رمضان مجرداً بل عقّبه بقوله تعالى {هدى للناس}. فقد أنزل الله القرآن في هذا الشهر ليهتدي الناس بمفاهيمه وعقائده وشرائعه ومناهجه وأساليبه وأخلاقياته، مما يعني أن عليك ، وأنت تقرأ القرآن في هذا الشهر ، أن تقرأه قراءة الإنسان الذي يبحث عن الهداية في قراءته لا الإنسان الذي يستهلك الآيات في عجالته. وأن تقراه لتكتشف المتاهات التي تتحرك بها في الحياة، والأضاليل التي وضعتك ظروفك فيها حتى تتحسس حالة الضياع والحيرة التي تتخبط فيها هنا وهناك، لتقرأ القرآن وتبحث عن أي هدى تهتدي به عندما يحدّثك القرآن عن الشريعة إذا انحرفت عنها. وأي هدى تهتدي به في الحياة إذا ضلّت بك الدروب لتكتشف الطريق المستقيم، وأي هدى تهتدي به إذا اختلطت بك المفاهيم والأفكار التي تختزنها في عقلك، وإذا تنوعت الأصوات هنا وهناك فأي صوت تسمع؟ إن عليك أن تسمع صوت الله ولا تسمع أي صوت آخر، لأنك عندما تسمع صوت الله فإنك تسمع الحق كلّه في كل شيء، تشعر أن الفراغ يمتلأ بالله، وحتى صوت الرسول هو صوت الله، وحتى صوت الأولياء المعصومين هو صوت الله، فلا تستغرق في ذواتهم وإن كانت ذواتهم تعيش مع الله، بل استغرق في رسالتهم فهم التجسيد العمليّ للرسالة.
هدى وبيّنات:
{هُدى للناس}، وحيث أنك عندما تقرأ القرآن وأنت على حالة من الضياع والحيرة والتمزّق والتيه فإنك بعد قراءة القرآن تشعر انك انفتحت على خط جديد وعلى الطمأنينة السكينة وزيادة الإيمان {وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً}؟[الأنفال:2]. وإذا دخلت ساحة الصراع وقدّم الناس برهاناً هنا وهناك وقرأت القرآن فإنك تقرأ في القرآن البيّنات التي توضّح الحقيقة فتهديك إليها، والبيّنات التي تبيّن لك الخط الفاصل بين الحقّ والباطل، فهي الفرقان الذي يفرق بين هذا وذاك. فلا يختلط الباطل عندك بالحق ولا يختلط الحق عندك بالباطل ولا يمتزجان ببعضهما البعض، بل ترى الحق حقّا في القرآن فتتبعه وترى الباطل باطلاً في القرآن فتجتنبه، فهو يرفع عنك التشابه الذي يوقعك في الحيرة.
والله تعالى في هذه الآيات لا يريدنا أن نستمع إلى وصف القرآن أن ندخل في عالمه، وأن عالمه هو عالم الهدى وعالم البيّنات التي توضّح الحقيقة وتفصل بين الحق والباطل، وتوحي إلينا أن شهر رمضان لا ينفصل عن القرآن، فالله أنزل القرآن فيه من أجل أن يعيش الناس في هذا الشهر حتى لا يكون شهر رمضان فارغاً من كلام الله ومن مواعظه ووصاياه ونصائحه وشريعته وما إلى ذلك.
تدريب الإرادة:
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}[البقرة:185]، أي إن على من حضره وعاشه أن يصومه، فإن الله أراد للإنسان في شهر رمضان آن يكون إنسان القوة في الإرادة، والوعي في مضمون الإرادة. فليست المسألة فقط أن تكون إرادتك قوية، بل أن ذات مضمون ينفتح على الحق وعلى ما يحبه الله ويرضاه ولذلك فإنه سبحانه وتعالى أراد الصوم تدريباً لإرادتك في خط التقوى، وليس تدريباً لإرادتك لتكون امتيازا شخصياً لك فتحرّكها في خط الشرّ أو خط الضلال أو أي خط منحرف آخر. فالله في الوقت الذي يريد للإنسان أن يكون قوي الإرادة، يريده أيضاً أن يكون واعي الإرادة حتى لا تتحرك إرادته في مواقع الاهتزاز في خطوط الشر والباطل.
ولذلك يريد الله لإنسانيتك أن تكون في عناصرها الحيّة غنيّة في مبادئك. والكثير من الناس يحاولون إغناء شخصياتهم بالقوّة والبطولة والصحّة والعافية والموقع ولمكن من دون مضمون ينفتح على المبادئ. حيث يقول الإمام زين العابدين(ع) الذي أطلق عليه بعض الأدباء أنه (شاعر الله) "واحفظنا من بين يدينا ومن خلفنا وعن يميننا وعن شمائلنا ومن جميع نواحينا حفظاً عاصماً عن معصيتك هادياً مستعملاً لمحبتك". فلا أريد يا ربّ أن تحفظني حفظاً استخدمه في معاصيك أو أتحرك به على خلاف طاعتك، أو ابتعد به عن مواقع محبّتك، بل اعطني الحفظ الذي يجعلني الإنسان الذي ينفتح عليك بمسؤولياته كلّها وبمحبته كلّها. ونقرا في دعاء يوم الثلاثاء: "واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير والوفاة راحة لي من كل شر". فإذا أعطيتني ـ يا ربّ ـ الحياة فلتكن حياتي في الخط التصاعدي باتجاه الجنّة. وإذا قضيت عليّ بالوفاة فاجعل الوفاة نهاية الشرور. وفي دعاء(مكارم الأخلاق) يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) "وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك". فعندما يكون عمري مبذولاً في عناصره كلّها في سبيل طاعتك فأمدد في عمري. "وإذا كان طاعتك". فعندما يكون عمري مبذولاً في عناصره كلّها في سبيل طاعتك فأمدد في عمري. "وإذا كان عمري مرتعاً للشيطان". يذهب الشيطان به ويجيء. "فاقبضني إليك" فأنا لا أحب العمر الذي يكون في قبضة الشيطان وأجوائه، بل أحب الحياة في خدمتك، أما الحياة التي تكون في خدمة الشيطان فهي موت يأخذ معنى الحياة، فلا أريدها. "قبل أن يسبق موتك إليّ أو يستحكم غضبك عليّ". وفي (دعاء كميل) "لأنه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض يا سيدي فكيف وأنا عبدك الضعيف الذليل المسكين المستكين". ونقرأ كذلك في دعاء أبي حمزة الثمالي في السحر" "واجعلني ممن أطلت عمره وحسّنت عمله وأحييته حياة طيبة في أدوم السرور وأسبغ الكرامة وأتم العيش". وقد ورد في الحديث "لا تتمن الموت إلاّ بشرط وثيق". أي لا تتمناه من خلال أزمة نفسية أو عاطفية أو اقتصادية أو ما أشبه ذلك، بل تمناه عندما تستكمل كل مسؤولياتك في الحياة، وعندما تشعر انك عندما تلاقي وجه الله فإنك تلاقيه وأنت نقي الثوب من كلّ الذنوب.
ومن هنا ـ أيها الأحبة ـ فإن مسالة تربية الصوم للإرادة في مضمونها الإسلامي هي معنى تقوى الله، وإذا عرفنا أن معنى تقوى الله هي أن لا يراك حيث نهاك وأن لا يفقدك حيث أمرك، نعرف أن تقوى الله تجمع كلّ مفردات حياتك فيما تأخذ به وفيما تدع.
الله رفيق بعباده:
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً}، يضرّه الصوم، أي يضرّ مرضه، أو على سفر، مهما كان السفر متعباً أو مجهداً {فعدة من أيّام أُخر}.
فالله جعل الصوم فريضة على الصحيح جسدياً وعلى الحاضر في بلده أو المقيم فيه، أما المريض والمسافر فأن بإمكانهما أن يصوما في أيام أخرى غير شهر رمضان عندما يصحّ المريض من مرضه، وعندما يحضر المسافر من سفره. وهنا تأتي اللفتة الإلهية الحنونة الرؤوفة {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[البقرة:185]. فالله لا يفرض عليكم تكاليفه مما حرمه وأوجبه من أجل أن يثقل عليكم، بل إنّ الله كلّفكم بما يتيسر لكم. {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. فلاّ يكلّفكم بالصوم في المرض لأنه يمثل عسراً على الصحة، ولا يكلفكم الصوم في السفر لأن السفر يمثل حالة عدم الاستقرار. ولذلك لا يريد لك الله، في الحالة التي لا تشعر فيها بالاستقرار كما تشعر به في بلدك، أن يفرض عليك ما يثقل وضعك.
وهكذا كانت القاعدة، قاعدة اليسر وقاعدة نفي الحرج{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:87]. وقاعدة لا ضرر ولا ضرار تمثل الهيكلية التشريعية التي تحدّد كلّ التكاليف مما لا يكون فيه حرج ولا يكون فيه ضرر ولا يكون فيه عسر. ولهذا يعرّفنا الله أنه يرحمنا في تشريعه كما يرحمنا في رزقه وفي عافيته وفي أمنه. ومن خلال ذلك فالتشريع الإلهي هو رحمة من الله لأنه تشريع يرتكز على اليسر ولا يرتكز على العسر. ولذا ورد في الدعاء الذي ندعو به {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا}[البقرة:186]. والإصر هو الثقل، ولذلك لم يثقل الله علينا فلم يكلًّفنا ما لا طاقة لنا به. {ولتكملوا العدة} لتصوموا شهر رمضان من أوله إلى آخره حتى يكون شهر رمضان صوماً بكلّه. {ولتكبروا الله على هداكم}. لتقفوا بين يدي الله وتتصوروه في مواقع كبريائه وفي مواقع عظمته، وترون أن مواقع كبريائه وعظمته ورحمته انه هداكم من خلال ما أودعه في كيانكم من وسائل الهداية التي تهديكم سبل الحياة. ومن خلال ما هداكم لدينه. فأن تكبّروا الله أن تعرفوا عظمة الله في الهداية التكوينية التي هداكم بها في وجودكم وفي ما يحيط بكم، والهداية التشريعية التي هداكم بها في ما خطّه لكم من سبل حركتكم في الحياة{ولعلكم تشكرون}[البقرة:185]. عندما تنفتحون على نعم الله المادية والروحية والمعنوية لتزدادوا شكرا لله عندما تتصورون الحقيقة {وما بكم من نعمة فمن الله}[النحل:53]. {وإن تعدوا نعمة الله لا تُحصوها}[النحل:18]. ولعلّكم تشكرون من خلال وعيكم لنعم الله سبحانه وتعالى، وليزيدكم الله في شكره.
تكبير الله:
فلا بد أن نختزن في شهر رمضان أن نكبر دائماً عندما نستشعر هدايته، وقيمة التكبير لله أنها تصغّر عندك كلّ من عدا الله عندما تقول (الله أكبر). وأنه ليس هناك مع الله أحد فلا تدعو مع الله أحداً. ولذلك علينا أن لا نعطي المخلوق، مهما كان عظيماً في مواقعه، أية صفة من صفات الله التي يختص بها كالخالقية والرازقية والقدرة المطلقة والعم المطلق وما إلى ذلك. ومن هنا كانت هذه الكلمة(الله أكبر) هي بداية الصلاة، وهي التي تتحرك بها في الصلاة من فعل إلى فعل لتشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وكبريائه الذي لا يدانيه فيها أحد "عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم". كما يقول الإمام علي(ع) في صفة المتقين.
ويقول الإمام زين العابدين في دعاء يوم الفطر "كل جليل عندك صغير وكل شريف في جنب شرفك حقير". ومع أن محمداً (ص) سيد الخلق فإن الله علّمنا أن نقول "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" ليعرّفنا أن عظمته تنطلق في خطين: خط عبوديته لله كأصفى ما تكون العبودية، وخط رسالته التي حملها من الله سبحانه وتعالى، وأن نتصور النبي والأنبياء والأئمة والأولياء عبيداً لله.{لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}[الأنبياء:27]. وعباد الله الذين اصطفاهم لرسالته، والذين أكرمهم في مواقعهم، وأن لا نرتفع بهم إلى درجة الألوهية أو إلى شيء من هذا القبيل، بل أن يبقى تصورنا لهم في موقع العبودية، وآية عظمتهم أنهم ارتفعوا في مواقعهم من خلال عبوديتهم لله. وهذا ما قاله إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وهو سيد الموحدين بعد رسول الله(ص) "هلك في اثنان محب غال" يرفعنا إلى أعلى من درجة العبودية "ومبغض قال" ينزل بنا إلى أسفل الدرجات، والنمط الوسط هو التوازن بين هذا وذاك. ثم جاءت الآية التي انطلقت في أجواء شهر رمضان {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}[البقرة:186]. كأن الله يريد أن يقول لنا في شهر رمضان وفي غير رمضان {وقال ربكم ادعون أستجب لكم}[غافر:60]. تعالوا إلي.. لا تتصوروني بعيداً عنكم إن في عالم الغيب أو عالم المطلق لا يبلغ كنهي أحد ولكنّي قريب برحمتي وبألطافي وبعفوي ومغفرتي ورأفتي. فإني قريب لست بعيدا عن آلامكم.. لست بعيدا عن أحلامكم.. لست بعيدا عن قضاياكم.. لست بعيداً عن مشاكلكم.. تعالوا إلي فأني قريب "يا من هو أقرب ألي من حبل الوريد" {أجيبُ دعوة الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي}. إني أرى هذه الكلمة من أكثر الكلمات حنانا إلهياً، فكان الله سبحانه وتعالى يقول تعالوا إلي ولا تبتعدوا.. لماذا أنتم بعيدون عني وأنا القريب إليكم أجيب دعوة الداعي إذا دعاني.. ماذا عندكم من آلام.. تعالوا إلي واطلبوا مني أن أزيلها.. ماذا عندكم من أحلام تعالوا إلي واطلبوا مني أن أحققها.. ماذا عندكم من مشاكل تعالوا إلي واطلبوا مني أن أحلها..{أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي}. لماذا أناديكم ولا تجيبونني، "الحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب دعائي، والحمد لله الذي أرجوه ولا أرجو غيره ولو رجوت غيره لأخلف رجائي، والحمد لله الذي وكلني إليه فأكرمني ولم يكلني إلى الناس ليهينوني". وهكذا يعلمنا الله أن نستجيب له {وليؤمنوا بي}. لأني الله الذي لا اله إلا هو {لعلهم يرشدون}[البقرة:186]. فإن هذا هو طريق الرشاد.
مفتاح شهر رمضان:
أيها الأحبة: هذا هو مفتاح شهر رمضان فلا تستعملوا المفاتيح التي لا تدخلكم إلى شهر رمضان كالكثيرين الذين يحوّلون هذا الشهر لهوا ورقصا ولعبا وغناء وسكراً وعربدة كالكثير من الدول التي تستقدم الفرق الفنية الغنائية الراقصة حتى تشغل الناس في شهر رمضان عن ربّهم وعن أنفسهم وهم يبرّرون ما يصنعون بالقول: إن الناس متعبون من الصوم فلا بد لنا أن نريحهم بهذه البرامج اللاهية.. إن الصوم الذي يتعب الناس لا يحتاج إلى راحة في اللهو والعبث، ولكنه يحتاج إلى راحة في العروج إلى الله وفي الحديث إلى الله وفي الخشوع لله وفي البكاء بين يدي الله وفي الفرح بطاعة الله.
أيها الأحبة إن لله عتقاء في هذا الشهر فاطلبوا من الله أن تكونوا من عتقائه، وأن أبواب الجنة في هذا الشهر مفتحات، كما يقول رسول الله(ص) فاسألوا الله أن لا يغلقها عنكم، وان أبواب النار في هذا الشهر مغلّقات فاسألوا الله أن لا يفتحها عليكم، ويد الشياطين في هذا الشهر مغلولة فاسألوا الله أن لا يسلّّطها عليكم. فقد دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتهم فيه من أهل كرامته أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة العاشرة: 8 شوال 1420 ه المصادف 1/1/ 2000م
كيف نحوّل التوحيد إلى حركة؟
في إسلام الرسالات ينطلق التوحيد ليكون الرسالة كلّها
خط التوحيد
ساحة الشرك
حقيقة التوحيد
البدعة شرك
شرك الطاعة
هل هو حجْرٌ على الفكر؟
إتخاذ الأرباب
الطاعة في المعصية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
المحاضرة الحادية عشرة:
16 شوال 1420 ه المصادف 22/1/ 2000م
مواصفات العالِم الحق
لن تكون عالماً إذا لم يتسع صدرك للذين يختلفون معك
صفة العلماء
العلم كقيمة
وقار العلم وتواضعه
تصديق الفعل القول
حقّ الفقيه
التفهّم.. التدبّر.. التفكّر
الحلم والصمت
العالم خادم للناس
تكلّف العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
صفة العلماء:
في أحاديث الأئمة الهداة من أهل البيت(ع) حديث عن صفة العلماء، لأنّ للعلماء دورهم الكبير في التأثير على الأمّة، فإذا كانوا في مستوى العلم وفي مستوى الرسالة فإنّهم يستطيعون أن يرتفعوا بالأمّة ليعطوها من العلم الحق، ومن الرسالة العدل والخير والانفتاح، وينطلقوا من هذا وذاك وقبل ذلك ليفتحوا عقل الإنسان وقلبه وحياته على اللّه، لأنّ أيّ علم لا ينفتح على اللهّ فهو جهل،فالعلم مهما امتدّ في معرفة أسرار الكون، وفي معرفة امتدادات النعم، وفي معرفة سرّ الوجود لا يمكن أن يكون علماً في العمق، إذا لم يعرف خالق الكون ومبدع أسراره وباعث وجوده. ولذلك فأن تكون العالم يعني أن لا تطفو على السطح، فإنّ الذين يتحرّكون في السطح لا يعرفون من العلم إلاّ الشكل، أمّا الذين ينفذون إلى العمق فإنهم يبقون في عملية تعميق وتجذيرٍٍٍٍٍٍٍٍ حتى يبلغوا ما يمكن أن يبلغه الإنسان من أسرار، وكذلك الحال مع الذين ينطلقون في العلاء لينفتحوا على الآفاق، فتمتدّ بهم حتى يتكشّف لهم عن كلّ أفق أفقٌ جديد، ويخشعون لقول اللّه تبارك وتعالى ]سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ[(1). وينطلقون في داخل أنفسهم ليفهموها لا في أجهزة الجسد، وإن كانت أسرار هذه الأجهزة توحي بالعظمة كلّ العظمة، ولكنّهم يعرفون أن الله خلق هذا الإنسان وجعله كوناً في عقله، وكوناً في قلبه، وكوناً في طاقته، ومن هنا صدق فيه القول:
وتحسبُ أنّك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ
العلم كقيمة:
ولذلك ورد في الحديث الشريف ((من عرف نفسه فقد عرف ربّه)). ومشكلة الكثيرين ممن يتعلّمون النظريات والمعادلات انّهم يجهلون معادلة النفس الإنسانية. والإنسان مازال منذ خلقه الله يفكّر ويبدع ويكتشف، ومازال معنيّاً بأشياء وأفكار جديدة واكتشافات جديدة. لذلك أطلق الله العلم كقيمة هي سرّ القيم كلّها ]قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[(2). وإذا كان الإيمان قيمة، وهو القيمة ]أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ[(3). فإنه يمرّ بطريق العلم، أمّا الإيمان الأعمى، وإيمان العجائز، فقد يكون فيه بعض الصفاء ولكنّه يفقد الكثير من العمق والامتداد. ولذا فنحن لا نحترم الكلمة التي تقول ((اللهم ارزقنا إيمان العجائز))، أو الكلمة التي تقول: إنّ الإيمان فوق العقل. فقد يكون في مثل هذا الإيمان بعض الصفاء ولكن الإيمان إنّما يكون إيماناً إذا كان يعيش العمق كلّه والامتداد كلّه، لأنّ الصفاء وحده إذا لم يتعمّق فسوف يزول إمام أي كدر يمكن أن يطفو عليه.
وقار العلم وتواضعه:
تعالوا إلى أحاديث الأئمة من أهل البيت(ع) في صفة العلماء، لنعرف أنّ قضية العلم هي أن ينطلق الإنسان مع الناس كلّهم ومع الحياة كلّها في الحق كلّه وفي العدل كلّه، وفي آفاق الله بقدر ما يتسع له المجال في أن ينفتح على آفاق الله.
ففي الحديث عن الإمام الصادق(ع) فيما رواه (معاوية بن وهب) ((قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: اطلبوا العلم)). في أيّ مكان تجدونه، وليس هناك مكان يُحظُر فيه العلم، فإذا انفتحتم على طلب العلم ففكّروا أنه لابدّ أنه يلتقي مع سعة الصدر، لأنّك لن تكون عالماً كما هو العلم في قيمته الإنسانية، إذا لم يتسع صدرك للذين يختلفون معك، والذين يرفضون أفكارك لتدخل معهم في حوار العلم مع العلم، ولتثبت لهم بالعلم أنّهم مخطئون إذا كانت الحقيقة تختلف عما التزموا به، أو تقتنع بما عندهم إذا قدّموا لك الحجّة والبرهان والدليل.
((وتزّينوا معه بالحلم والوقار)). فالعلم ليس إنساناً يتبختر ويستعرض عضلاته وكلماته، ولكن العالم منْ يعيش وقار العلم، لأنّ العلم يعطيه السكينة وهذا الهدوء الإنسانيّ الذي يجعله يتحرّك مع الناس بإنسانيته دون جعجعة ودون خيلاء.
((وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم)). فلا تتضخّم شخصيتكم بما تملكون من العلم أمام من هو دونكم، بل تواضعوا له حتى تعلّموه التواضع مع كلّ نظرية تعلّمونه إيّاها، لأنّ قصة التواضع هي قصّة أن ينمو الإنسان في علمه، ذلك أنّ الذي لا يتواضع في علمه سوف يتكبّر، وسوف يشعر بأنه يملك الحقيقة المطلقة. فأنت قد تلتقي من الناس من يقول لك: أنا الحقيقة وكلّ من عداي باطل، أنا الإسلام وكلّ من عداي كافر، أنا الدين وكلّ من عداي كفر. فبعض الناس إذا حدّثتهم عن وجهة نظر أخرى غير وجهة نظرهم، قالوا لك: ليس هناك وجهات نظر بل هناك حقّ نلتزمه وهناك باطل في كلّ ما لا يلتزمه الآخرون بما نلتزم.
وهذا لا ينشأ من علم يملكونه، بل من انتفاخ الشخصية وورمها، لأنّ العالم يترك الفرصة للاحتمال الآخر، ولأنّه يسمح لوجهة نظر الآخر قبل أن يؤكّد وجهة نظره، أمّا الذين لا يسمعون وجهة النظر الأخرى فهم محبوسون في زنزانة ذاتهم. فليس ما يملكونه علماً إنما هو ذات معقدّة تحسب ما لديها علماً. ولذلك تواضعوا لمن تعلّمونه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، لأنّكم بذلك تحرّّّكون إنسانيتكم من خلال العطاء سواء كان ذلك من خلال عطائك أنت.. تواضع لمن تعلّمه العلم ليكون ذلك تواضعا لله الذي وهبك العلم الذي تعلّمه لهذا، وربما كان الإنسان الذي تعلّمه يملك صفات وقيماً ومعلومات أخرى غير ما تعلّمه أنت. فليس هناك - أيّها الأحّبة – من يملك العلم كلّه، وليس هناك من يملك التجربة كلّها. فبعض الناس من الأميين قد تكون له خبرة أكثر من بعض الذين يحملون الشهادات الجامعية لأنّ من يحمل الشهادة الجامعية، يتعلّم نظريات الناس الذين جرّبوا. أمّا الذي يعيش التجربة فإنه يصنع الفكرة من خلال تجربته، وقد لا يستطيع أن يعبّر عنها بالمصطلحات العلمية، ولكنّه يستطيع أن يقدّمها من خلال الواقع الذي امتزج بدمه وبأعصابه وبكلّ امتداداته في التجربة. فلابدّ أن يكون الإنسان متواضعاً مع الذي يعلّمه، لأنّه قد يكون له علم أكثر في جانب آخر، كما أنّ عليه أن يتواضع لمن يطلب منه العلم اعترافا بما له عليه من فضل.
وهذا ما نستوحيه من كلمة لعلي(ع) في دعاء كميل ((وفي جميع الأحوال متواضعاً)). فهو يطلب من الله أن يجعله خاشعاً له دائماً، وأن يكون متواضعاً دائماً، كتدليل على أنه ليست هناك أيّة حالة من الحالات التي يمكن أن يخرج الإنسان فيها عن حالة التواضع. فعليك أن تصادر ذاتك في معنى الأنانية لتلتقي بمعنى الإنسانية، فكلّما كنت إنساناً أكثر كنت متواضعاً أكثر.
((وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبّارين)). قساة متكبرين تنظرون إلى الناس من فوق وتضعون الحواجز بينكم وبينهم،وتكفّرون هذا وتلعنون ذاك، وتضلّلون هذا وذاك. لأنّ هناك شخصية ورميّة تعيش في داخلكم من خلال احتقاركم الناس. فمشكلة الجبّارين هي هذه الضخامة في الشخصية، وهي عبادة الإنسان لنفسه، وهي النرجسيّة. ((ولا تكونوا علماء جبّارين فيذهب باطلكم بحقّكم))(4). لأنّك عندما تكون جبّاراً فإن باطل الجبروت يلغي ما أنت فيه من الحقّ.
تصديق الفعل القول:
وعن الإمام الصادق(ع)، والقليلون منّا من يفهمون الإمام الصادق ويعيشون في آفاقه، يقول في قول الله عـــزّ وجل ]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عــِبـــادِهِ الْعـــُلــَمــَاءُ[(5). فهؤلاء وحدهم الذين يخافون الله من خلال عمق العظمة الإلهية في نـفوسهم، كما قال علي(ع) ((عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)). و((قــال(ع) يعني بالعلماء من صدّق فعله قوله)). فهؤلاء الذين يقولون ما يفعلون ولا يقولون مالا يفعلون هم العلماء ((ومن لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم))(6). لأنّ قيمة العلم هي في أن يتحوّل علمك إلى حقيقة في وجودك بحيث يدخل علمك عقلك، فيكون عقلك عالماً، ويدخل علمك قلبك، فينطلق قلبك بالعلم ليعمّق العاطفة في اتجاه ما يعلم، وأن يدخل علمك حياتك ليحرّك حياتك في الاتجاه الصحيح. أمّا إذا بقي العلم في عقلك مجرد كتاب في مكتبتك، أو في مكتبة عقلك كما هو في مكتبة غرفتك، فإنه يبقى مجرد كتاب لا يدخل لا في الدم ولا في العروق، لذلك يكون علمك في جانب وأنت في جانب آخر.
((ومن لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم)). وإن حسبه الناس عالماً، لأنّ قيمة العلم أن يتجسّد لا أن يبقى مجرد خطرات في الفكر، وقيمة العلم أن يتأنسن، بمعنى أن يتحوّل إلى إنسان بحيث يكون العلم عمقاً في إنسانيتك.
حقّ الفقيه:
وفي حديث الإمام الصادق(ع) عن أمير المؤمنين(ع) وهو يحدّثنا عن العالم في أسلوبه: كيف يعظ الناس؟ هل يقول لهم: لن ينجو منكم أحد، أو يقول لهم خذوا حرّيتكم في كلّ شيء؟!. قال: قال أمير المؤمنين(ع): ((ألا أخبركم بالفقيه حقّ الفقيه)). بحيث تكون فقاهته في معنى الحكمة في أسلوبه، لأنّ الفقه فكرة وحركة في الأسلوب.. وقد قيل ((الأسلوب هو الرجل)).. قلْ لي ما هو أسلوبك؟ أقل لك من أنت. لأنّ الأسلوب هو الذي يعبّر عن معنى إنسانيتك في الحفاظ على إنسانية الآخر، أو في الوصول إلى النتائج والأهداف.
((من لم يقنّط الناس من رحمة الله)) من لم يؤيسهم من رحمة اللّه، فالله يقول على لسان يعقوب(ع) ]وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ[(7). ويقول ]قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[(8). ويقول ]إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[(9).
((ولم يؤمنهم من عذاب الله)). بل إنّ عليه حتى يجعلهم ينضبطون ويلتزمون ويستقيمون، بأن يجعل الرهبة إلى جانب الرغبة، لأنّ قضية انذار الإنسان بعذاب الله ليست كما يتصوّر بعض الناس أن الله يريد أن يعقّد الإنسان فيجعله خائفاً وجلاً مشلولاًًً ًيفكّر في جهنم من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولكنّه أراد أن يخلق له – بتهديده بجهنم التي هي حقّ - الدافع من داخل إيمانه ليلتزم بالخط المستقيم الذي أراد له أن يسير عليه مما هو مصلحة له وما هو مصلحة للناس جميعاً.
فعندما ندرس الإنسان أي إنسان، فإننا نرى رغم تقدّم الحضارة و العلوم، أنه بقي يتحرك بين الرهبة وبين الرغبة، فالرغبة وحدها لا تضبطه والرهبة وحدها لا تضبطه ولكن تزاوجهما هو الذي يجعل الإنسان متوازناً ليفكّر بالارباح والخسائر معاً، لأنّك إذا لم تفكّر بالخسارة فلن تستطيع أن تضبط مقياس الربح.
((ولم يرخّص في معاصي الله)). ليقول لهم إنّ الله غفور رحيم ((ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره)). وهذه كلمة رائدة وعظيمة جداً، لأنّ القرآن هو الأساس في العقيدة في عمقها وامتدادها.. وهو الأساس للخطوط العامة للشريعة.. وهو الأساس في الخطوط العامّة للاخلاق، وهو الأساس للخطوط العامة في الروحانية والعرفانية، فالقرآن ـ كما أنزل الله ـ ليس ألغازاً ولا أدباً رمزياً ولا شيئاً باطنياً، بل أنزله قرآناً عربيا فصّلت أياته وأحكمت. أمّا متشابهاته فتفسّرها محكماتها، لذلك فالقرآن هو النور الذي يضيء وسائل المعرفة كلّها.
ولذلك فإن هناك قوماً تركوا القرآن وانفتحوا على السنّة، وبمعنى أدق لم ينفتحوا على السنّة، وإنما على الأحاديث التي جاءت معبّرة عن السنّة وفيها الغثّ والسمين، فالسنّة لا يمكن أن تنفصل عن القرآن]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[(10). ]مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ[(11). لكنّ بعض الناس نسبوا إلى السنّة ماليس منها. ولذلك فإن علينا ـ كما علّمنا النبي(ص) وكما علّمنا الأئمة من أهل البيت(ع) ـ أن نعرض كلّ ما جاءنا من الأحاديث على القرآن ((فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الحائط)). وقد وصلنا إلى زمان نجد فيه بعض الناس يؤولون القرآن بالحديث المخالف لظاهر القرآن. ولذلك فقد دخل الغلوّ من خلال هذا التأويل، ودخل الانحراف من خلاله أيضاً. والتأويل موجود في اللغة العربية ولكن بشرط أن يكون منسجماً مع القواعد العربية، لا أن تؤّول الكلمة على أساس معنى لا يلتقي مع القواعد العربية في فهم اللفظ.
ومشكلتنا أن كثيراً من الفقهاء تركوا القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولذلك فهم لا يملكون ثقافة القرآن لأنّ من يملك ثقافة القرآن لابدّ أن يملك ثقافة اللغة العربية وعمقها.. وهذا هو حديث علي(ع) ((ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره)).
التفهّم.. التدبّر.. التفكّر:
((ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم)). فان تتعلّم لا يعني أن تحفظ وإنما أن تتفهّم، وأن يكون لك علم يقتضي أن تفهم ما تستعمله. ((ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر)). فعليك أن تتفهّم الفكرة وأن تتدبّرها عندما تقرأ القرآن، لأنّ المطلوب في قراءة القرآن أن يحصل الإنسان على ثقافته وروحانيته وحركيّته وصفاء الروح في صفائه ((ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر)). والعبادة ليست ركوعاً ولا سجوداً شكلياً، وليست طوافاً وسعياً صورياً، ولكن أن تتعمّق لتفهم ما معنى الركوع والسجود والطواف والسعي، بأن يطوف عقلك وقلبك وأنت تطوف في البيت، وأن تسعى آفاقك وأنت تسعى بين الصفا والمروة، وأن يركع عقلك وقلبك لله قبل ان تركع لله في جسدك، وأن يسجد كيانك كلّه للّه قبل أن يسجد جسدك له. ((وفي رواية أخرى، الا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها)). وذلك بأن تتفقّه في العبادة وفي مفاصلها كلّها وأسرارها كلّها. ((ألا لا خير في نسك لا ورع فيه)). بمعنى أن تتعبّد وتزهد، ولكن إذا جاءك الحرام دخلت فيه. فقيمة التعبّد إذن هي بمقدار ما يجعلك منفتحاً على اللّه، تعيش حضوره في عظمته كلّها، في حياتك كلّها بحيث يمنعك ذلك من الحرام.
الحلم والصمت:
وفي الحديث عن الإمام الرضا(ع) قال ((إنّ من علامات الفقه الحلم)). لأنّ الحلم يعلّم الإنسان سعة الصدر عندما يواجه الأفكار المختلفة، ويجعله يعيش معنى الإنسانية في ذاته. ((والصمت))(12). فالفقيه ليس مهذاراً فهو لا يتكلّم الكلمة الا بعد أن يدرسها، فيدرس سرّ الحقّ فيها. ولذلك فهو يصمت أكثر مما يتكلّم لأنّه يفكّر قبل أن يتكلّم، ولا يتكلّم الاّ بعد أن يفكّر.
العالم خادم للناس:
وفي الحديث عن عيسى(ع) قال ((يا معشر الحواريين لي اليكم حاجة اقضوها لي، قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل اقدامهم، فقالوا: كنّا نحن أحقّ بهذا يا روح الله. فقال إنّ أحق الناس بالخدمة العالم، إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم)). أي أنه أراد أن يعطيهم الدرس العملي بغسل أقدامهم، لا من خلال خصوصية الغسل لكنّه أراد أن يضرب لهم مثلاً في التواضع ممن هو في الموقع المتقدّم، حتى يتواضعوا للناس من بعده كما تواضع لهم. ((ثم قال عيسى(ع): بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبّر)). فالمتكبّر تهرب الحكمة منه، لأنّ تكبّره يطغى على عقله ليجعل عقله خادماً لذاته لا للحقيقة.
((وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل))(13). وهذا تعبير أدبي عن أن الزرع ينبت في مساقط المياه، ولذلك ترى السهول خضراء، بينما ترى الجبال جرداء، لأنّ السهول تتواضع للماء كيما ينفذ في أعماقها، وتتواضع للبذرة حنى تنغرس فيها، وتتواضع للعناصر التي تنبت الزرع.
تكلّف العلم:
وفي رواية الإمام الصادق(ع) قال: ((كان أمير المؤمنين(ع) يقول)). ومن منّا يعرف أمير المؤمنين حقّ المعرفة؟! فلو قدّمنا استفتاء شاملاً للمسلمين كلّهم ولشيعة أهل البيت(ع) كلّهم: فماذا يعرفون عن علي؟ فهم قد يعرفون مسألة الخلافة وهي حقيقة، وكيف ضرب علي(ع) مرحبا وعمر بن عبد ود، وكيف كان يقدّ الأبطال نصفين وما إلى ذلك. ويعرفون البكاء في شهادته والفرح في ولادته، أمّا أن يرتفعوا حيث أراد أن يرفعهم، وان ينفتحوا على ما أراد أن يفتحهم عليه، فمن منّا يعرف علياً(ع)؟ كان يقول للذين عاشوا معه: سلوني قبل أن تفقدوني فإنّي بطرق السماء أعرف منّي بطرق الأرض، وينطلق اليه جاهل غبيّ، يقول له: كم شعرة في رأسي؟!
ونحن نسأل كم شعرة في رؤوسنا أمام عظمة علم علي(ع)؟. فما قد نتحدث به معه يشبه ما تحدث به ذاك الذي عاش معه، لقد قال علي(ع) ((إن ها هنا لعلماً جمّا لو وجدت له حمله)). وأخشى أن لا يجد له حمله في المسلمين إلا القليل القليل!!.
((كان أمير المؤمنين(ع) يقول: يا طالب العلم ! إنّ للعالم ثلاث علامات العلم والحلم والصمت، وللمتكلّف)). الذي يدعيّ العلم ولا يملك منه الا القشور ((ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية)). يعصي الله فيظلمه حقّه ((ويظلم من دونه بالغلبة)). أي يتسلّط على من هو أسفل منه فيتغلّب عليه بقوته وبجاهه. ((ويظاهر الظلمة)).(14) ينصرهم ويؤيدهم، وهذا ما نلاحظه في علماء السوء الذين يقدّمون للظالم فتوى بالحرب إن أراد حرباً،فتوى بالسلم إن أراد سلماً، ويحدّثونه عن الإرهاب إذا عارضه أحد، وعن الظلم على أساس أنه عدل، والجبروت على أنه سيادة، والخيانة عن أنها الاخلاص.. فكم عندنا من هؤلاء؟! وفي كلّ يوم حديث جديد وفتوى جديدة تأييدا للظالم هنا وللظالم هناك.. وتسألوننا بعد ذلك كيف يبقى الظلم في بلاد المسلمين؟! هذه هي صفة العلماء، فأين هم العلماء؟! والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الثانية عشرة:22 شوال 1420 ه لمصادف 29 /1/ 2000م
في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)
انفتاح الإسلام
على الرسالات وعلى
مسيرة الإنسان
حينما نقرأ الإمام الصادق(ع) في تراثه كلّه نشعر أنّه معنا يعطينا الجديد في أحاديثه من خلال ما ينفتح فيه على مشاكلنا الفكرية والاجتماعية والسياسية
ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)
الانفتاح على الجميع
روحانية الصادق(ع)
مواجهة الواقع السياسي
حركة النبوّات
العيش في قلب الواقع
الطيّبات والخبائث
الفرائض والعبادات
أولو العزم
الشريعة والمنهاج
رسالة الإسلام للحياة كلّها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع):
في هذه الأيام نلتقي بذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق(ع).. هذا الإمام الذي ملأ المرحلة الإسلامية التي عاش فيها وما بعدها علماً، بحيث أنّ الإنسان لا يلتقي بأي ّ موضوع من الموضوعات التي تتصل بالثقافة الإسلامية إلاّ ويجد للإمام الصادق(ع) كلاماً فيها وتحليلاً لها، ولا يلتقي بأيّ حركة من حركات الصراع في عصره، سواء كانت صراعاً بين الإسلام وبين خصومه في المسائل العقيدية أو في المسائل التفصيلية الأخرى، إلا ويجد الإمام الصادق(ع) ينفتح على كلّ هؤلاء الذين كان لهم رأي مضاد للرأي الإسلاميّ. وكان الإمام الصادق(ع) يلتقيهم وينفتح عليهم ويحاورهم، ليؤكد لهم أنّ الإسلام لا يلغي الآخر حتى لو كان الآخر يختلف معه في الأسس، بل إن الإسلام يفتح عقله وقلبه وحركته مع الآخر، ليحاوره علماً بعلم وفكراً بفكر لتكون النتيجة مع الحقيقة القوية التي تنطلق من خلال الحجّة. ولذلك نرى أن هؤلاء الذين كانوا يطلق عليهم الزنادقة تحدّثوا عن الإمام الصادق(ع) بالكلمات التي عبّرت عن خشوعهم لعلمه، وخضوعهم للحجّة التي كان يدلي بها في مواجهة ما يسوقونه من أفكار.
الانفتاح على الجميع:
وكان الإمام الصادق(ع) يعيش مع الصغير والكبير، وكان لا يتعقّد من أيّ سؤال، وكان لا يشعر بأنّ عليه أن يتحدّث عن طبقة معيّنة من الناس. كان يرى _ كما هو الإسلام _ أنه ليست هناك طبقية في العلم. فعلى العالم لاسيما إذا كان في مستوى المسؤولية الكبرى في موقع الإمامة، أن يتواضع لكلّ من يتعلّم منه سواء كان في بداية العلم أو في نهايته، لأنّ العلم لا يتكبّر ولا يتجبّر فهو يمثّل حركة الإنسان نحو الحقيقة التي تنطلق في الحياة تماما، كما الهواء والماء والنور الذي يشرق على كلّ أرض وفي كلّ أفق.
وكان الإمام الصادق(ع) يمثّل الصدر الرحب الذي حينما يلتقي الذين يوافقونه والذين يخالفونه، فإن كلماته معهم كانت كلمات الرفق والرحمة والانفتاح. وكانت ساحته الثقافية مفتوحة للمسلمين جميعا. فقد انفتح على أصحاب الآراء المختلفة كلّهم والتي منها ما يلتقي بخطّ الإمامة، ومنها ما لا يلتقي به في هذا الخط.
وكان(ع) يستقبل أصحاب مدرسة الإمامة وأصحاب مدرسة الخلافة. وكان لا يتعقّد من هذا ولا من ذاك، فلقد كانت الحجّة هي ما يتحرّك به مع كلّ هؤلاء. ولذلك نستطيع القول إنّ المرحلة كلّها بكل علمائها ومفكريها ومثقفيها تتلمذت على علم الإمام الصادق(ع).
روحانية الصادق(ع):
وكان الإمام الصادق(ع) في حياته كلّها يعيش الروحانية الفيّاضة بالدعاء والابتهال والمعرفة للّه التي تصفو وتسمو وترقّ وتلين حتى ليشعر الإنسان، وهو يقرأ الإمام الصادق في دعائه وابتهالاته وحديثه عن ربّه، بحضور اللّه أمامه كما لو كان يراه. وبذلك يكون قد فتح باب المعرفة للّه بأوسع ما يكون، واستطاع أن يؤكّد المنهج في معرفة اللّه على أساس المنهج القرآني والنبويّ، بأنّ العرفان في مذهب أهل البيت(ع) كان عرفان القرآن والسنّة، فلم ينطلق من خلال فلسفة هنا وفلسفة هناك، ولم ينطلق في مصطلحات غامضة هنا وهناك. كان كلامهم كلام القرآن، وكانت مصطلحاتهم مصطلحاته، وكان منهجهم في طريق المعرفة باللّه هو منهجه، وبذلك يمكن لنا أنّ نتعرّف على ما ينسب من أحاديث للإمام الصادق(ع) من خلال الأسلوب الذي يتمثّل فيه أسلوب القرآن.
مواجهة الواقع السياسي:
وكان الإمام الصادق(ع) يواجه الواقع السياسي آنذاك بكلّ دقة ودراسة وحكمة، وكان لا ينفعل بانفعالات الآخرين، وكان يدقّق في كلّ ما عرض عليه، حتى أنّه عرضت عليه بعض الحركات التي ربّما كانت تحاول أن تستغلّ اسم الأئمة من أهل البيت(ع) فعرف أنها لا تمثل الإخلاص ولا الحقيقة، ولذلك رفضها في الوقت الذي كان الطامحون إلى الخلافة يلهثون وراءها، ولذلك أحاديثٌ كثيرة لسنا في صدد التعرّض لها.
وطالما أنّنا نعيش في هذا العصر الذي يضجّ بالمفاهيم المتنوّعة، وبالجديد في كلّ يوم، فإننا حينما نقرأ الإمام الصادق(ع) في تراثه كلّه نشعر أنّه معنا، يعطينا الجديد في أحاديثه من خلال ما ينفتح فيه على مشاكلنا الفكرية والاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك. ولهذا فإننا بحاجة إلى كلّ هذا التراث لنفهمه جيدا، فنعرف أنّ الأئمة من أهل البيت(ع) كانوا الغنى كلّ الغنى في إعطاء الصورة الإسلامية المشرقة في المفاهيم الإسلامية المتحرّكة هنا وهناك.
حركة النبوّات:
وفي كتاب (الكافي) ثمة باب يحمل عنوان (الشرائع) ينقل فيه حديثاً عن الإمام الصادق(ع) حول حركة النبوّات التي سبقت النبي(ص) حتى اختتمت به، ونحن نحتاج إلى أنّ نلّم بهذه الأحاديث حتى نلتقط بعض اللقطات التي تضيء لنا بعض المفردات.
فعن أبي عبد اللّه(ع) قال ((إن اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً(ص) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى)). فقد جمع الإسلام خلاصة هذه الشرائع كلّها، وجمع ما يبقى للحياة منها مما أبقاه اللّه ولم ينسخه. ومن هنا كان الإسلام يجمع الإسلام كلّه باعتبار أنّ الإسلام في مفهوم الانفتاح على اللّه وعلى الإخلاص له كان يتحرّك في الشرائع التي أنزلها اللّه على رسله، فكلّ رسول من رسل اللّه كان يحمل الإسلام، وهذا ما عبّر عنه النبي إبراهيم(ع) ]إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[(1). وقد حدّثنا القرآن أن إبراهيم هو الذي سمّاكم المسلمين من قبل، فانطلقت هذه التسمية في عقبه ممن أسلم وجهه للّه. لذلك فقيمة الإسلام بين الأديان كلّها أنّه يحتضن في داخله العناصر الأساسية للرسالات السماوية كلّها، فهو لم يتعقّد من أية رسالة أخرى. فربما نلتقي اليوم باليهود الذين يتعقّدون من المسيحية والإسلام، أو نلتقي مع النصارى الذين يتعقّدون من الإسلام، أمّا الإسلام فقد احتضن التوراة والإنجيل]لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ[(2). وهذا ما أكّده الإمام الصادق(ع) بقوله ((إنّ اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً(ص) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى: التوحيد)). فهؤلاء كلّهم كانت رسالتهم ]اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[(3).
((والإخلاص)). لأن اللّه سبحانه وتعالى أراد للجميع أن يتحرّكوا في خط الإخلاص له، لأنّ التوحيد يفرض الإخلاص. فمعنى أن توحّد اللّه هو أنّ تعتقد بأنّ اللّه سبحانه وتعالى هو وحده خالق كلّ شيء ووراء كلّ شيء.. منه الوجود ومنه النعمة، ولذلك فلابدّ لكلّ من يعيش التوحيد في عمقه وامتداده أن يعيش الإخلاص للّه سبحانه وتعالى.
((وخلع الأنداد)). وهذا ما يمثل الجانب السلبيّ في حركة التوحيد، وهو إنكار كلّ مماثل وكلّ شريك له.
((والفطرة الحنيفيّة السمحة)). هذه الفطرة التي تعيش في داخل الوجود الإنسانيّ، وهي التي تتمثّل فيها كلّ حالات الصفاء الإنسانيّ الذي يلتقي بالحقيقة، ومن هنا كان الإسلام دين الفطرة.. وكان الحديث النبويّ الشريف يقول ((كلّ مولود يولد على الفطرة إلاّ أن أبويه يهوّدانه وينصرانه ويمجّسانه)). والفطرة الحنيفية هي التي تتحرّك في خط الاستقامة فلا التواء ولا انحراف. والسمحة التي تعيش في أجواء السماح التي لا تعقيد فيها ولا تكلّف ولا أيّ حرج.
العيش في قلب الواقع:
((ولا رهبانية ولا سياحة)). فالرهبانية تمثّل الخطّ الذي يتحرّك فيه الناس من أجل أن يعتزلوا الدنيا وأهلها، وأن ينطلقوا بعيداً عن المجتمعات وعن الواقع ليتعبّدوّا في الكهوف والمغاور وقمم الجبال ربع وأمّا السياحة ـ فهي بحسب المصطلح ـ الابتعاد عن المدن والحواضر وسكنى البوادي والقفار والجبال والأدوية، فالإسلام لا يريد للإنسان أن يعيش الانعزال عن المجتمع، ولا يريد الابتعاد عن المدن والحواضر.
إنّ الإسلام يريد للإنسان أن يعبد اللّه في قلب المجتمع والمدينة والحضارة، وأن يعبد اللّه عبادة المعرفة المنفتحة عليه بحيث يستطيع أن يواجه الشبهات والإشكالات والتعقيدات كلّها لينطلق من خلال صفاء المعرفة باللّه وهو في قلب التجربة. إنّ الإسلام يقول لك إنّ عليك أن تتحرك في دينك من موقع التجربة، وأن تقترب من المحرقة ولا تحترق، لا أن تبتعد عنها. فالذين يبتعدون عن التجربة وعن ساحات الصراع من أجل أن يحصلوا على النجاة بأنفسهم كما يقولون هم أناس يمكن أن يسقطوا أمام أية تجربة مفاجئة، وأمام أية حالة صراع. لأنّ الصراع يعطي الإنسان مناعة من كلّ ما يواجهه من تحديات، ولأنّ التجربة تعطي الإنسان الفكرة في كيف يتفادى المزالق، وكيف يبتعد عن الانهيارات. ولذلك فلا رهبانية ولا سياحة في الإسلام. فالإنسان المسلم هو الإنسان الاجتماعيّ الذي يدخل المجتمع وينطلق من خلال خطّه الذي يبقيه في صراع مع نفسه وجهادها، ومواجهة الأوضاع المضادّة كلّها.
الطيّبات والخبائث:
((أحلّ فيها الطيّبات وحرّم فيها الخبائث)). فاللّه لم يحرم الإنسان من طيّبات الحياة الدنيا، بل خلقها للإنسان وخلق طيباتها كلّها له. وعندما حرّم عليه ما حرّم فإنّه حرّم الخبائث. ولهذا فمن الممكن للإنسان إذا ابتعد عن الخبائث التي تضرّ عقله أو جسده أو حياته، فكلّ الطيّبات له ]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ[(4).]الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ[(5). فللإنسان الحق في أنّ يعيش في الدنيا، منعّماً ومرفّها ولكن من حلال، فليست المسألة أن يزهد الإنسان في الدنيا بمعنى أن يتركها، ولكن أن يزهد في الدنيا أن لا تمتلكه الدنيا، وأن لا تستعبده، وأن لا يسقط أمامها، بل أن يكون سيّدها لا عبدها.. يتناول منها ما يحتاجه، ولكن إذا تحرّكت حاجاته في الاتجاه الخطأ، أسقط حاجاته وأحضر مبادئه، تماماً كما عبّر الإمام علي(ع) عن ذلك في قوله، وهو يتحدّث عن ساحة الصراع التي كانت تريد أن تجتذبه ليغدر وليفجر وليأخذ بالحيلة وليتحرّك بعيداً عن الاستقامة: ((قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)).
((وحرّم فيها الخبائث ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)). والإصر في اللغة هو الثقل، ففي الإسلام ليس هناك ثقل يبتعد عن الطبيعة الإنسانية في حركتها في النظام العام ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[(6). ]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ[(7). والرسول(ص) يقول ((أتيتكم بالشريعة السهلة السمحة)).
الفرائض والعبادات:
((ثم افترض فيها الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)). وهاتان الفريضتان تمثلان رقابة المجتمع على بعضه البعض، فالمجتمع يتحرّك على أساس أن يكون بعضه مسؤولاً عن بعض من أجل أن يواجه الانحرافات التي تتحرك لإسقاط المعروف وإقامة المنكر، من أجل أن يصلح ذلك كلّه. ((والحلال والحرام والمواريث والحدود والفرائض والجهاد في سبيل اللّه وزاده الوضوء)). باعتبار ما يمثّل الوضوء من رمز للطهارة والنظافة ((وفضّله بفاتحة الكتاب)). التي تمثل خلاصة العقيدة الإسلامية في كلّ ما تتحدث عنه من صفات اللّه ومن موقف الإنسان أمامه، وفي دراسته للخطوط التي يتحرّك فيها الناس من المغضوب عليهم ومن الضالّين ومن السائرين في خط الاستقامة. ((وبخواتيم سورة البقرة والمفصّل)). وخواتيم سورة البقرة هي السور الطوال: (البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف. والقريبتان الأنفال والتوبة). وأمّا المفصّل فقد اختلف فيه، فبعض يقول من سورة محمد إلى آخر القرآن وقيل من (سورة ق).
((وأحلّ له المغنم والفيء ونصره بالرعب)). عندما يخوض الحرب ((وجعل له الأرض مسجداً وطهورا)). يسجد ويتيمّم عليها. ((وأرسله كافّة إلى الأبيض والأسود والجنّ والإنس، وأعطاه الجزية)). عندما يريد أن يعقد معاهدة مع أهل الكتاب. ((وأسر المشركين وفداهم، ثم كلّف ما لم يكلّف أحد من الأنبياء وأنزل عليه سيف من السماء في غير غمد)). وهو الجهاد لأن اللّه لم يكلّف أيّ نبيّ قبل النبي محمد(ص) بالجهاد، وقيل له ]فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ[(8))).
هذا هو الحديث الذي لخّص فيه الإمام الصادق(ع) الشريعة الإسلامية التي أخذت من كلّ شريعة من شرائع الرسل السابقين ما يبقى للحياة من ذلك. ومن خلال هذا التلخيص الصادقي للشريعة الإسلامية، نعرف أنّها لا تنحصر في العبادات ولا تنعزل عن الحياة، بل تنفتح عليها كلّها، وتضع لكلّ واقعة من الوقائع حكمها الشرعي.
أولو العزم:
وفي حديث آخر عن سماعة بن مهران، وهو يعالج مصطلح (أولي العزم) من أين نشأ؟ قال: قلت لأبي عبد اللّه(ع) : قول اللّه عزّ وجل ]فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ[(9).فقال(ع) : ((نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد(ص). قلت: كيف صاروا أولي العزم؟ قال: لأنّ نوحاً بعث بكتاب وشريعة،وكلّ من جاء بعد نوح في المدة بينه وبين إبراهيم(ع) أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه)). فلم تكن محدودة بزمنه بل كانت رسالته تمثل خطّ العزم الممتد في حياة الناس من بعده.
((حتى جاء إبراهيم(ع) بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به، فكلّ نبيّ جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه)). وهنا نتوقّف أمام كلمة ((ترك كتاب نوح)). لنعرف من خلال ذلك أنّ قضية إنزال الكتب على الأنبياء(ع) كانت تخضع لحكمة اللّه سبحانه وتعالى في الحاجات التي تحتاجها البشرية في تلك المرحلة، سواء في الجوانب العقيدية الفكرية أو في الجوانب العملية بحيث أنّها تمتد ما امتدّت مرحلة النبي. فإذا جاء النبي الآخر وأرسله اللّه بصحيفة أخرى، وبكتاب آخر قد يبقي فيه ما جاء في الكتاب الأول، لكنّه يزيد فيه بما تحتاجه المرحلة الجديدة مما استهلكته المرحلة السابقة، أو مما لم تكن المرحلة السابقة بحاجة إليه، لأنّ اللّه ينزل شرائعه على حساب الحاجات الطبيعية للناس، وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم. والحكم الشرعي يصلح الناس إذا كان في خط الحلال في مرحلة معينة، حتى إذا انتهت تلك المرحلة فربّما يكون ما يصلح مفسداً في المرحلة الجديدة، وربّما يكون ما يفسد في الماضي غير مفسد فيها. ولذلك نجد أن عيسى(ع) عندما جاء في خطابه الرسالي لبني إسرائيل، قال: ]وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[(10). فقد كانت هناك أشياء محرّمة عليكم لأنّها كانت تمثل الإفساد لواقعكم، ولكن عندما تنتهي تلك المرحلة وتأتي المرحلة الجديدة فقد ينقلب الحرام إلى حلال كما ينقلب الحلال إلى حرام. وهذا ما نلاحظه في نسخ بعض الأحكام بين شريعة وشريعة. أو في الشريعة الواحدة.
الشريعة والمنهاج:
قال(ع) ((فكلّ نبي جاء بعد إبراهيم(ع) أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه بالصحف)). وبهذا نعرف أنَّ لوطاً(ع) كان نبياً لا في عرض إبراهيم(ع) أي كان نبيّاً تابعاً ]فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي[(11). فلوط هو الذي انفتح على رسالة إبراهيم وأرسله اللّه بإشارة إبراهيم كما لو كان نبيّ قرية أو جماعة.
((حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصحف)). فموسى(ع) ألغى أيضاً صحف إبراهيم(ع) لا كفراً بها، ولكن لأنّ الكتاب الجديد يشتمل على ما في تلك الصحف مما سبق، ويأتي بأشياء جديدة. ((وكلّ نبيّ جاء بعد موسى(ع) أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه حتى جاء المسيح(ع) بالإنجيل، وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه، فكلّ نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه، حتى جاء محمد(ص) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)).
رسالة الإسلام للحياة كلّها:
وبذلك كانت رسالة الإسلام هي رسالة الحياة كلّها بعد النبي(ص) لأنّ الإسلام اختزن العناصر التي تتحرّك مع تطوّر الحياة، فهي تطوّر الحياة وليس من الضروري أن تخضع لبعض تطوّراتها. فالإسلام عندما جاء بالعقل فإنّ العقل هو الذي يطوّر الواقع وهو الذي يكتشف أسرار الحياة والكون ويطوّر للإنسان أساليبه ووسائله وحركته في الحياة. واعتبر الإسلام العلم قيمة، والعلم هو الذي يتحرّك ويتطوّر وينفتح على الآفاق ويعطي الإنسان الكثير من التقدّم. وانطلق الإسلام على أساس الإنسانية، فقال ]يا أيّها الناسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[(12). فقد اعترف الإسلام بالخصوصيات التي يعيشها الناس ولكنّه اعتبر تلك الخصوصيات مصدر تفاعل وتعارف، باعتبار أنّ كلّ فريق من الناس قد ينفتح على الآخر ويتعارف معه من خلال ذلك.
وعندما ندرس الإسلام جيداً نرى أنه يصلح لكلّ زمان ومكان، ولكن بشرط أن نفهم الإسلام فهماً حقيقياً. فليس من الضروري أن تكون الاجتهادات التي اجتهد فيها المجتهدون، والأفكار التي فكّر فيها المفكّرون، فيما اجتهدوا فيه من كتاب اللّه وسنّة رسوله، أو فيما فكرّوا فيه من المفاهيم أن تكون هي الحقيقة، فالحقيقة الإسلامية صالحة لكّل زمان ومكان، ولكن قد يخطئ المجتهدون في اجتهادهم، وقد ينحرف المفكّرون في تفكيرهم. ولذلك فلابدّ أن نتابع التجربة تلو التجربة والاجتهاد كلّ الاجتهاد، فقد نكتشف خطأ هنا وانحرافاً هناك، لنستطيع في نهاية المطاف أن نصل إلى الحقيقة الصافية.
ويختم الإمام الصادق(ع) بالقول : ((فهؤلاء أولو العزم من الرسل))(13). ونحن كما قلنا ]لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ[. فنحن نؤمن بكلّ رسل اللّه كلاً في مرحلته، وبكلّ كتاب اللّه كلاً في مرحلته، ونؤمن بالكتاب كلّه، وهذه هي ميزة الإسلام المنفتح كلاّ على تاريخ الرسالات كلّها، والمنفتح كلاً على مسيرة الإنسان في الحياة كلّها. فعلينا ـ أيها الأحبة - مع كتاب اللّه ومع سنّة رسوله ومع هذا التراث الطاهر الغنيّ من تراث أهل البيت(ع) فيما استوحوه من كتاب اللّه وسنّة رسوله.
علينا أن نتحرّك دائماً لأن ذلك هو سبيل النجاة ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها)). في مفاهيمها وإيحاءاتها حركيّتها ((نجا ومن تخلّف عنها)). واتبع الباطل ((غـرق))(14). فتعالوا إلى الإسلام في خط أهل البيت(ع) الذي هو الخط الذي تركه رسول اللّه(ص) في الثقلين ((كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما)) في عمق الحقيقة ((لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))(15). والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الثالثة عشرة: 1 ذي القعدة 1420 ه المصادف 5/2/ 2000م
في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)
إشكالية الرواية
والاجتهاد في
حياة الأئمة(ع)
الأئمة(ع) ليسوا رواة ولا مجتهدين، فحديثهم هو حديث رسول اللّه(ص)
في رحاب الذكرى
حديثهم(ع) حديث رسول اللّه(ص)
الحقيقة الصافية
هل الأئمة(ع) رواة؟
التدقيق في تراث الأئمة(ع)
مكانة الإمام(ع) في عصره
في الجانب الإنساني الاجتماعي
أيام السعد والنحس
لباس الزمان
تعدّد الزوجات
قدم إتخاذ الأرباب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في رحاب الذكرى:
ونبقى مع الإمام جعفر الصادق(ع) بمناسبة ذكرى وفاته، لنلتقط بعض اللقطات التي تحدّث بها عنه بعض معاصريه، مما يوحي بأكثر من نقطة تتصل بمواقع الفكر الإسلامي بطريقة لم يألفها الناس آنذاك.
فنحن نعرف أنّ المنهج المتبع في الثقافة الإسلامية في عـصر الإمام الصادق(ع) وما بعده أنّ الذي يحدّث عن رسول اللّه(ص) بحديث، فلابدّ أن يذكر الرواة الذين يصلونه بالرسول(ص) وإلاّ فلا يقبل الحديث إذا كان هناك راوٍ غير معروف أو غير موثوق، وقد درج الناس على ذلك.
حديثهم(ع) حديث رسول اللّه(ص):
ولكننا عندما ندرس تراث الأئمة من أهل البيت(ع) فإننّا نلاحظ أنهم يرسلون عن رسول اللّه(ص) دون أن يذكروا الرواة الذين يتوسطون بينهم وبين رسول اللّه(ص). فنجد أنّ الإمام الباقر(ع) ومثله الصادق(ع) كانا يقولان ((قال رسول اللّه)). وقد اختصر الإمام الصادق(ع) ذلك في حديث يروى عنه أنه قال ((حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي)) إلى أن يقول ((حديث رسول اللّه))(1). فكأنه يقول نحن عندما نحدّث فإنّما نحدّث عن آبائنا الذين ارتبطوا برسول اللّه(ص) عندما تنتهي السلسلة إلى علي(ع) الذي روى كلّ علم رسول اللّه(ص) وفتح منه آفاقاً جديدة استلهاماً من ذلك العلم الذي تعلّمه منه واستيحاءً له.
وعندما نعلم أنّ الأئمة(ع) يمثلون الدرجة العالية في العصمة فإننا نستنتج أنهم يمثلون الدرجة العالية من الوثاقة، ومن هنا كان الناس يتقبّلون منهم ذلك بما لا يتقبّلونه من أي شخص يروي عن رسول اللّه(ص) دون سند. وينقل (الشيخ المفيدq) في أماليه عن سالم بن أبي حفصة بعض ما كان يدور في حديثه وفي ذهنه حول هذا الموضوع . قال: ((لمّا هلك ـ أي مات ـ أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قلت لأصحابي: انتظروني حتى أدخل على أبي عبد اللّه جعفر بن محمد(ع) فأعزّيه بأبيه، فدخلت عليه فعزيّته، ثم قلت: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، ذهب واللّه من كان يقول: قال رسول اللّه فلا يُسئل عمّن بينه وبين رسول اللّه(ص) )).أي أنّ الإمام الباقر(ع) ملك الثقة العالية بين المسلمين، بحيث أنه ينقل عن رسول اللّه(ص) بلا واسطة فلا يسألونه عنها، مع أنّ الزمن بينه وبين رسول اللّه(ص) بعيد، فكأنّ هذه نعمة كانت ثم ذهبت بعد موت الإمام(ع).
((واللّه لا يرى مثله أبداً، قال: فسكت أبو عبد اللّه(ع) ثم قال: قال اللّه عزّ وجل: إنّ من يتصدّق بشقّ تمرة فأربيها له كما يربّى أحدكم فلوه حتى أجعلها له مثل أحد، فخرجت إلى أصحابي فقلت: ما رايت أعجب من هذا، كنّا نستعظم قول أبي جعفر(ع) قال رسول اللّه(ص) بلا واسطة فقال لي أبو عبد اللّه(ع) قال اللّه عزّوجل بلا واسطة))(2). فكأن الإمام الصادق(ع) أراد أن يقول لهذا الإنسان إنّ القضية ليست قضية خصوصية في الإمام الباقر(ع) بل هي مسألة تنطلق من عــمق الوثاقة في الإمامة بحيث لا يتحدث الإمام في كلّ ما يـنـسـبه إلى رسول اللّه(ص) وحتى إلى اللّه سبحانه وتعالى من دون أساس في طبيعة الموضوع. فكما كان أبي (أي الباقر(ع) يقول قال رسول اللّه(ص) وهو يرتكز على حجّة في ذلك، وينقل عن رسول اللّه(ص) من خلال اليقين أن هذا هو ما قاله رسول اللّه من خلال المصادر الموثوقة التي بين يديه، فيمكن أن نقول قال اللّه استنادا على ما نقله رسول اللّه(ص) عن اللّه مما هو ليس بقرآن كالحديث القدسي.
الحقيقة الصافية:
وعلى ضوء هذا ـ أيّها الأحبة ـ فنحن ننطلق في التزامنا بهذا التراث الإسلامي الذي جاء عن أئمة أهل البيت(ع) ولا سيما عن الإمام الصادق(ع) باعتبار أنّه التراث الذي يمثّل الحقيقة الصافية لأنّه ينطلق في عمقه من رسول اللّه(ص) ورسول اللّه(ص) ينطلق في كلّ ما تحدّث به عن اللّه سبحانه وتعالى، وقد حدّثنا اللّه عنه بقوله ]وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ` إن هو إلاّ وحي يوحى[(3). وفي قوله ]وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ` لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ` ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ` فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ[(4). وقال سبحانه ]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[(5).
فلابدّ لنا من أن نلتزم بخط الإمامة على أساس أنّه الخط الذي يمتدّ إلى رسول اللّه(ص) وينطلق منه، وبذلك فإنه يمتح ويأخذ من المصدر الأصيل للإسلام.
هل الأئمة(ع) رواة؟
وربّما يرى بعض الناس في هذا الحديث أنّ الأئمة(ع) هم رواة كبقية الرواة لا يملكون فكراً فيما هو الفكر، ولا يملكون اجتهاداً فيما هو الاجتهاد، وهذا مما قد يسيء إلى مكانتهم الثقافية الفكرية التي نتمثلها في دراستنا لتراثهم. ولكنّنا نقول إنّهم ليسوا رواة كبقية الرواة ولكنّهم اختزنوا علم رسول اللّه(ص) تماما كما اختزنه أبوهم وجدّهم الإمام علي بن أبي طالب(ع) مما جاء عنه ((علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم فتح لي كلّ باب ألف باب))(6). فالعلم ينطلق في قواعده من رسول اللّه(ص)، وطبيعيٌ أن علماً ينفتح على آفاق المعرفة كلّها لابدّ أن يفتح لصاحبه الكثير الكثير من العلم.
والفرق بين هذا العلم الذي ينفتح من خلال علم للائمة من أهل البيت(ع) وبين العلم الذي ينفتح للآخرين أنّه علم لا يُخطئ فهو صواب كلّه، وهو الحقيقة كلّها. ولذلك فنحن لا نقول باجتهاد أئمة أهل البيت(ع) كبقية المجتهدين الذي يخطئون ويصيبون، بل هم في كلّ ما انطلقوا فيه من فكر يمثلون الحقيقة الصافية . ولهذا قلنا إنّ التعبير عن خطّ الإمامة وخط المذهب في مواجهة المذاهب الأخرى خطأ، لأنّ مصطلح المذهب ينطلق من مصطلح الاجتهاد الذي يمكن أن يخطئ صاحبه ويمكن أن يصيب . أمّا عقيدة الإمامة فتقول إنّ الأئمة(ع) يملكون العصمة في ذلك.
التدقيق في تراث الأئمة(ع):
وهناك نقطة ثانية تعيش في آفاق هذه المسألة، وهي أنّه روي عن أئمة أهل البيت(ع) حديث كثير ونسبت اليهم كتب متعددة، وأخذ الناس في كلّ هذا الحديث بكلّ تراكماته من دون تدقيق، وتبنّى الكثير من الدارسين بعض هذه الكتب فتحدّثوا عن (مصباح الشريعة) وعنٍ توحيد المفضّل وأمثال ذلك كما نسبوا إلى الامام الصادق(ع) بعض الخطوط العلمية.
وإزاء ذلك، فإن علينا أن ندقّق في هذا التراث بحيث نستوثق من سلامته من الدسّ والوضع والكذب، لأنّ الأئمة(ع) ولا سيما الإمام الباقر(ع) والإمام الصادق(ع) ابتلوا في مرحلتهم ببعض الوضّاع الذين كانوا يضعون الاحاديث وينسبونها إلى الأئمة(ع). وقد حذّر الإمام الصادق(ع) من هؤلاء، وكان بعض هؤلاء ممن يتحدّث بالغلوّ وبالكثير من الأحاديث التي قد ترتبط بخطوط الزندقة في ذلك الوقت.
هنا، يضع الإمام الصادق(ع) خطاً بيانياً في تقويم ما روي عنهم(ع) من الأحاديث فكان مما قاله: ((لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن ....... فإنّا إن حدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن))(7). وقال(ع) ((ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف)). وقال(ع) ((ما جاءكم من حديث من برّ أو فاجر فاعرضوه على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فذروه لأنّ كتاب اللّه هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)).
وإنّه(ع) بهذه الأحاديث وضع لنا منهجاً نقديّاً علينا أن ننتهجه في تصحيح الأحاديث المروية عنهم(ع). وهذه مسألة مهمّة جداً، ولعلّ من المؤسف إلى درجة الكارثة أنّ الكثيرين ممن لا يملكون الثقافة العلمية النقدية في الكتاب والسنّة، والذين أصبحت لهم مواقع توجيهيه أو تبليغيه بدأوا يأخذون هذه الأحاديث جملة وتفصيلا من دون تدقيق. ومن هذا الباب كما من غيره دخلت الخرافة، ودخل الغلوّ، ودخل الكثير من الانحراف باسم أئمة أهل البيت(ع) وهم براء منه.
فمشكلة الكثيرين ممن يتولّون مهمّة التوجيه أنّهم أشبه شيء بالعوام لأنّهم لم يأخذوا بأسباب العلم بحسب القواعد التي يخضع لها التقويم هنا وهناك.
مكانة الإمام(ع) في عصره:
وعندما ندرس مكانة الإمام الصادق(ع) في عصره، وندرس الانفتاح الذي يتجاوز المذهبية في ذلك العصر، نلتقي بكلام لأحد القضاة الذين كانوا يمثلون موقعاً رسمياً في القضاء وهو ابن أبي ليلى. قال نوح إبن درّاج لابن ابي ليلى: ((أكنت تاركاً قولاً قلته أو قضاء قضيته لقول أحد)). أي أنك عندما تتبنّى رأياً أو تصدر حكماً فهل هناك من الرجال من إذا خالف قولك قوله كنت مستعداً للتنازل عن قولك وقضائك لقوله ولقضائه؟ ((قال: لا إلاّ رجل واحد. قلت: من هو؟ قال جعفر بن محمد(ع) ))(8).
فمن أين أخذ الإمام(ع) هذه المكانة؟ لقد كان الأستاذ المطلق للمرحلة الثقافية الإسلامية آنذاك، بحيث كان الناس يفدون إليه من مختلف الاتجاهات المذهبية الإسلامية، ومن مختلف الاتجاهات الفكرية المادية، ومن كلّ المواقع الثقافية. كان الإمام(ع) الشخص الذي يشعر الجميع بأنّه ينطلق من أصالة الحقيقة. وكان يملك الجرأة العلمية بحيث كان يناقش أصحاب الاتجاهات المتنوّعة بكلّ قوة ورفق وانفتاح.
ولو درسنا مناظراته واحتجاجه، لرأينا كيف يتنوّع العلم عنده، وكيف يملك سعة الأفق التي لابدّ للعلماء أن يتميّزوا بها، كما امتاز بسعة الصدر، فكان لا يعنف في الكلمة، وكان لا يضطهد أيّ فكر آخر يختلف معه، كان يتقبّل الآخر ولكنّه كان يناقشه ويحاوره ويعمل على أن يسقط فكره على أساس فكر يسقط فكراً لا على أساس انفعال يضطهد فكراً. ويقول صاحب (حلية الأولياء) قال عمرو بن أبي المقدام ((كنتُ إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمتُ أنّه من سلالة النبييّن)). لأنّ ملامح الأنبياء تتمثل فيه.
في الجانب الإنساني الاجتماعي:
وعندما ننفذ إلى الجانب الإنساني الاجتماعي في حياة الإمام جعفر الصادق(ع) نقرأ قول الراوي (هشام بن سالم). ((كان أبو عبد اللّه(ع) إذا أعتم وذهب من الليل شطره أخذ جراباً فيه خبزٌ ولحم والدراهم فحمله على عنقه ثم ذهب إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسّمه فيهم ولا يعرفونه، فلمّا مضى أبو عبد اللّه(ع) ـ أي انتقل إلى جوار ربّه ـ فقدوا ذا فعلموا أنّه كان أبا عبد اللّه(ع)))(9). هو الذي كان يأتيهم بذلك كلّه.
إنّ هذه الرواية تعطينا فكرة عن سيرة أكثر من إمام من أئمة أهل البيت(ع) وهي أنّ الأئمة(ع) كان بامكانهم أن يرسلوا إلى الفقراء مالاً عن طريق وسيط، ويمكن أن يطلبوا منه أن لا يذكر أسماءهم عندما يقدّم هذا المال، ولكّنهم كانوا يريدون أن يعيشوا المعاناة الإنسانية في انفتاحهم على الفئات المحرومة، بحيث يبادرون إلى مساعدتهم بشكل مباشر ليختزنوا في ذلك إحساسات الروح كلّها، ونبضات الإنسانية كلّها من خلال التجربة العملية، وهي أن تعطي بيدك من دون أن يعرف الآخر. فهناك فرق بين ما يتحقق من إيحاءات نفسيّة في التواضع والروحانية والإنسانية في المساعدات المباشرة للفقراء، وبين إعطاء المساعدات بالشكل غير المباشر، لأنّك تنمّي بصدقة السرّ انسانيتك وذلك عندما تعطي في هذه الاجواء التي يغيب فيها اسمك عمّن تعطيه، لأنّك تعيش تجربة حيّة في داخل نفسك من خلال انفتاحك على الآخر بطريقة إنسانية.
أيام السعد والنحس:
وهناك قصة للإمام(ع) في بعض تجاربه العملية التي انفتح فيها على نقد خط من الخطوط الثقافية التي كانت تعيش في أذهان الناس آنذاك، وهي قضية ساعة النحس وساعة السعد. فلقد كان هناك ومازال بعض الناس، يحاولون أن يعطوا للزمن عنوان نحس هنا وعنوان سعد هناك، فهذه الساعة ساعة سعد وفيها يمكنك أن تحصل على ما تريد ، وهذه ساعة نحس ولا يمكنك فيها أن تحقّق ما تريد. ونجد أن بعض الناس يختارون يوما معينا وساعة معينة في زواج أو بيع أو تجارة، ويتشاءمون من أيام معينة وإلى غير ذلك.
ولقد خاض الإمام الصادق(ع) تجربة حيّة في إطار هذا الموضوع. فعن علي بن أسباط عمن رواه ((عن أبي عبد اللّه(ع) قال: كان بيني وبين رجل قسمة أرض)). أي شراكة ((وكان الرجل صاحب نجوم)). يستعملها في النحس وفي السعد ((وكان يتوخّى ساعة السعود فيخرج فيها وأخرج أنا في ساعة النحوس، فاقتسمنا فخرج لي خير القسمين، فضرب الرجل بيده اليمنى على اليسرى ثم قال: ما رأيت كاليوم قطّ)). أي أن الموازين اضطربت وأختلّت لأنه خسر في ساعة السعد وربح جعفر الصادق(ع) في ساعة النحس ((قلت: ويل الآخر ما ذاك. قال: إنّي صاحب نجوم أخرجتك في ساعة النحوس، فخرجت أنا في ساعة السعود ثم قسمنا فخرج لك خير القسمين قلت: الا أحدّثك بحديث حدّثني به أبي قال: قال رسول اللّه(ص): من سرّه أن يدفع اللّه عنه نحس يومه)). وليس معنى ذلك أنّ النـبي(ص) يؤكد نحس اليوم، ولكنّه يتحدّث عن النحس كذهنية في واقع المجتمع تثير في نفس الإنسان الخوف من نتائج هذا النحس أو ما يمكن أن يحدث في اليوم من الشرور بفعل بعض العوامل الطبيعية في علاقة الاشياء بأسبابها ((فليفتتح يومه بصدقة يذهب اللّه بها عنه نحس يومه ومن أحبّ أن يذهب اللّه عنه نحس ليلته فليفتتح ليلته بصدقة يدفع الله بها نحس ليلته)). فأنت تقول أخرجتني في ساعة النحس ولكنّني اتبعت قول رسول اللّه(ص) ((فقلت إنّي افتتحت خروجي بصدقة فهذا خير لك من علم النجوم))(10). فكأنه يريد أن يقول إنّ علم النجوم لا واقع له ولا حقيقة له، وعليك أن تنفتح على اللّه لأنّ اللّه تعالى هو الذي يقسّم الأرزاق. ومن الطبيعي أنّ الصدقة التي تفتح بها قلب إنسان فقير على ما يسدّ جوعته ويكسو عريه، هي التي يجعلها اللّه لك وسيلة من وسائل حصول الخير، لأنّ الخير في العمل يجلب الخير في الرزق.باعتبار أنّه يؤدي إلى رضا اللّه والقرب منه مما يجعلك في مواقع رحمته وكرمه.
لباس الزمان:
وفي حديث آخر يتعرّض الإمام الصادق(ع) لمسألة حسّاسة وحيوية، وهي أن بعض الناس قد يفكّر بأنّ علينا أن نلبس كما كان يلبس رسول اللّه(ص) أو أن نلبس كما كان يلبس علي بن أبي طالب(ع) وأن للباس قداسة لابدّ لنا أن نتمثلها عندما نرى لباس المقدسين، بحيث ربط بين الشخص المقدّس وبين ما يلبس، أو بين ما يأكل أوما إلى ذلك فيما يتحرك من خلال طبيعة الإنسان الاجتماعية بحسب الزمان. فالإمام(ع) يعالج هذه الحالة ويؤكّد أنّه ليس للباس قداسة، فعندما تعيش في زمن ويكون له لباس معين ،فإنّ عليك أن لا تبتعد عن العرف العام في الزمن. ((فعن حمّاد بن عثمان قال: حضرت أبا عبد اللّه(ع) )). أي كنت في مجلسه ((وقال له رجل: أصلحك اللّه)) وهي كلمة محبّبة، فكلّ إنسان يحبّ أن يطلّ اللّه عليه ليصلحه ((ذكرت أنّ علي بن أبي طالب(ع) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم، وما أشبه ذلك ونرى عليك اللباس الجديد)). أي أننا لا نرى عليك من لباس جدك علي بن أبي طالب(ع)، ((فقال له: إنّ علي بن أبي طالب(ع) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر)). أي أن طبيعة الزمن كانت لا تستنكر بأن يلبس الإنسان لباسا ً عاديّاً أو يأكل أكلاً خشنا ((ولو لبس مثل ذلك اليوم شُهّر به)). وفي ذلك ما ينبغي أن نفكّر فيه، وهو أنّ قضية اللباس تتصل بالواقع الاجتماعي، فعندما تلبس أيّ لباس سواء كان يعطي الانطباع السلبي أو الإيجابي فإنّك تتدخل في مزاج الناس، لأنّهم عندما يعتادون شيئاً بحيث يتحرك النسيج الاجتماعي بهذه الطريقة فعليك أن تنسجم مع الناس في ذلك أو تحترم نظراتهم إلى ما يشاهدونه، وأن لا تقدّم شيئاً يزعج نظراتهم، شريطة أن لا يكون محرّماً. ((فخير لباس كلّ زمان لباس أهله)). أي إلبس كما يلبس الناس في الألوان والتفصيل على أن لا يكون ما يلتزمه الناس مخالفاً لما تؤمن به من الخطوط الشرعية. ((غير أنّ قائمنا أهل البيت(ع) إذا قام لبس ثياب علي(ع) وسار بسيرة أمير المؤمنين(ع)))(11). لأنّ ذلك الظرف له جو آخر يختلف عن الجوّ العام. وربما نلتقي في هذا الموضوع بكلمة علي(ع) في (نهج البلاغة): ((لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم)). أي العادات والتقاليد لا القيم والأحكام الشرعية الثابتة فهي لا يختلف فيها زمن عن زمن ولا ناس عن ناس فالكلام فقط في العادات والتقاليد ((فإنّهم خلقوا لزمان غير زمانكم)).
تعدّد الزوجات:
ويحدّثنا تأريخ الإمام(ع) عن أحد الزنادقة والمتمردين على الدين (ابن ابي العوجاء) الذي كان يعترض على القرآن في مسألة تعدد الزوجات. فالقرآن ذكر ذلك في قوله تعالى ]فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً[(12). وقال في آية أخرى ]وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ[(13). ((عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسين قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم فقال له: أليس اللّه حكيما؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين، قال فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجل ]فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً[. أليس هذا فرضاً؟ قال: بلى . قال: فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجل]وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِِ[. أي حكيم يتكلّم بهذا؟فلم يكن عنده جواب الرجل فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه(ع))) ومن الطريف أن بعض الذين يتحدثون عن تعدد الزوجات يذكرون ذلك، ويقولون إن مع إمكان التعدّد فإن التعدّد غير مشرّع في الإسلام، ذلك أنّ بعض الحكّام يعطون لانفسهم صفة المشرّع، كما فصل عبد الكريم قاسم أول رئيس جمهورية عراقية في قول اللّه تعالى في الوصية ]يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِِ[(14). فقال إن الوصية هي أخفّ من الأمر، وكذلك (الحبيب بو رقيبة) الذي ألغى التعددّ في تونس من خلال اجتهاده. فمشكلة الشرق أن حكّامه يعطون لانفسهم ما ليس لهم.
((قال: يا هشام في غير وقت حجّ ولا عمرة!! قال: نعم جعلت فداك لأمّر همّني إنّ ابن ابي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: وما هو؟ قال فأخبره بالقصة، فقال له أبو عبد اللّه(ع): أمّا قول اللّه عز وجل]فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً[. يعني في النفقة . وأمّا قوله ]وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِِ[. يعني في المودّة . قال: فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره قال: واللّه ما هذا من عندك))(15).
قدم إتخاذ الأرباب:
ويحدّثنا الإمام(ع) عن هذه الآية ]اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّه[(16). في حديث اللّه عن تاريخ اليهود. فعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(ع) قال: ((قلت له ]اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّه[. فقال: أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم ولكن أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون))(17). فالعبادة لا تنحصر في قولك عن المعبود إنّه ربّي، أو أن تصلّي له، بلّ إنّ العبادة هي أن تستغرق فيه بحيث تتقبّل كلّ تشريعه الذي يختلف عن تشريع اللّه، وتتقبّل كلّ خطوطه الفكرية التي تختلف عمّا خطّطه اللّه، فإنّك بذلك تعبده وتتمثله كما لو كان ربّا لأنك تصنع في انسحاقك أمامه وخضوعك له وتقليدك إياه بشكل مطلق مع عدم وجود اساس لذلك، فكأنّك اعتبرته ربّا وهذا مما ينبغي لنا أن نتفهّمه . فقد يخلق أرباباًَ في السياسة وفي الاجتماع وفي الدين وفي الأمن، عندما يفقد الإنسان توازن عقله فيمنح عقله للآخرين، وعندما يفقد توازن قلبه وتوازن حركته وتوازن موقفه... كن نفسك ولا تكن ظلاَّ للآخر.. فحتى وأنت تتبع الآخر عليك أن تتبعه إذا اقتنعت بما اقتنع به، لا ان تخضع بما اقتنع به، لتبقى لك إنسانيتك التي تفكّر مع الناس وتحاور وتجادل. لأنّك أمام اللّه لابدّ لك أن تدافع عن فكرك كلّه وقلبك كلّه وحركتك كلّها ]يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا[(18). فحضّر جدالك من خلال عمق فكرك وامتداد عقلك.
أيّها لأحبة: هذا هو الإمام الصادق(ع) الذي يحدّثنا عن قضايا عصرنا كما لو كان معنا الآن. فنحن لا نريد أن نذهب إلى الإمام الصادق(ع) في عصره لأنّ عصره قد يختلف عن عصرنا، ولكننا ندعوه إلى أن يزورنا في مواقعنا السياسية والاجتماعية والثقافية لنستلهمه في كلّ ما نعيش فيه من مشاكل وما نواجهه من قضايا، وسنجد عنده الحلّ لأية مشكلة والتخطيط لأية قضية، لأنه ينطلق من الإسلام ومن القرآن، وفي القرآن تبيان لكلّ شيء مما يحتاجه الناس في حركتهم الإنسانية. والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الرابعة عشرة: 8ذي القعدة1420 ه المصادف 12/2/ 2000م
في مجلس الإمام الرضا(ع) الثقافي
لا نريد أن ننفتح عليهم انفتاح الذات على الذات، ولكن انفتاح السائرين في خطّ الرسالة على الذين يقودون حركتها في الفكر والعاطفة والحياة
في مجلس الإمام الرضا(ع)
حسن الظنّ باللّه
تعلّم الصمت
الحلم قرين العبادة
من علامات الفقه
الصمت يكسب المحبّة
حقيقة التواضع
حدّ التواضع
مصاحبة الوالدين بالمعروف
درس المحبة
الذنوب والبلاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في مجلس الإمام الرضا(ع):
بعد أيام نلتقي بمناسبة مولد الإمام علي بن موسى الرضا(ع).ولذا فإنّنا نريد أن نجلس في مجلسه،فإذا لم نستطع ذلك حضورياً لأنّنا لم نعش في زمنه، فإننا نريد أن نجلس في مجلسه ثقافياً وإسلامياً،لأن الثقافة التي أعطاها مازالت تعيش حضورها في كلّ زمان ومكان،لاسيما أنّ علاقاتنا برموز الإسلام هي علاقتنا بالإسلام نفسه، لأنهم كانوا إسلاماً يتحدّث،وإسلاما يتحرّك ،وإسلاماً يواجه التحدّي ويطلق التحدّي.
ولذلك فإننا لا نريد أن ننفتح عليهم انفتاح الذات، على الذات ولكن انفتاح السائرين في خط الرسالة على الذين يقودون حركتها في الفكر وفي العاطفة وفي الحياة. ولعلّنا ـ أيّها الأحبّة ـ نحتاج إلى هذا المنهج في تمثلنا لكلّ الرموز الإسلامية لنعيش الإسلام من خلالهم لاسيما إذا كانوا في مواقع العصمة، لأنّ الإسلام عند ذلك سوف يكون في وعينا، من خلال ما تثبت صحته من كلماتهم، نوراً يضيء ليس فيه أيّ غبش ولا أيّة ظلمة.
حسن الظنّ باللّه:
نحن الآن في مجلس الإمام الرضا(ع) الثقافي.. نجلس إليه ونستنطقه، فلقد كان يحدّث الناس حديثه الذي يريد لهم من خلاله أن ينفتحوا على اللّه، بحيث تكون لهم كلّ الثقة باللّه،فينتظرون منه تعالى كلّ الخير في أحلامهم وفي حاجاتهم وفيما يقبلون عليه من مصير،بحيث يتصوّر الإنسان ربّه في موقع الأمل الكبير، وهذا ما يعبّر عنه ب (حسن الظنّ باللّه). يقول الإمام الرضا(ع): ((أحسن الظنّ باللّه)). فعندما تتجه إلى اللّه ومعك أحلامك كلّها وحاجاتك كلّها وآلامك كلّها وتطلعاتك كلّها لا تشعر باليأس ولا بالسقوط، بل ارتفع في كلّ ما تطلبه من ربّك، فربّك القادر على كلّ شيء فلا يعجزه شيء.. إذكر ربّك في مواقع رحمته حتى تفيض عليك.. وانظر ربّك في مواقع قدرته حتى تعرف أنّ اللّه قادر على أن يحقّق كلّ ما تريده،ممّا يصعب عليك الوصول إليه. واذكر ربّك في مواقع مغفرته ورضوانه، وانثر بين يديه ذنوبك.. وضع في يقينك أنّه سيغفرها لك، وأنّه سيرضى عنك، إذا أحسنت تخطيط قلبك للحق،ونبضاته للخير،وحياتك للعدل.
((فإنّ اللّه عزّ وجل يقول: أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي إن خيراً فخير وإن شرّا فشرّاً))(1). أنظر إليه لأرى ما ظنّه بي؟ هل يظنّ بي الخير ليتطلّع إليّ من موقع الخير المطلق، لأنّ اللّه يمثل الخير المطلق، فسأجزيه خيراً. أمّا إذا ظنّ بي الشرّ، وأنّي لن أغفر له، ولن أرحمه، ولن أحقّق له حاجاته، ولن أرضى عنه إذا نظر إليّ نظرة اليائس الذي لا ينفتح عقله وقلبه عليّ، فسوف تكون نتيجة ظنّ الشرّ بي أن أحقّق له ذلك الشرّ.
فإذا انطلقنا في ذلك فإننا سوف نعيش مع اللّه في آفاق الأمل الكبير، وسوف ننفتح على مستقبلنا وهو بين يدي اللّه في آفاق الأحلام التي تتحقّق بحسن ظنّنا به، وفي آفاق الحاجات التي تتحقّق بحسن ظنّنا به. ولذلك فإن المسألة تنعكس إيجابياً على جانب الإيمان الذي يقوى عندما يعيش الثقة باللّه، وفي الجانب النفسي عندما تطرد النفس عوامل اليأس كلّها، في مشاعرها وأحاسيسها وتطلّعاتها، لأنّها تلتفت إلى قوله تعالى ]وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ[(2).
تعلّم الصمت:
والحديث الثاني يتصل بالتوجيه الرضوي إلى أن يتعلّم الإنسان الصمت، لا الصمت الغبي الذي لا يفكّر ولا يتأمّل ولا يدرس الأمور، بل يتعلّم الصمت الذي يمنعه عن لغو الكلام، لأنّ الصمت للتفكير بالكلام فيما يستقبل هو تفكير بالكلام النافع، وليس بالكلام الضارّ أو الذي لا نفع فيه ولا ضرر. ولأنّ الصمت لدراسة الكلمات الكامنة في عقلك، ممّا يدركه عقلك من معاني الكلمات، وكلّ الكلمات الكامنة في قلبك مما ينبض به القلب من كلمات، وكلّ الكلمات المتحرّكة في حياتك مما تنفتح عليه الحياة من كلمات، والصمت من أجل التفكير والدراسة وحساب النتائج السليبة والإيجابية، وعلاقة الكلمات بحياتك وبمصيرك وبالناس من حولك، يقول للكلمة إبقِ مكانك عندما لا تكون كلمة تغني الحياة وتنفعها وتؤكد المصير وتشير إلى النجاة.ويقول للكلمات التي تملأ الحياة غنى في الفكر وفي الخير وفي الروح وفي الحركة المرتبطة بالأهداف الكبيرة، أن تخرج من مكانها لتزرع الحقّ والخير والحبّ في مواقع الإنسان الحياتية كلّها.
الحلم قرين العبادة:
ولقد كان الإمام الرضا(ع) يقول فيما رواه محمد بن عبيد اللّه، ((قال: سمعت الرضا(ع) يقول لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً)). أي هادئ الطبع، ومن هدوء الطبع أن لا يتكلم إلا بوعي ومن غير انفعال، لأنّ الحليم هو الذي لا يعنف، ولأنّ الحليم هو الذي لا ينفعل ولا يشتم، فالحلم هنا يوحي إليك بالصمت في مواقع كثيرة. ((وإنّ الرجل كان إذا تعبّد في بني إسرائيل لم يعد عابداً حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين))(3). يعني حتى يدرّب نفسه على أن لا تتحرّك انفعالاته لتنتج كلماته، وأن لا تنطلق كلماته من خلال ردود الفعل هنا وهناك، وبهذا يرتبط الصمت بالحلم.
ونحن نعرف ـ أيّها الأحبّة ـ أنّ من بين ما وجّه اللّه به الناس في بني إسرائيل هو أن ينذروا صوم الصمت ]فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا[(4). فلقد كانوا ينذرون الصمت حتى يتعوّدوا من خلال صوم الصمت على السيطرة على كلماتهم، وعلى كلّ الدوافع الانفعالية التي تدفع الإنسان نحو الكلمة النابية.لأنّ الإنسان إذا سيطر على كلامه سيطر على مواقفه أن لا تنحرف، وعلى علاقاته أن لا تتعرّض للسقوط، وعلى كلّ ما حوله أن لا يخرج عن الجادّة، لأنّ الكلمة عندما تنطلق من غير وعي فإنّها قد تدمّر الكثير من إنسانية الإنسان بل الكثير من مواقعه أيضاً.
من علامات الفقه:
وفي هذا الجوّ، قال أبو الحسن الرضا(ع): ((من علامات الفقه)). وليس المراد علم الفقه وإنّما الفهم والوعي والتدبّر: ((الحلم والعلم والصمت)). أي أن الإنسان الذي يمكن أن تقول عنه إنّه يختزن الوعي في شخصيته، وأنه الإنسان الذي يملك الفهم لما حوله ولمن حوله، هو الإنسان الذي يتميّز بالعلم الذي يجعله ينفتح على مواقع الحياة مما يتصل بمسؤوليته ومواقعه، والإنسان الذي إذا واجه الحياة في آلامها ومشاكلها وصراعاتها وانفعالاتها كان الهادئ الطبع الذي لا يعنف بل يوسّع صدره حتى لا يضيق بشيء، وهذا ممّا يعبّر عنه ب (الحلم). والصمت الذي يجعله قادراً على أن يلجم الكلمة التي لا تنفع الحياة ليفسح المجال للكلمة التي تنفع الحياة.
((إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة)). لأنّ الصمت المفكّر والدارس والمتعمّق يجعلك تدرس مواقع الأشياء وما تحتاجه هذه المواقع لتضع الأشياء في مواضعها، والحكمة هي أن تضع الشيء في موضعه.. أي الكلمة المناسبة في المقام المناسب.. والفعل في الموقف المناسب .. والشخص المناسب في المكان المناسب.. والخطّ المناسب في اتجاه الهدف المناسب.
الصمت يكسب المحبّة:
((إنّ الصمت يُكسب المحبّة)). المحبّة للناس، لأنّهم يرونك الإنسان الذي لا تنفعل مواقفه وكلماته، ويكسبك المحبّة ـ قبل ذلك للّه تعالى لأنّ الكلمات غير المسؤولة هي التي تسخط اللّه عليك في نتائجها.
((إنّه دليل على كلّ خير))(5). لأنّ مشكلتنا ـ أيّها الأحبّة ـ في هذه الضوضاء النفسيّة والاجتماعية، والضوضاء الطائفية والحزبية والسياسية والعصبية التي تجتمع في عقولنا وفي قلوبنا فتحجب عنا وضوح الرؤية، وبذلك تندفع هذه الضوضاء لتجعل الإنسان مهذاراً يعبّر عن الضوضاء النفسية بضوضاء الكلمات.
وعندما تتحرك الكلمات في أجواء الضوضاء فإنّها تؤدّي إلى أن تجعل مصيرك ومصير المجتمع في قبضة الضوضاء. وما أكثر الذين يعيشون ضوضاء الجهل والحقد والعصبية ممن يطلقون الكلمة المقروءة أو المسموعة أو المرئية لتنتشر الضوضاء في المجتمع. إنّ اللّه يريدنا ـ أيّها الأحبّة ـ أن نصمت لا صمتاً يشلّ إرادتنا عن الكلمة، ولكنّه الصمت الذي ينظّم لنا تفكيرنا في حركة الموقف وحركة الكلمة من خلال الموقف. وهذا هو درس الإمام الرضا(ع).
وكان(ع) يحدّث الناس من حوله، وقد رأى الذين يعيشون في سجن ذواتهم فينفتحون، وتتضخّم شخصياتهم عند أنفسهم لأنّهم يملكون شيئاً من علم أو من مال أو جاه أو سلطة.. كان يخاطب هؤلاء ليقول لهم إنّ التكبّر في الإنسان يعني أنه لا يعيش معنى إنسانيته، لأنّك كلّما عشت معنى إنسانيتك أكثر عشت معنى إنسانية الآخر أكثر، لأنّ الإنسانية في عمقها شيء واحد، فإذا كنت تفهم معنى الإنسان فيك، فإن ذلك يوحي إليك بأن تفهم معنى الإنسان في الآخر. وإذا كانت إنسانيتك توحي إليك ببعض الحاجات التي تطلبها في الآخر، فإن عليك أن تفهم بأنّ للآخر حاجاته التي يطلبها منك، فالإنسانية فيما تطلبه خط واحد.
حقيقة التواضع:
((عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: التواضع أن تعطي الناس ما تحبّ أن تعطاه))(6). أيّ أنّ حاجاتك عند الناس هي حاجات الناس عندك، فإذا كنت تريد أن تجسّد التواضع فيك فعليك أن تساوي الناس بنفسك، فليست حاجاتك من ذهب وحاجات الناس من تراب، وليست مواقعك في القمّة ومواقع الناس في السهل، فالناس في ذلك سواسية ]يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ[. في تنوّعاتكم ]لِتَعَارَفُوا[ لا لتتفاضلوا بانسانيتكم، فليس إنسان أفضل من إنسان ]إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[(7). فعملك هو الذي يعطيك ميزتك، أمّا في معنى الإنسانية فليس هناك إنسان أفضل من إنسان، وفي الحديث عن رسول اللّه(ص) ((لا فضل لعربي على أعجمّي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى كلّكم من آدم وأدم من تراب)). فلا تفاضل من خلال القومية، ولا تفاضل من خلال القيم اللونية أو العرقية أو الجغرافية أو أيّ شيء مما يتمايز به الناس، بل هي خصائص أودعها اللّه في الناس لتنتج كلّ خصيصة عنصراً جديداً في المعرفة أو في التجربة أو بعض الأمور التي يمكن أن يستفيد منها فريق من الفريق الآخر.
حدّ التواضع:
((وفي حديث آخر قال قلت: ما حدّ التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعاً؟)). أي كيف يتجسّد التواضع في الواقع؟ ((فقال: التواضع درجات: منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم)). أن تعرف نفسك ما هو حجمك الحقيقي في العلم، إذا كان لك شيء منه؟ وما هو حجمك الحقيقي من التقوى، إذا كان لديك بعض مراتب التقوى؟ وما هو حجمك في القوة إذا كنت تملك بعض مقوماتها أي أن تزن نفسك، وأن تنزلها منزلتها.لأنّ الإنسان الواعي المنفتح الذي يحترم عقله وإنسانيته إذا خلا بينه وبين نفسه فإنّه يعرف نفسه. ولعلّ مشكلة الكثيرين منّا هي أنّهم لا يخلون مع أنفسهم، ولذلك لا يفهمون أنفسهم. وهناك بعض الناس من يستعير معرفته بنفسه من الناس، ولذلك تراه يصعد عندما يصعد الناس به ويهبط عندما يهبط الناس به ـ وقد قال الإمام علي(ع) لهؤلاء الذين قد ينتفخون عندما يمنحهم الناس بعض حالات الانتفاخ ((لا يغرّنك سواد الناس عن نفسك فإن الأمر يصل إليك دونهم)). فقد يمدحونك ويضخّمون لك شخصيتك ولكنك تعيش في الواقع وسوف تصلك النتائج بحسب ما أنت عليه.لذلك كان التوجيه الأخلاقي للإنسان المؤمن هو ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين(ع) ((اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها)) ـ إجعلني يا ربّ ـ عندما استمع إلى كلام الناس من حولي، عندما يرفعونني درجات من مواقع السلّم الاجتماعي أو السياسي أو الديني متوازناً، واجعلني أدرس نفسي في العمق فأضعها في الدرجة الواقعية لها. ((ولا تُحدث لي عزّاً ظاهراً)). أي لا تجعلني أنفتح من خلال مظاهر العزّ التي يحيطني الناس بها بفعل الأوضاع الاجتماعية التي قد تجعل لي ذلك ((الاّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها))(8). إجعلني ـ يا ربّّ ـ أعيش بعض الإحساس بنقاط الضعف في داخل نفسي حتى تتوازن بين العزّ الظاهر والذلّة الباطنة.وهذا ما كان يعبّر عنه علي(ع) وهو القمّة في عصمته وفي أخلاقيته. كان إذا مدحه الناس قال: ((اللّهم اجعلني خيراً مما يظنّون واغفر لي ما لا يعلمون)). فالمطلوب هو أن يجلس الإنسان ليدرس نفسه ويوزانها لينزلها منزلتها بقلب سليم لا كبرياء فيه ولا غرور.
ويقول الرضا(ع) بعد ذلك عن التواضع ((لا يحب أن يأتي إلى أحد مثل ما يؤتي إليه)). فعندما يعامله الناس بشيء فإن ّ عليه أن لا يشعر بأن ذلك هو حقّه أو استحقاقه ((وإن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ عافٍ عن الناس))(9). فعندما يعامله الناس بالسوء فإن عليه أن لا يقابلهم بمثله، فلو أنهم آذوه فإنّه لا يجازيهم بالايذاء ]وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ[(10). ولا يفجّر غيظه عندما يغيظه الناس، ويعفو عنهم فيما يصدر منهم من إساءة ]وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[(11).
مصاحبة الوالدين بالمعروف:
وفي الحديث عن الإمام الرضا(ع) وقد سأله شخص عن والديه اللذين لا يذهبان مذهبه ولا يواليان من يواليه.فعن معمر بن خلاد قال: ((قلت لابي الحسن الرضا(ع) أدعو لوالديّ إذا كانا لا يعرفان الحقّ)). وكأنّه يتصوّر أنّ هناك إشكالاً في أن يدعو لوالديه إذا كانا على غير مذهبه وعلى غير طريقته. ((قال: أدعُ لهما وتصدّق عنهما وإن كانا حيين لا يعرفان الحقّ فدارهما)). حاول أن تداريهما فلا تعنف معهما، ولا تجعل اختلافهما عنك في المذهب وسيلة من وسائل المعاملة السلبية معهما، ((فإنّ رسول اللّه(ص) قال: إنّ اللّه بعثني بالرحمة لا بالعقوق))(12).
ونأخذ من هذا درساً في أن بإمكان الإنسان أن ينفتح بالرحمة على من لا يلتقي معه بالطريقة أو في المذهب، وأن على الإنسان أن لا ينصب حاجزاً يحجزه عن الآخر بالمعنى الاجتماعي. وربّما كان ذلك هو الوسيلة التي يمكن للإنسان أن يهدي الآخرين بها. ولقد حدّثتكم عن شخص دخل الإسلام وكان على النصرانية، وجاء إلى الإمام الصادق(ع) وذكر له أنّ له أمّا ما زالت تدين بالنصرانية، فكيف يتعامل معها؟فقال أنظر إلى ما كنت تفعله معها من الإحسان فزد في ذلك، فذهب الرجل ورعى أمّه رعاية فوق رعايته لها سابقاً، فسألته عن سرّ ذلك وأخبرها بدخوله في الإسلام، وأنّ إمام الإسلام هو الذي أمره بذلك، فقالت له: هل هو نبيّ؟ فقال لها: لا فاللّه قد ختم النبوّة، ولكنه ابن نبي وإمام. قالت:يا بني هذه أخلاق الأنبياء إعرض عليّ دينك، فأسلمت وماتت بعد أيام ودفنت في مقابر المسلمين.
درس المحبة:
أيّها الأحبة: بالمحبّة وبالرحمة نستطيع أن نفتح عقول الناس وقلوبهم، فالحقد لا يفتح عقلاً ولا قلباً ولا طريقاً للحوار.. بالمحبّة وبالرحمة استطاع الـنبي(ص) أن يفتح قلوب الناس على الإسلام ]فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[(13). فلا تحسب أنك بالعنف تخلص لدينك، فربّما تبعد الناس عن الدين بعنف المزاج أو عنف الكلمة أو عنف الموقف.. وبالرحمة والمحبّة يمكن لنا أن نفتح قلوب الناس على الحقّ.
إنّ الداعية إلى اللّه لابدّ أن يتعامل مع الناس بلغة القلوب لا بلغة السلاح ولا بلغة العنف، فمشكلة الكثير من الدعاة إلى اللّه أنهم لم يتعلّموا لغة القلوب لأنّهم لا قلوب لهم.
وفي الحديث ((عن الإمام الرضا(ع) قال: أوحى اللّه عزّ وجل إلى نبيّ من الأنبياء إذا أطعت رضيت)). على من أطاعني، لأنّ طاعة اللّه هي الطريق إلى رضوانه، ((وإذا رضيت باركت)) للإنسان في عمره وفي رزقه وفي ولده ((وليس لبركتي نهاية)). فليأمل الذي يطيعني أنّ بركتي سوف تمتد إلى حياته كلّها. ((وإذا عصيت غضبت وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الورى))(14). أي تمتد في ذريته الذين هم مثله في خط المعصية.
الذنوب والبلاء:
((عن العباس بن هلال الشامي مولى لأبي الحسن موسى(ع) قال: سمعت الرضا(ع) يقول كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون))(15). لأنّ الذنوب، بنتائجها السلبية والواقعية، تنتج الكثير من البلاء، لذلك كلّما ازداد الناس ذنوباً فإنّ عليهم أن ينتظروا الزيادة في البلاء من خلال الارتباط العضوي بين خصائص الذنوب وخصائص البلاء، فلن يأتي البلاء من فوق ولكن من خلال سلوكك أنت، وذلك قوله تعالى ]ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[(16).
أيّها الأحبّة: نحن في مجلس الإمام الرضا(ع) وعلى مائدته الثقافية، فهل تريدون أن تكونوا في خط الولاية لأهل البيت i؟ ليست الولاية في عمقها أن تصفّقوا في مواليدهم وأن تبكوا في مآسيهم فتلك عاطفة يمكن أن تتحرك مع الناس كلّهم، ولكن الولاية هي ولاية الموقف، أن تعيش عقولكم في خط عقولهم وقلوبكم في خط قلوبهم.. أدرسوهم.. تعرّفوا على خطوط كلماتهم.. وخطوط مسيرتهم..
أيّها الأحبّة: إنّ أهل البيت i غائبون عنّا لأننا لا نعيش ما فكرّوا به وما أوصوا به وما وعظوا به، لذلك تعالوا إلى هذه المائدة التي تبقى حارّة غنيّة جديدة مهما تقدّم الزمن، لأنّها مائدة الحق والحق لا يفنى. ولذا فإنّ علينا نكون مع الحق لأنّهم انطلقوا من الحق وفي طريق الحق ونحو الحق. والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الخامسة عشرة: 15 ذي القعدة 1420 ه المصادف 19/2/ 2000م
الاعتماد على النفس
الاعتماد على النفس خط تربوي يتصل بحياة الإنسان وحياة الأمّة
الاعتماد على النفس
السؤال من غير حاجة
فقر في النفس
كراهية المسألة
معالجة الكبرياء الخفي
السؤال ذلّ وفقر
الأيدي ثلاث
استغلال الدول الكبرى لحاجات الدول الصغرى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الاعتماد على النفس:
من أسس البرنامج التربوي الإسلامي، فيما يخصّ الإنسان في علاقته بحاجاته، أو فيما يطلبه من الآخرين مما يهمه أو يحتاجه، هو أن الإنسان المسلم يملك طاقات كثيرة يمكن له أن يفجّرها وينمّيها ويحرّكها في اتجاه حاجاته. وأن عليه أن يحدّد تلك الحاجات فلا تطغي عليه.
إنّ الإسلام يريد للإنسان أن يعيش في الحياة ـ سواء كان فرداً أو جماعة ـ الاعتماد على نفسه، بحيث أنّه إذا قدر أن يقوم بشيء، فإنّ عليه أن يمارس ذلك بنفسه حتى لو كان يملك أن يكلّف به غيره. فهو ـ مثلاً ـ إذا كان قادراً في بيته على أن يقوم ببعض حاجاته، وكان العرف العام أن يكلّف زوجته أو ابنته أو ولده، فإنّ عليه ـ انسجاماً مع هذا الخط التربوي المنهجي ـ أن يقوم بالفعل بنفسه ولا يكلّف غيره، بحيث يتعلّم أن يمارس كلّ شيء يستطيع أن يمارسه بنفسه حتى لو كان غيره مستعداً للقيام به.
ونحن نعرف أنّ هذا الخط التربويّ لا يتصل بحياة الإنسان بنفسه فحسب، بل يتصل بحياة الأمّة كلّها في اقتصادها وأمنها، وفي الكثير من حاجاتها التي يمكن لها أن تنظّمها لتقوم بها بنفسها دون سؤال الآخرين.
إنّ الإسلام يؤكد للإنسان أنّ سؤال الآخرين في حاجاته قد يسيء إلى نفسيته، لأنّ اليد العليا تمثل حالة فضلى بالنسبة لليد السفلى، فالمسؤول سوف يمثّل في موقعه، أو في طبيعة السؤال، حالة فوقية للسائل، واللّه تعالى يريد للإنسان ـ مهما أمكنه ذلك ـ أن يحتفظ بكرامته وبعزّة نفسه.
السؤال من غير حاجة:
هذه المسألة عالجها التراث الإسلاميّ الوارد عن النبي(ص) وعن أئمة أهل البيت(ع) وهي تتصل بدائرتين:
الأولى : دائرة السؤال من غير حاجة.
الثانية: دائرة السؤال في الحاجة التي يملك الإنسان أن يستغني فيها عن الآخر.
وفي الدائرة الأولى، ((عن أبي عبد اللّه(ع) قال: قال عليّ بن الحسين(ع): ضمنت على ربيّ)). وهذه كلمة كبيرة جداً لا يملك القول بها إلاّ الذين قرّبهم اللّه إليه وأعطاهم الموقع المميز، بحيث يضمنون على اللّه من خلال ما عرّفهم من خطوط وحقائق دينية.
((أنّه لا يسأل أحدٌ من غير حاجة، الاّ اضطرّته المسألة يوماً إلى أن يسأل من حاجة))(1). أيّ أنّك إذا سألت من دون أن تكون لك حاجة في سؤال الآخرين حيث كانت لك كفايتك ولك ما تعيش به وما تستعين به، ولكّنك بفعل الطمع، أو بفعل حالة نفسية معقّدة، دأبت على أن تسأل الآخرين، فإنّ اللّه سيعاقبك في الدنيا بأن يبتليك ببلاء يجعلك تسأل بفعل هذا الضيق أو هذا البلاء الذي أصابك. وربما تتمثل هذه المسألة في النتيجة الطبيعية للسلوك السلبي لهذا الإنسان باعتبار أن الإنسان الذي لا يحاول التحرك في حياته من خلال العمل المنتج سوف ينتهي به الأمر إلى استنفاد ما عنده من المال فيضطر إلى السؤال من موقع الحاجة إلى تلبية حاجاته الخاصة وبذلك تكون العقوبة الإلهية له من داخل العمل ]ليُذيقَهم بعضَ الذي عمِلوا لعلّهم يرجعوُن[(2) لا من الحكم القضائي النازل من اللّه بشكل مباشر.
فقر في النفس:
وفي الحديث ((عن أبي عبد اللّه قال: قال أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليهم): اتّبعوا قول رسول اللّه(ص) فإنّه قال: من فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه باب فقر))(2). فكأنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول له ما دمت تسأل الناس وأنت في غنى عن حاجاتك، فإن معنى ذلك أنّك تضع نفسك موضع الفقير الذي يحتاج إلى السؤال. وإذا كنت مصاباً بفقر النفس، فإنّ اللّه سوف يعاقبك على ذلك بأن يفتح عليك فقر المال. والرزق ـ كما نعلم ـ هو من عند اللّه سبحانه وتعالى، وهو لا يريد للإنسان أن يكون فقير النفس بحيث يسقط نفسه بالسؤال، وهو في غنى عن سؤال الناس لأنّه يملك ما يسدّ به رمقه وحاجاته.
وفي الحديث عن أبي عبد اللّه(ع): ((ما من عبد يسأل عن غير حاجة فيموت حتى يحوجه اللّه إليها، ويثبّت له بها النار))(3). لأنّك عندما تسأل من غير حاجة فإنّك توحي إلى الآخرين بأنّك موضع للصدقة، أو بأنّك موضع للإعانة والمساعدة، في حين أنك في الواقع لا تحتاج إلى صدقة أو مساعدة، فأنت تكلّف الناس من خلال إيحاءك أن يعطوك ما لا تحتاجه بعنوان أنّك تحتاجه، لأنّهم لا يعرفون غناك عنهم بعد أن قدّمت حاجاتك إليهم.
ولو عرف الناس حالتك الواقعية لما أعطوك، وفي ضوء ذلك فان اتجاه الحديث هو أن السؤال من غير حاجة يعني إذلال الإنسان نفسه من دون ضرورة، وهو أمر محرّم شرعاً وقد يستحق عليه النار، كما أنه يؤدّي في النهاية إلى ترك العمل الذي ينتهي به إلى الحاجة.
كراهية المسألة:
معالجة الكبرياء الخفي:
السؤال ذلّ وفقر:
الأيدي ثلاث:
استغلال الدول الكبرى لحاجات الدول الصغرى:
أيّها الأحبّة: هذا هو تراث الإسلام فيما تركه لنا النبي(ص) وأهل بيته(ع) وهو الذي يؤكّد للإنسان، فرداً أو مجتمعاً أو أمّة، أنّه إذا قدر على أن يتحمّل حاجاته، أو أن يقدّرها، أو أن يستغني عن بعضها، فإنّ عليه أن لا يسأل الناس ذلك، لأنّهم لا يعطوك شيئاً من دنياهم إلا إذا أعطيتهم شيئاً من دينك.وهذا الأمر يتمثل في عصرنا هذا بكلّ ما تطلبه الدول الصغيرة والشعوب المستضعفة من الدول الكبرى الغنيّة. فإنهم لا يقدّمون للشعوب شيئاً إلا ويفرضون عليها شروطا قاسية صعبة تتدخل في كلّ اقتصادها وسياستها وأمنها، كما يفعل الصندوق الدولي، فهو في القروض التي يقدّمها لأيّ بلد من البلدان يعمل على أن يفرض عليها شروطاً مجحفة تتصل بحركة الاقتصاد، ولذا فهو في الظاهر يقدّم القروض بعنوان ترشيد اقتصاد تلك البلدان، وحتى تستطيع أن تفيه هذا القرض أو ذاك فإنه يخلق لها الكثير من المشاكل في الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
وهكذا نجد كيف أنّ الشعوب تستورد الكثير من الكماليات التي تفرض عليها الكثير من الشروط التي ربّما تصادر أوضاعها السياسية أو التربوية أو الاقتصادية والأمنية. لذلك فعندما نعيش واقعا اقتصادياً معينا، علينا أن نعمل على أن نقلّل حجم حاجاتنا الكمالية ما أمكننا ذلك.
فعندما ندرس ميزانية أية دولة وما يكلّفها استيراد السجائر ووسائل التدخين الأخرى، نجد أنّ الدخان يكلّفها مئات الملايين من العملات الصعبة. ونجد أن كلّ واحد من المدخنين يقتطع من غذاء وكساء أولاده وعائلته الكثير من أجل ذلك.
ونلاحظ ذلك أيضاً عندما ندرس حجم الكماليات في دول العالم الثالث التي تستوردها من الغرب، فإننا نجد حجم هذه الكماليات يفوق حجم الضروريات، وبذلك تسقط هذه الدولة أو تلك تحت تأثير الديون. كما نلاحظ هذا الأمر في أغلب دول العالم الثالث ولا سيما الدول العربية والإسلامية، فنرى كيف سقطت تحت تأثير الديون الثقيلة وهي الآن تواجه مشاكل كبيرة وعويصة جداً بحيث تفرض عليها شروط سياسية أو اقتصادية تتحدى موقعها السياسي وموقعها الاقتصادي.
من أجل ذلك كلّه، فإنّ هذه الكلمات المضيئة الحكيمة التـي جاءت عـن النبي(ص) وعن الأئمة الهداة من أهل بيته(ع) تريد أن تركّز في وعي الأمّة ووجدانها أنّ على الإنسان أن يقدّر حاجاته بقدر إمكاناته، فإذا استطاع أن يقوم بحاجاته فعليه أن لا يطلب من الآخرين أن يحقّقوها له، وإذا استغنى عن هذه الحاجات بطريقة وبأخرى فإنّ عليه أن يحرم نفسه من بعض لذّاتها ليحتفظ لها ببعض كرامتها، وهذا هو المنهج التربويّ الإسلامي الذي يمتدّ إلى ساحة الحياة كلّها. فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) مما روي عنه ((احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره، وتفضّل على من شئت تكن أميره)).
أيّها الأحبّة: تعالوا إلى الإسلام الذي يتحرّك من أجل أن يجعلنا نقف على أرض صلبة، وان ننفتح على مستقبل مضيء مشرق فاعل، لا أن نبقى نراوح مكاننا في البدايات من دون أن نتقدّم خطوة واحدة نحو العلاء. والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة السادسة عشرة: 21 ذي القعدة 1420 ه المصادف 26/2/ 2000م
إسلام الوجه لله تعالى
والإحسان في خط الإسلام
يختصر القرآن معنى الإسلام كله في قاعدته العقلية والنفسية والحركية في أن تسلم وجهك للّه وتحسن علاقتك بربّك وبنفسك وبالناس وبالحياة
تصوّر الإسلام
حصر الإسلام في زاوية ضيقة
التصوّر القرآني للإسلام
السير في خط الإسلام
وحدة الديانات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تصوّر الإسلام:
ما هو تصوّرنا للإسلام عندما ننتمي إليه ونصف أنفسنا بصفته؟ هناك تصوّر للإسلام بالطريقة الساذجة البسيطة، وهو أن ينطق الإنسان بالشهادتين، وأن يخضع من ناحية عملية لمتطلبات الإسلام بشكل عام، بحيث يكون خاضعاً لهذا الخط بعيداً عن معنى الإسلام في عقله وفي قلبه وفي خطّه في الحياة. وهذا مّما نلاحظه في الكثير من المسلمين في الواقع الإسلامي. فنحن نلاحظ أنّ هناك شيئاً من صورة الإسلام يتحرّك في مساجد المسلمين وفي نواديهم وفي بيوتهم.
ولكنّنا نلاحظ إلى جانب ذلك انحرافا كبيراً جداً عن الإسلام - العقيدة والإسلام - المفاهيم، والإسلام الحركة، وهذا ما يتمثل في المسلمين الذين لا يشعرون أنّ هناك مشكلة بين إسلامهم وبين الانتماء إلى أيّ تيار من التيارات المطروحة في الساحة، مما قد يضادّ الإسلام عقيدة أو شريعة أو منهجاً. ولعلّنا عندما نواجه الواقع في السنين المتأخرة نلاحظ كيف استطاعت التيارات العلمانية بما فيها الإلحادية أن تفرض نفسها على واقع المسلمين، بحيث استطاعت أن تجمع الكثير منهم في عملية الانتماء لهذا التيار أو ذاك.
ونحن نعرف أنّ هناك أناساً يصلّون ويصومون ولكنهم ينتمون إلى الماركسية، أو إلى الوجودية، أو إلى الكثير من الخطوط المتصلة بالواقع الاقتصادي أو الاجتماعي أو ما إلى ذلك. وقد ينكرون على الإسلام أن يتحرّك من أجل أن يدخل الحياة في سعتها، وعندما تحدّثهم بأنّ هذا السلوك يمثل ازدواجية بين الشيء وضدّه، وبين الشيء ونقيضه، يقولون لك بأنّ الدين شيء والسياسة شيء، والدين شيء والاقتصاد شيء، والدين شيء وفهم الإنسان في كلّ جوانب حركته وشخصيته شيء آخر.
حصر الإسلام في زاوية ضيقة:
لقد حاصروا الدين في زاوية مغلقة ليس لها علاقة بالعقل، وليس لها علاقة بالإحساس والشعور، نعم فيها شيء من عاطفة، وشيء من رواسب، ولكنّها ليست الإسلام بأيّ حال من الأحوال. ولعلّ هذا هو الذي قد تمثله الآية الكريمة ]قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[(1). وربما كانت هذه الآية تشير إلى من دخل الإسلام رغبة أو رهبة، ولكنّها تتسع إلى من التزموا الإسلام تقليداً، أي بالطريقة التقليدية وليس بالطريقة المنفتحة.
هذا هو الإسلام بالمعنى المصطلح في واقع المسلمين في خطّ التخلّف، ولعلّ هذا النوع من الإسلام في تصوّر المسلمين هو الذي أدّى إلى أن ينكمش المسلمون في خطّ المواجهة وخطّ الحركة، وإلى أن يفتقدوا الشخصية الإسلامية التي تتصل بمسألة الحرية والعزّة والكرامة وما إلى ذلك. فلقد استبدل هؤلاء بالشخصية الإسلامية شخصيات أخرى أصبحت أقوى في شعورهم وإحساسهم من الشخصية الإسلامية. فنحن نلاحظ أنّ الشخصية الوطنية، أو الشخصية الإقليمية، أو الشخصية القومية، هي أكثر تأثيراً من الشخصية الإسلامية، في الوقت الذي كنّا نؤكّد دائماً، في هذه الندوة وفي غيرها،أنّ الإسلام لا يلغي للإنسان خصوصية القومية أو الأقلية، أو حتى خصوصية الوطنية والعائلية، ولكنّه أراد لهذه الخصوصية أن لا تكون خصوصية مغلقة بل أن تكون دائرة مفتوحة على الدوائر الأخرى ]وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[(2). فأكّد تنوّع الشعوب على المستوى القومي والإقليمي والعرقي، وتنوّع القبائل، ولكن في الوقت نفسه أراد لهذه الخصوصيات أن تكون وسيلة من وسائل الانفتاح والتعارف.
التصوّر القرآني للإسلام:
وعندما ندرس القرآن الكريم في التصوّر القرآني للإسلام نجد أن القرآن يختصر الدين كلّه، منذ أن بعث اللّه الرسل بالدين وحتى الآن، بكلمة الإسلام. وعندما يحدّثنا عن كلمة الإسلام فإنّه يعبّر تعبيراً يختصر معنى الإسلام كلّه في قاعدته العقلية والنفسية والحركية، وهو أن تُسلم وجهك إلى اللّه، والوجه هنا كناية عن الذات باعتبار أن الوجه يمثل مظهر الذات وصورتها، فيعبّر به عن الذات، ولذلك كرّر القرآن هذا التعبير لأنّ الدين يرتكز أساساً على أن تكون للّه بكلّك.. وأن يكون عقلك في الخطوط التي يريد اللّه له أن ينفتح عليها، لا أن يفرضها عليه فلا يمكن أن تفرض على العقل شيئاً من خارج لأنّه يملك حرية الانطلاق.. ولكن اللّه يريد لك أن تعيش مسؤولية عقلك بحيث لا يكون تفكيرك بعيداً عن المسؤولية، أي أن تعرف أنّ عقلك هو الطاقة التي وهبك اللّه إيّاها من أجل أن تكتشف الحقيقة، حقيقة الكون، وأن تعرف اللّه بها، وأن تكتشف الإنسان والحياة من حولك. ولذلك فدور العقل هو أن يكتشف الحقيقة بجميع عناوينها،فلابدّ أن تحضّر له كلّ المواد الخام التي تتجمّع لتنتظم مع بعضها من أجل أن تقودك إلى الحقيقة من خلال الحرية الفكرية في عقلك.
ولعلّنا نقرأ في آية مباركة أنّ اللّه يختصر الدين في كلمتين: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا[(3). أن تكون الإنسان الذي يمتلئ كيانه كلّه بربوبية اللّه، ومن الطبيعي أنّ كيانك عندما يمتلئ بالربوبية فإن هذه الربوبية تفتح لك الطريق إلى النتائج التي تكفل لك السعادة.
ومن خلال ذلك كلّه نفهم أنّ الإسلام هو هذا الذوبان في اللّه، والانقياد العقلي والقلبي والحركي في اتجاه تحقيق مرضاة اللّه، بحيث لا تكون لك كلمة أمام كلمته، ولا خط أمام خطّه، ولا شريعة أمام شريعته، لأنّ ذلك هو معنى أن يكون اللّه ربّك ، ومعنى أن تسلم ذاتك للّه ، فلو وقفت تعترض من دون أن تعمّق الاعتراف في الوعي فإن معنى ذلك إنّك لم تسلّم.
وعلى ضوء هذا، فليست هناك أديان، بل هناك دين واحد]إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الإِسْلامُ[(4). أي بهذا المفهوم الذي يراد للإنسان أن يتمثّله في عقله وقلبه وحياته لتكون حركته كلّها في اتجاه هذا المفهوم. وإذا كانت الأديان تختلف في بعض المفردات هنا وهناك، فإنّ اختلافها ينطلق من أن أوامر اللّه التي يتمثّل الاستسلام له الانسجام معها، تختلف بين موقع وآخر، وإلا فالقاعدة واحدة والخطّ واحد والأفق واحد، وتبقى المفردات والتفاصيل تتحرّك من خلال ما يأمر اللّه به وينهى على أساس من مصلحة الإنسان.
فلنقرأ بعض الآيات في هذا المجال ]بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ[(5).أي أسلم ذاته للّه، وقال في عقله: يا ربّ عقلي بين يديك يسبّح بوعيه مواقع عظمتك لأنّه أدرك سرّها، وقلبي يسبّح بحمدك لأنّه انفتح في نبضاته على كلّ معاني الخير عندك، وطاقتي تسبّح بآلائك لأنّها انفتحت على مواقع الآلاء كلّها في إبداعك. ]بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه[. وحوّل هذا الإسلام إلى حركة في الواقع. ]وَهُوَ مُحْسِنٌ[. أي أحسن في علاقته بربّه، وفي علاقته بنفسه، وفي علاقته بالناس، وفي علاقته بالحياة. ]فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[(6). لأنّ هاتين الكلمتين: ((إسلام الوجه للّه)) و((الإحسان في خطّ هذا الإسلام)) تختصران الدين كلّه.
ويحدّثنا اللّه في كتابه الكريم أنّ اللّه يريد للإنسان أن ينسجم مع النظام الكوني، ويعلّمنا أن الكون كلّه أسلم له، فالكون يمثل، في قوانينه المودعة في ظواهره، هذا الانقياد للّه سبحانه وتعالى، ولذلك لا نجد أنّ هناك قانوناً في أصغر ذرّة في الكون إلى أكبر ذرّة يمكن أن يختلف بمرور ملايين السنين، بل يبقى ثابتاً لأنّ الظاهرة تخضع للّه من خلال ما أودعه فيها من أسراره. ]أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[(7). ومثل هذا أيضاً في قوله تعالى للسماء والأرض ]اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[(8). وفي قوله تعالى ]إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ[(9). فاللّه تعالى يريد للإنسان أن ينسجم مع النظام الكوني فكأنّه يريد أن يقول إن الكون كلّه يسلم للّه وعليك ـ أيّها الإنسان ـ أن تنسجم مع النظام الكوني فلا تتمرّد على اللّه ولا تنحرف، لأنّ اللّه كما جعل للكون قوانين تسير به إلى ما ينظّم وجوده، فإنّه جعل لك قوانين تنظّم لك حركتك ولكن باختيارك. ولعلّ الإمام زين العابدين(ع) في دعاء (الصباح والمساء) يصوّر هذه الوحدة الكونية بين الإنسان وبين الوجود ((أًصبحنا وأصبحت الأشياء كلّها بجملتها لك: سماؤها وأرضها وما بثثت في كلّ واحد منهما، ساكنه ومتحرّكه، ومقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء، وما كنّ تحت الثرى. أصبحنا في قبضتك يحوينا ملكك وسلطانك، وتضّمنا مشيّتك،ونتصرّف عن أمرك، ونتقلّب في تدبيرك، ليس لنا من الأمر إلاّ ما قضيت، ولا من الخير إلاّ ما أعطيت)).(7)
السير في خط الإسلام:
ونقرأ كذلك قوله تعالى ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ[. وقد قلنا إنّ المراد من الإسلام هو إسلام الوجه للّه، وهو يتمثّل في مرحلتنا الحاضرة بالسير في خط الإسلام الذي انطلق به الرسول(ص) لأنّه هو النهج الذي أراد اللّه للناس أن ينتهجوه, فلكلّ نبيّ مرحلته في حركة الإسلام. ولذلك فلا يمكن في هذه المرحلة أن نكون مسلمين بالمعنى القرآني للإسلام ونحن لا نلتزم الإسلام. ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ[(8).ويؤكد اللّه سبحانه وتعالى هذا المعنى ليبيّن أن الإسلام للّه هو الدين الحسن، لأنّه يمثّل الغاية في هذا الانسجام بين عبودية الإنسان لربّه وربوبية اللّه للإنسان. ]وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا[(9). لأنّ إبراهيم(ع) هو الذي أكدّ هذا المفهوم ]إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ` وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[(10). لقد نسب اللّه له هذه الصفة ]مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ[(11). والأسلوب القرآني في تصوّر الإسلام يجعل الإنسان يحاكي نفسه أمام الذين يريدون منه أن يتخذ أولياء من دون اللّه ]قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ[(12). فهذا هو الخطاب الذي أمر اللّه تعالى رسوله(ص) أن يوجهه إلى الناس ليؤكد لهم أنّ إيمان الإنسان بولاية اللّه ينطلق من خلال أن اللّه هو الذي يهيمن على الكون كلّه ويرى الكون كلّه. فإذا وعى الإنسان هذه الحقيقة، ورأى أن اللّه هو الذي يملك أمره كلّه، فمن الطبيعي أن يكون المسلم للّه سبحانه وتعالى.
ويقول تعالى ]قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا[. أي قائما بالحق ]مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ[(13). ويتكرر هذا التصوّر فيعبّر عن الإسلام بالعبادة المخلصة ]أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ` وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ[(14). ]وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[(15). فكأنّ هذا الحديث عن الأمر هو باعتبار أن الإنسان يتمثّل اللّه كقوة تمثل سرّ وجوده .. ولذلك فإن الأمر هنا لن يكون أمرا تشريعياً كالأوامر التشريعية التي تصدر للإنسان: إفعل أو اترك، بل يمثل أمراً وجودياً ينطلق من سرّ وجود الإنسان الذي إذا وعى معناه شعر بأنّ عليه أن يكون مسلماً، لأن الإسلام للّه هو الحقيقة التي تسيطر على وجود الإنسان كلّه وعلى كيانه كلّه. وعلى الإنسان أن يعبّر عن إسلامه في الخط العمليّ في الإسلام ]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللّه وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ[(16). إنّ على الإنسان المسلم أن يعبّر عن إسلامه بكلّ قوة، لأنه عندما يؤمن بشيء، ولا سيما إذا كان هذا الإيمان باللّه وبإسلام الوجه واليد واللسان للّه، فإنّ عليه أن يعلن ذلك للملأ اعتزازاً بذلك، ومحاولة للضغط النفسي عليهم في ذلك.
وحدة الديانات:
والقرآن بعد ذلك يتحدث عن وحدة الديانات ]شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى[. وقلنا لكلّ الرسل ]أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّه يَجْتَبِي إِلَيْهِ[(17). ويحدّثنا أيضاً أن مظهر الإسلام هو أن يحرّك الإنسان في خطّ الشريعة والمفاهيم من دون أي اعتراض ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[(18). فأمام اللّه أنت لست حرّاً، نعم، أنت حرّ أمام العالم، ولكن إذا قضى اللّه ورسوله أمراً فإنّ عليك أن تحني رأسك وان تخضع لكل ما أمرك به،لأنّ هذا هو الإسلام. ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[(19). فلابدّ للإنسان المسلم أن يفكّر دائماً في أن يحافظ على حركيّة الإسلام في عقله ليحميه من كلّ ما يمكن أن يضلّل العقل، وأن يحمي الإنسان نبضات الإسلام في قلبه ليحميه من كلّ النبضات التي تنحرف بالقلب، وأن يحافظ على حركيّة الإسلام في حياته ليحمي حياته من كلّ انحراف. ولذلك ورد في القرآن الكريم ]فَلا تَـــــمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[(20). ونلاحظ كذلك أنّ يـوســف(ع) عندما أراد أن يشكر ربّه ختم شكره له على ما أولاه وعلى ما أعطاه، فقال: ]تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[(21).
أيّها الأحبة: إنّ علينا أن نعيش العمق في وعينا للإسلام ـ الفكر، والإسلام ـ القلب، والإسلام ـ الشريعة، والإسلام ـ المفهوم، بحيث يكون كلّ واحد منّا إسلاما يتجسّد. وعلينا ـ كما نفهم الإسلام ـ أن نضم العناوين المضادّة للإسلام حتى لا يختلط علينا الحقّ والباطل، فيخيّل إلينا أنّ الكفر إسلام أو أنّ الإسلام كفر. والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة السابعة عشرة: 29 ذي القعدة 1420 ه المصادف 4/3/ 2000م
كيف عالج القرآن
قضية الهجرة؟
كلّ الأرض مسجد للّه.. فعلى الإنسان أن لا يحبس نفسه في أرض لا يملك فيها أن يعبد اللّه كما يحبّ
الهجرة في القرآن
الضعف ليس عذراً
دراسة قرار الهجرة
نماذج المهاجرين
البحث عن السعة
السابقون إلى الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الهجرة في القرآن:
من القضايا التي عالجها القرآن الكريم بأكثر من أسلوب هي مسألة إقامة الإنسان في بلده أو هجرته منه. فهل يريد الإسلام للإنسان أن يبقى في بلده فلا يهاجر منه مهما كانت الظروف؟ أو أنّه يشجع الإنسان على الهجرة في بعض الظروف، وقد يوجبها عليه في ظروف أخرى؟ لقد عاش الإسلام هذه التجربة في بداية الدعوة الإسلامية، فهاجر المسلمون من مكّة إلى الحبشة، ثم هاجروا ومعهم رسول اللّه(ص) إلى المدينة، ولقد أعطى الإسلام للمهاجرين عنواناً كبيراً.
وما نريد طرحه في هذا اللقاء هو كيف عالج القرآن الكريم هذه المسألة إن في خط الهجرة أوفي موقع المهاجرين. فنلتقي بالآية الأولى في قوله تعالى ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ` إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا[(1) .
إن هاتين الآيتين تعالجان بعض النماذج من الناس الذين عاشوا في بلد يسيطر عليها المستكبرون، الذين يتحرّكون في خط الكفر فيفرضونه على الناس، بحيث يمنعونهم من أن يفتحوا أية نافذة على الهدى، لدرجة أنّهم ـ وهم يعيشون في هذا البلد ـ لا يجدون إلاّ ثقافة الكفر، فليست هناك أية فرصة لثقافة الإيمان على أي مستوى من المستويات، سواء على مستوى الكتاب، أو على مستوى النادي، أو على مستوى الموعظة والخطابة والحديث وما إلى ذلك، فيكفر هؤلاء انطلاقاً من هذا الموقع. وهنا تدخل الآية الكريمة إلى ظروف هؤلاء فتقسّمهم إلى قسمين: القسم الأول: هو الذي يستطيع أن يجد فرصة في الانفتاح على خطّ الهدى وخطّ الحرية بالهجرة من بلاده إلى بلاد يملك فيها أن يتحرّر من ضعفه وأن ينفتح على خطّ الهدى..
وهناك فئة لا تملك أيّة فرصة لذلك، فهم لا يملكون فرصة مالية أو رسمية تتيح لهم الخروج من بلدهم إلى بلاد أخرى، وقد يكونون من الرجال أو النساء أو الولدان فيبقون في البلد نتيجة انعدام فرص الهجرة منه.
واللّه تعالى يحدّثنا عن الفئة الأولى أن لا عذر لهم إذا كان بقاؤهم في بلادهم يفرض عليهم الكفر والضلال، في الوقت الذي يجدون فيه الفرصة للخروج من هذه الدائرة المغلقة. وأمّا الفئة الثانية ممن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فإنّ اللّه يحدّث عنهم بقوله ]عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ[(2). ولعل (عسى) هنا لا توحي بمعنى الحسم، بل بمقاربة الموقف للعفو وللمغفرة. فربما يكون الأساس في ذلك أن اللّه يريد لهؤلاء أن يدقّقوا: هل أنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟ أم أنّهم ليسوا من أولئك؟
الضعف ليس عذراً:
ونخرج من خلال هذا العرض بنتيجة حاسمة وهي أن الإسلام لا يعتبر الضعف عذراً إذا أمكن للإنسان أن يحوّل ضعفه إلى قوّة، سواء كان ذلك في بلده أو كان ذلك خارج بلده، وسواء كان ذلك على مستوى القضية الكبرى، وهي قضية الإيمان والكفر، أو على مستوى القضايا الثانوية كالظلم والعدل وغيرهما، فربّما يبقى الإنسان في بلده ليخضع لخطط الظالمّين وليشاركهم فيها وهو مجبر على ذلك، في حين أنه قادر على أن يخرج منها ليتخفّف من هذه الضغوط.
فعلى الإنسان أن يدرس موقفه وموقعه ومدى قدرته على الخروج من هذا الطوق المحكم الذي يحدّق به ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ[. بالكفر أو بالضلال أو بالظلم.]قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا[. فإذا كنتم مستضعفين في بلدكم، وكنتم لا تملكون أن تتحرّروا من سيطرة المستكبرين، فإنّ هناك أرضاً أخرى يمكن أن تجدوا فيها حرية الثقافة والحركة والموقف. ]فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[. لأنّ الحجّة قامت عليهم بقدرتهم على أن يخرجوا من دائرة الكفر إلى دائرة الإيمان ]إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا[. فهم لا يملكون أية فرصة للخروج من الطوق المحكم ]عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكانَ اللّهُ عفّواً غفورا[.
ثم يعطينا اللّه سبحانه وتعالى قاعدة عامّة في فوائد الهجرة، وأنّ على الإنسان أن لا يحبس نفسه في دائرته الخاصّة ليجد العذر لنفسه في كلّ السلبيات التي قد تترتب عليه من خلال ذلك. فقد يجد الإنسان في الهجرة فرصاً كثيرة، وقد يجد آفاقاً واسعة يستطيع من خلالها الانفتاح على حريته، وعلى خطوط الهدى في ثقافته. ]وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا[. فرصاً كثيرة ]وَسَعَةً[. فإذا ضاق به بلد فإنّ بلاد اللّه الأخرى تتسع له.
ثم يؤكد سبحانه وتعالى على أنّ الإنسان الذي يخرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله ]وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ[. فقد تكون هجرة في خطّ جهاد، أو في خط هدى ، أو في خطّ حريّة، وإلى غير ذلك ممّا يحبّ اللّه ورسوله للإنسان أن يأخذ به ]ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ[. أن يموت وهو مغترب ]فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[ فإنّ اللّه يتكفّل بأجره، ولعلّ هذه الكلمة توحي بأنّ اللّه تعالى يعطيه بحسب كرمه ورحمته ما لا يحصى عدده ولا يعرف مقداره من الأجر والثواب ]وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[(3).
دراسة قرار الهجرة:
وعلى ضوء هذا نعرف أنّ الإسلام لا يعتبر الهجرة سلبية، بل على الإنسان أن يدرس الهدف من الهجرة وظروفها: هل هي هجرة يحبّها اللّه ورسوله؟ وهل أنّ الهدف منها مما يحبّه اللّه ورسوله؟ هل يحفظ دينه في الهجرة؟ هل يحفظ حريته؟ هل يحفظ موقفه؟ وقد ورد عن الإمام علي t عندما تحدّث عن هذا الجانب ((ليس بلد أولى بك من بلد)). فالبلد والوطن ليس صنما تعبده، وليس هو سجناً تحبس نفسك فيه، فقيمة وطنك بمقدار ما يحفظ لك إنسانيتك، ويحمل مسؤوليتك، ويلبّي حاجاتك وقضاياك وأهدافك . فالإمام t يريد أن يقول إن على الإنسان أن لا يربط نفسه ببلد معين بحيث يسجن نفسه فيه، بل على الإنسان أن يدرس المسألة من ناحية إنسانية، فأيّ بلد يحفظ لي إنسانيتي وديني وحريتي وعزّتي وكرامتي فذلك بلدي؟ ((خير البلاد ما حملك)). فالبلد الذي يملك بأن يحمل همّك وقضاياك وعزّتك وكرامتك وحريتك ودينك هو خير البلاد.
نماذج المهاجرين:
ثم ننتقل إلى آية أخرى يحدّثنا اللّه فيها عن نماذج المهاجرين في عهد الدعوة الأولى ]وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ[. أي الذين سبقوا إلى الهجرة انطلاقاً من إيمانهم بالإسلام، ومن حاجة الإسلام إلى أن ينتقل نشاط المسلمين إلى بلد آخر، إمّا ليتخفّفوا من الضغط الذي كان واقعاً عليهم، كما في هجرة المسلمين إلى الحبشة، أو هجرة بعضهم إلى يثرب، أو من أجل بناء مجتمع إسلاميّ جديد، كما في الهجرة التي حصلت في السنين الأخيرة من الدعوة الإسلامية إلى يثرب ]وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[. رضي اللّه عنهم من خلال ما أخلصوا له، ورضوا عن اللّه من خلال ما هداهم إلى دينه، ومنحهم من ألطافه، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف. ورضا اللّه ليس أمراً مطلقاً في حياة الإنسان، فقد يبدأ الإنسان عملاً يرضي اللّه، ولكنّه يتطوّر بعد ذلك إلى عمل يغضب اللّه، فاللّه سبحانه وتعالى يرضى عنهم من خلال سبقهم إلى الإسلام، ومن خلال صدقهم وإخلاصهم وعملهم، فإذا انحرفوا عن خط الإخلاص كانت النتائج المترتبة على انحرافهم سلبية. ]وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[(4). إذا استقاموا على الطريقة التي بدأوا بها.
ويقول تعالى ]وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا[. وضغط عليهم وحوصروا وسجنوا ومنعوا من كلّ شروط الحياة الكريمة ]لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً[ لنعطيهم الفرصة الطيّبة التي يعيشون فيها على أساس الحصول على موقعهم المميز ]وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[(5).فمن أين انطلق هؤلاء في هجرتهم؟ ]الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[(6). فقد ظلموا وصبروا، وقد اضطهدوا وأريد فتنتهم عن دينهم، ولكنهم ثبتوا على دينهم وصبروا. وعندما خوّفهم الناس من المستقبل توكّلوا على اللّه ]وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[(7).
ويقول عزّ من قائل: ]وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا[. لأنّهم واجهوا المعركة في حركة الهجرة ]أَوْ مَاتُوا[ موتاً طبيعياً وهم في خط الهجرة ]لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[. والمراد من الرزق هنا هو رزق الآخرة ]لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ[(8).
البحث عن السعة:
ثم يعطي اللّه سبحانه وتعالى خطاً عامّاً لكلّ الناس الذين يعيشون الاضطهاد والضغط ]يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ[(9). فكلّ الأرض مسجد للّه، فإذا ضاق بالإنسان بلده فلم يستطع أن يعبد اللّه كما يريد له سبحانه وتعالى أن يعبده في الفكر الحق وفي العاطفة الحق وفي السلوك الحقّ، فإنّ هناك أكثر من أرض تتسع لعبادة اللّه سبحانه وتعالى، فعليه أن لا يحبس نفسه في أرض لا يملك فيها أن يعبد اللّه كما يحبّ.
وقال عزّ وجل ]قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ[. وهي كناية عن الأجر المعجّل الذي يعطيه اللّه للإنسان، وأرض اللّه واسعة، فإذا ضاقت بكم أرض، فإنّ هناك أكثر من أرض تتسع لحركاتكم وطموحاتكم وحرياتكم، ولكن عليكم أن تصبروا لأنّ من الصعب على الإنسان أن يفارق وطنه الذي ولد فيه، والذي كان يمثّل ملاعب صباه، وملتقى أهله وأصدقائه وأحبابه، وموطن ذكرياته. لكنّ الإنسان الذي يصبر من أجل القضية الكبرى سوف يجد نتيجة صبره ]وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[(10). ولعلّ الصبر هو القيمة الإسلامية الأخلاقية المميزة التي جعل اللّه الأجر عليها أجراً غير محدود باعتبار أنه القيمة التي تدعم كلّ القيم كالعفة والصدق والأمانة والعدل ونحوها، مما يرتكز على صبر الإنسان فيها على شهواته ونوازعه الذاتية ونقاط ضعفه التي تجره إلى السقوط أو الاهتزاز وهكذا تحفظ للإنسان إنسانيته أمام البلاء أو تبعده عن مواقع سخط اللّه وتقربه إلى مواقع رضاه فهو الذي يمنح الإنسان القوة التي ترفعه إلى الأعلى في مدارج الرفعة والسموّ والانطلاق.
ثم يحدّثنا اللّه عن نموذج آخر من المهاجرين ]لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا[. عندما انطلقوا بعيداً عن أوطانهم وجرّدوا من ديارهم وأموالهم لم يشعروا بالسقوط ولا باليأس والإحباط، بل انفتحوا على فضل اللّه ورضوانه ]وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ[(11). لأنهم صدقوا اللّه في كلامهم وفي مواقفهم وصبرهم على ما واجهوه من تحديات وضغوط.
ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء قد هاجروا إلى بلاد مملوءة بالناس. ولذلك يحدّثنا اللّه عن هؤلاء الذين استقبلوا المهاجرين، كيف كانت مشاعرهم وكيف كانت عواطفهم ]وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ[. كناية عن يثرب التي كان يسكنها الأوس والخزرج والذين احبّوا من هاجر إليهم، لأنّهم دخلوا في الإسلام وشعروا بأخوّة الإسلام التي تربطهم بالمهاجرين فانفتحوا عليهم حبّاً بحبّ لأنهم شعروا أنّ رابطة الإسلام تمثل رابطة تنفتح على العاطفة وعلى الفكر والموقف أيضاً.
]وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا[ فقد استقبلوهم في بيوتهم فضاقت بيوتهم عليهم، ولقد قدّموا إليهم المساعدات فشحّت أموالهم عليهم، ولكنّهم لم يشعروا بأيّ حرج أو ضيق ]وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ[. كانوا يقدّمون للمهاجرين ما هم بحاجة إليه فيؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أي كانت ظروفهم المادية صعبة ]وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ[. أي من يقيه اللّه البخل وشحّ النفس. ]فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[(12). ونستوحي من ذلك أن من الأمور التي تحقق للهجرة الطيبة الهادفة نتائجها الإيجابية ومعانيها الخيّرة هو الرعاية التي يجد فيها المهاجرون الطمأنينة والاستقرار والانفتاح على مستقبل كبير كما هو الحال في موقف الأنصار من المهاجرين فأعانوهم على أن يشاركوا في بناء المجتمع الإسلامي الجديد وفي حماية الإسلام من التحديات. الأمر الذي أفسح المجال للتفاعل بين القادمين والمقيمين في الهدف الواحد والمستقبل المشترك.
السابقون إلى الإيمان:
ثم يحدّثنا اللّه تعالى عن الجيل الآخر، كيف هي مشاعره واحساساته تجاه الجيل الذي سبقه؟ وكيف هي مشاعره تجاه المؤمنين؟ ]وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ[. فقد آمنوا بك قبلنا، وعبدوك قبلنا، وانفتحوا عليك قبلنا، وهم الذي ثبّتوا الأرض من تحت أقدامنا عندما ركّزوا القاعدة الإسلامية في هذه الأرض، فنشأنا بفضلهم مسلمين لأنّ الأجواء كانت إسلامية، ولذلك تراهم يستغفرون لهم ]وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا[(13) لا تجعلنا ـ يا ربّنا ـ نحقد على المؤمنين مهما كانت الخلافات بيننا سواء اختلفنا في أمور شخصية، أو في أمور مالية، أو في بعض الأفكار التي يختلف الناس فيها باجتهاداتهم.. لا تجعلنا نحقد على المؤمنين، لأنّ المؤمن لا يحقد على المؤمن، بل إنّ المؤمن يحبّ المؤمن ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[(14). وأخوّة الإيمان فوق كلّ أخوّة. ]رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[(15). فارأف بنا وارحمنا . وهذه الآية ـ أيّها الأحبة ـ تعطينا الخط الأخلاقي القرآني في علاقة المسلمين ببعضهم البعض، فهي علاقة حبّ بحبّ وليست علاقة حقد بحقد . وقد علّمنا إمامنا أمير المؤمنين t أن نحصد الشرّ من صدورنا بقوله ((احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك))(16). فليكن قلبك واسعاً رحبا مفتوحاً بالحبّ على الناس الآخرين، فإنّ ذلك سوف يقتلع الحقد من الآخرين.
ونستوحي من ذلك أن الجيل الجديد يقدر للجيل القديم فضله وسابقته في الإسلام ويجد في امتداد مسيرته امتداداً لها من خلال الأخوّة التي تمتد في الزمن بقدر امتداد الخط في الحركة فلا صراع بين الجيلين بل هناك تكامل بينهما ليكمل الآخر ما بدأه الأول أو يصحح ما أخطأ فيه لا أن يهدم ما بناه ويقوّض ما شيده.
أيّها الأحبة:
إن مشكلتنا في مجتمعاتنا الإسلامية أنّنا نزرع الحقد في العقول والقلوب، ونزرعه ضد المسلم إذا اختلفنا مذهبياً أو فقهيًا أو كلاميا أو حزبياً أو سياسياً أو مرجعياً، وهذا ليس كلّه إسلاماً ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[(17). إذا اختلفوا في أي ّ أمر من أمور الحياة. وعلي t هو إمامنا في ذلك كلّه، فعندما كان يحارب معاوية سمع قوما من أهل العراق يسبّون أهل الشام، فوقف خطيباً، وقال لهم ((إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكنكم لو ذكرتم ووصفتم أعمالهم)) فالسبّ لا يعطي نتيجة، ولا يقنع السائر في خط الباطل بالحقّ، وهو يعقّد الإنسان الآخر ويزيده عقدة وعصبية، فهناك أشياء قد تختلفون معهم فيها، وهناك انحرافات عند هؤلاء فلو تحدّثتم عن ذلك ((وذكرتم حالهم كان أصوب في القول)). من السبّ والشتم ((وأبلغ في العذر)). فمن يسمعكم وأنتم تشيرون إلى انحرافهم فقد يجد لكم العذر في قتالكم لهم ((فقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به))(18).
إنّ خط الإسلام هو خط الحبّ للّه ولرسوله وللمسلمين .. أحبب الذي تلتقي معه لتتعاون معه، وأحبب الذي تختلف معه لتهديه إلى سواء السبيل، وذلك هو قلب رسول اللّه(ص) ]فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[(19). ]لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[(20). والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الثامنة عشرة: 18 ذي الحجة 1420 ه المصادف 25/3/ 2000م
موقع (الغدير) في المسيرة الإسلامية
الحاجة إلى قيادة
إسلامية تمللك
الإسلام كله
الالتزام بعلي(ع) التزام بالوحدة الإسلامية
في يوم الغدير
الغدير في كتب التفسير
الانكفاء عن خط الولاية
الدراسة التحليلية النقدية للتأريخ
مناقشة اطروحات الخلافة
من أين نأخذ المنهج؟!
درس الغدير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في يوم الغدير:
يمثّل يوم الغدير مرحلة مميزة بارزة في المسيرة الإسلامية باعتباره يمثل مسؤولية قيادة الإسلام في قاعدته الفكرية وامتداداته الشرعية والمنهجية، وقيادة المسلمين من خلال التعقيدات الموجودة في داخلهم، والتحديات التي تحيط بهم في الخارج من كلّ جانب.
إن قيادة الإسلام بعد الرسول(ص) بحاجة إلى شخصية تملك الإسلام بفكره كلّه وامتداداته الثقافية والمنهجية والشرعية حتى تستطيع أن توحّد التصوّر الإسلاميّ من موقع القاعدة التي تحكم مفردات هذا التصوّر، حتى لا يختلف المسلمون في تصوّرهم للإسلام، لأنّ هذا الاختلاف بالرغم مما يحتوي من إيجابيات في حركة الاجتهاد، عطّل فكرة وحدة المسلمين في خط الإسلام حتى جاء من يتحدث عن (إسلامات) أو يتساءل وهو يستمع إلى طرح الإسلام في الواقع، فيقول: عن أيّ إسلام تتحدثون؟!
لذلك كان لابد من شخصية تملك التصوّر المعصوم الواضح للإسلام بنفس القوة التي كان يملكها رسول اللّه(ص) لسبب بسيط جداً وهو أنّ المرحلة التي قطعها رسول اللّه(ص) في مكة والمدينة كانت مرحلة مليئة بالحروب والتعقيدات الداخلية، مما ترك كثيراً من الضباب حول أكثر من مفهوم إسلامي، ومما عطّل الكثير من المبادرات لتحقيق الاستقامة في التربية الإسلامية بالمستوى الذي يلتقي عليه المسلمون. ونحن لا ننكر أنّ هناك إخلاصاً واضحاً لدى صفوة الصحابة الذين واجهوا التحديات في مكّة بأقسى ما تكون التحديات وبأوعى ما تكون المواجهة . وواجهوا تحديات الحروب بأشرس ما تكون الحروب وبأقوى ما تكون المواجهة. ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى قد تحدّث عنهم كطليعة في قوله تعالى ]مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ[(1). ولكن المرحلة لم تكن تسمح بالتعمق الثقافي والفكري، مما فرض أن تكون هناك قيادة تملك هذا المنهج في تعميق الإسلام وترسيخه في نفوس المسلمين وتأصيل الفكرة الإسلامية في مفرداتها كلّها.
الغدير في كتب التفسير:
ومن هنا كانت مسألة الغدير من المسائل الحيوية في المسيرة الإسلامية، ولا سيما بلحاظ ما ورد في كتب التفسير، مما رواه أكثر من راو بما يطمئن له من صدور هذا التفسير في أسباب النزول، من أنّ النبي(ص) عندما وصل إلى موقع غدير خمّ نزلت الآية الكريمة ]يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ[(2). وإن كان هناك بعض المفسرين ممن يرى أنّها نزلت في مجال آخر، لكن لم يستطيعوا أن يوازنوا بين المناسبة التي يدّعونها وبين طبيعة الآية، لأنّ الآية لم تنزل في بداية الدعوة حتى يقال إنّها أمرٌ للنبي(ص) بالإنذار بالتبليغ، وإنّما نزلت فـي نـهايـة الدعـــوة، لأن النـبي(ص) في ذلك الوقت كان قد بلّغ كلّ ما أنزل إليه من ربّه، ولم يعهد أنّه(ص) خاف من تبليغ أيّ حكم من الأحكام، بل كان قوياً في إبلاغ الوحي مهما كانت طبيعته، ومهما كانت ردود الفعل المترتبة عليه ]وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[(3). فالنبي(ص) لم يحسب – في إبلاغه للرسالة – أيّ حساب لردود الفعل، لأنّه كان يقوم بعملية تأسيس الفكر والروح والمنهج، ولذلك فقد كانت ردود الفعل السلبيّة كلّها منتظرة ومتوقعة.وقد انطلق النبي(ص) بكلّ قوة في هذا المجال، حتى أنّه عندما كان يتألم فإنه يتألم لأن الناس في قلبه، وكان يرى أن الخلاص هو في اتباع الناس للرسالة،ولذلك كان يتألّم لهم ولم يتألّم منهم.
وعلى هذا، فإن هذه الآية تؤكّد بأنّ هناك شيئاً مهمّاً ]وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ[(4). لأن الأمر مما يدور فيه الجدل باعتبار خصوصيته، وليس ذلك الاّ الولاية لعلي(ع). وعندما بلّغ النبي(ص) الرسالة بقوله ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟! قالوا: اللهم بلى. قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه))(5). نزلت الآية ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا[(6). لأنّ هذه الثغرة هي الوحيدة التي بقيت في الخط الإسلامي التشريعي، فعندما سدّت هذه الثغرة اكتمل البناء، وأتمَّ اللّه نعمته على المسلمين ورضي الإسلام ديناً للناس كافّة.
الانكفاء عن خط الولاية:
هنا، قد يتساءل بعض الناس: كيف نفسّر هذا النوع من الانكفاء عن خط الولاية؟ وكيف نفسّر أن النبي(ص) عندما انتقل إلى الرفيق الأعلى احتجّ الأنصار وقالوا: ((منا أمير ومنكم أمير))(7).وانطلق بعض الصحابة لاستلام زمام المبادرة وليسارعوا بالبيعة بنحو ارتجاليّ استعراضي من دون أيّ تشاور؟ وكيف لم تنطلق هناك أية معارضة بعد أن كان النبي(ص) قد بيّن ذلك؟!
ربّما يفسّر هذا الموضوع بما ألمح إليه المرحوم ((السيد شرف الدين)). وهو أن الذهنية السائدة آنذاك، ما عدا بعض الصحابة، لم تكن متعمّقة ثقافياً في هذا الأمر، فلقد كانت البيعة هي التي تحكم الناس، فهم – حتى قبل الإسلام – كانوا إذا بايعوا التزموا، ولذلك فربما كانوا قد فهموا مراد كلام النبي(ص) الذي كان واضحاً في كلامه،لكنّ أمراً ما كان يتحرك في الواقع الإسلامي، وكان يخطّط لغير ما أراده(ص) . لكنّنا نلاحظ أنّ النبي(ص) قد رأى انحسار هذا التأثير عن الذهنية العامّة للناس بفعل بعض التعقيدات التي قد تكون من قبيل ((غسل الأدمغة)). عندما قال: ((ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً)). فالنبي(ص) هو الذي يتحدّث وليس أي شخص آخر، وهو إنّما يتحدث بكامل عقله ووعيه وإرادته، فلم يعهد الصحابة قبل هذه الكلمة أية كلمة أخرى قالها النبي(ص) في حالة هجر أو غيبوبة، فلقد كان يعيش معهم بحضوره كلّه، وكان يحدّثهم ويحدّثونه، ومن الطبيعي فإنه(ص) عندما يقول لهم: اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً لا يقصد بالمرّة كتاباً بديلاً عن كتاب الله فإن كتاب الله هو النور في نفسه ولغيره، فلابدّ أن تكون هناك قضية تستدعي الاهتمام، ويحتاج النبي(ص) إلى تأكيدها بحيث لا يدع بعدها لأحد المجال في التلاعب بالألفاظ.
فما هي يا ترى المناسبة أن يقول شخص: ((حسبنا كتاب الله))؟ هل أن النبي(ص) كان يريد أن يقول لهم إنّ كتاب الله ناقص؟! وما معنى ((حسبنا كتاب الله)). والله تعالى يقول : ]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[(8). فالسنّة مكمّلة للكتاب وشارحة له. ومعمّقة لمفاهيمه، فماذا أراد القائل بهذا القول؟! ثم ما الداعي إلى القول: ((إنّ النبي ليهجر)). في رواية، وفي رواية أخرى ((إنّ النبي قد غلب عليه الوجع))(9). فلم يعهد عن النبي(ص) في حياته كلّها، بل حتى في حالات مرضه، أنّه يهجر عندما يغلبه الوجع، أو يقول ما لا يعي تحت تأثير المرض. هذا مع ملاحظة تتصل بالنبوة، فلا يمكن أن يتكلم النبي هجراً وهو في الموقع الرسالي الذي يخاطب فيه المسلمين بأمر يتصل بمسؤليته عن قضية تتصل بمستقبل الرسالة في خط الهدى والظلال لما اتفق المسلمون على عصمته فيه.
فحقيقة الأمر هي أنه أريد بذلك عدم السماح للنبي(ص) أن يعطي الوضوح الكامل لقضية الولاية ليعيد بما يكتبه تأكيد الفكرة التي أكّدها في أكثر من مناسبة. ولذلك عندما جاء بعض الناس بدواة وكتف اختلف القوم، مما يعني أنهم لم يرتضوا هذه الكلمة، وربما كان البعض منهم يؤكّدون هذه الكلمة، فحينما بادروا بجلب الدواة والكتف، أو قالوا للنبي(ص) هل نأتيك بهما؟ قال لهم: ((أفبعد الذي قلتم)).
ثم أننا نلاحظ أن النبي(ص) أراد من كبار الصحابة أن يخرجوا مع جيش أسامة لكنّهم تخلّفوا عنه. وثمة سؤال آخر، فما معنى قول القائل: ((إنّ رسول الله لم يمت))؟! ما ذاك إلاّ أن هناك من كان غائباً عن المسرح وأريد له أن يحضر حتى تتم المسألة.
الدراسة التحليلية النقدية للتأريخ:
فلابدّ أن ندرس المسألة – عندما نريد قراءة التاريخ قراءة جديدة ، دراسة تحليلية نقدية، بعيداً عن كلّ تهاويل القداسة التي انطلقت من خلال التراكمات التأريخية للأشخاص . وقد تحدّث علي(ع) في (الخطبة الشقشقية) التي حاول البعض أن يثير حولها بعض علامات الاستفهام متهماً (الشريف الرضي) بأنّه هو الذي وضعها، علماً أن أسلوب الشريف يختلف عن هذا الأسلوب ، كما أنّ هناك من رواها قبل الرضي بمئات السنين.
إنّه عندما يتحدّث عن حقّه يقول ((إنّ محلّي منها محل القطب من الرحى ينحدر عنيّ السيل ولا يرقى إليّ الطير)). إلى أن يقول ((فبينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها)). أي أنّ كلّ واحد أخذ ضرعا ليحلب منه، بمعنى أنه كانت هناك شراكة في أمر الخلافة، ومحاولة حثيثة لمنع أيّ صوت يرتفع ليتحدّث عن المسألة في أصولها، فلقد أصبحت أمراً واقعاً مفروضاً تحرّكت الأجواء السياسية من أجله. وكان علي(ع) الأوعى، فلقد درس المسألة ، ومع أنه كان يدرك تماماً أنه صاحب الحق والأعلم والأتقى، لا من ناحية ذاتية، بل من خلال شعوره أن الإسلام لا يتحمّل معركة تمزّق الصف في تلك المرحلة، ولذلك قال: ((فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا)). وعندما جاءه أبو سفيان ومعه العباس ليبايعاه رفض ذلك، ونبّه إلى الفتن التي قد تنشب والظروف التي لا تسمح بمثل ذلك، لأنّ القضية لم تكن طموحاً بالنسبة لعلي(ع) ولكنّها كانت رسالة، وللرسالة ظروفها التي تحركها في الواقع، فإذا كان الواقع يحمل الكثير من السلبيات التي قد تهدم الرسالة ليبقى العنوان، فإن صاحب الرسالة لابدّ أن يتحرّك بالرسالة في اتجاه آخر ليضحّي من أجل أن تبقى الرسالة. ولهذا أعطى علي(ع) علمه كلّه وخبرته كلّها، وقلبه المفتوح كلّه وعقله المفتوح كلّه للإسلام الذي أصبح يقوده أناس آخرون لا يملكون علمه ولا خبرته ولا وعيه، إنْ على المستوى الثقافي أو على المستوى الإداري. ومما نرصده في ذلك الواقع أن الخلافة لم تطرح بعد النبي(ص) كمفهوم، بل طرحت من قبل الأنصار على أساس عشائري بقولهم ((منّا أمير ومنكم أمير)). ولم تكن المسألة تتعلّق بالمقياس المعتمد لاختيار الشخصية التي تتحمل المسؤولية القيادية للأمّة، وحتى عندما جاءت المبادرة الأخرى، فيما جرى عليه الأمر الواقع، لم تطرح المسألة في خطوطها الإسلامية العريضة، ولم يذكر الأشخاص بالعناصر التي تؤهلهم علميا وإداريا وجهادياً، بل كان الحديث عن علي(ع) في ذلك الوقت بشكل سلبيّ وهو أنّه لا يزال في سنّ الشباب، وربّما تحدّث بعضهم عن أنّه لا يمكن أن نجمع لبني هاشم النبوّة والإمامة معاً.
مناقشة أطروحات الخلافة:
ففي دراستنا للأطروحات التي قدّمت في تلك المرحلة لا نجد طرحاً ثقافياً منهجياً إسلامياً بالمستوى الذي نشعر فيه بوجود وعي الخلافة في الخطوط الإسلامية الأصيلة، فكأنّ المسألة هي أن النبي(ص) مات وعلينا أن نأتي بشخص للقيادة كيفما كان. ولعلّ هذه ال( كيفما كان) هي التي حكمت التأريخ الإسلاميّ كلّه. لأن القضية ليست قضية منهج يفرض الشخص ولكنها كانت قضية شخص يفرض المنهج. ولذلك قال الإمام علي(ع) ((حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنيّ أحدهم فيا للّه وللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر)). فما هي يا ترى المميزات التي تميّز هؤلاء الأشخاص؟ وما هو علمهم؟ وما هي ثقافتهم؟ وما هو جهادهم؟ وما هو قربهم الفكري والروحي من رسول الله(ص)؟! فعندما ندرس المسألة من الناحية العلمية الموضوعية فعند ذلك نجد صدق ما كان يقوله علي(ع) أين أنا وأين هم؟!
وقد سمع الناس جميعاً آنذاك رسول الله(ص) يهيئ لعلي(ع) هذا الموقع الذي يعرفه كما لم يعرفه أحد ((أنا مدينة العلم وعليّ بابها))(10). ((علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار))(11). ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه)). ((يا علي أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي))(12). والله تعالى يقول ]إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا[(13). ويقول: ]إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ[(14). ويقول]وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[(15).
لذلك كان علي(ع) يتألم لا لنفسه بل للإسلام، وفي آخر الخطبة الشقشقية يقول في المرحلة الثالثة ((فصغى منهم رجل لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن)). وعندما وصل الأمر إليه ((فلما نهضت بالأمر)). كانت الألغام مزروعة في الطريق ((نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول ]تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[(16). بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها)). ثم يؤكد موقفه ((أما والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز))(17).
من أين نأخذ المنهج؟!
أيّها الأحبّة: من خلال كلّ هذه التجربة التي مضت ولم يبق منها شيء في حركة الواقع في معنى السلطة، سوى الخط فإنه باق، نرى أن قصّتنا مع يوم الغدير في امتداداته في خط علي(ع) هي: من أين نأخذ المنهج؟!إنّ الآخرين لم يتركوا كياناً ثقافياً ، ربما تركوا بعض الجوانب الإدارية الإيجابية، وربما تركوا بعض المبادرات الجيدة، ولكن الوحيد من بين كلّ الصحابة الذي استطاع أن يترك للمسلمين في مدى الزمن ثروة ثقافية تتسع للإسلام كلّه وللإنسان كلّه والحركة والحياة كلّها هو علي بن أبي طالب(ع). حتى أننا عندما نقرأ علياً(ع) الآن فإننا نقرأه كما لو كان يحدّثنا عن مرحلتنا هذه، لأن فكر علي(ع) اخترق الزمن ولم يتجمّد في مرحلة معيّنة.
لذلك فإنّ الالتزام بعلي(ع) هو الالتزام بمنهجه الذي هو منهج الإسلام. وإنّ الالتزام به هو الالتزام بالموضوعية في مواجهة القضايا التي يختلف فيها الناس لا بالعصبية، فقد كان علي(ع) من بين كلّ المسلمين الإنسان الأول في الموضوعية، فعندما انتفض عليه الخوارج بدأ الحوار معهم، وافسح المجال كيما يقولوا كلّ شيء، وكان يواجههم بالمنطق وبالحجّة.
إنّ الالتزام بعلي(ع) هو الالتزام بالوحدة الإسلامية بمعنى أن الواقع الإسلاميّ إذا واجه التحديات الكبرى التي لا تتحمّلها التعقيدات، لابدّ لنا أن نلتقي جميعاً أمام القضايا الكبرى رغم الخطوط المختلفة، أي لا بد أن يتحرك كلٌ من موقعه لاسيما في مرحلتنا هذه.. فعندما نواجه التحديات الكبرى من قبل الاستكبار العالمي والكفر العالمي، والتحديات ضد المنطقة العربية والإسلامية بأجمعها ولا سيما القضية الفلسطينية فإننا نشعر أنّ المسألة تستدعينا أن نرفع اللافتة التي رفعها علي(ع) في تلك المرحلة ((لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور الاّ عليّ خاصّة))(18). فالمسألة الأهم هي كيف تسلم أمور المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد كان قلب علي(ع) مملوءاً بالحب لكّل الناس حتى الذين اختلفوا معه، وكان من وصاياه ((إحصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك))(19).
لقد أسيء إلى علي(ع) كما لم يسئ إلى أحد، ولم يكن في علي(ع) رغم ذلك كلّه شيء من الشرّ، فلا يجوز أن نحمل الحقد للمسلمين، وإن كنّا نختلف معهم ونتبادل الاتهام بالخطأ، لكن علينا أن نلتقي على حبّ الله ورسوله وحب الإسلام، ومن هذا الحب أن نتحاور بالمحبّة وليس بالحقد، وأن نتحاور للوصول إلى الحقيقة بالأسلوب الموضوعي لا ليسجّل أحدنا النقاط على الآخر.
درس الغدير:
أيّها الأحبة: لقد ورثنا من عهود التخلّف أسلوب الحوار على طريقة الجدل البيزنطي، فليست القضية هي البحث عن أسلوب الإقناع، ولا هي البحث عن الحقيقة ولكنّ كلّ واحد منّا يعتبر نفسه هو الحقّ المطلق..
التخلّف.. الجهل.. العصبية، هذا هو طابع الواقع الإسلامي، ولكننا لا نتحدث عن سلبيات مطلقة، فهناك إيجابيات، ولكننا نحاول دائماً أن نخنق هذه الإيجابيات بما نثيره من السلبيات.
أيّها الأحبة: لابدّ أن ندرس تجربة الإمام علي(ع) جيداً.. كيف كانت رحابة أفقه؟ وكيف كانت سعة صدره؟ وكيف كانت قوة صبره؟ وكيف كان يحمل مسؤولية الإسلام على كتفيه؟ ومسؤولية المسلمين في عقله وقلبه؟
هل تريدون الاحتفال بعيد الغدير؟ إنني أزعم أن أحداً لم يحتفل بعيد الغدير كما ينبغي أن يحتفل به، فالغدير هو الثروة الثقافية والروحية لعلي(ع) فينبغي أن يكون المناسبة التي ينطلق فيها العلماء والمثقفون والمفكرون والأدباء من أجل أن يضعوا المنهج لدراسة تراث علي(ع) كلّه ليأخذ مكانه في العقيدة والشريعة وفي السياسة وفي الاجتماع وفي فهم الكون ليدخل إلى عقولنا وإلى قلوبنا وإلى حياتنا.
فما زال علي(ع) عندنا مجرد نبضة قلب، فمتى - يا ترى - يكون علي(ع) انطلاقة فكر؟! ونحن أمّة تحتاج إلى المزيد من الفكر، وفكر علي(ع) هو الذي يتخطّى الزمن لأنّه فكر الحياة.
أيّها الأحبة: إن الانتماء لعلي(ع) مسؤولية فمن أراد أن يحسب نفسه مع علي(ع) فعليه أن يعيش علياً(ع) في عقله وفي قلبه وفي حياته، لأنّ علياً(ع) عاش الله تعالى في عقله وقلبه وحياته وعاش رسول اللّه(ص) كلّه في عقله وقلبه وحياته، وعاش الإسلام كلّه في عقله وقلبه وحياته، فتعالوا إلى علي(ع) لتجدوه معنا وليس في التأريخ، لأن شخصية مثل علي(ع) لا يمكن أن يضمها التأريخ في مغاراته وكهوفه. إنه يطلّ علينا مع الشمس في كلّ صباح. والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة التاسعة عشرة: 26 ذي الحجة 1420 ه المصادف 1/4/ 2000م
كما طرحها الإمام علي(ع) في (نهج البلاغة)
مفاهيم: الحق والثقة
والعلم والإنتماء
مع الغدير ثانية
حبّ علي(ع) وبغضه
مشكلة الغلوّ
المعرفة حجّة
علّم نفسك أولاً
البحث عن الحقيقة
الفقيه الحقّ
العلم هو الخير
لنعقل الأخبار
خسارة الدنيا والآخرة
حقيقة الانتماء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
مع الغدير ثانية:
مازلنا نتنفّس أنفاس الغدير، وما زلنا مع علي(ع) ولابدّ لنا دائماً أن نبقى معه، لأنّ البقاء مع علي(ع) بقاء مع رسول الله(ص) وانفتاح على الله، لأنّ علياً(ع) كان لله تعالى بكلّه، وكان لرسول الله(ص) بكلّه، وكان للإسلام بكلّه، فلم يكن في علي(ع) شيء لذاته بالمعنى الشخصيّ. فعلي(ع) تحوّل إلى رسالة، وإلى عقل ينفتح على العالم كلّه، وإلى روح تسمو وتصفو حتى لا يبقى للسموّ مجال، ولا للصفاء موقع ((لو كشف لي الغطاء ما ازددتُ يقينا))(1) فقد بلغ باليقين ذروته.
وفي ضوء ذلك ـ أيّها الأحبّة ـ نقول دائماً: ليس هناك أيّ معنى لأن نتحدّث عن غير علي(ع) مع علي(ع) فرسول الله(ص) وحده في الموقع الإنساني الأعلى، لأنّه أستاذه والمربّي الذي أعطاه عقله كلّه وروحه كلّها وروحانيته كلّها. فلا معنى لأن تقول: علي والآخر، مع احترامنا لكلّ الآخر، لأنّ علياً(ع) بلغ برسول اللّه(ص) ما لم يبلغه أحد. ولذلك فإنّك عندما تريد أن تحدّد المسافة بين علي(ع) وبين غيره فإنّها قد تتسع للدنيا كلّها. ويبقى لعلي(ع) مسافات كبيرة شاسعة ليست لغيره. ولم أقل ذلك مدحاً في علي(ع) وهو الغنيّ عن مدحي، وإني لألتقي مع المتنبي عندما سئل: لِمَ لمْ تمدح علياً(ع)؟ وكان من الذين يلتزمون ولاية علي(ع) كما يقول التأريخ. فأنشأ هذين البيتين:
وتركـتُ مدحي للوصيّ تعمـّدا إذ كان نوراً مـستـــطيلاً شاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه وصفاتُ ضــوء الشمسَ تذهبُ باطلا
بل قلتُ ذلك من أجل أن نتعلّم من علي(ع) لأنّي أزعم أنّ بعض الذين يلتزمون علياً(ع) في خط الولاية لم يتعلّموا من علي(ع) شيئاً، بل انهم نظروا إلى علي(ع) من بعيد ولم يقتربوا من عقله، ولذلك بقي التخلّف في عقولنا ونحن نهتف باسمه، ولم يتعلّموا من قلبه الذي اتسع للإنسان كلّه، وبسبب ذلك بقيت قلوبنا مغلقة عن كلّ محبّة ولم نتعلّم من حركته في علمه وفي آفاقه، ولذلك بقينا نلتزم التفاهات ونعيش في الأفق الضيّق، ونتخلّف ونزداد تخلّفاً، وربما يفرض البعض من الناس تخلّفه على علي(ع) ليعطيه صورته، وربما يفرض بعضنا تخلّفه على الإسلام ليعطيه صورته.
إنّ مشكلتنا ـ أيها الأحبّة ـ في هذا العصر، وفي هذه المرحلة بالذات، ليست فقط مشكلة الذين يحاربون الإسلام، بل مشكلة الذين يتحرّكون في خط التخلّف الذي يفرضونه على الإسلام. والذين يتحدثون عن الإسلام في موقع الخرافة إنّما يتحدثون عن الهوامش بدلاً عن الساحة الواسعة.
لذلك فلابدّ أن نبدأ لنتثقّف ولنعرف منه كيف نصوغ مفاهيمنا ونحدّدها؟ وكيف ننفتح على الحياة من خلال الإسلام في الصورة التي قدّم بها الإسلام لنا؟ فليست المسألة أن نزور علياً(ع) في التأريخ، بل لابدّ لنا أن ندعوه إلى أن يزورنا لا زيارة الجسد، ولكن أن يدخل (نهج البلاغة) في فكرنا وسياستنا واقتصادنا وإدارتنا وعلاقاتنا وأوضاعنا لنسمو في مواقع سموّه، وهو الذي محلّه محل ّ القطب من الرحى ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير.
حبّ علي(ع) وبغضه:
إننا نحاول ـ أيّها الأحبة ـ في هذا اللقاء أن نلتقط بعض كلماته، فلقد عاش علي(ع) واقعاً إشكالياً في مسألة الحبّ والبغض ومازال، فهناك من يحبّونه، وهناك من يبغضونه. فكيف يصوّر علي(ع) الحب والبغض في الخطوط المنحرفة لنفهم من خلال ذلك الخطّ المستقيم في الحبّ؟ وكيف يحدّثنا علي(ع) عن الذين يحبّونه حتى لو عاشوا المعاناة بأصعب ما تكون المعاناة؟ وعن الذين يبغضونه حتى لو فتحت لهم الدنيا خزائنها ليحبّوه؟
يقول علي(ع): ((لو ضربت خيشوم المؤمن)) والخيشوم أقصى الأنف ((بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجمّاتها)) والجمّات جمع جمّة وهي مكان جمع الماء ((على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني، وذلك أنّه قضي على لسان النبي الأمّي(ص) أنّه قال: لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق))(2). فلماذا قال النبي(ص) هذه الكلمة؟ مع أنّ قضية الحبّ والبغض تتصل بنبضات القلب، وهي عادة لا تعرف الخطوط المستقيمة، فربّما ينبض قلبك بحبّ شخص يختلف معك، وربّما ينبض قلبك ببغض شخص يتفق معك. فالقلب لا يملك قاعدة يستقر عليها. فلماذا لا يبغضه المؤمن ولا يحبّه المنافق ولعلي(ع) صفات في إنسانيته يمكن للمنافق أن يحبّه من خلالها؟ فهو الشجاع البطل، وهو العالم العادل، وهو الذي يتميز بالكثير من الصفات الإنسانية التي يحبّ الناس بعضهم بعضاً على أساسها.
فنحن عندما نعيش قصة الحب والبغض في العالم، فإننا نجد أنّها تتحرك من دون أن ترتبط بالأيدلوجيا كما يقولون. فلماذا ذلك؟ لأنّ حب علي(ع) ليس مسألة تتصل بالقلب في سذاجة العاطفة، بل تتصّل بالعقل في عمق الوعي لأنّ علياً(ع) كان إيماناً كلّه، وقد قال اللّه تعالى فيه: ]وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ[(3). فقد باع نفسه كلّها للّه تعالى، فلا مكان في شخصيته لأيّ شيء ذاتيّ، فعقله عقل الإيمان، وقلبه قلب الإيمان، وحركته حركة الإيمان، وشجاعته وزهده وعدله وعلمه، كلّ ذلك يتحرّك في دائرة الإيمان. لذلك فالمؤمن الذي يعيش إيمانه في عمق الإيمان وفي امتداده، لابدّ أن يحبّ علياً(ع) لأنّه عندما يحبّ اللّه الذي آمن به علي(ع) وعرفه وجاهد في سبيله، لابدّ أن يحبّ علياً(ع). وإذا أحبّ رسول اللّه فلابدّ أن يحبّ علياً(ع). وإذا أحبّ الإسلام فلابدّ أن يحبّ علياً(ع) فلا انفصال بين علي(ع) وبين الحق، فمن آمن بالحق لابدّ أن يؤمن به ((لا يبغضك مؤمن)). لأن المؤمن عندما يعيش إيمانه فلابدّ أن يعيش الانفتاح والحبّ والولاية لكلّ من يجسّد الإيمان، وعلي(ع) كان التجسيد للإيمان كلّه.
أمّا المنافق الذي اختزن الكفر في قلبه، فلم يتعلّق من الإيمان بشيء، بل كان إظهاره للإيمان بلسانه وسيلة من وسائل تغطية الخطط التي يخطّطها ليهدم الإيمان في عقيدته وفي شريعته وفي حياته، فكيف يمكن أن يحبّ علياً(ع)؟!
إنّ القصة لا تتصل بالسطح لتكون خاضعة للرغبة هنا والرهبة هناك، ولكنها تتصل بالعمق بمعنى الإيمان في نفس المؤمن. وكأنّ علياً(ع) يريد أن يقول: إنّ مسألتي في الواقع ليست مسألة شخص ينفتح على صفات معينة يحبّه الناس لأجلها ويبغضونه لأجلها، ولكنها مسألة الإسلام كلّه والإيمان كلّه.
مشكلة الغلوّ:
ثـــم يـقول(ع): ((هلك فيّ إثنان: محبّ غـال ومبغض قالٍ))(4). فقد كان علي(ع) يحبّ الله تعالى ولا يحبّ نفسه، ويحبّ رسول الله(ص) ولا يحبّ نفسه، ولذلك فإن علياً(ع) كان يتواضع لله تعالى فلا يريد لأحد أن يقترب به من مقام الله عزّ وجل في أي مجال من المجالات، وهو ما عبّر عنه في (دعاء كميل) ((وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين)). إنه يعتزّ بعبوديته، ويرى أنّ عظمته في العبودية الخالصة، عبودية العقل للّه، وعبودية القلب للّه، وعبودية الحركة للّه، هيّ سرّ عظمته، لأنّ الإنسان كلّما كان عبداً لله أكثر اقترب من الله أكثر، وكلّما اقترب منه أكثر عاش العظمة في آفاق الله أكثر.
فلا يحسب الذين يغالون في علي(ع) أو في أبناء علي(ع) أنّهم يعيشون المحبّة لأهل البيت(ع) فإنهم عاشوا للإسلام، كلّه وذلك هو قولهم ((من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تُنال ولايتنا إلاّ بالورع)). ولقد كرّرناها مرارا،ً أنّه ليس لأهل البيت(ع) شيء سوى الإسلام، فليس لديهم شيء للذات. لذلك علينا، عندما نريد أن نفتح عقولنا وقلوبنا لحبّهم، أن نحبّهم كما أرادوا لنا أن نحبّهم، كما ورد في كلمة الإمام علي بن الحسين(ع) ((أحبّونا حبّ الإسلام)). أي أن يكون الحبّ في الدائرة الإسلامية، وأن لا يبتعد عن العقيدة الإسلامية في خطوطها القرآنية والنبويّة، وبذلك فإن علينا أن ندقّق فيما جاءنا عن رسول الله(ص) وأهل البيت(ع) في ذلك كلّه:
((هلك فيّ إثنان: محبّ غال)). لأنّه لم يقف على خط التوازن في الحب في معنى الإسلام، ((ومبغض قال)). وهو الذي يعيش العداوة لعلي(ع) وهو يعرف أنّ علياً(ع) كان الإسلام كلّه، فالعداوة لعلي(ع) عداوة للإسلام كلّه، فإنّ علياً(ع) في واقع الأمر هو تجسيد للإسلام.
إننا نؤكد ذلك من خلال كلام علي(ع) لأنّ هناك تياراً بدأ يغلو ويزداد غلوّاً باسم الحب لعلي(ع) ولأهل البيت(ع) ولا يقف في خط التوازن.
المعرفة حجّة:
ومن كلماته في المفاهيم الأخلاقية: ((أيّها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرجال)). فعندما تعيش مع أخيك المؤمن وترى من مدى سيرته مع الناس ومعك، دينا وثيقاً وطريقاً سديداً، ويأتيك من يحدّثك عن سلّبية توبق دينه، وعن ضلال ينحرف به عن دينه، وعن كلمات هنا وكلمات هناك ((فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال)). لأنّ الرجال قد يكذبون، ولأنّهم قد ينحرفون، ولأنّهم قد يتعقّدون، ولأنهم قد يحرّفون الكلام عن مواضعه، وهذه هي نصيحة علي(ع): ((من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال. أما إنّه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام)).فليس من الضروري أنّ من يطلق الكلمة يصيب كبد الحقيقة. ((ويحيل الكلام وباطل ذلك يبور، والله سميع)).يسمع الذين يتكلّمون، ((وشهيد)). يشهد الذين يتكلّمون ويشهد عليهم. ((أما إنّه ليس بين الحقّ والباطل إلاّ أربع أصابع. فسئل(ع) عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت))(5). فكم من الناس الذين يتحدّثون عمّن عرفوا فيه وثيقة دين وسداد الطريق، قالوا رأينا؟ هل يصلون إلى العشرة في المئة؟ وكم من الناس الذين قالوا سمعنا؟ إنّهم يصلون إلى الألف بالمئة، لأنّ مشكلتنا هي كما شخّصها الشاعر العالم الشيخ محمد رضا الشبيبي:
حكم الناس عـــلى النـاس بما سمعوا عنهم وغضّوا الأعينا
فاستحالت وأنا من بينهم أذني عيناً وعيني أذنا
فلقد صرنا نسمع بعيوننا وننظر بآذاننا، أليس كذلك؟
إن القضية ـ أيّها الأحبّة ـ قد لا تتصل بما يتحدّث به الناس عن الناس، ولكنّها تتصل بالوعي للحقيقة، وهي أن تعتبر شيئاً ما حقيقة، سواء كان ذلك في علم أو في عقيدة، أو في سياسة أو في اجتماع، بأن تملك الوسائل التي يمكن لها أن تثبت الحقيقة من خلال اليقين، فهناك أناس لا يتثبّتون بل ينفتحون على القضايا من خلال وهم أو ظنّ وما إلى ذلك، في حين يريد الإسلام للناس أن يعيشوا التثبّت في أمورهم كلّها.
علّم نفسك أولاً:
وكلمة أخرى للذين يعظون الناس ويرشدونهم ويقفون في موقع التبليغ والخطابة والتوصية: ((من نصب نفسه إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره)).أن يعلّم نفسه ليكون تعليمه بالقدوة أكثر من تعليمه بالكلمة، لتكون الكلمة عندما يطلقها خارجة عن عمق كيانه لا من فلتات لسانه، لأن إطلاق اللسان للكلمات أمر سهل ولكن أن تخرج الكلمة من عمق عقلك، ومن عمق قلبك، ومن عمق حياتك، فهذا يحتاج إلى أن تكون أنت الكلمة، وأن لا تكون الكلمة خارج ذاتك بل كلّ ذاتك.
((وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم))(6). لأنّه يعيش الفكرة،أمّا عندما يؤدّب الناس بفكرة لم يعشها، فإنّه يكون مصداق قوله تعالى ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ^ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ[(7).
البحث عن الحقيقة:
ثم يحدّثنا الإمام علي(ع) أنّ على الإنسان أن يكون طالب حقيقة في حجم العالم، فعندما تريد أن تأخذ الحكمة، وهي تتسع لكل مواقع العلم الذي ينفع الناس، فلا تقل هذا مؤمن آخذ منه وذاك منافق لا آخذ منه، بل تعلّم في حجم العالم، وانطلق إلى العالم كلّه، وإلى الكافر والمؤمن والمنافق واستمع جيداً، فإذا رأيت الحكمة تنطلق من فم كافر أو منافق فخذها، فأنت بذلك لم تأخذ كفره، ولكنّك أخذت الحكمة التي عاشت في داخل نفسه. والحكمة قد تعيش في صدر المؤمن وصدر المنافق، فلا تحبس نفسك، عندما تريد أن تأخذ العلم والحكمة، في دائرة ضيّقة، بل افتح عقلك لكلّ العقل الذي يتحرّك في العالم. والإمام(ع) لا يقول إنّ عليك أن تستمع لتؤمن من دون فكر، فهناك فرق بين أن تسمع وبين أن تستمع، فالسماع هو دخول الصوت في الأذن من دون وعي، أما الاستماع فهو دخول الصوت في الآذن ليتحرّك في العقل الذي يقوم بعملية التفكير بما استمع إليه.
يقول(ع): ((خذ الحكمة أنّى كانت فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتختلج (أو تلجلج) في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن)). فقد تكون في صدر المنافق فلا تستقرّ فيه وإنما تخرج منها، فأخذها وأضافها إلى صواحبها ونظائرها في موارد الحكمة. ((وقال(ع): الحكمة ضالّة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق))(8).
الفقيه الحقّ:
ثم يحدّثنا عن كيفية وعظ الإنسان الناس، هل يحدّثهم عن الجنّة كما لو لم تكن هناك أية مشكلة في طريق الجنّة؟ أو يحدّثهم عن النار كما لو كان الناس كلّهم يتحرّكون في خط النار؟ فيقول ((الفقيه كلّ الفقيه)). الذي يعيش فقه القرآن وفهمه ووعيه ((من لم يقنّط الناس من رحمة اللّه)). أي لا يحدّثهم عن جرائمهم وسيئاتهم ومعاصيهم، كما لو كانت من الصنف الذي لا يغفره اللّه، كالكثيرين ممن يدخلون الناس في تهاويل غضب اللّه حتى يحجبوا عنهم كلّ نافذة للرحمة ]قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا[ (9)]وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ[(9). ]وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[(10).
((ولم يؤيسهم من روح اللّه)). فإن اللّه تعالى يريد للإنسان أن يظلّ منفتحاً على الأمل في رحمته وروحه. ((ولم يؤمنهم من مكر اللّه))(11). ]فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[(13). بل يحذّرهم من مكر الله الذي يملك الإنسان كلّه والحياة كلّها، فهو قد يمهل ولكنه لا يهمل. ((وقد علمت أنّه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة، إنّما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج إلى الظلم الضعيف)).(12)
العلم هو الخي:
ويتحدث(ع) عن الخير، ((فقد سئل عن الخير، فقال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنّ الخير أن يكثر علمك)). لأنّ المال هو شيء خارج ذاتك، وهو ليس أنت، فله وجود مستقلّ عنك يضاف إليك قانوناً، فلو كثر مالك فلن تكبر كإنسان في معنى مالك. ولو كثر ولدك، فستكون شيئاً ويكون أولادك شيئاً آخر، نعم، يمكن أن تأنس بهم وتزهو بهم وتفخر بهم ولكنهم لا يزيدونك شيئاً. فأنت كما أنت حتى لو كان لديك عشرات الأولاد، وتبقى كما أنت في عقلك وعلمك حتى لو كان لديك عشرات الملايين أو عشرات الأولاد، فهذا ليس خيراً يمثّل إنسانيتك ويزيد فيها ((ولكن الخير أن يكثر علمك)). فعندما يكثر علمك يكبر عقلك، وعندما يكثر علمك يتوازن قلبك، وعندما يكثر علمك تمتلئ طاقاتك، وعندما يكثر علمك تبدع في الحياة وترفع مستواها إلى الأحسن والأفضل. لذلك فأنت تكبر في كلّ عناصر إنسانيتك عندما يكبر علمك ((وأن يعظم حلمك)). وأن تكون الإنسان الذي يتسع صدرك من خلال اتساع عقلك لتكون الهادئ اللين المنفتح الذي لا يغضب ولا ينفعل، بل هو الذي يتلقّى الصدمات والانفعالات لينفّسها بطريقة هادئة وعقل بارد في أن يعفو عندما يكون العفو هو الخير، ولا يعفو عندما يكون العفو هو الشرّ. ((وأن تباهي الناس بعبادة ربّك)). أي أنْ تكون لك العبادة التي من شأنها أن تجعلك في موقع المباهاة، وليس المراد أن تباهي أن تفتخر لأن الفخر في العبادة يفسدها، ولذلك كان من مكارم الأخلاق أن يوفقّه الله للعبادة وأن لا يخلط العبادة بالعجب. ((فإن أحسنت)). من خلال ذلك ((حمدت اللّه. وإن أسأت استغفرت اللّه، ولا خير في الدنيا إلا لرجُلين)). بلحاظ المصير، حسب قول النبي(ص) ((ما خير بخير بعده النار وما شرّ بشرّ بعده الجنّة)): ((رجل أذنب ذنوبا فهو يتداركها بالتوبة ورجل يسارع في الخيرات ولا يقلّ عمل مع التقوى)). كن تقياً ولا تنظر إلى عملك في حجمه وعدده، لأنّ عمق التقوى في نفسك يجعل عقلك تقياً وقلبك تقيّاً وطاقاتك تقيّة وحركتك تقيّة، وعند ذلك لا مشكلة في حجم العمل، لأنّ عظمته إنّما هي بعظمة الروح التي تنفتح على العمل بكلّ معانيها الروحانية والإنسانية. ((وكيف يقل ما يتقبّل))(13). كيف يكون العمل الذي يقبله الله قليلا؟ فقيمة العمل وكثافته هو في قبول الله تعالى له، فما يقبله الله يجعلك كبيراً لأنّك تقرب به من الله سبحانه وتعالى.
لنعقل الأخبار:
ثم يقول(ع) ((اعقلوا الخبر إذا سمعتموه)). ونحن نسمع الكثير من الأخبار عن رسول الله(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) ونسمع الكثير من الأخبار التي تتصل بالحياة في السياسة والاجتماع والأمن وما إلى ذلك، وما أكثر مصادر الأخبار في حياتنا. فهل القضية هي أن نسمع الخبر لنرويه؟ أم نسمعه لنرعاه رعي وعي وفهم وتحليل؟ بان ندرس مفرداته لنرى هل يلتقي بالحقيقة أو يبتعد عنها ويجافيها ؟ هل ينسجم مع المعقول أو لا ينسجم معه؟ هل ينفتح على طبيعة الأشياء وواقعها أو لا ينفتح. لأنّ الخطورة – أيّها الأحبة ـ في الذين يسمعون الأخبار ويلتقطونها ليلقوها في آذان الناس، هي أنهم ربّما يثيرون الكثير من القناعات في الناس من غير تركيز، ولهذا فلابدّ لك أن تعيش الوعي فيما تسمعه من حولك: ((اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية)). تماما كما ترعى ولدك وحياتك ((لا عقل رواية فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل))(14). ومشكلتنا هي مع الذين لا يرعون العلم، ولا يتحوّل العلم عندهم إلى عقل وإلى إحساس وكيان.
خسارة الدنيا والآخرة:
ويقول الإمام علي(ع) ((لا يترك الناس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح اللّه عليهم ما هو أضرّ منه))(15). فكم تركنا من أمر ديننا في مواقع الحياة كلّها؟ وكم تركنا من أمر ديننا لمصلحة أطماعنا وشهواتنا وسياساتنا ورغباتنا؟ كم تركنا من أمر ديننا الذي يأمرنا أن نقف ضد الظالمين لكّننا نخضع لهم؟ وأن نقف ضد المستكبرين لكنّنا ننسحق تحت إرادتهم؟ وأن نوازن في رغباتنا وشهواتنا، وأن لا تأخذنا في الله لومة لائمة، لكنّنا رحنا نتحدّث عن الرخص هنا والرخص هناك والظروف والعناوين وما إلى ذلك من مبررات، فوقعنا في شراك المشاكل المعقّدة. لقد حللنا مشكلة ولكنّنا وقعنا في ألف مشكلة، وانفتحنا على ربح ولكنّنا وقعنا في ألف خسارة. هذا في الدنيا وأما في الآخرة ]يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا[(16). ]أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ[(17). ]أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا[(18). ]الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا[(19). إنّك عندما تترك شيئاً من أمر دينك لتصلح دنياك، فإنّك سوف تخسر الدنيا والآخرة.
حقيقة الانتماء:
ونبقى مع علي(ع) في ميزان القيمة حيث يقول: ((إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤا، ثم تلا(ع) ]إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا[(20) الآية)). فالولاية والأولوية والانتماء ليست للقرابة ولكنها للرسالة والعلم. تلك هي علاقة الناس بمن يملك القيمة ومن يحمل الرسالة، إن أولى الناس به لا أولاده ولا أقرباؤه، بل الذين اتبعوه، وهذا النبي الذي حمل رسالة إبراهيم(ع) وفضلها في جوانب الحياة كلّها. ((ثم قال(ع) : إن ولي محمد(ص) من أطاع الله وإن بُعدت لحمته وإنّ عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته))(21). ]فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ^ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ[(22).
كانت مودة سلمان لهم رحما ولم يكن بين نوح وابنه رحمُ
أيّها الأحبة: القرابة هي قرابة الرسالة وقرابة الخطّ والعمل، فإذا أردنا أن نكون أولياء رسول الله(ص) وعلي(ع) والأئمة من أهل بيته(ع) فلنعينهم بورع واجتهاد وعفّة وسداد.. فأين اجتهادنا في المحبّة على خط الله ورسوله؟ وأين عفّتنا عن الحرام؟ وأين سدادنا في الرأي والموقف؟ أينّ الوحدة؟ ]وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا[(23).
إنّ البعض منّا في أكثر من موقع ديني وسياسي واجتماعي حمل في محرابه فأساً حتى يهدّم الوحدة الإسلامية ويهدّم وحدة خطّ أهل البيت(ع) بل ويهدّم الإسلام كلّه والتشيّع كلّه، ويحدّثونك عن التشيع والإسلام وعن أهل البيت(ع). وأهل البيت(ع) يريدون منّا أن نتقي اللّه، وأن نطيعه، وأن نكون الصادقين الأمناء السائرين في الطريق إلى اللّه سبحانه وتعالى. ]وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[(24). والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة العشرون: 10 محرم 1421 ه المصادف 15/4/ 2000م
في ذكرى مقتله:
الانطلاق مع الإمام
الحسين(ع)
الثائر والداعية
حدّثوا الناس بكربلاء الحقّ، ولا تضيفوا إلى الحقّ شيئاً من الباطل
صورة الإمام الحسين(ع)
نصوص الحسين(ع)
مشكلة الحياديين واللاأباليين
موقع الأمة في الإصلاح
الأمّة في واقعها اليوم
درس عاشوراء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
صورة الإمام الحسين(ع):
ما هي الصورة التي نتمثلها في الإمام الحسين(ع)؟
هل هي صورة الثائر؟ ليكون الحسين(ع) كلّه حركة ثورة تأخذ بعدها السياسي في المرحلة التي عاشها ضد الحكم الأموي؟
هل صورته هي صورة الإنسان الذي يحرّك العنف في مواجهة الانحراف، بحيث يرى أنّ العنف هو الوسيلة التي يمكن أن تحلّ المشكلة ولا وسيلة غيرها؟
هل أن صورة الإمام الحسين(ع) تختصرها كربلاء؟ لنحبس الحسين(ع) في أجواء أحداث كربلاء فيما نتمثله من عناصر شخصيّته؟
وهل للحسين(ع) في خطوطه الفكرية والسياسية خصوصية خاصّة تختلف عن الخطّ العام للمنهج الفكري للإسلام؟
هذه علامات استفهام لابدّ أن نجيب عليها.
فعندما ندرس الإمام الحسين(ع) في تأريخه كلّه، نجد أنّ ما يختصر الحسين(ع) هو الإسلام، فليس لدى الحسين(ع) شيء في الفكر وفي السياسة وفي الحركة إلاّ الخط الإسلاميّ الأصيل، ولم تكن تطلّعاته تطلّعات إنسان يختصر الثورة في مسألة القيادة، بل تتسع نظرته إلى المجتمع كلّه، بحيث تكون القيادة مشكلة من بين مشاكل عديدة يعاني منها المجتمع في انحراف تصوّره عن القيادة.
كان الحسين(ع) إماماً بكلّ ما تتسع له كلمة الإمامة في أبعادها الثقافية والسياسية والاجتماعية، وكانت الثورة التي قادها إحدى وسائل الدعوة. ولو درسنا الإمام الحسين(ع) في أسلوبه العملي، فإننا نراه يتمثل أسلوب رسول اللّه(ص). فقد انطلق(ص) بالدعوة والرفق والانفتاح والصبر، والكلمة التي تفتح العقل من خلال عقله المفتوح، وتفتح القلب من خلال قلبه المفتوح، حتى إذا فرضت عليه المعركة دخلها مكرها. ولا نقول إنّ المعركة استثناء بل إنّ الأسلوب الإنساني في حركة تركيز الواقع هو كالأسلوب الطبيعي تماماً. فكما أنّ هناك رياحاً هادئة وأخرى عاصفة، وأن هناك نهراً هادئاً وآخر هائجاً، فكذلك هناك أسلوب يتحرّك في مواجهة المشكلة بهدوء وبرفق، وهناك أسلوب آخر يتحرّك بشدّة وبعنف.
ولم يكن الحسين(ع) إنسان العنف في حركته، ولكنّه واجه العنف الذي فرض عليه بعنف في مستوى المشكلة. ولم يكن(ع) مجرّد ثائر يريد أن يسقط شخصاً، ولكنّه كان يريد أن يسقط واقعاً .. والشخص جزء من الواقع، وهذا ما يجب أن نفهمه حتى في مواقعنا السياسية عندما يثور الناس على شخص طاغية أو ظالم أو مستكبر، فإنهم قد يتصوّرون أنّ الشخص إذا سقط انحلّت المشكلة، ولكننا نعرف أنّ أي شخص يحكم إنّما ينطلق من ذهنية تتحرك في المجتمع: تفرضه أو تتقبّله أو تحميه.
وهذا ما لاحظناه في تأريخنا المعاصر، فعندما كانت الثورات أو الانقلابات تسقط شخصاً، فإننا نجد أنّ إسقاط الشخص لا يحلّ المشكلة، لأنّ هناك أنظمة وقواعد ومؤسسات يمكن أن تواصل نهجه. ولذلك لابدّ لك من أن تدرس الساحة كلّها لتدرس موقع الشخص من الساحة، ومدى تأثيره في خلفيات الساحة، حتى تعالج المشكلة بجميع أبعادها.
ولكن مشكلتنا ـ أيّها الأحبة ـ نحن الشرقيين ولا أقول العرب فحسب - أننا نحدّق بالبطل ولا نحدّق بالبطولة، وأنّنا نواجه الشخص ولا نواجه عناصر الشخصية أو عناصر القوّة. وعندما نريد أن ندرس النصوص التي وردت في كلمات الإمام الحسين(ع) على ضوء هذه الحقائق، فكيف يمكن أن نتمثّلها؟
نصوص الحسين(ع):
النص الأول: وهو النصّ الذي تحدّث فيه عن الخط الإسلاميّ للقيادة في عناصرها السلبية، ولم يتحدّث عن خصوصية الشخص ولكن عن خصوصية الخط الذي يمثّله الشخص، حيث يقول: ((أيّها الناس: إنّ رسول اللّه(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم اللّه ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول اللّه يعمل في عباده بالإثم والعدوان)). فهو(ع) قد ركّز هنا على العناصر السلبية في الشخص القائد الذي فرض قيادته على الواقع من خلال طبيعة الخطوط التي يتمثلها الموقع في موقع الناس منه أو في موقعه من الناس، ((بقول ولا بفعل كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله)).
وعندما تحدّث(ع) عن موقفه من الانحراف فإنه تحدّث عن الواقع. فلقد كان يتحدّث عن الشخص، فأصبح يتحدث عن النظام وعن أجهزته، وعن الذين يتحرّكون في خطوط فرض النظام ((ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود وأستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلال اللّه وأنا أحقّ من غيّر))(1). فهو هنا يتحدّث عن الشخص في سلوكه السلبيّ وحركة قيادته في الحكم ، ثم يتحدث عن المجتمع الذي التقى مع هذا الشخص على أن يكون الواقع واقعاً غير إسلاميّ، وقدّم نفسه على أنه الرمز القادم للتغيير لا لتغيير الشخص ولكنّ لتغيير خطّ القيادة من خلال ما يجسّده الشخص من هذا الخط، وخطّ النظام من خلال ما يجسّده المجتمع الذي يوالي هذا الشخص في واقع النظام.
ومن خلال ذلك نفهم ـ أيّها الأحبة ـ أننا عندما نواجه أيّ طاغية فإن علينا أن لا نستغرق في شخصه بعيداً عن التأثيرات التي تركها في المجتمع، وعن الفريق الذي يؤيده ويدعمه، وعن المجتمع الذي انطلق ليسقط تحت تأثيره. فلابدّ من دراسة هذه المسألة في حركة الإمام الحسين(ع) لنستوحيها في الوعي السياسي في مواجهة الظلم والانحراف بحيث نخطّط لرأس الهرم ولقاعدته لا أن نخطط للرأس وننسى القاعدة، فقد ينهض الرأس من القاعدة من جديد.
النص الثاني: وهو الذي أشار فيه(ع) إلى المجتمع بقوله ((ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقاً حقا، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما))(2). إنه يتحدث عن الواقع الذي كان يعيشه المجتمع الإسلامي آنذاك، فالباطل يمثل الظاهرة المستشرية التي لا تجد في المجتمع من يواجهها، لأن المجتمع كان منقسماً بين فريقين: فريق يؤيد الباطل، وفريق يقف موقف الحياد بين الحق ّ وبين الباطل، ويعيش أجواء اللامبالاة، والنتيجة في كلا الفريقين واحدة، بين الذي يؤيّد الباطل وبين الذي لا يؤيد الحق ولا يواجه الباطل، كما قال الإمام علي(ع) عن بعض الذين تخلّفوا عنه ((إنّهم خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل)). وكأنّه أراد أن يقول إن مثل هؤلاء لا يملكون عذراً في موقفهم، لأنّ الباطل يستفيد من الحياديين ممن يمنعون الحق قوّته، وكلّما ضعف الحقّ قوي الباطل.
مشكلة الحياديين واللاأباليين:
إنّ مشكلتنا ـ أيّها الأحبّة ـ مع إسرائيل، ومع الاستكبار العالمي هي مشكلة الحياديين واللاأباليين والساكتين والأكثرية الصامتة، فليست (إسرائيل) هي الأقوى، ولكننا كنّا الأضعف، فاستفادت من عناصر ضعفنا، وليس الاستكبار هو الأقوى، فنحن نملك الكثير من العناصر التي تستطيع أن تضغط عليه، ولكننا نقول:
ما علينا إن قضى الشعبُ جميعاً أفلسنا في أمان؟!
ونقول ((اللّهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجنّا من الشرير)). ونقول: استرنا واستر عيالنا ولا دخل لنا بالناس الآخرين. ونقول: مالنا وللدخول بين السلاطين، غير مدركين أنّ هذه الذهنية هي التي أسقطت عنفوان الأمّة كلّه، وجعلت الذلّ مقدّساً، حتى قال شاعر عربي وهو يصوّر التلاعب بالألفاظ:
تأنقّ الذلُ حتى صار غفرانا
فالبعض يقول: إنّما نحن نعفو ونغفر، والقضية في واقعها ليست عفواً ولا غفرانا، وإنما هي ذلّ أمام الظالم، ولذلك ترانا نتلاعب بالألفاظ ونقنع أنفسنا بأنها حقائق.
فعندما يتحدّث الإمام الحسين(ع) في قوله ((ليرغب المؤمن في لقاء ربّه)). فهو لا يتحدّث عن يأس، ولكنّه يتحدّث عن مرارة لا تنطلق من حالة ذاتية في مشاعر الإمام الحسين(ع) إزاء الواقع، ولكنها تنطلق من حالة رسالية موضوعية في نقد الواقع الذي انطلق رسول اللّه(ص) والمسلمون معه من أجل أن يتغيّر من واقع باطل إلى واقع حقّ، ومن واقع ظلم إلى واقع عدل. إن واقع المسلمين في عهد يزيد تحوّل إلى واقع جاهلية مغلّفة بالإسلام، ولذا كان الإمام الحسين(ع) يقول: ((لا أرى الموت إلا سعادة)) فمثل هذا الواقع هو واقع لا يجعل من الحياة حياة يشعر الإنسان فيها بالسعادة، لأنّ الحياة التي يشعر فيها الإنسان بالسعادة هي الحياة التي تؤكّد الرسالة والقضية، وتؤصّل الإنسانية، وتجعل الحياة متحرّكة في خط العدل لا في خط الظلم ((والحياة مع الظالمين إلا برما)). فلقد كان يريد أن يعبّر عن مشاعره تجاه الواقع لا ليوحي لنفسه بالسقوط أمام الواقع، ولكن كان يتحدث مع الناس من أجل أن يقول لهم إن هذه الحياة التي تعيشونها وأنتم ساكتون لحياةُ الموت أفضل منها، فهل تريدون أن تكونوا في حالة الموت؟! إنّ على الإنسان أن يحبّ الحياة العزيزة والكريمة والرسالية. ألا يقول ذلك الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت إنّما الميت ميت الأحـيّاءِ
إنّما الميت من يعيش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء
وأما النص الثالث: فهو في نطاقّ حديث للإمام الحسين(ع) يقول فيه ((اتخذوا مال اللّه دولا وعباده خولا)). فالإمام(ع) يصوّر المشكلة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في حركة النظام آنذاك، فمال اللّه تعالى هو مال الأمّة، ولعلّ كلمة (مال اللّه) تعطي معنى أكثر تأثيراً من كلمة مال الأمّة، فالله تعالى هو ربّنا، وهو خالقنا، وهو المهيمن على الأمر كلّه، وهو الجبّار القادر القاهر فوق عباده. فإذا كان المال ماله فليس لك أن تسرق ماله، وليس لك أن تتصرّف بماله كيفما تشاء إلا بإذنه، ولذلك لا يجوز أن يعبث العابثون بمال الله لأنك قد تزوّر الأمة فتعطيك شرعية أن تتصرّف بمالها كيفما كان،لأنها قد تُخدع وقد تُغشّ. فمال اللّه هو المال الذي لابدّ أن يعطيك اللّه شرعية إنفاقه والتصرّف فيه وإلا فهو غصب وسحت وسرقة وعدوان ]أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ[(3).
((وعباده خولا))(4). فبعد التلاعب بأموال اللّه، التي هي أموال الأمّة، يلجأ الطغاة إلى تحويل الناس إلى عبيد، فليس من حقهم أن يأخذوا حريتهم في أن يفكرّوا بالطريقة التي تحلو لهم، أو في أن يعبّروا عن الرأي الذي يؤمنون به، أي أن يكون كل واحد منهم عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء.
فالإمام الحسين(ع) في هاتين الفقرتين عبّر عن طبيعة الانحراف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في طريقة التعامل بالميزانية العامّة، وفي طريقة التعامل مع الشـعب، حـيـث انـهم اختصروا الشعب في أشخاصهم. فـالإمـام(ع) كان يركّز على المسألة الاجتماعية لأنها المشكلة الكبرى، وكان يحاول أن ينقد النظام الفاسد المنحرف، ويعطي الناس الصورة العامّة للنظام حتى يتحرّك الناس ضد ذلك الواقع من أجل أن يوجد تعبئة شعبية تعمل لمصلحة حركته.
ولذا فإننا عندما نقرأ رسائل الإمام الحسين(ع) لأهل الكوفة والبصرة نجده يركّز على الجوانب الروحية، إذا صحّ التعبير.
والنص الرابع:عندما قال(ع) كلمته المشهورة ((إني لم أخرج أشرا ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر... فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحقّ، ومن ردّ علي هذا اصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين))(5).
فهذه الكلمة المعبّرة عن هدف النهضة الحسينية تعطينا عدّة مفاهيم، فهي تعطينا مفهوم أن أية ثورة في موقع أيّ ثائر لابدّ أن لا تنطلق من عقدة ذاتية أو فئوية، لأن الناس ليسوا حقلاً لتجارب ذاتك، وليسوا ساحة لتنفيس عقدتك الذاتية، أو عقدة حزبك، أو عقدة عائلتك. وحدها الرسالة هي التي تتصل بمستقبل الناس وحياتهم، وهي التي تعطيك شرعية إطلاق الحركة والتخطيط للثورة، لأنّك بذلك ترتفع بمستوى الناس وتنقذهم من الواقع الذي يعيشون فيه، فلابدّ لأيّ ثائر أن يدرس كلّ عناصر ثورته، فلا يكون فيها ظلم لأحد، ولا إفساد للواقع، ولا تنفيس عن عقدة.
إنّ الحسين(ع) ربّما كان يشير إلى الذين يتحرّكون على طريقة ((قم لأجلس مكانك)). من دون قضية ورسالة، أو الذين يتحرّكون لينشروا الفوضى من دون خطّة، أو من دون دراسة لواقعية الخطوات التي يخطونها.
((لم أخرج أشرا ولا بطراً ولا ظالما)). فأنا ـ وهذا هو لسان حال الإمام(ع) ـ لا أبحث عن ذاتي في خروجي هذا، ولا أعيش حياة البطر في ذلك ولست ظالماً لأحد، حتى أنيّ عندما أثور على الظالم فإنّي أريد أن أنقذه من ظلمه لإصلاحه ((ولا مفسداً)) لأنّ ما أفكّر به هو أن ترجع الأمّة إلى الصراط المستقيم ]إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ[(6) و((إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي)).
فهاتان الكلمتان (الإصلاح) و(أمّة جدي) تعطينا فكرتين: الفكرة الأولى: وهي أن الإمام الحسين(ع) عندما انطلق درس الواقع الإسلامي كلّه، فلقد درس المسألة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، لأنّه عندما يتحدّث عن الإصلاح في الأمّة، فمعنى ذلك أنّ هناك خللاً وفساداً في واقع الأمّة، وعندما لم يشر إلى موقع معين من الفساد، فإن معنى ذلك أنّه يتحدّث عن فساد شامل يراد من خلاله إيجاد إصلاح شامل.
موقع الأمة في الإصلاح:
وهذا مما ينبغي لنا أن نستوحيه في حياتنا كلّها، لأنّه ليس هناك في الأمّة شخص خارج المسؤولية، فلكلّ شخص منا طاقة، ولكلّ منا موقع، وإذا كانت طاقتك أو موقعك لا يسمحان لك بان تغيّر الواقع من خلالهما، فإنّك تستطيع أن تضمّ طاقتك إلى طاقات الآخرين، وأن تقارب بين موقعك وبين مواقع الآخرين، ذلك أن أول شرط للمسؤولية هو وعي الواقع، وأن لا تكون لدينا أميّة سياسية. فقد نكون متعلّمين إلى المستوى الجامعي، ولكن مشكلتنا هي هذه الأميّة السياسية التي هي من أخطر ألوان الأميّات، فنحن ـ للأسف ـ لا نملك وعياً سياسياً شاملاً، فأين هي ثقافتنا في مشاكل الأمّة الاقتصادية؟ وما هي خلفيات هذه المشكلة؟ هل هي محليّة أو إقليمية أو دولية؟ وعندما ندرس الواقع السياسي والمشاكل السياسية في العالم الإسلامي لا نعرف هل أنها مشاكل محليّة أو إقليمية أو مشكلة استكبار عالمي؟ هل هي مشكلة رأس الهرم أو هي مشكلة قاعدة الهرم؟ أيّ وعي سياسي نملكه؟
إننا نسمع في كلّ يوم نشرة أخبار أو أكثر من نشرة، ونقرأ أكثر من صحيفة، ولكننا نستهلك السياسة كما نستهلك الطعام، فنحن نأكل الطعام من دون أن نعرف مكوّناته، خاصة وأن الطعام أصبح معلّباً، والسياسة معلّبة، والاقتصاد معلبّا،ً ويحدّثونك عن السموم في العلب الغذائية وما في العلب الأخرى أخطر وأخطر. فنحن شعب لا يطيق أن يكون منتجاً، إنّما نحن مستهلكون، فنحن نستهلك الفكر الذي يقدّم إلينا، ونستهلك الإشاعات التي تطلق بيننا، ونستهلك التخلّف الذي يفرض علينا، ونستهلك السياسة والسياسيين، ونستهلك الاقتصاد ونستهلك الثقافة، وما إلى ذلك.
إن مشكلتنا هي أننا نقول للآخرين فكرّوا لنا ولا نقول لهم فكّروا معنا، فنحن نعيش في مرحلة غسل الأدمغة بالفضائيات والصحف والخطابات الاستهلاكية والمتخلّفين والجاهلين من أدعياء العلم... مشكلتنا هي أننا نستهلك ذلك كلّه حتى أصبحت صورتنا مشوّهة تشويه الفكر والروح والوعي والحركة. من منّا يعرف نفسه؟ دلّوني؟ هل تستطيعون أن تتحدّثوا عن أنفسكم بتفصيل؟
إنّ الإمام الحسين(ع) يوحي إلينا أن علينا أن ندرس مشاكل المجتمع، لنعرف كيف نشارك مع المصلحين في إصلاح المجتمع، لأننا لم ندرس عمق الفساد في المجتمع ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[(6). فكم من الذين يدّعون الإصلاح يعمّقون الفساد في الواقع ]أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ[(7). ولا نشعر نحن بهم في هذا المجال.
فلابدّ أن يكون لدينا الوعي السياسي إلى جانب الوعي الثقافي والوعي الاجتماعي، فلا يقولنّ أحد: أنا لا أملك أن أتثقّف، فلدينا الكثير من أوقات الفراغ التي نصرفها بدون معنى وفائدة. ولننظر إلى الأمم الأخرى التي تحاسب وتراقب وتسقط وترفع، لنرى كيف تواجه الواقع السياسي الذي هو واقع حياتها، كيف تواجه الواقع الاجتماعي والاقتصادي من موقع وعيها لكلّ واقعها.
الأمّة في واقعها اليوم:
وأمّا الكلمة الأخرى: (أمّة جدي) فالحسين(ع) لم يتحدّث عن الأمّة المدنية، أو عن الأمّة العراقية أو الحجازية، بل كان يتحدث عن حجم الأمّة كلّها، أمّة جده، أمّة الإسلام، من أجل أن يقول لنا إن الرساليين قد يحتاجون إلى أن يعالجوا مشاكل منطقة معينة، لكن من دون أن يحبسوا حركتهم في داخل منطقتهم. ]لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا[(8). ولكن عندما تعيش روحيّة الأمّة فإنك سوف تحرّك خطوطك في أي موقع من مواقع الأمّة بعقلية الأمّة لا بالعقلية المحلّية أو الإقليمية.
ونفس الشيء يقال في الخطوط الإسلامية للحركة، كما لو يتحوّل الإسلاميّ الذي يتحرّك في منطقة عمله إلى شخص يتعصّب لمنطقته في قبال منطقة أخرى. فلسنا مستعدين ـ وأنا أتحدث عن ظاهرة ـ أن نناقش المسائل من خلال وجهة نظر الأمّة، فعندما جاءت اتفاقية سايكس ـ بيكو وقسّمت العالم الإسلامي والعربي إلى دول وإقطاعيات، أصبحنا نخلص إلى بنود هذه الاتفاقية أكثر مما نخلص لما نؤمن به من التزامات الخطّ الإسلامي.
انظروا كيف تلعب (إسرائيل) الآن في المفاوضات على المسار الفلسطيني والمسار السوري ـ اللبناني؟ فالفلسطيني ليس مستعداً للتنازل للسوريّ، وفي لبنان هناك سياسيون يتحدّثون عن أن (إسرائيل) إذا انسحبت من الأراضي اللبنانية، فما دخلُنا حينئذ بالجولان؟ في حين أن الجولان منطقة إسلامية، وجنوب لبنان منطقة إسلامية، والأراضي الفلسطينية إسلامية وعربية. ونحن نعرف ـ في المقابل ـ أن (إسرائيل) عندما انطلقت كان في طليعة أهدافها الهيمنة على العالم العربي والإسلامي كلّه، فلم يفكّر اليهود ـ سواء يهود اليمن أو يهود العراق أو يهود لبنان أو يهود روسيا - ببلدانهم، بل كانوا يفكّرون بالأمّة اليهودية، وكانوا يعملون على استغلال مواقعهم في كلّ موقع يعيشون فيه من أجل هذا الهدف الكبير، فكان الكلام كلّه متجهاً نحو (أورشليم القدس). أما العرب فقد صالح بعضهم (إسرائيل)، وهي ما زالت تحتل أكثر من بلد عربي، وقد طبّع البعض الآخر علاقاتهم الاقتصادية معها وما زال هذا الكيان الصهيوني يقتل في كلّ يوم اكثر من عربي، ويدمّر أكثر من بلد عربي أو قرية عربية، ويحتلّ أكثر من قرية عربية، لماذا؟ لأن كلّ دولة أصبحت أمّة مستقلّة، فليس هناك شيء اسمه العالم العربي. فمنذ (مؤتمر مدريد) رفضت (إسرائيل) مفاوضة العرب مجتمعين، ورفضت أن تدخل الجامعة العربية بصفة مراقب، لأنهم لا يريدون شخصية معنوية لشيء اسمه العالم العربي، بل مزقاً جغرافية لها شخصية قطرية يسهل تطويعها.
لذلك فـالحسين(ع) يريد أن يوحي إلينا بالتفكير بالأمّة، وهــي أمّة الرســول(ص) أينما كان امتدادها، وشخصية الأمة تمثلها كلمة النبي(ص) ((من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم. ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)).
((أمّة جدّي)).. هل حقاً نعيش هذه الروح؟!
((فمن قبلني بقبول الحق)) لأنني أدعو إلى الحق ((فاللّه أولى بالحق)). فعلى الملتحق بي أن لا يتحرّك على أساس أن يحمّلني جميلا بذلك، فمادام ارتبط بالحق فعليه أن يعرف أنّ ارتباطه باللّه سبحانه وتعالى]ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ[(9).
((ومن ردّ عليّ أصبر)). كما صبر النبي(ص) ]فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ[(10). ((حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين)).
درس عاشوراء:
كان الإمام الحسين(ع) ثائراً في أسلوب داعية، وكان داعية في خط التغيير. ولكن متى بدأ الحسين(ع) العنف؟ عندما قيل له: ((انزل على حكم يزيد وابن زياد)) عند ذلك قال كلمته الصارمة الحاسمة: ((لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا اقرّ إقرار العبيد))(11). فعندما فرضوا عليه العنف فإنه لم يجد بدّاً من أن يواجه العنف بالعنف. فعلينا أن نفهم الحسين(ع) بكلّه، بصفته إماما، وللإمامة امتداد يتسع لكلّ ما تتسع له النبوّة ما عدا النبوّة ((يا عليّ أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ انه لا نبي بعدي)).
لننطلق مع الإمام الحسين(ع) في شخصية الإمامة، فثورته حركة في خط إمامته، ودعوته، وأخلاقه، ووسائله، وغاياته، وعلمه، وشجاعته، وصبره.. كلّ ذلك كان في خط إمامته. لذلك لا تغرقوا الحسين(ع) في بحار الدموع التي تبكي المأساة. ابكوه من خلال عمق معنى الإنسانية في المأساة. احتجّوا على الذين صنعوا المأساة في كربلاء، ليتحوّل احتجاجكم إلى احتجاج ضد الذين يصنعون مأساة المستضعفين في العالم، لا أن نبكي ونلطم على الحسين(ع) في كربلاء ونلعن الذين صنعوا المأساة، ثم نخضع لألف يزيد ويزيد ولكلّ الذين يسرقون الأمة ويصادرونها.
أيّها الأحبة: كانت كربلاء المنطلق ولم تكن النهاية، ونريد لها أن تتحرك في حياتنا من خلال حركتها في وعينا، أمّا أن ننظر إلى كربلاء في التأريخ في سنة 61 ه فذلك لا يكلّفنا شيئاً سوى مقدار من الدموع والشكليات، وفي كلّ يوم ننتج ألعوبة جديدة تستهلك الزخم الجماهيري في الأساليب التي لا توظّف طاقة الأمة في خدمة أهدافها بل تصرفها عنها وتوحي لها أن هذه هي مسؤوليتها!
أيّها الأحبة: حدّثوا الناس بكربلاء الحق، ولا تضيفوا إلى الحقّ شيئاً من الباطل، وحدّثوا الناس بكربلاء القضية ولا تقتصروا على كربلاء المأساة. ولقد أدّى الإمام الحسين(ع) والصفوة من أهل بيته وأصحابه واجبهم ومسؤوليتهم في خط الرسالة، ولنا أكثر من قضية في حجم العالم الإسلامي، ولنا أكثر من مأساة وأكثر من يزيد يقتل النفس المحترمة، ونحن ما زلنا نتناقش في الهوامش وفي جنس الملائكة، ولو أردنا أن ندرس كلّ ما نتناقش فيه لرأينا أنه مجرد هواء في شبك، وليس شيئاً يتصل بعقيدتنا ولا بشريعتنا ولا بحياتنا، ولكن ماذا نصنع بالذين يفرضون التخلّف على الأمة باسم الدين وبأسماء أخرى.
ستبقى طويلا هذه الأزماتُ إذا لم تقصّر عمرها الصدماتُ
إذا لم ينلها مصلحون بواسل جريئون فيما يدّعون كفاة
أيّها الأحبّة: أخرجوا من المأساة كهدف إلى القضية، واخرجوا من الماضي إلى المستقبل، فقيمة الماضي حددها القرآن ]لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ[(12). فلنأخذ العبرة ولنتحمّل مسؤوليتنا في المستقبل. هل نخطو الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل؟! أو نظلّ كما قال ذلك الشاعر:
ونبقى نلف ونبقى ندور ونحن نـفتش عن قافيه
ألا قتل الضعفُ فينا فقد أضاع الرعية والراعيه
والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الحادية والعشرون: 17 محرم 1421 ه المصادف 22/4/ 2000م
الوجه الآخر
للإمام الحسين(ع)
من أراد أن يكون مع الحسين(ع) فيكن مع الحقّ
الإمام الحسين(ع): الوجه الآخر
مع كلمات الحسين(ع)
معرفة الصدق والكذب
ارتكاب المعاصي
البلاء كاشف لحقيقة الدين
لمن المعروف؟
حدود المسؤولية
الجلوس إلى الأئمة(ع)
أسباب كثرة الحلف
موعظة في ترك المعصية
طريق الحسين(ع) هو الحقّ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الإمام الحسين(ع): الوجه الآخر
ونبقى مع الإمام الحسين(ع) لنعرف كيف كان يتحدّث إلى الناس في الفكر الذي يقدّمه إلى عقولهم لتتوازن، وإلى قلوبهم لترقّ وتلين، وإلى حياتهم لتستقيم. وتلك كانت المهمّة الأولى والأخيرة للإمام(ع) في موقع إمامته التي تفتح للناس أبواب الإسلام من أوسع أبواب الحياة. وهذا هو ما ينطلق به الدعاة المصلحون في أن يجعلوا الحياة في إنسانها وفي مواقعها كلّها إسلاماً يتحرّك. فكلّ حركة الإسلام في موقع النبوّة أو الإمامة أو الإصلاح هي حركة للدعوة إلى اللّه سبحانه وتعالى.
فالجهاد أسلوب من أساليب الدعوة إلى اللّه تعالى، لأنّه يعمل من أجل أن يزيل الحواجز التي ينصبها الآخرون في طريق الدعاة إلى اللّه عزّ وجل. والدعوة أسلوب من أساليب إقناع الناس بالحقّ. والسياسة وأساليب العمل الاجتماعي وكلّ مجالات العمل الثقافي الإسلامي، بما فيها العمل الفنيّ، هي من أساليب الدعوة إلى اللّه.
ولذلك فإننا لا نحاول أن ندخل في التجزئة فنعتبر عملاً ما إسلامياً وآخر عملاً غير إسلامي، لأنّ الإسلام لا يحبس نفسه في دائرة ضيّقة. ولذلك فإن الحديث عن إسلام لا سياسة فيه، وعن إسلام لا يلتقي مع العلم، وعن إسلام لا يلتقي بالحياة، هو حديث غير ذي موضوع، لأنّ اللّه عزّ وجل قال وهو يقدّم لنا دعوة الرسول(ص) ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[(1). فكلّ حركة للحياة، سواء كانت حركة حياة الفكر، أو حياة القلب، أو حياة الثقافة في جميع مواقعها، أو حياة المجتمع في مختلف حقولها، تمثّل دعوة اللّه تعالى والرسول(ص).
فتعالوا، وقد تعوّدتم على الحسين(ع) في الوجه الكربلائي، لنتصوّره في الوجه الآخر.
مع كلمات الحسين(ع):
كان الإمام الحسين(ع) يفسح في مجلسه، أو في المجلس الذي يحضره، بتنوّع الحديث، بحيث كان كلّ واحد من الجالسين يُدلي برأيه ليحدّد مفهومه لعنوان من العناوين ليشاركهم الإمام(ع) في موضوع الحديث. وأهل البيت(ع) وهم القمّة في الفكر، كانوا لا يصادرون آراء الناس من حولهم، بل كانوا يريدون لهم أن يعبّروا عن أفكارهم بين أيديهم ليصحّحوا لهم ما أخطأوا فيه، وليثبّتوا لهم ما أصابوا فيه، فأهل البيت(ع) يؤمنون بأنّ على الإنسان أن يفكّر، وأنّ على القيادة أن تشجّع أتباعها على أن يفكّروا لتفكّر معهم أولاً، ولتعطيهم الفكرة فيما يجهلونه ثانياً.
ففي الحديث ((تذاكروا العقل)) أي الناس في مجلس لمعاوية، وكان الإمام الحسين(ع) حاضراً فيه، فقال(ع): ((لا يكمل العقل إلاّ باتباع الحقّ)).إنه يريد أن يقول فيما نفهمه من قوله، ربما يتحرّك العقل في كثير من الفرضيات، وربما يطلق الكثير من الاحتمالات، وربّما يطبق عليه التعصّب في بعض نقاط ضعفه، وإنّ قيمة العقل هي أنّه يفتح عناصره كلّها لأيّ فكر قادم، فإذا رأى الحقّ أمامه اتبعه. وبذلك يبلغ العقل كماله عندما يخضع للحجّة التي تثبت الحقّ.
قال ذلك في مجلس معاوية، وكأنّه أراد أن يقول للناس إنّ الناس قد يتحدّثون عن شخص ما يملك لعبة إدارة الأفكار وتزوير الحقائق، ويملك اللعب على المشاعر، وقد يعتبرون هذا الشخص في موقع العاقل وهو يتعصّب للباطل، أو يحاول أن يصوّر الباطل بصورة الحقّ.
إن الإمام الحسين(ع) يقول إنّ هذا ليس عقلاً، لأنّ العقل يمثّل عمق الفطرة الإنسانية التي تمتلئ بالضوء الذي يطلّ على الحقيقة من أقرب طريق، ولذلك لا تعتبروا كلّ من يملك اللعبة السياسية أو الاجتماعية عاقلاً، بل انظروا إلى نتائج لعبته، وإلى نتائج حركته الثقافية، فإذا رأيتموه ينتج الباطل فاعرفوا أنّها شيطنة وليست عقلاً. لأنّ العقل هو الذي يتجرّد من الهوامش كلّها، والأهواء كلّها، والعصبيات كلّها ليلتقي بالحقيقة من أقرب طريق. ولذلك فكلّ فكر ينطلق من خلال العصبيات والأهواء فهو ليس عقلاً، فقد يكون جهلاً مركّباً، وقد يكون شيطنة.
معرفة الصدق والكذب:
وهناك كلمة أخرى للإمام الحسين(ع) يعطي فيها للكذب صفة وللصدق صفة تتصل بالحالة النفسية للكاذب والصادق من جهة، وللحالة النفسية لمن يستمع إلى الصدق وإلى الكذب من جهة أخرى، وهي: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). فعندما تسمع الكلام أدخل في عمقه وابحث عن عناصره كلّها، وادرس نتائج ذلك كلّه في داخل نفسك، فهل تشعر بوجود حالة من الحذر. لأنّ هناك بعض العناصر التي لم تشعر بالراحة إليها؟ أو أنّك تنفتح على حالة من السكينة؟ فإذا رأيت نفسك من خلال الدراسة الكاملة لجميع الجوانب أنّك ترتاح وتطمئنّ وتعيش السكينة فذلك هو الصدق، وإذا رأيت نفسك ترتاب وتحذر وتخاف فذلك هو الكذب.
ثم أنّ الكاذب نفسه عندما يكذب فإنّه يعيش ريبته في نفسه، لأنه يعرف أنه لم يقل الحقيقة، أمّا الصادق فإنّه يطلق الكلمة من خلال حالة من السكينة العقلية والروحية والشعورية.
يقول(ع): ((دع ما يريبك إلى مالا يريبك فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة))(2). فالصادق مطمئنٌ لأنّه يعرف أنه لا يقول إلاّ حقّاً، ولذلك فإنه يشعر بأنّ ثقته بالكلمة التي يقولها سوف تمتدّ إلى أن تكون ثقة عند من يسمعها لأنّها تستجمع عناصر الثقة كلّها.
ارتكاب المعاصي:
وهناك كلمة له(ع) قال فيها متحدثاً عن هؤلاء الذين يريدون أن يصلوا إلى أهدافهم بمعصية اللّه تعالى، بحيث يجعل أحدهم المعصية وسيلة للوصول إلى هدفه، فهو يكذب كيما يصل إلى غايته، ويظلم ليحقّق أطماعه، ويغشّ ويخدع وينافق وما إلى ذلك من ألوان المعصية وهو يخيّل إليه أنّه قد حقّق ما يريد، وأنّه تخفّف ممّا يحذر، قال: ((من حاول أمراً بمعصية اللّه كان أفوت لما يرجو وأسرع لما يحذر))(3). فأنت قد تحصل في السطح وفي العاجل على بعض ما تريد من خلال معصية اللّه، ولكنّ اللّه جعل في عمق المعاصي الوجودي مفسدة أيّ مفسدة لك وللناس من حولك، وجعل في المعاصي نتيجة مهلكة في مواقع سخطه التي تؤدّي بك إلى النار، وإذن فإنك تنجح في المعصية. لأنّ النتائج السلبية في داخلها سواء في الدنيا أوفي الآخرة تجعلك أفوت لما ترجو وأسرع لما تحذر. والقصة هي كما يقول المثل: إن الذي يضحك هو الذي يضحك أخيراً، فليست هي في أن تطلق قهقهاتك في البداية، فربّما تتحوّل هذه القهقهات إلى صرخات لمصيرك في الدنيا والآخرة تنسى فيها كلّ تلك الضحكات، والأمور بخواتيمها لا ببداياتها. ومشكلتنا – أيّها الأحبّة – أننا قوم يعجبنا الطعم الحلو ولا نلتفت إلى السمّ في داخل كلّ تلك الحلاوة، ألا تسمعون بالسمّ في الدسم؟ ((وربّ أكلة منعت أكلات)).
البلاء كاشف لحقيقة الدين:
ويقول(ع) وهو يدرس واقع الناس في مدى التأريخ، ولاسيما في عصره، أولئك الذي تراهم وهم يعيشون مظاهر الزهد والتقوى .. يتحرّك الدين في حياتهم بعيداً عن التجربة، فالكثير من الناس صادقون عندما لا يكون هناك مجال للكذب في حياتهم، وعادلون لأنّهم لا يستطيعون أن يظلموا أحداً ، وأمناء لأنّهم لا يجدون مجالاً للخيانة. ولذلك يحدّثنا الإمام الحسين(ع) عن دين الإنسان الذي يرتبط بالسطح وينفتح على الغرائز ويتحرّك في خطّ المطامع: ((الناس عبيد الدنيا)). يعبدونها بالخضوع لكلّ قيمها ولكلّ صغائرها وغرائزها، وهي القاعدة عندهم فيمن يحبّون ويكرهون، وفيمن يؤيّدون ويرفضون ((والدين لعقة على ألسنتهم)). تماما كطعم الحلاوة التي تكون على اللسان ((يحوطونه)) فيصلّون ويصومون ويهتفون بما يهتفون ((فإذا محّصوا في البلاء)). وقال لهم الدين إنّ هناك تضحية بالشهوات، وأنّ هناك عصبيات لابدّ لكم أن تتنازلوا عنها، وأنّ هناك عدلاً لابدّ أن تأخذوا به وظلماً لابدّ أن تتركوه، وأنّ هناك جاهاً لابدّ لكم أن تتنازلوا عنه، ((فإذا محصّوا في البلاء قلّ الديانون)) لأنّ القيم الدينية لم تتعمق في داخلهم عقلاً وقلباً وروحاً وحركة بل كانت مجرد مشاعر تتنفس في حالات الاسترخاء لتتبخّر في حالات الشدّة.
إنّها تجربة تتمثّل في أكثر مسارات التأريخ التي عاشت مأساة الأنبياء والأولياء والمصلحين، لأنّ أغلب الناس يخطر الدين في عقولهم إرثا أو تقليداً أو بيئة أو ما إلى ذلك، تماماً كما كانوا مع الحسين(ع) قلوبهم معه وسيوفهم عليه. ولذلك فإنّ علينا في مواقعنا كلّها السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية أن ننظر إلى الناس من خلال حركة التجزئة في حياتهم، فالكلمة وحدها لا تعطيك عنصر الشخصية الأصيل، وقد قال المتنبّي:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبيّن من بكى مـمن تباكى
هذه هي المسألة. وقد قال الشاعر (أحمد الصافي النجفي) وهو يعلّق على القول المعروف للإمام علي(ع): ((أنظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى من قال)). قال:
كثر الخداع اليوم في أقوالنا فانظر إلى من قال لا ما قيلا
انظر إلى قائل الكلمة لترى هل تعيش الكلمة في عمق تجربته وامتدادها؟ أم أنّها مجرد لعقة على لسانه؟ فتلك هي المشكلة في المساحة بين القول وبين الفعل، وبين التجربة وبين الشعار.
لمن المعروف؟
ويقول الإمام الحسين(ع) وقد دار الحديث في مجلسه حول سؤال: لمن المعروف؟! فهل عندما تريد العطاء تدرس استحقاق من تريد أن تعطيه لتميّز المستحقّ من غير المستحقّ؟ أو أنّ عليك أن تنطلق من إيمانك بالمعروف ومن روحيّة العطاء في نفسك؟ ففي العطاء – أيّها الأحبّة – معنيان: المعنى الأول: يتصل بالمعطي باعتبار أنّ العطاء عنصر إنسانيّ يوحي بأنّ هذا الإنسان لا يعيش في داخل ذاته، بل يعيش في وعيه الإسلاميّ لطاقاته أنّها ليست ملكه بل هي ملك الناس والآخرين، مما يحتاجونه منها ((خير الناس من نفع الناس)).
والنقطة الثانية في العطاء هي حاجة من تعطي، أي استحقاقه. لذلك يقال إن رجلاً قال عند الإمام الحسين(ع) ((إنّ المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع)). أي إذا أعطيت من لا يستحقّ من معروفك فإنّه يضيع لأنّه لا يجد أرضه التي يستقرّ عليها، ولا يجد نتائجه الإيجابية التي يفترض أن يحقّقها. فهذا الرجل ينظر إلى المسألة من خلال طبيعة المعطى، فقال الإمام الحسين(ع) وهو ينظر إلى المسألة من خلال إنسانية المعطي. قال: ((ليس كذلك ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر تصيب البرّ والفاجر))(5). فكن كالمطر الذي عندما يهطل فانه لا يدرس الأرض التي يقع عليها، هل هي أرض جدباء أو هي أرض خصيبة؟! إنّه يختزن فيما أودع اللّه فيه من معنى أن يعطي، لأنّ العطاء سرّ وجوده. فليكن العطاء سرّ وجودك بحيث تعطي لأنّك تؤمن بالعطاء. وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) والولد سرّ أبيه ((وسدّدني لئن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر))(6). وكان في وصيّته لأحد أبنائه ((يا بنيّ إفعل المعروف مع أهله ومع غير أهله فإن لم يكن من أهله فأنت من أهله)). وتلك هي صفة اللّه تعالى الذي يريدنا أن نتخلّق بأخلاقه حسبما ورد في الحديث الشريف ((تخلّقوا بأخلاق اللّه)). فنحن نقرأ في الدعاء ((فإن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك)). لأنّ ذنوبنا تشدّنا إلى الأسفل ((فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء)). وفي الدعاء أيضاً ((يا من يعطي من يسأله تحنّنا منه ورحمة، ويبتدئ بالخير من لم يسأله تفضلاً منه وكرما)). فالله تعالى يعطي المؤمن والكافر.
من هنا فإنّ المسألة الأخلاقية في الإسلام هي مسألتك أنت، إذ كيف تعيش شخصيّتك الأخلاقية بقطع النظر عن ردّ الفعل الآخر؟ لأنّك بمجرد أن تفكّر بردّ الفعل تكون قد أدخلت أخلاقك السوق التجارية، أي أنّك تعطي بقدر ما تأخذ، فلابدّ أن نربّي أنفسنا على أن نكون كالشمس - كما يقول السيد المسيح(ع) - تطلع على البرّ والفاجر، وكالينبوع يتدفق لأنّه لا يعرف إلاّ أن يعطي الماء لمن يريد أن يشرب دون النظر في هوية الشارب. وتلك هي روحية الإمام الحسين(ع) الذي انطلق ليعطي الناس محبّته كلّها حتى لو كان الناس يقدّمون البغضاء كلّها. لأن الإمام الحسين(ع) لا يملك إلاّ أن يحب، ولذلك يقول بعض رواة السيرة أنّه كان يبكي على الذين يقاتلونه لأنّهم سوف يتعرّضون إلى عذاب اللّه بسببه. فأيّ قلب أرحب وأوسع وأرقّ من هذا القلب؟! ولذلك لا نملك إلاّ أن نحبّ الحسين(ع).
ويقول(ع) في الاتجاه نفسه: ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أيّها الناس من كان له على اللّه أجر فليقم فلا يقوم إلاّ أهل المعروف))(7). أي الذين صنعوا المعروف في الناس من أهل الكرم والعطاء ممن لا يفكّرون في المقابل، لأنّهم تجاوزوا ذواتهم وانطلقوا إلى ما يرجونه من اللّه سبحانه وتعالى. ولعلّ من أفضل أعمال الإنسان أن يربّي نفسه على أن يتجاوز ذاته في سبيل الناس كافّة وفي سبيل الحياة كلّها، لأنّ ذلك كلّه هو سبيل اللّه.
حدود المسؤولية:
ثم يحدّثنا الإمام الحسين(ع) عن المسؤولية. كيف يحدّد اللّه تعالى للإنسان مسؤوليته فيما يريد للناس أن يطيعوه فيه، فيقول: ((ما أخذ اللّه طاقة أحد إلاّ وضع عنه طاعته)). فالطاعة تتحرّك جنباً إلى جنب مع القدرة، فلكلّ طاعة طاقة تتحرك في داخلها، فإذا سلب اللّه منك هذه الطاقة، فإنه يضع عنك الطاعة في حجم هذه الطاقة. فنحن مثلاً – يجب علينا أن نصلّي من قيام، ولكن إذا حدث للإنسان أي مانع يمنعه من القيام فإن الله يضع عنه طاعته في الصلاة قائماً فيصلّي قاعداً. وإذا لم يستطع الإنسان الصيام في شهر رمضان]فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[(8). وإذا لم يستطع فإنّ الله تعالى يبدله بالفدية وما إلى ذلك.
((ولا أخذ قدرته إلاّ وضع عنه كلفته)). فالله تعالى يقول ]لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا[(9).
الجلوس إلى الأئمة(ع):
ثم يتحدّث عن الذين يجلسون إليه، فماذا يستفيد الناس من الجلوس في مجالس أهل البيت(ع)؟ وماذا يقدّم أهل البيت(ع) للناس الذين يأتون إليهم؟ فيقول: ((من أتانا لم يعدم خصلة من أربع: آية محكمة)). لأننّا نحدّث الناس بالقرآن كما أنزله اللّه تعالى مبنى ومعنى، لأنّنا نعرف من القرآن ما لا يعرفه الناس. ((وقضية عادلة)). لأنّنا نتحدّث للناس بالعدل في القضايا التي يعيشها الناس، فمن أتانا عرف العدل من خلال مفهوم العدل، بل من خلال حركة العدل في قضايا الناس. ((وأخاً مستفادا)) لأنّه يعرف قاعدة الأخوّة من جهة، ويعرف كيف يستفيد من هذه الأخوّة، فالذي يعيش في مجالس الأئمة(ع) هم الذين ينطلقون في علاقاتهم بالناس من موقع الاخوّة.
((ومجالسة العلماء)). وأهل البيت(ع) هم القمّة فيما تتمثّل به هذه الكلمة.
أسباب كثرة الحلف:
ويعالج الإمام الحسين(ع) كثرة الحلف، فهناك كثير من الناس يحلفون باللّه تعالى بمناسبة وبغير مناسبة، فكيف يفسّر الإمام الحسين(ع) فيما روي عنه، كثرة الحلف؟ إنه يقول: ((إحذروا كثرة الحلف، فإنه يحلف الرجل لخلال أربع: أما لمهانة يجدها في نفسه تحثّه على الضراعة إلى تصديق الناس إيّاه)). أي رجل يحلف ليربح تصديق الناس وثقتهم، وهو لا يشعر بالثقة في أن الناس يصدّقون كلامه عندما يطلقه على طبيعته، لذلك يلجأ إلى الحلف وكأنّه يتوسّل إلى الناس بالحلف فيقول: أرجوكم صدّقوني . فهو يعيش الذلّة والريب في نفسه أمام الناس، ولا يشعر بقوّة نفسه أمام المجتمع من حوله.
((وإمّا لعيّ في المنطق فيتخذ الأيمان حشواً وصلة لكلامه)). أي ليس عنده من الفصاحة ما يعبّر به عن مراده بالطريقة التي يمكن أن يفهمها الناس أو يقتنعوا بها، فيحاول أن يدخل الحلف حشواً في كلامه كوسيلة لإيصاله إلى الناس لا من خلال شرحه للمسألة، ولكن من خلال طبيعة الأيمان التي يحشو بها كلامه.
((وأما لتهمة عرفها من الناس له فيرى أنّهم لا يقبلون قوله إلا باليمين)). أو يشعر أنّ الناس يتهمونه، وهذا ما يحصل كثيراً لدى التجّار والباعة، فالبائع عندما يرى الناس يشكّون في بضاعته أو في سعرها، فهو يستعمل الأيمان المغلّظة في مقام دفع التهمة عن نفسه.
((وإما لإرساله لسانه من غير تثبيت))(10). أي أنّه رجل مهذار يطلق كلامه من دون تفكير وتدبّر. وبذلك نفهم خلفية الذين يكثرون الحلف في كلامهم.
موعظة في ترك المعصية:
وقال رجل للحسين(ع): ((عظني يا بن رسول اللّه وأنا رجل عاصٍ ولا أقدر على ترك المعصية، فقال الحسين(ع): إفعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت. فأول ذلك: لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت، والثاني أخرج من ولاية اللّه وأذنب ما شئت، والثالث: أطلب موضعاً لا يراك الله وأذنب ما شئت)). وفي الحديث عن الإمام علي(ع): ((اتقوا معاصي اللّه في الخلوات فإنّ الشاهد هو الحاكم)).
((والرابع: إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت، والخامس: إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل النار وأذنب ما شئت)). فكأنّ الإمام(ع) يريد أن يقول له: عندما تريد أن تجاهد نفسك في ترك المعصية، فعليك أن تدرس المسألة من خلال موقعك من اللّه، ومن خلال مقام ربك، ومن خلال مصيرك. فليست المسألة هي أنّك تدمن عادة وتخاطب نفسك في ذاتيّة العادة، ولكنّ أن تراقب مقام ربّك وموقعك منه ومصيرك بين يديه، وأن لا تفصل حركتك في مجاهدة نفسك عن كلّ هذه الآفاق.
طريق الحسين(ع) هو الحقّ:
أيّها الأحبّة: هذه بعض ملامح الوجه الآخر للحسين(ع). فإذا كنا نترك الحسين(ع) يتحدّث ونحن نلقي بأحاديثه في الفراغ أو في زوايا الإهمال واللامبالاة، ونتمرّد على مواعظه، ونبتعد عن مفاهيمه، فماذا ينفع أن نبكي على الحسين(ع)؟ فأن تبكيه يتطلّب منك أن تبكي على نفسك أولاً، فإذا بكيتها وأصلحتها وانفتحت على ربّك فسوف تلتقي الحسين(ع). وإلاّ كيف تلتقيه وهو يقول: ((ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به)). وأنت لا تعمل بالحق في حديثك وعلاقتك ومواقفك؟! ((وإلى الباطل لا يتناهى عنه)). وأنت تتحرّك في خط الباطل وساحته ومع أهله؟!
أيّها الأخوة: إن الإمام الحسين(ع) هو إمام الحقّ، فمن أراد أن يكون مع الحسين(ع) فليكن مع الحق في العقيدة، ومع الحق في الشريعة، ومع الحق في المنهج، ومع الحق في حركة الحياة. فهذا هو طريق الحسين(ع). والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الثانية والعشرون: 25 محرم 1421 ه المصادف 29/4/ 2000م
في ذكرى وفاة الإمام علي بن الحسين(ع)
المدرسة المتحرّكة في
جميع جوانب المرحلة
مجتمع المؤمنين هو مجتمع إنتاج الفرح والسرو بالطرق المشروعة
الإمام السجّاد(ع) الوجه الآخر
من صفات المؤمن
كمال دين المسلم
الانفتاح على المجتمع
طريق الجنّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الإمام السجّاد(ع) الوجه الآخر:
نقف مع الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في ذكرى وفاته.. وفي الوجـه الآخر له، لأنّ هناك عنواناً شائعاً يذكر بين وقت وآخر في شخصيــة الإمـام(ع) وهو شخصية الداعي الذي يدعو اللّه تعالى في الليل والنهار، ويعبده فيهما حتى ليستغرق الوقت كلّه في العبادة. وصورة الإمام البكّاء الذي يبكي أباه الإمام الحسين(ع) في الليل والنهار، حتى أنه اعتبر من البكّائين الخمسة. وقد تحدّث بعض الناس عن أسلوبه في حركته الرسالية فوصفوه بأسلوب الدعاء، كما لو لم يكن هناك أسلوب غير ذلك.
إنّنا نرفض هذه التجزيئية في دراسة شخصية الأئمة(ع) لأنّ مسألة الإمامة في الخط العقيدي في مدرسة أهل البيت(ع) تمثّل امتداد المسؤولية التي كان يتحمّلها رسول اللّه(ص) بالأفق الشمولي الذي يشمل واقع الإنسان كلّه، بحيث تتحرّك القيادة الشرعية على أساس أن لا تترك فراغاً في الساحة، فتندفع إلى حاجات الساحة كلّها، وإلى ذهنياتها كلّها، حتى تستطيع أن تملأ الساحة بالإسلام في بعده الفكري والروحي والأخلاقي والعملي، ليجد كلُّ فريق من الناس حاجته في وجدانه الإنساني.
ولذلك فإن الإمامة في مسؤولياتها الرسالية تفرض أن يقدّم الإمام – أيّ إمام – الإسلام في شموليته للناس، بحيث يعطي للرسالة في مرحلته جدّتها وحيويتها، حتى يرى الناس في حركة الإمام(ع) حركة الرسول(ص) في الرسالة، لأنّ الإمامة - كما ذكرنا أكثر من مرّة - تمثّل الامتداد العمليّ للنبوّة من دون نبوّة. وإذا أردنا اعتماد هذا الخطّ في دراسة الأئمة من أهل البيت(ع) فإننا نلتقي بالإمام زين العابدين(ع) في حركته في المرحلة التي عاشها، فنجده متنوّع الأبعاد، متعدّد الخطوط، مختلف الأساليب، بحيث أنّك عندما تنفذ إلى أيّ موقع من مواقع الحاجة الإنسانية، بما تحتاجه مرحلته، فإنّك تجد أنّ الإمام(ع) عاش مشاكل الناس كلّها، القيمية منها والواقعية، فأعطاها فكراً هنا وفكراً هناك، وعاش حاجات الناس الأخلاقية والفقهية فقدّم لها الكثير من الإضاءات ومن الأفكار بمختلف الأساليب. ومن المؤسف أنّ الكثيرين ممن أرّخوا للإمام زين العابدين(ع) أغفلوا ذكر الكثير من كلماته.
فقد كانوا يتحدّثون عن بعض جوانب السيرة في أخلاقيات وسلوكيات الإمام(ع) مع الناس الذين كانوا يمارسون بعض الأساليب السلبية ضدّه، وفي عبادته، أو في قضية تحريره للعبيد، بالإضافة إلى ما كان يعيشه من مأساة كربلاء. أمّا الإضاءات المتحرّكة المتنقّلة التي تعطي فكرة هنا وتضيء مسألة هناك، فهي متناثرة في كتب الأحاديث ولكّنها لم تدرس بشكل تحليلي يعطينا الخطوط الفكرية في أكثر من جانب لسيرة الإمام زين العابدين(ع). ولقد تحدثنا – أكثر من مرّة – أن الإمام(ع) كان يمثّل مدرسة إسلامية متحرّكة في كلّ جوانب المرحلة التي عاشها آنذاك. ولا نستطيع أن نتحدّث بما تحدّث به البعض من أن مدرسة أهل البيت(ع) في جانبها الشمولي قد ابتدأت بالإمام الباقر(ع) فإننا نلاحظ أنّ ما روي عن الإمام زين العابدين(ع) كثير جداً.
من صفات المؤمن:
وفي هذا اللقاء نحاول أن نلتقط بعض الكلمات التي تتصل بالملامح الإسلامية لشخصية المؤمن في بعض العناصر التي تجسّد الأمور الحيوية في شخصيّته، كما قد نطلّ على بعض الخطوط الأخلاقية وربّما الفكرية.
ونبدأ بحديثه(ع) عن المؤمن في حالاته التي يعيشها في سلوكه مع الناس. قال فيما روى أبو حمزة الثمالي عنه في (الكافي): ((المؤمن يصمت ليسلم)). فالمؤمن لا يصمت عندما يصمت لأنّ الصمت في ذاته قيمة أخلاقية إيجابية ليكون الكلام قيمة أخلاقية سلبية، ولكن المؤمن عندما يريد أن يتحرّك سلباً أو إيجاباً فإنّه يدرس النتائج السلبية لحركته هنا وحركته هناك. فهو يصمت ليسلم دينه، فلا يتكلّم بما لا يرضي اللّه من الكلمات التي تسخطه سبحانه وتعالى. ويصمت لأنّه يرى أنّ هذه الكلمات التي يتحدّث بها الناس في الساحة لا تمثّل – في انطلاقتها – صلاحاً للإسلام والمسلمين، ويصمت لأنّ الكلمة التي ربّما تخطر في ذهنه ليست كلمة تغني الناس، بل قد تكون من كلمات اللغو. فالمؤمن يفكّر دائماً في سلامته، وذلك بأن لا يوقع نفسه في التهلكة في الدنيا وفي الآخرة. ومن الطبيعي أن لا يفكّر المؤمن بسلامة ذاته حتى عند أداء رسالته، لأنّ للرسالة أفقاً ومسؤولية قد تدفع المسلم أن يقول كلمة الحقّ حتى لو أدّت إلى بعض المشاكل في حياته.
((وينطلق ليغنم)). وعندما ينطق المؤمن فإنّه يدرس كلماته في نتائجها على مستوى سلامته في الدين، وسلامة الناس في كلماته لأنها تقرّبه من اللّه، ولأنها تنفع الناس، ولأنّها تغيّر الواقع المنحرف إلى الصلاح والاستقامة، فهو يفكّر بالنطق إذا كان يعتبر النطق غنيمة في الدين والدنيا له وللناس وللحياة.
((لا يحدّث أمانته الأصدقاء)). فعندما يؤتمن على أمانة في المسؤولية، أو في السرّ أو في القضيّة فإن الأمانة تفرض عليه أن لا يطرحها أمام الناس، لأنّ الإنسان عندما يتحرّك في الخطوط السياسية، أو الاجتماعية أو الأمنية وحتى الثقافية، فإنّه لابدّ أن يعرف أنّ هناك أسراراً للقضية، قد تكون سياسية، وربما اجتماعية، أو أمنية، أو ثقافية عندما تدخل الثقافة في ساحة الاضطهاد هنا وهناك. فعندما يحمل أمانة القضية وأمانة السرّ وأمانة الرسالة وأمانة القيادة فإنه لا يحدّث الأصدقاء بالأمانة، لأنّ الصداقة قد تسمح لك أن تنفتح على صديقك بمشاعرك وأحاسيسك، ولكن ما يجب عليك أن تكتمه لا تبرّر لك الصداقة أن تعلنه. ولذلك فالمؤمن لا يحدّث أمانته الأصدقاء ولا يحابيهم في أمانته.
((ولايكتم شهادته من البعداء)). فعندما يحمل شهادة في إثبات حقّ أو في دفع باطل لأيّ إنسان من الناس، فإنّه لا يدرس شخصية المشهود له في أداء الشهادة التي فرضها اللّه عليه، هل هو قريب ليشهد له؟ أو هو بعيد ليكتم شهادته؟ بل يعتبر الشهادة أمانة، فحتى لو كان المشهود له بعيداً عنه في أي جانب سواء في الدين أو اللغة أو الوطن، فإن الشهادة لا تتصل بالمشهود له، بل هي للّه ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ[(1).
((ولا يعمل شيئاً من الخير رياءً)). فالمؤمن يؤمن بالخير باعتبار أنّ الخير يقرّبه من اللّه، وهو مسؤوليته في حركة إنسانيته في الواقع مع الإنسان الآخر، وهو مسؤوليته في الحياة من أجل أن يرفع مستواها. ولذلك فالمؤمن يفكّر باللّه تعالى عندما يعمل الخير، ويفكّر بالنتائج الإيجابية التي يتحمّل مسؤولية تأكيدها في الواقع. أمّا ماذا يقول الناس عنه؟ وكيف يرونه؟ فإن هذا ليس مما يفكّر فيه. فعندما يعمل الخير فإنّه يعمله من موقع الإخلاص للّه والإيمان بمسؤوليته في الواقع.ولذلك فإنّ كلّ اهتمامه هو كيف يراه اللّه في مواقع رضاه في حالة العمل، فهو كلّ شيء في وجوده. أمّا الناس فلا يملكون له ولا لأنفسهم ضرّا ولا نفعا، ولا يستطيعون وضع إنسان أو رفعه، بل اللّه هو الذي يملك الرفعة والضعة، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه، مقلّب القلوب، ولذا فانه لا يرائي الناس في شيء.
((ولا يتركه حياءً)). فهو لا يستحي من عمل الخير، حتى لو أنكر الناس خيرية هذا الخير، وحتى لو كان ممّا يُخجل منه، لأنّ الناس انطلقوا في تقاليد وعادات وأوضاع معينة تجعل الإنسان يخجل من عمل الخير لهذا السبب أو لذاك. فالمؤمن يشعر أنّ الخير مادام رضا للّه تعالى،ومصلحة للناس، وقيمة للحياة، فإنّه لا يخجل منه لأنّه لا يخجل من القضايا التي يحبّها اللّه والتي تنفع الناس.
((إن زُكّي خاف مما يقولون ويستغفر اللّه لما لا يعلمون)). فإذا مدحه الناس، وحاولوا أن يرفعوه في كلماتهم إلى الدرجات العليا في حديثهم عن تقواه وعلمه ومناقبه وفضائله، فإنّه ينزل إلى داخل نفسه ليخشى عليها من هذه التزكية، لأنّه يخشى أن تضخّم له شخصيّته، وأن يكون فيها بعض ما لم يكتشفه الناس، فقد تؤثّر في نفسه. فإذا زكّاه الناس ومدحوه خاف من ذلك واستغفر اللّه، ورجع إلى نفسه ليكتشف بعض العيوب والنقائص، ليوازن بين هذا المدح وبين الواقع الذي هو عليه. وهذا ما عبّر عنه الإمام أمير المؤمنين(ع) عندما كان يسمع مدحاً بقوله ((اللّهم اجعلني خيراً مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون)).
وأما الإمام زين العابدين(ع) فيقول في (دعاء مكارم الأخلاق) الذي يقول عنه ابن أبى الحديد انه للإمام علي(ع) وهو أيضاً من أدعية الصحيفة التي كان يدعو بها الإمام علي بن الحسين(ع). ((اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني في نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها)).
ويمضي الإمام(ع) في وصف المؤمن، فيقول: ((لا يغرّه قول من جهله)). فلو كان هناك من يجهل قدره وموقعه، فإن ذلك لن يضعف واقعه.
((ويخاف إحصاء ما عمله))(2). لأنّه يخاف من السيئات والذنوب التي تتجمّع لديه، وسوف يتحوّل هذا الخوف إلى حالة إيجابية، لأنّها تنتج الاستغفار والتوبة وتصحيح الواقع.
كمال دين المسلم:
وفي كلمة له ((إنّ المعرفة بكمال دين المسلم)). فكيف تكتشف أن مسلماً يملك كمال الدين وتوازن الخطّ الدينيّ؟ ((تركه فيما لا يعنيه)). فهو يعتبر الكلام مسؤولية، وأنّ اللّه أعطاه نعمة اللسان من أجل أن يحرّكه في حاجاته وقضاياه وما يتصل بحياته، سواء كان ذلك مرتبطا بحياته الشخصية في مسؤولياته عن نفسه، أو بحياته العامّة في مسؤولياته عن مجتمعه. أمّا الكلام الذي لا يتصل بمسؤوليته الخاصّة ولا العامّة، فإنّه ليشعر أن إطلاق الكلام في هذا المجال لن يؤدّي به إلى خير، ولن يحقّق له أية نتيجة ترضي اللّه، بل قد يوقعه في مشاكل في دينه ودنياه، ولذلك فإن المؤمن يقف من أجل أن ينظّم كلماته لتكون الكلمات التي تتصل بمسؤوليته، أمّا ما لا يتصل بهذا الجانب فهو لغو، والمؤمن يوفّر على نفسه وعلى غيره مثل هذا اللغو الذي يعدّ من فضول الكلام الذي لا فائدة منه.
((وقلّة مرائه)). والمراء هو الجدل في مقام الخصومة، فليس من شأنه أن يخاصم الناس في الأمور الصغيرة أو التافهة، أو التي تبعث على النزاع والضغينة، بل يجادل بالحقّ وبالتي هي أحسن، وليثبّت حقّاً ويدفع باطلاً. وإذن فليس من خلق المؤمن المراء، لأن للجدال نتائج سليبة على مستوى حياته وحياة الناس، وربّما يقود الإنسان إلى كثير مما يغضب ربّه ويدمّر حياته. ولذلك تراه قليل المراء لأنّه لا يماري ولا يجادل إلاّ عندما تكون هناك ضرورات للإسلام وللحياة ولنفسه، فهو منفتح على الناس ولا يدخل في جدال الاّ إذا كان هناك ما يفرض ذلك كمسؤولية.
((وحلمه)). فمن كمال دين الإنسان المؤمن أن يكون واسع الصدر بحيث لا يثور عندما يُثار، ولا يتعقّد عندما تطلق الكلمة السلبية في مواجهته، ولا يجابه الإساءة بالإساءة، بل يحاول أن يعطي للموقف حلمه حتى يستطيع أن يتفادى المشكلة من خلال سعة الصدر التي تواجه الإنسان المسيء بما يجعله يشعر بسقوطه النفسيّ من خلال إساءته، وقد حدّثنا اللّه سبحانه وتعالى هذه الصفة بقوله ]خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ[(3). وقال عزّ وجل ]وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[(4). وتحدّثنا سيرة الإمام زين العابدين(ع) أنّه كان مارّاً ذات يوم فسبّه شخص، فمضى الإمام في طريقه وكأنّ هذا الشخص تصوّر أن الإمام(ع) لم يلتفت إلى سبّه، فقال له ((إيّاك أعني)). فأجابه الإمام(ع) بكلّ هدوء ((وعنك أعرض)).
إن الحلم يمثل الأفق الرحب الذي يعيشه الإنسان أمام سلبيات الآخرين ليجعلهم يقفون وجهاً لوجه أمام سلبياتهم ليتراجعوا من خلال ذلك. والإمام(ع) يركّز هذه المسألة على أساس واقعي يحتاط فيه لبعض الحالات التي ربّما يستغلّها المجرمون أو المسيئون ليمتدّوا في إجرامهم أو إساءتهم عندما يسكت الآخرون عنهم. فيقول الإمام(ع) فيما روي عنه في (رسالة الحقوق) ((وأمّا حقّ من ساءك فأن تعفو عنه فإن رأيت أن العفو عنه يضرّه انتصرت)). فعندما ترى أن العفو عن المسيء، وأن موقف الحلم يجعله ممن تأخذه العزّة بالإثم، ويتصوّر أنّ الذين يعفون ضعفاء أمامه، وأنّه يملك القوّة التي تتيح له الامتداد في الإساءة إلى الآخرين مما يعود عليه سلباً في نهاية المطاف، فإنّ عليك أن تأخذ بحقّك في ذلك.
((وصبره)). فمن علامات المؤمن أن يكون صابراً، لأن اللّه تعالى حدّثنا عن أنّ الصبر هو القيمة التي لا قيمة مثلها وذلك في قوله عزّ وجل ]وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[(5). وقوله ]وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[(6). وقوله ]إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[(7). وغير ذلك.
وقد تحدّث الإمام(ع) بما تحدّث به جدّه أمير المؤمنين(ع) فقال ((إنّ الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس معه لا خير في إيمان لا صبر معه)) وقد تحدّث ولده الإمام الباقر(ع) في جوابه عن بعض الأسئلة الفقهية التي وجّهت إليه. فابتدأها بقوله ((كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك اللّه)). فالإنسان لا يستطيع أن يحقّق الإيجابيات في حركته من أجل الخير والبرّ والحقّ والعدل دون تحمّل النتائج السلبية التي تترتب عليه في ذلك.
((وحسن خلقه))(8). فمن كمال دين المؤمن أن يكون حَسِن الخُلق، ونحن نعرف قيمة ذلك من خلال أنّ النبي(ص) يمثّل الكمال كلّه في مواقع الكمال كلّها في عناصر شخصيّته كلّها، ولكن اللّه لم يحدّثنا في إطار الحديث عن شخصيته(ص) إلا عن أخلاقه ]وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[(9).]فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[(10).]لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[(11). فهو يتحدّث في ذلك كلّه عن أخلاقه(ص) ليعرّفنا أن السموّ الأخلاقي في الشخصية الإنسانية الإيمانية هو الذي يمكن أن يفتح للإنسان العقول كلّها والقلوب كلّها، لأنّ الإنسان الذي يعيش إنسانيته تراه يتفاعل مع كلّ من يحترم إنسانيته. ولعلّ مشكلة الكثيرين منّا، هي أنّهم عندما يعيشون ذاتيتهم المغلقة، وأنانيتهم المفرطة، فإنّهم لا يحترمون الناس، لأنّهم يشعرون بالفوقية عندما يملكون موقعاً مالياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً لأنّنا أصبحنا نعيش بعض الظواهر الطبقية الدينية تماما كما هي الطبقات الأخرى في المجتمع.
فمسألة حسن الخلق قد ترتفع بالإنسان الذي لا يملك عملاً كبيراً إلى درجة الصائم القائم، ولذلك فمن كمال دين المسلم هو حسن خلقه. ومن خلال هذه الكلمات نريد أن نعيش مع الإمام(ع) حتّى نغيّر أنفسنا على صورة هذا الخط الأخلاقي، لنؤكّد إيماننا من خلال صورة المؤمن التي يطرحها الإمام(ع).
((وإنصاف الناس)) أن ينصف الناس من نفسه، بحيث لو كان للناس حقّ عليه، فإن عليه أن لا يحوجهم إلى الدخول معه في جدل، أو في أي عمل سلبيّ لإثبات حقّهم، بل أن ينصف الناس من حقّه، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى]يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ[(12). وفي قوله تعالى الذي يؤكد أن نكون منصفين لأعدائنا ]وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[(13). ((وابتداؤه إياهم بالسلام عليهم))(14). أي أن لا ينتظر الناس ليسلّموا عليه من خلال عقدة ذاتية، تجعله يفكّر أن من واجبات الناس أن يسلّموا عليه، وليس من شأنه أن يسلّم على الناس، فالمؤمن الذي يتحسّس معنى السلام للناس في شخصيّته، يتحرّك دائماً بحسب ظروفه ليبدأ الناس بالسلام، ليوحي إليهم بكلّ ما تعنيه كلمة السلام من مشاعر المحبّة والأمن والطمأنينة، وهذا ما حدّثنا القرآن عنه من أنّه شعار الملائكة في الآخرة وشعار أهل الجنّة في قوله تعالى]وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ^ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[(15). وفي قوله تعالى ]وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ[(16). وقد ورد في الحديث عن الأئمة(ع) قولهم ((للسلام سبعون حسنة تسع وستون للمبتدأ وواحدة للرّاد وإن أحسن فعشر)).
الانفتاح على المجتمع:
ويحدّثنا الإمام(ع) عن جانب من جوانب انفتاح المؤمن على مجتمعه بحيث يفتح قلوب الناس على الفرح، وحياتهم على السرور، كعمل يقرّب الإنسان إلى اللّه تعالى. فيقول(ع) فيما يرويه عنه الإمام الصادق(ع) عن الباقر(ع) قال: ((قال رسول اللّه إنّ أحبّ الأعمال إلى اللّه عزّ وجل)). ولم يقل من أحبّ ((إدخال السرور على المؤمنين))(17). وذلك بأن تكون الإنسان الذي ينتج الفرح للناس، فإذا ما رأى حزينا فإنّه يحاول أن يقلب حزنه إلى فرح، وإذا كان مكتئباً فيحاول أن يفرّج عنه ليحوّل كآبته إلى انفتاح فيجعله يعيش السرور بكلّ الأساليب التي يملكها. وبهذا نستطيع أن نخلص إلى نتيجة في السلوك الإيماني للإنسان المؤمن مع إخوانه المؤمنين وهي أنّ مجتمع المؤمنين هو مجتمع إنتاج الفرح والسرور، وذلك بأن تدخل السرور على أهلك في بيتك وعلى جيرانك وعلى الناس من حولك بالطرق المشروعة لا الطرق غير المشروعة. ومن خلال ذلك نفهم أنّ اللّه يريد للإنسان المؤمن في معنى إيمانه، أن يجعل الدنيا جنّة مصغّرة على الأرض، لأننا عندما ندرس الجنّة في مجتمعها فإننا نقرأ قوله تعالى ]وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[(18). إنهم يعيشون معنى الأخوّة المنفتحة على بعضها البعض.
طريق الجنّة:
وعن عمر بن علي بن الحسين عن أبيه(ع)، قال: ((قال رسول اللّه(ص) من ردّ عن قوم من المسلمين عادية ماء أو ناراً وجبت له الجنّة)) فعندما يكون هناك حريق فتتحوّل إلى إطفائي بحيث تمنع النار من أن تمتدّ إلى المسلمين. أو عندما يكون هناك فيضان وتعمل بوسائلك كلّها على تحويل طغيان الماء إلى حالة من السلام لا يتضرّر فيها المسلمون، فهذا عمل يوجب لك الجنّة عند اللّه تعالى.
ومن ذلك كلّه نفهم – أيّها الأحبة – أنّ طريق الجنّة يتحرّك في خدمات الإنسان للإنسان، وانفتاح الإنسان على الإنسان، ودفع الإنسان الضرّر عن الإنسان. فإذا كانت المسألة هي هذه، فكم هو حجم الجريمة فيمن ينتجون الحزن من خلال تصرّفاتهم. ويخلقون المشاكل التي قد تودي إلى التعاسة؟ والذين يحوّلون المجتمع إلى مجتمع يحقد بعضه على بعض وينازع بعضه بعضا؟ أية جريمة هي جريمة هؤلاء الذين ينتجون الحزن والمأساة والعداوة والبغضاء؟!
هل تريدون أن تكونوا مع الرسول(ص)؟ ومع الأئمة من أهل بيته(ع)؟ كونوا دعاة فرح وسرور وحق وعدل وهداية وخدمة للناس. ففي الحديث ((الخلق كلّهم عيال اللّه وأحبّهم إلى اللّه من نفع عياله أو أدخل على قلب سروراً))(19). فهذا هو – أيها الأحبة – خطّ الولاية، فليس هو مجرد دمعة تشعر معها أنّك أدّيت حقّ أهل البيت. وليس هو الاستعراض في الحزن والفرح، ولكن أن تكشف الحقّ الذي عاشوا المأساة من أجل أن يؤكّدوه. وأن تكون مسيرتك في سيرة أهل البيت(ع). فلقد قال الإمام علي(ع) وهو يشير إلى النعل الذي كان يخصفه وهو يخاطب ابن عباس ((ألا ترى إلى هذه النعل إنّها أعظم من إمرتكم هذه إلاّ أن أقيم حقاً أو ادفع باطلاً)) وقال ((لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقّارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم أهون عندي من عفطة عنـز))(20).
هذا هو علي(ع) وهؤلاء هم الأئمة من أهل بيته(ع) فهل نرتفع إلى هذا المستوى؟ أو نحاول أن نهبط وننحدر حتى نعيش التخلّف باسم علي(ع) وأهل بــيـته(ع) ؟ والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الثالثة والعشرون: 2 صفر 1421 ه المصادف 6/5/2000م
أفق الإمام زين
العابدين(ع) الروحانيّ
إذا بدأت عمل الخير فداوم عليه لأن عطاء الخير يجعل إنسانية الإنسان في المستوى الأعلى
مع الإمام زين العابدين(ع) مرّة أخرى
المداومة على عمل الخير
الطمع ذلّ
انتفاح الشخصية
الاجتراء على الكذب
من نصاحب؟!
التحديق في عيوب الناس
حركة الخير في الحياة
البكاء خشية من اللّه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
مع الإمام زين العابدين(ع) مرّة أخرى:
ونبقى مع الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في أحاديثه التي كان يحدّث بها الناس. وقد قلنا أكثر من مرّة إن الأئمة i كانوا في أية مرحلة من المراحل التي عاشوها يعملون على تأكيد القيم الإسلامية في المجتمع. فكانوا لا يكتفون بأن يعطوا الناس أحكامهم الشرعية، بل كانوا ينفذون إلى كلّ الثغرات الأخلاقية والروحية والاجتماعية من أجل أن يملأوها بما جاء عن اللّه ورسوله في سدّ هذه الثغرات حتى يبقى المجتمع في خطّ الاستقامة التي أراد اللّه تعالى للناس أن يسيروا عليه.
ونحاول هنا أن نثير بعض الأفكار التي أثارها الإمام زين العابدين(ع) مع الناس في مجال الفكر. فعن (عمّار الدهني) قال: ((سمعت علي بن الحسين(ع) يقول: إنّ اللّه يحبّ كلّ قلب حزين)). والقلب الحزين هو القلب الذي يعيش الإحساس باللّه، فيعيش الحزن كحزن العاشق أمام معشوقه، حزن الحب والشوق والخوف، لأنّ الإنسان المؤمن هو الذي يعيش الحبّ للّه. وقد تحدّث سبحانه وتعالى عن بعض الناس مقارنين بالمؤمنين وغيرهم فيقول ]وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ[(1). ونحن نعرف أن الحبّ قد يجعل المحبّ حزيناً في فراق محبوبه، ويجعله يعيش الشوق مما يملأ قلبه بالحزن، كما يحزن من خوف المصير أيضاً.
وكذلك الإنسان المؤمن، فهو يحمل القلب الحزين الذي يعيش الحزن لآلام الناس ومشاكلهم ومآسيهم ومعاناتهم. فاللّه تبارك وتعالى يحبّ القلب الحزين، لأن هذا القلب يعيش الشعور بأعمق ما يكون والإحساس بأطهر ما يكون. ((ويحبّ كلّ عبد شكور)). فاللّه تعالى يحبّ الإنسان الذي يتحسّس النعمة، والذي يتحسّس من يقدّم له النعمة، كما يتحسّس الخالق الذي يفيض بالنعمة. ((يقول اللّه تبارك وتعالى لعبده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟)). الذي خدمك وقضى حاجتك وأعطاك ما يعينك وحلّ مشاكلك؟ .. ((فيقول: بل شكرتك يا ربّ)). لأنّ كلّ نعمة من مخلوق مستمدة من نعمك، فأنت الذي أعطيت المنعم ما أنعم به عليّ، ولذلك فإنّ الشكر هو لك يا ربّ وليس للعبد. ((فيقول: لم تشكرني إن لم تشكره)). فإنّ عليك أن تشكر من أنعم عليك حتى لو كانت نعمته التي أنعم بها عليك منّي، لأنّي أريد للناس الواهبين، والذين يعيشون العطاء، والذين يندفعون لقضاء حاجات الناس ويحلّون مشاكلهم، أن يشعروا بقيمة ما يفعلونه من خلال ردّ الفعل بالنسبة لمن أنعموا عليهم، حتى يستمرّوا في النعمة ويتشجّعوا على الإحسان.
ثم قال الإمام(ع) تعليقاً على ذلك: ((أشكركم للّه أشكركم للناس))(2). لأنّ على الإنسان أن يشكر الخير عندما ينطلق من الإنسان، كما يشكر الخير عندما ينطلق من اللّه، لأنّه سبحانه وتعالى يحبّ أن نشجّع الذي يعطي الخير لكي يستمرّ في عطائه.
المداومة على عمل الخير:
وفي كلمة للإمام زين العابدين(ع) وهو يشجّع الذين يعملون أيّ عمل خير، كما لو أنّك تصلي صلاة الليل أو تتصدّق، أو تنصح إنساناً، أو تقضي حاجة المحتاج. فإذا انطلقت بعمل خير من هذا وما شاكله فلا يكن ذلك مجرّد صدفة في حياتك. بل إذا بدأت الخير فداوم عليه، وربِّ نفسك على أن يكون الخير طابع حياتك، حتى تكون حياتك من خلال الخير الذي تعمله متحرّكة دائماً في خطّ هذا الخير.
كان علي بن الحسين(ع) يقول: ((إنيّ لأحب أن أداوم على العمل وإن قلّ))(3). فما دمت قد بدأت بهذا العمل، لأنّك آمنت بأنّه خير، وبأنّ اللّه سبحانه وتعالى يعطيك به خيرا، فداوم عليه لأنّ الذين يعملون الخير إذا داوم كلّ واحد منهم على عمل الخير فإنّ الخير سوف يعمّ ويتركّز في حياة الناس، كما انه سوف يتحوّل إلى طبيعة ذاتية في حياته. وعن أبي جعفر الباقر(ع) قال: ((كان علي بن الحسين(ع) يقول: إنّي لأحبّ أن أقدم على ربّي وعملي مستوٍ))(4). أي مستقيم وعلى نسق واحد لا إفراط فيه ولا تفريط، أي أن يكون في خطّ التوازن، لأن التوازن هو الذي يركّز للإنسان حركته في الحياة ويجعلها متوازنة في علاقتها بالناس وبالأشياء بينما يمثل التفريط والإفراط انحرافاً عن خط الاستقامة.
الطمع ذلّ:
ونقرأ في كلام الإمام(ع) ما يريد أن يحرّر به الإنسان من السقوط تحت تأثير التطلّع إلى الآخرين في حاجاته، ويريد أن يؤكّد له أنّ عليه أن يعتمد على نفسه، ويقنع بما يستطيع أن يحصل عليه من خلال جهده، وعليه أن يحاول تنمية جهده وتقويته ليحصل على ما يريد. فلا تجلس كإنسان لا عمل له وهو يتطلّع إلى ما في أيدي الناس ليطمع بأن يحصل على ما عندهم، وهو القادر على أن يحصل على ما يريد من خلال جهده، لأنّ مشكلة الطمع هي أنّه يسقط إنسانيتك وروحك، لأنّه يجعلك في وثاق الذلّ. قال الإمام علي(ع) : ((الطامع في وثاق الذلّ)).
ويقول الإمام زين العابدين(ع) فيما يرويه الزهري عنه، قال: ((قال علي بن الحسين(ع) رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس))(5). ونريد أن نفهم كيف أنّ الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس؟ فإذا قطعت طمعك عمّا في أيدي الناس وثقت بنفسك وبربّك، واستنفرت طاقاتك، وعشت الإحساس بحريتك من خلال أن ليس هناك من يضغط أو ما يضغط عليك في حاجاتك. فأنت ترفعها إلى اللّه أولاً، ثم تستنفر طاقاتك، وتهيئ لنفسك الظروف التي يمكن لها أن تحقّق لك النتائج الإيجابية المرجوّة. ولعلّ الكثير من الناس يسقطون دينياً لأنّهم يطمعون بما في أيدي الكافرين، فيفرض عليهم الكافرون – تحت تأثير ضغط حاجاتهم إليهم – أن ينحرفوا عن الخطّ. وقد رأينا الكثير من الناس ينحرفون سياسياً لأنّهم يطمعون بما في أيدي المنحرفين السياسيين حتى يحصلوا على ما عندهم فيحقّقوا لهم ما يريدون من مواقف تختلف أو تتناقض مع المواقف الأصيلة، وتبتعد بهم عن الخط المستقيم.
كما نلاحظ أن كثيراً من الناس يخضعون للابتزاز النفسي والأخلاقي والاجتماعي من أجل تلبية مطامعهم. ولهذا: كن الإنسان الذي يثقُ بربّه وبنفسه، ويحرّك طاقاته، ويستنفر جهده كلّه، ويدرس الظروف الملائمة من هنا وهناك. وينطلق من خلال صبره على البلاء، فإذا فعل ذلك فإنّه يحصل على النتائج في نهاية المطاف بعد أن يكون قد احتفظ بحرية قراره وموقفه وبإنسانيته في الحياة.
انتفاح الشخصية:
ويقول(ع) بما رواه عنه أبو حمزة الثمالي: ((عجباً للمتكبّر الفخور))(6). الذي يعيش انتفاخ الشخصية من خلال انتفاخ المال، أو انتفاخها من خلال انتفاخ النسب، أو من خلال انتفاخ الجاه. فكّر وأنت تتكبّر وتنتفخ أنّك كنت نطفة في قرار مهين ثم أنك سوف تتحوّل إلى جيفة منفّرة. لذلك فالتكبّر لن ينقذك من نتانة الجيفة، ولن يكبّر لك النطفة. ولكنك عندما تتواضع وتعيش إنسانيتك في إنسانية الآخرين، وترى نفسك في خطّّ المساواة مع الآخرين. فإذا كان لديك بعض الامتيازات فتذكّر أنه ربّما كانت للآخرين امتيازات ليست عندك. كن واقعياً في إنسانيتك وفي تقدير إنسانية الآخرين، وبذلك تستطيع أن تعيش إنسانيتك فتخرج من معنى النطفة ومن معنى الجيفة، لتكون كبيراً بالقيمة الروحية والأخلاقية والعلمية والإنسانية التي تعيشها.والإمام علي(ع) يقول ((قيمة كلّ امرئ ما يحسنه)). لا ما يملكه أو ما ينتسب إليه.
الاجتراء على الكذب:
وعن أبي جعفر الباقر(ع) قال: ((كان علي بن الحسين(ع) يقول لولده: اتّقوا الكذب الصغير منه والكبير في كلّ جدّ وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير))(7). فبعض الناس قد يرى أنّ هذه الكذبة صغيرة، أو أنّ هذه الكذبة في مزاح كما في (كذبة نيسان) أو أنّها بيضاء، كما لو كان في الكذب ألواناً أبيض وأسود،. ويستهين بالكذب، في حين أن مسألة الكذب هي مسألة مبدأ، لأنّه يعني أنّك ترسم الصورة بعيداً عن الواقع، وأنّك تزيّفها.
فلو أنّك شوّهت الصورة في أمر صغير، فإنّ ذلك يعني أنّك لا تؤمن بالمبدأ، لأنّك إذا اجترأت على الصغير اجترأت عـلى الكـبـيـر. ثـم يقول(ع): ((إنّ رسول اللّه(ص) قال: مازال العبد يصدق حتى يكتبه اللّه صدّيقاً)). فيحشره مع الصدّيقين والشهداء. ((ومازال العبد يكذب حتى يكتبه اللّه كذّاباً))(8). لأنّ الإنسان إذا تمادى بالكذب فإنّ الكذب سوف يكون طابع حياته. وقد ورد عن الإمام الباقر(ع) وهو يعيش وصية أبيه الإمام زين العابدين(ع): ((أيّ شيء أشدّ من الكذّاب، كلّما أفنى أحدوثة مطّها بأخرى)). فالكذب يصبح طابع شخصيته. ولا فرق في الكذب في أيّ حالة من الحالات سواء كان في السياسة أو في الدين أو في الحياة الاجتماعية أو الحياة العائلية أو الكذب على الطفل. فبعض الناس قد يعتبر أن بإمكانه أن يكذب على طفله، ولا يدري أنّه عندما يطلق الكذبة أمام طفله فإنّه يعطيه أول درس في: كيف يكون كذّاباً؟ وبذلك يجرم جريمتين: جريمة كذبه وجريمة تربية طفله تربية سيئة وذلك بتعويده على الكذب. وقد يتصوّر بعض الناس أنّه يجوز له أن يكذب على الكافر، وعلينا أنّ نعرف أن قصة الكذب ترتبط بالكذّاب نفسه لا بالذي يكذب عليه. فليكن من تكذب عليه كاذباً أو كافراً أو فاجراً أو طفلاً أو شابّا أو شيخاً أو زوجة، ولكن تذكّر أنّ الكذب يرتبط بإيمانك، لأنّك بالكذب تسقط معنى الحقّ في نفسك. ولذلك ورد في الحديث: ((لا يكذب الكاذب وهو مؤمن)). لأنّ الإيمان يمثّل الالتزام بالحقّ، والكذب يمثّل الالتزام بالباطل، ولا يمكن أن يجتمع في قلب إنسان الالتزام بالحقّ وبالباطل معاً.
من نصاحب؟!
وينتقل الإمام(ع) لينصح ولده فيمن يصاحبهم. والسؤال هنا: من نصاحب؟ ولكلّ صاحب نصاحبه صفة. فكيف نختار أصحابنا؟ هل نعاشرهم عشوائياً؟ أو ندرس شخصية الصاحب والصديق الذي نصادقه؟ ففي الحديث ((عن أبى عبد اللّه(ع) قال: قال لي علي بن الحسين o : يا بنيّ أنظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم)). أي حديث الصداقة مما يحدّث الصديق صديقه في الأمور التي تمس القضايا الحيوية في حياته ولا سيما في أسراره الخاصة أو في الأمور المتصلة بالمفاهيم العامّة التي يؤمن بها في المجال العقيدي والحياتي ولأن صفاتهم السلبية قد تترك تأثيرها السيئ على شخصيتك وبالتالي على حياتك كلّها وبذلك يترك تأثيره السلبي عليك في علاقته بك. ((ولا ترافقهم في طريق)). أي ما أمكنك ذلك، وهذا كناية عن الابتعاد عنهم وأن لا تخلط حياتك بحياتهم حتى على مستوى المرافقة في الطريق. ((فقلت: يا أبه من هم؟ قال: إيّاك ومصاحبة الكذّاب فإنّه بمنزلة السراب يقرّب لك البعيد ويباعد لك القريب)). كما يعبّر القرآن الكريم ]كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا[(9). فالسراب يلمع وأنت عطشان فمهما مشيت لا تصل إليه، وهكذا الكذّاب يقرّب البعيد فيعطيك صورة أن تبلغ ما تريد في أقرب وقت، ويبعّد لك القريب فيبعدك عن مقصدك، لأنّه يصوّره لك كما لو كان بعيداً، وبذلك يتدخّل في حياتك ليرتّبها كما يشاء، وليفوّت عليك ما تريد من الهدف القريب عندما يبّعده عنك، أو يجعلك تلهث وراء هدف لا تبلغه.
((وإيّاك ومصاحبة الفاسق فإنّه بائعك بأكلة أو بأقلّ من ذلك)). فالفاسق الذي لا يتمتع بالأمانة ولا بالثقة، ولا يملك أية قيمة إنسانية أو دينية، والذي لا يخاف اللّه ولا يخاف عقابه يكون قد تحرّر من أية قيمة إنسانية، ولذلك فإن الصداقة والأخوّة لا تمثّل عنده شيئاً. فقد يكون صديقك الآن ولكن إذا طلب منه أن يبيعك فإنّه بائعك بأكلة أو أقلّ من ذلك، فما دامت الأكلة تسدّ حاجته،فإنّه يراها أكبر وأفضل منك.
((وإيّاك ومصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه)). لأنّه لا يعيش معنى العطاء، والصديق للصديق وقت الضيق، فإذا كنت في حالة ضيق وأتيت إلى صديقك ممتلئاً بالأمل أنّه سوف يسدّ حاجتك وإذا به يخيّب ظنّك، فما يكون ردّ فعلك؟!
((وإيّاك ومصاحبة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك)) لأنّ الأحمق هو الذي لا يملك التوازن في نظرته إلى الأمور، فربّما يخيّل إليه أنه يريد أن ينفعك، ولكنّه عندما لا يعرف موازين النفع والضرر.
وفي ضوء ذلك فان مثل هذا الشخص يختزن في شخصيته الجفاف العاطفي ويفقد الالتزام بالقيم الروحية والأخلاقية التي أكدها اللّه في كتابه مما أراد أن يحرك في الإنسان الخير كقيمة وسلوك. فقد يضرّك من حيث أنّه يريد أن ينفعك.
((وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإني وجدته ملغوما في ثلاث مواضع، قال اللّه عزّ وجل ]فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ[(10) وقال ]وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[(11) وقال في (البقرة)] الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ[(12)))(10).
التحديق في عيوب الناس:
وننطلق إلى الإمام(ع) وهو ينفذ إلى ما يريد أن يؤّكده في قيمنا الإنسانية. فعن أبي حمزة قال سمعت علي بن الحسين(ع) يقول: ((قال رسول اللّه(ص) كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه أو أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه))(11). أي يحاول أن يحدّق في عيوب الناس ويحصيها ويحكم على الناس من خلالها، ولكنّه يعمى عن عيوب نفسه، وربّما يصوّر له هذا العمى عن عيوب نفسه أنّه ليس به أيّ عيب. كفى به عيباً. لماذا؟ لأنّ الإنسان الذي يكتشف عيوبه يعمل على أن يصلحها، تماماً كمن يكتشف المرض فإنه يبادر إلى مداواته، فإذا كان لا يبصر عيوبه ولا يرضى أن يحدّثه أحد عن عيوبه، فهذا هو العيب الكبير، لأنّه يعني أنّه يصرّ على البقاء على هذا العيب. كما أنّه يمثّل الإنسان الذي لا يعيش مسؤولية نفسه في إصلاح نفسه، أمّا نظرته إلى عيوب الناس فإنّه ليس مسؤولاً عن عيوبهم لاسيما إذا كانت نظرته إليهم من أجل إسقاطهم والتشهير بهم والإساءة إليهم، لا من أجل نصحهم حتى يصلحوا عيوبهم.
((وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه)). إنّ الإنسان الذي يجلس إلى أيّ إنسان لابدّ له أن يجلس إليه ليحدّثه بما ينفعه، وينصحه بما يمكن أن يصلح أمره. أمّا أن تحدّثه بأشياء ليس له فائدة فيها ولا عناية له بها، بل ربّما تثقل بحديثك نفسه وتؤذيه. فأيّ جليس أنت؟! إنه العيب الذي يعني أنّك لا تحترم إنسانية الإنسان الذي تجالسه.
وقد ورد في حديثه(ع): ((إنّ أسرع الخير ثواباً البرّ، وأسرع الشرّ عقوبة البغي)). فاللّه يعجّل في ثواب من يعيش البرّ في حياته مع الناس، ويسرع في عقاب من يعيش البغي والعدوان على الناس. ((وكفى بالمرء عيباً أن ينظر في عيوب غيره ما يعمى عليه من عيب نفسه، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه، أو ينهي الناس عمّا لا يستطيع تركه)). وهو أن تنهى الناس عن شيء لا تتركه ولا تنتهي عنه.مما يعني أنك ملتزم به، فكيف تنهى الناس عن منكر تستنكره وتعمل به، كما قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثــــله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
حركة الخير في الحياة:
ونمضي مع الإمام زين العابدين(ع) أيضاً وهو يحدّثنا عن الناس الذين يتحرّكون في الحياة من خلال ما يفعلونه من خير. فالإمام(ع) ينقل عن رسول اللّه(ص) فيقول: ((مرّ رسول اللّه براعي إبل فبعث يستسقيه، فقال: أمّا ما في ضروعها فصبوح الحيّ)). وهو ما يحلب في أولّ النهار لأهله ((وأمّا في آنيتنا فغبوقهم)). وهو ما يحلب آخر النهار لأهله، فلم يبق شيء نعطيك إيّاه. ((فقال: رسول اللّه(ص) اللّهم أكثر ماله وولده. ثم مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه فحلب له ما في ضروعها وأكفأ ما في إنائه في إناء رسول اللّه(ص) وبعث إليه بشاة، وقال: هذا ما عندنا، وإن أحببت أن نزيدك زدناك، قال: فقال رسول اللّه(ص): اللّهم ارزقه الكفاف، فقال له بعض أصحابه: يا رسول اللّه دعوت للذي ردّك بدعاء عامّتنا نحبّه، ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلّنا نكرهه. فقال رسول اللّه(ص): إنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى)). بحيث يصبح لديه مال كثير وأولاد كثيرون ينشغل بهم ويتعب ويشقى من أجلهم، ويخيّل إليه أن الخير عنده، ولكنّه يشقى بهذا الخير. أّمّا الذي يعيش حياته بشكل طبيعي ولا يحتاج إلى أحد، ويرزقه اللّه الكفاف فإنّي قد دعوت له بما دعوت به لنفسي ولأهلي لأن ذلك هو الذي يجلب للإنسان الإحساس بالطمأنينة للإنسان في حياته الخاصة والعامّة، فهذه هي السعادة.
ثم قال: ((اللّهم ارزق محمداً وآل محمد الكفاف))(12). فكأنّه قال إنّي قد دعوت له بما دعوت به لنفسي ولأهلي، لأن ذلك هو الذي يجلب للإنسان الإحساس بالطمأنينة في حياته الخاصّة والعامّة. ((وعــن عـــلي بن جـعفر(ع) عن أخيه أبى الحسن موسى(ع) قال: أخذ أبي بيدي، ثم قال يا بني إنّ أبي محمد بن علي(ع) أخذ بيدي كما أخذت بيدك، وقال إنّ أبي عـلي بـن الحـسـيــن(ع) أخذ بيدي، وقال: يا بنيّ إفعل الخير إلى كلّ من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه)). أي أنّك أعطيت وكان العطاء والخير في الموضع الصحيح ((وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله)). لأنّ قضية الخير ليست فقط في من ينتفع بالخير، وإنّما هي قضية الإنسان الذي يعطي الخير، لأنّ عطاء الخير يجعل إنسانية الإنسان في المستوى الأعلى، ويقرّب صاحبها إلى اللّه سبحانه وتعالى، وهذا ما نطلبه من اللّه تعالى ((اللّهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء)).
((وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحوّل إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل عذره))(13). إنّه أساء إليك، لكنّه عندما تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك فإنّه أهرق ماء وجهه أمامك، ولأنّ الاعتذار يمثّل لوناً من ألوان الذلّ، وقد أذلّ نفسه أمامك فقدّر له ذلك، واقبل عذره، لاسيما أن قبول العذر يمثل حركة في إصلاح هذا الإنسان، لأنّك تشجّعه على أن يبدّل الإساءة بالإحسان.
البكاء خشية من اللّه:
وفي نهاية المطاف نعيش الأجواء الروحية مع الإمام زين العابدين(ع) قال طاووس: ((رأيت رجلاً يصلّي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو ويبكي في دعائه، فجئته حين فرغ من الصلاة، فإذا هو علي بن الحسين(ع) قلت له: يا بن رسول اللّه رأيتك على حالة كذا ولك ثلاثة أرجو أن تؤمّنك من الخوف: أحدها أنّك ابن رسول الله، والثاني شفاعة جدّك، والثالث رحمة اللّه تعالى، فقال)) ليعطينا موازين القيم ((يا طاووس: أمّا أنّي ابن رسول اللّه فلا يؤمنني وقد سمعت اللّه تعالى يقول: ]فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[(14). فهناك تتقطع الأنساب ]يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ^ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ^ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ^ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[(15). فالنسب لا يمثل لوحده قيمة روحية تقرّب الإنسان إلى اللّه وترفعه إلى الدرجات العليا، بل إنه قد يحمّل الإنسان المسؤولية في التزامه بالقيم الكبرى التي يمثلها الذين ينتسب إليهم، كما في الانتساب إلى رسول اللّه(ص). ((وأمّا شفاعة جدّي فلا تؤمنني، لأن اللّه تعالى يقول: ]وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى[(16). فالشفاعة ليست في القرابة، وليست من خلال الأمور الطارئة التي تصل الناس بعضهم ببعض، ولكنها ضمن المنهاج الذي وضعه اللّه تعالى للشفعاء. ((وأما رحمة اللّه، فإن اللّه تعالى يقول: ]إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ[(17) ولا أعلم أني محسن)). ولذلك أبكي وأبكي لأنني أريد لهذه الدموع التي تجري من خشية اللّه أن تقرّبني من اللّه.
أيّها الأحبة: كان علي بن الحسين(ع) الإنسان الذي عاش للّه ومع اللّه وفي سبيل اللّه وفي خدمة دين الله، وفي النصح لعباد اللّه، وبذلك كانت إمامته إمامة حقّ وصدق وعدل. فهل لنا أن نعيش في هذا الأفق الروحانيّ الذي يفيض بالإسلام كلّه وبالخير كلّه والذي ينفتح على اللّه بكلّه؟ والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الرابعة والعشرون: 9 صفر 1421 ه المصادف 13/5/ 2000م
الوجه الآخر
للإمام الحسن(ع)
علينا أن لا نخطئ فنقحم الصلح مع (إسرائيل) في خط الحديث عن صلح الحديبية أو صلح الإمام الحسن(ع)
في أجواء ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع)
مع أبيه(ع)
دراسة صلح الحسن(ع)
الوجه الآخر للإمام الحسن(ع)
صفة الصاحب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في أجواء ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع):
نلتقي الإمام الحسن(ع) بن علي بن أبي طالب(ع) في ذكرى وفاته. هذا الإمام الذي فتح عينيه على الحياة في بداية الهجرة، عندما كان الإسلام يتحرّك بقيادة رسول اللّه(ص) من أجل أن يركّز قواعده كدين يحكم الحياة. لأنّ الهجرة كانت تمثّل البداية التي أريد لها أن تحوّل الإسلام – الدعوة - إلى الإسلام – الدولة، بحيث بدأت السور التشريعية تنزل تباعاً في المدينة، وهذا ما يميّز السور المكيّة عن السور المدنية، فالسور المكيّة في غالب مضامينها هي سور دعوة، بينما السور المدنية هي سور دولة، لأنّها تتضمن المفردات التشريعية التي يحتاج إليها الناس في علاقاتهم العامّة والخاصّة.
ولد الإمام الحسن(ع) في بداية عهد الهجرة، وكان أول وليد لعلي(ع) وفاطمة(ع) وكان قرّة عين رسول اللّه(ص) الذي فقد ابنه الوحيد. وانضمّ إليه أخوه الحسين(ع) بعد وقت قصير، ودرجا معاً بين أحضان رسول اللّه(ص) وانفتحا معاً على كلماته، وحدّقا معاً في عينيه، لأنّ الطفل عادة ما يحدّق بالعينين اللتين يجد فيهما سكينته وفرحه وابتسامته وروحيته. وقد وجدا ملاعبهما في الساحة التي كانا يتحرّكان فيها مع رسول اللّه(ص)، من خلال هذه الطفولة الرائعة، بكلّ ما حشدته في عينيّ الحسنين(ع) وفي روحيهما وعقليهما وقلبيهما، من كلّ معاني الروحانية والطهر والصفاء التي كانا يختزنانها في داخل شخصيتهما التي كانت تنمو بين يدي رسول اللّه(ص) وبين أحضان علي(ع) وفاطمة(ع).
ونحن نعرف ما معنى أنّ شخصين يكون رسول اللّه(ص) أستاذهما الأول؟ ومسألة الأستاذية التي تميّزت بها هذه التجربة الحسنية – الحسينية لم تكن مجرّد كلمة يسمعانها، ولكنها كانت كلّ شيء بالنسبة لهما، وإنّي لأتمثّلهما في أحضان رسول اللّه(ص) يصعدان إلى منبره، ويركبان ظهره وهو ساجد فيطيل سجوده، ويرفعهما على كتفيه أو ظهره. ولقد كانت أستاذية رسول اللّه(ص) لهما كأستاذيته لأبيهما ولأمّهما. وكان علي(ع) تلميذ رسول اللّه(ص) الأول، يقول عن ذلك: ((كان يكنفني فراشه ويضمّني حضنه وكان يلقي إليّ في كلّ يوم)). وهو يومذاك في الطفولة الأولى ((خلقاً من أخلاقه – وكنت أتّبعه اتباع الفصيل أثر أمّه)). فنفس التجربة التي عاشها الإمام علي(ع) مع رسول اللّه(ص) عاشها الحسنان(ع).
وإذا كنّا نعرف أنّ الزهراء(ع) عاشت روحانية رسول اللّه(ص) فيما أفاض عليها من روحانيته، وعاشت عقله فيما أعطاها من عقله، وعاشت خلقه فيما أعطاها من خلقه في طفولتها الأولى بعد وفاة أمّها، نعرف كيف أن الحسنين(ع) جمعا ذلك كلّه. فلقد جمعا ما اكتسبه الأب والأم، وجمعا مـا تـحدّث بـه رسـول اللّه(ص) بشكل مباشر.
مع أبيه(ع):
وغاب رسول اللّه(ص) ودرج المحسنان(ع) – كما كانا يدرجان في حياته – في أحضان أمّهما الطاهرة التي أذهب اللّه عنها الرجس وطّهرها تطهيرا، وفي أحضان أبيهما الذي عاش العصمة كلّها والطهارة كلّها والنقاء كلّه.
ثم انطلقا مع علي(ع) في تجربة من أصعب التجارب، وشاهدا معاً، وسمعا معاً، ورأيا كيف استوعب(ع) الصدمة، وكيف ارتفع وارتفع وارتفع عندما قال ((لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليّ خاصّة)). هذا السموّ العلويّ الذي أخلص للإسلام كما لم يخلص له أحد بعد رسول اللّه(ص). وجاهد في الإسلام الذي كان عزيزاً عليه أكثر مما يعزّ الإنسان ذاته. واختزن الإمام الحسن(ع) تلك التجربة، واختزنها الحسين(ع) كذلك. وكانا مع أبيهما عندما ودّع أبا ذرّ الذي نفي إلى الربذة ولم يودّعه أحد، وتكلّما معه بالكلمات التي تفتح قلبه، وتجعله يشعر بأنّ هناك قلوباً تنفتح على موقفه الذي كان للّه ولم يكن لغيره. وانطلق الحسنان(ع) فيما واجه أمير المؤمنين(ع) من محن وفتن في خلافته. وأرسله أبوه إلى الكوفة، وكان يؤهله لأن يقود المسلمين من بعده، وكان الناس يسألون علياً(ع) فكان يحيلهم إلى الإمام الحسن(ع).
وعاش الإمام الحسن(ع) بعد أبيه مرحلة ولا أصعب، وتجربة ولا أقسى، فلم يكن لديه جيش يحمل الرسالة، ولكنّه كان يملك جيشاً تتوزّعه الأهواء التي توزّعته في أواخر حياة أبيه، وكان ما كان، وكان الحسين(ع) معه. فالصلح الحسنيّ هو صلح حسينيّ أيضاً، ولم يكن لأحدهما مزاج يختلف عن الآخر. فلقد كان مزاجهما مزاج الإسلام، وكانا يتحرّكان حيث يريان أنّ مصلحة الإسلام في هذه الحركة سلما أو حرباً. وكانا كأبيهما، وربما لم يقل الإمام الحسن(ع) تلك الكلمة، ولم يقلها الإمام الحسين(ع) ولكنهما كانا يعيشانها في التجربة: ((لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليّ خاصّة)). وتحمّلا الجور. وكانت نهاية المطاف الشهادة، ولم يرد الإمام الحسن(ع) أن يهرق في أمره ملء محجمة دما، ولذلك أوصى الإمام الحسين(ع) وأهل بيته أن يغمدوا سيوفهم، لأنّ مصلحة المسلمين كانت همّه كلّه..
دراسة صلح الحسن(ع):
ويبقى لنا – أيّها الأحبةّ – أن نعيش مع الإمام الحسن(ع) حياته كلّها، لنتفهّم المحطّات التي تحرّك فيها. ولابدّ لنا أن نفهم المحطّة الأخيرة وهي محطّة الصلح، بأن ندرسها دراسة في حجم الأوضاع التي كان يعيشها المجتمع الإسلاميّ آنذاك مما لم تكن الحرب فيها ذات مصلحة على مستوى القضايا الكبرى.
وعلينا – أيّها الأحبّة – أن لا نطلق كلمة الصلح عشوائياً، كما أطلقها الكثير من الناس عندما تحدّثوا عن صلح الحديبية أو صلح الإمام الحسن(ع) . فلابدّ أن نكون دقيقين في عملية المقارنة، وأن ندرس الظروف هناك مقارنة بالظروف هنا في هذا الموقع أو ذاك. وعلينا أن لا نخطئ فنقحم الصلح مع (إسرائيل) في خط الحديث عن صلح الحديبية أو صلح الإمام الحسن(ع) لأنّ الكيان الصهيوني بكلّه ليس شرعياً لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، كما هو الغصب ليس شرعياً لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل.
وبهذه المناسبة أحبّ أن أقول لكلّ إخواني وأخواتي لا تدرسوا التأريخ في السطح، ولكن أدرسوه في العمق. لا تقحموا التأريخ في قلب المأساة، ولكن ضعوا المأساة في حركة القضية، ولا تجعلوها في حركة الذات، فإننا نسينا القضية التي انطلقت الذات لتؤكدها في رساليتها، ولذلك لم يبق لنا قضية، فلقد أصبحت الدموع هي القضية. فالسؤال هو: كيف تستنزف الدموع؟ لا لماذا تنفتح الدموع؟! لذلك فإننا نشجب ونحتجّ على مأساة التأريخ ونصنع في كلّ يوم أكثر من مأساة للمسلمين في فتنة هنا وحرب هناك ونزاع هنا ونزاع هناك، ونبكي التأريخ ونفرض البكاء على الواقع.
أيّها الأحبة: لقد قال اللّه تبارك وتعالى لنا إن التأريخ عِبرة وليس مجرد عَبرة ]لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ[(1). ولذلك إقرأوا التأريخ بذهنية العبرة ليغدو مدرسة نعرف نتائجها في حجم التجربة، ولنصنع التأريخ في مدرسة نحرّك نتائجها في مستقبلنا.
الوجه الآخر للإمام الحسن(ع):
وفي هذا الجوّ، وبعد أن قرأنا الإمام الحسن(ع) مع رسول اللّه(ص) ومع أبيه وأمّه وفي حركة الصلح وفي مأساة الشهادة، تعالوا لنقرأ الوجه الآخر للإمام(ع). فهو مسجّى على فراشه، وأنتم تعرفون ما معنى أن يكون الإنسان مسجّى على فراشه، والسمّ يدبّ في مفاصله كلّها، ويأتيه أحد أصحابه، وقد عوّد علي(ع) أصحابه، كما فعل الحسن(ع) أن يطلقوا المسألة ويطلبوا الموعظة والفكرة حتى في أشدّ حالات المرض، وحتى وهم يستقبلون الموت، لأنّ الأئمة من أهل البيت(ع) كانوا العقل المفتوح والقلب المفتوح والحياة المفتوحة في خطّ الرسالة. وكانوا يقولون ما كان يقوله أبوهم(ع): ((سلوني قبل أن تفقدوني، إنّ ها هنا لعلماً جمّا لو وجدت له حَمَلة)). ولم يجد علي(ع) لعلمه الجمّ الكثير من الحملة. ولذلك ضاع الكثير مما كان علي(ع) يفكّر به، لأنّه كان يفكّر ويفكّر ولا يسأله الناس عن خطوط الفكر، ولا يتحرّكون من أجل دراسة فكره، فهل نحن من أولئك؟ هل نكتفي في وعينا لحياة الأئمة(ع) بالأحداث التي حدثت في حياتهم؟ أو أنّنا نستمع بعقولنا ]وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ[(2). ونستمع بقلوبنا إلى كلماتهم، لأنّهم يريدون منّا أن نحوّل هذه الكلمات إلى حركة في الشخصية وفي الواقع.
قال له جنادة بن أبي أمية في مرضه الذي توفي فيه: ((عظني يا ابن رسول اللّه. قال نعم استعد لسفرك)). فها أنت تراني وأنا في بداية السفر نحو الآخرة، لأنني سوف أفارق الحياة بعد قليل، وها أنا ذا أستعدّ له، فخذ من تجربتي ما تفكّر فيه فيما تقبل عليه من تجربة. ((وحصّل زادك)). ف((الدنيا مزرعة الآخرة)). ]وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[(3).((قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك)). واعلم – إذا كنت واعياً لواقع الحياة الدنيا – أنّك تطلب الدنيا وتكافح من أجل الحصول عليها، ولكنّك في كلّ يوم يمضي من الدنيا ينقضي شيء من عمرك. ((ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه)). ونحن نريد أن نفهم ذلك، فهل يريد الإمام(ع) أن يقول لهذا الرجل لا تخطّط للمستقبل، ولا تفكّر في همومه التي لابدّ لك أن تحضّر لها خطوطها قبل أن تأتي. إن الإمام(ع) لا يريد ذلك، ولكنه يقول لا تترك مسؤوليتك في يومك هذا على أساس أنّك تعيش هموم المستقبل. فأنت تعيش في هذا اليوم ولهذا اليوم مسؤوليات في عباداتك ومعاملاتك وعلاقاتك ومشاريعك، لذلك فكّر في همّ هذا اليوم قبل أن يأتي اليوم الآخر، لأنّ لليوم الآخر همّاً تتكفّل لحظات الزمن في معالجته.
((ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه. واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك)). فأنت تطلب المال وتستهلك جهدك العقليّ والعاطفي والحركيّ من أجل أن تحصل عليه حتى تشقى بذلك في أكثر من جانب من جوانب الحياة. ولكن وجّه لنفسك سؤالاً: لم المال؟ إن المال يطلب من أجل أن يحصل الإنسان على ملبسه ومشربه ومسكنه وما إلى ذلك، ممّا يتحرّك في حاجاته الحياتية كإنسان لابدّ له من أن يلبّي حاجاته. أمّا ما زاد عن هذا المال مما لا تحتاجه في قوتك، والقوت عنوان لكلّ حاجات الإنسان، فإنّك فيه خازن لغيرك. فلماذا تهتم كثيراً بأن تختزن لغيرك والله تكفّل برزق غيرك كما تكفّل برزقك؟!
وليس معنى ذلك أن تهمل غيرك، بل معناه أن لا تتحرّك من دون ضوابط في مصيرك لتترك المال من بعدك وقد خلطت حلاله بحرامه، وقد ابتعدت عن مسؤولياتك من أجل أن تخزنه للآخرين. ((واعلم أن الدنيا في حلالها حساب)). لأنّ للحلال حساباته في كلّ ما يأخذ به الإنسان من الكلمة والفعل والعلاقة والموقف، وذلك من أجل أن ينطلق الحلال من خلال الدقّة في الحساب بحيث يكون صافياً من شوائب الحرام والشبهة. ((وفي حرامها عقاب)). لأنّ اللّه سبحانه وتعالى توعّد المرتكبين للحرام بالعقاب في الآخرة. ((وفي الشبهات عتاب)). والشبهات هي التي لا يتضح فيها المقصود هل هي من الحرام أم من الحلال، فإنّ اللّه سوف يعاتبك: كيف تجرّأت على الشبهات؟ وقد ورد في أكثر من حديث ((من اجتنب الشبهات نجا من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات وقع في الحرام وهلك من حيث لا يعلم)). ثم يقول الإمام الحسن(ع) لجنادة: ((فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة)). فإذا كنت في حال جوع تفقد فيه الطعام الذي يحفظ حياتك، وليس هناك غير الميتة ((فخذ منها ما يكفيك)). ويسدّ جوعك.
((فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيه)). أي اقتصرت على حاجاتك الضرورية. ((وإن كان حراماً لم يكن في وزر فأخذت منه)). لأنّك مضطرّ إليه، كما أخذت من الميتة وأنت مضطرّ. ((وإن كان العتاب فالعتاب يسير)). لأنّ ما أخذته من الدنيا كان يسيرا. ثم يعطي الإمام(ع) القاعدة الرائعة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري وكلّ ما يتصّل بحياة الإنسان في الدنيا. ((واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا وأعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا)). وهذا هو خطّ التوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة.
إن الإمام الحسن(ع) لا يريد للإنسان أن يجلس وأمام عينيه قبره ليندب حظّه فيترك عمل الدنيا على أساس أن الدنيا فانية، فإنّ اللّه خلقنا في الدنيا لنعمّرها، فما هي مسؤوليتنا؟ ]إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[(4). ودور الخليفة هو أن يبني الحياة على الصورة التي يحبّها اللّه ويرضاها، ولذلك اعتبر العمل عبادة وجهاداً في سبيل اللّه، وأبغض الناس الكسول والنوّام الفارغ، ولذلك فعندما تفكّر في مشاريع الحياة تابعها كما لو لم يكن هناك موت، بل حاول أن تستنفر كلّ طاقاتك التي تحتاجها مشاريعك الاجتماعية والسياسية والعمرانية والاقتصادية تماما كما لو أنّك ستعمّر طويلاً فلا أجل ينتظرك، لأنّ معنى أن لا يموت الإنسان هو أنّه بحاجة إلى أن يملأ المستقبل منذ الآن بالمشاريع التي يحتاج أن يملأها في مستقبل أيامه.
ولكن إذا فكّرت في المسؤولية، فسوف تعرف أن اللّه سوف يحاسبك، وأنت تعمّر، عن الحلال والحرام، ويحاسبك، أنت تتاجر عن المعاملة الفاسدة والصحيحة، وعن العلاقة هل هي علاقة خير أو علاقة شرّ؟ وعن المشروع السياسي هل يتحرّك في خطّ العدل أو الظلم؟ فإذا فكّرت بالمسؤولية فكرّ بأنّك تقدّم حسابك كما لو كنت تموت غداً. وهذا هو الذي يركّز التوازن بين إحساس الإنسان بالمسؤولية في عمله وبين حركته في عمله من أجل تحقيق رسالته في بناء الحياة. ولعلّ هذه الكلمة الرائعة التي ينسبها البعض إلى أمير المؤمنين(ع) والحسن(ع) تلميذه، لو أخذ بها المسلمون لاستطاعوا أن يواجهوا العالم بمواقع التقدّم كلّها، ومواقع العمران السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي كلّها. ولكنّ المشكلة هي أنّ الذين يربّون الناس في الموعظة لا يقفون موقف التوازن، فهم يحدّثونك عن الموت وعن القبر دون أن يحدّثوك عن الحياة.
ونحن – أيّها الأحبّة – بحاجة إلى أن نوازن بين الموت وبين الحياة، فليكن الموت عنوان المسؤولية، ولتكن الحياة عنوان البناء والعمران والتقدّم. ومشكلتنا هي فقدان التوازن في مواعظنا في مواقع حياتنا كلّها.
ثم يقتحم الإمام الحسن(ع) مفهوم العزّة في النفس الإنسانية، ومفهوم الهيبة في واقع الإنسان. فالناس قد يتصوّرون العزّة بكثرة الناس حول من يريد أن يكون عزيزاً، وبقوة السلطان لمن يريد أن يكون عزيزاً، ولكن الإمام الحسن(ع) يقول إنّ تلك ليست عزّة لأنّك تستعير عزّتك من الآخرين، فالآخرون أعاروك العزّة وقد يسلبونها منك. والناس عندما يجتمعون حولك ويهتفون باسمك فهؤلاء ليسوا أنت، والهتافات والأرقام ليست أنت، وعندما يكون لك سوط تلهب به ظهور الناس، فهذا لا يمثّل الهيبة، فالهيبة والعزّة هي أن تكون عناصر قوّتك واحترام الناس لك نابعة من داخل شخصيتك، وهي أن يحبّك الناس ويهابوك تلقائياً، وان تعزّز الموقع من خلال شعور الناس أنّك قويّ من خلال الخصائص الحيّة الموجودة في شخصيتك.
((وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة)). فإذا كنت كما يقال في المثل: ((مقطوعاً من شجرة)). أي لا نسب لك في العشائر، ((وهيبة بلا سلطان)) فإذا أردت أن يهابك الناس بحيث إذا واجهتهم احترموك بشكل تلقائيّ، ((فاخرج من ذلّ معصية اللّه إلى عزّ طاعته)). لأنّ اللّه سبحانه وتعالى عندما يراك وأنت تطيعه في خطّ الاستقامة: تطيعه في نفسك فتحسن إليها فيما أمر اللّه به أو نهى عنه، وتطيعه في الناس فتحسن إلى الناس، وتطيعه في الحياة فتحسن إلى الحياة، فإن اللّه يحبّ المحسنين، وسوف يلقي هيبتك في نفوس الناس، وسوف يمنحك العزّ في حياة الناس.
وأسوق لكم مثلاً موجوداً في حياتنا، فهناك في أكثر من قرية ومجتمع أناس أطاعوا اللّه بإخلاص، وعاشوا مع الناس بإخلاص، ولم يكن لديهم سلطان مما تعارف الناس عليهم من سلطان القوّة، بل كانوا بسطاء في قوّتهم المادية، ولم يكن لهم عشيرة، لكنّنا نرى الناس تنحني لهم وتقدّرهم وترفعهم بشكل تلقائي، لأنهم انتقلوا من ذلّ معصية اللّه إلى عزّ طاعته.
صفة الصاحب:
ثم يختم الإمام(ع) كلامه في صفة الصاحب. فمن نصاحب؟ ومن نصادق؟ وما هي صفة الصاحب الذي ينبغي للإنسان أن يختاره؟ يقول(ع): ((وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك)). بعلمه وأخلاقه ودينه ((وإذا خدمته صانك)). أي لم يستغل خدمته لك ليسقطك، بل يصون موقعك لأنّه يعتبر ذلك منك تواضعاً. ((وإذا أردت معونة أعانك)). لأنّ ذلك هو حقّ الصحبة، وهو أن يشعر الصاحب بمسؤوليته عن حاجات صاحبه. ((وإن قلت صدّق قولك)). ولم يكذّبك في قول ليسقط قولك. ((وإن صلت شدّ صولك)). فإذا دخلت في معركة تحدٍّ فإنّه يشدّ أزرك ((وإن مددت يدك بفضل مدّها)). أي عاونها وساعدها وأعطاها. ((وإن بدت منك ثلمة)) أي ثغرة في حياتك ((سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها)). أي تحدّث بها أمام الناس.
((وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه إبتداك)). فهو يبادر ((وإن نزلت بك إحدى الملمّات)). إحدى المصائب أو النوازل ((واساك من لا تأتيك منه البوائق)). أي المهالك والمشاكل ((ولا تختلف عليك منه الطرائف ولا يخذلك عند الحقائق)). أي في المواقف التي تبرز فيها الحقيقة. ((وإن تنازعتما منقسماً آثرك))(5). فإذا كانت القسمة بينك وبينه فإنه يؤثرك على نفسه.
هذا ما تحدّث به الإمام الحسن(ع) من الكلمات المضيئة المشرقة التي تفتح القلب على اللّه، وعلى الخير، وعلى الدار الآخرة، فكيف نحوّلها إلى واقع عملي في حياتنا؟
أيّها الأحبّة: الولاية هنا، وهي أن تسير حيث ساروا، وأن تقف حيث وقفوا، وأن تتعلّم ما علّموك، وأن تطبّق الخطّة التي خططوها لك.. ومشكلتنا أنّنا في غالب أحوالنا – ولا أتحدث في المطلق، ولكنني أشير إلى ظاهرة، هي أنّنا فقدنا الوجه الآخر للأئمة(ع) وهو وجه الحياة ووجه التقدّم والسموّ من خلال الكلمات المضيئة التي تحدّثوا بها . والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الخامسة والعشرون: 16صفر 1421 ه المصادف 21/5/ 2000م
مأساة العلم الذي
يبحث عن حَمَلة لعلمه
من أروع الكلمات التي تؤكّد أهمية العلم: ((العلم دين يدان به))
من حديث الإمام علي(ع) مع كميل بن زياد
الناس ثلاثة
العلم والمال
العلم دين
مأساة العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
من حديث الإمام علي(ع) مع كميل بن زياد:
نلتقي في هذه الليلة مع الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وهو يناجي صاحبه (كميل بن زياد) بمناجاة يعيش فيها تجربته كلّها، في قلب مأساته كعالم بلغ من العلم ما بلغ، ولكنّه عاش في مجتمع لم يقدّر علمه ولم يعه، بل اتبع الذين لا يملكون من العلم شيئا على أساس عوامل انفعالية وعاطفية وغوغائية. ولذلك أراد(ع) أن يطلق الكلمة الهادفة العميقة التي يصوّر فيها الواقع الداخلي للإنسان. لأن الإنسان ليس هو هذا الجسد الماثل في الصورة، بل هو العقل والقلب والشعور والإرادة، هذه العناصر التي تمثّل منطقة الوعي الداخلي التي بها يكون الإنسان إنساناً، وبها ينفتح على العالم، وبها يستوعب الفكر وينتجه ويحرّك التجربة ويبدعها. ولذلك أكّد الإمام(ع) على هذه المنطقة وركّز القيمة فيها على أساس درجة الوعي فيها، وأراد لصاحبه كميل أن يستمع إلى كلامه بالقلب الأوعى، لأنّ كلمات علي(ع) في عمقها وفي أصالتها وفي امتدادها في آفاق المعرفة، لا يكفي في الإنسان أن تكون له درجة وعي عاديّة حتى يعيها، بل لابدّ أن يكون الأوعى، وكيف يمكن لغير الأوعى أن يرتفع إلى سماء علي(ع)؟!
والآن لنفتح اللقاء معه.. واللقاء مع علي(ع) بمنزلة لقاء مع اللّه سبحانه وتعالى، ولقاء مع رسول اللّه(ص) ولقاء مع الحقيقة كلّها، لأنّ علياً(ع) اختزن المفهوم الإلهيّ الواقعي في عمق عقله وقلبه وروحه، لأنّه باع نفسه للّه تبارك وتعالى. واختزن الحقّ كلّه، كما جاء على لسان رسول اللّه(ص): ((علي مع الحق والحق مع علي)). فتعالوا – أيّها الأحبّة – في هذا العصر الذي أخذ فيه الباطل الكثير من الواقع، وأخذ الزيف الكثير من العقول، وأخذ النفاق الكثير من القلوب، وأخذ الجهل الكثير من المواقع الكبيرة في الدين والسياسة والاجتماع.. تعالوا للقيا علي(ع) فلعلنا نجد بعض ما يحرّك الوعي في عقولنا، والحقّ في قلوبنا، والأصالة في مواقعنا.
الناس ثلاثة:
((قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبى طالب(ع) فأخرجني إلى الجبّان)). والجبّان هو المقبرة ولعلّها ((مقبرة وادي السلام)) التي تنفتح على الصحراء حيث تلتقي الدنيا في امتدادها الصحراوي بالآخرة في امتداد هذه القبور في إطلالتها على معنى الآخرة، بما يطلّ به الموت على الآخرة.
((فلمّا أصحر)). أي صار في الصحراء ((تنفّس الصُّعداء)). ونحن نعرف أنّ تنفّس الصُّعداء يعني هذه النفثة المختزنة في صدر الإنسان والتي تنطلق من هموم كبيرة وآلام قاسية.
((ثم قال: يا كميل إنّ هذه القلوب أوعية)). هي خزّانات العلم ((فخيرها أوعاها)). أي من يعي العلم أكثر من غيره، فلا يكفي أن يحتضن عقلك مكتبة يستظهرها كما يصفّ الإنسان الكتب في مكتبته، ولكن لابدّ أن يختزن عقلك العلم لينزل إلى منطقة الفكر في العقل، ومنطقة الإحساس في القلب، ومنطقة الحركة في الحياة، وذلك بأن يتحوّل العلم إلى شيء هو أنت، وأن يتأنسن بحيث يكون العلم هو الإنسان، فيدخل إلى عقله وقلبه وأعصابه وعروقه وإحساسه وشعوره حتى يكون علماً مجسّداً. ((فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم ربّانيّ)). وهو الإنسان الذي عاش مع اللّه وفكّر باللّه، ونظر في خلق اللّه، وعاش تجربته الإيمانية عبادة وابتهالاً وتأمّلاً وتدبّراً مع اللّه، حتى أصبح يملك علماً ربّانياً يعرف به اللّه من خلال ما يمكن للإنسان أن يبلغه من علم اللّه.
((ومتعلّم على سبيل نجاة)). وهناك فريق آخر مازال يدرج في حركة المعرفة.. يقرأ ويتأمّل ويجرّب، لأنّ للمعرفة مصدرها في الفكر، كما أنّ لها مصدرها في التجربة. وهو عندما يقرأ ويسمع ويتأمّل ويجرّب، لا ينطلق في العلم من موقع أنانيّ لتتضخم شخصيّته، وليجري الناس خلفه فيهتفوا باسمه وليصفّقوا له، ولكن لينجو ابتغاء الوصول إلى الحقيقة، ويتحرّك مع الناس في خطّ النجاة لئلا يكون الناجي وحده، لأنّ العالم على طريق النجاة لا يمكن أن يكون أنانياً بحيث يقول: علمي لي وليس لأحد حصّة فيه، لأنّ العلم كما يعرفه الذين يتعلّمون على سبيل نجاة هو أمانة اللّه عند العالم. وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف ((إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه ومن لم يفعل)). واعتزل الناس، وجلس في زاويته ((فعليه لعنة اللّه)). وفي الحديث ((الساكت عن الحقّ شيطان أخرس)).
((وهمج رعاع)). هؤلاء الذين عشعش التخلّف في عروقهم، وعاش الجهل في عقولهم، وتحرّكت الفوضى في أوضاعهم.. هؤلاء الذين يتحرّكون من ظلمات إلى ظلمات، وينطلقون على غير هدى في المتاهات. ((أتباع كلّ ناعق)). ينتظرون الصوت الذي يرتفع كمثل النعيق، فليس المهمّ عندهم ما هو مضمون الصوت، ولكنّ المهم عندهم ما هو حجم الصوت في الصراخ الذي يتمثّل فيه، وفي ضخامة الموقع الذي ينطلق فيه، وفي طبيعة الشهوات واللذّات التي تتحرّك فيه.. ومشكلتهم الكبرى هي أنّ عقولهم في آذانهم وليست في رؤوسهم.
((يميلون مع كلّ ريح)). لأنّهم لم يثبّتوا أقدامهم على المحجّة الواضحة، ولم يصلّبوا مواقعهم في مواقع الحقّ، لذلك فلا أرض لهم يقفون عليها، والرياح تأخذهم من كلّ جانب:
إذا الريحُ مالت مال حيث تميلُ
فإذا كانت الريح يسارية كانوا يساريين، وإذا كانت الريح يمينية كانوا يمينيين، وإذا كانت الريح إسلامية كانوا مع الإسلاميين، وإذا كانت الريح علمانية كانوا مع العلمانيين، وهكذا تراهم يتقلّبون مع الرياح ولا يملكون أيّ تماسك قبالها ]مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ[(1).
((لم يستضيئوا بنور العلم)). لأنّ ظلمات الجهل أطبقت على كيانهم. ((ولم يلجأوا إلى ركن وثيق)). لأنّهم يعيشون في مواقع الزلزال والاهتزاز دائماً..
العلم والمال:
((يا كميل العلم خير من المال)). فالناس يطلبون المال، ويتقاتلون على المال، ويستنزفون أعمارهم كلّها في جمع المال، فتغدوا عقولهم نقوداً، وقلوبهم نقوداً، وشرايينهم نقوداً، كما قال ذلك الشاعر:
والذي حارت البرية فيه بالتآويل كائن ذو نقود
فكلّ ما عنده هو المال، ففكره وشعوره وإحساسه مالٌ في مال. والإمام(ع) يقول لكميل: ((العلم خير من المال)). فالمال هو ليس أنت، فهل هو عقلك؟ وهل هو قلبك؟ وهل هو إحساسك وشعورك؟ كلاّ، إنّه شيء يضاف إليك قانونياً.ولكنّ العلم هو أنت، وهو فكرك في عقلك، ووعيك في قلبك، وتجربتك في كيانك وحركتك. ولذلك فهناك فرق بين أن يكون الشيء في داخل ذاتك وبين أن يكون خارجها.
((والعلم يحرسك)). إذهب حيثما شئت، فالعلم عندما ينطلق منك فإنّه يحرس موقعك عندما يقبل الناس عليه، والعلم يؤكّد حركيتك. وهو يحرسك لأنّه يجمع قلوب الناس وعقولهم حولك، ويجعل حياتهم مشدودة إليك. عندما تتمثل حاجاتهم فيه لإدارة شؤون حياتهم، أو لحلّ مشكلاتهم، أو لرفع مستواهم الفكري والعملي. وهو معك ينفتح به عقلك، وينطق به لسانك، ويكبر به عند الناس موقعك، فيحرسك من كلّ الحاسدين والحاقدين، عندما يجتمع الناس عليك من خلال اجتماعهم عليه. ((وأنت تحرس المال)). فهل تحتاج إلى أن تضع العلم في داخل صناديق مقفلة؟ إنّ الأمر على خلاف ذلك، فكلّما نشرته أكثر، وأطلقته أكثر، انفتح أكثر وزاد أكثر. وأمّا المال فأنت تحتاج إلى ألف قفل وقفل، وإلى ألف حارس وحارس حتى لا يسرقه السارقون، في حين أن لا أحد يمكن أن يسرق العلم لأنّه يمثّل كيانك كلّه.
((المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق)). فكلّما صرفت منه أكثر نقص أكثر، أمّا في العلم فإنفاقه يعطيك نتائج أكبر وإبداعات أكثر. وتلك هي تجربة الإمام علي(ع) عندما قال: ((علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم فتح لي من كلّّ باب ألف باب)). فلم يكن علي(ع) ممن يحفظ العلم فقط، بل حفظه وانتج منه علماً كثيراً، لأنّ العلم الذي أخذه عن رسول اللّه(ص) انطلق به إلى مجالات وعوالم أخرى ومستقبل علميّ ينفتح على مجالات الحياة في أرحب صورها وأرقى تطوّراتها. ولذلك رأينا أن علم علي جديد متجدّد لم ولن ينتهي، بل إننا في كلّ هذا التطوّر العلمي نحتاج إلى أن نجلس إلى مائدة علي(ع) لنقول له: أطعمنا يا أمير المؤمنين فنحن نحتاج إلى طعامك.. الثقافي والروحي، وإلى تجربتك في هذا المجال..
((وصنيع المال يزول بزواله)). فالذي يعطي المال إلى شخص ما، فإنّه مادام يدرّ عليه نفعاً فإنّه يبقى معه، ولكن إذا انقطع عنه، انقطع خيط العلاقة به. أمّا صنيع العلم فباق حتى بعد زوال صاحبه.
العلم دين:
((يا كميل العلم دين يُدانٌ به)). وهذه من أروع الكلمات التي تؤكّد قيمة العلم، فالعلم هو الذي يعرّفك ربّك، وهو الذي يعرّفك دينك والناس من حولك، والحياة التي تحياها. ولذلك فالعلم هو الذي يحدّد لك مسؤولياتك في وعيها أمام اللّه والرسول والحياة كلّها، فالعلم دين يدان به. فلابد لك أن تلتزمه كخط للحياة وكطابع للشخصية وكالتزام للواقع، كما هو الدين تماما في التزاماته. ((به يكسب الإنسان الطاعة في حياته)). باعتبار أنّه يؤكّد للإنسان الخطّ المستقيم في هذا الاتجاه. ((وجميل الأحدوثة بعد وفاته)). عندما يترك علماً يتغذّى الناس به فيستفيدون منه ويتحسّسون صوره معهم بعد الموت من خلال حضور علمه الحيّ المتحرّك لديهم. ((والعلم حاكم)). لأنّه يبني العقل، ولأنّه يبدع الفكر، ولأنّه ينتج الحياة، ولأنّه يرفع مستوى الإنسان، ويتحرّك به في آفاق الإبداع، وهو حاكم لأنّه يسيطر على حركة الحياة، فالحياة بدون علم موت وجمود، ذلك أنّ العلم هو الذي يعطي الحياة حيويتها، وهو الذي يعطي الإنسان حركيّته، فهو يحكم والآخرون يخضعون له. أما ترون إلى العالم، اليوم كيف يخضع للعلم الذي أنتجه الإنسان؟! فنحن نخضع للعلم التأمّلي والتجريبي والتقني وغيره. والعلم هو الذي يحكم الحرب والسلم والاقتصاد والاجتماع وغيرها من شؤون الإنسان الحياتية، وهو الذي يضع القوانين والشرائع والبرامج والمناهج والوسائل والأساليب والأهداف، وهو الذي يمنح الإنسان القدرة على النفوذ إلى أسرار الكون ويساعده على تجاوز آفاقه.
((والمال محكوم عليه)) لأنّه يخضع للقوانين التي تحرّكه، ولحركية الاقتصاد هنا وهناك، ولكلّ شهوات الإنسان. وأمّا العلم فلا يخضع لأحد، بل هو يفرض الفكر حتى على الذين لا يؤمنون بالفكر، ويقتحم عقولهم ليفرض نفسه عليها. فأنت تجد أن العلم – في مدى التأريخ العلميّ كلّه – قد فرض نفسه على العقول كلّها، حتى أنّه إذا لم يقبل العقل علماً، فإنّ العلم يلاحقه ليدخل العقل، سواء أراد أو لم يرد.
((يا كميل هلك خزّان الأموال وهم أحياء)). فكم من الناس الذين يملكون الملايين ويخزنونها في صناديقهم أو مصارفهم، ولكن هل تحسّ أحداً منهم أو تسمع له ركزاً؟ إنّه مجرّد رقم من الأرقام ليس الاّ، فخزّان المال يجمعون أرقاما ويتحولون إلى رقم. ألا تسمعون بعض المصطلحات المتداولة في السوق التجارية التي تقيّم الإنسان على قدر ما يملك من المال فيقول أحدهم: كم يساوي فلان؟ وذلك يعني كم لديه من المال؟ فهو يمثل الرقم لا الإنسان، لأنّه يُقيّم إيجاباً أو سلباً بمقدار ارتفاع الأرقام أو انخفاضها. ولكن قيمة العالم هي ما قاله علي(ع) في موضع آخر ((قيمة كلّ امرئ ما يحسنه)). فالعلم هو القيمة.. قل لي كم هو علمك؟ أقل لك كم هي قيمتك؟ لأنّ العلم هو أنت، وأمّا المال فهو شيء يشتريك وتشتريه.
((والعلماء باقون ما بقي الدهر)). فهل يشعر أحدكم أن علياً(ع) في عداد الأموات؟ إن حضوره أقوى من حضور كلّ هؤلاء الذين يملكون الدنيا وما فيها مالياً واقتصاديا. وأنا لا أستطيع أن أتصوره - حتى مجرد تصوّر – وأنا في زيارة مرقده الشريف – أنه مدفون في هذا القبر، لأنّني أشعر أن علياً(ع) معنا بكلّ حيوية علمه ومعرفته باللّه وسيرته.
((أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة)). فهم غائبون عن عالم الحس، وهم حاضرون في عالم المعنى والفكر والمثال. فهل تشعر بفراغ في قلبك بفقدهم؟ إنّهم – أي العلماء – يعيشون في قلوبنا كمثل الضوء الذي يشرق في القلوب. وعلي(ع) هو من هو في العلم ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)). هو الذي يشرق في عقولنا فكراً، وفي قلوبنا حقّاً، وفي حياتنا خيراً ومحبّة.
مأساة العلماء:
ثم يقول وهو يتنفّس الصُّعداء ((ها، إنّ ههنا لعلماً جمّاً)) (وأشار إلى صدره). إنه يعيش مأساة العلم الذي امتلأ صدره به، والصدر هنا كناية عن منطقة الوعي الداخلي. إن علياً(ع) يريد أنّ يقول إنّ علمه يمكن أن يرفع مستوى كلّ هؤلاء الناس، وأن يطلق التقدّم الفكري والروحي والحياتي فيما يعيشه الناس من ذلك كلّه. ولكن أين المشكلة يا أمير المؤمنين؟
((لو أصبت له حَمَلة)). ألتفت يمينا والتفت شمالا فلا أجد من يحمل هذا العلم. أقول لهم ((سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّي بطرق السماء أعرف منّي بطرق الأرض)). وينبري إليّ شخص، ويقول: ((كم شعرة في رأسي؟)). هل هؤلاء هم الذين يحملون علم علي(ع)؟! ثم يصف الناس الذين حوله، وكانت مأساة علي(ع) في مجتمعه، منذ عهد رسول اللّه(ص) إلى أن استشهد، أكثر من مأساته(ع) في الحروب التي واجهته.
((بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه)). ممن يفهم بسرعة ((مستعملاً آلة الدين للدنيا)). وكم من أمثال هؤلاء عندنا؟! يفتح بعضهم للدين دكاناً فيه بعض بضاعة العلم ليبيع ويشتري. ((ومستظهراً بنعم اللّه على عباده وبحججه على أوليائه)). فإذا أنعم اللّه عليه بعلم فإنّه يحاول أن يستعلي على الناس بقوله: أنا العالم وأنتم الجهلة.. أنا لا أحتاج إلى عقل ولكنني أوزّع عقلي على الناس كلّهم، فيعمل على أن يتحرّك في استعلاء الذات باسم العلم في حال انتفاخ للشخصية.
((أو منقاداً لحملة الحقّ لا بصيرة له في أحنائه)). هو مؤمن لكنّه بسيط ساذج لا عمق له في وعيه وفهمه للأمور، ولكنّه مقلّد في القول والعمل فلا يملك قوة في البصيرة في دقائق الحقّ وخفاياه. ((ينقدح الشكّ في قلبه)) لأنّه لم يتعمّق فيما سمعه من حَمَلة الحقّ، فإذا جاء أيّ إنسان إليه، وعرض عليه ما يبلبل فكره، فإن الشك ينقدح في قلبه ((لأول عارض من شبهة)). فهو لا يملك العلم الذي يوازن به الأفكار والأوهام التي تأتي إليه، والشبهات التي تزحف على فكره. ((ألا لا ذا)). لا الذي يستعمل آلة الدين للدنيا. ((ولا ذا)). الذي لا بصيرة له. ((أو منهوماً باللّذة)) فلا شغل لديه إلا إشباع لذّته. ((سلس القياد للشهوة)). وهذه هي صفات مجتمع الإمام علي(ع) في كثير من نماذجه آنذاك ((أو مغرما بالجمع والادخّار)). فهمّه أن يجمع المال من هنا وهناك ويدخره. ((ليسا من رعاة الدين في شيء)) فلا علاقة لهم بالدين. ((أقرب شيء شبهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه)). والمراد بالموت هنا الموت في الدنيا عندما لا ينفتح الناس على العلماء، كما يعني موقعهم الهامشيّ في مجتمعاتهم.
ليس من مات فاستراح بميت إنّما الميت ميّت الأحياء
إنّما الميت من يعيش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء
ثم يستدرك الإمام(ع): ((اللّهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة)). فهناك القلائل من الذين كانوا حول علي(ع) ممن درسوا فكره وعاشوا روحانيته وانطلقوا في رسالته. ((إمّا ظاهراً مشهورا)). ممن يعرفه الناس ((أو خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج اللّه وبيّناته)). من خلال الضغوط المطبقة عليه من الظالمين. فلا بدّ أن يبقي اللّه في كلّ زمن ومرحلة من المراحل من يقول بالحجّة التي يحتجّ بها على الناس، ((وكم ذا وأين أولئك؟)). إنني أبحث عنهم وأفتشّ فلا أجدهم. ((أولئك واللّه الأقلّون عددا والأعظمون قدرا، يحفظ اللّه بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة)). فعندما أخذوا العلم انطلقوا به نحو الحقيقة التي تنفتح بهم على آفاقه كلّها. ((وباشروا روح اليقين)). ووصلوا به إلى درجة اليقين باللّه سبحانه وتعالى وبدينه وحقائقه كلّها. ((واستدانوا ما استوعره المترفون)). أي شعروا بلين الوسائل والطرق التي توصلهم إلى الحقيقة، والتي شعر المترفون بوعورتها فلم يسيروا فيها ((وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون)). انسوا بالحقيقة وبالعلم ((وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمثل الأعلى)). فلقد عاشوا في الدنيا بأبدانهم ولكنّ أرواحهم معلّقة بآفاق اللّه في المحلّ الأعلى. ((أولئك خلفاء اللّه في أرضه، والدعاة إلى دينه. آه آه شوقاً إلى رؤيتهم)). لأنّ علياً(ع) يعيش مع هذه النفوس والأرواح والعقول، وتلك هي مشكلة كلّ عالم رساليّ عندما يعيش بين الهمج الرعاع، ويتحرّك بين من هم رعاع العقول وإن كان في عقولهم بعض العلم الذي لم ينفذ إلى أعماقهم، ورعاع القلوب الذين يعيش الحقد في قلوبهم، ورعاع الواقع الذين يهدمون الواقع على رؤوس الناس شفاء لغليلهم وأحقادهم.
ثم قال لكميل بعد ذلك: ((انصرف إذا شئت))(2). شقشقة هدرت ثم قرّت، وكم هي شقشقات علي(ع) الذي كان يعيش عمق المأساة، مأساة العالم الذي يبحث عن حَمَلة ولا حَمَلة. والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة السادسة والعشرون: 23صفر 1421 ه المصادف 27/5/ 2000م
على ضوء (نهج البلاغة):
الفتنة والموقف منها
عندما يؤخذ
شيء من الحق
وشيء من الباطل
.. تكون الفتنة
تهنئة بانتصار المقاومة الإسلامية
ومع علي(ع) مرّة أخرى
فتنة رفع المصاحف
دراسة الفتنة
فتنة التحكيم
كلمات الحقّ التي يراد بها باطل
الموقف من الفتنة
مشكلة الحياديين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تهنئة بانتصار المقاومة الإسلامية:(*)
في البداية نحبّ أن نثير هذا النصر الإسلاميّ الكبير الذي سجّله المؤمنون المجاهدون لأولّ مرّة في تأريخ الصراع العربي – الصهيوني على (إسرائيل) وعلى عملائها، حيث أنّها كانت تفكّر أن تخرج خروجاً سياسياً على أساس المفاوضات، ليكون خروجها مع حفظ ماء الوجه، ولتعلن أنّه تمّ على أساس اتفاق مع لبنان، ولكن المجاهدين حاصروها في احتلالها فحوّلوه إلى مأزق أمنيّ في منطقة الاحتلال، وإلى مأزق سياسي في داخل فلسطين، بحيث أنّ شعار المرشحين في الانتخابات الأخيرة كان الانسحاب من لبنان، فكانوا يتقرّبون للمنتخبين بأن يعدوهم بالانسحاب من لبنان حتى يحصلوا على أصواتهم. وقد تحدّث أكثر من مسؤول صهيوني حول هذا الموضوع، فقد سمعنا قبل أسبوعين أحد الوزراء يقول: إننا نخيّر أنفسنا بين الطاعون والكوليرا، فالبقاء في لبنان طاعون والانسحاب كوليرا، والكوليرا يمكن أن تداوى ولكن الطاعون لا يمكن أن يداوى. وكما صرّح (باراك) بالقول إنّنا ننسحب للخروج من المأساة، وفي حديث آخر له مع جنوده: إننا نخرج من الجحيم.
وقد استطاع المؤمنون ومعهم الشعب الجنوبيّ الســائـر فـي خــطّ أهل البـيـت(ع) أن يُربكوا العدو وعملاءه حيث اندفعوا اندفاعاً جعلهم يتساقطون كما يتساقط الذباب، وسارع الإسرائيليون إلى الانسحاب في وضع يمثّل الهزيمة المنكرة. وقد تحدّثت صحفهم وسياسيوهم عن هذه الهزيمة.
إنّ هذا الانتصار الكبير هو انتصار للإسلام وللمسلمين، لأنّ الذين تحرّكوا وجاهدوا واستشهدوا كانوا ينطلقون من خلال إيمانهم باللّه، ومن خلال رسالتهم الإسلامية الإيمانية، ومن خلال كربلاء في إيحاءاتها كلّها ومعانيها كلّها وأهدافها كلّها، ولذلك فإنّنا نقدّم هذا النصر للمسلمين جميعاً، وللعرب جميعاً، وللفلسطينيين الذين نريدهم أن ينهجوا هذا النهج، لأنَّ المفاوضات لم تستطع أن تحقّق لهم شيئاً.
وعلينا أن نأخذ من ذلك درساً للمستقبل، وهو أنّ المؤمنين إذا أصرّوا على مواقفهم، وإذا كانوا واعين للمسألة السياسية والأمنية فإنهم يستطيعون أن يحقّقوا الكثير الكثير من الإنجازات السياسية والعسكرية، كما حقق المؤمنون في جنوب لبنان الكثير الكثير من هذه الإنجازات.
إنّنا نريد أن يتحقّق هذا الانتصار في أكثر من بلد إسلاميّ ولاسيما في فلسطين التي يسيطر عليها اليهود بالتحالف مع الاستكبار العالمي، وفي العراق الجريح الذي يعيش أهله في الداخل وفي الخارج أقسى ألوان المأساة ]وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ^ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[(1).
ومع علي(ع) مرّة أخرى:
وفي هذا اللقاء نستمرّ مع الإمام علي(ع) في نهج بلاغته لنلتقط عدّة نصوص تمثّل بعض المفاهيم التي تعيش في واقعنا العام والخاصّ، والتي حاول الإمام(ع) أن يوضّحها حتى يعرف الناس خطوطها وملامحها.
والمفهوم الأول الذي سنتناوله هو مفهوم (الفتنة)، فكيف تحدث الفتنة في المجتمع؟
إنّ الإنسان بطبعه يرفض الباطل عندما يراه باطلا بشكل داخلي، ويقبل الحقّ عندما يراه حقّاً بشكل واضح. فمن أين تأتي الفتنة؟ سواء كانت فتنة تحمل عناوين دينية، أو عناوين سياسية أواجتماعية أو أمنية؟ وكيف يندفع الناس للسير وراءها والسقوط في نتائجها السلبية؟
إنّ الإمام علي(ع) يحاول أن يحلّل ذلك، فيقول: ((إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتّبع)) بحيث يتحرّك في إشعالها أهل الأهواء ليحوّلوا أهواءهم إلى أمنيات وشعارات وخطوط في المواقع الاجتماعية والسياسية. ((وأحكام تبتدع)). فتنطلق البدعة التي تتبنّى أحكاماً لم يشرّعها اللّه ورسوله فتأخذ معنى الجدّة في أذهان الناس، ومن عادة الناس أنّهم يحبّون الجديد حتى، لو كان في خطّ الانحراف.
((يخالف فيها كتاب اللّه، ويتولّى عليها رجال رجالاً)). فيدفع الرجال الرجال ليحرّكوهم نحو إشعالها وتأجيجها على غير دين اللّه ((فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين)). والمرتادون هم الطالبون للحقيقة. ((ولو أنّ الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث)). والضغث هو قبضة من حشيش يختلط فيها الرطب مع اليابس. ((فيمزجان، فهناك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى))(2).
إنّ الإمام(ع) يريد أن يؤكّد في هذا النصّ على أنّ الذين يصنعون الفتنة ويحرّكونها يحاولون أن يمزجوا بين الحقّ وبين الباطل، فيعطوا الكلمة أو الحركة أو الخطّ شيئاً من الحق وشيئاً من الباطل فيمزجون بينهما، حتى يرى الناس في شعارات الفتنة بعض الحقّ فيتبعونها على هذا الأساس، وقليلاً ما يدقّق الناس ليفحصوا مفردات الحقّ في عناوين الفتنة ومفردات الباطل. وبهذا تتحرّك الفتنة، وهذا ما عاشه الكثير من الناس في الماضي والحاضر
فتنة رفع المصاحف:
فنحن نقرأ في واقعه (صفين) أنّ الحرب كانت إلى جانب الإمام علي(ع) وكان النصر له، ولكن كان هناك في جهاز معاوية من حاول أن يثير الفتنة في صفوف جيش الإمام علي(ع) فاقترح مسألة رفع المصاحف، وتحدّثوا مع الناس بقولهم: من لثغور الإسلام؟ والثغور ليست همّاً وإنّما ذريعة، ولذلك قالوا: تعالوا إلى كتاب اللّه ليحكم بيننا وبينكم. وهنا أراد معاوية أن يتفادى الهزيمة بوضع الخطّة على أساس رفع المصاحف ودعوة الناس إلى تحكيم كتاب اللّه. والإمام علي(ع) يقول لهم إنّ القوم لا يرتبطون بأي رباط بكتاب اللّه عزّ وجل، ولكنّ عنوان الحقّ هذا استطاع أن يسيطر على وجدان الناس هناك، حتى فرضوا على علي(ع) أن يوقف الحرب، وأن يستدعي (الاشتر) الذي كان قد وصل إلى أبواب مصر.
فالخطّة هي خطّة باطل، ولكنها أعطيت عنوان الحقّ فتلبّست بلبوسه. ومن هنا نجد أن الكثير من الناس قد يدفعون بالكثير من الافكار المنحرفة من خلال عناوين جذّابة. فنلاحظ مثلاً – أنّ الذين أحبّوا علياً(ع) والأئمة من أهل بيته(ع) قد اندفع اليهم قسم من الناس أدخلوا في هذا الخطّ الكثير من حالات الغلوّ باسم محبّه أهل البيت والدفاع عنهم وما إلى ذلك، حتى قال علي(ع): ((هلك فيّ إثنان محبّ غال ومبغض قال)). لأنّ الأئمة(ع) كانوا لا يريدون للمسلمين أن يزيدوا أيّ شيء في العقيدة بحيث يدخل الغلو في عقيدتهم.
إنّها فتنة ولكنّها فتنة أخذت عنوان الحقّ، فلقد مزج الباطل بالحقّ لدرجة انطلائه على الناس، فإذا أراد إنسان أن يقف ضد هذا الباطل أو ذاك ليكشف أو يفرز بين حقيقة الحق وبين بطلان الباطل لوّحوا له بالحقّ واتهموه بأنّه يقف ضد الحق. والفتن عندما تنطلق فإنها تصنع حالة من الجنون الشعوري بحيث لا تجد من يستمع إلى وجهة نظر أو رأي أو حوار هنا وحوار هناك. لكنّ العناوين التي تستعمل لايجاد عنصر من عناصر الاثارة هي التي جعلت الذهنية لا تفكّر بالمسألة في إطارها الشرعي بقدر ما تفكّر بها في إطارها العرفيّ، حتى يثار الناس ضد الذي يحاول أن يضع الحقّ في نصابه ويخلّصه من مزاج الباطل.
لذلك فإن الإمام(ع) عندما يقول: ((إنّ الباطل لو خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين)). فلأنّهم يشخّصونه جيداً فلا يلتبس عليهم ((ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين)). ولكان كلّ الناس أتباعه، ولكن عندما يؤخذ شيء من الحق وشيء من الباطل، فهناك تكون الفتنة.
دراسة الفتنة:
فماذا يريد الإمام علي(ع) أن يقول لنا من خلال هذا التحليل؟ فدوره(ع) ليس دور المحلّل فقط، بل هو دور الرائد والموجّه والناصح والداعية والرسالي. فهو يريد أن يقول عندما تكون هناك فتنة أدرسوها، سواء كانت سياسية تنطلق من بعض الشعارات السياسية البرّاقة التي تهدف إلى خدمة بعض الخطوط التي ليست في مصلحة الشعب، أو فتنة إجتماعية تحاول أن تعطي عناوين كبيرة في المجتمع من قبيل وحدة المجتمع، وما إلى ذلك من عناوين يراد بها تغطية بعض الأمور التي تسيء إلى الواقع الاجتماعي.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الفتن الدينية وما أكثرها، خصوصاً مع اختلاف المذاهب الإسلامية وتباين الخطوط في المذهب الواحد، التي تجعل بعض المسلمين – كما هو الحال اليوم – يكفّرون بعضهم بعضاً باسم الحفاظ على الدين، وهم لا يميّزون بين الكفر وبين الإيمان، أو يضلّلون بعضهم بعضاً وهم لا يفهمون خطّ الهدى من خطّ الضلال، انطلاقاً من العناوين الكبيرة التي تخفي في داخلها عصبيات مذهبية أو طائفية أو شخصية أو مرجعية وما إلى ذلك.
فعندما ندرس هذه الفتن في مجتمعنا، ونحن الشرقيين والمسلمين بشكل خاص نتحرّك مع الفتنة بنحو جنونيّ من دون وعي ولا تفكير بمنشئها وعواقبها. والإمام(ع) يقول لنا إنّكم عندما تواجهون أيّة فتنة لا تنفعلوا بها ولا تنجذبوا إليها، ولا تلهبكم شعاراتها، ولكن ادرسوها: ادرسوا عناصرها.. كيف يتحدّث أصحابها؟ وادرسوا عناصر الشخصية لدى أصحابها.. هل هم من الأشخاص الذين يؤتمنون على الدين والسياسة والاجتماع، أو أنّهم أشخاص لا أمانة لهم في ذلك كلّه. حاولوا أن تواجهوا الفتنة بعقلانية، والعقلانية تقتضي أن تحسب حسابات دقيقة في كلّ الخطوط التي تتحرّك بها الفتنة، فإذا عرفتها واستطعت أن تميّز الحق فيها من الباطل استطعت حينئذ أن تحدّد موقفك لتعرف طبيعتها جيداً.
وهذا يحتاج – أيّها الأحبّة – إلى أن نربّي أنفسنا على أساس الموضوعية لا الانفعالية – فمشكلتنا هي أنّنا انفعاليون في البيت وفي السوق وفي النادي وفي أماكن العمل وفي الواقع الاجتماعي والسياسي. ونحن انفعاليون لأنّنا عصبيون، ولذلك نحتاج إلى نوع من العقلانية بأن نفكّر بالعقل البارد، لأنّ مشكلة العقل الحارّ هي أن الحرارة تحجبه بأبخرتها فلا يعود يرى شيئاً، والعقل الحارّ محجوب بأبخرة العصبيات والانفعالات والحساسيات فلا يفهم شيئاً. لذلك ندعو دائماً إلى التفكير بالعقل البارد الذي يتحرّك على أساس معادلات رياضية كما في (1+1=2). ولكن في العصبية والانفعال تنقلب المسألة فيصبح (1+1=5) أليس الكثير من الناس يفكّرون بهذه الطريقة؟!
إن الإمام علي(ع) عاش الفتن وكان ضحيّتها وواجهها في زمن رسول اللّه(ص) عندما كان الإسلام يواجه الفتن الكبرى، وواجهها بعد رسول اللّه(ص) وكان ينتقل من واقع تحرّكه الفتنة إلى واقع تسقطه الفتنة. وكان ضحيّة كلّ تلك الفتن، ولذلك وقف ليتحدّث بكلّ مرارة لأنّه كان يعرف الحقيقة جيداً، وكان يقول للذين لا يملكون وضوح الرؤية للأشياء ((قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)). فهل نكون عقلانيين أو نبقى انفعاليين؟
إن العالم اليوم عالم عقل.. عقل يخطّط للسياسة وآخر يخطّط للاخلاق، وعقل يخطّط للاجتماع، وعقل يخطّط للأمن. فالآخرون يخطّطون ونحن نصرخ ونهتف وننفعل، فكيف يمكن أن تتمّ المعادلة والبون بين التخطيط والصراخ شاسع جداً؟
فتنة التحكيم:
وهناك كلمة أخرى قالها الإمام علي(ع) انطلقت من خلال فتنة التحكيم. فلقد ضُغط عليه(ع) بقبول التحكيم بعد رفع المصاحف، وحاول أن يوجّه القوم الوجهة الصحيحة فلم يقبلوا، ورأى أنّه لو أستمرّ على رفضه لانطلقت الفتنة في الجيش وانهزم من دون حرب. وهذا ما كان يريده معاوية ويخطّط له، لذلك اقترح(ع) شخصاً ليكون الطرف الذي يمثّله فلم يقبل، فكانت النتيجة أنّهم فرضوا شخصاً آخر لم يكن يمتاز بالرؤية الواضحة والحكمة والعمق المطلوب في مثل هذه الأمور، ولذلك تغلّب عليه الطرف الآخر. وعندما واجه الإمام(ع) المتحمّسين لقبول التحكيم، قالوا له لقد اخطأنا وكفرنا عندما حكّمنا الرجال في دين اللّه وهم (الخوارج) وأرادوا منه أن يعترف أنّه هو أيضاً أخطأ وكفر، وأن يتوب من كفره، فأيّة مأساة هي هذه؟!
وانفصلوا عن الجيش وقالوا: ((لا حكم الاّ للّه)). وهذه هي الفتنة التي تتمخض عن الشعارات المغّلفة، فمن الذي يمكن أن ينكر هذا الشعار ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ[(3).].. الظَّالِمُونَ[(4).]..الْفَاسِقُونَ[(5). ولقد علّق الإمام علي(ع) على ذلك، وقال لهم لا تنظروا إلى طبيعة الشعار، ولكن أدرسوا ما هو الهدف الذي يقصده طارحو الشعار؟ وكيف يفكّر الذين يطرحون الشعار في الخطوط التي تتحرّك في داخل الساحة؟ فلا يكفي أن تأخذ الشعار بالعنوان الكبير، فلابدّ أن تنفذ إلى داخله لتتعمّق في مراميه. ولذا قال(ع) ((كلمة حقّ يراد بها باطل)). وليس أروع من هذه الكلمة في تشخيص الفتنة والتلاعب بالعناوين، فلا يكفي أن تكون الكلمة حقّاً لتزحف نحوها ولتؤيدها ولتتفاعل معها، بل لابدّ لك من أن تعرف من أين انطلقت هذه الكلمة التي هي كلمة حق؟ ومن أي فهم تحرّكت؟ وإلى أيّ هدف تريد أن تصل؟
((نعم لا حكم إلاّ للّه)) فمن ينكر أنّ الحكم للّه من يقول بالحكم لغيره؟ ((ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة الا للّه)). فهناك فرق بين الحكم بمعنى التشريع والمنهج، وبين الإمرة بمعنى إدارة شؤون الناس. فاللّه سبحانه وتعالى يحكم ولا رادّ لحكمه، بمعنى أنّه ينزل على نبيّه ما يريده من الناس مما يأمرهم به وما ينهاهم عنه، ولكن من الذي يقود الحكم الشرعيّ في حركة واقع النظام الاجتماعي والسياسي والأمني؟ فلابدّ من أمير يقوم بهذه المهمّة، ولذلك، فالقول ]إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ[(6). لا يعالج المشكلة بل على العكس يعقّدها، فقد طلبوا من الحكمين أن يحكّما كتاب اللّه وسنّة نبيّه ولكنهما انحرفا عنهما. فنحن لا نرفض حكم اللّه لكن الذي قرّر تحمّل المسؤولية في التحكيم لم يتحمّلها، فالمجتمع بدون قائد يتحوّل إلى فُوضى لأنّه ليس هناك من يضبط للناس أهواءهم ومصالحهم ويركّز حركتهم باتجاه الحق والعدل.
يقول:(ع): ((ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلاّ للّه)). أيّ أنهم يتصورون أنّ اللّه تعالى هو الذي يمارس الحكم بنفسه على الناس مباشرة، وأن ليس هناك حاكم من البشر حتى ولو كان هذا الحاكم مفوّضاً من قبل اللّه سبحانه وتعالى، ولكن الإمام علي(ع) صحّح لهم المفهوم، فقال: ((وانه لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر)). فالإمام(ع) يركّز على حفظ النظام مما يجمع عليه الفقهاء، ولذلك فإنّ الكثير من الأمور التي لم يرد في وجوبها نصّ يجب الإتيان بها لعلاقتها بحفظ النظام. فلابد إذن من حاكم يدير الأمور، لأن طبيعة المجتمع تحتاج إلى قيادة من أجل تنظيمه، وقد تكون القيادة صالحة وقد تكون فاسدة لكن لابدّ منها. ((يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ فيها الأجل، ويجمع به الفيء أو يقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برّ أو يستراح من فاجر)). فلا يمكن أن نقول: لا إمرة إلاّ للّه بحيث نرفض أن يدير أمير من البشر أمور الناس، في حين أنّها من واقع طبيعة النظام العام الذي يراد له أن يوازن حياة الناس.
وفي رواية اخرى، أنّه لمّا سمع تحكيمهم، قال: ((حكم اللّه أنتظر فيكم)). لأنّكم انحرفتم عن الخطّ، فلابدّ من أن أنزّل فيكم حكمه لترتدعوا. ((أمّا الإمرة البرّة فيعمل فيها التقيّ، وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي إلى أن تنقطع مدته وتدركه منيّته))(7).
كلمات الحقّ التي يراد بها باطل:
ومن خلال هذه الكلمة أيضاً نأخذ الفكرة التالية: لقد ذهب الخوارج في التأريخ ولاقوا وجه ربّهم، ولم يبق منهم إلاّ القليل القليل في عصرنا الحاضر، ولكن تبقى كلمة علي(ع) حيّة خالدة: ((كلمة حقّ يراد بها باطل)). فالكثير من الناس قد يطلقون كلمة الحقّ ليزحف الناس وراءهم، ولكن الإمام(ع) يدعونا إلى دراسة هؤلاء الذين يقولون كلمة الحق ونقف عندها، لنعرف كيف يفهمونها؟ وكيف يتصورونها؟ وما هو الهدف الذي يقصدونه من إطلاقها؟ فلا ننظر إلى كلمة الحقّ ونقف عندها، بل إلى الهدف الذي يقصده مطلقوها من خلال طرحها على بساط الواقع. وهذا يتطلّب وعياً كبيراً بأن تفهم شخصية صاحب الكلمة، وأن تفهم الخط الذي يتحرّك فيه، وأن تفهم طبيعة الواقع الذي تعيش فيه، والهدف الذي تسعى اليه. وهذا تلخّصه كلمة أن يكون للمجتمع وعي يفهم به خلفيات الأمور ولا يقتصر على ظواهرها، وأن يفهم نهاياتها ولا يقف عند بداياتها. ومشكلتنا أنّنا نتعلّق بالبدايات ونعمى عن النهايات، وأنّنا ننظر إلى السطح دائماً ولا ننظر في العمق. وهناك تعبير دارج يقول: ((إقرأ الممحي)). فلابدّ لنا في الكثير من الحالات أن لا نقرأ الكلمات المكتوبة، بل نعمد إلى قراءة الممحي لأنّ الحقيقة قد تكون فيه. وهناك تعبير يدلّ على هذا المعنى أيضاً، فيقال: ((فلان يقرأ ما بين السطور)). أي يقرأ الفراغات التي بين السطور، لأنّ الحقيقة ربّما تكمن هناك، ولأنّ المستكبرين والظالمين والمنحرفين يضعون عادة خططهم الخبيثة بين السطور.
وهناك كلمة لعلي بن ابي طالب(ع) .. وعلي(ع) هنا .. في كلماته الخالدة التي هي في دورها تماثل ضربة (مرحب) وضربة (عمرو بن عبدودّ العامري) فتلك الضربة أدّت مسؤوليتها في التأريخ، وهي ضربة عظيمة حفظت الإسلام، لكنّ هذه الكلمات تمثّل الضربة الفكرية للباطل، والضربة الروحية لصالح الحقّ، فإنّها تبقى ما بقي الحقّ والباطل، وما بقي الإنسان في مدى الدهر.
فإذا كنتم من أتباع علي(ع) وعليّ ليس عنده إلاّ الإسلام فأدخلوا علياً(ع) في عقولكم، ومن خلالها أدخلوه في قلوبكم، حتى لا يظلّ مجرد خفقة قلب وإنّما حركة عقل، فعليّ(ع) كان عقلاً كما لا عقل مثل عقله بعد رسول اللّه(ص). فلنكن ممن ينفتحون على هذا العقل لننير عقولنا بنور عقله الذي أنار الكون كلّه.
الموقف من الفتنة:
فحينما يتحدّث الإمام علي(ع) عن موقع الإنسان في الفتنة فإنه يعني بها الفتنة التي تفسّر بتفسيرين: فهي إمّا صراع بين أهل الباطل، كما نلاحظ ذلك الآن في الكثير من المعسكرات والمحاور الدولية وغير الدولية، أو هي صراع لا يعرف فيه وجه الحقّ من الباطل، فقد يكون أحد الطرفين على الحقّ والآخر على الباطل، ولكن هناك حالة ضبابية يصعب فيها الفرز.
فالإمام علي(ع) يقول عندما تحدث فتنة وأنت تعيش في ساحة يتحرّك فيها الصراع ويحتدم بين باطلين أو بين فريقين لا يعرف لأيّهما الحقّ، فكيف يكون موقفك؟ يقول:(ع) واعظاً: ((كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب))(8). وابن اللبون هو ابن الناقة إذا استكمل سنتين، فلا يمكن أن تركبه لأنّ ظهره ضعيف لا يتحمّل الركوب، ولا يمكن أن تحلب ضرعه لأنّه صغير ولأنّه ولد لا ضرع له، فلا تدعنّ أحداً من أصحاب الفتنة أن يتخذ منك مطيّة، أو يستفيد منك كما يستفيد الإنسان من حليب الناقة. أي كن في أجواء الفتنة حياديّاً.
ونحاول هنا التوسّع في هذه الكلمة، إذ كيف يمكن للإنسان في الواقع أن يكون حيادياً؟ إنّ الإمام علي(ع) يعالج القضية من حيث المبدأ، ولكن في بعض الحالات قد يتنازع إثنان من أهل الباطل وتكون قوة أحدهما أخطر على الحقّ من الآخر. ففي بعض الحالات يتطلّب الأمر أن لا تدخل في المعركة لتكون مع هذا ضد ذاك كقضية تؤمن بها، ولكن حاول أن تتحرّك بالطريقة التي تضعف فيها الأخطر، وأمّا إذا استطعت أن تسقطهما جميعاً، وكلاهما باطل، فهذا أمر حسن. وأمّا إذا لم تستطع اسقاطهما فعليك أن تضعف الأخطر على مصالح الأمّة.
أمّا إذا كانت المعركة بين فريق حق وفريق باطل، وبين ظالم ومظلوم فلا حياد، بل عليك أن تكون مع فريق الحقّ ضد الباطل، ومع فريق المظلوم ضد الظالم، وهذه هي نصيحة الإمام علي(ع) لولديه الحسن(ع) والحسين(ع): ((كونا للظالم خصماً وللمظلوم عونا)). ومن الطبيعي أنّ هذه المسألة تفرض عليك أن تعلن موقفك مع المظلوم ضد الظالم، لأنّ ((الساكت عن الحقّ شيطان أخرس)).
مشكلة الحياديين:
وقد تحدّث الإمام علي(ع) عن الحياديين الذين وقفوا على الحياد بينه وبين معاوية، فقال: ((إنّهم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل)). لأنّهم منعوا الحقّ قوّتهم، وأنت عندما تمنع الحقّ قوتك وتخذله فإنك تكون قد أضعت الحق ونصرت الباطل نصراً سلبياً. فهناك طريقتان لنصر الباطل: فإمّا أن تحارب معه، وإمّا أن لا تحارب مع الحق، لأنّ الحق إنمّا يكون قوياً بمشاركة المؤمنين في نصرته والدفاع عنه، فإذا انفصلوا عنه أضعفوه، وعند ذلك يقوى الباطل بضعف الحقّ. ولهذا نقول دائماً إنّ الأكثرية الصامتة تتحمّل المسؤولية لأنّها هي التي تخذل الحقّ. وهذا ما ينبغي لنا أن نواجهه عندما نواجه القضايا الكبرى للامّة كقضية (إسرائيل) التي تمثل سرطاناً في جسم الأمّة العربية والإسلامية كلّها. فعندما تقف الأكثرية الإسلامية والأكثرية العربية الصامتة موقفاً سلبياً لا تشارك في أيّ شيء، فإن معنى ذلك أن (اسرائيل) تقوى بضعفنا، فهي ليست قوية بالمستوى الذي تمثل الدولة التي لا تقهر، ولقد رأينا كيف قهرها – في حجم المعركة الدائرة – المجاهدون المؤمنون في لبنان. ولكن عندما تسكت أكثرية المسلمين وأكثرية العرب، فمن الطبيعي أن يكون الكيان الصهيوني قوياً بقوّته وبقوة الغرب الذي يمدّه بأشكال الدعم، حتى أنّ أميركا تعتبر أنّ الأمن الصهيوني هو أمن أميركي.
فعندما نكون أمّة فلابدّ أن نتحرّك جميعاً في قضايا الأمّة، ولا مجال هناك للحياد، فالمحايد الذي يملك أن يتحرّك في أي موقع ولا يتحرّك هو خائن يخون أمّته وقضيته. ومشكلتنا فيمن يرون ظلامة هذا وظلامة ذلك أنّهم لا يقفون مع المظلوم، فالأكثرية عندنا مع الاسف – ولست في موقع اتهام أحد – على طريقة ذاك الذي حضر معركة صفين فكان يصلّي خلف علي(ع) ويتغدّى مع معاوية وعندما تنطلق، المعركة يجلس على التلّ، وينقل عنه أنه، قال: الصلاة خلف علي أقوم، والطعام عند معاوية أدسم، والجلوس على التلّ أسلم. فكم هم الجالسون على التلّ؟ والذين يحبّون الطعام الدسم؟ وقد يصلّون الصلاة الأقوم ولكن من دون روح، ذلك أن قيمة الصلاة في انّها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
أيّها الأحبة: هذا هو كلام علي(ع) وكما سمعتم فإنّه كلام يدخل في عمق نسيجنا الثقافي والاجتماعي والسياسي والأمني، فهل تريدون أن تـكونـوا مع عــلي(ع)؟ فإنّ علياً(ع) هنا.. في هذه الكلمات المضيئة. ولو أنّ علياً(ع) بكلّ هذا الحق الصلب الذي جاء به، والذي يمكن أن يخسرنا الكثير من شهواتنا ومطامعنا ومواقفنا، ويقف ضد الكثير من عصبياتنا وحساسياتنا، لو أنّه رشّح للانتخابات – على سبيل الفرض – فكم من الأصوات سوف يحصل؟! لا تظنّوا أنّ الناس سوف تصوّت لصالحه، وقد عبّر هو(ع) عن ذلك ((ما ترك لي الحق من صديق)). والذين لم يحبّوا الحقّ في ذلك الوقت لا يحبّونـه الآن، والذين لم يروا عــلم عــلي(ع) وبطولته وإخلاصه وعظمته بعد رسول اللّه(ص) سوف لا يرونها الان. فنحن مع علي(ع) لأنّه في التأريخ ولا نقبل أن يزورنا في واقعنا، فضلاً عن أن يحيا بيننا، لأنّه سوف يخلق لنا الكثير من المشاكل، كما قد يخلق لنا المشاكل الكثيرون ممن يسيرون في خط علي(ع) ونحن نرجمهم بالحجارة.. بحجارة عصبياتنا وجهلنا وتخلّفنا وشهواتنا.
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنّني ذكرت عــليــــــا
والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة السابعة والعشرون: 1ربيع الأول 1421 ه المصادف 3/6/ 2000م
أحاديث الرضا (ع) في
العقيدة والتفسير والأخلاق
أمر أهل البيت(ع) هو الإسلام، وهو القرآن، وهو السنّة
في ذكرى وفاة الإمام الرضا(ع)
حديثه(ع) عن التوحيد
أحاديث الإمام(ع) في التفسير
نسيان اللّه
الحجاب بين اللّه وعباده
سخرية اللّه
من علامات الفقه
التفريج عن كربة المؤمن
تبعات الذنوب
معنى الزهد
البغضاء والحسد
مدفن الزهراء(ع)
إسترجاع فدك
إحياء أمر أهل البيت(ع)
فضائل أهل البيت(ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في ذكرى وفاة الإمام الرضا(ع):
نلتقي هذه الليلة مع الإمام الثامن من أئمة أهل البيت(ع) الإمام علي بن موسى الرضا(ع). هذا الإمام الذي تميّزت حياته ببعض الأوضاع التي عاشها في مرحلته، حيث ولاّه المأمون من بعده. وقد اختلف المؤرخون في طبيعة الظروف التي كانت وراء هذه الولاية، بين ما يقول إنّها انطلقت من ظروف المأمون مع العباسيين الذين كانوا يفضّلون أخاه عليه، وبين من يقول غير ذلك مما تحدّثنا عنه في أحاديث سابقة من هذه الندوة.
ولكنّنا عندما ندرس حياة الإمام الرضا(ع) نجد أنّ الجانب الثقافي فيها كان جانباً موسوعياً يتحرّك في أكثر من حقل من حقول المعرفة الإسلامية سواءً في العقيدة أو في الشريعة أو في الأخلاق أو في الواقع الذي يعيشه الناس.
وفي هذا اللقاء نحاول أن نلتقط بعضاً من هذه الكلمات، لنطلّ على جانب من جوانب حياة الإمام الرضا(ع). فقد كان(ع) يتحدّث مع الذين يراجعونه ويسألونه عن التوحيد، ممن اختلفوا في أصوله وخطوطه في تلك المرحلة الإسلامية التي دخلتها الفلسفة وتنوّعت فيها الآراء.
حديثه(ع) عن التوحيد:
ففي الرواية عن محمد بن زيد، قال: ((جئت إلى الرضا(ع) أسأله عن التوحيد، فأملى عليّ)). وكأنّ الإمام(ع) أراد أن يسجّل ما يقوله ليبقى منهجاً للناس في التوحيد، كما يجب أن يتصوّره الناس ويعتقدوه، مما كان الإمام(ع) ينتزعه من القرآن انتزاعاً.
يقول(ع): ((الحمد للّه فاطر الأشياء إنشاء)). فهو الذي أنشأها وخلقها وابتدعها من غير مثال سابق. ((ومبتدعها ابتداعاً بقدرته)). فهي تمثّل سرّ الخالق في كلّّ ما أبدعه من كائنات ((وحكمته)). لأنّ اللّه عندما يخلق الأشياء فإنّه يخلقها بالحكمة البالغة، ليضع عناصرها التي تمثّل خطوط وجودها في موقعها، حيث تتكامل عناصر الخلق لتحقق الهدف المراد منها.
((لا من شيء فيبطل الاختراع)). لم يخلقها من شيء سابق عليها فيبطل الاختراع، فاللّه سبحانه وتعالى كان يخترع المادّة والصورة معاً، وليس كمثل الذين يعملون على اختراع الصورة من خلال المادّة والنماذج التي كانت سابقة على اختراعهم فتكون اختراعاتهم نسخاً منسوخة عن المثال، فالله عزّ وجل يخلق المادة والصورة معاً لأنّه مخترع الأشياء في عناصرها كلّها.
((ولا لعلّة)) لسبب يسبقها ((فلا يصحّ الابتداع)) إذا لو سبقها سببٌ فلا معنى حينئذ للابداع الذي هو إيجاد الشيء من غير نظير. ((خلق ما شاء)). فبمشيئته كان الخلق ((كيف شاء)). وبمشيئته كانت الصورة والتنوّع. ((متوحّداً بذلك)). فليس له شريك في ذلك كلّه ((لإظهار حكمته)). من خلال طبيعة هذا التناسق والأسرار التي تتمثّل في عناصر الأشياء ومكوّناتها. ((وحقيقة ربوبيته)). لأنّه هو الذي يربّي الأشياء وينميّها ويحرّكها كيف شاء. ((ولا تضبطه العقول)). لأنّ العقول لا تملك الآلية التي يمكن من خلالها أن تحصل على معرفته، لأنّ اللّه هو المطلق الذي لا حدّ له، ومهما كانت سعة تأمّلات العقل واتساع تجربته فإنّه لا يمكن أن يتصوّر المطلق لأنّ له حدوداً لابدّ أن يقف عندها. ((ولا تبلغه الأوهام)). لأنّ الأوهام التي تمثّل بعض منطقة الوعي الداخلي للإنسان لا تملك الوسائل التي تستطيع بها أن تبلغ ربّها. ((ولا تدركه الأبصار)). لأنّه ليس جسماً ليرى، وليس مادّة تقع تحت إمكانية الرؤية. ((ولا يحيط به مقدار)). لأنّه فوق المقدار الذي يمثّل المحدود، واللّه هو المطلق الذي لا حدّ له في أي شيء، فكيف يمكن لمقدّر أن يقدّر ما لا يحصى ولا يقدّر ولا يقاس.
ولقد سبق أن ذكرت في هذه الندوة ما أطلقه بعض الناس في لبنان في الخمسينيات من سؤال في بعض الصحف وهو: هل يستطيع اللّه أن يخلق شيئاً أكبر منه؟ فإن قلتم إنّه يستطيع فمعنى ذلك أنّ هناك شيئاً أكبر من اللّه، ولو قلتم إنّه لا يستطيع ذلك فمعنى ذلك أنّ اللّه ليس قادراً على كلّ شيء، فكان جوابنا آنذاك أنّ الفرضية خطأ، لأنّه إنّما يقال الأكبر والأصغر للمحدود، أمّا المطلق الذي لا حدود له فلا يصحّ أن تقول عنه أنّه أكبر أو أصغر، فاللّه سبحانه وتعالى لا يقاس بالحدود، حتى يقال إنّ هناك ما هو أكبر منه أو أصغر منه.
((عجزت دونه العبارة)). لأنّ الكلمات تمثّل المعاني التي يمكن للإنسان أن يعبّر عنها، وهي الأمور التي يتصوّرها في تأمّلاته، أو التي يعيشها في تجاربه، واللّه سبحانه وتعالى فوق ذلك فلا يمكن أن تحيط به العبارة. ((وكلّت دونه الأبصار)). سواء كانت أبصار العيون أو أبصار القلوب. ((وضلّ فيه تصاريف الصفات)). فعندما يريد الإنسان أن يصرّف وينوّع في صفات اللّه، فإنّه سوف يدخل في متاهات كثيرة لأنّه لا يستطيع تحديدها بشكل دقيق.
((إحتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور)). والناس عندما يحتجبون عن بعضهم البعض، والأشياء عندما تحجب عنها بعضها البعض، فإنّها تحجب من خلال ستر وحجاب، أمّا اللّه سبحانه وتعالى فإنّه يحتجب من غير حجاب، وذلك من خلال طبيعة وجوده الذي لا يملك أحد أن يتطلّع اليه أو ان يراه. ((عرف بغير رؤية)) لأنّه عرف بالعقل وبخلقه، على اعتبار أنّ الخلق يدلّ على الخالق. ((ووصف بغير صورة)). فنحن نصف اللّه بالخالق والرازق والقوي والحكيم وما إلى ذلك، مما تدركه عقولنا في معنى صفة اللّه ((ونعت بغير جسم)). لأنّ الإنسان عندما ينعت المرئيات فإنّه ينعتها من خلال ملامح الجسم الموجود، لكنّ اللّه ينعت بغير جسم. ((لا إله إلاّ هو الكبير المتعال)).(1)
أحاديث الإمام(ع) في التفسير:
وفي بعض أحاديثه(ع) في التفسير عن العبّاس بن هلال، قال: سألت الرضا(ع) عن قول اللّه ]اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[(2). فما هو المقصود من النور؟ هل هو النور الماديّ كما هو نور الشمس مثلاً؟ أو هو النور المعنويّ؟
إن الإمام الرضا(ع) يرى بأنّ المقصود من النور هو النور الذي يضيء العقول والقلوب والأرواح والحياة كلّها، وهو هنا النور المعنويّ. ((فقال: هاد لأهل السماء وهاد لأهل الأرض))(3). أي أنه سبحانه وتعالى يضيء طريق الهدى في عقولهم وحياتهم وكلّ شؤونهم وأوضاعهم، به يهتدون من خلال ما أودعه في أسرار وجودهم، أو مما ألهم به عقولهم. وفي رواية (البرقي): ((هدى لأهل السماء وهدى لأهل الأرض)).
((وعن الحسن بن علي الوشّا عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: سألته فقلت: اللّه فوّض الأمر إلى العباد؟)). أي هل أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الناس وقال لهم إنّي فوضت لكم شؤون حياتكم ولا دخل لي بذلك، أي عزل نفسه عن التدخّل في شؤون العباد؟ وهذه هي نظرية التفويض التي كانت موجودة في الواقع الفلسفي والكلامي آنذاك.
((قال: اللّه أعزّ من ذلك)). ف ]لِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا[(4). و]الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا[(5). فعندما يعطي عباده الاختيار فإنّه يملك أن يضبطهم ويردعهم، حيث تبقى هيمنته على الأمر كلّه من خلال ما أودعه في الكون وفي حياة الناس من سنن، ومن خلال قوّته التي تشمل كلّ شيء.
((فجبرهم على المعاصي؟)). وهل أنّ اللّه عزّ وجل يتدخل في شؤونهم بشكل مباشر؟ بحيث أنّهم إذا عصوا فإنّهم يعصون على أساس أنّهم مجبورون على المعصية، لأنّه لا حرية لهم ولا اختيار في ذلك، لأنّ اللّه هو المسيطر على الأمر كلّه؟ ((قال: اللّه أعدل وأحكم من ذلك)). فاللّه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يجبر الناس على المعاصي ويعاقبهم على ذلك، ولأنّ الحكيم لا يفعل ذلك.
((قال: ثم قال: قال اللّه يابن آدم أنا أولى بحسناتك)). لأنّ حسناتك انطلقت من العناصر الإيجابية التي أودعتها في وجودك، فلقد أعطيتك العقل الذي تدرك به الحسن من القبيح، كما وتدرك به نتائج الأفعال السلبية والإيجابية. وقد أعطيتك الحواس التي تستطيع أن تحصل من خلالها على مفردات المعرفة كلّها. وقد أوحيت إليك بالوحي الذي يعرّفك ما لا يستطيع أن يدركه عقلك وحسّك. وقد أعطيتك الوسائل التي تدرك بها وتطيع، فأنا أولى بحسناتك منك، فهي وإن انطلقت من إرادتك لكنّ ما حقق لك هذه الإرادة هو من فضل ربّك الذي دعاك وشجّعك وألهمك وأعطاك الوسائل في تحقيق ذلك.
((وأنت أولى بسيئاتك منّي عملت المعاصي بقوتي التي جعلت فيك))(6). لأنّني عندما أعطيتك القوّة والإرادة، حذّرتك من السيئات، وأوحيت اليك بالوسائل المعنوية والماديّة التي تبتعد بها عن السيئات، ولكنّ سوء الاختيار هو الذي جعلك تعمل هذه السيئات.
نسيان اللّه:
وعن عبد العزيز بن مسلم قال: سألت الرضا(ع) عن قول اللّه عزّ وجل: ]نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ[(7). ((فقال: إنّ اللّه لا ينسى ولا يسهو وإنّما ينسى ويسهو المخلوق المحدث الا تسمعه عزّ وجل يقول ]وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّا[(8). فالنسيان هو غيبوبة الشخص عن الوجدان والوعي. ((وإنّما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم)). ونسيهم يعني أهملهم، أي جازاهم على نسيانهم له من خلال نسيانهم لمسؤولياتهم ومقام ربّهم، فتعامل معهم كتعاملهم مع بعضهم البعض عندما ينسى أحدهم الآخر، وذلك بأن يهمله ولا يعتني به. ((كما قال الله عزّ وجل ]وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ[(9). فالإنسان عندما ينسى مسؤوليته يكون قد نسي ربّه ونسي مصلحته. ((وقال تعالى: ]فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا[(10). أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم))(11). فالنسيان عندما ينسب إلى اللّه فهو يعني الإهمال. وقد ورد ذلك أيضاً في قوله تعالى ]قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ^ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى[(12). فتكون مهملاً لا يعبأ اللّه بك ولا يكترث بك أحد.
الحجاب بين اللّه وعباده:
وعن الحسن بن علي بن فضّال، قال: سألت الرضا(ع) عن قول الله عزّ وجل ]كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[(13). وهذا مما ينافي العقيدة، إذ كيف يمكن أن يكون هناك شيء محجوب عن اللّه، فبحسب المعنى المطابقي أو اللغوي للكلمة فإنّ هؤلاء محجوبون عن اللّه سبحانه وتعالى أي أنّه لم يعد يراهم. ((فقال: إنّ الله تعالى لا يوصف بمكان يحلّ فيه فيحجب عنه فيه عباده، ولكنّه يعني أنّهم عن ثواب ربهم محجوبون))(14). أي محجوبون عن رحمة الله ولطفه وأجره. ((قال: وسألته عن قوله اللّه عزّ وجل ]وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا[(15) ، فقال: إن اللّه لا يوصف بالمجيء والذهاب، تعالى عن الانتقال)). فالذي ينتقل من مكان إلى آخر هو الجسم، واللّه تعالى ليس بجسم. ((إنّما يعني بذلك وجاء أمر ربّك والملك صفا صفا)). لأنّ اللّه يتمثل في يوم القيامة بمواقع قوّته، فكأنّه يهيمن عليها من خلال أمره وعظمته وهيمنته.
سخرية اللّه:
((قال سألته عن قول الله تعالى ]سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ[(16). وعن قوله ]اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ[(17). وعن قوله ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ[(18). وعن قوله ]يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ[(19). )). والسخرية والهزء والمكر والمخادعة للعباد، لأنّها تمثّل حالة نفسية سلبية ((فقال: إنّ اللّه لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع، ولكنه يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علّواً كبيرا))(20). فهذه الافعال لا تنسب إلى اللّه عزّ وجل ولكنّ آثارها هي التي تصدر عنه سبحانه وتعالى. وهذه هي كلمات الإمام الرضا(ع) في صفات اللّه عزّ وجل والتي ترتبط بالجانب التفسيري والفكري والكلامي.
وعلينا – أيّها الأحبّة – أن نتابع الأئمة(ع) في كلّ مفردات العقيدة فيما تحدّثوا به عن ذلك بعد أن نوثّقه لنضمن صدوره عنهم. وهذا هو الذي يمكن أن نركّز عليه دائماً وهو أن لا يكون تعاملنا مع الأئمة(ع) من خلال المأساة التي عاشوها بل من خلال الفكر الذي أطلقوه والخط الذي رسموه والإسلام الذي أصلّوه في حياتنا العامّة والخاصّة.
وعن الحسن بن علي بن الوشا، قال: ((سمعت الرضا(ع) يقول: أقرب ما يكون العبد من اللّه تعالى وهو ساجد، وذلك قوله تبارك ]وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ[))(21). لأن السجود يمثل غاية الخضوع للّه سبحانه وتعالى، لأنّ الإنسان عندما يضع جبهته على الأرض فإن هذه الهيئة لابدّ أن تنبع من روحية السجود للّه بالعقل والقلب والروح والإحساس والمشاعر، وبذلك يقترب من ربّه.
من علامات الفقه:
وعن أحمد بن محمد بن ابي نصر، قال: قال أبو الحسن الرضا(ع): ((من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت)). والفقه هو الوعي والفهم، فالإنسان الواعي حليم لا يبادر إلى من أساء اليه أو من آذاه برّد الفعل القاسي بل يتسع صدره لاحتواء السلبيات التي توجّه إليه بحلم ووداعة. والذي يعيش الوعي لابدّ أن يستخدمه في تحصيل العلم وانتاجه، وان يكون صامتا باعتبار أن الصمت ينفتح على التأمّل والتفكير. ((إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة)). لأن الإنسان عندما يصمت فإنّه يفكّر ويتأمّل ويتدبّر فيلتقي بالحكمة في كلّ ما يفكّر فيه وكلّ ما يعمله. ((إنّ الصمت يكسب المحبّة)). لأن الصامت هو الذي يوحي بالثقة والقوّة. ((إنّه دليل على كلّ خير)). باعتبار أنّه ينفتح بالإنسان على ما ينتجه من فكر وتخطيط مما يبلغ به النتائج الطيبة.
التفريج عن كربة المؤمن:
وفي الجانب الأخلاقي هناك بعض الأحاديث التي وردت عن الإمام الرضا(ع) فعن الحسن بن علي الوشا عن الرضا، قال: ((من فرّج عن مؤمن كربة فرّج اللّه عن قلبه يوم القيامة))(22). فمن دفع عن أخيه المؤمن سوءاً وأذى وغمّا وهمّاً، فإن اللّه سبحانه وتعالى سوف يدخل السرور على قلبه يوم الفزع الأكبر، لأنّ الإنسان عندما يعيش ذلك اليوم المهول المرعب ]يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ^ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ^ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ[(23). في هذه الأجواء المذهلة يفرّج اللّه عن قلبه فيفتحه على السرور جزاء ما فرّج به عن كربة المؤمن في دار الدنيا.
تبعات الذنوب:
وعن العباس بن هلال، قال: ((سمعت الرضا يقول كلّما أحدث العباد من الذنوب مالم يكونوا يعلمون أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون))(24). فالإمام الرضا(ع) يقول إنّ الذنوب التي نهى اللّه الناس عن ارتكابها تشتمل على نتائج سلبية على حياتهم، فاللّه عندما ينهي عن شيء فإنّما ينهي عنه لغاية في ذاته، فاللّه سبحانه وتعالى غنيّ عمّا نفعل وعمّا نترك ]يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[(25)، لكنّه ينهي الإنسان لأن المنهي عنه إذا ارتكبه الإنسان وقع في أكثر من مشكلة. ولذلك فإنّ الذنوب تجتذب البلاء والسلبيات بحسب طبيعتها وعناصرها، ولعلّنا نستوحي ذلك من قوله تعالى ]ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[(25). أي أنّك تذوق نتيجة عملك عندما تعيش الفساد الذي تتمثل فيه الآلام والمشاكل.
معنى الزهد:
وعن الرضا(ع) عن أبيه موسى بن جعفر(ع) قال: ((سئل الصادق(ع) عن الزاهد في الدنيا)). هل هو الذي لا يأكل جيداً ولا يلبس جيداً ولا يسكن جيداً، أو ماذا؟ قال: ((الذي يترك حلالها مخافة حسابه)). أي يكتفي بحاجاته من الحلال لأنّ في حلال الدنيا – كما في الحديث – حساب، بمعنى أنّه يسيطر على شهوات نفسه فيمنعها مما تشتهيه ممّا أحلّه اللّه حتى لا يطول موقفه في الحساب يوم القيامة. ((ويترك حرامها مخافة عقابه))(26).
البغضاء والحسد:
وعن الرضا(ع) قال: ((حدّثني أبي عن آبائه عن علي(ع) قال، قال رسول اللّه(ص) دبّ إليكم داء الأمّم من قبلكم)). فلقد سعى رسول اللّه(ص) إلى أن يصنع أمّة متحابّة ومتآخية تتكامل في طاقاتها، وتتوحّد في مواقفها، لكنها ورثت الأمراض التاريخية التي كانت الأمم السابقة تعاني منها ((البغضاء والحسد)). فأنتم تتباغضون فلا يحبّ بعضكم بعضاً، وأنتم تتعقّدون من نعم اللّه على بعضكم البعض فيحسد بعضكم من أفاض اللّه تعالى عليه من نعمه، بدلاً من أن يغبطه على ذلك فيسأل اللّه أن يعطيه مثله لتبقى له نعمته.
مدفن الزهراء(ع):
وهناك أحاديث للإمام الرضا(ع) تتصل بحياة أهل البيت(ع) فلقد كان هناك جدلٌ - كما هو الآن - حول مدفن الزهراء(ع). فهناك رواية تقول إنّها دفنت في (البقيع) وهناك رواية تقول إنّها دفنت إلى جانب رسول اللّه(ص). وقد سئل الإمام الرضا(ع) عن هذه المسألة كما في (عيون أخبار الرضا) و(الكافي). فعن أحمد بن محمد بن ابي نصير البزنطي، قال: ((سألت أبا الحسن الرضا عن قبر فاطمة (عليها السلام)،قال: دفنت في بيتها، فلمّا زادت بنو أميّة في المسجد صارت في المسجد))(27). فالإمام علي(ع) لم يخرجها من بيتها ليدفنها في البقيع أو في مكان آخر، فهو حينما قال: أُخّر دفنها هذه الليلة، إنّما أراد دفنها ليلاً في بيتها ليتمثّل بذلك الاحتجاج على القوم الذين ظلموها. وهذا الرأي مما يتبنّاه الكثير من علمائنا الأوّلين.
إسترجاع فدك:
((وقد سأل الحسن بن علي بن فضال الإمام الرضا(ع) عن أمير المؤمنين(ع) لِمَ لمْ يسترجع فدك لما ولي أمر الناس؟ فقال: لأنّا أهل بيت إذا ولاّنا اللّه عزّ وجل لا يأخذ لنا حقوقنا ممن ظلمونا إلاّ هو)). فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يحقّق الظروف التي نسترجع فيها حقّنا ((ونحن أولياء المؤمنين إنّما نحكم لهم ونأخذ لهم حقوقهم ممن يظلمهم ولا نأخذ لانفسنا))(28). فالإمام(ع) هنا يقول له: إنّه كان بامكان الإمام علي(ع) عندما ولي الأمر أن يسترجع فدك، لكنّه كان يرى أن مسؤوليته هي أن يأخذ للناس حقوقهم من الناس ولا يأخذ حقّه ممن ظلمه.
وأظنّ أنّ ذلك أسلوب جديد أو خاصّ في التعامل مع مسألة حق أهل البيت(ع) المغتصب، فالإمام(ع) يرى أنّ مهمّة الأئمة(ع) هي أن يطالبوا بحقوق الناس لا بحقوقهم، فاللّه تعالى هو الذي يأخذ لهم حقّهم حتى لا يقول قائل إنّهم اتخذوا الحكم وسيلة لتحقيق مطالبهم. والإمام علي(ع) قد عبّر عن ذلك بقوله: ((وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مضانّها في غد جدث)).
إحياء أمر أهل البيت(ع):
وعن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا(ع) يقول: ((رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا)). والكثير من الناس يستشهدون بهذه الكلمة في التعبير عن الولاء بالأساليب الهابطة، ويتصورون أنّ ذلك هو حقيقة إحياء الأمر، ولكن الإمام(ع) يفسّر إحياء أمر أهل البيت(ع) بشكل آخر. ((فقلت له: وكيف يحي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا))(29) فأمر أهل البيت(ع) هو الإسلام، وهو القرآن، وهو السنّة، وأن نقدّم أهل البيت(ع) إلى كلّ جيل من الأجيال من خلال المفاهيم التي أصلّوها، والعقائد التي أوضحوها، والأخلاق التي نهجوها. والعلوم التي نشروها. وأن نثقّف الناس بثقافة أهل البيت(ع) المتعدّدة الغنية، فهذا هو الذي يحي أمرهم. ولو أنّنا أجرينا استفتاء شعبياً افتراضياً،فكم يا ترى في المئة ممن ينتمون لأهل البيت(ع) من يملكون ثقافة أهل البيت(ع)؟! كم منهم يعرف (نهج البلاغة)؟ وكم منهم يعرف الإمام الحسين(ع) في مواعظه وكلماته ومواقفه؟! فاحياء الأمر هو إبقاء النهج والخط والرسالة، وإلاّ فالأئمة(ع) كما ذكرنا ذلك مرارا – ليس لديهم شيء خاص سوى الإسلام. فالإمام علي(ع) يقول ((فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فَوت ولايتكم هذه)).
فضائل أهل البيت(ع):
وقال إبراهيم بن أبي محمود وهو من الرواة الثقاة، قلت للرضا(ع): ((إنّ عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين(ع) وفضلكم أهل البيت وهي من رواية مخالفيكم)). أي أنّ مصادرها ليست شيعية ((ولا نعرف مثلها عندكم)). أي أنّها أو ما يماثلها لم تأتنا عن طريقكم ((أفندين بها؟)). فهل نلتزم بها؟ ((فقال: يا بن أبي محمود لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه(ص) قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده)). أي ذاك الذي استغرق في كلمات المتحدّث ((فإن كان الناطق عن اللّه عزّ وجل فقد عبد اللّه، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد ابليس. ثم قال الرضا: يا بن أبي محمود: إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة اقسام: أحدها الغلوّ)). وهو حديث الذين يناصبوننا العداء، فأحاديث الغلو الموضوعة من قبلهم تخرجنا عن البشرية وتجعلنا قريبين من الربوبية، فهو ليس حديثنا.
((وثانيها التقصير في أمرنا)) وإنزالنا عن مراتبنا التي رتّبنا اللّه فيها ((وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا)). وهي أحاديث سبّ الآخرين الذين نختلف معهم، ونحن لم نسبّ أحداً ولا أمرنا أحداً بالسبّ. ((فاذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا)). فيقال لهم إنكم تغالون بأئمتكم ((وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا)). أي إذا ورد عنّا سبّ فإنّ الأعداء يتخذونه ذريعة لسبّنا ولعننا . ((وقد قال اللّه عزّ وجل ]وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[(30). يا ابن أبي محمود إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً فالزم طريقتنا)). فإنّ طريقتنا هي الصراط المستقيم وهي المحجّة البيضاء وهي الجادّة الوسطى. ((فإنّه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه، إنّ أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة نواة)). أي أن يغيّر حقائق الأشياء. ((ثم يدين بذلك ويبرأ ممن خالفه، يا ابن أبي محمود إحفظ ما حدّثتك به فقد جمعت لك خير الدنيا والآخرة)).
أيّها الأحبّة: هذا هو الإمام الرضا(ع) في الخطّ والنهج والوعي والانفتاح، فهل نسير وراءه؟
وعندما تزورونه اذكروا ذلك كلّه لتكون زيارتكم له زيارة لفكره، وزيارة لوعظه، وزيارة لوصاياه، فإنّ ذلك هو الذي يقرّبنا من اللّه زلفى، وهو الذي يجعلنا نسير في الصراط المستقيم. وصلّى اللّه تعالى على الإمام الرضا(ع) وعلى آبائه وأبنائه(ع). والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة الثامنة والعشرون: 8ربيع الأول 1421 ه المصادف 10/6/ 2000م
ملاحقة الأفكار المنحرفة
أمتدّ تعظيم
الإمام العسكري(ع) حتى بين أعدائه ومناوئيه لفضله وهديه وعلمه
وأخلاقه
في ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع)
مكانته في المجتمع الإسلامي
سجن الإمام(ع)
كلماته(ع) في التوحيد
ملاحقة الأفكار المنحرفة
موقف الشيعة من الأئمة(ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع):
حديثنا في هذه الليلة عن الإمام الحسن بن علي العسكري(ع). ولعلّ القيمة في هذا الحديث هو أنّ القليل من الناس من يعرف بشكل واضح خصائص حياة وأفكار وموقع الأئمة المتأخرين(ع) ومنهم الإمام العسكري(ع).
ونريد في هذا اللقاء، بالرغم من الظروف الصعبة التي يعيشها الناس في هذا البلد والمنطقة، أن نطلّ على حياة الإمام الحسن العسكري(ع) الذي يذكر في تأريخه أنّه ولد في شهر رمضان أو ربيع الآخر سنة اثنين وثلاثين ومائتين للهجرة، وانتقل إلى جوار ربّه في يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين، وكان من أصغر الأئمة(ع) عمراً، فقد كان عمره ثمانية وعشرين سنة يوم وافاه الأجل.
مكانته في المجتمع الإسلامي:
وفي البداية نحبّ أن نطلّ على ما نقله كتّاب سيرته من مكانته في المجتمع الإسلاميّ آنذاك، حيث أنه كان يملك امتداداً من التعظيم والإجلال في مواقع المجتمع كلّها بما في ذلك الوزراء والقوّاد وطبقات المجتمع، حتى أنّ بعض الذين كانوا ينصبون له العداء يشهدون بذلك.
وهناك وثيقة تأريخيه تنقل هذا الجوّ من بعض أولاد رجال الدولة حيث يروي ((أحمد بن عبيد اللّه بن خاقان)) وكان أبوه وزيراً للمعتمد العبّاسي على الضياع والخراج. فقد جرى في مجلسه ذكر العلوية، أي المنتسبين إلى الإمام عـلي(ع) ومذاهبهم، وكان شديد النصب، أي شديد العداوة لأهل البيت(ع) فقال: ((ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر)). أي الموقع الكبير، فلقد كان في سنّ الشباب، وكان هناك شيوخ من بني هاشم، وكانوا يقدّمونه عليهم ((وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة الناس)). وهذا ما يبعث على التأمّل، أي كيف يبلغ إنسان في خطّ مضادّ لموقع الخلافة هذه المنـزلة العالية، لأنّ هناك الكثير من الناس ممن كان يعتبر الإمام(ع) أحقّ بالخلافة لو كانت ابتعدت عن بني العبّاس، فمن أين يحصل إنسان في هذه السنّ وفي هذا الواقع الذي يمتلأ بالذين ينصبون العداوة لأهل البيت(ع) على هذه المكانة؟
وربّما نقرأ في أكثر من حديث من أحاديث الإمام العسكري(ع) وهو يتحدّث عن النصّاب الذين كثروا في عهده، وكانوا يتحرّكون بأكثر من أسلوب، حتى أنّ الإمام(ع) كان يركّز على ضرورة توعية السائرين في خط أهل البيت(ع) حتى لا يثير هؤلاء أمامهم الشبهات. فلابدّ أن يكون الإمام(ع) قد سيطر على الواقع من خلال الثقافة التي كان يحرّكها في ذلك الواقع، والسموّ الروحي والأخلاقي والنشاط الحركيّ في المجتمع بالمستوى الذي لم يستطع أي أحد أن يسجّل عليه أية نقطة ضعف. فليس من الطبيعي أن يحصل إنسان في سنّ الشباب في مجتمع لا يحمل له من وجهة النظر الرسمية – على الأقل – ومن خلال واقع الناس أي التزام به. فلابد أن يكون – والحال كذلك – قد فرض نفسه على الواقع كلّه.
ونتابع حديث (أحمد بن خاقان) الذي ينقل عن أبيه الذي كان من الشخصيات المبرّزة في الدولة، فيقول: ((كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس، إذ دخل عليه حجّابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا في الباب)). ونعرف من هذا أن الأئمة(ع) كانوا يلتقون ويزورون بعض الشخصيات في الدولة، وذلك من أجل القيام ببعض مصالح المسلمين، ومراعاة الظروف الحرجة المحيطة بهم.
((فقال بصوتٍ عال: إئذنوا له، فتعجّبت مما سمعت منهم أنّهم جسروا (أي تجرّأوا) يكنّون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكنّ عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنّى)). فأن تذكر شخصاً بكنيته فهذا مظهر من مظاهر التكريم، كما قال الشاعر:
أكنيّه لا لأناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقبا
فكيف يكنّى شخص عاديّ – في نظرهم طبعاً – بأبي محمد، فكان ينبغي أن يذكر باسمه المجرد، مما لفت نظر ابن خاقان.
((فدخل رجل أسمر حسن القامة جميل الوجه جيد البدن حدث السن، له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خطى، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاّه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجه ، وجعل يكلّمه ويفدّيه بنفسه، وأنا متعجّب مما أرى منه، إذ دخل عليه الحاجب، فقال: (الموفّق) (وهو أخو المعتمد العبّاسي)، قد جاء، وكان الموفّق إذا دخل على أبي تقدّم حجّابه وخاصّة قوّاده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين (أي صفين متقابلين) إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدّثه حتى نظر إلى غلمان الخاصّة، أي خدم الموفّق، فقال حينئذ: إذا شئت (أي أن تذهب) جعلني اللّه فداك، ثم قال لحجّابه: خذوا به خلف السماطين حتى لا يراه هذا – يعني الموفّق – فقام وقام أبي وعانقه ومضى. فقلت لحجّاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي كنّيتموه على أبي وفعل به أبي هذا الفعل، فقالوا: هذا علويّ يقال له الحسن بن علي يعرف بابن الرضا، فازددت تعجّباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي، وما رأيت فيه حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلّي العتمة (أي العشاء الآخرة) ثم يجلس فينظر فيما يحتاج اليه من المؤامرات (أي المراجعات) وما يرفعه إلى السلطان، فلّما صلّى وجلس جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه فإن أذنت لي سألتك عنها، فقال: قد أذنت لك يا بنيّ فقل ما أحببت، قلت: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك، فقال: يا بنيّ ذاك إمام الرافضة (أي الشيعة) ذلك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة، ثم قال: يا بنيّ لوزالت الإمامة عن خلفاء بني العبّاس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنّ هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه)).
فمع أنّ هذا الرجل هو وزير من وزراء الخلافة، نراه يحمل هذا التقدير والتعظيم الكبيرين للإمام(ع) ثم يمضي قـائـلاً: ((ولـو رأيـت أبـاه – أي الإمام الهـادي(ع) لرأيت رجلاً جزلاً (أي سخيّ العطاء) حكيماً نبيلاً فاضلاً، فازددت قلقاً وتفكّراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه واستزدته في قوله وفعله فيه ما قال، فلم يكن لي همّة بعد ذلك إلاّ السؤال عن خبره والبحث عن أمره)). فلقد بدأت – أي أحمد بن خاقان - بعد هذه المعلومات التي جمعتها عنه اتفحّص حقيقة هذا الرجل العظيم، ((فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلاّ وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه ، فعظم قدره عندي، إذ لم أر له وليّاً ولا عدوّاً إلاّ وهو يحسن القول فيه والثناء عليه))(1).
إن هذا النص يعتبر وثيقة تأريخية تدلّ على مدى مكانة الإمام(ع) في المجتمع كلّه، سواء فيمن يدين بإمامته ومن يقف ضد إمامته، وفيمن يعاديه ويواليه، رجل اجتمع الناس كلّهم – حسب هذه الشهادة من ناصبيّ يبغض الإمام – وإذا به يصبح من أكثر الناس تقديراً واحتراماً له، والفضل مما شهدت به الأعداء.
وليس لذلك من تفسير سوى أن الإمام(ع) استطاع أن يفرض نفسه على المجتمع كلّه من خلال الملكات القدسية التي كان يتمتّع بها في جميع جوانب المعرفة والروحانية والصلاح والخلق الرفيع.
سجن الإمام(ع):
وقد ذكر في تأريخ الإمام العسكري(ع) أنّ الخليفة العباسيّ حبسه، ونحن نعرف أنّ الأئمة(ع) كانوا يسجنون في عهد بني العبّاس من خلال ما كان الخلفاء من بني العبّاس يعرفونه من أنّ الأئمة من أهل البيت(ع) كانوا يملكون امتداداً روحياً ينفتح على امتداد سياسي معرفيّ يحمله الناس في نفوسهم لأهل البيت(ع) لأنّهم يعتبرونهم في موقع الإمامة، وربّما يرون أنّ لهم الشرعية في موقع السلطة، ولذلك كانوا يوكّلون الكثيرين من عناصر مخابراتهم لرصد حركة كلّ إمام بغية محاصرته ومخافة انفتاحه على المجتمع، وتخويف الناس من اللقاء به، وربّما كانوا بين وقت وآخر يعملون على إيذاء هذا الإمام أو ذاك في السجن.
وهنا ينقل التأريخ لنا كيف كان تأثير الإمام(ع) في السجن، ففي الرواية عن علي بن محمد عن محمد بن إسماعيل العلوي، قال: ((حبسنا أبو محمد (العسكري) عند علي بن نارمش وهو أنصب الناس وأشدّهم على آل ابي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده إلاّ يوما حتى وضع خديه له كناية عن الخضوع والتذللّ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحس الناس فيه قولا))(2). فكيف كان تأثير الإمام العسكري(ع) الروحيّ على هذا الرجل بحيث أنّه استطاع أن يقلب تفكيره كلّه ووجدانه كلّه، وإذا به يتحوّل من عدوّ شديد العداوة إلى صديق شديد الصداقة، بل تحوّل إلى داعية إلى الإمام(ع)؟!
وفي رواية بهذا الاتجاه أيضاً ((دخل العباسيون على صالح بن وصيف، (وهو الذي يتولّى سجن الإمام) ودخل صالح بن علي وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية (أي ناحية الأئمة من مخالفيهم) على صالح بن وصيف، عندما حبس أبا محمد)) وكأنّهم يشجّعونه على التضييق على الإمام(ع) ((فقال لهم صالح: وما أصنع)). فلقد أعيتني الوسائل كلّها ((وقد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار، ويقوم الليل لا يتكلّم ولا يتشاغل ،وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلما سمعوا ذلك انصرفوا خائبين))(3). وهذا يدلّ على مدى قوة التأثير الروحي الذي كان الإمام العسكري(ع) يتمتع به من دون أن يتكلّم مع الآخرين، أو أن يدخل معهم في أيّ حوار. وتلك هي خصوصية أهل البيت(ع) الذين يملكون من الملكات القدسيّة التي حباهم اللّه إيّاها ما يفيضون على كلّ الناس الذين يعيشون معهم بكل المعرفة للّه والروحانية والخلق العالي الذي يجتذبون الناس به إلى الخط الأصيل الذي يمثّلونه وهو خط الإسلام في منهج أهل البيت(ع).
وفي سيرته(ع) أنّه ((بلغ عدد الرواة عنه (149) حدّثوا عنه بلا واسطة مع الاختلاف في وثاقتهم ومنازلهم)). مما يدلّ على اهتمام المجتمع الثقافي آنذاك بالمكانة العلمية التي يمثلّها الإمام الحسن العسكري(ع) لأنّ الرواة كانوا يمثّلون أساتذة المجتمع في المعرفة الثقافة الإسلامية، وليسوا مجرد أشخاص يسألون.
كلماته(ع) في التوحيد:
ونحاول هنا إثارة بعض الكلمات التي وردت عن الإمام الحسن العسكري(ع) في شؤون العقيدة والتفسير والأخلاق، لأنّ علاقتنا بالأئمة(ع) كما ذكرنا أكثر من مرة هي علاقة السير على منهاجهم والانفتاح على علمهم، والتحرّك في الواقع الذي يصنعونه ويديرونه ويقودونه.
ففي باب التوحيد، هناك عدة أحاديث في جانب العقيدة باللّه سبحانه وتعالى، لأنّ المراحل التي عاش فيها الأئمة من أهل البيت(ع) منذ عهد الإمام الباقر(ع) حتى عهد الإمام العسكري(ع) كان الجدل يدور في صفات اللّه تعالى، فكان بعضهم يتحدّث عن أن اللّه جسم، والبعض الآخر يتحدث عن اللّه على أنه صورة وما إلى ذلك. وكان منهج الأئمة(ع) هو أنّهم يتحدّثون بلغة القرآن وبأسلوبه وبمفرداته في العقيدة ليوجّهوا الناس إلى الأخذ بالعناوين الكبرى في العقيدة من القرآن، وأن لا ينطلقوا من خلال أسلوب الفلسفة، لأنّ هذا الأسلوب بالرغم مما يحمل من إيجابيات لا يملك أن يتحدّث عن اللّه سبحانه وتعالى كما هو الحديث عن صفاء العقيدة، لأنّ التعقيدات الفلسفية قد تردّ الشبهات، ولكنها لا تستطيع أن تبني العقيدة.
فعن يعقوب ابن إسحاق، قال: ((كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله : كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه؟ فوقّع عليه السلام: يا أبا يوسف جلّ سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يُرى)). ]لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ[(4).]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[(5).((قال: وسألته: هل رأى رسول اللّه(ص) ربه؟ فوقّع عليه السلام: إنّ اللّه تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ))(6).
فلقد رأى رسول اللّه(ص) ربّه ولكنّه لم يره بالعين الباصرة، بل بعين قلبه، لأنّ القلوب تبصر من الحقائق ما لا تستطيع العيون أن تبصره ]فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[(7). فمشكلة بعض الناس أنهم يملكون العيون المفتوحة والقلوب العمياء والخطورة كلّ الخطورة أن يكون القلب أعمى.
وعن الكليني عن سهل: والراوي هنا قد لا يكون موثوقاً ولكنّ الرواية موثوقة لأنها تتفق مع روايات صحيحة، ولأنّها لا تشتمل على ما يدعو إلى الكذب). ((قال: كتبت إلى ابي محمد عليه السلام سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد)). وهذا يدلّ على أن الجدل الكلامي في التوحيد كان يدور حتى في أوساط أتباع أهل البيت(ع). ((فمنهم من يقول هو جسم، ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيدي أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطوّلاً على عبدك)). والعبودية هنا من باب التواضع.
((فوقّع بخطّه عليه السلام: سألت عن التوحيد، وهذا منكم معزول، اللّه واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم، ويصوّر ما يشاء وليس بصورة جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره ليس كمثله شيء وهو السميع البصير))(8).
فلقد أراد الإمام العسكري(ع) أن يقول للسائل بأن لا يستغرق في الجدل الكلامي والتعقيدات الفلسفية عندما يتحدث عن اللّه سبحانه وتعالى، ولكن طلب إليه أن يقرأ كتاب اللّه فيما انزله من آياته، فهو أعرف بنفسه من مخلوقاته كلّها، لأنّ المخلوق لا يستطيع أن يعرف من ربّه إلا ما عرّفه ربّه، وإلاّ فلا يمكن للعقل أن يدرك صفاته جلّ جلاله ذاتياً، فهو ليس بجسم لأنّه خالق الأجسام، وهو ليس بصورة لأنّه خالق الصورة ومبدعها.
وقد جاء عن المسعودي في (إثبات الوصية) بإسناده عن أبي هاشم الجعفري، قال: سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد (عليه السلام) عن قول اللّه تعالى ]يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[(9)(. فقال: هل يمحو إلاّ ما كان؟ وهل يثبت إلاّ ما لم يكن؟ فقلت في نفسي هذا خلاف ما يقول (هشام القوطي) ((إنّه لا يعلم الشيء حتى يكون)). فاللّه سبحانه وتعالى – حسب هذا القول – إنّما يعلم الأشياء بعد أن تتكوّن، والإمام(ع) يقول إنّ اللّه يعلم بالأشياء قبل وجودها ((فنظر إليّ شزراً)).فكأنّ الإمام(ع) عرف ما في نفسه، وهناك أحاديث كثيرة عن الإمام العسكري وعن الأئمة(ع) تذكر أنّ بعض الناس كان يسمع الجواب من الإمام وهو يفكّر، أي لم يطرح السؤال بعد، حيث إنَّ الملكة القدسية تجعله(ع) يعرف ما يضمر هؤلاء من قبل أن يتحدّثوا به. ((فقال: تعالى الجبّار العالم بالشيء قبل كونه الخالق إذ لا مخلوق والربّ إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه، فقلت: اشهد أنّك وليّ اللّه وحجّته والقائم بقسطه وأنّك على منهاج أمير المؤمنين))(10). فلقد أكّد له أنّ المخلوقين يحتاجون إلى معرفة الأشياء في صورتها الوجودية، أمّا اللّه فهو الذي يخلق الوجود فهو يعرف ما يريد أن يخلقه قبل أن يخلقه.
ملاحقة الأفكار المنحرفة:
وهناك قصة ينقلها ابن شهر آشوب في (المناقب) عن أبي القاسم الكوفي في كتاب (التبديل) تدلّ على أن الإمام العسكري(ع) كان يلاحق التطوّر الثقافي في مواجهة الفكر الإسلامي، بحيث كان يلاحق المفكرين في زمانه، وخصوصا الذين يعملون على تهديم الأسس الإسلامية العقيدية والثقافية، ومنهم فيلسوف العراق، ويقال أيضاً فيلسوف العرب (يعقوب ابن إسحاق الكندي. فيروي ابن شهر آشوب عن الكندي: ((أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغّل نفسه بذلك وتفّرد به في منزله، وأن بعض تلامذته دخل يوما على الحسن العسكري، فقال له أبو محمد (عليه السلام): أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمد: أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله)). فالشرط الأول أن تدخل قلبه لتستطيع أن تدخل عقله، وهذا هو من أسلوب الحوار في القرآن، وهو أنّك إذا أردت أن تدخل في حوار فكري مع شخص آخر تختلف معه لتقنعه بما أنت فيه، أو لتناقشه فيما هو فيه، فعليك أولاً أن تفتح قلبه بالكلمة الحلوة والإطلالة الحلوة والأسلوب الحلو، لا أن تكفّره وتزندقه وتجهّله ]وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[(11). ]وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[(12).
((فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن)) أي الذي يوحي لك بهذه الأفكار سواء كان هو اللّه كما نعتقد أو كان غيره كالنبي كما قد يخيل إليك ((هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به غير المعاني التي قد ظننتها أنّك قد ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول: إنّه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع)). وعــظمة أهل البيت(ع) أنهم لا ينكرون على الذين يختلفون معهم صفاتهم الإيجابية، خلافا لما هو دائر بيننا، فإذا اختلفنا مع شخص فلا نتحدّث عنه بخير ولو بنسبة 1% فمع أن الكنديّ ألّف كتابا في تناقض القرآن وهو أمر خطير، لكن الإمام(ع) يقول لتلميذه إنّه سيقول لك من الجائز، لأنه رجل مفكّر ولأنّه رجل منسجم مع نفسه فإذا جئته بفكرة معقولة فإنّها سوف تدخل عقله ولا يتعصّب في رفضها والتشبّث بقناعاته ((فإذا أوجب ذلك)) فإذا رأيته استجاب للمسألة ((فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغير معانيه. فصار الرجل إلى الكندي، وتلطّف إلى أن ألقى إليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه فتفكّر في نفسه ورأى أنّ ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر)). فاللغة العربية مرنة متحرّكة، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنه الحقيقة وهو من المجاز، وقد يفهم أن المراد هو المعنى اللغوي والمقصود هو المعنى الكنائي.
((فقال: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد عليه السلام، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا الأمر إلاّ من ذلك البيت)). الذي زقّ أهله العلم زقّاً، والذين يعيشون صفاء الحقيقة واستقامة التفكير والجدل بالتي هي أحسن من أجل الوصول إليها.
((ثم أنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه))(13). فالإمام العسكري(ع) كان يتابع بدقّة ما يجري على الساحة الفكرية في عهده، ويناقش الأفكار المنحرفة التي تطرح هنا وهناك، وكان يواجهها بالحجّة وبالأسلوب العلمي، لأنّه يعرف أنّ شخصاً مثل الكندي الذي هو فيلسوف العراق لا يمكن أن تردّه عمّا هو فيه بالأساليب السلبية كالشتائم والتكفير والتضليل وما إلى ذلك، مما يستخدمه المفلسون الذين لا يملكون الحجّة على ما يواجهون به الذين يختلفون معهم. وهناك حديث آخر أيضاً يحاول الإمام(ع) أن يردّ فيه بعض الشبهات. فعن الكليني بإسناده عن إسحاق بن محمد النخعي، قال: ((سئل الفهفكي أبا محمد عليه السلام)) السؤال المطروح دائماً حول الإرث ]لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ[(14).فلماذا جعل اللّه المرأة الطرف الضعيف وأنقص من حقها وجعل الرجل الطرف القويّ حيث جعل له الحظّ الأوفر، ((قال: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين، فقال أبو محمد عليه السلام: إنّ المرأة ليس عليها جهاد)). بينما الرجل عليه جهاد وكان الرجل في الجهاد يأخذ سلاحه، فلم تكن الدولة تعطي المقاتل سلاحاً بل يشتريه ويحمل معه مؤنته وراحلته ((ولا نفقة للمرأة)) فلا يجب عليها أن تنفق على الرجل ولا على أولادها، بل الرجل هو الذي ينفق عليها ((ولا عليها معقلة)). فإذا قتل شخص إنساناً خطأ فإنّ الديّة تتحملها العاقلة وهي الرجال من الأقرباء، أمّا النساء فلا يدفعن الديّة. فاللّه عندما أعطى الرجل نصيباً من الإرث معلوماً إنّما أعطاه بمقدار ما أخذ منه، فقد حمّله مسؤولية الجهاد ونفقة العائلة ونفقة الزوجة وجعله مشاركاً في الديّة التي تكون على العاقلة، أمّا المرأة فانه لم يلزمها بذلك، ومعنى ذلك أنّ حصة المرأة هي أكبر من حصة الرجل. وكأن الإمام(ع) يريد أن يقول له: ليست المسألة هي أنّه كم أعطاك؟ لكن كم أخذ منك؟ فمن الرابح في الطرفين في المحصّلة؟ إن المرأة إذا تزوجت تأخذ مهراً وتأخذ النفقة فلا تنفق من مالها، ثم أن نفقة الأولاد على الرجل أيضاً، فمالها يبقى ثابتاً لا يتحرّك إلاّ إذا حرّكته في النماء بتشغيله وبذلك يزداد. ولذا قلنا لبعض الصحفيين من باب النكتة: يجب على الرجل المطالبة بالمساواة مع النساء باعتبار أنّ حصة المرأة أكبر، يقول: ((فقلت فـي نفسي قد كان قيل لي أن ابن أبي العوجاء قد سأل أبـا عــبــد اللّه(ع) فأجابه بهذا الجواب)). فالإمام العسكري(ع) التقط ما في نفسه قبل أن يتحدث به ((فاقبل أبو محمد عليه السلام، فقال: نعم، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد)). فنحن لا نختلف أنا والإمام الصادق(ع) فأنا أجيب بنفس الجواب إذا كان معنى المسألة واحداً ((جرى لآخرنا ما جرى لأولنا وأوّّلنا وآخرنــا في العلم سواء)). ليـس هـنـاك إمام أفضل من إمــام ((ولرســول اللّه(ص) ولأمير المؤمنين(ع) فضلهما))(15). وهذه حقيقة إيمانية لابدّ أن ننتبه إليها، وهي أنّ الإمام(ع) يؤّكد في هذه الرواية أنّ الأئمة(ع) حتى لو صدر من بعضهم علم كثير ولم يصدر من البعض الآخر إلا أقل من ذلك، إلاّ أنّ قاعدة العلم واحدة للأول وللآخر.
موقف الشيعة من الأئمة(ع):
وهناك مشكلة وهي أن بعض الأحاديث تدلّ على أنّ بعض الناس كان يشكّك في الإمام(ع) كما كان يحدث في حياة أكثر من إمام، حيث كانوا يقفون على بعض الأئمة ولا يتعدّونهم إلى غيرهم وقد سمّوا بالواقفة). فقد ((كتب إليه الشيعة)) والواقع الشيعي آنذاك كانت تؤثر عليه مؤثرات كثيرة حتى في قضية الإمامة، وفي الأخلاقية التي يعيشها بعض الناس في إخلاصهم للخط أو ابتعادهم عنه، والتاريخ يعيد نفسه ((فكتب عليه السلام إنّما خاطب اللّه العاقل)). ولم يخاطب الذين لا يعقلون لأنهم لا ينفتحون على خطاب اللّه ]خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ[(16). ((والناس فيّ على طبقات: المستبصر على سبيل نجاة)). فهناك من يعيش البصيرة في عقله وفي قلبه وفي روحه من أجل أن ينجو عندما يقف بين يدي اللّه، ويحاول أن ينطلق على أساس الحجّة والبرهان وهو يبحث عن الحجّة والبرهان، فإذا التقى بالحجّة والبرهان في عمق بصيرته انفتح على نتائج الحقيقة ((متمسّك بالحق متعلّق بفرع الأصل غير شاكٍّ ولا مرتاب لا يجد عني ملجأ)). عندما تطبق عليه الدروب فإنّه يلتجأ إليّ لأنه يعرف أنّ الحقيقة عندي، وأن الهدى هنا.. ((وطبقة ثانية لم تأخذ الحقّ من أهله)). يعني أنّها أخذت العلم ممن يملك العلم وممن لا يملك العلم، أو ممن يملك مسؤولية العلم وممن لا يملك مسؤولية العلم، وممن يملك تقوى الحقيقة وممن لا يملكها، وهذا هو حال الكثير من الناس ممن قد تجده يتزيّا بزيّ العلماء ولكنّه لا يملك تقوى العلم، ولا يملك عمقه، ولا يملك الطريقة والموقع الذي ينفتح فيه على العلم: ((وطبقة لم تأخذ الحقّ من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند السكون)). فليس عنده قاعدة ثابتة ينطلق منها ولا أرض يقف عليها، كما قال الشاعر:
إذا الريح مالت مال حيث تميل
فهؤلاء هم الضائعون ((وطبقة استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرّد على أهل الحق)). فلديهم عقد كثيرة وينطلقون من عقدهم النفسية ((ودفع الحق بالباطل حسداً من عند أنفسهم)) وما أكثر الحاسدين الذين يتحرّك الحسد في نفوسهم لينطلق في تصرفاتهم وسلوكياتهم ((فدع من ذهب يميناً وشمالاً فإنّ الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها بأهون سعي وإيّاك والإذاعة)). لأنّه كانت هناك بعض الأمور السريّة التي تحمي خطر الحق ((وطلب الرياسة، فإنّهما يدعوان إلى الهلكة))(17). ((وخرج في بعض توقيعاته عند اختلاف قوم من شيعته في أمره ما مُني)). وانظروا كيف كان الإمام(ع) يعيش المرارة من الذين يحيطون به ممن يحسبون من أتباع أهل البيت(ع)؟ ((ما مُني أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيت به من شكّ هذه العصابة فيّ، فان كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع فللشك موضع)). فقد تحصل لدى البعض شبهات وشكّ في بعض الأمور لكنه يحاول أن يتحرّك من أجل أن يزيل الشكّ ليلتقي بالحقيقة ((وان كان متصلاً ما اتصلت أمور اللّه فما معنى هذا الشك))(18). لأنّ الشكّ لا ينطلق من قاعدة. ((وقال لشيعته وهو يوصيهم)). والوصية هي للشيعة في الخطّ الإسلامي لأنّ التشيّع ليس شيئاً زائداً عن الإسلام بل هو الخط الأصيل للإسلام ((أوصيكم بتقوى اللّه)). وهذه الوصية مروية أيضاً عن الإمام الصادق(ع) مع بعض التغيير في الألفاظ ((وأوصيكم بتقوى اللّه، والورع في دينكم، والاجتهاد للّه في معرفته وطاعته وفي عبادته، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من إئتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص) صلّوا في عشائرهم)). يعني هؤلاء الذين يجاورونكم تختلفون معهم في المذهب ((صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل هذا شيعيّ فيسرّني ذلك)). لأنّه سائر على الحق والاستقامة في خط الإسلام ((اتقوا اللّه وكونوا زيناً)). نتزين به ((ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودة اجعلوا الناس يحبوننا فلا تتحدثوا مع الناس بالحقد والبغضاء والسباب وما إلى ذلك، وادفعوا عنا كلّ قبيح، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك. لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من اللّه لا يدعيه أحد غيرنا إلاّ كذّاب)).
هذه وصيته فهل نعمل بوصيته؟ إنّها تمثل الخط الإسلامي في عالم العبادة وفي عالم السلوك الاجتماعي الذي يجعل الإنسان في مجتمعه خيراً لكلّ مجتمعه سواء مع الناس الذين يلتقي معهم في الخطّ، أو مع الناس الذين يختلف معهم في الخط. أن يكون الإنسان زيناً لمن ينتمي إليهم ولا يكون شيناً على من ينتمي إليهم، وذلك هو نهج رسول اللّه(ص) ]وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[(19).]فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[(20). ((أكثروا ذكر اللّه)) حتى يعيش الإيمان الحيّ المتحرّك في عقولكم وفي قلوبكم لأنّكم إذا ذكرتم اللّه ذكّرتم أنفسكم بمسؤولياتكم، وإذا نسيتم اللّه نسيتم أنفسكم ]وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ[(21). ((وتلاوة القرآن والصلاة على النبي فإن الصلاة على رسول اللّه عشر حسنات. احفظوا)) والخطاب لنا ((احفظوا ما وصيّتكم به، وأستودعكم اللّه وأقرأ عليكم السلام))(22). وعليك السلام أيّها الإمام البرّ النقي.
وقال(ع) في نهاية المطاف عن الذين يستهينون ببعض الذنوب: ((من الذنوب التي لا تغفر: ليتني لا أو آخذ إلاّ بهذا)). ((إيّاكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجتمع حتى تكون كبارا)). ثم قال(ع): ((الإشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة)). والمسح نوع من القماش،لأنّ الكثير من الناس قد يشركون باللّه وهم لا يشعرون، عندما ينفتحون على رضا الناس عليهم. وقد حدثتنا سيرة الإمام أنّه(ع) عندما مرض أرسلت إليه السلطة الكثير من المتطبّبين الذين يعرفون الطبّ ليعالجوه وليكونوا معه، حتى إذا قبضه اللّه إلى جواره أرسل الخليفة إلى العلماء والقضاة لينظروا إليه وليشهدوا أنّه مات حتف أنفه حتى لا تتهم السلطة بقتله. ويذكر المؤرخون أنّه عندما أعلنت وفاته ضجّت سامراء ضجّة واحدة، وانطلق كلّ الناس في تشييعه وأرسل الخليفة إلى بيته من يفحص: هل له ولد؟ ويفحص جواريه هل إنّ إحداهن حامل؟ لأنّهم كانوا يريدون أن يطمئنّوا لانقطاع الإمامة، ولكنّ اللّه عزّ وجل أخفى وليّه بالطريقة التي حفظ بها وليه الذي ينتظره العالم كلّه ليملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجورا وصلى اللّه على الإمام الحسن العسكري(ع) وعلى آبائه(ع) وعلى ولده(ع) حجة اللّه في الأرض، سائلين اللّه أن ينفعنا ببركته وبركة آبائه، وأن يرزقنا شفاعتهم ]يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ^ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[(23). وهذه هي بعض آثار الإمام العسكري(ع) التي نريد أن ننفتح عليها لنزداد علماً من علمه، ووعياً مما يعطينا من عناصر الوعي. وقد كنت ولا أزال أقول لكم: لا تقتصروا في علاقاتكم بالأئمة من أهل البيت(ع) على جانب المأساة، ولكن انطلقوا إلى جانب العلم الذي علّموه، والهدي الذي أراد لنا الاهتداء به، والنهج الذي نسير عليه ((أحيوا أمرنا رحم اللّه من أحيا أمرنا)). أن نعلّم علومهم وأن ننهج نهجهم، وأن نطلق سيرتهم كلّها للعالم كلّه ولا سيما العالم المعاصر ليعرف من هم أهل البيت(ع) لأنّ الكثيرين حتى ممن ينتمي إلى أهل البيت(ع) لا يعرفون من هم أهل البيت(ع) علماً وروحانية وحركة ومنهجاً. والحمد للّه ربِّ العالمين.
المحاضرة التاسعة والعشرون: 15 ربيع الأول 1421 ه المصادف 17/6/ 2000م
في ذكرى مولدي النبوي والصادقيّ
الشهادتان جسر الوحدة الإسلامية
الوحدة الإسلامية لا تمثّل مجرد شعار سياسي بل هي قاعدة القوّة التي يرتكز عليها الإسلام
في ذكرى مولد الصادقين(ع)
الولادة الثانية
الأذى الذي لقيه(ص)
الإسلام دعوة
ردّ الشبهات
إختراق العقل
تأسيس الدولة الإسلامية
من وصايا الإمام الصادق.
حقيقة الوحدة الإسلامية
نداء المولدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
المحاضرة الثلاثون: 22 ربيع الأول 1421 ه المصادف 24/6/ 2000م
في ذكرى مولد الإمام الصادق(ع)
الانفتاح على الرأي الآخر
مشكلة الكثير من الناس أنهم يملكون مفردات العلم ولكنّهم لا يملكون منهج التفكير والأسلوب الذي يمكن أن يفتح عقل الإنسان على الحقيقة
في أجواء مولد الإمام الصادق(ع)
إمام الحوار
من بعض حواراته(ع)
طريقة الاحتجاج
العلم حجّة
الإقرار بالحقيقة والإذعان للحقّ
المراد من هذا الأسلوب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
باب
مسائل الندوة
الفصل الأول
المسائل القرآنية
أولاً: في التفسير
ثانياً: مسائل قرآنية عامّة
أولاً: في التفسير
الساهون:
ورد في قوله تعالى في (سورة الماعون) ]فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ^ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ[(1). فما المقصود بهؤلاء، هل هم تاركو الصلاة أم الذين يؤخّرون الصلاة عن وقتها، وما هو جزاء مؤخّر الصلاة إلى أجل معين بعذر كان أو بدون عذر؟
* الظاهر من قوله تعالى ]فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[ الذين يصلّون ولكنهم يسهون عن الصلاة، أي الذين يسهون عن وقتها، وهذا هو القدر المتيقن منها. وقد نستوحي منها السهو عن معناها وعن الخشوع والخضوع وما إلى ذلك. أما من يؤخّر الصلاة فإنّ منزلته كمنزلة تارك الصلاة، لأنّ المراد ليس تارك الصلاة تماما فقط إنما الذي لا يؤديها في وقتها، لأنّ القضاء هو واجب آخر، وهو غير واجب الصلاة في وقتها.
معنى اللفظ القرآني:
* قلتم في تفسيركم (من وحي القرآن) مقدمة الطبعة الثانية إن اللفظ لا يحمل إلا معنى واحداً ومعنى الواحد له مفاهيم متعددة، فما هو تعليقكم؟
* نحن نقول إن الكلمة العربية لها معنى واحد وضع له اللفظ في غير المشترك اللفظي، فلا يستعمل اللفظ في معنيين في آن واحد، فهناك معنى واحد فقط لا غير، لكن نفس هذا المعنى الواحد ربما يفهمه كلّ فرد بطريقته الخاصّة هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يمكن أن يمتدّ هذا المعنى الواحد في مصاديقه وفي خطوطه إلى معانٍ كثيرة مثل معنى التوحيد. ففي فهمنا لتوحيد اللّه تعالى أن معناه أن تقول إن اللّه واحد، وقد يُعبّر ذلك عن الوحدة لكنّه يمثّل عمق التوحيد وامتداداته، وهذا المعنى يشتمل على الكثير من المفاهيم والخطوط، كما في كلمة العدل. فكلمة العدل هي أن تعطي كلّ ذي حقّ حقّه، ولكن ما هو الحقّ؟ وكيف يطبّق؟ وما إلى ذلك. وهكذا الأمر في المفردات القرآنية الأخرى.
توبة المشرك:
* قال تعالى ]إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[(2). فالغفران يأتي بعد التوبة، فهل تدلّ هذه الآية على عدم غفران الشرك حتى مع التوبة؟
* الآية دالة على أن اللّه لا يغفر للإنسان الذي يموت على الشرك ولكنّه يغفر للإنسان الذي يموت على الإيمان وعلى بعض الانحرافات التي لا تتصل بأصل الإيمان والتي قد ترتبط بالجانب العملي. أمّا إذا تاب الإنسان من الشرك فأصبح مسلما فإنّ اللّه يغفر له، وقد غفر اللّه لكلّ المسلمين الذين كانوا مشركين ثم دخلوا في الإسلام، بمعنى أن اللّه لم يحاسبهم على الشرك عندما تحوّلوا إلى الإسلام، فاللّه في هذه الآية يتحدث عن المشركين الذين يموتون على الشرك، وعن غير المشركين الذين يموتون على بعض الانحرافات الفكرية والعملية التي لا تبتعد عن خط الإيمان كثيراً.
سبيل الكافرين على المؤمنين:
* يقول تعالى ]وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا[(3). ألا ترون أن سبل الكافرين اليوم على المؤمنين كثيرة، فكيف هي حيلولة اللّه بين المؤمنين وبين سبيل الكافرين؟
* ورد في بعض التفاسير ]وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا[ أي لن يجعل للكافرين الحجّة على المؤمنين، وليس السبيل ـ كما قد يتصوّر البعض ـ على مستوى الواقع بلحاظ الجانب السياسي أو الأمني أو الاقتصادي. وإذا كانت بمعنى السلطة والهيمنة فالآية تنفي شرعية هذه السلطة ووجوب إزالتها والتحرّر منها.
إني كنت من الظالمين:
* جاء في كتاب اللّه المبين ]لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ[(4). فهل يمكن القول إن المراد بقوله تعالى ]إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ[. إني كنت من المشركين، باعتبار أن الشرك ظلم عظيم، أم أنّ لهذا المقطع معنى آخر؟
* إنّ الظلم في الآية عام، وعندنا في الحديث الشريف ((الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفر، وظلم مطلوب لا يترك، وظلم يغفر، فأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه))(5). كأن يؤذيها أو يضرّها أو يتعبها من غير أن يروّح عنها، فهذا يسمّى بظلم النفس. وقد يكون الظلم من خلال اتخاذ مواقف حادة، فنتيجة لمواقف يونس(ع) جعله اللّه سبحانه وتعالى في بطن الحوت، وهي مواقف لا تنافي العصمة لكنّها ظلم للنفس.
الالتزام بالعبادات وارتكاب المحرّمات:
* يقول تعالى ]إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[(6). لكنّنا نرى أنّنا نجمع بين ارتكاب المحرّمات والالتزام بالعبادات من جهة أخرى. فما هو تعليقكم على هذا الواقع الازدواجي؟
* ليس المقصود بنهي الصلاة عن الفحشاء أنها تمنعها فعليا ولكنها تمنع الفحشاء بحسب العناصر الموجودة في داخلها. فالصلاة ترشد الإنسان إلى أن ينهى نفسه عن الفحشاء والمنكر، كمن يقول إن هذه مدرسة جيدة، فهل معنى ذلك أن كلّ من يدخل المدرسة ينجح؟ أم أنه يجب أن يدرس ويجد ويجتهد؟ فبرامج المدرسة جيدة، والذي يدرّس فيها جيد، وكلّ ذلك يساعد على النجاح. وكذلك هي الصلاة، فهي مدرسة الإنسان الذي يعيش عناصرها ومعانيها وإيحاءاتها فهو قد يحصل على هذه النتائج من خلال ذلك كلّه، وليس مجرد أداء الصلاة كافياً لتحقيق ذلك. وقد ورد في الحديث ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه الا بعدا))(7). فالإنسان الذي لا يحاول أن يدرس دروس الصلاة ويعيش إيحاءاتها ومعانيها فإنّها بدلاً من أن تقرّبه إلى اللّه تبعده عنه سبحانه وتعالى.
القصاص قبل الجناية:
* في قضية الغلام الذي قتل الخضر مع النبي موسى(ع) وحسب ما ورد في سياق الآية ]وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفرا[(8). كيف يجوز القصاص قبل الجناية علماً أن الغلام لم يتجاوز السنّ القانوني، وكذلك ليس هناك تعبير مجازي يدلّ على انه أرتكب جريمة؟(*)
* اعتراضك هذا هو اعتراض موسى(ع) ]قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس[(9). ولكن مسألة العبد الصالح مع موسى(ع) كانت من المسائل التي أراد اللّه أن يعرّف موسى(ع) من خلالها جانبا من الحقيقة الخفيّة التي لا تظهر على السطح، لأنّ موسى(ع) كان يعمل على أساس الشريعة، والشريعة ـ عادة ـ تتعامل مع الناس بحسب الظاهر، وقد أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يعرّفه أن هناك بعض القضايا التي يحسبها الناس خيرا وهي شرّ، وأن بعض الأشياء التي يحسبها الناس شراً هي خير مثل السفينة التي خرقها ]قال أخرقتها لتغرق أهلها[(10). قال له فيما بعد ]أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها[(11). لأنقذها من الجبار الذي يلاحقها.
واللّه تعالى لم يبيّن لنا السرّ في ذلك، وهو الذي أمر العبد الصالح بقتله، وقد لا يكون غلاما، بمعنى أنه لم يبلغ الحلم، باعتبار قوله تعالى ]فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا[. ومعنى ذلك أنه كان يعيش حالة من الطغيان والكفر والانحراف بما يستحقّ معه القتل، فهو يعيش حالة الفساد والإفساد، ولقد استحقّ القتل من خلال طغيانه وكفره، وإن لم يطلع الناس على ذلك.
الذين عند ربّك:
* قال تعالى ]إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ[ (12). فمن هم هؤلاء الذين عند ربِّك؟ هل هم الملائكة؟
* الظاهر أن المقصود في الآية الكريمة هم الملائكة، واللّه العالم.
إشراك موسى(ع) هارون في الرسالة:
* كيف جاز للنبي موسى(ع) أن يطلب من الحقّ سبحانه أن يشرك أخاه هارون في الرسالة باعتباره أفصح منه لساناً مع العلم أن ذلك يعتبر تفضيلاً للنبي هارون على النبي موسى(ع)، وإذا كان هناك مجال بالنسبة للنبي أن يطلب شريكاً لتحمّل أعباء الرسالة، فلماذا لم يطلب بقية الأنبياء ذلك؟
* ليس من الضروري أن يكون ذلك قاعدة عامّة.وإذا فرضنا أن موسى(ع) طلب من اللّه أن يشرك أخاه هارون معه ليكون وزيراً من أهله لأنه أفصح منه لساناً فليس من الضروري أن يكون هارون أفضل من النبي موسى،بل إن عناصر الشخصية التي يتمتع بها موسى في الجانب القيادي الذي تمثّله النبوّة في مواقع القيادة والتحدي وإدارة الأمور تجعل موسى في الموقع المميز على هارون، ولذلك اصطفاه اللّه نبياً ولم يرسل هارون، لأن دوره دور ثانوي في موقع المساعد لا الأصيل. ثم إن المشكلة التي واجهها موسى(ع) لم يواجهها نبي آخر، وهي أن اللّه أرسله إلى فرعون الذي كان يقول: ]أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى[(13). والذي كان يسيطر على كلّ المنطقة يومذاك،كما كان يسيطر بطريقة الاستعباد على كلّ مجتمع موسى،ولذا قال له موسى(ع): ]وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ[(14). فلقد كان طلب فرعون من موسى أن يرسل بني إسرائيل لكي يستعبدهم ويذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وكان موسى في ذلك الوقت، نتيجة هذا الضغط، يحتاج إلى شخص يسنده، فكان هارون شريك موسى، ولكن الدور كان لموسى(ع). ففي البداية خاطبهما فرعون معا ثم خاطب موسى لوحده، حيث قام موسى بالدور الرساليّ كاملاً.
المشركون لا يؤدّون الزكاة:
* يقول تعالى: ].. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ^ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ[(15). نرجو تفسير هذه الآية، وإعلامنا لماذا ذكر الله الزكاة، خصوصاً وأن هؤلاء مشركون لا يؤدّون زكاة ولا غيرها؟
* الظاهر ـ والله العالم ـ أن اللّه أراد أن يبيّن نقطة الضعف في سلوك المشركين، وذلك بأن يصفهم بأنهم لا يعيشون إنسانيتهم التي تنفتح على إنسانية الإنسان الآخر من خلال الانفتاح على حاجاته. وربما لا يرادُ بالزكاة هنا الزكاة المفروضة بالمعنى المصطلح، وإنّما يراد منها ما يبذله الإنسان للآخرين من خلال تحسّسه لحاجاتهم مما يمكنه أن يعينهم فيه. فكأن اللّه يقول إنّ في هؤلاء المشركين صفة فكرية سلبية وأخرى عملية سلبية. فأمّا الصفة العملية السلبية فهي انّهم لا يؤتون الزكاة، أي أنهم لا يساعدون الناس ولا يعاونونهم، بل يعيشون ذاتياتهم فيما ملّكهم الله من مال ويكفرون بالآخرة.
الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ:
* ما المقصود من قوله تعالى: ]بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ^ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[(16)؟
* الظاهر ـ والله العالم ـ أن الله يريد أن يقول للإنسان إنك أعرف بنفسك من خلال دوافعك ومن خلال نيّاتك وأهدافك من غيرك، فأنت قد تعتذر للناس بأنك قصدت هذا أو قصدت ذاك، ولكنّك أعلم بنفسك مما لا يعلمه غيرك، فكن في حياتك منطلقاً من خلال وعيك في بصيرتك للأمور في نفسك ولا تتحرّك مع المعاذير التي ربما يتقبّلها الناس منك لأنّهم لا يعرفون واقعك، ولكنك تعرف أنها أعذار لا واقع لها.
توفية النفوس:
* ]اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا[(17). ما المقصود بهذه الآية؟
* معناها أن الله يبلّغ النفوس حصتها في الحياة عندما يأتي أجلها، أي عندما يأتي الموت.
حمل العرش:
* ما هو تفسير الآية الكريمة: ]وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[(18). ألا يوحي ذلك بالتجسيد ؟
* ليس معنى عرش اللّه العرش الذي يجلس عليه اللّه كما يجلس الملوك على عروشهم، فهذه من الأمور الغيبية الخفية التي لا نعرف تفاصيلها، وربما يكون العرش أعلى موقع يمثل الملك والسلطة، وربما يكون أعلى موقع في الكون، وهو أيضاً كناية عن موقع سلطة الله وسيطرته، والله العالم.
دون واسطة جبرئيل:
* هل الرواية التي رويت أن سورة الإخلاص وآية الكرسي نزلتا دون واسطة جبرئيل صحيحة أم لا؟
* هذا أمر لا يقدّم ولا يؤخّر، فالمهم أن سورة الإخلاص وآية الكرسي هما من القرآن، وهما تؤكدان الجانب التوحيدي، وعلينا أن نعمل بهما، وقد وصلتا إلى النبي(ص) من الله سبحانه وتعالى.
]وَجْهُ رَبِّكَ[:
* ما هو تفسير قوله تعالى ] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[(19). ولماذا خصّص الله سبحانه وتعالى الوجه بالذات؟
* الوجه هو عنوان الشخصية وليس المراد بالوجه العضو في الجسد لأن اللّه ليس جسدا ف]كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ[(20). فالوجه هنا الذات مثلما تقول لأحدهم ((أنا بوجهك)). فيستعار بكلمة الوجه للذات. وإلا لو فسّرت بالوجه بمعنى العضو، فان ذلك يعني أن اللّه جسم وله أعضاء وكلّ أعضائه تهلك ألا الوجه.
]وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّا[:
* ما معنى قوله تعالى ]وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياّ[(21)؟
* إن اللّه لا ينسى، لأن الأشياء كلّها حاضرة في علمه ]لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى[(22).
بين الشكر والكفر:
* ورد في القرآن الكريم قوله تعالى ]وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[(23). لكن الذين يتأمّلون في هذه الحياة يلاحظون عكس ذلك تماما، فالذين يشكرون الله ويصلّون له ويفعلون ما أمرهم ترى أكثرهم من الفقراء أو من أصحاب المصائب والذين يكفرون بالليل وبالنهار ويفعلون المعاصي كلّها دونما رقيب أو حسيب نجد أنهم من أصحاب الأموال الضخمة الذين يعيشون حياة طيبّة لا تعب فيها ولا نصب،فيكف تفسّرون هذه الآية في هذه الأجواء؟
* يقول اللّه تعالى ]وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا[(24). هذا أولاً. وثانياً: من قال لك إنّ الذي يملك المال الكثير هو إنسان مرتاح ف ]لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا[(25). فلو عرفت المشاكل والآلام والبلاء الذي يصيب أصحاب الثروات لهربت من الثروة كلّها لتعيش مع أهلك في راحة بال وراحة ضمير. إنّ مشكلة بعض الناس أنهم يحدّقون بالسعادة من جانب آخر، ويشعرون بها في الجانب الذي يفقدونه. فنحن – مثّلاً – نجد أن غير الجميل يجد السعادة في الجمال، ولكنّه لو درس بعض الذين يملكون جمال الوجه فرأى أنهم يملكون قبح الغباء في الفكر، لتمنّى أن يكون دميم الوجه على أن يكون له جمال الفكر. لذلك فقوله تعالى ]لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ[. لا يعني أنّ الزيادة هي في المال فقط، فقد يزيدك اللّه في نعم كثيرة ليس المال أكثرها. ثم أن اللّه سبحانه وتعالى قد حدّثنا على أن في المال جانباً إيجابياً وآخر سلبيا،ً فهو بلاء ]فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ^ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ[(26). لذلك فإن السؤال ينطلق من التحديق بالجانب المالي في النعمة.والله يتحدّث في المسألة من جانب شمولي بما يعلم أنه يُصلح الإنسان الشاكر.
عرشه على الماء:
* يقول تعالى ]وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ[(27). فكيف ذلك؟
* لم يكن هناك إلا الماء، فكان الماء مظهر سلطته، والعرش كناية عن السلطة وعن الملك، والله العالم.
الذبح العظيم:
* يقول تعالى ]وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ[(28). فما المقصود بالذبح؟
* الذبح هو الشاة، فقد قدّمت فداء عنه. وقد خلّد اللّه عزّ وجل ذلك بالأضحية التي فرضها في الحج، واستحبّها في الأضحى، تذكيراً للناس بإبراهيم(ع) وإسماعيل(ع) عندما أسلما أمرهما إلى اللّه السميع العليم.
السجود كرها:
* يقول تعالى ]وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ[(29). فكيف يكون السجود كرها والله تعالى يقول في آية أخرى ]فمن شاء فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[(30). علماً أن بعض الناس لا يسجدون؟
* الآية ليست مختصّة بالناس، بل هي تتحدث ـ والله العالم ـ عن كلّ ما في السماوات والأرض، وإذا كانت (من) في الآية للعاقل فإنها قد تشمل غير العاقل أيضا للتغليب. ولعلّ المراد من السجود الخضوع لله الذي يخضع له من في السماوات والأرض إمّا اختياراً وإما كرهاً، لأن الجميع خاضعون للنظام الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في الكون للإنسان وللحيوان وللنبات ولكل المخلوقات الحيّة والجامدة والنامية، فكلّها تسجد لله سبحانه وتعالى لا سجود الجبهة ولكن سجود الوجود، فالوجود كلّه والموجودات كلّها تسجد لله من خلال خضوعها لإرداته في سننه في النظام الكوني والنظام الإنساني.
المصائب والقضاء والقدر:
* الآية الكريمة ]مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[(31). هل لهذه الآية علاقة بالقضاء والقدر؟
* إنّ لهذه الآية علاقة بعلم الله سبحانه وتعالى، فهو يعلم ما يفعله الناس وما يحدث لهم في المستقبل، ولكن ذلك لا ينافي الاختيار مما جعله الله تحت إرادة الناس، لأن الله يعلم الأشياء بأسبابها، فهو يعلم أنك تموت بالسبب الفلاني، ويعلم أنك تنتصر من جهة الأخذ بأسباب النصر، وانك تنهزم من خلال الأخذ بأسباب الهزيمة. ولذلك فإن علم الله بالأشياء قبل وجودها لا يلغي علاقة الأشياء بأسباب الاختيار، فالله يعلم أنها ستحصل باعتبار أنه مطلّع على المستقبل فيرى حصولها، ولكن من خلال أسبابها. وإذاً فعلم الله بالأشياء لا يلغي الرجوع إلى سبب الأشياء.
]لن أكلّم اليوم إنسيا[:
* في سورة مريم جاء قوله تعالى ]فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا[(32). فكيف نذرت أن لا تكلّم إنسياً؟ وكيف تقول لهم؟
* قالت بالإشارة لا بالكلمة..
اتهام أمهات المؤمنين بالفاحشة:
* يقول تعالى ]لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ[(33). هل أنّ عائشة أم المؤمنين وماريا القبطية اتهمتا بالفاحشة؟
* عندما أثيرت مسألة الفاحشة وتحدّث المؤمنون بها نهاهم اللّه عن أن يتحدثوا عن ذلك. لأنّها لم تكن واقعية في مضمونها الخارجي، كما أنّ على المؤمنين أن لا يتحدّثوا عن هذه الأمور على مستوى حديث الإشاعات من دون تدقيق، بل من المفروض في إيمانهم أن يحسنوا الظن بالمجتمع الإيماني من حيث المبدأ ما لم يثبت لهم غير ذلك.
الرزق والفقر:
* الآية القرآنية تقول ]وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ[(34). لكننا نلاحظ رغم ذلك أن آلاف البشر يموتون جوعا بسبب الاستغلال، ونجد الملايين العاطلين عن العمل في كثير من الدول، فأرجو إيضاح معنى هذه الآية؟
* إن اللّه سبحانه وتعالى قدّر للناس رزقا ]اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ[(35). والله سبحانه وتعالى نظّم الكون على أساس أن تكون بعض الأراضي خصيبة وبعضها جديبة، وبعض الأوضاع الاقتصادية مرفهة رخيّة، وبعضها ضاغطة خانقة.فلذلك يموت من يموت ويحيا من يحيا حسب التنظيم الإلهي. فقوله تعالى ]وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ[. هو حسب ما فرضه اللّه في رزقكم الذي قد يكون واسعاً وقد يكون ضيّقاً. هذا مع ملاحظة أخرى وهي أنّ اللّه سبحانه جعل الرزق لعباده بما يكفيهم ولكن استغلال بعضهم لظروف الواقع وسيطرته على الثروة من دون حق أو صرفها في غير مواردها الضرورية هو الذي يؤدّي إلى الكوارث الاقتصادية أو حالات المجاعة أو البطالة وما إلى ذلك على هدي الكلمة المأثورة عن الإمام علي(ع) ((ما جاع فقير إلا بما متع به غني))(36). فالقضية لم تنطلق من منع اللّه البعض الرزق لبعض عباده، بل من منع الناس لهم من خلال الأسباب العادية التي أجرى اللّه النظام على أساسها.
نفور طائفة:
* يقول تعالى]فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ[. فهل نفهم من ذلك أن فرض الجهاد في سبيل الله يسقط عن الأمة بأجمعها أم لا؟
* لا ليس ذلك، فقوله تعالى ]وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ[(37). معناه أننا نحتاج إلى أناس يجاهدون ويتفقّهون في الدين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، تماما مثل احتياجنا للمهندسين في الحرب والمخططين لها والخبراء بالأسلحة وما إلى ذلك. فالله تعالى يقول من خلال هذه الآية إنّ الأمة كما تحتاج إلى من يعدّ نفسه لقتال أعدائها بالسلاح تحتاج كذلك إلى من يعدّ نفسه ليقاتل أعداء الدين بالكلمة والتفقّه والوعي.
اليوم المعلوم:
* قال إبليس للّه تعالى ]قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[(38). فكان الجواب ]قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ ^ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ[(39). فلماذا كان الطلب (إلى يوم يبعثون) والجواب (إلى يوم الوقت المعلوم) فهل هناك فرق بين التوقيتين؟
* المعنى واحد ولكن الكلمتين مختلفتان، فاليوم المعلوم هو يوم يبعثون، وهو اليوم الذي تحدّث عنه اللّه في القرآن كلّه. فاليوم المعلوم هو اليوم الذي يعلمه الناس من خلال ما حدّثهم اللّه عنه في كتابه، ولذلك فالمقصود هو يوم القيامة، وهذا من باب التفنّن في التعبير.
التوفيق بين آيتين:
* قال اللّه تعالى ]وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا[(40). وفي آية أخرى ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ[(41). فكيف نوفّق بين الآيتين الكريمتين خاصة وأن الرسالة الإسلامية لم تصل إلى كلّ البشر؟
* المقصود بالآية الأولى هو أن اللّه لا يعذّب إنسانا حتى يقيم الحجّة عليه. وأمّا الآية الثانية فهي تتحدث عن الذين أقام اللّه الحجّة عليهم. فقوله عزّ وجل ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا[. يعني الشخص الذي كان بإمكانه أن يعرف الحقّ والباطل ولكنه اتّبع الباطل وترك الحقّ.
البحث عن تفسير القرآن:
* في حال قراءتي للقرآن أجدني غير قادر على فهم بعض الآيات، فهل يجب عليّ البحث عن تفسيرها لكي لا يصيبنا الريب؟
* نعم، على الإنسان أن يتدبّر القرآن، وإذا لم يفهم آية ما، فإمّا أن يحاول أن يقرأ التفسير أو أن يسجّلها حتى يسأل من له معرفة في القرآن.
]إنْ هي إلاّ فتنتك[:
* قال تعالى على لسان موسى(ع) ]أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ[(43). فالرجاء أن تعطينا التفسير الصحيح لمعنى الفتنة هنا؟
* كان موسى(ع) عندما أنزل اللّه الصدمة على الذين كانوا معه في مقام التضرّع للّه، فكأنّه يقول للّه تعالى صحيح أن هناك من السفهاء من عصوك، فهل تهلكنا بسببهم وانت العادل؟ ولم يكن ذلك اعتراضا من موسى(ع) على اللّه تعالى ولكّنه كان تضرّعاً وتساؤلاً.. وقوله تعالى ]إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ[. الفتنة هنا تعني الاختبار أي أنّ اللّه مرّر قوم موسى بأكثر من اختبار، وسقط الكثيرون من أبناء قومه في الامتحان، ولعلّ الذين جاءوا مع موسى(ع) كانوا ممن سقط في الامتحان، والله العالم.
تطبيق حكًم قطع يد السارق:
* يقول تعالى ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[(44). فكيف يمكن تطبيق هذا الحكم في عصرنا الحالي؟ علماً أنه عند تعطيله انتشرت السرقة بشكل كبير في المجتمع، فمن المسؤول عن تعطيل هذا الحكم الإلهي؟ وإن طبّق فكيف يمكن للإنسان أن يتوضّأ؟
* أولاً: إنّ هذا الحكم يطبّق في بعض البلدان الإسلامية، ومن الطبيعي فان أغلب القوانين الموجودة في البلدان الإسلامية هي قوانين علمانية وليست قوانين إسلامية. أمّا مسألة كيف يتوضأ؟ فهناك حل شرعي كما في الحديث انه لا يقطع من أصل الكف ولكن من الاصابع؟ وهذا هو حديث الإمام الجواد(ع) عن قوله تعالى ((إن المساجد للّه)). فلا يقطع ما كان للّه. ولذلك فإنّ القطع هو للاصابع، ويمكن أن يتوضّأ من خلال ذلك.ثم لا مشكلة لو كان القطع من مفصل الكف لأن بامكانه الوضوء في الباقي من اليد إلى المرافق، كما لو قطعت الكف في حادث فلا تعطل حدود اللّه بسبب ذلك.
التأويل والاستنباط:
* هل التأويل هو منهج الاستنباط عند أهل البيت(ع)؟
* التأويل هو عبارة عن إرجاع الأمور إلى مصادرها وإلى مواقعها، وكان الأئمة من أهل البيت(ع) يوضّحون للناس ذلك. أمّا إذا أريد بالتأويل حمل اللفظ على غير معناه، فإنّ ذلك يخضع لمنهج التفاهم في اللغة العربية. فنحن نعرف أنّ أي لفظ يدلّ على معناه الموضوع له أي معناه الحقيقي. لكن إذا أراد الإنسان أن يتحدّث عن اللفظ ويريد به غير معناه فهذا هو المجاز مشروطاً أن يكون لهذا المعنى علاقة بالمعنى الحقيقي وهذا هو الاستعارة أو الكناية، وعليه أن يقيم دليلاً على ذلك وقرينة تصرف اللفظ عن المعنى الحقيقي. أمّا في غير ذلك فإنّ التأويل يكون على خلاف القواعد العربية، وأهل البيت(ع) لا يبتعدون عن البلاغة فهم أفصح الناس.
اختلاف الأمّة الواحدة:
* ورد في القرآن العظيم ]كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ[(45). فلماذا هذا الاختلاف إذا كانوا أمّة واحدة؟
* لم تكن الحاجات سابقاً معقّدة كثيرة، ولكن اختلفت حاجاتهم حينما اتسعت وتنوّعت فاختلفوا فيها وعندما جاءهم العلم انطلقت غرائزهم وأطماعهم وشهواتهم فأثّرت على الخط الواحد.
دور الأئمة(ع) الإرشادي في التفسير:
* يذكر السيد الطباطبائي في تفسير الميزان إنّ القرآن واضح ويفسّر بعضه بعضاً وأنّ الأئمة(ع) لهم دور الإرشاد في التفسير، فما هو رأيكم؟
* نحن معه في هذا، لأنّ اللّه أنزل القرآن نوراً وهو يضيء نفسه ويضيء للناس طريق الحق ولهذا فحتى المتشابهات في القرآن تردّ إلى محكماتها، وإلاّ فالقرآن نزل ظاهراً والأئمة(ع) يطبّقون بعض الظواهر القرآنية على الواقع. وفي أغلب تفاسير الأئمة(ع) تجد التفسير التطبيقي وليس التفسير المفهومي.
في قانون الاستبدال:
* قال اللّه تعالى ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [(46). فما هو تفسير هذه الآية؟
* هذه الآية تمثل خطاً عاماً وهو أن بعض الناس قد يتصورون أنّهم إذا وقفوا مع الإسلام فسوف ينتصر الإسلام، أمّا إذا ارتدّوا عنه وابتعدوا فسوف يسقط فكأنهم العالم كلّه، واللّه تعالى يقول لهم من خلال الآية ـ إنكم لستم أول الناس ولستم آخرهم، فإذا أعرضتم وكفرتم ]فسوف يأتي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ[(47). فلا تحسبوا أنفسكم أنكم في الموقع الذي إذا ابتعدتم فيه عن الساحة بقيت الساحة فارغة. وقد ذكر بعض علماء التفسير ومؤرخي أسباب النزول تفسيراً تطبيقياً لهذه الآية لا يتنافى مع الفكرة التي تريد الآية إيضاحها.
رتق السماء وفتقها:
* ما تفسير قوله تعالى ]أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا[(48)؟
* أي أن السماء كانت رتقاً مغلقة بحيث لا ينزل منها المطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت فانفتحت على النبات هنا كما انفتحت السماء على المطر هناك.
الهُمَزَة اللُمَزَة:
* ما معنى قوله تعالى ]وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ[(49)؟
* الذي يعيب الناس ويذكرهم بالسوء ويؤذيهم.
بغير علم:
* قال تعالى ]وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ[(50). فما معنى قوله (بغير علم) هنا؟
* يعني بغير حجّة، فاللّه يتحدث دائماً عن هؤلاء الذين لا يؤمنون به، أو الذين يشركون به، في أنّهم لا يتحرّكون من موقع العلم، بل من موقع الجهل لأنّهم لا يملكون الحجّة على ما هم فيه.
]خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ[ :
* ما تفسير الآية ]خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ[؟
* المراد منها الجانب الغريزي الكامن في الإنسان في أنّه يستعجل الوصول إلى ما يريد ولا يتأنّى في ذلك، ولكنه لا يمثل الحالة الحتمية التي لا فكاك منها، فيمكن للإنسان كما أراد اللّه له أن يرّبي نفسه على التأنّي في علاج الامور بالفكر والتخطيط، ولهذا أراد اللّه سبحانه وتعالى منه أن يحكّم عقله وأن يستمع إلى ما يمنعه من العجلة ]سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ[(51).
حديث القرآن عن السماء:
* تحدّث القرآن الكريم عن السماء كثيراً وفي عدة مواضع، في كلّ مرّة يتحدث بحديث مختلف، فنرجو توضيح قوله تعالى ]وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ[(52). ]وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ[(53). ]وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج[(54). ]إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ[(55)؟
* في الآية الأولى (الطارق) هو أحد النجوم، و(ذات الرجع) يعني الصدى القوي من خلال حركة الرعود و ]وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج[. باعتبار وجود البروج فيها، وأمّا قوله تعالى ]إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ[. فهذا حديث عن بدايات أو علامات يوم القيامة، وهو مثل قوله عزّ وجل ]إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّت[(56).
]تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[:
* لقد ورد في الكتاب العزيز وفي أحاديث متعدّدة عن المعصومين(ع) أنّ القرآن فيه تبيانٌ لكلّ شيء وتفصيل لكلّ شيء فما المقصود بكلّ شيء؟
* ]تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[(57). مما يحتاجه الناس في حياتهم الأخلاقية والعبادية والاجتماعية والإيمانية وما إلى ذلك. وليس المراد بكلّ شيء علم الكيمياء والفيزياء وما ناظر ذلك، لأن اللّه أراد للإنسان أن يكتشف ذلك بنفسه من خلال التفكير ومن خلال التجربة.
الخيريّة:
* قال تعالى ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ[(58). فماذا حدث لتلك الأمة التي كانت من هذه الفئة المقصودة، ولماذا لم نتمسك بهذه الفضيلة التي فيها صلاح الناس والعباد؟
* فلنحاول أن نرجع إلى ما كنّا عليه وإلى ما أريد بنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الخطوط السياسية والاجتماعية والشخصية وما إلى ذلك، لأنّ (الخيريّة) ليست خيرية قومية أو إقليمية أو عرقية ـ ولكنّها (خيرية) حركية في خطّ مواجهة الواقع الفاسد بالإصلاح.
]مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[ :
* ما معنى الآية الكريمة ]مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[(59)؟ هل المراد احتواء القرآن على كلّ شيء؟
* ]مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[. أي ما يحتاجه الإنسان في تربيته ونظام حياته، وليس المقصود ـ كما أوضحنا ذلك مراراً ـ الجوانب العلمية، لأنّ اللّه أراد للإنسان أن يكتشف أسرار العلم من خلال جهده وفكره ولم ينزل ذلك في قرآنه. ولكن من الممكن أن تكون هناك بعض اللمحات العلمية في القرآن ولكنّ كتاب اللّه لم ينطلق من أجل هذا.
الطيّبون للطيّبات:
* ما تفسير قوله تعالى ]الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[(60). هل هذه قاعدة مطّردةَ؟
* ربما كانت هذه الآية الكريمة واردة على نحو ((كلّ شكل لشكله ألف)). أي أن الطيبين ينسجمون وينجذبون للطيّبات والخبيثين ينسجمون وينجذبون للخبيثات، لأنّ الإنسان ينجذب لمماثله ولابدّ له أن يختار من يماثله ديناً وأخلاقا والتزاما، لا بمعنى أن الخبيث لابدّ أن يتزوّج خبيثة، وأن الطيّب لابـدّ أن يتزوّج طيّبة، فكم من الطيّبين تزّوجوا خبيثات وكم من الخبيثين تزوجوا طيّبات.فهي ليست في مقام التشريع بل هي في مقام تصوير طبيعة التناسب بين النماذج الإنسانية في حالات السلب والإيجاب، لأن الخبث في حركيته في الإنسان يجتذب الطيب في اجتذاب الشيء لما يمائله في العنصر.
كتب عليكم:
* قال تعالى ]كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[(61) فلماذا نعتبر كلمة (كتب) هنا ليس فرضا كما في ]كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ[(62). أو ]كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ[(63)؟
* ظاهر الفعل (كتب) بحسب العرف العام الفرض، لكن دلّ الدليل على أن المقصود بها هنا غير الفرض، وقد قال بعض العلماء أنّها منسوخة بآية الإرث، وهناك جدل حول هذا الموضوع، أي أنّ هذا كان واجباً في فترة ما ثم بعد ذلك نسخ، ولكن الظاهر هو غير ذلك. ولذلك فلا مانع – عندنا – من الوصية للوارث بالإضافة إلى إرثه الشرعي، فيكون المراد بالكتابة حسب الدليل أعمّ من الفرض.
التربية اليهودية:
* يذكر القرآن اليهود دائماً بمكرهم وقتلهم الأنبياء وصعوبة التصديق بوعدهم، فهل هذه عقدة متأصّلة في الجنس اليهودي لكي لا يركن إليه؟
* أي أنّ التربية اليهودية سائرة على ذلك في التأريخ كلّه، ولعلّهم يربّون العنصرية والعصبية ضد الآخرين. فاللّه تعالى يحدّثنا عن اليهود في قوله ]وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلا[(64). والمقصود بالأميين عندهم كلّ من ليس يهودياً، أي ـ على ضوء ذلك ـ يستطيعون قتل الأميين واغتصاب ممتلكاتهم، ولذلك قال اللّه تعالى عنهم ]لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا[(64).
عامان هجريان:
* جاء في الآية الكريمة ]وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ[(65). أنا مرضع وأريد أن أفطم طفلي ولا أدري هل العامان المذكوران في القرآن هجريان أم ميلاديان؟
* الظاهر أنّهما هجريان.
]أمرنا مترفيها ففسقوا[:
* قال تعالى ]وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[(66). فما هو تفسير هذه الآية؟
* ليس معناها أمرنا مترفيها بالفسق ]قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ[(67). وإنّما (أمرناهم) يعني كلّفناهم وأردناهم أن يسيروا على الخط الصحيح فعصوا فدمرناها. وهناك تفسير آخر يتصل بالمعنى الكنائي في اعتبار الأمر التكويني في علاقة السبب بالمسبّب.
بين الدعوة والأمر بالمعروف:
* في قوله تعالى ]وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[(68).ما هو الفرق بين مفهوم الدعوة إلى الخير وبين مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصعيدين اللغوي والفقهي؟
* الظاهر إن عملية الدعوة إلى الخير هي عملية ثقافية، بمعنى أنّ الإنسان يدعو الناس إلى الخير العقيدي والخير الشرعي والخير الواقعي من أجل أن يقتنعوا به، ومن أجل أن يتمثلوه في حياتهم. أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما دعوة للتغيير، بمعنى انّ هذا الإنسان يعرف أنّ هذا معروف فيتركه ويعرف أنّ هذا منكر فيفعله، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتصلان بوسائل تغيير الواقع.
بئس الاسم الفسوق
* ما تفسير هذه الآية الكريمة ]بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ[(69)؟
* الظاهر – والله العالم – أنّ المقصود بذلك هو أنّ الإنسان الذي يغتاب الناس سوف يأخذ لقب الفاسق لاغتيابه بعد أن كان مؤمناً لأن الغيبة من المعاصي الكبيرة.
إراءة إبراهيم(ع) ملكوت السماوات والأرض:
* في قوله تعالى ]وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[(70). فهل كان إبراهيم(ع) غير مقتنع بظواهر الكون الدالّة على وجود خالق منظّم، أم هي واردة بمثابة الحجّة؟
* الأقوى أنّ إبراهيم(ع) كان يستعرض العقائد الباطلة الموجودة في زمانه، وكان يحاول أن يطرحها كما لو كانت متبنّاة من قبله حتى يستمع الناس إليه وهو يناجي نفسه، ويتراجع عن الفكرة بحجّة مقنعة. وإلا فإنّ إبراهيم(ع) كان منذ طفولته مؤمناً، وهذا ما نستوحيه من حديثه مع أبيه.
ثماني حجج:
* ]قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ[(71).فما هو المقصود من ثماني حجج؟
* يعني أن يخدمه ثماني سنين ]فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا[(72). يعني الامتداد بالخدمة عشر سنين.
المحاججة بالسنّة:
* من وصية لأمير المؤمنين(ع) إلى عبد اللّه بن عباس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج، قال: ((لا تخاطبهم بالقرآن فإن القرآن حمّال لوجوه تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً))(73). فكيف تتم المحاججة بالسنّة في زماننا خاصة وأن هناك الآلاف من الأحاديث الموضوعة والضعيفة؟
* ليس معنى قول الإمام(ع) أنه لا يصحّ الاحتجاج بالقرآن، فالقرآن كتاب حوار وجدال، ولقد جادل وحاجج أهل الكتاب والكافرين والمشركين والمنافقين، ولكن القضية في تجربة الخوارج كانت من القضايا التي يحتاج فيها أن توضع النقاط على الحروف. فالقضية تفصيلية لأنّهم كانوا قد تعلّقوا بالشعارات (لا حكم الاّ للّه). ولذا فان الإمام(ع) قال – في رده عليهم – ((كلمة حق يراد بها باطل)). ولذلك أيضاً أراد(ع) لابن عباس أن يذكر لهم كلمات رسول اللّه(ص) في أمثال هذه القضايا التفصيلية حتى يفحمهم بذلك. أمّا الآن فهناك الكثير من الأحاديث الصحيحة الموجودة والمروية عن رسول اللّه(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) الذين يعتبر حديثهم من السنّة ايضاً، ويمكننا أن نحاجج بأحاديثهم تماماً كما نحاجج بأحاديث جدهم رسول اللّه(ص).
استجابة الدعاء:
* قال تعالى: ]ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[(74). فاذا دعا المؤمن ولم يستجب له، فكيف يمكن أن نفهم هذه الآية؟
* أولاً: قد يدعو المؤمن اللّه سبحانه وتعالى في حالة يكون فيها ممن لا يستجاب فيه دعاؤه، وقد يدعو اللّه أيضاً بشئ يتعلّق بالإضرار بالآخرين، وقد يدعو اللّه بشئ لم تتحقق شروطه، كمن يريد ولداً بمجرد أن تحمل زوجته، فيقول: اللّهم ارزقني ولداً كاملاً سوياً في الشهر الأول، وهذا بطبيعة الحال لا يكون، لا لعجز في قدرة اللّه تعالى وهو القادر على كلّ شئ، ولكنه غير ممكن من ناحية السنن، فللّه سنن في خلقه. أو أنّ فلاّحاً يضع البذرة في التربة ويدعو: اللّهم اجعل هذه البذرة شجرة كاملة في الحال،وهي بعد لم تستكمل شروط إنباتها. فكثير من الناس قد يدعو دعاءً لا مصلحة له فيه، أو لم تتحقق سنن اللّه في الكون فيما دعا به. أو قد يتعلّق ما يدعو به بالإضرار بالآخرين، والله عزّ وجل لا يريد ذلك، كمن يدعو على مؤمن، أو أنّ أماً تدعو على أولادها، من دون أن يكون ثمة ذنب لأولادها، أو أن تدعو الحماة على الكنّة لأنها غاضبة عليها فتسأل اللّه أن يطلّق ولدها زوجته أو ما شاكل ذلك.فهذا وغيره مما يندرج تحته هو من الدعاء الذي لا يستجاب، ولا بدّ أن يُفهم أنّ للدعاء شروطه، وأنّ هناك ذنوباً قد تحبس الدعاء كما في (دعاء كميل) ((اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء))(*).
الإعراض عن الجاهل:
* قال تعالى ]وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ[(75). ]وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[(76). أليس في هذا الخلق تشجيع للجاهل على التمادي في جهله؟ وكيف يجب على المؤمن أن يواجه الآخرين الذين يسيئون إليه بالشتم والإهانة؟ والى أي حد يا ترى يجب الإعراض؟
* هذا السؤال أجاب عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في (رسالة الحقوق) حيث يقول ((وأمّا حقّ من ساءك فأن تعفو عنه، فان رأيت أن العفوّ عنه يضرّه)) بحيث سيشجعه على الاعتداء على الناس والامتداد في عدوانه ((انتصرت)) ]وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ[(77).
]آتنا ما وعدتنا على رسلك[:
* ما معنى الوعد في الآية ]رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ[(78)؟
* الوعد هو أن يعطيهم اللّه سبحانه وتعالى ما كان الأنبياء(ع) يعدونهم من جزاء على أعمالهم، فمن الممكن أن يتعلّق الوعد بالنسبة للآخرة، وهو مما يمكن أن يعطيه اللّه لعباده المؤمنين من ألطافه ورحمته ورزقه وجنّته ورضوانه.
لماذا المتقون؟
* يقول اللّه تعالى ]الم ^ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[(79). فلماذا كانت هذه الآية متعلّقة بالمتقين حصراّ؟
* هذا يعني أن القرآن هدىً للذين يعيشون روح التقوى ويهتدون بها، لأنّ الذين لا يعيشون روحية التقوى لا يقرأونه ولا يتأمّلون فيه لا يتدبّرونّه.
منافع المحرّمات:
* قال تعالى ]يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[(80). فما هو المقصود بالمنافع في هذه الآية؟
* يعني قد تأتي القمار ببعض الأرباح، وقد تحصل بالخمرة بعض النشوة، ولكنّ النتائج السلبية المترتبة على تعاطي المحرّمات أكثر من النتائج الايجابية.
مشروع التفسير الموضوعي:
* لقد وضع السيد الشهيد الصدر الأول (رض) حجر الأساس لما أسماه بالتفسير الموضوعي للقرآن الذي يقابل التفسير السائد وهو التجزيئي، حيث يبدأ السيد تفسيره من الواقع وينتهي إلى القرآن، فلماذا لا يكمّل المفكّرون والمفسّرون هذا المشروع؟
* أعتقد أنّ التفسير الموضوعي في تفاصيله قد حدث في الكثير من التجارب. مثل السنن التاريخية في القرآن، والإنسان في القرآن، والمرأة في القرآن، وأسلوب الدعوة في القرآن، والحوار في القرآن، وما إلى ذلك، فهذه كلّها تمثل تجارب في التفسير الموضوعي التي تجمع الآيات التي تعالج موضوعاً معيناً وتكتشف الفكرة الأساسية من خلال مجموع تلك الآيات، بل أنّ بعض التفاسير التي تسمى تجزيئية تشتمل أحياناً على التفسير الموضوعي عندما تعالج الموضوعات بشكل أو بآخر.
القرآن المهجور:
* قال تعالى ]وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا[(81). فكيف حكم اللّه أنّ القوم هجروا القرآن، علماّ أنّ الآية لم تكن آخر آية في القرآن؟
* هجروا المقدار الذي نزل عليهم من القرآن،فالقرآن يطلق على بعض القرآن وعلى القرآن كلّه، فالآية تعتبر أنّ كلّ ما نزل من اللّه من وحيه سبحانه وتعالى على النبي(ص) هو قرآن.
قتل النفس:
* قال تعالى ]وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ[(82). فهل أراد بقتل النفس الموت؟ أم قتل الشهوات؟
* هناك أحاديث تقول إنّه كان محكوما على تلك الجماعة بالقتل، وهناك من يقول إنّ الآية واردة على نحو الكناية.
السؤال عمّا لا يعنيك:
* ما معنى قوله تعالى ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ[(83)؟
* من إيحاءات هذه الآية هي أنّ على الإنسان أن يسأل عمّا يعنيه وعمّا يدخل في صلب مسؤوليته، وعمّا يحقّق له النتائج الإيجابية العملية والفكرية في الحياة. أمّا أن يسأل عن أشياء لا تعنيه، أو يسأل عن أشياء لو سأل عنها لوقع في ورطة ومشكلة، لأنّ اللّه لم يكلّفه بها، فينبغي أن يمتنع عن السؤال عنها. ولذا يقال في كلمة للإمام علي(ع) ((إنّ اللّه فرض فرائض فلا تتركوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلّفوها رحمة من اللّه بكم))(84).
النفس الأمّارة بالسوء:
* قال تعالى ]إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي[(85). فكيف تأمر النفس بالسوء؟ وهل النفس عدوّ للإنسان؟ واذا كانت كذلك، فهل تشبه عداوتها للإنسان عداوة الشيطان؟
* المقصود من النفس الأمّارة بالسوء هي حركة الغرائز في داخل نفس الإنسان، وحركة نقاط الضعف الموجودة في داخله، فهي تدفع الإنسان إلى أن يلبّي شهواته، والى أن يحرّك أنانيته، وما إلى ذلك. واللّه سبحانه وتعالى ذكر أنّه يرحم الإنسان، إذا سيطرت النفس الأمّارة عليه، وذلك من خلال عقله، ومن خلال الوحي الذي زوّده به. وقد قال الشاعر (الجواهري):
والنفسُ كالفرس الجموح وعقلها مثل اللجام
فعندما تجمح الفرس فيمكنك أن تشدّها باللجام فتربطها وتهدّئها. وعندنا – كما ورد في القرآن - النفس المطمئنّة، والنفس اللّوامة النفس الأمّارة بالسوء، والنفس في الحقيقة واحدة وهذا التصنيف يمثّل حركية النفس بحسب طبيعة اندفاعها، وبحسب طبيعة الحالة النقدية التي يربّي فيها الإنسان ذاته على أن تنقد حركاته. لذلك فإن النفس المطمئنّة هي التي يعيشها الإنسان من خلال إيمانه وتربيته وعقله وإرادته.
صفات المستضعف:
* يقول تعالى ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا[(86). فما هي الصفات التي تجعل الإنسان مستضعفاً؟ وتوجب عليه الهجرة إلى بلاد أخرى؟
* المستضعف هو الذي يشعر بأنّه غير قادر على التماسك والتوازن والصبر على الضغوط التي تحدق به، فينحرف عن الخط المستقيم نتيجة قوة المستكبرين الضاغطة التي تلجؤه إلى اتخاذ قرار الهجرة من أرضه وداره.
الاختلاف بين الناس:
* قال تعالى ]وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[(87). فما المقصود بالاختلاف هنا؟ هل هو الاختلاف في المذهب، أو اختلاف في الدنيا؟ وإذا كان كذلك فما هو ذنب المختلفين؟
* إن اللّه سبحانه وتعالى يتحدّث عن سنّته التاريخية في واقع الإنسان، لأنّه خلق لكلّ إنسان عقلاً مختلفاً عن عقل الإنسان الآخر، وبالتالي فإنّ له تجربة تختلف عن تجربة الإنسان الآخر. وعلى ضوء ذلك فلابدّ أن ينجم الاختلاف عن ذلك، وفي هذا الاختلاف الكثير من النتائج الايجابية وربّما تحصل بعض النتائج السلبية. فليست المسألة هي أنّ اللّه شاء الاختلاف في المجال الفكري بمعنى أنّه أجبر الناس على ذلك، ولكنّه ركّب فيهم ما يمكن أن يؤدّي إلى ذلك.
تارك الصلاة:
* هل أن تارك الصلاة مشرك؟ فلقد جاء في (سورة الروم) )منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ((88)؟
* تارك الصلاة عن إهمال ليس مشركاً، ولكن تارك الصلاة عن إنكارٍ لها يعيش قريبا من معنى الشرك. والمقصود بقوله تعالى )لا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(. لا في ترك الصلاة إهمالاً، ولكن في معنى الشرك الروحي، لأنّ الإنسان الذي يعيش الوحدانية في العبادة لابدّ أن يعيش الوحدانية في الطاعة، وبذلك تكون الصلاة هي التجسيد العمليّ للوحدانية مما يكون تركها مقرّباً من الشرك في النتائج.
وأمر بالعرف:
* قال تعالى ]خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ[(89). فهل كان رسول اللّه(ص) يدعو أمّته إلى ما كان متعارفاً عليه من قبل الناس؟
* قوله سبحانه ]وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ[ يعني الأمر بالمعروف الذي تعارف الناس على أنه خير وبر وصلاح، وليس ما تعارف عليه الناس من عادات وتقاليد وأوضاع وعلاقات ربما كان فيها الكثير من المستهجن أو المستنكر. فقد يكون ما تعارف عليه الناس منكراً، وإذ ذاك لا يصحّ أن يؤمر النبي(ص) بما هو منكر أو ما هو مخالف للشريعة والعقيدة والأخلاق.
ثانياً: مسائل قرآنية عامّة
تضمين آية في الشعر الغنائي:
* هل هناك إشكال شرعي في تضمين القصيدة أية قصيدة آية من القرآن ثم تلحين تلك القصيدة، وهل يصدق على ذلك عنوان الهتك؟
* هذه المسألة أثيرت أخيرا في لبنان من خلال قصيدة قالها (محمود درويش) الشاعر الفلسطيني المعروف وقد ضمّنها قصة يوسف (ع) كرمز للإنسان المقهور من قبل محيطه، وليس المقصود يوسف بالذات، وإنما اعتبر يوسف رمزاً للإنسان المقهور والمجتمع المقهور من المستكبرين وما إلى ذلك. وضمّن هذه القصيدة التي عنوانها ((أنا يوسف يا أبت)) قوله ((هل أخطأت عندما قلت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)). هذه القصيدة لحنت وغناها أحدهم والقضية قديمة، وقد أثيرت في الوسط الثقافي من جديد بشكل يسيء للإسلام حيث بدأ العلمانيون واليساريون والمثقفون وكلّ اليمين واليسار بالحديث عن أن الإسلام ضد الحريات، وأنّ هذا رجل ملتزم وإلى آخر ما هناك من تعليقات وآراء.
ولقد درسنا الموضوع ورأينا أن مسألة تلحين القرآن بطريقة غنائية حرام، وكان البيان الذي أصدرناه من أجل أن نقف أمام هذه الهجمة على الإسلام.وقلنا إنّه لابد من المحافظة على المقدسات، ولا نجيز تلحين القرآن بالطريقة الغنائية المتعارفة لأنّ في هذا إساءة للقرآن. وقلنا لا يجوز تلحين حتى الآية من القرآن بالطريقة الغنائية المعروفة . ولكننا نرى أن ليس في هذا اللحن لهذه الآية في أجواء هذه القصيدة التي لها بعد إنساني يرمز إلى المستضعفين أمام المستكبرين أية إساءة للقرآن، بل هذا أمر موجود أيضا في الأناشيد الإسلامية التي تقدّم مصحوبة بالموسيقى المتعارفة، فعندنا نشيد للمقاومة الإسلامية يقول (يا أيها المدثر . قم فأنذر) وآخر (إنا أعطيناك الكوثر) ويقدّم مع الموسيقى. ولذلك فليس في ذلك هتك للقرآن ، وقد نصحنا كلّ القائمين بالعمل الإسلامي بذلك. فلم يكن رأينا فتوى بل كان معالجة للقضية على أساس وضع القضايا في نصابها الصحيح. فلقد أحدثت الأغنية مشكلة على مستوى الواقع الإسلامي، وقد نشرت الصحف أن هناك اجتماعا تأييديا لهذا الرجل، وقد بيع من هذه الأغنية ما لم يبع في كلّ تاريخها والرجل اشتهر في أكثر من منطقة جديدة من جرّاء ذلك، ولذا أقول عندما نطلق كلمة حقّ فلا يكفي أن تكون الكلمة كلمة حق حتى نطلقها، بل لابدّ من رصد النتائج المترتبة عليها، فقد تقول كلمة في جو تكون النتائج فيه سلبية وضد الحق تماماً، فالإنسان يجب أن يدرس الواقع على ضوء قوله تعالى ]وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[(1). فالحكمة هي أن تدرس الواقع عندما تتحرّك فيه.
القرآن الصامت:
* ما مدى صحة الرواية القائلة بأن هذا القرآن الذي بين أيدينا هو قرآن صامت، ولابد من أجل فهمه من الرجوع إلى القرآن الناطق. فما هو القرآن الناطق؟ فإذا كانت روايات أهل البيت (ع) هي هذا القرآن فهي كذلك كلمات صامته، والله يقول ]وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[(2)؟
* من الطبيعي أن اللّه أنزل القرآن على الناس ليفهموه من خلال كلماته، لأنّه سبحانه وتعالى يقول]قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ[(3). فهو قرآن صامت بلحاظ أن الكلمات صامته لا تتحرك، ولكنها ناطقة بمعانيها الظاهرة من الكلمات وبإيحاءاتها المنفتحة عليها. والقرآن الناطق هو الرسول (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) الذين يبلّغون كلام الله باعتبارهم مفسّرين لما يتشابه منه وما يحتاج إلى تفسير وتفصيل. وإلاّ فالقرآن في ظواهره كلّها واضح، وعلينا أن نأخذ به وهو الحجّة علينا في ذلك كلّه.
فهم الرسول (ص) للقرآن:
* إنّ بعض العلمانيين يعترف بأنّ النصّ القرآنيّ هو من عند الله ولكن عندما وصل إلى سيدنا النبي (ص) أصبح نصّاً بشريا، وأن فهم الرسول فهم بشريٌ بحسب طبيعته البشرية، فما هو ردّكم على قوله؟
* لقد تحدّثت مع هذا الشخص وهو الدكتور (نصر حامد أبو زيد) شخصياً، وقلت له إنه نسب إليك أنك قلت إنّ القرآن هو نصّ إلهيّ ولكن فهمه، بما فيه فهم النبي له، هو فهم بشريّ. وقلت له إنّ النبي (ص) لم يكن مجرد ساعي بريد ينقل للناس الكتاب، ولكنّه كما يقول الله سبحانه وتعالى]وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ[(4). فدوره هو دور المعلّم ودور النبي ودور المرشد والمربّي والمذكّر، ولذلك لابدّ أن يكون فهمه معصوما، كما لا بدّ أن يكون نقله للقرآن معصوما. فقال إذاً سوف أقول إن الرسول يفهم القرآن فهما بشرياً لا يقع فيه الخطأ.
التفاؤل بالقرآن:
* نرى أن بعض الروايات تتكلّم عن التفاؤل بالقرآن، فهل التفاؤل هو نفس الاستخارة؟ وما مدى صحّة التفاؤل في القرآن؟
* هناك بعض الروايات التي تتحدث عن ذلك، لكن القرآن ليس كتابا للاستخارة، وليس كتابا للتفاؤل، وإن كان من الممكن للإنسان أن يستخير ويتفاءل فليس ذلك محرّما، لكن علينا أن ننطلق في القرآن باعتباره نورا، وباعتبار كونه كتابا يخرج الناس من الظلمات إلى النور لنفهمه ونتدبّره ونعقله ونعمل به ولا نجمّده بتحويله إلى مجرد كتاب للبركة أو للاستخارة.
معاهد لتعليم القرآن:
* ذكرتم أهمية القرآن وضرورة الاهتمام به، أليس جديرا بنا أن ننشيء معاهد لتعليم القرآن وتحفيظه لجميع الأعمار وخصوصا الأعمار الصغيرة، حتى نجعل القرآن ملازما لهم في حياتهم المستقبلية؟ هل تستطيعون أن تبذروا هذه البذرة الخيّرة؟
* نحن نعمل في هذا الاتجاه، وهناك ندوات لتعليم القرآن، وسنعمل إن شاء اللّه من خلال هذه الحوزة (المرتضى بدمشق) في التخطيط لذلك.
الانشغال عن قراءة القرآن:
* أنا طالب علم وفي شهر رمضان تبدأ الامتحانات الفصلية، فهل انشغالي في الدراسة يعذرني في رمضان حيث لا أتمكن من قراءة القرآن بما يكفي؟
* هذه مشكلة سهلٌ حلّها، فيمكنك أن تنشغل بدروسك وتقرأ ولو صفحة أو صفحتين من القرآن في اليوم. ولا يوجد هناك انشغال بالمستوى الذي لا يستطيع الإنسان معه أن يقرأ القرآن أو يصلّي أو يمارس عباداته الأخرى ولو على نحو القدرة والاستطاعة.
الطريقة الغنائية في ترتيل القرآن:
* يقول تعالى ]وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا[(5). ولكنّنا نلاحظ أنّ بعض قرّاء القرآن الكريم وبعض قرّاء المراثي الحسينية يقرأون القرآن والقصائد بنغمة المقام، فهل هذا حرام؟
* اذا كان هذا يسيء إلى حرمة القرآن وقداسته فلا يجوز. نعم إذا فرضنا أنّ هذا نوع من الترتيل ولو بطريقة جديدة، فلا بأس بذلك.
فائدة قراءة الفاتحة للميّت:
* ما فائدة قراءة الفاتحة للميت وللقارئ؟
* الفاتحة هي جزء من القرآن، وقيمتها قيمة قراءة القرآن، حيث يبعث بثوابها إلى الميت، حسبما ورد في بعض الروايات.
التعامل مع الجن قرآنياً:
* يدّعي بعض الذين يتعاطون مع مسألة الجن والقرين وما إلى ذلك،أنّهم يطلبون من المتعامل معها قراءة الفاتحة أو آية الكرسي بالمقلوب،فهل يجوز للمسلم أن يفعل ذلك؟
* علينا أن نتحفّظ في دعواهم ودعوى الذين يعتبرون الجن يعلمون الغيب، ويستطيعون إقلاب السماء على الأرض،وما إلى ذلك من الخزعبلات . فاللّه يحكي لنا عن سليمان بقوله ]فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ[(6). فنحن نؤمن بالجن باعتبار أنها مخلوقات خفيّة حدثنا اللّه عنها. أمّا من يتحدث عن الجن بهذه الطريقة فإنه يسيء للقرآن، وإلاّ فعلى أي أساس يقرأ الفاتحة بالمقلوب واللّه أنزلها بترتيبها المعروف؟! فهذه ألاعيب ليس لها حقيقة، وعلينا احترام عقولنا بأن نجنبها الوقوع في الترهات،فنحن للأسف نرى أن كثيراً من الناس يبيعون عقولهم لهؤلاء الذين يتحدثون مع الجن ويحضّرون الأرواح،وهم يتقبّلون ذلك بلا نقاش،بل يدفعون المال من أجل ذلك.
القرآن بكتابة الإمام علي (ع):
* صحيح أنّ القرآن عند الشيعة لا يختلف عن القرآن عند جميع المسلمين اليوم، ولكن هل صحيح أنّ القرآن بكتابة الإمام علي (ع) فيه البيان والتفسير؟
* لقد كتب الإمام علي (ع) القرآن بخطّ يده لأنّه الأعلم بالقرآن من كلّ المسلمين، وباعتبار أنّه كان يرافق النبي (ص) عند نزول الوحي عليه، وكان يرى ما يـراه ويسمع ما يسمعه، كما حدّث عن نفسه في (نــهج البلاغــة) في خـطاب النبي (ص) له ((إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع ولكنّك لست بنبيّ))(7). ولكن قيل بأنّ القوم عندما جاء علي (ع) يحمل إليهم هذا الكتاب لم يتقبّلوه منه، فبقي في عهدة الأئمة (ع) الذين قالوا إنّ هذا القرآن الذي بين أيدي الناس والذي بين الدفتين هو الذي أنزل على رسول اللّه (ص) وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولذلك أرادونا أن نعرض كلّ حديث ينسب اليهم على كتاب اللّه ((فما وافق كتاب اللّه فخذوهُ وما خالف كتاب اللّه فدعوه، كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف)).
مصطلحات في علوم القرآن:
* العام والخاص والمطلق والمقيّد والمبهم والمجمل والمبيّن.. هذه الاصطلاحات في علم القرآن هل تدخل تحت باب الناسخ والمنسوخ، علماً أنّنا لاحظنا بعض العلماء عدّها كذلك حتى قيل إن آية السيف نسخت ما يقرب من مئة آية؟
* إنّ المطلق والمقيّد ليس نسخاً، فحسب ما يقول الأصوليون فإنّ المقيد هو شرح المراد من المطلق، وإنّ المطلق لا يراد من إطلاقه بل يراد حصّة منه من قبيل القرينة عليه. وهكذا الأمر بالنسبة للعامّ والخاصّ.
أمّا المجمل والمبيّن، فالمبيّن يشرح المجمل ولا علاقة لهذا أيضاً بالناسخ والمنسوخ، وأمّا قولهم إنّ آية السيف نسخت آيات العفو والرحمة فهذا غير صحيح، لأنّ لآية السيف موقعا وهو موقع الجهاد، ولآيات الرفق والرحمة موقعا آخر وهو موقع الدعوة والحياة الخاصة والعامة على صعيد العلاقات الاجتماعية.
إسلام إبراهيم (ع):
* يحتجّ القرآن الكريم على اليهود والنصارى الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، أنه مسلم والتوراة والإنجيل نزلا قبل القرآن، فكيف يكون ذلك؟
* إنّ معنى (أسلم) ليس هو المعنى المصطلح المتداول بين المسلمين، أي إتباع النبي محمد (ص) ولكن معنى مسلم هنا هو الأساس للإسلام، والذي يعني إسلام الوجه والقلب واليد واللسان للّه ]قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ[(8).
المعوّذتان:
* هل صحيح أنّ هناك من العلماء من يقولون بأن المعوذتين ليستا من القرآن؟
* هناك قولٌ ولكنّه شاذّ لأنه يقوم على روايات شاذّة وساقطة سنداً وعلى اجتهادات خاطئة. ولكن الرأي الإسلامي العام أنّهما من صلب القرآن الثابت بالتواتر وفيه المعوذتان.وهذا ما لاحظناه من تثبيت المعوذتين في القرآن وتأكيد الأئمة والعلماء من سائر المذاهب على ذلك.
الفصل الثاني
المسائل العقيدية
هل النار حقيقية؟
* لقد ذهب بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين إلى أن النار التي يخوّف اللّه بها عباده هي ليست نارا حقيقية، وإنما هي وسائل تطهير يطهّر اللّه بها عباده المذنبين لكي يتأهلوا للدخول إلى الجنة، فلا خلود بنحو مطلق في النار، وهذا مظهر من مظاهر رحمة اللّه، فما هو ردّكم؟
* يمكن لأي إنسان أن يفكّر بطريقته الخاصّة، ولكن ما هو الدليل على هذه الفكرة؟ إن اللّه سبحانه وتعالى يحدثنا عن ماء يغلي]كَغَلْيِ الْحَمِيمِ[(1). ونار تشوي، ولها زفير وتكاد تميّز من الغيظ، وترمي بشرر كالقصر و]كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ[(2). فهذه الآيات القرآنية تدلّ على أنها نار ماديّة حسّية، وليس هناك دليل على إرادة المجاز، لأنّ اللفظ يؤخذ بظاهره وبالمعنى الحقيقي، إلاّ إذا قام هناك دليل بمستوى الدليل الذي أكده الظاهر، لان المراد هو المعنى المجازي وليس المعنى الحقيقي. وقول هؤلاء كقول بعضهم إنه ليس هناك جنّة ونار، إنّما الجنّة هي الحالة النفسية التي يحسّ فيها الإنسان بالسعادة، والنار هي الحالة النفسية السلبية التي يشعر الإنسان فيها بالألم والعذاب والمهانة. وهذه – على أية حال – فكرة، ولكن ما الدليل عليها؟ فعندما نريد أن ننسب للإسلام فكرة فعلينا أن نقيم الدليل عليها، بل حتى إذا أردنا أن نؤوّل آية فعلينا أن نقيم الدليل على تأويلها ، خاصّة وأنّ بعض المفكرين يحاول أن يخضع الآيات القرآنية للتأويل أيضاً، وهنا لابدّ أن يكون التأويل منسجما مع قواعد اللغة العربية، ولا يكون حالة مزاجية للإنسان، وإلاّ فكلّ إنسان يقدر أن يؤوّل كلّ كلام على ما يحب وعلى ما ينسجم مع مزاجه.
وسعني قلب عبدي المؤمن:
* تردّدون دائما حديث ((ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)). وقد قرأت قولاً للإمام الصادق(ع) يقول: ((من زعم أن اللّه تعالى في شيء أو من شيء أو على شيء فقد أشرك به إذ لو كان على شيء لكان محمولاً، ولو كان من شيء لكان محدثا ولو كان في شيء لكان محصورا تعالى اللّه عن ذلك علواّ كبيرا))(3). ألا ترون أن هناك تناقضا بين الحديث الذي تروونه وبين قول الإمام(ع) فأيهما أصحّ؟
* كلاهما صحيح، لأنّ قوله عزّ وجل (وسعني قلب عبدي المؤمن). وارد على نحو الكناية، فالعبد المؤمن الذي يؤمن باللّه يشرق اللّه في قلبه وعقله وحركته من خلال إيمانه، فليس المراد الوجود المادي في قلب الإنسان المؤمن وإنما الوجود المعنوي، فكلّ إنسان مؤمن يعيش اللّه في عقله وقلبه وحركته، لأن الإيمان يجعل الإنسان يشعر بحضور اللّه سبحانه وتعالى في كيانه بحيث يراه بقلبه وإن كان لا يراه بعينه، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المجال.
التقية وبذل النفس:
* هل هناك تعارض بين ما قررتموه في هذه الندوة من وجوب بذل النفس في سبيل حفظ الدين، وبين مبدأ التقية الذي تقرره الآية ]إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً[(4). من حيث أن هذا المبدأ يسمح للإنسان أن يحافظ على ذاته على حساب حركته الدينية؟
* لـيس هناك تناقض بين الأمرين، لأن الحديث الوارد عــــن الإمام الصادق(ع) عندما يتحدّث عن التقية يختتم حديثه بقوله ((من غير استفساد في الدين)) فإذا كانت التقية لا تؤدّي إلى إسقاط الدين ولا تؤدّي إلى إيجاد فساد أساسي في الدين فلا مشكلة. نعم إنّ التقية تشرّع في بعض الأشياء الجزئية . أما ما جاء في حديثنا فهو قول الإمام(ع) ((أما إذا نزلت نازلة فلتكن أنفسكم أمام دينكم))(5). وهذا معناه أنه عندما يستلب منك دينك فلا تقية.
علاقة الشفاعة بالعدل:
* أرجو توضيح مفهوم الشفاعة في الدين الإسلامي، وما علاقتها بالعدل الإلهي؟
* معنى الشفاعة هي أن اللّه سبحانه وتعالى يشفّع أناسا اختصهم بكرامته، وهناك أناس أراد اللّه أن يفتح لهم أبواب رحمته، وأراد لأولئك الناس أن يشفعوا لهؤلاء الناس بمقتضى البرنامج الذي وضعه لهم للشفاعة في موقع رضاه، ليغفر لهم من خلال إرادته للشفاعة وإظهارا لكرامة الشفعاء. والعدل لا يقتضي أن لا يعاقب المجرم على جريمته بل يقتضي انه إذا أراد اللّه أن يعاقب المجرم على جريمته كان ذلك عدلاً منه، ولكنّه سبحانه يمكن أن يعفو عن المجرم في كثير من الحالات، وهذا يختلف مع العدل الإلهي فإن العفو الإلهي، والعدل الإلهي يترافقان من خلال حكمة اللّه ورحمته ((وأيقنت أنك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة)). كما ورد في (دعاء الافتتاح).
ذات اللّه:
* هل يجوز لنا أن نقول إن اللّه ذات ولكن ليس كمثله شيء؟
* نعم، يمكن قول ذلك.
وصف اللّه بنص السنّة:
* تطرّقتم إلى القول مضموناً إنّ اللّه تكاد تنحصر معرفته بما وصف به ذاته، وذلك بنص القرآن وليس بنصّ السنّة الشريفة، أليست السنّة قد عرّفتنا ذلك أيضاً؟
* قلت إن اللّه تعالى وصف نفسه إمّا من خلال القرآن، أو من خلال ما أوحى به إلى النبي(ص) مما هو ليس قرآنا ].. وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.. [(6). وكنا نتحدّث عن كلام الإمام الكاظم(ع) في أن نحرّك عقولنا في الموضوع بما لا نملك أية وسيلة للمعرفة فيه.
شرّ القضاء:
* تقولون أحياناً في الدعاء: ((وقنا شرّ ما قضيت)) فهل قضاء اللّه شر؟
* المقصود بالشرّ هنا ليس الجريمة، إنّما يعني البلاء في مقابل الخير من حيث المرض والأمور الأخرى،وكذلك ما يكون عقوبة إلهية في الدنيا جزاء بعض الأفعال التي نقوم بها.
بين العقل والأنبياء:
* إذا كان العقل البشريّ يميز الصحيح من الخطأ، ويفرز بين الصالح والفاسد، فلماذا يبعث الله الأنبياء؟
* هناك أشياء لا يدركها العقل، والعقل قد يخطئ لأنه غالبا ينطلق من خلال قراءة أو تجربة أو بيئة معينة، فكان لابد من عقل ظاهر وهم الأنبياء(ع) حتى يسدّدوا للإنسان مسيرته نحو الله.
مصير العلماء الذين خدموا البشرية:
* على ضوء حديثكم المتقدّم حول ارتباط العلم بالإيمان، يبرز السؤال التالي: ما هو مصير العلماء غير المؤمنين الذين قدّموا للبشرية خدمة كبرى في اختراع أو اكتشاف، هل أن مصيرهم كمصير علماء المؤمنين؟
* أولاً: الإيمان هو الأساس، لأن الإيمان هو القاعدة التي يرتكز عليها الإنسان في علمه، وقيمة العمل إنّما هي بالإيمان، ولذلك ربط اللّه سبحانه وتعالى بين الإيمان وبين العمل الصالح، فلم يتحدّث عن الإيمان وحده ولم يتحدّث عن العمل الصالح وحده. ولسنا نتدخل في ما هو أمر اللّه فهو وحده يعرف الدوافع، لكن الملاحظ أن هؤلاء لم يشتغلوا للّه إنما اشتغلوا لأنفسهم، فليس لهم حق على الله من هذه الجهة.
نعم، هناك بعض فقهاء المسلمين يقولون إنّ الله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان الذي يفعل الخير للناس، وان لم يكن ذلك الخير لله، ما يعوّضه عن ذلك. وهذا ما يظهر من بعض كلمات السيد اليزدي صاحب (العروة الوثقى) في ملحقات العروة.
هل التقية مبدأ باطني؟
* هناك من يقول إن مبدأ التقية باطني، فما هي التقية في نظركم**؟
* التقية هي عبارة عن أسلوب عملي في حماية الخط أو حماية الشخص. ودعوني أسألكم هل في عالمنا العربي اليوم، في الخط السياسي تحديداً.. هل هناك من لم يستعمل التقية؟ إن أغلب الناس تعمل بالتقية فما من أحد يستطيع أن يصرّح بما يؤمن به دائما وفي جميع الأحوال، فالتقية هي خط إنساني وليس فقط خطاً إسلامياً واللّه تعالى يقول ]إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ[(7). فالتقية هي إذن حالة اضطرار، أو الحالة التي تريد أن تحفظ فيها الخط أو المنهج، أو تحفظ فيها نفسك في الوقت الذي لا تكون القضية أكبر من نفسك، أمّا إذا كانت أكبر من نفسك فعليك أن تضحّي بنفسك. ولذلك يقيّد الإمام الصادق(ع) التقيّة بالقول ((من غير استفساد في الدين)). صحيح أن التقية تعلّقت بالشيعة باعتبار الجانب المذهبي، وإلاّ انظروا في الواقع ألا توجد عندنا تقية سياسية واجتماعية ومذهبية؟ .. أليس عندنا أناس لا يستطيعون القول بحرية وصراحة ولو قالوا لاضطهدوا ؟!
فالتقية السياسية موجودة في العالم كلّه خصوصاً في العالم الثالث حيث عندنا أكثر من تقية: إجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية ومذهبية، كما أن عندنا تقية دينية وذلك عندما يعيش الإنسان بين أناس يدينون بغير دينه، ممن يعيشون العصبية ولا يسمحون للأديان الأخرى بحرية العبادة، ولذا تبقى التقيّة ما بقي الضغط وبقي الاضطهاد وما بقي الظلم.
الأنبياء غير أولي العزم:
* هل نفهم من صفة أولي العزم أنّ غيرهم من الأنبياء لم يكونوا من أولي العزم؟
* طبعاً، فهناك أنبياء أساسيون ـ إذا جاز التعبير ـ وهناك أنبياء جاءوا بعدهم ليعملوا بشريعتهم ومنهاجهم وهم الأنبياء غير أولي العزم.
عبادة إبراهيم(ع):
* هل أن إبراهيم(ع) كان يعبد الشمس والقمر والنجوم كما صرّح بذلك في القرآن؟ ألم يكن مخلصاً وكان أمة قانتاً للّه؟
* كان إبراهيم(ع) مؤمناً مخلصاً منذ مطلع حياته، ولكنّه أراد أن يردّ على هذه العقائد المنحرفة بطريقة لبقة، بحيث يصوّر نفسه شاكّاً، عندما رأى الكوكب قال هذا ربي كيما يبيّن لاحقا نقطة الضعف في هذا الموضوع، بحيث يبطل آراء قومه بأسلوب غير مثير. ولذا علينا أن نتكلّم عن الأسلوب الحكيم في مواجهة الآخرين من دون إثارة حساسياتهم.
الضارّ والنافع:
* كيف نوفّق بين بعض صفات اللّه التي تبدو متضادّة مثل (الضارّ والنافع) و(الجبّار والرؤوف)؟
* أي مانع من أن يكون اللّه الضّار في الموقع الذي يكون فيه الضرر هو الحكمة، والنافع في الموضع الذي يكون فيه النفع حكمة. وهو الجبارّ لأنه وحده الذي يملك الجبروت وهي القوة التي تتغلب على كلّ القوى، والرؤوف أيضاً لأنّ عباده بحاجة إلى رأفته ورحمته، فلكلّ من صفات اللّه موقعه.
هل العصمة واحدة؟
* هل أنّ الأئمة (ع) معصومون بدرجة واحدة من العصمة، أم أنّ عصمتهم تختلف بين إمام وآخر؟
* ليس من مسؤوليتنا معرفة ذلك، بل مسؤولياتنا هي أن نعتقد بعصمتهم حتى نأخذ ما جاءنا عنهم على أساس أنّه يمثل الحقّ الذي لا يقترب اليه الباطل من قريب أو من بعيد. أمّا ضرورة عصمتهم فهي كضرورة عصمة النبي(ص) وأنّهم هم الأمناء على الشريعة في امتدادها وأصالتها، وعن قيادة المجتمع بحسب الدور الذي أوكل اليهم من اللّه، فلذلك لابدّ أن يمتلكوا ما يعصم الدور كلّه من خلال ذلك.
ربّ الأرباب:
* قرأت في كتاب (مصباح المتهجّد) دعاء جاء فيه أنّ اللّه عزّ وجل هو ((ربّ الأرباب وإله الآله)) فما هو المقصود بذلك؟
* المقصود أنه إله الآلهة المدعاة وليس المقصود أنّ هناك أكثر من إله أو أكثر من رب، وهذا مثل قوله تعالى ]فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[(8). أي يدّعون الخلق كما في بعض التفاسير.
ما الحكمة في الآفات الطبيعية؟
* ما الحكمة في الآفات الطبيعية؟ وإذا كان العذاب للكفّار، فما ذنب المسلمين يموتون من جرّاء الآفات وخصوصاً الاطفال؟
* أولاً: الآفات الطبيعية – ليست كما يتصوّر البعض من الناس – عقاباً دائماً، وإلاّ إذا أخذنا بهذه النظرة فإن الموت مأساة أيضاً في حين أنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق الكون على أساس سنن وقوانين مودعة في كلّ الظواهر الكونية الثابتة والمتحرّكة. ولمّا كان عالمنا عالم المحدود ضمن القانون الطبيعي، فلابدّ أن تنتج هذه الظواهر بعض السلبيات، وليس من الضروري أن تكون هذه السلبيات مطلقة. ففي الفيضانات سلبيات لكنّها تغمر الأراضي التي لا يصلها الماء بالمياه، والزلزال لها فوائد، والبراكين لها فوائد وما من ظاهرة تنتج أية سلبية إلاّ وهناك ايجابيات في مقابلها. واللّه تعالى أجرى أمور الكون بحكمة، وغاية ما هناك أننا لا نستطيع أن نفهم حكمة اللّه فيما يمكننا أن نكتشفه منها إلاّ بدراسة الأمور من جميع الجهات، لا من جهة السلب فقط. ثم أنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول لك إذا صبرت على البلاء فالدنيا ليست نهاية المطاف فهناك الدار الآخرة وفيها]يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[(9). ]وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ ^ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ^ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ[(10).
عصمة الأنبياء (ع):
* هل جميع الأنبياء (ع) معصومون؟ أم أنّ العصمة مقصورة على النبي(ص)؟
* كلّهم معصومون بلا استثناء، لأنّ دور الأنبياء(ع) هو أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ولا يمكن أن يرسل اللّه تعالى نبياً يعطي الناس النور وفي عقله أو قلبه أو حياته شيء من الظلمة. ثم أنّ علينا أن نتّبع رسول اللّه(ص) الذي جمع الرسالات كلّها، لأنّ ما يهمّنا الآن هو عصمته باعتباره خاتم الانبياء والمرسلين خاصّة وأننا ندين بالدين الذي جاء به.
لماذا لم تستمر النبوّة؟
* لماذا لم تستمر النبوة كما استمرّت من آدم إلى نبينا(ص) فهل ثمة ضرورة لأن تنقطع النبوّة وتبدأ الإمامة؟ ولماذا استمرت الإمامة على شكل وراثي، فالابن يرث فيها الأب بعكس النبوّة؟
r لنتساءل أولاً: لماذا لم تستمر النبوّة؟ لأنه لا حاجة لها. باعتبار أنّ الإسلام ارتكز على العقل كرسول من داخل (أي رسول باطني)، وهذا ما أجاب به الامام الهادي(ع) على سؤال بعض الناس حول الموضوع نفسه: ((ما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال: العقل الذي يعرف الصادق عن اللّه فيصدّقه والكاذب على اللّه فيكذّبه))(11). فالرسالة التي تطرح العقل كعنصر من العناصر التي تحتوي حركية الإنسان الفكرية والثقافية لا تحتاج الى رسالة تأتي بعدها. وذلك أنّ الإسلام رسم القوانين العامّة التي تصلح لحياة الإنسان كلّها، أي أنّ كلماته ثابتة ومعناها متحرّك. وأمّا دور الائمة (ع) فهو أن يحرسوا عملية التطبيق وعملية الاستقامة على درب الرسالة. وأمّا مسألة الوراثة فلم تكن الأساس الوحيد في جعل الخلافة بعد النبي(ص) فيهم ]ذرية بعضها من بعض[. بل إن اللهّ تعالى اطّلع على هؤلاء فرأى انهم يملكون العناصر التي تؤهلهم لذلك و]اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[(12). فالانتماء رسالي قبل أن يكون نسبيّاً ]قالَ ومِنْ ذُريتي قالَ لا ينالُ عهدي الظالمين[(13).
العصمة التشريعية:
* ما رأيكم فيما ذهب إليه الشيخ الصدوق في كتابه (من لا يحضره الفقيه) من أنّ عصمة النبي(ص) والإمام(ع) هي عصمة تشريعية وليست مطلقة؟ فالرجاء توضيح رأيكم والتمييز بين العصمة الخارجية للنبي(ص) والإمام(ع)؟ هل أن شخصية النبي(ص) غير خاضعة للعصمة فيما هو مستوى الضغوطات النفسية والغرائزية؟
* لا بدّ أنّ نعرف أولاً أن الشيخ الصدوق تطرّق إلى مسألة السهو فقط، فقال: لا مانع من أن يسهو النبي(ص) أو الإمام(ع) في الأمور الخارجية.فلا يوجد عندنا شيء اسمه عصمة تشريعية، فالتشريع يتعلّق بالأحكام التي يأخذها المعصوم عن اللّه تعالى، فهو ليس مشرّعاً في قبال التشريع. والصدوق لا يقول بانّ النبي معصوم فقط في التبليغ، بل يرى أنه معصوم أيضاً في الأمور الخارجية، والسهو قضية خارجية، فلا ينحرف فيها عن خط الاستقامة الشرعية. ولكن لديّ تحفّظ في كلّ هذه المسائل وما يناظرها، لأنّ علينا أن نؤمن بأنّ الأنبياء (ع) معصومون، وأن الأئمة (ع) معصومون حتى نأخذ كلّ ما صحّ عنهم على أساس انه يمثل الحقيقة. أمّا ما هي طبيعة العصمة، هل هي تكوينية أم تشريعية؟ فهذا أمر لا نملك الكثير من أدوات معرفته لأنه أمر اختصّ اللّه بالإطلاع بتفاصيله. لكنّنا نقول إنّ مهمة الرسول(ص) والإمام(ع) الذي هو امتداد للرسالة من دون نبوّة، هي أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور,.فكما خلق اللّه تعالى شمساً كونية لا ظلمة فيها، خلق شمساً إنسانية لا ظلمة فيها. وهذا هو الذي يتصل بمسؤوليتنا العقيدية، وما عداه لم نكلّف البحث عنه وفيه فلمَ العناء؟!
إيمان أهل السنّة بالعدل الإلهيّ:
* لماذا جعل الشيعة صفة العدل من الأصول العقيدية؟ وهل يعني ذلك أن أهل السنّة لا يؤمنون بهذه الصفة بالمعنى الشيعيّ؟
* أهل السنّة لا يقولون أنّ اللّه ظالم. فمسألة الحسن والقبح العقليين محل خلاف بين الأشاعرة والمعتزلة والعدلية، فهم يقولون إنّ العقل يحكم بحسن الأشياء وقبحها، ولذا فإن العقل يقبّح على اللّه الظلم ويحسّن العدل، والاّ فالعدل صفة من صفات اللّه تعالى. بينما يرى الأشاعرة أن العقل لا يستقلّ بذلك فليس من شأن العقل أن يحكم بقبح الظلم على اللّه وعدمه.
الرزق مكتوب أم خاضع للأسباب؟
* هل الرزق مكتوب مثل الأجل؟ أم خاضع للأسباب؟
* هو مكتوب وخاضع للأسباب، لأن اللّه سبحانه وتعالى عندما كتب أرزاق الناس كتبها بأسبابها، وهو عزّ وجل يقول لك إنّ الأسباب الاجتماعية التي تعيشها، والأخرى المحيطة بك، والجهد الذي تبذله قد توسّع في رزقك وقد تضيّقه. فالله اطّلع على مستقبلك المعيشي وقدّر لك الرزق من خلال ذلك، كما هو الحال مع الأجل. فاللّه سبحانه يعرف أنّك ستصاب في وقت من الأوقات بذبحة صدرية (أجاركم اللّه) أو يمكن أن يحصل لك حادث سيارة أو ما الى ذلك من حوادث الدنيا ومصيباتها، ولكن بعض الناس يقول إنّ هذا مكتوب ولا رادّ له، ولكنّ اللّه كتب ذلك لأنّه علم أنك ستفعل ذلك وليس معنى الكتابة انك اذا أصبت بهذا الشيء فلأنّ اللّه كتبه بدون مناسبة. إنّ علينا أن نفهم كيف يكتب اللّه الأمور ]قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[(14). فاللّه قدّر الأمور بقدرها، وقدّر الأشياء بأسبابها، وغاية الأمر أن اللّه علم بالشيء قبل وقوعه، وهو الذي خلق الأسباب والمسبّبات، وجعل من بين الأسباب إرادة الإنسان،وجعل منها الظروف الطبيعية التي يعيشها الإنسان. وهكذا.
كافرون أم مشركون؟
* بعض العلماء يقولون إنّ أهل الكتاب مشركون أو كفّار، والقرآن الكريم يقول ]لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ[(15). فأين يقع أهل الكتاب؟ وما الفرق بين الكفر والشرك؟
* أهل الكتاب كافرون لأنّهم يكفرون بصفة اللّه ]لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[(16). و]لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ[(17). فهو كفر باعتبار ان الايمان يفرض التوحيد والإخلاص ]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ^ اللَّهُ الصَّمَدُ ^ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ^ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[(18). فكلّ من لم يلتزم بهذه الوحدانية فهو كافر بهذه العقيدة. وهم كافرون بالرسول(ص) وبالقرآن أيضاً ولا يعتبرونه كتاب اللّه. لكنهم بحسب المصطلح القرآني ليسوا مشركين، وهذه الآية التي أشرت إليها دليل على ذلك ]لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ[(19). فالعطف هنا عطف مغايرة. كما أنّ أحكام القرآن في الحرب مع أهل الكتاب تختلف عن أحكامه في الحرب مع المشركين.
مهمّة الأنبياء الأساسية:
* ما هي المهمّة الأساس التي جاء الأنبياء (ع) لتحقيقها، هل هي مهمّة تعبيد الناس للّه سبحانه وتعالى؟ أم هي إتمام مكارم الأخلاق، أم ماذا؟
* هي ربط الناس باللّه وربط الناس بالعدل، وبالتأكيد فإن ذلك لا يكون الا ضمن أخلاقيات رسالية معيّنة.
تجسّد اللّه تعالى في المسيح(ع):
* ما معنى ما يقوله المسيحيون في أنّ اللّه تجسّد في المسيح(ع)؟
* هم يتصورون أنّ المسيح له صفة ناسوتية وله صفة أخرى لاهوتية،واللّه تعالى – حسب نظرتهم – حلّ في السيد المسيح ونزل الى الأرض من أجل أن يحسّ بآلام الناس حتى يكفّر عن خطاياهم. فهم يعتبرون أنّ السيد المسيح(ع) صلب ودفن ثم قام، ولذا فإنّ (عيد الفصح) عندهم يمثّل قيامة السيد المسيح. فهم يعتقدون أن اللّه تمرد على الجسد وصعد إلى السماء ليحكم هناك. ولذا يقولون ربّنا يسوع المسيح. واللّه تحدّث عن ذلك بقوله ]لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[(20).
حجّة اللّه على البدائيين:
* هناك أقوام لا يزالون يعيشون حياة بدائية، ولم تصلهم أبسط أنواع الحضارة لحدّ الآن، كالذين يعيشون في غابات الأمازون أو في أفريقيا، فما هي حجّة اللّه تعالى عليهم؟
* إنّ حجّة اللّه سبحانه وتعالى عليهم هي بما يستقلّ به فكرهم، فإذا لم تصلهم الدعوة، ولم تكن هناك عندهم وسائل للمعرفة، ولم يكن عندهم أي احتمال لوجود دين، أو ما أشبه ذلك، فاللّه يحاسبهم على حسب ما يستقلّ به فكرهم ]وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا[(21). وبعث الرسول هنا كناية عن وصول الدعوة إلى الإنسان، إمّا من خلال الاحتمال الذي يدفعه إلى البحث، أو وصولها إليه بطريق أو بآخر.
التفكـّر في ذات اللّه:
* في الحديث الشريف ((تفكّروا في خلق اللّه ولا تفكروا في ذاته)). وقد ينطلق الفكر في خط التفكّر في ذات الله، وقد تخطر أفكار كثيرة على بال الكثير من الناس، فكيف لنا أن نضبط هذا الأفكار؟
* علينا أن نختبر فكرنا، فلو فكّرنا في ذات اللّه فما هي يا ترى الوسائل التي يمكن أن نعرف بها ذات اللّه؟ فهل لدينا وسائل موصلة غلى ذلك؟ أليس اللّه سبحانه وتعالى هو المطلق الذي لا حدّ له، وليس عندنا وسيلة نستطيع بها أن نتعرّف فيها ذات اللّه وآثاره إلاّ ما عرّفنا منها؟ ففي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه الخالق والواحد والمبدع والقادر. ولذا يجب أن نفكّر بما يقع تحت الامكان ولا نخرج بالتفكير عما هو ليس بإمكاننا.
مفهوم الكافر:
* من هو الكافر؟ وهل لفظة الكافر يمكن أن تطلق على أناس يصلّون ويصومون ظاهرياً وهم يعادون الدين في داخلهم؟
* الكفر حالة عقيدية وليس حالة عملية، فالكافر هو الذي يجحد اللّه أو يجحد توحيده ويجحد رسول اللّه(ص) في رسالته، ويجحد اليوم الآخر ويجحد الحقائق التي ثبت أنّها ضرورة دينية، إذا التفت إلى أنّ جحده يؤدّي إلى تكذيب الرسول(ص). أمّا الإنسان الذي يصلّي ويصوم ولكن نفسه سيئة، أي أنّ عنده خبثاً نفسياً وفسقاً فهذا ليس كافراً وإنّما يمكن أن يقال عنه أنّه منحرف.
تساؤلات احتجاجية في الشعر:
* أكتب الشعر على الطريقة الرمزية السريالية فاقترب من الذات الإلهية أو المقدسات في القرآن فأتفاعل بطريقة طرح تساؤلات احتجاجية. ويقول لي البعض إنّك كافر وهذا إلحاد، ولكن لا أرى ما يرون، فهل هذه الكتابة محرّمة؟
* إذا كان شكل الكتابة والتعبيرات والأساليب، حتى، ولو على نحو الكتابة، مما يسيء إلى الذات الإلهية فلا يجوز.
الفصل الثالث
مسائل السيرة
النبيّ الأميّ:
* في (سورة الأعراف) جاءت كلمة النبي الأمي، فهل كان النبي(ص) لا يعرف القراءة والكتابة قبل البعثة؟وإن كان كذلك، أليس هو بشر مثلنا لأن عنده نقصاناً في شيء من العلوم؟
* في القرآن أن النبي(ص) كان لا يمارس القراءة والكتابة ]وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ[(1). لكن عظمته أنه لم يقرأ كتاباً من قبل، ولم يكتب كتاباً من قبل، بل جاء بما أعجز الذين ألفوا الكتب وكتبوها وقرأوها، حتى يعرف الناس أن الرسالة ليست منطلقة من خصوصياته البشرية تماما كما هي بشرية الآخرين، بل هي منطلقة من وحي إلهي ]إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ[. ولذلك فإن عدم الكتابة والقراءة قد تكون نقصاً عندما تكون أداة من أدوات التجهيل، إنما عندما يأخذ الإنسان علمه من ربّه بحيث إن علمه يمثّل أعظم مما كتبه الكتّاب أو مما قرأه القارئون، فإنها تكون فضيلة ودليلاً على المعجزة في شخصية النبي(ص)، ذلك أن المعجزة في شخصيته(ص) هي أنه جاء برسالة مازال العالم يزحف من أجل أن يفهمها وأن يستوحيها، وأن يأخذ من تشريعاتها ومن مفاهيمها، وأن الذي جاء بها شخص لم يمارس القراءة ولا الكتابة قطّ.
ثقافة الإيمان بالنسبة للرسول(ص):
* قلتم في أثناء محاضرتكم إن الرسول(ص) لم يكن يعلم ما الكتاب ولا الإيمان، فما هي ثقافة الإيمان؟
* قلنا إنها الثقافة التفصيلية، فالنبي(ص) كان يعيش الإيمان باللّه كأفضل ما يعيشه مؤمن في هذا المجال، وقد نقل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في حديثه في (نهج البلاغة) عن رسول اللّه(ص): ((ولقد وكّل اللّه به ملكاً عظيماً من ملائكته يلقي إليه في كلّ يوم خلقاً من أخلاقه))(2). لذلك كان اللّه يربّي رسوله ويربّي عقله وروحه ليكون له الاستعداد لأن يحمل هذه الرسالة بمفاهيمها كلّها وتفاصيلها كلّها.
أشرف الأنبياء والمرسلين:
* لفظة التشريف الواردة في الصلاة على النبي(ص): هل هي لأجل صفة ذاتية في الرسول(ص) أم هي لحمله شريعة القرآن؟ وإذا صحّ كلا المعنيي،ن فهل يعني ذلك أن النبي(ص) أعطي ما لم يعط غيره من المرسلين? وهل يتنافى ذلك مع حكمة بعث المرسلين؟
* إنّ عقيدة المسلمين هي أن الرسول(ص) هو سيد ولد آدم(ع). وهذا لا يتنافى مع مواقع الأنبياء والمرسلين ]تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ[(3). فلا مانع من أن يكون النبي(ص) هو أفضل الأنبياء بما فضّله اللّه تعالى عليهم.
في عصمة النبي(ص):
* البعض يرى بالنسبة لعصمة النبي(ص) أنه يخطئ، لكنّ اللّه تعالى يصوّب له بعد ذلك، فهو ليس معصوماً على الإطلاق، أي أن عصمته ليست مطلقة، فما هو رأيكم؟(4)
* إنّ هذه الفكرة خاطئة، لأنّ النبوّة ليست وظيفة ساعي بريد بحيث يعطي اللّه تعالى النبيّ(ص) الكتاب ويقول له بلّغ الناس وتنتهي عند ذلك وظيفته. فدور النبي(ص) هو أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور… يخرجهم من ظلمات الفكر المظلم إلى واحات الفكر المنير … يخرجهم من القلب الذي يختزن العاطفة المظلمة إلى القلب الذي ينبض بالعاطفة المضيئة، ويخرج الناس من خلال السلوك المظلم إلى السلوك المضيء، فلابدّ والحال كذلك أن يكون النبي(ص) نوراً كلّه، بمعنى أن لا يكون في عقله أدنى ظلمة ليكون معصوماً في عقله، وأن لا يكون في قلبه أدنى ظلمة ليكون معصوماً في قلبه، وأن لا يكون في سلوكه أدنى ظلمة حتى يكون معصوماً في سلوكه. هذه هي المسألة، وإلاّ فإنّ فاقد الشيء لا يعطيه. واللّه سبحانه وتعالى يقول ]هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[(5). فدور النبي(ص) هو دور المعلّم ودوره هو دور المغيّر للإنسان. ولذلك نقول إنّ النبي(ص) كما هم الأنبياء معصومون بكلّهم، ليس معصوما بالتبليغ فقط، لأن دوره هو أن يغيّر الواقع على صورة الحق. ونحن نقول إنّ ذلك يصدق أيضاً بالنسبة إلى الائمة(ع) باعتبار أنّ الإمامة امتداد للنبّوة من غير نبوّة، فلابدّ أن يكون الإمام معصوما حتى يؤدّي الدور الذي كان النبي(ص) يؤديّه من قبله.
الحكمة الإلهية من الإسراء:
* ما هي برأيكم الحكمة الإلهية من الإسراء من مكة المكرّمة إلى بيت المقدس؟
* إننا نستوحي من هذه البداية وتلك النهاية أن اللّه جعل للناس كافّة المسجد الحرام بيتاً لعبادته، وجعل المسجد الأقصى أيضاً بيتاً للعبادة. وانطلق المسجد الحرام من موقع الرسالة، كما انطلق المسجد الأقصى من موقع الرسالات. ولذلك فمن الممكن أن نستوحي من ذلك أن رسالة النبي(ص) كانت تحتضن الرسالات كلّها التي عاشت في المسجد الأقصى، وتكمّلها فيما تتحرّك به رسالة الإسلام في المستقبل ((إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))(6) . تماماً كما كان عيسى(ع) يقول: ((جئت لأكمل الناموس)). ونلاحظ أنّ اللّه سبحانه وتعالى قد أوجد نوعاً من العلاقة العبادية في معنى المسجد الأقصى، فقد كان المسلمون قبل تشريع القبلة في الكعبة يتوجهون للمسجد الأقصى ]قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ[(7).
هل السنّة تنتمي إلى عصر سابق؟
* ما رأيكم في قول بعض الاتجاهات التي تنصّ على كون السنّة الشريفة تاريخية تنتمي إلى عصر سابق؟ وهل يمكن أن يقال إنّ بعض الأحكام تتغيّر بتغيّر الظروف بعيداً عن العنوان الثانوي؟ واذا كان كذلك فما هو الضابط؟
* لا ندري ما معنى القول إن السنّة الشريفة تاريخية تنتمي إلى عصر سابق؟ فاذا كان المقصود هو أنّ النبي(ص) عاش في عصر سابق على البعثة، وكلامه كلام منطلق من خلال خصوصيات عصره، فاللّه تعالى يقول ]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[(8). والقرآن يؤكّد المسألة في أكثر من موضع أنّه ]مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ[(9). وهذا موجّه للناس كافّة، كما في قوله تعالى ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ[(10). وقوله تعالى ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ[(11). وقوله تعالى ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[(12). فسنّة النبي(ص) انطلقت أساساً بعد بعثته التي قال عنها ((إنّما بعثت لأتّم مكارم الاخلاق))(13). والذي أكد السنّة النبوّية هو القرآن الكريم، فالذي لا يؤمن بالسنّة لا يؤمن بالقرآن. أمّا مسألة تغير الأحكام ف((حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة))(14). لكن بعض الأحكام خاضعة لمصالح معينة. فهي تتغيّر بتغير تلك المصالح أو الموضوعات في العنوان الثانوي، سواء من جهة المصالح وتغيرها أو الموضوعات وتغيرها، ولابدّ أن نخضع كلّ شيء للعنوان الذي يتحرّك فيه.
إرفع درجته:
* نقرأ في نهاية التشهد ((وتقبّل شفاعته وإرفع درجته)) فإذا كان المقصود هو النبي(ص) فلماذا نقول ذلك، فهل أن النبي بحاجة إلى دعاء لرفع درجته؟
* هذا تعبير عن إخلاصنا للنبي(ص) فاللّه قادر على أن يرفع درجته من غير دعاء، ولكنه يريد للمؤمنين أن يدعوا له حتى يرفع درجته بدعائهم ليعلّمهم بذلك كيف يكونون أوفياء مخلصين بارّين بقائدهم ونبيّهم الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور – واللّه العالم.
قيمة الرسالة:
* تؤكدون دائماً على الرسالة، وترون بأنّ رسول اللّه(ص) وكلّ الأئمة(ع) إنّما تنبع قيمتهم من الرسالة، فما هو السرّ في هذا التأكيد الدائم؟ أليس رسول اللّه(ص) وآله الأطهار(ع) هم الرسالة والرسالة هم؟
* هم ليسوا الرسالة ولكنهم امتدادها، فهناك فرق بين أن نستغرق في ذات رسول اللّه(ص) بحيث يصرفنا ذلك عن التفكير باللّه وبالتوحيد وبالنبوة وبالمعاد ونتعبّد لرسول اللّه(ص) فهذا كفر. ونحن نقول إنّ عظمة الرسالة هي أنّها تجسّدت في النبي(ص) فكان تجسيداً حيّاً لها. لذلك وكما ذكرت لكم أكثر من مرة أن شخصاً جاء إلى الإمام الصادق(ع) وقال له ((نقل عنك أنّك قلت إذا عرفت صنع ما شئت)). وكلمة (عرفت) تعني إذا كنت موالياً، لأنّ كلمة العارف مصطلح يقال لموالي لأهل البيت(ع) ((قال: بلى، قال: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: ما انصفتمونا أن كلّفنا بالعمل ووضع عنكم، قال: إذن كيف قلت؟ قال: قلت إذا عرفت فاصنع ما شئت من قليل الخير وكثيره فانه ينفعك)). أي تحرّ قاعدة العقيدة، والولاية هي جزء منها، ثم افعل ما شئت، لذلك فالأنبياء(ع) والأئمة(ع) ورغم ما ميّزهم اللّه به مكلّفون شأنهم شأن بقية العباد، واللّه تعالى يقول عن النبي(ص) )وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(. وكلمة (لو) حرف امتناع لامتناع لكنها الفرضيّة )وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ^ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ^ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ^ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ((15). وقال تعالى )وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ((16). وعظمة الرسول(ص) إذاً هي برسالته وبأنّ شخصيّته كانت تجسيداً عملياً ودقيقاً للرسالة.
لماذا إبراهيم؟
* في دعاء التشهّد يذكر المؤمنون (اللّهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم). والسؤال لماذا نذكر إبراهيم(ع) ولا نذكر موسى وعيسى(ع)؟
* لأن اللّه تعالى يقول ]مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ[(17). إن إبراهيم(ع) هو الذي بدأ ديانات التوحيد التي ترتكز على منهج محدّد والتي تمتد بحركة الإنسان في الإسلام كلّه، لذلك تحدّث اللّه تعالى عن إبراهيم(ع) بما لم يتحدّث به عن الأنبياء الذين جاءوا بعده لصفاته الرسالية المميزة، لأنه هو العنوان الكبير للنبوّات من بعده ما عدا نبوة نبينا(ص) الذي هو خاتم الأنبياء وسيدهم، فالله تعالى اتخذ إبراهيم(ع) خليلا ]إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[(18).
خوف النبي ونسيانه:
* هل يجوز للنبي(ص) أن يخاف من العصا أو ينسى، كما في قصة موسى(ع) مع الخضر؟
* الخوف إحساس بشريّ فطري إزاء الأشياء الغريبة والمريبة، خاصة وأنها أول تجربة لموسى(ع) مع العصا التي تحولت إلى ثعبان، فكان ذلك الخوف طبيعياً بحسب الغريزة الطبيعية. أمّا انه ينسى فقضيته مع الخضر هي قضية خاصة أراد اللّه تعالى أن يوحي له بأسلوب جديد في رسالته، فكما يرسل الملائكة للأنبياء(ع) فقد يرسل عبدا صالحا ليعلّم الأنبياء، ولذا قال الخضر ]وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي[(19).
القراءة في المولد:
* هل القراءة في ولادة الرسول(ص) التي تتضمن ذكره والتواشيح الدينية وقراءة السيرة كما هو موجود في كتيبات منتشرة في المكتبات جائزة أم لا؟
* لا مشكلة في التواشيح الدينية وقراءتها بطريقة إنشادية، فالمهم أن تتضمن في معانيها وفي أجوائها ذكر للنبي(ص) بحيث أنّ الإنسان يعيش أجواء النبي(ص) وأجواء الرسالة في هذا المجال.
تدوين أحاديث الرسول(ص):
* يقول التأريخ بأن أحاديث الرسول(ص) لم تكتب ولم تدوّن إلاّ في العهد الأمويّ، فأين مواقف أهل البيت(ع) في ذلك وخصوصاً الإمام علي(ع) عندما كان خليفة للمسلمين، وما هو موقفه عندما أحرقت أحاديث الرسول(ص)؟
* لقد كانت لأحاديث الرسول(ص) كتب، وكانت هذه الكتب مودعة لدى الأئمة من أهل البيت(ع) وكانوا يشيرون إليها بقولهم: وجدنا في كتاب علي(ع) كذا وكذا. وكذلك ينقل أن في مصحف الزهراء(ع) الكثير من جوانب التشريع وغيرها. فأهل البيت(ع) احتفظوا بأحاديث الرسول(ص) وحفظوها للأجيال من بعدهم.
تبليغ الرسول(ص) للولاية:
* لماذا لم يرد الرسول(ص) أن يبلّغ الولاية لعلي(ع) كما نفهم من الآية ]فإن لم تفعل[ علماً أن في إبلاغه إكمالاً للدين وإتماماً للنعمة؟
* من قال إنّه لم يرد ذلك وقد أمره الله تعالى به، ولكن الله عزّ وجل بيّن له في الآية المذكورة أن هناك مشاكل قد تحدث فتعترض سبيل إبلاغه بأمر الولاية ولكنه سيعصمه منها، فليس معنى ذلك أنّ النبي(ص) كان ممتنعاً والله تعالى هدّد بالإبلاغ، كما قد يفهم البعض ذلك خطأ.
موقف أهل السنة من حديث الغدير:
* الاستدلال بحديث الغدير على ولاية علي بن أبي طالب(ع) يتوقف على صحة الحديث سنداً والإجماع عليه، فهل يتفق أهل السنّة على ذلك؟ وهل هناك تشكيك من أحد في سنده؟
* عندما ندرس كتب الحديث فإننا نجد أن هناك إجماعاً من الشيعة وشهرة لدى السنّة حول حديث الغدير،بل أن بعضهم قد يعده متواتراً، لهذا فان سند حديث الغدير ثابت لا شكّ فيه. وإذا كان هناك بعض المناقشة فهو في بعض الكلمات مثل ((اللّهم اخذل من خذله وانصر من نصره)). حيث يقول بها بعض الرواة فيما يصحّحها رواة آخرون. ومن المضحك المبكي أن كثيراً من الناس ينسبون إليّ أنّني أشكّك في سند الغدير لأنهم قرأوا بعض كلماتي في كتاب (الندوة) بأحقادهم ولم يقرأوها بتقواهم، فلقد كنت أقول إنّ السنّة لم يشكّكوا في السند، وينبغي أن ندرس ذلك أيضاً، وكنت أقصد في ذلك هو هذا السؤال الذي وجّه إليّ في ندوتكم هذه، إذ كان السائل يتساءل: كيف تقولون إن هناك 120 ألف شخص شهدوا الغدير ثم أصبحوا أربعة أو خمسة، فقلت إنّ حديث الغدير لا إشكال فيه وينبغي أن تدرس هذه الشبهة، إذ كيف أصبح ال (120) أربعة أو خمسة، ولكنهم ارجعوا اسم الإشارة إلى السند، ولم يرجعوه إلى موضوع البحث، ولم يقرأوا نفس الكتاب، حتى أنّ بعض الكبار من العلماء الذين قدّمت إليهم الأسئلة لم يكلّفوا أنفسهم بان يقرأوا الكتاب أو يسألوني في هذا المقام، وإنما أطلقوا فتواهم الضالة المضلّة انطلاقاً من عدم التثبّت. أليس هذا من المضحك المبكي؟! ومهما يكن من أمر فإن سند الغدير لم يختلف في مشهور رجال الحديث من المسلمين، وإنما كان الجدال حول تفسير كلمة ((المولى)).
احتفال المسلمين بالغدير:
* في يوم الغدير يحتفل المسلمون الشيعة، بينما نجد المسلمين السنّة لا يحتفلون به بل لا يلمّحون حتى إلى الواقعة، ونحن نرى أنّ الشيعة يحبّون (الإمامة) وأهل السنّة يحبون (الخلافة) وهذا الموضوع يمتد إلى أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ولم نجد أي فريق يقترب من الآخر بسبب ذلك. فكيف تستطيع المذاهب المتفرقة أن تتوحد ليعيش المسلمون بحيث يحب بعضهم بعضاً، خاصة وأنّ المشكل الأكبر اليوم هو أن لا الخلافة للسنّة ولا الإمامة للشيعة، فعلام نتحدّث عن الغدير ولا نتحدث عن الوحدة؟
* منذ (50) سنة ونحن ندعو للوحدة الإسلامية انقياداً واتباعاً لنصوص القرآن وأحاديث الرسول والأئمة(ع)، ولكن المشكلة هي أنّ الوحدة الإسلامية لا تنطلق من قاعدة إسلامية ثابتة، بمعنى أن يبحث المسلمون في خلافاتهم بطريقة علمية موضوعية في المواقع الثقافية ذات الاهتمام بمثل هذا الأمر، لا في المواقع الشعبية التي غالباً ما تطرح المسألة في إطارها العاطفي البعيد عن الموضوعية، أي لابد من أن تتحرك مسألة الوحدة من ذهنية علمية موضوعية، لأنّ بقاء هذه العناصر التي تثير الخلافات بين المسلمين كما الدمامل ربما يجعلها تنفجر في أكثر من موقع. لذلك فعلى العلماء والمثقفين أن يدرسوا هذه المسألة دراسة علمية، لأننا لا نشجّع الخلاف بالطريقة الغوغائية، أو بالطريقة العصبية، أو بالطريقة الشعبية غير العلمية لأنّ الناس لا يستطيعون أن يبحثوا هذه الأمور كما أراد اللّه ورسوله ]فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا[(20). ولكن في الوقت نفسه عندما نختلف في بعض القضايا وندعو المسلمين في خط الوحدة – إلى الحوار، نقول إنّ هناك قضايا أساسية لابدّ أن نلتقي عليها، فنحن مثلاً لا نختلف في توحيد الله ولا في نبوّة رسول الله(ص) ولا في كتاب الله عزّ وجل، ولا في اليوم الآخر، ولا في أركان الإسلام العبادية ولا في أكثر المفاهيم الإسلامية، بل ولا نختلف في المصلحة الإسلامية العليا على المستوى السياسي والاقتصادي، فلماذا ندخل هذه المسألة بنحو تكون حاجزاً بيننا وبينهم؟ لقد جرّب المسلمون الوحدة في الاختلاف والتنوّع، فالسنّة ليست واحدة، فالمعتزلة سنّة، والاشاعرة سنّة، والحنفية سنّة، والشافعية والحنبلية والظاهرية كلّها فرق سنّية، ومع ذلك لا نجد هذا الحقد في هذا التعدّد. والشيعة كذلك مختلفون، فبالامكان – والحال هذه – أن نرتفع إلى درجة الوعي بأن ننفتح على القضايا الكبرى معاً، لأنّ الاستكبار العالمي لا يريد رأس السنّة وحدهم ولا رأس الشيعة وحدهم بل يريد رأس الإسلام كلّه. وفي قبال ذلك قد نجد أنّ بعض الشخصيات الدينية الكبرى من غير المسلمين والتي تعمل على إنتاج الروح الدينية فيما تلتزمه من دين، نجدها تنفتح على اليهود أكثر من انفتاحها على المسلمين، وان كان لمراعاة الشكليات الدبلوماسية دخل في تصريح هذه الشخصية أو تلك من رموز الاديان الأخرى كالمسيحية. فمشكلة بعض المسلمين أنهم عاطفيون ترفعهم كلمة وتهبط بهم كلمة.
لقد قال (البابا) في زيارته الأخيرة للأراضي المغتصبة: لابدّ للفلسطينيين من وطن، وأنّ معاناتهم طالت، فصفّق الفلسطينيون والمسلمون، ولكنه اعترف بشرعية اغتصاب اليهود لفلسطين، وأرسل ممثله إلى (تل أبيب) ليؤكد هذه (الشرعية) ولكن الجدل الدائر هو في أنّه لم يقل إنّ القدس عاصمة لفلسطين، ناسين أنّه قال إنّ فلسطين لليهود وللفلسطينيين قسم منها. في حين نحن نعتبر (القدس ) هي فلسطين وفلسطين هي القدس وليست القدس المدينة فقط، لكن المشكلة هي أنّ سياستنا بالكلمات وسياسة العدو الصهيوني بالمواقف.
التمرّد على النصوص الدينية:
* هل عهد في الديانات السابقة التمرّد على النصوص الدينية كما حدث في التمرّد على حديث الغدير الذي هو حديث ثابت و ذو سند واضح الدلالة؟
* قد لا تكون هناك تجربة مثل هذه التجربة في الديانات السابقة، وربما كان التمرّد على النصوص في الديانات الأخرى من جهة تحريفها والتلاعب بها.
تشبيه علي(ع) بهارون(ع):
* لماذا تكرّر في نصوص عديدة تشبيه الإمام علي(ع) (بهارون(ع))؟ هل هذا من جهة النيابة وإتمام خط القيادة، أو من جهة تمرّد الإتباع على قائدهم؟
* بل إنّ المقصود هو قوله تعالى ]وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي^ هَارُونَ أَخِي ^ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ^ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ^ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ^ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا[(21). فلم يقصد النبي(ص) عدم إتباع الناس لهارون، ولذا قال: ((أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انه لا نبي بعدي))(22). فأنت ـ يا علي ـ لست نبياً لكنّك وزير، والوزارة هنا تعني الخلافة.
نهوض من أجل الحق:
* أنا من إخوانكم أبناء العامّة من المذهب الحنفي أتساءل: إذا كان الإمام علي(ع) هو أحقّ بالخلافة، فلماذا لم ينهض من أجل هذا الحق، ألم يكن سكوته مخالفة؟
* كان الإمام(ع) يقول ((لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلاّ عليّ خاصّة)). فكان(ع) يريد أن يحافظ على وحدة المسلمين آنذاك، لأن أية حركة يقوم بها الإمام علي(ع) في ذلك الوقت كان يمكن أن تحدث اهتزازا في الواقع الإسلامي، بل ربما تقضي على كيان الإسلام برمّته، وهذا قوله(ع) ((فما راعني إلا انثيال الناس على فلان – ويقصد أبا بكر - يبايعونه فأمسكت يدي حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص) فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب فنهضت حتى زال الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه))(23). فالإمام علي(ع) سكت من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين.
هل علي(ع) يخطئ؟!
* في أحد كتبكم ذكرتم أن الإمام علي(ع) هو شخص مثلنا، وهو يمكن أن يخطئ، فماذا تريدون بذلك؟
* لم أقل ذلك، ولكنني ذكرت أن الإمام(ع) قال في بعض خطبه: ((فلا تكفّوا عن مشورة بحق أو مقالة بعدل، فإني لست بفوق أن أخطئ إلا أن يكفي اللّه مني ذلك))(24). وهذا وارد في (نهج البلاغة). وقلت معقّباً على قوله(ع): وهو فوق أن يخطئ لأنه معصوم كما نعتقد، ولكنّه أراد أن يشجّع الناس على أن يتابعوا تجربته في الحكم، وهي التجربة التي لا خطأ فيها، حتى يتعلّموا نقد من يأتي من بعده ممن لا يكون معصوماً. وإلاّ فنحن نعتقد أن علي بن أبي طالب(ع) معصوماً بكلّه.
علي(ع) الحواريّ:
* الإمام علي(ع) كان صديقاً وصاحباً لأهل العلم والمعرفة، وكان خصماً لأهل الجهل والهمج الرعاع حاربهم بسيفه، أما أنت فتقول دائماً حاورهم و]ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[(25)؟
* ومن مثل علي(ع) كرجل حوار؟ إنّ علياً(ع) لم يحارب الخوارج لأنّهم كانوا جاهلين، بل حاربهم لأنّهم أساءوا للنظام عندما قتلوا (خبّاب) وزوجته وقطعوا طريق المسلمين. ثم قال لنا بعد ذلك كما في (نهج البلاغة) ((لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فإنّه ليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه)). فلقد دخل علي(ع) في حوار مع الخوارج حتى أنّه ناقش كلّ طروحاتهم، وكان يقول لهم إذا كنتُ قد أخطأت، وعلي(ع) فوق الخطأ، فلم تضلّلون أمّة محمد(ص) بضلالي؟ ولماذا تحاربون الأمّة كلّها؟ فأيّ حواريّ يمكن أن يصل إلى هذا المستوى من الحوار؟ إنّ عظمة علي(ع) هي أنّه كان الحواريّ الاول بعد رسول اللّه(ص) وكانت عظمته أنّه فتح عقله برعاية الإسلام، وفتح قلبه لرعاية المسلمين ((لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليّ خاصّة)). ولكن مشكلة الكثيرين من الناس أنهم ما زالوا يعتبرون الإمام علي(ع) ضرّاب سيف وطعّان رمح وأنّه يقد الفارس نصفين، وهو يقول في كلماته ((واللّه ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشوا إلى ضوئي وذلك أحبّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها)). فعلي(ع) لم يعش شهوة الحرب، ولكنه كان يعيش الرغبة بالوعي والهداية للضالّين عن الطريق، ولذلك كانت حربه حرب ضغط من اجل أن تأتي الناس إليه، أي إلى الإسلام الذي يمثّله. فافهموا علياً(ع) جيداً لأنّ الكثيرين لا يفهمون علياً(ع) ولعل الكثير من مجتمعات علي(ع) الآن هي مجتمعاته غداً، أليست الكثير من الأسئلة التي تقدّم لمن يحمل بعض علم علي(ع) هي من قبيل: كم شعرة في رأسي؟!
التعلّم من علي(ع):
حبّ علي(ع) وبغضه:
* قول النبي(ص): ((لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق)). هل هو خاص ّبعلي(ع) أم ينسحب على الرسول(ص) وباقي الأنبياء والأئمة(ع) أيضاً؟
* علي(ع) هو رمز للإسلام، وعندما يكون القول موجهاً إليه ((لا يحبّك إلاّ مؤمن)) – بلحاظ عنوانه الرمزي للإسلام – فباعتبار أنّ المؤمن يتحرّك ليحبّ بعقله وقلبه وحياته من يجسّد الإيمان خير وأروع وأكمل تجسيد، فكلّ من يجسّد الإيمان يكون هذا الحب متعلّقا به.
رؤية علي(ع) للسلطة:
* نرى أنّ الإمام علياً(ع) يتعرّض للسلطة بأسلوبين: أسلوب يرى فيه أنّ السلطة أهون من نعله البالي، وأسلوب يتحسّر فيه على فوات السلطة، وأنّ محلّه منها محلّ القطب من الرحى ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير، فما هو تفسيركم لهذين الأسلوبين؟
* هو أسلوب واحد ذي شقين، ففي الأول يخاطب ابن عباس بقوله ((يابن عباس أترى لهذه النعل – وكان يخصفها لأنها بالية – إنّها أعظم من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً)). وقال أيضاً: ((لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز))(26). فهي – أي السلطة – كالنعل البالي عندما تكون ذاتاً، وهي كالقطب من الرحى عندما تكون حقّاً.
* يقول بعض علماء السنّة: حتى لو سلّمنا معكم ـ أيها الشيعة ـ بأن النبي(ص) قد نصب الإمام علي(ع) في يوم الغدير، إلاّ أن بيعة الإمام للخلفاء السابقين تدل على شرعية خلافتهم، فلماذا تصرّون دائماً على التمسّك بالنص ولا تتجاوزونه إلى دلالة بيعة الإمام(ع) لمن سبقه؟ وإذا كان صاحب الحق بالخلاقة قد تنازل عن حقه، فلماذا تصرون أنتم عليه؟
* عندما ندرس تصريح الإمام علي(ع) في الخطبة الشقشقية وفي غيرها، كما في سؤاله عمّا جرى من جدال في السقيفة: ((ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت منا أمير ومنكم أمير، قال(ع): فهل احتججتم عليهم بأن رسول الله(ص) وصّى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. قالوا: وما في هذا من الحجّة؟ فقال(ع): لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم. ثم قال(ع): فماذا قالت قريش؟ قالوا:احتجّت بأنها شجرة الرسول(ص). فقال(ع): احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة))(27). فالإمام(ع) لم يسلّم إطلاقاً بشرعية ما جرى، وإذا ثبت أنه بايع فمدلول البيعة سياسي واقعي أكثر منه إثبات للشرعية إذ ليست هناك شرعية أصلاً.
جدلية الثورة والدولة:
* يناقش المؤرخون جدلية الثورة والدولة في انطباقها على مرحلة ما بعد رسول الله(ص) وبأنّ علياً(ع) ما كان له أن ينجح في إدارة الدولة وذلك باعترافه أن يكون وزيراً خير من أن يكون أميراً، فما هو رأيكم بذلك؟ وهل أراد الرسول(ص) مجرد إدانة بعض الصحابة بإثبات ولاية علي(ع) أو أنّه أراد أن يضع آلية للفرز المستقبلي للمخلص منهم ليبقى القلائل فقط مع علي(ع)؟
* نحن نناقش هؤلاء في مسألة جدلية الثورة والدولة، فعندما ندرس فكر الإمام علي(ع) وإخلاصه، وندرس كيف أن شخصيته مطابقة لشخصية رسول الله(ص) بمعنى لو أن علياً(ع) استمر في مواصلة التجربة لاستمّر أسلوب رسول الله(ص) في إدارة الدولة واستمرت أخلاقية رسول الله(ص) في التعامل، واستمر وعي الإسلام تماماً كما كان الأمر على عهد رسول الله(ص) .
ثم أننا عندما ندرس الذهنية الإدارية التي كان الإمام علي(ع) يتمتع بها من خلال عهده لـ(مالك الأشتر) وندرس طريقته في محاسبة عمّاله، نعرف أن علياً(ع) لو تسلّم الخلافة لنجح نجاحاً باهراً،ولوضع الأمة على المحجّة البيضاء، لأنّه لم تكن هناك أية مشاكل على مستوى الواقع الإسلاميّ، فلم نجد أنّ أحداً من المسلمين على مستوى الرأي العام الإسلامي آنذاك، ناقش مسألة ولاية علي(ع). فالذين ناقشوا ذلك هم بعض الصحابة الذين ذكرهم التأريخ، والذين كانت لهم مصلحة في مناقشتها، فلم يسمع أي صوت يرفض ولاية علي(ع).
ولذلك نرى في مسيرة الزهراء(ع) أنّها عندما تحدّثت مع نساء المهاجرين والأنصار اللاتي جئن يعدنها في مرضها، وتحدّثت عن حقّ علي(ع) قال الرجال بعد أن نقلت النساء إليهم غضب فاطمة(ع) بقولها ((أصبحت عائفة لدنياكنّ قالية لرجالكنّ)). ((لو أن علياً تقدم إلينا قبل أن نبايع لكنّا بايعناه)). الأمر الذي يعني أنه لم تكن هناك مشكلة في بيعة الإمام علي(ع). فالنبي(ص) لم يكن يريد إدانة بعض الصحابة، بل أراد أن يركّز الولاية في امتدادها في الواقع الإسلامي.
فهم (نهج البلاغة):
* لماذا نجد أنّ (نهج البلاغة) أصعب فهماً من القرآن، علماً أنّ القرآن من عند اللّه سبحانه وتعالى؟
* إن في (نهج البلاغة) الكثير من الخطب والكلمات الواضحة جداً، نعم هناك بعض الكلمات اللغوية التي لا نألفها الآن وكانت مما يسهل على الناس فهمها يومذاك، فإذا عرفنا اللغة أمكننا أن نفهم نهج البلاغة، كما نحتاج أحياناً إلى مراجعة المفردات القرآنية غير المستعملة في الخطاب اليوم.
تضخيم بعض جوانب السيرة
* إذا أراد الشاب قراءة سيرة الأئمة من أهل البيت(ع)، يرى تضخّم بعض الجوانب على حساب منهجهم في التربية والسهر على مصالح المسلمين، فما هو رأيكم؟
* في تصوّري، لم يدرس أهل البيت(ع) حتى الآن دراسة موضوعية حضارية منفتحة بحيث يمكن أن نقدّم أهل البيت للعالم المعاصر وللجيل المعاصر المثقف بالطريقة التي تتجسّد فيها الحلول للعديد من مشاكل الحياة. نعم، هناك نتف من حياتهم، وهناك استغراق في مسألة الحديث عن المعجزات وفيها الكثير من الحق، وهناك الحديث عن المأساة، أمّا الحديث عن تراث أهل البيت(ع) كمنهج للتربية وللسياسة وللاجتماع وللانفتاح وللثقافة، فقد نجد بعض الدراسات هنا وهناك، ولكننا لا نجد شيئا وافيا يسدّ الحاجة.
دور الإمامة مع وجود القرآن:
* يرى بعض الباحثين أن اللّه سبحانه أرسل للأمم السابقة رسلاً يعطونهم ما يحتاجون إليه من علم ومعرفة بمقدار آفاقهم ومحدوديتهم، أمّا هذه الأمة فقد أعطاها اللّه كلّ ما تحتاجه على مرّ العصور من غير تحديد بأفق معين، فما هو دور الإمامة عندكم أنتم الشيعة، خاصة مع وجود القرآن الكريم الذي فيه كلّ ما تحتاجه البشرية؟
* صحيح أن في القرآن ما تحتاجه البشرية من خلال العناوين العامّة ومن خلال الخطوط العامّة ، ولكنْ هناك نقطتان نحتاجهما في السنّة: النقطة الأولى، وهي الخطوط التفصيلية للخط العام في الإسلام، ولذلك نرى أن اللّه جمع بين الأخذ بالقرآن وبين الأخذ بالسنّة كما في قوله تعالى: ]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[(28). وكما في قوله تعالى: ]قُلْ أَطِيعُوا اللّه وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ[(29). وكما في قوله تعالى: ]مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه[(30). لأن اللّه لم يكتف بوحيه للرسول وبإلهامه بالقرآن، بل أعطاه وحياً تتحرك كلّ مفردات السنّة من خلاله.أما النقطة الثانية، فتتعلق بدور الأئمة من أهل البيت(ع) في خط الإمامة، والذي يتمثل في أن يبلّغوا الناس ما جاء عن رسول اللّه(ص)، وأن يرصدوا الانحرافات التي يمكن أن يقع الناس فيها من تفسير للقرآن أو من اجتهاد في الشريعة أو من حركة في الواقع من أجل أن يملكوا الدور العملي للرسالة، فالإمامة في دورها القياديّ تتحرك في خط الرسالة ولكن من دون نبوّة.
الأئمة(ع) والاجتهاد:
* قلتم إنّ الأئمة(ع) ليسوا مجتهدين ولكن المتتبع لسيرتهم يرى أنّهم كانوا في مقام المجتهدين من خلال حلقات دروسهم، والدليل على ذلك تتلمذ أبي حنيفة على يد الإمام الصادق(ع) ومع ذلك أصبح صاحب مذهب. أليس في موقف الإمام الصادق(ع) عندما كان يجلس ويعرّف الناس على عقيدتهم وشريعتهم دليل على الاجتهاد؟
* إنّ المسألة ليست اجتهاداً بالمعنى المصطلح بل هو علم الحقيقة. كما أنّ النبي(ص) كان يعلّم الناس ويحدّثهم في كلّ شيء، ولكنّه لم يكن مجتهداً بمعنى الاجتهاد الذي يخطئ فيه الإنسان ويصيب، بل كان منفتحاً على الحقيقة كلّها في كلّ ما قاله أو فعله أو قرره.
سرّ محبة أهل البيت(ع):
* ما هو تفسيركم لصدور الثناء العاطر لدى الكثير من دارسي الفلسفة والعرفان بحق أهل البيت(ع) أمثال الفيلسوف والشاعر الكبير محمد إقبال، بالرغم من أنه ليس من أتباع مدرسة أهل البيت(ع)؟
* لقد كان أهل البيت(ع) في حياتهم محلّ محبّة وثقة حتى الذين لا يعتقدون بإمامتهم، ولذا فإنّ دراسة شخصيات أهل البيت(ع) في القيم الروحية والعلمية والأخلاقية التي تتمثل فيهم تجعل الناس يحبونهم تلقائياً، لا لأنّهم ذرية رسول اللّه(ص) فقط، بل لأنّهم عدل القرآن، فهو الكتاب الصامت وهم الكتاب الناطق، وهم خلفاء رسول اللّه(ص) بالحق، نهجهم نهجه، وخطّهم خطّه، وأخلاقهم أخلاقه، وعلومهم علومه.
دراسة كلمات الأئمة(ع):
* لماذا تفضّلون عند الحديث عن الأئمة والمعصومين(ع) طريقة خاصة بكم هي الدخول إلى عالم كلماتهم وأحاديثهم واختيار بعض الحوادث التأريخية المتعلقة بهم، مع أنّ آخرين يفضّلون السرد التاريخي أو الحديث عن الجانب المناقبي أو المأساوي، فما هي ميزة طريقتكم وثمارها؟
* عندما ندرس مسألة الإمامة فإننا نجد أنّها تمثّل الامتداد الرسالي للنبوّة من دون نبوّة، وهذا هو قول رسول اللّه(ص) لعلي(ع): ((يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي)). فالإمامة هي الامتداد والعمق الاستراتيجي الإسلام، فدور الإمام هو أن يؤصّل الفكر الإسلامي وأن يصون التجربة من الزيغ والتحريف، وأن يوضّح الشريعة الإسلامية، وأن يخطّط للمنهج الإسلامي والحركية الإسلامية. ومن الطبيعي أننا نجد ذلك كلّه في كلماتهم، وفي حركتهم التاريخية، وفي علاقاتهم بالناس، وفي دخولهم في ساحة الصراع، وفي مواجهتهم للتحديات كلّها. وليست المسألة هي الاستغراق في الجانب الذاتي للأئمة(ع) لأن الأئمة(ع) لم يأتوا من أجل تأكيد ذواتهم وإن كانت ذواتهم تحمل كلّ معاني الرسالة، فهم التجسيد العمليّ لها في كلّ ما عاشوه وقالوه وفعلوه وقرروه. فلقد كان اهتمام الأئمة(ع) كلّ اهتمامهم بالإسلام، وبأن نتّبعهم لا أن نستغرق في أفراحهم وأحزانهم، وان كان ذلك يعبّر عن الجانب العاطفي من الارتباط بهم، لكنّ العاطفة لا تتجمد عند ذلك فحسب بل في الولاية الحقّة المتمثلة بالالتزام بما جاءوا به. وهذا ما ورد في حديث الإمام محمد الباقر(ع) كما في الكافي ((والله ما شيعتنا إلاّ من اتقى اللّه وأطاعه، وكانوا يعرفون بالتواضع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر))(31). ثم يقول ((أفيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول: أحبّ علياً وأتولاه ثم لا يكون فعالاً، فرسول اللّه خير من علي، أفحسب الرجل أن يقول أحبّ رسول اللّه ثم لا يعمل بسنّته)) ثم قال ((من كان ولياً للّه فهو لنا ولي))(32). إنّ مهمة الأئمة(ع) – من خلال دراسة مستقصية لأحاديثهم(ع) – هي أن يقرّبونا إلى اللّه زلفى، ولن نقرب إلى الله زلفى إلاّ من خلال كتابه الكريم وسنّة نبيّه المطهرة، والأئمة(ع) هم عدل الكتاب، وهم الذين يؤكّدون لنا ما قاله رسول اللّه(ص)، وهم الادلاء على اللّه إن في معرفته وإن في معرفة ما جاء عنه. ولكنّ مشكلتنا هي أننا ابتعدنا عمّا قالوه وما فعلوه واستغرقنا في جوانبهم الذاتية وهم لا يريدون منا ذلك. وقد ورد عن الإمام زين العابدين(ع) ((أحبّونا حبّ الإسلام)) لذلك نجد أنّ الكثير من الذين ينتمون إلى أهل البيت(ع) لا يفهمون شيئاً عن رسالتهم وإنّما يعرفون متى ولدوا؟ ومتى ماتوا؟ وما هي رسالتهم؟ وإلاّ فكم من الشيعة من يعيش (نهج البلاغة) الذي ما زال يمثّل الفكر الذي يحتاجه المسلمون الآن؟ وكم من الشيعة من يملك الثقافة الموسوعية التي ركّزها الإمام جعفر الصادق(ع)؟ تلك هي الأسئلة التي تطرحها مناسبات أهل البيت(ع) والتي يضعونها برسم الأمة كلّها. ولذا نقول بأنّنا مسلمون والتشيّع ليس شيئاً زائداً عن الإسلام بل هو الخط الإسلاميّ الأصيل. فإذا أردتم أن تعرفوا أهل البيت حقّ المعرفة فاقرأوا القرآن، واقرأوا سنّة رسول اللّه(ص) واقرأوا أحاديثه. فخلاصة منهجي في دراستهم(ع) هو أن ندخل فكر أهل البيت(ع) في ثقافة الإنسان المعاصر، ليرى إن تراثهم يمكن أن يحلّ له مشاكله المعاصرة وأنه ليس مجرد تاريخ مضى وانتهى في مرحلته.
الدليل على خلافة الحسن(ع):
* بأيّة حجّة شرعية أصبح الإمام الحسن(ع) إماماً للمسلمين بعد استشهاد أبيه(ع)؟
* إمامة الإمام الحسن(ع) كإمامة الإمام الحسين(ع) بنص رسول الله(ص) ((هذان إمامان إن قاما وإن قعدا))(33). و((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة))(34).
أهواء جيش الإمام الحسن(ع):
* أرجو توضيح أسباب أهواء جيش الإمام الحسن(ع) وتفرّقهم عنه، مع علمهم علم اليقين بأنّ معلّمه ومربيه هو النبي(ص)؟
* أولاً: لقد كان جيش الإمام الحسن(ع) عبارة عن بقايا جيش الإمام علي(ع) وكان جيشاً متعباً، حتى أنهم عطّلوا على الإمام علي(ع) خطّته في مواجهة الانحراف، وكانوا إذا دعاهم لقتاله في الشتاء قالوا (صبارّة القرّ) وإذا دعاهم لقتاله في الصيف قالوا (حمّارة القيظ) وهذا يعني انهم جيش متكاسل متخاذل يتحجج بالحجج الواهية تهرّباً من مسؤولياته. ولذا قال وهو يصف حالهم، وكيف أن قريشاً قد تتهمه بضعفهم فتقول: ((إن علياً لا خبرة له في الحرب)) ((لو صارفني فيكم معاوية مصارفة الدينار بالدرهم)). فلقد تناهبته – أي جيش الحسن(ع) – العصبيات من خلال رؤوساء العشائر الذين اشتراهم معاوية الذين كانوا يقودون عشائرهم، ولم يكن مع الإمام الحسن(ع) إلاّ جماعة من (ربيعة) و (مضر) كما يقولون. لذلك فقد عبثت بهم الأهواء من خلال العناصر السيئة التي سيطرت على مواقع هذا الجيش، حيث كان معاوية يرسل بالأموال الطائلة حتى يشتري ذمم القادة وولاءهم.
الموقف من الظالمين:
* نظراً لتباين الموقف بين الإمامين الحسن(ع) والحسين(ع) حيث نرى أنّ الإمام الحسن(ع) يصالح معاوية والإمام الحسين(ع) يقاتل يزيداً، ما هو موقفنا ونحن نواجه الظالمين؟ بمعنى أي الموقفين نعتمد؟
* لابدّ أن نعرف أن الإمام الحسين(ع) وقّع مع الإمام الحسن(ع) على وثيقة الصلح، لذلك لم يثر الإمام الحسين(ع) على معاوية حتى بعد وفاة الـحـسـن(ع). أمّا كيف يكون موقفنا فيجب أن ندرس الظروف السياسية والاقتصادية والإقليمية والدولية حتى نعرف كيف نختار الموقف المناسب، فللصلح شروطه وللثورة شروطها.
البكاء على الحسين(ع):
* تقولون لولا الإمام الحسين(ع) وثورته لما وصل الإسلام إلى ما هو عليه، فلماذا تبكون عليه؟
* نحن نتفاعل ونهتم بثورة الإمام الحسين(ع)، ولكنّك عندما تهتم بها لا يعني أنك لا تعيش المأساة في خط فرح الرسالة، فنحن نفرح بالشهداء وبالمجاهدين، ولكنّنا نبكي عليهم، خصوصاً إذا عاشوا المأساة في طريق الشهادة، لأن العاطفة الإنسانية لا يجب أن تلغى أمام الواجب الإسلامي.فللواجب دوره وللعاطفة دورها.
نصائح إلى الخطباء:
* ونحن على أعتاب عاشوراء، ما هي كلمتكم التي تقدمونها إلى خطباء المنبر الحسيني وقرّاء المراثي؟
* إنّ علينا أن ندرس السيرة الحسينية في المصادر الموثوقة، ونحاول إثارة الدمعة من خلال الحقائق، ومن خلال التصوير الأدبي الفني الذي يترك أثره في نفوس المتلقّين. إذ يمكن أنّ تصوّر طبيعة الطف والمأساة بالأسلوب الأدبي والفني المناسب لترى تعاطف الناس مع ما تطرحه.
والخطيب أو الشاعر يجب أن تكون لديه ثقافة أدبية بحيث يملك تصوير المأساة وتصوير الواقعة بأسلوب مؤثر. وأعتقد أننا لو ملكنا الأسلوب الأدبي الفني الرفيع الذي نستطيع من خلاله أن نصوّر الواقع الحسينيّ، فإننا سوف نجري الدمع دماءً. والنقطة الثانية المهمّة هي أن لا تكون قضية الحسين(ع) مجرد دمعة، لأنّها قضية رسالة ((إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وانهى عن المنكر))(35). فخطباء المنابر الحسينية ينبغي أن يدرسوا المشاكل الواقعية التي يعيشها الناس، والمنكرات الموجودة في المجتمع المسلم، والمعروف الذي يترك، والقضايا التي يعيشها الإنسان المسلم، بحيث تتحوّل المآتم إلى مواقع تثقيفية للإنسان المسلم. فمن المؤسف أن نتكلّم في حضور هذه الألوف المؤلّفة من الناس بالخرافات لمجرد إثارة الدمعة. ومشكلة الخطيب الناجح هذه الأيام أنّه الذي يبكّي أكثر وليس الذي يوعّي أكثر.
وهذا معناه السذاجة، ففي الوقت الذي نعاني فيه من مشاكل في بيوتنا وأحزابنا ومجتمعنا، لنتذكر أنّ الحسين(ع) خرج من أجل أن يصلح المجتمع المسلم، ذلك إنّ مواسم عاشوراء عندنا مؤتمرات ضخمة لا مثيل لها في أيٍِّ من مجتمعات العالم. فمن المؤسف أن تصرف مبالغ طائلة وجهود كبيرة وطاقات هائلة لكي نجري الدمعة فقط. إنّنا مطالبون في مثل هذه المواسم أن نصنع ألف زينب(ع) ولو بنسبة واحد بالمئة، وألف حسين(ع) بهذه النسبة أو أكثر منها، ونحن نعرف أنّ الحسين(ع) في القمة من الرجال وأنّ زينب(ع) في القمة من النساء، ولكن يجب أن لا يكون الجو جو خنوع يطرح زينب(ع) باعتبارها المرأة الضعيفة، وهي من أقوى ما تكون عليه المرأة المؤمنة: ((فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك)). هذه هي زينب البطلة المتحدية الشجاعة لا زينب -التي يتحدّث عنها بعض الخطباء - الباكية هنا وهناك.
أليست صورة زينب(ع) عندنا الآن صورة البدوية التي تندب عشيرتها وتبكي قتلاها مسلوبة الرأي والإرادة؟وقد يذكر بعض الناس خطبتها لأهل الكوفة وحديثها مع ابن زياد ولكن على الهامش. ونحن نعرف أن زينب(ع) كانت قوية في عاشوراء، وكانت تقود الركب كما قاده الحسين(ع) ولكن كان لها دور وللحسين(ع) دور وزينب كانت قوية في كربلاء كما كانت قوية في الكوفة وفي الشام.
المطلوب لتأكيد المنهج الحسيني:
* ونحن في رحاب القيم التي رسّخها الإمام الحسين(ع) في عاشوراء، دعا أحد المفكرين الفقهاء إلى إيجاد منهج حياتي في طريقة تفكيرنا، وكيف نتعامل مع بعضنا؟ والذي يتوجّب علينا عمله لتأكيد المنهج الحسيني في إعادة التوازن والخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية وقتئذ؟ فما هو تعليقكم؟
* نحن مع هذه الفكرة، فعلينا – أيّها الأحبة – أولاً أن نؤمن بحقيقة إنسانية ثقافية وهي أنه ليس هناك أحد يملك الحقيقة المطلقة، فكلّ واحد منا يملك الحقيقة من وجهة نظره، ولكلّ منا ثقافته، وخلفيته العلمية في المدرسة التي ينتمي إليها.
فقد اعتبر الإسلام الخلاف الفكري وسيلة مناسبة للحوار ]ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[(36). ]وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[(37). فعلينا أن نتحاور فيما اختلفنا فيه، وأن يعتبر كلّ واحد منا أنّه إذا كان من حقّه أن يختلف مع الآخرين فلماذا لا يكون من حقّ الآخرين أن يختلفوا معه؟ إنك إذ تعتبر الآخر ضالاّ حاول أن تحاوره لتخرجه من ضلاله، وإذ تعتبره مخطئاً إبحث عن طريقة مناسبة لمعالجة خطأه وبدلاّ من أن تسبّه وتشتمه وتكفّره، ناقشه في خطأه. إنها مسألة إنسانية ولكن المتخلّفين هم الذين يفرضون أنفسهم على الآخرين من دون أن يجرّبوا إقناعهم. والقرآن الكريم أطلق الفكرة في ذلك ]قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[(38). هذه هي النقطة الأولى.
وأما النقطة الثانية فهي (الموضوعية) وهي أن تدرس القضية مع الآخرين من خلال عناصرها، فربما هناك فكرة لا توافق عليها أكثرية المجتمع، ولكن ليس معنى هذا أنّ الفكرة خطأ، وليس معناها أنّ هذا الرجل سيهدم المجتمع. فعندما جاء الأنبياء(ع) كان النبي يقف منفرداً وكانت الأمة كلّها تقف ضده إلاّ ثلّة قليلة. واللّه تعالى يقول ]وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[(39). لأنّ هناك بعض الناس يوحون لك أنّ كل الناس ضد هذه الفكرة، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، وإنّما هم الذين ترتفع أصواتهم، أما الذين لا صوت لهم ولا أحد يعرف رأيهم أو الأكثرية الصامتة فقد يكون لهم رأي آخر. فأن يكون الناس على فكرة فليس معناه أنّ هذه الفكرة هي الحقّ لأنّ الأكثرية لا تمثل الحقّ بل قد يكون الحقّ مع الأقلية. والتاريخ كما قلنا هو تاريخ المصلحين. وإذا كانت النظرة هي أنّ الحق مع الأكثرية، فإن أكثرية الناس كانت مع يزيد، ولم تكن مع الحسين(ع) شعبية سياسية في ذلك الوقت ((قلوبهم معك وسيوفهم عليك)). وإنما كانت الشعبية السياسية مع يزيد. وأنا هنا أريدكم أن تفكّروا معي وليس فقط أن تقبلوا مني. ألا ترون أن البعض من الناس يحتجّ بالقول إن أكثر العلماء لا يقولون بذلك اذا سمع أو قرأ شيئاً لم يقله الآخرون؟ ولكن أليس من الممكن أن يكون العالم الذي قال بغير ما قالوا على حقّ ولو بنسبة عشرة بالمئة، فلننصف هذه العشرة. ذلك أن الموضوعية لا تعني أننا عندما نناقش فكرة يجب أن نراعي كم الذين يتّبعون هذه الفكرة؟ وكم هم الذين يرفضونها؟ بل ما هي العناصر الموجودة في داخل هذه الفكرة؟ وهل هي عناصر تؤيّد الفكرة أو تعارضها؟
وثالثاً: لابدّ لنا أن نعرف أننا عندما نعرض الأفكار التي عندنا فانها ليست جزءاً من تكويننا، فهذه الأفكار التي نحملها إما أن تكون أفكاراً ورثناها أو أفكاراً أنتجناها، فهي ليست جزءاً من ذاتنا، فإذا أراد شخص أن يقنعني أن فكري خطأ فربما يكون ما ورثته خطأ ]إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[(40). وإذا قال لي أخطأت، فلماذا أغضب؟ فالفكرة ليست جزءاً من ذاتي، فهناك فرق بين أن تكون متعصّباً وبين أن تكون مفكّرا،ً فلا يمكن أن تكون مفكّراً مثقفاً وتكون متعصّباً في نفس الوقت، لأن العصبية هي انغلاق، فيما الفكر انفتاح. ثم علينا أنْ نعرف أننا نريد الحقيقة واللّه تعالى أعطى للنبي(ص) منهجاً يخاطب به الناس عندما كانوا يقولون عنه أنه مجنون، ]قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى[. انفصلوا عن الجو المحموم وكلّ واحد أو كلّ اثنين يفكرون بمعزل عن الجو ]ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ[(41). فعندما نختلف فإن معنى هذا أننا نستطيع أن نتفاهم اكسر في القضايا التي نختلف فيها، ولكن ما دمنا نعيش على طريقة ما يقوله الشبيبي (رحمه اللّه):
حكم الناس على الناس بما سمعوا عنهم وغضّوا الاعينا
فاستحالت وأنا من بينهم أذني عيناً وعيني أذنا
فكيف يا ترى تكون النتائج؟
لماذا سكت الأئمة(ع) بعد الحسين(ع) ؟
* هل يعتبر سكوت الأئمة من بعد الحسين(ع) إقراراً للحكومات الظالمة؟ وما معنى عدم التأييد لبعض الثورات التي قامت ضد الحكام الطغاة؟ أليس هذا إقراراً لحكومة الظالم؟
* إنّ الأئمة(ع) لم يسكتوا، بل كانوا يثقّفون الامّة ضد الظلم، وكانوا يعملون على تعبئتها ضد المظالم كلّها. ولم تكن هناك ظروف موضوعية ميدانية للحركة المسلحة. ولذلك فإن الأئمة(ع) لم يسكتوا. ولو درسنا كلماتهم(ع) في مواجهة الانحرافات السياسية والثقافية والاجتماعية لرأينا أنهم كانوا ثائرين ولكن بطريقة ثقافية. أمّا أنهم لم يؤيدوا الثورات التي قامت ضد الطغاة فهذا غير صحيح، فلقد كانوا ينصحون الذين ثاروا بان يخطّطوا بطريقة واقعية، وكانوا يحذّرونهم من النتائج السلبية، ولكنّهم كانوا يتعاطفون معهم، فلقد تعاطفوا مع ثورة زيد وتعاطفوا مع ثورة الحسين صاحب فخ ومع آخرين غيرهم.
الاستفادة من عاشوراء لحلّ مشاكلنا :
* في ذكرى عاشوراء الحسين(ع) كيف يمكن لنا أن نستفيد من هذه الذكرى في حلّ مشاكلنا المعاصرة لاسيما المصيرية منها؟ هل نكتفي بتوظيف الحزن في ذلك؟
* علينا ونحن نسعى لتوظيف عاشوراء أن نقول في وجه (اسرائيل) و (امريكا) ((لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل)) ولا نتنازل عن حقوقنا كلية ((ولا نقرّ لكم إقرار العبيد)) ولنعلم أن ((هيهات منّا الذلة)) شعار سياسي وإنساني يمكن أن نوجهه في حركة الواقع، وليس أن نطلقه، وذلك بأن نكون غير مستعدين للتنازل عن حقوقنا ومبادئنا، وأن نعلم أنَّ الهزيمة لا تعني أنَّ عدونا على حق ككلمات فقط، كما قال (عمّار بن ياسر) ((واللّه لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أننا على الحق وأنهم على الباطل)). أمّا قضية الحزن فهو على قسمين: فتارة يكون حزناً بارداً، وتارة يكون حزناً حاراً، فالحزن البارد يجمّد الإنسان. والحزن الحار على قسمين، فتارة يكون حزناً توجهه للتاريخ والحال أنّ التاريخ قد انتهى، وتارة يكون حزناً توجهه توجيهاً مذهبياً، كالكثير من الناس الذين يعتبرون عاشوراء قضية شيعية نوجهها ضد السنّة. إنّ هذا التصوّر غير صحيح، فالسنّة لا يعتبرون يزيداّ يمثّلهم. وبالمناسبة فأنا أؤكد – من موقع شرعيّ - أنه لا يجوز لنا أن نجعل من منابر عاشوراء منابر لإيقاد نار الفتنة بين المسلمين.
وفي المثل الشعبي يرد السؤال: هل أننا نريد أن نأكل العنب أم نقتل الناطور؟! فإذا قدرنا على أكل العنب بدون قتل الناطور، فلماذا نقتله؟ ]وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[(42). ]وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[(43) ]ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ[(44). أمّا في الواقع فالآية مقلوبة: ادفع بالتي هي أسوأ فإذا الذي بينك وبينه صداقة كأنه عدو لدود، أليس هذا هو حالنا: قال اللّه ونقول؟ إن الحقد – أيّها الأحبّة – لا يبني مجتمعاً، فإذا كان الخطّ الشيعي يعتبر الخط الآخر على خطأ، فهل يعالج الخطأ بهذه الطريقة؟ إنّ أئمتنا(ع) لم يعالجوها بهذه الطريقة، فعلي(ع) وهو صاحب الحقّ عالج الأمور بحكمة ورويّة، لكن التخلّف واللعبة السياسية الآن هي هدف المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات الصهيونية ومعهما أكثر من مخابرات رجعية، فهي تعمل على أن يقاتل المسلمون بعضهم بعضا، وأن يتقاتلوا في التاريخ على حساب التأريخ ليسقطوا في الواقع. دافع عن حقك ولكن بالتي هي أحسن، فهذا الحقد لا ينتج مجتمعاً سليماً متآلفاً، والإمام علي(ع) يقول ((إحصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك))(45). فهل نأخذ بذلك؟! فلابدّ أن يكون حزنك هو الحزن الذي يجعلك تثور على الذين يصنعون المأساة، وأن تثور على المأساة في التاريخ ليكون ذلك وسيلة لأن تثور على المأساة في الحاضر.
نصوص الثوار:
* هل نقتصر في دراسة نصوص الثورة الحسينية على كلمات الإمام الحسين(ع) أم نقرأ نصوص الثوار وخطبهم في جيش عمر بن سعد وخطب الإمام زين العابدين(ع)؟
* نحتاج إلى الاثنين معاً، فعلينا إذا أردنا أن ندرس كربلاء بكلّها. ولكنّنا كنّا نتكلّم عن شخصية الإمام الحسين(ع) ولذلك تحدثنا عن كلماته، ولكن إذا أردنا أن نفهم واقع كربلاء فلابدّ أن نفهم كلّ العناصر التي أحاطت وتسبّبت في إحداث الواقعة.
المراد من الشعائر الحسينية:
* الشعائر الحسينية قد تثير استهجان الآخرين من الاتجاهات المختلفة وقد تؤدي إلى هتك حرمة المذهب، وقد افتى السيد الخوئي بذلك، فماذا ترون؟
* ما المراد من الشعائر؟ انّ الشعائر هي التي جاءت بها نصوص عن اللّه سبحانه وتعالى أو من رسول اللّه(ص) مثل ]إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ[(46). ]ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[(47). فلابدّ في الشعيرة من ورود نصّ، وكلّ شيء لا يرد فيه نص وإنّما يستحدثه الناس فانه ليس من الشعائر في شيء، ولقد ذكر السيد الخوئي (رحمه اللّه) في كتاب (المسائل الشرعية) المطبوع في بيروت وهو عبارة عن مجموعة استفتاءاته سئل عمّا يفعل باسم الشعائر (هل هي من الشعائر؟ قال: لا ليس من الشعائر) فكلّ من تعجبه قضية من القضايا يفرضها على الناس بشكل عاطفيّ لتصير شعيرة من الشعائر، في حين يجب أن نلاحظ الحكم الشرعي أولاً ونلاحظ النتائج السلبية على مستوى الأمة.
إنّ مشكلتنا هي أنّ هذه القضايا لا يوجد من يضبطها، وإذا انبرى من يعترض يواجه بالقول أن أهل البيت قالوا بذلك، والحال أن أهل البيت(ع) يقولون ((أيكتفي الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاه ثم لا يكون فعّإلاّ. فرسول اللّه خير من علي، أفحسب الرجل أن يقول أحب رسول اللّه ثم لا يعمل بسنّته))(48). إن المشكلة هي أن هذه الأمور تحولّت إلى فوضى يلعب فيها كلّ لاعب.
التركيز على قضية الإمام الحسين(ع):
* في كثير من الحالات نجد تقصيراً في الاحتفال ببقية أئمة أهل البيت(ع) سواء في ولاداتهم أو وفياتهم، وفي مقابل ذلك نرى هذا الاحتفال الكبير بمناسبة الإمام الحسين(ع) فما هو السرّ في ذلك؟
* هذا صحيح، فلابدّ أن ندرس حياة كلّ أئمتنا(ع) دراسة مستفيضة لأنّهم الهداة والقادة. ولكن لأنّ لقضية الحسين(ع) ارتباطاً بالجانب العاطفي، وبأكثر من جانب رسالي وسياسي حركي،ولأنّ حرّكية قضية الإمام الحسين(ع) تختلف عن حرّكية حياة أي إمام آخر، كان هذا الإحياء المميّز.
هل انتهى دور الإمام الحسين(ع)؟
* في نهاية عاشوراء، هل ينتهي دور الحسين(ع) في الحياة ويعود الظلم ليحتلّ الساحة ويمارس فظائعه؟
* لا ينتهي دور عاشوراء بانتهاء عاشوراء، بل يبدأ من حيث تنتهي، فعاشوراء هي من قبيل من يدخل مدرسة فإنّه يحتاج أن ينفّذ برنامج هذه المدرسة في الواقع.
هل فشلت القضية الحسينية؟
* عندما ندرس واقعة كربلاء كواقع إسلامي، عاشه التاريخ الإسلامي، نجد أنّ حركة الإمامة الثورية فشلت، ولكنّنا لا نجد في جهود الأئمة المعصومين الآخرين(ع) مثل هذا الفشل، فما هو رأيكم؟
* إنَّ الفشل تارة يكون ناتجاً عن أنّ الخطّة غير حكيمة، أو أنَّ القاتل غير كفوء. وتارة يأتي الفشل من جهة الواقع، فكما قال الإمام الحسين(ع) وهو يتمثّل بأبيات ابن الزبعرى:
فإن نَهزم فهزّامون قدمـا وان نُهزم فغير مهزّمينا
وما إن طبّـنا جـبـن ولكن منايانا ودولة أخرينا
]وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[(49).
توثيق السيرة الحسينية:
* ذكر الشهيد مطهري (رحمه الله) في كتابه (الملحمة الحسينية) بعض نماذج من الأكاذيب التي مورست من خلال كتاب (الروضة) المجهول المؤلف، فلماذا لا يصار إلى توثيق السيرة الحسينية؟
* نحن ندعو إلى قراءة الملحمة الحسينية، وندعو إلى توثيق السيرة الحسينية. وقد سمعتم منّي – أكثر من مرّة – أدعوكم أن لا تضيفوا شيئاً من الباطل إلى الحق في صورة كربلاء الحقيقية التي هي حقٌ كلّها.
التدقيق في الروايات الخاصّة بالإمام الحسين(ع):
* دعوتم كثيراً للتدقيق في الروايات التي تتحدث عن سيرة الحسين(ع) خاصّة المتعلّق منها بواقعة كربلاء، والليلة ذكرتم أنّ الحسين(ع) بكى على أعدائه لأنّهم يدخلون النار بسببه، فهل هي موثّقة روائياّ؟
* قلت إن بعض الروايات تتحدث عن ذلك، وأنا لم ألتزم هذا، ولكنّ روحية الإمام الحسين(ع) وأخلاقيته وأريحيته تسمح بذلك، فهو يعلم ما لا يعلمون، لأنّه على يقين، ولأنه يرى الأمور عين اليقين، وهم في الغيّ سادرون. وربّما كان مضمون الرواية وانسجامه مع أخلاقية الحسين(ع) دليلاً على وثاقة الرواية.
التصحيح في ثورة الحسين(ع):
* قلتم في ندوة سابقة إنّ ثورة الحسين(ع) جاءت لتصحيح دين جدّه، فهل كان في دين النبي(ص) ما يدعو إلى التصحيح؟
* كيف أقول ذلك؟ هل دين النبي(ص) يحتاج إلى تصحيح؟! بل قلت: نهض لتصحيح الواقع الذي يسوسه الذين يحرّفون دين جده، لأنّ الحسين(ع) قال ((إنّما خرجت لطلب الإصلاح في دين جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر)). فالذين تولّوا الأمر تحرّكوا في خط المنكر وتركوا سبيل المعروف، فجاء الإمام الحسين(ع) من أجل أن يصحّح الواقع المنحرف على نسق خط جده(ص) الذي كان الاستقامة كلّها والمعيار الذي اعتمده الحسين(ع) في عملية التصحيح ((وأسير بسيرة جدي وأبي)).
منزلة هاني بن عروة:
* ليست المسألة أنّ الرجل استقبله كضيف، بل إنه دافع عنه ودخل في حركته وكان يجمع الناس له، ولذلك فإن (هاني) كان شريك مسلم مع اختلاف الدرجة، وكان الإنسان الذي يتحرّك مع قائده ويحاول أن ينسّق معه على أساس إيمانه بالقضية.
عصمة الأئمة التسعة(ع):
* ما هو الدليل على عصمة الأئمة التسعة(ع)، خاصة وأن آية التطهير هي دليل العصمة لأهل الكساء، وبالتالي، كيف يمكن أن تكون الزهراء(ع) معصومة أسوة بالباقين؟
* إن الزهراء(ع) معصومة بآية التطهير لاشك في ذلك ولا ريب، وليس لدينا أي قلق أو أي تحفّظ أو تردّد أن الزهراء معصومة. فهي(ع) معصومة بآية التطهير أسوة بأصحاب الكساء، وهي معصومة لكونها سيدة نساء العالمي،ن ومن كانت سيدة نساء العالمين لابدّ أن تكون معصومة، وثالثاً فإن حياتها كانت العصمة كلّها.
أمّا عصمة التسعة من ذرية الحسين(ع)، فصحيح أن آية التطهير مختصّة بأهل الكساء، ولكنّ عصمة الأئمة الباقين(ع) هي بنفس الملاك الذي نقول فيه بعصمة الأئمة الثلاثة السابقين، لأننا نستدلّ على العصمة بدليل عقليّ، وهو أنّ النبوة التي هي أصل الإمامة تفرض أن يكون النبي(ص) معصوماً، مع عدم منافاة ذلك للاختيار بالطريقة التي يختار فيها الطاعة وهذا حديث آخر، وذلك لأنّ مهمّة النبي(ص) ليست مهمّة ساعي البريد بحيث يكتفي بأن يأتي لنا بكتاب من اللّه وأن يسلّمه إلينا وتنتهي مهمته عند هذا الحد.
فالقرآن يؤكّد أن دور النبي(ص) هو أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ودور القرآن الذي يحمله النبي(ص) هو أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلابدّ أن يكون النبي ـ الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور ـ في عقله نوراًً كلّه، وفي قلبه نوراً كلّه، وفي حياته نوراً كلّه، حتى يمكن أن يعطي الناس النور كلّه، لأن من كانت الظلمة في داخل عقله فإنها تقوده إلى الباطل، ولو كانت الظلمة أو شيء من الظلمة في قلبه فإنها تقوده إلى الانحراف العاطفي، ولو كانت الظلمة أو شيء منها في كلامه أو في فعله فكيف يمكن أن يعطي الناس نوراً في الفكر ونوراً في العاطفة ونوراً في الحياة؟ لذلك نقول كما أنّ اللّه يخلق شمساً كلّها نور لا أثر فيها للظلمة من أجل أن تعطي الإشراق للحياة كلّها، لابدّ أن يخلق إنساناً نوراً كلّه. وإذا عرفنا بأنّ الإمامة هي امتداد للنبوّة من غير نبوّة كما قال رسول اللّه(ص): ((يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)). فإن العصمة هي من خصائص الإمامة باعتبار أنّها تمثل الامتداد الحركي للنبوة لأن الإمام ينطلق في امتداد الواقع الإسلامي ليقوّم الانحراف ويصحّح الخطأ وليمتد بالرسالة في حركة صفائها ونقائها.
صحة أدعية السجاد(ع):
* إننا عندما نخوض في تراث الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) وخاصة الدعاء، فإننا نجد بعض المفردات التي لا نعتقد أنها واردة عنهم، فما هي الكتب المعتبرة لديكم بخصوص الدعاء للإمام(ع)؟
* بالنسبة إلى (الصحيفة السجّادية)، فمن المطمأن به أنها صادرة عن الإمام زين العابدبن(ع) إلاّ المناجاة الخامسة عشر، فهي غير ثابتة لكنها مروية عنه. لذلك لابدّ أن نراعي سند كلّ دعاء ولابدّ من أن نوثق الأدعية التي تمثل مفاهيم إسلامية. ومن الطبيعي أنه لا يجوز لنا أن نتبنّى مفهوماً إسلامياً إلاّ إذا ثبتت صحته، وحتى الزيارات لابد من أن ندقق سندها أيضاً، لأن مضمونها يمثل نوعاً من المفاهيم الإسلامية المتصلة بالعقيدة والمنهج.
عوامل شهرة مدرسة الصادق(ع):
* مدرسة الإمام الصادق(ع) الفكرية والتربوية اشتهرت كثيرا، فما هي عوامل شهرتها مع أنه أحد الأئمة المعصومين(ع)؟
* لعلّ الأساس في شهرة هذه المدرسة هي أن الظروف السياسية في ذلك الوقت والمرحلة التي كانت تمثل مرحلة الصراع بين الحكم الأموي والحكم العباسي أعطت للإمام الصادق(ع) ومعه أبوه الإمام الباقر(ع) الفرصة الواسعة التي استطاع أن يأخذ فيها حرية الكلمة وحرية الحركة، بحيث كان الأمويون الذين كانوا يضطهدون الأئمة من أهل البيت(ع) مشغولين بالدفاع عن حكمهم، وكان العباسيون الذين اضطهدوا أهل البيت من بعد ذلك مشغولين ببناء دولتهم.
وهكذا انفتح الإمام الصادق(ع) على الساحة كلّها، ورأت فيه الساحة العلمية بكلّ أنواع العلم، والساحة التربوية بكلّ خطوط التربية، رأت فيه الإنسان الذي يحتاجه كلّ الناس ولم يحتج أحداً، كما هو جدّه أمير المؤمنين(ع) الذي قال عنه الخليل ابن أحمد الفراهيدي مخترع علم العروض ((احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل أنّه إمام الكلّ)). وينقل لنا تأريخه أنّ الرواة الذين رووا عنه كانوا أربعة آلاف راو، والراوي كان يمثّل أستاذاً للرواية وللحديث. وبالتالي فهو أستاذ للفكر الإسلامي بقدر ما يرويه عن النبي(ص) وعن الصحابة وعن الأئمة من أهل البيت(ع). وقد قال أحد المؤرخين: دخلت مسجد الكوفة فإذا فيه تسعمائة شيخ، والشيخ هو الأستاذ، كلٌّ يقول حدّثني جعفر بن محمد الصادق(ع). وكانت المرحلة السياسية هي التي أعطت الإمام الصادق(ع) ومعه الإمام الباقر(ع) حرية الحركة وحرية الكلمة والابتعاد عن مواقع الاضطهاد الصعب الذي كان يمثّل الخطّة السياسية لمحاصرة نشاط الأئمة من أهل البيت(ع). ولذلك فإنّ ما روي عن الإمام الصادق(ع) هو أكثر مما روي عن الأئمة مجتمعين.
تعامل الصادق(ع) مع التيارات الفكرية:
* امتاز العصر الذي عاش فيه الإمام الصادق(ع) بميزات الانفتاح على التيارات الفكرية المتعددة، فكيف تعامل الصادق(ع) فكرياً مع أصحاب التيارات وأتباعهم؟ وما هي آثار حركته الفكرية على الفكر الإسلامي؟
* كان الإمام الصادق(ع) يجلس كما سمعنا مع الزنادقة والملاحدة وكان يجلس مع المنحرفين عن خطّه المذهبي الفكريّ، وكان يجلس مع الذين يثيرون بعض الأفكار المختلفة حول أكثر من قضية من قضايا العقيدة. وكانت مدرسته مدرسة يتعلّم فيها الملحد والمتفلسف والسنّي والشيعي والخارجي وما إلى ذلك. وكان أسلوبه هو أسلوب القرآن حيث كان ينطلق بالقول بالتي هي أحسن، والجدال بالتي هي أحسن والدفع بالتي هي أحسن. وهذا ما يجب أن نتعلّمه الآن عندما تنطلق التيارات الفكرية في العالم لتتنوّع في كلّ مجالات العقيدة والحياة كلّها. فلابدّ لنا أن لا نقبع في الزاوية، وأن لا ندفن رؤوسنا بالرمال حتى لا نرى الصياد فيما الصيادون الذين يصطادون عقيدتنا وثقافتنا وسياستنا واقتصادنا وفكرنا بكلّ أسلحتهم في ازدياد، فلابدّ لنا أن نحدّق بهم حتى نعرف كيف نواجه البندقية بالبندقية، والبندقية الفكرية ببندقية فكرية، والأسلوب بالأسلوب، والمنهج بالمنهج.
جواز دخول الكفّار إلى المساجد:
* هل نستطيع الاستفادة من حوار الإمام الصادق(ع) مع بعض الزنادقة في المسجد الحرام جواز دخول الكفّار وأهل الكتاب إلى مساجدنا؟
* نحن نفتي بجواز ذلك، لأنّ النبي(ص) كان يستقبل الوفود من المشركين ومن أهل الكتاب في مسجده. وقد استقبل نصارى نجران في مسجده في المدينة وأفسح لهم المجال ليؤدّوا صلاتهم الخاصة في نفس المسجد.
حياة الكاظم(ع) خارج السجن:
* من المعروف أن الإمام الكاظم(ع) قضى معظم حياته في السجن، فكيف استطاعت الأمة الاستفادة من فكره وعطائه وهو في إطار العزلة والظلم والاضطهاد؟
* من قال إن الإمام الكاظم(ع) قضى معظم حياته في السجن؟ ففي رواية أنه قضى سبع سنوات وفي رواية أربع عشرة سنة، ولكن الظاهر أنه أمضى سبع سنوات، فيما عاش عهد المنصور بعد وفاة الإمام الصادق(ع) وعاش عهد المهدي والهادي وشطراً من عهد الرشيد، وكان(ع) يملك ساحة واسعة للعطاء. ولو درسنا الذين تتلمّذوا عليه ورووا عنه مما يذكره المؤرخون، لعرفنا أنهم كانوا أساتذة الثقافة الإسلامية في ذلك العصر.
قبول الصلح وقبول ولاية العهد:
* ما هو الفرق بين قبول الإمام الحسن(ع) الصلح مع معاوية وقبول الإمام الرضا(ع) ولاية العهد؟وهل قبول الصلح هناك وولاية العهد هنا تقيّهٌ؟ أم أنه راجع إلى عدم وجود القاعدة الشعبية التي يستند إليها الأئمة(ع)؟
* نحن لا نعتقد أنّ المسألة تقيّة، بل إنّ الظروف الصعبة التي عاشها الإمام الحسن(ع) والتي هدّدت الواقع الإسلامي في خطّه الصحيح دفعت الإمام الحسن(ع) ومعه الإمام الحسين(ع) إلى أن يدرسوا المرحلة جيداً، فرأوا أنّ الصلح الذي هو هدنة وليس اعترافاً بالشرعية يمثّل خطّ السلامة للإسلام والمسلمين.
أمّا ولاية العهد بالنسبة للإمام الرضا(ع) فقد كانت لها ظروف خاصّة،وهناك عدة تفسيرات لقبوله هذه الولاية.وقد تحدّثنا عنها سابقاً في أكثر من حديث،ولا يتسع المقام لها الآن،فيمكن مراجعة كتاب (الندوة) في أجزائه لاسيما في ذكريات ولادة الإمام الرضا(ع) ووفاته.
إشغال المناصب الرسمية:
* هل في قبول الإمام الرضا(ع) ولاية العهد صفة شرعية لنا بجواز شغل المناصب الكبيرة حتى مع الظالمين؟
* إذا فرضنا أنّ في إشغال المناصب الكبيرة القدرة على أن يؤدّي المتصدي لها ما يصلح الأمور، فيجوز ذلك. وإلاّ إذا كان يعين الظالمين على ظلمهم، دون أن تترتب على إشغاله الموقع الحكومي مصلحة للإسلام والمسلمين، فلا يجوز.
صغر سن الإمام العسكري(ع):
* ذكرتم أنّ الإمام الحسن(ع) من أصغر الأئمة(ع) عمراً، ألا ترون أنّ السنّ الصغيرة تؤثّر سلباً على انقياد الناس إلى الإمام والقائد، كما منعت كبار الصحابة من الامتثال والطاعة لأسامة بن زيد؟
* لقد ذكرنا أنّه بالرغم من أنّه(ع) كان أصغر الأئمة عمراً لكنه استطاع أن يستولي على ثقة المجتمع كلّه، وأنّه كان يُقدّم على شيوخ بني هاشم، وكان المجتمع كلّه يقدمه ويثق به، ويتحرّك في اتجاهه،ولذلك ما قلناه لا يمثل شيئاً سلبياً في المسألة.
صحة رواية:
* هناك قول للإمام العسكري(ع) يقول ((من لم يحسن أن يمنع لن يحسن أن يعطي)).
* لابدّ لنا عندما ننسب رأياً إلى الإمام(ع) أن نعرف هل هو موثّق بسند صحيح؟ وهل هو متناسب مع الحقائق التي ثبتت بحجّة صحيحة حتى نأخذ به، وإلاّ فلا يمكن التسليم بكلّ ما ينسب للنبي(ص) وآل بيت النبي(ص) من غير تدقيق وتمحيص وعرض على كتاب اللّه. ويمكن أن يكون المقصود بهذه الكلمة أن الإنسان القادر على المنع الذي يملك إرادته هو القادر على العطاء. أمّا الذي لا يحسن أن يمنع بمعنى الذي لا يملك إرادته وقدرته على الاختيار فلا يحسن أن يعطي لأنه مشلول القدرة، فلا يتحرّك في نطاق حريته في السلب والإيجاب.
إيحاءات مولد الحجة(ع):
* ما هي الإيحاءات الإيجابية التي يمكن بواسطتها الاستفادة من غيبة صاحب الزمان(ع) لاسيما ونحن نعيش الانتظار العسير في ظل المصائب المتنوعة،و يبدو الفرج وكأنه بعيد، فما أحوجنا لتلك الإيحاءات لنضعها نصب أعيننا؟
* إن الإمام(ع) لا يأتي بدين جديد وإنما يأتي بالإسلام، وربما نكتشف فيما يأتينا من الإسلام أشياء جديدة لأننا أغرقنا الإسلام في اجتهاداتنا التي ربما أخطأنا في الكثير منها، لذلك فإذا كانت رسالته(ع) رسالة الإسلام فإن اللّه لم يعطّل حركيّة الإسلام بالنسبة للإنسان المسلم في زمان الغيبة. بل إن الإسلام هو مسؤولية كلّ المسلمين. فعلينا أن نستوحي من الدعوة العالمية للإسلام بالطرق المادية فيما إذا كانت هناك طرق غيبية في عهده. ثم أن الإمام(ع) يأتي ليملأ الأرض قسطا وعدلا، فرسالته هي رسالة العدل الشامل، فلماذا لا نعمل من أجل العدل، هل نبقى نبكي المصائب؟ هل نبقى نبكي الهزائم؟ هل نريد عصاً سحرية تهبنا النصر ونحن نبتعد عن كلّ أسباب النصر؟
إن مشكلتنا هي كمشكلة التنابل الذين لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم ليحملوا اللقمة بأيديهم ليضعوها في أفواههم، فهم يريدون من يضع اللقمة في أفواههم، بل من يتدخل في عملية المضغ والهضم.
لقد جاء اليهود وأخرجونا من المنطقة كلّها لا من فلسطين فحسب، أخرجونا من المنطقة سياسيا فلم يبق لنا سياسة، وأخرجونا من المنطقة أمنيا فلم يبق لنا أمن، وأخرجونا من المنطقة اقتصاديا فلم يبق لنا اقتصاد مستقل، وتركوا لنا أشخاصا نسبّح بحمدهم ولا حمد لهم لأننا نسبّح بحمد ضعفنا. لذلك ـ أيّها الأحبة ـ فإن جنده المنتظرين له هم الذين ينتظرونه في ساحات الجهاد، وهم الذين ينتظرونه في ميادين الصراع، وهم الذين ينتظرونه في ساحات التحدّي، لأنه المتحدّي الذي يدخل الصراع،ولأنه المجاهد الذي يجاهد ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
الصبر أمام الجور:
* قال أحد الأئمة(ع) ((إذا كان الإمام عادلا كان له الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائراً كان عليه الوزر وعليك الصبر)) فهل هذا صحيح؟
وقت ظهور الإمام(ع):
* كذب الوقّاتون ]إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا[(50). وعلينا أن نقوم بمسؤوليتنا فيما كلّفنا الله به حتى نحقّق العدل ولو في موقع أو آخر، وأن ندعو للإسلام حتى نمهد لظهوره(ع).
خروج عيسى(ع) مع الحجة(ع):
* ما سرّ خروج روح اللّه عيسى(ع) مع الإمام الحجة(ع)؟
مناقشة رواية:
* روى(النسائي) و(ابن ماجة) أن(سعد بن عبادة) ذكر لرسول(ص) أنّ رجلاً ضعيفاً زنى في أبياتهم، فقال(ص) اضربوه فهو حده، فقال: )سعد) إنه اضعف من ذلك، فقال خذوا أثقالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة، واستدل (محمد الغزالي) في كتابه(دستور الوحدة الثقافية) بذلك فقال: عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله(ص) من حالة الشدة إلى حالة التيسير، إذ الأصل في جلد الحد تفريق الضربات حتى تأخذ كلّ ضربة مكانها في جسده، ونظراً لضعف حاله جعلها رسول الله(ص) جلدة واحدة؟
* نحتاج أولاً أن نناقش هذه الرواية في مدى صحتها. وثانياً: فإن ذلك ربما كان استيحاء بالنسبة لما حصل لأيوب(ع) عندما أراد الله تعالى له أن يأخذ بيده ضغثا. وثالثاً : فإن لرسول الله(ص) صفتين: صفة شرعية في تطبيقه لأحكام الله تعالى، وصفة الولاية. فمن حق ولي الأمر – من موقع الولاية – أنه إذا رأى المصلحة الإسلامية في موضوع ما أن يتدخل في التطبيقات. فلا يدل ذلك على التيسير من موقع الشرع، بل على التيسير في حركة التطبيق الولايتي.
الروايات التي تنطوي على المبالغة:
* ماذا تقول في الروايات التي يبالغ فيها كثيراً، كما هو الحال بالنسبة إلى المستحبّات، حيث يقال إنّ هذا من باب التسامح في أدلّة السنن؟ ألا ترى أنّ ذلك يفوّت علينا بعض المستحبّات، فقد يرد في الليلة عملان إذا قمت بواحد منهما فات الآخر وأنت لا تعرف أين المستحب منهما، وأين المتسامح في دلالته؟
* إنّ التسامح في أدلّة السنن لا قيمة له في مقام الحجية، لأنّ الأدلّة الضعيفة ليست حجّة، ولكن عندنا حديث في هذا المضمار يقول ((من بلغه ثواب عن رسول الله(ص) على عمل فعله كان له ذلك وان كان رسول الله(ص) لم يقله))(51) فالله تبارك وتعالى يحقّق لمن حسّن ظنّه به مما ورد في ثواب بعض الأعمال، لكن ليس معنى ذلك أنّه أصبح من المستحبّات.
معنى [ ويحك ] في كلامهم(ع):
* في سياق العديد من الأحاديث الواردة عن النبي(ص) وعن أهل بيته(ع) نراهم يفتتحون كلامهم بكلمة (ويحك) أو (ويلك) علما أنّ (ويل) هو واد في جهنم، ونحن نعرف بأنّ رسول اللّه(ص) وأهل بيته(ع) أصحاب خلق عظيم، فكيف يكون ذلك؟
* هذه الكلمات لا يرد بها معناها اللغويّ الحرفيّ، وربما في بعض الحالات قد نحتاج إلى أن نقابل الطرف الآخر بشيء من العنف باعتبار أن طبيعة الموضوع تقتضي العنف حتى يستوعب المخاطب الفكرة أكثر وحتى يواجه الموقف بمسؤولية أكبر.وربّما كانت طبيعة الوسائل التعبيرية في دلالاتها السلبية أو الإيجابية أو تأثيراتها الاجتماعية مختلفة بين زمن وآخر فقد يكون للكلمة إيحاءاتها بشكل عنيف في مرحلة سابقة مما يفرضه الواقع وربما كانت تأثيراتها أخف في مرحلة أخرى ولذلك لابدّ من دراسة حركية الكلمات في العلاقات الاجتماعية.
الاختلاف حول كلمة (ولي):
* اختلف أبناء العامّة في معنى كلمة (الولي) فقالوا المراد منها (الناصر) أو (المحب) فمتى حصل هذا الاختلاف؟
* لم يختلفوا عندما قال النبي(ص) ((ألست أولى بكم من أنفسكم)). فقد فهموا من قوله بالولاية لعلي(ع) الحاكمية وليس النصرة. ثم هل يعقل أن يجمع النبي(ص) المسلمين في أرض شديدة الحرارة وفي وقت الظهيرة لدرجة أنّ الشخص منهم كان يضع طرق ثوبه تحت رجله من شدة الحر بثوبه، لأجل أن يقول لهم: من كنت محبّه فعليّ محبّه؟! هل هذا مما يستحق من النبي(ص) أن يفعل ذلك؟ ألم يكن الأمر على غاية من الأهمية بحيث استدعى الإبلاغ في الموقف الذي نزلت فيه الآية؟!
الفصل الرابع
المسائل الفكرية
برنامج الدعوة للإسلام في العالم:
* أصبحت نفوس العالم ستة مليارات نسمة ونجد أن عدد الموحدين المسلمين لا يتجاوز الخمس، فهل هناك تعليق لحركة الدعوة إلى الإسلام؟ أو أن هناك سوء فهم لدى القاعدة؟ أم سوءاً في التطبيق؟ وما هو برنامجكم ومنهجكم للدعوة للإسلام في العالم؟
* إن مشكلة المسلمين هي أنهم شغلوا بغير الإسلام، وحتى الذين يملكون مواقع إسلامية قد شغلوا عن الدعوة إلى الإسلام، ولذلك فإن العالم لم يتعرّف على الإسلام من المواقع الواعية المنفتحة المخلصة التي تعيش الإسلام كقاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة، ومشكلتنا هي في المتخلّفين والجاهلين والمتقاعدين المسترخين الذين يريدون أن يخدمهم الإسلام ويضخّم أسماءهم بدلا من أن يخدموا الإسلام.
إننا نتصوّر أنّ الإسلام يتقدّم بالرغم من كلّ الحرب التي يشنها أهله عليه بطريقتهم الخاصّة، ويشنّها الآخرون عليه. لذلك نعتقد أن الدعوة إلى اللّه هي مسؤولية كلّ مسلم ومسلمة, ومن خصائص الدعوة وشروطها أن يثقّف الإنسان نفسه بالإسلام حتى يستطيع أن يكون داعية للإسلام في أي مكان يذهب إليه، وتذكّروا أن أكثر البلدان الإسلامية نفوسا مثل أندونسيا وماليزيا وغيرها قد فتحها التجار المسلمون قبل أن يفتحها العلماء المسلمون.
ونحن نسعى مع كلّ المخلصين في سبيل أن نقدّم إلى العالم إسلاما منفتحا على قضايا الإسلام ومشاكل الإنسان بالطريقة التي يشعر فيها الناس بأنّ اللّه عزّ وجل أنزل القرآن والإسلام على رسوله(ص) من أجل أن يخرجهم من الظلمات إلى النور.
الابتعاد عن الحق:
* إنكم تقولون إننا نتعايش مع الباطل ولكن لا نعترف بشرعيته، ونحن في هذا الزمن الصعب الذي نعيش فيه حيث يكاد الباطل أن يكون حقاً، والذين مع الحقّ يبتعد الناس عنهم لأنهم لم يميّزوا بين الباطل وبين الحقّ، فماذا تقولون لكلّ الذين يبتعدون عن الحق باسم الحق؟
* إننا نقول إنه ليس هناك يأس، فإذا ابتعد الناس عن الحق وأخذوا بالباطل فليس لأنهم يؤمنون بالباطل، ولكن لأنّ مصالحهم وشهواتهم ولذاتهم وجهلهم بالحق يبعدهم عن طريق الحقّ والتزامه، ولذلك نقول لهؤلاء الناس إنّ عليهم أن يحرّكوا عقولهم حتى يعرفوا الفرق بين الحقّ والباطل ليأخذوا بالحق ويتركوا الباطل لأنّ في ذلك سلامة المصير في الدنيا والآخرة.
عالمية الإسلام والتمازج الثقافي:
* في ظل هذا التمازج الحاصل في العالم بين الثقافات، هل تبقى مقولة ((الإسلام دين عالميّ)) واقعية وتملك القدرة على المواجهة؟ وهل تملكون كمسلمين هذه المناعة من الغزو الثقافي والفكري الذي يفرض نمطاً واحداً من التفكير؟
* هناك فرق بين الأدوات المادية التي يملك فيها الآخرون ظروف الغزو، فمثلاً يملك الآخرون الأجهزة الإعلامية كما يملكون القوة المادية والقوة السياسية والاقتصادية التي تتيح لهم أن ينفّذوا مآربهم في كلّ مكان في العالم.هذا صحيح، ولكنّنا نملك أصالة الفكر الإسلامي، وإنسانية الفكر الإسلامي، وعقلانية الفكر الإسلامي. ومن الطبيعي أنّ الإنسان الذي أحاطت به التكنولوجيا من جميع الجهات لا يزال يبحث عن الروح وعن العقلانية الصافية، وعندما نلتقي بمفكرين كبار من الغربيين ممن دخلوا في الإسلام بعد أن كانوا مسيحيين أو ماركسيين، نعرف أن الإسلام يخترق فكر هؤلاء المثقفين الذين عاشوا الثقافة الغربية بكلّ عناصرها، ولكنهم رأو في الإسلام الأصالة، ورأوا فيه الدين الذي يحترم الإنسان كلّه.فعندما نرى ذلك فإننا نشعر بواقعية أن الإسلام دين عالمي، ولكن المشكلة هي أن المسلمين لم يتحوّلوا إلى دعاة، بل إنهم يعيشون في داخل ذواتهم أشكال التخلّف. ومشكلتنا هي قيادات الجهل والتخلّف والخرافة التي أساءت إلى الإسلام، وإلاّ فلو عرف الناس الإسلام الأصيل، الإسلام القرآني، والإسلام المحمّدي، والإسلام الذي انطلق في خط الأئمة(ع)، لرأوا ما يجعلهم يؤمنون به ويشعرون بأنه هو الذي يجلب لهم السعادة في الدنيا والآخرة.
قدرة الكوادر الحوزوية القيادية:
* تتهم الكوادر الحوزوية بعدم قدرتها على القيادة لعدم إحاطتها بثقافة معمّقة في علمي الاقتصاد والسياسة، فلماذا لم تدّرس المادتان أعلاه بشكل منهجي في الحوزات؟ و هل هناك نظرية اقتصادية إسلامية واضحة وثابتة تقارع بالحجة والدليل النظريات الاقتصادية الوضعية؟
* أولاً: إن السياسة في الواقع ليست من القضايا التي تقرأ في كتاب ولعلّ أغلب القادة السياسيين في العالم لم يدخلوا في كليات السياسة، بل كانت كفاءاتهم ناتجة عن تجربتهم السياسية، وكانت ممارستهم للعمل السياسي السبب في نموّ ثقافتهم السياسية. ولا نقول إن هناك مانعاً من تعلّم السياسة، بل إنه من الضروري جداً أن يكون للإنسان ثقافة سياسية. أمّا الاقتصاد فهو مما يلمّ به المختصّون في هذا المضمار، ولكن يكفي الإنسان المسلم أو الحوزوي أن تكون لديه الخطوط النظرية الاقتصادية العامّة.فهناك فرق بين الاقتصاد كمنهج والاقتصاد كعلم.نعم، لابد للذي يملك ثقافة الإسلام أن يعرف الاقتصاد الإسلامي كمذهب، أمّا أن يعرف الاقتصاد كعلم، فحتى أغلب القيادات السياسية في العالم ليست لها خبرة في الاقتصاد بالمعنى العلمي للاقتصاد، وإنما يحيطون بذلك من خلال المستشارين. نعم، نحن نقول إن الطالب الحوزوي عندما يريد أن يحمل الإسلام رسالة للعالم لابدّ أن يكون مثقّفاً بثقافة تسدّ الفراغات التي يمكن أن يطلب الناس منه أن يملأها بالفكر الإسلامي.
تجريد النص عن صاحبه:
* هناك من يذهب إلى وجوب تجريد النص عن صاحبه كي يتسنّى لنا فهم ذلك النص فهماً موضوعياً، لذلك فلابدّ لنا من فصل النص عن سياقه الزماني، أي أن نلغي مناسبة النصّ، وهذا يجعلنا نقطعه عن الفترة التي نزل بها ليبقى عائماً أو مجرداً صالحاً لأن يفسّر على ما تقتضيه حاجات العصر وتطوراته، فماذا تقولون في مثل هذه النظريات؟
* النص، أي نص، سواء كان نصّاً أدبياً أو فلسفياً أو قانونياً يخضع في فهمه لطبيعة القواعد التي تحكم فهم النص. فلكلّ لغة قواعدها في فهم النص، أي أننا عندما ندرس النص ـ أيّ نص ـ نجد أنه يمتلك خصوصية ما من خلال ما يحيط بالشخص الذي قاله، أو خصوصية في الزمان أو المكان الذي انطلق فيه، فكيف نستطيع تجريده من ذلك كلّه؟
إن تجرّد النص من خصوصيته، إذا كانت له خصوصية، ليست مسألة تملكها أنت بحيث تجرّده أو لا تجردّه، بل لابدّ أن تنطلق من خلال قواعد اللغة في فهم النص.ونحن نعتبر النصوص القرآنية والنبوية والإمامية نصوصاً للحياة وللإنسان كلّه، ولذلك فهي ليست مؤطّرة بإطار الزمان والمكان. كما نقول بأن القدماء فهموا القرآن بشكل معين ويمكن لنا أن نفهمه بطريقة أخرى، وأنهم فهموا كلام النبي(ص) بطريقة معينة ويمكن لنا أن نفهمه بطريق أخرى. والنصوص الإسلامية هي نصوص للحياة وليست خاصة بزمان أو بمكان معينين، وربما كانت لبعض النصوص خصوصية في الزمان والمكان، لذا فإننا نجعلها في زمانها ومكانها. وبعبارة أخرى، ما أريد ان أقوله هو أن مسألة فهم النص لابدّ أن تخضع للقواعد العلمية في فهم النص، وليست أمراً مزاجياً واختيارياً يمكن للإنسان أن يتصرّف فيه على هواه.
مأساة الشعب العراقي:
* لقد نوّهت أسرة الندوة بأنها تمتنع عن الإجابة عن الأسئلة السياسية لأن الندوة ثقافية، ولكن السؤال لماذا سماحتكم لا تتطرقون في خطبة الجمعة التي تقيمونها في لبنان عن القضية العراقية وعن محنة الشعب العراقي المظلوم التي انتهكت حرمته؟
* هل سمعت خطبة الجمعة في الأسبوع الماضي؟ يمكنكم أن تستمعوا لها في إذاعة (البشائر)، كما أنها نشرت في نشرة (بيّنات)، حيث تحدثنا عن مأساة الشعب العراقي وعن مؤتمر المعارضة الذي عقد في نيويورك وانتقدناه، وقلنا إن هذا المؤتمر هو محاولة إخراج أمريكا من مأزقها السياسي في حصار الشعب العراقي، ونعتبر العراق من خلال حاكمه، ومن جهة الحصار الأمريكي والبريطاني، ومن خلال الأوضاع التي تحيط به من جهة مأساة الشعب العراقي، من القضايا التي نعتقد أن على كل مؤمن ومؤمنة أن يقف من أجل دعم هذا الشعب وإخراجه من هذه الهجمة الوحشية في الداخل والخارج.
إستغلال الظالم لفراغ المستضعفين:
* ذكرتم في تفسير الآية ]قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا[(1). أنه لابدّ للمسلم المستضعف أن يخرج من بلده إذا حانت له الفرصة، ألا يؤدي ذلك إلى أن يستفرد الظالم والمستكبر بالأمر؟
* لم يفهم السائل كلامي جيدا، فعندما يقف المستضعفون في بلدهم أمام الظالم ليحاربوه وليسقطوه وليقتلوه أو يقاتلوه فلا يجوز لهم الخروج بل يجب عليهم البقاء. ولكن إذا كان الظالم يحيط بهم بين أيديهم ومن خلفهم بحيث يعيشون في زنزانة لا يملكون فيها حتى أن يفكّروا بحرية. وكانوا قادرين على أن يخرجوا إلى بلد آخر ليأخذوا بأسباب القوّة ليعودوا بعد ذلك لمحاربة الظالم من موقع هذه القوة الجديدة، التي لم يستطيعوا أن يحصلوا عليها في بلادهم، فيجب عليهم الهجرة عند ذلك.
محاصرة الفكر الآخر:
* يرى البعض أن محاصرة الفكر تمنحه قوة وحصانة، وهنا نواجه إشكالين: أولاً: يجب على المؤمن مواجهة الفكر غير السليم وبهذا يمنحه قوة لأنّه يحاصره. وثانياً: يرى البعض انه مادام الفكر جديداً ومحاصراً فهو صحيح وقوي بدليل مواجهة الآخرين له، فكيف نحلّ هذين الإشكالين؟
* لا إشكال في الإشكالين، فنحن عندما نصادم الفكر الآخر نصادمه على أساس مقابلة الحجّة بالحجّة والفكر بالفكر، لا أن نصادمه بأن نحاصره فينظر الناس إليه كما ينظرون إلى الفكر المضطهد الذي يتحوّل إلى فكر شهيد. نحن ندعو إلى أن نقابل الفكر لا أن نحاصره، وأن نقابله يعني بان نفرغه من كلّ عناصر القوة التي تجعل الناس تنجذب إليه، وذلك بشعار ]قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[(2). أمّا الذين يجدون فكرهم قويا لأنّه محاصر فهذا أيضاً غير صحيح، فإن فكرك يكون قويا بقدر ما يملك من عناصر القوة في القاعدة التي يرتكز عليها. إذ ليس دائما يكون الفكر المحاصر فكرا قويا.إن قوة الفكر الحقّة هي أن تكون قوة الفكر في داخله، لا أن تكون قوته من خلال العناصر الخارجية التي قد تلتقي بالفكر الخاطئ ليجتمع حوله الأنصار فيعطونه قوة. فإذا أردت أن تكون قوي الفكر فابحث عن عناصر القوة في طبيعة الفكر وفي القاعدة التي يرتكز عليها.
التمييز بين الفكرين السليم والسقيم:
* الأفكار تختلف باختلاف العقول، فكيف يستطيع المرء أن يفرّق بين الفكر الصحيح والسقيم، وخاصة في أمور دينية بحتة وعامّة بحيث لا يكون العقل هو الحاكم الوحيد؟
* إذا كان لك عقل راجح فبإمكانك ان تفرّق بينهما، فلم تغلق عقلك وترى مثل ما قال أبو العلاء المعري:
في اللاذقية ضجّة ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدقُّ وإذا بمئذنة يصيح
كلّ يمجّد دينه ياليت شعري ما الصحيح
فهل قرأت دين هذا ودين هذا وكان عقلك معك؟ لو فعلت ذلك لرأيت أن العناصر الكامنة في هذا الدين وذاك الدين تؤكد أن الدين واحد، وأن المسيح وأحمد (سلام الله عليهما) لم يختلفا ولم يتصارعا، وإنما وقع الاختلاف من بعد ما جاء العلم]فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ[(3). فبغوا على بعضهم البعض وانحرفوا عن الخط.
إنّ المشكلة هي مشكلة الذين يعطّلون أفكارهم عن التفكير فيما لدى الآخرين الذين يعيشون الصراع الفكريّ.فعندما يكون عقلك حاضراً فلا تسقطه ولا تمنحه إجازة، فعند ذلك لن تكون حائرا بين الفكر السقيم والفكر الصحيح، لأنّ عقلك في ذاتياته الثقافية هو الذي يميّز بين هذا وذاك.
الكلمة السواء:
* تتكالب علينا الأمم للنيل من ديننا القويم، بينما نرى الأمة الإسلامية تختلف في بعض الأمور الدينية، فلماذا لا تتوحد الجهود وتتظافر ونجتمع على كلمة سواء بيننا؟
* يقول اللّه تعالى ]وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ[(4). فهذا الحال موجود بين المسلمين كما كان موجودا في السابق، وإلا فإذا أخلصنا للإسلام، وتحاورنا فيما نختلف فيه، وعذرنا بعضنا بعضنا فيما نجتهد، فيمكن أن نتوحّد ونلتقي ونتعايش..
النصر والهزيمة:
* النصر والهزيمة ينسبان إلى الله سبحانه وتعالى مع أننا في كثير من الأحيان نرى أن العامل الأساسي فيهما هو جهد الإنسان، وفي أحيان أخرى نجد أن القرآن ينسبهما للإنسان، فكيف نجمع بينهما؟
* هما ينسبان إلى الله من جهة، وينسبان إلى الإنسان من جهة أخرى، أما نسبتهما إلى الله فباعتبار أن الله هو مسبّب الأسباب وهو الذي خلق الإنسان، وهو الذي خلق السلاح وخلق الأشياء كلّها، فكلّ الأمور راجعة في أساسها إليه، ولكن الإنسان هو الذي يختار النصر والهزيمة بحسب ما يأخذ به من أسباب النصر أو أسباب الهزيمة فهما ينسبان إلى الإنسان بشكل مباشر وإلى الله بشكل غير مباشر.
الحوار مع من لا يفهم الحوار:
* هل ينفع الحوار مع أناس لا يفهمون لغة الحوار، ولا يريدون أن يفهموها؟ وكيف نستطيع التعامل مع مثل هذه النماذج التي لا تحب الحوار؟
* علينا أن نحاورهم أولا وثانيا وثالثا حتى يمكن أن نفتح آذانهم وأذهانهم. فعلى الإنسان أن يقتدي بنوح نبي اللّه(ع) حيث كان يعظ الناس (950) سنة ليلا ونهارا. ويجب أن نقيم الحجّة عليهم في ذلك ]وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[(5). فالمهم إقامة الحجّة على الناس في هذا المجال حتى نعذر إلى اللّه في ذلك كلّه من جهة، ونضع في عقله الفكرة فربّما تأتي الحالة الإيجابية التي تجعله يتفاعل معها في عملية تأمل وتفكير قد تقوده إلى الاقتناع تماماً كما هي البذور التي تتناثر في الأرض حتى إذا جاء المطر اهتزت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج، من جهة أخرى.
نصيحة في الألفية الثالثة:
* ونحن ندخل الألفية الجديدة، ما هي النصيحة التي تقدمونها لأبناء الإسلام لمواجهة التحديات؟ وهل ترون أنّ المسلمين مؤهلون لدخول هذا القرن الجديد بقوة وفاعلية؟
* ذكرت أكثر من مرّة أنني لا أشعر بميزة في حجم الزمن لأية بداية زمنية يصطلح عليها الناس، إذ ما الفرق بين الألف الثاني والألف الثالث؟ لقد ولد السيد المسيح(ع) وأرّخنا الزمن بولادته، وهو أمر ننفتح عليه كمسلمين، ولكنّنا لا نحوّل الزمن إلى وثن نتعبّد ونخضع له. وقد كان قبل السيد المسيح(ع) زمان لا ندري كيف انطلقت وما هو عددها؟!
لذلك فأن نقف أمام بداية قرن، أو عند نهايته، أو بداية ألفية أو نهايتها، فهذا لا يعني لنا شيئاً. فما يعنينا هو أن نتحسّس مسؤوليتنا بالنسبة إلى الزمن في الثانية واللحظة، وكيف نملأ الزمن عقلاً من عقولنا؟ وكيف نملأه محبة من محبتنا؟ وكيف نملأه حركة من حركاتنا؟ وكيف نحوّل الزمن؟ وكيف نؤنسنه؟ فالزمن هو الإنسان من حيث أنه عمر الإنسان وعمر الكون الذي يحيط بنا أو يطلّ علينا. فالمسألة المهمّة هي كيف نرتفع بإنسانيتنا لنفكّر أكثر ونبدع أكثر ونكتشف أكثر ونسهّل الحياة أكثر ونقوّي المواقع أكثر ونحدد الواقع أكثر؟ سواء في كلّ يوم أو في كلّ شهر أو في كلّ سنة أو في كلّ قرن أو في كلّ ألفية. وعلينا أن لا نتوقّف والزمان يسير، وأن لا نجعل اللحظة تذهب منّا دون أن نملأها بما يغنينا من خلال هذا العنصر الذي أعطانا فرصة جديدة. لكنّ مشكلتنا في هذا الشرق هي أنّنا نعادي الزمن. وقد ذكرت لكم أكثر من مرة أن بعض التعابير التي يتداولها الناس تدلّ على حجم التخلّف في ذهنيتهم. فنحن نتحدّث مع بعضنا بالقول تعالوا نقطّع الوقت، وتعالوا نضيّع الوقت، وتعالوا نقتل الوقت، ناسين أن الوقت هو عمرنا، فإذا أردنا أن نضيّعه، فمعنى ذلك أننا نضيّع عمرنا، ومعنى أن نقتله أننا نقتل عمرنا. إنّ اللّه سيحاسبنا غدا على أعمارنا، فمن وجهة النظر الإسلامية يسئل الإنسان يوم القيامة عن أربع: ((عن عمره فيم أفناه)) فأنت تسئل عن لحظات عمرك وعن شبابك، وهو قوة العمر، فيم أبليته، وعن مالك مم اكتسبته وفيم انفقته. فالعمر إذن مسؤولية وكلّ لحظة تمرّ من حياتك أنت مسؤول عنها. لذلك علينا أن نحترم عمرنا، وعندما نحترم عمرنا فلا يبقى هناك وقت فراغ إلاّ الوقت الذي نتجدّد فيه. وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع) ((فإن قدّرت لنا فراغاً من شغل، فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبعة، ولا تلحقنا فيه سآمة))(6). وقد ورد عن علي(ع) أن يكون زمان العاقل أربع ساعات ومنها ((ساعة يخلّي بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلّ ويجمل فإنها عون على تينك الساعتين)). فلا مجال في الإسلام لفراغ، بل حتى الفراغ لابدّ أن تملأه بما يقوّي مسؤوليتك في عبادتك وفي عملك وفي نشاطك. لذلك ترانا كيف استطعنا في الماضي أن نستفيد من الزمن، وقد انشأنا الحضارة التي ملأت سمع الدنيا وبصرها، واستطاع الآخرون أن يستفيدوا من الزمن في الوقت الذي كان الزمن نائماً عندنا، وأن يغتنموا الزمن حينما كان مضيّعاً عندنا، وذلك عندما كنّا نحلّ الألغاز وننشغل بما لا ينفع من العلم، فيما القوم ينطلقون من أجل أن يكتشفوا العالم. فلقد كنّا نتحدّث في التجريديات، فيما كان الآخرون يتحدثون في الواقع، وكنا نعمل على أساس ما تعارفنا عليه دون تطوير أو تغيير ما تعارفنا عليه، وقد كنّا نقول لكثير من أساتذتنا، عندما يقدّمون لنا فرضيات أخرى في المنطق وفرضيات في الفلسفة وفي الفقه، كنّا نقول لهم أنْ لا ثمرة لكلّ هذه الفرضيات في الواقع، وكانوا يقولون لنا: شرّحوا الذهن، ولكن لماذا لا نشرّح أذهاننا فيما ينفعنا وفيما يملأ هذا الذهن؟ لماذا نكون كطاحونة الهواء؟
لذلك ففي الألفية الثالثة يطرح السؤال الكبير التالي على المسلمين: كيف يمكن لكم أن تفهموا الحياة؟ وكيف يمكن أن تتحسّسوا مسؤوليتكم في الحياة؟ وكيف لكم أن تدخلوا ساحة الصراع، فالآخرون لا يملكون عقلاً من ذهب ونحن نملك عقلاً من تراب. ولو نظرت إلى المسلمين الذين أتيحت لهم الفرصة ليبدعوا لرأيت أنهم يعملون في الدوائر العملية الأميركية والأوروبية وفي أجهزة الفضاء، حيث يكتشفون ويخترعون ويبدعون، ولكن تحت العنوان الأميركي وتحت العنوان الأوروبي. إنهم في العالم الغربي اشتروا أدمغتنا ووظّفوها في حضارتهم. أمّا العالم المسلم، في أي جانب من جوانب العلم، فلا يرى فرصة لحركة عملية في بلاد المسلمين، لأننا مشغولون بالتفاهات. لذلك عندما تكون الحياة جدّاً لا هزلاً، وعندما تكون مسؤولية لا لعبا، فسوف نضع أقدامنا على الطريق لنستعيد حضارة سلفت، أو نضع حضارة جديدة من خلال مفاهيم الحضارة عندنا.
لذلك ـ أيّها الأحبة ـ كفّوا عن اللامبالاة، وكفّوا عن اللاّمسؤولية، واعتبروا أنّ كلّ لحظة كما قال الإمام زين العابدين ـ ع ـ شاهدٌ علينا. ومشكلتنا أنّنا نفهم زين العابدين(ع) بكاءً ودموعاً ولا نفهمه إبداعاً في حقائق الكون كلّها. ولذلك فقد ارتفع أئمتنا(ع) إلى الأعالي وحاولنا أن ننزلهم بتخلّفنا إلى الأسفل. يقول(ع) ((اللّهم وهذا يوم حادث جديد وهو علينا شاهد عتيد)). فاليوم عينٌ تحدّق بك ((إنْ أحسنّا ودّعنا بحمد وإن أسانا فارقنا بذمّ))(7). فهل نفكّر أنّ اليوم هو عقل وهو عين وهو شاهد علينا بين يديّ اللّه؟!
أين الإسلام في الواقع المعاصر؟
* إنّنا اليوم نعيش عالماً كلّه حرب، والدول الكبيرة تفرض سيطرتها علينا، والأمم المتحدة تفرض إرادتها علينا، كما تفرض حصاراً على دول عديدة، وهذه الدول يموت فيها الأطفال والشيوخ والنساء، وبعض الدول فرضت عليها الحرب مثل الشيشان، وهناك الكثير من الدول المظلومة والمسلوبة إرادتها وحقها وأمنها، فأين هو الإسلام ودوره في هذه الدول؟ ونحن هنا لا نريد كلاما، وإنّما نريد توحيد الشعوب المسلمة؟
* إنّ الإسلام اليوم يتحرّك وهو يقاتل في الشيشان بكلّ قوة أمام دولة كبرى تستعمل الآن أسلحتها التي كانت معدّة لمواجهة الغرب كلّه. والمسلمون يقفون بكلّ قوة ويلحقون الهزائم بأعدائهم، وهم يحاربون في جنوب لبنان وفي البقاع الغربي وفي فلسطين وهم ينتصرون على اليهود بشهادة اليهود، إنّهم ينسحبون من لبنان من جهة ضغط المقاومة الإسلامية. والمسلمون يتحرّكون في أكثر من موقع. لذلك علينا أنْ لا ننظر إلى الواقع الإسلامي بالرغم مما فيه من مآسي بعقليّة بكائية، وذلك أنّ مشكلتنا أنّنا نسقط العنفوان أمام المأساة في حين لابدّ من المأساة في حركة الجهاد، وقد سبق أن أكّدنا أن المأساة في مرحلة قد تقوّي حركة الجهاد في مرحلة لاحقة. لكننا للأسف نذكر المآسي ولا نذكر الانتصارات. لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ فإنّ الإسلام ما زال يكافح بالكلمة، فالمسلون منتشرون في بقاء العالم أجمع وهم يبلّغون رسالات اللّه كلٌّ بطريقته وإن اختلفت الوسائل أو ارتبكت، والمسلمون يقاتلون الظلم والعدوان هنا وهناك.. كانوا بالأمس يقاتلون في البوسنة والهرسك.. وها هم يقاتلون اليوم في الشيشان.. ومازالت هناك أكثر من حركة في موقع هنا وفي موقع هناك.
أمّا قضية كيف نوحّد المسلمين ؟ فالقضية تدخل أيضاً في ساحة الصراع. إنّ قضية توحيد المسلمين هي مسألة إنقاذ المسلمين من التخلّف الذي يجعلهم يركّزون على مواقع الخلاف، ولا يركّزون على مواقع اللقاء. كما أنّ المشكلة الآن هي أنّنا لو عشنا في الواقع الإسلاميّ على المستوى الثقافي، فإننا نجد أنّ هناك في الواقع المعاصر من السنّة منْ ليس مستعداً أنْ يتقبّل حقيقة أنّ الشيعة هم مسلمون، وهناك في واقع الشيعة من ليس يتقبّل أن السنّة هم مسلمون، لأنّ هناك عقدة في النظر إلى الآخر المسلم، فنحن نسينا الإسلام وجمّدناه في وعينا للطائفية العشائرية، أي أنّ هناك عشيرة الشيعة، وهناك عشيرة السنّة.
وعلينا أن نعرف أنّنا نلتقي على الكثير الكثير من المشتركات لنتوحّد على ما نلتقي عليه ولنتحاور ولنرّد إلى اللّه تعالى والرسول(ص) ما اختلفنا فيه، وإلاّ فالعصبية التي يتذرّع البعض بها ليست ديناً، وأخشى أن أقول إننا متعصّبون ولسنا متدينين.
دراسة الشؤون المعاصرة:
* هل من الواجب على العلماء أن يدرسوا ويطّلعوا على شؤون الحياة المعاصرة خصوصاً موارد الابتلاء التي هي في تغيّر وتطوّر مستمر مع استمرار الحياة؟
* نحن نقول: على كلّ عالم أن يعيش عصره باعتبار أنّه يتحرّك في عصره. فنحن لا نعيش في عصر ما قبل مئة سنة بل نعيش في هذا العصر، وللناس في هذا العصر تطلّعات، ولهم حاجات وأوضاع معينة ومشاكل معينة. فعلينا أن نتعلّم ما نستطيع من خلاله أن نقدّم لهم إسلاماً يحلّ مشاكل الإنسان المعاصر ((إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم))(8). فلا بدّ أن نفهم عقول الناس في كل الخطوط التي تحكم عقولهم حتى نكلّمهم من خلال ذلك.
التعصّب للرأي:
* يرى البعض أنّ من حقّه أن يطرح أي رأي حتى بدون دراسة كافية، وإن انتقده العلماء احتجّ وتعصّب لرأيه بدلاً من أن يراجع دليله ورأيه، مع العلم أنّ الاعتراف بالخطأ فضيلة؟
* هذا إنسان متكلّف كما عبّر الإمام علي(ع) عنه لأنّ الإنسان الذي لا ينطلق في تقديم رأيه مدعّماً بالحجّة والبرهان يظلم الحقيقة ويظلم الناس الذين يختلفون معه في الرأي على أساس الدليل.
العالم المتعصّب:
* هل يجتمع العلم مع التعصّب؟ وهل يمكن أن يكون العالم خائفاً من الحوار؟ فنحن نرى بعض الأخلاق السلبية عند بعض من يسمّون بالعلماء، فلماذا يحصل هذا؟
* لا يمكن أن يكون الإنسان عالماً ومتعصّباً، لأن التعصّب انغلاق والعلم انفتاح. نعم هناك فرق بين أن تكون متعصّباً وبين أن تكون ملتزماً.. التزم برأيك واثبت عليه إلى أن يثبت خلافه، ولكن لا تمنع الآخر من أن يعرض وجهة نظره، وأن يطرح رأيه لتناقشه في رأيه. لذلك فالمتعصّب خائف لأنّه يخاف من وجهة النظر الأخرى، في حين أنّ من هو قوي في حجّته لا يخاف من كلّ نظريات العالم التي تخالفه، أمّا أن يتهم الذين يختلف معهم بالكفر وبالزندقة وبالضلال من دون أن يقدّم الدليل على ذلك فاللّه سبحانه وتعالى يقول ]وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[(9). ويقول ]قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[(10). ويقول ]هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فلم تحاجّون ما ليسَ لكم بهِ علمٌ[(11). تعالوا وقدّموا علمكم وحاجّوني وأنا مستعد للمحاجَجَة وهذا هو منطق القرآن.
التجارب الأدبية الإسلامية:
* إنّ الأدب الغربي أو العالمي الإنساني استطاع أن يصل إلى كلّ العالم وفي المقابل لم نجد في الطرح الديني أي بديل أدبي أو روائي إلاّ ما ندر، فأكثر الكتب الدينية تختص بالفقه أو السيرة، وطبعاً كلّها مباركة ولكن هذا لا يكفي؟
* التجارب الأدبية في الواقع الإسلامي تجارب محدودة في هذا المجال، وان كنّا نعتبر نتاج كلّ أديب مسلم يمثل الأدب الإسلامي بشكل أو بآخر، ولكن هذه قضية تتحرّك حسب طبيعة الحركة الأدبية وطبيعة الإعلام الأدبي. ومازلنا في المجال الإعلامي، أو في الحركة الأدبية الثقافية، في مستوى يختلف عن المستويات الموجودة في العالم.
حدود الحوار:
* هل يقف الحوار عند حد من الحدود، أم هو مستمر حتى لو كان بلا فائدة؟ وقد أوضحتم في كتابكم الموسوم (الحوار في القرآن) أن على المحاور أن يكون ذكيّاً لبقاً يستطيع تجاوز بعض الأمور المثارة في الحوار، وليس عليه أن يجيب عن كلّ تساؤل، فهلاّ أوضحتم هذه الفكرة؟
* إن الغاية من الحوار هي الوصول إلى الحقيقة، فأنا أحاورك وأنت تحاورني على أساس أن تقدّم وجهة نظرك وأقدّم وجهة نظري، ويدور الحوار حول ما هو الأصوب من وجهتي النظر، ليقدّم كلّ إنسان حجّته حتى نصل إلى الحقيقة. أمّا إذا كان الحوار حواراً جدلياً بحيث أنّه يأتي من أجل أن يضيّع وقتك ولا يتحرّك على أساس أن يصل إلى الحقيقة، فإن عليك أن تتجاوز ذلك وأن تعمل على الابتعاد عنه. كما أنّ هناك حواراً يستهدف الإثارة لا الوصول إلى الحقيقة. وإنّ على الإنسان أن يكون ذكيّاً لبقاً في الحوار، لأنه ربما يأتيك إنسان ليثير قضية ليست أساسية لكنّها ترتبط بالعاطفة الشعبية أو بالعاطفة الغوغائية وما إلى ذلك، حتى إذا أجبت بالحقيقة التي تؤمن بها أثار الناس حولك. وهذا ما نراه في الأساليب الصحفية عندما يحتاج بعض الصحفيين إلى عنصر للإثارة، فإنهم يطلبون تصريحاً من هذا أو يحاورون ذاك بشيء يثير الجدل حتى يخوض الخائضون في موضوع لا يخلو من عناصر الإثارة.
وفي القرآن نلاحظ أسلوب موسى(ع) في الحوار عندما جاء إلى فرعون ووقف أمامه وبدأ يحدّثه عن اللّه وعن ربوبيّة اللّه وما إلى ذلك. فلقد أراد فرعون أن يثير الناس من حوله ضد موسى(ع) فقال ]قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى[(12). أي ما بال الأولين؟ هل كلّهم في النار باعتبار إنهم ضالون بحسب عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى(ع)؟ إلا أن موسى التفت إلى السؤال المأزق فلم يقل إنهم كفرة أو زنادقة أو ملحدون أو مشركون حتى لا يحرّض الناس ويؤلّبهم ضدّه، بل قال ]عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي[(13). فأنا لا أملك علم هذا وإنّما أحدّثكم عن الحقيقة وعن الرسالة. ]لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى[(14). فهو قد ابتعد عن موضوع الإثارة ولم يسمح لفرعون أن يبعد القضية الحقيقية عن الواقع. ونحن نرى الآن كثيراً من الأمور والقضايا التي يثيرها الناس مما لا يتصل بالعقيدة أو الشريعة بل بالإثارة. ولذا فعلى الإنسان أن يبتعد عن الدخول في مثل هذا الحوار، لأنّ المحاور لم يأت لأجل أن يقتنع، ولأنّ القضية ليس لها اتصال بالجوانب العقيدية أو العملية. وما أكثر ما يثار في هذه الأيام من عناوين ليست لها أية علاقة لا بالعقيدة ولا بالشريعة وإنّما هي مجرد إثارات.
النسخ في الرسالات:
* أين يقع النسخ في الرسالات؟ وهل يمكن نسخ المفاهيم أو نسخ العقائد أو نسخ الأحكام؟ ولماذا يقع النسخ؟ وما هي نقطة التقاء النسخ مع البداء؟
* لا يمكن أن يكون في الرسالات نسخ للمفاهيم، لأنّ المفاهيم تمثل حقائق العقيدة. ولذلك لا يمكن نسخ العقائد لأن العقائد في كلّ الرسالات تلتقي عند خط التوحيد. نعم يمكن نسخ الأحكام كما نلاحظ ذلك في تشريع القبلة، حيث كانت وجهتها بيت المقدس ثم نسخت إلى الكعبة.
والتشريع بيد اللّه وله وحده أن يحلّل وأن يحرّم، ولذلك قلنا إنّ عندنا شاهدين على ذلك: أحدهما في قضية عيسى(ع) حينما قال ]وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[(15). كما أن اللّه نسخ في الإسلام استقبال بيت المقدس ]قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ[(16). فالنسخ هنا هو نسخ الأحكام أي عندما يكون للحكم زمن خاص بحيث تنتهي المصلحة أو المفسدة فيه، فاللّه سبحانه وتعالى ينسخه إلى حكم آخر على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
وأمّا مسألة البداء فالشيعة لا يقولون بالبداء بمعنى أن اللّه يكون عنده قرار بشيء مّا ثم يصبح لديه قرار ثان مغاير. في حين أن علم اللّه تبارك وتعالى لا يتغيّر، لأن ذلك ينسب الجهل إلى اللّه، كمن يقول: أردت هذا الشيء ثم بدا لي شيء آخر. بينما الأمر بالنسبة للّه مختلف تماما، فهو يعلم بالاشياء ولا يتغيّر علمه كليّة. لكن المقصود بالبداء الإبداء ويعني أن اللّه يظهر أمراً لمصلحة ثم يظهر غيره مثلما أظهر لإبراهيم(ع) أنه يطلب منه أن يذبح ولده ولكن في واقع الأمر كان اللّه لا يريد له أن يذبحه، بل أراد منه أن يقوم بمقدّمات الذبح، ولذلك قال ]إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ ^ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ^ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ ^ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا[(17). أي أنك في الرؤيا لم تر أنّك تذبحه، بل رأيت التحضير للذبح ]وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ[(18). فاللّه أظهر لإبراهيم(ع) بإنّه مأمور بأن يذبح ولده حتى يظهر عظمة الإخلاص والتسليم والامتثال في إبراهيم(ع) وإسماعيل(ع) معاً، لأنه لو قال له اللّه سبحانه وتعالى قم بتمثيلية لاجدّية فيها لما كان هذا الإخلاص وهذه الحالة الروحانية التي يعبّر عنها اللّه بقوله]أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ[. أي أسلما أمرهما إلى اللّه، فهذا هو البداء الذي هو إظهار الحكمة.
ولكن بعض الناس ينسبون إلى الشيعة أنهم يقولون بالبداء الذي يعني أنّ اللّه قد يريد شيئاً ثم يبدو له فيريد شيئاً آخر وهذا فيه نسبة الجهل إلى اللّه، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، ولكن باعتبار شباهة البداء بالإبداء من حيث المظهر سمي الإبداء بداءً.
التقليد في القضايا التأريخية:
* هل بإمكان مقلديكم أن يروا رأياً غير رأيكم في القضايا التاريخية ؟
* ليس في القضايا التأريخية تقليد، فعلى كلّ إنسان إذا كانت عنده ثقافة أن يختار القضية التاريخية سلباً أو إيجابا سواء وافقت رأي المجتهد الذي يقلده أو خالفته.
المسافة بين الإيمان والواقع:
* لماذا نجد الكثير من المؤمنين ومن أتباع أئمة أهل البيت(ع) لم يتغيروا ولم يعيشوا في واقعهم وحركتهم تعاليم الإسلام وسيرة رموزه، فما هو السرّ في هذه المسافة بين الإيمان والواقع، وكيف يمكن لهؤلاء أن يقرّبوا هذه المسافة بين إيمانهم وواقعهم؟
* هؤلاء التزموا الرموز في موقع الذات لا في موقع الرسالة، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر(ع) كما في (الكافي) ((أفيكفي الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاّه ثم لا يكون فعّالاً، فرسول اللّه خير من علي، أفحسب الرجل أن يقول أحبّ رسول اللّه ثم لا يعمل بسنّته، من كان ولياً للّه فهو لنا وليّ ومن كان عدوّاً للّه فهو لنا عدو واللّه ما تنال ولايتنا إلاّ بالورع)). فبالورع تقرب المسافة بيننا وبينهم.
المتشددون والمتساهلون:
* من بين التيارات التي نلاحظها في الإسلام من خلال التنوّع والحرية التي ينطلق بها المفهوم الإسلامي نجد أناساً متشدّدين لأبعد الحدود يأتونك بدليل على كلّ ما يقومون به، وفي المقابل هناك أناس متساهلون يأتونك أيضاً بدليل على كلّ ما يصدر عنهم من تصرّفات، وسؤالنا هو أين نقف بين هذين الخطّين؟وكيف نتصّرف مع الخط الآخر؟ وهل يجوز لنا أن نأخذ من هذا الخط ومن ذاك الخط؟ خاصة وأنّ لدى كلّ من الفريقين أدلة؟
* إنّ مشكلة بعض الناس أنّهم يأخذون نصف الحقيقة ويعتبرون أنّها الحقيقة. صحيح أن هناك أحاديث تشير إلى التشدّد، وهناك أحاديث أخرى تشير إلى التساهل، ولكن للتشدّد موقعه وللتساهل موقعه. لذلك لابدّ من دراسة علمية موضوعية حتى نستطيع أن نضع كلّ خط في الاتجاه الذي ينفتح عليه، وربّما يكون كلا الدليلين صحيحا، ولكنّ لكلّ دليل مضمونه الذي لا ينفصل عن الدليل الآخر، بل هما يتكاملان لأنّ لكل واحد منهما موقعه. ونحن نقرأ ]أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[(19). و]أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[(20). وفي (دعاء الافتتاح) ((وأيقنت أنّك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة)).
مواجهة التحديات:
* واجه المسلمون تحديات كثيرة قديمة ومعاصرة وإلى الآن، ولم نجد صوراً إيجابية لمواجهة هذه التحديات، فهل التفرقة هي السبب؟ أم هي أحد الأسباب السلبية في ذلك؟
* لاشكّ أن هناك أموراً إيجابية في الواقع، فقد واجه المسلمون التحديات واستطاعوا أن ينجحوا في مواقع كثيرة في ردّ وكسر التحديات، فنحن مثلاً نجد في الثورة الإسلامية في إيران ـ التي نعيش هذه الأيام ذكراها ـ إن المسلمين بقيادة الإمام الخميني (رض) واجهوا التحديات السياسية والثقافية والاجتماعية وما إلى ذلك من تحديات، واستطاعوا أن ينجحوا في ذلك. نعم، قد لا يكون النجاح 100% ولكنّه بنسبة جيدة، كما نجد أنّ المسلمين في لبنان واجهوا التحديات الصهيونية في احتلال اليهود لقسم من لبنان واستطاعوا أن ينـزلوا باليهود الهزيمة.ولأوّل مرّة نجد أنّ جيش إسرائيل الذي قيل عنه أنّه الجيش الذي لا يقهر يفرّون مذعورين ويجرحون ويقتلون ويصرخون في وجه حكومتهم أن تنسحب من جنوب لبنان. فهناك إذن أكثر من حالة إيجابية استطاعت أن تتمثل في مواجهة فريق من المسلمين هنا وهناك. ولكن من الطبيعي أنّ تفرّق المسلمين منعهم من استكمال المواجهات والايجابيات، واللّه تعالى يقول ]وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[(21).
دراسة القرن الماضي:
* تقوم جميع الأمم عند نهاية قرن زمنيّ بدراسة ما حقّقته خلال المئة عام المنصرمة من تقدّم وتطوّر، فهل قمنا نحن المسلمين بمثل ذلك؟
* هل هناك شيء اسمه نحن المسلمين؟! فللأسف نحن نرى (أنا) و(أنت) و(الآخرين) أما نحن بمعنى الأمّة، وبمعنى المجتمع الواحد والمستقبل الواحد والقضية الواحدة، فأظنّ أنّنا ما نزال أفراداً ولم نصبح بعد مجتمعاً أو أمّة، أي أنّنا لا نعيش ذهنية الأمّة، ولذلك أصبح كلّ واحد منا يفكّر بفرديته بما هو فرد لا بما هو جزء من الأمة.ومع ذلك فإن هناك من يتحدث بين وقت وآخر عن النتائج الإيجابية في حركة الأمة في العلم والسياسة والاجتماع مما قد يكشف عناصر التطور والتقدم في الأمة في بعض مواقعها في العالم.
الكلمة والصمت:
* الملاحظ أنّ حركة التاريخ وتألّق النبوات والرسالات ما كان لرقيها الإيجابي أن يحصل لولا (الكلمة) حتى ولو كانت مرّة، فإذا كان الواقع والظرف أمرّ، فأين الصمت من الكلمة الثائرة؟
* إنّ الصمت الإيجابي هو من أجل أن تعقلن الكلمة، ومن أجل أن توازن الكلمة حتى تغتني بها الحياة، وحتى يفكّر الإنسان بالكلمة قبل أن يقولها، وهو ليس صمت الخنوع والاستسلام والسلبية والانهزام والهروب من المسؤولية في تحديات الواقع.
تقدير العلماء بعد رحيلهم:
* لماذا الشيعة يقدّرون ويكرّمون شخصياتهم بعد رحيلهم ؟ هل من كلمة بهذا الخصوص ؟
* ليس الأمر محصوراً في الشيعة بل في الواقع عند غيرهم أيضا. فالشرقيون بشكل عام لا يكرّمون الأحياء بل يضطهدون علماءهم ومفكريهم، ولكنهم إذا ماتوا بكوا عليهم وأقاموا حفلات التأبين وما إلى ذلك. ومن هنا لا نرى حفلات تكريمية للأحياء من العباقرة والعلماء وما أشبه ذلك، بل نرى العكس حفلات تكفير وتضليل وشتم وسب وما إلى ذلك، وهذا يدلّل على الذاتية المعقّدة. في حين أن الإنسان الذي يحبّ العلم لابدّ أن يحبّ العلماء، والذي يحبّ الإصلاح يحب المصلحين، والذي يحبّ التدين يحب المتدينين. فالمشكلة هي أننا لسنا جادّين في القيم التي نتحدّث عنها.
بين الإنفاق والجهاد في سبيل اللّه:
* ما الفرق بين الذين ينفقون في سبيل اللّه، وبين الذين يجاهدون في سبيل اللّه؟
* كلّ منهم يجاهد في سبيله سبحانه وتعالى، هذا يجاهد بماله بحسب ظروفه وذاك بنفسه ((والجود بالنفس أقصى غاية الجود)).
ازدواجية الشعار والممارسة:
* ما هو الأسلوب الأمثل لمعالجة إشكالية الازدواجية بين الشعار والممارسة لدى عموم المسلمين وقياداتهم؟
* علينا أن نطالب الذين يطلقون الشعار أن يمارسوه، وأن نقرأ عليهم قوله تعالى ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ^ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللّه أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ[(21). وإذا كانوا في موقع قيادي فان الازدواجية تضرّ المجتمع الذي يعملون فيه بإتباعه لهم. فعلينا ـ حسب المصلحة الإسلامية العليا ـ أن نعرّف الناس ذلك لئلا يكونوا ضحية الخداع والتمويه.
الحوار مع الغرب:
* ما رأيكم في إقامة حوار ثقافي وديني مع الشعوب الغربية، وعلى أي أساس يجب أن يقوم مثل هذا الحوار؟
* أعتقد أنّ الشعوب الغربية تملك إمكانية الانفتاح على الحوار الإسلامي الثقافي، لأنّ بعض الغربيين تربّوا على الموضوعية وعلى العقلانية، فإذا وجدوا هناك من المسلمين من يملك عقلانية وموضوعية وثقافة جيدة، فإنني أعتقد أنّهم مستعدون للاقتناع. فلقد رأينا أن هناك بعض المثقفين الغربيين الكبار مثل (روجيه غارودي) ممن اقتنع بالإسلام بعدما كان في أقصى مواضع الإلحاد. ولذلك نقول إنّ الإسلام يمكن أن يدخل عقول الناس الآخرين شريطة أن نفهم الإسلام وأن نبعده عن الخرافة، وعن كل هذه الأساليب غير العلمية التي قد يتحرّك بها كثير من الناس.
غلبة الأعمال الفردية:
* أجبتم في ندوة سابقة على أحد الأسئلة بقولكم إننا ما زلنا نعيش فرداً ولم نعش أمة، بمعنى أنّ الأعمال الفردية هي الغالبة، فما هي في رأيكم الخطوات التي بها نتحوّل إلى أمّة؟ ولماذا لا نرى اختلاف مرجعيتكم في هذا الإطار عن المرجعيات الأخرى رغم ما عرفتم به من انفتاح؟
* يقول تعالى ]وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر[(22). فدورنا في هذا المجال أن نوعّي الناس، وأن نتحرّك، وأن نثير المشاعر بالنسبة إلى قضايا الأمّة ومشاكلها والتحديات التي تواجهها، وأن نحرّك الواقع الإسلامي لينهض بمسؤولياته. وما هو موجود في لبنان من خلال المقاومة الإسلامية عبارة عن هذا الجيل الطليعي الإسلامي الذي تحوّل من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية وإلى حالة الإحساس بالأمة. وهكذا في أماكن أخرى، حيث ينطلق المجاهدون سواء في العراق أو في أماكن أخرى من أجل أن يضحّوا بأنفسهم في سبيل القضايا الكبرى. لذلك فنحن لم نقل إن المسألة شاملة، ولكن قلنا بإنّ الجو العام السائد هو أن الكثير من الناس يغلّبون الجانب الفردي على الجانب الجماعي لأنّهم لا يحسّون بمعنى الأمة في شخصياتهم بل يحسّون بالجانب الفردي.
العمل بمفهوم القومية:
* هل يمكن العمل بمفهوم القومية في الساحة الإسلامية؟ وهل يمكن التنظير له من أجل لمّ شمل الأمّة العربية؟ وهل يتنافى ذلك مع روح الإسلام؟
* ليست هناك مشكلة بين العروبة وبين الإسلام، فلا مانع من الدعوة إلى وحدة العرب باعتبار أن أغلبيتهم مسلمون. لكن، علينا أن لا ندخل في العروبة أيديولوجيات تتنافى مع الإسلام، ولا نجعل العروبة فكرة عنصرية كما كان يقال في الأربعينيات (العرب فوق الجميع) حسب الطريقة الهتلرية، فلقد كان بعض العرب يتقمّص شخصية (هتلر) في قوميته الذي كان يقول (ألمانيا فوق الجميع).أو ندخل فيها الفكرة الماركسية أو غيرها مما يتنافى مع الإسلام، أو نؤكد مضمونها على أساس علماني يعزل الدين عن حركة الحياة.
فالمهم أن تكون العروبة إنسانية، وأن تكون حالة في التنوّع الإنساني. فهي إطار يبحث عن الصورة، وقد كانت الصورة التي اختزنها إطار العروبة عندما انطلق الإسلام هي الإسلام، وما زال الإسلام يمثل الصورة التي تغني العروبة فكرياً وسياسيا وثقافياً واجتماعياً.
(اشتراكية) الإسلام و(علمانيته)؟
* هناك علماء ودعاة كبار ألّفوا في عصرهم كتبا كثيرة منها (اشتراكية الإسلام) أو (علمانية الإسلام) فما هو رأيكم بمثل هذه الكتابات؟ وهل هناك مانع أن نأخذ من الاشتراكية أو الماركسية أو أي خطّ آخر إذا كان ينسجم مع الخطوط الإسلامية؟
* إذا كان الإسلام كاملاً فلماذا نأخذ من الآخرين؟ أما هذا التعبير إسلام الاشتراكية أو إسلام الماركسية أو إسلام الديمقراطية فهو يعني ضعف بعض المسلمين إزاء هذه التيارات. فهم يحاولون تقديم الإسلام بهذه الصور والأطر المعاصرة ظنّا منهم أنهم بذلك يجعلون الإسلام معاصراً. وإذا كانت بعض الخطوط والتشريعات الإسلامية قد اتفقت مع هذا وذاك فلا يعني ذلك أن الإسلام أصبح اشتراكياً، ولكن معناه أن الاشتراكية أو الديمقراطية التقت مع الإسلام مع ملاحظة مهمة وهي أن أتباع الماركسية والاشتراكية والديمقراطية لا يوافقون على وصف الإسلام بعناوين هذه التيارات.
إنّ من يقول باشتراكية الإسلام كمن يقول بشيعية الكاثوليك أو كاثوليكية الإسلام، فهل يصحّ ذلك؟ أبداً، فللاشتراكية مفهوم علمي يخضع لفلسفة ماركسية، وللإسلام مفهوم يخضع لفلسفة تختلف عن كلّ هذه التيارات، وبعبارة مختصرة نقول: إنّ خلط شيء بشيء هو نتيجة الضعف والإرباك الفكري، فكأننا لا نقدر على تقديم الإسلام بعقائده ومفاهيمه ولذا نستعير له صفة من الصفات المتداولة فنقدمه للآخرين ليقبلوا به.
وحدة تختزن التنوّع:
* ذكرتم في بعض محاضراتكم أن بين الرجل والمرأة تصنيفا لا تنوّعاً وأن بينهما وحدة تختزن التنوّع أو تنوعاً يختزن الوحدة؟
* ذلك لأنّ اللّه تعالى خلق الرجل والمرأة من نفس واحدة ]خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا ونساء[(23). فهما وحدة في الإنسانية، ولكن هذه الإنسانية كما تتنوّع في اللون واللغة، فالأسود لا يختلف في إنسانيته عن الأبيض ولكنّه يختلف في صورته، كذلك بالنسبة للمرأة والرجل فإنّهما يختلفان في بعض الخصائص الجسدية، ولكن كلّ منهما إنسان والإنسانية تتكامل بين الرجل والمرأة.
التعرّب بعد الهجرة:
* ألا ترون لو أن أول شخص هاجر إلى أوروبا قد التزم بفتوى التعرّب بعد الهجرة لما دخل الإسلام إلى أوروبا؟
* (التعرّب بعد الهجرة) لا يعني أنه لا يجوز السفر إلى أوروبا، بل على الإنسان أن يدرس الأمر قبل أن يسافر خارج بلده، فهل يستطيع أن يحفظ دينه هناك؟ فإذا استطاع بفضل الجمعيات والمراكز الإسلامية الموجودة هناك فلا يحرم عليه ذلك. كما أن الهجرة إلى أوروبا لا تنحصر بالتوطن الدائم فيها، فهناك التجار والطلاب وغيرهم.
غير المقتنعين بالعمل الإسلامي:
* المسلمون كثر والقلّة منهم مقتنعون بالعمل الإسلامي، فما السبيل لإقناع الباقي؟
* أن ندعوهم إلى العمل الإسلامي، وأن نقرّب لهم ذلك، وأن نوسّع صدورنا لذلك، وأن نصبر عليهم في ذلك. فان ((قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه))(24). وهكذا تتحرك الدعوة في المجتمع الإسلامي كما هي خارجه لتركز قواعد الالتزام فيه من خلال الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تؤكد الفلاح.
إسلام الوجه للّه:
* لقد ذكرتم بأنّ الإسلام هو إسلام الوجه للّه وهذه مبدئية كلّ الديانات، فلماذا أطلقت كلمة الإسلام على دين النبي محمد(ص) ولم تطلق على اليهودية والنصرانية؟
* باعتبار أن الدين الإسلامي يجمع كلّ أسس اليهودية والنصرانية وكل الرسالات في عناصرها الحيوية وفي خطوطها الكبرى ]شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[(25). فالدين الإسلامي يمثل الإسلام للّه في العناصر الأساسية الموجودة في كلّ الديانات منذ أن بعث اللّه الأنبياء. وهو الإرادة الإلهية التي أراد اللّه للناس أن يحققوها في حياتهم في المرحلة الأخيرة من مراحل النبوات، فمن لم يأخذ بها فليس بمسلم للّه في فكره وعمله، لأن الإسلام يتمثل في الرسالة التي ينزلها اللّه في مرحلتها فتنتهي المرحلة ببداية مرحلة جديدة.
حقيقة الحب:
* كيف نوفّق بين ما تدعون إليه دائماً من حب الإنسان والانفتاح القلبي على الجميع، وبين النصوص التي تدعو إلى البراءة من الطواغيت وعدم الود لمن حادّ اللّه ورسوله ووجوب قتل الكفّار المحاربين؟
* نحن لا نقول إنّ علينا أن نحبّهم بمعنى أن نحبّ كفرهم وضلالهم وطغيانهم ولكن على طريقة، ((إن اللّه يحبّ العبد ويبغض عمله)). كما قال رسول اللّه(ص) وكما جاء في نهج البلاغة الخطبة (111) أي إنّ علينا أن نقتل كفر الكافر لا أن نقتل الكافر، ولكن إذا توقّف قتل كفر الكافر نفسه على قتل الكافر نفسه نقتله ولكن وفقاً للشرائط الشرعية. وبعبارة أخرى، فإن الإنسان المسلم هو داعية إلى اللّه، وعلينا أن نحبّ الناس بان نحبّ إنسانيتهم من أجل أن نفتحها على اللّه تعالى وعلى رسوله(ص) وعلى الإسلام كلّه.
هل الهجرة ضعف؟
* هناك من يعتقد أن الهجرة ضعف، فهي فرار من التحدي للظلم والظالم، ويرون أنّ الاستشهاد أفضل، فما هو رأيكم؟
* لو تمكّن الإنسان من أن ينطلق من موقع قوّة ليحارب الظالم فلا ينطبق عليه خيار الهجرة، وإنما ينطبق ذلك على الإنسان الذي لا يستطيع أو لا يجد فرصة لمواجهة الظالم، وأما من لديه فرصة للمواجهة والمقاومة فعليه أن يبقى من خلال مواقع القوة التي عنده ليحارب الظالم بها.
التاريخ الذي يفرّقنا:
* لماذا نركّز في مناسباتنا الإسلامية على الحوادث التاريخية التي تزيد من فرقتنا؟
* علينا أن ننقل من التاريخ ما يوحّدنا في القضايا الأساسية. وعندما ندرس بعض الأمور الخلافية فلابدّ أن ندرسها بطريقة علمية وبأجواء علمية، وليس في أجواء عامّة عاطفية.
اللقاءات بين المراجع السنّة والشيعة:
* هل توجد لقاءات بين المراجع المسلمين السنّة والشيعة لتقديم وجهات نظرهم في المسائل المختلفة؟
* هناك لقاءات لا بأس بها في المؤتمرات التي تجمع مراجع المسلمين من كلا الطرفين لكنّها لم تبلغ مستوى الطموح بعد.
المفاهيم المقلوبة:
* كلّ ما في زمننا مقلوب يحوّل الباطل إلى حق ويجعل الحق باطلاً، ويزيّن الشيطان وأتباعه: الشهوات وحبّ الدنيا، والخلود إلى الأرض، والابتعاد عن المسؤولية، وتجهيل العقول المفكّرة، فكيف لنا أن نجعل من هذا العقل أكثر وعياً للواقع وانفتاحاً على أفاق العقل الواسعة؟
* أولاً: لنحاول أن نربّي أنفسنا على مثل هذا العقل لأنّ ((فاقد الشيء لا يعطيه)). ثم لنحاول أن نتحرّك في المجتمع كلٌّ بحسب طاقته وبحسب إمكاناته في حركةٍ ثقافيةٍ واعيةٍ بالأساليب التي نملكها على المستويات العامّة والخاصّة، ذلك أن من بين مهمّات الدعاة والمصلحين الجليلة، مهمّة تصحيح المفاهيم وإرجاع الكلم المحرّف عن مواضعه إلى مواضعه.
حول نظرية داروين:
* تستند نظرية داروين على أربعة أسس: أولها (تنازع البقاء), والثاني (الانتخاب الطبيعي) والثالث (التكيّف مع الطبيعة) والرابع هو (عامل الوراثة) فهل في هذه النظرية نوع من الصّحة أم أنها خاطئة تماماً؟
* إنّ مشكلة داروين هي أنّه انطلق في نظريته من تجارب محدودة، بمعنى أنّ بعض الحفريات التي لاحظها بالنسبة إلى الإنسان اكتشف فيما بعد أنّها متأخرة عن حفريات سابقة عليها. لذا فان داروين كان يتحدث عن حلقة مفقودة لم يعثر عليها، إذ عثر العلماء الذين جاءوا من بعده على بعض الحفريات المتقدمة على حفريات داروين. لذلك نقول إنّها مجرد نظرية تفتقد وتفتقر إلى الكثير من العناصر العلمية، وهي ليست حقيقة علمية إطلاقاً. ولكنّ المشكلة هي أنّ الناس الذين يستظهرون النظريات يخيّل إليهم أنّها الحقيقة. وبقطع النظر عن الجانب الديني فهي ليست حتى حقيقة علمية.
الرأي بالعولمة:
* لقد سمعنا في محاضرتكم في (ندوة العمل الوطني) في بيروت حول العولمة وحوار الحضارات، أنكم لا ترفضون العولمة وتؤمنون بأن لها إيجابيات، فهل يمكن تبيان ذلك؟
* تارة نقول إن العولمة هي شرّ لا خير فيه، وتارة نميّز بين عولمة اقتصادية وأخرى سياسية أو أمنية أو ثقافية. فالعولمة تختلف من حقل إلى آخر. وكنا نتحدث عن العولمة الثقافية في بلادنا، فالإسلام هو دين عالمي وقد خاض معركة الرفض والقبول للفكر الآخر، فمنذ انطلاقه استقبل الكثير من أفكار العالم. فقد استقبل الفلسفة اليونانية، ثم استطاع من خلال الأندلس أن يدفع إلى الغرب بكل تجاربه، فالغرب إلى وقت متأخر كان يقرأ كتب ابن سينا وابن رشيد وابن حيّان. وأما العولمة اليوم فهي عبارة عن أن الغرب يطلق اقتصاده ليسيطر من خلال الشركات الاحتكارية علينا، ويصادر باسم العولمة السياسية قراراتنا، ونحن نحاول فقط أن نصرخ، فيما هم يستغلون ضعفنا. ولذا يجب أن نصبح أقوياء في مواجهة تحدياتهم. إنهم يصدّرون أفكارهم وعلينا أن نقوّي أفكارنا وندافع عن إسلامنا. فالمسلمون في عصر النهضة حينما طرح الغرب أفكاره انطلق (محمد عبده) و(جمال الدين الأفغاني) وآخرون ليواجهوا الحملة الغربية. فالغرب بكلّ قوته لم يستطع أن يلغي هويتنا ولا أن يلغي فكرنا. نعم أثّر تأثيراً كبيراً. ونحن الآن نؤثّر فيه تأثيراً واضحاً، فهناك أميركان وأوروبيون يدخلون في الإسلام على الدوام. وهذه هي العولمة في جوهرها، فكلّ فكر في العالم، سواء كان دينياً أو غير ديني يعمل على أساس أن يمتدّ إلى العالم بأسره. لذلك علينا أن لا نواجه العولمة بسلبية تجعلنا نشعر بالخوف وبالسقوط، بل يجب أن نواجهها إمكاناتنا التي نستطيع بها مواجهة كلّ عولمة. ولكن كما قلت في أكثر من ندوة، فإنّ مشكلتنا هي أننا نريد أن نكون أقوياء بضعف الآخرين. ونريد أن ننام عن هموم الأمة والتحديات التي تواجهها ولا ندرس أوضاعها، ولا نصارع الأفكار الوافدة، ولا نحاور الآخر في فكره. ولقد طرحت مراراً فكرة إن الحياة لا تتحمل الفراغ، فإذا لم تملأ أنت الفراغ فسيملؤه الآخرون. فعلينا أن نواجه أية دعوة جديدة وأي نظام جديد لا بالبكاء وبالصراخ وبالهزيمة النفسية، بل بأن نحرّك إمكاناتنا وقدراتنا وأفكارنا ونطوّرها حتى نكون في مستوى التحدي وردّ التحدي، وإذا لم نستطع اليوم فإننا سوف نستطيع غداً، شريطة أن نتخلّى عن ذهنية الهزيمة. ولقد ذكرت في محاضرة بلندن – قبل عشرين عاما – عنوانها (الشخصية البكائية) أنّ شخصيّتنا في واقعها بكائية، فنحن نبكي على كلّ شيء، بل نبكي حتى في أفراحنا واحتفالاتنا وقصائدنا، إننا نفهم أن يحزن الإنسان في موقع الحزن أمّا أن يحزن في موقع الفرح، فماذا يعني ذلك؟ إن للبكاء وقتاً، وإن للفرح وقتاً لكن شخصيتنا أصبحت مشوّهة حتى أننا لم نعد نختار شخصيتنا. فإذا انتصر الكيان الصهيوني على العرب قلنا لا أمل يرجى منّا، لماذا؟ في حين أنّ القرآن الكريم حلّ لنا هذه المسألة في قوله تعالى ]إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[(26).
الدعوة في ظلّ انشغال الناس:
* كيف يمكن للمرء ممارسة الدعوة إلى اللّه تبارك وتعالى بين أقاربه، خصوصاً في ظلّ انشغال الناس بأعمالهم التي لا تترك وقتاً كافياً حتى لزيارة الأقارب؟
* لا يخلو الإنسان من وقت الفراغ، ولذلك فإنّ عليه أن يحاول أن يستفيد من أوقات الفراغ، وأيام الجمع والعطل والمناسبات. ورغم انشغال الناس فعلاً إلاّ أن السؤال غير واقعي. نعم إذا كان يريد أن يجمع أقاربه ويعمل لهم حفلة فقد يتعذّر عليه ذلك، أمّا إذا أراد أن يزور أقاربه زيارة مجاملة لمدة ربع ساعة أو نصف ساعة أو يتصل بأقاربه بالهاتف أو المراسلة، فإنّ ذلك ممكن في كلّ وقت. وفي كلّ الأحوال لا يعدم الإنسان الرساليّ الوسيلة في الوصول إلى ما يريد في هذا المجال. كما أنّ مسألة الدعوة لا تتطلّب دائماً الفرص السانحة والأوقات الطويلة، فربّما مارست دعوتك إلى اللّه وأنت في عملك من خلال أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو نصيحة تقدمها لأخيك أو زميلك في العمل، أو تصحيح مفهوم من المفاهيم الخاطئة وهكذا.
المعيار في نجاح وفشل الثورات:
* ما هو معيار الفشل والنجاح في تقييم الثورات؟ هل يرتكز على الحسم العسكري؟ أم أنّ الأمور مرهونة بنتائجها وأهدافها؟
* إنّ الثورات تنطلق من حيث الفشل والنجاح من دائرتين: الدائرة الأولى وهي خطّة الثورة، بحيث تملك – كثائر – الخطّة على مستوى المستقبل، فيقال إنّ هذه خطّة ناجحة لأنّها متوافرة على عناصر النجاح والعناصر المنفتحة على آفاق المستقبل. وأمّا الدائرة الثانية فهي دائرة الواقع، فقد تكون ثورة ناجحة على المستوى المعنويّ وخاسرة على المستوى الماديّ. فمثلاً نرى أنّ ثورة الإمام الحسين(ع) على المستوى العسكري لم تكن ناجحة، لأنّ الحسين(ع) استشهد هو وأصحابه وسبيت نساؤه، ولكنّها ناجحة على مستوى المستقبل من خلال نتائجها وإيقاعاتها وتداعياتها، ولذلك فلا مانع من أن تكون الثورة فاشلة من جهة وناجحة من جهة أخرى.
تصحيح فكرة:
* تفضّلتم بالقول إنّه لا ينبغي أن نبغض الكافر على كفره، فلماذا ذلك والكافرون يضرّون الناس؟
* لم أقل ذلك، بل قلت إنّ علينا أن نبغض كفر الكافر لا أن نبغض الكافر في إنسانيته، ومرادي من ذلك أنّ علينا أن لا نعيش روح التدمير للكافر، بل أن نعيش روح الهداية له، بمعنى أننا نريد أن نقتل الكفر في نفسه، وهذه هي مهمة الأنبياء(ع) فالنبي(ص) كان يقول ((اللّهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون)). ويقول: ((اللّهم اهد قومي)) ونوح(ع) ]قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا[(27). وما ذاك إلا من أجل أن ينفذوا إلى إنسانية الإنسان الكافر ليستنفروا فطرته التي فطره اللّه عليها حتى يقتلوا كفره. أمّا إذا كنّا نبغض الكافر ولا نفصل بين إنسانيته وبين كفره، فسنعيش روح التدمير له. ولذا نكرّر القول إننا ضد كفر الكافر وضد فسق الفاسق وضد انحراف المنحرف، لأنّ الناس قد يخلطون بين هذا وبين ذلك فلا يتصرّفون بحكمة في مقام الهداية والإصلاح.
التأكّد من المنهج والفكرة:
* كيف نستطيع أن نتحقّق من مصداقية منهج أو فكرة، والحال وجود تضادّ في الأفكار والأساليب؟ وهل بالإمكان إعطاؤنا المقياس الموضوعيّ لمعرفة تلك الأفكار والمناهج؟
* عندما نريد أن ندرس أيّ منهج وأية فكرة، فلابدّ أن تكون عندنا قاعدة فكرية تحكم المنهج، فهل هو مرتكز على العقل؟ أو على الانفعال؟ وهكذا الفكرة فلابدّ أن تكون لدينا أسس لمعرفة هل أنّ الفكرة حقّ أم باطل، وعلى ضوء هذه الأسس يكون التمييز. وإذن فالقضية تنطلق من طبيعة ما يمتلكه الشخص الذي يريد أن يحكم بهذا المنهج أو بهذه الفكرة.
نقد الراوي والرواية:
* نرجو أن توضح لنا كيفية البحث التاريخي في الروايات؟ وكيف يمكن لنا أن ننقد الراوي أو الرواية؟ وهل للعقل دور كبير في المسألة؟
* ننقد الراوي بأن ندرس تاريخ الراوي من خلال ما تحدّث الناس عنه. أمّا الرواية فندرس مضمونها وسندها والقرائن المحيطة بها، فقد يخالف مضمونها العقل، أو قد يخالف القرآن، وقد يخالف المضمون طبيعة الأشياء، فإذا درسنا ذلك كلّه نعرف هل أن الرواية صحيحة أو لا.
الناس أعداء ما جهلوا:
* ما معنى ((الناس أعداء ما جهلوا)). هل هم الصنف الثالث في تصنيف الإمام علي(ع) للناس أي (الهمج الرعاع)؟
* ذلك معناه أن الإنسان إذا كان جاهلاً بقيمة الشيء، فمن الطبيعي أن يتعامل معه بطريقة سلبية.
التقنيات الناقلة للإلحاد:
* لقد دخل إلحاد الغرب من خلال تقنياته إلى كلّ بيت، فماذا أعددنا لمواجهة أساليبه في الفضائيات والانترنيت؟
* علينا أن نستخدم هذا السلاح الذي واجهنا به الغرب في مجالات الخير والإبداع والعطاء ((لا ينتشر الهدى إلاّ من حيث انتشر الضلال)). كما يقول شرف الدين (رحمه اللّه).
الشعارات الغائمة:
* هناك من يطلق شعارات عائمة غير مفهومة، ومنها: عبادة الإسلام سياسة وسياسته عبادة، فما هو المقصود بذلك؟
* المقصود بذلك إنّ الإنسان المسلم يتحمّل مسؤولية الناس في قضايا العدل، ولذلك كانت سياستنا دين وديننا سياسة، لأنّ الدين يقوم على العدل ]لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[(28). فالعدل هو أساس الرسالات، ولا عدل بدون سياسة ولكن سياسة الحق لا سياسة اللعب على الحبال.
بين الغنى والعلم:
* هل يريد الإمام علي(ع) في تفضيله العلم على الغنى أن يكون الناس فقراء وعلماء؟ وهل هناك معارضة بين الغنى والعلم حتى ننتهي إلى ترجيح العلم على الغنى؟
* ليس أفق علي(ع) هو هذا، ولكنّه يقول لك: لا تجعل المال كلّ همك، بل ليكن المال حاجة لك لا هدفاً، وليكن العلم هدفاً لك. ثم إنّ حاجاتنا هي شرط حياتنا ولكنّها ليست رسالتنا، فليست رسالتنا أن نأكل أو نشرب أو ما إلى ذلك، بل هي أن نرفع مستوى الإنسان في عقله وقلبه ومستوى الحياة في تقدمها وتطوّرها وإبداعها. لذلك فإنّ علياً(ع) لا يريد للإنسان أن تكون حاجاته هي رسالته، فيهمل حاجاته العقلية والروحية أمام حاجاته الجسدية.
هل هذا علمانية؟
* لو قال قائل إنّ الإمام علي(ع) علمانيّ الاتجاه لأنّه يقول إنّ العلم دين يدان به فلا دين غيره، وهؤلاء العلمانيون يقولون نحن نتبع العلم ونترك له أن ينظّم الحياة ونترك الإنسان ودينه أنّ تلك مسألة داخلية ونفسية، فما هو ردّنا عليه؟
* ليس المقصود بالعلمانية أن تلتزم العلم، بل العلمانية هي أن تهمل الدين لا أن تلحد، فهناك علمانيون مؤمنون باللّه ولكنهم يقولون أنْ لا علاقة للدين بالحياة، فلا يصحّ أن يتدخّل الدين في الحياة، لأنّ الدين هو حالة ضميرية وليس حركة حياتية. أمّا علي(ع) فيقول إنّ العلم يقود الى اللّه، وعندما تلتقي باللّه سبحانه وتعالى خلال العلم فإنّك تلتقي برسول اللّه(ص). وعندما تلتقي باللّه تلتقي بالرسالة. ولذلك فإننا عندما نؤمن بالدين فإنما ننفتح على الدين الذي انفتح على حياة الإنسان كلّها، وعلى حاجات الإنسان كلّها ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[(29). يحييكم روحياً وعقلياً وشرائعياً وحركيّاً وحياتياً، تلك هي المسألة. ومن هنا فإنّ علياً(ع) علميّ وليس علمانياً، هو إنسان اللّه الذي كان بكلّه للّه، فلقد كان علمه للّه، وكانت تجربته للّه، وكانت حركته للّه، وبذلك أخذ العلم من جميع أطرافه، وأخذ الدين من جميع جوانبه وأخذ الحياة من جميع آفاقها.
أيّ علم هو؟
* ما هو العلم المقصود في كلام الإمام علي(ع) حسب تصنيفه للناس على ضوء العلم، هل هو علم الشريعة؟
* إنّه كلّ علم يفتح عقل الإنسان على اللّه وعلى الحقيقة، فليس هناك علمان.فكلّ هذه العلوم التي اكتشفها الإنسان هي طريق اللّه، وكلّما علمت أكثر آمنت. أكثر وهناك كلمة لأحد المخترعين المؤمنين اللبنانيين من بلدة (النبطيّة) وقد قتله اليهود في أمريكا وهو المرحوم (حسن كامل الصبّاغ) كان يصلي وهو في مختبره، وكان يقول ((إنّ العلوم الطبيعية إذا عبّت عباً قرّبت إلى اللّه وإذا رشفت رشفاً أبعدت عن اللّه)). فكلّما كان الإنسان عالماّ أكثر كان مؤمناّ أكثر، وليس كما يعتقد بعض الناس أنّه كلّما كان جاهلاّ أكثر كان مؤمناّ أكثر.
اختلاف الحقّ والعقل:
* يختلف الحق بين الناس سواءً كان في القضايا الكبرى أو الأمور العادية في الحياة اليومية، فكلّ جماعة ترى أنّ الحقّ معها ويلجأ بعضهم إلى القول إنّ الحقّ مع العقل، فكلّ ما وافق العقل هو الحقّ وما خالفه هو باطل، ويختلف هؤلاء أيضاً في مفهوم العقل فتظهر فيهم جماعة تقول إنّ العقل هو رأيهم، وأخرى تقول عكس ذلك. وهناك من يقول إنّ الحقّ هو القرآن الكريم فيختلف العلماء في تفسيره بين طوائف المسلمين من شيعة وسنّة، وحتى بين الشيعة أنفسهم، فهل للحقّ مفهوم نسبيّ؟ وهل للعقل مفهوم نسبيّ؟ وإن لم يكن كذلك، فكيف لنا أن نعرف الحقّ ونتأكّد منه كي نتبعه؟
* الحق واحد وهو ليس نسبياً، ولكن فهم الحق نسبيّ، والحق واحد، وليس عندنا في الحق الشيء ونقيضه، ولا يمكن أن يكون الشيء حقاً وباطلاً في الوقت نفسه، فما اختلف اثنان الاّ وكان أحدهما على حق والآخر على باطل، لأنّ الحق بطبيعته لا يمكن أن يتعدّد ويتكرّر في الموقع الواحد، لكن فهم الحقّ نسبيّ. ولو أخذنا القرآن، وهو كلام اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لوجدنا أنّك تفهم القرآن بطريقة والآخر يفهم القرآن بطريقة أخرى والثالث بطريقة مختلفة عنكما، وعندما يأتي من يقول ماذا أفعل إزاء هذا التعدّد في الفهم؟ فهذا يقول كذا وذاك يقول غير ما يقوله صاحبه، ولذا يجب أن يكون عندك ثقافة تستطيع أنْ تميّز بها أنّ هذا مخطئ وهذا مصيب، وكذلك الحال في مسألة العقل. فالعقل الفطري واحد. ولكن هناك العقل التجريبي والعقل الثقافي أيضاً، فالعقل الفطري يقول النقيضين لا يجتمعان والضدّين لا يجتمعان وهو أمر لا يختلف فيه اثنان، فهل هناك من يقول بإمكان اجتماع الماء والنار أو الوجود والعدم؟ فهذا هو العقل الفطري، ولكن عندنا عقل آخر ينطلق من ثقافتنا وتركيبتنا وخلفياتنا من حيث البيئة التي عشناها، والمدرسة التي تعلّمناها، والكتب التي قرأناها، والتجارب التي عشناها، فهذه كلّها تركّب عقلنا، وهذا لا يعتبر في الحقيقة عقلا، بل هو مجموعة الثقافة والتجارب التي حصلنا عليها، وغاية الأمر أنّ العقل يركّب فيما بينها كمثل المواد الخام ويصنّعها بشكل معين. لذلك فالعقل يختلف عند الناس الذين يحتاجون أن يتحاوروا حتى يصلوا بالعقل الفطري الى الحقيقة، ولكن الشيء الذي ينبغي للإنسان أن يفكّر فيه دائماً هو أنّه ليس عندنا أحد يملك الحقيقة، المطلقة، ما عدا النبي(ص) والمعصومين(ع) لكن من يزعم أنّه الحقيقة وأنّه الإسلام وغيره كفر، وهو الهدى وغيره الضلال، فليس هناك من يملك الحقيقة المطلقة في ذلك كلّه، بل أن كلاً منا يفهم الأشياء بحسب ثقافته، وليس من الضروري أن تمثّل ثقافته المطلق.
الردع عن اتباع الفتنة:
* إذا كان أمير المؤمنين(ع) وهو من هو لم يستطع أن يردع الناس في زمانه عن اتّباع الفتنة، وأن يفهمهم الحقّ، فكيف يستطيع من هو أقلّ منه منزلة وكفاءة القيام بذلك؟
* المشكلة في ذلك ليست دائماً مشكلة القائد، بل في بعض الحالات تكون مشكلة الناس، كما يقول الإمام علي(ع) ((لقد أفسدتم عليّ رأيي)). فلم تكن القضية قضية نقص في كفاءة أمير المؤمنين(ع) في قيادته أو في خطّته، لكن القضية هي أنّ الناس الذين من حوله لم ينضجوا بالمستوى الذي يؤهلهم إلى أن يعيشوا في خط قيادة أمير المؤمنين(ع) وقد يأتي شخص ليس في مستوى أمير المؤمنين(ع) فيتبعه الناس، فالإمام الخميني (رض) نجح في قيادة الثورة الإسلامية وركّز أسسها بالتفاف الأمّة حوله.
هل الثورة فتنة؟
* ما مدى صحة هذا القول ((كلّ ثورة فتنة)) وما معنى الفتنة هنا؟
* ليست كلّ ثورة فتنة، فكلّ ثورة حركة، وهي عندما تكون ثورة حق على الباطل فكيف تكون فتنة؟ نعم، عندما تكون ثورة باطل على حق تكون فتنة.
الشعر المحرّم:
* هل يوجد هناك شعر محرّم؟
* إنّ الشعر المحرّم هو الشعر الذي يتضمّن كلاماً يشجّع الباطل، ويدعم الظالمين، وينشر الفساد ويشيع الفحشاء والمنكر والضلال، ولا فرق بين النثر والشعر في ذلك، فالكلام إذا تضمّن محرّما سواء كان شعراً موزوناً أو نثراً مرسلاً فهو حرام.
* وما رأيكم بشعراء الحداثة؟
* إنّ مشكلة شعراء الحداثة أنّ أسلوبهم رمزيّ وغامض، وإلاّ فإنّ هناك شعراء لديهم أساليب إبداعية جيدة.
تجديد الفكر الإسلامي:
* كيف نجدّد في الفكر الإسلامي؟ وهل هناك أمور لا تخضع للتجديد؟
* ليس معنى التجديد في الفكر الإسلامي إنّنا نجدّد الإسلام، لأنّ الإسلام جديد في كلّ زمان وفي الحقائق التي انطلق بها. ولكنّنا نجدّد فهمنا للإسلام وطريقتنا في تحليل الفكر الإسلامي وفي دراسته.
قراءة الفكر المضادّ:
* يقول البعض إنّ المدرسة الفلسفية لا تعترض على الذات الإلهية بقدر اعتراضها على إطار الاحتجاج، فهل الاحتجاج هنا محرّم شرعاً، وهل قراءته حرام؟
* ليس محرماً أن يقرأ الإنسان الفكر المضادّ، ولكن لابدّ أن يكون له القدرة على مناقشة هذا الفكر حتى لا تنطلق ثقافته السطحية لتجعله يؤمن بهذه الأفكار المضادّة من دون أي أساس ثقافي.
* وهل الاحتجاج في الأدب كما يفعل بعض الكتّاب حينما يمسّ الذات الإلهية في شعره أو قصصه محرّم شرعاً؟
* لابدّ من ملاحظة طبيعة الاحتجاج، فقد يكون هناك احتجاج يقتضي إنكار الذات الإلهية والإساءة إليها فهذا كفر وليس فقط محرّماً شرعاً.
تأويل الأحاديث:
* جاء في الحديث ((إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه)). وهذا حديث قابل للتأويل، كما هي أكثر الأحاديث، فكل من يخالف رأي عالم يُشهر هذا الحديث بوجهه، فكيف يمكن معالجة مشكلة التأويلات في الأحاديث أو الاختلاف في فهمها لدرجة يمكن معها أن يدعم كلٌّ رأيه بتأويل الحديث الذي يستدلّ به؟
* لابدّ في التأويل من أن يكون موافقاً لقواعد اللغة العربية أولاً، ولا مانع لمخالف أن يراه صحيحا، لكن اللّه تعالى قال )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ((30). أمّا الذي يحاول أن يواجه الرأي المختلف بالسباب والشتائم والفتاوى الضالّة المضلّة فهذا ليس إظهاراً للعلم بل إظهاراً للانفعال الغريزي، وهناك فرق عند ظهور البدع بإظهار العلم بأسلوب العلم وبين إظهاره بأسلوب انفعالي بعيد عن العلم.
التراث الديني:
* هل ترون أن إطلاق كلمة التراث على الدين صحيحة، خاصة وأن التراث يصلح فقط للفخر، أما الدين فهو منهج؟
* المسألة مسألة اصطلاحية، ولذا فإنّنا حينما نقول: التراث الديني، فإن المراد بذلك هو ما يتركه السابقون من فكر ديني على مختلف الأصعدة، وهو عبارة عن الفكر الديني المكتوب والمنقول بمصادر معتبرة، فيصح استعمال الكلمة، فما وردنا عن السلف الصالح فهو منهج وتراث.
من مظاهر الجاهلية الجديدة:
* بعد مرور ما يقارب من 1420 سنة على اندثار الجاهلية، ينطلق كثير من الناس في هذا العصر ليبعثوها بأشكال جديدة، ومثال ذلك ما يفعله الزوج مع زوجته، والأخ مع أخته، والأقارب مع ذويهم من النساء بحجة أنها لوثت شرف العائلة، فيقوم أحدهم بقتلها ليغسل العار الذي ارتكبته بدمائها، أما إذا فعل الشاب الفعل الشائن فلا أحد يقول له لم تفعل ذلك؟ بل ربما يباركون له هذا العمل لأنه حسب تصورهم يثبت بذلك رجولته، فهل النساء مخلوقات من جنس آخر؟
* هذا حرام وجاهلية، فليس الأب ولا الأخ ولا الزوج ولا ابن العم ولا ابن الخال مسلّطاً على زوجته أو أخته أو قريبته أو بنته بأن يقتلها حتى لو زنت، وذلك لأن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود عدول أمام الحاكم الشرعي بحيث يكونون قد رأوا فعل الزنا رأي عين بكلّ تفاصيله، وليس مجرد أن يقول قائل إنني رأيت. بل حتى لو أقرّت هي نفسها بالزنا فلا يقام عليها الحدّ إلا أن يثبت عليها الزنا كما لو أقرت أربع مرات. ولذلك فهم قتلة، أي أن من يقتل ابنته أو يقتل زوجته أو يقتل أخته على أساس أنها زنت، أو أشيع أنها ارتكبت الزنا ولم يكن هناك إثبات شرعي، فهو قاتل وقد يعامل كبقية القتلة]وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ[(31). ولو كان لهذه المرأة وليّ فيجوز له أن يقتله في مقابل قتله ]أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[(32).
العلم لغير اللّه:
* جاء في الحديث ((تعلّموا العلم ولو لغير اللّه فإنه سيصير إلى اللّه))(33) فهل هذا يدلّ على الانفتاح مطلقاً بلا قيد أو شرط؟
* المراد بذلك أنّ الإنسان أحياناً يتعلّم العلم حتى يصبح عالماً ويكون له مركز اجتماعي وعلمي معين، ولكنّه إذا نفذ إلى أعماق العلم وغاص في حقائقه فإنّه سوف يعرف اللّه من خلال دقائق العلم وخشيته، وعند ذلك يكون العلم للّه، لأنه في البداية كان قد اتخذ العلم وسيلة من وسائل العيش، لكنه إذا تعمّق في العلم وتدبّر فيه ودرسه بتدبّر فلابدّ له أن ينفتح على اللّه، لأنّ العلم الحقّ قائد إلى معرفة اللّه لا محالة.
الفصل الخامس
المسائل التربوية
تحصين الشباب من وسائل الإغراء:
* لقد كثرت وسائل الإغراء في هذه الأزمنة مثل التلفزيون والانترنيت والصحون الفضائية، فماذا أعددنا من وسائل لتحصين الشباب؟
* هناك مساع لإيجاد وسائل مماثلة، فمثلا على شبكة المعلوماتية (الأنترنيت) ثمة صفحات إسلامية توجيهية وأخلاقية، وكذلك هناك بعض التلفازات الإسلامية والعربية تقوم بمسؤولياتها في هذا الاتجاه، وينبغي للتلفزيون الإيراني أن يقدّم أكثر مما يقدّمه الآن في هذا الأمر خصوصا القناة العربية، ومع ذلك فإننا لا نعدم برامج جيدة علمية وإسلامية هنا وهناك. نعم على الإنسان أن يحصّن نفسه وأهله من البرامج المنحرفة أينما كان.
قاطع سبيل المعروف:
* ماذا لو أصاب قاضي حاجات الناس الضرر من جرّاء خدمته لهم، كما لو أقرضت شخصا بعض المال واضطررت لردّه وكنت في عسر وضيق، ورفض المدين ردّ الدين، بحيث يحصل الضرر للدائن، ألا يقطع ذلك سبيل المعروف؟
* في مثل هذه الأحوال لا يكلّفه اللّه قضاء الحوائج إذا كان هناك ضرر، عليه، ولكن لو فرضنا أن الإنسان يصاب بضرر كبير جرّاء ذلك، فقد لا يكون هذا الأمر مستحبّا بالنسبة إليه، إلاّ من حيث استحباب الإيثار ]وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ[(1).
ذكر العلماء بسوء:
* هناك مسوّغات معينة للغيبة، ونرى في هذه الأيام ذكر العلماء الأجلاّء بالسوء يزداد بحجّة المصلحة الإسلامية، فهل يعتبر هذا أحد المسوغات؟
* ليس من المصلحة الإسلامية غيبة العلماء الأجلاّء وتشويه صورتهم أمام الناس، إلاّ إذا كان العالم يريد أن يدمّر الإسلام والمسلمين وما إلى ذلك، ولا أظنّ أن هناك عالما بهذا الشكل، ولكن هذه مجرد مبررات لارتكاب الحرام.
الندم والتوبة:
* إن للتوبة عدة شروط منها الندم، ولكنّني أعاني من مشكلة أنه عندما أريد أن أتوب فإنّني أستطيع أن أحقّق جميع شروط التوبة إلاّ الندم؟
* معنى أن تتوب هو أن تندم على ما فعلت، والتوبة هي أنّك تشعر بأنّ العمل الذي عملته يوقعك في نتائج سلبية وأن الندم عليه حالة طبيعية، ولذلك فإن التوبة بدون ندم لا تصح، والندم هو أساس وليس شرطاً في معنى التوبة.
تأخير صلاة الصبح:
* هل إذا صليت الصبح في التاسعة أو العاشرة صباحا تصعد إلى السماء، أم أن الأبواب تغلق فتطوى الصلاة كما يطوى الثوب ويضرب بها وجه صاحبها؟
* صاحب السؤال يصوّر اللّه سبحانه وتعالى كما لو أن (دوامه) ينتهي عند طلوع الشمس، في الوقت الذي ليس للّه دوام لا في الليل ولا في النهار، فالله يفتح أبواب رحمته آناء الليل وأطراف النهار]وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[(2). ولكن بعض الروايات تتحدث عن الإنسان الذي لم يصلّ الصبح على أنه تمرّد على صلاة الصبح في وقتها وأخّرها من دون عذر، فلو أراد أن يقضيها فالله لا يتقبّل هذه الصلاة عقاباً له، هذا إذا كانت الرواية صحيحة.وعلى كلّ حال فإنها تسقط عنه إذا قضاها.
الصائم المغتاب:
* لو صام الإنسان في شهر رمضان بالامتناع عن المفطّرات، لكنّه أطلق العنان للسانه في الغيبة والبهتان والفتنة، فهل صومه مقبول؟
* لقد صام جسديا وأفطر روحيا. وقد ورد في الحديث ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش))(3). وهذا منهم. وصومه صحيح ولكنه ليس مقبولا عند اللّه الذي يقول]إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه مِنْ الْمُتَّقِينَ[(4).
نصيحة للشباب في رمضان:
* بماذا تنصحون الشباب في شهر رمضان خاصّة؟
* أنصحهم بأن يستفيدوا من هذا الشهر بتربية إرادتهم في خط طاعة اللّه، وذلك من خلال الانفتاح على قراءة القرآن والدعاء والصلاة والتأمل ومحاسبة النفس للتوبة من الماضي والتخطيط الواعي الروحي للمستقبل.
بمنـزلة المفطر:
* في الرواية أن سيدة سبّت جاريتها، فسمع بها النبي (ص) فأمرها أن تفطر، وعلّل ذلك بأنها سبّت جاريتها، فما مدى صحّة هذه الرواية؟
* لم يأمرها أن تفطر بأن تتناول الطعام، بل أراد أن يقول لها إنك بمنـزلة المفطرة، لأنّك وإن كنت صائمة جسديا ولكنّك بمنـزلة المفطرة روحياً وأخلاقياً وسلوكياً وفي الحديث ((الصائم من صامت جوارحه)).
هل هذا من العقوق؟
* شخص أخطأ والداه بحقّه ونشبت بينه وبينهم مشاكل منذ زمن بعيد فانتقل عنهم إلى مكان آخر، وهذا الشخص يعقّ والديه من خلال الطعن بهما والسبّ والشتم دون أن يعلموا، فهل يعتبر عاقّا لهما؟ وما حكم مثل هذا الشخص في الشارع المقدس؟ علماً أنه يقوم بهذا العمل إرضاء لزوجته؟
* هذا عاقّ شاقّ لوالديه، لأنّ اللّه أمرنا بان نحسن لوالدينا حتى لو كانا مشركين ]وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا[(5). وأمرنا بالإحسان إليهما في حال الكبر وعند مخاطبتنا لهما والتعامل معهما ]وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ^ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[(6). فأن يشتم والديه أو يتكلّم عنهما بسوء فهذا أمر غير جائز، ومحرّم شرعاً، ويعتبر عقوقا.
الترويض على حبّ الناس:
* كنت أروّض نفسي في أن أحبّ الناس بقدر حبهم وإخلاصهم للإسلام، لا حبّاً تمليه عليّ عواطفي وتقاليدي وأعرافي، فما رأيكم بهذا اللون من الحب؟
* من الطبيعي أنّ على صاحب الرسالة أن يحبّ في اللّه ويبغض في اللّه. وعلينا أن نعرف أن اللّه أراد لنا أن نحبّ آباءنا وأهلنا وإخواننا ولكن على أساس أن يكون حبّاً يختزن في داخله معنى الإيمان ومعنى الرسالة.
الغيبة والنقد البنّاء:
* إنّ الغيبة هي من الكبائر التي يقع بها أكثر المؤمنين، كما ورد أنّ ((الغيبة أدام كلاب أهل النار))(7). و ((إن الغيبة أشدّ من الزنا))(8). وهذه الخصلة تكاد تكون في مجتمعنا كالشراب والطعام وكالهواء الذي نتنفّسه. ولكن المشكلة عندما تقول لهؤلاء أنّ الغيبة هي من الكبائر فإنهم يبرّرون موقفهم على أساس أنّ ما يتكلّمون به هو من النقد البنّاء، فكيف نميّز الغيبة من النقد البنّاء؟
* هذا من وساوس الشيطان، باعتبار أنّ الغيبة هي ذكرك أخاك بعيب مستور، في حين أنّ النقد البنّاء يوجّه لنفس الشخص. فإذا كنت جادّاً فإن الطريق الأسلم هو »من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ومن وعظ أخاه علانية فقد شانه«. ولو درسنا الغيبة اليوم لرأينا أنّها تمثل التشهير وإسقاط الموقع وذمّ الناس، ولذلك فإن أغلب الذين يبرّرون كلامهم بالنقد البنّاء يتحدّثون من خلال النقد الهدّام، ذلك أن النقد البنّاء له شروطه التي لا تدخل في مجال الغيبة ولا تنطبق على الغيبة، ولذلك فهؤلاء يبرّرون لأنفسهم ما لا مبرّر له.
مباهتة أهل البدع:
* ما معنى مباهتة أهل البدع المأمور بها في الروايات، هل تعني المواجهة بالحجّة القوية على نحو ]فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ[(9)؟ أم المراد البهتان والافتراء عليهم بدعوى انتهاكهم لحرمة اللّه؟
* هناك بعض العلماء يقول إن معنى باهتوهم أي حاولوا أن تنسبوا إليهم ما لا يقومون به من البهتان من أجل إسقاطهم. ولكنّ الظاهر أن المقصود من باهتوهم يعني اضغطوا عليهم وواجهوهم بما يسقط حجّتهم.
هل السياحة عزلة؟
* فيما يخصّ الحديث عن السياحة نلاحظ أنّ النبي (ص) كان يخلو كثيراً في غار حراء، وكان الإسلام ما زال يحض أتباعه على الاختلاء واعتبار كلّ ساعة تفكّر سبعين سنة عبادة. ألا تجد أن في هذه الخلوة مع النفس تجديداً للقوة التي ينطلق بها الإنسان في الحياة ومراجعة الفكر؟
* هذا صحيح، فهناك فرق بين ان تكون العزلة طابع حياتك كلّها بحيث تعتبر العزلة عن المجتمع هي القيمة كلّ القيمة، بمعنى انّك تعتزل المجتمع وتخلو إلى ربّك، فاللّه قد جعل الإنسان خليفة في الأرض وأراد له أن يقتحم المجتمع، وأن يدعو إلى ربه، وأن يأمر بالمعروف وان ينهى عن المنكر، وأن يصلح الواقع، وحمّل الإنسان المسؤولية في ذلك كلّه. فالإنسان يحتاج ـ في بعض الحالات ـ أن يخلو إلى نفسه ساعة أو ساعتين حتى يستطيع أن يحاسب نفسه ليخطّط من أجل أن يعرف الماضي والحاضر والمستقبل، وثمة فرق آخر بين أن تكون الخلوة بالنفس من أجل أن يدرس الإنسان ماضيه وحاضره مما قام به ليصلح نفسه، وليتعرّف على ما قد يغمض عليه من شؤون نفسه، وبين أن تكون العزلة طابع الحياة كلّها، وهذا هو الذي يرفضه الإسلام.
ما ينسب إلى الإنسان زوراً:
* هل يجب على الإنسان أن يبرّئ نفسه في بعض ما ينسب إليه زورا، إذا أدّى ذلك إلى هتك حرمة بعض المؤمنين؟
* إذا كان ينسب إليه زوراً فعليه أن يرفع عن نفسه التهمة، وهذا حق إنساني وطبيعي وحضاري، بل هو حق ديني أن يدافع الإنسان عن نفسه، وأن يحاول الانفتاح على الإيجابيات ويكون لبقاً في حفظ حرمة المؤمنين، فلا يذكر سلبياتهم ليسقطهم، بل يسعى إلى النصح والنقد الإيجابي.
انحراف عائلة مهاجر:
* أعيش في إحدى الدول الغربية، وعائلتي قد انحرفت جميعها، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً إزاء ذلك، فهل أبقى معهم؟ أم اتركها؟ أم ماذا؟
* نحن نقول إنه يحرم على الإنسان السفر إلى بلد يضعف فيه دينه ودين عائلته، ولذلك عليه أن يحاول هداية عائلته التي انحرفت، والتي قد يتحمّل كثيراً من مسؤولية انحرافها لأنّه تركها لنفسها. وقد يجعلها تضلّ أكثر لو أهملها، فلابد أن يلاحظ ظروفه ويدرس الأمر بشكل واقعي.
غشّ في الزواج:
* أنا شيعي وأنوي خطبة امرأة سنيّة، فهل يجوز لي أن أدّعي أني سنّي ثم بعد الزواج أخبرها بذلك؟
* هذا من الغش و((ليس منّا من غشّنا)). فالزواج يحتاج إلى الصراحة والوضوح، وهذا مما يسيء إلى العلاقة الزوجية وإلى العلاقة الاجتماعية.
أسئلة الصغار الصعبة:
* كثيراً ما يسأل الأبناء الصغار عن أمور لا يمكن لهم أن يفهموا أجوبتها بحكم صغر السن أو عدم قدرة عقولهم على استيعاب الجواب. فماذا لو أجاب الأب جواباً إسكاتياً ينسجم مع مدركاتهم العقلية وكان هذا الجواب كذباً؟ فهل يحرم الكذب في هكذا موقع؟ علماً انه في أغلب الأحيان لا يجد الطفل صعوبة في تقبّل ذلك؟
* على الإنسان أن لا يكذب مع كلّ الناس صغارهم وكبارهم، رجالهم ونسائهم، فالكذب حرام حتى على الأطفال وليس عندنا كذب حلال إلا الكذب لإنقاذ إنسان مظلوم وللإصلاح فيما بين الناس. أمّا أن يكذب على طفل أو على كافر أو على امرأة أو على زوج فلا يجوز . وأنا انصح الأب بدلاً من أن يسكت ابنه بهذه الطريقة أو أن يكذب عليه بان يعطيه ثقافة ما يسأل عنه ولكن بأسلوب مرن منفتح، لان الطفل لو كبر واكتشف أنّ أباه كان كاذباً فكيف ستكون الصورة في نظره؟!. ولذا نقول علّموا أطفالكم ما يبحثون عنه بمرونة قبل أن تعلّمهم الأفلام، وقبل أن تعلّمهم الكتب الصفراء، والكتب الجنسية الرخيصة وما إلى ذلك. فنحن في زمن ليس هناك شيء مجهول فيه، فربما يعرف أولادنا أكثر مما نعرف. لهذا أؤمن بضرورة أن تكون الثقافة عامّة ولكن بطريقة عملية بما في ذلك الثقافة الجنسية. وهذا يحتاج أن نتعلّم الأسلوب كما نتعلّم الفكر.
الثواب على حسن الخلق:
* في خطبة الجمعة كان حديثكم عن حسن الخلق، وعن أجر حسن الخلق، وأننا نتعلّم عن الإمام الصادق(ع) بأن البرّ وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار، وذكرتم عدداً آخر من الأحاديث التي تؤكّد على حسن الخلق. وهذه هي أول مرة أعرف فيها أنّ المرء يؤجر فيها على حسن خلقه، وكنت سابقاً حسن الخلق نسبياً فهل أنا مثاب على ما سلف مني، علماً أنني تربيّت على هذا؟
* نعم إنّ اللّه يؤجرك على ذلك ويرفع درجتك خلاله، خاصّة إذا كان حسن الخلق خصلة واعية تعامل الناس على أساسها ابتغاء مرضاة اللّه وليست مجرد سجيّة.
تكليف الزوج زوجته:
* تعقيباً على ما جاء في المحاضرة (المتعلقة باعتماد الإنسان على نفسه في قضاء حاجاته) قد تغضب الزوجة عندما يخدم الزوج نفسه لأنه قد يدلّ على عدم حاجته اليها، فما هو ردّكم؟
* قلنا إنّ ذلك ليس حراماً، إذ يمكن أن يقول لها: أحبّ أن أوفّر عليك ذلك وأريحك بعض الشيء، وإذا أردت أن تقومي به فليست هناك مشكلة. وقد قلنا إنّ الني (ص) كان يريد أن يدرّب الناس على الاعتماد على أنفسهم كما تدرّب نفسك على حمل السلاح وليس هناك حرب، وإنّما تتصوّر وجود حرب حتى تستطيع استعمال السلاح في وقت الحاجة. وهكذا الحال في كلّ عمل تدريبي، إذ لابدّ من فترة التدريب التي لا تنطلق من وجود حاجة فعلية في أوقات التدريب، ولكن يراد للإنسان أن يدرّب نفسه على هذه الأمور حتى تتكوّن لديه ملكة يستعملها في الحالات التي يحتاج إلى استعمالها والتي تؤكد أخلاقيته وروحيته.
الطلب من الناس:
* لو كانت فكرة الحديث الشريف الذي يطلب فيه الرسول (ص) أن يتّكل الإنسان على نفسه، وأن كلّ ما يصدر من الإنسان القادر على فعل ما يطلبه من الناس غالباً ما يكون من خلال كبرياء دفين في قلبه، فهل هذه القاعدة تنطبق على أهل بيت الرسول (ص) الذي ورد في سيرتهم مثل هذا العمل؟
* لقد أوضحنا أنّ هذا المعنى ليس محرّما، وربّما يختزن في داخله بشكل عام ذلك، لكن ليس من الضروري أن يكون كلّ إنسان يكلّف الناس بذلك يختزن هذه السلبية الأخلاقية في داخل نفسه. وربّما ما ورد عن أهل بيت العصمة(ع) أو من العلماء منطلقاً من هذا المعنى،بل قد ينطلق من خلال ظروفهم وحاجاتهم إلى ذلك، لأنّهم مشغولون في كلّ أوقاتهم بأشياء كثيرة تمنعهم من ممارسة ذلك بأنفسهم. أو أن الأمور لم تكن تحصل على نحو الطلب بل ربّما بمبادرة وتطوّع من الآخرين، وهذا يختلف عن التكليف.
عيد الحبّ:
* هناك عيد غربي يسمّى (فالنتين) ويعني (عيد الحب) فهل يجوز لنا أن نبارك للناس فيه، وهل يجوز التشجيع على تبادل الهدايا في هكذا عيد؟
* إن مشكلة التقاليد الموجودة في عيد الحبّ أنّها غير شرعية، ونحن نريد للناس أن يعيشوا الحبّ الطاهر العفيف، والحب الاجتماعي والإنساني الذي يوطّد العلاقات. أمّا الحب الجسدي والغريزي فهو شهوة وغريزة وليس حبّاً .
اختلاف النوافل:
* ما قرأت كتاباً من الكتب التي تتحدث عن صلوات النوافل إلاّ وجدت اختلافا بينها، فما هو سبب ذلك؟ وكيف يمكننا أن نوحّد بين صلوات المسلمين من حيث عدد الركعات والأوراد؟
* هذا باعتبار اختلاف النوافل، فهناك النوافل المرتبة فلا فرق فيها، وهناك النوافل المستحبّة، التي تختلف الأحاديث فيها، وليس هناك أية مشكلة في أدائها، فمن بلغه ثواب من رسول اللّه (ص) على عمل فعمله كان له ذلك وان كان رسول اللّه (ص) لم يقله.
النفس الأمّارة بالسوء:
* ]إن النفس لأمّارة بالسوء[، فنفسي بعض الأحيان تجبرني على فعل بعض السيئات والمعاصي، فماذا أصنع ؟
* إنّ نفسك لا تجبرك على ذلك، لأنك تملك العقل والإرادة التي تستطيع من خلالها أن تضبط نفسك حتى تكون ممن رحمه اللّه بإرادته واختياره.
السائل الصادق وغير الصادق:
* في الحديث ((لو صدق السائل لهلك المسؤول)). فكيف يمكن أن نميّز السائل الصادق من غير الصادق؟
* ((لهلك المسؤول)) إذا لم يستجب لطلب السائل، ولكن عليه أن يستعمل إحساسه وفراسته ودراسته لحال هذا السائل، لأنّنا نرى كثيراً من الناس يستعملون السؤال كمهنة وهم يملكون القدرة على العمل، ولكنّهم ارتاحوا لذلك واستمرأوه فأصبح شغلهم ومهنتهم.
الإقلاع عن السؤال:
* كيف يمكن لمن اعتاد المسألة والاستجداء أن يقلع عن هذه العادة السيّئة؟
* إذا عرفنا أنّ هذا الإنسان قادر على أن يعمل، ولكنّه اختار هذا الحال فإنّ علينا أن نعمل على أن نمنعه من ذلك ولو بعدم تقديم شيء من ذلك. وعلى المجتمع أن ينظّم نشاطه في هذا المجال بأن يأتي بكلّ هؤلاء الذين يجلسون أمام المساجد ليقدّم لهم إغاثات أو إسعافات أو فرص عمل وما إلى ذلك. ولكن في الغالب لا يقبل هؤلاء بذلك فلقد حاولنا في لبنان أن نجمع هؤلاء، وكنّا مستعدين أن نعطيهم معاشاً وفرص عمل ولكنهم رفضوا ذلك لأنهم يربحون من الاستجداء أكثر مما يحصلون عليه من العمل.
الوسيط في المسألة:
* ما هو موقف من يطلب منه أن يكون وسيطاً في المسألة والمساعدة، هل يرفض أم يقبل؟
* إذا كانت المسألة في محلّها، وكان ذلك الشخص في ضيق فعليه أن يقبل.
النهي عن السؤال:
* لماذا نهى رسول اللّه (ص) وشدّد على الناس من أن يسألوا الآخرين، وفي المقابل نراه يحثّ على الصدقة؟
* ليس من الضروري أن تكون الصدقة سؤالاً، فقد يتصدّق الإنسان من دون أن يسأل، فربّما يكون جيرانه محتاجين، أو يعرف أن فلاناً من أصدقائه أو أقربائه في أزمة مالية فيعطيه، فالصدقة لا تستلزم السؤال.
النورانية وشرح الصدر:
* إننا كثيراً ما نقرأ في القرآن الكريم عن الحياة النورانية وانشراح الصدر وأمثال هذه المعاني التي يفترض أن يعيشها الإنسان المسلم، لكنّنا قلّما نتلمّس ذلك في قلوبنا، فهلا ذكرتم لنا خطوات واقعية وعملية تحوّل المسلم السطحي إلى مسلم نوراني؟
* إذا أراد الإنسان أن يعيش هذه النورانية الروحية فعليه أن يجلس ليفهم نفسه وليحاسبها ويصفّيها من نقاط ضعفها التي تحجب نور الحقيقة عنه. وعليه أن يعيش مع ربّه في صفاء روحي، وانقطاع في المناجاة، وصدق في الوعي، وأن يشغل الإنسان نفسه بنفسه وبالتفكير بآفاق ربّه، وأن يعمل على تنقية نفسه من شوائبها، فقد يدرك الكثير من ذلك في النتائج الإيجابية المترتبة على عمليات الترويض والتزكية.
رفض الاختلاط:
* ذكرتم في كتابكم (دنيا الشباب) رفض الإسلام الاختلاط بين الذكور والإناث، ولكن عندما نذكر ذلك للأوروبيين ينظرون إلى الإسلام نظرة غريبة، فكيف يمكن حلّ هذه المسألة؟
* نحن لا نقول بحرمة الاختلاط، ولكننا نقول إن الأصل هو عدم الاختلاط، فهو جائز مع المحافظة على الحدود الشرعية بحيث لا يؤدي إلى الوقوع في الحرام.
زواج بنيّة الطلاق:
* بناء على الأدلّة التي ثبتت لديكم بزواج المتعة، وأنّ النبي (ص) لم ينسخها، تفتون بأنّ هذا الزواج حلال، ولكن هناك ظاهرة أخرى تنتشر هذه الأيام وهي الزواج بنيّة الطلاق، وأكثر ما يجري هذا الزواج في الغرب، فإذا عاد المسافر إلى بلده طلّق زوجته المتمتع بها، علماً أنه لم يخبرها بذلك عند الزواج، فهل يجوز ذلك؟
* هذا جائز حتى بالنسبة للذين يقولون بأنّ المتعة حرام. فبحسب الفتوى فإنّ الزواج الدائم هو أنّ يعقد دون أن يحدّد مدّة معينة، والطلاق في هذه الحال بيد الزوج. وهذا أمر يعرفه الرجل والمرأة معاً. فحتى لو فرضنا أنه كان ناوياً الطلاق فالزواج صحيح لكنّه يفتقر إلى الجنبة الأخلاقية. فلدينا هنا أمران: الجانب القانوني، أي هل هذا الزواج باطل أو أنّه صحيح؟ وللجواب على ذلك نقول إنّه صحيح. وهناك الجانب الأخلاقي. وفي السؤال فإنّ الزواج غير أخلاقي، فعلى الإنسان أن لا يغشّ الزوجة التي وثقت به واعتبرت أن زواجها به سيدوم لمدة طويلة خاصة وأنها قد تخلص له، وربما كان حسن تعامل الزوج وصدقه وإخلاصه سبباً في دخول زوجته التي على غير دينه في دينه، وقد يمثل هذا التعامل الذي ورد في السؤال يمثل للإسلام من الناحية الأخلاقية.وإنّنا نريد للمسلم أن يكون صادقاً مع الناس – من مسلمين أو كافرين – ولا سيما مع المرأة التي يتزوجها على أساس هدف خاص فليس له أن يخدعها ويصور لها أنه مستمر معها في الوقت الذي يفكر فيه أنه سيتركها عند تحقيق هدفه الخاص، مما قد يدمر حياتها النفسية والخارجية وربما يبعدها عن الإسلام إذا كانت دخلت في الإسلام بسبب ثقتها به لأنه يقدم لها نموذجاً للمسلم الذي لا يلتزم بوعده وميثاقه مع الآخرين.
رقص العروسين في حفل عام:
* انتشرت مؤخراً ظاهرة رقص العروسين في حفلات الخطوبة والزواج تشبّها بالغرب، فما هو حكم الشرع؟
* هذا غير جائز، وإذا كان بعض العلماء يرى جوازه للمرأة فانّه يخصّه بالرقص غير الخلاعي ويقصره على الرقص للزوج. أمّا الرقص في الأماكن التي يختلط فيها الجنسان فلا يجوز لا للمرأة ولا للرجل.
الإحساس بالتقصير:
* حين يدرس الإنسان مسألة كيف يكون مؤمناً يحس دائماً بالتقصير المزمن، وقد يدفعه ذلك للشعور بالإحباط، فماذا يفعل؟
* لا تخرج نفسك من حدّ التقصير لأنك إذا شعرت بالتقصير بالشكل الإيجابي فإنك تحاول أن تعمل أكثر، وليس التقصير هو أن لا قدرة لك، بل يعني أن لديّ طاقة أكثر وإمكانات أكثر فعلي أن أعمل أكثر.
كتب تفسير الأحلام:
* ما رأيكم بصحة كتب تفسير الأحلام؟
* ليس هناك أي دليل على صحتها.
* وكيف نتعامل مع الناس في تفسير أحلامهم؟
* بالحدس، ولا بأس أن نجعل تفسير الأحلام أسلوباً من أساليب التوعية والنصيحة.
دعاء الأم لولدها:
* ما تعليقكم على أمٍّ ترفض الدعاء لأولادها مستصغرة أمر الدعاء لهم أمام الحركة العملية التربوية التي تقوم بها؟
* من الطبيعي أنّ لدعاء الأم دوراً مهماً بالنسبة لأولادها في استجابة اللّه لها باللطف في أولادها بما يحقق لهم الخير ويدفع عنهم الشر بطريقة غيبيّة أو بتسهيل أمورهم بالوسائل الخفية، صحيح أنّ الأم تعمل في التربية والتنشئة والخدمة ولها الثواب على ذلك، ولكن لاشكّ أنّ لدعائها أثراً كبيراً، خصوصاً وأنّ دعاءها لأولادها ينطلق من قلب طاهر ومحبّة منفتحة على ما تريده لهم من رضا اللّه عنهم، فاللّه – كرامةً لها - يتقبّل دعاءها لأولادها.
حقوق العانس:
* يؤكد السادة العلماء في خطبهم على طاعة الوالدين وواجبات الحياة الزوجية ولا يتطرقون لذكر الفتاة العانس، فأين هي حقوق الأخت التي تقضي عمرها في خدمة أخيها مضحية بسعادتها من أجل سعادته، وما أن يتزوّج الأخ حتى تغدو مهملة، وقد تفوق عطاءات تلك الأخت تفوق الأم بالإضافة إلى فقدها للسعادة الزوجية، أليس لها على أخيها حقوق؟
* إنّ للبنت التي لا تتزوج والتي تخدم أبويها أو إخوتها حقوقاً عليهم كبيرة. فعليهم أن يعملوا من أجل أن تعيش حياتها كإنسانة سويّةٍ، كأن يبحثوا لها عن زوج ويوفّروا لها ما يؤمّن استقرار حياتها، لكن التقاليد الجاهلية جعلتنا ننكر على المرأة حقها في أن يكون لها زوج، فنحن نسعى لتزويج أولادنا، ولكن ليس منّا من يسعى لتزويج ابنته، وليس منّا من يسعى لتزويج أخته فيبحث لها عن الزوج المحترم. فالمسألة ما زالت تدور في نطاق العيب، حتى أن الفتاة لا تستطيع أن تصرّح لأبويها برغبتها في الزواج، وهذا من بقايا الظلم الذي يمارسه المجتمع ضد المرأة. لذلك فإن كثيراً من النساء قد يبقين عوانس، لأنّ أنانية الأب ترفض أن يزوّجها من الشخص المناسب، إما لوجود عداوة بينه وبين عائلة الولد، أو لأن الأب يريدها خادمة في بيته، وما إلى ذلك. أو لأن عصبية الأخ وذاتيته تمنعها من ذلك.
لذلك نقول إنّ هذه مشكلة اجتماعية، وعلى الأخ أن يحترم أخته التي ربّته وضحّت في سبيله، فلا يجوز أن يجعل زوجته تضطهد أخته، أو يجعل الأخت تشعر بأنها كمية مهملة في البيت، فهذا الموقف ليس إسلامياً وإنسانياً.
ومشكلتنا أننا لا نعيش إسلامنا وإنسانيتنا في هذه الأمور، بل إن مشكلة الشرق العربي عندما يصبح عمر البنت (25) سنة فإنّها تتحوّل في نظره إلى عانس. أما الرجل فحتى لو كان عمره (40) سنة، فإنّه إذا أراد الزواج من بنت ال (14) سنة فلا مشكلة.
علينا إذن أن نعيد النظر في مثل هذه المشكلة الاجتماعية الحقيقية لنرفع الحيف والظلم عن بناتنا ونسائنا.
تأمين الحياة المادية للأولاد:
* إلى أيّ مدى يجب على الوالدين تأمين الحياة المادية لأولادهم، علماً أن ذلك يأتي على حساب الحياة التربوية والروحية للأبناء، لا سيما بالنسبة للأم التي تشغل نفسها بتحصيل المال لتأمين حياة مريحة لأولادها وزوجاتهم؟
* لا يجب على الوالدين كحقّ من الحقوق، إلاّ أن يؤمّنوا احتياجات أولادهم الذين لا يملكون العمل، أو الذين لم يبلغوا سن الرشد، وأمّا ما عدا ذلك فلا. فأن يجلس الشاب مثلاً في البيت والأم أو الأب يشتغلان ليعيلاه، فهذا مما لا يجب على الآباء والأمهات القيام به. نعم إنه أمر جيد ولكن لا يجب أن يكون على حساب الجانب التربويّ.
هل هذا من السحر؟
* هناك زوجة سيئة ابتليت بها عائلة مؤمنة، فمنذ أن دخلت هذه الزوجة بيتهم انقلبت سعادتهم إلى تعاسة، فهي تتمتم بكلمات غير واضحة كلّما رأت أحد أفراد الأسرة، فهل يمكن أن يكون ما تقرأه سحراً؟ وكيف يمكن إبطاله؟
* يقول تعالى ]مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ[(11). ]إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[(12). لذلك فلا صحّة ولا دليل على أن ذلك سحرا.
المفشية للأسرار:
* كيف تعامل الزوجة التي تفشي أسرارها وحياتها الزوجية الخاصّة والعامّة أمام الناس، رغم تحذير زوجها من ذلك؟
* على الزوج أن يدرس أفضل الوسائل لردعها عن ذلك، وإفهامها أنّ ذلك مما يضرّ بسمعتها وببيتها وبزوجها، وأن الأسرار منطقة محرّمة لا يجوز إطلاع الآخرين عليها.
الحقد على الأقارب المسيئين:
* لي أقارب ظلموني وسبّوني وتسبّبوا لي بالأذى، وفهمت من حديثكم في وقت سابق أن على المؤمن أن لا يحمل في قلبه الحقد على المسلمين لكنّي لا أستطيع إلاّ أن أحقد عليهم؟
* إحقد على عملهم ولا تحقد عليهم ((إن اللّه يحب العبد ويبغض عمله)). قل إنّ عملهم سيء أفليس من الضروري أن يكونوا سيئين. فربّما كانت هناك ظروف معينة جعلتهم يفكّرون بهذه الطريقة. والإمام علي(ع) يقول ((إحصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك))(13).
الغيبة وسوء الظنّ:
* على الرغم من تشديد الإسلام على حرمة الغيبة للمؤمنين وضرورة حسن الظنّ بهم، فإننا نجد أنّ واقعنا الإسلامي وبالأخص المشتغلين بالعمل الديني والجهادي مبتلون بمرض الغيبة والتحليل لمواقف الآخرين على أساس سوء الظن والدوافع والنوايا، وكلّ ذلك بحجّة ضرورة النقد، وضرورة أن لا يكون المؤمن ساذجاً وما أشبه ذلك؟
* هذا من تسويلات الشيطان، فالشيطان يقول لك: هذه ليست غيبة، إنّما هي نقد اجتماعي ونقد موضوعي، في حين أنّ النقد الموضوعي هو أن تأتي لنفس الشخص وتحدّثه ((من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ومن وعظه علانية فقد شانه))(14). والمشكلة هنا هي أننا أخذنا العلم وتركنا الأخلاق، وأخذنا الفقه والأصول وتركنا التقوى. وبكلمةٍ واحدةٍ إنَّ النقد الاجتماعي لا يبرر هتك حرمة الآخرين فله شروط شرعية موضوعية تخرجه من مفسدة الغيبة إلى مصلحة النصيحة أو الدفاع عن الظلم أو غير ذلك من المستثنيات الشرعية لحرمة الغيبة.
السؤال عن الدخول:
* جرت العادة في بلادنا أن يسأل أهل العروسين عن حصول الزواج، فما حكم هذا السؤال؟
* لا دخل لأهل العروسين في ذلك، وهذا من التخلّف، وفيه إحراج للزوجين، بل قد يخلق بعض المشاكل لهما أو لغيهما مما هما في غنى عنها.
الغيبة في محلّ للبيع:
* عندي محل للبيع ويأتيني زوّار مؤمنون يتحدّثون عن الدين، ولكنّهم يسبّبون لي إحراجاً بالتكلّم عن بعض الناس في غيابهم، فهل يجوز إخراجهم من محلّي؟
* قل لهم إني لا أقبل أن تأتوا إلى محلّي وتغتابون الناس، وقل لهم إنّك لا ترخّص في ذلك.
الدعاء بصيغة الجمع:
* ورد في بعض الأدعية عن المعصومين(ع) الدعاء بصيغة الفرد مثل ((اللّهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم))(*) فهل يمكن قراءتها بصيغة الجمع؟
* يمكن ذلك إذا كان هناك مجموعة من الناس، فتقول ((اللّهم اغفر لنا الذنوب التي تهتك العصم)).
البراءة من الكفّار والعطاء لهم:
* كيف يمكننا الجمع بين البراءة من الكفّار وبين المسيئين وفعلهم، وبين فكرة العطاء للفجرة والكفرة وأهل الباطل؟
* في الحديث ((تخلّقوا بأخلاق اللّه)). فاللّه تعالى يعطي الناس كلّ الناس، فهو بفضله ومنّه يعطي من عصاه ويعطي من أطاعه. وقد يكون عطاؤنا لهم – أي للمسيئين – من باب العمل على جذبهم إلى الخير وإلى الإسلام. أمّا إذا كان العطاء يجعلهم يمتدّون ويتمادون في جرائمهم وفي إساءاتهم، فحينها نكون أمام عنوان ثانوي وعلينا أن نمتنع عن العطاء. فالعطاء والمنع مرهونان بتقدير الحالة والأثر المترتب عليها.
العطاء للبرّ والفاجر:
* نرجو توضيح ما تفضّلتم به حول العطاء للبرّ والفاجر، وهل يتوافق مع فكرة البيت التالي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا؟
* البيت المذكور هو للمتنبي وهو ليس قاعدة مطلقة، فربما تكرم اللئيم ويستيقظ فيه شيء من الخير. ولذلك فالمسألة ليست قاعدة كلّية في هذا المجال، فأقوال المتنبي ليست نصوصاً معصومة، فهو يقول في بيت آخر:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
وليس الأمر كما يصوّره المتنبي، فالإنسان مبنيّ على أصالة الخير وليس مبنيّاً على أصالة الظلم، وإنّما يظلم الناس من جهة عوامل التربية التي تتحرّك هنا وهناك.
النفور من المؤسسات الدينية:
* توجد ظاهرة ملحوظة في هذا الزمان، زمان الفت،ن تتمثّل في النفور من بعض المؤسسات الدينية، ومن أهل الدين، فكيف يمكن علاج هذه الظاهرة، والحدّ من تأثيرها؟
* علينا أن ندرس هذا النفور من هذه المؤسسات المحسوبة على الدين لنرى السبب في ذلك. فهل هو من جهة أنّ الناس يكرهون الدين؟ أو أنّ المسألة هي أنّ هذه المؤسسات لا تعطي الصورة المشرقة عن الدين؟ أو أنّها تعطي صورة مظلمة عن الدين؟ أو أنّ الأشخاص الذين يشرفون عليها يسيئون إليها؟ بالإضافة إلى ما هناك من أسئلة قد تكشف عن السبب الكامن وراء هذه الظاهرة التي ربمّا يقف أحياناً بعض المتحسّسين منها ليثير نفور الناس منها. ثم علينا أن نعالج أسبابها، وإذا لم نستطع معالجة هذه الأسباب في هذه المؤسسة، فإنّ بالإمكان إيجاد مؤسسات دينية أخرى يمكن للناس أن ينفتحوا عليها لأنّها تنفتح على ما ينفع الناس. وبحسب التجربة فإنّ نفور الناس غالباً ما ينتج عن القائمين على المؤسسات الدينية لا من الدين نفسه.
ما حدّ التكبّر والعجب والغرور؟
* ما حدّ التكبّر والعجب والغرور؟
* حدّ التكبّر أن يرى الإنسان نفسه فوق الناس من جهة ميزة تميّزه، والعجب أن ينظر الإنسان إلى عمله بأكثر ممّا يستحق، وأمّا الغرور فيلتقي مع الكبرياء ومع العجب في إحساس صاحبه بالانتفاخ لخصلة ما يتفوق بها على الآخرين، وكلّ ذلك يبعد الإنسان المؤمن عن اللّه تعالى، وعن الناس الذين ينفرون من المتكبّرين المغرورين المعجبين بأعمالهم وبأنفسهم.
كيف نحبّ اللّه تعالى؟
* كيف يمارس الإنسان حالة الحبّ مع اللّه تعالى؟
* القرآن يعلّمنا ذلك ]إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[(15). فأن نحبّ اللّه تبارك وتعالى هو أن نتبع نبيّه (ص) في كلّ ما جاء به عن اللّه، لأنّ حبّ اللّه ليس كمثل بعض الصوفيين الذين يهزّون رؤوسهم تعبيراً عن حالة الانتشاء بالحبّ، فأن تحبّ اللّه يقتضي أن تطيعه في مواقع طاعته، وإلاّ فأنت كما يقول ذلك الشاعر، وربّما ينسب هذا إلى الإمام زين العابدين(ع):
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه هذا لعمرك في الفعال بديعُ
لو كان حبّك صادقاً لأطعتـه إنّ المحبّ لمن يــــــــــحــبّ مــطيــــع
* وهل يخدم الحبّ البشريّ قضية الحبّ مع اللّه؟
* إنّ الإنسان الذي يعيش الحبّ الطاهر في نفسه سوف يلتقي بحب اللّه من قريب أو بعيد. فأنت تحبّ الجميل واللّه هو الذي خلق الجمال، وهو جمال كلّه، وأنت تحبّ العالم لعلمه، والله تعالى يقول ]وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ[(16). وأنت تحبّ القوي والله سبحانه وتعالى يقول ]وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[(17). وهكذا فالإنسان إذا كان يعي حبّه البشريّ للناس، فإن هذا الحبّ ليس للذات بل إنّما هو للصفات الموجودة في الذات. فالإنسان يحبّ الأشخاص من أجل هذه الصفات، وهي لمن يوازن بينها يرى أنّها من اللّه. ثم إن الإنسان عندما يوازن بين صفات اللّه وبين صفات المخلوقين، فأية صفة تبعث على الحبّ بين المخلوقين لا يجد الإنسان معناها في المطلق من محبّته للّه تعالى؟!
هل قبح الكذب ذاتيّ؟
* في حديثكم عن الكذب فهمت أنّ القبح ذاتي للفعل، فما هو واقع الحال في المسألة؟ فإذا كان القبح من الأمور الذاتية للأفعال، فكيف يجاز الكذب في بعض المواقع؟
* تارة نقول إنّه ذاتي بمعنى أنّ الكذب علّة للقبح فلا يمكن أن يعرض عليه الصلاح. وأخرى نقول إنّ القبح من خصائص الكذب بمعنى أن فيه اقتضاء القبح، ولكن قد يطرأ عليه عنوان يجعل القبح أضعف، كما في حال الكذب للإصلاح بين الناس وهذا ما نعتقده من القبح في الكذب، فالكذب قبيح، ولكن إذا عرض عليه عنوان كونه مفيداً للإصلاح بين الناس، فإن مصلحة الإصلاح أقوى من الكذب فتتجمّد المفسدة حينئذ أمام المصلحة. أمّا الذي هو علّة للقبح فهو الظلم، فليس عندنا ظلم قبيح وظلم حسن، نعم عندنا كذب قبيح وكذب حسن.
عدم الوفاء بالوعد:
* هل يعتبر عدم الوفاء بالوعد كذباً؟
* إذا كان الإنسان يعد وهو قاصد أن لا يفي فهو كذب.
الكذب في التجارة:
* نعرف بأنّ الكذب حرام، ولكن ماذا بالنسبة لمن يعمل في مجال التجارة التي أصبح الكذب أساسها في عصرنا وفي مجتمعنا، إنصحوني ماذا أفعل؟
* لا تكذب في التجارة وغيرها لأن فيها إضراراً بالحقيقة والناس، وإذا اضطررت فالتورية، ولكن بما لا يؤدّي إلى نتيجة الكذب.
إدخال السرور على القلوب الحزينة:
* ذكرتم في حديثكم جزءاً من حديث للإمام زين العابدين(ع) يقول فيه ((إنّ اللّه يحبّ كلّ قلب حزين)) بينما ذكرتم حديثاً في الندوات السابقة يقول ((أفضل وأحبّ الأعمال إدخال السرور على قلوب المؤمنين))(18). فكيف ندخل السرور على قلوب أحبّ اللّه أن تكون حزينة؟
* لأنّ القلب الحزين يحسّ بمشاكل الآخرين، ويحسّ بأحزان الآخرين، وإدخال السرور عليهم يتمّ من خلال قضاء حوائجهم وحلّ مشاكلهم. ولا مانع من أن تكون قلوب هؤلاء المؤمنين حزينة في المعنى الآخر، وهو الحزن الذي ينطلق من خلال محبّة اللّه عزّ وجل والخشية منه والقلق على المصير. فيتحوّل هذا الحزن إلى طاعة اللّه في إدخال السرور على المؤمنين الذين يفرحون لقضاء حوائجهم وتفريج كروبهم. فالمسألة نسبية من هذه الجهة، ولا تنافي أو تعارض بين الحديثين.
العلاقة بين روايتين:
* هناك رواية عن الإمام علي(ع) تقول ((اتقِ شرّ من أحسنت إليه)) وتوجد رواية أخرى عن زين العابدين(ع) تقول: ((افعل المعروف مع أهله ومع غير أهله)). فهل يوجد بين الروايتين تناقض؟
* لا يوجد بين الروايتين علاقة. فأمّا الرواية الأولى فهي تقول لك لا تستسلم إلى من أحسنت إليه، لا كما يفهمها بعض الناس. فـ((اتق شرَّ من أحسنت إليه)) يعني احذر ممن أحسنت إليه ولا تعتبر أنّ إحسانك إليه سوف يؤمنك فتستسلم إليه. ذلك أنّ بعض الناس لديهم عقدة، فكلّما أحسنت إليه أكثر تعقّد أكثر، ولذلك كن حذراً من هذه الجهة، فلا تجعل إحسانك لإنسان أساساً للأمان. وليس معنى الرواية أنّ كلّ من أحسنت إليه سوف يأتيك الشرّ منه، كما هو الحال بالنسبة لبعض الناس، حيث يقول لك لا أريد أن أحسن لأنّ الإمام(ع) يقول ((اتق شرّ من أحسنت إليه)) فالحذر هو أن تبقى واعياً للمسألة، حتى إذا جاءك الشرّ تكون قد أخذت له أهبته، وقد لا يأتيك الشرّ فليست المسألة في المطلق.. وليس معنى الحذر من شيء وقوعه الحتميّ. وعلى أيّ حال فان الحديث لا يؤدي إلى ترك الإحسان للناس اتقاء لشرهم بل انه يفيد الحذر الواعي من نقاط الضعف لديهم التي قد تؤدي إلى فعل الشر ضدك. أمّا الثانية فتدعو إلى أن تعيش العطاء. وكما قلنا في حديث سابق فإنّ معناها أنّك إذا فكّرت بالعطاء فلا تفكّر فيمن تعطي، باعتبار انك تعيش العطاء بقطع النظر عن طبيعة وخلفية المعطى إليه، أي كن كما الشمس تطلع على البرّ والفاسق، وكن كالينبوع يتدفّق في الأرض الخصيبة والجديبة، وعش العطاء من خلال إيمانك بالعطاء. فالرواية واردة في شأن التشجيع على أن يعيش الإنسان العطاء في حياته كلّها للناس كلّهم.
علّة شكر الناس:
* الحديث الذي ذكرتموه عن الإمام زين العابدين(ع) لم يذكر العلّة التي أشرتم إليها في سياق الشرح والتوضيح عن شكر الناس ولم يلمّح لها، مضافاً إلى أنّ نهج الإسلام هو تربية الناس على فعل الخير من دون النظر للتقدير الاجتماعي، فما هو تعليقكم؟
* الإمام(ع) لم يذكر العلّة، هذا صحيح، ولكنّنا نستوحيها. فليس معناه أنّ الذي ينعم على الناس يطلب شكر الناس، بل علينا أن نشجّعه بشكرنا له، والإمام علي(ع) يخاطب (مالك الأشتر) فيقول في عهده إليه: ((ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان)). فهي طبيعة كلّ إنسان في حبه لأن يرى لعمله الخيرّ صدى في نفوس الناس، وليس من الضروري أن يكون هذا هو هدفه، بل إنّ الشكر والثناء على العمل يشجّعه أكثر ويشعره أنّه ينفع الناس، وأنّ عمله مؤثّر فيهم.
هل المرأة شرّ كلّها؟
* لقد قرأت في (نهج البلاغة) للإمام علي(ع) كلمة يقول فيها ((إنّ المرأة شرٌّ كلّها وشرُّ ما فيها أنّه لابدّ منها)). فكيف يصحّ ذلك؟
* أنا لا أفهم هذه الكلمة، ولذا فأنا أشكّ في أنّها للإمام علي(ع) والسبب في ذلك هو أنّ النبي (ص) والإمام علي(ع) والأئمة(ع) قالوا جميعاً ((ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف)). فكيف تكون المرأة شراً كلّها؟
والله تعالى يقول عن الإنسان رجلاً كان أو امرأة ]إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا[(19). وقال ]وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[(20). فالإنسان لم يخلق شريراً في أصل خلقته بل خلق على ]فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[(21). وفي الحديث الشريف ((كلّ مولود يولد على الفطرة إلاّ أن أبويه يهوّدانه وينصرّانه ويمجّسانه))(22). فكيف تكون المرأة شراً كلّها؟! وأمّا إذا كان الشرّ باعتبار الإغراء، فالرجال هم الذين يغرون النساء وأغلب النساء، يخدعهن الرجال بكلماتهم المعسولة، وقد عبّر الشاعر أحمد شوقي عن ذلك بقوله:
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرّهنّ الثناء
وعلى فرض أنّ ثمة شراًّ إلاّ انه عنصر واحد من عناصر شخصية المرأة وليس جميع عناصر شخصيتها، فهل فكرها شرّ؟ وهل عاطفتها شرّ؟ وهل أعمالها شرّ؟ وهي تمارس عباداتها، فهل عباداتها شرّ؟! ثم إذا كانت المرأة شرّاً كلّها فكيف يعاقبها اللّه تبارك وتعالى إذا كان خلقها من الشرّ؟ ألا تحتجّ المرأة بالقول: أنت يا ربّ خلقتني من الشرّ كلّه فلم تعاقبني على فعل الشرّ طالما وهو مودع في أصل خلقتي التي لا دخل لي فيها؟! ثم ما معنى ((وشرّ ما فيها أنه لابدّ منها)). هل ذلك من جهة النسل؟ فالرجل كذلك طرف في عملية التناسل، فكيف يكون الإنسان الذي يمثّل ضرورة شرّاً كلّه؟ إنّ الشمس مثلاً ضرورة للحياة فهل شرّ ما فيها أنّه لابدّ منها حتى تبقى الحياة، والماء والهواء كذلك. إنّها في المحصّلة كلمة غير مفهومة. وإذا كان هناك من يقول إنّ هذه الكلمة وإرادة عن امرأة بعينها، فهذا لا يصحّ أيضاً لان الكلمة واردة على نحو الإطلاق، أي تشمل النساء جميعاً. وقد اطلعت في كتاب (بهجة المجالس) أنّ هذه الكلمة هي في الحقيقة للمأمون العباسيّ فقد ذكر في الرواية عنه انه قال: النساء شر كلهن وشرّ ما فيهن انه لابد منهن ، ولذا فإننا نربأ بعلي(ع) أن يتكلّم بهذه الطريقة، وهو الذي أكرم المرأة أيّما إكرام وأحسن إليها أيّما إحسان، وهو العارف أيضاً أن في النساء من تفوق الرجال أدباً وعلماً وعملاً، وأن في الرجال من هم في غاية الشرّ. إنها ليست لعلي(ع).
التعامل مع الصبيان:
* في حديثكم عن الحسين(ع) وتواضع رسول اللّه (ص) وحملهما على ظهره، حيث كان يداعبهما كما لو كان طفلاً مثلهما، نرى أنّ بعض الآباء يعتبرون أطفالهم أعداء لهم، فإذا نطق الطفل بكلمة أو إذا ضحك قليلاً لم يسمع سوى كلمات التأنيب والعنف؟
* روي عن النبي (ص) قوله: ((من كان له صبيّ فليتصاب له)). أي فليمثّل دور الصبيّ معه، فيلاحظ كيف يتكلم الصبيّ فيتكلّم بطريقته، وكيف يلعب فيلعب معه، وهكذا. ولكن بعض الناس يعقّدون أطفالهم بلا سبب كما في قولهم: أجلس لا تتحرك. كن مهذباً. دع هذا. لا تفعل هذا، في حين أنّ الطفل اذا لم يلعب أو يتحرّك أو يتكلّم فإنّ ذلك سوف يحدث في داخل نفسه فراغاً ويخلق له عقدة نفسية. نعم، علينا أن نوجّه لعبه بأن لا يضرّ نفسه باللعب. ولكنّ مشكلة بعض الآباء والأمهات أنّهم ينسون أنّهم كانوا صغاراً وصبيانا ومراهقين، فلو تصوّر الأب شعوره عندما كان طفلاً، وكيف كان يتألم عندما يقهره أبوه لما فعل مع ابنه الشيء نفسه.وهذا ما نجده أيضاً في بعض حالات الزواج، فإن الوالدين يقسون على الشاب أو الفتاة اذا اختارا شريكاً لحياتهما ناسين أنهما في فترة شبابهما فعلا ذلك. ((عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به)). ضع نفسك في مكان ابنك صغيراً وشاباً، وتذكّر كيف كنت تريد من أبيك أن يتعامل معك وافعل مع طفلك بحسب ما كنت تتمنى أن يتعامل معك أبوك.
معالجة انحراف صديق:
* يمرّ أحد الأصدقاء بحالة انحراف، ولا أدري كيف أتعامل مع هذه الحالة، علماً أنّه يكنّ لي محبة واحتراما؟
* حاول أن تستفيد من محبّته واحترامه، وأن تدرس أساس هذا الانحراف، وأن تعالجه كما يعالج الطبيب المريض، وإذا كنت لا تستطيع فحاول أن تستعين بغيرك في هذا المجال.
عصارة العمر:
* تتحدثون دائماً عن عصارة العمر، وأنّ على الإنسان أن يعتصر عمره حتى لا ينتهي دوره عند الموت، فما هي أهم الوسائل التي يمكن للإنسان أن يتخذها حتى يعتصر عمره ليكون عمره عمر خير لا عمر شرّ؟
* إنّ هذا الزمن الذي يمرّ علينا بكل مفرداته ومراحله نستطيع أن نحرّكه في الخير، وان نفكّر فيه بالخير وأن نعمل الخير وان نواجه فيه الشرّ، فأن تعتصر زمنك يعني أن تأخذ منه الطاقة التي تستطيع أن تبعثها في خدمة الناس، وقد تكون طاقة علم، أو طاقة حركة، أو مشروعاً ما أو ما أشبه ذلك. وهذا يستدعي أن يكون لديك إحساس بالزمن فلا تضيعه ولا تقطعه ولا تلهو به، إنّما توظّف دقائقه وساعاته لما ينفعك في الدنيا والآخرة.
التهجّم على العلماء:
* هل يجوز التهجّم على علماء الدين وغيرهم لسبب أو آخر مع عدم معرفتنا بظروفهم وعدم الإطلاع على طبيعة أوضاعهم؟
* لا يجوز ذلك.
الكذب بالكتابة:
* هل أنّ الكذب مجرد قول أم يتعدّى إلى الكتابة؟ وهل كتابة الكذب على ورقة تعدّ كذباً محرماً؟
* لا فرق بين الكذب باللفظ وبين الكذب بالكتابة.
كيفية تحديد الكبيرة:
* هل تحدّد الكبيرة من الذنوب من خلال أثرها في المجتمع أم من خلال الإصرار؟
* الكبائر محدودة، وغالباً ما تؤدّي إلى أضرار اجتماعية، وقد ورد في الحديث ((لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار)). فالإنسان إذا أصرّ على الصغيرة أصبحت كبيرة، وهذا هو المقياس.
البرامج التي تلهي عن الذكر:
* هناك بعض البرامج التلفزيونية التي تنسي ذكر اللّه وتلهي الإنسان، فهل يجوز متابعتها؟
* إنّ كلّ ما يلهي عن ذكر اللّه ويصدّ عن سبيله فعلى الإنسان أن يجتنبه.
الطعن في العلماء:
* ما هو الحكم في الطعن بسيرة العالم وتسقيطه؟
* هذا حرام وربما يصل إلى درجة كبيرة من الحرمة لأنّه إساءة إلى موقع القيادة الربّانية.
هل الدعاء مخدّر؟
* يتحدّث البعض عن أنّ الدعاء يؤدّي إلى السلبيّة ويخدّر الإنسان بحيث يشعر أنّه بالدعاء قد أدّى ما عليه وتقاعس عن العمل، فنرجو توضيح خطأ هذه الفكرة؟
* إنّ الدعاء لا يمثّل السبب المطلق في استجابة اللّه سبحانه وتعالى، فقد جعل اللّه الدعاء كأسلوب من أساليب تعبير الإنسان المؤمن عن حاجته للّه وعن خضوعه للّه عزّ وجل، والدعاء ليس بديلاً عن العمل. وقد ورد في الحديث ((أربعة لا يستجاب دعاؤهم: رجل جالس في بيته يقول: اللّهم ارزقني، فيقول اللّه: ألم أعهد إليك بالطلب ]فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[(23). ورجل رزقه اللّه مالاً فأسرف فيه وبذّره، ويقول: اللّهم ارزقني، فيقول اللّه الم آمرك بالاقتصاد وأنهاك عن الإسراف؟ ورجل يدعو على زوجته، فيقول اللّه لا يستجاب دعاؤك، فقد جعلت أمرها بيدك ]إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[(24). ورجل أقرض إنساناً مالاً ولم يكتب عليه فأنكره، فيقول: اللّهم انتقم لي من فلان واللّه يقول له: ألم آمرك بالكتابة والإشهاد؟!))(25) وإذن فمعنى ذلك أنّ اللّه يريد من الإنسان أنْ يعمل كلّ ما عنده ثم يدعو اللّه سبحانه وتعالى، فيقول له اللّهم هذا ما أستطيع فأعنّي على ما لا أستطيع أو رتّب لي ما أستطيع بطريقة تؤدّي إلى النتائج بأفضل وجه.
الكشف والإلهام:
* يتحدّث الكثير من الناس أن اللّه أتاهم ما يسمّى بالكشف أو الإلهام، ويحدّثون الناس عن أشياء تحصل في أكثر الأحيان، فما رأي الإسلام بالكشف أو الإلهام؟
* ]قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[(26). لكنّ اللّه سبحانه وتعالى قد يعطي بعض عباده بعض الرؤية، ولكنّ هذه الإدعاءات غالباً غير دقيقة، وعلينا أن نتثبّت منها حتى لا يخدعنا البعض بالخرافات باسم الكشف أو الإلهام أو ما شابه ذلك.
بين التنسّك والتهتّك:
* ورد في الحديث ذمّ اثنين: جاهل متنسّك وعالم متهتّك، فما هي نصيحتكم إزاء من يعبثون في أوساط الناس من مثل هؤلاء الأصناف؟
* الجاهل المتنسّك هو الذي يصلّي الليل ويقوم بالفرائض والنوافل، ولكن لا يفهم الإسلام فهم وعي ومسؤولية، فيمكن أن يكون تنسكّه عاملاً من عوامل إغراء الناس به فيتبعون فكره، في حين أنّ فكره هو فكر الجهل، حتى أنّ بعض الناس يصفه بقوله: ليس عنده غير سجادته ومسبحته، والناس قد تثق به وتصلّي وراءه جماعة، فهو عابد لكنّه جاهل. وعندنا في الحديث ((ركعتان يصليهما العالم أفضل من عبادة سنة يصليها العابد الذي لا علم له)). وعالم متهتّك وهو الذي لا يعمل بعلمه، بل قد يعمل بخلافه وعلى نقيضه، فقد يضلّ به أناس كثيرون لأنه قد يكون سبباً في إفسادهم.
مجالسة من يميت القلب:
* جاء في (أصول الكافي ج2 ص606) ((ثلاثة مجالستهم تميت القلب: الجلوس مع الأنذال، والحديث مع النساء، والجلوس مع الأغنياء)) فكيف تفسّرون هذا الحديث؟ هل يمكن القول إنّ الجلوس مع الأنذال ومع الأغنياء والحديث مع النساء تميت القلب بشكل مطلق؟
* هذا باعتبار أنّ الجلوس مع هؤلاء غالباً ما يقتضي الحديث عن الجوانب التي تثير غرائز الإنسان وشهواته. والجلوس مع الأغنياء يعني في الغالب الحديث عن المال بحيث يجعل الإنسان ينجذب إلى الدنيا ويشعر بالحاجة إلى ما في أيدي الناس، وإلى أن يكون مع هؤلاء مما قد لا يقدر عليه، ويتنكّر لقضاء اللّه ورزقه سبحانه وتعالى، وما إلى ذلك. وربّما كان الحديث مع النساء بلحاظ أنّه يغلب عليه الحديث عن الجوانب التي تتصل بالعلاقة بين الرجل والمرأة في شؤونها الغريزية، وما إلى ذلك. والجلوس مع الأنذال يقود إلى الحديث عن نذالتهم مما يميت القلب. فلابدّ للإنسان أن يجلس مع من يفتح قلبه على اللّه، وعلى مسؤولياته في الحياة، ذلك أنّ في قبال هذه المجالس التي تميت القلب ثمة مجالس تحييه وتبعث فيه النشاط في العبادة والعمل. وهي المجالس التي يذكر فيها اللّه عزّ وجل.
التقوى كقيد:
* نرى في كثير من الحالات أنّ التقوى قيد للبعض بدلاً من أن تكون حافزاً على الانطلاق، فأين يكمن الخطأ؟
* لابدّ أن نفهم حقيقة التقوى لنعرف هل أنّها كما يقول البعض قيداً أو أنّها انعتاق؟ فالتقوى هي أن تلتزم حدود اللّه سبحانه وتعالى فلا تفعل إلاّ ما يأمرك اللّه به، ولا تترك إلاّ ما نهاك عنه. وأعتقد أنّ اللّه لا يأمر الإنسان إلاّ بما يصلح أمره بشكل خاصّ أو بشكل عام، ولا ينهى الإنسان إلاّ عمّا يفسد أمره بشكل خاصّ أو بشكل عام. ومن الطبيعي فإنّ ذلك لا يكون مكبّلاً للانسان. بل محرّراً له من قيود كثيرة تقعد بطاقاته عن أن تتفجّر في دروب الخير ومجالات البرّ. إنّ التزام الإنسان بالخط الذي يؤمن به ويسكن إليه ويرتاح له هو سر ممارسته لانطلاقه لأن الانطلاق لا يتحقق بالانفلات من كلّ قيد بل بالانفتاح على آفاق إيمانه والتزامه الذي يحقق به ذاته حتى أن الأحرار يؤكدون حريتهم بالتزامهم بأفكارهم وبرامجهم في الحياة.
كيفية الاستغفار:
* ما معنى الاستغفار؟ وكيف يستغفر الإنسان ربّه، سواء كان مسلماً أو كتابياً؟
* أن تستغفر اللّه سبحانه وتعالى هو أن تستحضر ذنوبك، بحيث تعقد قلبك على أن لا تعود إليها ولا إلى مثلها، وتطلب منه سبحانه وتعالى أن يغفرها لك انطلاقاً من ندمك على ذلك وعزمك على تركه بتوبة نصوح لا ترجع بعدها إلى فعل ما تركت. ولا فرق في الاستغفار بين مسلم أذنب وأراد أن يستغفر ويتوب وبين كافر تراجع عن التزاماته الكافرة وتاب عنها وانفتح على الإسلام مستغفراً ربه مما كان فيه.
شكل خاصّ للعبادة:
* أنا شاب أعيش الضعف في العقيدة، وعندي فهم خاصّ للعبادة بأنّها مجرد معرفة الخالق، وابتداع أي نوع من أنواع الشكر له، وعدم الالتزام بما ذكر في الرسائل العملية، كما أعتقد أنّ الإيمان بالخالق هو كافٍ في مسيرة الإنسان في الحياة؟
* لقد حدّد اللّه سبحانه وتعالى لك طريقة العبادة، وحدّد لك طريقة الطاعة، وهو يقول لك ]مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ[(27). ويقول لك ]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[(28). ويقول لك ]قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه[(29). فإذن العبادة ليست مجرد حالة ذهنية ولا حالة نفسية، ولا حالة اجتهادية في أصولها، بل هي حالة عملية إلى جانب الحالة الذهنية والحالة الروحية، فإذا أراد الإنسان أن يعبد اللّه فليعبده من الطريق التي يريد بها اللّه أن يعبد، وان لا يتكلّف فهماً خاصاً للعبادة يخرجه عمّا اراد اللّه له، وعمّا حدّد رسوله (ص) تفاصيله في العبادات المأثورة. ثم أن للإيمان باللّه تعالى والاعتقاد به مقتضيات، ومن مقتضياته هذه العبادات.
تقبيل يد العلماء:
* ما هو الدليل الشرعي على تقبيل يد العالم؟ وكذلك القيام له عند دخوله؟
* ليس ذلك من باب الاحترام لذاته كشخص، ولكنّه احترام لما يمثّل من موقع، فليست المسألة أن تقبّل يد أو جبهة العالم من خلال دليل شرعي، فهذه القضايا قد تدخل في عالم اللياقات والمجاملات الاجتماعية، وهي بحسب ما يقصد الإنسان منها.
التعامل مع الولد العاق:
* بأية طريقة يجب التعامل مع ولد عاقّ وملحد وخاصة في المعاملات اليومية من مأكل وطهارة وحقوق وواجبات؟
* علينا إذا كانت هناك إمكانية أن نصلحه ونهديه ونقرّبه إلينا. أمّا الطهارة، فبحسب رأينا، فإن كلّ إنسان طاهر.
حدود إطاعة الأبوين:
* أنا شاب مؤمن والحمد للّه، وأعلم أنّ عقوق الوالدين هي من الكبائر، ولكنّني أودّ أن أسأل: هل على الولد إطاعة أبويه في كلّ شيء كما لو كان يأمره أبوه بالذهاب إلى الأرض الزراعية والعمل بها دائماً أو أي عمل آخر فيه مشقّة، خاصة وأن مثل هذه الأعمال تتعبني؟
* لا تجب عليك طاعة أبيك في مثل هذه الأمور، ولكن تصوّر أنّ والدك يشتغل بالأرض حتى يوفر لك لقمة العيش ويشتري لك الملابس والمستلزمات الحياتية الأخرى كيما يؤمّن لك مستقبلك. وتذكّر أيضاً كيف كان والدك يتعب حتى تصل إلى ما أنت عليه. فالمسألة ليست منظورة من الجانب القانوني فقط، أي هل تجب الطاعة أو لا؟ ولكن يحسن بك أن تستجيب له، وأيّ إحسان أكثر من إحسان الوالد لولده ]أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[(30). إنّ الولد مستقل من الناحية القانونية إلا في الجوانب الاشفاقية التي ينبغي له أن يكون فيها ممتثلاً لطلب أبيه بما لا يضرّ حياته. وأمّا التعب فليس مشكلة، فأبوك يتعب أيضاً وهو في سن كبيرة. وهناك مسألة شرعية أخرى، وهي أنه لا يجب على أبيك الإنفاق عليك إذا كنت قادراً على اكتساب رزقك ولو بالتعاون معه.
حقّ الغيبة:
* إذا غفر الغيبة من اغتبناه، فهل يبقى الحقّ الإلهي؟
* طبعاً، فهناك حقّ عام وهناك حقّ خاصّ، فالحقّ العام هو حقّ اللّه سبحانه وتعالى، وهو أن اللّه نهى عن الغيبة وعصيناه فيما نهى عنه، فلابدّ أن نستغفره في ذلك.وإذا أسأنا إلى الغير فإنّ علينا أن نتسامح منهم كحقّ خاصّ من حقوقهم.
ماضي الإنسان التائب:
* من طبيعة الإنسان أنّه خطّاء ومرتكب للمعاصي، وكثير من البشر يعيشون البعد عن اللّه سبحانه وتعالى وعن خط الإسلام، ويركضون وراء الشهوات والآثام، فهل إذا تاب الإنسان يجب عليه أن يتذكّر الماضي الذي مرّ به، والمعاصي التي ارتكبها خلال تلك الفترة؟ أمّ أنّه ينسى الماضي بما فيه ولا يفكّر فيه أبداً؟
* ليس من الضروري عندما يتوب الإنسان توبة نصوحا أن يتذكر التفاصيل التي مرّ بها، ولكن قد تكون هناك حاجة إلى أن يذكر بعض التفاصيل ونتائجها السلبية على حياته في الماضي حتى لا يقع فيها في المستقبل بفعل تسويلات الشيطان.
وساوس الشيطان:
* في كثير من الأحيان يأتي الشيطان للإنسان بوساوس وتصورات تفرض نفسها عليه مما يؤدّي به إلى الشرود والغفلة وخصوصاً في الصلاة، فهل أنّ هذه التصورات تفسد الصلاة؟
* لا تفسد الصلاة من الناحية العملية الواقعية، ولكنّها تفسد روحانية الصلاة، لأنّ على الإنسان أن يقبل بقلبه على اللّه سبحانه وتعالى، ويحاول أن يحارب هذه التصوّرات بأن يتأمّل في موقفه بين يدي اللّه عزّ وجل، ويتأمّل في الكلمات التي يقولها وبالآيات وبالتسبيح، وبالهدف المراد من الصلاة.
مستثنيات الغيبة:
* من هم الذين تجوز غيبتهم؟
* هم: المتجاهر بالفسق لقوله(ع) ((من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له وهو فاسق)). والغيبة في مقام النصيحة والتقييم، وغيبة الظالم من قبل المظلوم ]لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ[(31). وهناك عدة أمور أخرى. لكن المهم هو أن يتعلّم الإنسان موارد الغيبة المنهيّ عنها، وأن لا يفسّق البعض من الناس ليكون ذلك مدخلاً شيطانياً لاغتيابه.
تعامل الأولاد مع الوالدين المسيئين:
* بعض الآباء والأمهات يعكسون حياتهم السلبية على أولادهم، بل لا يشعر الأولاد بأبوّتهم، فكيف يتعامل الأولاد مع هؤلاء الآباء المسيئين؟
* عليهم أن يتعاملوا مع آبائهم بما يفرضه حقّ الأب على الأولاد حتى وإن كان الأب مقصّراً مع أولاده، وعليهم أن يحاولوا إرشاد آباءهم إمّا بشكل مباشر أو من خلال الناس الآخرين.
أحسن العبيد نصيباً عند اللّه:
* ورد في ((دعاء كميل)) فقرة تقول ((واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك وأقربهم منزلة منك)) ونحن نعرف أنّ أفضل عباد اللّه نصيباً عنده وأقربهم منزلة منه هم محمد وآل محمد (ص) فكيف يصل الإنسان إلى مرتبتهم؟
* قوله ((من أحسن عبيدك)) ليس أحسنهم، وإنّما يعني اجعلني ارتفع درجة إلى أن أكون من أحسن عبيدك نصيباً عندك، وبمعنى آخر اجعلني يا ربّ أعبدك وأعرفك وأتقرّب إليك، ووفقني إلى أن أسير في طاعتك وارتفع في الدرجات العليا لأكون من أحسن عبادك في سلوكي وطاعتي لك ومعرفتي بك وعملي في سبيلك، بحيث أصل إلى درجة أن أكون من أحسن عبادك في هذه المجالات، كما كان النبي (ص) وآل بيته أحسن عباد اللّه نصيباً في ذلك كلّه بما أطاعوا اللّه به. فاللّه سبحانه وتعالى فتح باب الرقيّ والتقدّم والتطوّر للإنسان المؤمن ليزداد إيماناً مع إيمانه وليكون نصيبه من عطاء اللّه تبعاً لقربه منه، فكلّما ازداد إيماناً قَرُبَ منزلةً وحسن نصيباً، وهذا باب واسع لا يغلق بوجه عامل من ذكر أو أنثى، فعطاء اللّه لا يحدّ وهو سبحانه يرفع درجات العاملين والمطيعين والمحسنين، ولكن تبقى للنبي(ص) ولآل بيته(ع) منازلهم التي لا يصلها أحد.
الفصل السادس
المسائل الفقهية
أولاً: المرجعية والتقليد:
* ثانياً: النجاسات والطهارات
* ثالثاً:الوضوء والصلاة والاقامة
* رابعاً: الصيام والكفارات
* خامساً: الخمس والزكاة
* سادساً: الحج
* سابعاً: الزواج والطلاق
* ثامناً: أموال وبنوك
* تاسعاً: السلوك والمعاملات
أولاً: المرجعية والتقليد
مسؤولية المرجع عن المسلمين:
* لقد فهمنا من تاريخنا الشيعي أن الإمام المعصوم مسؤول عن الوجود الشيعي في أرجاء العالم، فهل المرجع الديني اليوم لديه علم عن الشيعة وكياناتهم وأعدادهم وعاداتهم ونشاطاتهم بشكل رقمي وإحصائي؟
* إن الإنسان مسؤول بمقدار قدرته وبمقدار إمكاناته، وأعتقد أن هناك دراسات موجودة في الأمور التي ألمحت إليها، وهناك بعض الأجهزة التي ترصد ذلك، فهناك مثلا (المجمع العالمي لأهل البيت(ع)) في إيران وعنده إحصاءات جيدة في هذا المجال. واعتقد أنها موجودة لدى الآخرين أيضا، لكن الكلام هو ما مدى القدرة التي يستطيع فيها المرجع أن يواجه الواقع الإسلامي؟ فهو ليس مسؤولا عن الشيعة فقط وإنما هو مسؤول عن المسلمين جميعا إذا كان في موقع إسلامي قيادي.
بقاء المؤسسات الدينية بعد موت المرجع:
* كيف للمرجع الديني الذي ينادي بالمؤسسات الدينية أن يبدأ الخطوات العملية، ولاسيما أن الجانب التمويلي الخاص بالمرجعية يمكن أن يصار إلى غير موارده الشرعية بعد رحيل المرجع؟
* أعتقد أن هناك مؤسسات دينية بقيت تدار بعد ذهاب المرجع بطريقة أمينة بعيدا عن أبناء المرجع.
قضاء عبادة الجاهل:
* هل يلزم الجاهل أن يقضي عبادته قبل أن يقلّد أحداً من المراجع كما في افطار الصوم عمداً في شهر رمضان؟
* عليه أن يكفّر وأن يقضي.
تقليد الميت ابتداءً:
* قلتم في كتاب (الفتاوى الواضحة) بأنّه يجوز الرجوع إلى المجتهد الميت ابتداءً، والأحوط استحبابا الرجوع إلى الحي، وأما في كتاب (فقه الشريعة) ففي المسألة ذاتها هناك عبارة الأحوط وجوبا، فهل هذا عدول عن الاحتياط الاستحبابي؟
* هذا صحيح بلحاظ بعض العناوين الثانوية التي تقتضي ذلك.
القطعيّة والاحتمال:
* أنتم الشيعة تجزمون ببعض الأحكام في المستوى الفقهي أو العقيدي على الرغم من وجود الاحتمال المخالف، فكيف تقطعون بذلك والقاعدة تقتضي بعدم القطع بورود الاحتمال، فإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال؟
* هذا صحيح، فإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، لكن إذا قامت الحجّة التي أمرنا اللّه سبحانه وتعالى باتباعها، فإن الاحتمال وإن كان وجدانيا لكنّنا من خلال أمر اللّه لنا بالسير على هذه الحجة الظنية نطرد ذلك الاحتمال، ونرى أن اللّه لا يحاسبنا عليه، لأنّ الحقيقة ـ عندما يمضي اللّه شيئا ـ هي فيما أمضاه اللّه، وإلا فالقرآن كلّه ـ ولا يختلف في ذلك السنّة والشيعة، هو قطعيّ السند ظنّي الدلالة. وعندما نأخذ بالظاهر فإن الظاهر يجانب الاحتمال، فالظاهر يعطيك 90% من القطع والاحتمال هو في ال 10% ولكن العقلاء والمتشرعة ساروا على عدم الاعتناء بالاحتمال الذي يجانب الحجّة التي هي حجّة عقلية أو حجّة شرعية.
التناقض الحادّ في الفتوى:
* فيما يتعلّق بعدم الاتفاق حول أي أمر عارض جديد، نرى أنّ هناك تناقضاً حادًّّاً في الفتوى بين من يبيح وبين من يحرّم، إلى درجة أن العلمانيين يستغلّون هذا الخلاف ويوظّفونه بالشكل المضاد للإسلام؟
* هذا التوظيف غير صحيح، فحتى العلمانيين ليسوا موقفاً واحداً فمن كان بيته من زجاج فلا يرم بيوت الناس بحجر. فأنت ترى أنّ هناك علمانية ملحدة وعلمانية غير ملحدة، وعلمانية قوميّة، وأخرى اشتراكية أو ماركسية وإلى آخر ما هناك من عناوين. وأمّا قضية الاجتهاد فهي قضية الاستنتاج والاستنباط من الأحكام الشرعية. والمناقشة مفتوحة على مصراعيها، بحيث يمكن لمن يفتي بإباحة شيء أن يناقش الذي يفتي بالحرمة والعكس صحيح، فالمسألة ليست مغلقة وليست جامدة بل تبقى متحرّكة حتى يستقرّ الناس على رأي واحد.
الاجتهاد في القضايا المستجدّة:
* كان لاجتهاد الشيعة في الفقه وتبصّرهم فيه غنى كبير وتراث عظيم، واليوم نعيش في عصر أصبحنا فيه بأمسّ الحاجة إلى فتح أبواب الاجتهاد في كلّ مجال من مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فلكي نرسم منهاج الحياة الكامل لتعريف الناس بالرسالة الإلهية، علينا أن نعرض تلك المناهج لتعيشها البشرية فكراً وواقعاً، ولو قدّر اللّه تعالى للمجتمع الغربيّ أن يلمّ بنظام الضريبة في الإسلام، فهل هناك إمكانية لتطبيقه؟
* أعتقد أن هناك إمكانية لذلك، خاصة وأن هناك تجارب جديدة تحاول أن تجتهد في القضايا المستجدّة التي يواجهها الناس في النظام الإداري والسياسي والاجتماعي، ولكنها لم تستكمل بعد.
عمل علماء الدين في التجارة:
* العدو الصهيوني ينمو من خلال أموال رجال الدين، فمعظم رجال الدين الصهاينة هم تجّار ولهم شركات متنوعة من خلالها ينمو الرأسمال الصهيوني، ولكنّ عالم الدين الإسلاميّ يختصّ في الدين فقط، فما رأيكم بعمل عالم الدين الإسلامي في مجالات الحياة؟
* مَثَلُ علماء الدين مثل كلّ العلماء، فتارة يتفرّغ العالم للعلم وللدعوة والإرشاد والموعظة فلا يجد وقتاً للتجارة، وتارة يكون منصرفاً عن الدرس والوعظ أو الإرشاد، فلا بأس أن يعمل حينئذ في التجارة وفي غيرها. وأعتقد أن عندنا من علماء الدين ممن يعملون في الحقل التجاريّ، فالمهم أن لا يتاجروا في الدين، فاللّه لم يحرّم على عالم الدين أن يتّجر بالتجارة والعمل وما إلى ذلك.
على الأقوى:
* هل كلمة (على الأقوى) يمكن العمل بها على أساس الفتوى بالحلية؟
* نعم، ((على الأقوى)) تعني الفتوى بالحلّية أو التحريم.
الأحوط اللزومي:
* يستعمل بعض الفقهاء مصطلح (الأحوط اللزومي) فهل هو عين الأحوط الوجوبي؟
* نعم.
أمر ولي الفقيه:
* هل أنّ كلّ أمر يصدر من الولي الفقيه هو أمر بالولاية (مولوي)؟ حتى لو قال : اجلب لي هذا الكتاب، فإذا لم يأت به المكلّف يكون قد عصى؟
* لا، فمعنى ولاية الفقيه ـ إذا قلنا بالولاية ـ هو ما يصدره الفقيه بصفته حاكماً لا بصفتة الشخصية في هذا المقام. وإلاّ لو قال لزوجته قدّمي لي هذا الطعام أو اغسلي الصحون فلا يجب عليها. إذن الولاية لا تقتضي الالتزام بالأوامر الشخصية. ولعلّ بعض الناس بالغوا في تصوير ذلك حتى اقتربوا بولاية الفقيه من ولاية الله.
انتقال الأموال بموت المرجع:
* عندما يتوفّى المرجع، كيف يتم التصرّف بالأموال العامّة التي بحوزته؟ فهل تنتقل إلى أي مرجع آخر، أو إلى مرجع أكثر كفاءة؟
* لمقلديه بعد موته أن يعرفوا ما هو الحكم الشرعي في حقوقهم، فالأموال عند المرجع ليست أموالاً شخصية، ولا يجوز للذين يختصون بالمرجع التصرّف فيها بحريتهم كما لو كانت أموالاً شخصية.
مآخذ التبعيض:
* تفتون بالتبعيض إلى مقلديكم، وفي هذه الحالة يأخذ البعض ما تحرّمونه من مراجع آخرين ممن يحلّلونه لهم، فيتبعون هوى النفس؟
* قلنا إن التبعيض إنما هو في الحاجات التي يشعر فيها المكلّف بنوع من الحرج والضرورة وليس على حسب المشتهيات.
تقليد الميّت:
* عمري سبعة عشر عاماً ولم أقلّد أحداً من العلماء لجهل في موضوع التقليد، ولكنّي والحمد للّه ملتزم من غير الرجوع للرسالة العملية، وقد علمت الآن بهذا الموضوع، فهل يجوز لي أن أقلّد عالماً مات قبل عام؟
* الأحوط وجوباً أن تقلّد غيره.
تقليد الميت ابتداءً:
* هل صحيح أنّكم عدلتم عن فتواكم بجواز تقليد الميت إبتداءً؟
* سجّلنا في ذلك احتياطاً وجوبياً من جهة بعض العناوين الثانوية.
إعتماد الخبر الثقة:
* ينقل عنكم أنكم تعتبرون الحديث الموثوق لا الثقة، فما هو دليلكم على ذلك؟
* دليلنا طريقة العقلاء، ألم يقولوا إنّ هذا الخبر موثوق؟ بل حتى الخبر الثقة إنما يعمل به لأنه سبب الوثاقة. فالوثاقة في الخبر هي الأساس العقلائي لقبول الخبر. وهذا ليس رأينا وحدنا فحسب بل هو رأي كثير من العلماء المعاصرين والقدامى أيضاً.
الإجماع والشهرة:
* من الأدلّة الشرعية في عملية استنباط الحكم الشرعيّ الإجماع والشهرة، ألا نلغي الاجتهاد إذا أخذنا بهذين الدليلين، فكلّ إجماع أو شهرة لا اجتهاد معهما؟
* قيمة الإجماع عند المتأخرين من علمائنا أنّه هو الدليل الذي نستكشف من خلاله قول المعصوم أو فعله أو تقريره، فالإجماع يصبح بمثابة خبر يكشف عن السنّة، أما الشهرة فليست حجّة.وهما وسيلتان اجتهاديتان قد يأخذ الفقهاء بهما إذا كانا في موقع الحجة، وقد لا يأخذون بهما لأنّهما لا يمثلان الحجّة على الحكم الشرعي، فكيف يلغى الاجتهاد مع الأخذ بهما.
الراوي أم المضمون؟
* هل تعتمدون على أخذ الخبر على راويه أم على مضمونه؟
* على الراوي وعلى المضمون، فالمبنى الأصوليّ عندنا هو الاعتماد على وثاقة الرواية. وقد يثق الإنسان بالرواية من خلال الراوي، وقد يثق بها من خلال المضمون، وقد يثق بها من خلال القرائن المحيطة بها.
كفاءة المرجع:
* هل تشترطون الكفاءة في الفقيه العادل حتى يمكنه أن يتصدّى للمرجعية، والمقصود من الكفاءة مقدرة المجتهد على تفهّم أحوال الناس سياسياً واجتماعياً؟
* عالم المرجعية على قسمين: هناك مرجعية فتيا، بحيث يرجع إلى المرجع في الفتاوى الشرعية، وهذه مسألة ثقافية يكفي فيها أن يكون المرجع مثقّف ثقافة اجتهادية يستطيع من خلالها أن يستنبط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية.وهناك من يشترط الأعلمية في ذلك، وهناك من لا يشترطها.
أمّا الآن فالمرجعية أوسع إطاراً، فقد أصبح الناس يراجعون المرجع في القضايا السياسية والاجتماعية والأمنية، ومن هنا فإنّ المرجعية الفتيائية لا تستطيع أن تملأ الفراغ الذي يشتكيه المسلمون اليوم، فالمرجع ـ بهذا المعنى ـ ليس لديه إطلاع على واقع المسلمين، وربما من خلال ذلك أيضاً لا يطّلع على الموضوعات التي يريد الإفتاء بها لأنها تحتاج أيضاً إلى معرفة الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي حتى يفتي في مسألة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
لذلك فنحن نعتقد أنّ طريقة المرجعية في السابق أصبحت لا تسدّ حاجة الناس، بل أضحت خارج نطاق الزمن، في حين يحتاج المرجع اليوم، بالإضافة إلى اجتهاده في الفقه والأصول، أن يكون عارفاً بزمانه وأكثر من ذلك أن يكون عارفاً بالقرآن، فالمرجع الذي ليس لديه ثقافة القرآن لا يستطيع أن يكون مجتهداً بالمعنى الصحيح للاجتهاد، لأنّ الاجتهاد قائم على الكتاب والسنّة، فإذا كان لا يعرف من الكتاب إلاّ آيات الأحكام وبطريقة أصولية بحتة فإن من الصعب أن يفهم كلام اللّه.
الدليل على ولاية الفقيه:
* في لقاء لصحيفة (الحياة) مع أحد الفقهاء قال بشأن مقبولة (عمر بن حنظلة) إنني أقيس في النظر إلى المقبولة لا من جهة السند بل من جهة الشبهة في دلالتها على الولاية العامّة للفقيه. والسؤال: هل أن الدليل على ولاية الفقيه يعتمد على رواية (عمر بن حنظلة) فقط؟ أم هي معتمده سنداً ومتناً؟ وهل ثمة آية قرآنية يمكن الاعتماد عليها للدليل على مبدأ ولاية الفقيه؟
ضرورة المرجع الواحد:
* ما رأيكم في مسألة تعدّد المرجعيات وولاية الفقيه؟ أليس من الضروري أن يكون هناك مرجع واحد للمسلمين يعاونه في إصدار الفتوى المجتهدون الآخرون فيتشاورون فيما بينهم؟
* صوتنا مع صوتك، ولكن هذا ليس واقعياً في الواقع الذي نعيشه.وهناك نقطة مهمّة – في الجانب الآخر – يجب الالتفات إليها وهي أن المرجعية ليست مرجعية سياسية ولكنّها مرجعية ثقافية، ولذلك فان تعدّد المرجعيات هو غنى ثقافي، فبدلاً من أن يكون هناك رأي واحد ومرجع واحد، تكون هناك أراء متعددة، وبذلك يغتني الإسلام بتعدد الآراء والحوار، وتنشط الحركة العلمية فلا ينبغي النظر إلى القضية من جانب واحد. ولكنّنا مع ذلك – ندعو إلى ذلك – ندعو إلى التنسيق والتكامل في واقع المرجعية بدلاً من التنافر والتنازع كما هو الحال الآن بالفعل.
أصحاب الخبرة:
* من هم أصحاب الخبرة برأيكم؟ وهل هم من حضروا البحث الخارج عند المجتهد لكي نعرف من خلالهم من هو الأعلم؟
* لا أعتقد أن هناك شخصاً يقدر أن يشهد أنّ فلاناً أعلم، لأنّ أغلب الذين يشهدون بذلك هم حاضرون عنده ومطّلعون على علمه، ولكنهم غير مطلعين على علوم الآخرين. فالذي يشهد أنّ فلاناً أعلم يجب أن يطّلع على كلّ آراء العلماء ويميّز بينها، وهذا غير ممكن. ولذلك نقول إنّ الشهادة بالأعلمية ليست واقعية، كما أنّه ليس هناك أعلم، فلكلّ ورد رائحة، ولا يوجد أعلم بشكل مطلق في علوم الدنيا كلّها وليس في باب الاجتهاد الفقهي فقط. أمّا أهل الخبرة فهم الذين يملكون المعرفة الفقهية والأصولية التي تمنح قوة التمييز بين الفقهاء في مستوى العلم.
العمل بغير تقليد:
* ما هو حكم من لا يعمل على ضوء فتوى مجتهد، وبالخصوص من يكتفي بالسؤال عن أحكامه عند الحاجة من طلبة العلم، فهل يكون عمله بمثابة من عمل من غير تقليد؟
* إذا قلّد من يقول بجواز التبعيض بين المجتهدين فإنّ عمله يكون بتقليد، وإلاّ يكون عمله من غير تقليد. ولا يكفي أن يسأل أحد الطلاب عن تكليفه إلا إذا كان الطالب ثقة في نقل فتوى المجتهد الذي يجوز الرجوع إليه من حيث توفر صفات التقليد فيه.
هل الاجتهاد عقليّ؟
* هل مسألة الاجتهاد هي مسألة اجتهادية أم عقلية؟
* مسألة الاجتهاد تمثّل حركة الاستنباط عند المجتهد على أساس الأدلّة التي قد تكون شرعية عقلية. نعم يجب الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط لمن يريد أن يحرز تكليفه الشرعي.
نفوذ حكم الحاكم على المجتهدين:
* هل ينفذ حكم الحاكم الجامع للشرائط حتى على المجتهدين بأمر الولاية؟
* إذا كان المجتهدون يرون الولاية أيّ أن حكم الحاكم نافذ فينفذ عليهم، أمّا من لا يرون حكم الحاكم نافذاً في الموضوعات، ولا يرون ولاية الفقيه بالمعنى العام، مثل السيد الخوئي، فلا نفوذ لحكم الحاكم على المجتهدين ولا على المقلدين من وجهة النظر هذه.
فائدة دراسة أصول الفقه:
* إذا كانت مصادر التشريع الإسلامي محصورة في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، فما هي الفائدة من علم أصول الفقه؟
* أولاً: نحن نحتاج إلى آليات لفهم القرآن والسنّة، فبواسطة الفقه نفهم القرآن من خلال حجّية الظواهر، كما نفهم السنّة من خلال خبر الثقة أو حجّية الخبر الثقة وهو الخبر المتواتر. ولذلك فإنّ الأصول هي الأساس في فهم القرآن والسنّة، وفي استنتاج الأحكام التي لم يصرّح بها القرآن والسنّة.
الاحتياط في المسائل الشرعية:
* تقولون إنّنا في المسائل الشرعية لسنا مأمورين بالاحتياط، بل نحن مأمورون أن نحصل على الحجّة فيها أو على العذر فيها، فما رأي علمائنا في ذلك؟
* نحن نقول إنّ اللّه لم يأمرنا بالاحتياط بكلّ شيء، والأحاديث دلّلت أنّ الناس في سعة فيما لا يعلمون، ورفع عنهم ما لا يعلمون و ((كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام)). فهناك موارد معينة يطلب فيها الاحتياط فيما نعرف من الشارع الاهتمام به بشكل استثنائي، بحيث يريد اللّه الواقع على كلّ حال، مثل الدماء والأعراض وما إلى ذلك. أمّا الأمور الأخرى فنحن في سعة مما نجهله.
تعقيدات البحث الفقهي:
* هناك مسألة قابلة للجدل والمناقشة في التفاصيل التي جاء بها المحلّلون والكتاب والمتشرعة في تأليف المجلدات الضخمة والبحث المعمّق في الكثير من المسائل الشرعية كالطهارة، حيث لو قورن ذلك مع الأزمنة المتأخرة للوحظ أنّ هناك فرقاً كبيراً بما كان في السابق، فهل يمكن القول إنّ هذا النوع من البحث هو ضرب من التعقيد؟
* نعم، فنحن نجد أنّ البحث الفقهي اليوم دخل في تعقيدات لا ضرورة لها في كثير من مطالبه، في حين أن الفقه تشريع للحياة، ولابدّ أن يمسّ قضايا الحياة ويعالج مشكلاتها، لا أن يدور في حلقات بحث مفرغة أو لا طائل من ورائها.
ثانياً: النجاسات والطهارات
عرق الرأس:
* هل حكم العرق الموجود في الرأس حكم الماء الذي يبطل الوضوء عند المسح على الرأس؟
* إذا فرضنا أن العرق كان بشكل كثير بحيث يتحوّل إلى مائع فلابدّ من جفاف الرأس قبل المسح، وأمّا إذا كان مجرد رطوبة طفيفة فلا يضرّ.
فتح الضفيرة عند الغسل:
* هل يجوز للمرأة أن لا تفتح ضفيرة شعرها عندما تريد الغسل الواجب، وهل يجب أن يبلغ الماء كل شعرها عندما يكون لها شعر طويل؟
* نعم، الأحوط ذلك.
الشك في الجبن:
* ما هو رأيكم بأكل الجبن الذي تدخل في صناعته الخمرة الأجنبية؟ وما هي كيفية الاستدلال على أن نوع الخمرة محرّم؟
* إذا شك الإنسان في وجود عناصر محرّمة في الجبن فهو حلال، ولابدّ من سؤال أهل الخبرة عن طبيعة هذه الخمرة.
دخول الكحول في الأطعمة والأشربة:
* في الغرب نتناول أحياناً غذاءً أو شراباً يحتوي على كحول دون قصد، فما هو حكمنا؟
* إذا كانت الكحول مستهلكة، أي لا وجود لها فهذا ليس محرّما. نعم إذا كان الكحول بنحو يسكر فلا يجوز، وإذا كان الإنسان جاهلا بالموضوع فهو معذور وعليه أن يتقيّد.
* وماذا لو كان الكحول في معجون الأسنان؟
* لا مشكلة في ذلك، فالمهم أن لا يشرب الإنسان الكحول. ولا حرمة في دخولها إلى فمه بدون الدخول إلى جوفه ليبصقها بعد ذلك.
تطهير موضع العملية:
* لقد أجريت عملية الزائدة الدودية، وبعد الانتهاء من العملية لم أتمكن من تطهير مكان العملية، فكيف أصلّي؟
* صلّ مع الجراحات الموجودة، فليس هناك إشكال في ذلك، حيث تستطيع أن تتوضأ وتغتسل مع الجبيرة،إذا كان يمكنك ذلك، وإذا لم يكن تطهير موضع العملية ممكناً،فيجوز أن يصلّي الإنسان مع بقائها.
مياه الصرف الصحيّ:
* عند تعقيم مياه الصرف الصحي وصولاً إلى خواصّ الماء النقي، هل يصلح للشرب؟
* نعم، ولكن بشرط أن يربط بماء معتصم كماء كر أو ماء جار.
الحيوان الجلاّل:
* ما معنى الحيوان الجلاّل؟ ولماذا لا تؤكل لحوم الجلاّلات؟ ولماذا أصابك من عرقها فاغسله؟
* الجلاّل هو الذي يتغذّى بالعذرة وبالنجاسات.
فضلات الطعام:
* ما هو حكم من يرمى عامداً فضلات الطعام المتبقية في المغاسل والبالوعات؟
* عليه أن يحترم النعمة بطريقة وبأخرى.
طعام الملاحدة:
* أعمل في سوق تركية مع بعض الملاحدة، فهل يجوز لي أكل طعامهم وفي موائدهم؟
* برأينا يجوز أكل طعامهم ما لم يكن لحماً لأنّهم طاهرون عندنا.
ثالثاً: الوضوء والصلاة والإقامة
انفراد المأموم في التسليم:
* المشهور أنه لا يجوز أن يتقدّم المأموم على الإمام في الأفعال، ولكن هل يجوز أن يتقدّم عليه في التسليم باعتبار خروجه من الصلاة؟
* يجوز له ذلك بمعنى أنه يفرغ من الصلاة قبل الإمام فينفرد والانفراد في آخر الصلاة جائز.
الحرج من أداء الصلاة:
* في الدول الغربية نجد حرجا كبيراً عندما نريد تأدية الصلاة بصورتها العادية في الأماكن العامّة، فهل يمكن أداؤها مثلا ونحن جالسون على كرسي، وكيف تؤدّى الصلاة إذا حضرت وأنت في الطائرة أو في القطار؟
* لو كان ذلك في بلادنا العربية المملوءة بالفضول حيث الناس الذين يتدخلون فيما لا يعنيهم كثيرا فقد نرى في ذلك حرجا، ولكن في أوروبا حيث يؤمن الناس بالحرية الفردية بحيث يمكن لأي مسلم أن يفرش سجادته في الأماكن المسموحة ويصلّي، ولا يعتبر الناس هناك هذا الأمر مستهجناً أو مستغرباً، بل قد يعتبرونه تقليدا من التقاليد أو عادة من العادات. فهناك لا يتدخل الناس في شؤون بعضهم البعض، لكننا نحرج لأنّ عندنا ضعفاً في الشخصية. ولذا على الإنسان أن لا يشعر بالحرج في نفسه من أداء الصلاة لأن هذا الحرج ناشيء من إحساسك بأن الناس في الغرب كمثل الناس في الشرق فضوليون وربما ينتقدون ممارساتك العبادية.
أما بالنسبة إلى الطائرة، فلقد سافرت، سفرات طويلة ولم أشعر بأية مشكلة في ذلك، فقد كنت أتوضّأ وأحمل معي سجادة من قش، وكنت أجد دائما أماكن في الطائرة للصلاة، وهكذا فأي مسافر يمكنه أن يصلّي ويقتصر على الواجبات، وهذا ممكن أيضاً حتى في القطار. نعم إذا كان لا يتمكّن من أن يصليّ من وقوف فيمكن أن يصلّي وهو جالس، ولكن يجب أن يكبّر وهو واقف، ويقرأ وهو واقف، وفي حال السجود يسجد وهو جالس.
غلبة النوم:
* إنني من الناس الذين ينامون كثيراً، فربّما نمت عشر ساعات في اليوم أو أكثر، ولكنّي أؤدّي الواجبات المفروضة عليَّ، فهل يحاسبني اللّه على ذلك النوم وأنا أحتاج إليه؟
* ما غلب اللّه عليه فهو الأولى بالعذر حتى لو فاتتك الصلاة، ولكن ما دام النوم لا يجعلك تفقد صلاتك فلا مشكلة.
الصلاة عند الأذان :
* هل تجوز إقامة الصلاة عند بدء الأذان مباشرة؟ أم الانتظار الى ما بعد الانتهاء منه؟
* يمكن الصلاة بمجرد دخول الوقت، وإذا كان المؤذن موثوقا فإنك تستطيع أداءها من حين دخوله في الأذان.
تقسيم صلاة الليل:
* هل يجوز تأخير صلاة الليل إلى ما قبل أذان الفجر بقليل؟ وما هو المقدار المسموح به من التأخير؟ وهل يجوز إتيان صلاة الليل كاملة؟ أم الاقتصار على جزء منها؟
* بإمكان الإنسان أن يأتي بصلاة الليل كاملة بحيث يجعل المقدار القريب الى الفجر الجزء الذي يمثل الأداء، ثم يقضي المتبقّي منها بعد الفجر حيث يستحبّ للانسان أن يقضي صلاة الليل في النهار إذا لم يدرك صلاة الليل.
الانتقال من جامعة إلى جامعة:
* لدى بعض الطلبة الجامعيين مادة في الاسبوع أو حتى في الشهر أو السنة، فيضطر أن يأخذها في جامعة ثانية غير الجامعة التي يدرس فيها، فهل يجب عليه التقصير، وكيف يقوم بحساب المسافة؟ هل من خروجه من المنزل؟ أو من الجامعة الأولى إلى الجامعة الثانية؟ وهل الحكم نفسه مع العمّال؟
* إذا كان في مدينة واحدة، حتى لو كانت كبيرة فيجب أن يتمّ صلاته. نعم، إذا كان ينتقل من بلد إلى بلد ثان فيجب أن يحسب المسافة من آخر البلد الذي يسكنه إلى أول البلد الذي يذهب إليه.
تحديد جهة القبلة:
* نجد اختلافاً في البوصلة، لتحديد جهة القبلة من غرفة إلى غرفة في البيت الواحد، فماذا نفعل لتحديد الجهة حيث لا توجد وسيلة أخرى لذلك؟
* علينا أن نعيد النظر في البوصلة، فربما تكون هذه الغرفة لجهة وتلك الغرفة تكون لجهة أخرى، إذ ليس من الضروري أن يكون البيت كلّه لجهة واحدة.
الشك في النيّة:
* بسبب الشرود أثناء الصلاة أفقد الإحساس بالنية، وعندما أتذكرها أحتاج لبعض اللحظات لمعرفة اسم الصلاة التي أصلّيها، فماذا أفعل؟
* لا يمكن لإنسان طبيعي أن يشكّ في النية، فنفس الإقدام على العمل هو نيّة، وعندما يقرأ المصلّي فإنه يعرف ماذا يصلّي. والشك في النية من الوسوسة، وإلاّ هل يمكن أن يأكل شخص بدون نية؟ أو أن يمارس أي عمل بدون نية؟ إلاّ إذا كان نائما أو غائباً عن الوعي؟!
إعادة صلاة:
* كنت على مذهب آخر، فهل أعيد صلاتي السابقة أم أنها مجزية؟
* لا تجب عليك إعادة صلاتك.
كثير السفر:
* سائق الباص الذي يندرج تحت عنوان كثير السفر الذي لا يستقر في بلده عشرة أيام، ربّما يستقر هناك أكثر من عشرة أيام، وقد يكون كثير السفر موسمياً، فهل يسلب منه عنوان كثير السفر؟
* هناك رأي يقول إذا فرضنا انه بقي في بلده أكثر من عشرة أيام فلابدّ أن يقصّر في السفرة الأولى ولكنّنا لا نشترط ذلك. وإذا كان سفره موسمياً فقط فإنه يتم في الموسم.
قاطع للسفر:
* هل العودة من السفر إلى مكان العمل يعتبر قاطعاً للسفر، مع العلم أن مكان العمل يبتعد عن وطني مسافة 15 كيلومتراً، وهل السفر من مكان العمل يحتاج لان تحسب المسافة منه؟
* ليس ذلك قاطعاً للسفر، ولكن لو فرضنا أن مكان العمل هو نفس المكان الذي يقيم فيه الإنسان، فإن عليه أن يتمّ صلاته، تماماً كما هو المرور بالوطن.
الإقامة للصلاة:
* ما هو رأيكم في الإقامة، هل هي واجبة أم مستحبّة؟
* ليست واجبة ولكن هناك احتياط في الإتيان بها.
حضور الجمعة:
* يجب الحضور بشرطها وشروطها، أيْ بشرط أن تصحّ الجمعة ولن تصح جمعة، إلاّ إذا كان الإمام عادلا.
السجود على الموزائيك:
* قضيت فترة في السجن وكنت أكتفي في صلاتي بالسجود على الموزائيك فهل أعيد الصلاة؟
* لا يجب عليك إعادة الصلاة باعتبار القول بصحة السجود على الموزائيك.
حضور الجمعة:
* هل تشجّعون حضور صلاة الجمعة في أي مكان تتوافر فيه شرائط الجمعة، خاصة ونحن نرى أن هناك تقصيرا في الحضور؟
* إنني أرى أنه إذا أقيمت صلاة الجمعة بشرائطها وجب الحضور، والإنسان الذي لا يحضر صلاة الجمعة يكون مأثوماً.
المنطقة المنسيّة في الوضوء:
* لو توضّأ إنسان وبعد إتمام غسل اليدين وقبل المسح انتبه لوجود منطقة في يده اليمنى لم يمسّها الغسل فهل يعيد غسل يده اليمنى ثم اليسرى؟ أم يجوز مسح تلك المنطقة؟
* عليه ان يعيد غسل اليمنى ويكملها، ثم يأتي باليسرى بعد ذلك.
إقامة موزّعة:
* رجل يملك بيتا في بعض البلاد وسكن فيه مدة من الزمن،وأحياناً يسافر الى وطنه ويرجع اليه، فما هو حكم صلاته وصيامه، وهل يحتاج الى أن يجدّد نيّة الإقامة؟
* إذا كانت إقامته موزّعة بين بلده وبين هذا البيت بحيث أصبح هذا بحكم الوطن بالنسبة له فإنه يصلّي تماما. امّا إذا كان مجرّد مكان يستقر فيه مؤقتا حتى لا ينزل في الفندق، ولم يتخذه سكنا ولا مستقرّاً، ولا يكون تردّده عليه بشكل كبير بحيث يصدق عليه حكم الوطن، فيصلّي قصرا إلا إذا نوى الإقامة.
الشك بين القصر والتمام:
* إذا شكّ المصلّي في أنّ الصلاة التي فاتته قصر أم تمام، فما العمل؟
* عليه أن يحتاط بالجمع.
خطأ في الوضوء:
* أمضيت عشرة أعوام في عبادة الصلاة، وعندما أصبح عمري (20) عاماً فوجئت بأنّ هناك عدة أركان خاطئة، فهل أعيد صلاة كلّ تلك الأعوام؟
* لابدّ أن ندرس ما تعتبره خطأ، فإن كان مما يمكن تلافيه أو تصحيحه فبها، وإلاّ فأعانك اللّه على القضاء.
بسملة الملتحق بالجماعة:
* نعلم أنّ قراءة الملتحق بالجماعة إخفاتية، ولكن ما حكم البسملة؟
* إذا كانت قراءته إخفاتية فالأمر سواء بالنسبة للبسملة.
كيفية القضاء:
* انني امرأة أصلّي قضاء وأبدأ بقضاء صلاة الظهر وانتهي بصلاة الصبح، وخلال هذه المدة اقضي صلاتي على هذه الطريقة الاّ أنّ البعض يقول إنّ صلاة القضاء تبدأ أولاً من الظهر وفي اليوم الثاني من العصر وهكذا، فما هي الطريقة الصحيحة؟
* طريقتك صحيحة ولا إشكال فيها. المهم أن لا تسبق صلاة العصر صلاة الظهر ولا صلاة العشاء صلاة المغرب.
إرباك صلاة الجمعة والجماعة:
* إذا كان هناك بعض الناس يربكون صلاة الجمعة والجماعة، حيث يتقدّمون في الصف الأول ويرفعون أصواتهم كما في صلاتهم الانفرادية، فما هو حكمهم؟
* لابدّ للمأموم – في الجماعة – من المحافظة على الجوّ الروحي بالالتزام بالهدوء وعدم إثارة الضوضاء التي تشغل المصلين عن صلاتهم في اقبالهم على اللّه.
طريقة في قضاء الصلاة:
* هل يصحّ قضاء الصلاة على الطريقة التالية: أصلي الظهر شهراً والمغرب كذلك، ثم في الشهر الثاني أصلّي العصر والعشاء أي أقضي الظهر مع الظهر والمغرب مع المغرب وأؤجل قضاء العصر والعشاء للشهر التالي؟
* لا مشكلة في ذلك، فالمهم أن لا يصليّ العشاء قبل المغرب ولا العصر قبل الظهر. أمّا بهذه الطريقة فلا مشكلة.
حكم صلاة:
* أقلعت الطائرة في نيويورك الساعة (11) ليلاً ووصلت إلى مطار امستردام في الساعة (11) نهارا أي مدة سبع ساعات طيراناً، علماً أننا قمنا بحساب الوقت فلم يكن وقت صلاة الصبح قد دخل بعد على توقيت نيويورك فما حكم صلاة الصبح؟
* اذا لم لم يدخل وقت الصبح بحسب وقت الطائرة فلا يجب قضاء صلاة الصبح.
الاقتداء بمن لا نعرف:
* هل يجوز الاقتداء بإمام جماعة لا أعرفه، ولا أعرف الناس الذين يقتدون به؟
* لابدّ من إحراز عدالة إمام الجماعة الذي يصحّ الاقتداء به جماعة.
الإذن بالصلاة:
* في المكان الذي يملكه شركاء، هل يجزي الإذن بالصلاة من أحد الشركاء المتعددين والمالكين لشركة؟ ومع عدم الإذن فكيف يمكن القيام بالصلاة؟
* لابدّ من إذن جميع الشركاء في ذلك، وعلى الإنسان أن يتدبّر أمره في كيفية الصلاة.
قضاء الصلاة والصيام:
* قلتم في ندوة سابقة إن على المرء إذا تاب أن يقضي ما فاته من صلاة وصيام، فكيف لرجل تجاوز الخمسين أن يقضي كلّ هذا الكم الهائل من الصلوات وأيام الصيام؟
* يقول الإمام الباقر(ع) ((كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك اللّه))(1). واللّه تعالى يقول ]إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[(2). هذا صعب ولكن الأصعب أن الإنسان لا يقضي ما يجب عليه قضاؤه.
صلاة المرأة العيد جماعة:
* هل يجوز للمرأة أن تصلي صلاة العيد جماعة؟
* نعم يجوز.
إعراض المتزوجة عن وطنها:
* ما هو حكم الفتاة المتزوجة بالنسبة للصلاة في بيت أبيها ومسقط رأسها إذا قطعت المسافة الشرعية؟
* إذا أعرضت عن البيت واستقرت في بيت زوجها ووطن زوجها وأصبحت حياتها مستقرة بحيث لا تفكّر أن تسكن في بيت أبيها، هنا تصبح معرضة عن الوطن الأصلي، والإعراض عن الوطن الأصلي يوجب أن تصلّي قصراً، فوطنها الأصلي كأي وطن آخر إذا سافرت إليه مع قطع المسافة الشرعية فإنها تصلي قصراً. نعم إذا كانت ظروفها الجديدة قلقة بحيث لم تكن مستقرة كأن يريد زوجها أن يطلقها أو أنه مات بحيث يمكن أن ترجع إلى أهلها فإنها – في هذه الحال – لم تعد معرضة وتصلّي تماماً. أمّا مع الإعراض فعليها أن تصلّي قصراً.
وضوء باطل:
* زوجتي عمرها (32) عاماً، وقد اكتشفت بأن وضوئها باطل حيث تغسل اليدين من المرفق إلى نهاية الساعد دون الكفين، حيث تعتبر غسل الكفين قبل الوضوء من الوضوء، فما حكم وضوئها السابق وصلاتها؟
* أعانها اللّه على إعادة الصلاة لأن وضوءها باطل.
الدعاء في القنوت:
* هل يجوز القنوت بأدعية من غير القرآن الكريم؟
* نعم، يمكن للإنسان أن يدعو بأيّ دعاء.
صلاة الصبية:
* إبنتي في التاسعة من عمرها، وهي في السنة الاولى من صلاتها ولكنّها لا تصلي الاّ برفقة والدتها، فهل يجوز لوالدتها الوقوف عل سجادة الصلاة ولو شكلياً لأداء الصلاة أثناء فترة العادة الشهرية؟
* يجوز ذلك لأجل التعليم أو تشجيع ابنتها على الصلاة، فلا مانع من الصلاة في هذه الحال على أن لا تقصد الصلاة حقيقة.
وضع كامل الذراعين عند السجود:
* هل يجوز وضع كامل اليدين من الكفّين حتى الذراعين على الارض عند السجود؟
* لا مانع أن يضع المصلّي يديه بهذه الصورة من ناحية الإباحة، فأية كيفية كانت سواء يجنّح يديه أو يضعهما على الأرض فلا مشكلة في ذلك، وإن كان يستحبّ أن يجنّح يديه أو يبسطهما على الأرض في بعض الحالات.
خروج الدم بعد الوضوء:
* هل ينتقض الوضوء اذا خرج دم من الجسد؟
* لا ينتقض ولكن عليه أن يطهّر موضع الدم لأجل الصلاة، إذا كان أكثر من المقدار الذي يعفى عنه في الصلاة، ولم يكن من الدماء الثلاثة.
الاكتفاء بقضاء الفريضة:
* عندما يريد المرء قضاء الصلاة الفائتة، فهل يجب عليه قضاء المرتبطة بها؟ أم يكتفي بقضاء الفريضة فقط؟
* يكتفي بقضاء الفريضة، لأنّه لو فرضنا أنّه ترك المغرب أو كانت باطلة ولم يكن عارفاً، وكان قد صلّى العشاء فإنّه يأتي بالمغرب.
لبس الذهب نسياناً:
* اذا كان مؤمن يصلي وكانت في رقبته سلسلة من فضة أو ذهب ولم يخلعها من رقبته، وعندما انتهى من الصلاة انتبه إلى ذلك، فهل تصحّ صلاته؟
* صلاته في هذه الحال صحيحة. ولكن لا يجوز للرجل لبس الذهب في الصلاة وخارجها.
صلاة الأطفال جماعة:
* ما حكم صلاة الاطفال خلف أبيهم، هل تنعقد صلاة الجماعة؟
* اذا قصدوا الجماعة فإن الجماعة تنعقد اذا كانوا مميزين.
فرادى وجماعة:
* ما حكم الصلاة فرادى مع وجود صلاة جماعة قائمة في المكان غير المخصّص لصلاة الجماعة مثل مرقد السيدة زينب خارج المصلّى؟
* لا مانع من ذلك، ولكن في مكان إقامة الجماعة لا يجوز ذلك.
تقديم الظهر على الجمعة:
* هل يجوز تقديم صلاة الظهر على خطبة الجمعة في المصلّى، وهل يجوز للإمام عدم الإتيان بصلاة الجمعة؟ وهل هي واجبة شرعاً أم مستحبّة؟
* صلاة الجمعة واجبة عندنا وعند السيد الخوئي والسيد الخميني، وهي واجب تخييري. وإذا أقيمت وجب الحضور على الأحوط وجوباً، وعندنا يجب الحضور إذا كانت الصلاة جامعة للشرائط. ويجب على من يحضرها الاستماع إلى الخطبة.
* وفي حال النيّة فيما إذا كان المصلّي مقتدياً بالامام، ثم تبيّن أنّ الامام يصلّي الظهر خلافا لما كان نوى المصلّي، فهل صلاته صحيحة؟
الصلاة في المسجد الحرام:
* الصلاة في المسجد الحرام تكون على شكل دائري، فيكون بعض المصلّين متقدّما على الإمام، فهل هناك وجه للصحّة في صلاة الجماعة؟
* لا تجوز الصلاة أمام الإمام في المسجد الحرام أو في غيره.
الإمامة في السفر:
* هل يجوز للمسافر أن يصلّي إماما وينوي قضاء ما في ذمّته أو ذمّة الغير؟
* إذا كان عليه قضاء حقيقي فيمكنه ذلك، أو إذا كان يقضي عمّا كان في ذمّة الغير حقيقة فيجوز له، أمّا على الاحتياط فلا يجوز.
الجهر في العشائين:
* أركّز في صلاتي المغرب والعشاء أكثر من صلاتي الظهرين لأنهما جهريتان، فهل يمكنني أن أجهر في الظهر والعصر؟
* لا يجوز لك ذلك. ويمكنك التركيز في غير حال الجهر باستحضار معاني الصلاة واستذكار عظمة ونعمة من تقف بين يديه. وربمّا كان بإمكان المصلّي التركيز في الإخفات أكثر لأنّ فسحة التأمّل في الإخفاتية أكثر لعدم الانشغال بالصوت.
القضاء عن سكيّر:
* رجل مسلم لم يصلّ في حياته مات والخمر في جوفه، فهل يجوز القضاء عنه؟
* يجوز القضاء عنه ولكن لا يجب.
إعادة الصلاة جماعة:
* عند أداء فرض ما إفرادياً هل يجب على المصلّي إعادة الصلاة خلف الإمام في حال حضر الإمام بعد أداء صلاة المصلي إفرادياً؟
* لا يجب ذلك، ولكن يجوز ويستحبّ له ذلك، ولأنّ اللّه يختار أحبّهما إليه.
كيفية القضاء؟
* مات والدي على غير مذهبي، وأنا على مذهب أهل البيت(ع) وعليه صلوات لا أعرف مقدارها، وأنا أكبر أولاده، فهل أقضي صلاته على مذهبه أو على مذهبي الآن، وكان أوصاني بولاء أهل البيت(ع)؟
* إذا أردت أن تقضي عنه فاقض على ما تعتقد أنّه الحقّ.
الإبلاغ بالحكم الشرعي:
* إذا كانت صلاة من يصلّي منفرداً غير صحيحة وباطلة أثناء إقامة صلاة الجماعة مع توفّر شرائطها الكاملة، فهل يجب عليه إشعاره بذلك إذا كانت صلاته تشكّل إضعافاً لصلاة الجماعة وللإمام؟
* إذا كان جاهلاً بالحكم فيجب عليك إبلاغه الحكم الشرعي.
الصلاة التعليمية:
* هل يجوز لي أن أجهر بصلاة الظهر والعصر حتى تسمع زوجتي وتردّد ورائي، لأنّها لا تجيد القراءة والكتابة وذلك من أجل أن تستطيع أداء صلاتها؟
* صلّ صلاتك بطريقة إخفاتية، ثم صلّ صلاة جهرية لتعليم زوجتك، لأنّه لا يجوز أن تجهر بصلاتي الظهر والعصر.
عدم التنقّل:
* أصلّي الصلوات الخمس ولكنّي لا أتنفّل غالباً، فبم تنصحونني؟ وهل أكون بذلك آثماً؟
* النوافل مستحبّة، ولكنّك تخسر أجراً وثواباً كبيراً بتركها.
الاستعاذة في مواضع الصلاة:
* هل يجوز للإنسان الاستعاذة في أي موضع من مواضع الصلاة؟
* نعم، يستطيع أن يقول (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم). في كلّ موقع من الصلاة، لأن هذا من الذكر للّه سبحانه وتعالى والدعاء للّه سبحانه وتعالى، وهو جائز في كلّ موضع من الصلاة.
قضاء صلاة الميت:
* هناك شخص مطلوب قضاء صلاة لأكثر من (20) سنة وقد توفي وقام أهله بعد الوفاة بقضاء ما في ذمّته، فهل تصل الصلاة إلى الميت؟
* ورد عندنا وجوب قضاء الصلاة عن الميت، وذمّته تفرغ منها بأدائها عنه، لكنّ العقوبة على ترك الصلاة عمداً تبقى في ذمّته لأنّ هناك حقّاً عاماً وحقاً خاصاً وهو اشتغال ذمته به كدين للّه عليه ولا يسقط الحق العام بسقوط الحق الخاص، بل لابدّ من الاستغفار فيه.
صلاة ليلة الدفن:
* ما هو أصل صلاة الهدية ليلة الدفن؟
* وردت عدة روايات عن أهل البيت(ع) أنها تزيل الوحشة عن الميت.
الصلاة جماعة من جلوس:
* هل يجوز للذي يصلّي جالساً أن يصلّي مع الجماعة؟
* نعم يجوز له ذلك إذا كان معذوراً في الصلاة من جلوس، ويحصل على ثواب الجماعة.
صلاة جماعة في البيت:
* هل يجوز للأب أن يصلّي جماعة في البيت؟
* يجوز له ذلك اذا كان أبناؤه وزوجته وبناته يعتقدون عدالته.
الامتناع عن الصلاة:
* لأيّ الحدود يسمح للإنسان أن يمتنع عن الصلاة، وهل يمكن أن يصلّي وهو مستلقٍ؟
* الصلاة – كما أكدنا مراراً – لا تسقط بحال، فإذا لم يستطع أن يصلي قائماً فليصلّ جالساً، واذا لم يستطع أن يصلّي جالساً فليصلّ مستلقياّ، وإن لم يستطع أن يصلي بوضوء، أي بطهارة مائية، فليصلّ بطهارة ترابية. وعلى كلّ حال فإن الصلاة لا تسقط بحال، وهذه ميزة تنفرد بها هذه العبادة من بين كلّ العبادات الاخرى التي وردت فيها ترخيصات لمن يجد حرجاً أو عائقاً أو صعوبة مالية أو بدنية أو موضوعية في أدائها.
الدهن الذي تفرزه البشرة:
* دائماً أرى على أنفي دهناً يخرج من الجلد، فهل يشكّل ذلك عازلاً للوضوء؟ أي هل له جرم؟
* لا يعتبر ذلك عازلاً للوضوء، وليس له جرم.
قضاء الإبن الأصغر لصلاة الأب:
* هل يجوز أن اقضي ما بذمّة والدي من صلاة وصوم علماً أنني أصغر أولاده؟
* نعم لك ذلك، ولكنّها تتعلق بذمّة الأكبر، ولك أن تعين الأكبر في ذلك.
الشهادة الثالثة في الاقامة:
* لو أتى المصلي في الإقامة بالشهادة الثالثة، فهل تبطل الصلاة؟
* لا تبطل الصلاة بذلك.
رابعاً: الصيام والكفارات
الصوم في عيد النيروز:
* بالنسبة لعيد النيروز، ذكر الإمام الخميني q يوم النيروز وقال إنه ليس عيداً بدليل عدم صحة الصوم في يوم العيد، بينما ورد في بعض الروايات استحباب صيامه، وربما لهذه الجهة تم التخفيف من الاهتمام بهذا اليوم على عهد الإمام الخميني، فما هو رأيكم؟
* نحن نلتقي معه في هذا الرأي.
قضاء صوم:
* في رمضان الماضي نويت السفر إلى خارج البلاد بالطائرة، وفي يوم السفر فطرت عند استيقاظي صباحاً من النوم، ولم أنتظر حتى وصولي إلى المطار نسياناً للحكم الشرعي، فهل يجب القضاء والكفّارة، أم القضاء فقط؟
* يجب القضاء فقط إذا كنت ناسياً أو جاهلا.
موارد صرف فدية صيام:
* في ذمّة امرأة كفّارة إفطار عدة سنوات من شهر رمضان بسبب المرض، وهي الآن تحاول صيام ما فاتها من طلب، ودفعت الفدية المتوجّبة عليها للفقراء، ولكن دون أن تعلمهم أنها فدية صيام ليشتروا بها طحيناً أو غيره، فهل تقبل هذه المبالغ بهذه الطريقة؟
* إذا استمرّ بها المرض إلى رمضان الثاني فلا يجب عليها القضاء، أمّا الفدية فلابد أن تصرف طعاماً، ولذلك لابدّ أن تقول للفقير ذلك، وأن يشتري بها طعاماً، وفيما عدا ذلك فلا تبرأ الذمة.
ألم المعدة والصيام:
* ما حكم من يشعر بآلام في المعدة، هل يحتاج إلى سفر، أم أن المرض يكفي للإفطار في شهر رمضان؟
* إذا كان المرض يضرّه أو كان على سفر]فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[(1). وفي فرض السؤال لا يجب عليه أن يسافر بل يفطر بسبب مرضه.
السفر والصيام:
* عملي يتطلّب السفر إلى المدن والدول، ولا ينحصر بوقت وبفصل معين، فما حكم صيامي؟
* إذا كان الإنسان كثير السفر أو عمله في السفر فعليه أن يتمّ صلاته وصيامه.
* وفي حال السفر للاستراحة أو للحصول على فرصة عمل لا للعمل؟
* في رأينا أن كثرة السفر توجب الإتمام في الصلاة والصيام حتى لو لم يكن السفر عملاً له.
العلكة غير المحلاّة :
* هل يوجد إشكال في العلكة بالنسبة للصائم وخاصة غير المحلاّة؟
* كل ما لا يدخل إلى الجوف لا يفطّر الصائم. فالمرأة عندما تذوق المرق، أو عندما يضع الإنسان في فمه شيئا ليطعم الطير أو الطفل، أو العلكة وكل ما لا يدخل إلى جوف الإنسان ولو ذرّات منه بل يبقى في فمه، فهو لا يفطّر الصائم.
اعتماد الفلك في الرؤية:
* ما هو سبب عدم اعتماد بعض الفقهاء علم الفلك الذي يرصد بالدقة الساعة التي يولد فيها الهلال؟
* إنّ المشكلة هي في أن بعض العلماء الذين لا اختصاص لهم في علم الفلك يخلطون بين علم الفلك وبين علم التنجيم، فعندما يرون حديثا يقول ((كذب المنجمون ولو صدقوا)) أو ((لا يجوز الأخذ بقول المنجّم)). يعتبرون علماء الفلك منجّمين وهم ليسوا كذلك. فالمنجّمون هم الذين يخبرون عن أخبار السماء والغيب، أمّا الذين يعملون على أساس حسابات معينة لاسيما في هذا العصر الذي تبلغ فيه الحسابات الفلكية درجة من الدقة بحيث لا تخطئ الا بنسبة ثانية أو ثانيتين في ملايين السنين فليسوا منجمين بالمعنى المتداول للتنجيم. فلقد أصبحت هذه الحسابات معتمدة حتى في الصعود الى القمر والمريخ، فلا يمكن أن نقارن بين الرؤية البصرية وما يحجبها من غازات وأقمار صناعية وما شاكل، وبين حسابات في غاية الدقّة، فهي تفيد العلم والاطمئنان. ولذلك نحن نعتمد على ذلك، وهناك من العلماء ممن يرى أنّ للرؤئة البصرية موضوعية في ثبوت الهلال من خلال الحديث ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيتـه)) ونــحــن نـــرى ان دور الرؤية هو الطريقة، والعبرة هي بموضوع الشهر الذي لا علاقة للرؤية بوجوده(*).
استجابة الصائم لتناول الطعام:
* هل يجوز للصائم صوما مستحبّا إذا دعاه شخص لتناول الغداء أن يستجيب له بحيث يقطع صيامه في ذلك اليوم؟ وهل هو مأثوم إذا فعل ذلك؟
* إذا كان صائما صوما مستحبا ودعاه أخوّه المؤمن إلى الطعام، لا بمعنى أن يقدّم له قطعة حلوى أو ما شابه ذلك، أي دعاه إلى وجبة طعام فيستحبّ له أن يجيبه. واللّه يعطيه أجر الصوم كما لو كان قد أكمل صومه، وذلك بناءً على ما جاء به الحديث عن الإمام الصادق(ع). لكنّه إذا لم يستجب لا يكون مأثوما بل يكون قد فقد ثوابا.
الصوم الذي يضرّ المعدة:
* مريض يشكو من معدته، وإذا صام لا تتأثر حالته الصحيّة بل تزداد آلامه بالإفطار، فما حكمه؟
* إن دواءه هو أن يصوم فيجب عليه ذلك. أمّا المريض المرخّص فهو الذي يضرّ الصوم بصحّته.
الصوم بعد العشرين:
* ما حكم من لم يصم شهر رمضان منذ بداية سنّ التكليف ثم صام عند بلوغه العشرين من العمر؟
* عليه أن يتوب إلى اللّه، وأن يقضي، وأن يدفع الكفّارة.
الإفطار فور سماع الأذان:
* هل يجوز الإفطار فور سماع الأذان إذا حصل قبل ذهاب الحمرة المشرقية؟ أم انتظر مدة وجيزة؟ وماذا افعل إذا كان هناك من ينتظرونني على مائدة الإفطار ممن يفطرون عند سماعه؟
* أولا: لابد أن يكون المؤذّن موثوقا في هذا المجال. وثانيا: لقد اختلف العلماء في ذلك، فرأينا أنه يجوز الإفطار بمجرد سقوط القرص. وقد كان هذا هو الرأي العلمي الذي يقول به السيد الخوئي q والسيد الحكيم q من أنه يجوز الإفطار والصلاة عندما يتأكّد من سقوط القرص، ولكن من أحب الاحتياط فلينتظر إلى حين ذهاب الحمرة المشرقية.
السفر قبل الزوال:
* إذا أراد الشخص أن يسافر قبل صلاة الظهر فهل يبقى على صيامه أم يفطر؟
* عليه أن يفطر في حال السفر، اذا كان سفره قبل الأذان.
شمّ الرياحين والطيب للصائم:
* يكره للصائم شمّ الرياحين ويستحبّ له التطيّب أو شمّ الطيب، فما هو الفرق بينهما؟
* ربّما كانت الرياحين تمثل خصوصية خاصّة تختلف عن الطيب بذاته.
كفّارة الافطار عمداً:
* ما هي كفّارة الافطار عمداً وعلى محرّم؟
* نحن لا نرى كفّارة الجمع، وهناك أيضاً من العلماء المعاصرين من لا يرون ذلك، والسيد الخوئي يحتاط بالجمع.أمّا رأينا فكفّّارة الإفطار على محرّم هي مثل كفّارة الإفطار على غير محرّم عمداً، وهي إطعام ستين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين.
صيام امرأة تخاف الضرر:
* امرأة كانت تصوم في كلّ سنة عدة أيام من شهر رمضان،ويأمرها زوجها بالإفطار لضعف حالها ولمرض الخدر الذي في يديها،مما يؤدي إلى تقصيرها في شؤون أولادها وزوجها، ولكنها لم تصم الإيام التي كانت تفطرها، ولم تعطّ الكفّارة، إذ ليس لديها مال خاص،ولا يعطيها زوجا مالاً لذلك.وقد صامت السنوات الأخيرة بالإضافة إلى شهر رمضان كجزء من القضاء السابق لكنّها لم تدفع الكفّارة، فكيف تتصرّف الآن؟
* إذا كانت قد أفطرت على أساس خوف الضرر، وإن كان ذلك من خلال تخويف زوجها بأن خلق في نفسها خوفاً من الصوم، واستمر هذا الضرر معها،فلا قضاء عليها بل عليها الفدية. وإذا لم تستطع أن تدفع الفدية الآن وتمكّنت في المستقبل من ذلك فتدفعها بعد ذلك. أمّا إذا لم تتمكن من دفعها نهائياً فعليها أن تستغفر اللّه ولا شيء عليها.
دم في نهار الصوم:
* امرأة اغتسلت من حيضها ليلة الصيام ولكنّها في النهار رأت الدم وليس له صفات الحيض وظلّت تصوم بقية أيامها دون غسل جديد،فما حكمها لو أنها تعجّلت الاغتسال قبل تمام آخر ساعات دورتها،وظلّت صائمة بقية الإيام؟
* إذا كانت قد تعجّلت قبل انتهاء دورتها ولم ينقطع الدم انقطاع برء،فغسلها باطل وعليها أن تغتسل بعد انقطاع الدم حتى لو لم يكن بصفات دم الحيض، إذا كانت في نفس أيام الدورة. ولمّا كانت لم تغتسل فصلاتها غير صحيحة.
خطأ في توقيت الساعة:
* اعتمدت في رمضان على الساعة في عدم بزوغ الفجر الصادق،وتناولت شيئاً من الطعام،وتبيّن خطأ الساعة، فما هو حكم صومي؟
* عليك أن تقضي صومك وليس عليك كفّارة.
الغبار الغليظ:
* قرأنا في كتابكم (الفتاوى الواضحة) أن الغبار الغليظ ليس من المفطرات، وأن التدخين حرام، فما هو الدليل على ذلك؟
* أمّا بالنسبة للغبار الغليظ فالادلّة التي تدلّ على كونه مفطراً غير تامّة عندنا. وأمّا حرمة التدخين فباعتبار أنّه مضرّ باجماع الأطبّاء لأنّه يسبب السرطان أو يهيء الجسم للاصابة به. ونحن نرى أن ضرر النفس حرام، كما أنّنا نستوحي ذلك من قوله تعالى ]يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[(2). والمراد بالاثم بقرينة مقارنته بالمنافع هو الضرر، أي ما يبطّئ عن الخير. ولا إشكال أن ضرر الدخان أكثر من النفع ونحن نفتي بحرمته. والصيام لا يبطل به لكنه حرام فالمدخّن يأثم به.
صوم استيجار:
* أخذت مبلغاً من المال لقاء صيام شهر ولم أفعل بذلك، فما العمل؟
* أما أن تُرجع المال إلى أصحابه أو تصوم.
صيام 30 يوماً:
* وجب عليّ قضاء شهر رمضان لفوات الصيام فيه، وكان عدد أيامه 30 يوما،ً وصمت قضاء في شهر بلغت أيامه (29) يوماً، فهل يكفي؟ أم يجب صيام اليوم الثلاثين؟
* يجب زيادة يوم.
خامساً: الخمس والزكاة
تخميس مبلغ مقترض:
* قمت في دولة أجنبية باستلام قرض من البنك لشراء سيارة، علماً أن رأس السنة في إخراج الخمس هو في يوم 15/3، وقمت بشراء السيارة بتاريخ 10/3 وقد بعتها بعد فترة لمدة أسبوعين، فهل على المبلغ الذي اقترضته من البنك خمس؟
* ليس على المبلغ خمس، ولكن إذا ربحت في السيارة ولم تكن السيارة للمؤنة، والمفروض أنها ليست للمؤنة، لأنك بعتها فعليك أن تخرج ما دفعته وفاءً للدين. أما الدين الباقي فليس فيه أرباح ولا يجب تخميسه.
زكاة الأموال النقدية:
* ما رأيكم في الزكاة، هل هي واجبة في الأموال النقدية أم لا؟ فإذا كانت واجبة فلماذا لا تدفع الزكاة وهي منصوص عليها في الكتاب والسنّة؟
* رأينا على الأحوط وجوباً أنه لابدّ من دفعها في الأموال النقدية.
شمول الخمس للفائدة:
* هل يختصّ الخمس بغنائم دار الحرب؟ أم يشمل كلّ فائدة؟
* الخمس، كما ورد في حديث عن أحد أئمة أهل البيت(ع) يجب في الفائدة أيضا. وهذا هو تفسير الآية الكريمة ]وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ[(1). حيث تفسّر الغنيمة لغويا بما يحصل عليه الإنسان من خلال عمله وجهده مطلقا في الحرب وغيره.
الخمس في عصر الغيبة:
* في حال عدم وجود المعصوم، هل ينتفي وجوب دفع الخمس؟
* الظاهر في النظرية المعروفة والمشهورة بين علمائنا أجمع، أنه يبقى استمرار الخمس حتى في زمان غيبة المعصوم. أما أن هناك حديثاً في أن الأئمة(ع) حلّلوا شيعتهم من ذلك، فهذه نظرية لا يقول بها أحد الآن.
عشر الغنيمة للفقراء:
* اعترف السنّة والشيعة بلزوم دفع عشر الغنيمة لأقارب الرسول(ص) فهل في ذلك تفضيل لهم على سائر الناس، وهل يدفع للأغنياء من أقارب الرسول(ص)؟
* لا يجوز أن يدفع إلاّ للفقراء منهم أي لمساكينهم وأيتامهم وأبناء سبيلهم ولا يجوز الدفع للأغنياء، وهذا ليس تفضيلاً، إنما هو سدّ للحاجة، وإذا ما فضل شيء من سهمهم، وهو سهم قربى الرسول(ص) (السادة) أعطاه ولي الامر للفقراء الآخرين. ولذلك فهي ليست ثروة لهم بحيث يعطونها مهما كانت الظروف، بل يُسدّ بها فقرهم. وإذا فضل من ذلك شيء فيعطى للناس الآخرين.ولذلك فهم لا يتميّزون عن غيرهم في عملية سد الحاجة والفقر.
مشاركة من لا يخمّس:
* هل يجوز مشاركة إنسان مسلم لا يخمّس ماله؟ أو مشاركة إنسان مسيحي؟
* يجوز ذلك.
دفع الصدقة للسيّد:
* هل يجوز دفع الصدقة للسيد إذا كان فقيراً؟
* الصدقة المستحبة جائزة.
الأرض كمورد من موارد الخمس:
* من موارد الخمس كما يقول الفقهاء هو الأرض التي يشتريها الذميّ من المسلم حيث يجب على الذميّ أن يخمّس الأرض التي اشتراها. والسؤال هنا: هل الحكم يجري في ظل دولة إسلامة؟ أم بشكل مطلق؟
* لا يوجد عندنا هذه الإيام أهل ذمّة. نعم عندنا معاهدون في الدول الإسلامية، أمّا نظام الذمّة فليس معمولاً به.
تخميس أرض:
* كنت طالب حوزة وجمعت من راتبي مبلغاً واشتريت أرضاً صغيرة، وأنا الآن لاجئ في أوروبا حيث تركت طلب العلم، فهل تبقى الأرض ملكي أم ترجع للحاكم الشرعي؟
* هي ملكك لكن عليك أن تخمّسها.
تخميس أرض:
* إذا لم تكن هذه الأرض مقدّمة للبناء عليها ولو في المستقبل فيجب تخميسها، فالقادر على شراء الأرض قادر على أن يدفع ولو قسماً من الأرض كخمس.
نصاب الذهب والفضّة:
* قيل إن الاجماع على نصاب الذهب والفضّة كان مبنياً على عرف سائد في عصر رسول اللّه(ص) إذ كان الدرهم الفضّي يأتي من فارس والدينار الذهبي من دولة الروم، وكان الدينار يصرف بعشرة دراهم، أمّا الآن فالوضع اختلف، فاقتضى الاجماع الصحيح توحيد النصاب، فهل النصاب الذي نتعامل به حالياً صحيح وفقاً لهذه المقولة؟
* إنّ النصاب يلاحظ من خلال الوزن، وهناك رأي غير مشهور، وهو أنّه كما تجب الزكاة في المسكوكات من الذهب والفضّة تجب في الاوراق النقدية والتي يحسب النصاب فيها بحسب ما تمثله من قيمة.
والبعض لا يرى خصوصية في ذلك، أي أنّ الخصوصية هي خصوصية العملة وليست خصوصية الذهبية والفضية، إذ لم يعد هذا رائجاً كعملة. ومازال الموضوع محلّ بحث. فالبعض يستفيد من الحديث ((إنّ اللّه تعالى فرض في أموال الأغنياء للفقراء ما يكفيهم ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم)). فإننا إذا أردنا أن نقتصر على الزكاة بحسب فتوى فقهاء الشيعة فإنّ ذلك لا يكفي.
تخميس قبر:
* عندي مبلغ وفّرته في (البنك) لانشاء قبر لي بعد وفاتي، لكنني أعيش في المهجر وقد تحرق جثة الميت الذي لا إمكانية لديه لبناء قبر، فهل أخمّس المبلغ؟
* نعم يجب أن تخمّس المبلغ فهو نظير أي مورد مالي آخر مما يجب تخميسه وفقاً للشروط الشرعية.
التخميس بالنسبة للطفل:
* طفل لم يبلغ سنّ التكليف، ولديه مبلغ من المال ومرّ عليه الحول، فهل يدفع الخمس؟
* هناك رأي يقول إنّه يجب عليه دفع الخمس، ولكن رأينا أنّه لا يجب.
إعطاء الخمس للوالدين:
* هل هناك إشكال في إعطاء الخمس للوالدين، وكذا الحال بين الزوجين في حال الاستحقاق؟
* بالنسبة إلى الوالدين هناك إشكال واحتياط وجوبيّ في عدم الإعطاء فيمن تجب نفقته ولابدّ له من أن يدفع لهما ما يحتاجانه من ماله الخاص، وكذلك الأمر بالنسبة للزوج يعطي لزوجته الخمس إذ لا يجوز ذلك لانّها واجبة النفقة عليه فهي تملك نفقتها في ذمته، وعليه أن يسد حاجتها من ماله الخاص، لكن يمكن للزوجة أن تعطي الخمس لزوجها اذا كان فقيراً محتاجاً لأنه لا تجب نفقته عليها.
تخميس أموال صبيّة:
* ابنتي عمرها عشر سنوات لديها بعض الحلي ومبلغ 3000 ليرة سورية، فهل يجب تخميس مالديها الآن وتعيين سنة خمسية لها؟
* نعم يجب ذلك.
* بشكل عام هل يجب الخمس على الولد الذي يعيش في كنف والديه وليس له دخل خاص به؟ وما القول بالهبة؟
* اذا كان له دخل مستقل فعليه الخمس، وأمّا الهبة فالرأي في وجوب الخمس فيها مختلف، ورأينا أنه يجب الخمس فيها.
الزكاة للعاطلين:
* هل يجوز دفع الزكاة لغير القادرين على العمل؟
* لا تجوز الزكاة لذي مرّة قوي، وهو القادر على العمل التارك له.
الاذن في إرسال خمس إلى العراق:
* عندي خمس أريد أن أرسله إلى العراق، فهل أرسله بدون اذن الحاكم الشرعي؟ وهل أخبر الذي أرسله أنّ هناك خمساً أو لا؟
* لابدّ من مراجعة الحاكم الشرعي بالخمس ليعطي رأيه في هذا الموضوع، ولا بدّ لك أن تبيّن لهذا الإنسان أنّه خمس، لأنّه ربما يكون غير محتاج فيعتبره هدية منك ويأخذه على أساس أنه هدية لا على أنه خمس.
الخمس للوالدين:
* إنّني أعيش في إحدى الدول الأوروبية ولديّ خمس وأهلي في العراق بأمسّ الحاجة له، فهل يجوز لي إرساله إليهم وإلى والدي الذي هو رجل كبير السن ؟
* ليس لك أن ترسل الخمس إلى والديك، لأنّ هناك احتياطاً إلزامياً في أنّ الخمس لا يدفع لواجب النفقة سواء كان من الوالدين أو من الأولاد، ولكن يمكن أن ترسله إلى أقربائك، ونحن رخّصنا في إرسال نصف الخمس إلى المحتاجين في العراق.
اجتماع الخمس والزكاة:
* هل يترتب على مال معين الخمس والزكاة معاً؟
* قد يجتمع الخمس والزكاة فيما اذا بلغ الذهب أو الفضة النصاب وكانا من الأرباح.
مفهوم الخمس:
* عند استقراء تاريخ زمن الرسول(ص) ومتابعة الروايات التي نقلت عنه(ص) نرى أن سيرته فيما يتعلّق بالخمس كانت قائمة على حصره في مورد الغنيمة الحربية، وأنّ طريقته في صرف الخمس كانت قائمة على التساوي بالعطاء ولم يكن يفرّق بين هاشمي وغيره، وهذا ما قامت عليه سيرة الإمام علي(ع). ولكن في زمن الصادقين o لاحظنا أن مفهوم الخمس توسّع ليشمل بالإضافة إلى الغنيمة المكاسب والكنز والمعادن وما يستخرج بالغوص. وأمّا التفريق بصرف الخمس بين الهاشمي وبين غيره فليس هناك من حديث صحيح فيه، فكيف التوفيق بين السيرتين؟
* أولاً: هناك أحاديث كثيرة وردت في مكاتيب الرسول(ص) كان يطلب فيها من الناس الذين يكاتبهم بالخمس، وثانياً: فإنّ المعادن والغوص مما يجب فيه الخمس وهذه قضية مشتركة بين السنّة والشيعة. وأما المكاسب فقد وردت في أحاديث أهل البيت(ع) وحديثهم حديث رسول اللّه(ص)، وكلمة ]وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ[(2). مطلقة، فلم يقل غنائم دار الحرب فقط. وأمّا التفريق بين الهاشمي فمن خلال قوله تعالى ]وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ[(3). وهناك أحاديث في هذا المجال،والمسألة ليست عنصرية، فالنصف يعطى للفقراء والحصّة الأخرى تسمّى سهم السادة، فإذا فضل منها شيء فيعطى لغيرهم، ولا يعني سهم ذوي القربى ان تعطيهم من الخمس فوق العادة بل تعطيهم بقدر حاجتهم واذا فضل شيء فيأخذه ولي الأمر ويصرفه في الموارد الأخرى. وقد وردت في ذلك أحاديث عن أهل البيت(ع) ((قال اليتامى والمساكين أيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم)). فالذي يريد أن يحكم لابدّ أن يكون لديه اطلاع على الفقه الإسلامي والأحاديث بشكل دقيق.
سادساً: الحج
الحجّ نيابة عن الوالد:
* إذا كان والدي معتقلاً ولا أعرف مصيره ما إذا كان حياً أو ميتا، وأردت أن أحجّ عنه نيابة، فماذا تكون نيّة الحج وجوباً أم استحباباً؟ وهل تجزي عنه هذه الحجة إذا خرج؟
* لابدّ أن تكون استحباباً لأنّه ليس معلوما هل هو مستطيع لحجّ الاسلام أم لا، فإذا كان مستطيعاً فلا يصّح النيابة عنه الاّ في حالة خاصّة، وهي حالة قدرته المالية على الحج وعدم قدرته الجسدية على الأداء. ولا تجزي هذه الحجّة إذا خرج من السجن.
سابعاً: الزواج والطلاق
ثامناً: أموال وبنوك
تاسعاً: السلوك والمعاملات
استخارة العزم على السفر:
* عزمت على سفر وأريد استخارة اللّه في سفري، فأرجو توضيح كيفية الاستخارة؟ وهل الاستخارة قبل العزم على الأمر أم بعده ؟
* الاستخارة بعد الدراسة والاستشارة، فإذا وصلت بعد الدراسة والاستشارة إلى 50% هنا و50% هناك فعند ذلك يمكن لك أن تستخير وإلاّ فأن اللّه قد أراد لنبيه – ولمن اتبعه – أن يأخذ بأسلوب المشاورة فيما يهمّة من الأمر ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه[(1).
الكافر المَحَرم:
* هناك أخت مسلمة ارتدّ أخوها وتنصّر، فهل يجوز لها أن تظهر أمامه بدون حجاب أو تصافحه؟
* الكفر لا يخرجه من أن يكون محرما عليها، لأنّنا لو فرضنا أن عند الإنسان إخوة كفرة، أو كان أبوه كافرا أو أن أبا المرأة وأخاها كانا كافرين، فإنهما يبقيان من المحارم ولا يخرجان عن المحرمية بذلك.
العمل في فندق يبيع الخمر:
* هناك فندق يبيع في مطعمه الخمر ولحم الخنزير، والسؤال هو ما حكم العمل في هذا الفندق كموظف استقبال، أو في إدارة التوظيف، أو موظّف أمن وما إلى ذلك علماً بأنّ راتب هذه الوظائف من دخل سكن النـزلاء ومن بيع الخمر، كما أنّ بعض هذه الوظائف لا تباشر فيها المحرّمات أو المساعدة المباشرة عليها؟
* إذا لم يكن المورد من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تكن الوظيفة محرّمة، ولا يعلم المال الذي يتقاضاه: هل هو ثمن الخمر أو لحم الخنزير؟ فيجوز للإنسان أن يتوظّف في هذا الفندق، ويمكن أن يحكم بحليّة هذا المال.
ناقض العهد:
* استأجرت صيدلية ودفعت عنها سرقفلية وبعد فترة استأجرت صيدلية أخرى قريبة من الأولى وجائني أحد الصيادلة ودفع لي سرقفلية عن الصيدلية الأولى، ولكنّي رفضت لأنّي لا أريد أن تكون صيدليتان في مكان واحد، فجاءني صاحب الملك وقلت له: سوف أرجع لك الملك على شرط أن لا تؤجرّها لصيدلي آخر، وسوف أتنازل لك عن حقي في السرقفلية على ذلك ووافق وأقسم باللّه العظيم على أن لا يفعل، لكنه أجّرها إلى صيدلي آخر فنقض العهد، فما هو موقف الشارع؟
* في هذه الحال لك الحق أن ترجع في العقد لأن الاتفاقية المشروطة التي بينكم نقضت.
ترك الشباب أوطانهم:
* هل يجوز للشباب ترك أوطانهم للعمل أو حفاظا على دينهم، علما أنّ ذلك يؤدّي إلى إفراغ الوطن من عنصر الشباب؟
* عندما لا يسمح الوطن للشباب أن يعيشوا بكرامتهم، أو يحافظوا على دينهم، فلهم أن يهاجروا إلى بلاد أخرى بشرط أن لا يضعف دينهم في تلك البلاد. وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في (نهج البلاغة) ((ليس بلد أولى بك من بلد خير البلاد ما حملك))(2).
التلاعب بعدّاد الماء والكهرباء:
* هل يجوز لنا التلاعب بعدّاد الكهرباء أو الماء من أجل تخفيض أجور الفاتورة؟
* لا يجوز ذلك.
جواز النظر إلى الأجنبية:
* ذكرتم في أحد كتبكم أن بإمكان المسلم النظر إلى المرأة غير المسلمة ولا حرج عليه في ذلك، فكيف تبيحون النظر إلى الأجنبية؟
* هذه المسألة يذكرها الفقهاء في رسائلهم العملية، بأنه يجوز النظر إلى اللاتي لا ينتهين إذا نهين، كالسافرات اللاتي إذا طلبت منهن أن يتحجّبن فلا يطعنك في ذلك، فهنا لا يجب أن يغمض الناظر عينيه وإن كان عليه أن لا ينظر بريبة وتلذّذ. ولا فرق في ذلك بين المسلمات وبين غير المسلمات على رأينا ورأي الكثير من العلماء.فكلّ من لا تنتهي إذا نهيت يجوز النظر إليها بشكل طبيعي بدون تلذّذ ولا ريبة.
إثبات الحدود بالصور:
* هل تثبت الحدود الشرعية بالصور الفوتوغرافية، أم تشترط البيّنة الشرعية كالشهود، وذلك من جهة إمكانية التزوير؟
* مع إمكانية التزوير لا قيمة للصور الفوتوغرافية، ولابد من الاعتماد على الشهادة.
الوقوع في بئر إرتوازية:
* إذا وقع إنسان ما في بئر ارتوازية ضيّقة جدا، ولم نستطع إخراجه ونحن نسمع صوته فهل يحقّ لنا قتله بناء على طلبه؟ أم نبقيه حيا في البئر حتى يموت بنفسه؟
* لا يجوز لنا قتله، بل علينا أن نقتل جوعه بأن نرمي له الطعام والدواء، بل أن نعمل على إيجاد مخرج له ولو بفتح نفق إلى جوار البئر وما إلى ذلك.
البصاق والقمامة:
* هناك ظاهرة صحيّة مؤسفة، وهي أنّك ترى الناس يكثرون من البصاق في الشارع، وهناك من يرمي القمامة على الأرض، مما يؤدي إلى تفسخّها وانتشار الأمراض، فنرجو أن تبيّنوا الموقف من ذلك من الناحية الشرعية؟
* علينا أن نحافظ على نظافة شوارعنا كما نحافظ على نظافة بيوتنا، لاسيما إذا كان ما نلقيه في الشارع من البصاق أو المخاط أو القمامة يمكن أن يؤدّي إلى انتشار الأمراض من خلال الميكروبات. لذلك نقول إنّ علينا أن نحافظ على البيئة وعلى النظافة في الشارع كما نحافظ على ذلك في بيوتنا من موقع شرعي وأخلاقي واجتماعي فانّ كلّ ما يضر الناس مما يترك تأثيره السلبي على البيئة العامة محرّم شرعاً.
تسمية الحيوان باسم الإنسان:
* كما هو الحال في الغرب حيث يربّون القطط والكلاب وكثيراً من الحيوانات الأليفة، فلقد بدأت هذه العادات تنتشر عندنا في الوطن العربي، وبعض الناس يسمّون قططهم أو كلابهم بأسماء عربية، وبأسماء قد تكون مقدّسة عندنا، فهل يجوز أن نسمّي الحيوان بأسماء الإنسان؟
* لا مانع أن نسمي الحيوان بأسماء الإنسان إلا ذا كانت الأسماء مقدّسة فلا يجوز ذلك. كما لا مانع من اقتنائها مع المحافظة على الأحكام الشرعية المتعلقة بها. وكما ذكرت مرارا فيجب أن نعرف ما نأخذ من الغرب وما ندع، وأن تكون لنا شخصيتنا المستقلة والمطبوعة بهويتنا الإسلامية، وأن لا نقلّد كلّ صرعة أو صرخة تأتينا من هنا أو هناك.
إخفاء الذقن في الحجاب:
* في حجاب المرأة هل التحنّك (إخفاء الذقن) واجب أم لا؟ وهل التحنّك واجب أثناء الصلاة في المنـزل؟
* المقصود بالتحنّك تغطية الذقن باعتبار أنه يجوز للمرأة أن تكشف عن وجهها في الصلاة، وربما كانت تغطية الذقن باعتبار انه ليس هناك خط دقيق بين ما يجوز كشفه وما لا يجوز، ولذلك فتغطية الذقن تأتي من باب المقدمة حيث تحاول أن تستره حتى لا يكون هناك كشف لما يجب ستره احتياطا.
البنطلون كلباس شرعي:
* سمعنا من بعض الإخوان أنكم تعتبرون البنطلون من اللباس الشرعي المشترك بين النساء والرجال، فنرجو توضيح المسألة حيث التبس علينا الأمر، هل لبسه للمرأة من غير عباءة أو جبّة إسلامية جائز؟
* هناك في المسألة جانبان: فمرة نقول لبس البنطلون من باب التشبّه بالرجال، فلا يجوز للمرأة أن تتشبّه بالرجال بلباسها. ولا يجوز للرجل أن يرتدي لباس المرأة، وعندما يكون اللباس مختصّاً بالرجال فلا يجوز للمرأة أن تلبسه، أو مختصّاً بالنساء فلا يجوز للرجل أن يلبسه. لكن إذا أصبح لباسا عامّاً يلبسه الرجال والنساء على السواء كما هو الحال الآن، حيث تحوّل البنطلون إلى لباس عام للرجال والنساء فليس هناك تشبّه. وهناك جانب ثان في المسألة وهو جانب معنوي. فالحجاب المادي هو ستر الجسد، والحجاب المعنويّ، أن لا يكون في ما تلبسه المرأة، حتى لو كان يستر جسدها، أي إثارة. وهذا يختلف حسب اختلاف تفصيل اللباس وطبيعة اللباس ولا إشكال أن لبس العباءة هو أكمل، لكن ذلك جائز إذا لم يكن مظهرا للتبرّج أو لم يكن موجباً للإثارة وربما يختلف الأمر في ذلك حسب اختلاف البلدان أو المجتمعات.
مراقبة الكاميرا الخفيّة:
* بعض رؤساء العمل يقومون بمراقبة العمّال من خلال الكاميرا الخفيّة، فهل تجوز مثل هذه المراقبة، سواء كان بعلم العمّال أو بعدم علمهم، وهل تقع مثل هذه المراقبة تحت قوله تعالى ]وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه تَوَّابٌ رَحِيمٌ[(3)؟
* الحكم يختلف، فتارة يتجسّسون ويراقبون العمّال ليعرفوا طبيعة أداء عملهم حتى ينتبهوا الى الأخطاء من خلال الإشراف عليهم في إخلاصهم بالعمل، فهذا من حقهم ولا مشكلة في ذلك. أمّا إذا كان التجسّس على أشياء لا ترتبط بالعمل، بل بخصوصياتهم الشخصية التي لا علاقة لها بالعمل فلا يجوز، حيث يصبح ذلك من باب التجسّس المحرّم.
إجازة الرقص والغناء:
* أثار البعض عليكم أنكم تجيزون الرقص والغناء بمختلف أشكاله، فما هو جوابكم على هذه الإثارات؟
* إن رأيي في الرقص هو رأي السيد الخوئي (قدس) وهو أنّ الرقص ليس محرّماً بذاته، وأعني رقص المرأة لزوجها، ورقص الرجال مع بعضهم البعض، ورقص النساء مع بعضهن البعض. أما الرقص المختلط والرقص الخليع فلا يجوز شرعاً. وأمّا الرقص الإيقاعي، وهو الرقص الذي ليس فيه إثارة للشهوات فهو جائز شرعاً.
وكما قلت، كان السيد الخوئي يفتي بذلك، وفتواه موجودة في كتاب (المسائل الشرعية) الذي يجمع فتاواه كلّها. ونحن نؤكّد أنّه لم يرد عندنا دليل على حرمة الرقص، فإذا لم يكن خليعاً ولم يكن مختلطاً فهو جائز. وأمّا ما يقوله البعض من حرمة اللهو، فنحن أيضاً نتفق مع أستاذنا السيد الخوئي (قدس) من أنه لا دليل على حرمة اللهو بكافة أشكاله ومطلقاً، بل هناك لهو خاص محرّم دلّ الدليل عليه.
أمّا بالنسبة للغناء فنحن نقول إنّ الغناء الذي يثير الشهوات محرّم كما كان السيد الخوئي يقول بذلك، والغناء المحرّم هو ما يتناسب مع ألحان أهل الفسوق. نعم، الغناء الذي يكون مضمونه حقّاً كمن يغنّي بمناجاة اللّه أو في مدح النبي(ص) أو بمدح أهل البيت(ع) أو يغنّي بالأشياء التي تمثل مظاهر خلق اللّه كالربيع وكالطبيعة وما أشبه ذلك، فإن هذا الغناء ليس محرّماً، لأن دليل الغناء الذي يستدلّون به وهو قوله تعالى ]وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ[(4). يعني قول الباطل، وكذلك قوله تعالى ]وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ[(5). فالغناء المحرّم هو الغناء الذي يضلّ عن سبيل اللّه، أمّا الغناء الذي يمثّل الحقيقة والأشياء التي ترتفع بمستوى الإنسان، فهذا لا يضلّ عن سبيل اللّه. وقد سألت السيد الخميني (قدس) عن الغناء الموجود في الإذاعة الإيرانية في ذلك الوقت، فقال إن هذا ليس مما يضلّ عن سبيل اللّه، فالغناء في حقيقته عبارة عن الترجيع، ترجيع الصوت وترديده. وحتى الأذان فإنه غناء بنحو ما لكنّه ترجيع جائز، فكلّ ترجيع للصوت سواء كان في شعر أو في نثر فهو غناء، لكنّ المسألة هي في المضمون فهو الذي ينقله من عنوان إلى عنوان آخر.
السؤال عن طريقة الذبح:
* هل يجب سؤال أصحاب المحالّ التجارية التي تباع فيها اللحوم في أوروبا عن طريقة الذبح إذا كانوا مسلمين؟
* إذا كانوا مسلمين، ولم يكونوا متساهلين فلا بأس. أمّا إذا كانوا مسلمين يشترون اللحم كما يشتريه غير المسلم ولا يعرفون أصله وفصله فعلينا أن نسألهم.
* وكيف الحال إذا كان من الصعوبة البحث والتحقق عن كافّة المصادر التي تزوّد هذه اللحوم؟
* إذا كان هذا يبعث على الاطمئنان فلا بأس بذلك.
سلام الكافر بتحية الإسلام:
* إذا سلّم علينا الكافر بتحية الإسلام، فهل يجب الردّ عليه بنفس التحية؟
* علينا أن نردّ تحيته، ولكن ليس من الضروري أن يكون الردّ بتحية الإسلام التي ربّما تكون تحيّة مختصّة بعلاقة المسلمين بعضهم ببعض.
تطبيق حكم قطع يد السارق:
* يقول تعالى ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[(6). فكيف يمكن تطبيق هذا الحكم في عصرنا الحالي؟ علماً أنه عند تعطيله انتشرت السرقة بشكل كبير في المجتمع، فمن المسؤول عن تعطيل هذا الحكم الإلهي؟ وإن طبّق فكيف يمكن للإنسان أن يتوضّأ؟
* أولاً: إنّ هذا الحكم يطبّق في بعض البلدان الإسلامية، ومن الطبيعي فان أغلب القوانين الموجودة في البلدان الإسلامية هي قوانين علمانية وليست قوانين إسلامية. أمّا مسألة كيف يتوضأ؟ فهناك حل شرعي كما في الحديث انه لا يقطع من أصل الكف ولكن من الأصابع؟ وهذا هو حديث الإمام الجواد(ع) عن قوله تعالى ((إن المساجد للّه)). فلا يقطع ما كان للّه ولذلك فإنّ القطع هو للأصابع، ويمكن أن يتوضّأ من خلال ذلك.ثم لا مشكلة لو كان القطع من مفصل الكف لأن بإمكانه الوضوء في الباقي من اليد إلى المرافق كما لو قطعت الطف في حادث فلا تعطل حدود اللّه بسبب ذلك.
إشكال حول لبس الفتاة البنطال:
* لقد جوّزتم لبس البنطلون للنساء، وقد أصبح الآن لباساً عامّاً للنساء والرجال، فهل يجوز لبسه بدون أن يستر جسمها؟(*)
* لا أعرف كيف يفهم بعض الناس الفتاوى، ففي هذه المسألة عندنا نقطتان:هناك حكم شرعي واضح وهو انه لا يجوز للرجل أن يلبس لباس المرأة ولا يجوز للمرأة أن تلبس لباس الرجل، ولكن البنطال (البنطلون) صار اليوم لباساً مشتركاً بين الرجال والنساء، هذا أمر. والأمر الثاني هو أن المرأة عندما تريد أن تخرج يجب أن تستر جسدها، إذ لا يجوز شرعاً أن تلبس ما يشفّ أو يصف جسدها أو يحقّق أي لون من ألوان الإثارة، ففي قبال هذا الحجاب المادي، هناك حجاب معنوي، وهو أن لا يكون ما تلبسه موجباً للإثارة سواء من حيث الألوان أو من حيث التفصيل أو من حيث طبيعة الموضوع. لذلك فنحن لا نقول بجواز لبس البنطلون أو عدم جوازه، فهذا أمر يرجع للعرف العام، وقد تختلف البلدان في تقدير ذلك، ولكن يبقى الستر الشرعي شرطا في لباس المرأة، سواء كان بنطالاً أو غير بنطال.
لبس الفضّة للرجل:
* هل يجوز لبس القلادة الفضّية بالنسبة للرجل، وهل ذلك مناسب إذا كان جائزاً؟
* يجوز ذلك، لكنها ليست من تقاليدنا.
الانتماء لحزب غربي خدمة للمسلمين:
* ما رأيكم بانتماء المسلم المغترب لأحد الأحزاب السياسية الغربية من أجل خدمة المسلمين وإيصال صوتهم إلى الحكومات الغربية؟ وهل هناك فرق بين ما إذا كان لهذا الحزب مضمون فكري أو مجرد إطار مهني أشبه بالنقابات العمالية؟
* على الإنسان أن يدرس الأمر على الأرض، فإذا فرضنا أنّ دخوله في هذا الحزب لا يزيد الحزب قوة إذا كان للحزب مضمون فكري، وكان يتوقف على دخوله خدمة مصالح المسلمين ورعاية أمورهم فلا بأس، وطبعاً ]بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ^ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [(7). فيجب عليه أن يدقّق جيداً في هذه القضايا. وليست هذه إجازة للدخول في هذه الواجهات بل يحتاج الأمر إلى دراسة ميدانية ثم تطلب الإجازة من المرجع.
بين الغناء والنشيد:
* هل يوجد فرق بين الغناء والنشيد؟
* في العرف يفرّقون بينهما، ولكن في الواقع فإن الغناء ترجيع الصوت والنشيد كذلك ترجيع الصوت. ولكن يحرم من الغناء ما كان متناسباً مع ألحان أهل الفسق، وهي التي تثير الشهوات وتحرّك الغرائز.
صوت المرأة العالي:
* صوت المرأة العالي، أليس بعورة؟
* ليس عورة، ويمكن للمرأة أن تخطب وتتكلّم،فالزهراء(ع) سيدة نساء العالمين خطبت في مسجد رسول اللّه(ص) وطبيعي أن يكون صوت الخطيبة مسموعاً،لأنها كانت تريد أن تسمع كلّ من في المسجد، والسيدة زينب(ع) خطبت في أهل الكوفة وفي مسجد يزيد.ولذلك فصوت المرأة ليس عورة، سواء كان عالياً أو منخفضاً. لكن اللّه أراد للمرأة عندما تتحدّث مع الرجال أن تتحدث بصوت طبيعي ]فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مرض[(8). وهذه شهرة لا واقع لها أن صوت المرأة عورة.
أكل الناذر من النذر:
* هل يجوز لصاحب النذر أن يأكل منه إن كان المنذور له هم أهله؟ وما هو المقدار الواجب أكله لأهل المنذور له؟
* النذر عادة يدفع عن روح المنذور له وللفقراء، إلاّ إذا قصد الناذر أن يأكل منه أو يأكل أهله منه، فالنذر يتبع قصد الناذر.
خياطة فم الميت:
* في أميركا عندما يموت الإنسان يقومون بخياطة فمه من الأسنان أي يطبقون الفك الأعلى على الأسفل ويخيطونهما من خلال إمرار الخيط عن طريق اللثة، فهل يعتبر هذا من المثلة أم هو جائز في شرعنا؟
* هذا ليس من المثلة، ولكنّه ليس من تقاليدنا وعاداتنا وليس من شرعنا أيضاً.
شهادة الباطل:
* أنا امرأة متزوجة ولي ثلاثة أطفال، وتوفي زوجي وله عقار، فهل يجوز لي أن أشهد في المحكمة أن زوجي ليس لديه أطفال، حتى نستطيع بيع العقار ونأخذ حقّنا لأنّ الأطفال قصّر؟
* لا يجوز ذلك، لأنّها شهادة باطل.
تشييع المرأة الجنازة:
* هل يجوز للمرأة السير خلف الجنازة والدخول إلى المقبرة وحضور مراسم الدفن؟
* ليس حراماً، ولكنّه غير مستحب لا سيما إذا خضعت لعاطفتها ومشاعرها الخاصة في أسلوب الإثارة الذي يخرج الجو الجنائزي الروحي عن طبيعته الروحية الباعثة على التأمل والتذكّر والانفتاح على الآخرة في خط التقوى وحساب النفس.
* وإذا وقع كيف تكون العدة؟
* ]وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[(9).
إذن الأبوين بالهجرة:
* هل تتوقف الهجرة المشروعة للحفاظ على الدين على إذن الأبوين؟
* لا تتوقف على أذنهما إذا كان الإنسان يهاجر ليحافظ على دينه.
حدود بعض الجرائم:
* لماذا ليس في بعض الجرائم حدود أو قصاص مثل الربا والغصب؟
* هذه جرائم يرجع فيها إلى الحاكم الشرعي، فهناك التعزيرات التي تجري على العاصي وعلى الجرائم التي لم يوضع لها حد.
الاهتمام بيوم النيروز:
* يهتم بعض الناس بيوم النيروز وكأنه عيد من أعياد المسلمين، فهل هناك دليل شرعي على ذلك ؟
* الروايات الواردة في ذلك ليست سليمة السند، بل هناك رواية عن الإمام الكاظم(ع) يرفض فيها كونه عيداً.
المهم أن (النيروز) ليس عيداً إسلامياً، فالعيد عندما يكون مناسبة مفرحة كما في النيروز أي (اليوم الجديد) أو عيد الربيع فلا مشكلة في الاحتفال به. فتارة يكون للعيد مدلول ضد الإسلام كما لو كان مدلولاً مجوسياً كعبادة النار فمن غير الجائز شرعاً الاحتفال به. أما الأعياد التي تتعلّق بالطبيعة وبالاستقلال وبالأم وغيرها فلا مشكلة فيها. نعم، لا يجوز اعتبارها أعياداً إسلامية بالمصطلح الإسلامي للعيد، ولكن الإسلام لا يتنكّر لأعياد الشعوب عندما لا ترتبط بعمق تأريخي مخالف للعقيدة الإسلامية أو للخطوط الإسلامية الشرعية.
بناء صالة أفراح إسلامية:
* ما هو رأيكم ببناء صالة أفراح إسلامية لمناسبة الخطبة والزواج وبجوارها مسجد ؟
* لا مشكلة في ذلك، وعلى المسلمين أن يبادروا إلى مثل هذه الصالات باعتبار أنَّ الصالات الأخرى قد لا تجتمع فيها الشروط الشرعية.
الملابس التي عليها كلمات أجنبية:
* إذا كان على الملابس كتابة أجنبية فهل يجوز الصلاة فيها؟
* يجوز الصلاة فيها ولكن حذار من وجود دعاية مجانية لأمريكا، أو دعاية مجانية لشركة أميركية أو لفنانة أجنبية أو لغير ذلك مما قد يدفع الناس مبالغ على هذه الدعاية.
تغيير اسم الداخل إلى الإسلام:
* دخل شخص إلى الإسلام، فهل يجب عليه تغيير اسمه بعد إسلامه؟
* لا يجب عليه ذلك.
الولاية على البالغة:
* من له الولاية على البنت إذا كان أبوها متوفى أو فاقداً عقله؟
* لا ولاية لأحد عليها إذا كانت بالغة رشيدة.
الحيل الشرعية:
* يصدر عن بعض الناس تصرّفات غريبة في كثير من الأحيان، وهي أبعد ما تكون عن الإسلام وخطوطه، وإذا سألت أحدهم عن هذه التصرّفات يقول لك إنّ هذه حيلة شرعية، فهل هناك حيل في الشرع؟
* لابدّ من دراسة المسألة، فقد تكون بعض التصرّفات تخضع لعناوين شرعية حقيقية وهي ليست حيلا، أما المسائل التي لا تخضع لعناوين شرعية حقيقية فلا قيمة لها.
غير ملتزمة بالحجاب:
* ابنة أخت زوجتي تعيش معنا في البيت وهي كبيرة ونتيجة لصعوبة الالتزام الكامل بالحجاب في البيت، ونظراً للفترة الطويلة التي عاشتها معنا، فهي لا تلتزم بالحجاب، فما هو حكم الشريعة في ذلك بالنسبة لها وبالنسبة لي؟
* من الناحية الشرعية هي أجنبية عنك، ولذلك فمن الطبيعي أن تتحجّب فذلك هو تكليفها، أو تسكن في مكان آخر. وأما إذا قبلت زوجتك أن تعقد عليها بحيث تصبح زوجتك مع وقف التنفيذ فعند ذلك يرتفع الإشكال. وعلى أية حال فيجب إفهامها بتكليفها الشرعي لتلافي الحرج.
دفع ديّة القتل:
* قتل طفل عمره (12) سنة أخاه من أبيه خطأ ببندقية كان يعبث بها، والمقتول كان عمره ستة أشهر. وبعد فترة طويلة طلب الوالد من ولده القاتل أن يدفع له ديّة بحسب القانون العشائري، فدفع ابنه مبلغ (18) الف دينار وقطع من المبلغ (1500) دينار بحجّة ما دفعه والده عنه. فما هو الحكم؟
* أساساً لا يتحمّل الولد الديّة، سواءً قتل أخاه عمداً أو خطأ، فعمد الصبي خطأ تدفعه العاقلة وهم الأقارب، ولذلك، فهذا الأب هو أحد العاقلة فلا بدّ أن يدفع الديّة. ولما كانت الديّة ديّة ولده فعليه أن يدبّر الأمر مع أمّه أو مع من يرث الولد، ولكن على كلّ حال فان إجبار ولده على أن يدفع الديّة أمر غير مشرّع، ولا يجزي القانون العشائري في ذلك.
حرمة التدخين مطلقة:
* هل التدخين حرام مطلقاً، أم الحرمة خاصّة بالمبتدئين؟
* حرمته – في رأينا مطلقة – للمبتدئين ولغيرهم، لأنّه مضرّ بالجسد بإجماع الأطبّاء، وكلّ ما يضرّ الجسد فهو حرام.
التورية في القسم:
* هل يمكن التورية في قسم الزوج لزوجته بأنّه لن يتزوّج عليها، وأن ليس لديه امرأة أخرى، وهي متأكدة من خلاف ما يقول؟
* لا يجوز الكذب على الزوجة لاسيما القسم الكاذب، فالزوج هنا يسيء إساءتين: فهو لم يحترم اللّه من جهة، ولم يحترم الحقيقة من جهة ثانية. أما التورية فهي جائزة ما لم تؤد إلى نتيجة كنتيجة الكذب في المفسدة المترتبة عليها.
العلاقات في الجامعات:
* إنّ معظم الجامعات الآن هي جامعات مختلطة تفرض فيها أجواء خاصة لا تتناسب من الإسلام، فما هي حدود العلاقة التي يضعها الإسلام بين المرأة وبين الرجل؟ وهل هناك اعتبارات للصداقة التي يتذرّع بها معظم الشباب في سلوكهم؟
* الإسلام لم يحرّم الاختلاط في ذاته، ولكنّه حرّم الاختلاط الذي يؤدّي إلى الحرام، ففي الحجّ يطوف الناس رجالاً ونساءً ويسعون مع بعضهم البعض، وعلى الإنسان أن يعصم نفسه، ففي الحديث ((من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه))(10). وعليه أن يراقب اللّه سبحانه وتعالى في نفسه.
رضاعة الجدّة لحفيدها:
* رجل متزوّج من امرأة وبعد فترة رزقهم اللّه ولداً، وبعد الولادة كانت أم المولود مريضة فقامت جدة ذلك الولد من أمّه برضاعته، وقد كان الشخص على مذهب أبناء العامّة، فما هو الحكم الشرعي؟
* رأي إخواننا من أهل السنّة أنّه لا يحرم ذلك، ولكن المشهور من علماء الشيعة أنه يحرم ف (لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن). ورأينا أنه لا يحرم وفاقاً للشيخ الطوسي رحمه اللّه ولبعض الفقهاء.
تحريم لحم الخنـزير:
* أنا شاب أعيش في السويد وكثيراً ما سئلت من قبل السويديين عن السبب في تحريم لحم الخنزير، وقرأت كثيراً في هذا الموضوع ولكل شخصٍ رأيه في ذلك ولم اتوصّل لرأي مقنع، فما هو قولكم؟
* أولاً: نحن نقول بإننا نلتزم بتحريم لحم الخنزير لأنّ اللّه حرّمه، والله هو خالقنا، وهو المسيطر على أمورنا كلّها لأنّ اللّه قال في كتابه الكريم ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ[(11). وقال في الكتاب أيضاً ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[(12). فمن يسألنا نقول له نحن ندين بالإسلام ونعتقد إنّ القرآن من اللّه، وقد حرّم اللّه علينا ذلك، فلابدّ أن نلتزم به، ثم نحاول أن نبحث عن الأسباب في التحريم، لأنّ الأساس عند المسلم أن يؤكد التزامه بما أراده اللّه تعالى منه. ولقد ذكر المحلّلون الكثير من العناصر السلبية في لحم الخنزير، فالبعض يقول إنّه يمكن السيطرة عليها، ويمكن تطهيرها، وما أشبه ذلك. لكن الإسلام عندما يحرّم شيئاً فإنّما يحرّمه في الجانب النوعي للنتائج وليس في الجانب الشخصي.
إتباع الزوجة لزوجها في اللجوء:
* ارغب باللجوء إلى إحدى الدول الأوروبية ولكن زوجتي ترفض السفر معي، فما هو الحكم الشرعي؟
* لابدّ أن تتفاهم مع زوجتك في ذلك لترى مدى عذرها، وإذا لم يكن لها عذر شرعيّ في ذلك فلابدّ أن تتبعك، أمّا إذا كانت لديها موانع شرعية ومنطقية فحريّ بك أن تستمع لها وأن تدرس معها النتائج المترتبة على هذا القرار.
المساهمة بالبويضة والرحم:
* جاءت الآية ]إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ[(13). في ظرف لا يحتمل فيه المشاركة الحقيقية في الأمور، كما لو تساهم امرأة في البويضة وأخرى بالرحم فتكون النتيجة والدتين حقيقيتين كالأمّ الرضاعية والأمّ الحقيقية، فهل يقبل الشرع ذلك؟
* هناك إشكال في أخذ نطفة رجل آخر وبويضة امرأة أخرى، ولكن لو حصلت المسألة في مفروض السؤال، فتكون الأم بحسب رأينا وبعض العلماء الآخرين، هي صاحبة البويضة، كما أنّ الأب هو صاحب النطفة، لكن السيد الخوئي (قدس) كان يرى أنّ الأم هي الحامل وليست صاحبة البويضة.
إجازة لعمل المعصية:
* أنا شخص مسؤول في أحد القطاعات، وهناك موظف لديّ يطلب مني إجازة كحق من حقوقه، ولكنني على يقين مطلق بأنّه يطلب الإجازة لعمل المعصية، فهل يجوز لي أن إذن له؟
* إذا كنت تعتقد تماماً أنه سوف يفعل المعصية فالأولى بك أن لا تمنحه الإجازة، وعليك أن تتدبّر الأمور القانونية في ذلك.
النظر إلى صورة المطلّقة:
* طلّقت زوجتي، ولقد صوّرت وهي سافرة، فهل يحرم عليّ أن أنظر إلى تلك الصور بعد انتهاء العدّة؟
* لا يحرم عليك ذلك إذا لم يكن النظر بشهوة وتلذذ وريبة، ولكن لماذا تنظر إليها وأنت تركتها كلية؟ ألم تطلقها لأنك لا تحبّها، فلماذا تتذكرها إذاً؟
تسمية الفتاة (ملاك):
* ما حكم تسمية الأنثى باسم (ملاك) خاصة وان البعض يحرّم ذلك؟
* لماذا يحرّم ذلك؟ إن إطلاق اسم ملاك تشبيهاً بالملائكة لا مانع منه، ألسنا نطلق أسماء الأنبياء والأئمة(ع) على الناس وهم دونهم في المقام؟ وربما كانت تسمية الأنثى ب(ملاك) تشجيعاً لها لأن تتخلّق بأخلاق عالية، لأنّ هذا الاسم يرمز إلى الطهارة والصفاء.
(1) قضايانا على ضوء الإسلام. ط7. دار الملاك. بيروت. 1416ه / 1996م. ص201
(2) نفسه. ص204.
(3) تأملات في آفاق الإمام الكاظم t. ص11.
(4) تأملات في آفاق الإمام الكاظم t. ص10.
(5) المجلسي: بحار الأنوار. ج2. ب9. ص30. ح13.
(6) قضايانا على ضوء الإسلام. دار الملاك. ط7. ص163.
(7) في محاضرة لسماحته في ذكرى وفاة الزهراء u في 7/10/1995.
(8) نفسه.
(9) في ولادة أمير المؤمنين t. في 9/12/1995.
(10) نفسه. الندوة. ج1. ص101.
(10) راجع محاضرته في 14/7/1997.
(12) في محاضرة لسماحته في 14/7/1997.
(13) المحاضرة السابقة نفسها.
(14) من محاضرة لسماحته في 31/5/1997.
(15) البقرة: 134.
(16) من محاضرة لسماحته في 14/12/1996.
(17) من محاضرة لسماحته في 28/7/1995.
(18) من محاضرة له في 28/12/1996.
(19) من محاضرة له في 25/11/1995.
(20) من محاضرة له في 19/4/1997م.
(21) من محاضرة له في 8/11/1997م.
(1) البقرة:131.
(2) آل عمران:19.
(3) الأعراف:59.
(4) فصلت:30.
(5) الجن:18.
(6) لقمان:30.
(7) يونس:59.
(8) يوسف:106.
(9) يس:60-61.
(10) الكهف:103-104.
(11) يوسف:106.
(12) الحج:11.
(13) النساء:65.
(14) النساء:80.
(15) آل عمران:31.
(16) النجم:3-4.
(17) البقرة:131.
(18) الجاثية:18.
(19) التوبة:31.
(*) من (دعاء كميل) لعلي(ع).
(20) آل عمران: 59.
(21) فصلتك30-31.
(22) المطففين:26.
(*) ملاحظة: روايات المحاضرة مأخوذة عن (أصول الكافي) للكليني ج2. طبعة دار التعارف. بيروت 1411ه / 1990م. باب الشرك ص 378ـ 380.
(1) فصلت:53.
(2) الزمر:9.
(3) السجدة:18.
(4) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص36. ح1.
(5) فاطر:28.
(6) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص36. ح2.
(7) يوسف:87.
(8) الزمر:53.
(9) النساء:48.
(10) الحشر:7.
(11) النساء:80.
(12) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص36. ح4.
(13) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص37. ح6.
(14) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص37. ح7.
(1) البقرة:131.
(2) البقرة:285.
(3) الأعراف:65.
(4) الأعراف:32.
(5) المائدة:5.
(6) الحج:78.
(7) البقرة:185.
(8) النساء:84.
(9) الأحقاف:35.
(10) آل عمران:50.
(11) العنكبوت:26.
(12) الحجرات:13.
(13) الكليني: أصول الكافي. ج2. طبعة دار التعارف 1411ه/ 1990م (باب الشرائع) . ص250-251.
(14) المجلسي. بحار الأنوار. ج23. ب7. ص105. ح3.
(15) المجلسي. بحار الأنوار. ج22. ب8. ص311. ح14.
(1) الكليني: أصول الكافي، ج1. ص53. ح14.
(2) أمالي المفيد: ص190.
(3) النجم:3.
(4) الحاقة: 44-47.
(5) الحشر:7.
(6) المجلسي: بحار الأنوار. ج22. ب1. ح19.ص47.
(7) المجلسي: بحار الأنوار. ج2. ب29. ح62. ص249.
(8) نور اللّه: تهذيب الأحكام. ج6. ب22. ح14.ص296.
(9) الكليني: اصول الكافي. ج4.ص8. ح1.
(10) الكليني: اصول الكافي. ج4.ص6. ح9.
(11) الكليني: أصول الكافي. ج6.ص411. ح1.
(12) النساء:3.
(13) النساء:129.
(14) النساء:11.
(15) نور اللّه: تهذيب الأحكام. ج7. ب36. ص362. ح5.
(16) التوبة:31.
(17) الكيني: أصول الكافي. ج1. ص53. ح1.
(18) النحل:111.
(1) الكليني: أصول الكافي:ج2. ص72. ح3.
(2) يوسف:87.
(3) الكليني: أصول الكافي.ج2. ص111. ح1.
(4) مريم:26.
(5) الكليني: اصول الكافي:ج2. ص131. ح1.
(6) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص124. ح13,
(7) الحجرات:13.
(8) الصحيفة السجادية الكاملة للامام زين العابدين (ع): طبعة المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الايرانية بدمشق. دعاؤه في مكارم الأخلاق. د20. ص82. س 1-3.
(9) الكليني: اصول الكافي. ج2. ص124. ح133.
(10) الرعد:22.
(11) آل عمران:134.
(12) الكليني: اصول الكافي:ج2. ص159. ح8.
(13) آل عمران:159.
(14) الكليني: اصول الكافي:ج2. ص275. ح26.
(15) الكليني: اصول الكافي:ج2. ح29.
(16) الروم:41.
(1) الكليني: أصول الكافي. ج4. ص19. ح1.
(2) الروم: 41.
(2) الكليني: أصول الكافي. ج4. ح2.
(3) نفسه. ح3.
(4) آل عمران:133.
(5) الكليني: أصول الكافي. ج4. ص19. ح5/ ورواه الصدوق: من لا يحضره الفقيه. ج2.ص71. ح1758.
(6) الكليني: أصول الكافي. ج4. ص20. ح1.
(7) الكليني: أصول الكافي. ج4. ح2.
(8) الفتح:10.
(9) الكليني. أصول الكافي. ج4. ص20. ح3.
(10) الكليني: أصول الكافي. ج4. ح4.
(11) نفسه. ص21. ح6.
(12) نفسه. ح7.
(13) نفسه. ص 22. ح4.
(1) الحجرات:14.
(2) الحجرات:13.
(3) فصلت:30.
(4) آل عمران:19.
(5) البقرة:112.
(6) البقرة:112.
(7) آل عمران:83.
(8) فصلت:11.
(9) الأحزاب:72.
(7) الصحيفة السجادية الكاملة للإمام زين العابدين (ع): ص40 (دعاؤه عند الصباح والمساء) د.20.
(8) آل عمران:85.
(9) النساء:125.
(10) البقرة:131-132.
(11) الحج:78.
(12) الأنعام:14.
(13) الأنعام:161.
(14) الزمر:11-12.
(15) غافر:66.
(16) فصلت:33.
(17) الشورى:13.
(18) الأحزاب:36.
(19) النساء:65.
(20) البقرة:132.
(21) يوسف:101.
(1) النساء:97-98.
(2) النساء:99
(3) النساء:100.
(4) التوبة:100.
(5) النحل :41.
(6) النحل:42.
(7) آل عمران173.
(8) الحج:58-59.
(9) العنكبوت:56.
(10) الزمر:10.
(11) الحشر:8.
(12) الحشر:9.
(13) الحشر:10.
(14) الحجرات:10.
(15) الحشر:10.
(16) المجلسي: بحار الأنوار.ج75. ب64. ص212. ح10.
(17) الحجرات:10.
(18) المجلسي: بحار الأنوار. ج32. ب12. ص561. ح466.
(19) آل عمران:159.
(20) التوبة:128.
(1) الفتح:29.
(2) المائدة:67.
(3) الكهف:29.
(4) المائدة:67.
(5) الكليني: بحار الأنوار. ج33.ب20.ص266.ح534
(6) المائدة:3.
(7) الكليني: بحار الأنوار. ج28.ب4.ص220.ح9
(8) الحشر:7.
(9) الكليني: بحار الأنوار .ج16.ب6.ص135.ح75.
(10) الكليني: بحار الأنوار. ج10. ب8. ص120. ح1.
(11) نفسه: ب26.ص432.ح12.
(12) نفسه: ج2. ب29.ص226.ح3.
(13) الأحزاب:33.
(14) المائدة:55.
(15) البقرة:207.
(16) القصص: 83.
(17) نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية. رقم 3. ص9-11.
(18) نهج البلاغة: ك74.ص56.
(19) نهج البلاغة: الكلمات القصار .رقم178. ص392.
(1) المجلسي: بحار الأنوار. ج40. ب93. ح54. ص153.
(2) الكليني: بحار الأنوار. ج39. ب87. ص296. ح99. نقلاً عن نهج البلاغة للإمام علي بن أبى طالب (ع).
(3) البقرة:207.
(4) ابن أبى الحديد: شرح نهج البلاغة. ج18ب13. ص282.
(5) ابن أبى الحديد: شرح نهج البلاغة. ج9. ب141. ص82.
(6) ابن أبى الحديد: شرح نهج البلاغة. ج18. ب71. ص 220.
(7) الصف:2-3.
(8) ابن أبى الحديد: شرح نهج البلاغة. ج18. ب77. ص229.
(9) الزمر:53.
(9) يوسف:87.
(10) الأعراف:156.
(11) ابن أبى الحديد: شرح نهج البلاغة. ج18. ب78. ص243.
(13) الأعراف:99.
(12) الصحيفة السجادية الكاملة: طبعة المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق. (دعاؤه للأضحى والجمعة) ص207.
(13) ابن أبى الحديد: شرح نهج البلاغة. ج18. ب99. ص250.
(14) نفسه. ب94. ص254.
(15) نفسه. ب103. ص268.
(16) النحل:111.
(17) الجاثية:23.
(18) فاطر:8.
(19) الكهف:104.
(20) آل عمران:68.
(21) ابن أبى الحديد: شرح نهج البلاغة. ج18. ب92. ص252.
(22) هود:45-46.
(23) آل عمران:103.
(24) الأنعام:153.
(1) تاريخ الطبري: 3: 306. الكامل في التاريخ 2: 552.
(2) الكليني: أصول الكافي. ج44. ب737. ص381. ح2.
(3) يونس:59.
(4) المجلسي. بحار الأنوار. ج18. ب11. ص126. ح36.
(5) المجلسي: بحار الأنوار. 44: 329.
(6) هود: 88.
(6) البقرة:11.
(7) البقرة:12.
(8) البقرة:286.
(9) الحج:62.
(10) الأحقاف:35.
(11) المجلسي: بحار الأنوار. ج44. ب26. ح4. ص191.
(12) يوسف:111.
(1) الانفال:24.
(2) أنساب الأشراف للبلاذري. ج1.
(3) تحف العقول. ص178.
(5) تحف العقول.ص176.
(6) الصحيفة السجادية الكاملة: ص20دعاؤه في مكارم الأخلاق..
(7) حياة الإمام الحسين: ج1. ص183.
(8) البقرة:184.
(9) البقرة:286.
(10) نزّهه الناظر في تنبيه الخاطر.
(1) النساء:135.
(2) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص331. ح3..
(3) الأعراف:199.
(4) الفرقان:63.
(5) آل عمران:168.
(6) لقمان:17.
(7) الزمر:10.
(8) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص240. ح34.
(9) قلم:4.
(10) آل عمران:159.
(11) التوبة:128.
(12) النساء:135.
(13) المائدة:8.
(14) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص341.
(15) الرعد:23-24.
(16) يونس:10.
(17) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص189. ح4.
(18) الحجر:47.
(19) الكليني: أصول الكافي. ج74. ح825. ص339.
(20) ابن أبى الحديد: شرح نهج البلاغة. ج2. ب33. ص185.
(1) البقرة:165.
(2) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص99. ح30.
(3) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص 82. ح4.
(4) نفسه. ص 83. ح5.
(5) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص148. ح3.
(6) نفسه. ص328. ح1.
(7) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص338 ح2.
(8) نفسه. ص325.
(9) النور: 39.
(10) محمد: 22.
(11) الرعد: 205.
(12) البقرة: 27.
(10) الكليني: أصول الكافي. ج2. ح7. ص376.
(11) نفسه: ج2 ص460. ح3.
(12) الكليني: أصول الكافي: ج2 ص140. ح4.
(13) نفسه . ج8. ب8. ص152. ح141.
(14) المؤمنون:101.
(15) عبس:34-37.
(16) الأنبياء:28.
(17) الأعراف:56.
(1) يوسف:111.
(2) الحاقة:12.
(3) البقرة:197.
(4) البقرة:30.
(5) أعيان الشيعة. ج1. طبعة دار التعارف – بيروت. ص577.
(1) النساء:143.
(2) نهج البلاغة: أمير المؤمنين علي بن أبى طالب t . طبعة رابطة أهل البيت t الإسلامية العالمية. ج4. ص35-38 .
(*) جاءت هذه التهنئة في مستهل الندوة الحوارية، وذلك بالتزامن مع الانتصار الكبير الذي حققته المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان باجبار العدو الصهيوني بالانسحاب من المناطق المحتلة من لبنان.
(1) الحج: 40-41.
(2) نهج البلاغة. ص48.
(3) المائدة:44.
(4) المائدة:45.
(5) المائدة:47.
(6) الانعام:57.
(7) نهج البلاغة.ص44.
(8) نهج البلاغة: الكلمات القصار.
(1) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص157. باب النهي عن الجسم والصورة.
(2) النور:35.
(3) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص167.
(4) فاطر:10.
(5) البقرة:165.
(6) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص308.
(7) التوبة:67.
(8) مريم:64.
(9) الحشر:19.
(10) الاعراف:51.
(11) عيون اخبار الرضا. ص135.
(12) طه: 25-26.
(13) المطففين:15.
(14) المطففين:15.
(15) الفجر:22.
(16) التوبة:79.
(17) البقرة:15.
(18) آل عمران:54.
(19) النساء:142.
(20) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص135-136.
(21) العلق:19/ عيون أخبار الرضا. ج7.
(22) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص305.
(23) عبس:34-36.
(24) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص369.
(25) فاطر: 15.
(25) الروم:41.
(26) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص312.
(27) الكيني: أصول الكافي. ج2. ص361.
(28) عيون أخبار الرضا. ج2. ص86.
(29) عيون أخبار الرضا. ج1. ص307.
(30) الأنعام:108.
(1) الكليني: أصول الكافي. ج1. طبعة دار التعارف. ص578-580.
(2) الكليني: أصول الكافي، ج1. ص584.
(3) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص589.
(4) الأنعام: 103.
(5) الشورى:11.
(6) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص95.
(7) الحج:46.
(8) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص103.
(9)( الرعد:39.
(10) إثبات الوصية. ص341.
(11) النحل:125.
(12) الإسراء: 53.
(13) شهر آشوب: المناقب. ج3. ص459.
(14) النساء: 11.
(15) الكافي. ج7. ص114.
(16) البقرة:7.
(17) الحراني: تحف العقول. ص361.
(18) نفسه. ص362.
(19) القلم:4.
(20) آل عمران: 159.
(21) الحشر:19.
(22) الحراني: تحف العقول. ص362.
(23) الشعراء: 88-89.
(1) المجلسي: بحار الأنوار. ج71. ب92. ص382. ح17.
(2) الشورى:52.
(3) العنكبوت:84.
(4) الفلق:1.
(5) سبأ:64.
(6) المجلسي: بحار الأنوار. ج11. ب3. ص298 / نقلاً عن تفسير الطبرسي.
(7) النحل:103.
(8) الفرقان:32.
(9) التوبة:40.
(10) الإسراء:90.
(11) الإسراء:93.
(12) الكهف:110.
(13) الأنعام:50.
(14) الأحزاب:21.
(15) القلم:4.
(16) آل عمران:159.
(17) التوبة:128.
(18) فاطر:8.
(19) المجلسي: بحار الأنوار. ج19. ب5. ص22. ح11.
(20) النساء:51.
(21) المجلسي: بحار الأنوار. ج68. ب19. ص151. ح6.
(22) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة. ج9. ب154. ص178.
(24) الأنبياء:92.
(25) آل عمران:103.
(26) الحجرات:10.
(1) يس:40.
(2) الجاثية:24.
(3) الكليني: أصول الكافي. ج1. طبعة دار التعارف. ص129-130. باب (حدوث العالم وإثبات المحدث).
(4) آل عمران:191.
(5) يونس:101.
(1) الماعون:4-5.
(2) النساء:48.
(3) النساء:141.
(4) الأنبياء:87.
(5) المجلسي: بحار الأنوار . ج7. ب11. ص 271. ح36.
(6) العنكبوت:45.
(7) المجلسي: بحار الأنوار. ج82. ب1. ص 198.
(8) الكهف:80.
(*) سبق لسماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه – دام ظله – أن أجاب عن هذا السؤال، ولكنّ ثمّة لفتات مهمّة في الجواب دعت إلى تثبيته.
(9) الكهف:74.
(10) الكهف:71.
(11) الكهف:79.
(12) الأعراف:206.
(13) النازعات:24.
(14) الشعراء:22.
(15) فصّلت:6-7.
(16) القيامة: 14-15.
(17) الزمر:42.
(18) الحاقة:17.
(19) الرحمن:27.
(20) القصص:88.
(21) مريم:64.
(22) طه:52.
(23) إبراهيم:7.
(24) آل عمران:178.
(25) الكهف:18.
(26) الفجر:15-16.
(27) هود:7.
(28) الصافات:107.
(29) الرعد:15.
(30) الكهف:29.
(31) الحديد:22.
(32) مريم:26.
(33) النور:12.
(34) الذاريات:22.
(35) العنكبوت:62.
(36) المجلسي: بحار الأنوار. ج96. ب1. ص22. ح53. نقلاً عن نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين (ع).
(37) التوبة:122.
(38) ص:79.
(39) ص:80-81.
(40) الإسراء:15.
(41) آل عمران:85.
(43) الأعراف:155.
(44) المائدة:38.
(45) البقرة:213.
(46) المائدة:54.
(47) المائدة:54.
(48) الأنبياء:30.
(49) الهمزة:1.
(50) لقمان:6.
(51) الأنبياء:37.
(52) الطارق:1.
(53) الطارق:11.
(54) البروج:1.
(55) الانفطار:1.
(56) الانشقاق:1.
(57) النحل:89.
(58) آل عمران:110.
(59) الأنعام:38.
(60) النور:26.
(61) البقرة:180.
(62) البقرة:183.
(63) البقرة:216.
(64) آل عمران:75.
(64) المائدة:83.
(65) البقرة:233.
(66) الإسراء:16.
(67) الأعراف:27.
(68) آل عمران:104.
(69) الحجرات:11.
(70) الأنعام 75.
(71) القصص:27.
(72) القصص:27.
(73) .
(74) غافر:60.
(*) من (دعاء كميل) للإمام أمير المؤمنين (ع).
(75) الأعراف:199.
(76) الفرقان:63.
(77) الشورى:39.
(78) آل عمران:194.
(79) البقرة:1-2.
(80) البقرة:219.
(81) الفرقان:30.
(82) البقرة:54.
(83) المائدة:101.
(84) الفقيه: ج4. ب2. ص74. ح5149.
(85) يوسف:53.
(86) النساء:97.
(87) هود:118.
(88) الروم:31.
(89) الأعراف:199.
(1) الجمعة:2.
(2) القمر:17.
(3) المائدة:15.
(4) البقرة:129.
(5) المزمل:4.
(6) سبأ:14.
(7) المجلسي: بحار الأنوار. ج14. ب31. ص476. ح37.
(8) الانعام:162.
(1) العنكبوت:48.
(2) العنكبوت:48.
(3) البقرة:253.
(4) الندوة: لقد أجاب سماحته في أكثر من ندوة على هذا السؤال، ولأنّ هناك من لا تزال الصورة غير واضحة لديه، قررنا نشر الإجابة.
(5) الجمعة:2.
(6) المجلسي: بحار الأنوار: ج16.ص210. باب9.
(7) البقرة:144.
(8) الحشر:8.
(9) النساء:80.
(10) الممتحنة:6.
(11) النساء:59.
(12) النساء:65.
(13) المجلسي: بحار الأنوار. ج16. ب9. ص210.
(14) المجلسي: بحار الأنوار. ج 11. ب1. ص56. ح55.
(15) الحاقة:44-47.
(16) الزمر:65.
(17) الحج:78.
(18) البقرة:131-132.
(19) الكهف:82.
(20) النساء:59.
(21) طه: 29-34.
(22) المجلسي: بحار الأنوار. ج2. ب29. ص226. ح3.
(23) المجلسي: بحار الأنوار. ج33. ب30. ص568. ح722.
(24) نفسه. ج 27. ب13. ص 253. ح14.
(25) المؤمنون:98.
(26) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين (ع) . ج1. ب3. ص202.
(27) نهج البلاغة: خ67.ص52.
(28) الحشر:7.
(29) آل عمران:32.
(30) النساء:80.
(31) المجلسي: بحار الأنوار. ج11. ب2. ص 67. ح21.
(32) نفسه. ج23. ب3. ص22. ح 2.
(33) المجلسي : بحار الأنوار. ج16. ب11. ص307.
(34) نفسه. ج10. ب20. ص353. ح1.
(35) المجلسي: بحار الأنوار. ج44. ب37. ص329. ح2.
(36) النحل:125.
(37) العنكبوت:46.
(38) البقرة:111.
(39) الأعراف:187.
(40) الزخرف:23.
(41) سبأ:46.
(42) الإسراء:53.
(43) النحل:125.
(44) المؤمنون:96.
(45) نهج البلاغة . الكلمات القصار.
(46) البقرة:158.
(47) الحج:32.
(48) المجلسي: بحار الأنوار. ج5. ب 22. ص 325. ح12.
(49) آل عمران:140.
(50) المعارج:6-7.
(51) المجلسي: بحار الأنوار. ج85. ب 25. ص12. ح1.
(1) النساء:97.
(2) البقرة:111.
(3) الجاثية:17.
(4) الشورى:14.
(5) الكهف:29.
(6) الصحيفة السجادية الكاملة: ص51.دعاؤه (ع) بخواتيم الخير..
(7) الصحيفة السجادية الكاملة: ص40. دعاؤه (ع) عند الصباح والمساء.
(8) المجلسي: بحار الأنوار. ج93. ب25. ص 365. ح12.
(9) الكهف:29.
(10) البقرة:111.
(11) آل عمران:66.
(12) طه:51.
(13) الأعراف:1187.
(14) طه:52.
(15) آل عمران:50.
(16) البقرة:144.
(17) الصافات:102-105.
(18) الصافات:108.
(19) المائدة:34.
(20) المائدة:98.
(21) الأنفال:46.
(21) الصف:2ـ3.
(22) الكهف:29.
(23) النساء:1.
(24) نهج البلاغة: الكلمات القصار . رقم 50.
(25) الشورى:12.
(26) آل عمران:140.
(27) نوح:5.
(28) الحديد:25.
(29) الانفال:24.
(30) النحل:125.
(31) البقرة:179.
(32) المائدة:50.
(33) المجلسي: بحار الأنوار. ج76. ص 126. ح23.
(1) الحشر:9.
(2) الأعراف:156.
(3) المجلسي: بحار الأنوار. ج13. ب23. ص267. ح3.
(4) المائدة:27.
(5) لقمان:15.
(6) الاسراء:23ـ24.
(7) المجلسي: بحار الأنوار. ج 75. ب 66. ص246. ح8.
(8) نفسه. ص222. ح1.
(9) البقرة:258.
(11) يونس:81.
(12) طه:69.
(13) نهج البلاغة للامام امير المؤمنين (ع). الكلمات القصار.
(14) المجلسي: بحار الأنوار. ج8. ب51. ص242. ح9.
(*)من (دعاء كميل) لأمير المؤمنين (ع).
(15) آل عمران:131.
(16) الانعام:59.
(17) الانعام:18.
(18) المجلسي: بحار الأنوار. ج2. ص254. ح5.
(19) الإنسان:3.
(20) البلد:10.
(21) الروم:30.
(22) المجلسي: بحار الأنوار. ج 61. ب44. ص 186. ح52.
(23) الملك:15.
(24) البقرة:229.
(25) المجلسي: بحار الأنوار. ج52. ب52. ص126. ح3.
(26) البقرة:111.
(27) النساء:80.
(28) الحشر: 7.
(29) آل عمران:31.
(30) لقمان:14.
(31) النساء:148.
(1) المجلسي: بحار الأنوار. ج35. ب6. ص60. ح7.
(2) الزمر:10.
(1) البقرة:184.
(*) راجع (الإسلام بنظرة عصرية)، لمحمد جواد مغنية، فقد نقل في عام 1973 تنبؤ علماء الفلك بحدوث كسوف الشمس الكلي في 11 آب سنة 1999 وهو ما حدث بالدقّة . ص20. /المعد.
(2) البقرة:219.
(1) الانفال:41.
(2) الأنفال:41.
(3) الأنفال:41.
(1) البقرة:144.
(1) النساء:23.
(2) البقرة:229.
(3) المائدة:5.
(4) البقرة:229.
(1) المائدة:1.
(2) الممتحنة:8.
(3) آل عمران:75ٍ.
(4) النحل:118.
(5) المائدة:1.
(1) آل عمران:159.
(2) نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين (ع).
(3) الحجرات:12.
(4) الحج:30.
(5) لقمان:6.
(6) المائدة:38.
(*) (الندوة): لقد سبق لسماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه – دام ظله – أن أجاب عن هذا السؤال أكثر من مرة، ونظراً لأنه ما زال مورد إشكال عند البعض قررنا تثبيته في مكانه تعميماً للفائدة ورفعا للإشكال الذي يطرحه السؤال.
(7) القيامة:14ـ15.
(8) الاحزاب:32.
(9) الطلاق:4.
(10) المجلسي: بحار الأنوار. ج12. ب3. ح25. ص235.
(11) المائدة: 3.
(12) الاحزاب:36.
(13) المجادلة: 2.