آية الله العظمى

السيد محمد حسين فضل الله

 

 

الندوة

 

سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق

محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة

 

 

إعداد: عادل القاضي

 

 

الجزء الثامن

 

 

 

دار الملاك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المقدمة

مـشـكـلاتـنـا

قبل عامين من الآن طرحت على سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه دام ظلّه مشروع حوار حول المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا الإسلامي فكرياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً وتربوياً، فأبدى استعداده التامّ، لكنّ المشروع تعطّل من جهتي لانشغالي بغيره عنه، ففاتني وفات القرّاء خيرٌ كثير.

اليوم، وبعد إنجاز المجلّد الثامن من كتاب (الندوة) بفضل اللّه وتوفيقه رأيت أن سماحته قد تحدّث عن العديد من (مشكلاتنا) في ثنايا محاضراته وإجاباته على أسئلة جمهور الندوة، الأمر الذي يمكن أن تُعَدّ منه دراسة أولية في بعض تلك المشكلات، عسى أن تتاح الفرصة لإنجاز المشروع المعطّل.

غير أنني وأنا أقوم بهذه المهمّة التي تبدو صعبة بعض الشيء حيث تتطلب استقراء المشاكل المطروحة في الأجزاء الثمانية للندوة، أحبّ أن الفت النظر إلى أنّ سماحة السيد ومنذ بواكير عمله الإسلاميّ طرح وعالج الكثير من مشكلات الفكر والحياة الإسلامية خاصّة في كتبه ذائعة الصيت (قضايانا على ضوء الإسلام) أو (خطوات على طريق الإسلام) أو (الحوار في القرآن).

طريقة التعامل

وقد اتّبع سماحته في منهج التعامل مع تلك المشكلات عمل الرادار الراصد لكلّ وافد دخيل فأشار إليه محذّراً ومنبهاً إلى مخاطره وآثاره وعواقبه. لقد كانت عينه وهو المصلح الإسلاميّ الغيور مفتوحة على الدوام تترصد البدع والخرافات والعادات الشاذّة الغريبة، والأفكار التي تقدّم على طبق من الحداثة والمعاصرة وهي قد تخلط السمّ بالعسل، ويفتح عيوننا عليها واسعة، ويدعونا إلى أن نرصدها كلٌّ من موقعه حتى نكون - نحن وهو في حالة استنفار لمواجهة التحديات فكرية كانت أو اجتماعية أو دينية أو تربوية أو سياسية أو أمنية.

فلم يكن يكتفي في النظر إلى المشاكل من زاويتها الدينية البحتة فقط، بل يلقي عليها نظرة شاملة تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، وما ذاك إلاّ تقديراً منه إلى أنّ موقع المرجعية الدينية ليس موقع الفتيا في الأمة فحسب، بل هو موقع القيادة الشرعية والفكرية والسياسية، وأعني بالسياسية أنّ لها موقفاً من كلّ ما يجري في هذه الساحة أو تلك من قضايا تهم الإسلام كلّه والمسلمين كلّهم حتى يموّن ويحصّن به جمهور الأمة المتطلّع إلى قيادته الدينية على أنّها الرائدة في قيادة صراعه السياسي والفكري والحياتي، والأكثر أمانة في التصدّي للمشكلات التي تعصف به من الخارج، أو تلك التي يُبتلى بها في الداخل.

من هنا، فلا نجد غرابة في هذا الإلمام الشمولي بالمشكلات التي يعاني منها مجتمعنا، وهو إلمام لم يأتِ من دراسة ميدانية فقط، ولا من خلال قراءة للواقع فحسب، بل من خلال هذا اللقاء المباشر بينه وبين جمهوره الواسع العريض الذي لا يستفتيه في الحلال والحرام فحسب، وإنّما يطلّ عليه بأسئلته العلمية والفكرية والاجتماعية والتربوية، مما أكسبه قدرة على فهم أمّهات هذه المشاكل والتوافر على دراستها والتأمّل في الحلول المناسبة لها.

فلم يكن سماحته ليشخّص الداء وينسى الدواء، بل قد تتطلّب مهمّته كقائد في الأمة أن يوسّع دائرة اهتمامه ليحيط كما هو الطبيب المختص النازع إلى توسيع دائرة معارفه الطبّية بالأمراض المتفشية حتى تكتمل النظرة لديه إلى ما يعانيه الناس من أمراض، أي أنّ معرفة الطبيب الواسعة بالمشهد الصحيّ يعطيه التصوّر الإجمالي عما يعصف بالناس من أمراض قد يستقلّ بعضها بنفسه، وقد يكون بعضها مقدمة لمرض آخر، أو نتيجة لمرض آخر، بمعنى أنّ بعض الأمراض قد تكون ناجمة عن تدهور صحيّ عام، أو عن اختلال في أداء جهاز بأكمله، كاضطراب الجملة العصبية مثلاً، أو الدورة الدموية، أو الهيكل العظمي أو الجهاز التنفّسي، مما لا ينفع معه معالجة موضع الداء ونسيان آثاره وامتداداته ومضاعفاته وربما خلفياته وأسبابه غير المباشرة أيضاً.

لذا يندر أن تجد عند سماحته مقالة أو بحثاً أو محاضرة بل حتى قصيدة شعرية تخلو من إشارة أو إشارات تلميحية أو صريحة إلى مشكلات الواقع الإسلامي، بل إنّه وبما أوتي من قدرة التعامل الحركي مع قضايا الأمة والنظر الشرعيّ لمسائلها لم يدع في أي حديث يطرحه الوقوف ملياً إزاء تلك المشكلات، أي أنّه - كخطّ عام لا يميل إلى قضايا الترف الفكري، وإنّما يحاول أن يمدّ بصره في واقع الحياة ليلتقط مشاكلها ويدخل إلى مناقشتها ومعالجتها من خلال الكتاب الكريم وأحاديث النبي(ص) وآل بيته(ع) ومن خلال تجربة علمية وعملية ناهزت النصف قرن.

خارطة بأهمّ المشكلات:

وبالرغم من أنّ بعض المشكلات التي طرحها سماحته وعالجها أو نبّه إلى مخاطرها مراراً وتكراراً، تندرج تحت أكثر من عنوان، أي أنها قد تكون فكرية واجتماعية وسياسية أو تربوية أيضاً، إلى أنّ القراءة هنا تحاول أن تعتمد العناوين التالية مرجّحة موقع المشكلة تحت هذا العنوان أو ذاك.

أولاً: من مشاكلنا الفكرية

ثانياً: من مشاكلنا التأريخية

ثالثاً: من مشاكلنا السياسية

رابعاً: من مشاكلنا الاجتماعية

خامساً: من مشاكلنا التربوية

سادساً: من مشاكلنا الدينية

وأكرّر القول إننا هنا لسنا بصدد قراءة شاملة لمشكلاتنا كما ناقشها سماحة السيد، وإلاّ اقتضى الأمر الرجوع إلى تراثه كلّه والبحث فيه عن العنوان موضوع القراءة، وهو أمر يستحق الجهد والتنقيب والدراسة، فنحن هنا نحاول أن نقرأ هذه المشكلات قراءة بالأحرف الأولى تاركين لباحثين آخرين أو لفرص أخرى التوافر على بحث شامل كهذا. ولأنّ المجال لا يسع لدراسة كلّ المشكلات المندرجة تحت العناوين السالفة الذكر دراسة وافية، فإن القراءة ستقتصر على فهرسة سريعة بأهم النصوص الواردة في (الندوة) والتي تكشف عن نظرة سماحة السيد لها ولأبعادها وربما الحلّ المتصوّر لها.

أولاً: من مشاكلنا الفكرية

وعناوينها الفرعية كثيرة، نلتقط منها ما يلي:

1. الفكر التجريدي:

يقول سماحته: ((إنّ مشكلة الكثير من الناس أنّهم يفكرون تجريدياً، ولذلك فإنّهم يبتعدون عن الواقع، في حين أنّ اللّه عندما أرسل النبوّات كان يعلم أنّها لن تحقّق رسالتها في الواقع بنسبة 100% فلربما تنطلق بعض النبوّات لتثير الفكرة، وتنطلق النبوّات الأخرى لتغرس غرسة صغيرة هنا وغرسة أخرى هناك، فيما بعض النبوّات تحاول أن تطلق حركة هنا وحركة هناك، وقد يبلّغ بعضها الآخر النتائج المرجوّة ليتطلّع الناس إليها، تماماً كما هو النور، حتى يستلهموها ويعيشوها وحتى تتحرك ظروفهم باتجاهها.

لذلك لا تفكّروا- عندما تنطلقون إلى أهدافكم في ال% ، لتكن ال% طموحاتكم، وليكن الواقع فيما يخضع له من حركة مسؤوليتكم بحسب ظروفه وعناصره، وليكن اتجاه حركتكم أن تبلغوا القمة))[1])).

2. مشكلة الخوف المانع من التفكير:

يقول سماحته: ((إنّ مشكلة الذين يخافون هي أنّ الخوف يمنعهم من أن يفكّروا، لأنّ الخوف يُطبق على كلّ عقولهم فلا تملك عقولهم أن تتوازن وتستقر، ولذلك قال اللّه سبحانه وتعالى وهو يحدّثنا عن الخوف }إنّما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه{ فالشيطان هو الذي يخلق في نفوسهم الخوف وهو الذي يسقطهم من خلال هذا الخوف، يسقط فكركم كما يسقط حياتكم ويسقط مواقفكم }فلا تخافوهم وخافون{[2]))وحده خوف اللّه هو الذي يجعلك تتوازن في عقلك عندما تشعر بأن نور اللّه يشرق في عقلك. فأنت عندما تخافه فإنّك تتحمّل المسؤولية، إنّك تخافه فتفكّر فيما لا يغضبه عليك، ذلك أن التفكير الحقّ هو الذي يجعلك تبذل جهدك في أن يكون حقّاً حتى لا يغضب اللّه عليك، وتفتح عاطفتك لتكون الحق حتى لا يغضب اللّه عليك، وتفتح حياتك لتسير في طريق الحقّ حتى لا يغضب اللّه عليك. وفي المحصلة فإنّ اللّه هو الذي يحرّرك من كلّ خوف آخر وهو الذي يؤمنك من كلّ ما تخافه في الدنيا والآخرة، ولذلك فإن هذه الكلمة يمكن أن تعطي الكثير كلّ ما اتسعت آفاقك وامتدت معها))[3])).

3. مشكلة امتلاك الحقيقة الكاملة:

يقول سماحته: ((إنّ مشكلة الواقع الشرقيّ كلّه المرتكز على الانفعال والعصبية هو أنّ كلّ واحد منّا يدّعي أنه يملك الحقيقة المطلقة، ولكن المسألة الواقعية هي أنّني أدركت ما أعتقد أنّه الحقيقة من خلال المعطيات التي بين يديّ وقد لا تكون موجودة عندك، وأنت أدركت الحقيقة في معتقدك من خلال المعطيات التي بين يديك، فالمسألة هي أنه ليست هناك معطيات مطلقة في عالم الحوار وان كانت هناك معطيات مطلقة في عالم الواقع يصيبها من أصابها ويخطؤها من أخطأها))[4])).

4. مشكلة الانفتاح على الغريزة لا العقل:

يقول سماحته: ((إنّ مشاكلنا هي صورة الخطّ العام للمشكلة التي عاشها الحسين(ع) وهي مشكلة الناس الذين لم ينفتحوا على الحقّ في عقولهم، ولكنّهم انفتحوا على الباطل في غرائزهم، وهذا هو الفرق بين العقل وبين الغريزة، فالعقل يفكّر والغريزة تعتدي.. ذاك يحاور وهذه ترفض الحوار.. العقل يعطي الحرية للعقل الآخر في أن يعرض وجهة نظره، والغريزة تتعصّب فلا تعطي فرصة للآخر كي يعرض وجهة نظره. وعندما تكون هناك غريزة تخاطب غريزة فهناك السقوط للعقل وللحقّ،  ولكن عندما يخاطب العقل عقلاً فهناك التفاهم والمجادلة والوصول إلى الحقّ من أقرب طريق))[5])).

5. مشكلة (حوار الطرشان):

يقول سماحته: ((إنّ مشكلتنا في هذا الواقع الاجتماعي والإسلامي، أو في واقع العالم الثالث، هي أنّنا نتحاور حوار الطرشان، فكلّ شخص يريد أن يؤكّد ما يلتزمه فيتعصّب له وهو ليس مستعداً أن يسمع وجهة النظر الأخرى، تماما كما هو الأطرش يتكلّم ولا يسمع الآخر، والأطرش الثاني يتكلّم فلا يسمعه الآخر. إنّ مشكلتنا هي أنّنا نملك آذانا لا نسمع بها، ولذلك فلا نعطي آذاننا وعي السمع }فبشّر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه{[6]))فيفكّرون فيه فيقتنعون بأحسنه ويميّزون بين الحسن والأحسن فيتبعونه.

لذلك علينا أن نتعلّم عندما يناقش الأب أولاده أن يستمع إليهم بما يملكون من حجّة، وأن يستمعوا إليه بما يقدّم إليهم من برهان، وأن نتعلّم أن تكون علاقة الزوج بزوجته والزوجة بزوجها أن تقدّم وجهة نظرها من خلال ما تملك من دليل ليقدّم وجهة نظره من خلال ما يملك من دليل، وعندها لا يكون هناك شخصان يتصارعان بل دليلان يتصارعان، وأمّا الذات فتذهب ليبقى الدليل هو الحكم))[7])).

6. مشكلة الولع بالبهتان وضياع الحقيقة:

يقول سماحته: ((نحن مولعون بالبهتان، ولهذا ضاعت الحقيقة فيما بيننا، مولعون بأن نقلب الحقائق، ونحكم بدون علم، ونعطي الانطباع بدون علم، وهذه هي الصورة السائدة الآن))[8])).

7. مشكلة التبعية العقلية:

يقول سماحته: ((إنّ اللّه وهب لك عقلاً كما وهب الآخرين عقلاً، واللّه سوف يسأل عقلك الذي قد يقول لك اسمع كلّ ما يقوله الناس، ولكن ليجلس عقلك مع كلّ ما تنتجه عقول الناس وليناقش هذا العقل وذاك العقل حتى ينطلق في أفكاره من خلال اقتناع بالنتائج الإيجابية التي يصل إليها بعد أن يسقط شيئاً من هذا الفكر وشيئاً من ذاك الفكر، أو يختار شيئاً من هذا الفكر أو شيئاً من ذاك. فعقل الآخرين ليس حجّة لك أمام اللّه، بل عقلك هو الحجّة التي يمكن أن تقدّمها بين يدي اللّه، ويمكن أن يطالبك اللّه بها. ولذلك أعطى اللّه المنهج في قوله تعالى }ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولا{[9]))))[10])).

8. مشكلة الجهل بالآخر:

يقول سماحته: ((يجب أن أفهم وجهة نظرك وتفهم وجهة نظري، فإذا لم نفهم وجهة نظر بعضنا البعض فكيف نتحاور؟ لاسيما إذا كنتُ أحاورك من خلال تصوّري عنك، وتحاورني من خلال تصورك عني لا من خلال حالي وحالك. فبعد أن أعرض وجهة نظري كما أفهمها، وتعرض وجهة نظرك كما تفهمها نحاول أن نتفاهم وأن يقنع أحدنا الآخر، فالفهم أول خطوة للقاء وهذا شيء يحتاج إلى روحية المتحاورين. فمشكلتنا في الكثير من الحالات هي أنّ الكثير من الناس يحملون عنك فكرة غير مرتكزة على أساس وأنت تحمل عنهم فكرة غير مرتكزة على أساس، فكيف يكون الحوار؟))([11]).

9. مشكلة اختلال التوازن:

يقول سماحته: ((ولعلّ مشكلتنا أنّنا في واقع التخلّف على مستوى الدول والشعوب، هي أننا نعمل على تنمية جانب ونهمل بقية الجوانب بحيث يكون الإنسان كبيراً في جسده طفلاً في عقله، أو يكون كبيراً في عقله طفلاً في قلبه، أو طفلاً في طاقته يتحرّك كما يتحرّك الأطفال لأنّه لم ينمّ طاقته الحركية في مسؤوليته في الحياة، لذلك يقول لك الإسلام، حاول دائماً أن تستشعر جوانب النقص فيك لتتحرك من أجل سدّ هذا النقص وإكماله.. كن في حالة تطوّر دائم.. وعليك أن تبقي في علمك احتمالات الصواب والخطأ حتى تبقى تعيد النظر في علمك فلا تعتبر أنّك تملك الحقيقة المطلقة، لأنّك بذلك لا تستطيع أن تكشف الباطل الذي يختفي داخل ما تعتبره الحقيقة))[12])).

10. مشكلة فرض المزاج الذاتي على الرسالة:

يقول سماحته: ((ومشكلة الكثيرين منّا أنّهم يفرضون مزاجهم على رسالتهم ولذلك يعملون على أن تنتصر الرسالة إذا وافقت المزاج، أمّا إذا لم توافق المزاج فلابدّ أن تسقط الرسالة لينتصر المزاج، وإن كانوا يغلّفونها بالظروف والأوضاع والتعقيدات وما إلى ذلك، ولكن اللّه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويقول تعالى: }بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره{[13])). فالإنسان عندما يقف بين رسالته وبين مزاجه فلابدّ أن يتجمّد المزاج أمام الرسالة، وهذا خط إسلامي لابدّ لنا أن نعيشه بأن لا يكون مزاجنا ضاغطاً على رسالتنا، بل أن يكون مزاجنا جندياً من جنود رسالتنا، بحيث أنّ الرسالة هي التي تقود المزاج بدلاً من أن يقود المزاج الرسالة))[14])).

11. مشكلة التخلّف (المتديّن) و(المثقّف):

يقول سماحته: ((مشكلتنا أيّها الأحبة أنّنا كنا نعيش نوعاً من (التخلّف الجاهل) ولكننا نعيش الآن نوعاً من (التخلّف المثقف) و(التخلّف المتدين) والتخلّف الذي يعتبر نفسه واعياً إذا صحّ التعبير فقيمة أن تكون مثقفاً هي أن تعرف الأسس التي يمكن أن ترتكز عليها في مواجهتك للقضايا التي تتحدى أساسياتك ووجودك، ولذلك ربح الاستكبار العالمي معركة المكر السيء الذي تحرّك فيه، لا من جهة أن مكره لا يقاوم، ولكننا استرحنا لمكره لأنّنا كنّا غافلين عن القضايا التي تحرّك فيها، وهذا هو الذي ينطلق في واقعنا الذي نعيشه، وفي هذا الفكر الذي نحمله، وفي الطاقات التي عندنا ليمكر أحدنا بالآخر ليدمره، وليمكر أحدنا في الواقع الذي لا يتناسب مع مصلحته ليسقطه، ولذلك ترانا، ندمّر أنفسنا بأنفسنا، فبدلاً من أن تكون الحيلة موجهة إلى الأعداء أصبحت موجهة إلى أنفسنا وهذا ما نلاحظه هنا وهناك))[15])).

12. مشكلة الجهل بالخطوط العامّة للحلّ الإسلاميّ:

يقول سماحته: ((إنّ المشكلة ليست هي في أنّ اللّه لم يبيّن للإنسان الخطوط العامّة أو التفصيلية التي يحتاجها في مواجهته لمشاكله وحاجاته في الحياة، بل المشكلة هي أنّ الناس قد لا يفهمون الخطوط العامّة التي لو وعوا طبيعتها وامتداداتها وسعتها لاستطاعوا أن يكتشفوا الحلّ الإسلاميّ لأية مشكلّة طارئة، أو البيان لكل سؤال يرتسم في الذهن))[16])).

13. مشكلة عقدة التطوّر:

يقول سماحته: ((القضية ليست أنّ الحياة فرضت تطورها على الإسلام ليتراجع الإسلام على أساس أنّ هناك خطاً أفضل منه، ولكنّ الناس هم الذين أمسكوا بزمام الحياة على أساس القوة والظلم وتضليل الناس. لهذا لابدّ لنا كمسلمين أن نبقي على إسلامنا بعد أن اقتنعنا بأنّه وحي اللّه وبأنّه كلمة اللّه الأولى والأخيرة إلى العالم. علينا أن نرفض كلّ ما يتنافى مع الإسلام، وأن نفهم أنّ ما أحدث الناس لا يحلّ لنا ما حرّم علينا، ولكن الحلال ما أحلّ اللّه والحرام ما حرّم اللّه. وإذا جاء الآخرون يقولون لكم إنّكم متخلّفون في نظرتكم إلى المرأة، وفي نظرتكم إلى قضايا الحريات، وفي نظرتكم إلى القضايا الاقتصادية فقولوا لهم: }قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين{ تعالوا إلى الحوار من موقع الموضوعية العقلانية الهادئة كما علّم اللّه رسوله(ص): }وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين{[17])) ف))حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة))[18])).

14. مشكلة الدراسات القرآنية:

وهي مشكلة ذات أكثر من بعد، فقد تناولها سماحته من جهة مشكلة إدخال العامل الذاتي في هذه الدراسات، فقال: ((إنّ مشكلتنا أيّها الأحبة أننا ندرس الكثير من نصوص التأريخ أو من نصوص القرآن على أساس مشاعرنا لا على أساس عقولنا، ولذلك فإن الكثير منّا قد يأخذون موقفاً مسبقاً يعالج هذا النصّ أو ذاك، فإذا كان النصّ مع ما توارثوه أو ما استمعوا له فإنّهم يحاولون أن يؤولوا النصّ ويبعدوه عن ظاهره وعن سياقه، ولذلك أصبحت عملية استظهار النصوص خاضعة للذهنيات المسبّقة التي نحملها، فأصبحنا نفرض الكثير من الأفكار المسبّقة على القرآن ليكون صورة لما نفكّر فيه، لا أن يكون ما نفكّر فيه صورة للقرآن))[19])).

وتناولها من جهة مشكلة التعصّب الذي أسقط المناهج القرآنية. يقول سماحته: ((ولكنّ مشكلتنا هي أنّ عصبايتنا أسقطت المناهج القرآنية في نفوسنا، فاللّه تعالى يقول: }ولا يجرّمنكم شنّانُ قوم على إلاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى{[20])). كن عادلاً مع خصمك، فإذا كان لديه بعض الحقّ أعطه حقّه، وإذا لم يكن لديه بعض الحقّ حاول أن تقول له ذلك، وأن تناقشه في ذلك، وقد علّمنا اللّه سبحانه وتعالى أن نقول كلمة الحقّ ضد الأقربين فيما لو كان الحقّ ضدهم }وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى{[21])). }يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين{[22])). إنّ معنى ذلك أن تكون مع الحقّ حتى إذا لم يكن الحقّ معك، وعليك أن تعترف بذلك. وقد ورد عندنا ))إنّ سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك))[23])).

وتناولها من جهة مشكلة ترك الكتاب إلى السنّة. يقول سماحته: ((إنّ مشكلة بعضنا هي أنّه اندفع إلى السنّة وترك الكتاب، في حين أنّ قيمة السنّة هي أنّها تشرح الكتاب وتفصّله، وأنّها تؤصَّل بالكتاب ((ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف)) و((ما خالف كتاب اللّه فاضربوا به عرض الجدار)). فالكتاب أولاً والسنّة ثانياً. وعند ذلك تتكامل ثقافتنا وينفتح لنا إسلامنا الذي يرتكز على قاعدتين: كتاب اللّه وسنّة نبيّه }ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا{[24]))))[25])).

وتناولها من جهة مشكلة ترك بعض الفقهاء للقرآن في عملية استنباطهم للأحكام. يقول سماحته: ((ومشكلتنا أنّ كثيراً من الفقهاء تركوا القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولذلك فهم لا يملكون ثقافة القرآن لأنّ من يملك ثقافة القرآن لابدّ أنّ يملك ثقافة اللغة العربية وعمقها. وهذا هو حديث علي(ع) : ((ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره))[26])).

وتناولها من جهة مشكلة ضعف الاهتمام الحوزوي بالقرآن. يقول سماحته: ((ولعلّ مشكلتنا أيّها الأحبة فيما نأخذ به من مواقع الثقافة والعلم، هي أنّ القرآن على هامش ثقافتنا الحوزوية، وأنّ الكثيرين ممن ينفتحون على الفقه علماً لا ينفتحون على القرآن علماً، ولذلك فإنهم قد يتصورون الانحراف استقامة والاستقامة انحرافا، وقد يتصورون الضلال هدى والهدى ضلالة))[27])).

ثانياً: من مشاكلنا التأريخية

1. مشكلة الاستغراق في التأريخ:

يقول سماحته: ((إنّ مشكلتنا هي أنّنا نستغرق في التأريخ، ولكنّنا لا نحاول أن نحرّك قيم التأريخ في الواقع، فأيّ فرق بين معركة الحسين(ع) ويزيد وبين المعركة التي بين السيد محمد باقر الصدر (رض) وبين صدام والشعب العراقي من جهة ثانية، فالذين تخاذلوا هنا هم الذين تخاذلوا هناك، والذين أعانوا الطاغية هنا هم الذين أعانوه هناك))[28])).

ويقول في موضع آخر: ((نحن قوم مشكلتنا أننا ندمن التأريخ ونستغرق فيه، واللّه سبحانه وتعالى يقول لنا إنّ التأريخ هو ملك الذين صنعوه، أمّا أنتم فخذوا منه ما يبقى كدرس لكم، خذوا منه العبرة }لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب{[29])). لا يكن التأريخ عندكم لهواً تلهون بأقاصيصه، ولا يكن التأريخ عصبية تفرض نفسها عليكم من أجل أن تتعب حاضركم أو تسقطه أو قد تدمّر قضاياكم }تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت{[30])) بمشاكلها كلّها وانتصاراتها كلّها وهزائمها كلّها وتعقيداتها كلّها وأحقادها كلّها))[31])).

2. مشكلة العاطفة في حركة البحث التأريخي:

يقول سماحته: ((عندما ندعو إلى قراءة التأريخ، ندعو قبل ذلك إلى أن تكون لنا الذهنية الموضوعية التي يتحرّك فيها الإنسان بدون أفكار مسبّقة، بل عليه أن يدرس ماذا يقول العقل القطعي في ذلك، لأن الناس قد يعتبرون ما ليس بحكم عقلي حكماً عقلياً على أساس أنّ تصوراتهم التي يعتبرونها عقلاً هي كذلك. وأن ندرس النصوص التي بين أيدينا، والتي تمثّل الأساس الفكري عندنا، كما لو لم يكن هناك فكر سابق ورثناه، أو أننا انطبعنا فيه من خلال جوّ البيئة وما إلى ذلك. ونحن نعتقد أنّ الذهنية الموضوعية لا تنتج حساسيات ولا مشاكل بين المسلمين لأنّها ذهنية تخاطب في الإنسان عقله ولا تخاطب فيه غريزته، وإنّما الذهنيات الغرائزية هي التي تحاول أن توجّه العقل بغرائزيتها ولا تحاول أن تخاطبه بعقلانيتها.

وثمة نقطة ثانية، وهي أننا لا نستطيع أن نلغي التأريخ، فالتأريخ موجود ولا نستطيع أن نرمي كتب التأريخ في البحر، ولذلك فإنّنا إن أهملناها في موقع معين فلا يعني أنّها لا تفرض نفسها علينا في مواقع أخرى، لذلك لابدّ أن تكون لنا شجاعة دراسة التاريخ بالطريقة الموضوعية العقلانية.. إنّ علينا أن ندرس ما جاءنا من نصوص الإسلام من خلال الخطين اللذين كان العلماء السابقون يركّزون عليهما وهما: السند والمتن))[32])).

3. مشكلة فقدان الوجه الآخر في التعامل مع الأئمة من آل البيت(ع):

يقول سماحته: ((مشكلتنا أنّنا نأخذ من علي(ع) شيئاً ونغفل عن أشياء، فلقد حبسنا عظمائنا في سجن مشاعرنا ولم نطلقهم في آفاق عقولنا، ولذلك فرغت عقولنا منهم وعاشت أحاسيسنا معهم، فنحن لم نعش الحسين ولم نعش علياً إلاّ في إطار العواطف فقط))[33])). وفي هذا المعنى يقول أيضاً: ((إنّ مشكلتنا هي أنّنا أخذنا أئمة أهل البيت(ع) كدموع في المأساة وابتسامات في الأفراح، ولم ننفذ إلى داخلهم، ولم نعتنِ بهم، ولم ننفتح على الآفاق الواسعة من حياتهم))[34])).

ثالثاً: من مشاكلنا السياسية

1. مشكلة الأمّية السياسية:

يقول سماحته: ((مشكلتنا هي هذه الأمّية السياسية التي هي أخطر ألوان الأمّيات، فنحن للأسف، لا نملك وعياً سياسياً شاملاً، فأين هي ثقافتنا في مشاكل الأمة الاقتصادية؟ وما هي خلفيات هذه المشكلة؟ هل هي محلّية أو إقليمية أو دولية؟ وعندما ندرس الواقع السياسي والمشاكل السياسية في العالم الإسلامي لا نعرف هل أنّها مشاكل محلّية أو إقليمية أو مشكلة استكبار عالمي؟ هل هي مشكلة رأس الهرم أو هي مشكلة قاعدة الهرم؟ أيّ وعي سياسي نملكه؟ إنّنا نسمع في كل يوم نشرة أخبار أو أكثر من نشرة، ونقرأ أكثر من صحيفة، ولكننا نستهلك السياسة كما نستهلك الطعام، فنحن نأكل الطعام من دون أن نعرف مكوّناته، خاصّة وأنّ الطعام أصبح معلّباً، والسياسة معلّبة، والاقتصاد معلّباً، ويحدّثونك عن السموم في العلب الغذائية وما في العلب الأخرى أخطر وأخطر. فنحن شعب لا يطيق أن يكون منتجاً، إنّما نحن مستهلكون، فنحن نستهلك التخلّف الذي يفرض علينا، ونستهلك السياسة والسياسيين ونستهلك الاقتصاد ونستهلك الثقافة وما إلى ذلك))[35])).

2. مشكلة الحيل السياسية:

يقول سماحته: (( نحن الآن نمدح (الشاطر) فينا فنقول (فلان شاطر) أي يستطيع أن يأخذ الناس إلى النهر ويرجعهم عطاشى. وفلان شاطر لأنّه يستطيع أن يلعب على أكثر من حبل، وفلان شاطر لأنّه يعرف كيف يصوغ الكذب وكيف يصوّره كما لو كان صدقاً. وهذا ما انطلق فيه الواقع السياسي، بحيث إذا أردت أن تكون سياسياً فعليك أن تتقن الحيلة فيما تصوغه من الأكاذيب، أليس هذا هو الواقع؟

(الشطّار) بهذا المعنى هم الذين راحوا يتحرّكون في مجالات الساحة كلّها، فهناك أيضاً (الشطّار) في المواقع الدينية الذين يبتعدون عن أصول الدين وأخلاقياته، والشطّار في المواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية))[36])).

3. مشكلة التحديق بالبطل لا بالبطولة:

يقول سماحته: ((مشكلتنا أيّها الأحبّة أنّنا نحدّق بالبطل ولا نحدّق بالبطولة، أو أنّنا نواجه الشخص ولا نواجه عناصر الشخصية أو عناصر القوة))[37])).

ويقول في موضع آخر: ((مشكلتنا في الشرق كلّه هي أنّنا عبّاد أصنام وعبّاد أشخاص نستغرق في الشخص ونذوب فيه، وإذا أحببنا شخصاً رفعناه إلى السماوات العلى حتى لو كان لا يرتفع على ربوة صغيرة، وإذا أبغضنا شخصاً أنزلناه إلى الحفر العاطفية الانفعالية في اتجاه الإحساس ووثنية الفكر، فنحن نبحث عن أوثان نعبدها.

ففي الإسلام تأتي قيمة الرسل من رساليتهم لا من نسبهم ولا من جمالهم، والأولياء قيمتهم في ولايتهم، والمجاهدون قيمتهم في جهادهم، والعلماء في علمهم، لذلك لا تستغرقوا في الجسد وليكن لكم من الإنسان فكره وروحه وتقواه، حتى إذا افتقد تقواه نسيتموه }وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل{([38]) فلنبتعد عن عبادة الشخصية ولنعبد اللّه ونسير في عبادته مع من يرضاهم اللّه، وذلك هو درس القرآن))[39])).

4. مشكلة التعلّق بالبدايات وإهمال النهايات:

يقول سماحته: ((مشكلتنا أنّنا نتعلّق بالبدايات ونعمى عن النهايات، وأنّنا ننظر إلى السطح دائماً ولا ننظر في العمق. وهناك تعبير دارج يقول: ((فلان يقرأ الممحي)) فلابدّ لنا في الكثير من الحالات أن لا نقرأ الكلمات المكتوبة فقط، بل نعمد إلى قراءة الممحي لأنّ الحقيقة قد تكون فيه. وهناك تعبير يدلّ على هذا المعنى أيضاً، حيث يقال: ((فلان يقرأ ما بين السطور)) أي يقرأ الفراغات التي بين السطور لأنّ الحقيقة ربّما تكمن هناك، ولأنّ المستكبرين والظالمين والمنحرفين يضعون عادة خططهم الخبيثة بين السطور))[40])).

5. مشكلة الحيادية (الأكثرية الصامتة):

يقول سماحته: ((إنّ مشكلتنا أيّها الأحبّة مع إسرائيل ومع الاستكبار العالمي هي مشكلة الحياديين واللاأباليين والساكتين والأكثرية الصامتة. فليست إسرائيل هي الأقوى، ولكنّنا كنّا الأضعف فاستفادت من عناصر ضعفنا، وليس الاستكبار هو الأقوى، فنحن نملك الكثير من العناصر التي تستطيع أن تضغط عليه، ولكنّنا نقول:

ما علينا إن قضى الشعب جميعا                      فلسنا في أمان؟!

ونقول ((اللّهم اعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجّنا من الشرير)). ونقول: استرنا واستر عيالنا ولا دخل لنا بالناس الآخرين. ونقول: ما لنا وللدخول بين السلاطين، غير مدركين أنّ هذه الذهنية هي التي أسقطت عنفوان الأمّة كلّه، وجعلت الذلّ مقدّساً، حتى قال شاعر عربي وهو يصوّر التلاعب بالألفاظ: ((تأنّق الذلُّ حتى صار غفرانا)). فالبعض يقول: إنّما نحن نعفو ونغفر والقضية في واقعها ليست عفواً ولا غفرانا، وإنّما هي ذلّ أمام الظالم. ولذلك ترانا نتلاعب بالألفاظ ونقنع أنفسنا بأنّها حقائق))[41])).

6. مشكلة إخفاء نقاط الضعف:

يقول سماحته: ((إنّ مشكلتنا على مستوى العالم الإسلامي والأنظمة والقيادات السياسية والاجتماعية والأمنية، إنّنا غالباً ما نخفي نقاط ضعفنا ولا نريد أن نعترف بها، وبذلك تتراكم نقاط الضعف لتأكل نقاط القوة ويصبح الواقع كلّه نقاط ضعف))[42])).

7: مشكلة الانهزام أمام الاستكبار والصهيونية:

يقول سماحته: أمّا في الواقع السياسي فأين هم المسلمون؟ إنّهم يمثّلون فرقاً متناثرة لا تجتمع إلاّ عندما يريد الاستكبار لها أن تجتمع. إنّنا نملك بحمد اللّه الذي لا يحمد على مكروه سواه (منظمة المؤتمر الإسلامي) ولكنّنا عندما ندرسها نعرف أنّها أسست برغبة أميركية في البداية حتى تجمع المسلمين عندما تريد أن يؤيدوا لها مشروعاً هنا ومشروعاً هناك، أو يخرّبوا مشروعاً هنا أو مشروعاً هناك، لذلك لم تستطع منظمة المؤتمر الإسلامي في اجتماعاتها كلّها أن تحقق شيئاً على الأرض، فهي حتى عندما عقدت مؤتمرها الأخير في طهران، فإنّها دجّنت القضايا الإسلامية ولم تعطها حيويتها وقوتها، ولذلك رأينا أن الكيان الصهيوني كاد أن يستكمل تهويد القدس، وعندما رأى أنّ المسلمين أو أنّ العرب يمثلون عدداً كبيراً حاول بمشروعه الجديد أن يوسّع القدس بحيث تضمّ إدارياً مجموعة من اليهود في المستوطنات ليصبح العرب أو المسلمون أقلية لا يستطيعون أن يؤثروا في الواقع شيئاً.

إنّ (منظمة المؤتمر الإسلامي) لم تجتمع حتى الآن، ولو اجتمعت فإنّها سوف تصدر قرارات ينساها الذين أصدروها قبل أن يخرجوا من قاعات المؤتمر ومنهم المرتبط أو أكثرهم بالسياسة الأمريكية في العالم.

ثم أين هي الثروة الاقتصادية الإسلامية والمسلمون يملكون أكبر احتياطي في العالم من البترول، ويملكون الكثير من الثروات داخل أرضهم؟ إنّنا لو درسنا كلّ البلدان الإسلامية فسوف نجد أنّها تعيش الفقر وتخضع للبنك الدوليّ الذي يفرض عليها شروطاً مالية واقتصادية تخلق في كلّ بلد مشكلة، كما رأيناه يفعل في أندنوسيا وغيرها.. إنّ المسلمين يملكون ثروات طبيعية لا تملكها أية دولة أخرى، ولكنّهم كما قال الشاعر:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما                                      والماء فوق ظهورها محمولُ

لقد أصبح بترول كثير من الدول مرتهنا لدى المستكبرين بحيث لا يستفيد منه أصحابه شيئاً ذا بال، إنّهم يخلقون لنا فتنة ويصنعون من الفتنة حرباً، ويعملون على أن نستفزّهم من أجل أن يساعدونا في الحرب ضد بعضنا البعض، وندفع تكاليف الفتنة وتكاليف الحرب وتكاليف القواعد العسكرية ولهم الجميل في ذلك كلّه، فهم الذين صنعوا الحرب وهم الذين صنعوا السلم، لأنّ الحرب كانت في مصلحتهم لا مصلحتنا. ولأنّ السلم كان في مصلحتهم لا مصلحتنا. هذا هو الواقع السياسي وهو أنّ المسلمين لا تجمعهم جامعة، كما قال الشاعر:

تفرّقوا  شيعا فكلُّ قبيلة                      فيها أميرُ المؤمنين ومنبرُ

أمّا في الواقع الأمني فقد جمّدنا صراعنا مع الكيان الصهيوني، وقلنا إنّ الحرب انتهت، وعندما نؤيّد المقاومة الإسلامية في فلسطين وفي لبنان فإنّنا نؤيّدها حياءً وخجلاً، ولأنّ واقع المرحلة يفرض على كثير من العرب أن يتحدّثوا بإيجابية، ولكنهم يهمسون لبعضهم البعض إنّ هؤلاء الأصوليين المتطرفين إمّا أن ننتهي منهم أو ندجّنهم، وقد بدأت عملية التدجين.. هذا هو واقع المسلمين))[43])).

ويقول في موضع آخر: ((وعلى ضوء هذا فإنّ علينا أن ندرس علاقاتنا مع الاستكبار العالمي الذي يمكن أن نعتبره عدوّاً أكبر لأنّه يعمل ويمارس ذلك في سرقة ثرواتنا الاقتصادية ومصادرة أسواقنا الاستهلاكية، وقد منعنا من الحصول على الاكتفاء الذاتي وسعى إلى تدمير ثقافتنا لتكون على هامش ثقافتهم، لذلك لابدّ أن نكون واعين حذرين في العلاقات كلّها، فنحن لا ندعو إلى مقاطعة العالم، ولا نقول إنّ على المسلمين أن يقاطعوا غير المسلمين، بل نقول إنّ على المسلمين أن لا يكونوا ساذجين وبسطاء، وأن لا يفتحوا قلوبهم للذين أغلقوا قلوبهم عنهم والذين يخططون لتدميرهم))[44])).

رابعاً: من مشاكلنا الاجتماعية

1.  مشكلة الإتكالية:

يقول سماحته: ((مشكلتنا أنّنا مثل تنابلة السلطان، فبعضنا يريد أن يصبح كبيراً من دون أن يأتي بالعناصر التي تكبّره، ويبلغ الدرجات العالية من دون أن يواجه التحديات التي تواجهه، كما قال ذلك الشاعر:

تريدين إدراك المعالي رخيصة                          ولابدّ دون الشهد من إبر النحل))[45]))

ويقول في موضع آخر ((إنّ مشكلتنا هي أنّنا نقول للآخرين فكّروا لنا ولا نقول لهم فكّروا معنا. فنحن نعيش في مرحلة غسل الأدمغة بالفضائيات والصحف والخطابات الاستهلاكية والمتخلّفين والجاهلين من أدعياء العلم. مشكلتنا هي أنّنا نستهلك ذلك كلّه حتى أصبحت صورتنا مشوهة، تشويه في الفكر وفي الروح والوعي والحركة))([46]).

2. مشكلة اللاشعور في حركتنا:

يقول سماحته: ((مشكلتنا أيّها الأحبّة أنّ منطقة اللاشعور التي تنطلق مما نمتصّه من المرئيات والمسموعات هي التي تحكم أكثر خطوات حياتنا، فلو فكّرنا فيما نملك من طباع أو ما نعيشه من أخلاق، أو نتحرّك به من خطوات لرأينا أنّ أغلب هذه الأمور منطلقة من واقع لا شعوري يمتصّه الإنسان من بيئته ومن خلال مشاهداته وأوضاعه الاجتماعية، أمّا الأشياء التي نختارها بشعورنا فقد لا تكون إلاّ بنسبة 25% ولذلك يراد لنا أن نحاسب أنفسنا دائماً لنكتشف الأشياء التي زحفت إلينا من دون اختيار، وتلك التي كانت بمحض اختيارنا، فمن غير الطبيعي أن تجعل مصيرك خاضعاً لتأثيرات بيئية أو عاطفية لم تملك أمامها أيّ خيار))[47])).

ويقول في موضع آخر: ((إن مشكلتنا هي كما شخّصها الشاعر العالم الشيخ محمد رضا الشبيبي:

حكم  الناس على الناس بما              سمعوا عنهم وغضّوا الأعينا

فاستحالت  وأنا  من  بينهم               أذني  عيناً  وعيني   أذنا

فلقد صرنا نسمع بعيوننا وننظر بآذاننا، أليس كذلك؟))[48])).

3. مشكلة التحرّك بدافع الانفعال:

يقول سماحته: ((إنّ مشكلة الكثير من الناس العاملين في سبيل اللّه أنهم يتحّركون بوحي الانفعال والحماس ليقول أحدهم لابدّ أن نقول كلمة الحقّ حتى لو كلّفنا ذلك قطع الأعناق. وهذه المسألة من حيث دلالاتها على الإيمان وعلى الشدّ الروحي جيدة جداً، ولكن ثمة فرق بين أن تعيش مشاعرك وبين أن تؤكّد موقفك، فلربّما تتحوّل مشاعرك لتكون خطراً على موقفك. لذلك عندما أكّد أهل البيت(ع) مسألة التقية فإنّهم لم يؤكّدوها جبناً وخوفاً من ناحية ذاتية، ولكنّهم أكّدوها للحفاظ على الخط المستقيم، لأنّ بعض الانفعالات والأساليب الحماسية ربّما تتحوّل إلى خطر على الخطّ كلّه، لذلك نجد أنّ أهل البيت(ع) عندما نادوا بالتقية حدّدوها من غير استفساد في الدين، بمعنى أن لا تتحوّل إلى أسلوب يوجب تضليل الناس عن الحقيقة وإسقاط الدين في الساحات العامّة، لكنّها حالة مرحلية تحددها طبيعة الأخطار التي قد تترتب على الشخص، وقد تترتب على الخطّ كلّه))[49])).

ويقول في موضع آخر: ((مشكلتنا هي أنّنا انفعاليون في البيت وفي السوق لأنّنا عصبيون، ولذلك نحتاج إلى نوع من العقلانية بأن نفكّر بالعقل البارد، لأنّ مشكلة العقل الحرّ هي أنّ الحرارة تحجبه بأبخرتها فلا يعود يرى شيئاً. فالعقل الحار محجوب بأبخرة العصبيات والانفعالات والحساسيات فلا يفهم شيئاً. لذلك ندعو دائماً إلى التفكير بالعقل البارد الذي يتحرّك على أساس معادلات رياضية كما في (1+1=2) ولكن في العصبية والانفعال تنقلب المسألة ليصبح (1+1=5) أليس الكثير من الناس يفكّرون بهذه الطريقة؟!))[50])).

4. مشكلة اختلال التوازن بين الحقوق والواجبات:

يقول سماحته: ((ولعلّ مشكلة الناس أيّها الأحبة في العالم على مستوى الدول والشعوب والعلاقات الفردية، هي أنّهم لا يعيشون التوازن فيما لهم وفيما عليهم، لأنّ بعض الناس يرى أنّ له الحقّ على الناس وليس للناس حقّ عليه، ومن هنا يبدأ الاهتزاز، ففي الحياة الزوجية قد يعتقد الزوج أنّ له كلّ الحق على زوجته وليس لزوجته حقّ عليه وبذلك يختلّ التوازن، وقد يتصوّر الأب أنّ له كلّ الحق على أولاده وليس لأولاده حقّ عليه. أو يتصوّر الحاكم أنّ له كل الحق على شعبه وليس لشعبه حقّ عليه، وما إلى ذلك، فمشكلة الإنسانية منذ ان كانت ولحدّ الآن هي مشكلة الناس الذين يعتبرون أنّ لهم وحدهم الحقّ وليس عليهم أيّ حق.

وعلى هذا، كان الإمام زين العابدين(ع) يحدّد في (رسالة الحقوق) لكلّ إنسان ما له من الحقّ وما عليه من الحقّ، واعتقد أنّ من الضروري لكلّ إنسان ولا أقول لكلّ مسلم أو شيعي أن يعتبر رسالة الحقوق رسالته حتى يوازن حركته في المجتمع أو مع نفسه، وقبل ذلك مع ربّه ليعرف حقّ ربّه عليه وحقّه الذي فرضه اللّه على نفسه له..))[51])).

5. مشكلة الضوضاء:

يقول سماحته: ((مشكلتنا أيّها الأحبّة هي في هذه الضوضاء النفسية والاجتماعية، والضوضاء الطائفية والحزبية والسياسية والعصبية التي تجتمع في عقولنا وفي قلوبنا فتحجب عنّا وضوح الرؤية، وبذلك تندفع هذه الضوضاء لتجعل الإنسان مهذاراً يعبّر عن الضوضاء النفسية بضوضاء الكلمات. وعندما تتحرّك الكلمات في أجواء الضوضاء فإنّها تجعل مصيرك ومصير المجتمع في قبضة الضوضاء. وما أكثر الذين يعيشون ضوضاء الجهل والحقد والعصبية ممن يطلقون الكلمة المقروءة أو المسموعة أو المرئية لتنتشر الضوضاء في المجتمع.

إن اللّه يريدنا أن نصمت لا صمتاً يشلّ إرادتنا عن الكلمة، ولكنّه الصمت الذي ينظّم لنا تفكيرنا في حركة الموقف وحركة الكلمة من خلال الموقف))[52])).

خامساً: من مشاكلنا الروحية والتربوية

1. مشكلة اختصار العالم بذواتنا:

يقول سماحته: ((إنّ مشكلة المعجب بنفسه هي أنّه يعتبر العالم محصوراً في نفسه فلا يجد هناك شيئاً غير نفسه، فكأنّه يختصر العالم فيها، فيمنّ إذا آمن على اللّه وللّه المنّة عليه ويصلّي بعض الركعات فيما يتنفّل به أو يحجّ استحباباً أو يتصدّق هنا وهناك، ثم إذا ما ابتلاه اللّه عاتبه في ابتلائه: لماذا تبتليني وقد عبدتك؟! لماذا تبتليني وقد صلّيت لك صلاة الليل، وقد حججت وقد تصدّقت ((مدلاً عليك فيما قصدتُ فيه إليك)) فقد تكون حالة الإدلال على اللّه منطلقة من أنّ الإنسان يشعر أنّه قدّم إلى اللّه خدمة عندما صلّى، وأنه فعل مع اللّه جميلاً عندما صام وحجّ، فيما يعتبر اللّه سبحانه وتعالى أنّ طاعة الإنسان إنّما هي لنفسه ذلك لأنّ اللّه ((لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه))[53])).

ويقول في موضع آخر: ((فلابدّ أن نفكّر في هذا الواقع، وأن لا يجلس كلّ واحد منّا في زاوية ليتصوّر أنّ زاويته تمثل العالم، وأن لا يجلس كلّ إنسان مختنقاً في داخل شخصيته ليسجن نفسه في ذاته ويعتبر أنّ ذاته تختصر الأمّة كلّها. فلكلّ موقع ودور، والآفاق أمامنا واسعة))[54])).

2. مشكلة العبادة المجرّدة:

يقول سماحته: ((إنّ مشكلة المجتمع الإسلامي، ولا أريد أن أقف موقف المُتَهِم، ولكن أريد أن أتحدّث عن ظاهرة، وهي أنّ الكثير من أبنائه يتربّى بأن يصلّي ويأتي بالفروض والنوافل بشرط أن لا يكون واعياً لإيحاءات العبادة الأخلاقية، أي بشرط أن تقترب العبادة من تقاليده وأوضاعه الاجتماعية السلبية وعصبياته، وتلك عبادة بدون روح.

أمّا أخلاقية العلاقات الاجتماعية، والحقيقة، والسلامة الاجتماعية، فأظنّ أنّنا لا نتربّى عليها، فنحن نتعلّم الكذب من آبائنا وأمهاتنا عندما يكذب الزوج على زوجته والزوجة على زوجها، وعندما يكذب الأب على أولاده، ليكذب الأولاد على أبيهم وهلمجرّا، حتى أنّ الكثيرين قد يبرّرون الكذب بالتورية، وهي حتى لو أنقذت الشخص فإنّها تعطي انطباعاً سلبياً.

لذلك أيّها الأحبّة نحتاج إلى عبادة أخلاقية واجتماعية وسياسية وأمنية وفكر يعبد اللّه بالحقيقة، وقلب يعبد اللّه بالمحبّة، وحركة تعبد اللّه بالسير في الخط المستقيم، لأنّ العبادة في الإسلام ليست الصلاة أو الصوم فقط، ولكن هي أن تخضع للّه في كلّ ما يحب أن تفعله، وأن تخضع له في كلّ ما يبغض فتتركه، سواء كان ذلك صلاة أو صوماً أو حجّاً أو علاقة أو موقفاً ، أو طعاماً أو شراباً وما إلى ذلك))[55])).

ويقول في موضع آخر: ((لعلّ مشكلتنا أيّها الأحبّة أننا نلتقي باللّه في سطح وجودنا وسطح فكرنا، فأفكارنا لا تتعمّق باللّه، وفي سطح القلب فقلوبنا لا تختزن في نبضاتها محبّة اللّه، وهكذا في سائر جوانب حياتنا، فاللّه عندنا كلمة وليس معنى، وهو بالنسبة لنا مجرد شيء نعيشه بعيداً عن واقعنا، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.

لذلك ورد عندنا في الحديث الشريف: ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إلا بعدا)). ذلك أن الصلاة تقرّبك إليه بمعناها، فإذا لم تتقرّب إليه فإنّك لا تبقى مكانك ولكنّك تزداد بعداً عنه، لأنّك استخدمت وسيلة القرب إلى اللّه لتكون وسيلة القرب من الشيطان من خلال غفلتك، ومن خلال كلّ السلبيات التي تعيشها في صلاتك)).[56]))

3. مشكلة فقدان التوازن في مواعظنا:

يقول سماحته: ((إذا فكّرت في المسؤولية فسوف تعرف أنّ اللّه سوف يحاسبك وأنت تعمّر داراً أو عقاراً، عن الحلال والحرام، ويحاسبك وأنت تتاجر عن المعاملة الفاسدة والصحيحة، وعن العلاقة هل هي علاقة خير أو علاقة شرّ؟ وعن المشروع السياسي هل يتحرّك في خطّ العدل أو الظلم؟ فإذا فكّرت بالمسؤولية فكّر في أنّك تقدّم حسابك كما لو كنت تموت غداً، وهذا هو الذي يركّز التوازن بين إحساس الإنسان بالمسؤولية في عمله وبين حركته في عمله من أجل تحقيق رسالته في بناء الحياة. ولعلّ هذه الكلمة الرائعة(*) التي ينسبها البعض إلى أمير المؤمنين(ع) والحسن(ع) هو تلميذه، لو أخذ بها المسلمون لاستطاعوا أن يواجهوا العالم بمواقع التقدّم كلّها، ومواقع العمران السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي كلّها. ولكن المشكلة هي أنّ الذين يربّون الناس في الموعظة لا يقفون موقف التوازن، فهم يحدّثونك عن الموت وعن القبر دون أن يحدّثوك عن الحياة. ونحن أيّها الأحبّة بحاجة إلى أن نوازن بين الموت وبين الحياة، فليكن الموت عنوان المسؤولية، ولتكن الحياة عنوان البناء والعمران والتقدّم، ولكن مشكلتنا هي في فقدان التوازن في مواعظنا في مواقع حياتنا كلّها))[57])).

4. مشكلة استغلال الشيطان لضعفنا:

يقول سماحته: ((إنّ مشكلتنا مع الشيطان هي أنّه يستغلّ ضعفنا ويبعدنا عمّا نعرف ليقودنا إلى ما نهوى، ولذلك فإنّ قوة الشيطان تنطلق من ضعفنا، كما هي الحال الآن في واقعنا السياسي في العالم، فليس من الضروري أن أعداءنا من الشياطين الكبار والصغار هم أقوى منّا، صحيح أنّهم يملكون القوّة ولكنهم أقوياء بضعفنا، فإذا قوينا وأخذنا بأسباب القوّة أمكننا أن نقف أمامهم ولكننا نصنع الضعف لأنفسنا ويصنعون القوة لأنفسهم فيسيطرون علينا من خلال سيطرتهم على نقاط الضعف. فالشيطان لا يملك الحجّة لأنّه ينطلق من الباطل.. فإذا سلّمت بمعرفة الحقيقة وهضمتها وحوّلتها إلى جزء من ذاتك الثقافية والفكرية أمكنك أن تكشفأسلوب وسوسة الشيطان))[58])).

سادساً: من مشاكلنا الدينية:

1. المشكلة المذهبية:

يقول سماحته: ((في الواقع الإسلامي نجد أنّ المسلمين يمثّلون خمس العالم فهم يزيدون على المليار، ولكننا عندما ننفذ إلى الداخل فماذا نجد؟ نجد أنّ المسلمين يتفرّقون في مذاهب متعدّدة فليس هناك مذهب واحد يجمعهم في وعي الحقيقة الإسلامية فكراً وشريعة ومنهجاً وأسلوبا. ونلاحظ إلى جانب ذلك أنّ هذه المذهبية تحوّلت إلى حالة متحجّرة متجمّدة في وعي أصحابها، فقد قرر الجميع إلاّ ما ندر أن لا يخرج أحد عن أية فكرة يحملها ولا يدخل في حوار مع الآخر إلاّ إذا كان يريد أن يسجّل نقطة عليه لا من أجل أن يسمع منه ليقتنع بما يقوله أو يناقش ما يقوله.

لقد أصبحت المذهبية سنّة في خطوطهم المذهبية والشرعية لأنّهم لا يستحضرون الخطوط التفصيلية في حركتهم ولكنّهم يستحضرون الامتداد الطائفي الذي يشبه الامتداد العشائري، ولذلك لم يستطع المسلمون أن يقتربوا من بعضهم البعض، ولم يتمكّنوا من أن يلتقوا على ما اتفقوا عليه، بل إنّ نقاط الخلاف أصبحت هي التي تتصدّر الواجهة في العلاقات الإسلامية من دون نقاط الوفاق.

فعندما يجتمع سنّي وشيعي لا يقول أحدهما للآخر إنّ الإسلام يجمعنا، بل يقول له أنت شيء وأنا شيء آخر، وبذلك تحوّلت المذهبية إلى ما يشبه الدين، حتى أنّ ذلك دخل في وجدان المسلمين في تمثلهم لمذاهبهم، فدين هذا يختلف عن دين الآخر، وربّما تحوّل ذلك إلى حالة نفسية متحجّرة تجعل العلاقة بينهما علاقة حقد وحقد لا علاقة مُسلمَين يعيشان الحبّ للّه من خلال الإسلام ويتعاونان على أن يتفاهما على ما يختلفان فيه، وأن يرجعا ذلك إلى اللّه ورسوله استجابة لقوله تعالى }فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه والرسول{[59]))))[60])).

وفي مسألة الوحدة الإسلامية بين السنّة والشيعة، يقول سماحته: ((إنّنا نتحدث عن الوحدة الإسلامية بطريقة مائعة وغير مسؤولة، فنحن لا نقول للشيعي كن سُنّياً لحساب الوحدة، أو نقول للسنّي كن شيعياً لحساب الوحدة، لكننا نقول للسنّي كن مسلماً في تسنّنك ونقول للشيعي كن مسلماً في تشيّعك، لأنّنا إذا وضعنا الإسلام قاعدة للصفة التي نتصف بها فسنتعاون على فهم خطوط التشيّع فيما يراه الشيعة في الإسلام وخطوط التسنّن فيما يراه السنّة في الإسلام، ولقد أصبح الواقع الذي نعيشه هو أنّ كثيراً من الجهد الثقافي الذي يصرفه المسلمون في مناقشة بعضهم البعض ومحاربة بعضهم البعض ثقافياً أكثر مما يصرفونه في مناقشة الإلحاد وخطوط العلمانية والتحديات التي تواجه الإسلام في عقائده وشرائعه.

ولعلّنا في استغراقنا في هذا الحقد المذهبي الداخلي بتنا لا نشعر أنّ هناك حرباً عالمية شرقية غربية ضد الإسلام في خطوطه العقيدية والشرعية، وفي واقعه البشري، وفي ثرواته الاقتصادية ومواقعه الاستراتيجية ومفاصله السياسية والأمنية، في حين أنّ هناك حرباً أعلنها حلف الأطلسي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي..  حيث قالوا إنّ العدو الجديد الذي يجب أن يستعدّ له الحلف الأطلسي هو الإسلام، ونحن مشغولون بهذه الخلافات التي مضى عليها ألف وأربعمائة سنة ونيّف، ونحن نغيّر ألفاظها ولا نأتي بجديد.

إنّ المسألة الملحّة الآن هي أن تكون لنا روحية الإسلام، فإذا صرت شيعياً لأنّك اقتنعت بأنّ التشيّع هو الخط الإسلاميّ الأصيل، وهذا صار سنّياً لأنّه اقتنع بذلك، إذا كنتما مخلصين للإسلام فتحاورا بروح إسلامية لا بروح الحقد الذي يحمله كلّ منكما للآخر، لأنّه لا يكفي أن يكون العقل مفتوحاً لنصل إلى نتيجة فيما نختلف فيه، بل لابدّ أن يكون القلب مفتوحاً أيضاً، فإذا أغلقت عنّي قلبك وأغلقتُ عنك قلبي فلن يستطيع العقل مهما شحنته بالنظريات أن يقنعك أو تقعنه، لأنّ القلب هو الأساس، وقد ربح رسول اللّه الناس بقلبه قبل أن يربحهم بعقله لأنّه فتح قلوب الناس بخلُقه، ولأنّ قلبه كان مفتوحاً على الجميع. وقد علّمنا علي(ع) في استيحائه ذلك بالكلمة المأثورة ((احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك)).[61]))

2. مشكلة التكفير:

يقول سماحته: ((إنّ مهمة أجهزة المخابرات الدولية لم تكن فقط أن ترصد ماذا يقول الناس ويفعلون، بل أن تنتج الفتنة والخلافات، وأن تشغل الناس بخلافات عائلية وإقليمية وطائفية ومذهبية وشخصية في داخل المذهب الواحد حتى تتفرّغ لسرقة أموال المسلمين ولاستثمار ثرواتهم ولمصادرة سياستهم وللإطباق على أمنهم لأنّهم مشغولون بالقضايا المذهبية بين مسلم ومسلم، وبين سنّة وشيعة، فهذا يكفّر هذا، وهذا يكفّر ذاك، إنّهم مشغولون بالقضايا الطائفية بين المسيحية وبين الإسلام، وبالقضايا الإقليمية في هذا البلد وذاك البلد، في حدود هنا وحدود هناك، أو في بعض القضايا التأريخية التي يمكن أن تثير الأحقاد هنا أو تثير الأحقاد هناك، وينشغل الناس بكل هذا اللغو الذي لا يحمل الكثير من الحقّ بل يحمل الكثير من الباطل في ردود وخطابات وإثارات ومنازعات وما إلى ذلك)).[62]))

ويقول في موضع آخر: ((في الحقيقة، إنّنا ابتعدنا كثيراً عن الإسلام وأصبحنا نقتل بعضنا البعض بالإسلام، نكفّر بعضنا البعض باسم الإسلام، ونلعن بعضنا البعض باسم الإسلام، فأيّ إسلام هو هذا)).[63]))

3. مشكلة الدوائر المغلقة:

يقول سماحته: ((إنّنا عندما نعيش تعدد المرجعيات التي قيل عنها إنّها تمثّل غنى في الشأن العلمي، باعتبار أنّها تمثّل التنوّع في الخطوط العلمية، نجد أنّها تحوّلت إلى دوائر مغلقة، كلٌّ يغلق هذه الدائرة على نفسه وليس مستعداً أن يفتح كوّة من دائرته على الدائرة الأخرى بحيث أصبحت مسألة العصبيات في هذا الجانب تتحرّك بطريقة لا تخدم أحداً ولا تخدم خطاً، بل غدت الحال أنّك ترجع إلى شخص وذاك يرجع إلى آخر، كما لو كان مذهبك مختلفا عن مذهبه أو دينك مختلفاً عن دينه، لقد أصبحت هناك عصبية متخلّفة لا تفكّر بالأفق الواسع، وأفقنا الواسع هو الإسلام، وقيمة أهل البيت(ع) في خطّهم أنّهم كانوا أئمة الإسلام وكانوا المنفتحين على الإسلام)).[64]))

ويقول في موضع آخر: ((ولعلّ المشكلة التي يعيشها المسلمون في كلّ قرون التخلّف وما بعد ذلك هو هذا الانفصال بين علماء المسلمين، والانفصال بين مدارس المسلمين، والانفصال بين مساجد المسلمين، حتى أنّنا وصلنا إلى مرحلة نفكّر فيها كيف يمكن الانفصال بين مصير المسلمين أيضاً ليكون للشيعة مصير سياسي معين وللسنّة كذلك، فإذا أصيب المسلمون الشيعة بمشكلة فإنّ السنّة لا يرون أنفسهم معنيين بهذه المشكلة، وإذا أصيب المسلمون السنّة بمشكلة فلا يرى الشيعة أنّهم معنيون بها حتى لو كان الإسلام هو الذي يعتدى عليه في الموقع الشيعي وفي الموقع السنّي، كما نلاحظ ذلك في الواقع الذي نعيشه حيث أنّ الاستكبار العالمي يقف في مواجهة المجاهدين في فلسطين ولبنان، سواء كانوا من السنّة أو من الشيعة، لا على أساس أنّ هؤلاء يرون الخلافة في علي وهؤلاء يرون الخلافة في أبي بكر وما إلى ذلك، وإنّما لأنّ الاستكبار ينطلق من خلال أنّه لا يريد للإسلام أن يكون عنصر قوة في المجتمع، ولا يريد للإسلام أن يتحدّى مصالحه وأطماعه وامتيازاته.

ولكننا نعيش في حالة من التخلّف الذي نختنق فيه في خصوصياتنا ولا نستطيع بالتالي أن نقنع بعضنا البعض.. أتعرفون لماذا؟ لا لأنّنا لا نملك حجّة يمكن أن ننطلق فيها بحوار، ولكن لأنّ قلوبنا امتلأت حقداً على بعضنا البعض، فالمسلم عدّو المسلم، والمسلم يحمل الحقد على المسلم، ولعلّنا في بعض الحالات نجد أنّ المسلمين يتحدثون عن الآخرين كما كان اليهود يتحدثون عن المؤمنين المسلمين ويشيرون إلى الذين أشركوا ويقولون }هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا{[65])). ويمكنك أن ترى في الشيعة من يجد أنّ النصارى أقرب إليهم من السنّة وتجد في السنّة من يرى أنّ النصارى أقرب إليهم من الشيعة، لهذا أصبحت مسألة الاختلاف الديني أقلّ تأثيراً في نفوس المسلمين من الاختلاف المذهبي)).[66]))

4. مشكلة وعّاظ السلاطين:

يقول سماحته: ((مشكلة بعض العلماء الذين امتلأت عقولهم بالعلم فهم مثقّفون بالحق ّومنفتحون على قضايا الإنسان، أنّ شهواتهم أكثر تأثيراً على حركتهم في الحياة من عقولهم، وأن غرائزهم هي التي تتحرّك في خطّ مشاريعهم في الحياة، فهم يملكون معرفة الحق ّولكنهم يتحرّكون في خطّ الباطل، وهم يعيشون معنى العدل في أذهانهم في الوقت الذي يتحرّكون فيه مع الظالمين ليؤيدوا ظلمهم، وهم ينظّرون للاستقامة في الفكر ولكنّهم ينحرفون في أحكامهم وفي مسيرتهم، لأنّهم يعرفون اللّه في عقولهم فكراً ولكنهم يعيشون الشيطان قلباً وإحساساً وحركة وشعورا، وهؤلاء هم الذين يمثّلون الخطر على الإنسان والإسلام كلّه. ولعلّ مشكلتنا في ذلك تتمثّل في الكثيرين ممن أطلق عليهم ب(وعّاظ السلاطين) هؤلاء الذين يعطون السلطان الجائر فتوى بالحرب إذا أراد حرباً وفتوى بالسلم إذا أراد سلماً، وهكذا يزيّنون له الظلم والانحراف من موقع شرعي وما هو من الشريعة في شيء)).[67]))

5. مشكلة الشعارات المثيرة للفتنة:

يقول سماحته: ((وكم نجد أيّها الأحبّة في واقعنا من كلمات الحقّ التي تطلق من أجل الباطل، كلمات حقّ في مفهومها ولكن يراد لها أن تطبّق على أساس الباطل، وكم من الناس يطلقون من الكلمات باسم الإسلام وهم يعيشون معاني الكفر، وكم من الناس يطلقون من الكلمات باسم محبّة رسول اللّه(ص) وأهل البيت(ع) وهم يتحرّكون في غير خطّ الاستقامة خط رسول اللّه وخط أهل بيته. فليست الكلمات مجرّد شيء تطلقه في الهواء ولكن لكلّ كلمة معناها في القاموس ومعناها في الواقع، إذ لا يكفي أن تحرّك الكلمة في القاموس لتطلقها في الهواء، ولكن عليك أن تطلق الكلمة وتأخذ معناها في اللغة ثم بعد ذلك ترى كيف تتحرك في الواقع لأنّ بعض الناس قد يحرّكون الكلمات في معناها اللغوي بعيداً عن معناها في حركة الواقع، وتلك هي الكلمات والشعارات التي تطلق وهي حقّ، لكنّ الذين يقولونها يخططون لها من أجل أن تتحوّل إلى باطل في عالم التطبيق)).[68]))

ملاحظات عامّة:

1. من خلال استقراء المشكلات التي أوردنا بعضها يمكن ملاحظة أنّ سماحة السيد يذكر المشكلة بشيء من التفصيل، فهو يتحدّث عن أية مشكلة بحذافيرها وأبعادها، الأمر الذي يعني إحاطته بالمشكلة موضوع البحث إحاطة العالم والخبير والمصلح الذي يعيش واقع الأمة بمشكلاتها كلّها.

2. هناك أكثر من نصّ مُشَخِّص أو مُعَالِج للمشكلة الواحدة وقد أوردنا مثلاً أو مثلين للتدليل على المشكلة التي طرحها سماحته في أكثر من موضوع، كما يلاحظ أيضاً أنّه يطرق بعض المشكلات المهمّة أكثر من مرّة ليكون أبناء الأمة على وعي بها وحذر من استفحالها وعمل على معالجتها، ذلك أن التذكير الدائم بالمشكلة أشبه شيء بالتذكير الدائم بمخاطر المرضى.

3. الملاحظ أيضاً أنّ سماحته لم يترك المشكلة سائبة في أغلب الأحيان وإنّما يطرحها مفصلاً ثم يردفها بالمعالجة المناسبة، فهو لا يثقّفنا بوجود المشكلة ومخاطرها فحسب بل بالسبل الكفيلة بمواجهتها وحلّها أيضاًَ.

4. هناك بعض المشكلات التي يمكن أن تندرج تحت أكثر من عنوان كأن تكون سياسية واجتماعية في نفس الوقت، أو كأن تكون تربوية ودينية، وهكذا، وإنّما أدرجت تحت عنوان بعينه لغرض التصنيف الأولي ليس إلاّ.

5. ولا يخفى أنّ العناوين الفرعية التي مثلت المشكلات الرئيسية هي ليست كلّ متعلّقات وتفريعات المشكلة الأم، أي أنّ هناك مثلاً مشاكل سياسية أخرى ذكرها سماحته وهناك مشاكل فكرية واجتماعية وتربوية ودينية لم يسع المجال لذكرها.

مقترحات الحلّ:

وحتى نستكمل هذا الاستعراض السريع لأهمّ مشكلاتنا، كما جاءت في مجلدات الندوة الثمانية، لابدّ من أن نقول إنّ سماحته كان يشير في الأثناء إلى بعض الحلول التي تأتي تارة على شكل معالجة واضحة وصريحة ومستندة إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه(ص) وأحاديث الأئمة من أهل البيت(ع) ويتجلّى ذلك خاصة في المحاضرات التي خصّصها لعلاج بعض المشكلات.

وأحياناً يطرح أبعاد المشكلة على شكل تحذير من مغبّة التمادي فيها، أو من استفحالها في الواقع، أو من مضاعفاتها المغفول عنها والتي قد تجرّ وبالاً كثيراً.

وأحياناً ينبّه من موقع المسؤولية الرسالية والعلمية والإصلاحية إلى خطورة المرحلة التي تعيشها الأمة الإسلامية والتحديات القاسية التي تواجهها على مختلف الصعد، داعياً إلى أن يعيش كل مسلم بحجم إسلامه بحيث يعيش همومه وقضاياه، وأن ينميّ الإسلام ليملأ به الحياة، وأن يكون إسلاماً يتجسّد.

وأحياناً يشير إلى مسألة الأولويات، فهناك مشكلات أعقد من مشكلات أخرى، وهناك مشاكل يمكن أن تنتظر الحلّ، أمّا مشكلة الحرية أمام الاستكبار العالمي والصهيوني فبحسب تعبير سماحته لا تنتظر، كما أنّ مشكلة العزّة والكرامة لا تنتظر، فنحن نريد أن يكون لنا مكان في العالم وهم لا يريدون لنا ذلك.

وأحياناً يذكّر الأمة بمسؤولياتها الوطنية بأن نحمي إنسان الوطن وأرضه وحريته وأن لا يكون دائرة مغلقة عن الدوائر الأخرى، وأن لا نكون حياديين إزاء من يستعمروه ويضغطون على قراراته ويتعسّفون في التعامل معه، كما يذكّر دائماً بمسؤولياتنا في حجم الأمّة بل وفي حجم العالم كلّه.

وأحياناً يطلق الإنذار والتحذير من التضليل والتغرير والتجهيل والتخلّف والخوف والانحراف في الأجواء التي تسبح في الفتنة فلا يفرّق فيها الناس بين الحقّ وبين الباطل وبين الخير وبين الشرّ وبين العقل وبين الغريزة، ويدعو إلى الوضوح في الرؤية لأنّ العقيدة الحقّة هي النور الذي يشرق في العقل والقلب والحركة، ولأنّ الانتماء الحق هو الذي يحدّد المواقف والمواقع وخط السير.

وأحياناً يدعو إلى حوار العقل مع العقل لرفع الحساسيات التي تطبق على واقعنا، والوقوف بوجه الشبهات والإشاعات التي تعمل كمعاول على تدميره وتحطيمه، وإلى حلّ المشكلة المذهبية بتحويلها إلى حركة فكرية وإرجاع الأمور المتنازع عليها إلى اللّه والرسول، ومواجهة مخططات الاستكبار بالوعي والبرّ والتقوى وأن لا نتحوّل إلى جسر يعبر علينا إلى مآربه الشيطانية، وأن نجمّد الخلافات الجانبية لننشغل بالمهم وبالأهمّ بأن نكون جبهة واحدة في المقاومة والصراع مع أعدائنا، وأن لا ننخدع بالظواهر، وان نحارب كفر الإنسان وأن نقتل خطأه لا أن نفكّر بمحاربته وقتله، وإلى غير ذلك من مقترحات الحل التي تحتاج إلى إفراد مساحة واسعة أخرى لا يسمح بها المقام.

نسأله تبارك وتعالى أن ينفع بهذا القليل، وأن يمدّ في عمر سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه دام ظلّه راعياً ومرشداً ومصلحاً وموجّهاً ومعالجاً لمشاكل الأمّة، وأن يمنّ على أبناء الأمّة بالاستنارة بهدي آرائه وتوجيهاته، وأن يجنّبنا الوقوع في مهاوي الزلل والتعصّب والفتنة والجهل، إنّه نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

 

كشف بمحاضرات ومسائل الندوة الجزء الثامن

 

 

المحاضرات

30 محاضرة

المسائل القرآنية

123 مسألة

المسائل العقيدية

27 مسألة

مسائل السيرة

39 مسألة

المسائل الفكرية

72 مسألة

المسائل التربوية

81 مسألة

المسائل الفقهية

395 مسألة

مجموع أسئلة الندوة ج8

737 مسألة

 

 

عادل القاضي

دمشق الأول من صفر الخير 1422 هـ

24 نيسان 2001م

 

 

 

المحاضرة الأولى29 ربيع الأول 1421ه1/7/2000م

 

أسلوب الإمام الصادق(ع)

في الـحوار مـع الملحدين

 

 

* لم يكن أئمتنا(ع) حياديين أمام الانحراف ولم يكونوا منعزلين، ولذلك فإنّ الانتساب إليهم مسؤولية كبرى في أن نعيش سيرتهم *

 

 

 

 

مع الإمام الصادق(ع) من جديد.

هيمنة الصادق(ع) على الساحة الثقافية.

مهمة العلماء.

مجريات الحوار.

أسلوب الأسئلة التحريضية.

درس الذكرى.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

مع الإمام الصادق(ع) من جديد:

ما زلنا نتابع الإمام جعفر الصادق(ع) في حواراته مع الزنادقة لنتعرّف من خلال أسلوبه كيف نحرّك أسلوبنا في الحوار؟ لأنّنا في عصرنا هذا نصطدم بالكثيرين من هؤلاء الذين ينكرون على الإسلام عقيدته وشريعته ومنهجه، لاسيما وأنّ الساحة ساحة صراع ثقافي إلى جانب مختلف الصراعات السياسية والعسكرية والاقتصادية.

ولابدّ لنا أيّها الأحبّة أن نملك ثقافة ذلك كلّه، لأنّ الإسلام يريد للمسلمين جميعاً أن يكونوا مثقفين إسلاميين، ذلك أنّ مسألة الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه هي مسألة ترتبط بمسؤولية كلّ مسلم ومسلمة، كلّ بحسب ثقافته وقدراته. فأن تكون مسلماً يساوي أن تكون داعية للإسلام، ولذلك فإن الثقافة الإسلامية في العقيدة والشريعة والسياسة والاجتماع هي مسؤوليتنا. فالإسلام يريد للمجتمع الإسلامي أن يكون مجتمعاً واعياً منفتحاً يمكن له أن يعطي الصورة الحيّة عن المستوى الكبير الذي يحوّل فيه الإسلام الإنسان المسلم إلى شخص يملك مشروع قيادة. ألسنا نقرأ في (دعاء الافتتاح): ((اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك)). وذلك بأن يصنع كلّ واحد من نفسه مشروع قائد للإسلام بحيث ينمّي ذهنيتهوحركيته القيادية فيجعل لنفسه وقتاً للتثقيف الإسلامي.

هيمنة الصادق(ع) على الساحة الثقافية:

فلنتابع الإمام الصادق(ع) لنعرف كيف فرض نفسه على كلّ الساحة الثقافية آنذاك، بما فيها ساحة الزنادقة الذين كانوا يحترمونه أكثر من احترام أيّ شخصية علمية أخرى؟ فتعالوا إلى هذه الرواية التي يرويها (الكليني) صاحب (الكافي) (رحمه الله). والرواية ((عن أحمد بن محسن الميثميّ، قال: كنت عند أبي منصور المتطبّب، فقال: أخبرني رجل من أصحابي، قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء)). واسمه (عبد الكريم) وكان قد تتلمذ على يد (الحسن البصري) وهو من الملتوين اعتقادياً. ((وعبد اللّه بن المقفّع)). الذي ترجم كتاب (كليلة ودمنة) وهو من المثقفين الكبار في الثقافة العربية. ((في المسجد الحرام، فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق)). وهو يشير إلى الحجّاج. ((وأومأ بيده إلى موضع الطواف ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلاّ ذلك الشيخ الجالس يعني أبا عبد اللّه جعفر بن محمد(ع))). وكأنه يقول إنني أنظر إلى هؤلاء كما أنظر إلى البهائم، لأنّهم لا يملكون فكراً ولا أي مستوى من المستويات الثقافية المعتبرة، ولكن الإنسان الذي يستحق اسم الإنسانية بحق وجدارة هو الإمام الصادق(ع). ((فأمّا الباقون فرعاع وبهائم، فقال له أبن أبي العوجاء، وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟)). أي ما هو الأساس في تقديرك الفائق لهذا الرجل؟ في الوقت الذي تحتقر فيه الآخرين وكلّهم واحد، لأنّهم جميعاً يطوفون حول البيت ((قال: لأنّي رأيت عنده ما لم أره عندهم)). فتقديري له ناتج عن أنّني درست فكره وروحه وسعة أفقه فرأيته يملك من العلم ما لا يملكه هؤلاء، ومن الأخلاق ما لا يملكه غيره. ((فقال له ابن أبي العوجاء: لابدّ من اختبار ما قلت فيه منه)). فهذه هي وجهة نظرك، فلابدّ لي من أختبره لأرى هل أن نظرتك وتقييمك له صحيح أم لا؟ ((قال: فقال له ابن المقفّع: لا تفعل فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك)). فأنت تعتقد ما لا يعتقد، لأنّك تنكر وجود اللّه والإسلام كما أنكره أنا، وأخاف عليك إذا جلست بين يديه ودخلت معه في حوار أن يغلب فكرك ويسقط رأيك ويضغط عليك بثقافته وبعلمه لتتنازل عمّا أنت فيه، فإذا أردت أن تبقى على ما أنت عليه فلا تحاور جعفر بن محمد الصادق(ع). ((فقال: ليس ذا رأيك)). أي أنّ هذا لا يعبّر عن حقيقة رأيك. ((ولكنّك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إيّاه المحلّ الذي وصفت)). وكأنّك تخاف أن اكتشف أن رأيك غير صحيح، ولذلك فإنّك تنهاني عن الحوار معه لأني قد اكتشف ضعفه وأن لا فرق بينه وبين هؤلاء الذي يطوفون حول البيت. ((فقال ابن المقفع: أمّا إذا توهّمت عليّ هذا)). فإذا كانت وجهة نظرك في فهم كلامي ونصيحتي هي هذه ((فقم إليه وتحفّظ ما استطعت من الزلل)) فأنت سوف تقابل عالماً دقيقاً عميقاً واسع الاطلاع فلابدّ لمن يتكلّم معه، وله رأي يخالف رأيه، أن يتحفّظ في الكلمات وفي الحوار، لأنّ الذين يجادلونه لا يملكون الثبات أمام جداله. ((ولا تثني عنانك إلى استرسال)). أي لا تكلّمه كلام الإنسان المسترسل الذي لا يعيش الدقّة والتأمّل الكبير ((فيسلّمك إلى عقال)). أي يوثقكويقيّدك بالحجّة بحيث يقيد عقلك فلا تستطيع أن تتحرّر منه. ((وسمه مالك أو ما عليك)). أي ادخل معه في مساومة ثقافية وفكرية مما لك من حجّة أو مما له عليك من ذلك.

((قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت أنا وابن المقفع جالسين، فلما رجع إلينا ابن أبي العوجاء، قال: ويلك يا ابن المقفع، ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحانيٌّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا)). أي أنني لم أرَ شخصاً مثل هذا، فعندما جلست إليه فكأني جلست إلى روح تتجسّد، فلقد شعرت أنني أعيش مع روح لا مع جسد ولكنّها روح تجسّدت في رجل، فهو يستطيع أن يتجسّد كما يستطيع أن يتروّح، حتى أنّك عندما تسمعه لا تشعر أنك أمام جسد مادّي بل أنك أمام روح تحلّق في الفضاء. ((فقال له: وكيف ذلك؟)). أي ماذا حصل لك؟ ((قال: جلست إليه فلمّا لم يبق عنده غيري ابتدأني)).

مهمة العلماء:

وكأنّ الإمام(ع) كان يعرف شخصية هذا الرجل، ويعرف رأيه، مما يدلّ على أن الإمام الصادق(ع) كان يملك إحاطة بالتيارات الفكرية التي تحكم المجتمع الإسلامي، وكان يتعرّف على الجماعات الموجودة في المجتمع الإسلامي التي تتبنّى هذا التيار الفكري أو ذاك، وهذه هي مهمّة العلماء في كلّ زمان، وهي أن لا يعيش العالم في زاوية لا يعرف فيها ماذا يدور في الكون، بل لابدّ له أن يدخل في قلب العالم ليتعرّف على التيارات الفكرية التي توافق فكره أو تخالفه، ويتعرّف على الجماعات التي تحمل هذا الفكر أو ذاك ليخطّط لمواجهتها عندما يريد أن يحرّك الإسلام في واقع الناس.

وقد كان الأئمة من أهل البيت(ع) في الدرجة العليا في هذا المجال، فلقد كانوا من خلال ما نقرأه في تأريخهم وتراثهم، يشاركون، في كلّ مرحلة يعيشونها، في مناقشة ما يستجدّ في الواقع الإسلامي من التيارات والمذاهب الفكرية، فكانوا يعطون الفكرة هنا ويصحّحون المفهوم هناك، ويواجهون التحديات هنا وهناك. فليس من حقّ العالم الذي يحمل مسؤولية الإسلام أن ينعزل عن الناس لأنّه عندما ينصّب نفسه للناس موجّهاً ومرجعاً وإماماً فلابدّ أن يعرف كلّ ما يعيشه الناس من تيارات ومشاكل في المجتمع، وهذا ما نتعلّمه من أئمة أهل البيت(ع).

مجريات الحوار:

فابن أبي العوجاء، ومن قبل أن يتكلّم مع الإمام الصادق(ع) أو يسأله أيّ سؤال، نرى أن الإمام(ع) يبتدره حسب ما يروي هو نفسه: ((فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء)). أي الذين تعتبرونهم رعاعاً وبهائم ((وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف)). فأنا لا أفرض فرضية في موضع الشكّ، بل أفرضها وأنا مطمئن أنّهم على الحقّ، ولكن لابدّ في الحوار من طرح المسألة على هذا النحو. ((فقد سلموا وعطبتم)). فإذا كان اللّه موجوداً، وكانت هناك جنّة ونار، وهناك مسؤولية يتحمّلها كلّ واحد منكم، ونحن نعتقد بذلك كلّه، فإن معنى ذلك أنّهم سلموا لأنهم استعدّوا لذلك، وهلكتم لأنّكم لم تستعدوا له، وهذه فرضية ممكنة الحدوث. ((وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم)). كما يعبّر عنهم اللّه سبحانه وتعالى في قوله: ]وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ[(1). ]وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ[(2). فلا فرق بينكم وبينهم فأنتم تقبلون على العدم وهم يقبلون عليه أيضاً، ولكن مع احتمال وجود الأمور الآنفة الذكر فإن الرابح فيكم هم هؤلاء.

((فقلت له: يرحمك اللّه وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون؟)). فأنا لم أتكلّم بعد معك ولم أطرح عليك أي سؤال؟ فكيف تحكم عليّ بأنيّ على عقيدة غير عقيدة هؤلاء الذين يطوفون؟ ((ما قولي وقولهم إلا واحداً، فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحداً؟)). فأنا اعرف التيارات التي تحكم مسيرتكم الثقافية وأوضاعكم العقيدية ((وهم يقولون: إنّ لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأنّ في السماء إلها وأنّها عمران)). أي أنّ السماء عامرة بسكّانها من الملائكة ((وأنتم تزعمون أنّ السماء خراب ليس فيها أحد، قال: فاغتنمتها منه)). أي رأيت ذلك مدخلاً لمناقشته. ((فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان)). فإذا كان هناك إله فلماذا لا يظهر كما يظهر الناس الذين يملكون فكراً يريدون للناس أن يتّبعوه؟ حتى إذا رآه الناس عياناً فلن يختلف عليه اثنان منهم، لأنّ الاختلاف إنّما ينطلق من خلال أنّ الإله الذي يزعمون أنه ليس بمرئي هو في عالم الغيب وليس في عالم الشهود، ومن الطبيعي أن يختلف الناس بالنسبة لمن لا يرونه: هل هو موجود أم لا؟ فهذا ينطلق من معادلات فكرية لإثبات وجوده، والآخر ينطلق من معادلات حسّية فينفي وجوده.

((ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه، كان أقرب إلى الإيمان به؟)) فالرسل الذين أرسلهم كما تزعمون بشر، وقد يقول قائل: كيف يكون الرسول بشراً؟ وقد يسخر الناس من هؤلاء الذين لا يملكون مقاماً اجتماعياً، وقد.. وقد.. بينما لو ظهر بنفسه لكانوا أقرب إلى الإيمان به، لأنّ المسألة عند ذلك تتصل بعالم الحس الذي هو أقرب إلى الإقناع.

((فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرتك في نفسك. نشوءك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحّتك، وصحّتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبّك بعد بغضك، وبغضك بعد حبّك، وعزمك بعد أناتك، وأناتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وغروب ما أنت معتقده في ذهنك. وما زال يعدّد علي قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها)). فأنا اشعر بمواقع القدرة والمتغيرات التي تحدث للإنسان داخلياً وخارجياً مما لا يد له فيها ((حتى ظننت أنّه سيظهر فيما بيني وبينه))(3) أي اللّه سبحانه وتعالى.

أسلوب الأسئلة التحريضية:

فمن أين انطلق هذا الأسلوب؟ انطلق من خلال أنّ هذا الرجل يعتبر أنّ الحسّ هو أساس العقيدة، وأنّ الشيء الذي ليس بمحسوس ليس بموجود، فالوجود عنده ملازم للحسّ، فأراد الإمام الصادق(ع) أن يقول له: ليس كلّ شيء لا يحسّ معدوما، فأنت عندما تدرس نفسك وكلّ المشاعر والأحاسيس والأوضاع والحركات التي تعيش في داخل كيانك لابدّ لك أن تفكّر في منشأ ذلك كلّه، لترى أنّك لم تنتجه، فكيف حزنت بعد أن فرحت؟ وكيف رضيت، بعد أن غضبت؟ وكيف هرب منك الفكر؟ وكيف جاء إليك؟ وكيف تحرّكت بعد سكونك؟ أو سكنت بعد حركتك؟.. إلى غير ذلك من الأسئلة الدافعة والمحرّضة على التفكير في مسبّب ذلك كلّه؟ فهذا دليل على أنّ هناك قوة خفيّة تدير وجودك وتحرّكه وتغرس فيه الكثير من مواقع الحركة والتغيرات، مما يدلّ على حضوره سبحانه وتعالى في نفسك أكثر من حضور المحسوسات. وهذه مسألة علمية وإنسانية، أفلا ندرك مثلاً بأنّ لنا عقلاً؟ فمن رأى منكم عقله؟ فالدماغ ليس عقلاً وإنما يختزن العقل. وكلّكم يشعر أن له إحساساً ولكن من منكم رأى الإحساس؟ فأنتم إنّما تعرفون مظاهره فقط.. فأنت تتألّم فتكتشف الإحساس بالألم، وتفرح فتكتشف الإحساس بالفرح، فالفرح مظهر الإحساس وبه تعرف إحساسك بالفرح، والفكر مظهر العقل به تعرف وجود العقل. ومن منّا أحسّ بروحه؟ أفلسنا ندرك بأنّ هناك روحاً؟ وهناك حياة في داخل كلّ واحد منّا؟ فمن يا ترى رأى الحياة؟ إننا نرى مظاهرها بأن تتحرّك وتبصر وتسمع، وهذه في الحقيقة ليست الحياة وإنّما هي مظاهرها.

والنتيجة المستخلصة من هذه الأسئلة هي أنّ اللّه عزّ وجل لم يحتجب عن خلقه ولكنّه برز إليهم من خلال مظاهر قدرته التي يدرك خلقه كلّهم أنّها دليل على وجوده، وأن حضوره في خلقه من خلال مواقع قدرته فيهم، اكثر من حضور الذين يرونهم عيانا. ولذلك جاء (ابن أبي العوجاء) ليناقش الإمام الصادق(ع) وكان يتصوّر أنّه بسؤاله الإمام(ع) سوف يفحمه فيسلّم الإمام(ع) بما قال من أنّ اللّه لابدّ أن يكون محسوساً وأنه ليس هناك إله غيبيّ. فالإمام(ع) في مناقشته لم يتكلّم عن شيء غيبي أو تجريدي، بل تحدّث عن الأشياء والمتغيرات التي لمسها ابن أبي العوجاء في نفسه من دون أن يكون له ولا لأحد آخر شأن فيها، ((حتى ظننت أنّه سيظهر بيني وبينه))(4). أي أن الإحساس تعاظم عندي بحضور اللّه إلى الدرجة التي تصوّرت أن اللّه سوف يظهر بيني وبين الإمام(ع).

وهذا هو الأسلوب العلمي الذي يمتزج فيه جانب العلم بجانب الشعور، كما أنّنا نلاحظ أنّ الإمام(ع) قد بدأ حواره معه بتحميله مسؤولية مستقبله، فلقد سأله عن إمكانية وجود الجنّة والنار وهو احتمال ممكن، وإذا كان كذلك أفلا يفرض ذلك علينا أن نتعمّق في معرفة مسؤوليتنا؟ فهؤلاء الذين يحجّون ويطوفون ويسعون إنّما يتحركّون من خلال هذا الاحتمال. فكأنّ الإمام أراد أن يقول له يا هذا إنّ هناك من الأفكار ما لا يحمل للإنسان أية مسؤولية، كما في فكرة كروية الأرض وعدم كرويتها، فلو قال أحدهم إنها كروية، كما هي الحقيقة، وقال غيره إنّها ليست كروية، فإن مسؤولية الإنسان سوف لن تتغيّر في حياته عندما يختار هذا الجانب أو ذاك، ولكن عندما تكون المسألة أنّ هناك مصيراً يمثّل الهلاك أو النجاة، فلابد للإنسان ولو بناءً على احتمال المصير أن يحتاط. أفلا نحتاط مثلاً في حياتنا مخافة نشوب أزمة اقتصادية فنحاول أن نؤمّن احتياجاتنا على ضوء احتمال الأزمة؟ ولو سئلنا: لماذا تقومون بعملية التموين والبضاعة موجودة في السوق؟ لقلنا إنّ هناك احتمالاً لحدوث مجاعة في المستقبل فنريد أن نتزوّد من هذا الزاد الموجود لما يسدّ المجاعة في وقتها. فاحتياط الإنسان للمستقبل الذي يحتمل أن تحدث فيه بعض الأوضاع التي تمثّل مصيره بين هلاك ونجاة، يقتضي منه مواجهة مسألة وجود اللّه عزّ وجل وعدم وجوده، ورسالة الرسل وعدمها بمسؤولية أكبر لأنّها ليست من قبيل الفكر التجريدي، بل هي الفكر المصيري الذي لابدّ للإنسان أن يسعى إليه ولو على أساس الاحتمال.

وعلى ذلك، فليس لأحد أن ينظر لهؤلاء الناس على أنّهم بهائم أو رعاع، بل لينظر كلّ إلى نفسه لاسيما المنكرون الذين لا يحملون مسؤولية مستقبلهم ومصيرهم، فحتى لو كانت عقيدة هؤلاء باطلة، كما هم يتصورون، فإنهم يتحرّكون من خلال الاحتياط للمستقبل بينما أنتم لا تحتاطون له.

ثم اندفع الإمام(ع) في مقام تأكيد وجود اللّه سبحانه وتعالى من خلال الأمور التي عرضها الإمام(ع) مما يتّصل من خلال مظاهر قدرة اللّه في نفسه، وقد اعترف أنّ هذه الأمور التي آثارها الإمام(ع) هي ما يحسّه في نفسه، وبذلك كانت النتيجة أنه شعر بحضور اللّه أمامه كما لو كان أمامه عيانا.

درس الذكرى:

أيّها الأحبّة: هذه هي أساليب أئمتنا(ع) وهذه هي وسائلهم في مواجهة الفكر الآخر، وهذه هي مسؤولياتهم في التحديات التي تواجه العالم الإسلامي في الأمور الثقافية، فلم يكونوا حياديين أمام الانحراف، ولم يكونوا منعزلين، ولذلك فإنّ الانتساب إلى الأئمة(ع) يمثّل مسؤولية كبرى، وهي أننا نعرفهم ونفهمهم، وأن نقرأ تأريخهم ونتابع تراثهم ونعيش سيرتهم.

إنّ مشكلتنا، وقد كرّرت ذلك مراراً، أنّنا نعيش مع الأئمة(ع) الشخصية البكائية فنجعل الدموع لا العقول الجسر الذي يربطنا بهم.  فلتكن عقولنا الجسر الذي ينفتح عليهم. أمّا البكاء فانه عاطفة ينفعل بها الإنسان عندما يواجه المأساة، وهو لا يحتاج إلى جهد، فالعاطفة بطبيعتها تتفجّر بالدموع على المأساة حتى لو كانت هذه المأساة لا ترتبط بعقيدتك. فنحن نبكي على مأساة الإنسان في العصر الحاضر عندما نقرأ صحيفة، أو عندما نشاهد صورة تلفازية.

فالبكاء لا يحتاج إلى جهد، ولكن العقل يحتاج إلى جهد، فتعالوا لنرتفع إلى عقولهم وأفكارهم.. تعالوا لنجعل من مجتمع الإسلام في خط أهل البيت(ع) مجتمع أهل البيت الثقافي والروحي، وأن نفهمه ونعيشه ونحوّله إلى واقع..

ويبقى الحديث مع الإمام الصادق(ع) في حوارات قادمة. والحمد للّه رب العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثانية6 ربيع الثاني 1421ه8 تموز 2000م

 

في مدرسة الإمام الصادق(ع)

نهج الحوار وأسلوبه

 

 

* علينا أن نتعلّم من أئمتنا(ع) نهج الحوار وأسلوبه في جوانب العقيدة والحياة، لأننا نعيش في عالم تنوّعت فيه العقائد واختلفت فيه الأفكار وواجهتنا فيه التحديات *

 

 

 

 

 

المرحلة خطيرة.

إمام الحوار.

الانطلاق من الفكرة الخاطئة.

متابعة حوارات تلاميذه(ع).

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

المرحلة خطيرة:

ونبقى مع الإمام جعفر الصادق(ع) وهو يوجّه تلامذته لما يطرح عليهم من شبهات الملاحدة وأسئلتهم، ثم وهو يواجه هؤلاء بالحجّة القاطعة. وكما قلنا في أكثر من حديث إنّ علينا أن نتعلّم من أئمتنا(ع) نهج الحوار وأسلوبه في جوانب العقيدة والحياة، لأنّنا نعيش في عالم تنوّعت فيه العقائد واختلفت فيه الأفكار وواجهتنا فيه التحديات. وعلى الإنسان المسلم لاسيما السائر في خطّ أهل البيت(ع) أن يكون الإنسان الذي يواجه الموقف بالعلم وبالفكر، وأن يردّ التحدي بالتحدي، وأن يطلق التحدي.

المرحلة أيّها الأحبّة في مشاكلها الثقافية المتصلة بالإسلام، هي من أخطر المراحل، إذ لم يمرّ على الإسلام منذ عهد النبي(ص) وحتى الآن ما واجه الإسلام من تحديات ثقافية وفكرية كما تواجهه الآن، لأنّ هذه التحديات تنطلق من جامعات علمية في العالم، واتجاهات فكرية متعددة، بحيث يحتاج المسلم إلى أن يملك الثقافة الواسعة العميقة التي يستطيع من خلالها أن يواجه هذه التحديات.

إمام الحوار:

ونقرأ هذه القصة التي حصلت للإمام الصادق(ع) الذي كان إمام الحوار، إذ يروي أحد أصحابه وهو (محمد ابن إسحاق) قال: ((إنّ عبد اللّه الديصاني)). وهو من الملاحدة المعروفين ((سأل هشام بن الحكم)). وهو من تلامذة الإمام جعفر الصادق(ع) ((فقال له: ألك ربّ؟ فقال: بلى، قال: أقادر هو؟ قال: نعم قادر قاهر)). أي هو قدير يقهر في مواقع قدرته ((قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟)). فإذا كنت تقول إنّ اللّه قادر على كلّ شيء، فأجبني عن هذه الفرضية: فإذا كانت لدينا بيضة بحجمها الصغير وأمامنا الدنيا بحجمها الكبير، فهل يستطيع ربّك بأن يدخل الدنيا كلّها في البيضة فلا تكبر البيضة عن حجمها ولا تصغر الدنيا عن حجمها؟

((قال هشام: النظرة)). أي انتظرني فهذه مشكلة عويصة ((فقال له: قد أنظرتك حولاً)). أي أعطيتك مهلة سنة كاملة للتفكير. ((ثم خرج عنه فركب هشام إلى أبى عبد اللّه(ع) فاستأذن عليه فأذن له، فقال له: يا ابن رسول اللّه أتاني عبد اللّه الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلا على اللّه)). أن يلهمني حلّها ((وعليك)) بأن تبيّن لي حلّها ((فقال له أبو عبد اللّه(ع): عن مّاذا سألك؟ فقال: قال لي: كيت وكيت، فقال أبو عبد اللّه(ع): يا هشام كم حواسّك؟ قال: خمس)). أي النظر والسمع والشم والذوق واللمس. ((قال: أيّهما أصغر؟ قال: النظر)). أي البؤبؤ، فهو أصغر من سائر الحواس الأخرى. ((قال: وكم قدر الناظر، قال: مثل العدسة أو أقلّ منها، فقال له: يا هشام أنظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى؟ فقال: أرى سماء وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراري وجبالاً وانهاراً. فقال له أبو عبد اللّه(ع): إنّ الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة)).

الانطلاق من الفكرة الخاطئة:

فهذا الرجل أي الديصانيإنطلق من فكرة أن الكبير لا يمكن أن يدخل في الصغير، وكمثل تقريبي فإن عدسة البؤبؤ تدخل الكون الماثل أمام النظر، وهذا يعني أن لا مانع من أنّ اللّه سبحانه وتعالى يخلق شيئاً صغيراً ويدخل فيه الشيء الكبير ولو بمثل الصورة الانطباعية، وبديهي أنه لا يدخله بحجمه الطبيعي ولكن بالصورة الانطباعية التي تلمّ داخلها الكون الكبير، فكأن الإمام(ع) يريد أن يقول له إذا كانت مشكلة هذا الإنسان هي في استطاعة اللّه إدخال الكبير في الصغير فهذا هو النموذج التقريبي للفكرة التي تدور في ذهنه، أمّا إدخال الدنيا بحجمها في داخل البيضة فهذا غير ممكن لا من جهة عجز في قدرة اللّه الذي لا يعجزه شيء، ولكن لأنّ البيضة بحدّ ذاتها لا تتحمّل الدنيا. وبالإمكان تبسيط المسألة بما أجاب به الإمام أمير المؤمنين(ع) ((إنّ اللّه قادر على كلّ شيء ولكن ما ذكرت لا يكون)). أي أنه من المحال، فالقدرة تتحقق في الشيء الممكن، فلو كلّفت مهندساً من أعظم المهندسين في العالم بأن يبني لك ناطحة سحاب على سنتيمتر مربع واحد وإلا اتهمته بأنّه مهندس غير ماهر، فهل يقبل هذا العرض؟ إنّه سيجيبك أنني مهندس عظيم لكن قدرة السنتيمتر المربع لا تتحمل بناء ناطحة سحاب، فالقدرة والعجز إنّما يكونان في الشيء الذي تطاله القدرة وهو الشيء الممكن، أمّا المستحيل في ذاته فلا يقال في عدم تحققه عجزاً، فالعجز في المقدور لا في القادر.

فالإمام الصادق(ع) أراد أن يقول له: إذا كانت المسألة أن الكبير لا يدخل في الصغير، فها هو نموذج العين والكون الذي يدخل فيها على مستوى الصورة الانطباعية، فعدم تحققه من قبل اللّه القادر على كلّ شيء ناجم عن كونه مستحيلاً في ذاته وليس موضعاً للقدرة، ذلك أن لكلّ شيء في الكون قابلية تحمّل واستيعاب محدّدة بحدودها التي لا تتجاوزها، لأنّ اللّه تعالى خلق لها هذا القدر المقدور، فكلّ شيء بمشيئته وكلّ شيء مستجيب لإرادته وقدرته، لكنه - جلّت قدرته - هكذا أراد للأشياء أن تكون.

((فأكبّ هشام عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه وقال: حسبي يا ابن رسول اللّه)). فلقد فهم هشام مشكلة الديصاني في إدخال الكبير في الصغير ((وانصرف إلى منزله وغدا عليه الديصاني، فقال له: يا هشام إني جئتك مسلّماً ولم أجئك متقاضياً للجواب)). لأنّ هذه المسألة عويصة لا تقدر أن تحلّها بهذه السرعة ((فقال له هشام: إن كنت جئت متقاضياً فهاك الجواب))، واقتنع الرجل بالجواب وشعر بان مشكلته التي طرحها قد حلّت ((فخرج الديصاني عنه حتى أتى باب أبي عبد اللّه(ع) )) وكانت قد تغيرت ذهنيته ((فاستأذن عليه فأذن له، فلما قعد قال له: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي؟)) فأنت تقول إن هناك رباً يعبد أنا لا اعرفه فأريد أن تدلني عليه، ((فقال له أبو عبد اللّه(ع) ما اسمك فخرج عنه ولم يخبره باسمه، فقال له أصحابه كيف لم تخبره باسمك؟ قال لو كنت قلت له: عبد اللّه كان يقول من هذا الذي أنت له عبد؟)). فالإمام(ع) يريد أن يحطّم أعصابه -  كما مرّ معنا في رواية الزنديق المصري وأن يترك تأثيره النفسي عليه، لأنه ليس هو الذي سمّى نفسه بل أبوه هو الذي سمّاه ولا يتحمل مسؤولية اسمه، لكن الإمام أراد أن يهزمه نفسيا ((فقالوا له: عد إليه، وقل له: يدلك على معبودك، ولا يسألك عن اسمك. فرجع فقال له أبو عبد اللّه(ع): اجلس، وإذا غلام له صغير)). يعني كان هناك ولد للإمام الصادق(ع) ((في كفّه بيضة يلعب بها، فقال له أبو عبد اللّه(ع) ناولني يا غلام البيضة فناوله إياها، فقال له أبو عبد اللّه(ع): يا ديصاني هذا حصن مكنون)) الحصن هو الشيء الذي يستر ما في داخله، وهذه البيضة هي حصن ما في داخلها مكنون أي مغلق ((له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وهي صفار البيض وفضة ذائبة وهي بياض البيض-، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة)) مع انهما متصلان ((ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها)). يعني إذا كانت صالحة لم يأت أحد ليخبرنا على أنها صالحة، باعتبار أنه لا يوجد أحد صنعها من الداخل ((ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدري للذكر خلقت أم للأنثى)). أي يمكن أن تفقّس عن دجاجة أو ديك ((تنفلق عن مثل ألوان الطواويس)). بحيث تراها مزخرفة ملّونة تدلّ على إبداع خالق لا يجارى في خلقه ((أترى لها مدبّراً؟)) هل هي صنعت نفسها بنفسها بهذه الدقة وبهذا النظام وبهذا التلوين والجمال؟ ((قال: فأطرق مليّاً ثم قال اشهد أن لا اله إلا اللّه وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله وانك إمام وحجّة من اللّه على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه))(1). فكأن الإمام(ع) يريد أن يقول له أن الاستدلال على اللّه لا يحتاج إلى فلسفة، بل إن دراستنا لأية ظاهرة من الظواهر الموجودة في خلق اللّه عندما ننفذ إلى أسرارها، والى دقة تكوينها، فإننا نستطيع أن نخلص من هذه الدراسة إلى أن هذه الأشياء لم توجد وحدها، لان الوجود في الممكن لا يأتي من داخل العدم إذا لم يكن هناك من يخرج الشيء من العدم إلى الوجود، وليس هناك من يدّعي أنّه هو الذي خلقها ونظّمها، فلابدّ أن يكون هناك مدبّر حكيم قادر يخلق الأشياء بحكمته وبقدرته، وينهج بها بالاتجاه الذي أعدّه لها، وهذا هو دليل علمي وحسيّ على الخلق وعلى الخالق، وبهذا يتأكّد الأسلوب القرآني في الإقناع بوجود اللّه تعالى وهي أنّك إذا أردت أن تعرف اللّه فاعرفه من خلال خلقه لا من خلال الفلسفة أو ما إلى ذلك.

متابعة حوارات تلاميذه(ع):

ثم ننتقل بعد ذلك إلى بعض حوارات تلامذة الإمام(ع) حيث كان يحاول اختبارهم ويتابعهم في كلّ حواراتهم حتى ينقدهم ويشجعهم. فلقد حدّث (يونس بن يعقوب) عن قصة حصلت لهشام بن الحكم مع بعض العلماء الذين يمثلون موقع الأستاذية للمجتمع، وقد سمع بها الإمام(ع). يقول (بن يعقوب) ((كان عند أبي عبد اللّه(ع) جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين ومحمد بن النعمان وهشام بن سالم والطيار وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب، فقال أبو عبد الله(ع) يا هشام إلا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟)). وهذا كان من شيوخ المعتزلة وهو مشهور بالتقشف والزهد ((وكيف سألته؟ فقال هشام: يا ابن رسول اللّه أني إجلك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك)). أي تأخذني هيبتك ولا أستطيع أن أتكلم أمامك ((فقال أبو عبد اللّه إذا أمرتكم بشيء فافعلوا: قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك عليّ)). لان الرجل يوجه الناس توجيهاً خاطئاً على خلاف المنهج الحق ((فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء)). يعني ثوباً اسود اشتمل به، ((متزر بها من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه)) باعتباره شخصية علمية. ((فاستفرجت الناس)) أي قلت لهم عندي سؤال فإذا أمكن أن توسّعوا لي ((فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت أيها العالم إني رجل غريب تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم، فقلت له: ألك عين، فقال يا بني أي شيء هذا من السؤال؟ وشيء تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت هكذا مسألتي؟ فقال: يا بني سل وان كانت مسألتك حمقاء، قلت: أجبني فيها، قال لي: سل، قلت: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال أرى بها الألوان والأشخاص، قلت: فلك أنف، قال: نعم: قلت: فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة ، قلت : ألك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعام ، قلت: فلك أذن؟ قال: نعم، قلت فما تصنع بها؟ قال اسمع بها الصوت، قلت: ألك قلب؟)). يعني العقل ((قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال أميّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح والحواس)) مما أراه وأشمه وأذوقه والمسه واسمعه حيث يعتبر مادة خام، ثم أنني اجمع هذه المواد وأعرضها على العقل ليميز بينها ((قلت: أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب؟)) فما الحاجة إلى القلب مادمت تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتذوق باللسان وتشم بالأنف؟ إذ ما الداعي للقلب وكل حاسة من هذه الحواس يمكن أن تميّز بها؟ ((قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا ، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة، قال يا بني إن الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك)). فربما يشك الشخص فيما رآه وسمعه وذاقه ولمسه فتنقل هذه إلى القلب العقل والعقل يحاول أن يدخل في عملية تأمل وتفكير وهو يعطي الحكم الفصل. ((قال هشام فقلت له: فإنما أقام اللّه القلب لشك الجوارح حتى يخرجها من حالة الشك إلى حالة اليقين، قال: نعم، قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح)). حتى يخرجها من حالة الشك إلى حالة اليقين ((قال: نعم، فقلت له: يا أبا مروان، فاللّه تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما)) وهو العقل ((يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم ولا يقيم لهم إماما يردّون إليه شكهم وحيرتهم؟ ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك)). فأنتم تنكرون الإمامة ونحن نقول إن الناس إذا شكّوا في شيء، وإذا جهلوا شيئاً، وإذا تحيروا في شيء، فانهم يرجعون إلى الإمام ليزيل الشك وينقذهم من الحيرة ويحل لهم المشكلة، لان اللّه سبحانه وتعالى كما خلق للعالم شمساً تضيء الظلام حتى يرى الناس الأشياء من خلال الشمس، لا يعجزه أن يخلق شمساً إنسانية تزيل الشكوك والحيرة عن الناس ((قال فسكت ولم يقل لي شيئاً، ثم التفت إليّ، فقال لي: أنت هشام ابن الحكم؟ فقلت: لا)) على وجه التورية، أي أنه لم يرد أن يعرّفه نفسه ((فقال أمن جلسائه؟ قلت لا، قال فمن أين أنت؟ قال: قلت من أهل الكوفة، قال: فأنت إذن هو)) هشام، لأنّ الشخص الذي عنده هذا الأسلوب وهذه المقدرة على أن يربط الأشياء بعضها ببعض، وينقلنا من إمام الجوارح إلى إمام الكون ويثبت لنا من خلال ذلك أن إمام الكون لابدّ أن يملك علما أصيلاً، وقليل من يملك هذا العلم ((ثم ضمنّي إليه وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت، قال: فضحك أبو عبد اللّه(ع) وقال: يا هشام من علّمك هذا؟)) أي من أين أخذته، ((قلت: شيء أخذته منك وألّفته، فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى))(2). وهذه هي طريقة الإمام الصادق(ع) في استنطاق تلامذته بعد أن يعلمهم ويرسلهم ليكونوا المبلّغين الذين يرصدون العلماء في المجتمعات ليحاوروهم وليصححوا لهم أخطاءهم. ولقد كان الإمام الصادق(ع) يعلّم تلامذته أن يتحمّلوا مسؤولية العلم، وأن لا يجلسوا في بيوتهم، وأن لا ينعزلوا عن الناس، بل إنّ عليهم أن يقصدوا الناس في مواقعهم، ويقصدوا العلماء في مواقعهم ليحاوروهم حتى يظهروا الحق، وحتى يصوّبوا للناس ما أخطأوا فيه، فلم تكن أساليب الإمام(ع) التي علّمها لتلامذته أساليب السباب والشتائم وما إلى ذلك، ولكن كانت أساليبه(ع) وأساليب أهل البيت(ع) هي مقارعة الحجّة بالحجّة والحكمة بالحكمة، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلمه في حياتنا الثقافية حتى نستطيع أن نركّز الحق على قاعدة العلم، فان العلم هو الذي يثبّت الحق، وهو الذي يهزم الباطل. والحمد للّه رب العالمين.

 

 

 

 

المحاضرة الثالثة،13 ربيع الثاني 1421 ه15تموز 2000م

 

 

 

إشراف الإمام الصادق(ع) على

تأهيل تلامذته في الحوار والمناظرة

 

 

 

*كان الصادق(ع) يدفع بتلامذته إلى الحوار، ليستمع إليهم كيف يتحاورون، ثم يحاول أن ينقدهم نقداً توجيهياً، ليوجّههم إلى أفضل الوسائل للحوار مع الآخرين*

 

 

 

كيف ربّى الإمام الصادق(ع) أصحابه.

الاستماع إلى أفكار الخصم.

الحجّة على الناس.

القيّم على القرآن.

أساليب متنوّعة.

حاجة الحوار إلى الكفاءة.

أسلوب هشام في المحاججة.

نقد المناظرين.

مع حريّة الفكر.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه ربِّ العالمين. والصَّلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

كيف ربّى الإمامُ الصَّادق(ع) أصحابه:

لا نزال مع الإمام جعفر الصادق(ع)، وحديثنا في هذه الليلة يدور حول سؤال: كيف كان(ع) يربّي أصحابه عندما كان يأتي إليه بعض الناس ليحاوروه؟ فلقد كان يتحدّث مع أصحابه حول الموضوع، وكان يدفع بهم إلى الحوار ليستمع إليهم كيف يتحاورون، ثم يحاول أن ينقدهم نقداً توجيهياً، ليوجّههم إلى أفضل الوسائل للحوار مع الآخرين.

ففي الحديث: «عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله(ع) إنَّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله، قال: صدقت». فالفكرة التي يريد أن يطرقها هذا الرجل قد تخالف الفكرة المعروفة، وهي أنَّ الله تعالى يعرف بخلقه، فهو يريد أن يقول إنَّ الله أعظم وأجلّ من أن يعرف بخلقه، بل إنّهم يعرفون به، والإمام الصادق(ع) يصدّقه.

وهنا نريد أن نفهم كلمة هذا الرجل التي أصبحت كلمة الإمام(ع) عندما قال له «صدقت».فمن الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نعرف الله بذاته، لأنّه ليست لدينا أية وسيلة مباشرة مما في أيدينا من الوسائل التي تعتمد على التجربة أو على التأمّل تربطنا بالله سبحانهُ وتعالى، لأنّه في قدس ذاته غيب لا يملك الناس أن يرتبطوا به أو يتعرّفوا إليه بشكل مباشر، ولكنّه سبحانهُ وتعالى يعرف من خلال خلقه. غير أنّ معرفة الله من خلال خلقه هي في الأصل والحقيقة معرفة من الله عزّ وجلّ، لأنّه هو الذي أعطانا العقل الذي ندرك به الأشياء، وهو الذي وهبنا الحواس التي نبصر بها الأشياء، فمعرفتنا به من خلال خلقه، ناشئة من أنّه خلق فينا الوسائل الحسيّة والعقلية التي بها نستطيع أن نعرفه بدراسة أسرار خلقه التي تدلّ عليه، ولذا نقول في (دعاء الصباح) للإمام أمير المؤمنين(ع): «يا من دلَّ على ذاته بذاته». لأنَّ ما دلَّ عليه هو هبةٌ وهدايةٌ ومعرفةٌ منه.

فليست هذه الكلمة نفياً لمعرفة الله سبحانهُ وتعالى من خلال ما خلقه، باعتبار أنَّ الأثر يدلّ على المؤثّر، والمخلوق يدلّ على الخالق، وأسرار العظمة في خلق الله التي تدلُّ على عظمة الله ليست نفياً للفكرة، ولكنها توضيح وتعميق لها. فعندما نعرف عظمة الله تبارك وتعالى، فإنّنا نعرف عظمة الأسرار المتجلّية في داخل المخلوقات.

الاستماع إلى أفكار الخصم:

«قلت: إنَّ من عرف له رباً». ولاحظوا أنّ الإمام(ع) يستمع إلى الرجل وهو يعرض معلوماته عليه، حتى إذا ما وجد فيما يعرضه نقداً نقده «فينبغي له أن يعرف أنَّ لذلك الربّ رضا وسخطاً»، لأنّ للربّ في خلقه ما يريد وما لا يريد، فإذا قام خلقه بما يريد فإنّه يرضى عنهم، وإذا قاموا بما لا يريد فإنّه يسخط عليهم. فكأنَّ هذا الرجل يريد أن يقول، إنَّ الربوبية لا تعني أن لا علاقة للربّ بخلقه،  بل إنَّ الربوبية تفرض الطاعة، وهذه تفرض ما يرضاه الله فيجب اتباعه، وما لا يرضاه فيجب اجتنابه «وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول». لأنّه ليس لله سبحانُه وتعالى علاقة مباشرة بخلقه، فلا بدّ له من أن يبيّن لهم ما يرضيه وما يسخطه من خلال الوحي الذي ينـزله على الرسول(ص)، «فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرّسل». فإذا لم يكن نبياً ينـزل عليه الوحي بشكل مباشر ليعرف سخط الله ورضاه من خلال وحيه، فلا بدَّ من أن يسأل عن الرسول، لأنَّ حكمة الله تفرض أن يرسل رسولاً. «فإذا لقيهم، عرف أنّهم الحجّة وأنَّ لهم الطاعة المفترضة» من خلال أنّهم يؤدّون عن الله عزّ وجل.

الحجّة على الناس:

«وقلت للناس: تعلمون أنَّ رسول الله(ص) كان هو الحجّة من الله على خلقه؟»، لأنَّ الرسولَ هو الذي أرسله الله سبحانهُ وتعالى للناس كافّةً لينذرهم وليبشّرهم ويعرّفهم ما يرضي الله وما يسخطه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب/36). «قالوا: بلى. قلت: فحين مضى رسولُ الله(ص)، من كان الحجّة على خلقه؟». فلقد كان رسول الله الحجّة التي يحتجّ بها الله على خلقه {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}(الملك/8)،وذلك عندما كان رسول الله(ص) بين ظهراني الناس، ولكن بعد أن مضى(ص)، فهل بقي الناس بلا حجّة؟ «فقالوا: القرآن». وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، «فنظرت في القرآن، فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدريّ والزنديق الذين لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته». أي أنّه رأى القرآن حمّال وجوه؛ فالمرجئة، وهي فرقة من فرق الإسلام، يعتقدون أنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما أنّه لا ينفع مع الكفر طاعة، وهؤلاء إنّما سمّوا مرجئة لأنّهم اعتقدوا أنّ الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي، أي أخّره عنهم، فهم يحتجّون بذلك بآية من القرآن. والقدري الذي يقول بالجبر وبالقدر، يحتجّ بآية من القرآن، وحتى الزنديق الملحد فإنّه يحتجّ على من يخاصمه بالقرآن، فكيف يكون القرآن حجّة مع أنّ الذين يحتجّون به يختلفون. وكلٌّ يرى في القرآن حجّة لفكره الذي يختلف به عن الآخر؟! وإذاً فالقرآن حجّة لا يمكن أن تفرض نفسها على الآخرين.

القيّم على القرآن:

«فعرفت أنَّ القرآن لا يكون حجّةً إلا بقيّم». أي بالشخص الذي يمكن أن يفسّر القرآن تفسيراً يربط به آياته ويمنع الآخرين عن استغلاله بالطريقة التي يحتجّون بها على الباطل من أفكارهم، فلا بدَّ من مشرف من أهل الذكر يرجع إليه في فهم القرآن وتأويله، «فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم». وهو من الصحابة الذين يفسّرون القرآن «وعمر يعلم». وكان أيضاً من الصحابة الذين يملكون شيئاً من فهم القرآن «وحذيفة يعلم. قلت: كلّه؟». فهل كان هؤلاء يعرفون القرآن أجمعه أو يعرفون بعضه؟ «قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال إنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّاً(ع)». فلم يختلف أحد عن هؤلاء الناس الذين يحاجّونني ويخاصمونني في أنّ عليّاً(ع) كان يعرف القرآن كلّه.

«وإذا كان الشيء بين القوم، فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، فقال هذا: أنا أدري». فلو طلبنا تفسير آية ورجعنا إلى ابن مسعود، فقال: لم أطَّلع عليها، ورجعنا إلى عمر، لا علم لي بها، ورجعنا إلى حذيفة فأعرب عن جهله، وقال: لم أسمعها من رسول الله(ص). ولكن لو رجعنا إلى علي بن أبي طالب(ع)، فإنّه سوف يقول: أنا سمعتها من رسول الله(ص). «فأشهد أنّ عليّاً كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجّة على الناس بعد رسول الله(ص)، وأنَّ ما قال في القرآن فهو حقّ».

وهكذا انتهى الرجل من بيان حجّته التي قدّمها إلى النّاس، فأثبت فيها أنّ علياً(ع) هو الشخص الوحيد المؤهّل لأن يعطي الناس الحقيقة القرآنية، لأنّ عليّاً(ع) عرف القرآن كلّه، ولم ينكر أحد من المسلمين أنَّ عليّاً(ع) هو الذي عرف القرآن كلّه، لأنّه عاش مع رسول الله(ص) منذ طفولته الأولى، وعندما كان الوحي ينـزل على رسول الله(ص) كان(ع) معه، وقال له(ص) كما روى علي(ع) ذلك في (نهج البلاغة) «إنّكَ ترى ما أرى وتسمعُ ما أسمعْ ولكنّك لست بنبي». فكان علي(ع) يحضر الوحي في مواقعه كلّها، لذلك كان يقول: «ما من آية إلاّ وأنا أعرف أفي جبل نزلت أو في سهل». وكان رسول الله(ص) أستاذه، حيث قال: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح ليَ من كلِّ باب ألفُ باب». وقال (الخليل بن أحمد الفراهيدي) وقد سئل: لم قدّمت عليّاً على الآخرين؟ فقال: «احتياج الكلّ إليه،واستغناؤه عن الكلّ، دليل أنّه إمام الكلّ». فالشخص الذي جمع القرآن كلّه في عقله، والإسلام كلّه في صدره، وعرف من الغيب والشهود ما عرّفه رسول الله(ص)، هو المؤهَّل لأن يكون عدل الكتاب، وهذا ما عبّرت عنه الكلمة الرسولية: «إنّي تاركٌ فيكم الثّقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض».

وبعد أن سمع الصادق(ع) ما قاله له (منصور بن حازم) وهو من تلامذته، «فقال: رحمك الله». فهذا شيء مميز جداً، وهو أنَّ الإمام(ع) كان يستمع إلى تلاميذه في كيفية مخاصمتهم للناس، وكانوا يأتون إليه من أجل أن يعرضوا عليه ما قالوه حتى يؤكّد لهم ذلك أو ينقده.

أساليب متنوّعة:

وهناك قضية أخيرة اجتمع فيها أكثر من شخص من تلامذته نريد أن نعرف من خلال سردها ودراستها أساليب الأئمة(ع) في تربية تلامذتهم على الحوار. «فعن يونس بن يعقوب، قال: كنتُ عند أبي عبد الله(ع)، فورد عليه رجلٌ من أهل الشَّام، فقال: إنّي رجلٌ صاحب كلام»، أي لديَّ معرفة بالعقائد الإسلامية «وفقه وفرائض»، المقصود بها أحكام المواريث، أو أحكام العبادات مفروضهاومندوبها، «وقد جئت لمناظرة أصحابك. فقال أبو عبد الله(ع)» وكأنّه أراد أن يهزمه نفسياً قبل الدخول في المناظرة: «كلامك من كلام رسول الله أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله(ص) ومن عندي، فقال أبو عبد الله(ع): فأنت إذاً شريك رسول الله(ص)؟»، أي هل أنت والرسول(ص) في عرض واحد؟ «قال: لا، قال: فسمعت الوحي عن الله عزّ وجلّ يخبرك؟». فإذا كان من عند رسول الله(ص) فإنّه كان قد سمع الوحي، وإذا كان من عندك فمن أوحى إليك؟! «قال: لا، قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله(ص)؟ قال: لا، فالتفت أبو عبد الله(ع) إليَّ، فقال: يا يونس بن يعقوب، هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلّم». لأنَّ الرجل لم يستطع أن يدافع عن موقعه وموقفه من خلال هذه الأسئلة البسيطة التي طرحها الإمام(ع) عليه، فكانت النتيجة أنَّه بقي حائراً لا يدري كيف يجيب، وكيف يركّز الحجّة، فلقد كان عليه أن يقول إنّ ما عنده كلّه هو من عند رسول الله(ص)، لكنّه يفهمه بطريقته الخاصّة.

 

حاجة الحوار إلى الكفاءة:

«ثم قال: يا يونس، لو كنت تحسن الكلام كلّمته». فأنت من تلامذتي، لكنّ التلامذة يختلفون في استيعابهم العلمي، فأنت قد تحفظ العمل، لكنك قد لا تستطيع أن تخاصم وأن تدخل في جدال وحوار، لأنّهما يحتاجان إلى طاقة فكرية تردّ الفكرة بمثلها أو بأقوى منها، والحجّة بمثلها أو بأعظم منها.

«قال يونس: فيا لها من حسرة»، أي أنّه يأسف لأنّه لم يكن مؤهّلاً للدخول في مناظرة هذا الرجل الذي جاء يتحدّى تلامذة الإمام الصَّادق(ع). «فقلت: جعلت فداك، إنّي سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويلٌ لأصحاب الكلام، يقولون: هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله». أي أنَّه أراد أن يقول للإمام(ع) إنّه ينهى عن الكلام وينتقد أصحاب الكلام الذين يزنون ما ورد من الكتاب والسنّة فيما يوافق العقل وما لا يوافقه. «فقال أبو عبد الله(ع): إنّما قلت: فويلٌ لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون». أي أنني أحتجّ على اعتراضهم على الله سبحانه وتعالى، فإن قصرت عقولهم عن القبول بما جاء عن الله تعالى ورسوله(ص)، فعليهم أن يرجعوا الأمر إلى الحجّة، وهو هنا الإمام المعصوم(ع)، فالإمام الصادق(ع) لم ينتقد علم الكلام بحسب طبيعته، بل لا يستطيع أحد أن ينهى عن أيِّ علم، ولكنه كان ينهى عن بعض وسائل العلم التي لا تصل إلى النتائج الصحيحة، أي أنّه كان في مقام تصحيح الخطوط التي يمكن أن ينتهجها علماء الكلام للوصول إلى النتائج الحاسمة. فلقد كان الإمام(ع) يناقش في إدارة الجدل الكلامي لا في الأخذ بعلم الكلام. ولذلك يجب أن نفهم أنَّ الإسلام ليس ضد أيِّ علم، فهو يقول لك خذ بهذا العلم وذاك، ولكن حاول أن تدرسه وأنْ تكون مستعداً لمناقشة الذين يثيرون الضعف فيما علمته أو فيما تحدّثت به.

«ثم قال لي: اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلّمين فأدخله؟ قال: فأدخلت حمران بن أعين، وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام». وهو أبو جعفر بن محمد بن النعمان، وكان يلقّب بـ (مؤمن الطاق)، «وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام، وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاماً»، أي أنّه رجل مثقف ثقافة عالية «وكان قد تعلّم الكلام من علي بن الحسين(ع)».

وهذه نقطة لا بدّ من أن نتوقّف عندها، فالفكرة السَّائدة عندنا عن الإمام زين العابدين(ع)، أنّه لا عمل له سوى أنَّه صاحب سجّادة يصلّي ويدعو ويبكي على أبيه الحسين(ع)، لكنّه في واقع الأمر كان أستاذ المرحلة الإسلامية كلّها في عصره، فقيس كان تلميذ الإمام(ع)، وكان الإمام يعلّمه كيف يحاور الناس ويجادلهم في الإسلام وفي خط الأئمة من أهل البيت(ع).

«فلمّا استقرّبنا المجلس... وكان أبو عبد الله(ع) قبل الحجّ يستقرّ أياماً في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة» والفازة مظلّة بعمودين، «قال: فأخرج أبو عبد الله(ع) رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخبّ ـ أي يضطرب صعوداً أو نزولاً ـ فقال: هشام وربّ الكعبة»، أي أن الإمام(ع) أعرب عن سروره بالقادم «قال: فظننا أن هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبّة له. قال: فورد هشام بن الحكم، وهو أول ما اختطّت لحيته، وليس فينا إلا من هو أكبر سنّاً منه، فقال: فوسّع له أبو عبد الله(ع)»، أي اهتمّ به أكثر مما اهتمّ بالتلامذة الآخرين، «وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده»، فهشام بن الحكم كان من العلماء المميزين في الجدل الكلامي، بحيث كان بارزاً بين تلامذة الإمام الصادق(ع) في ذلك، «ثم قال: يا حمران كلّم الرجل، فكلّمه فظهر عليه حمران» أي غلبه وتفوّق عليه، «ثم قال: يا طاقي ـ أي مؤمن الطاق ـ كلّمه، فكلّمه فظهر عليه الأحول، ثم قال: يا هشام بن سالم كلّمه، فتعارفا» أي جاء كلّ واحد بالمعرفة مثل ما جاء به الآخر، بمعنى أنّه لم يتغلّب أحدهما على الآخر. «ثم قال أبو عبد الله(ع) لقيس الماصر: كلّمه، فكلّمه، فأقبل أبو عبد الله(ع) يضحك من كلامهما ممّا قد أصاب الشاميّ»، لأنّ هذا الشاميّ سقط في المناظرة، حيث تغلَّب عليه الجميع بعد أن جاءهم متحدياً، فلقد أسقطوا تحدياته من خلال إسقاط حججه كلّها.

أسلوب هشام في المحاججة:

«فقال للشاميّ: كلّم هذا الغلام ـ يعني هشام بن الحكم ـ فقال: نعم، فقال لهشام: يا غلام، سلني في إمامة هذا»، أي أنني أنكر إمامة الإمام الصادق(ع)، «فغضب هشام حتى ارتعد، ثم قال للشامي: يا هذا، أربّك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟» فمن الذي ينظر لخلقه لما يهديهم إلى الصواب ويوصلهم إلى الحقيقة: هل الله أكثر نظراً ورعايةً لخلقه فيما يصلحهم ويجعلهم في طريق الهدى والصواب أم هم أكثر نظراً لأنفسهم؟ «فقال الشامي: بل ربّي أنظر لخلقه، قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟» أي ماذا فعل الله تعالى لخلقه حتى يقودهم إلى الهداية إلى الصراط المستقيم والحقيقة الواضحة؟ «قال: أقام لهم حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا»، فلقد وضع لهم الميزان، وهو القرآن الذي يفرّق بين الحقّ والباطل، وبعث لهم الرسول الهادي للأمر كلّه «يتألّفهم ويقيم أودهم، ويخبرهم بفرض ربّهم، قال: فمن هو؟ قال: رسول الله(ص) قال هشام: فبعد رسول الله(ص)؟ قال: الكتاب والسنّة، قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا؟ قال الشّاميّ: نعم، قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إيّاك؟!». فإذا كان الكتاب والسنّة بذاتهما هما اللذان يمنعان الخلاف، فهما قائمان بيننا، فعلام الاختلاف إذاً؟

«قال: فسكت الشاميّ، فقال أبو عبد الله للشاميّ: ما لك لا تتكلّم؟ قال الشامي: إن قلت: لم نختلف كذبت» فنحن مختلفون «وإن قلت: إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه»، أي تكلّمت بالباطل، فهما يحتملان الوجوه المتعدّدة، فقد يُفسّر أحدنا القرآن بطريقة وقد يفسّره الآخر بطريقة أخرى، وهكذا السنّة «وإن قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذاً الكتاب والسُنَّة، إلا أنَّ لي عليه هذه الحجّة. فقال أبو عبد الله(ع): سله تجده ملياً، فقال الشَّامي: يا هذا، من أنظر للخلق؛ أربّهم أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربّهم أنظر لهم منهم لأنفسهم. فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقّهم من باطلهم؟ قال هشام: في وقت رسول الله أو الساعة؟ قال الشامي: في وقت رسول الله(ص) والساعة من؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشدُّ إليه الرحال»، مشيراً إلى الإمام الصادق(ع)، «ويخبرنا بأخبار السماء والأرض وراثةً عن أب عن جدّ» أي أن علم الأئمة(ع) هو علم متوارث عن أب وجد عن رسول الله(ص) عن جبرئيل عن الله. «قال الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟» فهذه دعوى لا دليل عليها «قال هشام: سله عمّا بدا لك»، فإذا أجابك فإنّه يجيبك من الغيب، وهذا ما لا يقدر عليه أحد غيره، وإن لم يجبك فحجّتي باطلة. «قال الشامي: قطعت عذري فعليّ السؤال. فقال أبو عبد الله(ع): يا شامي: أخبرك كيف كان سفرك؟ وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا، فأقبل الشامي يقول: صدقت أسلمت لله الساعة». ومن الطبيعي، فإن من يملك مثل هذا العلم لا بدّ من أن يكون له شيء من سرّ الله سبحانهُ وتعالى يستطيع أن يعلم به غيب الأشخاص الذي لا يعلم به غيره. «فقال أبو عبد الله(ع): بل آمنت بالله الساعة»، فأنت مسلم «إنّ الإسلام قبل الإيمان»، فلقد جئتنا وأنت تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ولكنك لم تؤمن بالحجّة التي قدّمها رسول الله(ص)، «وعليه يتوارثون ويتناكحون» أي الإسلام «والإيمان عليه يثابون»، لأنّه يمثِّل الخطوط التامّة التي يرتكز عليها الإسلام. «فقال الشامي: صدقت: فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله(ص) وأنّك وصيّ الأوصياء».

نقد المناظرين:

بعد ذلك، أخذ الإمام الصَّادق(ع) ينقد أصحابه«ثم التفت أبو عبد الله(ع) إلى حمران، فقال: تجري الكلام على الأثر فتصيب»، أي أنّك عندما تتحدث فإنّما تتحدَّث عمَّا أثر عن رسول الله(ص) من حديث فتصيب النتائج، وهناك تفسير آخر يرى بالجريان على الأثر المتابعة لمن تناظره في كلامه. «والتفت إلى هشام بن سالم فقال: تريد الأثر ولا تعرفه، ثم التفت إلى الأحول فقال: قيّاس روّاغ»، أي أنّك تأخذ بالأقيسة الفقهية والمنطقية، وتراوغ كما يفعل الخصم في المعركة حينما يزوغ أو ينحرف حتى يغري خصمه بالهجوم عليه، «تكسر باطلاً بباطل»، فالرجل عندما يأتيك بالباطل لا تأتيه بالحقّ ولكن تأتي إليه بباطل يسقط كلامه «إلاّ أنّ باطلك أظهر»، فباطلك الذي تسقط به باطله أقوى. «ثم التفت إلى قيس بن الماصر، فقال: تتكلّم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله(ص) أبعد ما تكون منه». أي تقترب في الجدل من حديث رسول الله(ص) ثم تنحرف فتأتي بباطل تبتعد به عمّا قال الرسول(ص)، «لا تمزج الحقّ مع الباطل، وقليل الحقّ يكفي عن كثير الباطل».فإذا أردت أنتناقش مبطِلاً، فلا تناقشه بالباطل، بل ناقشه بالحقّ، لأنّ الحقَّ يملك في داخله قوة إسقاط الباطل من دون حاجة إلى باطلٍ يساعده، ولكن عليك أن تفهم ما يختزنه الحق من عناصر القوّة التي يمكن أن تهزم الباطل. «أنت والأحول قفّازان حاذقان»، أي وثّابان تثبان على الخصم. «قال يونس: فظننت والله أنه يقول لهشام قريباً مما قال لهما، ثم قال: يا هشام، لا تكاد تقع، تلوي رجليك» كمن يريد أن يهجم «إذا هممت بالأرض طرت»، فأسلوبك يوحي للخصم أنّك تريد أن تقع على الأرض لأنّك تلوي رجليك، وإذا بك تطير إلى الفضاء، «مثلك فليكلّم الناس»، فأنت تملك الأسلوب الناجح وقوّة الحجّة التي تستطيع أن تهزم بها خصمك بكلّ لباقة. «فاتق الزلّة» أي حدّق جيداً وركّز جيداً مخافة الوقوع في الزلل «والشفاعة من ورائها إن شاء الله»(1).

مع حرّية الفكر:

أيّها الأحبّة: هذا هو نموذج من مدرسة الإمام جعفر الإمام الصادق(ع)، فلقد كان لا يكفي بإعطاء تلامذته الدروس، ولكنه كان يسمح لهم بأن يتكلّموا في مجلسه وأن يناقشوا الآخرين، وفي الوقت نفسه، كان ينقدهم ويسجّل ملاحظاته عليهم ليأخذوا بها ويستقيموا من خلالها.

وهناك نقطة يمكن رصدها في مجالس الإمام الصادق(ع)، وهي أنّه(ع) كان مع الآخر في طرح فكره، أي مع حرية الفكر، فإذا جاءك رجل في مجلسك ليكلّمك بالكفر فلا تردعه، ولكن ادخل معه في مناقشة حتى تقنعه بالإيمان، لأنّ الأساليب التي يتبعها بعض الناس عندما يواجههم أي شخص بمشكلة فكرية أو شبهة عقائدية، هي أنّهم يردّون عليه بالتكفير والتضليل، وهذا دليل على أنّهم ضعفاء لا يملكون العلم الذي يستطيعون به مواجهة هذا الشخص، في حين أنّ من حق كلّ إنسان وكلّ كافر وكلِّ ضالّ على العلماء أن يستمعوا إلى كفره، وأن يقنعوه بالإيمان من خلال إسقاط كفره بالحجّة القاطعة، وأن يستمعوا إلى ضلاله من أجل أن يقنعوه بالهدى الذي يسقط ضلاله، أمّا السباب والشتائم والتكفير والتضليل، فتعبِّر عن موقف ضعيف يعطي خصمك الحجّة عليك.

من هنا، فإنّ واجبنا هو أن نتثقّف بكلِّ الثَّقافة التي يتحرّك بها عصرنا، حتى إذا جاءنا من يعيش ثقافة العصر ويواجه الإسلام في عقائده وشرائعه، ومناهجه وأساليبه، وقفنا بكلّ عقلانية وقلب مفتوح وصدر واسع لنقول له: قل ما عندك لنقول ما عندنا بعد ذلك، وهي الطريقة التي يمكن أن تدخل الإسلام في قلب العصر. أمّا إذا انعزل الذين يمثِّلون رموز الإسلام عن الساحة، ولم يملكوا ثقافة الساحة، ولم يستطيعوا أن يدخلوا ساحة الصراع، فعلى الإسلام السلام، لأنّهم لن يكونوا حينذاك حججاً للإسلام، بل حججاً عليه. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة20 ربيع الثاني 1421ه22 تموز 2000م

 

كيف نعالج مشكلة الوسوسة؟

 

 

 

* إذا عاش الإنسان الغفلة تسلّمه الذين يريدون له السقوط الروحي والعقلي والحياتي *

 

 
 
 
 
 
 

مشكلة الوسوسة.

الوسوسة في أبناء آدم.

الوساوس العقائدية.

علاج الوسوسة.

الوسوسة العملية.

حذار من الموسوسين.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

مشكلة الوسوسة:

من المشاكل التي عاشها الإنسان الأول ومازلنا نعيشها في أكثر من جانب من جوانب الحياة على المستويين الفكري والعملي هي مشكلة (الوسوسة). والوسوسة تمثّل حالة نفسية يعيش الإنسان معها بعض الخواطر أو بعض المشاعر أو بعض الانطباعات التي لا تنطلق من حسابات معقولة، بل تنفذ إلى وجدان الإنسان وإحساسه ومشاعره من دون أن تستند إلى دراسة دقيقة.

وقد بدأت الوسوسة من الشيطان مع أبينا آدم(ع) وأمّنا حواء(ع) اللذين أراد اللّه تعالى أن يدخلهما في دورة تدريبية تهيئ لهما الفرصة الواقعية ليعيشا في الأرض مع إبليس بسلام، أي بوعي. فقد خلق اللّه آدم ومعه حوّاء إنسانين طيبين طاهرين لم يلتقيا بأية تجربة سلبية مع أيّ كائن كان، لأنهما لم يعيشا في أي موقع من مواقع الحياة التي يصطدم فيها المخلوق بالمخلوق بشكل مباشر، فكانا من الطيبة بحيث يتصوّران أنّ كلّ مخلوق، حتى إبليس نفسه، لا يمكن أن يكذب أو يغشّ لأنّهما كانا لا يعرفان ما هي طبيعة الغش؟ وما هي طبيعة الكذب؟ فلقد كانا الصدق كلّه والنصح كلّه، لأنّ ذلك هو ما تمثله طهارة الإنسان في فطرته ]فوسوسَ لهما الشيطانُ ليُبديَ لهما ما وُريَ عنهُما من سوءاتِهِما وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ[. وعندما أحسّ بأنّهما يواجهان المسألة بحيرة وقلق ]وَقَاسَمَهُمَا[. أي بدأ يحلف بالأيمان المغلّظة باللّه تعالى ]إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ * فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ[(1).

لقد كانت هذه هي الوسوسة الأولى التي تعلّم فيها آدم(ع) ومعه حواء(ع) أنّ هناك من يغشّ بعنوان النصيحة، وأنّ هناك من يكذب بعنوان الصدق ]اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا{(2). وأراد اللّه تعالى لآدم(ع) من خلال هذا الدرس التجريبي أن يحذّر من إبليس ووسوساتهوتسويلاته، وذكّرنا أنّه أخرج أبوينا من الجنّة بوسوسته في فعل القبيح، فعلينا أن نحذر منه لأنّه أقسم على أن يخرجنا جميعاً من الجنّة ويمنعنا من دخولها، عندما قال ]لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ^ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[(3).

الوسوسة في أبناء آدم:

وبدأ الشيطان الوسوسة في ذريّة آدم، وذلك بأن يوسوس للإنسان من خلال ما أعطاه اللّه تعالى من القدرة على النفاذ إلى مشاعر الإنسان وخواطره وغرائزه، فبدأ يزيّن ويقبّح ويستغلّ غفلة الإنسان، فاستطاع أن يجعل من نفس الإنسان نفساً وسواسة. وهذا ما حدّث اللّه تعالى عنه بقوله ]وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ[(4). ولعلّنا نستشعر هذه الوساوس عندما تثير النفس فينا، من خلال حالتها الغرائزية الانفعالية، كثيراً من الأفكار اللامعقولة، والهواجس والمشاعر والأحاسيس الطارئة الغريبة. ولقد أراد اللّه سبحانه وتعالى أن ننتبه إلى أنّ حالة الوسوسة حالة شيطانية، فانزل سورة كاملة أراد للإنسان أن ينفتح فيها على وعي هذا المخلوق الذي ينفذ للإنسان في موقع الفكر، حتى إذا تفاعلت الوسوسة في نفسه اندفع ليثير وسوسة اخرى، وهكذا حتى يتحوّل الإنسان إلى مجموعة من الوساوس التي تحاصر عقله وقلبه وشعوره وإحساسه ثم تنفذ إلى عمله، وهذا هو أخطر أشكال الوسوسة، وجاءت هذه السورة لتفتح وعي الإنسان على الوسواس الخنّاس ليحذر منه فيستعيذ باللّه الذي يملك القوّة كلّها إذا أحسّ بالضعف عن مقاومته له.

الوساوس العقائدية:

وقد كانت الوساوس في بداية عهد الدعوة الإسلامية عقائدية، عندما دخل الناس في الإسلام وحسن إسلامهم، حيث بدأ الشيطان ينفذ إليهم ليثير بعض الأفكار التي ربّما يحاول من خلالها أن يهزّ هذا الاطمئنان العقيدي في نفوسهم. وهذا مما حدّثتنا عنه السيرة ((إنّ أناساً من أصحاب رسول اللّه(ص) أتوا رسول اللّه فقالوا لرسول اللّه: أرأيت شيئاً نجده في صدورنا من وسوسة الشيطان، لأن يقع أحدنا من الثريا أحبّ إليه من أن يتكلّم بها؟)). أي أنّ بعض الأفكار والخواطر ترد إلى أذهاننا وربما كانت تتعلّق بشكل سلبي باللّه سبحانه وتعالى بحيث نشعر بأنّ إيماننا الذي بنيناه في نفوسنا يكاد يهتزّ، ويشعر كلّ واحد منّا خوفاً من ذلك أنّه لو سقط من الثريا إلى الأرض لكان أهون مما يحدث له من ذلك، فهل سقط إيماننا من خلال ذلك؟ ((فقال رسول اللّه(ص) أقد وجدتم ذلك؟)). أي هل أن هذه الحالة النفسية التي تصل بالإنسان إلى درجة لو أنّه سقط من الثريا إلى الأرض لكان أهون ((قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان. إنّ الشيطان يريد العبد فيما دون ذلك)). أي أنّه يريد أن يخرّب صلاة العبد المؤمن أو صومه، أو ينحرف به إلى المعاصي ((فإذا عصم العبد منه وقع فيما هنالك)). فإذا لم يستطع أن يسيطر عليه في عمله فإنّه ينفذ إلى فكره ليثير فيه هذه الأفكار والوساوس.

وهناك رواية تتحدث عن بعض هذه الأفكار. ((عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه(ع) قال: جاء رجل إلى النبي(ص) فقال: يا رسول اللّه هلكت، فقال له(ع): أتاك الخبيث)). أي الشيطان ((فقال لك: من خلقك؟ فقلت اللّه)). فكأنّ النبي(ص) عرف، بما ألهمه اللّه سبحانه وتعالى من معرفة النفوس، كيف فكّر هذا الشخص؟ وكيف وسوس الشيطان له؟ ((فقال لك: اللّه من خلقه، فقال: إي والذي بعثك بالحق لكان كذلك)). هو تماماً كما أخبرتني ((فقال رسول اللّه(ص): ذاك والله محض الإيمان)).

ويفسّر الإمام الصادق(ع) قوله(ص) ((محض الإيمان)) في الرواية ((قال ابنأبي عمير: فحدّثت بذلك عبد الرحمن بن حجّاج، فقال: حدّثني أبي عن أبي عبد اللّه(ع): أنّ رسول اللّه(ص) إنّما عنى بقوله هذا (والله محض الإيمان) خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض له ذلك في قلبه))(5). أي أنّ هذه الحالة النفسية الخائفة المتخوّفة على الإيمان هي محض الإيمان، مما يدلّ على أنَّ هذه الفكرة لم ترتكز في قلبه لتهزّ إيمانه، ولكنها طرأت عليه وخاف من ذلك، وكأن خوفه من ذلك دليل على قوّة الإيمان في قلبه، وأنّه يخاف على إيمانه من أي طارئ يطرأ عليه، كما يخاف الإنسان على جسده من أي مرض يحدث له.

وقبل الاسترسال في الحديث نحب أن نتصوّر ذلك في واقع الناس، فقد تحدث مثل هذه الخواطر لديهم، وقد يسألونك: من خلقك؟ فإذا قلت لهم اللّه، قالوا لك: من خلق اللّه؟ وقد طرح مثل هذا السؤال علينا، فقلنا: إنّ السؤال خطأ، والسبب هو إنّما يُسئل عن خلق اللّه لو كان اللّه سبحانه وتعالى مخلوقا كبقية المخلوقات التي لم تكن فوجدت من عدم، أي أن العدم كان سابقاً على وجودها، أمّا الأزلي الذي لا أمد ولا نهاية لوجوده فلا يقال أو يُسئل عمّن خلقه. ولذا فقد سأل شخص أحد الأئمة(ع) فقال له: متى كان اللّه؟ فأجابه(ع): متى لم يكن؟ فإنّما يمكن أن تسأل عن زمن الكينونة والوجود بالنسبة للشيء الذي سبق وجوده العدم، أي كان معدوما فوجد، أمّا الشيء الأزليّ الوجود فلا يمكن ولا يصحّ أن نسأل من خلقه؟ ومن أوجده؟ ومتى وجد؟ لأنّ الوجود سرّ ذاته، وهو حقيقة الوجود، فلم يسبقه العدم البتة، فكيف تكون حالة خلق وإيجاد ولا عدم قبلها؟!

علاج الوسوسة:

و((عن علي بن مهزيار قال: كتب رجل إلى أبي جعفر(ع) يشكو إليه لمماً يخطر على باله، فأجابه في بعض كلامه: إنّ اللّه عزّ وجل إن شاء ثبّتك فلا يجعل لإبليس عليك طريقاً، قد شكى قوم إلى النبي(ص) لمماً يعرض لهم)). أي مما يلمّ بهم في أفكارهم ((لأن تهوي بهم الريح أو يقطّعوا أحبّ إليهم من أن يتكلّموا به، فقال: رسول اللّه(ص) : أتجدون ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: والذي نفسي بيده إنّ ذلك لصريح الإيمان فإذا وجدتموه)). وهذا هو العلاج النفسي لهذه المشكلة ((فقولوا: آمنا باللّه ورسوله ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه))(6). أي أكّدوا إيمانكم بالكلام حتى يزول ما في أنفسكم من حالة الحيرة والقلق.

هذا هو حال الإنسان الذي يشتكي الوساوس في الجانب الفكري والعقيدي، وربما يشتطّ الشيطان فيما يثيره في نفس الإنسان، حتى أنّ كثيراً من الرجال والنساء حدّثوني أنّ الوسواس يأتي إليهم فيضع في وجدانهم الإساءة إلى اللّه سبحانه وتعالى، أو أنّه يحاول أن يثير فيهم معاني الكفر، بحيث أنّ الإنسان يصلّي وإحساسات الكفر تعيش في داخل نفسه وهو مؤمن عميق الإيمان، ولذلك تراه يتألّم ألماً كبيراً في هذا المجال. وعلاج ذلك هو أن يذكر اللّه وأن يستعيذ من الشيطان الرجيم حتى يشعر بأنّ هذه الوسوسة لم تنطلق من قاعدة فكرية راسخة في داخل ذاته، بل انطلقت من حالة طارئة تطوف به طوف الخيال، كما قال تعالى في وصف الحال التي يمرّ بها المتقون أحياناً ]إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[(7). وربّما نجد أنّ من الآداب الإسلامية أن على الإنسان قبل أن يبدأ صلاته أن يقول ]ربّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وأَعُوذُ بِكَ ربّ أن يحضرون[(8). ليحصّن نفسه من البداية، ويوحي إلى نفسه أنّ الشيطان ربّما ينفذ إلى صلاته فيثير فيها الكثير من الوساوس.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر(ع) ((إن إبليس له خرطوم كخرطوم الكلب)). وهذا طبعاً في مقام الكناية ((واضعه على قلب ابن آدم يذكّره الشهوات واللذات ويأتيه بالأماني ويأتيه بالوسوسة على قلبه يشكّكه في ربّه، فإذا قال العبد: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأعوذ باللّه من أن يحضرون إنّ اللّه هو السميع العليم، خنس الخرطوم عن القلب)) أي ابتعد عنه.

و((عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه(ع) قال: قلت له: إنّه يقع في قلبي أمر عظيم، فقال: قل لا إله إلاّ الله، قال جميل: فكلّما وقع في قلبي شيء، قلت: لا إله إلا اللّه فيذهب عني ذلك))(9).

وفي الحديث أيضاً عن الصادق(ع) ((أتى النبي(ص) فقال: يا رسول اللّه لقيت من وسوسة صدري شدّة وأنا رجل معيل مدين محوج)). فأنا أعيش مشكلة مالية، وتأتي هذه الوساوس لتعقّد الأمر فقد اعترض على قضاء اللّه وقدره ورزقه ((فقال له: كرّر هذه الكلمات: (توكّلت على الحيّ الذي لا يموت والحمد للّه الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذلّ وكبّره تكبيرا) فلم يلبث الرجل أن عاد إليه، فقال: يا رسول اللّه أذهب اللّه عنّي وسوسة صدري، وقضى ديني ووسّع رزقي)).

هذا الأسلوب النبويّ الإماميّ في علاج الوسوسة يرتكز على قاعدة نفسية مهمّة وهي أنّ كثيرا من الحالات السلبية التي تحدث للإنسان تعالج بأسلوب إيماني، لأنّ الإنسان عندما يذكر اللّه سبحانه وتعالى، وعندما يستعيذ به من الشيطان الرجيم، وعندما يتوكّل عليه ويستحضر قوّته يحصل لديه الإحساس بالثقة بالنفس من خلال الثقة باللّه سبحانه وتعالى، ويشعر بقوة المقاومة للشيطان في هذا المجال، وعند ذلك ينفتح عقله على حقيقة الوسوسة فيستطيع من خلال ذلك أن يعالجها بطريقة فكرية تزيل عنه ذلك كلّه.

وهناك علاج آخر وهو أن لا يهرب الإنسان من هذه الأفكار التي تسقط عقيدته وتربك إيمانه. فليحاول أي الوسواسي أن يحضر عقله وفكره ليفكّر فيها ويسأل عنها، لأنّ الإنسان عندما يخاف من الفكرة يسقط، أمّا إذا ملك الشجاعة فراح يواجه المشكلة الفكرية وجهاً لوجه، وبدأ يفكّر فيها كمقدمة للخلاص منها، خاصة وأنّها لا ترتكز على أساس، فعند ذلك يكتشف أنّها فكرة سطحية، وإذا لم يستطع الوصول إلى نتيجة في دحض الفكرة، فعليه أن يرجع إلى الذين يملكون الثقافة العقيدية والفكرية على هدي ما جاء به القرآن في قوله تعالى ]فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[(10). فلكي نحصّن عقيدتنا ونركّز خطوطنا الفكرية، علينا عندما تهجم الشبهات والاشكالات أن نواجهها بمسؤولية وشجاعة بأن نرفضها من خلال ما نملك من فكر، أو نعالجها من خلال الرجوع إلى من يملك ذلك الفكر.

الوسوسة العملية:

هذه هي الوسوسة في الجانب الفكري، وهناك وسوسة أخرى منتشرة بين الناس في الجانب العملي، فهناك أناس يعيشون الوسوسة في الطهارة بحيث أنّه لا يطمئن، عندما يريد أن يطهّر أية نجاسة في بدنه أو في ثيابه أو في بيته لطهارتها، حتى لو أفاض عليها ماءً كثيراً، فهو يبقى في شك دائم أن ما طهّره لم يطهر.

وتمتدّ الوسوسة إلى الوضوء، فنجد أنّ هناك بعض الناس ممن يبدأ بالوضوء من الفجر حتى طلوع الشمس وهو لم يطمئن بعد إلى صحّة وضوئه، فإمّا أن تشرق الشمس عليه فتفوته الصلاة أو يصلّي بتيمّم. ومن المفارقات أنّ البعض لديه وسوسة في الوضوء ولا وسوسة لديه في التيمّم.

وهناك أناس يعيشون الوسوسة في الصلاة بحيث يعيد أحدهم صلاته أكثر من مرة لأنّه لا يطمئنّ إلى صحّة صلاته. فقد يعتبر بعض الناس أنّ ذلك من علامات التقوى، ويرى فيمن يفعل ذلك مؤمناً يحافظ على تكليفه بالطريقة التي يحرز فيها اليقين، ولكن الواقع أنّ هذا ليس ديناً بل هو مرض، لأنّ الدين وضع لذلك حلولاً في طبيعة الموضوع، كما لو أنّ أحداً شكّ في نجاسة يده وزال الدم فيكفي في هذه الحال غسلة واحدة لتطهر، خاصّة وأن بشرة الجسد مستوية ولا حفر فيها، فبمجرد أن تضع عليها الماء يسيل فيطهّر موضع النجاسة من دون أية تعقيدات، علماً أنّ أغلب النجاسات يكفي في طهارتها غسلة واحدة، فلم الشك إذاً؟

وكذلك الحال في الوضوء، فاللّه سبحانه وتعالى يقول  ]فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[(11). ولو قيل لك عندما تستيقظ من النوم اغسل وجهك فهل ستجد اشكالاً في كيفية غسله أم تغسله بشكل طبيعي؟ وكذلك هو الوضوء سواء في غسل الوجه أو اليدين أو الرجلين، حتى ليمكن للإنسان أن يتوضّأ بكأس ماء واحد.

وكذلك الصلاة، فالبعض يشكّ في القراءة في حين أنّه حينما يطلب منه أن يقرأ الفاتحة لا يجد إشكالاً في القراءة فيقرأها بشكل طبيعي لا عقدة فيه، لكنّه إذا صلّى شكّ في قراءته، وهذه - في واقع الأمر - حالة مرضية وليست حالة طبيعية. ولذلك ورد عن الإمام الصادق(ع) أنّ شخصاً حدّثه عن شخص آخر مبتلى بالوسوسة في الوضوء والصلاة، فقال له الإمام(ع) إنّ هذا الرجل يعبد الشيطان؟ فتعجّب السائل، وقال له: كيف يعبد الشيطان، فقال الصادق(ع): إسأله من أين يأتيه ذلك؟ فإنه سيقول لك من الشيطان. ف((عن عبد اللّه بن سنان، قال: ذكرت لأبي عبد اللّه(ع) رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال: أبو عبد اللّه : وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟((فالعقل ما عبد به الرحمن وما عصي به الشيطان، فكيف يكون عاقلا وهو يطيع الشيطان؟! ((فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟)). فهو رجل مؤمن معروف بإيمانه وصلاحه ((قال: سله هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو فإنّه يقول لك من عمل الشيطان))(12). فهو حينما يكرّر وضوءه وصلاته فإنّ ذلك يعني أنّ الشيطان يوسوس له بذلك.

وأمّا الحلّ الثاني فهو أنّ من ابتلي بالوسوسة أو بكثرة الشك، فلا يعتني، أي يردّ على الشيطان إذا قال له: إن وضوءك غير صحيح، أن وضوئي صحيح، وإذا قال له: إنّ صلاتك غير صحيحة يردّ عليه أنّها صحيحة، وهكذا. ف((عن زرارة وأبي بصير قالا له: الرجل يشك كثيراً في صلاته حتى لا يدري كم صلّى ولا ما بقي عليه؟ قال: يعيد، قلنا له: فإنّه يكثر عليه ذلك كلّما عاد شكّ؟)). فإذا أعاد صلاته شكّ في الصلاة الثانية وإذا أعاد الثالثة شكّ فيها ((قال: يمضي في شكّه)). أي لا يعتني بشكّه ((ثم قال: لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه)). فإذا سايرت الشك فسوف يسيطر عليك الشيطان ويجعلك إنساناً غير متوازن ((فإنّ الشيطان خبيث يعتاد لما عوّد فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرنّ نقض الصلاة، فإنّه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشكّ. قال زرارة: ثم قال: إنّما يريد الخبيث أن يطاع فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم))(13).

وهناك من الناس من يعيش الوسوسة الصحيّة - إذا جاز التعبير - فالبعض منهم لا يصافح الناس مخافة أن تنتقل إليه الأمراض والميكروبات من خلال المصافحة، بل لا يعانقه ولا يتكلّم معه لئلا تنتقل الجراثيم من خلال أنفاسه فيصيبه المرض، فهو يعيش في عزلة عن الناس فلا يصافح أحداً ولا يتكلّم مع أحد، بل قد يصل الأمر به إلى اعتبار أي مرض ولو كان طفيفاً مرضاً كبيراً مقلقاً وخطيراً.

وهناك نوع آخر من الوسوسة الاجتماعية وهي الشك بالناس، فصاحب هذه الوسوسة غير مستعد أن يلتقي أحداً، فهو يحاول أن يحمل كلام غيره وفعله على العكس أو على الجانب السلبي. وقد عالج الإمام علي(ع) ذلك بقوله ((ضع أمر أخيك على أحسنه ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً أو محتملا)). فإذا دار الأمر بين أن تحمله على الأسوأ أو تحمله على الأحسن وكان هناك احتمال ولو 1% بالحمل على الأحسن فاحمله على ذلك، أي لا تحمل أخيك على الأسوأ حتى يثبت لك ذلك، وهذا لا يمنع من الحذر، فإن حملك إياه على الأحسن ينبغي أن لا يتحوّل إلى سذاجة. وعليك أن تدرس إيجابيات الناس كما تدرس سلبياتهم، فبعض الناس لا يرى إلاّ الجوانب المظلمة من الأشخاص، بينما نرى أن لكل إنسان جوانب مضيئة وأخرى مظلمة، فكما أنّ علينا أن ننظر إلى الجانب المظلم علينا أيضاً أن ننظر إلى الجانب المضيء، وهذا ما علّمنا إياه السيد المسيح(ع) حيث ينقل أنّه ((كان سائراً مع الحواريين فمرّوا بكلب ميّت أنتنت جيفته، فقال الحواريون: ما أشدّ نتن رائحته، فقال عيسى(ع): ما أشدّ بياض أسنانه)). فأراد بذلك أن يعلّمهم درساً في النقد الموضوعي بأن لا ينظروا إلى الجانب السلبي فقط بل إلى الجانب الإيجابي أيضاً. وهذا مما يجعلنا نوازن حياتنا بشكل طبيعي، ففي الناس الإيجابيون وفيهم السلبيون، وفيهم الخيّر وفيهم الشرّير، وعلينا عندما نريد أن نعدل في النظرة إلى الأشخاص وتحصيل الانطباع المتوازن أن نقارن دائماً بين الإيجابيات وبين السلبيات لأنّ ذلك هو الذي يحقق الانطباع الصحيح عن الناس.

حذار من الموسوسين:

أيّها الأحبّة: إنّ اللّه خلق لنا عقلاً فعلينا أن ننمّيه وأن نربّيه وأن نحوطه ونجنّبه الأمور التي تضعفه وتضيّعه وتسقطه، وعلينا دائماً أن نكون الواعين لما حولنا ولمن حولنا، فإنّ هناك شياطين من الأنس كما أنّ هناك شياطين من الجنّ، فربّما ينطلق الكثير من الناس في بيوتنا ومواقفنا العامّة ليوسوسوا للإنسان في بعض القضايا السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنية. وهؤلاء هم الذين يحاولون إرباك المجتمع وأن يهزّوا ثقته ببعضه، وأن يخلقوا الفتن فيه من خلال إفقاد الناس ثقتهم لبعضهم البعض. وعلينا أن لا نعيش الغفلة عن الواقع لنكتشف هؤلاء الناس كما نكتشف الشياطين، وعلينا أن نكرّر قراءة قوله تعالى ]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ[. الذي يثير الوسوسة ثم يخنس ]الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ[. في عقولهم وقلوبهم واحساسهم ومشاعرهم وحياتهم، بل في كلّ منطقة الوعي الداخلي للإنسان  ]مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ[(14). علينا أن نواجه الحياة بيقظة عقلية وروحية وشعورية، لأنّ الإنسان إذا عاش الغفلة تسلّمه الذي يريدون له السقوط الروحي والعقلي والحياتي.. والسقوط في الدنيا والآخرة. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة الخامسة28 ربيع الثاني 1421ه29 تموز 2000م

 

 

الصداقة والأصدقاء (1)

 

 

 

* قل لي من تصاحب أقل لك من أنت *

 

 
 
 
 

الصداقة في الإسلام.

الصداقة في القرآن.

الأصدقاء في الآخرة.

من نصادق؟

قيمة الصديق.

أصدقاء السوء.

الصداقة في أحاديث المعصومين(ع).

اختبار الصديق.

أصدقاء إيجابيون.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

الصداقة في الإسلام:

في الإسلام هناك اهتمام كبير بتركيز العلاقات الإنسانية على أساس ثابت يخدم عقل الإنسان وقلبه وحياته، لأنّ علاقة الإنسان بالإنسان تترك تأثيرها على الكثير من جوانب حياته الداخلية والخارجية، باعتبار أنَّ طبيعة العلاقة تخلق جوّاً من الألفة والمحبّة والحميمية بما يجعل الإنسان ينجذب إلى الآخر انجذاباً عقلياً وشعورياً. ولهذا فقد تحدّث الإسلام في الكتاب والسنّة عن مسألة الصداقة فيما يحتاجه الإنسان إلى هذه العلاقة، باعتبار أنَّ الصداقة تمثّل الإنسان في الصديق الذي يساعد الإنسان ويعاونه ويكون موضع سرّه وأمانته وأنسه، لأنَّ الإنسان لا يطيق الوحدة بل يحبّ أن يعيش مع الآخر لأنّه اجتماعيّ بالطبع.

وربّما كانت علاقة القرابة لا تملأ كلّ ذات الإنسان، فقد يحتاج إلى من يكون قريباً له في العقل وفي الروح، ممن يمكن أن تكون قرابته أكثر من قرابة النسب، لأنَّ قرابة النسب تمثل هذا التواصل في الآباء والأجداد، وربّما لا يحمل التواصل بين هؤلاء في داخله تواصل العقل بالعقل والقلب بالقلب والروح بالروح، ففي الحديث عن الإمام علي(ع) ((ربّ أخٍ لكَ لم تلده أمّك)).

الصداقة في القرآن:

وعلى ضوء ذلك، ولخطورة تأثير الصديق في الصديق، أراد اللّه من الإنسان أن يعرف كيف يختار صديقه؟ وقد تحدّث اللّه سبحانه وتعالى عن الصداقة بشكلها الإيجابي كما تحدّث عنها بشكلها السلبي في كتابه المجيد. أمّا الصداقة في شكلها الإيجابي فهي الصداقة المبنيّة على التقوى، وهي أن تصادق الإنسان الذي يعيش تقوى الفكر فلا يفكّر إلاّ حقاً، وتقوى القلب فلا ينبض قلبه إلاّ بالخير، وتقوى الحياة فلا تتحرّك حياته إلاّ في الخط المستقيم. وإذا كان الإنسان تقيّاً فلابدّ أن يكون ناصحاً لصديقه لأنَّ الدين النصيحة. ولابدّ أن يكون الوفيّ لصديقه لأنّ الوفاء يمثّل عنصراً من عناصر الإيمان، وإذا كان الإنسان تقيّاً فلابدّ أن يعين صديقه وأن يساعده وينصره وأن يؤثره على نفسه لأنّ ذلك من عناصر أخوّة الإيمان. ولهذا حدّثنا اللّه سبحانه وتعالى أنَّ صداقة التقوى تتحرّك في الحياة لأنّ علاقة مبنيّة على التقوى هي علاقة تبدأ باللّه وبرسوله وبأوليائه، وترتكز على قاعدة الإسلام في عقائده كلّها وشرائعه ومناهجه وأهدافها، فما دمت مسلماً تقيّاً فإنّ هذه هي العروة الوثقى التي لا تنفصم لأنَّ اللّه سبحانه وتعالى جعل الإنسان الذي يسلم وجهه للّه وهو محسن المستمسك بالعروة الوثقى.

ثم يحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن أنّ هذه الصداقة سوف تستمر إلى الآخرة، لأنّ صداقة الدنيا التي ترتكز على قاعدة الإيمان باللّه وتقواه تجد مكانها الرحب في الآخرة، لأنَّ الآخرة هي مواقع رضوان اللّه ونعيم اللّه. وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة ]الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ[(1). فالمتقون هم الذين تبقى صداقتهم وخلّتهم خالدة لأنّها انطلقت من الموقع الثابت فلا زوال لها بالموت بل تمتدّ لتكون حياة المحبّة في الدار الآخرة كما كانت حياة المحبّة في دار الدنيا.

الأصدقاء في الآخرة:

ويحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن هذه الصداقة في الآخرة، وذلك عندما يلتقي أصدقاء التقوى وأصدقاء الإيمان في الجنّة ]وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ[فقد جاءوا إلى الآخرة وليس في قلوبهم أيّ حقد، بل كانت المحبّة تغمر قلوبهم، لأنّ محبة الإنسان للّه تجعله يحبّ الناس الذين يلتقي بهم ليتعاون معهم، ويحبّ الناس الذين يختلف معهم ليهديهم، ولذلك فأن تكون مؤمناً يعني أن تغمر المحبّة قلبك فلا مكان للحقد فيه. وهذا ما تعلّمناه من رسول اللّه(ص) عندما كان يواجه قومه وهم يؤذونه وهو يقول: ((اللّهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون)). فالذين لا يحملون الغلّ في قلوبهم هم الأتقياء حقّاً، الذين يحبّون اللّه سبحانه وتعالى فيحبّون خلقه ((الخلقُ عيال اللّه فأحبّ الخلق إلى اللّه من نفع عيال اللّه وأدخل على بيت سرورا))(2).

]إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[(3). متحابّين، يعيشون سعادة الإيمان ورضوان اللّه ]وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أكبر[(4).

من نصادق؟

ونرى أنَّ القرآن أيضاً يؤكد على المجتمع الذي تصادقه وتعيش معه، فمن هم هؤلاء الذين تعيش معهم وتصادقهم؟ ]وَاصْبِرْ نَفْسَكَ[ والحديث هنا مع رسول اللّه(ص) واللّه سبحانه وتعالى يخاطب الناس بأسلوب خطابه للرسول(ص) ليعرف الناس أهمية هذا الخطاب، لأنّ اللّه إذا كان يطلب أمراً من رسوله(ص) وهو حبيبه وأقرب الخلق إليه، فكيف لا يطلبه من الناس؟ فمعنى ذلك أنَّ لهذا الأمر أهمية بالغة عند اللّه سبحانه وتعالى. ]وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[(5). أي صادق الذين يخلصون للّه ويعبدونه ويبتهلون إليه ويخلصون له لأنَّ هؤلاء هم الذين يزيدون إيمانك، وهم الذين يحفظون لك ودّك ويفون لك الوعد والعهد.

قيمة الصديق:

ويحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن قيمة الصديق من خلال نداء أهل النار عندما يدخلونها .. ما هي استغاثتهم هناك؟ ]فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ^ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ[(6). ويتحدث الإمام الصادق(ع) عن هذه الآية فيقول: ((لقد عظمت منزلة الصديق حتى أنّ أهل النار يستغيثون به ويدعون به في النار قبل القريب الحميم، قال اللّه مخبراً عنهم ]فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ^ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ[))ومعنى ذلك أنّ الصديق الحميم هو الذي يفي لك، وهو الذي يعينك، حتى أن أهل النار يتلفّتون يمينا ويساراً ويتطلّعون إلى من كانوا يصادقون من أمثالهم فلا يرون أحداً، فيتساءلون: أين هو الصديق الحميم؟ فهم يعرفون أنّ صداقة غير المؤمنين صداقة لا ترتكز على أساس، فهي لا تمتدّ بأصحابها إلى الآخرة ]الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ[.

أصدقاء السوء:

ويحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن الأصدقاء في الجانب السلبي، هؤلاء الذين يعيش الإنسان في الآخرة في حسرة من صداقته لهم، فسبحانه وتعالى يقول ]وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ[ والمراد بالظالم الذي ظلم نفسه بالكفر أو بالضلال والمعصية ]عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا[(7). يا ليتني عشت في خط الرسول(ص) وكان لي طريق إليه وإلى رسالته فيما تمثّله من الهداية إلى اللّه ]يَاوَيْلَتِي[ فينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور ]لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا[(8). أي ليتني لم أتخذ فلاناً صديقا. وتسأله: ماذا فعل بك فلان؟ فيجيبك ]لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي[ فلقد جاء ذكر اللّه على لسان رسولاللّه(ص)، وكان عقلي منفتحاً عليه، وكان قلبي منفتحاً عليه، وجاء هذا الرجل فكان حاجزاً بين عقلي وذكر اللّه فانحرف بعقلي عن مساره الطبيعي، كما انحرف بقلبي عن مساره الطبيعي. ثم عندما واجهت الموقف المصيري خذلني ]وَكَانَ الشَّيْطَانُ[ شيطان الجنّ أو شيطان الإنسان لا فرق ]لِلإِنسَانِ خَذُولا[(9).

ويحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن طريقة الشيطان في التسويل للإنسان وخذلانه فيقول: ]كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[(10). وفي يوم القيامة يقف الشيطان في المحشر ويندفع الناس ليقولوا يا ربّنا لقد أضلّنا الشيطان فحمّله المسؤولية ، ولكن الشيطان يتحدّث بطريقة أخرى ليدافع عن نفسه وليحمّلهم المسؤولية كاملة ]وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ[(11). فقد قال لهم ]وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[(12). وها أنتم ترون المتقين كيف يسيرون إلى الجنّة ]إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ[(13). لأنّ مهمتي هي أن أعد فاخلف، وأن أوسوس، وأزيّن القبيح وأقبّح الحسن، لأنّ العداوة قد نشأت بيني وبينكم منذ أبيكم آدم وأمّكم حواء، وقد قال لكم اللّه ]إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [ فماذا يصنع العدو مع عدوّه؟ ينصحه أو يغشه؟ ]فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ[(14). فقد أنزل اللّه في كتابه ]وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ[(15).] إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ[(16). ]فَلا تَلُومُونِي[(17). فمنذ البداية ]قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[(18). فوظيفتي وهدفي كانا منذ البدء واضحين، فلقد أردت بغوايتكم التنفيس عن حقدي وثأري من أبيكم آدم. ]وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ[ فلقد أعطاكم اللّه عقلاً وأرسل لكم رسلاً وأعطاكم إرادة وهداكم النجدين، فلماذا لم تنطلقوا في طريق الجنّة بل انطلقتم في طريق النار وأنتم تعرفون أنّ حزبي هو حزب أهل النار ]مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ[ فلو أنّكم صرختم لما أغثتكم ]وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ[ ولو صرخت فلن تغيثونني، فلكل امرئ يومئذ شأن يغنيه ]إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي[(19). فأنا أكفر بشرككم بان تجعلوني شريكاً للّه تعالى.

الصداقة في أحاديث المعصومين(ع):

ومن خلال ذلك كلّه، نجد أنّ هذه الآية تعطي وحياً لأحاديث كثيرة، فهناك حديث للرسول(ص) يقول فيه ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)). باعتبار أنه يأخذ من دينه من جهة المؤثرات التي تؤثرها الخلّة والصداقة في نفس الشخص الآخر، فإذا أردت أن تصادق فعليك أن تدرس دين من تصادقه حتى تعرف أنّ من تصادقه لن يضلّك عن دينك، بل قد يقوّي لك دينك. والصداقة أيضاً وسيلة من وسائل الحكم على الأشخاص، فإذا أردت أن تحكم على شخص سواء كان هذا الحكم إيجابياً أو سلبياً فما هي القاعدة التي ترتكز عليها في الحكم عليهم؟ فعن سليمان بن داود ((لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب)). أي قل لي من تصاحب أقل لك من أنت، فإنّما يعرف الرجل بأشكاله وألوانه لأنّ كلّ شكل لشكله ألف.

وجاء في الحديث عن الرسول(ص) أيضاً: ((اختبروا الناس بإخوانهم)). أي بأصدقائهم فالخدين هو الصديق فإنّما يخادن الرجل من يعجبه. وهذه الأحاديث تؤكد على أنّ الصداقة تنطلق من المشكلة، فإنّك عندما تنجذب إلى شخص إنّما تنجذب إلى خصائصه لأنّها تلتقي مع خصائصك، ولأنّ عناصره تلتقي مع عناصرك.

فعن الإمام علي(ع): ((النفوس أشكال فما تشاكل منها اتفق، والناس إلى اشكالهم أميل)). ويقول الإمام علي(ع) أيضاً فيما روي عنه ((فساد الأخلاق معاشرة السفهاء، وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء، والخلق أشكال فكلّ يعمل على شاكلته، والناس إخوان، فمن كانت أخوّته في غير ذات اللّه فإنّها تحوز عداوة، وذلك قوله تعالى: ]الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ[(20).

ويحدّثنا القرآن الكريم عن قرين السوء عندما تحين ساعة الحساب أو العذاب ]قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ^ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ[ أي أنّ هذا الرجل عندما كان في ساعة الحساب أو عندما أدخل النار أراد أن يجد لنفسه عذراًَ فقدّم تقريراً عن خلّفيات كفره باليوم الآخر. فهذا القرين كان يقول له هل تصدّق هذه الخرافة؟ وأية خرافة؟ ]أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ[ أي هل أنّنا إذا متنا سوف ندان ونحاكم ونجازى؟ ]قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ[ أي هل ترون القرين؟ ]فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ[(21). فلتختر أصدقاءك من أهل النعيم لا من أهل الجحيم فإنّما يعرف الناس بالإيمان وبالعمل الصالح.

ويحدّثنا القرآن عن مشاعر الإنسان يوم القيامة عندما يرى قرين السوء ]قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ[(22). فياليتني لم أرك، وياليت المسافة بيني وبينك كانت من البعد بحيث لا أراك فاذكر كيف كنت توسوس لي وتضلّني حتى وصلت إلى هذا المصير المحتوم في نار جهنم. ويحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن موقف قرين السوء عندما يبدأ الحساب، وقد قدّم الإنسان إلى المحكمة بين يدي اللّه فيحاول هذا الشخص أن يقدّم عذره ليحمّل قرينه الذي كان إلى جانبه مسؤولية ضلاله ]قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ[ فأنا لا أتحمّل المسؤولية ]وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ[ فهو سيئ ولا دخل لي في اجتذابه لي، فما ضغطت عليه ولا أكرهته على ذلك، فهو صاحب عقل يفكّر؟ ]قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ[ فقد صدر الحكم ]وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ^ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ[ فاللّه سبحانه وتعالى يقول أن لا خصام في اليوم الآخر ]وَمَا أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ[(23). واللّه سبحانه وتعالى يحدّثنا عن الأشخاص الذين يحيطون به وهم قرناء السوء ]وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ[(24). صحيح أنّ اللّه سبحانه وتعالى ينسب الأمر إلى نفسه في هذه الآية، ولكن ليس معنى ذلك أنّه أرسل إليهم قرناء السوء ولكنّهم عندما يتحرّكون من خلال ما أعطاهم اللّه من إرادة واختيار فإنهم يتحمّلون مسؤوليتهم في اختيار قرنائهم. وهكذا فان اللّه سبحانه وتعالى من خلال ذلك أن نختار القرين الذين يمكن له أن يعيننا على الطريق الصحيح بدلاً من القرين الذي يعيننا على الطريق المنحرف .

اختبار الصديق:

ويحدّثنا الإمام الصادق(ع) عن بعض العلامات التي يختبر فيها الإنسان صديقه ((من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك شرّاً فاتخذه لنفسك صديقاً)). فقد تحدث بين الأصدقاء مشاكل وخلافات تجعل أحدهما يغضب من الآخر لكّنه يبقي على خطّ المودّة فلا يحاول أن يتكلّم عنك بالشرّ، فإذا حصل ذلك لمرات ثلاث فاعتبره متوازناً وأنّه يملك قاعدة أخلاقية فلا يدفعه غضبه إلى أن يقول ما ليس له بحقّ.

وقد ورد في الحديث عنه(ع) : ((لا تسمّ رجلاً صديقاً سمة معروفة حتى تختبره بثلاث. فتنظر غضبه يخرجه من الحقّ  إلى الباطل، وعند الدينار والدرهم)). أي هل يبقى حليماً عند الغضب فلا يتنكّر للحقّ وللحقيقة؟ وهل يخونك أو يكون أميناً على الدينار والدرهم، بحيث يبيع صداقته لك في مقابل دراهم معدودات؟ فقد لا تكون عنده قيمة للدينار والدرهم بل القيمة عنده في الصداقة ((وحتى تسافر معه)). لأنّ السفر يمثل التعب الذي ربما يخرج الإنسان عن توازنه، فإذا بقي في خطّ التوازن فإنّ معنى ذلك أنّه ينطلق من قاعدة أخلاقية رصينة.

أصدقاء إيجابيون:

وقد ورد في الأحاديث عن الذين نتخذهم أصدقاء. فعن الصادق(ع)((إصحب من تتزيّن به ولا تصحب من يتزيّن بك)). أي صاحب من تستفيد منه ومن يكون في صحبتك له زينة لك من خلال علمه وأخلاقه، لا الشخص الذي لا تستفيد منه وهو يعتبر نفسه صديقاً لك ولكنه ليس في مستوى الصداقة.

ومن مواعظ الإمام الحسن بن علي(ع) في آخر لحظات حياته قال لجنادة في مرضه الذي توفي فيه: ((اصحب من إذا صحبته زانك وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وان صلت شدّ صولك)). في الدفاع عن نفسك ((وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك وان سكت عنه ابتداك، وإن نزلت إحدى الملّمات به ساواك)).

وعن علي(ع) : ((أكثر الصواب والصلاح في صحبة أولي النهى والألباب)). وعنه(ع)((صاحب الحكماء)). بحيث يعطيك الصديق الحكيم من حكمته حكمة ((وجالس الحلماء)). وهم الذين يملكون سعة الصدر فالطبع يكتسب من الطبع ((وأعرض عن الدنيا تسكن جنّة المأوى)). وعنه(ع): ((عجبت لمن يرغب في التكثّر من الأصحاب كيف لا يصحب العلماء الألبّاء الأتقياء الذين يغنم فضائلهم، وتهذّبه علومهم، وتزيّنه صحبتهم)). وقال(ع): ((من دعاك إلى الدار الباقية)). أي انفتح بك على الآخرة ((وأعانك على العمل)). الذي يرضي اللّه سبحانه وتعالى ((فهو الصديق الشقيق)). لأنّه هو الذي يؤدّي إلى نجاتك وحسن سلامة مصيرك.. وعنه(ع) : ((قارن أهل الخير تكن منهم)). أي اقترن بهم وصاحبهم ((وباين أهل الشر)). أي ابتعد وافترق عنهم ((تبن عنهم)).(25) حتى تكون مختلفاً في أخلاقك وشخصيتك عنهم.

ويبقى للحديث بقية فيمن لا نصادق والكثير من شؤون الصداقة، لأن ذلك يدخل في الصميم من حياتنا. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

المحاضرة السادسة5 جمادي الأولى 1421ه5 آب 2000م

 

 

الصداقة والأصدقاء (2)

 

 

 

* الصداقة تترك أثرها العميق في ذهنية الإنسان ومشاعره وأحاسيسه وانطباعاته وحركته *

 

 
 
 
 

استكمالاً للبحث.

الجانب السلبيّ من الصداقة.

الأصدقاء المنهي عن مصاحبتهم.

حب الذات.

إحذر هؤلاء.

أصدقاؤك وأعداؤك.

أقسى مراحل التأريخ.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

استكمالاً للبحث:

كنا في الأسبوع الماضي نتحدث عن مفهوم وحركية الصداقة في الإسلام، ولاسيما من خلال التراث الطاهر الذي تركه لنا الأئمة من أهل البيت(ع) لأنَّ الصداقة هي من المسائل التي تتركُ تأثيرها العميق في ذهنية الإنسان من جهة، وفي مشاعره وأحاسيسه وانطباعاته وحركيته من جهة أخرى، ولأنَّ الصداقة تمثّلُ هذا النبض العاطفي الذي يجعل الصديق يدخل في قلب صديقه، ثم ينطلق ليدخل في عقله، ثم ينطلق ليدخل في حياته، ولذلك قيل: ((قل لي من تصاحب أقل لك من أنت)).

وعلينا أيّها الأحبّة في التزامنا بإمامة الأئمة من أهل البيت(ع) أن نبحث عن خطّهم في الحياة، الذي هو الخط الإسلامي الأصيل في كلماتهم وسيرتهم وكلّ ما انفتحوا به على الإسلام وعلى الناس كافّة، لأنَّ معنى الالتزام بالإمامة هو الالتزام بالإسلام من خلالهم، مما أرشدوا الناس فيه إلى الأخذ بكتاب اللّه وسنّة نبيّه، وكانت سنّة نبيّه هي سنّتهم لأنَّ حديثهم هو حديث الرسول(ص).

ولذلك فإنَّ علينا أن نملأ حياتنا بهم ولا نقتصرُ على أحزانهم وأفراحهم فإنَّ أحزانهم هي أحزان الإسلام، لأنّهم تحمّلوا ما تحمّلوا من ظلم من خلال الإسلام كلّه. وهذا ما نستوحيه من سيدتنا سيدة نساء العالمين الطاهرة المعصومة فاطمة الزهراء u. فعندما نقرأ كلَّ ما قالته ولاسيما في مرحلة الفتنة، نرى أنَّ الإسلام كان محور كلماتها كلّها، وكانَ دفاعها عن علي(ع) من خلال أنَّهُ إمام الإسلام وأميره، لا عن الإمام الزوج، وان كنّا لا نفرّق بينهما لكن العنوان هو العنوان وهذا ما ينبغي لنا أن نعيشه، وأنْ يكونَ ارتباطنا بأهل البيت(ع) ارتباطاً في الفكر والخط والحركة وكلّ ما عاشوه وما ساروا عليه، حتى نستطيع أن ندخلهم في العصر ولا نبقيهم كما أبقيناهم في مدى التأريخ في زوايا مغلقة.

إنّنا نريد أن نجعل أهل البيت(ع) في ذهنية المسلم وغير المسلم، وفي ذهنية الإنسان المعاصر الغربي والشرقي، لأنّ فكرهم هو الفكر الذي ينفتح على الحياة كلّها، والإنسان كلّه. فلا تحجّموهم ولا تصغّروهم ولا تجعلوهم مجرد دمعة، ولكن اجعلوهم منطلق فكر وحضارة وانفتاح على العالم كلّه.

الجانب السلبيّ من الصداقة:

تعالوا لنستلهم كلماتهم كما نستلهم كتاب اللّه تعالى وسنّة نبيّه(ص) في الجانب السلبيّ من الصداقة. فمن هم الذين لا ينبغي لنا أن نصادقهم؟ فالكلمة العامّة لعلي(ع) كما في (الغرر والدرر): ((صحبة الأشرار تكسب الشرّ)). فإذا كان الأشرار هم أصحابك، فإنَّ معنى ذلك أن تكون الإنسانَ الذي يكتسب الشرّ منهم ((كالريح إذا مرّت بالنتن حملت نتنا)). ومن الطبيعيّ فإنّ هناك ريحاً خفيّة وهي الريح العاطفية التي تنطلق من أهواء الصديق لأهواء صديقه.

ويقول(ع): ((مصاحب الأشرار كراكب البحر إن سَلِمَ من الغرق لم يسلمْ من الفرق)). والفَرَق هو الخوف، فالإنسان الذي يركب البحر قد تهجم الأمواج المتلاطمة لتهزّ مركبه وقد تقلبه ليغرق صاحبه، وقد ينجو ولكنه يعيش القلق والفزع والخوف الذي يجتاح كيانه كلّه، وربما يترك تأثيراته النفسية على مشاعره كلّها في المستقبل.

ويقول الإمام الجواد(ع) والقليل منّا من يعرف الجواد في فكره وتراثه: ((إيّاكَ ومصاحبة الشرير فإنَّهُ كالسيف المسلول يحسن منظره)). في لمعانه وصفائه ((ويقبح أثره)). في نتائجه عندما يقتل ويسفك الدماء.

الأصدقاء المنهي عن مصاحبتهم:

وننتقل إلى كتاب اللّه وأحاديث المعصومينَ(ع) في تحديد نوعية الأصدقاء الذين يجب أن لا نصاحبهم، والقاعدة التي ترتكز عليها صداقة المؤمنين، حيث يقول سبحانه وتعالى )وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ(.  الظالم لنفسه بالكفر أو بالفسق أو بالانحراف )يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا(  يا ليتني وجدت طريقاً إلى السير في خط الرسول(ص) لأسير معه. ثم ينادي بالويل والثبور )يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا( أي الشخص الكافر الضال الذي اتخذه خليلاً وها أنا ذا أتحسّر على تلك الخلّة، لماذا؟ )لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي(. وهو الذكر الذي جاء به رسول اللّه(ص) وهو القرآن الكريم الذي يمثّل الكتاب الذي يذكّر الإنسان باللّه سبحانه وتعالى، وبمصيره بين يدي اللّه من خلال السير على خط اللّه ودينه.)وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا((1). فلم يتحمّل مسؤوليته يوم القيامة.

وهناك أناس آخرون يخوضون في آيات اللّه فيجحدونها ويهزأون بها ويضادّونها )وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ((2). فإذا كان اللّه سبحانهُ وتعالى لا يرضى لنا أن نجلس في المجالس التي يخوض فيها الناس الحديث السلبيّ عن الإسلام، فإننا نستوحي من ذلك ان لا نعيش مع هؤلاء الناس، لأنَّ الله تعالى يريدنا أن نترك المجلس الذي يتحدّثون فيه بالسوء ضد الإسلام، فهل يقبل أن تكون مجالسنا معهم من خلال الصداقة؟

ويحدّثنا اللّه تعالى عن الصداقة المرتكزة على الإيمان والتقوى، فمن كان مؤمنا يلتقي معك في إيمانه باللّه ورسوله وأوليائه واليوم الآخر والتقوى والخوف من اللّه والخشوع والطاعة له فصادقه، لأنّ هذه الصداقة سوف تستمر حتى تدخلا الجنّة معاً فتكونا أصدقاء الجنّة كما كنتم أصدقاء الدنيا.

أمّا الذين لا يلتقون معك في الدين ولا في التقوى فإنّ صداقتك لهم تنقطع وتتحوّل يوم القيامة إلى عداوة )الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ((3). فهم الذين تستمر صداقتهم إلى يوم الدين )إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ ^ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ((4). فليكن أصدقاؤك المتقين، وإذا أردت صداقة يرعاها اللّه ورسوله وأولياؤه والمؤمنون وتستمر معك إلى يوم القيامة، فهذه هي الصداقة التي تنتهي بك إلى ما ذكره اللّه تعالى )إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ((5).

وفي الحديث عن الإمام علي(ع): ((من لا يصحبك معيناً على نفسك فصحبته وبال عليك)). فالصاحب الذي إذا رأى عيباً لم ينهك عنه، وإذا رأى فيك انحرافاً لم يقوّمه، وإذا رأى فيك خطأ لم يحاول أن يصوّبه، فإيّاك أن تصاحبه لأنّ صحبته لك لا تفيدك في شيء، بل ربّما يجعلك سكوته وعدم قيامه بالنصيحة لك تمتدّ في انحرافك وضلالك وخطأك، وبذلك يكون وبالاً عليك.

وقد ورد عن الإمام الباقر(ع)  ((من لم تنتفع بدينه ودنياه فلا خير لك في مجالسته، ومن لم يوجب لك فلا توجب له ولا كرامة)). فالإمام(ع) يريد أن يقول إنّ العلاقة الإنسانية لابدّ أن تكون نتيجة المصلحة غير المحرّمة. والحياة بطبيعتها قائمة على تبادل المنفعة، وهذا ليس أمراً سيئاً، فإن للإنسان أن يبحث عن منفعته في الدنيا إذا لم يكن فيها حرام، وعليه أن يبحث عن منفعته في الآخرة، ولذلك لم يلغ اللّه سبحانه وتعالى حبّ الذات، لكنّه وسّعه وحدّد الخط المستقيم له، لأنّ حب الذات على قسمين: فتارة تحبّ ذاتك فتكون أنانياً بحيث تجعل الدنيا مجموعة ومنحصرة في ذاتك بحيث تعيش في سجن ذاتك فلا تتطلّع إلى الناس من حولك، ولا تتحمّل مسؤوليتك عنهم، ولا تتطلّع إلى الحياة وحاجتها إليك، فهذه الأنانية ممقوتة ولا يريدها الإسلام للمسلم، لأنَّ اللّه تعالى يريد له أن يكون الإنسان الذي ينفتح على الحياة فيأخذ منها ويعطيها، وتارة تحبّ ذاتك لتوردها موارد النجاة والخير والسعادة، فهذا حب محبّب ومستحب ولا ضير فيه.

حب الذات:

ولذلك ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) وقد سأله بعض الناس ((من أسوأ الناس معاشاً؟ قال: من لم يعش غيره في معاشه)). أي الذي يعيش لنفسه ولم يستفد غيره من معاشه، ولا من علمه، ولا من خبرته، ولا من قوته، ولا من ماله، ولا من جاهه، وما إلى ذلك. فحبّ الذات في هذا الاتجاه مرفوض إسلامياً.

وهناك حبّ الذات من خلال ما تطلبه من لذات وشهوات محرّمة، وهذا حب يريد اللّه أن تجاهد نفسك فيه بأن تمنع نفسك من كلّ شهوة محرّمة ولذّة لا يرضاها الله لأنّها تذلك وتسقطك.

وكذلك حبّ الذات من خلال دعم الظالم أو الخضوع للكافر أو مساعدة المستكبر، فهنا لابدّ لك من أن تجاهد نفسك إذا أرادتك أن تكون مع الظالمين والمستكبرين والكافرين، وكن مع اللّه سبحانه وتعالى ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[(6).

أمّا حب الذات من أجل أن تعيش في الدنيا في حاجاتك الشرعية، فاللّه لم يحرّم لباساً ولا مطعماً ولا مشرباً ولا مسكناً ولا تجارة، بل ((الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه))(7).  ((العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال)). فأن تحبّ ذاتك بهذا اللون من الحب يعني أن تطلب الدرجة الرفيعة في الآخرة، فاللّه خاطبنا بالآخرة على أساس حبّ الذات، فإذا كنتم تحبّون أنفسكم فاعملوا للّه سبحانه وتعالى ]وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيراً يَرَه[(8). لذلك فحبّ الذات ليس سلبياً مطلقاً ولا إيجابياً مطلقاً، فأن تحبّ ذاتك من خلال ما أحلّه اللّه لك في الدنيا، وما وعدك في الآخرة، فهذا حبّ لا مشكلة فيه  ]وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[(9). ففكر إذاًَ فيمن تصادق، هل تنتفع منه في دينك؟ هل تنفتح منه على دنياك فيما تتحمّل من مسؤولية في هذه الدنيا؟ صادقه وضع في حسابك أنّ لكلّ صداقة شروطها، وأمّا من لم تنتفع بدينه ودنياه فلا خير لك في مجالسته ((ومن لم يوجب لك فلا توجب له))، فمن لم يتحمّل مسؤوليتك فلا تتحمّل مسؤوليته ((ولا كرامة)). فالحبّ والكرامة لمن هو أهلٌ للحبّ والكرامة.

ويقول الإمام جعفر الصادق(ع): ((انظر كلّ من لا يفيدك منفعة في دينك فلا تعتدّنّ به ولا ترغبنّ في صحبته فإنّ كلّ ما سوى اللّه تبارك وتعالى مضمحل وخيم عاقبته)). أي حاول أن تصادق الإنسان الذي يساعدك في طاعة اللّه ويقويّ لك دينك، وينفتح بك على آخرتك لأنّ ما عدا ذلك زائل، بل سيكون وبالاً عليك.

إحذر هؤلاء:

ويقول الإمام علي(ع) فيما روي عنه ((إحذر من إذا حدّثته ملّك)). أي لا يستمع إلى حديثك حتى لو كان خيراً، بل يظهر لك الملل والبرم بحديثك ((وإذا حدّثك غمّك)). أي يجلب لك الغموم في حديثه من خلال تعقيد حياتك ((وإن سررته أو ضررته سلك فيه معك سبيلك)). فإذا ضررته فإنه لا يصفح عنك وإنّما يردّ الضرر بالضرر ((وإن فارقته ساءكمغيبه بذكر سوأتك)). فمادام معك يتحدث عنك بالخير، فإذا غاب عنك أو غبت عنه تحدّث عنك بالسوء ((وإن وافقته حسدك واعتدى)). فهو حسود لك حتى لو وافقته لأنه لا يطيق أن يرى مزاياك، فإذا رأى منك حسن الخلق فإنّه يحسدك ولا يحمدك بل يعتدي عليك.

((وإن خالفته مقتك ومارى)). فإذا اختلفت معه فانّه يبغضك ولا يفسّر المخالفة تفسيراً موضوعياً على أساس اختلاف وجهات النظر. ((يعجز عن مكافأة من أحسن إليه)). فإذا أحسن إليه شخص فإنّه لا يكافئه ولا يردّ الجميل بالجميل ((ويفرط على من بغى عليه)). فإذا اعتدى عليه شخص فإنّه لا يعتدي عليه بمثل ما اعتدى، بل يفرط في ذلك بأن يعتدي عليه بردّ الصاع صاعين. ((يصبح صاحبه في أجر ويصبح هو في وزر)). فالذي يصاحب رجلاً مؤمناً يصبح في أجر ومثوبة لفلاحه، لكنّه يصبح في معاصي اللّه لفساده ((لسانه عليه لا له)). أي ضد صاحبه ((ولا يضبط قلبه قوله)). أي لا يتوافق ما في قلبه وما في كلامه. ((يتعلّم للمراء)). لا للثقافة ولا للتعليم وإنّما للجدال ((ويتثقّف للرياء)). حتى يراه الناس فقيهاً. ((يبادر الدنيا)) أي أنّ مبادراته ليست للآخرة وإنمّا هي للدنيا ((ويواكل التقوى)). فإذا اقتضت التقوى شيئاً فإنّه يؤخّر العمل ولا يبادر إليه.

ويقول الإمام الحسن(ع): ((إذا سمعت أحداً يتناول أعراض الناس فاجتهد أن لا يعرفك فإنّ أشقى الأعراض به معارفه)).

ويقول علي(ع): ((احذر مصاحبة الفسّاق والفجّار والمجاهرين بمعاصي اللّه)).

ويقول الصادق(ع): ((احذر من الناس ثلاثة: الخائن والظلوم والنمّام، لأنّ من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمّ إليك سينمّ عليك)). أي أنّ الصاحب الذي يخون ويظلم وينمّ فإن هذه الخصال الذميمة تجري في دمه وتغدو ملكات في نفسه، فإذا خان لك أو ظلم لك أو نمّ إليك فإنّه سيفعل كلّ ذلك ضدك أيضاً، فإذا جاءه شخص وطلب منه ذلك كلّه فإنّه سيستجيب له، فإذا أردت أن تسلم فلا تصاحب أمثال هذا.

ويقول الإمام علي(ع): ((عدو عاقل خير من صديق أحمق)). لأنّ العدوّ العاقل معروف بعداوته الصريحة ولديه أصول في عداوته فتستطيع الاحتراس منه، أمّا الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك لأنّه لا توازن لديه.

وقد ورد في الأحاديث تحديد آخر للمنهي عن مصاحبتهم، ففي الحديث عن الإمام علي(ع): ((إياك ومصاحبة أهل الفسوق)). الذين يكون طابع حياتهم الفسق الذي يمثّل تجاوز الحدّ في معصية اللّه  ((فإن الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم)). فاللّه كما يحاسب الإنسان على فعله يحاسبه كذلك على رضاه عن فاعل الشرّ وتأييده له. وقد ورد في الحديث عن علي(ع): ((الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى الداخل إثمان: إثم الرضا وإثم العمل)).

وقال علي(ع): ((إن ما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا، فقال: فعقروها فأصبحوا نادمين)). فلقد كان العاقر شخصاً واحداً لكن العشيرة رضيت بفعله أو شجّعته عليه، فأصبحوا شركاء في عملية العقر، لأنّ المشاركة تارة تكون بالدعم الكلامي المعنوي، وتارة بالدعم الفعلي، ولذلك فعلى الإنسان المسلم أن يظل دقيقاً في نبضات قلبه وفلتات لسانه بالنسبة للذين يفعلون الشرّ أو يقومون بالظلم.

وفي الحديث أيضاً: ((الظالم والراضي بالظلم والمعين له شركاء ثلاثتهم)). لأنّ اللّه يريد للإنسان أن يقتلع الشرّ من عقله وقلبه وحياته، لأنّ وجود الشرّ في العقل يعني أنّ هناك بذرة سوف تنمو عندما تتوفر الظروف المناسبة لنموّها، ولذلك فالراضي بالظلم هو مشروع ظالم في المستقبل، ذلك أنّ بعض الناس لا يظلم لأنّه غير قادر على الظلم، لكنه إذا قدر فإن قدرته قد تدفعه إلى ذلك.

ويقول علي(ع): ((إياك ومصاحبة الفسّاق فإنّ الشرّ بالشرّ ملحق)). ويقول الصادق(ع): ((إيّاك ومخالطة السفلة فإنّ مخالطة السفلة لا تؤدّي إلى خير)). والسفلة هم الذين يتحرّكون في المواقع الدنيئة وينطلقون في المشاريع التي تضرّ بالناس ولا ترتفع بهم.

وعن علي(ع): ((إيّاك وصحبة من ألهاك عن ذكر اللّه وأغراك بالمعصية فإنّه يخذلك عند حاجتك إليه ويوبقك)). أي لا يعينك في قضاء حاجتك بل ويساعد على هلاكك.

ويقول(ع): ((إياك ومصاحبة الكذّاب فإذا اضطررت إليه)). بسبب ظروف اجتماعية أو مادية أو رحمية ((فلا تصدّقه)). إرحم نفسك منه، فمادام كاذباً فإنّه يختلق الكذب اختلاقاً، فالأصل في كلامه أن يكون كذباً ((ولا تعلمه أنك تكذبه)). أي حاول أن تواجه الموقف بلباقة فلا تقل له إنّك تكذّبه ((فإنّه ينتقل عن ودّك ولا ينتقل عن طبعه)).

وعن الإمام الباقر(ع): ((قال لي علي بن الحسين (عليهما السلام): يا بنيّ إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه)) العاق لأبويه المقاطع لأقربائه ((فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب اللّه في ثلاث مواضع)).

وعن الصادق(ع): ((إياك وصحبة الأحمق)) الذي لا يملك توازن العقل وعمق الفكر، بل قد يرى الحسن قبيحاً والقبيح حسنا ((فإنه اقرب ما تكون منه أقرب ما يكون إلى مساءتك)).

وعنه(ع): ((إياك وصحبة الكذّاب فإنّه يريد نفعك فيضرّك ويقرّب منك البعيد ويبعّد منك القريب، إن ائمتنة خانك وإن ائتمنك هانك)). إما بان يتحدث معك بسوء أو بطريقة مهينة ((وإن حدّثك كذبك وإن حدّثته كذّبك وأنت منه بمنزلة السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً)).

أصدقاؤك وأعداؤك:

ويصنّف الإمام علي(ع) الأصدقاء، من هم؟ والأعداء، من هم؟ فيقول: ((أصدقاؤك ثلاثة: صديقك وصديق صديقك وعدوّ عدوك، وأعداؤك ثلاثة: عدّوك، وعدوّ صديقك، وصديق عدّوك)). وهذا المنهج الذي ركّزه الإمام(ع) ينبغي أن لا نقتصر به على المسائل الفردية، بل نمتدّ به حتى في المواقع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على المستوى الدولي والسياسي من خلال المنظمات العالمية، فنحن عندما ندخل في العداء مع الكيان الصهيوني وهو العدو الذي دخل فلسطين وطرد أهلها منها، ويخطط دائماً لجمع كلّ يهود العالم للإقامة فيها على حساب أهلها، وهو عدوّ الإسلام ]لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا[(10). بل هو العدو الذي أربك المنطقة في مدى أكثر من خمسين سنة سياسياً واقتصادياً وأمنياً وربما ثقافياً، لذلك كان العدوّ بكلّ مقاييس العداوة.

وهنا علينا أن ندرس المسألة في المحاور الدولية، فمن هو الصديق - الصديق للكيان الصهيوني، بحيث يكون معه مئة بالمئة وضد العرب والمسلمين بما يتفق مع مصلحة هذا الكيان مئة بالمئة؟ إنّها (أميركا) وليس لدينا مشكلة مع الشعب الأميركي فهو شعب مسالم بطبيعته، وهناك الكثير من الأميركان الذين دخلوا في الإسلام، وإذا أحسنّا الدعوة إلى اللّه هناك فربما يدخل الكثيرون منهم في الإسلام، وبالتالي فلا مشكلة لنا مع الشعوب كلّها، فاللّه سبحانه وتعالى أمرنا أن نحوّل أعداءنا إلى أصدقاء ]وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[(11). لكن أميركا تعتبر أنّ (إسرائيل) هي الولاية الحادية والخمسون من الولايات المتحدة، بل إنها ترجّح بعض مصالح هذا الكيان الغاصب على بعض مصالح الولايات المتحدة، لأنّ رؤساء أميركا والحزبين الكبيرين (الجمهوري والديمقراطي) يطلبون، خصوصاً في المراحل الانتخابية، أصوات اللوبي الصهيوني، حيث يتسابق المرشّحون للرئاسة الأميركية لمخاطبة هذا اللوبي بما يدعم إسرائيل، حتى أن أميركا تصرّح بكلّ وقاحة بأننا نعمل على أن تكون (إسرائيل) الأقوى عسكرياً في المنطقة، هذا بالإضافة إلى المساعدات الاقتصادية والسياسية. فأميركا اليوم تمنع مجلس الأمن من إدانة (إسرائيل) في كلّ جرائمها، كما رفضت إدانتها في (مجزرة قانا) وحمّلت الضحايا مسؤولية المجزرة، حتى أنّ الأمين العام للأمم المتحدة في حينه (بطرس غالي) عندما طرح وثيقة الإدانة لإسرائيل بارتكاب المجزرة عاقبته أميركا بمنعه من أن يكون أميناً عاماً لدورة ثانية. فهي مع (إسرائيل) على طول الخط، وهذا هو الذي برز واضحاً في قمة (كامب ديفيد) الأخيرة، حيث أن فشل القمّة نتج عن مطالبة الراعي الأميركي من (عرفات) وفريقه التنازل عن قضية القدس والقبول بالمشروع الأميركي الذي هو المشروع الصهيوني حتى أن (كلينتون) أعلن أن الفشل يتحملّه عرفات.

هذا هو الواقع الأميركي المستعد لتخريب مصالح أميركا في المنطقة لحساب (إسرائيل) وهذا ما يعرفه كلّ عربي وكلّ مسلم. لذلك نقول: إن أميركا هي العدو الأكبر لقضايانا كلّها، ونعني الإدارة الأميركية التي غالبيتها من اليهود.

ولذلك ينطبق قول الإمام علي(ع) ((صديق عدوّك)) على أميركا، فلابد في الخط الإسلامي للعلاقات الدولية عندما نريد أن نفرّق ما بين الأصدقاء وبين الأعداء، أن نعرف من هم أصدقاء أصدقائنا؟ ومن هم أعداء أعدائنا؟ لنصنّفهم كأصدقاء سياسيين بحسب شروط الصداقة السياسية، وعلينا أيضاً أن نحدّد أعداءنا في العالم على أساس أن يكون عدوّ صديقي عدواً لي، لأنّ طبيعة الصداقة تفرض أن يكون موقفي مع صديقي إذا كان في مستوى الصداقة فيكون عدوّه عدوّي. وهكذا فإن صديق عدوّي هو عدوّي لأنّه ضدّي، والإمام(ع) عندما حدّد هذا المنهج أراد لنا أن نكون واقعيين بأن ندرس حركتنا في الواقع من خلال حركة الآخرين في هذا الواقع ويريدنا من خلال ذلك أن نحصل على وعي اجتماعي وسياسي واقتصادي، فالكثيرون اليوم في العالم يقفون في الضد من اقتصادنا ويعطّلونه ويحاصرونه، وهناك الذين يتعاونون معنا اقتصادياً.

أقسى مراحل التأريخ:

أيّها الأحبّة: إنّ المرحلة التي نعيشها الآن تمثّل أقسى المراحل التأريخية بالنسبة للعرب والمسلمين لأنَّ طبيعة التحدي الذي نواجهه من خلال الاستكبار العالمي، ولاسيما الدول السبع التي انضمت إليها روسيا أخيراً فصارت ثمان، يتمثل في التخطيط لنهب ثروات دول العالم الثالث، وتعطيل مشاريعها، فهي تقف حائلاً دون أن تصبح هذه الدول مصنّعة لأنّها سوف تستغني عن الكثير من منتوجات الدول الغنية، ولذلك فإن المشاكل الحدودية وما شابهها تنشب بين الحين والآخر لاستنزاف طاقات الدول المتصارعة سواء الاقتصادية أو البشرية، فحرب الخليج الأولى التي فرضت على إيران، والثانية التي فرضت على الكويت، هي حروب من أجل إسقاط الاقتصاد العربي ولاسيما اقتصاد الخليج الذي تحمّل كلّ تكاليف الحرب الأولى والثانية، والاّ فمتى كان الخليج مديناً وهو الذي كان يعين البلاد العربية وغير العربية الفقيرة؟! لقد أضحى النفط رهينة جرّاء هذه الديون الثقيلة المفروضة على منطقة الخليج.

ولذلك لابدّ أن يكون لنا وعي سياسي، ولا أقول إنَّ علينا أن ننطلق عشوائياً بالشعارات الحماسية، بل لابدّ من أن نخطّط ولو للخمسين سنة القادمة، وعلينا أن نفكّر كأمّة لا كأفراد، لأنّهم ينفذون إلينا من خلال مصالحنا الفردية على حساب مصالح أمتنا، ولذلك يقول الإمام علي(ع): ((لا تتخذن عدوّ صديقك صديقا فتعادي صديقك)). ويقول الباقر(ع): ((صديق كلّ إمرء عقله وعدوّه جهله)). فعندما تجعل العقل حاكماً في حياتك كلّها فأنت تعيش مع صديق مخلص يحفظ الصداقة، وأمّا الجهل فقد يدخلك في متاهات كثيرة لا تعرف أولها ولا آخرها.

أيّها الأحبّة: هذا هو كلام اللّه تعالى ورسوله(ص) وأوليائه(ع) فتعالوا نفكّر فيه ونحوّله إلى سلوك في حياتنا، وعلينا أن نفهم الحياة جيداً، وأن ننظّمها، وان ندرس النقاط الإيجابية والسلبية ونقاط الضعف والقوّة، لأنَّ كلّ إنسان يحمل جنّته على ظهره من خلال الخط المستقيم الذي يسير عليه، ويحمل ناره على ظهره من خلال الخط المنحرف الذي قد يختاره.

علينا أن نعيش العقل والرسالة والانفتاح على المصير في الدنيا والآخرة. ويبقى للكلام عن الصداقة بقية. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة السابعة19 جمادي الأولى 1421ه19 آب 2000م

 

 

 

الصداقة والأصدقاء (3)

 

 

 

* الاختبار قبل الصداقة ينجّي من صرعة الاسترسال *

 

 
 
 

مبدأ التواصل.

الحشمة في الصداقة.

المراء مفسد للصداقة.

الوشاية تضيع الصداقة.

مفسدات أخرى.

النهي عن سوء الظنّ.

ما يوجب كثرة الأصدقاء.

المسلمون إخوتك.

نصيحة عملية.

حدود الصداقة.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

مبدأ التواصل:

يعتبر عنوان الصداقة من عناوين العلاقات الإنسانية المهمة من خلال ما جاءنا من أئمة أهل البيت(ع) الذين تعهّدونا منذ انطلقت الإمامة في حركتهم في الحياة بالتوجيه والإرشاد وتأكيد طبيعة تأسيس المجتمع الإسلامي على الأسس التي يشعر فيها كلّ فرد من أفراد المجتمع بالمسؤولية عن رعاية الفرد الآخر، سواء من خلال الأخوّة الإيمانية أو من خلال الصداقة الشخصية، أو من خلال العلاقة الإنسانية، كما جاء عن إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبى طالب(ع) في عهده ل(مالك الأشتر) عندما قال له: ((فإنّ الناس صنفان، إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)). فالإنسانية صلة بين الإنسان والإنسان الآخر حيث يعيش أحدنا إنسانيته في إنسانية الآخر حتى يمكن أن يدخل عقله ليستقيم له عقله، أو يدخل قلبه لينفتح له قلبه، أو يتحرّك في حياته من أجل أن تنطلق حياتهما في دروب الخير معاً.

ففي الإسلام أيّها الأحبّة المبدأ هو التواصل لا التقاطع، فعملية التواصل بين الإنسان وبين الإنسان الآخر يمكن لها أن تسدّ الثغرات الاجتماعية، فيما البعد بين الناس يخلق أوهاماً يحملها هذا الإنسان عن ذاك الإنسان ممّا يعمّق الفجوة بينهما، لكن التلاقي والتواصل والحوار يجعلك تفهم الآخر كيف يفكّر؟ وما هي مبادؤه؟ وما هي أحلامه؟ وما هي تطلّعاته؟ كما أنّه يفهمك في المقابل في ذلك كلّه. وأن يفهم الإنسان الإنسان الآخر فإنّ ذلك يعني سرّاً من أسرار التنظيم الإسلامي للمجتمع في الحياة، ولذلك فما نأخذ به في حياتنا الاجتماعية من حيث مقاطعة بعضنا بعضاً، وعدم محاورة بعضنا بعضاً، هو أمر لا ينفتح على الخطّ الإسلامي الأصيل.

الحشمة في الصداقة:

في الفصل الثالث من فصول الحديث عن الصداقة نلتقي بكلمة للإمام الكاظم(ع) يقول فيها: ((لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك وابق منها، فإن ذهابها ذهاب الحياء)). أي عندما تكون هناك صداقة بينك وبين إنسان آخر، فهناك أسلوبان في التعامل: الأسلوب الذي تخرق فيه الحشمة بينك وبينه، أي تخرق حجاب الحياء حتى لم يبق هناك شيء بينك وبينه يحتشمك فيه أو تحتشمه فيه. والإمام الكاظم(ع) ينصح بإبقاء شيء من الحياء الذي يمثل علاقتك بصديقك، وهذا هو الأسلوب الثاني لأنّ الستور إذا تمزّقت بينك وبينه فإنّ الصداقة قد تهتز من خلال ذلك، وربما يمزّق ذلك الحجب بينك وبينه، فيذهب الاحترام من علاقتكما فيؤدي ذلك إلى شيء من الاحتقار والإحساس بالتفاهة التي توحي بابتعاد أحدهما عن الآخر بوحي عدم احترامه له.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق(ع): ((إنْ أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه)). والمراد هنا المزاح الثقيل ((وتمارينّه)). أي لا تدخل معه في جدال قاسٍ يفسد الصحبة، ((ولا تباهيّنه)). بحيث تستعرض وجاهتك ومالك في حضرته كما لو كنت تباهيه بما عندك لتكسر مكانته عندك ((ولا تشارّنه)). أي لا تدخل معه في معاملة يمكن أن تكون شرّاً إذا فسّرنا ذلك بالشرّ، أو في عملية تخلق الخلاف بينك وبينه.

المراء مفسد للصداقة:

يقول الإمام علي الهادي(ع) ((المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلّل العقدة الوثيقة، وأقلّ ما فيه أن تكون فيه المغالبة)). أي أن يعمل على أن يغلبك وتعمل أنت على أن تغلبه مما يؤدّي إلى نتائج سلبية في علاقتكما من خلال ما يمكن للمغالبة أن تترك تأثيرها السلبيّ في النفس اتجاهك. ويقول الإمام(ع) ((والمغالبة أسّ أسباب القطيعة)). فهي الأساس الذي ترجع إليه أسباب القطيعة كلّها بما تخلقه في النفس من الشعور بالسقوط أمام الغالب في نفسية المغلوب والشعور بالاستعلاء في نظرة الغالب إلى المغلوب فيختل التوازن في قاعدة العلاقة بينهما.

الوشاية تضيّع الصداقة:

ويقول الإمام علي(ع) وهو يوجّهنا إلى أنّنا إذا كان لنا أصدقاء وجاءنا الوشاة الذين ينقلون إلينا عنهم كلاما سيئاً فإنّ علينا أن لا نطيع الواشي ((من أطاع الواشي ضيّع الصديق)). لأنّ شغل الوشاة الذين ينقلون عن صديقك كلاماً سلبياً هو أن يهدموا صداقتك، وإلاّ فماذا يريد الواشي من وشايته غير السوء والوقيعة؟

مفسدات أخرى:

وورد في حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في وصيته لولده محمد بن الحنفية ((إيّاك والعجب)). أي أن تعجب بنفسك من خلال انتفاخ شخصيتك في نظر نفسك ((وسوء الخلق)). بان تبادر الذين تعاشرهم ويعاشرونك بالخلق السيئ لتكون كلماتك قاسية، وقلبك قاسياً، ومعاملتك قاسية ((وقلّة الصبر)). وهي أن لا تصبر على ما تواجهه من الناس الآخرين عندما يسيء إليك أحدهم، أو عندما يأتيك أذى منه من حيث يريد أو لا يريد، ويعني أيضاً أنّك لا تتحمّل الأذى والفعل الذي يسيء إليك، ولا تنتظر حتى يجلو لك الوقت طبيعة ما حدث من أخيك، ((فإنّه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب)). فإذا كنت تستعرض عضلات شخصيتك أمام صاحبك لتوحي له أنّك الأعلى وهو الأسفل أو لتكون معاشرتك له سيئة، أو لا تصبر على سلبيات العلاقة. فسوف لن يبقى على صحبته لك ((ولا يزال لك عليها من الناس مجانب)). فسوف يجانبك الناس عندما تتمثل هذه الخصال في شخصيتك.

النهي عن سوء الظنّ:

وينهانا الإمام علي(ع) عن سوء الظنّ عندما نواجه أصدقاءنا، فقد يبدو منهم، أو من الناس كافّة فعل يمكن أن تحمله على الخير ويمكن أن تحمله على الشرّ، ففي هذا المجال يقول الإمام(ع) ((إيّاك وسوء الظنّ)). أي إيّاك أن تغلّب الظنّ السيئ على الظنّ الحسن، لأنّ ذلك يجعلك لا تثق بالآخرين، وإذا فقدت الثقة بهم لاسيما إذا كان الآخرون من أصدقائك وإخوانك، فإنّ ذلك يؤدّي إلى تهديم العلاقة وتصدّع الصداقة وتعقيد الصلة بالناس الآخرين.

وقد ورد عن الإمام علي(ع) في الاتجاه نفسه ما يركّز المبدأ بطريقة شاملة فيما يواجه الإنسان مما يبدر من أخيه من قول أو فعل، حيث يقول(ع): ((ضع أمر أخيك على أحسنه)) فإذا انطلق أخوك في أمر من الأمور وكانت هناك عدة احتمالات ومنها الاحتمال السيئ، ومنها الاحتمال الحسن، فغلّب الحسن على السيئ، ومعنى ذلك أن لا تحكم عليه بالسوء، بل اعتبر أنّ من الممكن أنه قد أراد الحسن. ((ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا)). فلو فرضنا أنّه كان يقصد السوء بنسبة 99% ويقصد الخير بنسبة 1% فقل ربّما أراد الواحد بالمائة، وهذه النظرة التربوية تلتقي مع خط العدالة الإسلاميّ، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، فقد تجد شخصاً يحمل المسدس وثمة شخص مقتول أمامه فلا تتعجّل الحكم على صاحب المسدس، فالعدالة تقول عن هذا الشخص إنّه المتهم ولا تقول إنّه المجرم حتى تأتي الأدلّة التي تثبت جريمته، لأنّ من الممكن جداً أن تكون هناك ظروف خفيّة تبرّئ ساحة هذا الإنسان.

ومن الطبيعي فليس معنى أن تحمل أخاك على الأحسن أن تحكم بالأحسن، ولكن أن تثير احتمال إرادته للأحسن فلا تحكم عليه بالأسوأ، فالملحوظ هنا هو نفي الجانب السلبي وليس تأكيد الجانب الإيجابي، لأنّه كما لا يجوز لك أن تحكم عليه بالسوء، إذا لم يثبت لك السوء بدليل قاطع، فلا يجوز أن تحكم عليه بالخير إذا لم يكن هناك دليل قاطع للحكم بالخير، لكن لا تحمله على السوء إذا كان ثمة احتمال للخير في هذا أو ذاك.

ولذا يقول الإمام علي(ع): ((لا يغلبنّ عليك سوء الظنّ فإنّه لا يدع بينك وبين صديق صفحا)). فبعض الناس الذين يعيشون العقدة في علاقاتهم الاجتماعية إذا صدرت منك كلمة حسنة فإنه يقلبها إلى كلمة سيئة لأنه لا يستطيع أن يرى الشيء الحسن في الآخرين، وهذا أشبه شيء بالمتشائم الذي ينظر نظرة سوداء إلى الحياة. فيذكر مثلاً عن (ابن الرومي) الشاعر العباسي الذي كان معروفاً بتشاؤمه أنّه بعث إليه جماعة من أصحابه أن يكون معهم في نزهة، فأرسلوا إليه شخصاً اسمه (حسن) فلما بلغه سأله: ما اسمك؟ فقال له: حسن، فقلب الاسم بطريقة ما فأصبح نحساً فأغلق الباب بوجهه. فأرسلوا إليه شخصاً اسمه (إقبال) فقلب اسمه، فقال: لا بقاء، فأغلق الباب. فبعض الناس مثله مثل ابن الروميّ مصاب بعقدة حمل الناس على الأسوأ، لذلك فقد يتكلّمون كلاما يمكن أن يحمل على الخير والمعاني الصحيحة، لكن أصحاب النفوس المريضة يحاولون تغليب احتمال السوء ليحكموا به على احتمال الخير، وهذا أمر نواجهه في القضايا السياسية والعقيدية والشرعية والاجتماعية، فهناك أشخاص لأهمّ لهم سوى سوء الظنّ، وعندما تحدّثهم في ذلك فإنهم يقولون لك: ((سوء الظنّ من حسن الفطن)). وهم لا يعرفون أنّ سوء الظنّ، خصوصاً إذا حكم الإنسان على أساسه، فهو خلاف مقتضى العدالة وخلاف حكم الشرع في ذلك.

ويتحرّك الحديث عن الإمام علي(ع) لتأكيد الصداقة حيث يقول: ((من ناقش الإخوان قلّ صديقه)). فلا تحاول أن تناقش صديقك في كلّ شيء بحيث تحصي عليه أنفاسه، فما من أمر صغيراً كان أو كبيراً إلاّ وتدخل في نقاش محتدم معه، وهذا ما صوّره بعض الشعراء، بالقول:

إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً                           صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فلو بحثت في عالم الأصدقاء كلّه لما رأيت صديقاً لا يمكن معاتبته أو محاسبته، فكلّ إنسان قد تصدر عنه هفوات أو إساءات أو مفارقات بسيطة يمكن التغاضي عنها وتلك هي طبيعة البشر بصفة عامّة، ولذا يقول الإمام(ع): ((من ناقش الإخوان قلّ صديقه)).

ما يوجب كثرة الأصدقاء:

هذا ما يوجب قلّة الأصدقاء، أمّا ما يوجب كثرتهم، ولابدّ لنا هنا أن نعرف أنّنا أمام هذه الأحاديث تلاميذ الأئمة من أهل البيت(ع) في المسألة الاجتماعية. فعن الإمام الحسن العسكري(ع) ((من كان الورع سجيّته ولكرم طبيعته، والحلم خلّته كثر صديقه والثناء عليه)). فهذه الخصال والصفات تفتح قلوب الناس على صاحبها وبذلك يكثر أصدقاؤه ومحبّوه. ((وانتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه)). أي استطاع إن يحصل من أعدائه على النصر بأنّ يجبرهم على أن يذكروه بخير. وعن الإمام علي(ع) في كلماته القصار ((من لان عوده كثفت أغصانه)).

المسلمون إخوتك:

ومن مواعظ الإمام زين العابدين(ع) للزهري وقد رآه حزيناً مما رأى من جهة الحسّاد، ومن أحسن إليه. والزهري من أصحاب الإمام الذي تكثر روايته عنه، ولذا يسأله الإمام(ع) عن سبب حزنه فقال له إنّه يحسن إلى الناس والناس يسيئون إليه، وأنّه يعيش في مجتمع يكثر فيه الحسّاد الذين يحسدونه على ما أعطاه اللّه تعالى من فضله مما يخلق له مشاكل نفسية واجتماعية ككل إنسان يشعر إنه محاصر من قبل منْ يحسدونه أو ممن يسيئون إليه في مقابل إحسانه لهم.

فقال له الإمام(ع): ((أمّا عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك)). أي إذا أردت الخلاص من مشكلتك فانظر إلى مجتمع المسلمين كأسرة، وانظر كيف يتعامل الإنسان مع الكبير ومع الصغير من أسرته؟ فتعامل مع المسلمين كذلك، وقد أراد اللّه لنا أن نعيش معنى العلاقة الحميمة مع المسلمين في قوله تعالى ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[(1) حيث أنّه جعل الإيمان نسباً أقوى من النسب، فاعتبر المسلمين بأجمعهم أسرة واحدة يعيشون في داخل هذه الأسرة كما يعيش الأخوة، ((فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك)). فتحترمه كما تحترم والدك وتوقّره كما توقّر والدك، ((وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك)) فتحنو عليه كما تحنو وتعطف على أولادك ((وتجعل تربك)). أي الذي هو في سنّك ((بمنزلة أخيك، فأيّ هؤلاء تحبّ أن تظلم؟!)). فهل يحب الإنسان إذا كان سوياً عاقلاً ظلم أبيه أو ولده أو أخيه؟ فإذا اعتبرت المسلمين بهذه المنزلة من إحساسك وشعورك فإن معنى ذلك أنّك سوف تتعامل معهم بروح لا ظلم فيها، لأنّ الإنسان لا يحب أن يظلم أيّاً من ذويه أو ذوي رحمه. ((وإن عرض لك إبليس لعنه اللّه أنّ لك فضلاً على أحد من أهل القبلة)). فقد يأتيك الشيطان ليوسوس لك أنّك صاحب الفضل على الناس، وأنت وحدك الذي تحسن وتخدم وتسعى في إصلاح المجتمع، وعلى الناس كلّهم أن يطيعوك ويخضعوا لك.

نصيحة عملية:

وهذا هو حال بعض الناس، فما أن تنتفخ شخصيّته يتصوّر أنّ له حقّاً على الناس وليس للناس حق عليه، فهو يحب أن يُخدم ولا يخدم، يحب أن يحسن إليه ولا يحب أن يحسن إلى أحد. ((فإن كان أكبر منك)). أي حاول أن تدخل في حوار بينك وبين نفسك في مواجهة إغواء إبليس لك، وذلك بأن تدرس هذا الشخص الذي يقول لك إبليس بأنّك أفضل منه، ((فإنّ كان أكبر منك فقل: قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح)). فقد تكون لديّ صفات أحسن منه، لكنّه عندما جاء إلى الحياة قبلي وكان مؤمناً ولم أكن موجودا فقد سبقني إلى ممارسة الإيمان والعمل الصالح ((فهو خير منّي)).

((وإن كان اصغر منك فقل: قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير منّي)). فأنا لست معصوماً، فقد بلغت قبله وعصيت اللّه قبله فهو أفضل منّي لأنّ معاصيّ أكثر من معاصيه.

((وإنّ كان تربك)). أي هو في مثل سنّك ((فقل: أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره، فما أدع يقيني لشكّي)). فأنا أعرف بذنوبي ولا أعرف بذنوبه، أي أنني على يقين مما اجترحتهمن المعاصي والذنوب وفي شكّ من معرفتي بذنوبه، فلست مستعداً لترك يقيني لشكّي، فقد يكون أفضل مني.

((وإن رأيت المسلمين يعظّمونك ويوقرونك ويحبّونك، فقل: هذا من فضل أخذوا به)). فبعض الناس ينتفخ عندما يرى النعال تخفق خلفه والناس يعظّمونه ويهتفون باسمه، في حين أنَّ لهؤلاء الفضل عليه في تقديرهم ورعايتهم له مما قد لا يجب عليهم القيام به اتجاهه وقد لا يستحق ذلك. وهذا مما علّمنا إياه أمير المؤمنين(ع) وهو الذي بلغ من العصمة ما يمكن أن يكون فوق العصمة إذا كان هناك شيء فوقها، لكنّه كان يتواضع للّه تعالى، وكان يتواضع للناس، فكان إذا مدحه أحد خشع للّه، وقال ((اللّهم اجعلني خيراً مما يظنّون واغفر لي ما لا يعلمون)).

وقد علّمنا الإمام زين العابدين(ع) في دعاء (مكارم الأخلاق) وأنا انصح بقراءته يومياً لأنّه يمثل المنهج الأخلاقي التربوي الذي لم يترك أيّ مفردة من مفردات الأخلاق إلاّ وقد ذكرها، ولكنّ مشكلتنا أننا لا نعرف علي بن الحسين(ع) وأنّنا حوّلنا أئمتنا(ع) إلى مناسبة للبكاء ولم نحوّلهم إلى مدرسة للعلم والوعي والتوجيه والعطاء.

يقول(ع): ((اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها)).

ثم نمضي مع علي بن الحسين في مواعظه للزهري عن الصداقة ((وإن رأيت منهم جفاءً أو انقباضاً عنك فقل هذا الذنب أحدثته)). فإذا رأيت الناس لا تعظّمك ولا توقّرك ولا تقبل عليك فانسب التقصير لنفسك، أي لا تتهم الناس بأنهم غير طيبين وإنما اتهم نفسك بأنّها ارتكبت ذنوباً فهجرك الناس جرّاء الذنوب التي تركت تأثيرها السلبي في الحياة، أو أنك أسأت إليه بذنبك الذي أحدثته فهجروك لأجله. ((فإنّك إن فعلت ذلك)) أي إذا عشت هذه الذهنية والروحية ((سهّل اللّه عليك عيشك وكثر أصدقاؤك وقلّ أعداؤك)). وهذا هو توجيه الأئمة(ع) في التعامل مع شرائح الناس كلّ من موقعه.

حدود الصداقة:

وننتقل إلى حدود الصداقة، فنلتقي بكلمة للإمام جعفر الصادق(ع): ((لا تكون الصداقة إلاّ بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منه، وإلاّ فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة)). فمن كانت فيه هذه الحدود أو المواصفات أو الشروط أو شيء منها فهو الصديق وإلاّ فدعه، ((فأوّلها أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة)). أي لا يتلقاك في العلانية بالأحضان وفي السرّ يطعنك بالظهر، بل يستوي سرّه وعلانيته في موقفه الحميم والمخلص منك.

((الثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه)). أي يعتبر فضائلك وصفاتك الجيدة كأنّها فضائله هو، وإذا رأى أشياء سيئة فإنه يشعر كأنّك هو وكأنّه أنت، أي إذا رأى فيك زيناً شعر أنّه اتصف به، وإذا رأى شيئاً وعيباً شعر أنّه أخذ به.

((والثالثة: أن لا تغيّره عليك ولاية ولا مال)). أي يظلّ صديقاً لك مهما تغيّرت وتطوّرت أحواله إلى الأحسن، فلو كان إنساناً بسيطاً لا وجاهة له ولا مال وكان يصادقك لأنّه لا يشعر بتميّزه عليك، ثم شغل منصباً أو أصبح وجيهاً أو فاز بمال كثير وأبقى على صداقته معك وكأنّ شيئاً لم يتغير في واقعه، فهذا هو الصديق فاحفظ صحبته واحرص عليها، وإلا فلا.

((والرابعة: لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته)). فإذا كانت لديك حاجة وكان قادراً على أن يعطيك إياها فلا يمنعك منها.

((والخامسة: وهي التي تجمع هذه الخصال: أن لا يسلمك عند النكبات)). فعندما تنكب ويجور الدهر عليك فلا يتنكّر لك، وإنمّا يحاول أن يحتضن ظرفك العصيب ليدعمك ويقويك ويساندك في موقفك لتخرج سالماً من أزمتك، فأين صديق كهذا في أيامنا هذه؟

وورد في حديث الإمام علي(ع): ((لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته ووفاته)). يحفظه في نكبته بأن يساعده على تجاوزها، ويحفظه في غيبته فيردّ غيبته لمن اغتابه، ويعمل على أن لا يذكره إلا بخير، ويحفظه في موته ليحفظ أهله وعياله.

وعنه(ع): ((الصديق الصدوق من نصحك في عيبك)) فإذا رأى فيك عيباً فإنه يحاول أن ينصحك لأنّه يريدك سالماً من العيوب، وقد ورد في الحديث المأثور  ((المؤمن مرآة أخيه)). بحيث ترى نفسك في أخيك باعتبار أنه قد يطّلع عليك بما لا تطّلع عليه من نفسك، تماماً كما هي المرآة التي تكشف لك من ملامح وجهك مالا تستطيع أن تكتشفه بنفسك. ((وحفظك في غيبك، وآثرك على نفسه)). فإذا كانت له حاجة في شيء وكانت لك حاجة في شيء آثرك في ذلك.

وله(ع) أيضاً ((الصديق من كان ناهياً عن الظلم والعدوان)) فإذا رآك ظالماً في بيتك أو في حياة الناس فإنّه لا يساعدك على ظلمك بل ينهاك عنه. وقد ورد أنَّ شخصاً سأل رسول اللّه(ص) عن الكلمة المأثورة عند العرب ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)). فقال: قد عرفنا نصرته مظلوماً فما معنى نصرته ظالماً، فقال بأن تمنعه من الظلم بأن تعينه على نفسه الأمّارة بالسوء لتحول دون ظلمها الآخرين.

وقال(ع): ((الصديق من كان ناهياً عن الظلم والعدوان، معيناً على البرّ والإحسان)). وعنه(ع) وهو العظيم في دراسته لدقائق الحياة الاجتماعية، وهذا هو سبب دعوتنا المستمرة إلى أن نفهم علياً(ع) لا في كيفية جندلته أبطال الشرك كمرحب وعمر بن عبد ودّ، بل كيف يضرب الظلمات والجهل والتخلّف ليكتشف الحقيقة التي ترتفع بمستوى الناس.

ولست أدري ماذا سيكون موقفنا لو كان علي(ع) معنا، فلقد قال عمر بن الخطّاب ((لو وليها عليّ لحملهم على المحجّة البيضاء)). فمن يقبل هذه المحجّة وهو القائل ((ما ترك لي الحقّ من صديق))؟

يقول(ع): ((إنّما سميّ الصديق صديقاً لأنّه يصدقك في نفسك ومعايبك فمن فعل ذلك)). أي كان صادقاً معك ينبّهك على نقاط الضعف في نفسك، ويرشدك في اكتشاف عيوبك ((فاستنم إليه فإنّه الصديق)). أي حاول أن تطمئن إليه لأنّه الصديق المخلص. وعنه(ع) أيضاً: ((صديقك من نهاك عن ارتكاب المآثم والذنوب وعدوّك من أغراك))(2). بعيوبك وذنوبك. وفي المثل الشعبي (من أبكاك بكى عليك. ومن أضحكك ضحك عليك). لكن بعض الناس يحبون من يضحكون عليهم ولا يحبّون الذين يبكون عليهم. ويبقى الفصل الرابع في الصداقة: كيف نطمئن إلى الصديق هل نختبره أم نستسلم له؟ وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء اللّه في الأسبوع القادم والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة الثامنة19 جمادي الأولى 1421ه - 19 آب 2000م

 

 

الجوار (1)

 

 

 

* يمثل الجوار خط تماس يرتبط فيه الإنسان بالإنسان وحدوده المحلّة *

 

 
 
 
 
 
 
 

الاختبار قبل الصداقة.

التأكيد على الاختبار.

عناصر الاختبار.

أفضل الأصحاب.

حقّ الصاحب.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

الاختبار قبل الصداقة:

هذا هو الفصل الرابع من حديثنا حول الصداقة في الكتاب وفي السنّة، سنّة النبي(ص) وسنّة الأئمة من أهل البيت(ع) التي هي امتداد لسنّة رسول اللّه(ص) والموضوع الذي نتناوله الليلة هو: الاختبار قبل الصداقة، لأنّ الناس، أغلب الناس، ربّما يكون ظاهرهم على صورة ولكن باطنهم يكون على صورة أخرى، ولذلك فلابدّ للإنسان من أن ينفذ إلى داخل حياة الناس سواء كان ذلك من خلال تجربته الخاصّة في معاشرته لهذا الإنسان أو ذاك، أو من خلال اعتماده على ما ينقله الثقاة من ذلك مما شاهدوه أو مما عاشوه معه.

وهذا أمر لا يختصّ بالصداقة بل يشمل أنواع العلاقات الإنسانية كلها سواء منها علاقة الزواج أو غيرها، فلابدّ للرجل عندما يختار زوجته أن يدرس ماذا يريد من زوجة المستقبل؟ ثم يدرس العناصر المتنوّعة في شخصية هذه المرأة أو تلك قبل أن يختارها زوجاً.

والأمر نفسه بالنسبة للمرأة عندما تختار زوجاً، فلابدّ أن تدرس ماذا تريد من الزوج في صفاته؟ وهل هذه الصفات موجودة في هذا الرجل أو ذاك؟ لأنّ ذلك هو الذي يمكن أن يحقّق للعلاقة الزوجية سلامتها عندما يدخل الطرفان إلى الحياة الزوجية لينشئا علاقة وثيقة يمكن أن يكوّنا من خلالها عائلة تتأثّر بهما معاً إنْ في صفاتهما أو في سلوكهما وما إلى ذلك.

ولهذا أيّها الأحبّة لا ينبغي للآباء أن يفرضوا على أولادهم - ذكوراً كانوا أو إناثا - أية علاقة زوجية نتيجة صلة الأب بأب هذه المرأة أو أب هذا الرجل، أو على أساس بعض المصالح التي تشدّه إلى هذه العائلة أو تلك، لأنّ الحياة ليست للأب وليست للأم، بل هي في العمق من حياة الشريكين. ولو أنّ الإنسان تصوّر العلاقة الزوجية فإنّه قد يشعر أمامها بما يشبه الرعب وذلك من خلال ما تفرض على نفسك من شخص يعيش معك في الحياة ليلك ونهارك، ويطّلع على أسرارك كلّها، وتخضع له في شؤون حياتك على مدى سنين طويلة، فكيف يمكن لك أن تختاره؟ فلابدّ لك من أن تختبره اختبارا شخصياً مباشراً أو شوروياً غير مباشر، عن طريق الأهل والأصدقاء والمعارف.

وقل الشيء نفسه في أية علاقة إنسانية أخرى سواء كانت تتصل بالجانب الاقتصادي إذا أردت أن تشارك شخصاً، أو في الجانب السياسي إذا أردت أن تنتمي إلى تنظيم أو حركة، أو في الجوانب الأخرى في الحياة، فلابدّ لك من أن تختبر الإنسان الذي تمحضه ودّك وتمنحه ثقتك، وتنفتح به على حياتك.

التأكيد على الاختبار:

تعالوا نستمع إلى ما جاء في الأحاديث الشريفة في هذا الخصوص. ففي كلمة للإمام علي(ع) في (الغرر والدرر) يقول فيها: ((قدّم الاختبار في اتخاذ الإخوان، فإنَّ الاختبار معيار تفرّق به بين الأخيار والأشرار)). أي ميزان يبين لك من هم الأخيار ومن هم الأشرار، فلا تتخذ أخاً صديقاً إلاّ بعد أن تختبره بما يظهره لك واقعه في أخلاقه وفي طبيعة علاقاته وحركته في الحياة.

وفي حديث آخر له(ع): ((قدّم الاختبار)) على إيجاد العلاقة ((وأجدّ الاستظهار في اختيار الإخوان)) أي افحص واقع هذا الذي تريد أن ترتبط به بعلاقة الصداقة ((وإلاّ ألجأك الاضطرار إلى مقارنة الأشرار)) أي إذا دخلت إلى جوّ العلاقة من دون اختيار فقد تقع في مطبّ العلاقة المشينة مع أصدقاء السوء والشرّ.

وهناك حديث عن رسول اللّه(ص) في (كنز العمّال): ((إذا رأيت من أخيك ثلاث خصال فارجه)) أي حاول أن ترجو مودّته وصداقته: ((الحياء)) وهو أن لا يكون وقحاً، بل يكون حييّاً يلتزم خطوط الحياء في علاقته بالناس، لأنَّ الذي يلتزم الحياء يعيش الاحترام للناس. ((والأمانة والصدق. وإذا لم ترها فلا ترجه)). أي صادقه بهذه الشروط وإلا فهو لا يستحق صداقتك.

وعن الإمام الصادق(ع): ((اختبروا إخوانكم بخصلتين فإنْ كانت فيهم وإلا فأعزب ثم أعزب)) أي لا تتخذه أخاً ((المحافظة على الصلاة في مواقيتها)). بحيث يكون هذا الإنسان الذي تريد أن تختاره صديقاً محافظاً على الصلاة لأنّه يمكن أن يعطيك هذا الانفتاح على طاعة اللّه وعبادته، كما يعطيك ضمانة المداومة على عمل الطاعة واحترام مواقيتها، مما ينعكس إيجابياً على طبيعة شخصيته في تعاملها الاجتماعيّ مع الناس. ((والبرّ بالإخوان في العسر واليسر)). أي أن يكون بارّاً بإخوانه بأنّ يساعدهم ويعاونهم ويعطيهم ما يحتاجونه وما يقدر عليه.

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): ((إذا كان الزمان زمان جور)) أي زمان سوء، بحيث يتعامل أفراده بالظلم والجور فلا ينصف أحد أحداً، ولا يعطي أحد أحداً حقّه ((وأهله أهل غدر)). بحيث كانوا لا يفون بالعهود، بل ينقضونها ويغدرون ببعضهم البعض ((فالطمأنينة إلى كلّ أحد عجز))، فلا تطمئن ولا تستسلم، بل حاول أن تختبر كلّ إنسان حتى يظهر لك سرّه لترى هل أنّه من أهل هذا الزمان، أي من أهل الجور والغدر أم أنه من أهل الوفاء والعدل؟

وفي الحديث عن علي(ع): ((لا تثق بالصديق قبل الخبرة)). فعندما تعطي الإنسان الذي ساقته الظروف ليكون صديقاً لك من خلال الواقع الاجتماعي، فلا تعطه ثقتك بحيث تسلّمه أسرارك وتطلعه على خفاياك، وتجعله يتدخّل في أمورك وشؤونك إلا بعد أن تختبره لترى هل أنّه في مستوى الثقة أو ليس في مستواها؟

ويقول الإمام الباقر(ع): ((تجنّب عدوّك، واحذر صديقك من الأقوام إلاّ الأمين من خشي اللّه)). فمن الطبيعي أنّ الشخص الذي يظهر لك العداوة لابدّ لك من أن تتجنّبه، لأنّ منطق العداوة هو منطق الإضرار، فعليك أن تبتعد عنه لتبتعد بذلك عن ضرره، ولكن احذر صديقك إذا لم تستطع أن تتعرّف أمانته، وليس معنى الحذر هنا أن تتركه، فالإمام(ع) ميّز بين فعلين (تجنّب) و(احذر) فمعنى الحذر أن تكون واعياً فلا تستسلم كلّ الاستسلام. أي أن تتحفظ في علاقتك بصديقك إذا لم تثبت لك أمانته فرّبما يخفي في داخله عدوّاً وأنت لا تعرف ذلك، وقد جاء في قول الشاعر:

إحذر  عدوّك   مرّة              وأحذر  صديقك  ألف مرّة

فلربّما انقلب  الصديق            فكان  أدرى بالمضرّة

فالصديق الذي يطّلع على أسرارك كلها، ثم تحدث بينكما كدورة أو خلاف فإنّه ربّما يستغلّ ما يعرفه من أسرارك مما يضرّك كشفه ليكشفها لأعدائك. وكما قلنا فإنَّ معنى الحذر هو عدم الاستسلام، وهو المعنى الذي ذكرناه مراراً عن الإمام علي(ع) في قوله: ((لا تثقنّ بأخيك كلّ الثقة فإنّ صرعة الاسترسال لا تستقال)). فالثقة العمياء مرفوضة إذ لابدّ من مسافة بينكما حتى إذا انكشفت العلاقة عمّا لا يوحي بالثقة، وإذا تغيّر عمّا هو عليه من الصداقة إلى العداوة أمكنك أن تحمي نفسك منه.

وعن الإمام علي(ع) أيضاً: ((ابذل لصديقك كلّ مودّة)). أعطه كلّ الحبّ ((ولا تبذل له كلّ الطمأنينة)). ولكن لا تعطه ثقتك كلّها، بل حاول أن تجعل لنفسك احتياطاً تحمي نفسك منه إذا انكشف لك أنّه ليس أهلاً للثقة التي منحتها له. وعنه(ع): ((لا ترغبنّ في مودّة من لم تكشفه)).

عناصر الاختبار:

وثمة أحاديث تبيّن العناصر التي يختبر بها الصديق. ففي الحديث عن الإمام علي(ع): ((عند زوال القدرة يتبيّن الصديق من العدوّ)). فعندما تكون أمورك بخير من حيث الوجاهة والقوّة كما لو كنت شخصية اجتماعية بارزة أو دينية أو سياسية أو اقتصادية فالناس أصدقاؤك، وعندما تزول قدرتك وتفقد جاهك ومالك وقوّتك، عند ذلك يتبيّن الصديق من العدوّ، فإن الصديق يبقى معك حتى في حال فقرك بعد أن كنت غنيّاً، وفي حال عجزك بعد أن كنت قوّياً.

ويقول الإمام الصادق(ع): ((يمتحن الصديق بثلاث خصال فإنّ كان مواتياً فيها)) أي منسجماً في هذه الخصال ((فهو الصديق المصافي وإلا كان صديق رخاء لا صديق شدّة)). فهو صديق لتمضية الوقت يمكنك اختباره بأنّ ((تبتغي منه مالاً)) فلتطلب منه مالاً، فإذا استجاب لك فهو صديق، وإلا فهو غير مستعد أن يضحّي بماله أو بشيء من ماله لأجلك. ((أو تأمنه على مال)). لترى هل أنّه أمين إذا استحفظ على المال أو أنّه يخونك فيه ((أو تشاركه في مكروه)). أي أن يشاطرك في الألم لتعرف كيف يتصرّف معك في محنتك وبلائك ومصائبك.

وعن سليمان(ع) قال: ((لا تحكموا على رجل في شيء حتى تنظروا من يصاحب)). أي اختبروه بأصدقائه ((فإنّما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه وينسب إلى أصحابه وإخوانه)). وعن علي(ع): ((لا يعرف الناس إلاّ بالاختبار، فاختبر أهلك وولدك في غيبتك)). لترى كيف يتحدثون عندما تغيب عنهم، هل يتحدّثون عنك بالسوء أم بالخير؟ ((وصديقك في مصيبتك)). عندما تصاب بأيّة مصيبة في نفسك أو في أهلك أو مالك، فكيف يكون موقف صديقك في مثل هذه الأزمات التي تعصف بك؟ ((وذا القرابة عند فاقتك)). واختبر قريبك عندما تفتقر، فإذا كان يساعدك ويعاونك فهو الصديق والقريب والمخلص وإلا فلا. ((وذا التودّد والملق عند عطلتك)). فالذي يتملّق لك بالكلمات الحلوة يمكنك أن تختبره عندما يتعطّل فيك شيء ((لتعلم بذلك منزلتك عندهم)).

أفضل الأصحاب:

وفي الحديث عن النبي(ص) في منْ هم أفضل الأصحاب ((قيل للنبي صلى اللّه عليه وآله: أي الأصحاب أفضل؟ قال: إذا ذكرت أعانك، وإذا نسيت ذكّرك)). أي الذي إذا كنت ذاكراً للّه تعالى ولحقّ الصحبّة وللمعروف كلّه فإنّه يكون لك عوناً في ذلك كلّه بما يزيده ويثريه. وإذا نسيت اللّه سبحانه وتعالى وحقوق الأخوّة وموارد المعروف فإنّه يهديك إليها بما يتوافر عليه من التزام بذلك كلّه، فهو أفضل أصحابك لأنّه يعينك في حاليك في النسيان وفي الذكر.

وعن الرسول(ص): ((إذا أراد اللّه بعبد خيراً جعل له وزيراً صالحاً إنّ نسى ذكّره، وإن ذكر أعانه)). فإذا نسي مسؤوليته إزاء اللّه فإنّه يذكّره بها، وإذا ذكرها فإنّه يعينه عليها.

حقّ الصاحب:

وننتقل إلى حق الصاحب. فعن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في (رسالة الحقوق): ((أمّا حق الصاحب فأنّ تصحبه بالتفضّل والانصاف)) بأنّ تتفضّل عليه بالعطاء وبالخدمة وبالتوقير وأن تنصفه من نفسك بأن تعطيه ماله عليك من حقّ.

((وتكرمه كما يكرمك)). بأن تكرمه بكلّ أنواع الإكرام التي يكرم الناس فيها بعضهم البعض ((ولا تدعه يسبق إلى مكرمة)) وذلك بان تكون المبادر إلى إكرامه والقيام بالأعمال التي تعتبر من المكارم ((فإن سبق كافأته)). فإذا كان هو المبادر فعليك أن تكافئه.

((وتودّه كما يودّك)) بأن تعطيه المحبّة والمودّة. ((وتزجره عمّا يهمّ به من معصية)). فإذا رأيته يهمّ بمعصية اللّه فإنّ من حقّ الصحبة أن تردعه وتنهاه عن ارتكابها. ((وكن رحمة)). بأنّ ترحمه في ظروفه ومرضه وفاقته وأوضاعه ((ولا تكن عليه عذاباً)) بأن تسيء معاملته في ذلك كلّه.

وعن الإمام زين العابدين(ع): ((وحقّ الخليط أن لا تغرّه ولا تغشّه ولا تخدعه)). بل حاول أن تمحضه النصيحة ((وتتقي اللّه تبارك وتعالى في أمره)).

وعن المفضّل قال: ((دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام، فقال لي: من صحبك؟)). أي من كان معك في سفرك؟ ((فقلت: رجل من إخواني، قال، فما فعل؟ فقلت: منذ دخلت المدينة لم أعرف مكانه، فقال لي: أما علمت أنّ من صحب مؤمناً أربعين خطوة سأله اللّه عنه يوم القيامة)). فعندما تصاحب إنساناً في سفر فله عليك حقّ الصحبّة وهو أن تتعرّف أمره، أين ذهب؟ وما هي أوضاعه؟ وأن لا تتركه من دون أن تتعرّف على أموره كلّها. وفي هذا المجال يروى أنّ علياً(ع) صحب يهودياً في الطريق وكان(ع) يريد أن يذهب في اتجاه واليهودي في اتجاه آخر، لكن الإمام(ع) لازمه حتى إذا وصلا إلى مفرق الطريق واصل الإمام(ع) مسيره في الاتجاه الذي يريد أن يسير فيه اليهودي، فقال له اليهودي: يا أبا الحسن إنّ طريقك من هنا، فهل غيّرت رأيك في الطريق؟ فقال(ع) لا، ولكن رسول اللّه(ص) حدّثنا أنّنا إذا صاحبنا أحداً فإنَّ له حقاً علينا بأنّ نشيّعه في خطواته حتى يبلغ مأمنه. فقال اليهودي: هل هذا هو حديث رسول اللّه(ص) : فقال علي(ع) : نعم، فقال اليهودي: مدّ يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه(ص).

ونفهم من هذا أن بإمكان الأخلاق الإسلامية المنفتحة على الآخرين أن تجتذبهم للإسلام أكثر مما لو جلست معهم وحدّثتهم بطريقة فلسفية عن الإسلام، لأنّ هذه المبادرات تجتذب العقل والقلب والإحساس والشعور. ولذلك علينا في هدى هذه الأخلاق الإسلامية أن نعمل كما قال الإمام الصادق(ع): ((كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الصدق والخير والورع فإنّ ذلك داعية))(1). فعندما تتحركون بالصدق لتكونوا الصادقين مع الناس، والورعين معهم والأمناء عليهم فإنّ ذلك يكون دعوة للإسلام لأنّ الناس يرون الإسلام متجسّداً فيكم في هذا الموقف أو ذاك.

وفي حديث لعلي(ع): ((لا تقطع صديقاً وإن كفر)) فالمواصلة مع أصدقائك سواء كانوا أصدقاء الإيمان أو أصدقاء الحياة ضرورية، فعليك أن لا تقطع صديقك مؤمناً كان أو كافراً. ونفهم من ذلك أنّ الإمام(ع) يريد أن يقول لك: انطلق مع الكافرين في الأخلاق الإسلامية فربما تجتذبهم بذلك إلى خطّ الإسلام.

وفي الختام هناك حديث للإمام علي(ع) يبيّن فيه، من هم الأصدقاء؟ وفي هذا الحديث موعظة: ((إن للمرء المسلم ثلاثة أخلاّء، فخليل يقول له أنا معك حيّاً وميتاً وهو علمه)). فهو يكون معك في الحياة والممات إذا كان منفتحاً على عملك ((وخليل يقول له: أنا معك حتى تموت وهو ماله)). فمال الإنسان يبقى معه حتى إذا مات أعطاه كفنه وتركه ((وخليل يقول له: أنا معك إلى باب قبرك ثم أخلّيك وهو ولده)). فأيّ خليل يختاره الإنسان؟ إنّه العمل والعلم المنفتح على العمل. فقد ورد في بعض الأحاديث أن الإنسان إذا كان في حالة الاحتضار واستعدّ للسفر إلى اليوم الآخر تمثّل له ماله وولده وعمله، فيقول لولده: لقد بذلت حياتي كلّها في سبيلكم وأنا الآن في شدّة، فماذا لي عندكم؟ فيقولون له: نشيّعك إلى قبرك. فيلتفت إلى ماله ليقول له: لقد قطعت الفيافي والقفار حتى أجمعك من هنا وهناك وأنا الآن في شدّة، فمالي عندك؟ فيقول له: خذ مني كفنك. ويلتفت إلى عمله فيقول له: كنت ثقيلاً عليّ، فيقول له: أنا معك في قبرك ثم أكون معك في حشرك فإمّا إلى جنّة وإمّا إلى نار }وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ{(2). }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه{(3). فعلينا أيّها الأحبّة أن نصادق اللّه سبحانه وتعالى بأن نقتدي بإبراهيم الخليل(ع) الذي صادق ربّه وصادقه ربّه (واتخذه خليلا) لأنّه اخلص للّه وأسلم له، فتعالوا نجلس مع اللّه جلسة الصديق مع صديقه والخليل مع خليله، فنعطيه من أنفسنا الإيمان والمحبة والعمل الصالح والتقوى ليعطينا خير الدنيا والآخرة ((اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل))(4). والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة26 جمادي الأولى 1421 ه26 آب 2000م

 

الجوار (2)

 

 

* أراد الإسلام من خلال تخطيطه لعلاقة الجوار أن يحوّل المسألة من اجتماعية جامدة إلى أخرى تتصل بالعنوان الروحي للإنسان، وتتحرك في خط القرب إلى اللّه *

 

 
 
 

العلاقة مع الجيران.

الجار في القرآن.

الجوار في تراث النبي(ص) وآله(ع).

معنى حسن الجوار.

وجوه كفّ الأذى عن الجار.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

العلاقة مع الجيران:

من بين وسائل الإسلام في التخطيط لتأكيد العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع، إدخال العلاقة الإنسانية في النسيج الديني بالطريقة التي يستحقق الإنسان بها في الجانب الإيجابي ثواب اللّه تعالى - وفي الجانب السلبي عقابه - كما في علاقة الجوار، فقد أراد اللّه سبحانه وتعالى لهذه العلاقة أن تتوثّق وأن تقوى حتى تصبح علاقة قريبة إلى الرابطة العضوية، بل ربمّا استوحى المسلمون من أحاديث الرسول الكريم(ص) أنّه يخطط لتكون علاقة الجوار كعلاقة القرابة في نتائجها الشرعية.

وربما كان الأساس في ذلك، هو أنَّ الجوار يمثّل بحسب طبيعته الجغرافية خطّ تماسّ يرتبط فيه الإنسان بالإنسان الآخر ارتباطا في كلّ لحظات الزمن، مما يجعل كلّ طرف من أطراف الجوار مرتبطاً بكلّ سلوك الطرف الثاني، لأنّ مسألة أن تعيش مع إنسان آخر أو مع جماعة أخرى في الليل والنهار في مدى الزمن، هي مسألة لابدّ أن تخلق الكثير من المشاكل، بفعل اختلاف المزاج هنا وهناك، واختلاف الأفكار هنا وهناك، واختلاف الأديان والمذاهب والاتجاهات السياسية هنا وهناك، بحيث يدخل في هذا الارتباط الميداني كلّ ما تعارف عليه المجتمع من اختلافات ومنازعات سواء كان ذلك في المستوى الفردي أو الواقع الاجتماعي أو الديني أو المذهبي أو السياسي.

ولذلك فإنّ الإسلام أراد من خلال تخطيطه للمنهج الأخلاقي في علاقة الجوار أن يحوّل المسألة من اجتماعية جامدة إلى أخرى تتصل بالعنوان الروحي للإنسان وتتحرّك في خط القرب إلى اللّه، بحيث أن علاقتك بجارك قد ترتفع بك إلى مواقع القرب من اللّه، وقد تنحدر بك إلى مواقع البعد عن اللّه عزّ وجل، إيجاباً هناك وسلباً هنا.

وهذا ما نلاحظه في أنَّ الإسلام يعطي الكثير من العلاقات بعداً روحياً حتى يخلق في داخل الإنسان المناعة من الإحساس السلبي بالقضايا السلبية التي تحدث من خلال الآخر، ولعلّ ما نلاحظه في مثل هذه الروابط ما ورد في علاقة الزوجة مع زوجها، كما في الحديث ((لو جاز السجود لغير اللّه لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)). والحديث بحسب ما أفهمه يدلّ على أن القضية ليست في القيمة الروحية للزوج بحث يستحقّ السجود ولكنّها الطاقة الروحية التي أراد الإسلام للمرأة أن تعيشها بحيث تتحمّل أذى زوجها من خلال سيطرته كذكر. فمن أجل سلامة الحياة الزوجية أراد المربّي الإسلاميّ أن يعطي هذه العلاقة جانباً روحياً بحيث تتحمّل المرأة ما تراه من أذى زوجها لتصعد إلى اللّه سبحانه وتعالى من خلال ذلك، وهذا ما يعبّر عنه الحديث الشريف ((جهاد المرأة حسن التبعّل))(1).

الجار في القرآن:

وهذا ما نلاحظه أيضاً في الآية القرآنية التي ركّزت الحديث على الجار الجنب، وهو قوله تعالى }وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ{(2). فقد اعتبر الجار في خط الوصية بعباد اللّه وبتوحيده وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار وذي القربى، بحيث ارتفع بعلاقة الجوار إلى المستوى الذي جعلها في عداد الأطراف التي أراد اللّه أن ننفتح عليها بالإحسان والإخلاص إليهم، كما نخلص في عبادتنا لربّنا وفي توحيده سبحانه وتعالى.

وإذا عرفنا - فيما يأتي من أحاديث - أنّ الجار ليس هو الإنسان الذي يلتصق بيتك ببيته ولكنّ ((حدّ الجوار)) كما ورد عن رسول اللّه(ص) ((أربعون داراً من كلّ جانب))، فإنّ حدود الجوار هي المحلّة، فكلّ من كان في محلّتك الصغيرة فهو جارك وينطبق عليه ما ينطبق على الجار، وبهذا يتوسّع مفهوم الجار إلى مفهوم المحلّة، حيث يريد النبي(ص) من خلال التعاليم والمنهج الأخلاقي والتربوي للجوار، أن يترابط الجيران ترابطاً حميماً، وان يتحمّل كلّ واحد من المحلّة ما يصدر من أذى الآخر، وأن يحسن كلٌّ منهم إلى الآخر.

فقد ورد في الحديث عن علي(ع) ((حريم المسجد أربعون ذراعاً، والجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها)). وفي الحديث عن رسول اللّه(ص) ((أربعون داراً جار)).

وهذا ما يعني أنّ الإسلام من خلال ما أوحى به اللّه في هذه الآية وألهم به رسول اللّه(ص) في التخطيط التربوي الأخلاقي الاجتماعي، أن يتحوّل المجتمع الإسلاميّ إلى دوائر صغيرة بحيث يتحمّل كلّ أفراد الدائرة مسؤولية كلّ من كان في هذه الدائرة، فأيّ تخطيط اجتماعي يستهدف الإسلام لبناء المجتمع على الأسس الروحية؟!

الجوار في تراث النبي(ص) وآله(ع):

تعالوا لنقرأ بعض ما ورد من تراث النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) في هذا الخصوص، لأنّ هذا هو معنى أن نتّبعهم، وهو معنى الالتزام بالنبوّة وبالإمامة وهو أن تملأ عقلك بما أعطوك من عقل، وأن تملأ قلبك بكلّ ما خطّطوا له في نبضات قلبك، وأن تملأ حياتك بكلّ الخطوط التي أرادوا لحياتك أن تتحرّك فيها. وتلك أيّها الأحبّة مشكلة أهل البيت(ع) فينا، فلقد عاشوا في آفاق واسعة تخطّط لكلّ موقع اجتماعي أو نفسي أو روحي بحيث لم يتركوا أية ثغرة في النسيج الاجتماعي، ولكنّنا لا نعرف عنهم شيئاً، لأنّ علاقتنا بهم علاقة عين تدمع وشفة تبتسم وليست علاقة عقل يفكّر وقلب ينبض، وحياة تتحرّك باتجاه أهداف معيّنة.

تعالوا إلى رسول اللّه(ص) في الحديث عنه أنه قال: ((أحسن مجاورة منْ جاورك تكن مؤمناً)). وهذا الحديث يضع مسألة الجوار في خطّ الإيمان بحيث أنّ معنى إيمانك في وعيك لحركتك في الواقع هو أنّ تحسن مجاورة من جاورك.

وورد في حديث الرسول(ص): ((مازال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيورّثه)). بحيث أنّ الأحاديث الداعية للاهتمام بالجار، التي كان يأتي بها جبرئيل(ع) إلى النبي(ص) في الوصايا التي يوصي بها اللّه رسوله(ص) مراراً، توصل علاقة الجوار إلى ما يشبه علاقة القرابة، فكما أنّ القريب يرث قريبه، فيمكن للجار أن يرث جاره في الإيحاء بقوة العلاقة الوطيدة التي تربط الجار المؤمن بجيرانه.

وكانت آخر وصايا الإمام علي(ع) لولديه الحسنين وكل أولاده ومن بلغه كتابه ((اللّه اللّه)) وتطلق هذه الكلمة في حالة الاستغاثة عندما يكون الأمر من الاهمية بحيث يدعو إلى ما يشبه الصرخة لإثارة الناس ((في جيرانكم فإنّهم وصيّة نبيّكم، مازال يوصي بهم حتى ظنّنا أنّه سيوّرثهم))(3).

ويرتفع النبي(ص) بعلاقة الجوار إلى درجة أن يجعل حرمة الجار على الإنسان كحرمة أمّه ((حرمة الجار على الإنسان كحرمة أمّه)). ويقول الإمام جعفر الصادق(ع): ((عليكم بحسن الجوار فإنّ اللّه عزّ وجل أمر بذلك))، وهذا ما نستوحيه من الآية 36 في سورة النساء التي قدّمنا بها الحديث.

وفي الحديث عنه(ع): ((حسن الجوار يزيد في الرزق)). و((حسن الجوار يعمّر الديار، ويزيد في الأعمار)). وجاءت الأحاديث بما يشبه ذلك في أكثر من رواية.

معنى حسن الجوار:

وقد يتصوّر الناس أن معنى حسن الجوار أن تكفّ الأذى عن جارك، ولكنّه مفهوم بسيط، لأنّ من واجبك أن تكفّ أذاك عن الناس كلّهم، فكفّ الأذى شامل للجيران ولغيرهم ((المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)). واللّه سبحانه وتعالى حرّم علينا البغي في الأرض بغير الحقّ على كلّ إنسان، وحرّم الظلم بالنسبة للمسلم والكافر، فلا يجوز للإنسان أن يظلم كافراً في حقّه، كما لا يجوز له أن يظلم مسلماً في حقّه. لذلك جاء الحديث عن الإمام الكاظم(ع): ((ليس حسن الجوار كفّ الأذى ولكنّ حسن الجوار الصبر على الأذى)). أي أن تصبر على أذى جارك، لأنّ مسألة إيذاء الجيران ترتفع في عقابها على حالات الإيذاء الأخرى،  لأنّ فيها جانبين: إيذاء الإنسان الذي لا يجوز لك أن تؤذيه وإيذاء الجار.

وجوه كفّ الأذى عن الجار:

ولنقرأ بعض الأحاديث في وجوه كفّ الأذى عن الجارّ، فعن أبي عبد اللّه(ع) أن رسول الله(ص) أتاه رجل من الأنصار فقال: ((إني اشتريت داراً من بني فلان، إن اقرب جيراني منّي جواراً لا أرجو خيره ولا آمن شره)) فأنا أواجه مشكلة في ذلك، فلقد اشتريت الدار وفرض عليّ جوار هذا الإنسان وهو ممن لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه ((قال: فأمر رسول اللّه(ص) علياً وسلمان، أبا ذر، ونسيت آخر وأظنّه المقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم)). أي أراد النبي(ص) أن يقوم بعملية إعلامية واسعة لينذر المسلمين بأن لا يجوز أن يؤذي الجار جاره، ومن الطبيعي فإن هذا الأسلوب يوحي أنّ المسألة عندما بلغت النبي(ص) في هذه القضية الجزئية أثارت اهتمامه بحيث أراد أن يعطي من خلالها درساً وفكرة عامّة للمسلمين: ((لا إيمان لمن لم يؤمن جاره بوائقه)). أي مشاكله وأذاه، وهذا مما يجعل إيذاء الجار يرتفع إلى مستوى التنافي مع الإيمان، فبحسب هذا الحديث، وأحاديث أخرى مماثلة، اعتبر الإسلام الإيمان الحيّ والحركيّ والعمليّ والمنطلق من عمق وعي الإنسان لربه ولدينه، يزول عن الإنسان إذا كان جاره لا يأمن من بوائقه. ومعنى ذلك أنّ المؤمن إذا عاش مع جاره رجا جاره خيره وأمن شرّه ((فنادوا بها ثلاثا ثم أومأ بيده إلى كلّ أربعين داراً من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله)). وهذا ما قلنا أنه يمثّل المحلّة.

وفي الرواية عن أبي عبد اللّه الصادق(ع) عن أبيه الباقر(ع): قال: قال قرأت في كتاب علي(ع) وهو كتاب يحتفظ به الإمام(ع) وهو مما كتبه الإمام علي(ع) بخطّ يده في الجانب التشريعي والأخلاقي وغير ذلك -.

((إنّ رسول اللّه(ص) كتب بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب)). أي كتب معاهدة وميثاقاً يراد من خلاله ضبط توازن العلاقات بين أهل المدينة سواء المهاجرين الذين جاءوا من مكّة أو الأنصار أو أهل يثرب وربما كان اليهود من بينهم، وهي أول معاهدة كتبها النبي(ص) . ((إنّ الجار كالنفس غير مضّار ولا آثم)). أي لا يضرّ الجار جاره، تماماً كما أنّ الإنسان لا يضرّ نفسه ((وحرمة الجار على الجار كحرمة أمّه)).

وقد ورد الحديث عن أبي عبد اللّه(ع) قال: ((جاءت فاطمة(ع) تشكو إلى رسول اللّه(ص) بعض أمرها فأعطاها كربة وهي أصول السعف الغلاظ العراض وقال : تعلّمي منها)). وأحبّ أن أعلقّ على هذه الكلمة من جهة أن البعض من الناس ينكرون على الزهراء(ع) أن تتعلّم من رسول اللّه(ص) فهم يرون أنّها أكبر من أن تتعلّم منه، وقد قلت لبعضهم إنّ علياً(ع) قال: ((علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم فتح لي من كلّ باب ألف باب))(4)، فقال لي: إنّ الزهراء(ع) أعظم، مع العلم أنّ عظمة الزهراء(ع) أنّها تتلمذت على يدي رسول اللّه(ص)  معلّم البشرية كلّها، وعظمة علي(ع) كذلك هي من هذا الموقع أيضاً، ولكن بعض الناس يحطّون بذلك من قدر رسول اللّه(ص) وهو أستاذ علي(ع) ومرّبيه الذي كان يعطيه في كلّ يوم خلقاً من أخلاقه . وكان علي(ع) والزهراء(ع) في بيت واحد عند رسول اللّه(ص) وكانا يتعلّمان منه في الليل وفي النهار، ولذلك لو لا عليّ لم يكن لفاطمة كفؤ، لأنّ فكر علي(ع) هو فكر رسول اللّه(ص) وفكر الزهراء(ع) هو فكر رسول اللّه(ص)، لكنّه الغلوّ.

((وقال : تعلّمي ما فيها، فإذا فيها: من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت)).

وورد في الحديث عن أبي حمزة، قال: ((سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول: المؤمن من أمن جاره بوائقه، قلت: ما بوائقه؟ قال: ظلمه وغشمه)).

وفي الحديث عن علي(ع) عن رسول اللّه(ص) قال: ((من آذى جاره حرّم اللّه عليه ريح الجنّة ومأواه جهنم وبئس المصير، ومن ضيّع حق جاره فليس منّا، ومازال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه)).

وقال الرضا(ع) : ((المؤمن الذي إذا أحسن استبشر)) . لأنّه يستطاع أن يؤكّد حبّه للّه بإحسانه إلى الناس ((وإذا أساء استغفر)). لأنّه يشعر بالذنب أمام اللّه وما يترتب على ذلك من نتائج ((والمسلم الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده وليس منّا من لم يأمن جاره بوائقه)).

وفي ختام هذا الباب، عن أبي بصير قال: ((سمعت أبا عبد اللّه الصادق(ع) يقول: من كفّ أذاه عن جاره أقاله اللّه عثرته يوم القيامة)). وما أكثر العثرات التي عثرناها، ولذا نقول في الدعاء ((واقلني عثرتي واغفر لي زلّتي)). فبكفّ الأذى عن الجار ومسالمته وحسن الخلق معه يقيل اللّه صاحب هذا الخلق عثرته يوم القيامة.

هذا بعض الحديث عن الجوار، وهناك حديث ثان وثالث حتى نعرف المنهج الإسلامي في علاقة الجوار، ونرجو أن نوفّق إلى ذلك في الأسبوع القادم إن شاء اللّه. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 
 

 

المحاضرة العاشرة4 جمادي الآخرة 1421 ه2 أيلول 2000م

 

 

 

الجوار (3)

 

* الجوار يتسع لأية حالة يجاور فيها شخص شخصاً.. والتكافل الاجتماعي يرتبط بالجانب الإيماني لا الأخلاقي فقط *

 

 
 
 
 
 

وصل الجار بالمعونة.

التكافل الاجتماعي.

حقّ الجار.

جيران اللّه.

الجوار الاجتماعي.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

وصل الجار بالمعونة:

كنّا نتحدث عن الجار والنتائج الإيجابية لحسن الجوار على مستوى الدنيا والآخرة، والنتائج السلبية لسوء الجوار على المستويين المذكورين. وأمّا في هذا اللقاء فحديثنا ينصبّ على بعض ما يتعلق بالبرنامج الإسلامي للجوار كعلاقة إنسانية تؤكد التواصل الاجتماعي بما يجعل المسألة في موقع القرب من اللّه سبحانه وتعالى.

وهناك نقطة تتصل برعاية الجار في حياته المعيشية، لأنّنا نعرف أنّ هناك من الجيران من وسّع اللّه عليه، وأنّ هناك من قُدر عليه رزقه، فما هي مسؤولية الجار الأول إزاء الجار الثاني؟

إنّ هناك أحاديث كثيرة تربط بين الإيمان وبين مساعدة الجار في معيشته، كما تنزع الإيمان عمّن يكون جاره جائعاً وهو شبعان. فلنقرأ هذه النصوص الإسلامية الواردة عن النبي (ص):

((ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره المسلم جائع)). فالنبي (ص) بحسب هذا الحديث يربط بين الإيمان وبين إشباع الجار الذي إذا لم يشبعه جاره بات جائعاً. وعنه (ص) أيضاً: ((من منع الماعون جاره منعه اللّه خيره يوم القيامة)). فإذا كنّا محتاجين إلى الخير في الدنيا من اللّه تعالى فما أحوجنا إلى الخير في الآخرة }يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ{(1).

((ووكّله إلى نفسه)). أي يتركه لنفسه فلا يرعاه ولا يتعهده ((ومن وكله إلى نفسه فما أسوأ حاله؟!)). لأننا جميعاً ننطلق في الحياة في أمورنا كلّها من خلال رعاية اللّه سبحانه وتعالى، ومن خلال إيكال أمورنا وتفويضها إليه، فإذا حجب عن أحد من عباده رعايته فمن ذا الذي يرعاه من دون اللّه؟ وفي الدعاء ((يا من يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء)). وفي (كنز العمال) ((ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه)). وفي حديث آخر ((ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره طاو)). أي جائع ((ما آمن بي من بات كاسياً وجاره عارٍ)). وهنا تنتقل المسألة من الجوع والشبع إلى العري والاكساء، فإذا كان جار الإنسان المسلم لا يجد ما يلبسه من ثياب تستره أو تجمّله، فلابد لجاره المتمكّن من ذلك أن يغطّي حاجته من ذلك حسب استطاعته.

وقال رسول اللّه (ص) كما يروي الإمام الباقر(ع) ذلك ((ما من أهل قرية يبيتون وفيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة)). فإذا عرفنا أنّ حدّ الجوار أربعون داراً من كلّ جانب فإنّ الجوار يعني القرية.

وعن مولانا أمير المؤمنين(ع) أنّه سمع النبي (ص) يقول لأصحابه يوماً: ((ما آمن باللّه واليوم والآخر من بات شبعاناً وجاره جائع، فقلنا: هلكنا يا رسول اللّه؟! قال: من فضل طعامكم ومن فضل تمركم وورقكم وخلقكم وخرقكم)). أي ليس معنى ذلك أنّ المطلوب منك أن تتولّى جميع شؤون جارك بنحو تعوله كما تعول عيالك، بل بالأشياء الفاضلة عن حاجاتك مما يمكن أن يسدّ حاجته ((تطفئون بها غضب الربّ)).

فماذا نفهم من ذلك كلّه؟

التكافل الاجتماعي:

نفهم أنّ الإسلام يؤكّد على التكافل الاجتماعي في المجتمعات الصغيرة كما في مجتمع الجوار، كعنوان من العناوين التي يرتبط بها معنى أنّ يكون الإنسان مؤمناً أو لا يكون. فتكرار قوله (ص) ((ما آمن بي)). معناه أنّ التكافل الاجتماعي وبحسب القدرة والاستطاعة يرتبط بالجانب الإيماني للإنسان ولا يتأكّد بالجانب الاستحبابي والأخلاقي فقط، فلابدّ لنا من أن ندرس المسألة دراسة دقيقة، وإذا كانت المسألة تركّز على المبدأ وهو أن لا يبقى بعض الجيران في حالة جوع أو في حالة عري، فمن الممكن أن تمتد هذه الحالة إلى الحاجات الحيوية الأخرى من غير الطعام واللباس.

وهناك طريقتان في التعامل مع هذه الحالة:

فإمّا أن تقدّم المعونة بشكل فردي لهذا الجار أو ذاك ممّا يسدّ جوعته أو يكسو عريه، وهناك أسلوب آخر يعتمد قيام الجيران كجماعة مؤتلفة بالتعاون لسدّ هذه الحاجات من خلال تشكيل صندوق ضمان يشارك فيه كلّ الجيران، ليدرسوا الحالات الصعبة الموجودة لدى بعضهم، وليخصّصوا لهم راتباً أو مساعدة شهرية أو أي شيء يرونه مناسباً لعلاج حالات العوز التي يعاني منها بعض جيرانهم بحيث تسد حاجات هؤلاء من خلال التكافل الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع. فالزمن يتطور أيّها الأحبّة ونحن حينما نقرأ الأحاديث التي تتحدث عن الصدقة، نرى أنّ الفهم الساذج لها هو أنّ الإنسان يقدّم شيئاً من المال إلى الفقير، في حين يمكن أن تتمثل الصدقة بإيجاد هيئات اجتماعية تتعاون في دفع مقدار من المال شهرياً أو أسبوعياً لمواجهة الحالات الصعبة التي يمرّ بها بعض من يجاورونه من الفقراء، ويقدمونها بشكل يحفظ كرامة هذا الجار الفقير حتى لا يضطروه إلى السؤال فيبذل ماء وجهه للناس.

حقّ الجار:

وفي إطار الحديث عن حق الجوار هناك حديثان أحدهما للنبي (ص) والآخر للإمام علي بن الحسين(ع). ففي الحديث عن الرسول (ص) ((إنْ استغاثك أغثته وإنْ استقرضك أقرضته، وإنْ افتقر عدت إليه)). أي تساعده فلا تهمله لأنّه أصبح فقيراً، بل لابدّ أن تقول له إنَّ الغنى والفقر لا يغيران علاقتك به ((وإنَّ أصابه خير هنّأته)). لتشاركه فرحته بهذا الخير ((وإن مرض عدته، وإنْ أصابته مصيبة عزّيته، وإن مات تبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلاّ بإذنه)). فما أصعب ذلك في أيامنا هذه، فقد يريد الجار أن يبني بيتاً من عدة طوابق وبيت جاره من طابق واحد، فيحجب عنه الشمس والهواء، في الوقت الذي ينبغي أن يأتي إلى جاره ويستأذنه في ذلك فإنْ أذن له فبها، وإلاّ فلا ينبغي له أن يستطيل ببنائه عليه فذلك حقّ من حقوقه، بحيث يشعر أنّك احترمت موقعه فلا تقدم على هذا العمل إلاّ بأخذ إذنه. ((وإذا اشتريت فاكهة فأهدها إليه، وإن لم تفعل فأدخلها سرّاً)). بحيث لا يتسبب ذلك في إحراجه حيث يجد نفسه غير قادر على توفير ما توفره لعائلتك ((ولا يخرج بها ولدك يغيظ بها ولده)). ففي ذلك نوع من الإذلال، فالطفل الصغير لا يحمل روح الاحترام للآخرين وتقدير مشاعرهم، فربّما يشعر أنّه يمتاز على أطفال الجيران مما يُشعر الآخرين من صغار الجيران بالمهانة، فإمّا أن تقدّم لهم مما أعطيته أو لا تدعه يخرج عليهم بها فيغيظهم، فربما يخلق ذلك نوعاً من الضغط النفسي على الطفل الآخر بحيث يجبر أهله على شراء ما لدى ابن الجيران، وقد لا يستطيعون ذلك.

((ولا تؤذه بريح قدرك إلاّ أن تغرف له منها)). والحال واحدة، فكما كانت الريح تنقل روائح القدور التي تطبخ في العراء، فكذلك الآن وخاصة في الشقق السكنية حيث تدخل الروائح إلى كلّ دور العمارة لاسيما روائح الثوم أو أية رائحة لا يرتاح لها الجار ((إلاّ أن تغرف له منها)). فكأنّ النبي (ص) يقول إنّ كفّارة ذلك هو أنّ تغرف له من قدرك وتقدم له من طعامك. وربما كان معنى الايذاء هنا هو حالة الاشتهاء التي تسبّبها الروائح الزكية التي يثيرها الطعام اللذيذ مما قد لا يستطيع الجار أن يوفّره، فإذا ما قدّمت له من طعامك فإنّك تكون قد أشركته في طعام تسبّبت في تحريك شهيته إليه.

وأمّا في (رسالة الحقوق) فيقول الإمام علي بن الحسين(ع): ((أمّا حقّ جارك فحفظه غائباً)). بأن تحفظ سمعته من أن تنال بسوء وعياله من أن يتعرّضوا إلى مكروه وداره من أن تسرق ((وإكرامه شاهداً)). أي حاضراً ((ونصرته إذا كان مظلوماً)). بأن تنصره بكلّ الوسائل التي تنصر بها نفسك ((ولا تتبع له عورة)). لأنّ الجار يطّلع عادة على عيوب وعورات جيرانه فهو أمين عليها ولا يجوز له أن يتتبّعها أو يتجسّس عليه في ذلك ((فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه)). فإذا اطلعت عن طريق الصدفة على عيب أو نقص أو مثلبة سترتها عليه فلا تفضحه بها ولا تعيّره بها ولا تكتمها اليوم لتكشفها غداً أو تطلع غيرك عليها. ((وإن علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته ما بينك وبينه)). أي ليس أمام الناس أو الجيران الآخرين، فإنّ ذلك مما يزينه ولا يشينه كما حدّث الإمام الصادق(ع) في ذلك ((ولا تسلمه عند شديدة)). أي عندما يشتدّ عليه الزمان والمشاكل والظروف الصعبة، بل حاول أن تعينه على اجتياز مصاعبه ((وتقيل عثرته)). إذا أخطأ، فلا تتركه يمضي في خطئه، بل حاول أن تسدّده وتهديه إلى الصواب وأن تأخذ بيده إلى ما فيه صلاحه ((وتغفر ذنبه)). فإذا أذنب معك أو أساء إليك فمن حقه عليك أن تصفح عنه وتسامحه ((وتعاشره معاشرة كريمة)). كما يعاشر الكرام بعضهم البعض.

جيران اللّه:

هؤلاء هم جيران الناس، ولكن هناك جيران من نوع آخر وهم الذين اصطلحت عليهم بعض الأحاديث هذه التسمية. فقوله تعالى ]فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[(2). تعبير عن جوار الله، ولذا نقول عن المؤمن العامل إذا مات انتقل إلى جوار اللّه.

وفي الحديث الشريف عن رسول اللّه (ص) : ((إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الخلائق في صعيد واحد ونادى مناد من عند اللّه أين أهل الصبر؟)). فيأتون فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بغير حساب ((ثم ينادي مناد آخر: أين أهل الفضل؟)) فيقال لهم : ادخلوا الجنة بغير حساب، ((ثم ينادي مناد من اللّه عز وجل يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم، فيقول: أين جيران اللّه جلّ جلاله في داره؟)). فاللّه تعالى يعطيهم هذه المكرمة بأن يجعلهم جيرانه وهو الشرف كلّ الشرف والعزّ  كلّ العزّ ((فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم: ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران اللّه تعالى في داره؟

((فيقولون: كنّا نتحابّ في اللّه عزّ وجل)). فعندما نحبّ بعضنا بعضاً فإننا نحبّ من خلال عمق العلاقة باللّه سبحانه وتعالى، لأنّ اللّه أراد للمؤمن أن يحبّ المؤمن، لا على أساس مصلحة أو غاية أو قرابة. ((ونتباذل في اللّه)). بحيث يبذل كلّ واحد من ماله ونفسه لصاحبه ((ونتآزر في اللّه)). أي يؤازر كلّ واحد منا صاحبه ويساعده في شؤون البرّ ومجالات الخير والعمل الصالح، وكلّ ذلك لحساب اللّه ولأجل رضاه.

((قال: فينادي منادٍ من عند اللّه تعالى: صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار اللّه في الجنّة بغير حساب)). وهذه من أعمق الأخلاق الإسلامية التي يعيشها الإنسان المؤمن في داخل نفسه لتنعكس على حركته الاجتماعية في الحياة، فالإنسان الذي تحرّكت عاطفته ومشاريعه التعاونية والتواصلية على أساس أن يقصد بها وجه اللّه ولا يقصد بها غيره هو إنسان وصل إلى مستوى إيمانيّ رفيع في محبّته للّه تعالى بحيث انعكس ذلك على كلّ علاقاته وتحرّكاته الاجتماعية.

كما أنّ قيمة هذا السلوك الذي يرتفع بصاحبه بحيث يصبح جاراً للّه هو أنّه يشدّ المجتمع المؤمن بعضه أزر بعض بحيث يشعر المؤمن أنّ إيمانه يتحرّك اجتماعياً، وأنَّ هذا الإيمان يحميه اجتماعياً ويحقّق له المحبّة في نفوس أبناء مجتمعه من خلال التواصل الاجتماعي معهم، وبذلك ينمو الإيمان في وجدان الإنسان عندما يرى أثره في المجتمع المؤمن في الدنيا، كما ينمو إيمان المجتمع المؤمن عندما تتركز علاقاته على أساس العلاقة باللّه سبحانه وتعالى. وهذا أمر لابدّ أن نربّي أنفسنا وأولادنا عليه. لأنّ المشكلة أيّها الأحبّة التي نعيشها في أغلب المجتمعات الإسلامية وحتى في مجتمعاتنا الإسلامية في خط أهل
البيت(ع) هي أن هذه المجتمعات استحالت إلى تجمعات حقد وتباغض وعداوة، بحيث لم يعد الإنسان يأمن على نفسه ولا على سمعته ولا على ماله ولا على حقوقه التي له على الناس، لأنّ العلاقات الاجتماعية أصبحت تتحرّك من خلال التعقيدات الذاتية والمصالح الشخصية، أكثر مما تتحرّك من خلال الخطوط الإيمانية.

ولعلّ الواقع السيئ الذي تعيشه مجتمعاتنا الإسلامية بلغ من التمزّق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمنيّ حدّاً أنّ اللّه تعالى لم يعد له أدنى حساب في علاقات الناس ببعضهم البعض، فالحسابات اليوم هي حسابات الناس الذين لدينا مصالح معهم، فلو نشب خلاف بين مؤمنين وأنت أحد الطرفين وجاءك الناس يتوسطون عندك ويقولون لك: في سبيل اللّه وعلى حساب اللّه تسامح في حقّك؟ إلا تقول: ما دخل اللّه في الأمر؟ أو لا تدخلوا اللّه في هذا الحساب؟ ولكن لو قالوا لك: على حساب فلان الذي هو رئيس عشيرة أو وجيه اجتماعي أو مسؤول سياسي، فأنت تتساهل وتلبي رغبتهم وكأن وجاهة فلان هي اليوم أكثر تقديراً عند بعض الناس من اللّه سبحانه وتعالى. أليس هذا هو الواقع الاجتماعي الذي نعيشه؟ فنحن مستعدون أن نُخجل اللّه سبحانه وتعالى ولا نخجل فلاناً وفلاناً، وهذا إنّما يدلّ على ضعف علاقتنا باللّه سبحانه وتعالى.

فعلينا أن نعيد النظر في ذلك، لأنّنا نخشى - ونعوذ باللّه من ذلك - أن يكون الإيمان عندنا مجرّد شيء على سطح السطح.

 

الجوار الاجتماعي:

هذا ما كان من الحديث عن الجوار بالمعنى الماديّ المستقر كبيت إلى جوار بيت آخر، ولكن هناك جوار اجتماعي، كما بالنسبة لجارك في المجلس، فالحاضرون في المجلس جيران بعضهم البعض ولا يصح أن يؤذي أحدكم غيره من جيرانه في المجلس، فنحن نستوحي مراعاة الجار في البيت مراعاته في المجلس فلا ينبغي لك أن تزعجه بأي شكل من أشكال الإزعاج فلا تؤذه ولا تضيّق عليه مجلسه، بل احترم جارك في المجلس ولا تقم بأيّ عمل يؤدّي إلى إهانته، فعندما تشعر أنّ جارك يتأذى من التدخين فمن حقه عليك أن لا تدخّن وأنت جالس إلى جانبه، فحريتك أن تدخّن في بيتك، بل لا يجوز لك أن تدخّن في البيت وأولادك أو زوجتك الحامل إلى جانبك لأنّ ذلك سوف يضرّهم ضرراً بالغاً، لأنك - عن طريق التدخين - تجعل أولادك وزوجتك مؤهلين للإصابة بالسرطان، ذلك أنّ الأطباء يقولون: إنّ التدخين السلبي هو أخطر من التدخين الإيجابي، فضرر الدخان الذي يتلقاه الجليس من المدخن اكبر من الضرر الذي يصيب المدخن نفسه، وخصوصاً المرأة الحامل لأنّ الدخان يؤذيها ويؤذي جنينها في نفس الوقت.

وجارك في السيارة أيضاً، فلا يجوز لك أن تدخن وأنت جالس إلى جواره أو في أي مقعد من المقاعد، وإذا كان يسيئه الصوت العالي فلا ترفع صوت المذياع عالياً لأنَّ ذلك يحطّم أعصابه. ولا يجوز لك أن تفعل ذلك بحجّة أنّك حرّ، فحرّيتك في المجتمع تنتهي عندما تبدأ حرية غيرك، فهناك فرق بين الحياة الفردية وبين الحياة الاجتماعية، ففي الأولى تملك نفسك فيما أحلّه اللّه ولكنّك لا تملك غيرك، فعندما تصبح زوجاً  - ذكراً كنت أم أنثى - فعليك أن تراعي الآخر الذي أصبح داخلاً في حياتك وأصبحت داخلاً في حياته }هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ{(3).  فعلاقتكما الحياتية في التداخل كعلاقة الثوب بالبدن، فعلى الزوج أو الزوجة أن يتركا حياتهما الفردية إذا كانت تضرّ بحياتهما الزوجية المشتركة، فقد تسهر مع رفاقك إلى ساعة متأخرة، وقد تذهب الزوجة إلى بيت أهلها لوقت طويل ويبقى زوجها في انتظارها، ناسيين أنّهما عندما عقدا عقد الزواج فإن معنى ذلك انهما ارتبطا برباط يتعيّن عليكما احترام شروطه ومقتضياته.

فهناك إذاً الإنسان الفرد والإنسان المجتمع، فلا يصحّ أن يدخل الإنسان الفرد في الإنسان المجتمع، فجارك هو جارك سواء في البيت أو في المسجد أو في المجلس أو في محلّ العمل أو في الشارع، فالناس الذين يمشون في الشارع كلّ منهم جارٌ للآخر، فعلينا أن لا نعمل في الشارع ما يؤذي جيراننا، فإذا أردت أن تعبّر عن الاحتجاج بإشعال دولاب سيارة فإنّك بذلك تؤذي كلّ الذين يمشون في الشارع أو يسكنون بالقرب منه، فنحن نستوحي من الأحاديث الخاصّة بحق الجليس على جليسه والمسافر على مرافقه، بأنّ مسألة الجوار تتسع لأية حالة يجاور فيها شخص شخصاً في مجلس أو شارع أو قاعة وما إلى ذلك .

إن المشكلة التي نعيشها في المجتمع العربي هي أننا لم نتربّ كمجتمع وإنّما نتربّى كأفراد، وكما تحدثت مراراً فإنّ أمامنا معادلتين يمثلان المجتمع الحضاري والآخر المتخلّف: معادلة (أنا والآخر). ومعادلة (أنا لا الآخر) كما قال الشاعر:

ما علينا إن قضى الشعب جميعاً       أفلسنا في أمان؟!

فلننطلق أيها الأحبّة من أجل إن نكون المسؤولين عن المجتمع إذا كنّا جزءاً منه ، وهذا ما عبّر عنه رسول اللّه (ص): ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر)). بأن نكون مجتمع تكامل وتكافل الأعضاء في الجسد، ولنصنع الإنسان المجتمع .. ويبقى للإنسان الفرد دائرة ضيقة من حيث ما يأكل ويشرب ويستمتع، أمّا في المسؤوليات العامّة، فعلى الفرد أن يحبس نفسه في دائرته الشخصية وينطلق إلى الساحة العامّة بمزاج المجتمع لأنّ هذا هو الإسلام: ((ما آمن بي..)). و((مثل المؤمنين..)). ومعنى ذلك أن الإسلام يمثل حركة عقلك وقلبك وطاقاتك من أجل سعادة المجتمع كله والحياة كلّها. ((كلكم راع وكلّ راع مسؤول عن رعيته))(5). والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الحادية عشرة10 جمادي الآخرة 1421 ه9 أيلول 2000م

 

 

 

 

مشكلة العجب (1)

 

 

 

* يؤكد الإسلام على الإنسان أن يتحسس نقاط الضعف في شخصيته لا أن يتحسس شخصيته في موقع الكمال *

 

 

تنمية الإنسان المسلم.

موارد العجب.

العجب الاجتماعي.

موقف الإسلام من العجب.

التنمية التربوية الشاملة.

العجب في التراث الإسلامي.

العرب والصهاينة.

العجب في أحاديث المعصومين(ع).

العجب عامل عزلة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

تنمية الإنسان المسلم:

كنّا نتحدث عن الوسائل الإسلامية في تنمية الدوائر الصغيرة والكبيرة في المجتمع المسلم، ونودّ أن ندخل في الحديث عن تنمية الإنسان المسلم الفرد والذي قد يتحوّل إلى عنصر مهم من عناصر تنمية المجتمع المسلم، لأنّ الفرد في أخلاقيته، باعتباره جزءاً من المجتمع، وباعتباره الخلية الأولى في بناء المجتمع، يترك تأثيره في تكوين المجتمع أيضاً.

موارد العجب:

وموضوعنا الأخلاقي في هذا اللقاء هو العجب، والعجب هو هذه الصفة التي يشعر فيها الإنسان بالانتفاخ القيمي فيما يصدر عنه، فالإنسان يعجب بعلمه وبخبرته فيرى أنّ الجهل لا يقترب منه، وانّه يبلغ الصواب دائماً فلا يخطئ في علمه، كما قد يتصوّر نفسه أنّه قد أكمل العلم فلا يحتاج إلى زيادة، فهو الذي يعلّم الناس ولا يتعلّم منهم.

وتمتد المسألة إلى العبادة فيعجب الإنسان بعبادته حتى يخيّل إليه أنه بلغ الغاية في العبادة، وأنّه ليس بحاجة إلى أن يستزيد منها في الكمّ، وليس بحاجة إلى أن يطوّرها في النوع.

ويمتدّ العجب إلى أن يجد الإنسان بعض العناصر الخارجة عن ذاته والتي لها ارتباط بالذات أساساً للإحساس بكمال شخصه، فقد يعجب الإنسان بنفسه من الناحية النسبية، وهذا مما عاشه العالم العربيّ الذي كان الفرد منه يشعر بالعجب لانتمائه لهذه العشيرة أو تلك التي تملك أمجاداً في الحرب أو في الكرم، بحيث تنتفخ شخصيته بانتمائه لهؤلاء الآباء والأجداد.

وربّما يمتلئ الإنسان بالعجب من خلال المال، فإذا ملك المال الكثير فإنّه يشعر بأنّ شخصيته تكبر وتنتفخ باعتبار هذه الثروة التي حصل عليها. وربّما يعيش الإنسان العجب بجماله، وهذا مما يكثر في النساء باعتبار أنّ المرأة تربّى في أغلب المجتمعات على أن يكون جمالها القيمة كلّ القيمة، حتى أصبح ذلك عنصراً من عناصر الشخصية للمرأة، وهذا ما شجّعه الواقع المعاصر ولاسيما في الحضارة الغربية التي وظّفت جمال المرأة توظيفاً روائياً وإعلامياً وإعلانياً، حتى أصبحت صرعة انتخابات ملكات الجمال من الصرعات التي قلّد فيها الشرق الغرب، ومن الطبيعي أن ذلك يوحي للمرأة بالعجب. وهناك اتجاه إلى أن تزحف هذه الصرعة إلى الرجال أيضاً لتجري مراسم انتخاب ملوك الجمال، ولاسيما مع انتشار الشذوذ الجنسي المذكّر في العالم، حتى بات الرجل يتزوّج الرجل كما في الغرب.

العجب الاجتماعي:

وتمتد المسألة إلى أن يعجب الإنسان بقوّته وسلطته وجاهه وما إلى ذلك، وربمّا يمتدّ العجب إلى المجتمع فقد تحدث له بعض العناصر التي يملك فيها قوة سلطة، أو قوّة مال، أو قوّة سياسة، أو قوّة حرب في الانتصارات التي يحققها هذا المجتمع أو ذاك فيتحوّل العجب إلى حالة اجتماعية، فيكون المجتمع معجباً بنفسه من خلال العناوين الخارجية التي قد يحصل عليها.

موقف الإسلام من العجب:

وقد وقف الإسلام موقفاً حاسماً من العجب، لأنّ هناك نقطة حيوية في الجانب السلبيّ للعجب بالإضافة إلى نقاط أخرى تنطوي عليها هذه الخصلة الذميمة. وهذه النقطة هي أن الإسلام يؤكّد على الإنسان أن يتحسس نقاط الضعف في شخصيته، ويوحي له دائماً بأن لا يتحسس نفسه في موقع الكمال، لأنّ الإنسان بحسب عناصر شخصيّته في حركة عقله الذي يبدأ طفلاً بحاجة إلى التنمية ليكون شابّاً وشيخاً، تماماً كما هو الجسد الذي يبدأ في مرحلة الطفولة ليتجاوزها إلى المراحل الأخرى التي يشتدّ فيها عوده ويقوى فيها جسده.

وقل الشيء نفسه في تجربة القلب الذي يبدأ بأحاسيس طفولية فيكون حبّه طفوليّاً وبغضه طفولياً، وتفاعله مع ما حوله في أحاسيسه التي تتمثّل في نبضاته بشكل طفولي، ولذا يحتاج القلب كذلك إلى تنشئة وتنمية وإلى تربية حتى يكبر فتكبر عاطفته، فكما أنّ العقل عندما يكبر في علمه يكبر الفكر فيه، فإنّ القلب عندما يكبر وينمو تكبر عاطفته. وهكذا الحال في الطاقات الإنسانية كلّها كطاقة القوة وطاقة العلم وطاقة الحركة وطاقة القيادة، فكلّ طاقة تبدأ صغيرة ولابدّ للإنسان أن يعمل على تنميتها لتكبر وليزداد بذلك عطاؤها.

التنمية التربوية الشاملة:

أيّها الأحبّة: في المنهج الأخلاقي الإسلامي التربوي يقول لك الإسلام: لا تنمّ جانباً واحداً من ذاتك لتترك الجوانب الأخرى، بل اجعل ذاتك تنمو في عملية تكامل بحيث ينمو الجسد وينمو العقل والقلب والطاقة والموقع والهدف معه، لأنّ الإنسان لا يمثّل بعداً واحداً في شخصيّته، فهو عقل وروح وجسد وعاطفة وإحساس وحركة:

وتحسب  أنّك  جرم  صغير                           وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

فالإنسان عالَم متحرك نامٍ، وعندما يكون عالماً متعدّد الجوانب فلابدّ لكل جانب أن ينمو ويكبر، ولعلّ مشكلتنا أننا في مواقع التخلّف على مستوى الدول والشعوب، هي أنّنا نعمل على تنمية جانب ونهمل بقيّة الجوانب فيكون الإنسان كبيراً في جسده طفلاً في عقله، ويكون كبيراً في عقله طفلاً في قلبه، ويكون طفلاً في طاقته يتحرّك كما يتحرّك الأطفال لأنّه لم ينمّ طاقته الحركيّة في مسؤوليته في الحياة، لذلك يقول لك الإسلام، حاول دائما أن تستشعر جوانب النقص فيك لتتحرّك من أجل سدّ هذا النقص وإكماله.. كن في حالة تطوّر دائم.. وعليك أن تبقى في علمك مع احتمالات الصواب والخطأ حتى تعيد النظر في علمك دائماً فلا تعتبر أنّك تملك الحقيقة المطلقة لأنّك بذلك لا تستطيع أن تكتشف الباطل الذي يختفي داخل ما تعتبره الحقيقة.

لذلك كن المفكّر دائماً.. كن المجادل لنفسك دائماً.. وعندما تحبّ وتبغض لا تحاول أن تعتبر حبّك الحبّ الذي بلغ أعلى الدرجات فلا يمكن أن يحمل في داخله بعض نقاط الضعف التي توحي بالجوانب السلبية فيه، ولا تعتبر أنّ بغضك هو القمة في إدراك الحقيقة في الإحساس بهذا الشعور. فإذا أحببت فاترك زاوية من حبّك تناقش هذا الحبّ، وإذا أبغضت فاترك زاوية في داخل بغضك تناقش هذا البغض، حتى إذا فتحت دائرة للاحتمال هنا والاحتمال هناك أمكنك أن تفكّر من جديد في معنى حبّك ومعنى بغضك، فلعلّك تكتشف أنّ حبّك كان خاطئاً وأنّك وضعت الحبّ في غير موضعه، أو أن بغضك كان خاطئاً وأنّك وضعته في غير موضعه.

وفي كل مشروع تدخله لا تعتبر أنّك بلغت الكمال فيه، بل حدّق دائماً في الثغرات كلّها، أو حاول أن تكتشفها حتى تستطيع من خلال هذا الفكر الذي يبحث ويفتّش وينقد ويلاحظ حتى تكتشف هل أنّ هناك ثغرة، فالعجب يمنع من الازدياد، فعندما تعتبر نفسك بلغت القمّة فإنّك لا يمكن أن تفكّر بالصعود فربما تكون القمّة سفحاً أو ربوة، والكثير من الناس يعيشون في الوهاد ويحسبون أنّهم في القمّة، ولذلك يبقون في الوهدة والحضيض.

فالإسلام يريد لك أن تعيش مع إنسانيتك التي فيها عقل بحاجة إلى النموّ، وقلب بحاجة إلى النموّ، وغرائز بحاجة إلى التعقيل، ومشاريع بحاجة إلى الكمال.

العجب في التراث الإسلامي:

وتعالوا لنقرأ في تراث الإسلام لنرى كيف يصوّر لنا العجب؟ يقول تعالى }أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ{(1). زيّن له أي انقلبت الصورة عنده، فالعجب بنفسه جعله يعجب بالسوء في خلقه والسوء في مشاعره والسوء في فكره وفي مشاريعه فيرى كلّ ذلك حسنا. هذا الانقلاب يحوّل السلب إيجاباً، وعندما يكون السلب إيجاباً والباطل حقّاً فهل يمكن لك أن تفكّر في الجانب الآخر من الصورة؟ فعندما تحدّق في نفسك بإعجاب فإنّك تختنق في زاوية داخل نفسك ولا تنفتح على الأفق الواسع.

وقد نستوحي هذا المعنى من آية أخرى  }قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا{(2). فهؤلاء الذين يتحرّكون في الطريق الخطأ والمشروع الخطأ والفكر الخطأ والإحساس الخطأ، وهم يتصوّرون أنّهم يتحرّكون في خطّ الصواب، هم ممن عنتهم الآية أيضاً. ومن الطبيعي أنَّ الإنسان الذي يعيش هذا النوع من انقلاب الصورة لا يسمح لنفسه أن يفكّر بالاتجاه الآخر.

وقد ذكر اللّه سبحانه وتعالى النتائج السلبية في الجانب العسكري في عجب الجيش بقوّته  }وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا{(3). ففي ذلك اليوم كان المسلمون كثيرين، وكانوا يعتبرون أنّ الكثرة هي ضمانة النصر، ولذلك فكّروا في الكميّة ولم يفكّروا في النوعية، فلم يستعدّوا ولم يخطّطوا ولم يدرسوا خطط العدو وطبيعة المعركة فدارت الدائرة عليهم. وهكذا كانت تجربة أُحد أيضاً، وقد نقد القرآن التجربتين وبيّن أن على الإنسان دائماً أن ينظر إلى الجانب الآخر من الصورة.

العرب والصهاينة:

ولعلّنا في عالمنا العربيّ منذ ان انطلق الصراع العربي الصهيوني، أو الإسلامي الصهيوني، كانت الإحصاءات تتحدث عن أنّ العرب يبلغون مئة وخمسين مليوناً وقد زادوا ففاقوا المئتي مليوناً لأنّنا نحسن إنتاج النسل فنعرف كيف نكثّر ذريّاتنا أكثر مما نعرف كيف ننمّي عقولنا، فنحن منتجون بشرياً ولكنّنا مستهلكون عقلياً وقلبياً وروحياً وحركياً.

كان الصهاينة لا يمثلون شيئاً حتى قال قائل: لو أنّ كل عربي ومسلم حمل دلواً من الماء وألقاه على الكيان الغاصب فإن المسلمين قادرون بذلك على إغراق الصهاينة. وكان اليهود يفكّرون بالنوعيّة، وكيف يركّزون قوتهم في العالم؟ وكيف يسيطرون على مفاصل الإعلام والسياسة والاقتصاد في العالم؟ وكانوا يفكّرون في نقاط ضعفهم ليحوّلوها إلى نقاط قوّة، وكنّا لا نفكّر في نقاط الضعف، وكانت كل دواوين الحماسة العربية دواويننا، وهزمنا اليهود ومازلنا نختزن الهزيمة، وكانوا إذا انهزموا اعترفوا بالهزيمة ودرسوها، ونحن لا نعترف بالهزيمة ولا ندرسها ولا نسمح في مدى التأريخ العربي بأن تدرس عناصر الهزيمة، فإذا أخطأنا فإن القيادات ليست مستعدّة للاعتراف بالخطأ وأن تحاسب نفسها أمام شعوبها، ولا تسمح لشعوبها أن تحاسبها، ولذلك استطاع هذا العجب بالكميّة العددية والحالات الشعورية، أن يجعلنا نستريح للكمّ وننسى النوع، فلم ننمّ طاقاتنا بل عملنا على إضعافها أكثر فأفسحنا المجال للخلافات العشائرية والمذهبية والحزبية والطائفية:

وتفرّقوا شيعاً فكلّ قبيلة                      فيها  أميرٌ  ومنبرُ

وانطلق اليهود بالرغم من عمق الخلافات بينهم }بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى{(4). ولكنّهم توّحدوا أمام العرب وتوزّعوا الأدوار، ونحن نوزّع الأدوار في تأكيد الهزيمة وفي عدم الاعتراف بها.

ويتذكر الشبان الذين عاشوا الهزيمة القيادية العربية في عام 1967، فلقد هزم الجانب الرسمي العربيّ لأنّ الأمّة لم تدخل الحرب، وإنّما دخلها جماعة معينون، وكان إعلام الهزيمة يسميّها ب(النكسة) تخفيفاً لآثارها، ونحن نقول في أمثالنا العربية إن السيف قد ينبو والجواد قد يكبو وهذه كبوة الجواد، ولكن ماذا عندما تعيش الأمّة في تأريخها كلّه كبوة الجواد؟ فأيّ جواد هذا الذي يكبو دائماً؟ وأيّ سيف هذا الذي ينبو دائماً؟

العجب في أحاديث المعصومين(ع):

فتعالوا نقرأ بعض تراثنا في هذا المجال. فمن كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) لمالك الأشتر لمّا ولاّه مصر، وهذا هو منهج الإمام علي(ع) مع ولاته في خلافته، حيث كان لا يولّي والياً على أيّ موقع من المواقع إلاّ ويزوّده بالتعليمات الأخلاقية التي تجعله إنساناً يعيش أخلاقية المسؤولية قبل أن يزوّده بالتعليمات الرسمية الإدارية في حركة حكمه، ومن هنا فقد كان تراث الإمام(ع) في خلافته يمثّل التراث الذي يجمع، لكلّ المسؤولين المكلّفين من قبله، الجانب التربوي إلى الجانب الإداري. ولعلّ الذي يقرأ عهد الإمام إلى مالك الأشتر يعرف كيف أن عليّاً(ع) كان يمزج العنصر الرساليّ بالعنصر الإداريّ، ولأنّه لم يفهم الإسلام أحد بعد رسول اللّه(ص) كما فهمه علي(ع) لأنّه عاشه، ولأنّه رافقه في كلّ كلمة قالها، وفي كلّ آية نزلت عليه، وفي كلّ عمل عمله. فلقد كان مثل ظلّه،  وكان ولده الروحيّ وأخاه الفكري وجنديّه المدافع عن الإسلام في ساحة الحرب.

وعلينا أيّها الأحبّة أن نتعلّم من علي(ع) وما أقلّ الناس الذين يفهمون علياً(ع) وما أقلّ الذين يفهمون فكر عليّ وخطّه بما في ذلك الكثير من الشيعة. فلا ازدواجية في الإسلام، إذ ليس هناك جانب روحي منفصل عن الجانب الأخلاقي، أو جانب أخلاقي منفصل عن الجانب الاجتماعي، أو جانب اجتماعي منفصل عن الجانب الاقتصادي أو حتى الجانب العسكري، لأنّ علياً(ع) كان يحرّك الأخلاق في ساحة الحرب ولا يقتصر بها على ساحة السلم، ولا يقبل أن تنتهك الأخلاق في الحرب، بل كان يريد للحرب أن تكون أخلاقية كما تكون حركة في اتجاه النصر، ولذلك قال: عندما عوتب لماذا لم يأذن بالقتال في أول لحظة: ((واللّه ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشو إلى ضوئي وذلك أحبّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها)). وعندما سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام في ساحة المعركة في صفين، قال: ((إنّي اكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: ربّنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به)). كان يربيّ جنده وهم في ساحة المعركة على المحبّة للمسلمين لأنّه كان يرى القتال ضرورة وليس هو الخيار الذي يحبّه ويريده، بل كان يحبّ أن يربح الناس بالسلم أكثر مما كان يحبّ أن يربحهم بالحرب.

قال لمالك الأشتر ((إيّاك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها)). إياك أن تثق بعلمك وقيمك وبأخلاقك وكفائتكوإدارتك ثقة مطلقة ((وحب الإطراء)). وإياك أن تبحث في الناس عمّن يمدحك وعمّن يطريك ويضخّم لك شخصيتك ((فإنّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه)). فهذا هو مدخل واسع للشيطان، فحينما يرى نقاط ضعفك من الإعجاب بنفسك والثقة بها وحب الإطراء فإنّه يتسلّل من خلال هذه الثغرات الأخلاقية إلى داخل نفسك ليعبث بك ويترك الآخرين يعبثون بك أيضاً ((ليمحق ما يكون من إحسان المحسن)). حتى يحوّل إحسانه إلى إساءة عندما يدخل في هذا الخطّ.

العجب عامل عزلة:

كما يعتبر الإمام علي(ع) المعجب بنفسه ليس اجتماعياً فإنّه يعيش مع نفسه فقط ((لا وحدة أوحش من العجب)). لماذا؟ لأنّ الإنسان الذي يعيش مع المجتمع وهو يشعر انّ لديه شيئاً يحتاجه المجتمع، وأنّ لدى المجتمع ما يحتاجه هو منه، وأنّ حاله في المجتمع حال أخذ وعطاء، فهو يشعر بأنّه مع الناس وأن حاجاته معهم وحاجاتهم معه، أمّا العجب بنفسه الذي يعيش في داخل زنزانة ذاته فهو لا يشعر بمن حوله، فهو الأعلم والأفضل والأعقل والأقوى، فهو لا يعيش مع المجتمع لأنّه لا يشعر بحاجته إلى المجتمع، ولذلك تضعف عملية التفاعل بينه وبين المجتمع، فالإنسان عندما يكون وحده يشعر بالوحشة والعجب بنفسه، بل ويشعر بوحدة لا أوحش منها، لأنّه لا يشعر بأيّ شيء يربطه بالمجتمع.

ونقرأ عن الإمام الصادق(ع) قوله: ((لا جهل أضرّ من العجب)). أيّ أنّ هناك الكثير من الجهلاء في المجتمع، ولكن الجهلاء الذين يشعرون بجهلهم ويعرفون أنّ هناك ما ينقصهم من العلم والخبرة فإنّهم يتحركون ليحوّلوا جهلهم إلى علم، ويتعلّموا ممن يملك العلم، فلا يضرّهم جهلهم عندما يعيشون وعي جهلهم والحاجة إلى التعلم. أمّا المعجب بنفسه وهو ما يطلق عليه ب(الجاهل المركب). فلديه جهلان: فهو جاهل وجاهل أنّه جاهل، وأمّا الجاهل البسيط فهو جاهل ولكنّه يعلم أنّه جاهل، فهذا لديه جهل واحد وذاك لديه جهلان، وقد نظم شخص بيتين على لسان حمار الحكيم المعجب بنفسه يقول فيهما:

قال  حمارُ  الحكيم  يوماً                     لو أنصف الدهرُ كنتُ أركب

لأنّني  جاهلٌ   بسيطٌ                     وصاحبي  جاهلٌ   مركّب

وعن علي(ع): ((العجب يوجب العثار)). لأنّك عندما تعجب بنفسك تسترسل فلا تنظر أمامك ولا تدقق في النتائج السلبية أو العثرات التي تعترض طريقك.

وعنه(ع): ((العجب يظهر النقيصة)). فعندما تكون معجبا بنفسك لا تشعر بالحاجة لأنّ تستر نقائصك لأنّك لا تعتبرها كذلك مما يكون سبباً في ظهورها.

وعن الصادق(ع) في سيرة عيسى(ع) ((خرج عيسى(ع) ومعه رجل من أصحابه قصير فلما انتهى عيسى إلى البحر قال: بسم اللّه بصحّة يقين منه فمشى على ظهر الماء، فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى(ع) جازه بسم اللّه بصحّة يقين منه فمشى على الماء ولحق بعيسى(ع) فدخله العجب)). أي لم يجد فرقاً بينه وبين نبيّ اللّه عيسى(ع) ((فرمس في الماء)) فلما داخله العجب بنفسه ذهب اليقين وذهبت القدرة على المشي على الماء وذهب وعيه لطبيعة هذه الكرامة ((فاستغاث بعيسى فتناوله))(5). وما أكثر الذين قد يتحسّسون نعم اللّه عليهم على أنّها تمثل مواقع القوة الذاتية عندهم!! ولذلك فالبعض لا يسقط في الماء ولكن في أكثر من وحل ثقافي وفكري وعمليّ، ويبقى للحديث بقية. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

المحاضرة الثانية عشرة17جمادي الآخرة 1421 ه16 أيلول 2000م

 

 

 

مشكلة العجب (2)

 

 

 

* العجب هو حمق وفساد للعقل ومانع من الازدياد العقلي والروحي *

 
 

 

 

 

 

 

العجب فساد للعقل.

العجب من الحمق.

العجب يؤدّي إلى الضمور الروحي.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

كنّا نتحدث عن العجب كقيمة أخلاقية سلبية تسيء إلى إنسانية الإنسان وتعطّل نموه، وقد أكّدت النصوص التي وردت عن رسول اللّه(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) بالإضافة إلى ما يستفاد في هذا المجال من القرآن الكريم، على أن العجب يمثل مشكلة أخلاقية للإنسان مما يفرض عليه أن يعالجها معالجة واسعة دقيقة عندما تحلّ في عقله أو في قلبه أو في حركته في الحياة.

العجب فساد للعقل:

فمن النصوص التي تربط بين العجب وبين فساد العقل ما ورد عن علي(ع) ((عجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله)). ونحن نعرف أنّ الحاسد يعيش عقدة في نفسه ضد المحسود فيحاول أن يدمّر الميزة التي يتميّز بها من أجل أن يسقطه. وهنا يتحرك العجب من حالة غرائزية في نفس الإنسان تمثّل حسد الغريزة للعقل، باعتبار أن الغريزة عندما تلتهب فإنّها لا تملك أية ضوابط تضبط لها حركتها، بينما يملك العقل عندما يدرس الأمور بطريقة حسابية دقيقة أن يركّز خطواته الفكرية على قاعدة التوازن، لأنّ أفقه هو أفق التأمّل والتدبّر والتعمّق في الأشياء. وفي ضوء ذلك يتحرك العجب ليمنع العقل من دراسة الإنسان في نقاط ضعفه وقوته فلا يمكّنه من تحقيق التوازن في نظرته إلى الأشياء المرتبطة به الأمر الذي يصادر عقله لحساب غريزته.

وورد عن الإمام علي(ع) ((رضاك عن نفسك من فساد عقلك)). فالرضا عن النفس يمثّل مظهراً من مظاهر فساد العقل، وذلك من جهة أنّ العقل عندما يطلّ على الذات فإنّه يعمل على أن يكتشف نقاط الضعف فيها ليحوّلها إلى نقاط قوّة، وهذا هو العقل السليم الذي يدرس الأمور بدقة ليتفهّم طبيعتها من دون أي تهاويل أو أية حالة انتفاخ، ولذلك فإن الإنسان يتوازن في حركته في الداخل والخارج عندما يتوازن عقله، فإذا كان الإنسان راضياً عن نفسه بحيث لا يقف أمام أية نقطة ضعف، أو أية حالة خلل موقف المكتشف لها، بل إنّه يرضى عن نفسه في كلّ شيء، فإنّ هذا يدلّ على أنّ عقله لا يملك خطّ التوازن في تفكيره.

ويقول(ع): ((اتهموا عقولكم فإنّه من الثقة بها يكون الخطأ)). فعندما تنفتح على عقلك اعرف أن عقلك لا يمثل الطاقّة التي تصيب دائماً، لماذا؟ لأنّ عقلك مكوّن في الغالب مما قرأته، ومما عشت تجربته، ومما سمعته، وربما يقع الخطأ فيما قرأت والخلل فيما جرّبت والضعف فيما سمعت، لذلك عندما يتكوّن عقلك من خلال العناصر التي قد تصيب وقد تخطئ فإن عليك أن لا تستسلم لكلّ ما ينطلق به فكرك الراشح من عقلك، فلعله ينطلق من العناصر الخطأ والقاعدة الخطأ، لذلك حاول أن تتهم عقلك لتعيد النظر فيما يملكه من فكر، أو لتحاور الآخرين فيما يطلق عقلك من فكر، فلعلّ الآخرين يكتشفون الخطأ في نتائج عقلك، كما أنّك قد تكتشف الخطأ فيما تنتجه عقول الآخرين.

وفي حديث آخر عنه(ع): ((المعجب لا عقل له)). أي الذي يُعجب بنفسه يتحرّك من حالة غرائزية في شخصيته بحيث يعطي عقله إجازة فلا يتحرّك فيما يأخذ به عقله أو يعطيه.

وعن علي(ع) ((إزراء الرجل عن نفسه)). أي عندما تتهم نفسك، وتحاول أن تكشف نقاط الضعف فيها ((برهان رزانة عقله)) باعتبار أن العقل يقف أمام النفس التي تحمل نقاط ضعف ونقاط قوّة، لينبّهها على نقاط الضعف لتقف موقفاً سلبياً من نقاط ضعفها. ((وعنوان وفور فضله، وإعجاب الرجل بنفسه برهان نقصه وعنوان ضعف عقله)). لأنّه ينطلق من حالة غريزية قد تخطئ دائماً، وقد تنزل الإنسان عن خط التوازن بدلاً من أن ينطلق من حالة عقلية.

العجب من الحمق:

وقد ورد في بعض النصوص اعتبار العجب من الحمق، فالمعجب بنفسه الذي يعيش الإحساس بانتفاخ شخصيّته هو إنسان أحمق، فالإمام علي(ع) يقول: ((العجب حمق)). و((العجب رأس الحماقة)). و((العجب رأس الجهل)). لأنّه يمنع الإنسان عن الانفتاح على العلم باعتبار أنّه يحسب جهله علماً.

وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): ((من أعجب بنفسه هلك)). لأنّه يستسلم لنفسه الأمّارة بالسوء من دون أن يفكّر في طبيعة ما يقود إليه من الطريق الذي يسير فيه، والهدف الذي يسعى إليه والعثرات التي تنتظره، والأمور السلبية التي تحيط به. ((ومن أعجب برأيه هلك)). فعندما ترى رأياً فحاول أن تتأمّل في هذا الرأي وتدرسه في عناصره الداخلية لتكتشف هل أنّ فيه نقاط ضعف أو أن فيه نقاط قوة لتتفادى الضعف وتعزّز القوة. ولذلك فقد ورد في بعض الكلمات المأثورة ((من شاور الرجال شاركها عقولها)). فعندما ترى رأياً اعرض رأيك على الناس الآخرين حتى تكتشف من خلال رأي الناس في رأيك إصابة رأيك أو خطئه.

ويمضي الإمام الصادق(ع) في حديثه فيقول ((وإنّ عيسى بن مريم(ع) قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن اللّه، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن اللّه، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه)). فالحمق أشدّ من العمى والبرص والمرض والموت ((فقيل يا روح اللّه وما الأحمق؟ قال: المعجب برأيه ونفسه)). فهو يرى أنّ رأيه فوق الآراء فلا يمكن أن يخطئ كلية ((الذي يرى الفضل كلّه له لا عليه)). فله الفضل على الناس كلّهم وليس لأحد من الناس فضل عليه ((يوجب الحقّ كلّه لنفسه)). فهو يوجب لنفسه حقوقاً على الناس ولا يوجب عليها للناس من حق ((فذلك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته)). لأن التركيبة التي ركّب عليها ذاته ليس فيها أية ثغرة يمكن أن ينفذ منها الإنسان الذي يريد أن يهديه إلى الهدى، لأنّه سجن نفسه في سجن ذاته، فالمريض الذي يعتقد أنّه مريض فعلاً يذهب إلى الطبيب ليعالجه ويداويه، والإنسان الذي يشكّ فيما عنده من رأي أو فكر أو عمل فإنّه يستشير الآخرين ليصل إلى الثقة والاطمئنان بما لديه، لكن المعجب بنفسه الذي يرى أنه العالم كلّه وأن العالم يختصر في ذاته هو إنسان أغلق على ذاته كلّ نوافذ النور فلا ينفذ نور الحقّ ولا ضوء العلم إليه.

ومن كلمات علي(ع) ما يدلّل على خطورة العجب على عملية النموّ، فالإنسان المعجب بنفسه يبقى في المستوى الذي هو فيه ولا ينمو، لأنّ النمو متى يكون؟ والازدياد متى يحصل؟ عندما يشعر الإنسان أنّ هناك نقصاً في عمله، وأنّ هناك نقصاً في خبرته، أمّا عندما يشعر أنّه قد أكمل عقله وعلمه وخبرته ولم يعد بحاجة إلى شيء، وأنّه صار في المستوى الذي يعطي فيه ولا يأخذ، فكيف يمكن أن يزداد؟!

فعنه(ع): ((الإعجاب يمنع من الازدياد)). وللإمام الهادي(ع) كلمة أخرى في هذا المعنى أيضاً ((العجب صارف عن طلب العلم داعٍ إلى القمط)). أيّ أن المعجب بنفسه يقوم بعملية تقميط وحبس لنفسه فلا تتحرك باتجاه النموّ والازدياد .

وفي الحديث ((من أعجب بحسن حالته قصّر عن حسن حيلته)). فالإنسان الذي يعيش حالة العجب بنفسه، فإنّه عندما يواجه أية قضية فإنه لا يستطيع أن يخطّط ويتدبّر الأمور، لأنّ المتدبّر هو الذي يفكّر في الأمور ويشعر بوجود المشكلات والأزمات والمآزق، أمّا الذي لا يشعر بذلك ويرى نفسه على حال حسن فإنّه لا يستطيع أن ينفتح على حلّ للمشكلة لأنّه لا يشعر بوجود مشكلة أصلاً.

العجب يؤدّي إلى الضمور الروحي:

وننتقل بعد ذلك إلى علاقة العجب بالجانب الروحي للإنسان، أي كيف يتحوّل العجب إلى حالة روحية سلبيّة، بينما يمثل التواضع الذي هو ضد العجب حالة إيجابية. فقد ورد في الحديث عن الإمام علي(ع): ((ضاحك معترف بذنبه خير من باك مدلّ على ربّه)) فالشخص الذي يحيا حياة طبيعية ولكنه يعترف بذنبه أمام اللّه ويستغفر منه، أفضل من الآخر الذي يبكي من خشية اللّه وهو يحمّل ربّه جميلاً أنه يبكي لهذا السبب، أي يعجب بعبادته. فالضاحك الذي يعترف بقصوره عن القيام بحقّ اللّه في الطاعة خير من ذاك الذي يطيع اللّه وهو يدلّ على ربّه، بمعنى أنّه يمنّ على ربّه بطاعته.

وعنه(ع): ((سيئة تسوءك خيرٌ عند اللّه من حسنة تعجبك)) فإذا عشت الشعور بالذنب وتألّمت منه وخشعت للّه الذي أذنبت في حضرته وخضعت من خلال ذلك وبكيت على نفسك، أفضل مما لو عملت طاعة وأعجبتك وشعرت بأنّك أدّيت حقّ اللّه في ذلك كلّه.

وعن الإمام جعفر الصادق(ع): ((إنّ الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ويعمل العمل فيسرّه ذلك)). فهناك من يصلّي صلاة جيدة ويصوم صوماً حسناً ويحج حجّاً ممتازاً، ولكنّه يغتاب وينمّ ويكذب فيندم على الذنب ((فيتراخى من حاله)). أي أنّه يقول إنّني أصبحت صالحاً طيّباً فيستسلم لهذه الحالة من الإحساس بأنّه قام بحقّ اللّه عليه ((فلأن يكون على حاله تلك)). أي حالة الندم على الذنب ((خير له مما دخل فيه من العجب بالحسنة التي عملها)). لأنّ الندم على الذنب يدلّ على أنّ هذا الإنسان المذنب الذي يطمح إلى التوبة يتحرّك في خطّ الانفتاح على اللّه بالإحساس بتقصيره أمام اللّه مما أذنبه من ذنب، بينما الإنسان الذي يقوم بالحسنة التي تعجبه أو العمل الذي يسرّه يشعر وكأنّه أدّى للّه تعالى حقّه وعليه أن يستريح لأنّه قام بواجبه، ولذلك فإنّ عمق إحساس الإنسان الأول، وهو المذنب النادم، باللّه سبحانه وتعالى وإقباله عليه، أكثر من إحساس الإنسان الذي أقدم على الطاعة فسرّه ذلك سرور الإنسان الذي يشعر أنّه أدّى حقّ اللّه خير أداء.

وعن عبد الرحمن  بن الحجّاج، وهو أحد أصحاب الإمام جعفر الصادق(ع) قال: ((قلت لأبي عبد اللّه(ع) الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ثم يعمل شيئاً من البرّ فيدخله شبه العجب به))(1).

أي أنّه يسأل الإمام(ع) ـ رأيه بهذه الحالة التي قد يتعرّض لها بعض الناس، بحيث قد تعرض للإنسان حالتان، حالة من يصلّي ويصوم ويحجّ لكنّه يعيش حالة القلق من احتمال وقوع النقص في صلاته أو صومه أو حجّه أو إخلاصه أو قبول عمله، فهو يعمل العمل وهو مشفق على نفسه أن لا يقبل ربّه عمله لأنّه يخشى أن يكون في عمله نقص أو خلل، وهذا من صفات المتقين حسبما جاء في الخطبة الشهيرة للإمام علي(ع) ((يعملون الصالحات وهم على وجل)). أي الوجل والخوف من عدم قبول الأعمال مما قد يدخلها من الشوائب.

((فقال: هو في حاله الأولى وهو خائف أحسن حالاً منه في حالة عجبه)). لأنّ الإنسان الذي يقوم بالعمل وهو خائف من عدم قبول اللّه سبحانه وتعالى له يحضّ نفسه على تحسين العمل أكثر والإخلاص به أكثر، وعلى الخشوع والخضوع للّه والابتهال إليه وطلب مغفرته أكثر، ومن الطبيعي فإن هذه المشاعر سوف تجعله في حالة روحانية، بينما حالة العجب مما قام به من طاعة اللّه ربما تنزل بنفسه وبروحانيته بحيث تبعده عن اللّه سبحانه وتعالى.

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع) أيضاً: ((يدخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق)). فالمساجد يدخل إليها العبّاد والفسقة، ((فيخرجان من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق)). فكيف يحصل ذلك مع أن هذا عابد قضى عمره في العبادة والآخر فاسق قضى عمره في المعصية؟ ((وذلك أنّه يدخل العابد في المسجد وهو مدلّ بعبادته ويكون فكره في ذلك)). فهو يرى في نفسه أنّه قد عبد اللّه طويلاً وأن اللّه لابدّ أن يرفع درجته لأنّ أحداً لم يعبد اللّه كعبادته، فكأنّه يمنّ على اللّه بعبادته. ((وتكون فكرة الفاسق في التندّم على فسقه)). فقد تؤثر فيه المواعظ التي يسمعها في المسجد بحيث يعيش روحانية خاصة يتذكّر خلالها معاصيه وما سلف منه فيخشع قلبه وتجري دموعه ويندم على ما أسرف في جنب اللّه ((فيستغفر اللّه من ذنوبه)). فيخرج صدّيقاً من خلال هذه الحالة الروحانية، بينما يخرج العابد فاسقاً من خلال ما عاشه من حالة الإعجاب بنفسه.

وفي الحديث عن الإمام الرضا(ع): ((إنّ رجلاً كان في بني إسرائيل عبد اللّه تبارك وتعالى أربعين سنة فلم يقبل منه، فقال لنفسه ما أُتيت إلا منك)). أي أنّه شعر أن اللّه لم يتقبّل منه عبادته، وفكّر في أن شروط العبادة متوفرة فيما يعبد اللّه به، فلماذا لم يقبل اللّه عبادته؟ ليس هناك من تفسير لذلك سوى أن روح العمل فاسدة، فللعمل جسم وله روح أيضاً، فجسمه هو عبارة عن أجزاء العمل وشرائطه كما هو الحال بالنسبة للصلاة وللصوم، فجسم الصلاة هو تكبيرة الإحرام والنيّة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليم، ولكنّ روح العمل إنّما هو الإخلاص للّه سبحانه وتعالى والإقبال عليه والخشوع له والشعور بالتقصير أمامه.

فهذا الرجل جلس مع نفسه يحاكمها ويخاطبها، فقال لها: ((ما أُتيت إلا منك فلا أكديت إلى لك)). أي أنّني كدحت لحسابك لا لحساب اللّه. ((فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه ذمّك نفسك أفضل من عبادة أربعين سنة)). فقيمة العبادة كما نستوحي من هذا الحديث وأحاديث غيره إنّما هي في تهذيب النفس، وأمّا دور العبادة الظاهرية هو أن تعمّق في نفسك العبادية الباطنية، وفي الحديث ((الصلاة معراج روح المؤمن إلى اللّه)). فعندما تودّي صلاتك بأصولها فإنّها ترتفع بروحك إلى اللّه لتمنحك روحية القرب من اللّه سبحانه وتعالى. وقد ورد في دعاء (مكارم الأخلاق) ((وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب)). مما يوحي بأن العجب يفسد العبادة لأنه يحولها إلى عبادةٍ للذات بدلاً من أن تكون عبادةً للّه.

وهكذا الأمر في الصيام، كما في قوله تعالى ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[(2). فقيمة الصيام بمقدار ما يعمّق التقوى في نفسك ويجعلك تخاف اللّه أكثر وتراقبه أكثر وتنفتح عليه أكثر، فإذا عبدت اللّه وكنت مرائياً، وإذا عبدته وكنت غافلاً، وإذا عبدته وأنت تفكّر في نفسك، فإنّ عبادتك الظاهرية لن تتحوّل إلى عبادة داخلية، ولن تنمّي عناصر الروح التي تقرّبك من ربّك. ولذا ورد في الحديث ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إلاّ بعداً)). وفي الحديث أيضاً ((ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش وربّ قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر)).

وفي بعض الأحاديث ((إن اللّه لا يقبل من صلاة العبد إلا بمقدار ما يقبل عليه بقلبه)). فإذا لم يكن خشوع الكلمة منطلقاً من خشوع القلب فلا قيمة للكلمة لأنّها بذلك لا ترتفع إلى اللّه، وإنّما ما يرفعها هو حركة قلبك كما هو الصاروخ الذي يدفع المركبة الفضائية إلى الأعالي، فلابدّ من قوة دافعة في قلبك ترفع صلاتك إلى اللّه ليتقبّلها.

ونخلص من ذلك كلّه إلى أنّ إحساس الإنسان بالتقصير والذنب وحاجته إلى أن يقرّب نفسه للّه أكثر، وأنّه ما زال في كثير من أوضاعه بعيداً عن اللّه، فهذا أفضل من أن يعيش الإنسان عمل الخير ولكنه يشعر بالانتفاخ في عمله هذا، بل قد يتحوّل ذلك إلى أن يمنّ على اللّه بذلك. وقد جاء في حديث أمير المؤمنين(ع): ((لا تخرج نفسك من حدّ التقصير)). أي اشعر دائماً أنّك مقصّر مع اللّه تعالى مهما فعلت، لأنّ اللّه لا يعبد حقّ عبادته، ولا يمكن للإنسان أن يفيه حقّه تمام الوفاء، ذلك لأنّ حق اللّه هو في وجود الإنسان كلّه، ولذلك فإنّ أي عمل تقوم به لا يمكن أن يساوي آفاق وجودك.. ويبقى للكلام في العجب بقية في فصل ثالث إن شاء اللّه . والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

المحاضرة الثالثة عشرة25جمادي الآخرة 1421 ه24 أيلول 2000م

 

 

 

مشكلة العجب (3)

 

 

 

*إستكثار الخير عجبٌ يحطّم العمل ويبطله *

 

 

 

العجب والأنانية.

موقف الإسلام من الذات.

استعظام العمل.

الخير سرّ معنى الوجود.

العجب فرصة لاستحواذ الشيطان.

دراسة العمل في تأثيره النوعيّ.

لا تحقرنّ طاعة ولا معصية ولا دعاء ولا عبداً.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

العجب والأنانية:

ونبقى في الحديث عن العجب، هذه الخصلة الأخلاقية السلبية الذميمة التي تترك تأثيراتها السلبية على الإنسان في أخلاقيته وفي ثقافته وفي كلّ علاقته بالناس.

ونحاول هنا أن نقف أمام بعض المفاصل الخاصة بهذه الخصلة. ففي الحديث عن جابر بن عبد اللّه، قال: ((أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله فدعوت فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: من هذا؟ قلت: أنا. قال: فخرج وهو يقول: أنا، أنا)). فكأنه يستنكر مثل هذا التعبير الذي يختزن في داخله الإحساس بالذات كما لو كانت كلّ شيء عند صاحبها بحيث تعزله عن كلّ ما حوله ومن حوله. وربّما كانت هذه المسألة تلامس قضية الأنانية التي تبدأ من استغراق الإنسان في ذاته بالطريقة التي يحاول فيها، في كلّ شيء يمارسه، أو كلّ شيء يعمله أو يقف فيه، أن يؤكد ذاته كما لو لم يكن هناك أحد غيره، بحيث أنّ الإنسان عندما يكرّر هذه الكلمة: أنا فعلت كذا، أنا أرى كذا، أنا أقول كذا، فإنّها قد تعمّق إحساسه بذاته.

موقف الإسلام من الذات:

فنحن نعرف أيّها الأحبّة أنّ الإسلام لا يمنع الإنسان من أن يتحسّس ذاته، بل إنّه يريد له أن يفهم ذاته، وأن يطّلع على نقاط الضعف ونقاط القوة فيها ليعالج نقاط الضعف فيحوّلها إلى نقاط قوّة، وليستزيد من نقاط القوّة. فلم يمنع الإسلام الإنسان من أن يحبّ ذاته ليحرّكها في اتجاه سلامة المصير، ولذلك نجد أنّ اللّه تعالى حدّثنا عمّا يرغّبنا إذا آمنا وعملنا الصالحات، وعمّا يرهبنا إذا كفرنا أو انحرفنا أو عملنا السيئات، فكأن اللّه سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يحبّ ذاته فيصلحها، وأن يحبّها فيطوّر طاقاتها، وأن يحبّها فينهج بها نهج السلامة في الدنيا والآخرة. ولكن الإسلام في المقابل يريد للإنسان عندما يتحسّس ذاته أن يعرف حجم ذاته، وأن يتواضع للّه الذي خلقه فيرى أنّ كلّ شيء هو من اللّه }وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ{(1). وأنه أي الإنسان - ليس شيئاً أمام الله، وأن يتحسس ذاته فيتواضع للناس من حوله الذين إن كان يتفوّق عليهم في جانب فإنّهم قد يتفوقون عليه في جانب آخر.

وأن يتحسّس ذاته ليعرف أن قيمتها بمقدار ما تحقّق في الحياة من عطاء وما تمارسه من مسؤولية، لذلك فالإسلام ليس ضد إحساس الإنسان بالذات، فاللّه سبحانه وتعالى يحدّثنا عن الذين ظلموا أنفسهم وعن الذين أهملوها، وعن الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم. فالله تعالى لا يريد للإنسان أن ينسى نفسه باعتبار أنّه إذا نسيها فإنّه يكون بذلك قد أهملها. ولذلك كانت التعاليم الإسلامية تدعو إلى أن يراقب الإنسان نفسه وأن يحاسبها، وأن لا يلتفت إلى غيره ويهمل نفسه، كما يفعل الكثير من الناس الذين يعرفون الكثيرين ممن حولهم معرفة كبيرة، لأنّهم يحدّقون في الآخرين أكثر مما يحدّقون في أنفسهم، ولذلك يفهمون الناس أكثر مما يفهمون أنفسهم.

ولهذا فإنّ ما يحذّر منه الإسلام في مسألة التركيز على الذات من حيث العجب: (أنا ، أنا) هو أن يحبس الإنسان نفسه في سجن ذاته بحيث تكون ذاته هي مركز الثقل في القيم التي تحيط به، لدرجة أن ينسى ربّه ومسؤوليته والناس من حوله.

ففي الحديث الذي تلوته على مسامعكم، أراد النبي (ص) أن ينبّه جابراً عندما قال (أنا) إلى عدم تعميق إحساسه بذاته بحيث ينسى ربّه والناس من حوله من خلال الاستغراق في الذات. ومن الطبيعي أنّ هذا يؤدّي إلى أن يعيش الإنسان العجب بالذات بما تشتمل عليه عناصر الذات من عناصر القوّة، في الوقت الذي يجب عليه أن يدرسها دراسة تظهر ما فيها من السلبيات من أجل أن يحوّلها إلى إيجابيات.

استعظام العمل:

وهناك مسألة أخرى تتصل بعنوان العجب، وهي أن الكثير من الناس عندما يقومون بعمل الخير فقد يعظم العمل في أنفسهم بحيث يشعرون بأنّهم قاموا بكلّ مسؤولياتهم في مجال الخير، وأنّهم عملوا الكثير من هذا الخير، ولذلك فقد يتحدثون أو يتصوّرون كما لو كان لسان حال كلّ واحد منهم يقول: أنا عملت ما عليّ وعلى الآخرين أن يعملوا.. فأنا أعطيت.. وأنابنيت.. وأنا خطّطت.. وأنا جاهدت.. ولذا فإنّ منْ يقول ذلك يتصوّر أنّ ما قام به بلغ من الضخامة ومن الكثرة ما لا يحتاج معه إلى أن يستزيد منه، ونحن نعرف بأنّ بعض المجاهدين الذين بدأوا حياتهم في العمل الإسلامي، حتى إذا امتدت بهم الحياة وواجهوا صعوبات العمل الإسلامي، وانطلقوا للحصول على ما يكفل لهم معيشتهم، يقول بعضهم للبعض الآخر: لقد قمت بالعمل من أجل الإسلام مدة كافية وعلى الآخرين أن يعملوا. كما نجد أن بعض من يقومون بمشاريع الخير وأعمال البرّ يستكثرون ما عملوه فيشعرون أن لا مجال للاستزادة، في حين أنّ هذه الذهنية تجمّد في الإنسان حركة الخير المستقبليّ، وتجعله يشعر بأنّ مسؤوليته في عمل الخير - أيّاً كان نوعه - تتحرك أو تتحدّد في رقم خاص وفي زمن خاص، وكأنّ للخير في حياته مرحلة معينة، أمّا في بقية المراحل فلا مسؤولية له في عمل الخير.

إنّ الإسلام يرفض ذلك، ويقول لك: إنّ الخير في حياتك كالعلم، فكما أنّ عليك عندما تحصل على مقدار كبير من العلم، فإن عليك أن تشعر بأنّك بحاجة إلى الاستزادة من هذا العلم، لأنّ أي إنسان لا يمكن أن يبلغ من العلم منتهاه ومداه في مرحلة معينة، بل إنّ كلّ مرحلة من المراحل تفتح للإنسان آفاقاً جديدة يشعر فيها أنّه جاهل في هذا الجانب أو ذاك وهو بحاجة إلى أن يتعلّم، لا سيما أنّ العلم يتطوّر وينمو ويتسع بحيث لا يملك إنسان أن يلاحقه ويحيط به من كلّ جوانبه، كذلك الخير فإنّ آفاقه أوسع من أن تحدّ.

الخير سرّ معنى الوجود:

فالخير هو سرّ معنى وجودك، والله سبحانه وتعالى أوجدك من أجل أن يتحرّك الخير في حياتك على أساس أنّه يمثل الجانب الإيجابي في حركة عقلك عندما يكون الخير حركة في الفكر، وفي داخل قلبك عندما يكون الخير حركة في العاطفة، وفي داخل حياتك عندما يكون حركة في الواقع وفي الإنسان. لذلك فأن تكون إنساناً يعني أن يكون الخير طابع حركة إنسانيتك، فليس للخير عمر إلاّ بمقدار عمرك، فالخير لابدّ أن يحكم عمرك كلّه. ولذلك جاءت التعاليم الإسلامية تدعو الإنسان المسلم أن لا يستكثر كثير الخير مهما عمل منه، بل عليه أن يتذكّر أنّ هناك خيراً أكبر وأكثر منه، وأن ما عمله دون ما يجب عليه أن يعمله لأنّه يملك أن يحرّك طاقاته لتنتج خيراً أكثر وليعطي الحياة أكثر مما أعطاها.

ولنستمع إلى النصوص الواردة في هذا المجال. ففي الحديث عن رسول اللّه(ص) في صفة العاقل: ((يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقلّ كثير الخير من نفسه)). فعندما يتطلّع إلى الناس الذين يعملون الخير فإنّه يقدّر لهم ذلك ويرى أنّه عمل كثير، ولكنه عندما يلتفت إلى نفسه وقد عمل من الخير الكثير فإنّه يستقلّ ذلك ويقول لنفسه: إنّك قادرة على أن تعملي أكثر وتعطي من الخير أكثر.

وفي الحديث عنه (ص): ((لا تستكثروا الخير وإن كثر في أعينكم)). فحتى لو كانت الأرقام كثيرة ومظاهره عديدة بحيث عندما تتطلّع أمامك فإنّك تجد مفردات الخير كثيرة في الواقع، فلا تستكثر ذلك، بل قل لنفسك: إنني أستطيع العمل أكثر من ذلك.

وفي الحديث عن علي(ع): ((إنّ للّه عباداً لا يستكثرون له الكثير ولا يرضون له من أنفسهم بالقليل)). فعندما يعملون في سبيل اللّه فإنّهم يرون ما عملوه قليلاً في جنب الله، ولا يشعرون بكثرة عملهم للّه، بحيث يعجبهم ذلك ويشعرون بالاطمئنان أنّهم وفّوا مسؤوليتهم للّه ((يرون في أنفسهم أنّهم أشرار، وإنهم لأكياس وأبرار)). فهم ينظرون إلى نقاط الضعف في أنفسهم عندما يقفون أمام اللّه سبحانه وتعالى بحيث يشعرون أنهم لم يعملوا شيئاً، وأنّ حقّ اللّه عليهم أعظم، وأنّهم مقصّرون في حقّ اللّه، في الوقت الذي لو درست حالهم من الخارج لرأيت أنهم يملكون العقل كلّه وأنهم البررة في أعمالهم.

وورد عن الإمام الباقر(ع): ((استقلل من نفسك كثير الطاعة للّه إزراءً على النفس وتعرضا للعفو)). أي توبيخاً للنفس في أنّها قادرة على المزيد من العطاء في سبيل اللّه وفي الدعوة إليه ورعاية أمور الناس وقضاء حوائجهم، ولكنها لم تعط ما تستطيع إعطاءه، وأن ما أعطته قليل. وفي حديث الإمام الرضا(ع) : ((لا تستكثروا كثير الخير)).

وتمتد المسألة في النتائج السلبية لاستكثار الخير، حيث يقول الإمام علي(ع) في صفة الملائكة: ((لم يتولّهم الإعجابفسيتكثروا ما سلف منهم)). فالملائكة يعبدون اللّه بحيث أنّهم سجود لا يقومون ركوع لا يسجدون، حتى أنّ حياتهم كلّها وقف للعبادة، ومع ذلك يقول الإمام(ع) عنهم: ((لم يتولّهم الإعجابفسيتكثروا ما سلف منهم، ولا تركت لهم إستكانة الإجلال نصيباً في تعظيم حسناتهم)). فعندما يعيشون عظمة اللّه سبحانه وتعالى ويتحسّسون الإجلال له فإنّهم لا يشعرون بعظمة حسناتهم لأنّ عظمة اللّه في نفوسهم تجعلهم يشعرون بان ما قدموا له من الحسنات كان دون حقّه في عظمته وجلاله.

وفي حديث الإمام محمد الباقر(ع): ((ثلاث هنّ قاصمات الظهر)). لا قاصمات الظهر في الجسد، بل في المعنى وفي الخلق وفي حركة الإنسان في خطّ المسؤولية: ((رجل استكثر عمله فرأى عمله كثيراً، ونسي ذنوبه، وأعجب برأيه)). فرأى أنّه صاحب الرأي السديد، وأنّ رأيه لا يمكن أن يجانب الصواب، وأنّ رأيه يفوق رأي الآخرين فيمنعه ذلك من دراسة آرائهم ومن استكشاف نقاط الضعف في رأيه. وبكلمة واحدة إن اللّه يريد للإنسان أن يبقى في خط تصاعدي في فعل الخير بأبعاده الواسعة وامتداداته الرحبة وتنوعاته الكثيرة لينتقل من مرحلة إلى أخرى ومن درجة إلى درجة أعلى لتكون حياته حركة تصاعدية في مجال الإنتاج الفكري والعملي على جميع المستويات.

العجب فرصة لاستحواذ الشيطان:

وفي الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): ((قال إبليس لجنوده: إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل فإنه غير مقبول منه)). أي إذا أمسكت بخناقه في موارد ثلاثة وسيطرت عليه فيها، فإنّه حتى لو صلّى الليل والنهار وصام الدهر كلّه، وحجّ العمر كلّه، وعمل ما عمل فإنّ ذلك لن ينفعه. فما هي هذه الخصال الثلاث يا ترى؟: الأولى: ((إذا استكثر عمله)) فرأى عمله كثيراً بحيث لا يجد الحاجة إلى أن يستزيد منه والثانية: ((ونسي ذنوبه)) والثالثة: ((ودخله العجب)). أي كان يعيش انتفاخ الشخصية.

وعن الإمام الصادق(ع) قال: ((قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بينما كان موسى (عليه السلام) جالساً إذ أقبل عليه إبليس وعليه برنس ذو ألوان.. فقال له موسى: فما هذا البرنس؟ قال: به أختطف قلوب بني آدم، فقال موسى: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه)). أي كما لو كان يقول ليس عليّ ذنب، أو أن الذنب الذي ارتكبته قياساً بذنوب الناس الكبيرة والكثيرة صغير، فإذا عاش ابن آدم بهذه الذهنية فإنني (أي الشيطان) أتمكن من السيطرة عليه، وهذا هو قوله للّه عزّ وجل ]لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[(2).

فالرواية عن الصادق(ع) تحدّثنا عن طبيعة سقوط الإنسان، وأنّ سقوطه الأفظع هو سقوطه من الداخل، فهو لا يسقط من الخارج وإنما يسقط من الداخل، فعندما تعيش ذهنية العجب واستكثار العمل واستصغار الذنب ونسيانه فعند ذلك لا تستطيع القيام بالعمل الذي يرفع مستواك ويقرّبك إلى ربّك. فالقيمة المقابلة لعدم استكثار الخير هي قيمة استصغار الخير، فقد يطلب منك المشاركة في عمل خيري، لكنك تقول إنّ مستواي هو أن أقوم بالعمل لوحدي بلا شريك، وقد يقال لك: امض بنا لنصلح بين مؤمنين، لكنك تقول إنّ مستواي أن أصلح بين عشيرتين، وانتم بذلك تصغروّن قيمتي. أي أن هناك خيراً يتحرك في الساحة فيمتنع الإنسان عن القيام به استصغاراً له من خلال ما يرى من أنّه أكبر من هذا الخير، وقد جاء في الحديث نهي عن استصغار الخير ((لا تحقرن من المعروف شيئاً)).

دراسة العمل في تأثيره النوعيّ:

فهؤلاء يدرسون الخير في حجمه المادي ولا يدرسونه في حجمه المعنويّ وتأثيراته الاجتماعية، فقد تقوم بعمل بسيط فينتج عنه عمل كبير.

فمثلاً قد يعيش بعض الناس حالة اليأس في حياته إلى المستوى الذي يتجمّد فيه فيصل إلى مرحلة الانتحار، لأنّه لا يرى فائدة في أي عمل يمكن أن يقوم به، فعندما تأتي إليه بأسلوب حسن وتزرع في نفسه الأمل وتخلق في داخله الثقة بنفسه وتفتح له أبواب الحياة، فعند ذلك يمكن أن ينطلق انطلاقة جديدة، وبذلك تكون قد غيّرت ذهنية هذا الإنسان لتحوّله من إنسان مشلول في فكره وروحه وطاقته إلى إنسان آخر تماماً بعدما تكون قد قوّيت له ثقته بنفسه وأعطيته الأمل في قدرته على أن يغيّر الواقع من حوله، وفتحت له آفاق اللّه الرحبة، فحوّلته إلى إنسان منتج وربما يغير إنتاجه الكثير من واقع الأمّة. فكما لو أنّه كان شخصاً قيادياً يائساً لكنّك بدّلت يأسه إلى أمل، وبدّدت إحساسه بضعف نفسه إلى إحساس الثقة من خلال جلسة أو جلستين أو ربما من خلال كلمة. فلولا كلماتك الصغيرة لم يتحرّك بالعمل الكبير. ولذلك فالإنسان عندما يريد النظر إلى عمل الخير لا ينبغي أن ينظر إلى الجانب الكمّي منه وإنّما إلى الجانب النوعيّ منه، فربما يقوم الإنسان بعمل صغير ينتج نتائج كبيرة لا ينتجها العمل الكبير نفسه. فلنستمع إلى النصوص الدينية في هذا الخصوص.

لا تحقرنّ طاعة ولا معصية ولا دعاء ولا عبداً:

ففي الحديث عن علي(ع): ((إنّ اللّه أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته فلا تستصغرن شيئاً من طاعته فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم)). فقد تكون ركعتان تصليهما، أو هذا التسبيح، أو هذا الابتهال الذي تبتهل به إلى اللّه هي رضا للّه وأنت لا تعلم ((وأخفى سخطه في معصيته فلا تستصغرّن شيئاً من معصيته، فربما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم)). فقد تحتقر مؤمناً فقيراً وتزدريه عينك فلا ترحبّ به وتشيح عنه بوجهك وربما تهينه بكلمة صغيرة أو لفتة صغيرة، وقد يكون ذلك موضع سخط اللّه سبحانه وتعالى وأنت لا تعلم، لأنّك تتصور أنّ الذي يغضب اللّه هو أن تزني وأن تسرق وأن تخون، أمّا أن تذلّ مؤمناً وتسبّه وتشتمه وتحقّره فليس في ذلك ضير ((وأخفى إجابته في دعوته فلا تستصغرنّ شيئاً من دعائه فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم)). فبعض الناس يرى أنه إذا قرأ الأدعية الطويلة فإن دعاءه سيستجاب، والمسألة ليست في طول الدعاء وقصره وإنما هي في الانقطاع والتوجّه في الدعاء، فقد تقول: ((اللهم اغفر لي)). وأنت في جوّ نفسي وروحي خالص فيجيبك اللّه أكثر مما لو قرأت عشرين صفحة من الدعاء وأنت ساهٍ، لذلك توجّه في كلّ دعاء سواء كان صغيراً أو كبيراً ولا تستصغرن شيئاً من الدعاء، بل أدع اللّه في حالاتك كلّها فربما يكون في هذا الدعاء الصغير رضا اللّه الكبير. ((وأخفى وليّه في عباده فلا تستصغرن عبداً من عباد اللّه فربما يكون وليّه وأنت لا تعلم)). أما ترى أننا نهتم بالوجهاء والأغنياء وأولي السلطة والقوّة، فالناس في الواقع الاجتماعي هم هكذا:

والناس من يلق خيراً قائلون له                 ما يشتهي ولأمّ المخطئ الهبلُ

فقد يدخل داخل إلى المجلس ولا يحتفى به، وربما يتضايق الجالسون منه، ويتساءلون: من هذا الذي يجلس بين الكبار .. ألا يعرف قدره ومستواه ؟! هذا هو واقعنا الاجتماعي، وربما يكون هذا الإنسان الفقير البسيط ذو اللباس المتواضع وليّاً للّه وأنت لا تعلم فلا تحتقره، ومعنى ذلك أنّك مدعوّ لاحترام الناس جميعاً.. احترم الصغير والكبير لأنّه ربما يكون هذا الصغير وليّ اللّه وأنت لا تعلم.

وفي حديث الإمام الباقر(ع): ((لا تستصغرنّ حسنة تعملها فإنّك تراها حيث تسرّك)). أي لا تستصغر الحسنة التي تراها بسيطة، كصدقة صغيرة أو سلام على مؤمن أو كلمة حلوة أو ابتسامة في وجهه، لا تستصغرنها بل اعملها، فذلك كله يدخل في كتاب عملك في يوم القيامة، وسترى هذا العمل الصغير الذي حفظه اللّه لك }اقْرَأْ كِتَابَكَ{(3). وتقول }مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا{(4). وفي الحديث عن علي(ع): ((اعلموا أنّه لا يصغر ما ضرّه يوم القيامة)). أي أن السيئة التي تضرّك يوم القيامة لا تستصغرها، ((ولا يصغر ما ينفع يوم القيامة، فكونوا فيما أخبركم اللّه كمن عاين)). فالذي جاءكم من اللّه سبحانه وتعالى سواء في الجزاء على السيئات أو الحسنات اعملوا وكأنكم تشهدون نتائجه عياناً }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه{(5).

وفي الحديث عنه(ع): ((افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئاً، فان صغيره كبير)). على مستوى الدنيا والآخرة ((وقليله كثيره)). فهو قليل في حجمه كثير فيما يترتب عليه من أجر وثواب.

ويقول الرضا(ع): ((تصدّق بالشيء وإن قلّ)). كما في الحديث عن الرسول(ص): ((اتقوا النار ولو بشقّ تمرة)). ((فإنّ كل شيء يراد به اللّه وإن قلّ بعد أن تصدق النيّة فيه عظيم)). فقيمة الصدقة الروحية والأخروية ليست بحجمها ولكن بحجم الروح التي تنطلق منها الصدقة، لماذا تصدّقت؟ لأنّك انفتحت على اللّه وتقرّبت إليه بذلك وناجيته: يا ربّ هذا جهدي وأنا أريد أن أتقرّب إليك به. فقيمة الصدقة في خلفياتها الروحية في نفسك وليست في حجمها فيما تتحرك به في الواقع.

إنّ الأحاديث السالفة الذكر تنظر وتعلّمنا أن ننظر إلى الأشياء لا بأحجامها بل بقيمها، ولعلّ مقولة الإمام علي(ع): ((لا تستصغرن عدواً وإن ضعف))(6). هي في سياق هذا المنهج الذي يعرّفنا حقيقة الأشياء التي قد يخدعنا مظهرها أو حجمها الضئيل الصغير فيما قد تنطوي على خير كبير أو شرٍ مستطير.

وتبقى ل(العجب) بقية في الأسبوع القادم. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة عشرة2 رجب 1421 ه31أيلول 2000م

 

 

 

مشكلة العجب

 

 

 

*أفضل طرق علاج العجب: معرفة النفس*

 

 

 

التعصّب و(العجب).

المنّ على الله.

علاج العجب.

خلاصة البحث.

 

 

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

 

الحمد للّه ربِّ العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

التعصّب و(العجب):

ونصل إلى الفصل الأخير في عنوان (العجب) الذي يمثل خلقاً سلبياً يدمّر في الإنسان روحه، ويضعف فيه عقله، وينحرف بحياته عن الخطِّ المستقيم. ففي البداية، نقرأ حديثاً عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع): «العجب درجات: منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً». فهذه الحالة الذاتية قد تعيش في الإنسان الذي تضخّمت شخصيّته في نفسه، بحيث يختزن تقدير أنّ كل ما يصدر عنه هو خير، وأنّ كلّ ما يفكّر فيه هو صواب، وأنّ كل ما يتخذه من مواقف في تأييد أو رفض هو العدل، في الوقت الذي قد يكون ذلك شراً وخطأً وظلماً مما يجتمع في كلمة السوء.

فالإنسان الذي لا يرى السّوء الذي يصدر منه سوءاً، بل يعطيه صفةً من صفات الحسن، هو إنسان مفتونٌ بنفسه، وذلك من خلال أنّه يعيش مع نفسه، وينفصل عن كلّ العالم خارج ذاته، حتى إنّه يرى ضد القيمة قيمةً. وقد حدّثنا الله عن هذا الإنسان بقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا}(فاطر/8). {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(الكهف/103-104).

وربّما يمتدّ هذا الخلق السلبي بالإنسان عندما يستغرق في العصبية لإنسان آخر، فالناس قد يبدأون الحبّ لشخص نتيجة أيِّ سبب كان، ويتعاظم هذا الحبّ في أنفسهم فيتحوّل إلى عصبية للمحبوب، وقد ينحرف هذا الإنسان بفعل العصبية، فيرى أنّ كل ما يقوم به هذا المحبوب هو خير وحقّ وعدل، حتى إنّه يعتبر ظلمه عدلاً، وباطله حقاً، وشرّه خيراً، وهذا مما عشناه على مستوى النظرة إلى التاريخ، وعلى مستوى تقويم الواقع.

فهناك أناس يتعصبّون للتاريخ ويدافعون عن أخطائه كما لو كانت مقدّسات، ونحن أمّة ابتليت حتى الآن بتقديس أخطائها، حتى إنّنا في تراثنا الثقافي، وربّما الديني، ننكر على الإنسان الباحث أن يناقش هذه الأخطاء المقدَّسة، أو هذه الانحرافات التي قد تعتبر معصومةً من الخطأ عندما تصدر من شخص نتعصّب له.

ونجد ذلك في الواقع الذي نعيشه، سواء كان واقعاً سياسياً في ارتباط الناس برجال السياسة الذين يتعصّبون لهم، أو كان واقعاً دينياً من خلال الناس الذين يتعصّبون لشخصيات دينية فيخلصون لهم، وقل الشيء نفسه عن الذين يتعصّبون لشخصيات اجتماعية واقتصادية، فلا يقبلون مناقشة أيّ فعل من أفعالهم، وأيّ قول من أقوالهم، وأيّ رأيٍ من آرائهم، لأنّ العصبية تعطي من تعصّب له الناس قداسة الخطأ وقداسة الظلم، وبذلك انقلبت الموازين عندنا.

وكما أنّ الإنسان إذا زيّن له سوء عمله فرآهُ حسناً فإنه يعجب بنفسه وبعمله، فكذلك قد يزيّن له سوء عمل الآخرين فيراه حسناً بفعل حالة التعصب.

المنّ على الله:

«ومنها، أن يؤمن العبد بربّه فيمنّ على الله ـ عزّ وجلّ ـ ولله عليه فيه المنّ». فهو يتحرك في خطِّ طاعة الله سبحانه وتعالى، فيصلّي ما شاءت له حاله من الصلاة، ويصوم ويحجّ ويعتمر ويعطي الخير فيشعر بأنّه قد أعطى الله الكثير، فهو يستغرق في عمله بحيث يتحوّل هذا الاستغراق والإعجاب به إلى درجة الشعور بأنّه أعطى الله نعمة في مقابل نعمته وأنَّه وفّى حقّ الله بذلك. وهذا مما قد يصدر عن بعض الناس ممن يقول: ماذا يريد الله منّي؟! فأنا أصوم له وأصلّي له وأعمل له كلّ شيء، فقد أدّيت حقّه في ذلك كلّه، في حين أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي يمنّ على من يشاء من عباده، حتى إنّ الإنسان ليس له حقٌّ على الله حتى في عبادته، لأنّه يعبد الله بما أعطاه من نعم، فهو يعبده بلسانه ويديه وعقله، ولذا قال بعض الشعراء:

شكر الإله نعمةٌ موجبةٌ لشكره               وكيف شكري برّه وشكرهُ من برّه

فحالةُ العجب ناشئةٌ من الغفلة عن الله، ومن الاستغراق في الذَّات {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}(الحشر/19). فعلى الإنسان أن يكون واعياً لنفسه، وأن لا يجعل نفسه مقياساً للخير والعظمة، بل أن يدرس نفسه ليطّلع على سلبياتها وإيجابياتها ونقاط ضعفها وقوّتها. وربما نستوحي هذه الفكرة، وهي عدم المنّ على الله، من خلال قوله تعالى: {قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الحجرات/17).

ونقرأ في بعض النصوص المروية عن رسول الله(ص)، أنّ على العابد أن يحترس ما يفسد عبادته بما يصيبه من حالة العجب فيها، ففي الحديث القدسي: «أنا أعلم بما يصلح به أمر عبادي، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادته، فيقوم من رقاده ولذيذ وساده»، فيترك نومه ويسهر ليله، «فيجتهد ويُتعب نفسه في عبادتي، فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين، نظراً مني له، وإبقاءً عليه، فينام حتى يصبح، فيقوم ماقتاً لنفسه، زارياً عليها».

أي أن الإنسان قد يقوم في الصباح منـزعجاً من استغراقه في النوم، متسائلاً كيف نمت؟ كيف لم أصلّ نافلة الليلة؟ لمَ لم أتفرّغ لعبادة ربّي؟ فتقول الرواية: «ولو أخلّي بينه وبين ما يريد من عبادتي»،أي لو تركته ليسهر ويجتهد في عبادتي اللّيل كلّه «لدخله من ذلك العجب بأعماله، فيأتيه ما فيه هلاكه لعجبه بأعماله، ورضاه عن نفسه». فالله قد يلطف ببعض عباده، فيؤخّرهم عن عبادته بما ليس فيه معصية منهم له، بل من خلال غلبة النعاس عليهم، فإذا أصبح الصباح، ورأوا أنّ النعاس غلبهم فلم يقوموا لعبادة الله في الليل، أزروا على أنفسهم، فيرتفعون بهذا الإزراء درجات عند الله.

«حتى يظنّ أنّه قد فاق العابدين». فهو يقول: من مثلي وأنا أقوم الليل كلّه وأصوم النهار كلّه وأحجّ الدهر كلّه، وأعطي وأتصدَّق وأعمل ما لم يعمله غيري، «وجاز في عبادتي حدّ التقصير، فيتباعد منّي وهو يظنّ أنّه قد تقرّب إليّ». فالقرب من الله ليس في جسد العمل، بل في روحه، ولذلك كلّما كان العمل خالصاً لله بعيداً عن الذات، قرّب الإنسان من ربّه، وكلّما كان خالصاً للذات بعيداً عن الإخلاص لله، أبعده ذلك عن ربّه، فقد ورد في الأحاديث: «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء، حبذا نوم الأكياس وفطرهم».

وفي حديث آخر: «إنّ الله تبارك وتعالى يقول: إنّ من عبادي من يسألني الشيء من طاعتي لأحبّه»، فهو يقول: اللهمَّ وفّقني للحج والعمرة لهذا العمل أو ذاك، «فأصرف ذلك عنه لكي لا يعجبه عمله».

فكأن الله يربّي الملكات الخيّرة في نفس عبده عندما يرى منه صدق الإيمان، ويتعهَّده في تربية إخلاصه كما يتعهده في تربية جسده، وذلك هو لطف الله سبحانه وتعالى بعباده.

وفي الحديث عن عيسى(ع) في خطابه للحواريين: «يا معشر الحواريين، كم من سراج أطفأته الريح»، فربما يشرق في قلوبكم سراج الإيمان، ولكن حاذروا أن تأتي رياح الشهوة والهوى والغريزة والعجب لتطفىء هذا السراج المتوقّد في قلوبكم. «وكم من عابد أفسده العجب».

وقد أوحى الله إلى داود(ع)، كما في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): «أنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم، فإنّه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك». أي عليهم أن لا ينظروا إلى أعمالهم في طبيعتها المادية، لأنني عندما أحاسب الناس يوم القيامة، فإنما أحاسبهم بخلفية أعمالهم، فكم لي من هذا العمل وكم للناس منه. لذلك يقال إنَّ بعض الناس يأتي يوم القيامة فيقول: عملت كذا وكذا من أعمال الخير، وأنا أريد أن تثيبني ـ يا ربِّ ـ على ذلك، فيقول له الله سبحانه وتعالى: لقد عملت لكي يقول النّاس عنك كذا، وقد قال الناس عنك كذا، فقد حصلت على ثوابك، فما من شيء لك عندي.

وقد ورد في بعض الأحاديث القدسية «أنا خير شريك، من عمل لي ولغير جعلته لغيري».

علاج العجب:

فكيف يصوّر الأئمَّة(ع) علاج العجب؟ في الحديث عن الإمام محمَّد الباقر(ع): «سدَّ سبيل العجب بمعرفة النفس»، وذلك بأن تدرس نفسك في كلّ عناصر القوّة والضعف فيها، وأن تدرس قلبك في كلّ سلبيَّات المشاعر وإيجابياتها فيه، وأن تدرس حركتك في طاقاتك التي تفجّرها في أعمالك وأقوالك ومواقفك لتتعرف حقيقتها... أدرس نفسك تماماً كما لو كنت عنصراً منفصلاً عن ذاتك، فكما تدرس الآخرين في عملية تقويم لهم، كذلك ادرس نفسك، فإنّك إذا فعلت ذلك واطَّلعت على نقاط ضعفها وقوّتها، توازنت نظرتك إليها، وتعاملت مع نفسك بحجمها الطبيعي من خلال ما انفتحت عليه.

ونقرأ في حديث الإمام عليّ(ع): «إذا زاد عجبك بما أنت فيه من سلطانك»، أي بسبب حصولك على السلطة والملك والجاه والقدرة، «فحدثت لك أبّهة أو مخيّلة»، خيلاء، «فانظر إلى عظيم ملك الله»، أي أدخل في مقارنة بين قدرتك وقدرة الله، ثمّ أنظر قدرة الله عليك فيما هيّأه لك، لأنّ الناس إنّما أعطوك ومنحوك ما منحوك من خلال بعض نعم الله عليك في داخل شخصيتك أو في خارجها، وبذلك تعرف أنّ ما عندك هو من عند الله سبحانه وتعالى، فليس لك مما هو عندك من شيء لك، بل كلّه من الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}(النحل/53).

«فانظر إلى عظيم ملك الله وقدرته مما لا تقدر عليه من نفسك، فإنّ ذلك يليّن من جماحك، ويكفّ عن غربك، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك». لأنّك إذا عشت عظمة الله تبارك وتعالى في أسرار قدرته في خلقه، صغرت نفسك، وصغر ما حولك ومن حولك عندك.

ولهذا نقرأ في دعاء (مكارم الأخلاق) الذي ينسبه ابن أبي الحديد إلى الإمام علي(ع) ويقول إنّ الإمام زين العابدين(ع) كان يدعو بما دعا به علي(ع)، وربما ناقش البعض في ذلك، لأنّ أسلوب علي(ع) في الدعاء يختلف عن أسلوب الإمام زين العابدين(ع) وإن كان المنبع واحداً، نقرأ في هذا الدّعاء: «اللهمَّ لا ترفعني في الناس درجةً إلاّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها». وهذا ما يتعاظم في نفس الإنسان إذا وقف بين يدي ربّه وقارن بين ما لديه من سلطة وبين قدرة الله سبحانه وتعالى في ذلك.

وفي حديث الإمام علي(ع) عن العجب: «ما لابن آدم وللعجب ـ وفي رواية «للفخر»، فالفخر ينطلق أيضاً من العجب ـ وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بين ذلك يحمل العذرة» في داخل جسده، فأيّ مخلوق هو في الجانب المادي من جسده حتى يعجب بنفسه عندما يعيش بين النطقة والجيفة والعذرة؟!

وعن الصَّادق(ع): «إن كان الممرّ على الصِّراط حقّاً فالعجب لماذا؟!». لأنّ الصراط الذي يوصف بأنّه أدقّ من الشَّعرة وأحدّ من السَّيف، سيقف عليه الإنسان أمام ربّه ليواجه حسابه هناك، فكيف يدخله العجب وهو يتصوّر ذلك الموقف الرَّهيب العصيب؟!

وقد ورد في بعض الأحاديث عن الإمام عليّ(ع): «لا تدلنّ بحالة بلغتها بغير آلة، ولا تفخرنّ بمرتبة نلتها من غير منقبة، فإنّ ما يبنيه الاتفاق يهدمه الاستحقاق». فقد تأتي فرصةٌ للإنسان لم يركّزها بجهده، وإنّما واتته من خلال طبيعة الظروف التي أتاحت أمامه هذه الفرصة، أو التي رفعته إلى موقع معيَّن، فإذا بلغت هذه الحالة من غير عمق في صفات شخصيتك، بل جاءتك صدفةً وعرضاً، فإنّ ما بناه الاتفاق يهدمه الاستحقاق، فعندما تحصل على ذلك بهذه الطريقة، فسينكشف الأمر، وذلك عندما تزول الظروف المواتية لتتبدى على حقيقتك ويتبيّن ما تستحقّه من ذلك.

وعن الصَّادق(ع): «سهر داود ـ عليه السلام ـ ليلة يتلو الزبور فأعجبته عبادته»، وطبعاً ليس الإعجاب السلبي، لأنّه نبي من أنبياء الله، وإنّما هو الشعور بالراحة لطاعة الله، «فنادته ضفدع: يا داود، تعجّبت من سهرك ليلة، وإنّي لتحت هذه الصخرة منذ أربعين سنة ما جفّ لساني عن ذكر الله تعالى».

وقد ورد عن علي(ع)، ومن أعظم من علي في معرفته لكلّ عناصر الإنسانية في الإنسان، وبذلك كان في كلماته كلّها يعلّم الإنسان علم نفسه كما يعلّمه علم ربّه، وكان يريد في كلماته كلّها أن يقول للإنسان اعرف نفسك، فإنّ من عرف نفسه عرف ربّه، وإن من ملك معرفة نفسه ملك معرفة غيره، فإذا لم يكن لك الميزان الذي تستطيع من خلاله أن تقوّم به نفسك بطريقة موضوعية عقلانية حيادية، فكيف تملك تقويم غيرك؟

لذلك ـ أيّها الأحبّة، علينا أن نعيش مع هذه القمّة الشَّامخة التي ارتفعت وارتفعت حتى عاشت في رحاب القرب من الله عزّ وجلّ من خلال معرفة الله، وهو القائل: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً». وكان يقول للناس، ونحن منهم، لأن عليّاً(ع) ليس لعصره فحسب، ولكنه للإنسانية كلّها: «ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنت تريدونني لأنفسكم».

ورد عنه(ع) في صفة المؤمن: «كلّ سعي أخلص عنده من سعيه، وكلّ نفس أصلح عنده من نفسه». أي عندما ينظر إلى سعي الناس في الخير، وينظر إلى سعيه، فإنّه يكتشف العناصر التي تميّز سعي الناس عن سعيه، تواضعاً منه في نفسه، وعندما يدرس الناس في إيجابياتهم ويدرس نفسه في سلبيَّاتها، فإنّه ينظر إلى الناس في موقع الإيجاب، في حين ينظر إلى نفسه في موقع السلب.

وعن الصادق(ع): «من لا يعرف لأحد الفضل فهو المعجب برأيه». وهو الإنسان الذي إذا حدّثته عن أيّ عالم من العلماء الذين يتحرّكون في اختصاصهم فإنّه لا يرى لهم فضلاً؛ فهذا لا يفهم، وهذا ضعيف، وهذا غير مجتهد، وهذا لا يملك العبقرية، فكأنّه يريد أن يقول: أنا العبقري، وأنا الذي أملك الفكر والعلم والعمق والحق، والكثيرون من الناس هم على هذه الصفة، وهؤلاء قد يكونون من المؤمنين، لكنّهم يستغرقون فيما هم فيه من إيجابيات، ويستغرقون فيما لدى الناس من سلبيات، دون أن يقارنوا بين سلبياتهم وإيجابيات الناس، ولذلك فإنّهم ينظرون إلى الناس من فوق؛ هؤلاء هم المعجبون برأيهم، بينما ينبغي على الإنسان عندما يجد في نفسه صفة خير، أن ينـزل إلى أعماق نفسه ليكتشف ما فيها من صفات الشرّ، وعندما يرى الشرّ في الآخرين، فعليه أن يعيش في آفاقهم ليرى ما لديهم من صفات الخير: «لا تكن ممن يعجب بنفسه إذا عوفي» من البلاء، أي أنّه إذا كان في عافية والدنيا رائقة في عينيه وتسير بما يشتهي ويتمنّى، فإنّه يمتلىء غروراً وإعجاباً بنفسه، «ويقنط إذا ابتلي»، فإذا تعرّض للبلاء، يئس وقنط من دون أن ينفتح على الأمل برحمة الله سبحانه وتعالى.

خلاصة البحث:

أيّها الأحبَّة: إن الله خلق لنا نفوساً ركّزها على قاعدة الفطرة، والفطرة انطلقت من خلال آفاق التوحيد، والتوحيد يعني أنّك تنظر إلى الله في الكمال المطلق والعلم المطلق والقدرة المطلقة والعظمة المطلقة، وتنظر إلى نفسك من خلال الشعور بالحاجة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى في الهواء الذي تتنفَّس، والماء الذي تشرب، والغذاء الذي تتغذّى، والأجهزة التي تتحرّك في جسدك، وعليك عندما تجلس بين يدي الله أن تتواضع له، وأن تعتبر أنّ كلّ ما عندك من علم أو عقل أو قدرة أو جمال فهو من الله وإلى الله، فليس عندك من ذلك شيء، لأنّ كلّ شيء هو من الله وإلى الله، فإذا نظرت إلى عقلك فاعرف أنّ عقلك، الذي منحك الله إياه هو هبة من الله ودليل على عظمته، وإذا نظرت إلى كلّ شيء فتواضع لله الذي خلقك، وتواضع للناس بأن تتطلّع إلى نقاط القوة فيهم، وتذكّر وأنت تقرأ علياً(ع) فيما روي عنه من دعاء كميل: «وفي جميع الأحوال متواضعاً»(1). تواضع في نفسك، وتواضع لغيرك، وقبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء تواضع لربّك، ومن تواضع لله وتواضع في نفسه فإنّه لا يدخله العجب، وبذلك ينمو أكثر ويصفو أكثر ويعيش إنسانيته أكثر.

أيّها الأحبة، إنَّ الله خلق لنا إنسانيتنا المنفتحة على الخير كلّه والحقّ كلّه والعدل كلّه، فعلينا أن لا نلوّث هذه الإنسانية بالعجب والغرور والخيلاء والكبرياء {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ـ فما دخل الله في ذلك؟! ـ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ}(القصص/76-81). والله تعالى قد يخسف ببعضنا معنوياته ومادياته وحياته.

نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله تبارك وتعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم، إنه أرحم الراحمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والحمد لله ربِّ العالمين.   

 

 

 

المحاضرة الخامسة عشرة9 رجب 1421 ه7 تشرين الثاني 2000م

 

 

 

 

الانتفاضة الفلسطينية

 

 

 

*  علينا أن نبقى في الساحة حتى لو حوصرت، وأن نلبس لكلّ حرب لبوسها *

 

 

 

 

خطورة المرحلة.

مؤتمر مدريد.

مسألة القدس.

الانتفاضة الفلسطينية الجديدة.

قيمة الانتفاضة.

العالم الإسلامي الجديد.

ربحنا أمّة موحّدة.

في ذكرى المولد العلويّ.

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

خطورة المرحلة:

في هذه المرحلة الخطيرة نواجه حرباً كأشرس ما تكون الحروب، في كلّ وحشيتها وهمجيتها وعنصريتها، وفي كلّ ما يتمثل فيها من حقد وعداوة وبغضاء ضد الإسلام والمسلمين، من هؤلاء الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه، والذين كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، والذين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا.

إننا نواجه هذه الحرب التي يتقدمها هذا الشعب المسلم العربي الذي مرت عليه السنون منذ ثلاثة أرباع القرن أو يزيد، وهو يعيش الاهتزاز السياسي والأمني والاقتصادي من خلال الاستكبار البريطاني الذي أعطى ((وعد بلفور)) لليهود بالاتفاق مع أكثر من دولة غربية وشرقية، وكانت المذابح التي أريد لها أن تهجّر الشعب الفلسطيني كمذابح كفر قاسم ودير ياسين وما إلى ذلك، حيث كانت تبقر بطون الحبالى، ويقتل الأطفال والشيوخ صبراً من أجل أن يشردّوا الفلسطينيين عن أراضيهم.

وهكذا كانت مأساة التشريد، وانطلقت الحروب العربية التي كانت أغلبها حروباً تمثيلية، فلم تكن حروباً حقيقية كما هي الحرب، بل كانت حروباً لا يملك المحاربون فيها أمرهم. ورأينا كيف اكتشفت الأسلحة الفاسدة، وكيف انطلق شعار ((ما كو أوامر)) وامتدت الحروب، ودخل الاستكبار العالمي أميركيا وأوروبيا وسوفياتيا. وسيطر اليهود على كامل فلسطين وما حولها، وكان الصلح والتطبيع هنا وهناك، وكانت المسألة في الواقع العربي أن أكثر العرب كانوا يريدون أن يتحرّروا من فلسطين لا أن يحرّروا فلسطين، لأن حرب فلسطين أتعبتهم ولم تتعب جيوشهم، ولذا كانوا مستعجلين لإرضاء أميركا، لأن الطريق إلى أميركا كانت تمر من ((إسرائيل))، هكذا قالت لهم أميركا، وهكذا صدّقوها.

مؤتمر مدريد:

وبدأوا يلهثون وراء الكيان الصهيوني هنا وهناك، وكلّ منهم يحاول أن يبرر لنفسه موقفه المتخاذل. ثم كان (مؤتمر مدريد) الذي شكّل أول هزيمة للعالم العربي، حيث أن إسرائيل لم تقبل أن يفاوضها العرب مجتمعين، بل ضغطت ومعها أميركا أن تفاوض كلّ بلد عربي على انفراد لتلعب على التناقضات العربية بين دولة ودولة، وتستفيد من نقاط الضعف العربية في هذه الدولة وفي تلك.

وهكذا عزلت الجامعة العربية فلم تعط حتى صفة مراقب، لأن الذين أعطوا صفة المراقب هما: ((الاتحاد المغاربي)) و((مجلس التعاون الخليجي)) ولا أدري ما علاقة هؤلاء بالقضية الفلسطينية!؟ وهكذا أفرز (مؤتمر مدريد) (إتفاق أوسلو) حيث جرى قطار الصلح سريعاً مع بعض البلدان العربية، في حين كان اتفاق أوسلو غامضاً يحتمل الكثير من التأويل حتى قال عنه المرحوم الرئيس (حافظ الأسد): ((إن كلّ مادة من مواده تحتاج إلى ألف حوار وحوار أو إلى مئة حوار وحوار)). لأنها كانت مواد غامضة ملتبسة على الأطراف المتفاوضة، ولذلك غرق الفلسطينيون في التفاصيل وما زالوا غارقين في تفاصيل اوسلو.

مسألة القدس:

وتحرّكت اللعبة من اتفاق إلى اتفاق، وراحت إسرائيل توقّع ولكنها لا تعطي الفلسطينيين شيئاً ذا بال، هكذا يتحدث الفلسطينيون على الأقل. حتى وصلت المسألة إلى ما يسمّى بالحلّ النهائي: ومن الطبيعي أن تكون مسألة القدس في الواجهة، لأنها تمثل قدس الأقداس لدى اليهود والعرب والمسلمين والمسيحيين أيضاًً، ذلك لأنها مهد الرسالات. ثم دخلت المسألة في أكثر من لقاء ولقاء ووصل الجميع إلى ((كمب ديفيد)) وكانوا يريدون للفلسطينيين أن يتنازلوا، ولكنهم كانوا قد أعطوا كلّ شيء حتى ورقة التوت فلم يبق لديهم ما يعطونه، ولذلك وقف الطرفان في خطين متوازيين: اليهود يريدون ((جبل الهيكل)) هكذا يسمّون منطقة بيت المقدس، لأنهم يزعمون أن هيكل سليمان يرقد تحت بيت المقدس، وهذا أمر لم يثبت تأريخياً. والفلسطينيون يقولون إنّ القدس كانت لنا، بل هي قدس المسيحيين والمسلمين معاً. لذلك فهي مسؤولية العرب كلّهم ومسؤولية العالم الإسلامي كلّه والعالم المسيحي كلّه.

الانتفاضة الفلسطينية الجديدة:

 وكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير ـ كما يقولون ـ هي زيارة المجرم الجزار ((إيرل شارون)) إلى بيت المقدس، ولم تكون المسألة مجرد زيارة، ولكن ((باراك)) المحاصر بأكثر من مأزق سياسي داخلي وخارجي استغل الفرصة، وكان هو الذي أعطى شارون حماية فوق العادة، حيث كان في حمايته أكثر من ألف جندي صهيوني مدجّج بالسلاح.

وهكذا بدأ باراك يقصف المدنيين والمصلّين، وانطلق الشعب الفلسطيني باللحم العاري ليواجه الدبابة والمدفع والصاروخ والطائرات، حتى أنّ الأمن الفلسطيني عندما دخل ليدافع عن المدنيين لم يكن يملك إلاّ الكلاشنكوف بل وأقل من ذلك، وكلّكم يعرف النتائج لأن الشهداء قد تجاوزوا المئة، وأما الجرحى ـ كما يقولون ـ فقد تجاوزوا ـ حتى هذه اللحظة ـ الألفين وما زالت الانتفاضة متفاعلة، ولعل من آثارها بالرغم من عمق المأساة التي تعيشها في كلّ هذه الدماء وكلّ هذه الآلام وكلّ صرخات الأطفال وكلّ هذا المشهد المأساوي الذي يقتل فيه طفل في أحضان أبيه وأبوه يشير إليهم أن لا تطلقوا الرصاص وهم يطلقون الرصاص بكثافة على الطفل(*). هذه الصورة التي هزّت العالم ولم يستطع الإسرائيليون إلاّ ان يقولوا إن ما حدث كان خطأ. ونحن نعرف أن اغلب جرائم الكيان الصهيوني التي تثير العالم تقابل بأنها كانت خطأ، وهكذا كانت مجزرة (قانا) خطأ بحسابات هذا الكيان.

قيمة الانتفاضة:

إن قيمة هذه الانتفاضة أنها استطاعت أن تعيد قيامة الشعب الفلسطيني، وأن توحّده، فالشعب الفلسطيني كان منظمات مختلفة ومتصارعة، ولكنّ هذا الشعب استطاع أن يعيد إنتاج وحدته تحت مظلّة الرصاصات التي تنطلق نحو صدور الأبرياء، ولذلك رأينا أن سلطة الحكم الذاتي تحوّلت إلى صف الشعب، وأصبح رجل الأمن الفلسطيني يحارب تماماً كما يحارب أي فلسطيني آخر. واستطاعت أيضاً أن تعيد إنتاج العالم العربي والشعوب العربية، فأصبحنا نرى أن هناك عالماً عربياً لا تفصله كلّ الحواجز الإقليمية، فالكل ينادي: فلسطين، والكل ينادي: اللّه أكبر، والكل يقول: الموت لإسرائيل. ونحن نعرف أن انتفاضة الشعوب العربية من الناحية الشعورية والسياسية أكبر من موقف الأنظمة، وربما كانت هذه الانتفاضة الشعبية في الوقوف مع المسجد الأقصى ومع الشعب الفلسطيني هي التي أجبرت كلّ هؤلاء الحكّام على أن يعطوا شيئاً ما، حيث أصبحت القضية - كلّ القضية - مجرد بيانات شجب واستنكار، والقضية كلّ القضية هي أن المستشفيات جاهزة فليقتل اليهود الفلسطينيين وليجرحوهم والمستشفيات جاهزة!!

هذا هو عالمنا العربي في أكثر من موقع، فنحن نحضّر المستشفيات لضحايانا ولا نحضّر الساحة

لأبطالنا، ولذلك فإن المسألة هي أن القضايا السياسية الكبرى تتحوّل عندنا إلى قضايا إنسانية: لا تتدخل في السياسة لأنه ممنوع على الشعوب أن تدخل في السياسة، إلاّ إذا كانت السياسة أن تتحرك شعارات الموافقة والتأييد في مصلحة كلّ حاكم.

العالم الإسلامي الجديد:

وقد أنتجت هذه الانتفاضة العالم الإسلامي الجديد. ففي البداية لم نسمع صوت الانتفاضة السياسية والشعورية إلاّ من الجمهورية الإسلامية في إيران، فإيران لا تزال الدولة الإسلامية الوحيدة التي لم تعترف بالكيان الغاصب للقدس لا اعترافاً قانونياً ولا دبلوماسياً ولا اعترافاً واقعياً، ولا تزال الدولة الإسلامية الوحيدة التي تساعد الفلسطينيين حتى الذين لا ينسجمون مع خطها الفكري والسياسي لأنها كانت تقول لهم: كلّ من يقف ضد اليهود فنحن معه ونساعده بكل شيء، وقد أثبتت ذلك. ونحن نعرف أن انتصار المقاومة الإسلامية في لبنان يرجع الفضل الأول فيه إلى أبطال المقاومة الذين هم فتية آمنوا بربهم وزادهم هدى، وكان لسوريا ولإيران الفضل الكبير في ذلك. وسمعنا أخيراً أن باكستان وماليزيا واندونيسيا تظاهرت، ولا ندري هل تكرّ المسبحة إلى كلّ الدول الإسلامية، أو أن اميركا تضغط وتضغط كما هي عادتها لتشلّ الأنظمة حركة شعوبها؟

ومن الطريف أنه عندما طرحت القمة العربية قالوا: موعدنا بعد عيد الفطر لأن رمضان على الأبواب ونحن نريد أن نستعد لرمضان، ونريد أن نصوم في رمضان، والصائم لا يتدخل في السياسة بل لابدّ أن يتفرّغ لربّه في دعائه وابتهاله، حتى إذا جاء عيد الفطر فإننا سوف نفطر على كلّ هذه الدماء،  وكلّ هذه الهزيمة، وكلّ هذا الذل والصغار، لأن أميركا تريد ذلك. وعندما شعروا أن هذا الموقف أصبح محرجاً أمام شعوبهم، وربما لأن أميركا شعرت بالمأزق أيضاً، إذ لم تستطع أن تفرض ما تريده في باريس ولذا تقدّم موعد القمّة.

ففي (شرم الشيخ) ربما شعرت أميركا أنّ القمة العربية يمكن أن تكون حلاً مهدّئاً، لأن الانتفاضة متواصلة وفي كلّ يوم هناك أكثر من شهيد وأكثر من جريح. وقالوا إنها سوف تعقد في آخر الشهر وسوف لن نسمع إلاّ قرارات الشجب والاستنكار فلن يبادر أحد إلى قطع العلاقات الدبلوماسية. وكنا نقول لهم: إن الدول التي تحترم نفسها إذا واجهت موقفاً محرجاً أو ضاراً لسياساتها فإنها تسحب سفيرها ولو للتشاور والتداول، ولم يسحب السفراء في هذه الدولة أو تلك، ولم يسحب ممثلو مكاتب التطبيع في أكثر من دولة خليجية، كما لو لم يكن هناك شيء.

هذه هي المسألة، وقد دعت إيران ((منظمة المؤتمر الإٍسلامي)) إلى عقد اجتماع لوزراء الخارجية باعتبار أن القضية الآن هي قضية انتفاضة الأقصى وهي تتصل بمقدسات المسلمين جميعاً، وحتى الآن لم يأت جواب من أية دولة عضو لأن منظمة المؤتمر الإسلامي عقدت اجتماعها في طهران بخلفية سياسية أميركية، لأن أميركا كانت تريد في بعض الحالات أن يصدر قرار بعنوان إسرائيلي لمصلحتها. ولذلك ميّعت القضية الفلسطينية عندما عقدت القمة في طهران التي اضطرت إلى القبول بالرغم من هشاشة القرارات، حتى لا يعلن فشل المؤتمر.

ربحنا أمّة موحّدة:

أيّها الأحبّة: إن هذا الحدث الكبير حتى لو انتهى إلى تجميد الانتفاضة، كما نلاحظ ان اللعبة السياسية تتجه إلى ذلك, وربما قال بعضهم إن البعض أطلق هذه الانتفاضة في بعض جوانبها لتكون انتفاضة التحرير، فنحن نراقب - في خوف وحذر - أن تصادر كلّ هذه المشاعر العربية واٍلإسلامية، ولكننا ربحنا عالماً إسلامياً موحداً، وعالماً عربياً موحداً، وموقعاً فلسطينياً موحداً. وقد انطلق المجاهدون في لبنان مساندة منهم للشعب الفلسطيني بعملية في مزارع شبعا وأسروا ثلاثة جنود يهود، وهددت إسرائيل بأنها ستقصف بيروت، وجاء الردّ سريعاً: سنقصف المستوطنات!! إذا أردتم أسراكم أطلقوا أسرانا، لأن هذا هو السبيل الوحيد الذي تفهمه إسرائيل لتحرير الأسرى، تماماً كما كان أسلوب المقاومة الطريق إلى تحرير الأرض.

أيّها الأحبّة: إنّ عندنا في هذا العالم الإسلامي، وفي كلّ هذا العالم العربي، جيلاً يعيش العنفوان، ولكن الذين يسيطرون عليه لا يعيشون هذا العنفوان ولا يرتفعون إلى مستواه، لأنهم يريدون ان يبقوا على مواقعهم. هذه هي المسألة، وعلينا أن نبقى  في الساحة حتى لو حوصرت الساحة، وأن نبقى من أجل أن نلبس لكل حرب لبوسها، وأن يبقى لنا الوعي السياسي حتى نفهم الأمور في خلفياتها وفي عمقها لا في السطح منها، وأن لا نُخدع، أو نُغَش، وأن نفهم طبيعة اللعبة السياسية واللعبة الأمنية.

أيّها الأحبّة: إنّ الوعي السياسي للحاضر والمستقبل ولكل من يتحرك في الحاضر والمستقبل هو جزء من التقوى، لأن التقوى هي أن تقوم بمسؤوليتك تجاه أمتك، وقد قالها رسول اللّه (ص) ((من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)). والاهتمام ليس نبضة قلب، وليس مجرد إرضاء ضمير ولكن أن نهتم فعلياً بأن نقدم طاقاتنا كلٌّ بحسب قدرته وكلٌّ بحسب طاقته، ويبقى النداء }وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسَِ{(1). القوي اليوم سوف يصبح ضعيفاً غداً والضعيف اليوم سوف يصبح قوياً غداً}قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{(2).

في ذكرى المولد العلويّ:

ونحن الآن نطلُّ على العنفوان كلّه، وعلى البطولة كلّها، وعلى العدل كلّه، وعلى الحق كلّه، وعلى العلم كلّه، وعلى الإنسانية كلّها، ونطل - بكلّ خشوع وانحناء على الشخصية العظيمة التي يحبّها اللّه ورسوله، لأنّها أحبّت اللّه ورسوله، تلك هي شخصية الكرار غير الفرار، شخصية الإنسان الذي كان مع الحق وكان الحق معه بشهادة رسول اللّه (ص) والذي كان باب مدينة العلم، والذي عاش ليقول للناس ((لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على  العلماء أن يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز)). وتلك الشخصية التي كانت تقول: ((لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين))(3). ليعيش المسلمون وليتوحّدوا وليسلموا وليتقوا وليتقدموا وينتصروا، فليست المشكلة عندي ذلك حتى لو كان الجور عليّ ((لم يكن بها جور إلاّ علي خاصة)). ذلك هو إمام المتقين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب(ع) الذي قال فيه ذلك الشاعر المسيحي وهو يتحدث عنه:

يا سماء اخشعي ويا أرض قري                            واخضعي  إنني  ذكرت  علياً

إننا نلتقي في ذكرى مولده، وذكرى مولد علي(ع) ليس بالزينات ننصبها في الشوارع ولا بالأهازيج نطلقها في المواقع، ولكن أن نولد بولادة علي(ع).. أن يولد عليٌ فينا قلباً ليكون لنا القلب الكبير الذي اتسع للإنسان كلّه، كما هو قلب علي(ع) الذي كان يقول لمالك الأشتر (رض) ((فإن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق))(4). انطلق في مسؤوليتك مع الإنسان كلّه لا تعطي العدل للمسلمين وتمنعه عن غير المسلمين، اعطِ العدل للناس كلّهم لأن تلك هي مسؤوليتك }وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا{(5). }اعدلوا{ حتى مع أعدائكم }هو أقرب للتقوى{، فإذا كان مع أعدائك حق تحتاج أن تولد في علي عاشق اللّه الذي أحب اللّه بما لم يحبّه أحد بعد رسول الله (ص) ((فهبني يا إلهي صبرت على عذابك)) لو عذّبتني وقطّعت جسدي وأحرقتني بالنار، فليست تلك مشكلة ولكن المشكلة هي: ((كيف أصبر على فراقك)). أنا معك يا ربّ في كلّ سبحات الليل وفي كلّ إشراقات النهار، أنا معك دائماً وأبداً وإذا قدّرت لي العذاب فسوف تحجب عني لطفك ورضوانك وسوف افترق عنك ((وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف اصبر عن النظر إلى كرامتك)). وقد عوّدتني - يا ربّ - كرامتك كلّها.

أن نولد في علي(ع) لنعشق اللّه ولنحب اللّه ولننفتح على رسول اللّه (ص) الذي كان علي نسخة منه، فهو نفسه عقلاً وهو نفسه قلباً وهو نفسه روحاً وهو نفسه رسالة وهو نفسه إنسانية وهو نفسه طاقةً }فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ{(6). وكان علي(ع) صورة نفس رسول اللّه (ص) منذ طفولته حيث كان يتغذّى من روح رسول اللّه (ص) باللقيمات التي كان يمضغها رسول اللّه ويطعمها له وهو بعد لم تنبت أسنانه وفي هذا الاحتضان الجسدي الحميم ((يضمني عرفه))، بحيث كان يتنشق عطر رسول اللّه (ص) في الروح لا في الجسد، وكان يتتلمذ عليه ((كان يلقي إلي في كل يوم خلقاً من أخلاقه وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه))(7).

لذلك لا يمكن أن تكون مع رسول اللّه (ص) إذا لم تكن مع علي(ع) لأنّ علياً اندمج برسول اللّه واندمج رسول اللّه معه اندماجاً تشعر فيه أن هناك روحاً واحدة في جسدين ((علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث ما دار))(8). ((علّمني رسول اللّه الف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب)).

أيّها الأحبّة: لا يكفي أن تكونوا مع علي(ع) كلمة، وأن تكونوا معه دمعة، وأن تكونوا مع علي بسمة، ولكن أن تكونوا مع علي رسالة. فقد روي عن الإمام الباقر(ع) وهو يتحدث عن خط التشيّع كما في (الكافي): ((أفحسب الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاه، ثم لا يكون فعّالاً، فرسول اللّه خير من علي، أفيكفي الرجل أن يقول أحب رسول اللّه ثم لا يعمل بسنّته))(9). فالخط واحدٌ ولم يفتح عليٌ دفتراً لحسابه الخاص ولا الرسول فتح لحسابه دفتراً، فالدفتر واحد وهو دفتر اللّه ((من كان ولياً للّه فهو لنا ولي ومن كان عدواً للّه فهو لنا عدو، واللّه ما تنالوا ولايتنا إلا بالورع)). وقالها علي(ع) ((ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد))(10). ساعدوني في رسالتي وفي خطي وفي الأهداف التي استهدفتها، ساعدوني في وحدتكم، ساعدوني في نظم أمركم، ((أوصيكم وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى اللّه ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم فإني سمعت رسول اللّه يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام))(11). هكذا يريدنا علي(ع) ((عليكم بالتواصل والتباذل وإياكم والتدابر والتقاطع لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيسلّط عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم)). هذا هو منطق علي، فهل تريدون أن تعرفوا علياً(ع)؟ إقرأوه في (نهجالبلاغة) واقرأوه في معركة بدر وأحد والأحزاب وحنين وفي كل موقف كان للإسلام فيه معركة فاصلة، وفي كل موقع كان فيه للإسلام قضية. وما زال
علياً(ع) بيننا يعطي ويعطي ويعطي ويعظ ويعظويعظ ويرشد ويشير إلى الطريق المستقيم ((ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم))
(12). وعندما أريدكم للّه فإني أعرف كيف أربّي أنفسكم؟ وكيف أنظّم حياتكم؟ وكيف أسير بكم إلى المحجّة البيضاء؟

علي(ع) الذي انفتح حتى على الذين أبعدوه عن حقّه وسمعنا من يقول ((لو لا علي لهلك عمر))(13). وسمعنا من يقول ((لا قضية ولا أبا حسن لها)). وسمعنا كل هذا الانفتاح على الواقع الإسلامي حيث كان علي يشعر بمسؤوليته في أن يحترم الإسلام وهو خارج الخلافة كما يحترمه وهو داخل الخلافة، لأن علياً(ع) كان يشعر أن دوره ليس فقط في أن يكون خليفة المسلمين في الجانب الإداري والسياسي، ولكن دوره هو أن يكون وصيّ رسول اللّه (ص) في الجانب الرسالي وهو أن يكمل حركة الرسالة وأن يثبّتها في العقول وفي القلوب.

أتريدون أن تكونوا مع علي(ع)؟ إنّ نداءه هو: كونوا مع الإسلام تجدوني هناك.. وكونوا مع الإٍسلام الحقّ والإٍسلام العدل والإسلام الروح فستجدوني هناك.

ونبقى نتطلّع إلى النجف الأشرف.. إلى علي(ع) ونقول له: يا أبا الحسن لقد طال الغياب فمتى تدعونا إليك؟ ومتى تطرد هؤلاء الذين تجمّعوا هناك عقارب وأفاعي؟ متى يا علي؟ لقد أصبحنا والشوق يحرقنا فأفض علينا بعضاً من ينابيعك، وبعضاً من روحك، وبعضاً من ألطافك مما يطفئ حرائقنا.

ويقول لنا علي(ع) وهو يقرأ القرآن }أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا{. وقد عشنا الزلزال }حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ{(14).

ونبقى مع علي(ع) ومع رسول اللّه (ص) ومع الإسلام، نولد في علي(ع) وبذلك نولد في رسول اللّه وفي الإسلام . والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة السادسة عشرة16رجب 1421 ه14تشرين الثاني 2000م

 

 

 

من مدرسة الإمام علي(ع)

 

 

 

*  بها نعرف اللّه ورسوله والقرآن، وبها نعرف كيف نقود الحياة إلى اللّه *

 
 

 

وضوح الرؤية.

الذهنيات الغوغائية.

الموقف في الفتنة.

ما هي الفتنة.

نصرة المظلومين.

ليعلّم المسؤول نفسه أولاً.

الأنبياء والأوصياء أمثلة عليا.

أفضل أسلوب للمخالطة.

اكتساب الإخوان والتفريط بهم.

درس علي(ع).

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

وضوح الرؤية:

ونبقى مع أجواء ذكرى مولد الإمام علي أمير المؤمنين(ع) لندخل إلى مدرسته، ولنتعلّم منه مفاهيم حركتنا في الحياة، لأنّ علياً(ع) في كلماته كلّها كان يريد للإنسان أن يعيش في وضوح من الرؤية لكلّ مفردات حركته في الحياة، بحيث أنه عندما يدخل في أي موقع من المواقع أو يخرج منه، فلابدّ أن ينطلق من قاعدة ومن مفهوم واضح وهو أن لا يتحرّك من خلال مزاجه، لأن المزاج الشخصي غالباً ما ينشأ من تعقيدات ومضاعفات البيئة التي يعيش فيها الإنسان، ولعلّ هذا من الأمور التي يعرفها كلّ إنسان عندما يرجع إلى نفسه. ونحن فيما نحب وفيما نبغض وفيما نؤيّد وفيما نرفض وفيما نتحرّك فيه في بيوتنا وفي نوادينا وفي مجتمعاتنا نجد أننا في الغالب لا ننطلق من خط إسلامي فكري واضح، وإنّما من خلال المؤثرات النفسية والثقافية والاجتماعية التي غالباً ما تكون غرائزية، وبذلك كانت حركتنا في كثير من شؤون السياسة والاجتماع وحتى في الدين حركة لا تنطلق من وضوح في الرؤية للمفهوم الإسلامي الذي يفترض أن نلتزمه التزامنا بالإسلام.

الذهنيات الغوغائية:

ولعلّ ما يواجهه المصلحون في أمتنا سواء كان ذلك على صعيد الإصلاح الديني أو السياسي أو الاجتماعي هو أنهم يصطدمون بهذه الذهنيات التي قد يحسبها أصحابها ذهنيات إسلامية ولكنها في الواقع ذهنيات غوغائية، قد تتحرك في موقع غوغائي هنا وآخر هناك، لذلك كنّا نؤكّد دائماً على أن نتثقف إسلامياً بحيث ننطلق من المصادر الإسلامية الأصيلة ليكون الإنسان مسلماً من موقع ثقافة أصيلة منفتحة واعية لا من حالة غرائزية أو حالة غوغائية. ولعلّ هذا هو ما أراده الإمام أمير المؤمنين(ع) من خلال تقسيمه للناس:

((الناس ثلاثة: فعالم رباني)). يملك العلم الذي يأخذه من مصادره الأصيلة التي تتصل باللّه في عملية توثيق في المصدر، وعملية تدقيق في الدلالة، فهو لا يتحرك إلاّ من خلال دراسة دقيقة لما يطلقه من علم بحيث يضمن سلامته من التحريف ومن الزيادة والنقصان ((ومتعلّم على سبيل نجاة)) وهو الإنسان الذي يسير في مدارج العلم من أجل أن ينجو بعلمه الذي يملأ عقله، ويعيش في قلبه، ويتحرك في حياته، بحيث ينطلق على أساس أن ينجو من خلال السير على الطريق المستقيم. والإنسان الذي يتعلّم على سبيل نجاة لا على سبيل تضخيم شخصيته، ولا على أساس المتاجرة بالعلم ليعظم في نفوس الناس، أو يبتزّ أموالهم بل يطلب العلم ليركّز حياته على أساس من النور وينتهي بها على أساس من النور، لأن حركة الأنبياء في الواقع الإسلامي، وحركة القرآن في الثقافة الإسلامية تتلخص في كلمة واحدة }يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ{(1). فدور الإسلام في الثقافة القرآنية والثقافة النبوية أن يجعل لك نوراً في عقلك فيخرجك من الظلمات التي تفرض نفسها على العقل، وأن يجعل لك نوراً في قلبك فيجعله ينطلق في عمليتي الإحساس والشعور من نور لا من ظلمات الغرائز.

وهكذا عندما يتحرك في الحياة فإنه يكون على نور من ربه من خلال أنه استهدى كتاب إلهه وسنّة نبيه ((وهمج رعاع)) هؤلاء الذين لا يملكون العلم الذي يزنون به الأمور فلا هم يملكون علم الشخصية العالمة ولا هم يملكون علم الشخصية المتعلّمة، بل إنّهم يتحرّكون من خلال مؤثرات مشاعرهم وأحاسيسهم ولا يتحرّكون فكرياً لأنهم لا يملكون الفكر، ولكنّهم يتحرّكون شعورياً وانفعالياً، ولذلك فإن الصراخ الذي قد ينطلق في ساحاتهم يدفعهم إلى أن يتبعوه، وأن الرياح التي تأتي من هنا وهناك تجعلهم يميلون مع كلّ ريح ((لم يستضيئوا بنور الحق)). لأنّهم لم ينطلقوا من موقع ثقافة الحق ووعي الحق ((ولم يلجأوا إلى ركن وثيق)) فلم يرتكزوا على قاعدة قوية ثابتة بحيث يستطيعون أن يستندوا إليها فيما يأخذونه أو فيما يدعونه.

الموقف في الفتنة:

على ضوء هذا أيّها الأحبة: نحن هنا لنتعلم من أمير المؤمنين(ع) ولا سيما في كلماته القصار التي تمثل كلّ واحدة منها مفهوماً يشمل أكثر جوانب حياة الإنسان إنّ لم يكن كلّها.

في الكلمة الأولى من كلماته القصار في (نهج البلاغة) يقول: ((كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيجلب))(2). ابن اللبون هو ولد الناقة الذي يبلغ السنتين حيث لا يزال طرياً فليس لديه ظهر يقوى على الركوب عليه ليستفيد منه الإنسان مركباً، وليس له ضرع ينتج الحليب ليستفيد منه الإنسان غذاءً.

إن الإمام(ع) يقول ضع أمامك ابن اللبون عندما تتحرك الفتنة، كن مثله في الفتنة فلا تدعنّ أحداً من أهل الفتنة يستغلّك ليصل إلى أغراضه على حساب ما تعطيه من قوة، ولا يستفيد منك أحد من أهل الفتنة كما يستفيد الإنسان من الحليب الذي يحتلبه من الضرع، كن كما لو كنت لا تقوى أن تحمل أحداً على ظهرك ولا تستطيع أن تعطي أحداً من طاقتك.

ما هي الفتنة:

وهنا نصل إلى السؤال التالي: ما المراد بالفتنة؟

يذكر بعض شرّاح النهج أن الفتنة هي صراع فريقين من أهل الباطل فلا تعطي هذا شيئاً من طاقتك ولا تعطي ذاك، بل كن حيادياً أمام الباطلين عندما يتصارعان، دعهما يتصارعان ليضعف بعضهما البعض وليضعف الباطل بضعفهما وتكون النتيجة لصالح الحق. وربما يفسّرها البعض بأن الفتنة هي التي لا يتبيّن فيها وجه الحق من الباطل بحيث يكون الصراع في دائرة الضباب فلا تستطيع أن تعرف هل هما مبطلان أو أن أحدهما محق والآخر مبطل؟ ولا تقدر أن تميّز المحق من المبطل. إنَّ الإمام(ع) يقول إذا لم يكن لديك وضوح في الرؤية فيما هو الحق وما هو الباطل فلا تمل إلى أحدهما حتى يتبين لك وجه الحق، بحيث لا تكون المسألة مسألة فتنة بل مسألة حق واضح هنا وباطل واضح هناك. هنا عليك أن تكون مع الحق ضد الباطل.

وفي كلا الحالين أو على كلا التفسيرين نخرج بنتيجة أن على الإنسان أن لا يدخل في أية ساحة صراع لا يملك وضوح الرؤية فيها، هل تلتقي مع مبادئه ومع أفكاره؟ وهذا ما نستوحيه من بعض الكلمات المأثورة عن الذين يظلّهم اللّه تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل لم يقدّم رجلاً ولم يؤخّر أخرى حتى يعلم أن ذلك للّه رضاً))(3). فلا تتحرك في أي موقع من المواقع مهما كان قريباً قرابة نسب أو قرابة محور أو قرابة صداقة أو قرابة مصلحة إلاّ بعد أن تعرف أنك تتحرك في مسارك هذا في الطريق إلى اللّه. ومن الطبيعي إننا على ضوء هذا التفسير نخرج أيضا بنقطة مهمة وهي أن على الإنسان عندما تتحرك الفتنة التي لا يبدو فيها وجه الحق من الباطل أن لا يجلس على التل، بل يحاول أن يدرس ويتابع البحث ليعرف أين الحق وأين الباطل حتى يكون مع الحق ضد الباطل.

ولكن مسؤوليتك عن سلامة المجتمع الإسلامي وعن الحق الذي يجب عليك أن تدعمه يفرض عليك أن تبحث وان تفتش لتتضح لك الأمور من موقع وعي، ومن موقع وضوح الرؤية. هذه هي آفاق المسألة في هذه الكلمة.

وقد نلتقي بكلمة أخرى للإمام علي(ع) تعيش في الأجواء التي تقترب من هذه الكلمة، فقد قيل له عن قوم اعتزلوا القتال معه عندما كان يقاتل بصفين، فقال الإمام(ع) ((إنّهم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل))(4). فالإمام هنا يتحدّث عن الحياديين بين الحق والباطل. وفي رواية أخرى تحدث عن شخصين من الصحابة وهما (عبد اللّه بن عمرو) و(سعد بن أبي وقاص) الذين اعتزلا الحرب فقال ((أنّهما خذلا الحق ولم ينصرا الباطل))(5).

إنّ هذه الكلمة توحي بانّ الإمام يريد أن يقول عندما تكون المعركة معركة حق وباطل فلا يجوز للإنسان أن يكون حيادياً بحجّة أنه لا ينصر الباطل، لأن مسؤوليتك ليست هي أن لا تنصر الباطل بل مسؤوليتك أن تكون مع الحق وأن تؤيد الحق وتقف معه، لأنّ الناس إذا اختاروا في ساحة الصراع بين الحق والباطل أن يكونوا حياديين فإن معنى ذلك هو أن يضعف عدد أنصار الحق، لأن الذين يخذلون الحق على قسمين: المعادين للحق والذين يخذلونه الذين يقفون على الحياد، ولذلك ورد في الحديث عن رسول اللّه(ص) فيما روي عنه ((الساكت عن الحق شيطان أخرس)). لأنك عندما تعي الحق فإن الحق يعني مسؤوليتك، ولذلك فإنك عندما تسكت عنه وان كنت تزعم انك مع الحق في وجدانك العقيدي فمعنى ذلك أنّك تعيش شيطنتك، لأنك تريد أن تحمي نفسك من أعداء الحق بأن تسكت عن الحق وبذلك تبرر لنفسك كما يبرر الشياطين لأنفسهم.

مثل هذا الأسلوب نجده في واقعنا الاجتماعي، ألا يصادفك في الحياة من يقول: ((أنا ما حكيت وليس لي دخل، أنا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء))؟ فعندما يكون هؤلاء على الباطل وأولئك على الباطل فقد تكون المسألة معقولة، ولكن عندما يكون أحدهما على الحق والآخر على الباطل فكيف يمكن أن تكون حيادياً، إنّ الذين يقفون على الحياد بين الحق وبين الباطل، يعني بين ما يعتقدون أنّه الحق هنا وأنه الباطل هناك، هؤلاء يعطون الباطل قوة سلبية لأنك كلّما منعت الحق قوّة، فإن معنى ذلك أنك أضعفت الحق وجعلت الباطل يقوى عليه لأنه سوف يملك قوة لا يملكها الحق لأن الذين يؤمنون بالحق لم يقفوا معه. ونحن نعرف أن هؤلاء الأشخاص الذين اعتزلوا القتال كان يعلمون أنّ علياً مع الحق مما سمعوه من رسول اللّه (ص) الذي كان يقول على مسمع كلّ الأصحاب ((علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث ما دار))(6). وكانوا يعرفون حتى في موازينهم، أي في موازين الواقع الذي عاشه المسلمون في قضية الخلافة، فإذا كانت الخلافة الشرعية هي في بيعة المسلمين لشخص ما كما يدّعون، وإنها ليست بالنصب والتعيين كما نقول، فإن علياً(ع) هو الخليفة الشرعي بحسب هذه الموازين، لأن معاوية لم يكن يملك موقعا شرعياً، وإذا كان يطالب بدم عثمان فإنّ علياً(ع) حاوره في هذا المجال، وقال له لماذا لم تنصره في حياته؟ ثم إذا كنت أنت ولي الدم فالقضية تخضع لمحاكمة، لندرس ما هي ظروف هذه الثورة؟ ما هي دوافع القتال؟ هل هناك شخص معين أو ليس هناك شخص معين قام بذلك؟ أم أنّك تحمّلني ذلك، وقد حاولت أن أنقذه ولم استطع.

نصرة المظلومين:

لهذا، أيها الأحبة: نفهم من علي(ع) في كلمتيه هاتين، أولاً: أن علينا أن لا ندخل في أية معركة إذا لم يتضح لنا وجه الحق فيها، والكلمة الأخرى هي أن علينا أن لا نكون حياديين في صراع الحق والباطل إذا عرفنا موقع الحق وموقع الباطل. وقد قالها علي(ع) في موقع آخر، في آخر وصية له لولديه الإمامين الحسنين(ع) قال ((كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً))(7). لأن الحق هو مع المظلوم في ظلامته ضد الظالم، فلا تكن حيادياً بين الظالم وبين المظلوم أياً كان الظالم وأياً كان المظلوم، حتى لو كان الظالم مسلماً وكان المظلوم غير مسلم.. قف مع المظلوم غير المسلم ضد الظالم حتى لو كان مسلماً لأن اللّه لا يريد للمسلمين أن يظلموا الكافرين فيما لهم من حق إذا كان لهم حق، لأن العدل في المفهوم الإسلامي لابد أن يكون للناس كافّة.  وقد يثار سؤال هنا: إذا كان هناك باطلان، وكان أحدهما أكثر خطورة على الواقع الإسلامي وعلى الإسلام من الآخر، فهل يجوز لنا أن نندفع لنقوّي الأقل خطراً.

على الأكثر خطراً في القاعدة العامّة ليس لك أن تنصر الباطل حتى على باطل آخر، لكن لابدّ لنا أن ندرس المصلحة الإسلامية. فإذا كانت هذه الخطورة تمثل أهمية في القضايا الإسلامية بحيث أنه لو انتصر هذا الباطل القوي أو الباطل الخطر على ذلك الباطل الأقل خطورة لكانت كارثة على الإسلام، بينما لو انتصر الباطل الآخر فلا يكون هناك إلاّ مشكلة خفيفة وعند ذلك يدخل المسلمون الصراع معه بما لا يكلّفهم عناءً كبيراً، وربما يؤدي انتصار الأخطر إلى خطورة كبيرة على القضايا الحيوية أو المصيرية للإسلام في هذه الحال، فهنا يجوز بل قد يجب على المسلمين الوقوف مع هذا الباطل ضد الباطل الأكبر. وهذا هو الذي يجعل منهج السياسة الإسلامية منهجاً واقعياً، فلو أننا ونحن الآن نعيش مشكلة الصراع ضد الصهيونية العالمية التي تمثلها (إسرائيل) أو ضد الاستكبار العالمي الذي تقوده أميركا، وكان لدينا في الواقع الإسلامي أكثر من تيار يمثل الباطل في العقيدة أو الباطل في الشريعة أو الباطل في السياسة مما نتفق معه ولا يتفق معنا في كثير من أصولنا وكثير من خطوطنا ومن مفاهيمنا فإننا نعمل على أن نلتقي معه مرحلياً وندخل الصراع معه ضد قوة العدو الأخطر كالكيان الصهيوني الذي يستغل الخلاف في داخل المجتمع الإسلامي بين العلمانيين وبين الإسلاميين ليهزم الواقع الإسلامي كلّه، ولمّا كان هؤلاء العلمانيون الذين نختلف معهم يحاربون (إسرائيل) فإننا في مثل هذه الحالة نقف مع عدوه في الحرب ضد إسرائيل ونجمّد الخلاف، ولا أقول نلغيه، ولا نعترف بان باطلهم حق، ولا نتنازل عن حقنا، بل ندرس العدو الأخطر لنتفق معهم في جبهة وفي تحالف أو في أي صورة من صور التنسيق، حتى إذا هزمنا العدو الأخطر تفرّغنا للصراع معه بأية وسيلة كانت.

وهذا من الأمور التي تفرضها القاعدة الشرعية التي تقول: إذا دار الأمر بين المهم والأهم فعليك أن تغلّب الأهم على المهم، لأن المصلحة في تحقيق الأهم أخطر من المفسدة الموجودة في المهم، وهذا ما يسمّى بـِ (باب التزاحم).

وهذا ما نستوحيه في الواقع الإسلامي، حتى أننا في الساحة الإسلامية نعرف أن المسلمين يختلفون مذهبياً، فهم يلتقون في قضايا ويختلفون في أخرى. وعندما تنشب معركة بين الإسلام وبين الكفر سواء على مستوى العقيدة أو على المستوى السياسي أو على مستوى الأمن، فإن علينا أن نكون مع المسلمين، وأن نجمّد كلّ الخلافات إذا كانت هذه الخلافات تضرّ بالمعركة الإسلامية الواحدة، حتى نتمكن من الانتصار على الكفر وعلى الاستكبار ثم نرجع في حل خلافاتنا على أساس }فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ{(8).

ليعلّم المسؤول نفسه أولاً:

ثم يتحدث الإمام(ع) من خلال بعض المفاهيم التي تخصّ الواقع التوجيهي والتبليغي، فيقول: ((من نصّب نفسه للناس إماماً)). بحيث يجعل نفسه في موقع المسؤولية العليا، سواء على مستوى القيادة الدينية أو القيادة السياسية أو القيادة الاجتماعية، بمعنى أن الناس يأتمّون بك فيما تقودهم إليه ((فليبدأ بتعليم نفسه)). حاول قبل أن تكون إماماً للناس أن تكون إماماً لنفسك كن سيد نفسك في معنى مسؤوليتك.. اخضع نفسك لخطّ المسؤولية الذي تدعو الناس إليه في قيادتك لهم، حتى تكون شخصيتك تجسيداً لذلك الخط ((وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه)). أي حاول أن تربّي نفسك بحيث تتحرّك سيرتك في خطّ مبادئك، ليجد الناس عندما تتحرك معهم أنّ سيرتك تنطلق بالفكرة قبل أن ينطلق لسانك بها.. أي أن تكون التجسيد العمليّ لها. ((ومعلّم نفسه أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم)). فمن يعلّم نفسه وهو في خطّ تحمّل المسؤوليات أفضل من الذي يعلّم الناس ويؤدّبهم مع إغفاله نفسه من التعليم والتأديب، ومن هؤلاء الذين قال اللّه عنهم }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ{(9).

الأنبياء والأوصياء أمثلة عليا:

ولعل عظمة الأنبياء(ع) وعظمة رسول اللّه (ص) والأئمة الهداة من أهل بيته(ع) أنّهم كانوا يمثلون القرآن الناطق، باعتبار أنّ آيات القرآن ليس لها لسان يطلق الصوت، ولكن رسول اللّه (ص) وأهل بيته(ع) كانوا يجسّدون القرآن بحيث أنّ الناس كانوا يستمعون الآية من فم النبي (ص) فتدخل في آذانهم، وكانوا يرون الآية متجسدة في سيرته فتدخل في كيانهم. وقد قال بعض المفكرين لو أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن كتاباً مذهّباً مزخرفاً وقال للناس: اقرأوه لم يتبعه أحد ولم يقرأه أحد، ولكنّ الله كان ينزّل القرآن وكان رسول الله (ص) يتحرّك بالقرآن في حياته، ولذلك كان القرآن في سيرة رسول الله (ص) هو الذي يجعل الناس ينجذبون اليه، فعندما كان يحدّثهم عن الأخلاق كانوا يرون الأخلاق متمثلة في سيرته، يمشي وتمشي أخلاقه معه، ويعيش معهم وتعيش أخلاقه معه }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ{(10) . }لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{(11).

وقد سُئلت إحدى زوجات النبي (ص): ((صفي لنا أخلاق رسول اللّه)). وقد عشتِ معه وقتاً طويلاً، فقالت: ((أطنب أم أوجز؟ فقالوا لها: أوجزي، فقالت: كان خلقه القرآن)). إقرأوا أخلاق النبي (ص) في آيات القرآن كلّها، فسوف تعرفون أخلاقه فيها، لأنّه ما من خلق أنزله الله تعالى في آية إلاّ وتجسّد في النبي (ص). فاللّه سبحانه وتعالى لم يخاطب الناس في إطاعة الرسول (ص) فيما يأمرهم به وينهاهم عنه بالكلمة، بل قال لهم }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا{(12).

من هنا، فإنّ الإمام يقول لكلّ الذين يضعون أنفسهم في موقع المسؤولية، سواء كانت المسؤولية مرجعية دينية أو سياسية أو اجتماعية، إنّ عليهم أن يؤدّبوا أنفسهم بكلّ مفردات المسؤولية قبل أن يخرجوا إلى الناس ليمارسوا المسؤولية بينهم، لأنّ عليهم أن يؤدّبوا الناس بسيرتهم قبل أن يؤدّبوهم بلسانهم، ذلك لأنّ القدوة تحقّق من النتائج ما لا تحققه الكلمة، وهذا أمر يعيش في التجربة الإنسانية في مواقعها كلّها بأنواعها كلّها.

أفضل أسلوب للمخالطة:

ويحدّثنا الإمام أمير المؤمنين(ع) في كيفية مخالطة الناس، هل تتحرك في معاشرتك للناس من موقع مزاجك؟ على طريقة بعض الناس الذين يقولون: هذا هو طبعي فمن قبل بي فبها ومن لم يقبل فله ذلك، فلست مستعداً لمجاملة أحد أو مدارة أحد. أي أنّ بعض الناس يحاول أن يفرض نفسه ومزاجه على المجتمع بحيث ينفّر المجتمع منه، ولا أقصد بذلك أن لا يقول الإنسان الكلمة الحق، قل الحق الذي تؤمن به ولكن قله بالطريقة التي لا تنفّر الناس منك }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{(13). }وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ{(14).

يقول الإمام(ع) ((خالطوا الناس مخالطة إنْ متّم بكوا عليكم وإن عشتم حنوّا إليكم))(15). فعليك أن تخطّط في مخالطتك للناس بأن تربح قلوبهم، لأنّك إذا ربحتها انفتحت لك عقولهم، وهذا ما نلاحظه في كثير من أتباع المبادئ الضالّة حيث يسيطرون على الناس من خلال صداقتهم بانطلاقهم بكلّ بشاشة ورحابة صدر واحتضان ورعاية للآخر، إنّهم يعودونه في مرضه ويساعدونه في حاجاته الاجتماعية حتى يجذبوه إليهم، فإذا جذبوه عاطفياً فعند ذلك تكون الطريق ممهّدة لأن يجذبوه فكرياً أو سياسياً.

ولذا فإنني أدعوكم إلى اتباع هذا الأسلوب لتفتحوا قلوب الناس عليكم لتنفتح بالتالي عقولهم إليكم، فحتى عندما تريد أن تقول كلمة الحقّ قلها بطريقة لطيفة محبّبة إلى النفوس، وإذا قابلت الناس قابلهم بوجه منبسط، فلقد أراد الإسلام للمسلمين أن يلقوا الناس مبتسمين، فلقد كان من صفات رسول الله (ص) أنّه كان دائم الابتسام، في حين أننا نرى بعض الناس يظنّون أنهم بتجهّمهم يفرضون الهيبة على الناس فتراه }عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا{(16). والبعض من الناس إذا رأى شخصاً منحرفاً لا يسلّم عليه ولا يبتسم له، في حين أنّ مسؤوليتك إزاء المنحرف أن لا تقاطعه دائماً وإنّما أن تهديه، فالنبي (ص) كان قد ابتلي بالمشركين في مكّة وبالمنافقين في المدينة ومع ذلك كان يلقاهم بصدر رحب من أجل أن يقنعهم بالابتعاد عن الشرك وعن النفاق. فالإنسان صاحب الهدف لا يتحرّك بمزاجه وإنما بهدي رسالته، وهناك فرق بين أن تخلص لمزاجك وبين أن تكون إنساناً يخلص لرسالته، فعندما تخلص لمزاجك فإنّ معنى ذلك أنّك تريد أن تفرض نفسك على الناس وهم ليسوا مضطرين إلى أن يتحمّلوا ذلك منك، بل إنّ من حقّهم أن يرفضوك.

أمّا إذا كنت مخلصاً لرسالتك فعليك أن تعرف ما هو أفضل الأساليب لإقناع هؤلاء الناس برسالتك، فقد يكون شخص كافراً شديد الكفر تتلقاه بالأحضان حتى تجذبه إليك وتقنعه بالاستماع إليك، وقد يتكلّم شخص بأقذع الكلام عليك وأنت تقابله بكلام ليّن لتغيّر موقفه، وأئمتنا(ع) هداتنا في ذلك، حتى أن الإمام الحسن(ع) كان راكباً ذات يوم على بغلته وحوله أصحابه وإخوانه وأبناؤه وأهل بيته ومرّ شخص شاميّ وسأل: من هذا؟ فقيل له: هذا الحسن بن علي ابن أبي طالب(ع) فبدا يسبّه ويشتمه ويشتم أباه بدون مناسبة، حتى سار إليه المحيطون بالإمام(ع) ليقتلوه، لكن الإمام(ع) نهاهم قائلاً: رويداً، والتفت إلى الشاميّ بكلّ وداعة وابتسام، وقال له: ((أظنّك غريباً))، أي أنّك خاضع لغسيل دماغ كما يقال هذه الأيام من خلال ما سمعته من أعدائك في بلادك، ((فإن كنت جائعاً أطعمناك، وإن كنت عطشاناً سقيناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت فقيراً أغنيناك، يا غلمان اذهبوا به إلى المنزل فأحسنوا مطعمه ومشربه وملبسه))، فذهبوا به والرجل لا يصدّق ما يرى ويسمع، ولكنه بعد أن دخل بيت الإمام(ع) وأكرموه تطلّع إلى البيت الرسالي فوجد الخلق العظيم وحسن الوفادة، فخرج وهو يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته، فمن أين جاء ذلك الانعطاف في الموقف؟ إنّ الإمام(ع) لو قال لأصحابه أدّبوه، أو اقتلوه لكان تخلّص منه بأيسر السبل، ولكن ما هي النتيجة؟ كان الإمام(ع) بفعله ربما قد خسر هذا الإنسان، لكنّه بأسلوبه الحكيم الطيّب والطلّة الرحيمة المؤنسة ربح صديقاً، فربما كان الإمام(ع) قد درس المسألة ورأى أن هذا الشخص مغرّر به، وإلاّ فلا مشكلة بينه وبين الإمام(ع) ولذا حاول أن يصحّح له فكرته. فبعض الناس قد يسبّونك وهم يتقرّبون بذلك إلى اللّه تعالى، لأنّهم سمعوا كلاماً لم يتحرّوا الحقيقة فيه فجعلهم يشعرون بأنّك على الباطل، ولذلك فعلى منْ ابتلي بهذا أن يصبر عليه حتى تنجلي للآخرين الحقيقة.

اكتسابالأخوان والتفريط بهم:

وفي هذا الاتجاه هناك كلمة للإمام(ع) يقول فيها: ((أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأخوان)). فالعاجز هو الذي لا يملك العقلية والذهنية والأسلوب والوسائل الأخلاقية التي يستطيع من خلالها أن يكتسب الأصدقاء، والعجز هو عجز الحركة الإنسانية في كيانك ((وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم)). وهو ذاك الذي اكتسب الأخوان، لكنه وبسبب من سوء خلقه ومزاجه ضيّعهم.

درس علي(ع):

أيّها الأحبة: إنّ علياً(ع) يريد لنا أن ندخل قلوب الناس لندخل إلى عقولهم، ويريد لنا أن نعيش في مجتمع تنفتح فيه القلوب والعقول وتزال فيه الحواجز .. مجتمع يحترم فيه الإنسان الإنسان.. مجتمع يحاول الإنسان فيه أن يجمع الناس على خطّ اللّه ورسوله وأهل بيته .. وقد ورد في حديث الإمام الصادق(ع) إلى شيعته ((حبّبونا إلى الناس)). بكلّ الوسائل التي تجذب الناس إلى خطنا ومدرستنا.

ونحن نعرف أنّ لغة السباب واللعن والأساليب السلبية تنفّر الناس وتخلّف ردود فعل سلبية أيضاً، فليست المسألة أن فلاناً يستحق السبّ أو لا، بل ما هي النتائج السلبية الناجمة عن ذلك؟ ولذلك قال اللّه تعالى }وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ{. حتى في الدائرة غير الإسلامية }فَيَسُبُّوا اللَّهَ{. فالفعل يخلق ردّ فعل }عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ{(17).

هذه هي بعض كلمات الإمام علي(ع) وقد قلت لكم أكثر من مرّة، إنّ علينا أن ندخل عقل عليّ(ع) وأن ندخل قلبه وأن ندخل آفاقه كلّها، فكلّ كلمة قالها(ع) بما يفتح عقول الناس على الحقّ وعلى الحياة هي بمنزلة ضربته لعمرو بن عبد ودّ وضربته لمرحب، لأنّ تلك الضربة عالجت قضية في تلك المرحلة وإن امتدت آثارها بعد ذلك، ولكنّ كلّ كلمة حكمة، وكلّ انطلاقة علم، وكلّ تجربة صائبة تبقى مع الإنسان أبد الدهر لتعلّم كلّ جيل كيف يمكن أن يسير إلى اللّه ومع اللّه وفي سبيل اللّه؟

وتبقى مدرسة علي(ع) مع الزمن كلّه والتي لابدّ لنا أن نتعلّم منها دائماً لأنّها مدرسة الإسلام ومدرسة رسول اللّه (ص) ومدرسة القرآن.. بها نعرف اللّه وبها نعرف رسوله، وبها نعرف القرآن، وبها نعرف كيف نقود الحياة إلى اللّه؟ والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

المحاضرة السابعة عشرة23 رجب 1421 ه21تشرين الثاني 2000م

 

 

 

في ذكرى استشهاد الإمام موسى بن جعفر(ع)

يوم الأسير العالمي

 

 

 

*بعض الناس ربما يبكون على الإمام الكاظم(ع)، ولكنهم يقتلون ألف كاظم وكاظم ولو في مستوى الواحد في المائة *

 

 

 

في ذكرى استشهاد الإمام الكاظم(ع).

كاظم الغيظ.

العلاقة مع الله.

الواقعية السياسية.

يوم الأسير العالمي.

مأساة الإسلام.

العقل عند الإمام الكاظم(ع).

 

 

 

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

 

الحمد للّه ربِّ العالمين. والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ذكرى استشهاد الإمام الكاظم(ع):

نلتقي هذه الأيام بذكرى استشهاد الإمام السابع من أئمة أهل البيت(ع) الإمام موسى الكاظم(ع)؛ هذا الإمام الذي إذا قرأناه في تراثه كلِّه، فإننا نجدُ أنّه ككلِّ أئمَّة أهل البيت(ع)، لم يترك جانباً من جوانب حركة الإسلام إلاّ وأولاه اهتماماً، سواء ما يتعلّق بعقل الإنسان أو بقلبه أو بسلوكيّات حياته، بما يعمّق له الخطَّ المستقيم في حركته في الحياة.

هذا الإمام الذي لا بدّ للناس من أن يقرأوه في هذا الأفق الواسع الممتدّ في عالم المعرفة، والذي يربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى، ويربط الإنسان بالإنسان، ويربط الإنسان بمسؤوليته عن الحياة كلّها، فلا يكون مجرَّد شخصٍ يعيش في سجن ذاته، ولكنه يشعر يأنّه لا بدّ من أن يعيش في حجم العالم كلّه، لينمّي طاقاته بالمستوى الذي يستطيع أن يكون فيه عالمياً، لأنّ الله تعالى أرادنا أن نقتدي برسول الله(ص) في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب/21)، وقد كان رسول الله(ص) في رسالته إنسانياً عالمياً؛ كان يفكّر في الناس كلّهم، وكان يريد أن يؤسلم العالم كلّه.

ولا بدّ لكلّ مسلم من أن يعيش هذا الأفق، فلا يحبس نفسه في ذاته ولا في عائلته ولا في وطنه ولا في قوميته، بل يعيش إنسانيته في معنى الإنسان {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، فالله سبحانه وتعالى لا يلغي خصوصيتنا {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات/13)، وتبقى التقوى هي الأساس الذي يتفاضل الناس فيه.

كاظم الغيظ:

هذا الإمام الذي عاش رحابة الأفق في خلقه، فكان يحسن إلى من أساء إليه، ويعفو عمّن اعتدى عليه، ويتَّسع صدره حتى ليحضن أعداءه، ليعلّمهم كيف يحبّ الإنسان الإنسان بقطع النظر عن التعقيدات التي يمكن أن تتحرك هنا وهناك. كان(ع) يواجه الغيظ من كلّ الذين لا يحترمون إنسانية الإنسان، ومن كلّ المستكبرين في الأرض، والذين يعيشون على أساس الحقد والعداوة والبغضاء، ويعملون على أساس الحقد والعداوة والبغضاء، ويعملون على أن ينفّسوا عن حقدهم ضدَّ الطيّبين، لكن الإمام(ع) كان يكظم غيظه، فلم يتحرّك بردّة فعل سلبية، بل كان لديه فعل من نوع آخر، فلقد كان القوم يسيئون إليه، وكان يحاول أن يعطيهم درساً في معنى الإحسان، ودرساً في معنى العفو، ولذلك سمّي كاظم الغيظ.

علاقته(ع) مع الله:

 كان(ع) الإنسان الذي يعيش مع الله سبحانه وتعالى بأعلى الدرجات، فقد كان الله حاضراً في عقله، فليس في عقله مكانٌ إلاّ لله، وكان الله حاضراً في قلبه، فقلبه كلُّه عرشٌ لله، وكان الله حاضراً في حياته، فكانت حياته للرسالة كلّها، وكان يعيش اللذة باللقاء بالله، ولذلك كان يطيل السجود، وكانت سجدته تمتدُّ من الصباح إلى الزوال، ومن الزوال إلى الغروب، ولم تكن سجدة تقليدية، ولكنّها كانت سجدة يرتفع من خلالها بروحه إلى الله عزّ وجلّ، فيناجيه ويلبّيه ويدعوه ويعطيه الحبّ كلّه، فكان يقول فيما مضمونه: «اللهم إني طلبت منك أن تفرّغني لعبادتك وقد فعلت فلك الحمد». وبذلك فإنّه كان العاشق لربّه، يحبّه، يناجيه، يتحدَّث معه، وكان يكرِّر في سجوده: «اللهمَّ إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب». وليس هناك ذنب يستغفر الله منه، ولكنه تواضع جمٌّ لله، لأن عبودية الإمام(ع) كعبودية آبائه وأبنائه، ارتفعت إلى المستوى الذي اندفع فيه مع الله في كلِّ معاني الذوبان به.

ولأنه أحب الله في أعلى درجات الحب، وأطاعه في أرحب مواقع الطاعة، وجاهد فيه حقَّ جهاده؛ بالكلمة والموقف والمجابهة، فقد انطلق ليتحدى. وانفتح المسلمون عليه، حتى شعرت الخلافة بأنّ موقعه في المسلمين يهدّددها، ولم يكن يتحرك بثورة، ولكنه كسائر الأئمة من أهل البيت(ع)، كانت ثورتهم أن يغرسوا الوعي في عقول الناس، وأن يعرِّفوهم أن معنى أن تكون مسلماً، أن تقلع كل عاطفة للظالمين في نفسك، حتى لو كانت المسألة تتعلق بمصلحتك؛ أخرج الظالمين من دائرة مشاعرك كلّها، حتى لا يبقى أي مجال للظلم أو تأييد للظلم فيه.

الواقعية السياسية:

فلقد حدَّث الإمام(ع) أحد شيعته (صفوان الجمال) الذي كان يؤجِّر جماله لهارون الرشيد في الطريق من المدينة إلى مكة، وقال له: «كل شيء منك حسن إلا إكراءك جمالك من هذا الرّجل. فقال صفوان: والله، ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصّيد ولا للّهو، ولكن أكريته لهذا الطريق... ـ يعني طريق مكّة ـ قال(ع): أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراك؟ قال صفوان: نعم، قال(ع): فمن أحبَّ بقاءهم فهو منهم». وهذا هو خطُّ الوعي الذي انطلق به أئمة أهل البيت(ع) في تعميق رفض الظلم في نفوس المسلمين، وهذا ما نستوحيه في أنَّنا عندما نعيش في أجواء الظالمين ـ أياً كان الظالمون ـ فإن علينا أن نعيش البراءة منهم؛ البراءة في العقل بأن ترفضهم عقولنا المرتكزة على الحق، والبراءة في قلوبنا بأن ترفضهم لأنّها مملوءة بالعدل، والبراءة في حياتنا حتى لا نساعدهم في شيء إلا في مواقع الاضطرار، وذلك هو معنى أن تعمّق الثورة في وجدان الناس، فالثورة ليست انفعالاً وليست صراخاً ولا مغامرةً، وإنّما تنطلق فكرةً وتتحرك خطّةً وتنفتح على الأهداف من موقع عقلاني.

وكان الإمام(ع) ينهى بعض أصحابه عن التَّعاون مع الظالم، ويؤكّد للبعض الآخر أن يتوظّفوا عند السلطة الظالمة لأنها كانت أمراً واقعاً، وكان المؤمنون يحتاجون إلى الكثير من الخدمات ودفع الضرر، ولذلك كان الإمام يزرع في كلّ المواقع أشخاصاً يوجّههم لخدمة المؤمنين وإنقاذهم والابتعاد بهم عن ظلم الظالم، وكانت سياسة الإمام الكاظم(ع) سياسة واقعية، فلم يكن سلبياً بالمطلق من موقع عقدة، ولم يكن إيجابياً بالمطلق، بل كانت مصلحة الإسلام والمسلمين هي الأساس عنده، فكان سلبياً عندما تقتضي المصلحة الإسلامية أن يؤكّد السلب، وكان إيجابياً عندما تقتضي هذه المصلحة الإيجاب.

منهج الإمام علي(ع) السياسي:

وهذا ما سار عليه الأئمَّة(ع) اقتداءاً بأبيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) عندما قال: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة»، سواء كان المسلمون ممن يتمذهبون بمذهبه، أو ممن لا يتمذهبون به، فنحن نعرف أن أغلب الناس في مرحلة ما بعد وفاة الرسول(ص) وقبل خلافة علي(ع)، لم يكونوا في خطّ علي(ع)، بل كان بعضهم ممن أبعد علياً(ع) عن خطّ الخلافة، ومع ذلك، فإنّ علياً(ع) لم يكن ينظر إلى هذا الشخص كيف ظلمه، وإلى ذلك كيف أبعده، بل كان ينظر إلى ما تقتضيه مصلحة الإسلام في الواقع، وهذا ما يجب أن نتعلّمه في الساحات الإسلامية كلّها، فإذا حلّت بالمسلمين، سواء كانوا من مذهبنا أو من غير مذهبنا، كارثة، بحيث إن الإسلام أضحى معرَّضاً لهجمة في أهله وأرضه واقتصاده وسياسته، فإنّ علينا أن نقف مع المسلمين، ونهدم الحواجز التي بيننا وبين أبناء المذاهب الأخرى من أجل مواجهة الخطر الداهم، وأن لا نفكّر طائفياً وإنّما إسلامياً. وقد قلت أكثر من مرّة إنّ المطالبة بالوحدة الإسلامية لا تعني أن يكون السنيّ شيعياً أو أن يكون الشيعي سنيّاً دون اقتناع، بل ليبق كلّ منهم على مذهبه من وجهة نظر فكرية، ويجري الحوار على أساس قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}(النساء/59)، وذلك بأن لا يحمل المسلم عقدةً ضدَّ أخيه المسلم. وهذا ما يجب أن نتعلّمه من الإمام أمير المؤمنين(ع) الذي تعلّمه من كتاب الله ومن رسوله.

وهكذا كان الإمام الكاظم(ع)، فلقد كان واقعياً في سياسته، وكان يدرس الواقع، فينظر إلى مصلحة المسلمين في هذا الأمر أو ذاك، وهو ما ينبغي أن نقوم به أيضاً، خصوصاً أنّنا نعيش في واقع سياسيّ تهتزّ فيه الأرض من تحت أقدامنا، فالاستكبار العالمي في تحالفه مع الكفر العالمي، قد أعلن الحرب على الإسلام كلّه، وعلى الإسلام كلّه أن يبرز إلى الكفر والاستكبار كلّه، ولنتذكر كلمة النبي(ص) في وقعة الخندق عندما قال: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»([69]). فلقد كانت قوة الإسلام مجتمعةً في علي(ع)، وقوة الشرك مجتمعةً في عمرو بن عبد ودّ، ولذلك كان انتصار أحدهما انتصاراً لخطّه، وعندما انتصر علي(ع) قال النبي(ص): «ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين»([70]). ونحن نعرف لو أن عمرو بن عبد ودّ في ذلك الوقت تغلّب على علي(ع)، لاندفع جيش الأحزاب الذي جاء من أجل أن يصفّي الإسلام في المدينة، بحيث لا يُبقي منه شيئاً، ولذلك فإن هذه الضربة التي تمثّل انتصار الإسلام على الشرك، تعدل عبادة الثقلين، لأنّه لولاها لما انطلق الثقلان في عبادتهما لله ربِّ العالمين. ولذا فإن ابن تيميّة في اعتراضه على هذه الرواية لم يكن يفهم مغزاها.

يوم الأسير العالمي:

وفي هذا الجوِّ الكاظميّ، كان الإمام(ع) القريب إلى الله، وكلّنا نعرف أنّه باب الحوائج إلى الله، وأنّ الكثيرين من الذين توسّلوا إلى الله به في قضاء حوائجهم استجاب الله دعاءهم، لأنّه عَبَدَ الله تعالى كما يجب أن يعبد، وأطاعه حقّ طاعته، وأحبَّه كأفضل ما يكون الحبّ بين العبد وربّه. وقد أعطى حياته كلّها لله، حتى أدخل إلى السجن وعاش فيه أربع سنوات، وكانت من أقسى الفترات عليه، وكان (هارون الرشيد) يخافه وهو في السجن، ولذلك ينقل أن (السنديّ بن شاهك) جمع سبعين أو ثمانين من وجوه بغداد وشخصياتهم ليزوروا الإمام(ع)، وكانوا في شوقٍ لزيارته، فقال لهم: انظروا إلى موسى بن جعفر، فهو موسَّع عليه، وهو صحيح الجسد لم يضرب ولم يجلد ولم يتعرّض لأذى، وكان يخطِّط لأخذ البراءة من خلال شهادة هؤلاء أن الإمام(ع) سليم معافى، وأنه لم يضطهد جسدياً ولم يقتل، بل إن السندي قال لهم إن الرشيد ينتظر الفرصة كي يحاوره ويناظره، كأنّ الاعتقال هو اعتقال ثقافي، ولكن الإمام(ع) لم يترك له هذه الفرصة، فقال لهم: «أمّا ما ذكر من التوسعة وما أشبه ذلك فهو على ما ذكر، غير أني أخبركم أيّها النّفر أنّي قد سُقيت السمّ في تسع تمرات، وإني أخطر غداً وبعد غد أموت، ولكنّي صحيح الظاهر». ويقال إن السندي اصفرّ وجهه واهتزّ. وكان الإمام(ع) يكتب إلى الرشيد وهو في الحبس قائلاً: «إنّه لن ينقضي عنيّ يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرّخاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون».

وهكذا، فقد كان الإمام موسى بن جعفر(ع) الأسير الشهيد، وقد اقترحت في سنوات سابقة أن نتَّخذ يوم استشهاد الإمام الكاظم(ع) يوماً للأسير ـ وما أكثر أسرى المسلمين ـ فليكن يوم وفاة الإمام الكاظم(ع) (يوم الأسير العالمي) ليتذكّره الأسرى ويتذكّره أهله.

مأساة الإسلام:

هذه هي بعض ملامح صورته في الوجدان، ونحن نحاول، كما هي طريقتنا في منهج التعامل مع سيرة أهل البيت(ع)، أن لا يكون ذكرنا للأئمة(ع) في جوّ المأساة فقط، ولقد عاشوها في حياتهم وفي مماتهم، ولكن المأساة لم تكن شخصيةً، وإنّما كانت مأساة رسالية، فقد عذّب الأئمة(ع) وسجنوا واستشهدوا لأنّهم ساروا في خطِّ الإسلام الحقّ، وقد قالها أبوهم أمير المؤمنين(ع): «ما ترك الحقُّ لي من صديق»، وقالها الإمام الحسين(ع): «هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله».

لذلك، فإنّ علينا عندما نثير مأساة الأئمة(ع)، أن لا نبكي عليهم في داخل الذات فقط وإن كانت الجوانب الإنسانية مما تُجري الدموع مدراراً، وإنّما علينا أن نبكي أيضاً على الإسلام وعلى الواقع الإسلامي الذي حكمه هؤلاء الطُّغاة الّذين نفّذوا تلك المآسي التي يندى لها جبين الإنسانية، حيث إنّهم قتلوا أولياء الله، واضطهدوا عباده الصالحين الذين هم في مستوى القيادة للإسلام والمسلمين. فعندما تذكرون أئمَّة أهل البيت(ع) في مآسيهم، اذكروا مأساة الإسلام، وعندما تذكرون مأساة الإسلام، لا تستغرقوا في تلك المأساة في التاريخ، ولكن اذكروا مأساة الإسلام في الحاضر، وفكّروا في عدم تمكين الطغاة من اضطهاد السائرين على خطِّ الإمام الكاظم(ع) وخطّ آبائه وأجداده، لأنّ بعض الناس ربّما يبكون على الإمام الكاظم(ع) ولكنهم يقتلون ألف كاظم وكاظم ولو في مستوى الواحد في المائة، ويبكون على الإمام الحسين(ع) ولكنهم يبايعون ألف يزيد ويزيد... فقيمة الدموع هي أن تكون حارّة تحرق قلبك وتلهب إرادتك وتحرّك حياتك، أمّا دموع الخنوع والذل، فإنّها تماماً كدموع عمر بن سعد التي كانت تنحدر على لحيته المشؤومة عندما سمع نداء زينب(ع)، ولكنّه كان يتطلّع إلى ملك الري، وكان يقول: «اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى».فكم من أمير نطلب أن يشهد لنا الناس عنده بأنّا سجنّا مؤمناً وقتلنا مؤمناً واضطهدنا مؤمناً وشوّهنا صورة مؤمن وما إلى ذلك؟ وكم لدينا من عمر بن سعد يبكي ولكنّه يقتل الحسين(ع)؟ وكم لدينا من أمثال هؤلاء الذين كانوا يسلبون بنات الإمام الحسين(ع) ودموعهم تنحدر على خدودهم ليقولوا إنّنا نخاف أن يسلبكنّ أناس آخرون قساة؟ كم لدينا من هذه العقليات؟

أيّها الأحبّة: إنّ الأئمَّة(ع) انطلقوا من أجل الإسلام، حتى إنّه يروى عن علي بن الحسين(ع) أنّه قال: «أحبّونا حبّ الإسلام»، لا حبّ الذات، لأنّهم يجسّدون الإسلام حركة وفكراً ومشاعر، فلا بدّ من أن تتمثلوا الإمام الكاظم(ع) عندما تعيشون في ذكرى وفاته.

العقل عند الإمام الكاظم(ع):

وفي كتاب (أصول الكافي)، هناك رسالة من الإمام الكاظم(ع) في وصية له لصاحبه هشام بن الحكم، يؤكّد فيها دور العقل، ويستعرض فيها الآيات التي تحدَّث الله سبحانه وتعالى فيها عن العقل، وكيف يربط بين العقل والعلم، وبين الطاعة لله والانفتاح عليه. ولعلّ هذه الرسالة هي من أكثر الرسائل تفصيلاً وتعظيماً لدور العقل في حياة الإنسان، وقد اقتطعت بعض الكلمات منها، ويمكن مراجعتها في كتاب أصول الكافي ج1 ص110.

«يا هشام، إنّ لكل شيء دليلاً» يدلُّ عليه، وعلاقة توحي به «ودليل العقل التفكّر». هل لديك عقل؟ قد تدّعي أنّ لك عقلاً، ولكن ما هو دليلك على أنّ لك عقلاً عندما تفكّر في كلّ ما يعرض عليك في جانب العقيدة والشريعة وحركة الحياة؟ عندما تفكّر فلا تجمّد فكرك ولا تستعر فكرك من أحد، بل أعمل فكرك لتدلّل على أنّ لك عقلاً، لأنّ العقل في دوره ومعناه يميّز بين الخطأ والصواب، وبين الحسن والقبيح.

«ودليل التفكّر الصَّمت»، لأنّ الفكر لا يتحرّك في الضَّوضاء وفي الصَّخب، بل يحتاج إلى مناخٍ هادئ تتحرّك فيه الأفكار بوضوح وموضوعية، ولذلك، فإنّك عندما تكون الإنسان الذي يغلب عليه الصّمت، لا صمت العيّ والعجز، ولكن صمت التفكير، فإنّ ذلك دليل على أنّك تفكّر، أمّا المهذار الذي يتكلّم ويتكلّم من دون أية ضوابط بحيث لا يكون له مجال للتفكير، فمن الصَّعب أن نعطيه صفة العاقل.

«ولكلِّ شيءٍ مطيّة، ومطيَّة العقل التَّواضع»، لأنَّ التكبّر يعني أنّك لا تفهم نفسك، ولا تعرف ميزانك، ولا تستطيع أن تدرس موقعك مقارناً بمواقع الآخرين، والتكبّر يعني أنّك لا تعرف نقاط ضعفك، فيدفعك غرورك إلى تصوّر نقاط الضعف قوّة، وذلك هو الجهل كلّه؛ فأن تتواضع، يعني أن تزن نفسك بميزان إنسانيتك، وأن تعرف مقدارك ومقادير الناس حولك، وأن تجلس لتتواضع لله، فتشعر بأنّ كلّ ما عندك من الله، وأنّك لا تملك في نفسك شيئاً من نفسك، بل كلّه من الله سبحانه وتعالى، فكيف تتكبّر؟!

«وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه»،أي أن تعمل على ارتكاب المحرَّمات، لأنّ المحرّمات تمثِّل الأفعال التي تختزن في داخلها الفساد في عقلك أو في جسدك أو في حياتك أو في موقفك، وأيَّ عقل أو علم يبرِّر لك أن تفعل ما يفسد حياتك؟ إنّ وعي الإنسان لحياته ومسؤوليَّته عن طاقاته كلّها، هو أن لا يحرّكها في طريق الفساد، بل في طريق الصَّلاح.

«يا هشام، ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله». فكلّ الرسل وكلّ الرسالات جاءت من أجل أن تفتح عقول النَّاس على الله في وجوده وتوحيده وربوبيته، وفيما أراد منهم ونهاهم عنه، ولذلك كانت دعوة الأنبياء(ع) تختصر في كلمة واحدة {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(الأعراف/59)، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}(فصِّلت/30). فإذا عقلت عن الله فقد عرفت كلّ شيء يتَّصل بمسؤوليّتك، لأنَّ الله تعالى هو أساس وجودك، وهو أساس وجود العالم، وهو الحكيم الذي جعل لكلِّ شيء قدراً، وهو الَّذي ألهم كلَّ نفسٍ هداها. فإذا عرفت الله عرفت نفسك، وإذا عرفت نفسك عرفت مسؤوليتك، وإذا عرفت مسؤوليتك عرفت كلّ مفردات حياتك وحياة الناس من حولك. ولذلك جاء في القرآن: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}(الحشر/19).

«فأحسنهماستجابةً أحسنهم معرفةً»، فالَّذي يستجيبُ لله أكثر ويطيعه أكثر ويتبعه أكثر هو الذي يعرفه أكثر {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}(فاطر/28) الذين يعرفون الله أكثر.

«وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجةً في الدنيا والآخرة»،لأنّ العقل يهديك تعرّف كلّ ما يتَّصل بالله في ربوبيته لك وللكون، فكلّما كنت أعلم بأمر الله، دلّ على أنّ عقلك استطاع أن يتَّسع في رحابة أفقه إلى المستوى الذي يعرف فيه ربَّه، وما أراد منه، وبذا يرفع الله درجة الإنسان بمقدار عقله. ولذا ورد: «ركعتان يصلِّيهما العالم خيرٌ من عبادة سنة يصلّيها العابد»، لأنَّ الله يثيبُ المرء على قدر عقله. وقد سبق أكثر من مرّة أن ذكرت لكم قصَّة العابد الذي كان يعبد الله في جزيرة، وكيف أن أحد الملائكة لاحظ أن أجره دون مستوى عبادته، فترك الله له أن يصحبه ليرى حقيقة أمره، فتبيّن أن عقله صغير، حيث كان يرى كلّ شيء على ما يرام، ما عدا حاجة الجزيرة إلى حمار يبعثه الله ليأكل من حشائشها، فأوحى الله إلى الملك أنّي أثيب الإنسان على قدر عقله. ولذلك فكلما اكتمل عقل الإنسان كان ثوابه أكثر، لأنّ العبادة ليست جسماً، ولكنّها روح، وروح العبادة المعرفة.

«يا هشام، إنّ لله حجتين: حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأما الباطنة فالعقل»،حتَّى ورد في بعض الأحاديث، أنّ «الرسول عقل من خارج، والعقل رسول من داخل».

«يا هشام، إنّ العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره»، أي عندما يأخذ بالحلال بكلّ ما فيه من لذّات وشهوات، فإنّ ذلك لا يلهيه ولا يشغله ولا يستغرقه بحيث ينسى شكر الله على ذلك، بل إنّ كلّ نعمة ينعم الله بها على العاقل، يؤدّي شكرها ليعرف حقّ الله عليه، وبذلك تزداد نعم الله عليه.

«ولا يغلب الحرام صبره»، فصبره فوق الحرام، وهو الذي يحجزه عن ارتكاب المحرَّمات، لأنَّ عقله يتغلَّب على غريزته، فيحول بينه وبين الوقوع في الحرام.

«يا هشام، من سلَّط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكّره بطول أمله». فالإنسان الذي يطول أمله في الدُّنيا، يفقد إشراقة عقله، لأنَّ العقل عندما يدرس سنن الله في الخلق، فإنه يدرك أن طول الأمل لا يمثل الحقيقة، خصوصاً أن الأمر ليس بيد الإنسان، وإنما هو بيد الله سبحانه وتعالى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}(لقمان/34). ثم إنَّ الإنسان الذي يطول أمله، قد يؤجِّل حلَّ القضايا والمشكلات، ولا يفكر فيها في مواقعها، وربما تكون الفرصة متاحة له اليوم بما يمكن أن لا تتاح له غداً.

«ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه». فقد يتكلَّم الإنسان كلاماً لا ضرورة له، ولا يتصل بحاجاته المعرفية والواقعية والعملية ومسؤولياته في الدنيا والآخرة، فيفقد بذلك الحكمة في حياته، لأن الحكيم هو الذي يتكلم بحسب الحاجة والمسؤولية، ولا يتكلَّم بفضول الكلام مما هو في غنى عنه.

«وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه». فعلى الإنسان أن يعيش تجارب الآخرين، سواء الماضية أو الحاضرة، ليأخذ منها العبرة والدرس، أما الإنسان الذي يستسلم للشهوات فلا يأخذ العبرة، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، «ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه».

«يا هشام، كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك». فأنت تعيش وقلبك معلّق بالدنيا وشهواتها وأطماعها، فكيف يزكو عملك؟ لأنَّ العمل إنما يزكو بالإخلاص والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه.

«وأطعت هواك على غلبة عقلك»(1). واتبعت هواك حتى تغلَّب على عقلك، فصرعه وصار مقوداً بدلاً من أن يكون قائداً.

ونختم بحديث للإمام(ع) الكاظم: «عن يونس بن عبد الرحمن قال: قلت لأبي الحسن الأول ـ الإمام الكاظم(ع) ـ بمّ أوحّد الله؟». أي ما هو الأسلوب وما هو المنهج الذي يمكن اعتماده في توحيد الله سبحانه وتعالى؟ لأنّ التوحيد ليس مجرد فكرة في العقل، وإنّما هو حركة في الواقع، بأن تتحرّك مع الله سبحانه وتعالى في حياتك كلّها، ولا تتحرّك مع غيره، ولذلك كانت دعوة كلّ نبي من الأنبياء(ع): {اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(النحل/36). فهذا هو التوحيد.

«فقال يا يونس، لا تكوننّ مبتدعاً». أي لا تبتدع شريعةً في غير ما جاء به كتاب الله وسنّة نبيه، «من نظر برأيه هلك». أي من استقلَّ برأيه مستغنياً عن القرآن وعن السنّة فهو هالك، لأنّ رأيه مهما احتوى من علم، فإنّه لا يقدر على معرفة عمق المصلحة والمفسدة، بل الله تعالى هو الذي يعلم ما يصلحك وما يفسدك {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}(الملك/14).

«ومن ترك أهل بيت نبيّه فقد ضلّ»، لأنّ النبيّ(ص) قال: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». «ومثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى».

«ومن ترك كتاب الله وقول نبيِّه كفر»، لأنَّ كتاب الله وقول النبي(ص) واحد، ولأنَّ كلام النبيّ هو وحي الله، لأنّه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى *إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم/3-4). فالإيمان هو في خطِّه العمليّ أن تطيع الله ورسوله فيما أمراك به ونهياك عنه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب/36).

أيّها الأحبّة، علينا أن نعيش هذا الأفق العقلانيّ الواسع الذي يتحرك فيه خطُّ الطريق إلى الله في كتاب الله وسنّة نبيّه وحديث أوليائه، فتعالوا حتى نفهم الأئمة أكثر، ونعيش معهم أكثر، وحتى تكون الولاية ولاية الموقف والخطّ والنهج، لا مجرَّد ولاية نبضة القلب وخفقة الشعور ودمعة العين. يقول الباقر(ع): «من كان ولياً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع».

والسَّلام على الإمام الكاظم(ع)، وعلى آبائه وأبنائه، والسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً. نسأل الله تبارك وتعالى أن يشملنا بشفاعته، وأن يقضي حوائجنا للدنيا والآخرة ببركته، وأن يفرّج عن كلّ المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وأن يكشف هذه الغمّة عن هذه الأمّة، ببركة دعائه... يا سيدنا اشملنا ببركة دعائك وشفاعتك.

 

 

والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة الثامنة عشرة1شعبان 1421 ه28تشرين الثاني 2000م

 

في ذكرى المبعث النبوي

المسؤولية الرسالية

 

 

*  الرسالة الإسلامية مسؤولية كلّ الأجيال التي جاءت بعد الرسول(ص)*

 

 
 
 

في ذكرى المبعث.

معاشرة الناس.

النبي(ص) لم يطّلع على الكتب السابقة.

البدايات الأولى للإسلام.

المسؤولية الرسالية.

معالم المرحلة المعاصرة.

صناعة الأمّة المسؤولة.

أين هي الأمّة؟

كيف نحتفل بالمبعث؟

 
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

في ذكرى المبعث:

مرّت علينا ذكرى المبعث النبوي الشريف ومعها، حسب بعض الروايات، ذكرى الإسراء والمعراج. ونحن أمام هذه المناسبة الإسلامية لابدّ لنا أن نعيش وعي المناسبة بأن نندفع إليها وننفذ إلى العمق من أبعادها، ولا نكتفي بالوقوف على السطح، كما نفعل ذلك في احتفال هنا ومهرجان هناك وزيارة لا نعيش مضامينها هنا وهناك.

إنّ المبعث يمثل بداية الرسالة التي بلّغها النبي(ص) بعد بلوغه أربعين سنة ربّاه اللّه فيها حتى يكون الإنسان الكامل في روحانيته وفي إخلاصه لربه وفي كلّ وعيه للواقع من حوله. ولقد كان النبي(ص) يتأمّل في غار حراء، وكان يفكّر، وكان يعيش مع اللّه ولكنه كان لا ينفصل عن مجتمعه، بل كان يعيش في قلب المجتمع الذي رأى فيه الشخصية التي لم يختلف عليها اثنان. وقد كان مستودع أماناتهم كما كان موضع الثقة عندهم في كلّ ما يتكلّم به، ولذلك كانوا ينادونه بالصادق الأمين بدلاً عن اسمه لأنه عاش معهم في كلّ معنى الصدق وفي كلّ امتداد الأمانة، وكان الصدق والأمانة عنده يمثلان العنوانين اللذين يولي بهما الآخرين الثقة، فقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) وقد قال لبعض أصاحبه ((إني أريد أن أكون قريباً إليك، أثيراً عندك، فماذا أفعل حتى أكون كذلك؟ قال له أنظر إلى ما بلغ به علي من المنزلة عند رسول اللّه فافعله فإنّك بذلك تكون قريباً عندي، فإنّ علياً بلغ ما بلغ من المنزلة عند رسول اللّه بصدقه وأمانته، فقد كان الصادق الأمين كما كان رسول اللّه الصادق الأمين)).

معاشرة الناس:

وحدثنا الإمام علي (ع) في خطبة له في (نهج البلاغة) أن رسول اللّه هو الذي ربّاه على أخلاقه كلّها ((وكان يلقي إلي في كلّ يوم خُلقاً من أخلاقه، وكنت اتبعه اتباع الفصيل أثر أمه))(1). وهكذا عاش النبي(ص) تأمّلاته وانفتاحه على الحياة دون أن تفصله عزلته للتأمل عن حركته في الواقع الاجتماعي، وهذا درس نتعلّمه من رسول اللّه(ص) قبل أن يبعث بالرسالة وبعد أن بعث بالرسالة، وهو أنّ على الإنسان الذي يريد أن يعيش مع اللّه أن لا يجعل عيشه مع اللّه مبعداً عن المجتمع، بل أن يعيش مع المجتمع من خلال القيم التي تتمثل فيها روحانيته في اللّه، فاللّه سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يعرفه، وأن يتعبّد له، وأن ينفتح عليه من أجل أن يتعمّق إحساسه بالمسؤولية في حركة الحياة، واللّه سبحانه وتعالى لا يريد للإنسان أن يهرب من المجتمع، بل يريد له أن يدخل في قلب المجتمع وأن ينضبط في حركته داخل المجتمع، لأن الذين ينعزلون عن المجتمع بحجّة أنهم يريدون أن يبعدوا أنفسهم عن الإغراء هؤلاء يسقطون أمام أية تجربة للإغراء.

أما الإنسان الذي يعيش في قلب المجتمع ويفكّر في اللّه وهو في ساحة الحركة فإنّه سوف يخضع علاقته بالمجتمع للخط المستقيم، وقد قال الشاعر:

ليس البطولة أن تموت من الظما                   إنّ  البطولة  أن  تعبّ  الماءا

فكلّ إنسان يستطيع أن ينتحر بالامتناع عن الأكل والشرب، ولكنّ هذه ليست بطولة، إنّما البطولة أن تشرب الماء ولا تختنق، وأن تعيش داخل الحياة وتعمل في وسط المجتمع وأن تنزل إلى ساحة الصراع شريطة أن تبقى في الخط المستقيم. لذلك فإنّ الذين ينعزلون عن المجتمع ولا يشاركون في مسؤولياته لا يلتزمون الخط المستقيم، وهذا هو الدرس الذي نتعلّمه من رسول اللّه(ص) فيما ألهمه اللّه به في حركته في الحياة قبل الرسالة.

النبي(ص) لم يطّلع على الكتب السابقة:

ونحن نقرأ في القرآن أيضاً أن النبي(ص) قبل نبوته لم يكن قد اطلع على أي كتاب من الكتب التي أنزلها اللّه سبحانه وتعالى على رسله، كما لم ينزل اللّه عليه أي كتاب، ولم يدخله في تفاصيل الإيمان من الشريعة، لأن تلك المرحلة كانت مرحلة صياغة شخصية رسول اللّه(ص) وذلك بأن يتمتع بصفات الرسول من دون رسالة. وهذا ما يحدثنا عنه القرآن الكريم في البداية }وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ{(2). فهو لم يقرأ كتاباً، ولم يره الناس يقرأ أي كتاب، ولم يكتب كتاباً بحيث يمكن أن يتهمه الناس بأنه كتب هذا الكتاب أو ذاك الكتاب. ولذا علّل اللّه ذلك على أنه ليس مسألة جهل في الرسول كما هو الإنسان الذي لا يقرأ ولا يكتب، بل هو المُرسَل الذي يملأ العلم عقله وقلبه، ولكنّ ذلك لم يكن عن قراءة، ولم يكن عن كتابة، ولكنه كان عن وحي }وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا{(3). }وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{(4).

حتى أن النبي(ص) لم يكن يفكّر في تلك المرحلة أن ينزل اللّه عليه كتاباً وأن يوحي إليه بالرسالة  }وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ{(5). ونهض بالرسالة ولم يتحرّك المشركون في البداية ضده، فلقد كانوا لا يشعرون بالخطورة من ذلك، لأنّ النبي(ص) كان يتدرّج في الرسالة. ويقال في كتب السيرة أن النبي(ص) كان يطلق التوحيد في البداية ولم يتعرّض لسبّ آلهتهم وأصنامهم، بل كان يعطي التوحيد العقيدي، وكانت قريش لا تؤمن بإلهين، وإنّما كانوا يؤمنون بإله واحد، فلقد كانت بقايا الحنيفية الإبراهيمية عالقة في وجدانهم لاسيما وأنّ قريش التي كانت تقود المنطقة كانت من نسل إبراهيم (ع) وكانوا يكتبون في وثائقهم (باسمك اللّهم) وكانوا لا يعتبرون الأصنام آلهة بالمعنى الفكري للآلهة. وكانوا يعتقدون أنّ هذه الأصنام تملك أسراراً خفية عظيمة بحيث تجعل لهم المنزلة عند اللّه مما يجعل التقرّب إلى الأصنام كأنه وسيلة من الوسائل التي تقرّبهم إلى اللّه زلفى.

البدايات الأولى للإسلام:

ولذلك كان المسلمون في البداية لا يواجهون اضطهاداً. ويقال في السيرة أن النبي(ص) هو الذي بدأ بالمواجهة، فراح يتحدّث عن الأصنام بشكل سلبيّ، وهنا اندفع القوم لاضطهاد المسلمين الذين دخلوا في الإسلام، وكانوا يمثّلون مجتمعاً صغيراً في مكّة، وحاصروا بني هاشم عندما رفض هؤلاء أن يقفوا ضد رسول اللّه(ص). وهكذا استشهد من استشهد من المسلمين، وهاجر من هاجر منهم، وبقي رسول اللّه(ص) يدعو في مكة من دون أن يأذن للمسلمين بالقتال، وربما كانوا يملكون أن يقاتلوا وان يربكوا المجتمع المكيّ آنذاك، ولكن اللّه سبحانه وتعالى أراد لرسوله(ص) أن لا يبدأ القتال آنذاك، لأن المرحلة كانت مرحلة الدعوة التي تفرض أن يستفيد النبي(ص) من موقع مكة الجغرافي، لأنها كانت بلد الحج وعاصمة الثقافة المتمثلة في (سوق عكاظ) وكانت عاصمة التجارة، وكانت حسب ما نصطلح عليه هذه الأيام بـ (العاصمة السياسة) فكان الناس يأتون إلى مكة في المواسم بحيث وفّروا على النبي(ص) أن يسافر إلى بقية مواقع شبه الجزيرة ويقصد الناس في أماكنهم، بل اكتفى بإرسال مبلّغين إلى تلك المناطق. ولذلك كان أي قتال في الداخل يعطّل الخطّة تماماً، لأنّ أي مجتمع يقاتل فيه الناس يبتعد عن وعي الفكرة التي يقاتل فيها أحدهما الآخر، ويبقى نظر الناس – عادة – إلى تفاصيل القتال فلا يدرسون طبيعة الفكرة التي يتحرّك القتال من خلالها. لهذا كان المطلوب هو الصبر، وكان على المسلمين الذين لا يملكون أن يصبروا على الاضطهاد أن يهاجروا، حتى يستطيع النبي(ص) من خلال تخطيطه أن يهيأ بلداً آخر يملك من عناصر التوازن ما يكفيه شرّ قريش. وانفتحت عليه يثرب التي سمّيت بالمدينة بعد ذلك، وأرسل الرسول(ص) المبلغين إليها، وعندما استكمل كل شروط الدعوة وشروط الحركة هاجر إلى المدينة، وكانت الهجرة هي المنطلق لحصول الإسلام على موقع القوة في ذلك العالم. وكانت هناك قوة واحدة وهي قوة قريش، ولكن بعد الهجرة رأى الناس من خلال انتصارات الإسلام على قريش أن هناك قوة ثانية وهي قوة المسلمين، وبعد الفتح دخل الناس في دين اللّه أفواجا.

وعندما نعيش هذه الأجواء فإنّ علينا أن نفكّر في أنّ قصة المبعث هي قصة الانطلاقة الأولى للإسلام وليست القصة التي تتمحور حول شخصية النبي(ص) بمعنى أن تكون القضية قضيته الخاصّة، فاللّه سبحانه وتعالى قال: }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا{(6). فالنبي يبلّغ الرسالة ويعمّقها في النفوس ويمتد بها في آفاق الحياة ويدافع عنها ويصنع مجتمعها  }مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ{(7). فالرسول يموت ولكن الرسالة تبقى.

المسؤولية الرسالية:

ولذلك فإن الرسالة هي مسؤولية كل الأجيال التي جاءت بعد رسول اللّه(ص). ومن الطبيعي فإن مسؤوليتنا عن الرسالة تفرض علينا أن نفهم الرسالة وأن نعيش مضمونها العقيدي والشرعي والأخلاقي وخطوطها السياسية وأبعادها الاجتماعية وتحدياتها في مواجهة التيارات الأخرى، وأن نعيش الإسلام بأن يكون لنا عقل الإسلام في فكر الإسلام كلّه، وأن يكون لنا قلب الإسلام في عاطفة الإسلام كلّها، وأن تكون لنا حركية الإسلام في الأبعاد التي ينفتح عليها الإسلام، وأن نتحمّل مسؤولية الإسلام بأنّ نتطلع دائماً إلى العناوين الكبرى للإسلام، بحيث يبقى الإسلام كعقيدة هو الإسلام الثقافي الذي يجمع ثقافة الإسلام في فكره وفي سياسته وفي اقتصاده وفي حربه وفي سلمه وفي أمنه، وأن يكون الهم الذي يشغلنا، لأن ذلك هو الذي يمكن أن يصنع لنا القوة عندما تواجه الإسلام بعض التحديات، سواء كانت ثقافية، بأن يتحرّك التيار الكافر من أجل أن يسقط أصول العقيدة والخطوط العامة للشريعة أو غيرها من التحديات.

وكانت هناك بعض التفاصيل التي يختلف فيها المسلمون، بحيث إذا دخلنا في التفاصيل ضاع الخطّ العام علينا، فلابدّ من أن نجمّد الحديث عن التفاصيل لمصلحة الخط العام، حتى إذا أخذ الخط العام الإسلامي موقعه وقوته وابتعد عن الخطر دخلنا في التفاصيل بالطريقة الإسلامية }فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ{(8). ولذلك لابد أن يكون لدينا وعي التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين وهذا ما نعيشه في هذه المرحلة.

معالم المرحلة المعاصرة:

أيها الأحبة: إننا في المرحلة المعاصرة نواجه مواقع علمية وثقافية من أكثر المواقع قوة في أدوات الثقافة والبحث في العالم، فنرى أنّ كل جامعات العالم المستكبر والكافر تناقش الإسلام الذي يتصل بالجانب الثقافي والسياسي والاقتصادي وكلّها تعمل على أساس إضعاف الإسلام بتوجيه الشبهات إليه فيما هو صراع المادة بين الفلسفة المادية والفلسفة الإلهية، وبتوجيه الشبهات إليه فيما هو الصراع بين الخطوط السياسية التي يرتكز عليها الإسلام والخطوط السياسية التي ترتكز عليها العلمانية، وفيما هي مسألة الحريات الفردية سواءً كانت الحريات في الجانب الأخلاقي أو في الجانب الاقتصادي أو السياسي. فهذه ساحة امتلأت بالذين يكيدون بالإسلام والمسلمين، ولذلك فإن على كلّ المواقع الإسلامية من الحوزات والمراكز الثقافية والحركات الإسلامية والشخصيات الإسلامية الفاعلة أن تبادر إلى دراسة كلّ هذه المفردات التي توجّه إلى الإسلام، والتي أصبحت تثير علامات الاستفهام لدى الجيل الناشئ المتعلّم عندنا.

ولو قمنا بجولة في كلّ الجامعات الموجودة في العالم الإسلامي، والتي يتولّى التعليم فيها خريجو الجامعات الغربية، والتي تخضع لبرامج الثقافة الغربية، فكم نستطيع أن نحصل بالنسبة المئوية على الطلاب الجامعيين الذين لا يزالون إسلاميين في أفكارهم؟ هل نحصل على 10%؟ إني أشك في ذلك، لأن ساحاتنا مشغولة بالهوامش الصغيرة، وبالجزيئات وبالخلافات الهامشية، ولهذا فإننا نلاحظ أن كلّ هذه الأجيال تصاغ صياغة غير إسلامية ونحن مشغولون بجنس الملائكة، هل الملائكة ذكور أم إناث؟ هل البيضة أصل الدجاجة، أم الدجاجة أصل البيضة؟ إنّ كثيراً من خلافاتنا التي قد نعتبرها خلافات مذهبية قد تعيش في هذا الإطار. وعندما نقارن بينها وبين الخطر الذي يتهدد الإسلام كلّه في الجانب الثقافي، فكم لدينا من المنابر الصالحة، والمنبر الحسينيّ هو سيد هذه المنابر التي يعيش فيها الناس على الأقل في الدائرة الإسلامية الشيعية، و لو أردنا أن نعمل إحصائية في المنبر الحسيني، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، فهل نرى أن هناك تخطيطاً لتوجيه الناس لثقافة إسلامية في مواجهة التيارات المضادّة للإسلام التي تناقش التوحيد، وتناقش أصل وجود اللّه، وتناقش النبوة واليوم الآخر والقرآن وحركية العقل الإسلامي؟

لقد نشأ لدينا الآن في واقعنا الإسلامي العربي بعض المفكرين العلمانيين الذين أصبحوا يكتبون في نقد العقل العربي وهم يقصدون به نقد العقل الإسلامي، بحيث أنهم يناقشون ذلك بالطريقة المتبعة في الغرب، فلقد انطلق كثير من هؤلاء يخطّطون لفهم النص القرآني بطريقة جديدة تبتعد عن الفهم الطبيعي للنص القرآني، فهل هناك من يعالج هذه الأمور بطريقة مبسّطة من أجل أن يحصّن الناس من السقوط أمام تأثير هذه الثقافة العلمانية أو الثقافة المادية أو ما أشبه ذلك؟ إنّ كثيراً من الناس الذين يتحرّكون في هذه الساحة ويحملون الرمز الديني يملأون عقول الناس بالخرافات، ويحوّلون الخرافات إلى مقدسات، وتتحوّل تلك الخرافات المقدسة إلى ما يشبه الحقائق التي تسقط الحقائق الأصلية، ولا يملك أحد أمام هذه الغوغائية أن يقف ناقداً ومصلحاً، ذلك لأنّ الاتهامات بالزندقة والكفر والضلال جاهزة من خلال أكثر من مفتي وأكثر من شخصية في المجتمع.

صناعة الأمّة المسؤولة:

ثم جاء النبي(ص) ليصنع أمة مسؤولة قوية قائدة للعالم على أساس الإسلام، لأن الإسلام لم يأتِ لأم القرى ولم يأتِ للعرب فقط }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ{(9). فالنبي(ص) جاء رسولاً للناس كافّة، وعلى كلّ واحد منّا أن يهيّأ نفسه في ثقافته وفي حركيته ليكون في موقع القيادة للعالم ولو بنسبة معينة، ألا تقرأون في دعاء الافتتاح ((اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك)). فعندما تدعو ربّك أن يجعلك قائداً فإنّ عليك أن تربّي نفسك لتكون مشروع قائد. ولكننا لا نعيش هذه الحركية التي تجعل من الإنسان المسلم مشروع قائد، ولذلك إذا غاب القائد منّا دعونا بالويل والثبور وعظائم الأمور وقلنا إنّ الإسلام مات، وإنّ الأمة ماتت وهكذا. لماذا؟ لأننا نتطلّع يميناً وشمالاً هنا وهناك فنجد الفراغ كلّه، لأن من يعيشون في موقع القيادة لا يصلحون للقيادة، ولأن من يصلحون للقيادة ليسوا موجودين، أو أن الذين لا يملكون رحابة القيادة تنصب الحواجز في الطريق أمامهم }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ { يتحمّلون مسؤولية الدعوة إلى الخير في كلّ رحابته، الخير في العقيدة، والخير في السياسة، وفي الشريعة، وفي الاجتماع، وفي حركة الحياة كلّها، لأنّ الخير يشمل الحياة كلّها، كما أنّ الشرّ يشمل الحياة كلّها }وَيَأْمُرُونَ بالمعروف{ والمعروف هو كلّ أمر يرضاه اللّه ويحبّه ويأمر به ويدعو إليه في كل ما يتصل بالإنسان في الحياة. فليست مسألة الأمر بالمعروف أن تأمر شخصاً بالصلاة فحسب، بل أن تأمره بكلّ ما يريد اللّه للإنسان أن يمارسه في الحياة من أجل أن يجسّد خلافته للّه في الحياة }وَيَنْهَوْنَ عن المنكر{(10). فالاستكبار منكر سواء كان عالمياً أو إقليمياً أو محلياً. والظلم منكر، سواء كان ظلماً دولياً أو اجتماعياً أو ظلماً شخصياً، وهكذا أكل أموال الناس بالباطل منكر، والركون إلى الذين ظلموا منكر، فاللّه سبحانه وتعالى عندما يقدّم الأمة المسلمة، يقول }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ{(11). فقيمة الأمة القائدة الرائدة والمنفتحة على المسؤولية في حياة الناس، هي أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وأن تطلّ على قضايا العالم كلّها، وعلى آلام الإنسان في العالم كلّها، وعلى أمنيات الإنسان في العالم كلّها، وعلى حقوق الإنسان في العالم كلّها، لتنهى عن المنكر في كل ما يسقط الإنسان ولتأمر بالمعروف في كل ما يرفع الإنسان (وتؤمنون باللّه) باعتبار أن الإيمان باللّه يعني حركتك في خط بالمسؤولية.

أين هي الأمّة؟

أين هي الأمة؟ هل هناك أمة إسلامية؟ لقد قُسّمنا طوائف ومذاهب وأعراقاً ودولاً وأقليات وأصبحت الشخصية الطارئة بديلة عن الشخصية الإسلامية. إننا نتعصّب لشخصياتنا العائلية أكثر مما نتعصّب لشخصياتنا الإسلامية، وهكذا شخصيتنا الإقليمية. فالإنسان في هذا البلد إذا لم يكن يحمل جنسية هذا البلد فهو غريب، حتى لو كان مسلماً.

وهكذا الشخصية القومية التي تضع حاجزاً بين المسلمين من قومية معينة وبين المسلمين من قوميات أخرى، وهكذا الشخصية الحزبية والشخصية المذهبية. فلقد أصبح أتباع هذا المذهب يكفّرون أتباع ذلك المذهب ليقولوا هؤلاء ليسوا مسلمين، تماماً كما كان يقول اليهود عن النبي(ص) وعن المسلمين وهم يشيرون إلى المشركين }هؤلاء أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا{(12). أليس منا من يقول إنّ اليهودي أهدى من السنيّ، وأن اليهودي أهدى من الشيعي؟! أليس منّا من يتحدّث عن أنّ القضية الفلسطينية لا علاقة لنا بها لأنّها قضية سنّية؟! أو من يتحدث عمّا في جنوب لبنان من أنه لا علاقة له به لأنها قضية شيعية؟! ولا شغل للسنّة بالشيعة ولا الشيعة بالسنّة، فيما اليهود وبالرغم من خلافاتهم المذهبية وخلافاتهم السياسية وحتى القومية يلتقون على تدميرنا كأمّة.

هل هناك أمّة إسلامية؟ ليس هناك أمّة إسلامية بالمعنى السياسي للمسألة، بحيث تلتقي الأمة كلّها في موقع واحد وفي اتجاه واحد وأمام قضية واحدة لا مجرد التقاء شعوري فحسب بل أن يكون هناك التقاء فكري سياسي واقعي.

كيف نحتفل بالمبعث؟

أيّها الأحبّة: عندما تحتفلون بالمبعث، فكّروا كيف نبعث الإسلام الآن؟ لقد انطلق المسلمون بالرسالة وشاركوا في البعث الإسلامي مع كلّ خلافاتهم وسلبياتهم ونقاط ضعفهم، وعلينا ونحن في هذا الجيل وهذه المرحلة أنّ ننطلق من قوله(ص) ((كلّكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته)). وأن نعمل على بعث الإسلام الذي كدنا نفتقده في بيوتنا، واللّه عزّ وجل يقول }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ{(13).

أيّها الأحبّة: عندما تأتي ذكرى المبعث النبوي الشريف، فعلينا أن نفكّر بالإسلام الذي بدأ في هذا اليوم وامتدّ في العالم بأسره. لنفكر كيف نحفظ هذا الامتداد الإسلامي في العالم؟ وكيف نخطّط ونتحرّك ونتقارب؟ وكيف نتكامل إذا لم نستطع أن نتوحد؟ واللّه سبحانه وتعالى يريدنا أن نتوحّد }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا{(14). فهل من المعقول أن يأتي اليهود من سائر أنحاء العالم ليحتلوا أرضاً إسلامية وليحوّلوها إلى أرض يهودية؟ أليس من العار أن لا يستطيع المسلمون الحفاظ على رعاية المقدسات الإسلامية والسيطرة عليها؟ إن انتفاضة الأقصى التي نعيش في كلّ يوم حركيتها وبطوليتها وروحيتها وآلامها ومآسيها انطلقت تحت عنوان المسجد الأقصى، والمسجد الأقصى هو رمز الواقع الإسلامي كلّه والأرض الإسلامية كلّها والمستقبل الإسلامي كلّه، فأن تكون الإنسان الذي يعيش اللامبالاة يعني أنك لست مسلماً، .. صلّ ما شئت، وصم ما شئت، وحجّ ما شئت، ولكن إذا كنت الإنسان اللامبالي بما يصيب الإسلام والمسلمين فإن رسول اللّه(ص) يقول لك بأنّك لست بمسلم ((من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم))(15). والاهتمام بأمور المسلمين هو أن تهتم فكرياً وسياسياً وحركياً بحيث تخاطب نفسك وتخاطب من حولك: ماذا نستطيع أن نحقق للإسلام والمسلمين؟ ليعمل كلّ واحد منا في دائرته الخاصّة، ولنجمّد كلّ خلافاتنا، ولننظر كيف يمكن لنا أن نصون الإسلام في مرحلتنا هذه؟ وذلك بأن لا نثير قضايا التأريخ في خط الحق والباطل، ولكن عندما يطبق الظلم علينا، وعندما يحاصرنا الاستكبار من كلّ جهة، وعندما يدخل الكفر إلى مواقعنا كلّها، فعند ذلك ينبغي لنا أن نفكّر كيف نثبّت الأرض من تحت أقدامنا، وكيف نجعل ريحنا ريحاً قوية، ونستمع إلى قوله تعالى }وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ{(16). وقد ذهبت ريحنا بدداً لأنها لم تندفع من موقعنا الموحّد، وإنما انطلقت من هنا وهناك مشتتة متفرقة، وذهبت الرياح القوية ولم تعد إلاّ ريحاً ضعيفة لا تكاد تحرك شيئاً }هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ{(17). كيف نزكّي أنفسنا؟ كيف ننطلق من الآيات الكريمة }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{(18). }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{(19). لعلكم تدرسون الألغام المغروسة في أرضكم، وكلّ الرياح القادمة إليكم من هنا وهناك. نسأل اللّه أن يعزّ الإسلام وأهله، وأن يوحّد كلمة المسلمين، وأن يجمعهم على الخير والهدى وكلمة التقوى، إنّه أرحم الراحمين،. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة عشرة8شعبان 1421 ه4 تشرين الثاني 2000م

 

 

في مواليدهم(ع)

كيف يكون الحبّ للحسين(ع)

وللعباس(ع) وللسجّاد(ع)؟

 

 

*  ذكرياتهم تمثّل إطلالتهم على الحياة بالنور الذي أطلقوه والخط الذي رسموه والجهاد الذي حرّكوه والأفق الذي فتحوه *

 

 
 
 

ذكرى المواليد الثلاثة.

أولاً: مولد الإمام الحسين(ع).

ثانياً: ولادة العباس بن علي(ع).

ثالثاً: ولادة زين العابدين(ع).

درس المناسبات الإسلامية الثلاث.

 
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ذكرى المواليد الثلاثة:

في بداية هذا الشهر (شعبان) التقينا بذكريات إسلامية عطرة ربّما كانت أسماء أصحابها توحي بالحزن، ولكن هذه الذكريات التي تمثل إطلالتهم على الحياة مقارنة بالنور الذي أطلقوه والخط الذي رسموه والجهاد الذي حرّكوه والأفق الذي فتحوه، توحي بالفرح الكبير حتى وأنت تعيش في أعماق الحزن، لأنّ الحزن في معنى المأساة قد يتحوّل إلى فرح كبير عندما يكون خطّ الحزن في خط القضية وفي حركة الأمّة وفي امتداد الإسلام.

وهذا ما لاحظناه في الإمام الحسين(ع) الذي نلتقي بذكرى مولده عندما عاش مأساة ذبح ولده الرضيع على صدره في حزن من أقسى ما يعيشه الإنسان من حزن، فإنني لا أتصوّر أبداً ما يمكن للإنسان أن يعانيه في نبضات قلبه وخفقات شعوره من إحساس بالألم من هذا المشهد الذي يدخل في كلّ مفاصل شخصيته، ومع ذلك رأيناه يعيش أعلى مشاعر الرضا  لأنّ حزنه كان رسالياً، وفرحه كان فرح الرسالة بأن يتحرّك القائم بها ليعطي كلّه من أجل أن تتجذّر وأن تتعمّق، وليس هناك ما يعمّق الرسالات في الأمّة مثل الألم، فنحن نجد أنّ الأنبياء والأولياء والمجاهدين تألّموا، ومن ثروة ذلك الألم كان الانتصار }أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ{(1).

ولقد كانت هذه الذكريات منطلقاً للفرح، فالولادة في بداية هذه الحياة عانقت الشهادة في نهايتها، وبين الولادة وبين النهاية كانت الرسالة ترتفع وتسمو وتصفو وتجاهد وتتحرك وتنفتح دعوة وإحساساً وحركة ووعياً انفتاحاً ولو على مستوى المستقبل، لأنّ أصحاب الرسالات عندما يتحرّكون لا يفكّرون بالنصر في البدايات لأنّهم يعرفون أنّ الرسالة تحتاج إلى زمن طويل لكي تدخل في العقل لتجعله عقلاً رسالياً، وفي القلب فيتحوّل الفكر الذي ينتجه العقل إلى إيمان يتحرّك به القلب، ثم إلى واقع تنطلق به الطاقات.. وها نحن نمرّ على كلّ ذكرى بما يسمح به الوقت.

أولاً: مولد الإمام الحسين(ع):

فالمولد الأول هو مولد الإمام الحسين(ع) في الثالث من شعبان، والحسين هو كونٌ وليس مجرد شخص من لحم ودم، وإن كان اللحم والدم يمثل ذاته في معنى المادة، ولكنّه في معنى العقل والروح والرسالة والحركة والروحانية والذوبان في اللّه وفي كلّ عباد اللّه من خلال اللّه.

إنّه كون رحيب واسع ممتد ينتج في كلّ جيل كوناً جديداً، لأنّ الحسين(ع) أطلق كلماته وسقاها بالدمّ، وجعل الرسالة تجري في داخل عروقه، وواجه التحديات بأقوى تحدٍ مضادٍ.

والحسين(ع) تجسّد رسالة من حيث تجسّد في معنى الحرية ومعنى العزّة ((لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد)). فالحرّ لا يمكن أن يمنح الذين يريدون أن يستعبدوا موقفه أو دوره أو حركته الفرصة في ذلك، لأنّ الحرية ليست حالة طارئة في الأحرار، ولكنها معنى إنسانيتهم.

وعندما يكون الحرّ إماماً فإنّ الإمامة تمثّل كلّ امتدادات الحرية في العقل والقلب وفي الحياة. وهكذا كان الحسين(ع) يؤكّد كلمة أبيه في الحرية ((لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً)). وكان يؤكد قبل ذلك كلمة اللّه الذي عاش جدّه وأبوه وأخوه وأمّه وأولاده من بعده، أروع معانيها: }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ{(2). وقال كلمته التي تعبّر عن مدى صلابته في الحقّ ((ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة وبين الذلّة وهيهات من منّا الذلّة يأبى اللّه لنا ذلك ورسوله والمؤمنون)).

وانطلق الإمام الحسين(ع) في الإمامة بحركية التضحية والعطاء والشهادة، ليقول للعالم كلّه إنّني لا أطلب الحكم نتيجة طموح ذاتيّ، وقد قالها أبي قبل ذلك، وقد أشار إلى النعل وهو يخصفه، وإلى الإمرة وهو زاهد فيها، في حوار له مع ابن عباس ((إنها إعظم من إمرتكم هذه إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً)). وهو الذي عرف الإسلام كما لم يعرفه أحد بعد رسول اللّه(ص)، وعاش للإسلام كما لم يعشه أحد بعد رسول اللّه(ص) ، وقد قال: ((لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء ألاّيقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز)). وكان علي(ع) في قلب الحسين(ع)، وكان رسول اللّه(ص) في قلب الحسين(ع) وهو القائل: ((حسين مني وأنا من حسين)).

لذلك فنحن نعيش الفرح بالحسين(ع).. الفرح الرساليّ والفرح الروحيّ حتى أنّ دموعنا تبتسم لمواقفه، ومشاعرنا الحزينة تغرّد لفدائه الدين بروحه، لأنّ الحسين(ع) لم يعش حزناً في معنى الذات، ولكنه عاش حزناً في معنى الرسالة، ولذا يتعين علينا أن لا نعيش الفرح في معنى الذات بل في معنى الرسالة الذي يستبطن السرور بالألم لأنّه في ذات اللّه وفي عين اللّه ومن أجل دين اللّه.

فإذا أردتم أن تحتفلوا بالحسين(ع) في ذكرى ولادته وشهادته فاحتفلوا به في معنى فرح الرسالة، وعندما تفرحون بالرسالة سوف تشعرون أن عليكم أن تحضنوها في عقولكم كما حضنها في كيانه كلّه، وأن تنبض بها قلوبكم كما نبض قلبه بها، وأن تتحرك فيها طاقاتكم كما تحرّك بها.

إنّ الحسين(ع) لا يريد منكم فقط دموعاً في ذكرى شهادته وبسمات في ذكرى ولادته، ولكنه يقول لكم: ((لقد خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي)). في كلّ واقع إسلاميّ فاسد، وفي كلّ انحراف يدبّ في الواقع الإسلاميّ، وفي وجه كلّ قيادة ظالمة، فـ (يزيد) لم يمثل رمزاً في التأريخ للظلم ولكنّه مثّل الظلم كلّه والظالمين كلّهم. هل تحبون الحسين(ع)؟ أطلبوا الإصلاح في أمّة جدّه، كلٌّ بحسب طاقته وامكاناته، لا تفسدوا في الأرض، ولا تثيروا الفتنة، ولا تنحنوا لأكثر من يزيد، لا تقتلوا أكثر من حسين ودموعكم تبكي حسين التأريخ وتقتل حسين الحاضر، بل وتخطّط لقتل أكثر من حسين في المستقبل.

ثانياً: ولادة العباس بن علي(ع):

والولادة الثانية هي ولادة العباس بن علي(ع) أخ الحسين(ع). هذا العبد الصالح المطيع للّه ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين(ع). وقد كان كما يقول الإمام الصادق(ع) ((نافذ البصيرة صلب الإيمان))، وقد عبّر عن ذلك بقوله:

واللّه إن قطعتم يميني                                               إنّي أحامي أبداً عن ديني

فهل تحبّونه؟ قد تذرفون الدموع عليه، وقد تعيشون العنفوان في الحديث عن بطولته، ولكن كم من عبّاس عندنا يحامي عن دينه؟ وكم من عباس نافذ البصيرة في معنى الإسلام على مستوى الفكر والعاطفة والحياة؟ وكم من عباس يقف في الساحة قوياً صلباً حتى لو أصيبت الساحة كلّها بالهزاهز والزلازل فإنّه لا تأخذه في اللّه لومة لائم؟

كان العباس(ع) فرحاً بشهادته وبجهاده، وكان يعيش الفرح في الإرادة القوية الإنسانية الرائعة عندما كان العطش يفترس شرايينه كلّها والماء البارد بين يديه ولكنّه يرفض أن يشرب منه لأنّه عاش الحسين(ع) في عطشه كلّه، وعاش أولئك العطاشى من أهل بيته، وتلك قمة الإيثار في حركة الإحساس بالأخر، وهو أن تعيش الإيثار للآخر في منطقة الشعور فتمنع نفسك مما هو محروم منه لأنك لا تستطيع أن تقدم له شيئاً.

إنّ المشكلة في التأريخ أنّه لا يحدّثك عن العبّاس إلاّ في بعض مواقع كربلاء، ولكنك عندما تنفذ إلى هذه الشخصية من خلال كلمة هنا وكلمة هناك، وموقف هنا وموقف هناك، فإنّك تشعر أنّك عندما تذكر العبّاس ترتفع لتجد معنى شباب الإسلام في شبابه، ومعنى عنفوان الإسلام في عنفوانه، ومعنى إيثار الإسلام في إيثاره، ومعنى الأخلاقية المنفتحة على اللّه والمتحرّكة في حياة الناس في أخلاقيته.

إنّي أتصوّره وهو يخرج للجهاد يناجي ربّه ويبتهل إليه ويستعد للقائه، هل أتصوره وهو ينطلق ليقاتل هؤلاء الأعداء، أم أتصوّره في إنسانيته يبكي قلبه لضلال هؤلاء لأنّهم لم ينفتحوا على الحقّ، ولأنّهم لم يلتقوا بما يقرّبهم من اللّه تبارك تعالى ومن رحمته، ولأنّهم لم يفهموا ما معنى الحسين(ع) ولم يفهموا معنى أن يعيش موقف الإنسان مع خفقات قلبه، فلا تكون قلوبهم معه وسيوفهم عليه، بل تكون سيوفهم في اتجاه إخلاص قلوبهم.

كان العبّاس(ع) كالحسين(ع) يبكي على هؤلاء لأنّه كأبيه علي(ع) ليس محارباً يهوى الحرب ويحب أن يقتل أعداءه حتى لو كانوا يستحقّون ذلك، بل كان يريد أن يهدي أعداءه ليكونوا الأصدقاء للحقيقة التي هو صديق لها، كما قال علي(ع)، والعباس هو ابن علي(ع) جسداً وعقلاً وروحاً وحركة وجهاداً وتطلّعاً: ((واللّه ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إلي من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها)). كان علي(ع) سيد الأبطال ولكن بطولته كانت في معنى إنسانيته، وكان الإنسان في حربه كما كان الإنسان في سلمه، وقد تعلّم العبّاس(ع) ذلك من أبيه، لذلك فإنّ علينا – أيّها الأحبّة – عندما نتذكّر العباس أن لا نبكيه فقط، ولكن أن نحتذيه وأن ننهج نهجه، ونعيش أفقه ونحلّق مع روحه ، وننطلق في خطّ رسالته:

إنّي أحامي أبداً عن ديني                                           وعن إمام صادق اليقينِ

إني أحامي عن الخط كما أحامي عن القيادة الصالحة.

ثالثاً: ولادة زين العابدين(ع):

والولادة الثالثة هي ولادة الإمام زين العابدين(ع). فمن هو زين العابدين يا ترى؟

إنّ الناس يعرفونه في الدعاء، وفي البكاء، ولكن عندما تقرأزين العابدين(ع) فإنّك تجده في حياته التي بدأت في قلب المأساة، ففي يوم واحد رأى كلّ هذه الصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحاب أبيه وفي طليعتهم أبوه، مجزّرين كالأضاحي في نصف نهار، وكان قمة الصبر لأنّه كان في قمة الروح، ولأنّه كان في تلك اللحظة يعيش مع اللّه سبحانه وتعالى، كما كان أبوه في آخر لحظات حياته يعيش مع اللّه، وقد صوّر الشاعر مشاعره آنذاك بقوله:

تركتُ الخلــق طراً في هواكاوأيتمت  العيال  لكي  أراكا

فلو  قطّعتني في الحب إرباً                  لما مال الفؤاد إلى سواكا

وعاش الإمام زين العابدين(ع) في تلك المرحلة مرحلة السبيْ ولم تضعفه، ووقف في مجلس ابن زياد ليؤنّبه وليردّ عليه بما أثار حقده فكاد أن يقتله لو لا تدخل عمّته السيدة زينب(ع). وعاش في الطريق مع السبايا ولم يضعف ولم يهن، ووصل إلى الشام ورأى كلّ مظاهر الشماتة والفرح بمقتل أبيه وأهله وبقي قوياً صامداً، ودخل مجلس يزيد وتحدّث بكلّ القوّة والعنفوان الرسالي، ولذلك - إن كنتم حقاً أتباعه ومريديه - خفّفوا عن زين العابدين(ع) حديثكم في الشعر الذي يصوّره ذليلاً، ذلك أن مشكلة الشعراء أنّهم يسقطون عنفوان الأبطال في عالم المأساة، وإنّي لأخجل عندما أسمع شاعراً يكرر الخطباء شعره:

أقُادُ ذلياً في دمشق كأنني                                  من الروم عبد ضلّ عنه نصير

هل هذا هو زين العابدين(ع)؟!

إنّ أعداءه كانوا يتمثلون عنفوان العزّة في عينيه فيخشعون له، ولا يمكن أن يرى زين العابدين(ع) الذي تربّى على العزّة ونهل معانيها ذليلاً. فلماذا نسيء للإمام زين العابدين(ع) بمثل هذه الأشعار؟ هل من أجل أن نبكي؟ إنّنا لسنا بحاجة إلى هذه الصورة لتنساب دموعنا، بل يكفي أن تتصوّر المأساة وهي تعيش في كلّ مفصل من مفاصله، وهو يتمرّد عليها ويتغلّب، ويكفي أن تتطلّع إلى ذلك الجوّ الذي عاش فيه، لتبكي على الأمّة كيف تنكّرت لإمامها؟! وتبكي عليها كيف تقتل مخلّصها ومنقذها وسيدها؟! وتنحني للطاغية الذي يتخذ مال اللّه دولاً وعباده خولاً، كما قال الإمام الحسين(ع) وهو يصوّر حال الأمّة آنذاك.

وعندما كان زين العابدين(ع) يبكي، كان يريد أن يذكّر الناس بالحسين(ع) ليبكي الناس واقعهم الذي يشابه الواقع الذي قتل الحسين(ع).

ثم أنّكم تتحدثون عن الإمام زين العابدين(ع) كإنسان يقضي الليل والنهار في العبادة والدعاء وكأن لا شغل له إلا الدعاء، ولكنّه(ع) أراد أن يجدّد الدعاء وأن يثقّفه بأن ينزله من حالة تضرّع وحسب، إلى أن يدخل الإسلام كلّه في قيمه وأخلاقه وعقيدته في مفاصل الدعاء. فإذا قرأت زين العابدين(ع) في أدعيته فإنّك تشعر أنّ الدعاء يثقّفك في العقيدة وفي الأخلاق وفي حركة الحياة والواقع الإسلامي الذي يحارب هنا ويسالم هناك.

إنّ دعاء الإمام زين العابدين(ع) مدرسة ولكنّ مشكلتنا أنّنا كمن يدخل المدرسة ليحفظ دروسها في ذاكرته ولكنّه لا يُدخل دروسها في عقله وقلبه وروحه، ولذلك فقد نرى الكثيرين ممن ينجحون في الامتحان ولكنّهم لا ينجحون في ثقافة ما امتحنوا به، فهم أمّيون رغم أنّ معهم أكثر من شهادة جامعية، وهم أمّيون رغم أنّ معهم أكثر من شهادة حوزوية، لأنّ الدعاء الذي خطّط له الأنبياء وحرّكه القرآن في أكثر من أفق، يراد للإنسان أن يتدبّره ويعيشه ويتحرّك من خلاله، ويسمو إلى اللّه في هذا الجوّ تماماً كما هو القرآن. ولقد كان الإمام زين العابدين(ع) في سبحاته مع اللّه سبحانه وتعالى وفي تجلّياته وابتهالاته شاعر اللّه.

وكان(ع) يقضي النهار مع الناس، وكان يعلّمهم ويرشدهم ويعظهم ويجيب عن أسئلتهم ويخطّط لهم ما ينبغي معرفته من الحقوق الإنسانية التي ركّزها الإسلام، ولأول مرة نقرأ دستور الحقوق في الإسلام في كلّ ما يتصل بحياة الإنسان المؤمن مع اللّه ومع نفسه ومع الناس ومع مسؤولياته حتى أنّ كلّ مسؤولية من مسؤولياتك لها حقّ عليك، فالصلاة لها حقّ عليك، والصوم له حقّ عليك، والزكاة لها حقّ عليك، والحج له حقّ عليك، والمسلمون بأجمعهم لهم حقّ عليك، والمعاهدون من اليهود والنصارى وغيرهم لهم حق عليك. فرسالة الحقوق هي الرسالة التي سبقت كلّ دساتير حقوق الإنسان لأنّها لم تكتفِ بحقوق الإنسان، وإنما حرّكت حقوق المسؤولية، وانفتحت في البداية على حقّ اللّه سبحانه وتعالى.

وعندما نقرأ زين العابدين(ع) في مواعظه، كما في (الكافي) فإننا نرى أنّ الإمام(ع) كان يأتي المسجد في كلّ يوم جمعة ويلتفّ الناس حوله وكان يعظهم ويرشدهم ويقرّبهم إلى اللّه ويبصّرهم بمسؤولياتهم، مما يعني أنّه كان مشغولا بتثقيف المجتمع الإسلامي، وبتوعيته، وكان يريد أن يثقّف المجتمع بالثورة على الظلم بحيث تكون الثورة على الظلم جزءاً من إسلام الإنسان ومن إيمانه ومما يتقرّب به إلى الله، لأنّه عندما عاش تجربة كربلاء ورأى أنّ الناس ساروا مع يزيد وخذلوا الحسين(ع) وقبل ذلك خذلوا سفيره مسلم (رض) وخذلوا اخاه الحسن(ع) وأباه علياً(ع) فإنّه كان يرى أنّ هؤلاء الناس يعيشون الإسلام طقوساً وتقاليد، ولم يعيشوا الإسلام إيماناً باللّه العادل الذي أنزل الرسالات ليقوم الناس بالقسط، والذي أراد للناس أن يكونوا الأعزاء، وللمستضعفين الوقوف بوجه المستكبرين فلا يدفعهم استضعافهم أمام المستكبرين لتنفيذ خططهم.

لذلك كانت الثورة الإمامية بعد الحسين(ع) ثورة تثقيفية تعبوية توعوية تريد أن تربط الإنسان باللّه ليرتبط بكلّ القيم الإسلامية، بحيث لو أنّ الدنيا كلّها ضغطت عليه لبقي واقفاً على قدميه كما قال علي(ع) لولده محمد بن الحنفية ((تد في الأرض قدمك، أعر اللّه جمجمتك، ارم ببصرك اقصى القوم، تزول الجبال ولا تزول))(3). كانوا يريدون أن يجعلوا الإنسان المسلم يقف راسخاً أمام الطغيان والظلم والاستكبار يثبّت قدمه ويصلّب موقفه ولا يخاف أحداً إلاّ اللّه، وكما قال الإمام الصادق(ع) عن المؤمن ((المؤمن أقوى من الجبل، الجبل يستقلّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستقلّ من دينه شيء)).

درس المناسبات الإسلامية الثلاث:

أيّها الأحبّة : في مولد هؤلاء الكبار هل نولد؟ روحاً وإسلاماً وموقفاً وإرادة وصلابة..؟ انفذوا إلى أهل البيت(ع) من الداخل، وإذا عشتم معهم في الخارج حاولوا أن تفهموا من أين انطلقوا وكيف تحرّكوا؟ وكيف ارتفعوا؟ هل أنتم اتباعهم وشيعتهم؟ اصعدوا إليهم، لأنّ من أقسى المصائب أن ننزل أهل البيت(ع) لنحجّمهم في تخلّفنا وتصوراتنا الصغيرة، فهم الكبار وعلينا أن نكون الكبار بهم ومعهم وفي آفاقهم.

هذا هو معنى المولد، مولد الإمام الحسين(ع) في عظمته، ومولد العباس(ع) في بطولته، ومولد زين العابدين في أبعاده الإسلامية كلّها.. تعالوا لنرحل إليهم.. أو لنستقدمهم إلينا ليعطونا - وهم يعطوننا بالفعل في كل يوم – هذا التراث العظيم وهذا التاريخ الرسالي الكبير. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة العشرون15شعبان 1421 ه11تشرين الثاني 2000م

 

في مولد الإمام المهدي (عج)

إنطلاقات المستقبل

 

 

* الحقيقة لا تعطي الزمن معناها بل تبقى ويهرب الزمن، ذلك لأن الحقيقة بنت الحياة  *

 

 
 
 

 

 

 

قاعدة العدل:

الإعداد لليوم الموعود:

مسؤوليتنا في زمن الغيبة:

نحن والقضية الفلسطينية:

مشاريع العالم المستكبر:

المقاطعة الاقتصادية:

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

قاعدة العدل:

في الذكريات الإسلامية، لاسيما ذكرى مولد الإمام المهدي (عج) لابدّ لنا أن نعيش معنى هذه الذكرى في انطلاقات المستقبل، لأنه أمل المستقبل ولأنّ ثورته وتطلعاته تنفتح على عنوان كبير هو عنوان الرسالات. فقد انطلقت الرسالات كلّها - كما أشرنا أكثر من مرة - من قاعدة العدل، فالدين في معناه الحركي في معنى الإنسان المنفتح على اللّه يساوي العدل، فأن يكون لك دين يعني أنك عادل، لأن الدين في معناه الأعمق يقوم على أساس الحق، وفي القرآن الكريم آية تقول }ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ{(1). فاللّه هو الحق، والدين يتحرّك في سر هذا الحق ليجعل العقل حقاً في فكره، وليجعل القلب حقاً في نبضاته السلبية والإيجابية، وليجعل الحركة في الكيان حقاً في علاقتها بالناس وبالأشياء وبالحياة، وليجعل الناس مجموعة تتعاون بالحق وتتكامل بالحق وتؤكد الحق في الحياة.

والعدل هو أن تعطي لكل ذي حق حقه بأن تدرس حقوق الناس وحقوق الحياة وحقوق نفسك، وقبل ذلك حق اللّه سبحانه وتعالى فتعطي لكل ذي حق حقه. وكلمة العدل تختصر في حركيتها كلمة الحق، ولذلك فأن تصلّي وتصوم وتحج ولا تعطي الناس حقوقهم فيما لهم عليك من حقوق فأنت لست بصاحب دين، لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ومنع الإنسان حقه من أكبر المنكرات. وهكذا الصوم الذي هو طريق التقوى، وأي تقوى لك إذا كنت لا تعدل في علاقتك بالناس الذين يتمثل حقهم في عدلك؟

الإعداد لليوم الموعود:

وعندما ننطلق – أيّها الأحبّة – في هذه الذكرى التي أخذت عنوانها من شعار العدل في العالم: ((يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)) فإن ذلك يعني أن تتحرك الإنسانية في نهاية المطاف لتعيش آخر صراع بين الظلم وبين العدل لينتصر العدل بطريقة إنسانية في بعض أبعادها وغيبية في أبعادها الأخرى ليكون العدل للإنسان كلّه وللحياة كلّها. وبهذا – أيّها الأحبة – فإن عنوان هذه الذكرى لابدّ أن يتحرك معنا بعيداً عن كلّ الطقوس والكلمات الاحتفالية، بل إننا إذا أخلصنا للرمز فإنّ علينا أن نخلص للخط، والإخلاص للخط يفرض علينا أن لا نستغرق في التفكير في كيف يكون العدل العالمي في نهاية مطاف الدنيا الذي قد نبلغه وقد لا نبلغه، بل أن نفكّر في الحياة الراهنة لنرى كيف تتحرك مع المستكبرين الذين فرضوا استكبارهم من مواقع قوة المال والسلاح والسياسة والأمن وما إلى ذلك؟، ومن خلال المستضعفين الذين استضعفوا أنفسهم وجمّدوا مواقع القوة عندهم فكانوا المساعدين للمستكبرين، كما قال المفكر الإسلامي (مالك بن نبي) إنّ هناك شعوباً تعيش قابلية الاستعمار بحيث تجتذب الاستعمار إليها عندما تنحني له، وعندما تكف عن استنفار طاقاتها في خط المواجهة على طريقة المتنبي:

من يهن يسهل الهوان عليه                        مالجرح بميت إيلامُ

عندما تموت الإرادة تموت الإنسانية، لأن إنسانيتك تعني أن تريد ولا تريد، وأن تكون لديك إرادة الرفض، أن لا تكون ال(نعم) في خطابك كلّه أو جوابك كلّه، بل أن تقول (لا) عندما تهددّ ال(نعم) كيانك في مستوى الفرد والجماعة والأمة، وأن تقول (نعم) عندما تشعر أنها يمكن أن تبني لك قضية، أو تحل لك مشكلة، أو تحقّق لك حرية .

لذلك – أيّها الأحبّة – نحن قوم مشكلتنا أننا ندمن التأريخ ونستغرق فيه، واللّه سبحانه وتعالى يقول لنا إنّ التاريخ هو ملك الذين صنعوه، أما أنتم فخذوا منه ما يبقى كدرس لكم، خذوا منه العبرة }لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ{(2). لا يكن التاريخ عندكم لهواً تلهون بأقاصيصه، ولا يكن التاريخ عصبية تفرض نفسها عليكم من أجل أن تتعب حاضركم أو تسقطه أو تدمّر قضاياكم }تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ{ بمشاكلها كلّها وانتصارتها كلّها وهزائهما كلّها وتعقيداتها كلّها وأحقادها كلّها.

}وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ{(3). لقد صنعوا تاريخهم فلماذا تكفّون عن صنع التاريخ، لماذا تعتبرون تاريخكم امتداداً لمفردات التاريخ؟ نحن لسنا معنيين أن يأتي التاريخ إلينا فيربك حاضرنا. نحن فقط مع الحقائق التي لا يضمها التاريخ وإنّما مع تلك التي تبقى مع الماضي والحاضر والمستقبل. فالتاريخ عندما يجعل القضية في جزئيات الزمن فإنّها تموت مع الزمن، ولكن التاريخ عندما يحمل الحقيقة فإن الحقيقة لا تعطي الزمن معناها بل تبقى ويهرب الزمن، ذلك لأن الحقيقة بنت الحياة، ولذلك فنحن الآن نريد أن نتحدث عن مسؤوليتنا عن مستقبل عامر بالعدل ((يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا)).

مسؤوليتنا في زمن الغيبة:

ما هي مسؤوليتنا في غيبة الإمام (عج)؟ هل نبقى ننتظر الزمن؟ وماذا في انتظار الزمن؟ هل هي أن تجلس في بيتك في حالة استرخاء؟ أو أن تدعو الناس، كما يفعل البعض، أن يعيشوا في الاسترخاء أمام الأحداث التي تهتز فيها الأرض تحت أقدامهم.

الظالمون يصنعون المأساة، والذين يعيشون المأساة يصرخون تحت ضرباتهم، وتبقى هناك فئة تعمل وتتحرك. ولعل هذا التخلف الذي أدمنّاه، وهذا الذل الذي عشناه، وهذه العصبيات التي تفصل شعباً عن شعب وأمة عن أمة فتجعل العدل في طائفة هنا ينفصل عن العدل في طائفة أخرى، وتضع للعدل سياسة هنا تنفصل عن سياسة هناك، ثم نتحدث عن خصوصيات في هذا البلد تمنعه من أن ينفتح على المظلومين في البلد الآخر حتى لو اتحدنا في معنى عروبتنا أو في معنى إسلامنا، لأن القضية أن على كلّ إنسان أن يقلع شوكه بأظافره، لكننا زيّفنا المثل الذي يقول إن على الإنسان أن يقلع شوكه بأظافره، فليس معنى ذلك أن لا تعمل على أن تقلع شوك الآخرين، بل معناه اعتمد على نفسك في قلع شوكك بأظافرك ولا تنتظر من يأتي ليقلع لك الشوك، اجرح أظافرك وأنت تقلع الشوك فستندمل الجراح وتمشي في أرض لا شوك فيها، سواء كان الشوك سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو غير ذلك.

علينا – أيّها الأحبّة – أن نفهم حقيقة مهمة وهي أن قضية الاستضعاف واحدة في عالم المستضعفين، وأن قضية الاستكبار واحدة في عالم المستكبرين، فعندما يقوى موقع من مواقع المستضعفين فإنه يعطي شيئاً من القوة للموقع الآخر، وعندما يقوى موقع استكباري فإنه يعطي القوة لموقع آخر، فإذا لم يسلم في عالم المستضعفين بلد يخضع للاستكبار فإنه لا يسلم البلد الآخر. وهناك بيت شعر يعطي الحكمة في ذلك:

من حـلقت لحيـة جـــار لـــه                فليسكب الماء على لحيته

لأن لحيته ستحلق بعد ذلك، وعندما تحلق حريتنا في بلد، وعند يحلق اقتصادنا في موقع، وعندما يحلق أمننا وسياستنا في موقع آخر، فعلينا أن نسكب الماء على لحية حريتنا واقتصادنا وأمننا وسياستنا، لأن حلاقة السياسة والاقتصاد والأمن سوف تأتي إلينا إن آجلاً أو عاجلاً ((أكلت يوم أكل الثور الأسود)) هذه هي المسألة..

نحن والقضية الفلسطينية:

أيّها الأحبّة: إنّ مشكلتنا هي أن الاستكبار العالمي مزّق ذاتيتنا، كنا عرباً واصحبنا نمثل 22 دولة، وأصبحت كلّ دولة تمثل كياناً دخل في العقول وفي القلوب. وأصبحت مسألة أن تدافع عن الأسوار التي فرضوها على البلاد التي تعيش فيها لتفصلك عن بلد آخر، ديناً ندين به، ولهذا أصبح الاستقلال الوطني يفترس الاستقلال القومي بل ويفترس الاستقلال الإسلامي وما إلى ذلك.

وعندما انطلقت القضية الفلسطينية تحمّسنا وانفعلنا، ولكن المشكلة هي أنّ الذين وظّفهم الاستكبار العالمي من أجل أن يدخلوا الحرب ليعطوا الكيان الصهيوني شرعية الاستقلال، سيطروا من موقع حرب فكانت الحرب الأولى تمثيلية وقد أدمنّا كلّ التمثيليات وبكلّ أسف، فالحرب التي دخلها العرب في السبعينيات، والتي سجلّوا فيها الانتصار، جاءت بعدها التمثيلية العربية لتحوّل النصر إلى هزيمة، لأننا أدمنّا الهزيمة لدرجة أننا أصبحنا نخاف من النصر، لأننا نخاف من القوة لأن القوة تتعب، ولأنها تكلّفنا الكثير ونحن نعيش الاسترخاء. ولذلك ترانا بعد 50 سنة من كلّ هذه الهزائم والنكبات التي لطّفناها وسمّيناها نكسات. لا نريد أن تتعمّق الجراح في داخل قلوبنا فأطلقنا عليها عنوان (نكسة) حتى لا نشعر أنها مشكلة، وقلنا إن السيف قد ينبو، وإنّ الجواد قد يكبو واسترحنا لهذه الأمثال، لأنّ القضية الفلسطينية التي اختصرت تاريخ نصف القرن بل ثلاثة أرباع القرن المنصرم، لأنها بدأت في الثلاثينيات، أصبحت عبئاً علينا، وبدلاً من أن نعمل على تحرير فلسطين، والقمة العربية الأخيرة خير شاهد، أصبحنا وكلّ همّنا كيف نتحرّر من فلسطين، وكيف نقول للفلسطينيين: اقلعوا شوككم بأظافركم، لأنّ لكلّ بلد عربي أشواكه الأميركية التي لا يستطيع أن يقلعها ويقلع شوككم أيضاً!!

سوف نعطيكم مالاً ونحن الذين نفرض عليكم طريقة صرف المال. سوف نعطيكم تأييدات فضفاضة. سوف نقول لإسرائيل إننا مع السلام، وإن كنا لا نملك أية خطة تجعل السلام سلامنا لإسلام أميركا وإسرائيل. ماذا أعطت القمة العربية؟ إنّ الذين صالحوا الكيان الصهيوني قالوا إن استراتيجيتنا هي السلام، ونحن لا نريد أن نقاطع إسرائيل لأن ذلك ضد الاستراتيجية، فلتقاطعها الدول التي أنشأت علاقات معها لكن خارج نطاق مسألة السلام من خلال المكاتب التجارية التي تأسست وراء الكواليس. ووقفت القمة العربية على أقدام قمة شرم الشيخ، ولم تزد حرفاً واحداً، وكانت مسيرة الشهادة تتتابع، ففي كلّ يوم أكثر من شهيد وأكثر من جريح وأكثر من دمار، والطائرات والصواريخ تقصف، وكلّ آلة الدمار تتحرك بشراسة متزايدة ، والعرب يستنكرون بصوت هادئ. وسكت الشارع العربي لأنّه أدّى قسطه للعلى في المظاهرات التي انطلقت في أول الانتفاضة. وجاءت القمة الإسلامية التي أعلن وزراء خارجيتها مقدماً أن لا حرب مع الصهاينة، لأننا نريد السلام، ناسين أو متناسين أنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول لنا عندما يكون السلام استسلاماً فلا تأخذوا بدعوات السلام، ولا تقبلوا السلام.

لقد أعلنوا لإسرائيل أنّها الأقوى وأنهّم الأضعف، فهناك (56) دولة تسمّي نفسها إسلامية وفي مقدمة قراراتها أنها لم تحارب فيما تخطط إسرائيل في كلّ استراتيجيتها للحرب وتلطف هذه الحرب باسم الدفاع وباسم مواجهة العنف وما إلى ذلك. انهم يقولون ستصدر قرارات المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية، ولقد تعوّدنا أنّ الذين خضعوا للسياسة الأميركية لا يمكن أن يشربوا حليب السباع لأن الأرانب لا تتقن لغة السباع، ولا تملك أظافرها.

أيّها الأحبّة: إنّ المسألة هي: هل أننا ننفتح في إنسانيتنا على التحديات التي تواجهنا؟ هل نواجه حالة الاستلاب التي تريد أن تستلب منا كلّ حريتنا وكلّ إرادتنا؟ إنني أشعر بالخجل أمام الكلمات، لأننا تكلّمنا كثيراً وكثيراً وعملنا قليلاً قليلاًَ ولم نستمع إلى قوله تعالى الذي يخاطب به المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ{(4).

 

مشاريع العالم المستكبر:

أيّها الأحبّة: إن للعالم المستكبر في كلّ مرحلة مشروعاً جديداً يشغلنا به لننسى قضايانا الأساسية ونعيش اللامبالاة أمام افتراس إنسانيتنا. فمنذ مدة طرح النظام العالمي الجديد، وصرخوا فينا: أيّها العالم المستضعف، هناك نظام عالمي جديد عليكم أن تستسلموا له أو تتكاملوا معه أو تنسجموا معه، وراح كل موقع يعطي كلمة تخففّ من بعض تأثيرات هذا النظام السلبية. وكانت المسألة أن النظام العالمي الجديد هو النظام الذي يتيح للدول السبع أو الثمان الكبار الأغنى في العالم أن تنظّم أوضاعها في استلاب ثروة المستضعفين، لأن المسألة هي أن لا تختلف فيما بينها بل أن تنظّم الحصص لهذه المائدة الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تمثل عالم المستضعفين.

وبعد أن استهلك شعار النظام العالمي الجديد، رفعوا شعار (العولمة) هذه الرسالة الجديدة التي تختصر في الدعوة إلى أن يكون العالم عنواناً واحداً في السياسة، فالسياسات – في نظرهم - تتداخل فليست هناك سياسات إقليمية وقومية ودينية وما إلى ذلك. وأيضاً لابد من العولمة الثقافية لهذا صادروا ثقافاتكم الذاتية كلّها، ولتكن هناك ثقافة العالم. وهكذا فإنّ القضية الأهم عندهم هي العولمة الاقتصادية حيث قالوا: حطّموا الحدود حتى تستطيع الشركات الكبرى أن تتحرك في بلاد العالم المستضعف بدون حواجز، ومازلنا مشغولين بالعولمة، والكتّاب في كلّ يوم يكتبون كتباً ومقالات وتحليلات عن العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية، ولكن المسألة هي أن الجميع يعرفون أنّ العولمة كانت مشروعاً أميركياً في البداية واستكبارياً في الدرجة الثانية، أمّا نحن الذين نمثل مجال سيطرة العولمة على الواقع فليس لنا أن نكون الشركاء، بل يريدون لنا أن نبقى الأتباع فليس لنا أن نصدر القرارات، فالقضية هي أنهم هم الذين يملكون القوة وعلينا أن نخضع لتلك القوة.

أيّها الأحبة: هل تؤمنون بالعدل؟ لا معنى لأن تؤمن بالإمام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً من دون أن تؤمن بالعدل. وأن تؤمن بالعدل هو أن ترفض كلّ ظلم صغيراً كان أو كبيرا، محلياً كان أو عالمياً، أن ترفض ظلم نفسك للآخرين، وظلم نفسك لنفسك، وظلم نفسك للحياة، وظلم الآخرين للحياة، وأن تقطع وتقلع كلّ أثر للظلم في نفسك، وأن تستمع جيداً إلى قول اللّه سبحانه وتعالى }وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا{. لا تركنوا إليهم سياسياً لتنفّذوا سياستهم، ولا تركنوا إليهم اقتصادياً لتنفّذوا اقتصادهم، ولا تركنوا إليهم أمنياً لتشاركوا في حماية أمنهم، فإنّكم إذا فعلتم ذلك }فتمسكم النار{(5). ذلك أن كبيرة الكبائر هي أن تركن إلى الذين ظلموا، أن تعطيهم كلمتك في عملية تأييد وأن تعطيهم موقفك وأن تبرّر لهم ظلمهم ((من عذر ظالماً بظلمه سلّط اللّه عليه من يظلمه فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره على ظلامته))(6).

المقاطعة الاقتصادية:

أيّها الأحبّة: لقد انطلقت فلسطين التي هي رمز كلّ المنطقة ورمز كلّ حركة العدل في مواجهة الظلم وحركة المستضعفين في مواجهة المستكبرين في العالم كلّه، إذ لم تعد قضية فلسطينية، بل أصبحت عربية إسلامية وربما تمتد لتكون إنسانية كما هي في عمقها الإنساني، لذلك فإنّ علينا أن نعيش التوتر النفسي وأن نعيش الاهتمام الفكري السياسي وأن نتطلّع، ونحن في هذه الذكرى، إلى  كيف يمكن لنا أن نركّز العدل في هذه الانتفاضة – الثورة؟ كيف يمكن أن نهدم الظلم؟ وكيف يمكن أن نتحرّك اقتصادياً إذا لم نستطع أن نتحرك عسكرياً؟ هناك طريقة واحدة فعّالة للتحرك وهي أن نقاطع البضائع الإسرائيلية بالمطلق، إذ يحرم على كلّ إنسان مسلم – وهذه فتوى أصدرناها – أن يشتري بضاعة إسرائيلية، وأن نقاطع البضائع الأميركية التي تمثل روح إسرائيل، فأميركا في الشرق الأوسط ليست أميركية بل هي إسرائيلية، وأن نقاطع البضائع الأميركية بما يمكن من المقاطعة، فإذا كنا نحتاج بعض الحاجات فإنّ هناك أكثر من موقع آخر يمكن ان يلبّي حاجاتنا، وعلينا أن نعيش هذه المسألة حتى تشعر أميركا بان العالم الإسلامي يقاطعها وبذلك تشعر بالألم، لأن ما يؤلم أميركا هو الاقتصاد. فنحن عندما نتابع المرشحين الرئاسيين في أميركا فإننا نجد أن حديثهم ينصبّ على الاقتصاد الداخلي وكيف يمكن تنمية هذا الاقتصاد، والاقتصاد الداخلي تتحرك فيه الشركات، وعندما تقاطع الشركات الأميركية في إنتاجها وتسويقها فإنّها سوف تصرخ، وبالتالي تصرخ الإدارة الأميركية.

علينا أن نتعلّم كيف نحترم أنفسنا وقضايانا وإنساننا ومستقبلنا، لأنّ ما نفعله وما نعيشه من قضايا هو هامشي وجزئي. ولقد قلت أكثر من مرة لو درسنا كلّ ما يدور فيه الجدل بين الناس لرأينا أننا نتناقش في جنس الملائكة والفاتح قد دخل حتى غرف النوم العربية والإسلامية، ولسنا نتناقش فيما يصون إنسانيتنا وكيف نستطيع أن نبني مستقبلنا؟!

إننا في الوقت الراهن نحمل فؤوسنا لنهدّم بها المستقبل بل والأساس الذي يقوم عليه، ونبقى نردد في المظاهرات (الموت لأميركا) وكلٌّ منا يدخن (المالبورو) ونهتف بالموت لها ونحن نشرب (الببسي) و(الكولا) و(السفن آب) وننسى أن ما نفعله يحيي أميركا التي لا تهمها اللعنات، فما يهمها هو الدولارات: ((ادفع دولاراً تقتل عربياً)). فنحن ندفع الدولارات لأميركا والبنوك الأميركية مليئة بالثروات العربية، والاستهلاكيات العربية مليئة بالبضائع الأميركية، ونبقى نردد (الموت لأميركا) ونحن إنما نهتف بالموت لعروبتنا ولإسلامنا، لأنّ الموت ليس مجرد كلمة وإنما هو موقف. فهل نقف مع الموت أو نقف مع الحياة؟ }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ{(7). والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الحادية والعشرون22شعبان 1421 ه18تشرين الثاني 2000م

 

 

 

 

مشكلة التجسّـس

 

* الكذب على المستكبرين لتخذيلهم واجب *

 
 
 
 

 

 

 

التجسس.

المناطق المحرّمة من حياة الإنسان.

مهمات التجسس الإعلامية والسياسية.

التجسس في النصوص الإسلامية.

التجسس الإيجابي.

حكم الجاسوس.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

التجسس:

من بين الموضوعات التي تمثل قضية حيوية في الواقع الإنساني، في الجانب الإيجابي تارة، وفي الجانب السلبي أخرى موضوع التجسس. والتجسس هو الطريقة التي يحاول فيها الإنسان أن يكتشف المنطقة السرية التي يخفيها الناس ويحتفظون بها لأنفسهم بما يتصل بحياتهم أو بحياة من يتعلق بهم، فلا يريدون لها أن تبرز إلاّ في دائرة ضيقة. أو الطريقة التي يحاول فيها الإنسان أن يتابع الناس فيما يهمسون به تارة، أو فيما يتحدثون به علناً تارة أخرى، ولكن في مناطق آمنة، فيحاول أن يرصد ذلك كلّه لينقله إلى الجهة التي يعمل معها أو ليستفيد منها في التنفيس عن عقده الذاتية.

وقد أطلق القرآن الكريم الحكم في النهي عن التجسس في الآية الكريمة }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا{(1). فقد نهى عن التجسس على الناس، ولعلّ هذا الجمع بين هذه العناوين الثلاثة، أو الترتيب بين هذه العناوين ينطلق من وضع طبيعي في ارتباط احدها بالآخر. فالإنسان في البداية عندما يتطلّع إلى الناس أو إلى أوضاعهم المتحرّكة فيما بينهم تحصل له انطباعات ظنّية بحيث يرجح في وجدانه الظنّي أن فلاناً على حالة معينة أو على ارتباط معين أو في الطريق إلى مشروع معين فيدفعه ذلك الظن إلى أن يفتش عنه وعن أوضاعه السرية أو الخفية ليؤكّد ظنه، فإذا أكّد ظنّه من خلال ما اكتشفه من أوضاعه التي ربما تكون عيوباً يخفيها الإنسان، أو أسراراً يكتمها، فعند ذلك يبدأ في فضح الإنسان الآخر بإظهار تلك العيوب أو إفشاء تلك الأسرار من أجل أن يربك وضعه، أو يدمّر سمعته، أو ينزل مكانته، أو يحاول أن يجعله في موقع العقاب لدى الذين لا تنسجم أسراره أو مواقفه مع سياستهم سواء كانت سياسة سلطوية أو اجتماعية أو ما إلى ذلك.

المناطق المحرّمة من حياة الإنسان:

إننا عندما ندرس موقف الإسلام من التجسس فإننا نجد أن الإسلام قد جعل في حياة كلّ إنسان منّا منطقة محرمة لا يجوز للناس أن يقتحموها، وهي منطقة حياته الخاصة، لأن للإنسان الحق في حياة خاصة يحتفظ بها لنفسه، سواء كانت حياته العائلية مع أبيه وأمه وزوجته وأولاده، أو مع الناس القريبين إليه اللصيقين به الذين ترتبط حياتهم بحياته العامّة أو في حياته التجارية، فإن للناس الذين يتجرون أسراراً في معاملاتهم وعلاقاتهم التجارية تحفظ هذه المعاملات كما تحفظ الوسائل التي يتوسل بها التجّار إلى الربح، وهكذا الحال في كثير من المشاريع الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية.

فلكلّ إنسان منطقة خفيّة يعمل على أن يحتفظ بها - وقد أراد الإسلام للإنسان، لكلّ إنسان، أن يحترم هذه المنطقة الخفية، لأنّ من حق كلّ إنسان أن تكون له حريته في الحفاظ على حياته الخاصة انطلاقاً من النتائج السلبية التي قد تحصل من خلال اقتحام المنطقة المحرمّة في حياته. ومن هنا حرّم الإسلام التجسس بكلّ الوسائل، سواء كان التجسس بواسطة البصر بأنْ يتلصّص ليطلع على ما يخفيه الإنسان الآخر في بيته أو في أوراقه أو في اجتماعاته السرية، أو ما يتحرّك به في حياته، أو فيما يتنصّت إليه، سواء كان التنصّت بشكل مباشر بالأذن، أو بواسطة الأجهزة المعروفة. فنحن نعرف أن التنصّت الآلي أصبح من خصوصيات العصر بحيث يمكن للناس، بالوسائل التي هيأها التقدم العلمي، أن يتجسسوا على كلّ أجهزة الاتصال، سواء كانت أجهزة اتصال مباشرة كالتليفون أو غير مباشرة كالخليوي (النقّال) أو ما أشبه ذلك مما في هذه الدائرة أو تلك، أو في هذا الموقع أو ذاك ويسجلّوا ما يتحدث به الآخرون. وبذلك أصبحت التقنيات العلمية تخدم مسائل التجسس على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأحزاب وعلى مستوى الحكومات. ومن الطبيعي أن ذلك يجعل الإنسان يشعر في حياته الخاصة بخطورة وضعه لأنه يرى أنه مكشوف أمام الآخرين الذين يملكون كلّ هذه الأجهزة، أو الذين يملكون الوسائل التي ينفذون بها إلى حياة الإنسان الخاصة، مما يجعل الإنسان يعيش القلق على حياته وعلى مشاريعه وعلى أوضاعه وعلى أمنه لأنه يشعر بالملاحقة الدائمة لكلّ ما يريد أن يخفيه مما قد يستغله الآخرون للإضرار به.

مهمات التجسس الإعلامية والسياسية:

ونحن نعرف أن مسألة التجسس أصبحت من المسائل التي لا تقتصر على المبادرات الفردية في ما يريده الفرد من التعرّف على خفايا فرد آخر، بل أصبحت كلّ التجمعات السياسية والاقتصادية تحاول أن تكون لها أجهزتها التي ترصد ما تريد رصده من أسرار الناس الذين تتصل قضاياها بقضاياهم أو بأوضاعهم. وقد تطوّرت المسألة فأصبحت لكلّ دولة مخابراتها التي تحفظ أمنها وتحمي أوضاعها من الفئات المعارضة في الداخل أو من بعض الفئات المضادة في الخارج. ثم تحركت هذه الأجهزة إلى الساحة الدولية، فأصبح للدول الكبرى التي تملك مصالح في أكثر من موقع في العالم أجهزتها المتطوّرة التي تزرع في كل منطقة جهازاً تجسسياً ليكون العين التي ترصد بها الوضع الاقتصادي أو السياسي أو الأمني وحتى الوضع الديني. ونحن نعرف أيضاً أن هذا التجسس سواء كان محلياً أو إقليمياً أو دولياً لم تعد له مهمة إعلامية بل انه تطوّر فأصبحت له مهمة سياسية وأمنية بحيث يسخّر أجهزته من أجل إثارة الإشاعات هنا والفتن هناك والخلافات هنا وهناك من خلال دراسة كلّ العناصر التي تعيش في أوضاع الشعوب أو في علاقاتها مع بعضها البعض، سواء كانت متصلة بالخلافات الطائفية كالخلافات بين دين ودين، أو الخلافات المذهبية بين مذهب ومذهب ضمن دين واحد، أو الخلافات العرقية أو القومية أو الإقليمية أو ما إلى ذلك. ومن هنا أصبحت مهمة الأجهزة التجسسية لاسيما الدولية إرباك المجتمع وليس مجرد دور إعلامي في هذا المجال. ومن هنا أيضاً كان خط التربية الإسلامية هو أن يربّى الإنسان المؤمن على أن يحمي الإنسان الآخر من نفسه ليجعل لعينه مما تريد أن تراه ضوابط معينة، وليجعل لأذنه ضوابط معينة فيما تريد أن تسمع، وليجعل لحركته ضوابط معينة فيما تريد أن تستخدم من أجهزة تتصل بهاتين الحاستين. ولذلك أطلق اللّه سبحانه وتعالى هذه الآية }وَلا تَجَسَّسُوا{. احترموا حياة الناس من حولكم فلا تخترقوها بأبصاركم ولا بأسماعكم ولا بوسائلكم الخاصّة، وتصوّروا المسألة في مستوى خط العدل، فالعدل ينطلق من مساواتك الإنسان الآخر بنفسك ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها)). فإذا كنت تحب للناس أن يحترموا حياتك الخاصة في كلّ أوضاعها وأسرارها ونقاط ضعفها فان الناس يحبّون ذلك، ويحبون أن لا يخترق أحد حياتهم الخاصة.

فإذا كنت مؤمناً فمن الإيمان أن لا تخترق حياة الناس، ولا تتجسس على الناس، كما لا تحب للناس أن لا يتجسسوا عليك. وقد جاءت الأحاديث المتنوعة التي تسند هذا الخط القرآني. وهذا كلّه في الجانب السلبي.

ولكن لما كانت مسألة التجسس في مواقع الشر تعمل على حماية مصالح الشر ممن يريد أن يربكها، أو تعمل على أساس إسقاط مواقع الخير في مصالحها وقضاياها كلّها، فإن للخير مصالحه التي يريد حمايتها ويريد مواجهة الوسائل التي قد يتحرك بها الناس من أجل تحطيمها وتدميرها، ولذلك فان من حق الإسلام، وهو العنوان الكبير للخير الإنسانيّ كلّه، لأنه دين اللّه، ولأنه الذي يمثل مصالح الإنسان كلّه ومصالح الحياة كلّها، أن يحمي نفسه من كلّ الذين يكيدون له ومن الذين يتخذون المكر وسيلة لإسقاطه. ولهذا استثني التجسس لحساب الحق والعدل والخير من حرمة التجسس فقد يجب ممارسة التجسس إذا كان هناك خطر يحيق بالإسلام والمسلمين من قبل المستكبرين والكافرين وقد يحسن التجسس.

التجسس في النصوص الإسلامية:

ونحن نحاول أن نتابع النصوص الإسلامية في هذا المجال، ففي الحديث عن رسول اللّه(ص) في (كنز العمال) ((اني لم أؤمر أن أنقّب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)). أي أن الشريعة الإسلامية قائمة على أساس أن تعامل الناس بما هو الظاهر كخط عام، أمّا أن تنفذ إلى قلوبهم بكلّ الوسائل التي تحاول أن تكشف ما في داخلها من دوافع ونوايا، أو على نحو الكناية أن تشق بطونهم، والبطون هنا تمثل المنطقة الداخلية التي تشمل أحاسيسهم ومشاعرهم وأفكارهم، أنا لم أؤمر بهذا.

وفي الحديث عن رسول اللّه(ص) مما رواه (الكافي) ((لا تتبعوا عثرات المسلمين)) أي لا تلاحقوا المسلمين لتتبعوا عثراتهم في نقاط الضعف في حياتهم ((فإنه من تتبع عثرات المسلمين تتبع اللّه عثرته ومن تتبع اللّه عثرته يفضحه ولو في جوف بيته)). فكأنّ اللّه سبحانه وتعالى يثأر للمسلم الذي يقع تحت ضغط الإنسان الذي يتجسس عليه ليتتبع عيوبه ونقاط ضعفه، فإذا كنت تريد أن تفضحه في ذلك فما قيمة وسائلك في الفضيحة أمام قيمة وسائل اللّه سبحانه وتعالى في فضيحتك؟!

وهناك حديث آخر عن رسول اللّه(ص) في هذا السياق ((لا تطلبوا عثرات المؤمنين فإنه من تتبع عثرات أخيه تتبع اللّه عثراته)) وهذا كناية عن أن اللّه يحصي عثراته في علمه ((ومن تتبع اللّه عثراته يفضحه ولو في جوف بيته)). وفي الحديث عن علي(ع) ((لا تسألوا الفاجرة من فجر بك، فكما هان عليها الفجور يهون عليها أن ترمي الرجل البريء المسلم)). فكما مارست الفجور فإنّها يمكن أن تتهم رجلاً بريئاً مسلماً فلا يعتمد على كلامها، ولذلك لابد أن تعتمدوا الوسائل الشرعية في ذلك لا الأمور التي لا تملكون حجّة فيها.

وعن ثور الكندي في (كنز العمال) ((أن عمر بن الخطاب كان يعسّ بالمدينة من الليل، يذهب فيه ويتبع ليرى من يضرب من وكذا، فسمع صوت رجل في بيته يتغنّى فتسور عليه)). أي صعد على الحائط ((فقال: يا عدو اللّه، أظننت أن اللّه يسترك وأنت في معصية؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ أن كنتُ قد عصيتُ اللّه في واحدة فقد عصيتَ اللّه في ثلاث، قال }وَلا تَجَسَّسُوا{.  وقال }وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا{(2).  وقد تسوّرت عليّ وقد دخلت عليَّ بغير إذن، وقال اللّه تعالى }لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا{(3).  قال عمر: فهل عندك من خير إنْ عفوت عنك، فهل تسامحني إذاأنا سامحتك، قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه يغنّي)).

ونأخذ من هذه الرواية درساً وهو أن المسلمين كانوا في تلك المرحلة يشعرون بالأمن أمام الاعتراض على السلطات، وكانوا لا يخافون من الاعتراض عليها، فلقد كان عمر الخليفة الزمني ومع ذلك فإنّ هذا الرجل المسلم الذي ارتكب معصية استطاع بعقل بارد وبأعصاب هادئة أن يردّ عليه وأن يحاكمه بعد أن كان هو المحكوم.

التجسس الإيجابي:

وفي التجسس الشرعي يروى في السنن عن الإمام علي(ع) أنه قال ((بعثني رسول اللّه(ص)أنا والزبير والمقداد، فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فان بها ضعينة معها كتاب فخذوه منها)). والظاهر أن ذلك كان في أجواء فتح مكة حيث كان النبي(ص) قد ضرب طوقاً على التخطيط لفتح مكة حتى يفاجئ قريش بالخطوة الأخيرة التي اسقط فيها عنفوان قريش والقوة التي أربكت الواقع الإسلامي. يقول ((فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالضعينة، فقلنا: هلمي الكتاب؟ فقالت: ما عندي من كتاب، فقلت: لتخرجنّ الكتاب أو لتلقين الثياب)) نفتشها، وفي حديث آخر في (سنن أبي داود)، قال علي ((والذي يحلف به لأقتلنك أو تخرجنّ الكتاب فأخرجته من عقاصها – أي من شعرها – فأتينا به النبي(ص)فإذا هو من حاطب بن أبيبلتعةغلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول اللّه(ص) فقال: ما هذا يا حاطب)) هل أنت تتجسس علينا لحساب المشركين؟ ((فقال يا رسول اللّه(ص) لا تعجل علي فإنّي كنت امرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها)) أي من داخلها فأنا رجل طارئ على قريش ولست من قلب قريش ((وان قريش لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك أن اتخذ فيهم يداً يحمون قرابتي بها)). أي أن عندي هناك أقرباء وأريد أن أحمي قرابتي ((واللّه يا رسول اللّه ما كان بي من كفر ولا ارتداد)). ولكن هذه نقطة ضعف، ((فقال رسول اللّه(ص) صدقكم)). وفي حديث عن الإمام الرضا(ع) ((كان رسول اللّه(ص) إذا بعث جيشاً فاتّهم أميراً بعث معه من ثقاته من يتجسس له خبره)) لأنه يخاف أن يخون وان يقدّم للعدو أسراراً أو يربك المعركة فكان يبعث مع بعض المسؤولين مخابرات عليهم إذا كان المسؤول ليس محل ثقة عميقة بل كانت الظروف هي التي أدت إلى أن يكون مسؤولاً.

و((عن جابر قال: قال النبي(ص) يوم الأحزاب من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير)) وقد كان الزبير في ذلك الوقت على خير، قبل أن ينقلب على أمير المؤمنين(ع) ((فقال الزبير: أنا، قالها ثلاثاً، ويجيبه الزبير، ثم قال(ص) إنّ لكلّ نبي حواري وإنّ حواري الزبير)). فبعث الزبير حتى يأتيه خبر القوم.

وعن حذيفة بن اليمان حيث أراد أن يقوم ليس بعملية رصد فقط، بل أن يدخل كعنصر من المسلمين داخل مجتمع المشركين حتى يقوم بخطة تربك واقعهم وتخلق الاهتزاز في داخلهم.

((واللّه لقد رأيتنا مع رسول اللّه(ص) بالخندق في وقعة الأحزاب وصلى رسول اللّه(ص) هوياً من الليل – بعضاً من الليل – ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع -يشرط له رسول اللّه الرجعة – يعني أنه سوف يرجع آمناً – أسأل اللّه تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟)) فمسألة الأحزاب كانت من المسائل التي تمثل مصير المسلمين، ولهذا لا يتصوّر بعض الناس أن رسول اللّه(ص) يمكن أن يقول عندما برز علي(ع) لمنازلة رأس الشرك (عمرو بن عبد ودّ) ((برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه)) فهذا شخص وهذا شخص، وهذا بطل وهذا بطل، أي ليس علياً وحده وليس عمرو بن عبد ودّ وحده، لكن المسألة تؤخذ باعتبار أن عمرو بن عبد ودّ كان يمثل الشخص الأول والأقوى عند المشركين بحيث اذا انتصر انتصرالشرك كلّه، وإذا سقط سقط الشرك، وكان علي(ع) في الموقع الإسلامي المتقدم بحيث إذا انتصر انتصر الإسلام كلّه، وإذا سقط سقط الإسلام كلّه.

وبعد أن صرع علي(ع) عمرواً أعطاه النبي(ص) وساماً لأن عمرواً كان يتهدّد الإسلام والمسلمين والنبي(ص) يقول: من يبرز له فلا يستجيب غير علي(ع) ولذلك قال(ص): ((ضربة علي في يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين)). ولكن ابن تيمية يعجب كيف أن ضربة واحدة تعدل عبادة الثقلين، في حين أنّ السرّ في ذلك هو أنّ المشركين قد جمعوا في معركة الخندق أحلافهم كلّها، وعملوا مع اليهود الذين كانوا يمثلون نقطة التحدي بالنسبة للمسلمين في الموقع الاستراتيجي في المدينة على نقض العهد مع النبي(ص).

واللّه تبارك وتعالى رسم في كتابه الكريم صورة متحركة للوضع القتالي آنذاك}إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّه الظُّنُوناَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا{(4). مما يعني أن وقعة الأحزاب كانت تحدّد مصير المسلمين ومصير الشرك كلّه.

ولذلك فإن النبي(ص) بعد أن صُرع (عمرو) وهرب الذين كانوا معه، أراد أن يعرف ماذا حدث في صفوفهم؟ وما هي ردّة فعل الجيش المشرك؟ وكيف يمكن إيجاد الإرباك بينهم؟

((فلمّا لم يقم أحد، دعاني رسول اللّه(ص) فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة: اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثنّ شيئاً حتى تأتينا، قال فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء. فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال: حذيفة، فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع)).

فهذا الرجل قد قام بعملية رصد، ولكنّ هناك شخصاً آخر قام بأكثر من ذلك حيث أحدثالإرباك في صفوف المشركين ((ثم أن نعيم بن مسعود أتى رسول اللّه(ص) فقال: يا رسول اللّه! إني قد أسلمت وان قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت؟ فقال رسول اللّه(ص): إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنّا أن استطعت، فإنّ الحرب خدعة.

فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم، وخاصّة ما بيني وبينكم؟ قالوا: صدقت: لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً، حتى تناجزوه. فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتّى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمداً، إنّه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم، فاكتموا عني، فقالوا: نفعل: قال: اعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان، رجالاً من أشرافهم فنعطيكم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم، فإن بعث إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنّكم أصلي وعشيرتي، وأحبّ الناس إليّ، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عنّي، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذّرهم ما حذّرهم.

فلما كانت ليلة السبت من شوّال سنة خمس، وكان من صنع اللّه لرسوله(ص) أن أرسلأبو سفيان بن حرب ورؤس غطفان الى بني قريضة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفّ والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً.

فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً ولسنا مع ذلك الذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رُهنا من رجالكم، يكونوا بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمداً.

فلّما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريضة، قالت قريش وغطفان: واللّه إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بني قريظة، إنا واللّه لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا.

فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا، إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا واللّه لا نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهنا فأبوا عليهم، وخذّل اللّه بينهم)).

إنّ هذه عملية مخابراتية من الدرجة الأولى، فقد استطاع نعيم أن يخذّل ما بين اليهود وبين المشركين عن الإسلام والمسلمين، وهذا الدرس يمكن الاستفادة منه لجهتين:

الأولى: إنّ هذه الوسائل يستعملها الآخرون فيحاولون أن ينقلوا لهذه القيادة شيئاً ولتلك القيادة شيئاً آخر، أو لهذه الجماعة شيئاً ولتلك الجماعة شيئاً آخر حتى يخذّلوا المجتمع عن بعضه البعض، ولذلك فنحن بحاجة إلى أن نكون واعين لهذه المسألة.

الثانية: وهي في الجانب الإيجابي فإذا استطعنا أن نخذّل المستكبرين عن بعضهم البعض بهذه الطريقة أو بغيرها فلنفعل، حتى لو استلزم ذلك الكذب والتكلّم بخلاف الواقع لأن الكذب حرام لما فيه من المفسدة، فإذا كان فيه مصلحة عامّة كان جائزاً، بل ربما يكون واجباً في بعض الحالات كما في مثل هذه الحالة.

حكم الجاسوس:

والآن ما هو حكم الجاسوس؟

إن حكمه كما ورد في الحديث ((الجاسوس والعين إذا ظفر بهما قتلا)). فلقد جعل الإسلام حكم الجاسوس مع التحقيق ودراسة الظروف التي أحاطت بتجسسه الإعدام لأنّه ممن يعيث في الأرض فساداً وممن يحارب اللّه ورسوله.

وختاماً نحبّ أن نؤكّد على نقطة مهمّة وهي أنّ من وسائل توظيف الناس في الأجهزة الدولية خصوصاً أجهزة المخابرات المركزية الأميركية هي استغلال ضعف الناس، فهم اليوم يستغلّون بعض المهاجرين المغتربين القادمين من البلاد الإسلامية بتوريطهم بعمليات مخدّرات أو في عمليات مخالفة للقانون، حتى إذا وقع أحدهم في الاحبولة فإنهم يخاطبونه بالعمل معهم بالتجسس على معارفه وإلافإنهم يهددونه بالسجن أو بالتهجير وما إلى ذلك.

وقد سمعنا قبل أيام أن مدير المخابرات المركزية، وهو يعلق على تدمير المدمّرة الأميركية في اليمن: إنّ علينا أن نوظّف أجهزة جديدة في العالم الإسلامي والعربي. فهناك إذاً خطّة للتوظيف، وطالما أن البعض يعيش الحاجة أو التشريد فإنهم يقعون ضحية هذه الخطط، فليحذر الذين يخالفون أمر اللّه ونهيه }ولا تجسسوا{. خصوصاً على المؤمنين لأن في ذلك نهياً عن التجسس بصفة عامّة، وعن المؤمنين والأبرياء بصفة خاصّة حتى لا نسمح للمستكبرين بالسيطرة على مقدرات المسلمين السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية مما يمثل خطيئة ومعصية من أكبر المعاصي، ولذلك علينا أن نعرف حقيقة مهمة، وهي أنّ كلّ المشاكل التي حدثت للعالم الإسلامي إنّما كانت من خلال الأجهزة المخابراتية التي تتحرك في العالم الإسلامي على أساس رصد نقاط ضعفه وإيجاد الوسائل المؤثرة في ضرب بعضه بعضاً، بإثارة الفتن المذهبية والطائفية والقومية والإقليمية وما إلى ذلك، حتى ينشغل العالم بين خلافاته ونزاعاته الصغيرة التي يستفيد منها فيحاول من خلال ذلك أن يسيطر على العالم وعلى مقدراته.

وأحبّ أن أورد لكم مثلاً من خلال الصراع الذي بيننا وبين الصهاينة، حيث أنّ هناك في الجامعة العبرية كراسي للدراسات الأمنية تدرس أوضاع العالم العربي والإسلامي، ولذلك فنحن مكشوفون أمامهم وبإمكان موظفيهم إثارة الفتن الطائفية، كما أثيرت في لبنان ومصر بين المسلمين والمسيحيين، أو الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة أو بين الشيعة أنفسهم وبين السنّة أنفسهم.

وفي وقت من الأوقات كانت المخابرات في بعض الدول ومنها فرنسا، تسأل: هل أنت شيعي أو سنّي؟ فإذا قال إنه شيعي، فيسألونه: تقلّد من؟ لأنهم يريدون أن ينفذوا حتى من خلال هذه الثغرة.

فإذا سمعتم أحداً يحاول أن يثير المسائل الطائفية في حالات الاهتزاز التي يعيشها العالم العربي أو الإسلامي، أو يريد إثارة الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة بتكفير بعضهم البعض، أو مسائل المرجعيات فاعرفوا أنّ وراء ذلك أصابع مخابرات قد تكون دولية أو إقليمية أو محلّية. والإمام علي(ع) يقول: ((إذا غلب الصلاح على الزمان وأهله وساء إنسان ظنّا بإنسان فقد ظلم، وإذا غلب الفساد على الزمان وأهله وأحسن إنسان فقد غرّر)).

فنحن لا نريد أن نحكم بالمطلق على أنّ الناس أعضاء في المخابرات الأميركية أو غيرها، لكن علينا أن نكون على حذر، فالمخابرات تستغل نقاط الضعف لدى من يحاول بذريعة الدفاع عن مذهبه أن يثير الفتنة، وقد قال الإمام علي(ع) عندما سمع الخوارج يقولون (لا حكم إلا اللّه): ((كلمة حق يراد بها باطل))(5). فلا يكفي أن يقول إنسان كلمة الحق بل لابدّ أن تعرف دافع الذي يقولها، وما هي الأجواء التي أثيرت فيها. فقد سئلت من قبل بعض الصحفيين في لبنان عن شخصية أثارت مسألة ما، فقلت: إنني لا أريد مناقشة ذلك، ولكن قد تكون بعض الكلمات كالشرر في وقت الحصاد، فالبيدر مملوء بالغلال وأدنى شرارة تحيله إلى حريق هائل، فعندما تلقي عود ثقاب أو تطفئ سيجارة فعليك أن تتحفّظ وتحتاط، فبعض الناس قد يقولون كلمة حق ولكنّها تحرق الأخضر واليابس، فقيمة الحق هي بمقدار ما يخدم الحقّ، ولذلك فإنّك عندما تقول كلمة فكّر في النتائج السلبية والإيجابية من خلال ذلك، لأنّ البعض قد يفعل ما فعله الخوارج.

}يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه تَوَّابٌ رَحِيمٌ{(6).  والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة الثانية والعشرون29 شعبان 1421 ه25تشرين الثاني 2000م

 

قيمة شهر رمضان المبارك

 

 

 

* لنجعل من حركتنا في هذا الشهر تأكيداً لحجّة الهدى ضد الضلال *

 

 

 

 

خصوصيات الزمن.

زمن الهدى.

قراءة القرآن.

خط التوحيد.

الدعاء مظهر العبادة.

التدريب على التقوى.

الصوم المادي.

الصوم الروحي.

الصوم الاجتماعي.

الصوم السياسي.

موسم الرحمة.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

خصوصيات الزمن:

}شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ{(1). للزمن في المفهوم الإسلامي معناه الطبيعي في الكون، فليس للزمن ميزة في نفسه }إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ{(2). فالزمن في طبيعته هو ظاهرة في النظام الكوني وليس هناك خصوصية ليوم دون يوم، فالشمس تشرق في كلّ يوم كما تشرق في بقية الأيام، وتغرب في هذا اليوم كما تغرب في بقية الأيام، فما الذي يعطي للزمن خصوصيته بحيث يصبح مقدّسا ويتحوّل إلى عنوان يفرض الاهتمام والاحترام؟ إنّه الحدث الذي يقع في الزمن فيعطيه معناه في وجدان الإنسان بمعنى أن نحتضن الزمن أو أن نحترمه ونقدسه من خلال احترامنا للحدث سلبياً إذا كان في دائرة السلب، أو إيجابيا إذا كان الحدث في دائرة الإيجاب! ومن هنا فقد ورد عندنا حديث عن الاعتبار السلبي للزمن ((لا تعادوا الأيام فتعاديكم)) أي لا تحمّل الزمن مسؤولية النتائج السلبية التي تحدث فيه لتلعن الزمن هنا وتسب الزمن هناك.

زمن الهدى:

على ضوء ذلك، فإنّنا عندما ندرس هذه الآية التي تتحدث عن شهر رمضان نرى أنّها تتحدث عنه من حيث إنزال القرآن فيه، كما تتحدث عن القرآن انه }هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ{ فكأنها تقول إنّ قيمة شهر رمضان هو من خلال قيمة القرآن الذي انزل فيه وبذلك لابدّ أن يتحوّل الزمن إلى زمن هدى ينفتح فيه الناس على هدى القرآن قراءة وفكرا وحركة. وهكذا يأخذ الزمن معنى الأسلوب أو معنى القّوة للحجّة التي ينفتح فيها الإنسان على تأكيد إيمانه ومواجهة الإيمان الآخر المضاد. فالقرآن هو بيّنات من الهدى، ولذلك لابدّ أن نجعل من حركتنا في هذا الشهر حركة في تأكيد الحجّة للّهدى ضد الضلال، وأن نؤكد الحجّة التي تفرّق بين الحق والباطل من خلال قوله تعالى }وَالْفُرْقَانِ{. ولذلك يأخذ شهر رمضان معنى روحيا في العنوان الذي يمثّله القرآن، كما يأخذ معنى ثقافيا فيما يختزنه من ثقافة المعرفة، ولما يشتمل عليه بكلّ أبعاده وكلّ الأفكار التي تتحرّك فيه والشرائع التي تتمثل فيه. ولذلك فإن شهر رمضان أصبح منسوبا إلى اللّه لأنّ اللّه سبحانه وتعالى أنزل فيه كتابه الخاتم الذي قال عنه }نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ{(3). فكان خلاصة الرسالات، وبذلك كان تاريخ الإسلام هو تاريخ الرسالات كلّها لأنّه احتضن الرسل كلّهم وقال }لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ{(4).

قراءة القرآن:

ومن هنا تأتي – أيّها الأحبّة – أهمية قراءة القرآن في شهر رمضان، فهي ليست مسألة تدخل في التقليد الدينيّ كأي عادة من العادات التي يعتادها الناس لتبدأ مليئة بالحياة في بدايتها ثم تموت بعد ذلك، كالكثير من العادات التي تنطلق من فكرة ثم تتحوّل إلى شيء جامد كمثل الحجارة التي لا تعطي أية نبضة حياة. إنّ هذا الحث على قراءة القرآن في شهر رمضان يؤكد على ضرورة أن يمتلئ الزمن عندنا بالقرآن بحيث يُقرأ صباحا ومساءً إلى أن يتحوّل عندنا إلى حياة تحكم مفردات الزمن كلّه، فلا يغيب القرآن عن نهارنا وعن ليلنا حتى يضجّ الزمن كلّه بالقرآن. وبذلك يدخل كتاب اللّه المجيد في هذا الموسم إلى عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا ليمتدّ إلى حياتنا كلّها. وإذا عرفنا أن اللّه لا يريد لنا أن نقرأ القرآن بطريقة عادية، بل يريد لنا أن نتدبّره }أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا{(5). بان تفتح قلبك للقرآن، والقلب في المصطلح القرآني هو منطقة الوعي الداخلي برمتها والتي تشمل العقل والقلب والشعور والإحساس، أي أن لا تقفل قلبك، بل عليك أن تكسّر كلّ الإقفال التي يمكن أن تحجب عن قلبك ثقافة القرآن وروحانيته وحركيته وامتداداته بحيث يمتدّ إلى حياتك كلّها.. كسّر أقفال التخلّف التي تجعل القرآن ميتا حتى في تفسيره وذلك عندما يفسّره التخلّف بطريقته الخاصة، أو عندما تتحرّك الأهواء لينطلق كلّ هوى في توظيف القرآن بكلّ ما يختزنه من خلفيّات تقعد بالقرآن بدلا من أن تتحرك به. وقبل أن تقرأ القرآن افتح عقلك وقلبك وأحاسيسك ومشاعرك. والإمام علي(ع) يحدّثنا في بعض خطبه عن المتقين فيصفهم بالقول ((إذا قرأوا القرآن ومرت بهم آيات النار أحسوا بلهيب النار في وجوههم، وإذا مرّت بهم آيات الجنة فكأنّهم فيها منعّمون)). فعلينا أن نعيش القرآن حياة وحركة تدخل في الصميم من حركة الحياة. وهذا هو الهدف الذي استهدفه الإسلام من إطلاق القرآن في حياة الناس ليكون الإنسان قرآنيا، وليكون المجتمع قرآنيا، ولتكون الحياة قرآنية وليدخل القرآن في حياتنا كلّها.

خط التوحيد:

وهكذا – أيّها الأحبة – أُريد لهذا الشهر أن يعيش الخطوط القرآنية، وفي العنوان الكبير للخط القرآني يقف التوحيد، لأنّ توحيد اللّه هو رسالة كلّ
الأنبياء(ع) وقد اختصر اللّه سبحانه وتعالى الرسالة كلّها بكلمتين
}إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا{(6). لان كلمة ((ربنا اللّه)) تلخّص كلّ معنى الرسالة والرسول واليوم الآخر وحركية الإنسان في الحياة. فاللّه تبارك وتعالى واحد، ولذلك فلا تتوجه العقول والقلوب والأجساد وكلّ شيء إلاّ إليه، لذلك قلْ: ربيّ اللّه، ولا تنظر يميناً ولا يساراً بل حدّق في اللّه في عقلك وقلبك وشعورك واستقم في هذا الخط }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{(7). }وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ{(8). أنكم لن تنظروني كما ينظر أحدكم إلى غيره من البشر }لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{(9). لكنّي أريد أن تنظروا إليّ بعقولكم وقلوبكم ومشاعركم وأن تتحدثوا إليّ وأن تحسّوا بحضوري، لأنّ كيانكم يمثل حضوري من حيث أنّه يمثل سرّ خلقي لكم.

الدعاء مظهر العبادة:

}وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ{ وجعل الدعاء مظهر العبادة }إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ{(10). }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ{(11). فقد يكون الدعاء مظهر العبادة فيما يغني معنى العبودية في نفوسكم، ولكنّه حاجة من حاجات الحياة الأساسية فيما تفتقرون فيه إلى ربكم .. تعالوا إلي .. لماذا تبتعدون عني؟! لماذا تهربون مني؟! أنّا ربكم القريب منكم وقد خلقتكم بيدي }وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ{(12)}يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ{(13). تعالوا إليّ فلست بعيدا عنكم ولست بعيدا عن أحلامكم وعن آلامكم وعن حاجاتكم }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي{ لندائي }وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ{(14). فسيجدون الرشاد فيما يبتعد بهم عن الغيّ كلّه. وكان الحثّ على الدعاء في شهر رمضان بالإضافة إلى سائر شهور السنة استجابة لنداء القرآن في ذلك. وقد علّمنا القرآن كيف كان الأنبياء(ع) يدعون، فرأينا أنّ موسى(ع) بعد أن طال به السير وهو خائف من الملاحقة، وصل إلى موضع يشعر فيه بالأمن }فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ{(15). وعندما شعر بالأمن والطمأنينة قال }رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ{(16). وهكذا علّم اللّه تعالى رسوله(ص) أن يدعو }وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا{(17). }وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ{(18).

وكان هذا هو خطّ الدعاء الذي انفتح عليه النبي(ص) في أدعيته وانفتح عليه أهل البيت(ع) في أدعيتهم. ولقد رأينا كيف تحوّل الدعاء إلى مدرسة ثقافية ندعو بها ونتعرف من خلالها على صفات اللّه سبحانه بحيث ندعو فتنفتح علينا حياة الرسول(ص) في دعائنا، وتنفتح علينا قضايا الحياة في خط الاستقامة والانحراف .. ندعو فتتجمع في أدعيتنا حاجاتنا كلّها وآلامنا كلّها وأحلامنا كلّها، فالدعاء يختزن في داخله مفردات القرآن ويوسّعها من حيث ما تمتلكه من السعة في ذاتّها ودلالاتها وإشعاعاتها، وينفتح بها على كل ما يغني إنسانية الإنسان في حياته كلّها ليكون الإنسان إنسان اللّه الذي يحلّق في مواقع العبودية للّه عزّ وجل، ويعيش القرب منه ويتحرّك في خط رضاه ولا شيء إلاّ رضاه.

التدريب على التقوى:

ومن هنا فقد دخل الدعاء في شهر رمضان من باب القرآن، دخل الصيام في شهر رمضان في باب القرآن }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{(19). فاللّه سبحانه وتعالى قال لكم }يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ{(20). واللّه قال لكم }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{(21). وهكذا فقد امتلأ القرآن بالدعوة إلى التقوى ولابدّ للتقوى من تدريب، أي لابدّ أن يتدرّب الإنسان على التقوى. فالقرآن أعطاك الإيمان فكرا وروحا ودعاك إلى الالتزام عملا، ولكن الفكر لا يمكن أن يجسّد نفسه في الواقع إلاّ إذا انضمّت إليه الإرادة، فقد تتحرك نفسك الأمّارة بالسوء لتربطك بالجانب السيء من غريزتك، لأنّ الغريزة ليست سوءاً كلّها، فإذا ارتبطت بالجانب السيء منها ولعب الشيطان لعبته في وسوسته وتسولاتهوتزييناته وفي وسائله الاستدراجية، فلابدّ من أن تملك قوة رادعة تستطيع فيها أن تقول: لا للنفس الأمّارة بالسوء، وأن تقول: لا للشيطان الخبيث المخبث، وأن تقول نعم للّه. فالإرادة هي أن تريد أو لا تريد، أن تريد عندما يريد اللّه منك أن تريد، وأن لا تريد عندما يريد الشيطان منك فتمانع، فكيف تقوّي إرادتك؟ إن عليك أن تدخل في عملية تمرينية، والصوم هو إحدى الوسائل الترويضية وذلك بأن تتمرّد عندما تدعوك نفسك إلى أن تستمر في عاداتك اليومية التي تضعف وتوهن مقاومتك، سواء في صباحك عندما تفطر وفي منتصف نهارك عندما تتغدّى وفي شرابك عندما تشعر بالعطش وفي شهواتك عندما تتحرّك غرائزك. ففي رمضان تقول لنفسك عندما تدعوك إلى أن تشرب قهوة الصباح أو شاي الصباح إنّ اللّه يريدني أن لا أشرب قهوتي وشايي ولا أتناول فطوري، وعندما تلحّ عليك نفسك بحكم العادة الدارجة وتتطلّع إلى اللّه فانك تشعر أنك عندما تطيع نفسك في عادتك فانك تبتعد بها عن اللّه، ولذا فانك وأنت صائم تصرّ على أن تضغط على حاجاتك وعلى عاداتك وبذلك تبدأ التحرّر من عبوديتك لعادتك، لأنّ العادة تقول لك هيّا اخضع لي، واللّه يقول لك }كتب عليكم الصيام{ وتنطلق لتعبد اللّه وتتحرّر من عبودية عادتك. وهكذا تتحرك إرادتك في خط التحرّر من الداخل في مفردات يومك وحاجتك لتنجح تجربة التمرين الروحي. ويأتي الغروب فتشعر إنّك استطعت أن تأخذ شيئا من الحرية، فأنت حرّ ما دمت استطعت أن ترفض ما تحبّه نفسك مما يبغضه ربّك، فأن تكون حرّاً أمام نفسك يعني أن تكون عبداً أمام ربّك، وكلّما كان الإنسان عبدا للّه أكثر كان حراً أمام الناس أكثر }إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه{ وتخشعون لهم وتطيعونهم }عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ{(22). فلماذا تستعبدون أنفسكم للعبد ولا تستعبدون أنفسكم للّه؟!

وهكذا – أيّها الأحبة – فإن قصة أن تصوم هي قصة أن تتقي اللّه سبحانه وتعالى، ولذا ورد في الحديث ((ربّ صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش، وربّ قائم ليس له من قيامه إلاّ التعب والسهر)) لأنّ الصوم ليس مطلوباً لذاته، وإنّما هو وسيلة من وسائل تنمية التقوى في داخل نفسك، وللتقوى ساحتها في العقل، فتقوى العقل هو أن لا يتحرك عقلك في غير الحق وفي غير الخير وغير العدل، وتقوى القلب هو أن لا تحبّ إلاّ ما أحبّ اللّه ولا تبغض الاّ ما أبغضه اللّه. ((فإذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فان كان قلبك يوالي أولياء اللّه ويعادي أعداء اللّه ففيك خير واللّه يحبّك، وان كان قلبك يوالي أعداء اللّه ويعادي أولياء اللّه فليس فيك خير واللّه يبغضك والمرء مع من أحب)). أن تكون لقلبك بوصلة تهديك في معرفة من تحبّ ومن تبغض، وتقوى الجوارح أي الأعضاء هي تقوى الجسد بأن تجعل جسدك في طاعة اللّه، وأن لا تقدّم رجلاً ولا تؤخر أخرى حتى تعلم أنّ ذلك للّه رضا.

الصوم المادي:

وعلى ضوء هذا فإنّ للصوم عدة عناوين، فهناك مثلاً الصوم المادي في دائرة الجسد }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ{(23). هذا هو الصوم الجسدي أو قل هو جسد الصوم وذلك بان تكفّ نفسك عن طعامك وشرابك ولذتك مما أراد اللّه أن تتركه. وهذا اللون من الصوم يصومه التقيّ ويصومه غير التقيّ ولكنّ النيّة هي التي تعطي صوم الجسد معنى روحيا وذلك بان تترك طعامك وشرابك قربة إلى اللّه تعالى، وقد ترى بعض الناس يصومون عن الطعام والشراب احتجاجاً على موقف أو من أجل إيجاد حالة جسدية صحية وما إلى ذلك، ولكنك عندما تقول: أصوم قربة إلى اللّه تعالى فانّك تجعل الصوم يصعد إلى اللّه لتصعد معه ولتجعله قربة له من خلال نيّة القرب إلى اللّه عزّ وجل، ولذلك أعطى اللّه الإنسان معنى الصوم الذي يرتبط به في روحه لا في ذاتياته ((الصوم لي وأنا أجزي به)) لأنّ الصوم ليس حركة مادية بل هو يختصر معنى الإخلاص للّه سبحانه وتعالى في كلّ هذا الجوع والعطش والامتناع عن المفطرات مما أحلّه اللّه في غير أيام الصيام. فالنيّة هي التي تمنح هذا الصوم الماديّ نبض الروح، وبدونها لا يكون في الصوم نبضة روح.

الصوم الروحي:

وهناك الصوم الروحي بأن تعيش في صومك حالة تطهير روحك من الأقذار التي تنفذ إليها فتبتعد بها عن اللّه، فأن تصوم روحيا يعني أن تخرج نفسك من الغفلة ومن نسيان اللّه }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّه فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ{(24). وأن تصوم روحيا يعني أن تذكر اللّه في قلبك.. وفي الدعاء ((واشغل قلوبنا بذكرك عن كلّ ذكر)). وأن تصوم روحيا يعني أن تعيش مع اللّه في السراء والضرّاء وفي كلّ خطوة تخطوها.

الصوم الاجتماعي:

وهناك الصوم الاجتماعي، فللمجتمع تقواه وضوابطه وقضاياه، ولكلّ هذه الضوابط والقضايا مسؤوليات، وذلك بأن لا تحدث أية فتنة تخلّ بوحدة المجتمع المسلم، فقد تدعوك نفسك إلى أن تقول كلمة تثير فتنة، وتقول أخرى تثير حربا وحقدا وعداوة، وبذلك فإنك تفطر اجتماعياً على معصية من معاصي اللّه، فأن تصوم الصوم الاجتماعي هو أن تبتعد عن كلّ ما يضرّ الناس }وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ{(25). أي أن تصوم عن إفساد المجتمع في كلّ ما يؤدي إلى فقدان سلامته. وأن تصوم اجتماعياً فإن عليك أن تبتعد عن العصبيات كلّها، لأنّ التعصب ليس خيراً، ولذا كنت تخلص إلى فكرك فان ذلك لا يعني أن تتعصب له، بل أن تلتزمه، وهناك فرق كبير بين الالتزام والتعصب، فالتعصب هو انغلاق والالتزام هو ثبات وانفتاح.. وقد ورد في هذا الحديث عن علي(ع): ((الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب)). وإذا عرفنا بأن المحارم، لا سيما الاجتماعية، هي التي تضرّ وتفسد المجتمع كما تفسد الفرد، عرفنا السبب في الدعوة إلى الصوم الاجتماعي. وقد ورد في الحديث ((ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه)). وقد ورد عن رسول اللّه(ص) في قوله لجابر بن عبد اللّه ((يا جابر! هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعفّ بطنه وفرجه وكفّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر فقال جابر: يا رسول اللّه ما احسن هذا الحديث! فقال رسول اللّه: يا جابر ما اشدّ هذه الشروط)). الحديث جميل ولكن كيف تطبّقونه؟! وفي الحديث عن الباقر(ع): ((إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك عن الحرام وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي)) أي الكلام الذي لا منفعة له ((وأذى الخادم)) وبالطبع فإنّ ذلك يشمل أذى الزوجة والأولاد والعامل ((وليكن عليك وقار الصيام، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلاّ عن ذكر اللّه، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، وإياك والمباشرة)) والمقصود هنا الجنس ((والقبل والقهقهة بالضحك، فإنّ اللّه مقت ذلك)).

وفي الحديث عن الباقر(ع) والصادق(ع) ((إنّ رسول اللّه(ص) سمع امرأة تسابّ جارية لها وهي صائمة فدعا رسول اللّه بطعام فقال لها: كلي! فقالت: أنا صائمة يا رسول اللّه! فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟! إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب وإنّما جعل اللّه ذلك حجابا عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطّر الصائم، ما أقلّ الصوّام وأكثر الجوّاع)). وكان من دعاء الإمام زين العابدين(ع) إذا دخل شهر رمضان ((وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور)) أي محرّم ((ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور)). أي ما حجرته علينا من المحرّمات، وإلى غير ذلك مما يتصل بإرباك الواقع الاجتماعي كالغيبة والإشاعات الكاذبة والقول بغير علم والحكم بالباطل وإثارة الحقد والفتنة وإيجاد الأجواء القلقة في المجتمع، فإن ذلك كلّه يفطّر الصائم روحياً وإن كان لا يفطّره مادياً.

وهناك حديث عن علي(ع) في صيام القلب والمراد به صيام العقل يقول: ((صيام القلب عن الآثام)). ومنها التخطيط للمعصية والأضرار بالناس وإسقاط كراماتهم ((أفضل من صيام البطن عن الطعام)). وعنه(ع) ((صوم القلب خير من صوم اللسان وصيام اللسان خير من صيام البطن)). أي أننا بصومنا المعروف وهو الامتناع عن الأكل والشرب إنّما نفعل الأقلّ من الصيام. وعنه(ع) ((صوم الجسد الإمساك عن الأغذيةبإرادة واختيار خوفاً من العقاب ورغبة في الثواب والأجر، وصوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم وخلوّ القلب عن جميع أسباب الشرّ)).

الصوم السياسي:

وأمّا الصوم السياسي فهو أن تمتنع من الركون إلى الظالم وعن مساعدته والدفاع عنه والتخذيل عن العادل، وهو أن تصوم عن كلّ حالات التجسّس عن الأبرياء لمصلحة الظلمة والمستكبرين، وهو أن تقاطع المستكبرين في كلّ ما يمكن أن يكون قوّة لهم، بأن تقاطع بضائعهم ما أمكن ذلك، وأن تقاطع أوضاعهم ما أمكن ذلك، وأن تخذلهم. وقد ورد في حديث الإمام الكاظم(ع) مع صاحبه صفوان الجمّال عندما نهاه عن أن يؤجر جماله لهارون الرشيد، فقال له: أتحبّ بقاءهم حتى يخرج إليك كراؤك؟ قال: بلى، قال: ((من أحبّ بقاءهم فهو منهم)). حتى أنّ الإسلام يحاسب على نبضات القلب الإيجابية مع الظالم. لذلك علينا أن نتعلّم الصوم السياسي والصوم الاجتماعي والصوم العقلي والصوم العاطفي كما نتعلّم الصوم الجسدّي، وأن نتعلّم الصوم العائلي بأن لا يستغلّ ربّ العائلة قوّته في ظلم أفراد عائلته، وأن لا يستغل أفراد العائلة عاطفة المسؤول عنها ليعيثوا فيها فساداً، وأن يصوم المسؤولون سواء كانوا سياسيين أو دينيين أو اجتماعيين عن الحسد والحقد وما يدمّر إنسانية الإنسان.

موسم الرحمة:

أيّها الأحبّة: (لعلّكم تتقون) فأنّ تبدأ صومك يتطلبّ ذلك أن تبدأ أول خطوة في طريق التقوى لتكبر تقواك وتعظم وتمتد في حياتك حتى يأتيك العيد ليكون عيدك عيد القمّة في التقوى والقرب إلى اللّه والحصول على رضوانه، وقد قالها علي(ع) إمام المتقين وإمام الصائمين والمصلين بعد رسول اللّه(ص): ((إنّما هو عيد لمن قبل اللّه صيامه وقيامه، وكلّ يوم لا يعصى اللّه فيه فهو عيد)). أن تكون أعيادنا أعياد القرب من اللّه. وقال الإمام الحسن(ع) وتروى عنالإمام الحسين(ع) وقد رأى قوماً يلعبون في عيد فطر ((إنّ اللّه جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه إلى طاعته فسبق قوم ففازوا وقصّر قوم فخابوا، فالعجب كلّ العجب من الضاحك اللاعب في يوم يثاب المحسنون ويخسر فيه المسيئون)).

أيّها الأحبّة – سوف ندخل في الموسم – موسم الرحمة والمغفرة والبركة وعلينا أن لا نخسر الموسم لأنّ من يخسر الموسم يخسر السنة كلّها، ((فاسألوا اللّه بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه فإنّ الشقي من حرم غفران اللّه في هذا الشهر العظيم))(26).

نسأل اللّه تبارك وتعالى أن يوفّقنا لصيامه وقيامه والإخلاص له والتوبة عن كلّ ذنوبنا، وأن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم إنه أرحم الراحمين. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

المحاضرة الثالثة والعشرون3 شوال 1421 ه30 كانون الأول 2000م

 

 

الخير والشرّ (1)

 

 

 

* لا يقاس الخير والشرّ بالبدايات ولا بالانفعالات بل بفهم المصلحة والمفسدة ومعرفة النهايات السعيدة والشقيّة  *

 

 

 

 

الخير والشر.

المعيار فيهما.

الشرّ في القرآن.

الشرّ في العلاقة الزوجية.

الإنفاق عندما يبدو شراً.

الموت والحياة.

الخير والشرّ في الأحاديث الشريفة.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

الخير والشر:

الخير والشرّ عنوانان يحكمان حركة الحياة كلّها، وقد كانا منذ انطلق الإنسان في وجوده في هذا الكون. ولعلّ أول صراع بين الخير والشرّ هو الصراع بين الإنسان المتمثّل بآدم والمخلوق من الجنّ المتمثل بإبليس، وكان آدم(ع) يمثل صورة الخير في معاني الطيبة والطهارة والبراءة والثقة بالآخر بحيث لم يكن يفكّر ولو لحظة أنّ هناك من يكذب أو يغش أو يخون، ولذلك نراه استسلم لأسلوب إبليس الذي استعمل القسم للتأكيد على صدقه وإخلاصه في نصيحته.

أمّا إبليس فهو يمثل عنصر الشرّ منذ رفض السجود لآدم(ع) على أساس الاستكبار والحسد ثم امتدّ بعد ذلك، عندما أخرجه اللّه من الجنّة ومن رحمته، من أجل أن ينفّس عن عقدة الشرّ الكامنة في شخصيته. ولم يزل الأنبياء(ع) ينطلقون في ربط الإنسان بالخير وإبعاده عن الشرّ على أساس أن الخير يؤصّل إنسانية الإنسان بينما الشرّ يشوّه أو يسقط إنسانيته، كما أنّ الخير يقرّب الإنسان من اللّه وينفتح به على مستقبل السعادة، أمّا الشرّ فعلى العكس من ذلك، فإنّه يبعد الإنسان عن اللّه ويسير به في خط الشقاء في الدنيا وفي الآخرة.

المعيار فيهما:

هنا، نحاول أن نبحث في مفردات هذين العنوانين الكبيرين لنعرف ما هو معيار الشرّ؟ أي كيف لنا أن نعرف أن الشيء شرّ، وما هو معيار الخير وهو كيف نعرف أن الشيء خير؟

أمّا الشرّ فربما يتصوّر بعض الناس أنّه مسألة تتصل بالإحساس وبالألم وبالجانب السطحي من حركته في الحياة، فكلّ شيء لا ينسجم مع مزاجه أو مع شهوته أو مع أحلامه أو كلّ شيء يثير فيه الألم أو الحزن الطارئ فهو شرّ.

وفي هذا الجو ربما يتصوّر هؤلاء، بهذا المنطق الذي لا يغوص إلى عمق حقيقة وطبيعة الخير والشر، بأنّ الشرّ هو من خلال ما يعيشونه في شعورهم أو حتى في مصالحهم الآنية في البدايات فحسب، فيعتبرون كلّ شيء يبدأ بداية مزعجة مؤلمة محزنة شراً من دون التحديق بالنهايات ولكي نحدّد المعيار فيما هو خير وما هو شرّ لابدّ من الرجوع إلى القرآن والأحاديث الشريفة التي عالجت مفهومي الخير والشرّ.

الشرّ في القرآن:

فلقد عالج القرآن الكريم هذه المسألة من خلال تأكيده على أنّ الشرّ لا ينطلق من حالة الإحساس والشعور، وإنّما ينطلق من طبيعة العناصر الموجودة في الشيء أو في العمل أو في الواقع من خلال ما يختزنه من مصلحة أو مفسدة لحياة الإنسان. فربما يعيش الإنسان الألم والانزعاج من شيء ولكنه في العمق يكون مصلحة له، والعكس قد يكون صحيحاً، فربما يعيش الإنسان الفرح والسرور من شيء ويكون مفسدة له، ألا نقرأ قول الشاعر:

تريدين إدراك المعالي رخيصة                      ولابدّ دون الشهد من ابر النحل

أو قول الشاعر:

إنّ  الحياة  لشوكٌ بينه زهرٌ                      فحطّم الشوك حتى تبلغ الزهرا

فتحطيم الشوك يسبب جراحات كثيرة. وقول اللّه سبحانه وتعالى أصدق من كلّ قول، فنحن نقرأ قوله تعالى }وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ{(1)، فهذه الآية توحي للإنسان بأنّ قضية الخير والشرّ لا تخضع لعاطفتي الحبّ والكراهة الطارئتين، لأنهما قد ينطلقان من خلال الإحساس الإيجابي بالشيء أو الإحساس السلبي به، وربما تكره شيئاً لأنّه يؤلمك في البداية، أو تحبّ شيئاً لأنّه يسرّك في البداية، ولكنك لو تعمّقت في هذا الشيء ورأيت العناصر التي يختزنها فرأيت أنّ ما آلمك هو في عناصره الإيجابية الخيّرة مصلحة لك، لأنّ النهايات كانت نهايات سعيدة، وأنّ ما سرّك لا يحمل في عناصره مصلحة لك، لأن نهاياته كانت سيّئة. ألا تلاحظ أنّك لو أكلت شيئاً حلواً وكانت حلاوته تختزن السمَّ في داخلها، فأنت قد تستسيغه بلسانك ولكنّه عندما يتفاعل مع أجهزة بدنك فقد يحمل لك الألم أو الموت.

ولذلك يريد اللّه سبحانه وتعالى أن يقول لنا: لا تبادروا إلى الحكم بالخير على كلّ شيء تحبّونه من خلال بداياته، ولكن تعمّقوا فلعلّ هذه البدايات تتحرك نحو نهايات سيئة، ولا تحكموا بالشرّ من خلال كراهتكم لهذا الشيء لأنّ هذه البدايات قد تحمل نتائج طيبة في ذلك، فلا تستعجلوا الحكم على الشيء في السطح، ولكن انفذوا إلى العمق وأدركوا ما يختزنه من العناصر الإيجابية والسلبية وانفتحوا على النهايات فلعلّها تختلف عن البدايات، والأشياء – كما هو معلوم – بعواقبها.

ولقد جاء شخص إلى رسول اللّه(ص) فقال له: ((أوصني يا رسول اللّه، فقال له: هل أنت مستوصٍ إذا أنا أوصيتك، قال: بلى، وكرّر عليه القول ثلاث مرّات والشاب يجيب بالإيجاب، قال: إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً فأمضه وإن يكُ غيّا فانته عنه)). أي أنظر إلى عاقبة الأمر الذي أنت مقدم عليه وعلى ضوء دراسة هذه العاقبة إعمل أو لا فاترك ... انظر دائماً إلى العواقب ولا تنظر إلى البدايات.

الشرّ في العلاقة الزوجية:

واللّه تعالى يحدّثنا أيضاً في مجال العلاقات الزوجية: فقد يتزوّج الإنسان ويواجه في زواجه بعض المشاكل التي تثير في نفسه إحساساً سلبياً تجاه زوجته، وربّما يتحوّل هذا الإحساس إلى الحكم عليها بالشرّ، أو يحكم على العلاقة الزوجية كلّها بالشرّ، في حين نرى أنّ اللّه عزّ وجل يعالج هذه المسألة بقوله }فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا{(2).

وإذا أردنا أن نحلّل هذه الآية في نطاق المشاكل التي تحدث في الحياة الزوجية، فإننا نستطيع أن نعطي الصورة التالية: إنّ اللّه سبحانه وتعالى يريد للإنسان عندما يعيش واقعاً معيناً مع الآخر، أن لا يستغرق في السلبيات ليحكم على الآخر من خلالها، بل يحاول دائماً أن ينظر إلى الإيجابيات، وأن يقارن بين السلبيات وبين الإيجابيات، وأن يقارن بين الأشياء الحسنة وبين الأشياء السيئة بعقل بارد هادئ لا يدخل فيه توتراته النفسية وانفعالاته الشعورية، لأنّ الانفعال ينطلق من حالة الغضب أو هو عبارة عن الغضب، ونحن نعرف أنّ الإنسان قد يغضب نتيجة سرعة في الإحساس بالأشياء.

وعلى هذا أنظر إلى الجانب المشرق من الصورة إذا واجهك الجانب المظلم منها، فنحن حينما نتحدث عن الطقس، فقد يقول أحدنا إنّ السماء صاحية، وقد يقول آخر إنّها غائمة، فقد يكون كلّ منهما صادقاً، ولكن هذا نظر إلى جانب الصحو من السماء وذاك نظر إلى الجانب الغائم منها، وهذا الكأس غير المملوء بالماء، فقد ينظر أحدهم إلى النصف المملوء منه، فيما ينظر ثانٍ إلى الجانب الفارغ من الكأس، ولذا يعتبر الأول متفائلاً فيما يقال عن الآخر أنه متشائم والحال أن النظرة الحقيقية للكأس تستدعي النظر إلى جانبيه الفارغ والمملوء.

وقد ورد عن السيد المسيح(ع) أنّه ((مرّ ومعه الحواريون على كلب قد أنتنت جيفته – أي مضى عليه وقت بعد الموت – فقال الحواريون: ما اشدّ نتن رائحته!! فقال السيد المسيح(ع): ما أشدّ بياض أسنانه)). وهذا درس في النقد والتقييم الموضوعي، أي انظروا إلى الجانب المشرق من الصورة ولا تنظروا إلى الجانب المظلم منها فقط.

فربّما أزعجتك زوجتك في كلمة، وفي بعض تعاملها معك في البيت، ولكن أنظر إلى إخلاصها لك، وإلى ماضيها معك، وانظروا إلى خدماتها وإلى ما بذلته تجاهك وما إلى ذلك من العناصر الإيجابية في شخصيتها، فلعلك تجد فيه خيراً كثيراً ، وهذا ما يقوله لك اللّه سبحانه وتعالى}فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا{ . فلا تستعجل الحكم على الأشياء والأشخاص ولا تجعل حكمك خاضعاً لإحساساتك البدائية بل اجعل حكمك خاضعاً لدراستك الواقعية للأشياء.

الإنفاق عندما يبدو شراً:

ويقول اللّه عز وجل }وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ{(3). فربما يفكّر بعض الناس ممن يملكون المال أنّه إذا بذل ماله فإن ذلك سوف يخلق له مشكلة اقتصادية في حياته لأنّه ينقص ماله، وربّما يخاف من الفقر عندما يستمر في البذل فيعتبر أنّ الكرم شرّ، ولكن اللّه يقول له أنظر إلى عاقبة ذلك، ولا تنظر إلى ما يواجهك في الصورة التي تمثل أمامك من نقصان الرصيد عندما تعطي شيئاً منه، لأنّ اللّه هو الذي أعطاك ذلك كلّه بفضله وبما منحك من قوى لاستحصاله، وهو الذي وعدك بالتعويض في الدنيا وفي الآخرة عمّا تبذله }الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ{(4).  فلا تنظر إلى الجانب البارز من الصورة بما تمثله من حجم معين كنقص في الرقم ولكن أنظر إلى ما يعطيك اللّه سبحانه وتعالى عوض ذلك وهو الرزّاق ذو القوة المتين وما يعطيك من ذلك في الدنيا والآخرة وما عند اللّه خيرٌ وأبقى.

وقد ورد في الحديث ((إنّ النبي(ص) سأل فاطمة(ع) ذات يوم عما تبقّى من ذبيحة وزّع أكثرها على الناس، فقالت(ع): لم يبق إلا كتفها، فقال(ص): بقيت كلّها وذهب كتفها)). في إشارة إلى أنّ ما تُصدّق به منها هو الباقي عند اللّه }وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا{(5).

الموت والحياة:

ويقول سبحانه وتعالى }وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولا{(6). فعندما تعيش مشكلة في نفسك فإنّك تدعو بالشرّ تماماً كما تدعو بالخير، واللّه سبحانه وتعالى يحذّرك من ذلك فلا تستعجل في ذلك، فللشرّ أسبّابه وسيزول بزوال أسبابه فلا تنفعل فيما تطلبه.

وهذا ما نجده عند بعض الناس ممن يتمنون الموت وهم لم يستعدّوا لما بعده. ولذلك جاء في الحديث ((ولا تتمنّ الموت إلا بشرط وثيق)). وقد قال اللّه سبحانه وتعالى في مقام التحدّي لليهود عندما أراد لهم أن يواجهوا الموت مواجهة حقيقة كما ورد في (سورة الجمعة) }فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ{(7). فلقد كانوا يدّعون أنّهم أولياء اللّه وأنّهم أبناؤه وأحباؤه، فاللّه يقول لهم في مقام الاختبار لصدق ادعائهم: تمنّوا الموت للقاء اللّه إن كنتم صادقين }وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ{(8).

وكذلك فقد يعتبر الإنسان الموت خيراً وأنّ الحياة شر، ففي دعاء الإمام زين العابدين(ع) ((وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ أو يستحكم غضبك عليّ)). وهذا ما ورد في دعاء يوم الثلاثاء أيضاً ((واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير والوفاة راحة لي من كل شرّ)).

الخير والشرّ في الأحاديث الشريفة:

وعن علي(ع) كما في (نهج البلاغة): ((ما خير بخير بعده النار، وما شرّ بشرّ بعده الجنّة)). فلو جاءتك الدنيا كلّها ولكنها كانت في معصية اللّه وكانت النار في آخرها، فما قيمة ذلك الخير؟ لقد استمتعت وتلذّذت وعشت شهواتك كلّها، ولكن في نهاية المطاف}خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ{(9).

وعندما تعيش البلاء والمشاكل والآلام، وفي نهاية المطاف فيما تستعد للقاء اللّه سبحانه وتعالى تسمع الهمسة الحبيبة }يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي{(10).

ويقول(ع) بعد ذلك ((وكلّ نعيم دون الجنّة فهو محقور)). لأنّ الجنّة هي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ((وكلّ بلاء دون النار عافية)). لأنّك عندما تأمن على نفسك دخول النار فما قيمة البلاء مهما عظم، فهو إزاء المصير الهانئ السعيد والعاقبة الحسنة عافية طالما أن نهايته الجنّة.

وهنا نستحضر (الحرّ بن يزيد الرياحي) (رض) عندما جاءه المهاجر ورآه يرتعد، فقال له: ((أترتعد؟ واللّه لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة؟ ما عدوتك، قال: إنّي أخيّر نفسي بين الجنّة والنار)) فلو بقيت مع ابن سعد فسوف أحصل على الدنيا كلّها ولكن في آخرها النار، ولكن عندما أذهب إلى الحسين(ع) فسوف أخسر الدنيا كلّها وفي آخرها الجنّة ((فواللّه ما أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت إرباً)). وقد جسّد وعيه لمسألة الخير والشرّ في النهاية من خلال ما ينتهي إليه من حسم خياره بين البقاء في جيش يزيد أو الانتقال إلى معسكر الإمام الحسين(ع).

ويقول(ع): ((ما خيرُ خيرٍ لا ينال إلاّ بشر، ولا يسر لا ينال إلاّ بعسر)). فإن الخير الذي يكون في طريق المعصية، أو اليسر الذي يكون في طريق الشدّة فلا ذاك خير ولا هذا يسر.

فإذا أردتم أن تعرفوا الخير فاقرأوا كتاب اللّه الذي حدّد لكم الخير في كلّ ما أمركم به، وحدّد لكم الشرّ في كلّ ما نهاكم عنه، ودعاكم إلى الخير من خلال نتائجه الإيجابية، ونهاكم عن الشرّ من خلال نتائجه السلبية }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه{(11). ((ولنبلوكم بالخير والشر فتنة))(12).

وهكذا – أيّها الأحبّة – نعرف النتيجة الحاسمة وهي أنّ قصة الخير والشرّ لا تقاس بالبدايات ولا بالانفعالات، ولا تقاس بانسجامها مع المزاج أو عدم انسجامها معه، ولكنها تقاس بالدراسة العميقة الدقيقة التي تتفهم فيها عناصر الأشياء من خلال ما فيها من مصلحة أو مفسدة، ومن خلال نهاياتها السعيدة والشقيّة.

ونسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفّقنا إلى العمل للخير والاجتناب عن الشرّ، وأن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم في الأخذ بالخير والبعد عن الشر. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة والعشرون10 شوال 1421 ه6كانون الثاني 2001م

 

 

 

الخير والشرّ (2)

 

 

 

*أن تكون مسلماً، يعني أن تعيش إنسانيتك في عناصر الخير كلّها وعناصر الحقّ كلّها، وأن يرجى خيرُك ويؤمن شرُك*

 

 

 

الخير والشرّ... ثانيةً.

القاعدة الفكرية للخير والشرّ.

المعيار الإسلامي للخير والشر.

شرّ الدواب.

الذين يكرّمون اتقاء شرّهم.

بائعو آخرتهم.

المضلّلون والغشّاشون.

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

الخير والشرّ.. ثانيةً:

كنّا نتحدَّث عن الشر والخير وعن مقياسهما، وقلنا إنّ الشرّ والخير لا يخضعان في معناهما للمزاج، فليس الشرّ هو ما لا تألفه النفس ولا ما تكرهه، وليس الخير هو ما تحبه النفس وما ترضاه، والله يقول: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}(البقرة/216)، لأنّ النفس فيما تألفه وفيما لا تألفه، وفيما تحبّه أو تبغضه، قد تكون خاضعة لبعض المؤثّرات السطحية والمزاجية، وقد تخضع لتأثيرات البيئة التي يعيشها الإنسان، فتفرض على مشاعره وأحاسيسه قيماً معينة على أساس أنّها إيجابية وهي في الواقع سلبية، أو على أساس أنّها سلبية وهي في حقيقتها إيجابية، لأنّ البيئة قد تتحرَّك من خلال بعض الأوضاع وبعض التقاليد والعادات التي لا عمق لها في ما هي مصلحة الإنسان.

لذلك عندما ندرس شيئاً هل هو خير أم شرّ، فلا بد من أنّ ندرسه في عناصره الواقعية مما يشتمل عليه هذا الشيء أو ذاك من مصلحة للإنسان، فما كان له فيه مصلحة في الدنيا أو في الآخرة فيما يحاسب عليه فهو خير، وما يكون فيه مفسدة وضرر إن في العاجل أو الآجل، فهو شرّ.

القاعدة الفكريَّة للخير والشرّ:

من هنا، لا بدّ لنا من أن ندرس مسألة الخير والشرّ وفقاً لقاعدة فكريّة تحدّد الخطوط العامّة لهما، لأنَّ شيئاً ما قد يكون خيراً لدى خط فكريّ معيَّن، ويكون شرّاً لدى خطّ فكريّ آخر، فمثلاً، في مسألة الحريات، نرى أنّ قضية حرية الإنسان الفردية بالمطلق تمثِّل لدى خط الثقافة الغربية أو خط حقوق الإنسان على أساس شرعة الأمم المتحدة، خيراً كلّها، ليكون تقييدها شرّاً، بقطع النظر عن الأخلاقيات الدينية والأخلاقيات الاجتماعية، فليست هناك مشكلة في أن يمارس الإنسان في مجال الحرية الجنسية كلّ علاقة غير مشروعة دينياً، ومن حقِّ الإنسان أن يتاجر بأيّ شيء مما يضرّ الناس، أو يشرب أو يأكل أي شيء حتى ما يضرّ جسده، فالقانون لا يحرّم عليك أن تضرّ جسدك، حتى إنّه لا يحرّم عليك أن تقتل نفسك، فالانتحار ليس محرّماً قانونياً، فالذي يمارس الانتحار قد يتدخّل الناس في منعه، ولكنّهم لا يعاقبونه على ذلك، فلا مشكلة في أن يقتل الإنسان نفسه، ولكن المشكلة هي أن يقتل غيره.

فالحرية الفردية هي عنوان من العناوين التي قد تكون خيراً كلّها لدى قاعدة فكرية معينة، وقد تختزن بعض الشرّ لدى قاعدة فكرية أخرى، وهذا هو الفرق بين القانون الإسلامي والقانون العلماني، فالقانون الإسلامي يعمل على حماية الإنسان من نفسه وحمايته من غيره، بينما القانون العلماني لا يعمل على حماية الإنسان من نفسه، بل كلّ ما عنده هو أن يحميه من غيره، حتى إنّ العالم الآن عندما يحارب المخدَّرات، لا يحاربها على أساس تأثيراتها الفردية، بل على أساس تأثيراتها الاجتماعية في نتائجها الاجتماعية العامّة.

وعلى ضوء هذا، لا بدّ لنا عندما ندرس شريّة شيء أو خيريته، من الارتكاز على قاعدة فكرية تضع الخطوط العامّة والخاصّة فيما هو مقياس الخير ومقياس الشرّ، لأنّ المسألة نسبية، حتى إنّنا عندما ندرس ذلك في عملية التطبيق، فإنّنا نرى أنّ الشرّ قد يكون خيراً في موقع، وقد يكون شرّاً في موقع آخر.

المعيار الإسلامي للخير والشر:

في الإسلام، عندما يكون شيء ما محرّماً فهو شرّ، ولكن قد يأتي ظرف معين أو حاجة معينة يكون فيه الحرام حلالاً {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النحل/115). فالشيء قد يكون شرّاً بلحاظ طبيعته، ولكن قد يصبح خيراً إذا كانت هناك مصلحة تتغلّب على المفسدة الموجودة فيه، كما هو الحال فيما يسمّى بـ (قاعدة التزاحم).

هذا هو المعيار في الخير والشرّ. ويبقى أن هناك بعض النّاس ممّن يقوم بأعمال تمثّل مستوى عالياً في الشرّ، وقد تحدّثت عدة نصوص في الكتاب والسنّة عمّن هو شرّ النّاس؛ ففي الكتاب: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}(الأنفال/22). وهذه إشارة للإنسان، فالله خلق كلّ دابة من ماء، فبعضهم يزحف على بطنه، وبعضهم يمشي على أربع، وبعضهم يمشي على رجلين، فكلّهم دوابّ، والدابّة هي ما دبّ على وجه الأرض من مخلوقات الله تبارك وتعالى. وما جاء في هذه الآية كناية عن الأشخاص الذين لديهم السمع ولكن لا يسمعون، لأنهم لا يحرّكون أسماعهم فيما يرفع مستوى عقولهم، وبالتالي يرفع مستوى حياتهم ومستوى حياة النَّاس من حولهم، أو الذين ينطقون ولكنَّهم لا ينطقون بالكلمة التي تنفع الناس، بل كلامهم هجر ولغو، ولذلك عبّر الله سبحانه وتعالى عنهم بأنّهم الصمّ البكم، والأصمّ هو الذي لا يسمع، والأبكم هو الذي لا ينطق، لأنّ معنى أن تكون سميعاً، هو أن تعرف قيمة سمعك فيما يتَّصل بإنتاج الحياة من خلال ما تسمع، وهكذا الأمر بالنسبة إلى النطق، فقيمة النطق هي أن تستعمله وسيلةً من أجل إغناء عقول الناس وقلوبهم وحياتهم بما ينفعهم ويرفع مستواهم؛ فإذا كان سمعك لا ينفتح إلاّ على اللَّغو، وإذا كان كلامك لا يتحرّك إلاّ باللَّغو، فمعنى ذلك أنّ سمعك ليس منتجاً، وأنّ لسانك ليس منتجاً، بل يكون وجودهما كعدمه، تماماً كالأصمّ الذي لا يسمع، وكالأبكم الذي لا ينطق. وقد ورد في القرآن أيضاً: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا}(الأعراف/179).

وقد ركّز القرآن على الصمّ البكم الذين لا يعقلون، لأنّ هؤلاء هم الّذين لا يعقلون ما يسمعون من أفكار يمكن أن تنتج لهم فكراً جديداً، ولا يتكلّمون بما يحرّك للنّاس عقولهم. فهؤلاء هم شرُّ النَّاس، والشرّية هنا تكمن في اللاعقل وفي تحريك الإنسان طاقته فيما لا يحقق للحياة إنتاجاً، بل يسبب لها ضرراً، لأنّ الله أعطى الإنسان الحياة وعليه أن يحرّكها ليصنع منها حياةً أوسع وأغنى.

إن المسألة هي أن تلد فكراً، وأن تلد خطّاً ومشروعاً وهدفاً وأسلوباً ينفع الناس {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}(الرَّعد/17). لأنّك ستفارق الحياة بجسدك ليبقى فيها ما أنتجته من عقل وفكر يجعل الحياة تخضرّ بالعقل والعلم الحركة هنا وهناك.

شرُّ الدّوابّ:

ويقول تبارك وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(الأنفال/55)، فهؤلاء هم الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى كلّ الحجّة على وجوده وعلى توحيده، لأنّ مسألة إثبات وجود الله وتوحيده ليست مسألة فلسفة يدرسونها أو كتاب يقرأونه، ولكنّها كون يتطلعون إليه ويوحي إليهم بكلّ ما يختزنه من سرّ الخالق في عظمة المخلوق.

فوا عجباً كيف يعصى الإله                   أم كيف يجحده الجاحدُ

وفي كلّ شيء له آية                         تدلّ على أنه واحدُ

فادرس الكون كلّه، واقرأ كتابه {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}(آل عمران/191)، وسترى أنّ هذا الكون الذي يتنوَّع في ضخامته في بعض ظواهره، كمثل الجبال والسماوات والأرض، ويخفّ في بعضها، كالذرّة التي قد لا ترى بالعين المجرّدة، خاضع لقانون واحد، وهو قانون الزوجيَّة الذي تلتقي عنده ظواهر الكون كلّها، كما أنك سترى أن ليس هناك ظاهرة في الكون عمياء، فكلّ ظاهرة فيه تنفتح على سرّ وعلى نظام وعلى قانون، ولذلك ففي الكون عقل يتكامل في أسرار الكون كلّها، فمن هو صانع هذا العقل؟ وهو عقل لا يحمل في ذاته حتمية وجوده لتقول إنّه واجب الوجود، ولكنّه عقل تشعر فيه بمعنى الإمكان الذي يبحث عمّن يوجده من الخارج {أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(إبراهيم/10).

فهؤلاء هم شرّ الدواب، لأنّ لهم قلوباً لا يفقهون بها، ولأنّ لهم عيوناً لا يبصرون بها، ولأنّ لهم آذاناً لا يسمعون بها {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(الفرقان/44)، لأنّهم عطّلوا مصادر المعرفة في وجودهم، وقد هداهم الله إلى سبيله {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(الإنسان/3)، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(البلد/10).

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(الأنفال/55). فالذين يفقدون الإيمان إنّما يفقدون القاعدة الإنسانية التي تفتح إنسانيتهم على دين الله من خلال وعي الكون، فهم عندما يتحرّكون في الحياة، إنّما يتحرّكون بعمى البصائر {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(الحج/46).

الذين يُكرمون اتقاء شرّهم:

ثم ندخل في النصوص الحديثية، فنلتقي بنصٍّ عن رسول الله(ص) يقول فيه: «شرّ الناس عند الله يوم القيامة الذين يُكرمون اتقاء شرّهم». فهؤلاء هم الذين يتحرّكون في الحياة بذهنية عقربية، بحيث لا يدخلون أيّ مدخل إلا وهم يلسعون كلّ شيء حيّ فيه، فدورهم هو أن لا يتركوا إنساناً يفرح لأنّهم ينتجون الحزن، وأن لا يتركوا إنساناً ينجح لأنّهم ينتجون الفشل، وأن لا يتركوا إنساناً ينتصر لأنّهم يخطّطون للّهزيمة، ولا إنساناً يعطي لأنّهم ينتجون البخل... وما إلى ذلك، فعقلهم يخطّط للشرّ، وقلوبهم تنبض بالشرّ، ولسانهم يتكلّم بالشرّ، وطاقاتهم في أعضائهم تتحرّك بالشر، ولذلك فهم يعيشون بين الناس، والناس يكرمونهم لأنّهم يخافون من ألسنتهم السليطة، ويكرمونهم لأنّهم يخافون من خططهم الشريرة، أو من سلاحهم الفتّاك، أو من حزبياتهم الشريرة، أو من سلطتهم الشريرة.

فهؤلاء قد يجدون الإكرام من الناس، ولكنّه ليس إكراماً منطلقاً من معنى المحبّة، بل هو إكرام بدافع الخوف، وشرّ الناس الّذين يخاف الناس شرّهم، فإذا أردت أن تعيش مع الناس، فاجعلهم يحبّون عقلك وقلبك ولسانك وطاقتك، لأنّها تنفتح عليهم بكلّ خير، وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين(ع): «خالطوا الناس مخالطةً إن غبتم حنّوا إليكم، وإن متّم بكوا عليكم».

وقد ورد في الحديث عن عائشة، كما في الكافي، عن رسول الله(ص)، أنّه كان جالساً ذات يوم وهو يحدّث أصحابه عن شخص شرير، وكان يقول عنه: «بئس أخو العشيرة»، وما لبث أن جاء هذا الرجل ودخل على رسول الله(ص)، فأقبل عليه الرّسول(ص) بوجهه وبشره، فقيل له: إنك قلت: بئس أخو العشيرة، قال: «إن شرّ الناس عند الله يوم القيامة من يكرم اتقاء شرّه». فلقد أكرمته إكراماً ظاهرياً من أجل أن أجعل الناس يتخفّفون من شرّه.

ولذلك، فإنّ كلّ من يعمد إلى إخافة الناس بسلطته، أو بقوّته، أو بماله، أو كلّ من يمارس الإرهاب الفكريّ على الناس فيشتم هذا ويسبّ ذاك، ويكفّر هذا ويضلّل ذاك، عليه أن يعرف أنّه من شرار الناس، لأنّ الناس تكرمه اتقاء شرّه.

فما أعظم أن تتحرّك في خدمة الغير، وتجد قلوب الناس تخفق بحبّك، لأنّك كنت كما قال الإمام علي(ع) في المؤمن: «النَّاس منه في راحة، ونفسه في تعب».

وفي الحديث عن علي(ع) في (نهج البلاغة): «إن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضُلّ به». وهو الحاكم الجائر، سواء كان حاكماً في موقع دينيّ، أو حاكماً في موقع سياسيّ، أو حاكماً في موقع اجتماعيّ أو اقتصادي أو أمنيّ، فقد ضلَّ لأنّه نهج خطاً يؤدِّي به إلى الضَّلال، وضُلّ به لأنّه خدع الناس بضلاله الذي خيّل إليهم أنّه الهدى، فضلّ وأضلّ. فمن أكثر شرّاً من هذا الذي يملأ الحياة ضلالاً، ونحن نعرف أنّ الضَّلال يؤدّي بالنَّاس إلى المتاهات الَّتي لا يعرفون فيها طريقهم إلى الخطّ المستقيم، وإلى ما يكفل لهم النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.

بائعو آخرتهم:

وفي الحديث عن رسول الله(ص): «شرُّ النَّاس من باع آخرته بدنياه». هذا الإنسان الذي حاول أن يحصل على الدُّنيا من خلال معصية الله، ومن خلال السَّير في خطِّ الانحراف عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله(ص). فهذا هو شرّ الناس، لأنّ الإنسان الذي يبيع آخرته بدنياه، سوف تسيء دنياه إلى الناس، لأنّها ترتكز على معصية الله، وفي هذه المعصية الفساد كلّ الفساد، والضلال كلّ الضلال، كما أنّه شرٌّ لنفسه، باعتبار أنّه عندما يبيع الآجلة التي هي الخلود كلّه في النعيم، بالعاجلة التي هي الفناء، فأيّ شرّ أعظم للنفس من هذا الشرّ؟!

«وشرّ من ذلك باع آخرته بدنيا غيره». فأنت تخدم غيرك وتعمل وتتجسَّس لحساب غيرك، لتحمي ظلمه، وتتاجر لحساب غيرك لتوسّع ثروته في الحرام، وتقتل وتضرب وتدمّر وتفسد لحساب إطالة عمر الفتوة الغاشمة، وبذلك فأنت تبيع آخرتك بدنيا غيرك، فلست أنت الذي تملك الحكم الذي تدافع عنه، ولست أنت الذي تملك المال أو الجاه الذي تخدمه، بل غيرك هو من يملكه، وأنت الآلة التي تحقّق له دنياه كلّها، بما تخسر به آخرتك كلّها.

المضلّلون والغشّاشون:

ويقول علي(ع): «شرّ الناس من يظلم الناس»،لأنّ معنى أن تكون إنساناً، هو أن تحرّك إنسانيك في إنسانية غيرك، وأن تعيش معنى الإنسان فيك، هو أن تعيش معنى الإنسان في غيرك، لأنّ الإنسانية واحدة، والله سبحانه وتعالى وزّع مظاهرها على الناس، ولهذا فأنت عندما تظلم الناس فإنّك تظلم نفسك، لأنّك حركّتها فيما يهلكها عند الله، وفيما يؤدّي إلى المقت لها عند الناس، كما أنّك أسأت إلى إنسانيتك عندما وجَّهتها إلى الظلم ولم توجهها إلى العدل، والإنسانية عدل وليست ظلماَ.

وفي الحديث عن علي(ع) أيضاً: «شرّ الناس من يغشُّ الناس»([71])؛ من يغشهم في معاملته معهم، وفي رأيه الذي يقدّمه إليهم، وفي الفكر الذي يعلّمهم إيّاه، وفي حكمه وما إلى ذلك. فعليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه، ومن يغش الناس هو شرّ النّاس، لأنّه يمنحهم شيئاً لا يلتقي بمصالحهم ولا بحياتهم، وإنما يقدِّم لهم الشيء بغير حقيقته، وهذا من أفظع أنواع الشر.

ويبقى للحديث في شر الناس صلة.

 

والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة الخامسة والعشرون24شوال 1421 ه20 كانون الثاني 2001م

 

الخير والشرّ (3)

 

 

 

* أن تكون مسلماً ولا يُرجى خيرك ولا يؤمن شرك، وتكون الأناني في ما تملكه من علم أو مال أو جاه فلست المسلم *

 

 
 
 
 

 

 

شرارُ الناس.

(شرّ الناس) في أحاديث النبي(ص).

شرار الخلق في أحاديث علي(ع).

الخلاصة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

شرارُ الناس:

لا نزال في الحديث عن النصوص الإسلامية الواردة عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) حول شرّ الناس أو شرّ الخلق، وهذا التعبير يستبطن أن الأفعال التي يتعنون بها هذا الشخص أو ذاك تمثّل العنصر الحيوي في الشرّ، بحيث يمثل قمة الشرّ، وهذا ما ينبغي لنا أن ندرسه وأن نفكر فيه لنتفاداه في سلوكنا العملي وأخلاقنا الفردية والاجتماعية، لأننا ربّما كنا نحمل بعض هذه الصفات ونتحرّك في بعض هذا السلوك بفعل البيئة الشريرة التي نعيش فيها فنلتقط منها الكثير من أخلاق السوء من دون شعور منا لذلك، لأنّ التأثر بالبيئة قد ينفذ إلى مشاعر الإنسان وأحاسيسه وعقله من دون أن يتحسس ذلك ومن دون أن يختاره.

(شرّ الناس) في أحاديث النبي(ص):

ونبدأ بالأحاديث المروية عن النبي(ص) في هذا الصدد، حيث يقول: ((شرّ الناس فاسق قرأ كتاب اللّه وتفقّه في دين اللّه)). أي أنّه تعلّم العلوم الإسلامية القرآنية منها والشرعية فأصبح من الفقهاء في ثقافته الفقهية ((ثم بذل نفسه لفاجر إذا نشط تفكّه بقراءته ومحادثته)). أي أنّه يستخدم نفسه كعامل لدى هذا الفاجر الذي يمتلك قوة في سلطة أو قوة في مال أو في جاه أو في أي لون من ألوان القوّة التي يتقدّم فيها الناس على الناس، فهو يجلس له ويقرأ له ويحادثه من أجل أن يجعل مجلسه مجلساً مرغوباً لدى الناس، أو من أجل أن يدخل السرور عليه ((فيطبع اللّه على قلب القائل والمستمع)). لأنّ هذا الفاجر هو الذي يريد اللّه للناس أن يقاطعوه، وأن لا يمنحوه أيّ امتياز وأي موقع للقوة حتى لا يستشري خطره، ولذلك فإنّ هذا الفقيه أو المتفقّه عندما يبذل نفسه لهذا الفاجر فإنّه يقوّي موقع فجوره، ومن هنا فإنّه يمثل النفاق، لأنّ الإنسان عندما يملك ثقافة القرآن وثقافة الشريعة فإن عليه أن يتحرّك بهاتين الثقافتين فيما يقوّي المنطق القرآني وخط الشريعة في خطوط الاستقامة لديه، ولذا فإنّ اللّه يطبع على قلب القائل والمستمع معاً.

وفي الحديث عن رسول اللّه(ص): ((شرّ الناس المثلث، قيل: يا رسول اللّه وما المثلّث؟)). أي أنّ هذا التعبير أو المصطلح غامض لم يسبق أن طرق أسماعنا مثله ((قال: الذي يسعى بأخيه إلى السلطان فيهلك نفسه، ويهلك أخاه ويهلك السلطان)). أي هو رجل مخبر ينقل التقارير إلى الحكّام الظلمة، وربما كان متبرّعاً في ذلك، كما نجد في الناس من يحب أن يكون عنصر وشاية بالأبرياء وبالمؤمنين نتيجة العقدة التي يعيشها في نفسه، فهو يسعى بأخيه إلى السلطان في أي موقع من مواقع السلطة، وعندما تكون السعاية في أمر يخالف رغبة السلطان وسياسته وهواه فإنّ من الطبيعي أن ينزل هذا السلطان العقوبة بهذا الإنسان الموشى به، فيهلك السلطان لأنّه ظلم هذا الإنسان البريء، فلولا سعاية صاحبه لما تمكّن الظالم من ظلمه، ولما كانت لديه فرصة لظلمه. ويهلك الشخص البريء لأنّه وقع تحت تأثير ظلم السلطان عليه، وهلك الواشي لأنّه كان سبباً في إلحاق الضرر والظلم بأخيه. وقد ورد في الحديث ((إن الظالم والراضي بالظلم والمعين له شركاء ثلاثتهم)). فهذا هو شرّ الناس.

وفي الحديث أيضاً عن رسول اللّه(ص) ((شرّ الناس عند اللّه عزّ وجل يوم القيامة ذو الوجهين)). فهو يلقى أخاه بوجه منبسط يتمثّل فيه الحبّ فيطريه حاضراً ولكنّه يغتابه ويذمّة غائباً. فهذا له وجهان: وجه مع أصحاب الحق فيتحدّث معهم بكلّ حماس في الحقّ، ووجه مع أهل الباطل فيتحدث معهم بكلّ الحماس في الباطل }وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{(1). فالشخص ذو الوجهين يقف يوم القيامة بين يدي اللّه سبحانه وتعالى فيعاقبه اللّه على أساس أنّه شرّ الناس. وقد ورد في بعض الأحاديث ((بئس العبد يكون ذا وجهين وذا لسانين يطري أخاه حاضراً ويذمّه غائباً)).

و((قيل للنبي(ص): أيّ الناس شرّ؟ قال: العلماء إذا فسدوا)). لأنّ العلماء يمثّلون القيادة في الأمّة سواء القيادة التوجيهية أو التربوية وربما الاجتماعية والسياسية أيضاً كما في بعض الحالات، فإذا فسدوا فإنّهم سوف يخلقون مشكلة للأمّة، حيث أنّهم يوجهونها إلى خطوط الفساد الذي يلتزمونه ويعيشونه في حياتهم. وورد في حديث آخر عن رسول اللّه(ص): ((العلماء أمناء الرسل مالم يدخلوا في الدنيا. قالوا: يا رسول اللّه وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان)). والمعني بهم وعّاظ السلاطين، هؤلاء الذين إذا أراد السلطان فتوى بالسلم أعطوه فتوى بالسلم، وإذا أراد فتوى بالحرب أعطوه فتوى بالحرب، فهم يعطونه من الوعظ ما يجعله يمتد في سلطانه وظلمه وبطشه ولا يعظونه بما يخوّفه من اللّه سبحانه وتعالى وحسابه وعقابه.

وعن رسول اللّه(ص): ((شرار الناس شرار العلماء في الناس)). فإذا تحوّل العلماء إلى مصدر فتنة في الناس وإنتاج الحقد وتحريك العداوات بينهم، وإلى العمل على تنفيس العقد الذاتية من أجل أن يعقّدوهم، فإنّهم بذلك إنّما يربكون حياة الناس ويدفعونهم نحو الشرور.

وفي الحديث عنه(ص): ((إنّ شرّ الناس عند اللّه عزّ وجل يوم القيامة عالمٌ لا ينتفع بعلمه)). فالعالم الذي أعطاه اللّه العلم وهو قادر بمبادراته أن ينفع الناس بعلمه ولكنّه يمنع علمه عن الناس ويبتعد بعلمه عن حاجاتهم هو من شرّ الناس. وهذا أمر ذكره اللّه سبحانه وتعالى في كتابه}إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللّه وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ{(2). لأنّ العلم هو أمانة اللّه عند الإنسان، وعليه أن يبذله للناس لأنّهم هم أصحاب الأمانة الذين جعل اللّه الأمانة لهم، وليس العلم أمراً ذاتياً للإنسان بحيث يملكه كما يملك ماله فإن شاء أعطى وإن شاء منع، كما يصف بعض الناس العالم بأنّه مثل الشجرة فإذا لم تهزّها لا تسقط ثمارها، وكمثل الكعبة يؤتى ولا يأتي، في حين أن لدينا حديثاً عن رسول اللّه(ص) يقول ((إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه)). بحيث يقوم بالمبادرة بكلّ الوسائل التي يملكها ((ومن لم يفعل فعليه لعنة اللّه)). فإذا لم يعط العلماء علمهم للناس، فإنّ الناس يبقون في جهل وضلال، ولذا فإنّ مسؤولية العلماء أمام اللّه أن يقدّموا علمهم للناس بحيث أنّ الجاهل حتى لو لم يرد أن يتعلّم فإنّهم يحاولون أن يستعملوا كلّ الوسائل ليعلّموه وذلك بتهيئة الظروف الملائمة لتعليمه، وفي الحديث ((ما أخذ اللّه على الجهّال أن يعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا)). فلا يمكن أن يكون العالم حيادياً أمام المنكرات والضلالات والجهل والتخلّف، لأنّ العلم رسالة وعلى العالم أن يكون المؤتمن على هذه الرسالة من خلال اللّه سبحانه وتعالى ورسوله(ص).

وفي الحديث عن رسول اللّه(ص): ((إنّ من شرار الناس رجلاً فاجراً جريئاً يقرأ كتاب اللّه تعالى لا يرعوي إلى شيء منه)). فهو يقرأ القرآن ولا يعمل به، في حين أنّ المفروض في الإنسان المسلم أن يقرأ القرآن لينتفع به }قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللّه نُورٌ{(3). فماذا تعمل بالنور؟ أليس لكي تستضيء به في عقلك وقلبك وأخلاقك وحياتك وسلوكك؟ ولذا فإنّ الذي يقرأ القرآن ولا يرعوي عن الغيّ ولا يتعظ به فهو من شرار الناس.

وعنه(ص) أيضاً: ((إنّ من أشرّ الناس منزلة عند اللّه يوم القيامة عبداً أذهب آخرته بدنيا غيره)). هذا الذي يعصي اللّه لحساب الظَلَمَة أو الكفرة أو الفاسقين فيكون عاملاً عندهم على أساس أن يخدمهم في معصية اللّه، ونحن نعرف أن ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)). فهو يكون بذلك ممن باع آخرته بدنيا غيره.

وعنه(ص): ((إنّ من شرّ عباد اللّه من تكره مجالسته لفحشه)). وهو الذي يملك اللسان السليط بحيث يسبّ ويشتم ويتهجّم بدون قيد أو شرط، ويتكلّم بالكلام الفاحش البذيء بدون حساب، ويتحدّث عن الناس بطريقة نابية غير مهذبة، بحيث يكره الناس مجالسته لفحشه، حتى أنّ بعض الرجال إذا دخل بيته كان من أشدّ الناس فحشاً مع زوجته ومع أولاده حتى بما يخجل الزوجة والأولاد، فيما يريد اللّه سبحانه وتعالى منّا أن ننظّف ألسنتنا وقلوبنا كما ننظّف بيوتنا وأجسادنا وملابسنا، لكن الناس يفتّشون عن المنظّفات التي يكثر الإعلان عنها في التلفاز ولكنهم لا يفتشون عن منظّفات القلوب والألسنة.

وقال المصطفى(ص) أيضاً ((شرار أمّتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسادهم)). والمقصود بالتغذية بالنعيم من خلال الحرام لا من خلال الحلال لأنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول}قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{(4)

شرار الخلق في أحاديث علي(ع):

وننتقل إلى أحاديث الإمام علي(ع) وهو وصيّ رسول اللّه(ص) وكلامه كلامه لأنّه تعلّم منه حيث يقول ((علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم فتح لي من كلّ باب ألف باب)). والرسول(ص) يقول ((أنا مدينة العلم وعليّ بابها)).

يقول علي(ع): ((شرّ الناس من لا يقبل العذر ولا يقبل الذنب)). فشرّ الناس الذي إذا أخطأت معه واعتذرت إليه فلن يقبل العذر، ولا يتسامح مع الذنب الذي تذنبه بحقّه، فهو شرّير لأنّك عندما تعتذر إليه فإنما تبذل ماء وجهك وكرامتك له، ذلك لأنّ موقف الاعتذار هو موقف ذلّ. فهذا الإنسان الذي لا يحترم الناس في كراماتهم وفي اعتذاراتهم ليس من الخير في شيء.

ويقول علي(ع): ((شرّ الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً)). وهو الشخص الذي يتجرّأ على المعاصي ويفتخر بها بحيث أنّه لا يخفيها ولا يسرّها بل إنّه يتظاهر ويتجاهر بها، وهو المتجاهر بالفسق الذي اسقط اللّه حرمته. وعندنا في الحديث ((إذا بليتم بالمعاصي فاستـتروا)).

وعن علي(ع): ((شرّ الناس من لا يشكر النعمة ولا يرعى الحرمة)). وهو الذي لا يشكر من أنعم عليه بالنعمة بل ربّما يتمرّد على من أحسن إليه، وربّما يقابله بالجحود والكفران. ولا يرعى حرمات الناس في ما لهم من حرمات في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وأوضاعهم العامّة والخاصّة.

ويقول(ع): ((شرّ الناس من سعى بالإخوان ونسي الإحسان)). فهو يسعى بإخوانه إلى حكّام الجور ويفتن عليهم وينسى إحسان المحسن منهم إليه.

ويقول(ع): ((شرّ الناس من لا يُرجى خيره ولا يؤمن شرّه)). بحيث يتحرّك مع الناس وهم لا يرجون منه أيّ خير، ولا يؤمن شرّه لأنّ نفسه قد جبلت على الشرّ فلا يصدر عنه سوى الشرّ، فإذا نظر الناس إليه رأوا شخصاً لا يرجون خيره ولا يأمنون شرّه. في حين نرى عكس ذلك في الإنسان المؤمن الذي يصفه الإمام الرضا(ع) في بعض أحاديثه ((الخير منه مأمول والشرّ منه مأمون)). أي أنّ الناس يعيشون السلامة والاستقرار والراحة والنفع في التعامل معه.

ويقول(ع): ((شرّ الناس من لا يعتقد الأمانة ولا يجتنب الخيانة)). وهو الشخص الذي لا يؤمن بالأمانة كقيمة أخلاقية إسلامية إنسانية تمثل التزام الإنسان بما أؤتمن عليه، فشرف الإنسان هو أن يفي بالتزاماته أمام الناس لا أن يخونهم في عهوده وما أودعوا لديه من ودائع، وفيما تحمّل أمامهم من مسؤوليات سواء كانت مسؤوليات عمل أو وظيفة أو ما شاكل ذلك.

ويقول(ع): ((شرّ الناس من لا يعفو عن الزلّة ولا يستر العورة)). أي هو ذاك الذي لا يعفو عن الناس إذا أساءوا إليه، وعندما يطّلع على عورات الناس وعيوبهم فإنّه يفضحها ولا يسترها، ولابدّ للإنسان المؤمن أن يستر عورات الناس من حوله، لأنّ ذلك خلقٌ من أخلاق اللّه تبارك وتعالى كما جاء في الدعاء ((أنت الساتر عورتي)).

ويقول أيضاً: ((شرّ الناس من يعين على المظلوم)). فقد ترى شخصاً من إخوانك أو أهلك أو أصدقائك يضرب شخصاً آخر فتدفعك حميتك وعصبيتك بأن تضربه من دون أن تعرف هل هو ظالم أم مظلوم؟ وقد نعين على المظلوم من خلال علاقتنا بالظالم سواء كانت علاقة في مال أو وظيفة أو قرابة أو ما أشبه ذلك.

ويقول(ع): ((شرّ الناس من كان متتبّعاً لعيوب الناس عميّاً عن معايبه)). أي الشخص الذي يحاول أن يفتّش عن عيوب الناس ويجّمعها ويتحدّث بها، أمّا عيوبه فلا يفتّش عنها ولا يحاسب نفسه عليها، وفي ذلك يقول السيد المسيح(ع) فيما يروى عنه ((قد ترى القشّة في عين أخيك ولا ترى الخشبة في عينك)).

وعنه(ع) أيضاً: ((شرّ الناس من يبتغي الغوائل للناس)). أي ذاك الذي يخطّط للايقاع بهم وإفساد أمورهم وتدمير مصالحهم والسعي بهم.

ويقول(ع): ((شرّ الناس من يخشى الناس في ربّه، ولا يخشى ربّه في الناس)). أي الشخص الذي يتحرّك في حياته على أساس الخوف من الناس في أمر ربه فلا يطيع ربه فيما أمره ونهاه خوفاً من الناس، ولكنّه لا يتحرّك على أساس خوف اللّه في تعامله مع الناس }وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ{(6).

ويقول(ع): ((شرّ الناس من لا يثق بأحد لسوء ظنّه ولا يثق به أحد لسوء فعله)). وهو الذي يظنّ السوء بالناس دائماً ولا يحملهم على خير أبداً، واللّه سبحانه وتعالى يقول}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ{(7). ويقول الإمام علي(ع) نفسه في هذا المضمار ((ضع أمر أخيك على أحسنه ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا)). فهو لا يثق بأحد لأنّه لا يحمل الناس إلاّ على السوء من خلال ما يظنّه بهم، أي من دون حجّة ولا بيّنة، والناس في المقابل لا يثقون به من جهة سلوكه السيئ المشين.

ويقول(ع): ((شرّ الناس من يرى أنّه خيرهم)). وهو الذي يقول: أنا أفضل الناس وليس لأحد عقل كعقلي وليس عند أحد علم كعلمي ولا أخلاق كأخلاقي، وعندما يتصوّر الإنسان أنّه في موقع العلوّ عن الناس بحيث يدفعه ذلك إلى أن يرى نفسه خير الناس وهو ليس كذلك، فهو من الذين يريدون العلوّ في الأرض }تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ{. لا يستعلون على الناس ولا يتكبّرون }وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{(8). ونحن نعرف أنّ خلق الإنسان المسلم هو أن يتواضع للناس وأن ينظر إلى نقاط الضعف في شخصيته وإلى نقاط القوّة في الناس، وفي ذلك يقول الإمام زين العابدين(ع) ((اللّهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها)).

ويقول(ع): ((شرّ الناس الطويل الأمل السيئ العمل)). الذي إذا فكر في الموت فإنّه يتصوّر أنّه بعيد بعيد وأنّ الناس كلّهم يموتون إلاّ هو، فهو لا يرى لحياته نهاية، ولكنه أيضاً سيّئ العمل لأنّ الإنسان عندما يطول أمله فلا يشعر بالخوف من لقاء اللّه سبحانه وتعالى، تراه يمتدّ في العمل السيّئ ويتمادى وربما يسوّف التوبة إلى ما لا نهاية. وقد ورد في الحديث ((إنّ أخوف ما أخاف عليكم إثنان: اتباع الهوى وطول الأمل، أمّا الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة)).

ويقول الإمام علي(ع) أيضاً ((شرّ الناس من كافى على الجميل بالقبيح)). يعني إذا أعطاه الناس الجميل من خلال خدماتهم وإحسانهم فإنّه يكافيهم بالقبيح من ذلك هجراً وجحوداً وصدوداً.

وعن رسول اللّه(ص) ((ألا إنّ بعد زمانكم هذا زماناً عضوضاً يعضّ الموسر على ما في يده)). كمن يعضّ على شيء بأسنانه فلا يدعه يفلت ((حذار الإنفاق، قال اللّه تعالى }وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ{(9). فلماذا تعضّ على ما في يدك؟ خاصة وأنّ الذي رزقك ما في يدك يرزقك غيره وهو أصدق الواعدين }وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ{. وهذا مما ينبغي للإنسان أن يتدبّره ويرعاه.

ويمضي الرسول(ص) قائلاً: ((وسيّد شرار الخلق يبايعون كلّ مضطر، ألا إنّ بيع المضطرين حرام)). ومعنى بيع المضطر ذاك الذي يبيع الناس المضطرين من شديدي الحاجة إلى شيء بسعرٍ غالٍ مستغلاً حاجتهم لبضاعته بحيث يثقلهم فيما يفرض من ثمن على البضاعة التي يحتاجونها.

وقال رسول اللّه(ص) لأمير المؤمنين(ع): ((قل: اللّهم لا تحوجني إلى شرار خلقك، قلت: يا رسول اللّه ومن شرار خلقه؟ قال: الذين إذا أعطوا منعوا، وإذا منعوا عابوا)). فلا ينفتح أحد منهم على خير.

ويقول(ص): ((ألا أنبّئكم بشرّ الناس؟ من أكل وحده، ومنع رفده)). أي أنه قادر على رفد الناس ومساعدتهم لكنّه يمنع ذلك ((وسافر وحده)). فلا يريد أن يشاركه في ذلك أحد، إما بخلاً وإما وحشةً من الناس ((وضرب عبده)). أي ضرب عامله أو ولده أو زوجته والعبد في وقت انتفاء وجود العبيد كناية عن الضعيف.

((ألا أنبئكم بشرّ من هذا؟ من يبغض الناس ويبغضونه)). أي يعيش العقدة بين الناس، ولذلك فهو يتحرّك بوحي هذه العقدة السلبية فهو لا يحبّ أحداً ومن الطبيعي أن لا يحبّه أحد لسوء سلوكه وفظاظة خلقه.

((ألا أنبئكم بشرّ من هذا؟! من يخشى شرّه ولا يرجى خيره، ألا أنبّئكم بشرّ من هذا؟! من باع آخرته بدنيا غيره، ألا أنبئكم بشرّ من هذا؟! من أكل الدنيا بالدين)). أي الذي يحاول الحصول على الدنيا من خلال بيعه لدينه ليشتري به ثمناً قليلاً.

وعن جابر بن عبد اللّه، قال، قال رسول اللّه(ص): ((ألا أخبركم بشرار رجالكم؟ قلت: بلى يا رسول اللّه، قال: إنّ من شرار رجالكم البهّات)).. الذي يبهت على الناس ويجترأ عليهم وينسب إليهم ما لم يقولوا به وما لم يعملوه. ((الجريء)).. الذي يتحرّك مع الناس من موقع الجرأة على كراماتهم وأعراضهم وأوضاعهم. ((الفحّاش)).. الذي ينطق بالفحش ويسبّ الناس فلا يسلم أحد من بذاءات لسانه ((الآكل وحده والمانع رفده والضارب عبده والملجئ عياله إلى غيره)). أي الذي يترك عياله يتكفّفون الناس وهو يلعب القمار تاركاً عياله من دون غذاء أو كساء أو دواء فيمدّون أيديهم إلى هذا وذاك.

((ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: المشاؤون بالنميمة)) الذين يسعون بنقل الكلام السيء بين الأخوة المفرّقون بين الأحبّة)). بين المرء وزوجه والأخ وأخيه والأب وأولاده ((الباغون للبراء العيب)). الذين يلتمسون العيب للأبرياء فينسبون لهم العيب وهم أبرياء منه.

وعنه(ص): ((شرّ الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا)). والإنسان المؤمن هو الذي يملك غضبه، والذي يكون سريع الرضا فهو خلق اللّه سبحانه وتعالى كما جاء في دعاء (كميل): ((يا سريع الرضا)).

وعن الصادق(ع): ((شرّ الرجال التجّار الخونة)). الذين يحتكرون حاجات الناس ليرفعوا بذلك الأسعار وليستغلّوا حاجات الناس لزيادة ثرواتهم.

الخلاصة:

وهكذا – أيّها الأحبّة – عشنا مع كلّ هذه الكلمات النيّرة التي تدخل إلى عمق الواقع الإنساني في عناصر الشخصية للإنسان الفرد والواقع الاجتماعي فيما يتحرّك به المجتمع في قضاياه وعلاقاته، لأنّ الإسلام يريد للإنسان أن يعيش إنسانيته في نفسه وفي إنسانية الآخر، ويريد له أن يكون الشخص الذي يعيش حياته للخير كلّه ويبتعد عن الشرّ كله، ((الناس منه في راحة وبدنه منه في تعب)). كما قال علي(ع) في صفة المؤمن، وذلك بأن يكون ممن إذا عاش عاش غيره معه، وهذا ما قاله الإمام علي بن موسى الرضا(ع) في جواب عن سؤال ((من أحسن الناس معاشاً؟ قال: من حسن معاش غيره في معاشه، قال: ومن أسوأ الناس معاشاً؟ قال: من لم يعش غيره في معاشه))(10). فأن تكون مسلماً يعني أن تكون إنساناً تعيش إنسانيتك في كلّ عناصر الخير في الإنسان وفي كلّ عناصر الحقّ فيه. أمّا  وأن تكون مسلماً ولا يرجى خيرك ولا يؤمن شرّك، وتكون الأنانيّ فيما تملكه من علم أو مال أو جاه فلست المسلم، لأنّ الإسلام ليس كلمة ولكنّه فكر وشريعة وخلق وموقف فإذا أردت أن تكون الإنسان المسلم فإنّ عليك أن تعطي الناس عقلاً من عقلك، وقلباً من قلبك ينبض بالحبّ للناس، ومن طاقاتك طاقة تنفع الناس.. كن الإنسان الذي إذا عاش مع الناس أحبّوه وإذا غاب عنهم ذكروه وإذا مات بكوا وترحّموا عليه.. كن الإنسان الذي يحبّه اللّه ويحبّهالناس. }وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ{(11). والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة السادسة والعشرون3ذي القعدة1421ه27كانون الثاني2001م

 

 

 

 

مرجعية القرآن

في غربلة الأحاديث

 

* إن كلّ هذا الركام من الأحاديث الذي يأتينا من هنا وهناك لا نستطيع أن نقبله إلاّ بعد أن نعرضه على القرآن *

 
 
 
 
 
 
 
 

الإمام الصادق(ع) انفتاح الحركة.

معنى علاقتنا بالأئمة(ع).

حقيقة الانتماء.

الحرية عند الإمام الصادق(ع).

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

الإمام الصادق(ع) انفتاح الحركة:

نلتقي في هذا اليوم بذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق(ع)، وعندما نريد أن نقف أمام هذه الذكرى وأمام هذه الشخصية الإسلامية الكبيرة التي كانت حياتها حركة منفتحة على كلّ أبعاد الإسلام في عقيدته وشريعته ومنهاجه ومفاهيمه وحركيته، نرى أنّها كانت منفتحة على الواقع الإسلامي كلّه، بحيث كانت ترصد كلّ التطورات التي تتحرك أو تحدث في الواقع الإسلامي سواء كانت التطورات سياسية أو فلسفية أو اجتماعية أو فقهية. ولذلك فإننا عندما ندرس مرحلة الإمام جعفر الصادق(ع) فإننا نستطيع أن نطلق عليها أنّها مرحلة تجديد الفكر الإسلامي وتأصيله بحيث أنّنا عندما ندرس تراث الإمام الصادق(ع) في كلّ رحابته واتساعه فإننا نجد هناك إسلاماً يجيب على كلّ أسئلة الإنسان، لأن الإمام الصادق(ع) كان يرى من موقع مسؤوليته الإمامية عن الإسلام أنّ من حق كلّ إنسان أن يسأل عن أي شيء ابتداءً من وجود اللّه وتوحيده إلى آخر أي مفهوم إسلامي. وليس من حق أحد أن يمنع أحداً أن يسأل، ولا من حق أحد أن يكفّر إنساناً يثير علامات الاستفهام مادامت علامات الاستفهام لا تتحول إلى جحود يفتقد الحجّة.

وكان الإمام الصادق(ع) كبقية أئمة أهل البيت(ع) يريدون للإنسان أن يسأل دائماً حتى يتعلّم وحتى يطرد كلّ الشبهات والإشكاليات الزاحفة إلى فكره من خلال ما قد يقرأ من فكر مضاد، أو ما قد يسمع من أسئلة معقدة أو ما قد يعيش من أوضاع متحرّكة في الاتجاه الآخر.

لذلك فإننا عندما نقارن بين هذا الامتداد وهذه الرحابة التي تمثلت في تراث الإمام الصادق(ع) وبين الأوضاع التي تحكم الساحة الدينية ولاسيما في بعض مواقع الحوزات العلمية لا كلها، لا نجد أنّ هناك انفتاحاً – في مثل الإمام الصادق(ع) - كأرحب ما يكون الانفتاح، وأنّ هناك انغلاقاً – في مثل الحوزات - كأضيق ما يكون الانغلاق. لقد كان الإمام جعفر الصادق(ع) يستقبل كلّ الذين يحملون اتجاهات فكرية مضادة سواءً في الدائرة الإسلامية أو خارج الدائرة الإسلامية، وكان يؤمن بأنّك عندما تعطي الإنسان حرية أن يفكّر لتجذبه إلى موقع حرية أن يسأل لتقوده إلى مواقع الحرية فإنّك بذلك تشق الطريق المستقيم نحو الدعوة، أمّا إذا منعت الناس من أن يفكّروا بطريقة أخرى، أو يناقشوا مما يملكون فكره خطأ أو صواباً، فان معنى ذلك أن تغلق العقل الآخر عن فرصة الإيمان، وان تغلق المجتمع عن حركية الفكر، ولذا فإنّ هناك حقيقة في كلّ مدى الفكر الإسلامي، وهي أن حرية الفكر لا يمكن أن تهدم فكر الحق لأن فكر الحق يملك في داخله كلّ عمق الأصالة وكلّ الغنى.

إنّ المشكلة ليست هي مشكلة الحق في مواجهة الباطل، ولكنّ المشكلة هي مشكلة الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين رسميين أو غير رسميين للحق، وهم لا يملكون قوة الحجّة والبرهان أو لا يملكون وضوح الحق في أفكارهم، ولذلك كان الإمام جعفر الصادق(ع) يمنع بعض أصحابه عن الكلام أي عن الجدل والحوار لأنّه كان يقول لهم إنّكم لا تملكون قوة الحجّة، بل إنّكم تتمثلون الضعف في ثقافتكم، فإذا واجهتم الفكر الآخر المضاد وضعفتم أمامه فسينعكس هذا الضعف سلباً على كلّ الذين يحيطون بكم ممن يملكون الحق، كأنهم يرون الحق قد ضعف وأنتم تمثلونه في وعيهم أمام الباطل.

ولذلك فان هذا الخط الذي اتبعه الإمام الصادق(ع) مع أصحابه لابدّ أن تتبعه كلّ القيادات الإسلامية في المواقع الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية، وهو أنّ تمنع كلّ من لا يملك فكر الإسلام ولا يملك قوة الحجة أن يبرز في عملية توعية أو حوار أو جدال أو ما إلى ذلك.

لذلك - أيّها الأحبّة – الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) هو حديث لا يملك الإنسان أن يختصره في كلمة أو في محاضرة لأن تراثه كان التراث المتنوع الأبعاد الرحب الآفاق، والذي عالج كلّ القضايا التي عاشت في عصره.

ومن هنا رأينا أنّ كلّ الاتجاهات الموجودة في عصره كانت تنحني أمامه. فنحن نعرف أنّ المسلمين في عصر الإمام الصادق(ع) كانوا فريقين، وكان الفريق الأكبر هو الفريق الذي لا يؤمن بإمامة أهل البيت(ع) بالمعنى المصطلح للإمامة، وهناك الفريق الذي كان يؤمن بالإمامة وهم قلّة، ولكن تميّز ذلك العصر من خلال هيمنة شخصية الإمام الصادق(ع) العلمية والثقة الممتدة في كلّ وجدان الناس جعل أئمة المذاهب ومنهم (أبو حنيفة) النعمان إمام المذهب الحنفي و(مالك ابن انس) الذي هو إمام المذهب المالكي، وغيرهما، يتتلمذون على يدي الإمام الصادق(ع) ويسمعون حديثه ويشهدون له بالصوت العالي من دون أي عقدة مذهبية أو طائفية مما تعارفنا عليه في واقعنا الآن.

وهكذا رأينا كيف أنّ الزنادقة، وهذا هو المصطلح الذي يطلق على الذين لا يؤمنون بالإسلام، كيف كانوا يتحدثون عن أنه الشخصية التي تترّوح إذا شاءت وتتجسّد إذا شاءت، حتى صوّره بعضهم بقوله: ما أقول في شخص يتروّح إذا شاء ويتجسّد إذا شاء وهو الإمام جعفر الصادق(ع) وكأنه يقول عندما نجلس إليه نشعر، في بعض الحالات، أنّ هناك روحاً تتمثل أمامنا كما لو لم يكن لديها أي شيء مادي في الوقت الذي تتجسد شخصيته أمامنا في وجودها المادي عندما يجلس إلينا ويحدثنا ونحدثه. وهكذا نسمع عن ابن المقفع قوله: ((ما رأيت شخصاً يطلق عليه اسم الإنسانية إلاّ هذا الشخص الجالس)). ويشير بذلك إلى الإمام(ع).

معنى علاقتنا بالأئمة(ع):

ومن هنا فإن هناك نقطتين لابدّ أن نتمثلهما في علاقتنا به: الأولى هي أن الانتماء إليه يكلّف جهداً كبيراً وتعباً كثيراً، وهو أن تنتمي – كفرد - إلى القمة، وأن تعيش القمة أو أن تقترب منها لا أن تبقى في السفوح. وأن تنتمي إلى شخص في مستوى هذه الرحابة الفكرية ،وهذا السمو الفكري والامتداد العلمي يفرض عليك كمجتمع أن تستعد لتكون الصورة التي يتحرك العلم فيها بحيث يكون مجتمع المسلمين، لأنه كان يتحرك في رحابة الإسلام كلّه، ومجتمع العلم كلّه لا مجتمع الجهل، ومجتمع الوعي كلّه لا مجتمع التخلّف لأن الإنسان عندما يتمثل قيادة في التاريخ فمن خلال الموقع الإنساني في مرحلتها ومن أجل أن يصنع التاريخ، لا أن يقف عن قراءته فحسب.

إنّ علينا – أيّها الأحبّة - أن نعمل وأن نكون من صنّاع التاريخ، ولكننا، مع كلّ الأسف، ما نزال نعيش على هامش التاريخ، حتى إننا عندما نحاول أن نستوحي التأريخ فإننا نستوحي جوانب التخلّف لا جوانب التقدم فيه، وعندما نقوم بجولة في الساحات الإسلامية فإننا نجد أن الكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم ممثلين للفكري الإسلامي لايملكون أي حسٍ للمعاصرة بحيث يستطيعون أن يقدّموا الإسلام إلى العصر، لأنهم يعيشون الذهنية التي كانت سائدة قبل مئات السنين، بحيث يعيشون الغربة في العصر وفي ذهنيته ولغته وقضاياه وتطلعاته، وكان الإمام الصادق(ع) في مستوى قضايا عصره، بل كان يتقدم على قضايا العصر.

حقيقة الانتماء:

وأمّا النقطة الثانية التي نريد أن نثيرها في هذا المجال فهي معنى الإمامة في الانتماء، ففي العقيدة الإمامية الشيعية لابد أن تلتزم الإمامية عقيدة الأئمة(ع) كلّهم وما عدا الإمام المنتظر (عجل اللّه فرجه)، فكلّهم في إطار التاريخ، ولكن لابدّ من الاعتقاد بإمامتهم، والمسألة هي هل أنّ انتمائك الإماميإليهم هو أن تلتزم الإمامة في فكرك كأسماء تملك هذا العنوان في داخل وجدانك وكحركة حياة أقرب إلى الجانب الشخصي منها إلى الجانب العام في أفراحهم وأحزانهم أو أن للالتزام بالإمامة معنى آخر.

فنحن في معنى هذا الاعتقاد نعتبر أن الإمامة هي امتداد لرسالة النبوة من دون نبوة ((يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ألاّ أنه لا نبي بعدي))(1). ونحن نعرف أن الالتزام بالنبوة يعني الالتزام بكلّ الرسالة فلا يكفي أن تعتقد بان محمداً (ص) رسول اللّه ولكنك لابدّ أن تتبع دينه وسنّته. فليست المسألة هي أنك أخذت علماً بأنّه نبي ولكن المسألة }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّه وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّه كَثِيرًا{(2).}مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا{(3).} مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه{(4).

إنّ الالتزام بالنبوة هو الالتزام بالرسالة كلّها، ولذلك فإنّ الرسالة لا تتجمّد عند حياة الشخص }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّه شَيْئًا{(5). }مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللّه وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ{(6). وفي خط حركية الإنسان في الالتزام بالنبوة يأتي خط حركية الالتزام بالإمامة، فالالتزام بالإمامة ليس التزاماً في الشخص في ذاته، ولكنّه التزام في الإمامة التي حرّك فيها علمه وجهاده وتطلعاته كلّها وحركيته في الحياة، وهذا هو معنى أن يتقدمك الإمام ليكون قدوتك وقيادتك في الكلمة والفكر والسيرة وكلّ ما تتحرّك وتعمل به.

ولهذا رأينا أنّ الإمام محمد الباقر(ع) كما ورد في (الكافي) يقول: ((أفيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول أحبّ علياً وأتولاه، ثم لا يكون فعّالاً، فرسول اللّه (ص) خير من علي، أفيكفي الرجل أن يقول أحبّ رسول اللّه ثم لا يعمل بسنّته))(7). ثم قال وهو يشير إلى خط الإمامة في معنى الالتزام بالأئمة والإمامة، وانه ليس التزاماً بالشخص ((من كان ولياً للّه فهو لنا ولي ومن كان عدواً للّه فهو لنا عدو، واللّه ما تنال ولايتنا إلا بالورع)) وهذا ما نستوحيه من كلمة علي(ع) ((ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد))(8).

الحرية عند الإمام الصادق(ع):

وعلى ضوء ذلك – أيها الأحبّة – فإن الالتزام بالإمامة يفرض علينا أن نملك ثقافة رسالة الإمام، أن نفهم الأئمة(ع) فكراً وحركةً وانفتاحاً ومنهجاً، وأن نستعيدهم من الكتب إلى الحياة، أن يتحركوا معناً، وأن ننطلق في المفاهيم التي تواجه الإنسان المعاصر لنقدّم له رأياً إمامياً في قضايا الحرية والعزّة، وفي قضايا العصبية والقومية وفي القضايا الأخرى التي تتصل بحركة الإنسان في إنسانيته، ليشعر الإنسان المعاصر أن أئمة أهل البيت(ع) ليسوا مجرد شخصيات عاشت في التاريخ وطواها التاريخ، ولكنهم شخصيات يملكون قيادة الحاضر في منهجهم الفكري. فالناس مثلاً يتحدثون في عصرنا هذا عن الحرية وعن بعض النظريات التي يطلقها بعض المفكرين الغربيين مثل (جنبورثكارتن) الذي يقول: إن الحرية لا تأتي من الخارج ولكنها تأتي من الداخل، فحريتك هي حيث تكون إرادتك لا من حيث يمنحك الآخرون مساحة الحرية ويطبّلون ويزمّرون لهذه الفكرة.

ولكننا حين نقرأ الإمام جعفر الصادق(ع) عندما يتحدث عن الحرية فإننا نراه يربط بين الصبر وبين الحرية، وليؤكد لنا أن الحرية تأتي من الداخل لا من الخارج، وتلك هي كلمته التي يرويها صاحب (الكافي) في باب الصبر: ((إنّ الحر حرٌ في جميع أحواله إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصاب لم تكسره ولم تقهره وإن أسر وقهر)). فأنت حر حتى لو كنت داخل الزنزانه لأنك تملك أن تريد أو لا تريد، تملك أن ترفض أو توافق، تملك أن تقول: لا، وأن تقول: نعم. حريتك هي في حرية عقلك وقلبك وفي حرية إرادتك التي تنطلق منها حرية موقفك.

أما أن تكون حراً تتحرّك في الصحراء الواسعة، وتصعد إلى آفاق الفضاء العليا، وتتجول حيثما أتاحت لك الفرصة، وأن تنزل إلى أعماق البحار، وتبقى إرادتك خاضعة لإرادة شخص آخر فأنت لا تملك فكرك، ففكرك في هذه الحال مستعبد لفكر آخر، ولا تملك قلبك فعاطفتك مندكّة في عاطفة أخرى، ولا تملك موقفك فإن موقفك صدى لمواقف الآخرين. أنت عبد حتى لو كانت مساحة الحرية التي تتحرك فيها في مستوى العالم، وأنت حرّ بمقدار ما تملك حريتك وبمقدار ما تملك فكرك وإرادتك وما تؤكد به موقفك.

ولهذا فإن الحرية لا تصدر بمرسوم ولكنّها تنطلق من عمق معنى أصالة الإنسانية فيك. ونقرأ للإمام جعفر الصادق(ع) كلمة يرد بها على الناس الذين يستضعفون أنفسهم ويقولون إننا أحرار ويذلّون أنفسهم باسم أنّهم أحرار في انتخاب ما يرون، فإنّك ترى أحدهم يحني رأسه لمستكبر ويذل نفسه لظالم ويخضع لإنسان منحرف، وعندما تتحدث معه يقول لك أنا حر، في حين أن هذه ليست حرية، فالإمام الصادق(ع) يستوحي من الآية الكريمة }وَللّه الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ{(9). معنى رائعاً للحرية، فيقول: ((إنّ اللّه فوّض إلى المؤمن أموره كلّها))، لك أن تأكل كما تحب وتشرب ما تحب - طبعاً في دائرة ما أحل اللّه - وتشتهي وتتلذذ وتتحرك كما تحب ((ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً))، فأنت لست حراً أن تذلّ نفسك، لأن عزّتك هي جزء من إنسانيتك، ولانّ عزّتك هي وحي من معنى عبوديتك للّه وحده، ومن حريتك أمام العالم. فعزّتك ليست شيئاً ذاتياً يتصل بذاتياتك، بل هي عنصر يرتبط بمعنى انتمائك للّه ولرسوله، وكونك جزءاً من مجتمع المؤمنين. ولذلك فإن تنازلك عن هذه العزّة لتكون الذليل تعني أنك تسيء إلى اللّه ولرسوله وللمؤمنين ما دمت تتحرك في خط هذا الانتماء.

ويتحدث الإمام الصادق(ع) عمن يكفّرون الذين يشكّون، فلو جاءك شخص وقال لك إنّي بدأت أشكّ في اللّه سبحانه وتعالى وفي رسول اللّه(ص) وفي القرآن الكريم، وأنا أبحث عن دليل يقنعني وعن حجّة تفرض نفسها عليّ فهل تكفّره؟! الكثيرون منّا يخرجونه من دائرة الإيمان أو أنهم يطلقون عليه كلمة الكفر، والإمام الصادق(ع) يقول كما جاء في (الكافي) ((لو أنّ الناس إذا جهلوا وقفوا؟ ولم يجحدوا لم يكفروا))، ((وجاءه شخص فقال له: رجل شك في اللّه قال: كافر، قال: شك في رسول اللّه، قال: كافر، ثم قال: إنما يكفر إذا جحد))(10) فالكفر جحود والشك عندما لا يتحول إلى جحود يبقى حائراً بين الإيمان وبين الكفر بل إن الإسلام في طريقته الحوارية اعتبر حركة الحوار في خط الشك، الشك الذي قد لا يلتزم به صاحبه ولكنّه هو الأسلوب الذي يدير الحوار من خلاله }وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ{(11).

أيّها الأحبّة، هذه بعض الكلمات التي يمكننا أن نستوحي منها آفاق الإمام الصادق(ع) لنعيش ولننفتح عليها، ولنحرّك تفكيرنا في اتجاهها، ولنكون معه علماً وفكراً. وعندما تأتي ذكراه في مولده أو في وفاته فإن الناس يعيشون الدموع وربما يسيئون إلى شخصيته من خلال بعض الروايات غير الصحيحة التي يروونها عنه، لذلك نريد لذكراه أن تكون منطلقاً للثقافة وللحرية وللانفتاح به وبالأئمة(ع) كلّهم، وعلى الإنسان المعاصر أن يعرف أنهم أئمة الهدى الذين يهدون الناس إلى الحق في حياتهم وبعد وفاتهم. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

 

المحاضرة السابعة والعشرون10 ذي القعدة 1421 ه3 شباط 2001م

 

 

 

كلمات الإمام الرضا(ع):

أضواء حركية

 

 

* نحن بحاجة دائمة إلى أن نتمثل امتداد حركية الرسالة في كلمات الأئمة(ع) وسيرتهم لأنّهم يمثلون الرسالة المتجسّدة في الحقيقة التي يمثّلونها *

 

 

القرآن والعترة.

القرآن مرجع المسلمين.

التدبّر في القرآن.

حفظ القرآن.

قراءة القرآن غنى.

القرآن عهد اللّه.

 

المصحف المهمل.

تجويد القرآن.

القراءة السريعة للقرآن.

خطاب الغائب.

تبيان كلّ شيء.

القرآن معيار الخطأ والصواب.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

القرآن والعترة:

ونبقى مع الإمام جعفر الصادق(ع) في ذكراه، وننطلق من خلال الربط بين العترة وبين القرآن. فكيف نفهم العترة من خلال القرآن؟ وكيف نفهم القرآن من خلال العترة؟ والحديث النبويّ الشريف الذي يرويه الفريقان من المسلمين يقول: ((إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي فانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))(1).

وإذاً فهناك الكتاب والعترة اللذان انطلقا من قلب رسول اللّه(ص) فيما أنزله اللّه عليه من وحي وفيما هيّأه له من عترة تربّت على يديه وانفتحت على الرسالة حتى كانت تجسيداً للرسالة. وعندما نقرأ القرآن الكريم فإننا قد نجد بعض الآيات التي تتحدث عن بعض فضائل العترة، كما نجد الكثير من الآيات التي تتحدث عن الخطوط الإسلامية العامّة في الأخلاق وفي الفضائل مما كانت العترة فيه النموذج الأكمل، ومن هنا جاء التفسير بالمصداق مما يسمّى ((باب الجري)) كما اصطلح عليه صاحب (تفسير الميزان).

ونريد هنا أن نتحدث عن نظرة العترة للقرآن، لأنّ هناك الكثير من الحديث الذي نسب إلى التابعين للعترة من المسلمين يشوّه الصورة، فهناك الكلام الذي يقول إنّ المسلمين الشيعة يقولون بأن القرآن محرّف، وأنّه أنقص منه الكثير، وما زال الكثيرون يتحدثون عن هذا الموضوع كما لو كان حقيقة من الحقائق، بالرغم من أنّ علماء المسلمين الشيعة تحدّثوا بما لا مزيد عليه من الحديث حول هذا الموضوع. فالشيعة لا يملكون ولا يعتقدون بكتاب غير الكتاب الذي بين أيدي المسلمين، فلو أنّك فتّشت في كلّ مواقع المسلمين الشيعة لما رأيت هناك حرفاً زائداً في أي نسخة من الكتاب الكريم المتداول بين أيديهم، ولعلّه ليست هناك أية ضمّة أو فتحة أو كسرة زائدة، لأنّ كتاب اللّه هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأنّ اللّه يقول }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{(2).

وهناك من يتحدث عن أنّ للشيعة قرآناً يسمّى ((مصحف الزهراء)) ولكننا عندما ندرس النصوص التي أشارت إلى هذا المصحف فإنّنا نراها قد أطبقت على أنّ كلمة المصحف ليس المراد بها القرآن، ولم توضع للقرآن كليّة. فالمصحف مأخوذ لغة من مجموع الصحف، ولذلك يمكن أن تطلق كلمة مصحف على أي كتاب سواء كان القرآن أو غيره من الكتاب.

والروايات التي تتحدّث عن هذا تذكر بعضاً مما كانت تتحدث الزهراء(ع) به، وبعضهم يقول إنّ فيها وصية الزهراء(ع) والبعض يقول إنّ فيها أحكاماً شرعية مما بحثه الباحثون في طبيعة ما فيه. ولكن ليس هناك شيء اسمه مصحف الزهراء يمثل قرآناً ثانياً في قبال القرآن المنزل على النبي(ص)، فلا قرآن للمسلمين إلا هذا الذي بين أيديهم، وكلّ من اعتقد ذلك أو نسب إلى بعض المسلمين ذلك فهو منحرف عن الخط المستقيم.

فلقد أجمع العلماء من المتقدمين والمتأخرين أن لا تحريف في القرآن وأنّ ما ورد من أحاديث سواء عن طريق الشيعة أو طريق السنّة مما قد يوحي بالتحريف أو بالنقصان ما هو إلا أحاديث إمّا غير صحيحة أو مؤوّلة بمعنى آخر يخرجها عن أن تكون تحريفاً، كأن تكون زيادة في المعنى أو ما أشبه ذلك مما بحثه الباحثون. ولعلّ أفضل بحث علميّ في هذا المجال هو بحث آية اللّه العظمى السيد الخوئي(رحمه الله) في كتابه (البيان في تفسير القرآن) وهو من أفضل الكتب التي عالجت موضوع نسبة تحريف القرآن إلى المسلمين الشيعة.

القرآن مرجع المسلمين:

فمن خلال هذا الجوّ – ونحن نعيش ذكرى الإمام الصادق(ع) – نحاول أن ننقل النصوص المرويّة عن الإمام جعفر الصادق(ع) في القرآن لاسيما النصوص التي تدلّ على أنّ القرآن هو مرجع المسلمين في تمييز الأحاديث الصحيحة من غير الصحيحة، بحيث أنّ كلّ هذا الركام من الأحاديث الذي يأتينا من هنا وهناك لا نستطيع أن نقبله إلاّ بعد أن نعرضه على القرآن، فإذا كان القرآن هو الأساس في الأخذ بالأحاديث المرويّة عن رسول اللّه(ص) أو عن أئمة أهل البيت(ع) فكيف يكون القرآن زائداً أو ناقصاً أو محرّفاً؟ وهل يمكن أن يكون الكتاب المحرّف مرجعاً يزيل عنّا كلّ شبهة؟!

سنحاول في هذا اللقاء أن ننقل لكم كيف أنّ الإمام جعفر الصادق(ع) يتحدّث إلى الناس في مجالسه مما كان يرويه عن رسول اللّه(ص) في القرآن، فتعالوا إليه وهو يحدّثنا عن القرآن.

فعن أبي عبد اللّه الصادق(ع) قال: ((قال رسول اللّه(ص): أيّها الناس إنّكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع وقد رأيتم الليل والناس والشمس والقمر يبليان كلّ جديد ويقرّبان كلّ بعيد ويأتيان بكلّ موعود فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز)). أي ليهيّأ كلّ واحد منكم نفسه على طريقة }وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى{(3). ((فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول اللّه وما دار الهدنة؟ قال: دار بلاغ وانقطاع)) عندما تنتهي مدّته ((وإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم)). سواء كانت فتناً فكرية أو ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو أمنية مما عاشه المسلمون بعد رسول اللّه(ص) ((فعليكم بالقرآن)). أي ارجعوا إليه وتدبّروه .. حاولوا أن تعرضوا واقعكم كلّه على الخطوط العامّة التي بيّن فيها للناس كيف يفكّرون؟ وكيف يتحرّكون؟ وكيف ينطلقون؟ ((فإنّه شافع)) يشفع للذين يقرأونه والذين يعملون به ويسيرون في نهجه ((مشفّع)). لأنّ اللّه يشفّع القرآن بالعاملين به من خلال طبيعة ما يعرفه فيهم.

((وماحل مصدّق)) وماحل يعني مجادل، أي يدخل في عملية الحوار والجدال بالحقّ، لذلك يصدّقه الخصم عندما تتبدّى له آياته واضحة جلّية.

((ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة)) أي من اعتبر القرآن الهدى الذي يهتدي به والنور الذي يستضيء به، فإنّ القرآن يقوده إلى الجنة لأنّه يبيّن له الطريق إلى الجنّة }وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{(4).

((ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)). جعله خلفه واستقبل كلّ التيارات والاتجاهات التي جاء بها الإنسان على خلاف كلام اللّه، فإنّ القرآن يسوقه إلى النار باعتبار أنّ من ترك القرآن فإن تركه يعني تركاً للّه ولرسوله وذلك يسوق إلى نار جهنم.

((وهو الدليل يدلّ على خير سبيل)) الصراط المستقيم ((وهو كتاب فيه بيان وتفصيل وتحصيل)). من خلال النتائج الذي تؤخذ منه باعتباره القاعدة التي تنطلق منها الفكرة. ((وهو الفصل ليس بالهزل)) فهو الجدّ كلّه الذي يفصل بين الحقّ وبين الباطل. ((وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم)). وليس المراد بالبطن والظهر أنّ له معاني أخرى تختلف عن المعاني المفهومة بل باعتبار أنّ ظاهره يعطي المعنى في خطوطه الأولى، وباطنه يعطي المعنى في عمقه ودقّته وامتداده وانفتاحه بحيث يمكن أن تعيش القرآن لتنفتح به على كلّ ما يمكن أن تشير به هذه الآية أو تلك.

((ظاهره أنيق)) من خلال الجانب الفنّي ((وباطنه عميق)) فيما ينطوي عليه من معانٍ ومفاهيم وتعاليم ((له نجوم)). لأنّه نزل منجّماً وربما يقصد بالنجم ما يعطيه من إشارة الضوء. ((لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة فليجل جالٍ بصره وليبلغ الصفة نظره ينجو من عطب ويتخلّص من نشب)). أيّ من هلاك ((فإنّ التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص))(5). أي التريّث والانتظار.

هذا هو حديث الإمام الصادق(ع) الذي يشير فيه إلى القرآن الذي كان بين يدي المسلمين يتداولونه في عصره.

و((عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه(ع) قال إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جال بصره، ويفتح للضياء نظره فإنّ التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور))(6).

التدبّر في القرآن:

((وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول: إنّ القرآن زاجر وآمر)). زاجر في نواهيه، آمر في فرائضه وعزائمه ((يأمر بالجنّة ويزجر عن النار)). فالقرآن يقرّبكم إلى الجنّة لأنّه يأمركم بما يجعلكم تستحقون الجنّة وينهاكم عمّا يجعلكم تستحقون النار.

وعن الكيفية التي يعيش بها القارئ للقرآن آياته يقول سماعة: ((قال أبو عبد اللّه(ع) ينبغي لمن قرأ آية من القرآن فيها مسألة أو تخويف أن يسأل عند ذلك خير ما يرجو ويسأله العافية من النار ومن العذاب))(7). فعندما تتحرك الآيات فيما فيه سؤال اللّه، فعليك عندما تقرأ الآية أن تسأله سبحانه وتعالى وتستحضر مسائلك التي تريد أن يحقّقها اللّه لك. وإذا رأيت في آية تخويفاً من النار فعليك أن تطلب من اللّه أن يجيرك منه ومن عذابه حتى يعيش الإنسان حيوية القرآن بحيث يندمج مع آياته فلا يقرأه كما يقرأ كتاباً عادياً لا علاقة لحياته ومصيره به، بل يحاول أن يقرأ القرآن كما لو كان يخاطبه شخصياً ويعالج قضاياه ومشاكله حتى يدخل القرآن في وعيه ويحرّك مشاعره فيشعر أنّه يقرأ كتاباً يخطط لحياته ويفتح له الآفاق على اللّه سبحانه وتعالى.

حفظ القرآن:

وعن أبي عبد اللّه الصادق(ع) قال: ((الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة)). المقربين إلى اللّه سبحانه وتعالى، فهو حافظ وعامل أيضاً، فإن حفظ القرآن دليل على احترام الحافظ له وتعظيمه له حتى يدخله في عقله كلّه وذهنه كلّه. والعمل به يعني السير على خط النور الذي يدلّه على اللّه فيكون الإنسان المؤمن باللّه العامل بالصالحات السائر إلى اللّه على الطريق المستقيم.

قراءة القرآن غنى:

و((عن معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبد اللّه(ع): من قرأ القرآن فهو غنيّ ولا فقر)). وبهذا يشير الإمام(ع) أنّ على الإنسان أن لا يستغرق دائماً في الفقر والغنى الماديين، بل عليه أن يعيش الفقر والغنى في داخل شخصيته لأنّ قصة الفقر والغنى الماديين هي قصة شيء خارج ذاتك يتصل بحاجاتك، أمّا القرآن فيما يعطيك من فكر، وفيما يوحي إليك من خط، وفيما يدلّك عليه من منهج وطريق، وما يقودك إليه من هدف، هو أنت، لأنّ كلّ شيء يدخل في عقلك هو أنت، وعلمك هو أنت وإحساسك هو أنت، فإذا كنت غنيّ العقل غني القلب وغنيّ الإحساس فإنّ معنى ذلك أنك تملك ذاتاً غنيّة. أمّا إذا كانت ذاتك فارغة ليس فيها شيء للفكر ولا للّهدى ولا للنهج، فمن أنت؟ ما أنت إلا مجرد خواء فارغ حتى لو كان ملك الدنيا بين يديك، فالمال لا يمثّل شيئاً بالنسبة إلى ذاتك، ولذا يقول الإمام(ع) ((فهو غنيّ ولا فقر بعده وإلاّ – إن لم يكن قرأ القرآن – ما به غنى)). وذلك لأنّ في القرآن من المواعظ ما إذا اتعظ به استغنى عن غير اللّه في كلّ ما يحتاج إليه))(8). فإذا قرأ القرآن في مواعظه كلّها شعر بأنّه لا يحتاج إلاّ إلى اللّه سبحانه وتعالى }يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ{(9).

وهكذا نلاحظ أيضاً الآيات التي تقول: }وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ{(10). وغيرها من الآيات التي توحي إلى الإنسان بأنّه فقير إلى اللّه وحده، وأن كلّ ما عنده }وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللّه{(11). فهو يشعر بأنّ اللّه هو كلّ شيء بالنسبة إلى وجوده، فكما كان وجوده من اللّه فإن استمرار وجوده هو من اللّه، وبذلك ينظر إلى الناس على أنّهم مجرد أدوات يسخّرها اللّه له بما يسخّره من قلوب الناس ومن الفرص التي تتحرّك في حياتهم، لكنّه يبقى الغنيّ عن الناس في نفسه والفقير إلى اللّه وحده، وتلك هي الحقيقة التي لو وعاها الإنسان وعاشها بطريقة واقعية عملية فإنّه يستطيع أن يحتفظ لنفسه بكلّ هذا الإحساس بالفقر إلى اللّه والغنى عن الناس والعيش معهم من خلال الأدوات التي تتحرّك مما يحرّكه اللّه له. فنحن نقرأ في القرآن}وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ{(12). ونقرأ في بعض الأحاديث في تفسير قوله تعالى }وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّه إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ{(13). ((قيل: كيف ذاك؟ قال: هذا الذي يقول لولا أنت لهلكت، قيل: إذاً كيف نقول؟ قال: تقول لولا أنّ منّ اللّه بك عليّ لهلكت)). بحيث تتصور أنّ اللّه سخّر الناس لخدمتك لأنّ كلّ شيء منه سبحانه وتعالى، وهذا هو خط التوحيد الخالص وهو أن لا تشعر بأنّ لأي ّ شخص دخلاً في حياتك، وأنّ اللّه هو الذي يسخّر لك هذا وذاك، ويأذن لهذا بأن يشفع لك وذاك بان يدعو لك وما إلى ذلك.

وفي الحديث عن الفضيل بن يسار قال: ((سمعته يقول: إنّ الذي يعالج القرآن ويحفظه بمشقّة وقلّة حفظ له أجران)). فالذي لا يملك قوة حافظة ولكنّه يحاول أن يكرّر قراءة القرآن سواء كلّه أو بعض آياته فله أجران: أجر حفظ القرآن وأجر المشقة التي واجهها في ذاك.

القرآن عهد اللّه:

وعن ابي عبد اللّه(ع) قال: ((القرآن عهد اللّه إلى خلقه)). وهذا من أبلغ التعابير }أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ{(14). فالقرآن بكلّ ما فيه من آيات وأحكام ومفاهيم وشرائع هو عهد اللّه الذي لابدّ للناس أنّ يلتزموا ويعملوا به، وهذا مما قد نستوحيه من قوله تعالى لبني إسرائيل }أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ{. لأنّ فيه كلّ الشروط والالتزامات التي يتعين على الناس الالتزام بها أمام اللّه سبحانه وتعالى.

((فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده)). حتى يعرف ماذا يريد اللّه منه، وما هو التزامه إزاء اللّه تبارك وتعالى؟ فنحن نقرأ في شهادة الموت ((الإسلام ديني والقرآن كتابي)) فعندما تقول ((كتابي)) يعني الكتاب الذي تلتزم به وتعمل به وتخضع فكرك وعملك وقولك له، وهذا اعتراف منك بالالتزام بالكتاب، فعليك أن تنظر يومياً في القرآن حتى تعرف مراد اللّه منك في تجارتك وعملك وعلاقاتك وما إلى ذلك. ((وأنّ يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية))(15).

و((عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه(ع) وهو قول موجّه للتجّار والعاملين في الأسواق: ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فتكتب له مكان كلّ آية يقرأها عشر حسنات ويمحي عنه عشر سيئات))(16). ذلك لأنّ التجارة والمعاملات المادية تغلق قلبه وتشغله بكلّ هذه المفردات والمجادلات والمماحكات فيذهب النور من قلبه، ولذلك فعليه أن يقرأ القرآن قبل أن ينام حتى يستضيء بنور القرآن ويتجدّد إيمانه وحتى يعرف ماذا يريد اللّه تعالى منه ليفعله وما لا يريد ليتركه، وحتى يتذكر ما فعله في يومه، وهل هو مطابق لما يريده اللّه منه أو ليس مطابقاً. ولعلّ في هذا الأجر مطابقة لمقتضى حال التجار والعاملين في الأسواق، أي أنّه إشارة وإلفات نظر إلى أن هناك أجراً كبيراً سينالونه جرّاء قراءة القرآن أضعاف ما يحصلون عليه من الأجر المادي ببيع بضاعة ما، فهذه تجارة وتلك تجارة ولكن التجارة مع اللّه لن تبور. وفي هذا إشارة إلى أن على الناس أن يأخذوا بأسباب الانفتاح والاستفادة من كلّ المواقع والأشخاص والكتب التي أريد لها أن تكون مصدراً للانتفاع به في شؤون العمل والعلم والوعي الإسلامي فلا يهمل أمرها ويتعامل معها بمسؤولية.

المصحف المهمل:

و((عن أبي عبد اللّه(ع) قال: ثلاثة يشكون إلى اللّه عزّ وجل: مسجد خراب لا يصلّي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف مغلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه))(17). وقد يكون هناك شخص حافظ للقرآن ولديه مصحف فأيّما أفضل أن يقرأ بما في حافظته أم بالمصحف؟ ((فعن اسحق بن عمّار عن أبي عبد اللّه(ع) قال: قلت له: جعلت فداك إنّي أحفظ القرآن على ظهر قلبي فأقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر إلى المصحف؟ قال: فقال لي: بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل، أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة))(18). والمقصود بالنظر هو النظر أثناء القراءة، وربما كان المراد هو التركيز والتأمّل أثناء القراءة لأنّ الحافظ ربما لا يمتلك نفس التركيز.

تجويد القرآن:

و((عن أبي عبد اللّه(ع) قال: قال رسول اللّه(ص) إقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم))(19). وليس معنى ذلك أن لا يجوّد القرآن أو لا يرتّل أو لا يقرأ بالصوت الحسن ولكن التحذير من أن يكون التركيز على الصوت فقط، فقد يسمع أحدهم قرّاء القرآن وهم يلحّنونه بالطرق الغنائية الموجودة فهذا يسيء إلى روحية القرآن، فللقرآن قراءة تختلف عن الطريقة الغنائية بألحان أهل الفسوق التي يراد فيها إلهاب المشاعر في حين يراد من القرآن إثارة العقل والقلب والروح، ولا إشكال أنّ الصوت الحسن ولحون العرب تجسّد معنى الآية، لكن علينا أن لا نخرج القرآن عن طبيعة اللحن الذي يبقينا في أجواء الوحي القرآني ولا يخرجنا إلى أجواء اللحون التي تربطنا بالصوت دون المعنى، وفي ذلك يقول النبي(ص) مما يرويه الصادق(ع) عنه ((لكلّ شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن))(20).

القراءة السريعة للقرآن:

و((عن محمد بن عبد الجبار قال: قلت لأبي عبد اللّه(ع) اقرأ القرآن في ليلة. قال: لا يعجبني أن تقرأ في أقلّ من شهر))(21) ذلك أنّ قراءة القرآن في ليلة يحصل من خلال المرور السريع على الألفاظ والكلمات، فكما يفعل البعض من الذين يختمون القرآن في الشهر الفضيل ثلاثين ختمة وهو لم يفهم أيّ شيء منه، فالقرآن يُقرأ ويُتدبّر }أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا{(22). فهو الكتاب الذي يتصل بآخرتنا ودنيانا، فلابدّ للإنسان أن يثقّف عقله بالقرآن حتى يكون تفكيره في الخط القرآني، وأن يثقّف قلبه بالقرآن حتى تكون عاطفته من خلال الخط العاطفي للقرآن، وأن يثقّف طاقاته بالقرآن حتى تتحرك طاقاته في المنهج القرآني.

((عن أبي عبد اللّه(ع) قال: كان أصحاب محمد(ص) يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل. إن القرآن لا يُقرأ هذرمة)). والهذرمة هي السرعة في الكلام ((ولكن يرتّل ترتيلاً فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فقف عندها وسل اللّه الجنّة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوّذ باللّه من النار))(23). بأن تعيش من خلال القراءة كيانك كلّه وتأريخك كلّه وما تفكّر فيه بحاضرك ومستقبلك كلّه.

خطاب الغائب:

و((عن ابي عبد اللّه(ع) قال: أُنزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة)). أي أنّ القرآن كان يخاطب النبي(ص) وهو يقصد الآخرين، كما في قوله تعالى }وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ{(24). فهل يمكن أن يتقوّل النبي(ص) على اللّه عزّ وجل؟ ولكنه تحذير مبطّن للمسلمين من أن يفعلوا ذلك. وكذلك قوله تعالى }لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ{(25). فهل يمكن للنبي(ص) الذي جاء بالتوحيد أن يشرك؟! فكأن اللّه يريد أن يقول للناس إذا كان هذا الخطاب موجّهاً إلى شخص فيمستوى النبي(ص) في قربه من اللّه وأشرك باللّه لحبط عمله، وهذا أبلغ في التعبير. وفي رواية أخرى ((قال: معناه ما عاتب اللّه عزّ وجل به على نبيه(ص) فهو يعني به ما قد مضى في القرآن مثل قوله: }وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا{(26). عنى بذلك غيره))(27).

تبيان كلّ شيء:

وعن الإمام الصادق(ع) قال: ((إنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد)). ليس المقصود الكيمياء والفيزياء وما شاكل بل الأمور المتصلة بهداية الإنسان ((حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ إلا وقد أنزله اللّه فيه))(28) لكن المشكلة هي أنّ الناس لا يتدبّرون القرآن جيداً.

و((عن حمّاد عن أبي عبد اللّه(ع) قال: سمعته يقول: ما من شيء إلاّ وفيه كتاب وسنّة))(29). فاللّه تكفّل في كتابه، والنبي تكفّل بالهام اللّه في سنّته، بما يحتاج إليه الناس.

القرآن معيار الخطأ والصواب:

و((عن أبي عبد اللّه(ع) قال: قال رسول اللّه(ص): انّ على كلّ حق حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه))(30). أي ادرسوا القرآن وادرسوا مفاهيمه وخطوطه العامّة وانظروا إلى ما يأتيكم من الأحاديث، فإن رأيتم الحديث موافقاً للمفاهيم والأحكام والقواعد القرآنية فخذوا به، وإلاّ إذا رأيتم أي حديث - حتى لو نسب إلى النبي(ص) – يعارض القرآن فاتركوه لأنّه لا يمكن أن يتحدّث النبي(ص) ولا الأئمة من أهل بيته(ع) بما يخالف القرآن.

و((عن أبي عبد اللّه بن أبي يعفور، قال: وحدثني حسين بن أبي العلاء انه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس، قال: سألت أبا عبد اللّه(ع) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به، قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم به شاهداً من كتاب اللّه)). حتى ولو كان الشاهد من ناحية القاعدة ((أو من قول رسول اللّه(ص) وإلا فالذي جاءكم أولى به))(31). أي ردّوه إليه.

و((عن أيوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد اللّه(ع) يقول: كلّ شيء مردود إلى الكتّاب والسنّة وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف)). أي أنّ شكله جيد لكنه لا ينطوي على عمق في المعنى.

و((عن أبي عبد اللّه(ع) قال: خطب النبي(ص)بمنى فقال: أيّها الناس ما جاءكم عنّي)). حتى يغلق الباب على الكذّابة عليه ((يوافق كتاب اللّه فأنا قُلته، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله))(32).

وفي ضوء هذا، وكما ذكرنا في بداية الحديث فإنّ حديث الإمام الصادق(ع) بما رواه عن الرسول(ص) في هذا الاتجاه، وفيما تحدث به يوحي أن الإمام الصادق(ع) والأئمة من أهل البيت(ع) سواء من تقدّمه ومن تأخر عنه، وكلامهم واحد وخطهم واحد ومنهجهم واحد، يجدون أنّ القرآن أساس الإسلام فلا يمكن أن ننسب شيئاً إلى الإسلام يخالف القرآن، بل علينا أن نعرض كلّ الأحاديث على كتاب اللّه حتى ندخل في مقارنة بين المفهوم الذي يعطيه هذا الحديث والمفهوم الذي يعطيه كتاب اللّه بحسب ظاهره وما يفهم منه لنطرح ما يخالفه ونأخذ ما يوافقه. وكتاب اللّه الذي تحدّث الإمام الصادق(ع) عنه كمقياس هو الكتاب الذي بين أيدي المسلمين وليس كتاباً زائداً أو ناقصاً عن ذلك. لأنّه الكتاب المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكلّ من قال بتحريف القرآن فهو منحرف عن الخط المستقيم.والحمد للّه ربّ العالمين.

المحاضرة الثامنة والعشرون17ذي القعدة 1421 ه10شباط 2001م

 

 

في ذكرى ولادة الإمام الرضا(ع)

برنامج الإسلام الأصيل

 

* برنامج الأئمة من أهل البيت(ع) هو برنامج الإسلام الأصيل، لأن أهل البيت(ع) ليس لديهم إلا الإسلام بلا زيادة ولا نقصان *

 

 

ذكرى ولادة الإمام الرضا(ع).

حقيقة القناعة.

ترويع المسلمين.

أخوك دينك.

تناسل ذرية آدم(ع).

مصير البهتان.

 

كمال المرؤة.

موارد الاستهزاء.

اقتران.

صغائر الذنوب.

تفسير الاطمئنان القلبي.

إدلاء الأموال إلى الحكّام.

الكفر بآيات اللّه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ذكرى ولادة الإمام الرضا(ع):

كنّا في الأسبوع الماضي مع الإمام جعفر الصادق(ع) في ذكرى وفاته، ونحن في هذه الأيام نعيش الإمام علي بن موسى الرضا(ع) في ذكرى ولادته. ونحن عندما نعيش مع إمام من أئمة أهل البيت(ع) فان الإمامة تمثل خطا فكريا يرتكز على الإسلام في موقع الأصالة، وفي موقع الامتداد، وفي حركة الواقع. ولذلك فإن الإمامة لا تتحرّك في دائرة محدودة من الزمن لتكون محدودة بحدود عمر الإمام، بل إن الإمامة في وعي الذين يلتزمونها ويؤمنون بها تمتد في مدى الزمن وفي واقع الإنسان كله في كل تطوراته الفكرية والحياتية باعتبارها تمثل المضمون الفكري الثقافي في كل مفردات الإسلام العقيدية والشرعية والأخلاقية والحركية والمنهجية.

نحن مع الإمامة بما تمثله من الإسلام الذي نتمثله في كلمات هذا الإمام أو ذاك، لأننا قلنا أكثر من مرة إن علاقتنا بالأئمة تماما كما هي علاقتنا بالنبوة ليست علاقة بالشخص في ذاته، وان كانت ذاته تمثل التجسيد لمعنى رسالته، ولكن علاقتنا هي علاقة بالرسالة وبالرسول من خلال الرسالة. ولهذا ليست لنا علاقة بنسبه ولكن علاقتنا برسالته  }مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللّه وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ{(1). }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَان مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ{(2). يموت الرسول وتبقى الرسالة. وعلى ضوء هذا فإننا بحاجة دائما إلى أن نتمثل الرسالة في كلمات الرسول وفي سيرته، وان نتمثل امتداد حركية الرسالة في كلمات الأئمة وسيرتهم لأنهم يمثلون الرسالة المتجسدة في الحقيقة التي يمثلونها.

تعالوا إلى مائدة الإمام علي بن موسى الرضا(ع) لنتزوّد منها بكلَّ أطايب الزاد الفكري والأخلاقي، والإمام(ع) عندما يتحدث فانه يتحدث عن الحقيقة الناصعة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

حقيقة القناعة:

في البداية نقف مع الإمام الرضا(ع) في حديثه عن القناعة، ونحن نفهم ونعرف أن القناعة تمثل خطا إسلاميا رسالياً أخلاقيا، وهي في مضمونها كقيمة أخلاقية تعني أن تعيش غنى النفس بحيث تقدر حاجتك في مستوى إمكاناتك، وتحاول أن تطوّر إمكاناتك لتطوّر حاجاتك، ولا تتطلع إلى ما في أيدي الناس ولا تتطلع إلى ما لا تملكه ولا تستطيعه لتعيش الإحباط النفسي والسقوط الروحي، ولذلك قيل كما عن علي(ع): ((القناعة مال لا ينفد)). لان المال عندما يكون مجرد شيء نقدي تملكه فان المصارف سوف تستنفده. ولكن القناعة عندما تمثل غنى نفسيا يجعلك تعيش التوازن في حاجاتك وإمكاناتك فان نفسك تبقى في غناها مهما استنفدت مفرداتها وأوضاعها. وعندما تكون غني النفس قانعا بما أعطاك اللّه مما بذلت جهدك فيه، أو مما أعطاك الآخرون فانك الإنسان الذي يستطيع أن يقف أمام الآخرين لكي يقول أنا الغني في نفسي لان حاجاتي لا تتطلع إلى أكثر من إمكاناتي لتسقطني أمام الآخرين.

كيف عالج الإمام الرضا(ع) هذه المسألة؟

((القناعة تجمع)) في عطائها الروحي والأخلاقي ((صيانة النفس)) أن تصون نفسك من أن تسقط أمام حاجاتك للآخرين ((وعزّ القدرة)) بان تمنحك القناعة العزة في إرادتك وفي قدراتك بحيث لا تستشعر العجز في نفسك ولا تسقط إرادتك فتنحني أمام الآخرين. ((طرح مؤنة الاستكثار)) إنها تطرح عنك مؤنة الاستكثار من المال الذي يأخذ كل شيء منك ولا يبقي لك من نفسك شيئاً ((منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال)). ذلك إنّ مشكلة الذين يحبون كثرة المال كقيمة بقطع النظر عن حاجاتهم فان هذا الاستكثار للمال يأخذ من أنفسهم كلّ شيء حتى لا يفرغوا لشيء من أنفسهم فلا يفرغون لعلم، ولا يفرغون لعائلة، ولا يفرغون لمسؤوليات في الحياة، فعقولهم مركبة من مال، وقلوبهم تخفق بالمال، وطاقاتهم تتحرك بالمال، فهم خدّام للمال وليس المال خادماً لهم.

((والتعبد لأهل الدنيا)) فالذين لا يقنعون هم من عبّاد الذين يملكون الفرص التي ليست لديهم، عبّاد الذين يملكون المال والجاه والسلطة. والعبادة هنا ليست صلاة حتى يقول أننا لا نصلي لهم ولكنها غاية الخضوع في أن تسحق نفسك تحت تأثير ما يملكون، ولذلك فإنك عندما تكون قانعاً بما أعطاك اللّه وواثقاً من قدرتك على الاستزادة من حاجاتك فالمال عندك ليس قيمة ولكنه يمثل وسيلة من وسائل تلبية الحاجات، وعليك أن تقدر حاجاتك كما قلنا بتقدير إمكاناتك، والمثل الشعبي يمثل تجربة الإنسان في معنى التوازن في حياته ((على قدر بساطك مد رجليك)). لأنه إذا كان بساطك قصيرا فسوف تكون رجلاك على التراب بحيث تتعرض للخطر، ولكنك ما دمت تملك حركة رجليك فمدهما بقدر بساطك، ثم حاول أن تضيف إلى بساطك شيئا يتسع لامتدادات رجليك في المستقبل، أي قدّر حاجاتك بمقدار إمكاناتك وهكذا يكون بإمكانك أن تملك نفسك.

((ولا ملك طريق القناعة إلا رجلان: إما متقلل يريد أجر الآخرة)). أي لا يستغرق في الدنيا لأنه يعرف أنها إلى فناء، ولكنه يأخذ من الدنيا ما يجعله يربح الآخرة   }وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّه الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا{(3). ((أو كريم يتنزّه من آثام الدنيا))(4). يكرم نفسه وينزهها عن آثام الدنيا التي توحي إليه بالطمع. وقد ورد عن علي(ع) ((الطامع في وثاق الذل)). لان الطامع لا يملك حرية نفسه بل يتطلع دائما إلى ما في أيدي الآخرين. وقد ورد في الكلمات المأثورة ((احتج إلى من شئت تكن أسيره)). ولذلك فنحن عندما لا نعيش غنى النفس وقناعاتها، فإننا نعيش أسرى لكل هؤلاء الذين لا يحترمون الإنسان في إنسانيته بل يحاولون أن يستغلوا حاجة الإنسان إليهم ليستعبدوه.

ترويع المسلمين:

وفي حديث آخر في علاقة المسلم بالمسلم أن العلاقة لابد أن تكون على أساس أن يحترم المسلم المسلم في كل ما يمثل إنسانيته فلا يخيفه ولا يروعه مما يملكه العتاة من بعض وسائل القدرة على الترويع كالمال والسلطة، فيحاولون أن يروعوا المسلمين الآخرين تلبية لعقدة النقص في نفوسهم، أو تلبية لمطمع في أن يقبضوا ثمن ذلك من أسيادهم مالاً أو موقعاً. فعن فاطمة بنت علي بن موسى الرضا(ع) قالت سمعت أبي عليا يحدث عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه وعمه زيد عن أبيهما علي بن الحسين عن أبيه وعمه عن علي بن أبي طالب، قالت:  قال: ((لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلما))(5). أن تنظر إليه نظرة تخيفه بها، أو أن تروعه في بيته أو في عمله، في حين أن على المسلم أن يشعر بان علاقته بك هي علاقة السلام، وتحية السلام - أيها الأحبة - هي تحية توحي في كل لقاء بين مسلمين بانفتاح المسلم على المسلم الآخر ليقول له: السلام عليك، فالسلام هو ما يربطني بك ويربطك بي، أي أنك سوف تسلم من يدي ولساني ومن كل ما يمكن أن يخيفك منّي.

أخوك دينك:

وعن داود بن القاسم الجعفري قال: سمعت الرضا علي بن موسى(ع) يقول: إن أمير المؤمنين(ع) قال لكميل بن زياد فيما قال ((يا كميل: أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت))(6). دينك أخوك لأنه هو الذي يرافقك في حياتك ليقودك إلى ما يرفع مستوى حياتك }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ{(7). ولأنه يقودك إلى الآخرة ليكون لك في حشرك وفي موقفك من ربك وليدخل معك إذا أحسنت رعايته الجنة. إذاً احتط لدينك من الشبهات.. حاول أن ترجع إلى أهل الذكر ليخرجوك منها.. احتط لدينك من نفسك حتى لا تغلبك نفسك على دينك لان النفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي .. احتط لدينك من البيئة التي تعيش فيها لتضغط عليك لتخرجك من دينك من خلال ضغط رغبة هنا ورهبة هناك حتى لا يسقط دينك أمام الضغوط  }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ{.  كانت البيئة تضغط علينا من خلال المستكبرين فتخرجنا من ديننا فكرا وعملا  }قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا{(8).  أن الضغط الذي تستطيع أن تخلص منه إلى قوة ليس عذرا لك أمام اللّه سبحانه وتعالى.

ولذلك لا يجوز الهجرة إلى بلاد يفقد أو يضعف فيها الإنسان دينه فهو من التعرّب بعد الهجرة. أمّا إذا كان واثقا في البقاء على دينه فلا مشكلة.

تناسل ذرية آدم(ع):

وفي حديث الحميري في (قرب الإسناد) عن ابن عيسى عن البزنطي عن الرضا(ع) قال: ((سألته عن الناس كيف تناسلوا عن آدم)) وهذا السؤال وان لم يكن محلّ ابتلاء لكنّه مما يدور الجدل فيه بين الناس ((قال: حملت حواء هابيل وأختا له في بطن ثم حملت في البطن الثاني قابيل وأختا له في بطن فتزوج هابيل التي مع قابيل وتزوج قابيل التي مع هابيل ثم حدث التحريم بعد ذلك))(9). فالإمام الرضا(ع) لا ينطلق من التصورات السائدة في أن اللّه بعث حورية أو جنيّة ليتزوج منها قابيل وهابيل، وإنما ينطلق منطلقا قرآنيا في قوله تعالى }يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{(10). فكأن الإمام(ع) يريد القول إن التشريع بيد اللّه سبحانه وتعالى فهو الذي يحلّل وهو الذي يحرّم، فلما لم يكن هناك ابن عم أباح اللّه لأبناء آدم المباشرين أن يتزوجوا من بعضهم، فكأن المولودة التي كانت في بطن والأخرى التي في بطن أو حمل آخر تمثّل شيئاً من التنوّع. ثم بعد أن جرى التناسل نتيجة هذا النوع حدث التحريم لانَّ اللّه تبارك وتعالى أراد للعائلة أن تتكون بالطريقة التي لا يتزوّج فيها الأخ أخته ولا الأخت أخاها ولا أباها لانّ المصلحة تقتضي ذلك. وبمعنى آخر فإنّ اللّه يحلّل لمصلحة ويحرّم لمصلحة، كما كان الأنبياء(ع) يحرّمون ما احلّ سابقا ويحللون بعض ما حرّم بإرادة اللّه كما هو قول عيسى(ع) }وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ{(11).

مصير البهتان:

وفي حديث عن الرضا(ع) عن آبائه عن علي(ع) قال: ((قال رسول اللّه (ص) من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه)). أي أن هناك الكثير من الناس في المجتمع المسلم ينسبون إلى بعض المؤمنين وبعض المؤمنات كلاماً لم يقولوه ورأياً لم يتبنّوه، أو عملا لم يعملوه، وهو اعظم من الغيبة، وذلك من اجل إسقاطهم في نفوس الناس، وهذا كذب وافتراء خاصة مع اختلاف وتعدد الأجهزة المخابراتية من جهة، والعصبيات الشخصية وغير الشخصية التي تدفع الإنسان إلى أن يبتدع تهما لمؤمن أو مؤمنة في أمور لم تثبت من جهة أخرى، فكيف هو عذاب الذي يمارس البهتان؟ ((أقامه اللّه يوم القيامة على تل من نار حتى يخرج مما قال))(12).

كمال المرؤة:

وعن الرضا(ع) وهو يصوّر الإنسان الذي يحترمه الناس، ويجعلوه موضع الثقة والإجلال. فعنه وعن آبائه وعن علي(ع) قال: ((قال رسول اللّه (ص): من عامل الناس فلم يظلمهم)). في مواقع المعاملة كلّها: المالية والاجتماعية والسياسية، فكان العدل مع الناس كلّهم ابتداء من بيته وانتهاء بآخر موقع في المجتمع. ((وحدّثهم فلم يكذبهم)). كان الصادق مع جميع الناس ومع أهل بيته، ونحن لا نوافق على ما هو معروف من جواز الكذب على الزوجة، بل لا يجوز الكذب على أي أحد إلا ما ورد من مستثنيات الكذب في قضايا الإصلاح بين الناس وما شاكل، فلا يجوز الكذب على المسلم وعلى الكافر، فالكذب – كما أكدنا مرارا – ليس متصلا بالمكذوب عليه بل بالكاذب من جهة أنه لا يقول الحقيقة، ومتصل بالمكذوب عليه من جهة لان الحقيقة موّهت وزوّرت عليه مما يبعده عما فيه صلاح أمره في دينه ودنياه.

((ووعدهم فلم يخلفهم)). فعندما تعد إنسانا بشيء فعليك أن تضمر في نفسك أن تفي له. أمّا إذا كنت تعد وتخلف فإنّك تسيء إلى الناس لأنّك تعطيهم أحلاما غير واقعية وتضيّع أوقاتهم ((فهو ممن كملت مرؤته)) أي توفرت فيه عناصر المرؤة التي تمثل قيمة كبرى في الإنسان ((وظهرت عدالته)) فهو عادل لأنه يسير على خط العدل. ((ووجبت أخوته)) لأنه يعيش الاخوّة الإيمانية والاخوّة الإنسانية فلا يغشّ إخوانه في معاملة ولا في حديث ولا في وعد، ((وحرّمت غيبته)) لأنه يتميز بقيمة إنسانية لا تحلّ لأحد أن يغتابه.

موارد الاستهزاء:

قال الرضا(ع): ((سبعة أشياء بغير سبعة من الاستهزاء: من استغفر لسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه)). أن يقول استغفر اللّه باللسان بحيث يطلب الغفران من اللّه ولم ينطو قلبه على ندم حقيقي على ما ارتكب من ذنب ومعصية، فهو يطلب الغفران من دون إعلان للتوبة، ولا معنى للتوبة بدون العزم على ترك الذنب، فالاستهزاء بالنفس هو أقسى أنواع الاستهزاء وهو تحقير لها خاصة وأنها تمثل دنياك وأخراك، فإذا استهزأت بها فقدت معنى وجودك واحترامك لنفسك.

((ومن سأل اللّه التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه)). فقد تقول: اللّهم وفّقني لطاعتك ولا تجتهد في الطاعة، وتقول: وفّقني لعبادتك ولا تجتهد في ساحات العبادة، وتقول: وفّقني للعلم ولا تجتهد في طلبه، وتقول: وفّقنا للنصر ولا تخطط له، فانك بذلك تهزأ بنفسك وتستخف بها لأنك أعلنت قرارها في شيء من دون أن يكون له واقع في نفسك وحياتك.

((ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه)). فقد اخذ بالحزم في مواجهة التحديات ولم يحذر مما قد يصيبه.

((ومن سأل اللّه الجنة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه)). لانَّ الجنة محفوفة بالمكاره، وقد حدّثنا اللّه سبحانه وتعالى في كتابه المجيد عن أولئك الذين عانوا وصبروا وأراد لنا أن نكون مثلهم }أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّه أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ{(13). أن نعيش الزلزال في ساحة التحديات ولا نسقط، وان نعيش البأساء والضراء ولا ننهزم، وقد قال علي(ع): ((أفبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا اللّه في دار قدسه، هيهات لا يخدع اللّه عن جنّته)).

((ومن تعوّذ باللّه من النار ولم يترك شهوات الدنيا فقد استهزأ بنفسه)). والمراد الشهوات المحرمة، لان اللّه ربط النار باقتحام الشهوات المحرّمة لانّ النار حفّت بالشهوات، فكيف ترجو الوقاية من النار ولا تترك الشهوات؟!

((ومن ذكر اللّه ولم يشتق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه)). لأن ذكرك للّه يعني انك تحبه، وإذا كنت تحب اللّه فان الحبيب يشتاق إلى حبيبه، فكيف تذكره ولا تشتاق إليه؟!

اقتران:

وعن أبي الحسن الرضا(ع) قال: ((إن اللّه عزّ وجل أمر بثلاث مقرون بها ثلاث أخرى: أمر بالصلاة والزكاة)) }فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ{(14). ((فمن صلّى ولم يزكِّ لم تقبل صلاته)) لاسيما أنّ الصلاة المقبولة هي التي تنهي عن الفحشاء والمنكر، وترك الزكاة من أعظم أنواع المنكر. ((وأمر بالشكر له وللوالدين)) لأنّ الشكر يعبّر عن الإحساس بقيمة النعمة من المنعم، فإذا لم يشكر والديه اللذين كانا السبب المباشر لوجوده من خلال ما أودع اللّه فيهما من ذلك فإنّه لم يشكر اللّه على ذلك، ولأنّه يوحي بوجود المبدأ في نفسه. }أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ{(15). ((فمن لم يشكر والديه لم يشكر اللّه، وأمر باتقاء اللّه وصلة الرحم)) }وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ{(16). ((فمن لم يصل رحمه لم يتق اللّه عزّ وجل)). لأنّ صلة الرحم من التقوى.

صغائر الذنوب:

عن الرضا(ع) قال: ((الصغائر من الذنوب طرق إلى الكبائر)). فقد يتساهل بعض الناس في اعتبار هذا الذنب أو ذاك صغيرا، فتراه يقول: أنا لم ازنِ، ولم اشرب الخمر، ولم العب القمار، ولم أتعاط الربا، ولم اسرق لكنني قد آكل أكلة محرّمة صغيرة هنا واشرب شربة محرّمة هنا، وقد يتذرّع بقول بعضهم إنّ القليل من الخمر يدخل الفرح على قلب الإنسان، أو انه يلعب في راس السنة بالقمار ليجرّب حظه، أو ينظر إلى ما حرّم اللّه فهذه التي تعتبرها من الصغائر هي طريق إلى الكبائر لكنك إذا عصيت اللّه في الصغير فانّك تهيأ نفسك لمعصية اللّه في الأمور الكبيرة.

((ومن لم يخف اللّه في القليل لم يخفه في الكثير)). فمن يسرق خمس ليرات اليوم يكون مستعدا لسرقة الملايين، فالذين يسرقون سرقات كبيرة ربّما كانوا قد بدأوا بسرقات صغيرة. فالمسألة إذاً مسألة مبدأ، فإذا عصيت اللّه في القليل فانّك بذلك تكون قد أخذت بمبدأ المعصية.

((ولو لم يُخف اللّه الناس بجنّة ونار لكان الواجب أن يطيعوه ولا يعصوه لتفضّله عليهم وإحسانه إليهم وما بدأهم به من إنعامه الذي ما استحقوه)). فالإنسان يجب أن يكون إنسانا بقطع النظر عن ترغيبه بالجنة وتخويفه بالنار، فلو لم يرغّبكم بالجنة فيجب عليكم أن لا تعصوه، إذ لا حق لنا على اللّه وله كلّ الحق علينا الأمر الذي يفرض علينا الشكر له على نعمه إحساساً منه بفضله علينا ولطفه بنا، وهذا ما أكّده الإمام علي(ع) في بعض كلماته القصار في نهج (البلاغة) وما اقل من يتبع علياً(ع) وان كان يهتف باسمه ((لو لم يتوعّد اللّه على معصيته لكان يجب أن لا يعصى شكرا لنعمه)).

تفسير الاطمئنان القلبي:

وعن صفوان بن يحيى قال: ((سألت أبا الحسن الرضا(ع) عن قول اللّه لإبراهيم(ع) }قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي{(17) كان في قلبه شك؟ قال: كان على يقين ولكنّه أراد من اللّه الزيادة في يقينه))(18) فعندما يتيقّن الإنسان بشيء في عقله فهذه هي درجة من درجات اليقين، ولكنه عندما يرى الشيء بأمّ عينه فان يقينه يزداد، وهذا يدلّ على أنّ اللّه سبحانه وتعالى يربّي يقين أنبيائه ويطلب أنبياؤه من أن يربّي لهم يقينهم فيزيدهم في ذلك يقيناً على يقين، وهذا ليس ضعفا في يقين الأنبياء(ع) وإنما يتحرّك الوحي بهم درجات درجات.

إدلاء الأموال إلى الحكّام:

وعن العياشي بإسناده عن الحسن بن علي قال: ((قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني (وهو الرضا(ع)) وجوابه بخطه سأل: ما تفسير قوله: }وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ{(19). قال: فكتب إليه: الحكّام القضاة)) أي انك قد تقدم دعوى على إنسان لا حقّ لك فيها وإنّما تعتمد على بعض المعطيات التي قد تتصور انك تربح بها الدعوى، فتأكل أموال الناس بالباطل بواسطة القضاة، فالقاضي يحكم عادة بحسب ما عنده من معطيات وليس يحكم بالعدل دائماً فهو لا يعلم الغيب.

((ثم قال: كتب تحته: هو أن يعلم الرجل انه ظالم عاصٍ وهو غير معذور في أخذه ذلك الذي حكم به إذا كان قد علم انه ظالم)).(20) وما أكثر ذلك في أيام الناس هذه؟

الكفر بآيات اللّه:

وعن أبي الحسن الرضا(ع) عن قول اللّه }وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّه يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللّه جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا{(21) قال: ((إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ ويكذب ويقع في أهله)) أي يشتم أهل الحق ((فقم من عنده ولا تقاعده))(22). فإذا قدرت على الردّ عليه فافعل، وإلاّ فحاول أن تحتج بان تنسحب من مجلسه ليكون ذلك علامة على رفضك لما يقوم به من الطعن بالحق وبأهل الحقّ.

أيها الأحبة: هذا هو برنامج الأئمة من أهل البيت(ع) وهو برنامج الإسلام الأصيل لأن أهل البيت(ع) ليس لديهم إلاّ الإسلام بلا زيادة ولا نقصان فهم الذين تحرّكوا من خلال الإسلام في أصالته وفي نقائه. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة والعشرون24ذي القعدة 1421 ه17شباط 2001م

 

 

 

 

حركة الخلافات في المجتمع

 

* نحن نحتاج إلى نظافة اللسان كما إلى نظافة القلب كما إلى نظافة الروح والحياة، وهذا هو خط الإسلام ومنهج الأئمة من أهل البيت(ع) *

 
 
 

حركة الخلافات.

الخط الإسلامي الصحيح.

نزغ الشيطان.

قراءة في النصوص الدينية.

سبّ الكافرين.

الموقف الصائب من السبّ.

الشاتم مهان.

السبّ المرخّص فيه.

علي(ع) الرافض للسبّ.

رفض الخط المنحرف.

سبّ الزمان.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

حركة الخلافات:

كيف يريد الإسلام للإنسان المسلم أن يعيش مع الناس في كلماته التي يواجه بها الآخرين عندما تحدث هناك أية مشكلة بينه وبينهم؟ ذلك لأنّ طبيعة الحياة الاجتماعية التي يعيشها الناس تحتوي الكثير من الخلافات سواء كانت خلافات شخصية بين شخص وشخص في أمر من أمور الحياة، كما في البيت بين الزوجة وزوجها، أو بين الأب وأولاده، أو بين الأم وأولادها، أو بين أفراد العائلة الكبيرة، أو مع الجيران، أو في حركة الحياة في السوق وفي النوادي التي ربّما تنطلق عقدة شخصية من هنا وعقدة شخصية من هناك لينفّس الإنسان عن هذه العقدة بطريقة معينة سلبية.

وربما تكون الخلافات خلافات في الرأي مما قد تختلف فيه المذاهب بين بعضها البعض، كما في الخطوط المذهبية الإسلامية، أو الخطوط المذهبية المسيحية، أو الخطوط المذهبية العلمانية، ففي العلمانية مذاهب كما في الأديان مذاهب، وربّما تتحرك الخلافات في الدائرة الدينية أيضاً، فهناك مسلم وهنا مسيحي، أو هناك مسلم وهناك يهودي أو بوذي أو هندوسي، أو هناك مسلم وهناك ملحد، ومن الطبيعي أن الاختلاف الديني مع الذهنية العصبية قد يجعل الإنسان معقّداً ضد الآخر، وقد يتحوّل هذا التعقيد إلى حقد بأن يحقد الإنسان على الإنسان الآخر.

وعندما يملأ الحقد قلب إنسان ضد الآخر فإنّه يحاول أن يعبّر عن نفسه بكلّ الكلمات التي توحي بالحالة النفسية المعقّدة، لأنّ الإنسان في عصبيته الشخصية أو الدينية أو القومية أو العرقية أو المذهبية أو الحزبية هو إنسان يعيش في حال طوارئ شعورية مضادة بحيث تتحرك الغريزة ويأخذ العقل خلال ذلك إجازة فيبدو وكأنّه تعطّل عن الفعل، ونحن نعلم أنّ الغرائز لا ضوابط لها، فالغرائز عندما تثار تمثّل حالة ملتهبة يشعر الإنسان فيها بالحريق الداخلي سواء كان حريقاً عاطفياً، أو حريقاً شهوانياً، أو حريقاً نفسياً.

إنّ الأسلوب الذي يتبعه الناس غالباً في التنفيس عن هذه العقدة سواء في داخل المجتمع المؤمن الصغير أو المجتمع المؤمن الكبير، أو في داخل المجتمعات المتمايزة في خطوطها الحزبية والطائفية والقومية والإقليمية، هو السبّ. فالسبّ هو الوسيلة التعبيرية عن الحالة النفسية الرافضة للآخر، وعن الحالة العصبية التي تتحرك بذهنية تدمير الآخر، لأنّ السبّ يمثل وسيلة تدميرية للذات في المعنى تماماً كما هو الضرب يمثّل وسيلة تدميرية للإنسان في الجسم. وربما يكون السبّ هو المقدمة للضرب أو للقتل وما إلى ذلك عندما يوحي بالتشنج الذي ينتهي إلى حالة حادّة.

الخط الإسلامي الصحيح:

أمّا الخطّ الإسلامي في التعامل مع هذه الحالة، أي في كلّ الكلمات التي ينبغي للإنسان المسلم أن يخاطب بها الآخر أياً كان، هو الكلمة الأحسن }وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{(1). والمسألة لا تقتصر على فريق دون فريق، أي قل للناس عندما يختلفون ويتنازعون: أنّ يبحثوا عن الكلمة الأفضل التي لا يملك الشيطان أية ثغرة في داخلها بما يثير الحساسيات السلبية، وبما يحرّك العصبيات النفسية، وبما يوحي بالحالة العدوانية.

فاللّه تعالى في هذه الآية يدعونا إلى أن ندرس كلماتنا، فإذا كانت هناك كلمة حسنة وكلمة أحسن فلنقل الأحسن، لأنّ مشكلة الكلمات في مداليلها السلبية وإيحاءاتها النفسية أنّها قد تكون ملعباً من ملاعب الشيطان، تفتح له أكثر من ثغرة في العلاقات الإنسانية.

وعلينا أن نعرف مسألة مهمة في حركة اللغة، فإنّ للكلمات معنى في القاموس، ولكنّها في حركة المتكلمين تحمل إيحاءات تأريخية لأنّها تحمل في أحشائها كلّ الأجواء التي تحرّكت فيها الكلمة في تأريخها. فقد تكون الكلمة بحسب طبيعتها لا تحمل الكثير من الخطورة لكنّ الإيحاءات التي سيطرت على الكلمة من خلال طبيعة استعمالاتها قد تجعلها خطرة في انفعال الناس بها.

نزغ الشيطان:

}وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ{ ومعنى ينزع يدخل ويتسلّل من خلال الثغرات الموجودة في الكلمات. والشيطان قد يكون شيطاناً من الجنّ أو شيطاناً سياسياً، أو شيطاناً اجتماعياً، أو شيطاناً اقتصادياً، أو شيطاناً حزبياً، أو شيطاناً (دينياً) ينطق بالدين وليس من الدين في شيء لأنّ الدين والشيطنة لا يلتقيان. ولكن كم من الذين ينطقون باسم الدين يختزنون ألف شيطان في داخل كيانهم وذواتهم  }إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا{(2). فهو لا يريد للإنسان أن يعيش في سلام مع الإنسان الآخر، وهو لا يريد له أن يتفاهم ويتحاور معه، بل يعمل على تحشيد عناصر الإثارة بكلّ ما يمكن أن تختزنه من حقد.

وقد حدثنا اللّه تعالى عن أنّ الشيطان يستغلّ كثيراً من العادات التي نعتادها ليوقع العداوة والبغضاء بيننا، فلاحظوا مثلاً كيف قدّم اللّه لنا صورة الخمر والميسر؟  }إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ{(3). فالشيطان – كما هو واضح من الآية – يستغل كلّ العادات السلبية بما يمكن أن تثيره من المشاكل والخلافات حتى ينفذ من خلالها ليوقع العداوة والبغضاء بين الناس. وقد حدثنا اللّه محذّراً من أساليب الشيطان  }إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ{(4). وذلك من خلال ما يثيره من أحقاد وخلافات ومنازعات وما ناظر ذلك.

قراءة في النصوص الدينية:

هذا هو الخط العام، فلننطلق الآن لنجد كيف تحدثت النصوص الدينية حول موضوع السبّ سواء كان السبّ سبّاً لا يحمل في ذاته شيئاً من البذاءة، أو كان سبّاً يختزن بعض البذاءة بحيث يمثل مخاطبة الآخر بالفحش.

فحول السبّ في داخل المجتمع المسلم المؤمن نقرأ عن الرسول(ص): ((سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر)). فأن يسبّ المؤمن أخاه المؤمن فإنّ ذلك من الفسوق، لأنّ الفاسق هو الذي يخرج عن الخط المستقيم، واللّه يريد أن تكون الكلمة الطيبة هي الخط المستقيم، وليس الكلمة الشاتمة التي تمثل الخروج عن هذا الخط بقطع النظر عمّا إذا كانت الشتيمة تحمل معنى موجوداً في المشتوم أو لا تحمل، فليست القضية أنّ هذا يستحق أو لا يستحق، ولكنّ الأسلوب بطبيعته خاطئ حتى ولو كان المسيء يستحق الشتيمة أو السباب، فكأنّه يريد أن يقول عليك أن لا تعالج الخطأ بالخطأ والسباب بالسباب. فلابدّ للمسلم أن يعيش مع المسلم الآخر حياة السلام ((المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)). فمن لم يسلم المسلمون من يده ولسانه فليس بمسلم في المعنى، وإن كان مسلماً في الشكل.

وعن الرسول(ص): ((سابّ المؤمن كالمشرف على الهلكة)). أي كمن يقف على حافة الجبل والرياح النفسية تحاول أن تلقي به إلى الوادي إذا لم يتماسك ولم يتراجع.

سبّ الكافرين:

وأمّا سب الكافرين الذين يدعون من دون اللّه بغير علم، فإنّ الفكرة السائدة عندنا هي أنّ التعامل مع الكافرين والملحدين سواء كان كفرهم كفراً دينياً في مجال الأديان الأخرى، أو كفراً مادياً، هو أن التعامل مع الكافر لابدّ أن يكون بسبّه، ولعلّ الكثير من الناس يتقرّبون إلى اللّه بذلك، ولكنّ اللّه يؤدّبنا بغير هذا الأدب لا لأنّ الكافر لا يستحقّ السبّ، فالكفر هو المعصية التي ليس فوقها معصية  }إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ{(5). لكنّ الفعل يجتذب ردّ الفعل، فأنّ تسبّ الكافر في مقدساته يجرّ ذلك إلى أن يسبّ الكافر مقدساتك، وعند ذلك يكون سبّاً بسبّ من دون أن يكون هناك عقل يخاطب عقلاً، أو فكر يناقش فكراً.

}وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه{. من غير حجّة، لماذا ذلك؟

}فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ{(6).  لأنّ كلّ إنسان يقدّس شيئاً يختزن في داخل شخصيته تقديس ذلك الشيء، وعندما يجد أنّ مقدساته تسقط من خلال كلمتك النابية فإنّه يخرج من عقلانيته لتنطلق غريزته ليسقط مقدساتك. فالغريزة – كما ذكرنا - تجتذب الغريزة.

الموقف الصائب من السبّ:

وفي داخل المجتمع المسلم الذي تختلف مذهبياته وانتماءاته، تعوّدنا أن نسبّ بعضنا بعضاً، ونلعن بعضنا بعضاً، وتتحرك الغرائز المذهبية هنا وهناك لتفصل بين المسلمين فلا تفسح لهم أية فرصة للقاء. لكنّنا نأخذ الدرس من علي(ع) وهو الإنسان الذي شرب الإسلام نقياً ووعاه بعمق وعاشه بكلّه فكان الإسلام دمه وكيانه كلّه وهو الذي باع نفسه للّه تعالى  }وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّه{(7).  فإذا قال علي(ع) كلمة فإنّنا يجب أن نطمئن إلى أنّ كلمته هي كلمة الإسلام وهي كلمة رسول اللّه(ص) لأنّ النبي(ص) قال: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)). فما قاله علي(ع) هو قول رسول اللّه(ص).

فلقد ((سمع أمير المؤمنين(ع) قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام)). فمتى سمع ذلك؟ سمعه عندما كان يعدّ العدّة للحرب في صفين مع معاوية، ونحن نعرف أنّ القيادات العسكرية ترتاح لما يقوم به جنودها بالسبّ والشتم لأنّ ذلك يقوّي إحساسهم بالعداوة بالمستوى الذي يجعلهم أقوى في المواجهة، ولكن علياً(ع) لم يكن محارباً يريد أن ينتصر في الحرب، بل كان رسالياً يريد أن ينتصر على صعيد الرسالة حتى لو كان ذلك على حساب النتيجة في الحرب، وهو القائل: ((واللّه ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشو إلى ضوئي وذلك أحبّ إليّ من أن اقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها)). فأن نفهم علياً(ع) من خلال شخصية القائد المحارب فإن ذلك يوقعنا في الخطأ، فلقد كان محارباً كأشدّ ما يكون عليه المحاربون بأساً وبسالة ولكنّه كان رسالياً في حربه، وكان إنساناً في حربه، وتلك قيمة علي(ع) وذلك هو الذي جعله يتميز عن كلّ المسلمين لأنّه جمع شخصية الإنسان الذي يملك وعي الإدارة للدولة ووعي الرسالة للأمّة، ولم تجتمع هاتان الصفتان في أي شخص من أصحاب رسول
اللّه(ص) مع احترامنا لهم.

((فقال: إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين)). فهذا أسلوب لا أحبّه لأصحابي بقطع النظر عمّن يوجّه السبّ إليه. ولكن كيف نعبّر يا أمير المؤمنين عن رفضنا لخطّ هؤلاء، فالسبّ هو التعبير الذي نجده مناسباً لرفض الآخر؟

((ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم)). قولوا إنّهم فعلوا كذا وكذا، وأنّهم في الموقع الخطأ، ((كان أصوب في القول)) لأنّكم بذلك تقولون الحقيقة ((وأبلغ في العذر)). إذا رأى الناس هذا الكلام الصائب فإنّهم يعذرونكم في موقفكم، وعليكم أن لا تحملوا الحقد للمسلمين حتى وأنتم تحاربونهم ((وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به)). أي لتكن روحيتكم روحية الجيش الذي يريد للآخرين أن يبلغوا الحقّ ويبتعدوا عن العدوان، لأنّ تلك هي مهمة الجيش الرسالي الذي يفكّر برسالته عندما يحمل بندقيته.

الشاتم مهان:

وقال(ع) لخادمه قنبر وقد رام أن يشتم شاتمة ((مهلاً يا قنبر! دع شاتمك مهاناً)) فأنت بإمكانك أن تردّ الشتيمة بالشتيمة }فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ{(8).  لكن الشتيمة عندما تصدر عن شخص فإنّها تهين صاحبها، فهي أسلوب غير إنساني بل أسلوب حقير ووضيع، فإذا تركت شاتمك وشتيمته فإنّك ((ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوّك)). لأنّ عدوّك يريد أن يثيرك لتكون مثله تردّ الشتيمة بشتيمة، ويريد أن يفرض عليك معركة ليس من المفروض أن تدخلها، ولكنّك عندما تسكت وتعرف أنّك قادر على أن تردّ الشتيمة بمثلها عند ذلك سوف تشعر أنّك عاقبته.

ثم يمضي الإمام(ع) ليوضّح المنهج ((فو الذي فلق الحبّة وبرئ النسمة ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم)) أي بمثل سعة الصدر، فكأنّك عندما تضع الأعمال الطيّبة التي ترضي اللّه، فإنّ الحلم يرتفع عليها جميعاً، لأنّك عندما تعيش الحلم الذي يمثّل هدوء العقل والشعور فإنك تتحرك على أساس الخير ولا تخطئ في سيرك.

((ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت)) فالشيطان يريد للإنسان أن يعربد ويسبّ ويشتم حتى يخلق مشكلة بينك وبين أخيك ليجد ساحته التي يعمل فيها، فإذا صمتّ فإنّك تسخط الشيطان الذي لا يجد له ثغرة يتغلغل منها.

((ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عليه)). لأنّ الأحمق يحاول أن يخلق لك بالكلمات التي تصدر عنك ألف مشكلة ومشكلة، وقد قال الشاعر:

يخاطبني السفيه بكلّ قبح                    وأكره  أن  أكون  له   مجيباً

يزيد  سفاهة  وأزيـد  حـلماً                    كعود  شفّه  الإحراق  طيباً

فعود الند – وهو البخور - إذا أحرقته فإن رائحة عطره تفوح منه، وإذا سكتّ بوجه الأحمق وأحرقت أعصابك في الصبر عليه فإنّ عطر إنسانيتك يفوح أيضا.

ويحدثنا الإمام الكاظم(ع) عمّن يسبّ شخصاً فيردّ عليه سبابه، فعنه(ع) ((في رجلين يتسابان، قال: البادي منهما اظلم ووزره ووزر صاحبه عليه)). لأنّ الفعل السلبيّ هنا اجتذب ردّ فعل سلبيّ هناك ((ما لم يعتذر عن المظلوم)).

وعنه(ع): ((ما تسابّ إثنان إلاّ انحطّ الأعلى إلى مرتبة الأسفل)). فالذي يسبّك هو في المرتبة السفلى فإذا رددت عليه السبّ بمثله فإنّك تنحطّ إلى درجته.

ويقول الإمام علي(ع): ((ما تسابّ اثنان إلا غلب ألأمهما)). وهو الشخص الذي يمتلك قاموساً حافلاً من الكلمات البذيئة التي تعبّر عن لؤم نفسه.

وقال عيّاض بن حمّاد: ((قلت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك، الرجل من قومي يسبّني وهو دوني)). أي أقل مرتبة منّي، ((فهل عليّ بأس أن أنتصر منه؟ فقال: المتسابّان شيطانان يتعاويان ويتهاتران)). بمعنى أنّ عليك أن تسكت بأن تتركه يتحمّل وزر ذلك.

وفي الحديث عن رسول اللّه(ص) ((من أكبر الكبائر أن يسبّ الرجل والديه، قالوا: يا رسول اللّه صلى اللّه عليك، وكيف الرجل يسبّ والديه؟! قال: يسبّ الرجل (فيسبّ) أباه، فيسبّ الآخر أباه)). فحينما تسبّ أبا شخص آخر فإنّه يسبّ أباك.

السبّ المرخّص فيه:

وفي هذا الجانب نلاحظ أنّ اللّه سبحانه وتعالى رخّص للإنسان الردّ بالمثل }فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ{. ولكنّ الأحاديث التي ذكرناها تريد للإنسان أن يحصل على الدرجة الرفيعة من الأخلاق.

ففي الحديث عن رسول اللّه(ص) ((إن كان أحدكم سابّاً لصاحبه لا محالة فلا يفتر عليه)). أي لا تسبّه بشيء لم يفعله لأنّك بذلك تجمع السبّ والكذب ((ولا يسبّ والديه)). فقد يسبّك شخصياً وأنت تسبّ أباه وأمّه ولا ذنب لهما. ((ولكن إن كان يعلم ذلك فليقل: إنّك لبخيل، أو ليقل: إنّك لجبان، أو ليقل إنّك لكذوب، أو ليقل: إنّك لنؤوم)). بمعنى أنّه إذا سبّك شخص فعليك أن تسبّه بالصفات السلبية الموجودة في أخلاقه، لا أنّ تسبّ أباه أو تسبّه بشيء لم يفعله، فمن منّا يفعل ذلك؟

وفي الحديث عن رسول اللّه(ص): ((إذا شتم أحدكم أخاه فلا يشتم عشيرته)). لأنّ عشيرته لم تشتمه ولم تؤذه ((ولا أباه ولا أمه، ولكن ليقل إن كان يعلم ذلك: إنك لبخيل، وإنّك لجبان، وإنّك لكذوب، إن كان يعلم ذلك منه)).

علي(ع) الرافض للسبّ:

وعندما نلتقي بعلي(ع) وهو يمارس ما يرشد الناس إليه فإننا نقرأ أنه(ع): ((كان جالساً مع أصحابه، فمرّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال(ع): إنّ أبصار هذه الفحول)). والفحولة هنا تعبير عن الشهوة الجنسية ((طوامح)). تطمح إلى ما عند غيرها بأن تمدّ عيونها إلى ما متع اللّه به غيرهم ((وإنّ ذلك سبب هبابها وهيجانها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأته. فقال رجل من الخوارج: قاتله اللّه كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال(ع): رويداً إنّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب)) وعلي(ع) أجدر بالثانية.

وجاء رجل برجال إلى علي(ع) فقال: ((إني رأيت هؤلاء يتوعدونك ففروا وأخذت هذا، قال: فأقتل من لم يقتلني؟ قال: إنّه سبّك، قال: سبّه أو دع)).

وكان علي(ع) يقول وهو يعيش هذه الرحابة الإسلامية الرائعة ليحافظ على الذين يخلصون له ويتبعونه وهم يعيشون في سلطان الحاكم الظالم الذي يجبرهم على سبّه ((إلا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي فأمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة))(9).

رفض الخط المنحرف:

وهذا كلّه في سبّ الناس للناس، وقد خرجنا بحصيلة وهي أنّ السب ليس وسيلة من الوسائل التي يعبّر الإنسان بها عن رفضه للآخر. وقد يقول قائل إنّ اللّه لعن الظالمين والكافرين والمنافقين، فكيف تحدّثنا عن رفض السب؟

إنّ هناك فرقاً بين أن تلعن الخط وبين أن تحرّك اللعن والسبّ في حركة العلاقات الاجتماعية، فنحن نلعن المستكبرين والظالمين والذين ينحرفون ويسيئون إلى الناس، وهذا أمر مطلوب لأنّه يعبّر عن رفض الخط المنحرف وإبعاد الناس عنه، لأنّ معنى اللعن أنّ اللّه سبحانه وتعالى يبعد هؤلاء عن رحمته، ولكنّنا نتحدث عن أسلوب السبّ في الواقع الاجتماعي وذلك من أجل السلامة الاجتماعية وأن ننفتح على الأسلوب الأفضل الذي يمكن أن يفتح لنا قلوب الناس بدلاً من أن يغلقها، لأنّك لو سببت إنساناً من الصباح إلى المساء فإنّك لا تستطيع أن تقنعه بخطئه وبصوابك، بل إنّك بذلك تزيده تعصّباً وحقداً وتمنعه من الاستماع إليك مستقبلاً عندما تريد أن تناقشه في ذلك، وهذا ما نعيشه في واقعنا الإسلامي.

سبّ الزمان:

وقد نسبّ الزمان والدهر والأيام والساعات، ونسبّ الرياح العاصفة والرعد والبرق وهو سبّ منهيّ عنه، ففي الحديث عن النبي(ص) ((لا تسبّوا الرياح فإنّها مأمورة)). لأنّها خاضعة للنظام الكوني الذي أودعه اللّه فيها. ((ولا تسبّوا الجبال)). عندما ترهقكم صعوداً ((ولا الساعات)) كمن يقول: اللّهم العن الساعة التي رأيتك فيها ((ولا الأيام والليالي فتأثموا وترجع عليكم)). أي المسبّة. وعنه(ص): ((لا تسبّوا الريح فإنّها من روح اللّه)). أي من تدبيره. وعنه(ص) أيضا ((لا تسبّوا الدهر، فإنّ اللّه يقول: أنا الدهر، لي الليل أجدّه وأبليه)).

إنّ مسألة السبّ – أيّها الأحبّة – تتحرك في الخط الإسلامي لتكون قيمة سلبية لابدّ للمسلمين أن يبتعدوا عنها ولا سيما إذا كان السبّ بطريقة فاحشة وبذيئة كالذين يسبّون بعضهم بالكلمات التي تخدش الحياء، فقد ورد في الحديث ((إنّ اللّه حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء اللسان قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له)) فأنت تصلّي وتصوم وتحج ولكنّ لسانك من أوسخ الألسنة بحيث توّزع على الناس كلمات الفحش والبذاءة وتنسى أنّ ذلك يحرمك من الجنّة، لأنّ الجنّة هي جنة الطهر }وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ{(10). والفحّاش والسبّاب يخرّب الجنة ويلوّثها كما يخرّب المجتمع الإنسان ويلوّثه، ألا ترون إلى البعض من الأزواج كيف يكيلون الفحش إلى نسائهم في مسمع من أبنائهم وبناتهم؟ هؤلاء لا شرف لهم، فكلام الأبّ الذي يخدش الحياء قد يفتح أسماع أبنائه وبناته على الجانب الجنسي الذي يسيء إليهم وإليه. فلو قال رجل لامرأته إنك زانية أو بنت الزانية فإنّه يكون قد رمى المحصنة، واللّه يقول بنصّ القرآن }فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا{(11).

إننا – أيّها الأحبّة – نستعمل كلّ مساحيق التنظيف لننظّف ثيابنا وبيوتنا ولكنّنا قد لا نستعمل المسحوق الحضاري الإسلامي في تنظيف ألسنتنا، فنحن نحتاج إلى نظافة اللسان كما إلى نظافة القلب كما إلى نظافة الروح والعقل والحياة فـ((النظافة من الإيمان))(12). نظافة القلب واللسان والجوارح والحياة كلّها، وهذا هو خط الإسلام ومنهج الأئمة من أهل البيت(ع).والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

المحاضرة الثلاثون30ذي القعدة 1421 ه24شباط 2001م

 

 

مشكلة الحيادية

 

 

* الحياديون خونة يخونون الإسلام لأنهم يضعفونه، ويخونون الأمة لأنهم يضعفونها *

 

 
 
 
 

 

علي (ع) الحاضر دائماً.

الموقف من الفتنة.

معالجة فقهية.

الأكثرية الصامتة.

دورنا أسلمة العالم.

التحديات السياسية الكبرى.

الحيادية خيانة.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

علي (ع) الحاضر دائماً:

في هذه الليلة نلتقي مع الإمام علي (ع) لأنّه يمثّل الإنسان القمّة في الفكر وفي الروح وفي الانفتاح على الزمن كلّه. فعلي (ع) هو الحاضر دائماً، ولذلك فإننا في القضايا التي تواجهنا في تطوّر الأمور والحاجات والتحديات نحتاج إلى أن نستنطقه ونسأله ونتحدث معه. لأنّ علياً (ع) إذا كان قد انتقل إلى رحاب اللّه جسداً وروحاً فإنّه مازال يعيش بيننا فكراً وسيرة ومنهج حياة. وتلك هي علاقتنا به بأنّ يزورنا في الحاضر لا أن نذهب إليه في الماضي، لأنّ علياً (ع) يريدنا أن نعيش حاضرنا، وأن ندرس ما يبقى من الماضي ليكون زاداً للحاضر وتطلّعاً للمستقبل بل وصناعة له.

الموقف من الفتنة:

ومن خلال القضايا التي تطرح نفسها أمام كلّ هذا الضجيج في العالم بين رأي ورأي، وبين ظالم ومظلوم، وبين حق وباطل، وبين مستكبر ومستضعف، وفي نطاق الفتن التي تتحرك على المستوى الثقافي، أو على المستوى السياسي أو الاجتماعي، إنّ السؤال الذي يجدر أن نطرحه على علي (ع) هو: يا أمير المؤمنين ما هو الموقف الإسلاميّ إذا وقفنا بين خطين يجتذبنا هذا إليه ويجتذبنا ذاك إليه؟ وما هو الموقف إذا استحكمت الفتنة في البلاد؟ وما هو الموقف عندما ينقسم المجتمع إلى خطين، أو يأخذ الناس بأحد رأيين؟ هل نأخذ بمبدأ الحياد لنقول، من أجل أن نضمن لأنفسنا السلامة: لسنا مع هؤلاء ولسنا مع هؤلاء.. ف((الجلوس على التل أسلم)) والحياد أفضل؟ هل يصحّ الحياد في الخطوط التي يختلف فيها الناس ويضطرب فيها الواقع، وتتحرك فيها الأزمات؟ هل يملك الإنسان المسلم المؤمن أن يكون حيادياً أو لا؟

لقد أجاب الإمام علي (ع) عن هذه المسألة في بعض كلماته، فهناك كلمة من كلماته القصار تقول: ((كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب)). فهل نستفيد من قول علي (ع) الأمر بالحياد والهرب من المشكلة؟

لنفهم الكلمة أولاً، إذ ما المراد بالفتنة؟ هناك تفسيران للفتنة من خلال هذه الكلمة. هناك تفسير يقول إنّ الفتنة هي صراع بين باطلين، فإذا تصارع أهل الباطل فهناك فتنة لأنّ الناس يفتنون بما يقدّمه هذا من إغراءات وذاك من إغراءات تؤكد موقف كلّ منهما.

وهناك تفسير آخر، وهو أنّ الفتنة هي حالة الصراع التي لا يعرف فيها الحقّ من الباطل بحيث تشتبه الأمور لدرجة الالتباس الشديد، لأنّ هناك ضباباً في المناخ الذي تتحرك فيه حالة الصراع بحيث يفقد الناس وضوح الرؤية. فقد يكون أحدهما على الحق والآخر على الباطل، وقد يكونا مبطلين معاً. فهناك ضبابية في النظر إلى الموقف وليس هناك ما يسمح بوضوح الرؤية.

فعلى كلّ من التفسيرين، يقول الإمام علي (ع) لا تجعل أحداً يستغلّك في الفتنة سواء كانت بين باطلين، أو بين موقعين لا تعرف فيهما من المحقّ ومن المبطل؟ كن كابن اللبون الذي هو فصيل الناقة قبل أن يقوى ظهره فيصبح صالحاً للركوب، وقبل أن يعطي ضرعه الحليب. أي لا تجعل أحداً يركب موقعك أو موقفك أو كلمتك ليصل من خلال ذلك إلى غايته، ولا تدع أحداً يحلب إمكاناتك بحيث يستغلّها في هذا الاتجاه أو ذاك.

والقضية واضحة عندما تكون بين باطلين، لأنّ الموقف الذي يستفيده منك هذا أو ذاك هو موقف يوظّف للباطل، وصاحب الحق لا يمكن أن يوظّف نفسه وموقفه للباطل. وإذا كانت المسألة مما يشتبه به الحق والباطل فلا يجوز للإنسان أن يتحرك إيجابياً أو سلبياً في الموقف المضاد عندما لا يملك وضوح الرؤية، بل عليه أن يتحرك فيما يملك فيه الوضوح أنّه الحقّ. فالإمام (ع) يدعو إلى الحياد مخافة أن يكون الإنسان حطباً للفتنة.

معالجة فقهية:

ولكن هناك تفصيل في هذه المسألة نفهمه من خلال القواعد الفقهية، وهو أنّ الصراع عندما يكون بين باطلين، ويكون أحد الباطلين أخطر من الباطل الآخر، بحيث إذا انتصر الباطل الأخطر وقعت الأمة في مشكلة كبرى، هنا قد يكون من صواب الموقف الإسلامي أن نعمل على إضعاف ذلك من دون أن نمارس تقوية الآخر، باعتبار أنّ إضعاف ذاك يبعد الكثير من الخطر عن الإسلام والمسلمين وعن الأمّة كلّها، ولابدّ في هذا الأمر من الدقّة في التقويم وفي عملية الاختيار بعيداً عن كلّ جانب في العاطفة، أو بعيداً عن كلّ جانب في الانفعال.

أمّا في الفتنة التي يشتبه فيها الحقّ والباطل، فإننا نقف في مواقع الحياد ولكن مع ملاحظة أساسية وهي أن نتابع دراسة مفردات الفتنة حتى نستطيع أن نعرف الحقّ من الباطل، أو الأخطر من الخطير. وخلاصة الفكرة، هي أنّ الإنسان الذي يلتزم المبدأ لا يجوز له أن يتنكّر لمبدأه ليعطي موقفه للقوى المضادّة أياً كانت الظروف وما أمكنه ذلك.

وهناك موقف آخر يقترب من هذه المسألة، وهو إذا دار الأمر بين الحقّ وبين الباطل بحيث كان هناك موقف حقّ، وكان هناك موقف باطل، ونحن نعرف من الظالم ومن المظلوم؟ أياً كان الظالم: شخصاً أم حزباً أم دولة أم محوراً دولياً، وأياً كان المظلوم. فربما يفكّر بعض الناس في مثل هذه الحال بالسلامة بحيث لا يكون مع الحق ولا مع الباطل على طريقة أمير الشعراء (أحمد شوقي):

إذا الفتنة اضطربت بالبلاد                      ورمت   النجاة   فكن   إمّعة

أي لا مع هذا ولا مع ذاك.

وينقل عن البعض أثناء الحرب بين علي (ع) ومعاوية في صفين، حيث الحقّ مع علي (ع) على جميع المستويات لأنّ ((علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار)). والحق مع علي (ع) من خلال الشرعية المتعارفة عند المسلمين لأنّ المهاجرين والأنصار قد بايعوه خليفة للمسلمين فله شرعية الخلافة، ونحن نعتقد أنّه صاحب الشرعية منذ البداية. فينقل عن البعض ولا ندري مدى دقّة ذلك، قوله: ((الصلاة عند علي أقوم)). لأنّ علياً (ع) هو رجل الصلاة والإنسان الذي باع نفسه للّه تبارك وتعالى }وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّه وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ{(1). ((والطعام عند معاوية أدسم)). لأنّه كان يقدم أشهى الطعام وأطيبه، ولكن عندما تدقّ ساعة الحرب فإنّ ((الجلوس على التل أسلم)).

الأكثرية الصامتة:

وهؤلاء هم الذين نطلق عليهم بحسب المصطلح السياسي السائد (الأكثرية الصامتة) وهي المسؤولة عن ضعف الأمّة، وهزائمها وانهيارها لأنّها تعتزل الحقّ مما يعطي الباطل قوة. وقد تحدّث الإمام علي (ع) عن ذلك فقال عن الذين اعتزلوا القتال معه – ومنهم (عبد اللّه بن عمر) و(سعد بن أبي وقّاص) وغيرهم ((خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل)). فهم لم يحاربوا مع معاوية فلم ينصروا الباطل، ولكنّهم خذلوا الحق لأنّهم يعرفون أنّ الحق مع علي (ع) لأنّ الشرعية معه.

وقال (ع): ((إنّ سعيداً وعبد اللّه لم ينصرا الحقّ ولم يخذلا الباطل)). فكان واجبهم أن ينصرا الحقّ، وأن يخذلا الباطل، لكنّهما جمعا السلبيتين: السلبية ضد الحقّ والسلبية ضد الباطل، فلم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل، لأنّ خذلان الباطل يعني أن تواجهه وأن تصادمه.

ويقول (ع) وهو يخاطب الناس، بل ويخاطبنا الآن في مواقعنا السياسية والدينية والاجتماعية والأمنية: ((أيّها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصرة الحقّ ولم تهنوا عن تضعيف الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم))(2).

ترى ماذا كان يمثّل اليهود في بداية حياتهم السياسية من حيث العدد ومن حيث العدّة؟ وماذا كان المسلمون يمثّلون من عدد وعدّة؟ لكنّ اليهود انتصروا على العرب لأنّ الذين حاربوا من العرب لم يمثّلوا سوى 5% وكنّا ولا نزال نحارب بالهتافات والشعارات، ولكن عندما تقترب المسألة من مكاسبنا الماديّة والسياسية فإننا سوف نتعذّر بألف عذر وعذر، أليس كذلك؟!!

فلقد طُرحت مثلاً مقاطعة البضائع الإسرائيلية بالمطلق، كما طرحت مقاطعة البضائع الأميركية لأنّها تلتزم الكيان الصهيوني التزاماً مطلقاً، فكم من العرب التزم بذلك؟!

ولقد قلتها على سبيل النكتة: نحن نهتف (الموت لأميركا) ولكنّنا ندخن (المالبورو) ونشرب (البيبسي) و(السفن آب) فلسانك يقول: الموت لأميركا، ومعدتك أو رئتك أو شفتك تقول: الحياة للميزانية الأميركية وللشركات الاحتكارية، أليس كذلك؟

((لو لم تتخاذلوا عن نصر الحقّ ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم)). أليس حديث علي (ع) هو حديث عن الواقع الآن؟ وقد قالها (ع) في وصيته الأخيرة لولديه الإمامين الحسنين (ع) ولجميع ولده ولمن بلغه كتابه: ((كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً)). سواءً الظالم على مستوى الأفراد والجماعات أو الدول والمحاور الدولية.

إنّه يؤكّد لنا الخطّ على أساس ما يعطي للمجتمع توازنه وللأمة قوّتها ويحّقق لها أهدافها، لأنّ المسألة هي أن تقف في ساحة الصراع في الموقف الذي تؤمن به. وكما ذكرنا فإنّ الإنسان الذي لا ينصر الحقّ ولا ينصر الباطل فإنّه يعطي للباطل قوة سلبية. فلو فرضنا أنّ تعداد معسكر الباطل هو مليون شخص، وتعداد معسكر الحق هو خمسة ملايين، فعندما يتحرك في معسكر الحق نصف مليون أو مئتا ألف ويجلس الباقون في بيوتهم متفرّجين فإنّهم يعطون للباطل بجلوسهم قوة سلبية، وعندما تضعف الحقّ فإنّ الباطل يقوى عليه. فنحن عندما نكون حياديين في معركة الحقّ والباطل فإنّنا نعطي الباطل قوة سلبية ونمنع عن الحقّ القوة الإيجابية، وبذلك يختلّ توازن المعركة، فتصبح الكثرة كثرة لا غنى فيها ((ولكنكم غثاء كغثاء السيل)). حسب الوصف النبوي للأمّة في حال ضعفها وانهيارها رغم كثرة عددها.

وقد استوحى الإمام الكاظم (ع) هذه الفكرة من رسول اللّه(ص) فقال: ((أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة فإن رسول اللّه(ص) نهى أن يكون المرء إمّعة، قالوا: وما الإمّعة؟ قال: أن تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس)). ثم يقول الإمام (ع): ((إنّما هما نجدان: نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير)). ليكن خياركم هو السير في طريق الخير.

وعلى ضوء هذا، نقرأ الحديث المشهور المأثور: ((الساكت عن الحقّ شيطان أخرس)). وهو الذي يسكت عن الحقّ وهو قادر على أن يقول كلمة الحقّ، والذي يبتعد عن موقف الحق وهو قادر على أن يقفه أو ينصر من يقفه. واللّه تعالى يقول }وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ{(3). فهذا هو الذي يقوّي الحقّ في المجتمع حتى عندما تختلف الآراء، فقد لا يكون هناك صراع ولا فتنة ولا معركة، ولكن هناك رأي يراه شخص في قضية سياسية أو دينية أو اجتماعية، وهناك رأي يراه شخص آخر، وأنت تلتزم من خلال علمك وخبرتك ودراستك هذا الرأي، فعليك في هذه الحال أن لا تخاف أن تقول رأيك، لأنّ في قولك إيجابيتين: الأولى: أن تؤكّد موقفك بأن تحترم نفسك، لأنّ الإنسان الذي يؤكّد موقفه فيما يؤمن به هو الذي يحترم نفسه، أمّا الذي لا يؤكد موقفه بل يجعله مائعاً فهو إنسان لا يحترم نفسه، لأنّ احترامك لنفسك هو احترام لفكرك، واحترامك لفكرك يفرض عليك أن تعبّر عنه.

وأمّا الثانية: فهو أن تشجّع المتردّدين، فبعض الناس يخافون من المبادرة، وإنّما ينتظرون من يتقدم، فإذا تقدّم أحدهم فإنّ الآخرين سيجدون الشجاعة في اتباع موقفه. ولذلك فإنّ التردّد عن كلمة الحق يضعف الذين يؤمنون بالحقّ معك ولكنّهم يعيشون الضعف في شخصياتهم وفي مواقفهم.

دورنا أسلمة العالم:

لقد جاء الإسلام من أجل أن يكون نهج العالم }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ{(4). }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا{(5). }قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعًا{(6). ودورنا أن نعمل، كلّ في موقعه، على أسلمة العالم. وإذا كنا نعيش الإحباط النفسي أمام هذه المعسكرات التي تملك القوة فإنّ علينا أن نتذكّر أن رسول اللّه(ص) كان وحده عندما أرسله اللّه سبحانه وتعالى. وكان معه البيت الإسلامي الأول الذي يضمّ ثلاثة أشخاص كما وصفه علي (ع) ((لم يكن هناك إلا رسول اللّه وخديجة وأنا)). وكان الرسول(ص) أمام كلّ هذه القوى العدوانية المضادة يخرج إلى المسجد الحرام فيصلّي وعلي (ع) عن يمينه وخديجة (رض) وراءهما، فكان(ص) يتحدّى المشركين بالصلاة، وكان يريد أن يؤكّد لهم الموقف لا بكلمته وإنّما بعمله، وأكدّت خديجة (رض) الموقف عملياً لأنّها آمنت بالرسالة، وأكدّ علي (ع) الموقف تجسيداً لأنّه آمن بالرسالة، حتى أنّ أبا طالب (رض) كان قد مرّ بهم ذات يوم ورأى علياً (ع) يصلّي إلى جانب رسول اللّه(ص) فقال لولده جعفر: صل جناح ابن عمّك، حتى يكونا عن يمين الرسول(ص) وعن شماله.

وقال له اللّه سبحانه وتعالى }فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ{(7). فعلينا أن نصدع بالحق فالخطاب ليس لرسول اللّه(ص) وحده باعتباره حاملاً للرسالة والسائر في خطّها، بل نحن أيضاً حملة رسالته التي هي ليست حالة فردية تملك حرية أن تجمّدها في داخل ذاتك أو تطلقها، فالرسالة هي مسؤوليتك، فإنّ معنى أن تكون مسلماً هو أن تكون داعية ومبلّغاً وبشيراً ونذيراً }وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ{(8). فهو خطاب للأمّة من خلال رسول اللّه(ص) باعتبار أنّه كان الداعية الأول.

التحديات السياسية الكبرى:

فعندما نواجه في الخط السياسي – التحديات الكبرى التي يطلقها الاستكبار والكفر العالمي ضد المسلمين، وعندما يتحرّك المستكبرون لتحويل العالم الإسلامي إلى مزق متناثرة، ولسرقة ثروات هذا العالم، ولقصف هذا الموقع أو ذاك، ونحن نتفرّج، فإنّ معنى ذلك أنّ الاستكبار العالمي يستغلّ هذا التمزّق والتناثر لمزيد من الإيقاع بالأمة. ولذلك فإنّ الوحدة الإسلامية فيما اتفق عليه المسلمون في خطّ الفكر والعقيدة والشريعة، والحوار فيما اختلفوا فيه }فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ{(9). ولا تردّوه إلى عصبياتكم وتخلّفكم.

وكذلك الوحدة الإسلامية السياسية، فإذا لم نتمكّن من أن نوحّد الأمة الإسلامية في دولة فإنّ علينا أن نوحّد العالم الإسلامي في الموقف ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى)). ويقول الرسول(ص): ((من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)). بحيث يعيش ذهنية اللامبالاة، على طريقة ذلك الشاعر اللبناني المهجري الذي يصوّر حالة الأمّة وحال حكّامها:

ما علينا إن قضى الشعب جميعاً                     أفلسنا في أمان ؟!

أو كما يقول بعض الناس: المهم أن أكون مستوراً مع عيالي ولا مشكلة إن خربت الدنيا أو عمرت، أو انهزم المسلمون أو انتصروا. ألم نسمع كلمات من بعض المسلمين وهم يتحدّثون عن المسألة الفلسطينية بأنّها مسألة سنيّة، وعن المسألة العراقية والإيرانية بأنّها مسألة شيعية، وقد يقول قائلهم: دعوا اليهود يحتلوا فلسطين فالفلسطينيون سنّة، أو دعوا أميركا وبريطانيا يقصفان العراق ويحاصرانه لأن أهله من الشيعة، بقطع النظر عمّا في داخل العراق مما نشجبه ونرفضه، لأنّ العراق كشعب بين كماشتين: بين نظام الطاغية وبين الاستكبار العالمي. وكذلك عندما شنت الحرب ضد إيران اعتبرها البعض مسألة شيعية أو أنها إيرانية في قبال طرف عربيّ.

فالمسألة الإسلامية عند هؤلاء وهؤلاء فقدت معناها أمام الذهنية الطائفية والعصبية المذهبية، والاستكبار العالمي اليوم يطالب برأس الإسلام، ولذلك ضغط على الشيعة في موقع حينما تأثرت مصالحه، وضغط على السنّة في موقع حينما تضرّرت مصالحه، أليس الأمر كذلك؟ ألا ترون إلى (البوسنة والهرسك) هل همّا سنيّتان أم شيعيتان؟ وإذاً فإنّها الذهنية التي جعلت بعض المسلمين ينسون الإسلام، حتى أن هذه الذهنية – وهي ذهنية اللامبالاة والأخرى الحيادية بين الحق والباطل – أنستنا حتى العروبة عندما دخلت القضية في إطار الإقليميات، فنحن مستعدون لاستجلاب أميركا لمحاربة هذا البلد العربي أو ذاك.

وكان اليهود يوصفون بأنهم }يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى{(10). وانقلب الحال، فلقد رفضت إسرائيل في (مؤتمر مدريد) أن تكون الجامعة العربية ممثلة في المؤتمر، لأنّها لا تريد أن يبرز إسم العالم العربي في القضية الفلسطينية، ورفضت أن تفاوض العرب مجتمعين، بل رفضت في البداية أن يكون هناك وفد فلسطيني يفاوض، لذلك كان الوفد الفلسطيني ملحقاً بالوفد الأردني، وقبل العرب ذلك.

ونحن عندما نواجه الواقع الجديد في فلسطين نجد النظام العربيّ الرسميّ يطالب بإعطاء (شارون) فرصة في مجازره كلّها، وما ذاك إلاّ لأنّ أميركا تقول لنا: أعطوه فرصة، وأعطينا من قبله كلّ الفرص لزعماء العدوّ، وضيّعنا كلّ الفرص لمواقع النصر في جبهتنا.

الحيادية خيانة:

أيّها الأحبّة: الحياديون خونة، يخونون الإسلام لأنّهم يضعفونه ويخونون الأمّة لأنّهم يضعفونها. والأكثرية الصامتة التي تستطيع أن تنطق خائنة للأمة، فلابدّ أن يكون الصوت واحداً، وعلينا أن نتحمّل مسؤولية صوت الحقّ فينا إذا كنّا نؤمن بصوت الحق، وإلاّ فالجهل يصرخ فينا ويجمع أتباعه، والتخلّف يتقدّم فينا ويحارب كلّ تقدّم، والضعف والجبن وكلّ عناصر السلبيّة تتحرك في الأمّة لتسلبها إرادتها }إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِي{(11). وأنا ربّكم فاتقون }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ{.. فهل نعود إلى قلب هذه الحفرة من النار.. النار السياسية والنار الاقتصادية والنار الثقافية والنار الأمنية }فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا{.. وعندما نتمرّد على هذا الخط فسوف لن ينقذنا اللّه منها }كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ{ .. لتفكّروا فيها ولتأخذوا بها }لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{(12). أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم . والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

 

الفصل الأول

 

 

المسائل القرآنية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 أولاً: مسائل التفسير

ثانياً: مسائل عامة

 

 

 

 

أولاً: مسائل التفسير:

النفّاثات في العقد:

* إنّ (سورة الفلق) ولا سيما قوله تعالى ]وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ[(1). توحي للمسلم بأجواء السحر والشعوذة والاعتقاد بصحة السحر والخوف من ذلك، وكأنّ النفّاثات في العقد شيء حقيقي، فما هو رأيكم؟ 

- قد يكون هذا تعبيراً عن الحالات النفسية التي قد تحدث للإنسان من الخوف من عمل النفّاثات في العقد فيستجير باللّه منه، وليس معنى ذلك انه شيء حقيقي. وحتى بالنسبة إلى السحر فقد صرّح القرآن بأنه إيهام وتخيل، ولكنّه في النتيجة يؤثر على نفسية الإنسان، وليس من الضروري أن تكون كلّ المؤثرات على الإنسان لها واقعية وتحقّق عيني، بل هناك ما يحرّك الإنسان على أساس التصوّر والاعتقاد مع انه يفقد الواقعية.

قطع ما أمر  اللّه أن  يوصل:

* يقول تعالى ]وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ[(2). فما معنى هذه الآية؟

- إنَّ الآية تشير إلى العلاقات الإنسانية التي أراد اللّه أن يصلوها ويربطوها ويوثقوها، كما في صلة الرحم من حيث علاقات الأرحام مع بعضهم البعض، وكما في علاقة الجيران مع بعضهم البعض، وكما في علاقة المؤمنين مع بعضهم البعض. وتمتد المسألة إلى علاقة أي شخص له حقٌ على الآخر. فإنّ اللّه تعالى أراد لهذه الحقوق أن تحترم أن يقوم الناس بوصلها وربطها وتوثيقها،والذين]يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ[ ينالون عقاب اللّه على فعلهم المضاد والمعاكس لإرادة اللّه سبحانه وتعالى.

 

المفسدون في الأرض:

 * يقول تعالى ]إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا[(3). فقتل القاتل والمفسد مشروع، وما أكثر المفسدين، فمن هو المفسد الذي يجب قتله؟

- قد يتمثّل المفسد فيمن يقطع الطريق، وفي المفهوم الواسع لمن يقوم بإفساد الحياة العامّة للناس، كما هو الحال بالنسبة إلى الذين يتاجرون بالمخدرات ويعملون على الاتجار بالبغاء، وغيرهم ممن يفسدون حياة الناس ويدمّرون أوضاعهم العامّة والخاصّة.

الفحشاء والمنكر:

* ورد في الآية الكريمة ]إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[(4). فما هو المراد بالفحشاء والمنكر؟

- المراد من الفحشاء هو كلّ ما يزيد عن الحدّ المتعارف، وغالباً ما تطلق على المعاصي التي تتصل بالجانب الجنسي. والمنكر هو كلّ أمر ينكره اللّه سبحانه وتعالى من خلال كونه محرّماً.

* ولماذا نرى كثيراً من المصلين لا ينتهون عن ذلك؟

- ليس معنى ذلك أنّ كلّ من يصليّ سينتهي عن الفحشاء والمنكر فالصلاة بشرطها وشروطها، فكما لو أنَّ مدرسة تقدّم أحسن وسائل العلم لكن بعض من يدخلونها لا يتعلّمون فيها، فليس الذنب هنا ذنب المدرسة بل ذنب الطلاب الذين لم يأخذوا بتعاليم ومقررات المدرسة.

من الخاطئين:

* وصف الحقّ سبحانه وتعالى امرأة العزيز في سورة يوسف في قوله ]إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ[(5). فما هي الحكمة من انتسابها إلى الخاطئين؟

- المقصود من الخاطئين التذكير والتأنيث معا، ففي اللغة العربية إذا كان لدينا ذكر ومؤنّث وأردنا أن نجمعهما فإن المذكّر يتغلّب على المؤنث، وهذا مثل قولنا (القمرين) للشمس والقمر، فالشمس تعتبر مؤنثاً لفظياً والقمر مذكّر ولكن يجمعان فيقال القمران ولا يقال الشمسان. هذا إذا كان السؤال يتصل بالإتيان بصيغة المذكر بدلاً من الجمع المؤنث، أما إذا كان السؤال يرتبط باعتبارها من الخاطئين فالجواب هو أن زوجها قد أدرك أنها هي التي راودت يوسف عن نفسه كما اعترفت به بعد ذلك وهذا خطأ كبير من ناحية الانحراف عن الأمانة الزوجية من جهة، والاعتداء بالضغط الجسدي والنفسي على يوسف.

وهو مكظوم:

* قال تعالى ]فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ[(6). فما هو تفسير الآية الكريمة؟

- صاحب الحوت هو نبي اللّه يونس(ع) الذي التهمه الحوت، وقوله مكظوم يعني متألّم يحبس غيظه وألمه في صدره من خلال الوضع الذي انتهى إليه فاستغاث بربّه ليصرف عنه ذلك فاستجاب اللّه له الدعاء فأخرجه من بطن الحوت.

معنى الشعائر:

* يقول اللّه تعالى ]ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[(7). فما معنى الشعائر؟

- الشعائر هي عبارة عن العلامات التي تدل على اللّه، وهي مما لابدّ أن يرد كونه من الشعائر كما في قوله تعالى ]إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ[(8). وهكذا بالنسبة إلى الهدي فاللّه سبحانه وتعالى جعله من الشعائر. ويقول العلماء إنّ الشعائر توقيفية فلا نحكم على أي شيء بأنه شعيرة من الشعائر إلاّ إذا ورد النص عليه، وليس لنا أن نصنع شعائر بأنفسنا وننسبها إلى اللّه من خلال ما نخضع له من عاداتنا وتقاليدنا.

إل يس:

* هناك من يقرأ الآية سلام على (إل يس) سلام على آل يس؟

- الظاهر أنّ الصحة على إل يس والمراد به إلياس  ]وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ[(9). وتنطق إل يس.

ذهب مغاضباً:

* ما هو تفسير الآية الكريمة ]وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا[(10). وهل من حق الأنبياء أن يهربوا من المسؤولية؟

- لم يهرب ذا النون من المسؤولية ولكنه اعتقد أن مسؤوليته انتهت عندما تمرّد عليه قومه.

شرّ ما خلق:

* يقول تبارك وتعالى ]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ[(11). و كلمة شرّ إسم تفضيل سقطت ألفه لكثرة الاستعمال شأنه في ذلك شأن كلمة الخير، فما هو رأيكم؟

- المراد من الشر أصل الشر لا المراد أشرّ الخلق، فكلمة الخير تختزن في نفسها ما يراد من عمل الخير والعمل الصالح، وقد يراد من الخير كلمة التفضيل عندما يقال فلان خير من فلان. وعندما يقال (الصلح خير) فإنّما يراد به هو الخير نفسه، وكذلك الشر.

خوف الشيطان من اللّه:

* في سورة (الحشر) يقول تعالى ]كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[(12) فكيف يخاف اللّه مع غوايته؟

- هو كمثل بعض الناس الذي يغريك بعمل ما ثم يتنصّل من المسؤولية، وهو أشرّ من الناس، فهو يقول لك إنني أخاف اللّه وليس معنى خوفه من اللّه الخوف الذي يردعه عن المعصية، بل الخوف الذي يقدّمه كمبرر للتخلص من المسؤولية، وإلاّ لو كان يخاف اللّه حقَّ مخافته لما كان عصاه. ولما تكبّر على آدم(ع) ولما أضلّ الناس عن طريق اللّه.. انه يوسوس ويخنس.. يورّط وينسحب من دائرة المسؤولية.. يوقعك في حبائله ويقول لك إنها مسؤوليتك لأنّك قابل للخداع.

ما أكفره:

* كيف تفسّرون قوله تعالى ]قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ[(13). وهل أنَّ كلمة (ما) هنا تعجبية أم استفهامية؟

- هي واردة في مقام التعجّب أي ما أشدّ كفره، وهي هنا في مقام الكناية عن الإنسان الذي يتمرد على اللّه سبحانه وتعالى ولا يؤمن به بل يكفر به بعد أن تبيّن له أنّه الحق، وأنّه موضع استحقاق الإيمان به وبرسله(ع) وبكتبه وملائكته(ع). بالإضافة إلى كفره بنعم اللّه الذي خلقه وأنعم عليه ورعاه في كلّ شؤون حياته فلم يشكره بالمعرفة له والطاعة له بل انحرف عنه بالكفر والجحود والعصبية.

إطاعة أولي الأمر:

* تطرّق أحد الخطباء إلى تفسير آية }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأأَمْرِ مِنْكُمْ{(14). ونسب إليكم أنكم تقولون إنّهم الأئمة والعلماء؟

- نحن نقول إنّ أولي الأمر هم الذين ثبت، من خلال الكتاب والسنّة، أنّ اللّه سبحانه وتعالى ولاّهم الأمر. ومن الطبيعي فإنّ الأئمة(ع) هم أولو الأمر، لأن الإمامة تعني القيادة الإسلامية للمؤمنين ((ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: اللهم بلى، قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه)). وإذا ثبتت الولاية في حالة الغيبة للفقهاء من خلال النص فانهم يكونون ولاة الأمر ولكن بالنيابة عن أولي الأمر.

نساؤكم حرث لكم:

* ما معنى قوله تعالى }نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ{(15). وما معنى ((أنّى)) في هذه الآية الشريفة؟

- يحاول البعض من الناس أن يستدل بهذا على جواز العلاقة الجنسية في الدبر، ولكن الآية مفسّرة في أحاديث الأئمة من أهل البيت(ع) أن المراد ب(فأتوا حرثكم) أي من أي مكان يؤدي إلى الحرث وهو موضع الولد، فيمكن أن يأتي الإنسان زوجته من (قُبل) سواء من أمام أو من الخلف، لأن اليهود كانوا لا يجيزون ذلك، ففي كلا الحالين تكون العلاقة الجنسية في الموضع الطبيعي، لأن الموقع الثاني (الدبر) ليس حرثاً.

معنى النحر:

* يقول تعالى }إنا اعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر{(16) فما معنى ((النحر)) في هذه الآية؟

- الظاهر أنّ المراد هو أن توجّه نحرك إلى القبلة، وربّما كانت كناية عن التوجّه المطلق إلى اللّه سبحانه وتعالى.

مستقر ومتاع إلى حين:

* يقول تعالى }وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ{(17) فهل المقصود إلى حين الموت أم إلى يوم القيامة؟

- يمكن أن يكون المقصود متاع كلّ فرد إلى حين الموت، وقد يكون متاع الإنسان بصفة عامّة وحينئذ يكون المراد إلى يوم القيامة.

قوّامون على النساء:

* ما معنى قوله تعالى }الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ{(18) وهل الآية على اطلاقها بحيث تشمل كلّ النساء؟ أو لها مخصّص في ذلك؟

- الآية تتحدث عن الحياة الزوجية فقط، فليس الرجال قوّامين على كلّ النساء وإنّما الأنبياء والأوصياء فقط هم القوّامون على الرجال والنساء معاً. وإذا قلنا بالولاية للفقيه أو لغيره فكذلك تكون لهم القوامة على الناس كافّة. وأمّا الحالة الوحيدة التي يكون فيها الرجل قوّاماً على المرأة بصفة كونها المرأة وبصفة كونه رجلاً ـ هي الحياة الزوجية، والدليل على ذلك }بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ{ . أي ان الحالة الوحيدة التي يجب فيها على الرجل ان ينفق على المرأة بصفتها امرأة هي الزواج، لأن على الأب أن ينفق على أولاده ذكوراً وإناثاً ولا يقتصر الانفاق على الإناث فقط. وبعد ذلك }فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ{(19) فكلّها واردة في الحياة الزوجية وكما قلنا فإنّ المراد بالقوامة هي المسؤولية الإدارية في البيت، بلحاظ ان أبوّة الرجل ليست في جسده، ولذا فهو يملك حرية الحركة في القيام بمسؤولية البيت الزوجي وبإدارته، بينما أمومة المرأة في جسدها، ومن الطبيعي فإنّ هذا يسبّب لها جهداً في الحمل، وجهداً في الإرضاع، وفي الحضانة، وما الى ذلك. لذلك فليس التفضيل بمعنى أنّ عقل الرجل اكثر من عقل المرأة، إذ لم يثبت عندنا أنّ عقل الرجل اكبر من عقل المرأة, بل ربما نرى الكثير من النساء عندما يأخذن باسباب العلم يرجح عقلهن على الكثير من الرجال. وقد قدّم لنا القرآن الكريم امرأة عاقلة وحدثنا انها اعقل من الرجال، وهي ملكة سبأ وذلك عندما جاءها كتاب سليمان وهي ملكة فلم تستبد برأيها بل قالت: }قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ{(20) فأرادت منهم أن يعطوها فكراً من خلال ما عقدته من مجلس استشاري، لكن الرجال عرضوا عضلاتهم البدنية، في حين ارادت منهم ان يعرضوا عضلاتهم الفكرية}قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ{(21). فبدأت تفكر بعقلها}قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ{(22) فلم يفكّر الرجال وانما فكّرت المرأة، وذهبت بنفسها الى سليمان وسمعت منه واقتنعت واسلمت معه للّه رب العالمين. فالقوامة في مظهرها الوحيد هي في الحياة الزوجية، وفيما عدا ذلك ليس للرجل حق على المرأة فيما عدا العلاقة الجنسية. بل حتى قضية الخروج من البيت فهي محل كلام، حيث أن بعضهم يقول كما هو رأي السيد الخوئي رحمه الله ونحن نتفق معه في الرأي أنّ هذا من شؤون الاستمتاع، أي أنّ الإشكال يرد في خروجها بما ينافي حق الاستمتاع وليس في مطلق الخروج وهذا بحث علمي ليس هنا مجاله.

أبا أحد من رجالكم:

* ما هو تفسير قوله تعالى }مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ{(23)؟

- هذا يعني أنّ علاقة النبي(ص) بكم أيّها المسلمون ليست علاقة نسبية ولكنّها علاقة رسالية}وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ{(24). ولذلك ينبغي أن يكون ارتباطنا به ارتباطاً رسالياًلا ارتباطاً ذاتياً، حتى أن الارتباط بأبنائه وذرّيته لابد أن يكون كذلك ارتباطاً رسالياً، كما ورد في حديث علي(ع) ((إن وليّ محمد من أطاع اللّه وإن بعدت لحمته وإنّ عدو محمد من عصى اللّه وإن قربت قرابته)). وكما عبّر الشاعر أبو فراس الحمداني عن ذلك بقوله:

كانت مودّة سلمان لهم رحماً                 ولم يكن بين نوح وابنه رحم

لا نفرّق بين أحد من رسله:

* ما معنى قوله تعالى }لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ{(25)؟

- يعني أنّهم كلّهم رسل اللّه عزّ وجل ولا نفرّق نحن المسلمين بين رسول ورسول، بل لابدّ أن نؤمن بالرسل كلّهم، وهذا المعنى خارج عن مسألة تفضيل الرسل بعضهم على بعض في الدرجات عند اللّه، فمسؤوليتنا الايمانية هي الإيمان بهم وبما جاءوا به من عند اللّه كجزء أساس من عقيدتنا.

الأعراب أشدّ كفرا:

* ما معنى هذه الآية }الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا{(26)؟

- ليس المراد بهم العرب، بل الأعرابي هو من لم يتفقه بالدين، فإذا لم يتفقه الإنسان المسلم بالدين فهو أعرابي وان لم يسكن البادية، واذا تفقه خرج عن كونه أعرابياً جاهلاً متخلّفاً حتى لو سكن البادية، فالمسألة تتعلق بالعلم، ولذا تحدّث اللّه سبحانه وتعالى عن الأعراب والمتفقهين بتمييز واضح فقال منهم كذا ومنهم كذا.

السماء والطارق:

* ما المقصود بقوله تعالى }وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ{(27)؟

- هذه الآية مفسّرة في سياق النصّ القرآني الذي يشير اليه السؤال، فالطارق هو نجم ثاقب، فهنا يقسم اللّه سبحانه وتعالى بالسماء، وهو جلّت قدرته يقسم بخلقه أو بشيء من خلقه وليس لخلقه أن يقسموا إلاّ به، وإن كان اختلف الرأي بعد ذلك في هذا المقام، لكنّ الحديث هو أنّ الأولى أنّنا إذا أردنا أن نقسم فعلينا أن نقسم باللّه وحده، لأنّ اللّه يريد للناس أن يرتبطوا به حتى أنّه جعل الارتباط بأنبيائه وأوليائه من خلاله }فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{(28) فنحن نعظّم الأنبياء(ع) لأنّهم رسل اللّه الذين أخلصوا له، ونعظّم الأولياء لأنّهم أولياء اللّه الذين أخلصوا له. ولذا نقول ((اشهد أنّ محمداً عبده ورسوله)) }إنهم عباد مكرمون * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ {(29).

 

سنقرئك فلا تنسى:

* في قوله تعالى }سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إلا ما شاء اللّه{(30) ألا تدلّ هذه الآية على أنّ النبي(ص) ينسى إلاّ من خلال الاستثناء الوارد في الآية؟

- أولاً: معنى قوله تعالى }فلا تنسى{ أنّ النسيان ليس وارداً في مقام النهي، وإنّما في مقام النفي. وثانياً: قوله عزّ وجل }إلا ما شاء اللّه{ تعني أن النبي(ص) لا ينسى إلاّ بمشيئة اللّه.

وإن منكم الاّ واردها:

* ما معنى قوله تعالى }وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا{(31) وهل (منكم) هنا للتبعيض؟

- (منكم) هنا تعني أنّه ما من أحد منكم. ومعنى (الاّ واردها) أن الكلّ يردون النار، ولكنّ هل معنى الورود الدخول؟ كلاّ، بل قد ترد بمعنى الورود وهو الوصول، كما تقول ورد فلان الماء }وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ{(32). فليس معناه أنّه دخل ماء مدين وإنّما وصل إليه. ويقال إنّ طريق الجنة يمرّ على النار، فكل الناس يردون النار بمعنى أنّهم يصلون اليها ولكن ليس المراد انهم يدخلونها كما ورد في بعض التفاسير. وبعضهم يقول إنّ الجميع يردونها ولكنّها تكون برداً وسلاما على المؤمنين أي أنهم يشاهدون ما يجري فيها لكنّها لا تمسّهم، واللّه العالم بحقائق آياته.

لا تذرنّ آلهتكم:

* ما معنى قوله تعالى في سورة (نوح) }وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا{(33)؟

- هذه اسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها، فهم يتنادون لحماية ومساعدة آلهتهم من أن تحطّم، ويقول بعضهم لبعض: لا تتركوا عبادتها أمام دعوة نوح للّه الواحد الأحد الفرد الصمد.

 قد سمع اللّه:

* يقول اللّه تعالى }قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا{(34) فهل صحيح أنّ اللّه سبحانه وتعالى له آذان يسمع بها؟

- اللّه سبحانه وتعالى يسمع ولكن بدون حاسّة فهو }السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{(35) وهو يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، ويبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، ولكن لا يبصر بعين مادية أو بأذن مادية، ولا يشغله سمع عن سمع، وهو سامع الأصوات كلّها ولكن }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{(36).

ولا تسبّوا الذين يدعون من دون اللّه:

* ما تفسير قوله تعالى }وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ{(37)؟

- أي لا تسبّوا الكافرين الذين يختلفون معكم في الإيمان باللّه أو بتوحيده، حتى لو كانوا ممن يستحقون السبّ، لأنّ الفعل في العادة يجتذب ردّة الفعل، فإذا سببتم مقدساتهم فسيكون ردّ فعلهم أنّهم يسبّون اللّه. أمّا لماذا يجتذب هذا الفعل ـ وهو السبّ ـ ردّ الفعل، فلقوله عزّ وجل }كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ{ لأنّ كل أمة فيما تعمل، سواء كان العمل عملاً عقيدياً في الداخل أو عملاً عبادياً في الخارج، ترى أن عملها هو العمل الصالح الحسن، وبذلك يرون أنّ مقدساتهم هي المقدسات التي لا يجوز أن تنال بسوء، وأنّ خطهم هو الخط السليم الذي لا يجوز أن يناله التعريض، ولذلك فإنكم عندما تسبّونهم في الخطوط التي يتحرّكون فيها، فإنّ السبّ لا يقنع الآخر ولا يحلّ المشكلة بينك وبينه، بل إنّه يعقّده ويغلق قلبه عنك، ولهذا فسيزداد حقداً عليك، ويكون ردّ فعله أن يشفي غيظه من سب مقدساته بان يغيظك بسب مقدساتك.

وهذه حالة إنسانية عامّة حيث ينقل عن (ابن عباس) ما مضمونه أنّه سمع شخصين يتسابّان، قال: أيّكم الساب أباه؟ قال أحدهما:ٍ من منا يسبّ أباه؟ قال: إنّك سببت أبا الإنسان الآخر فكان أن سبّ أباك، فأنت من حيث لم تقدّر كنت السبب في سبّ أبيك وذلك بواسطة سبّك لاخيك أو لأي إنسان آخر.

وهذا أسلوب قرآني لا يقتصر على الذين يدعون من دون اللّه من غير علم وهم الكفرة، بل يمتدّ الى كلّ الذين نختلف معهم سواء كان الخلاف مذهبياً أو سياسياً أو اجتماعياً، لأنّ المسألة ليست هي مسألة أنّ هذا الإنسان الذي تسبّه يستحق السبّ أو لا، فربما كان يستحق ذلك، ولكنّ المسألة هي أنّ الإسلام يريد لك أن تفتح عقل الآخر على خطأه من خلال الحوار، ومن خلال تقديم الحجّة التي تفتح عقله لا التي تهيّج غريزته الانفعالية، وذلك أنّ السبّ يثير الغرائز العدوانية عند الآخر، بينما الحوار يفتح عقله وربما يجعله يقترب مما عندك.

وهذا ما عالجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) بقوله عندما سمع قوماً من أهل العراق - وهو في صفّين - يسبّون أهل الشام، والمعركة إذ ذاك معركة قتال حامي الوطيس، وربّما كان غير علي يرتاح لأنّ يسب جنده أعداءهم لأنّ ذلك يثير عصبيتهم أكثر، ولكن علياً(ع) كان إنسان الرسالة لا إنسان الذات، وعظمة ذاته أنّها كانت ذات الرسالة فلا فاصلة بين ذات علي(ع) وبين رسالته، لأنّ علياً مع الحقّ والحقّ مع علي فلا فاصلة بين علي(ع) وبين الحقّ.

ولهذا فانّ الذين يتحرّكون في الباطل العقيدي والسياسي والاجتماعي لا مكان لهم الى جنب علي(ع) الذي وقف خطيباً وقال للذين يسبّون ((إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين)) فالسباب هو من الأخلاق الغريزية الرذيلة، كما أنّه لا يحلّ  مشكلة عند من يختلفون في الرأي، بل يعقّد المشكلة أكثر، فلا أريد لشيعتي، وهذا مراد علي من منهجه التربويّ - أن يكونوا سبّابين، ولكن ربما افترض
الإمام(ع) سؤالاً قد يطرح من قبل جنده: ماذا نفعل ونحن نريد أن نعبّر عن مشاعرنا وعن أحاسيسنا وعن موقفنا من اعدائنا؟ فقال ((ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم)) أي قولوا لهم إنّكم أربكتم الواقع الإسلامي، وقولوا لهم إنّكم وقفتم ضد الشرعيّة الإسلامية المتمثلة بعلي(ع) وقولوا لهم إنّ ما يختزنونه من الانحرافات عن خط الإسلام سيضلهم ويضلّ قوماً آخرين. حدّثوهم بطريقة موضوعية عقلانية عن ذلك ((بدل السب لكان أصوب في القول)) لأنّكم تعبّرون عن القول الصائب وعن حقيقة الواقع ((وأبلغ في العذر)) فالناس إذا سمعوا ذلك عذروكم في هذا الموقف الذي تواجهونهم به. إنكم مسلمون وهم مسلمون واللّه تعالى يريد من المسلمين أن لا يحقدوا على المسلمين الآخرين حتى لو اضطروا إلى قتالهم لفرض النظام العام ولإيقاف الباغي عند حدّه، فلتبق وانت تواجه المسلم الآخر الذي تختلف معه وتقاتله على روحية المسلم الذي يدعو اللّه أن يفتح قلب المسلم الآخر على الحق.

فما أعظم علي(ع) الذي قدّم لجنده البديل الأنسب للسبّ ((وقولوا مكان سبّكم إياهم ربّنا احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به)). هذا هو علي(ع) الذي يحارب من دون حقد، والذي يريد للناس الذين يحاربهم ان يهتدوا الى ضوئه أكثر مما يريد أن يقاتلهم على ضلالة، وهو القائل ((واللّه ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشو الى ضوئي وذلك أحبّ اليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها))(38). فهل نحن في خط علي(ع) نحن الذين نسبّ ونسب ونلعن ونلعن ونحقد ونحقد حتى نحوّل الحياة الاسلامية الى جحيم لا يطاق لنا وللآخرين؟ علي(ع) هو الإنسان الذي أرادنا للّه ((ليس أمري وأمركم واحداً إنّني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم))(39) لأحقادكم ولعصبياتكم ولغرائزكم، فشتان بين علي الذي يمثل الاسلام كله وبين من ينحرف عن خط علي(ع).

جاعلك للناس إماما:

* ماذا تعني كلمة الامام في قوله تعالى لإبراهيم(ع) }قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا{(40) علماً بان هذه الإمامة جاءت بعد النبوّة ولا معنى أن تكون القدوة؟

- الإمامة هنا تعني القيادة، فدور النبي الأول هو أن يبلّغ الناس، ودوره الآخر هو قيادة الناس. ولذلك فإمامة إبراهيم(ع) ليست بالمعنى المصطلح، لأنّ الامامة بهذا المعنى هي خلافة عن النبي(ص) والوصاية عنه وإنّما المقصود ب}إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا{ أي جاعلك نبيّاً في خط القيادة للناس ليتبعوك في حركتهم في الواقع، واللّه العالم.

ما تقدم من الذنب وما تأخر:

* في القرآن آية تقول }لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ{(41) فهل أن رسول اللّه(ص) يذنب ليغفر اللّه له ذنوبه؟

- هذه الآية مفسّرة بالقول ليغفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك عند أهل مكة، لانه يقول }إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا{(42) أي إنّا فتحنا لك مكة وهيّئنا لك أن تعفو عن أهلها حتى يغفر لك اللّه من خلال ما في نفوسهم ما تقدم من ذنبك وما تأخر في حسابات أهل مكة. وربّما لا تعني كلمة الغفران عندما تنسب إلى
النبي(ص) الغفران عن ذنب، وإنّما تختزن رضا اللّه ورعايته لنبيّه، وربّما أخذ من معنى الغفران هذا المعنى في رضوان اللّه وفي إعزازه ومحبته، واللّه العالم.

وقاية الأهل من النار:

* يؤكد القرآن الكريم في اكثر من آية أنّ المسؤولية فردية }وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى{(43) و}يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا{(44) ولكن هناك آية تقول }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ{(45) فإلى أي مدى تمتدّ هذه الوقاية خصوصاً وأننا أصبحنا في زمن لا يسمع ولد لوالد ولا زوجة لزوج وبالعكس؟

- المقصود في قوله تعالى }وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى{ سعيه في مسؤوليته في الحياة، فربما يكون مسؤولاً عن نفسه في عمله العبادي الفردي في الصلاة أو الصوم أو الحج، وربما يكون سعيه الفردي في عمله الاسلامي }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ{(46) أما قوله تعالى }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ{ فتعني أن على الإنسان ان يسعى سواء في مسؤوليته الاجتماعية، أو في مسؤوليته الاسلامية التوجيهية والتبليغية أو في مسؤوليته العائلية ما وسعه ذلك. فالله سبحانه وتعالى يقول }وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا{(47) ويقول }وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ{(49). فالمطلوب من الانسان هو السعي بمقدار جهده، أمّا حجم النتائج فان اللّه لم يكلفه بها، حتى ان النبي(ص) وهو أعلى إنسان في حركة المسؤولية وفي نتائجها يخاطبه اللّه تعالى بقوله }وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ{(50) ويقول له }لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ{(51). ويقول ايضاً }فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى{(52). فالمطلوب إذاً هو السعي في حدود الاستطاعة، أي إبذل جهدك في مسؤوليتك وفي نفسك وفي الناس الذين حمّلك اللّه تعالى مسؤوليتهم، بقدر ما تملك من وسائل، ولكنك وانت تفعل ذلك تذكّر أنك لا تملك الناس الآخرين، لأن للناس الآخرين عقلاً يختلف عن عقلك، عقلاً لست مسيطراً عليه }فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ{(53). فللناس الآخرين نقاط ضعف لا تملك أن تتدخل فيها الاّ بمقدار استعدادهم للتغيير والاستجابة. وهكذا فإنّ على المرء ما لخّصه أحد الشعراء من القول:

على المرء ان يسعى بمقدار جهده                      وليـــــــس عـــــــليه أن يكـــــــون موفـــقـــــا

المؤمنون فتنة للكافرين:

* يقول تعالى }رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{(54). فهل يكون المؤمنون فتنة للكافرين، وهم يدعون الى اللّه الواحد؟

- ربما تكون الفتنة بلحاظ ما يظهر من خلال نقاط الضعف لدى المؤمنين التي تجعل الكافرين يؤكّدون على واقع المؤمنين السلبيّ، وربما يكون المعنى لا تعذبنا بأيديهم ولا ببلاء من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق لما أصابهم هذا البلاء، وربما يكون معنى ألطُف بنا حتى نصبر على أذاهم ولا نتبعهم فنصير فتنة لهم، واللّه العالم.

ما ملكت أيمانكم:

* يقول تعالى }وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ{(55) فما معنى (فمن ما ملكت أيمانكم)؟

- اتخذت علاقة الرجال بالنساء أكثر من شكل، فهناك الزواج المعروف }وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ{(56) وهناك ملك اليمين حيث كانت هناك مسألة الإماء، وذلك قوله تعالى }أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ{. فلقد كان عرب الجاهلية يشترون العبيد والإماء، فإذا اشترى الإنسان أمة فإنها تحلّ له كزوجة، وقد أقرّ الإسلام ذلك للضرورات العامة في تحرير العبيد والإماء وذلك بتجفيف ينابيع العبودية وزيادة وسائل الحرية، حتى استطاع الإسلام بطريقته الخاصّة أن يلغي العبودية من الواقع الإسلامي من دون ثورة لتحرير العبيد كما حصل في مناطق أخرى، بل إنّ الوسائل الإسلامية من كفّارات وتحرير رقبة وما إلى ذلك مكّنت الإسلام من القضاء على أشكال العبودية التي لم ينتجها الإسلام في تشريعه ولكنّها كانت تمثل واقعاً اجتماعياً مرتبطاً بالمسألة الاقتصادية والعسكرية، لذلك وعلى أساس المعاملة بالمثل كان الكفار يسترقّون المسلمين، وقد عوملوا بالمثل كوسيلة من وسائل الضغط عليهم، ولكن الإسلام كما قلنا - وضع الخطط المناسبة والحكيمة لتحرير العبيد والإماء حتى تمكّن من تجفيف حالات الرقّ مما لم يعد لها أثر في واقع المسلمين.

تغيير الأنفس:

* يقول تعالى }إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ{(57). فما هو التغيير الذي يجب أن نغيره في نفوسنا؟

- إنّ الواقع هو صدى حركة الإنسان، فمن يا ترى الذي يصنع الواقع السياسي؟ ومن هو الذي يصنع الواقع الاقتصادي؟ ومن هو الذي يصنع الواقع الاجتماعي؟ إنّه الانسان، والانسان يتحرّك في الخارج عادة من خلال الأفكار التي يحملها في الداخل. وعلى ضوء هذا، فان عملنا في الخارج هو نتيجة للفكر الذي نحمله في الداخل، والإحساس الذي نحمله في الداخل والمزاج الذي نعيشه في حياتنا الداخلية. ولذلك جرت سنّة اللّه تعالى على أن لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى جعل حركة التاريخ مربوطة بحركة الإنسان، وحركة الإنسان في الواقع الخارجي كما ذكرت منطلقة من الواقع الداخلي، ولذلك فإذا غيّر الإنسان نفسه غيّر اللّه الواقع الذي يعيش فيه، لأنّ اللّه يربط الواقع بالإنسان، ولذلك فإنّه عزّ وجل يحمّل الإنسان النتائج السلبية في التخلّف عن القيام بمسؤولية التغيير }ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{(58). فاللّه يرجع السبب في المشاكل التي يعيشها الناس في الحياة إلى الفساد السياسي والاقتصادي والواقعي. وإذاً فهذه الآية تبيّن أنّ حركة الإنسان الخارجية تنطلق من حركته الداخلية.

اقتحام العقبة:

* ما المقصود من الآية }فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فك رقبة{(59

- العقبة هي الأهوال التي يراها الإنسان في يوم القيامة، فاللّه يقول إنّ الإنسان إذا حرّر الرقبة، أو أطعم مسكيناً أو يتيماً في يوم ذي مسغبة وهو اليوم الذي يعاني فيه الناس المجاعة، وإذا قام بعمل خير بالتحرير أو بالتصدّق فانه يتجاوز العقبة التي قد تمثل أهوال القيامة.

ولا يجرمنكم شنآن قوم:

* يقول تعالى ]وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[(60). في هذه الآية يتحدث اللّه عن العدل والتقوى بشكل مطلق، ولكن بعض الناس يفسّرون شنآن قوم بالقوم المسلمين ويقولون كن عادلاً وتقياً مع قومك ولكن لا عدل ولا تقوى ولا مودة ولا رحمة مع الآخرين، فما هو رأيكم بمثل هذه التفاسير التي يطلقها الكثيرون في هذا العصر المتعولم؟

- عندما نقرأ الآية نرى أنّها مطلقة تشمل الناس جميعاً ]وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ[. والشنآن هو الخصومة والعداوة مع أي قوم من الأقوام فلا يمنعكم ذلك من العدل. ونحن نعرف أن العدل لا دين ولا هوية له فالعدل لكلّ الناس، والظلم في قبال ذلك لا دين ولا هوية له فهو ممنوع عن كلّ الناس مسلمين وغير مسلمين، فإذا كان لإنسان حق عليك فلابدّ أن تعطيه حقّه، وقد ورد في حديث الأئمة من أهل البيت(ع) كما رواه الكافي ((أوحى اللّه إلى نبي في مملكة جبّار من الجبّارين أن آتِ هذا الجبار وقل له إنّي إنّما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فانّي لن أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّاراً))(61).

وعندما نقرأ في دعاء الإمام زين العابدين(ع) في (الصحيفة السجادية) قوله ((اللهم ارزقني التحفّظ من الخطايا والاحتراس من الزلل في حال الرضا والغضب حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء عاملاً بطاعتك مؤثرا لرضاك على ما سواهما في الأولياء والاعداء حتى يأمن عدوي من ظلمي وجوري وييأس ولييّ من ميلي وانحطاط هواي)). فالعدو هنا هو كلّ من كان على خلاف في الدين والعقيدة أي عدو بالمعنى الديني، أمّا المسلم فليس عدوّاً ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[(62). فالإمام(ع) يقول ما معناه اجعلني يا ربّي أعيش التوازن في نظرتي إلى الأمور بحيث لو عاش عدوي معي وكانت له علاقات معي فإنه يقول إن فلاناً لن يظلمني لأنّه مؤمن، وإذا عاش صديقي ووليي معي فإنه يقول إن فلانا لن يحابيني لأنّه مؤمن لا يبيع دينه لحساب صداقته أو قرابته، ولكنّ بعض الناس يحبّون أن يتعقّدوا من الناس ويعقّدوا علاقاتهم بالناس.

وقد قال الإمام الصادق(ع): ((كونوا دعاة للناس كلّ الناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الصدق والخير والورع فإن ذلك داعية)). حتى أنّ النبي(ص) انفتح على أعدائه بكل أخلاقه، واستطاع أن يجذب الناس إلى الإسلام بأخلاقه. ولكننا نريد أن نبعد الناس عن الإسلام بسوء أخلاقنا ناسين أنّ الحقد لا يمكن أن يبني حقّاً، وأن البغض لا يمكن أن يفتح قلباً، وذلك هو قول علي(ع) ((إحصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك)) غير أنّنا - وللأسف الشديد تعلّمنا أن نحقد على الكافرين ثم أخذنا نحقد على المسلمين ثم بدأنا نحقد على من يلتقي معنا من أبناء مذهبنا الإسلامي، ثم تطوّر الأمر فصرنا نحقد حتى على أهلنا، فعندما تنطلق شرارة الحقد في قلبك فإنّها سوف تتحوّل إلى نار تحرقك وتحرق من حولك ]يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[(63). إن اللّه أعطاك قلباً صافياً لا حقد فيه ولا عداوة، ويريدك أن تأتيه يوم القيامة كذلك. فماذا أنت صانع؟ وإن قيمة هذا الخط الأخلاقي القرآني الإسلامي هو أنه يجمع إيجابيات الناس في كلّ القضايا الخاصّة والعامّة، ويؤكّد على نقاط اللقاء، ويوحي بأن الإنسان الذي نختلف معه دينياً أو مذهبياً أو سياسياً ليس شراً كلّه،  بل يحمل بعض الخير الذي هو حالة عامّة في الناس ولاسيما في الواقع الإسلامي على مستوى شخصيات التاريخ أو الحاضر ممن يملكون بعض الصفات أو المواقف أو الكلمات أو الأعمال الطيبة التي قد تلتقي بأكثر من قيمة أو فكرة إسلامية حتى لو كان أصحابها في خط الانحراف من خلال الخط المذهبي فإن العنوان الإسلامي يغتني بذلك كلّه، وقد أضاع المسلمون الكثير من تراثهم الفكري والأخلاقي والسياسي من خلال تعقيداتهم السلبية المطلقة ضد هذه الفئة أو تلك بإغفال كلّ إيجابياتهم الإسلامية بحجّة أن ذلك قد يجذب الناس إلى انحرافهم بانجذابهم إليهم وهو خطأ واضح لأن من الممكن إثارة الحديث حول الإيجابيات والسلبيات معاً.

الخَلقْ والاختلاف:

* قال تعالى ]وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ[(64). فهل معنى الآية الثانية إن اللّه خلقنا ويحبّ أن نختلف فيما بيننا؟

- إنّ اللّه لا يريدنا أن نختلف في الدين على أساس اختلاف أفكارنا من حيث طبيعة الفكر في الإسلام الذي يتعدد فيه الفهم، ولكنّه أرادنا أن نختلف في حركة الحياة، فهو يحب أن يأخذ هذا الإنسان بمهنة وذاك بمهنة أخرى، وأن يتحرّك هذا في علم وذاك في علم آخر حتى يحصل التنوّع في حركة الحياة.

أمّا بالنسبة إلى الاختلاف في الفكر وفي الدين فاللّه خلقنا كذلك، ولكنّه خلق لنا عقلا وإرادة، وأرسل لنا وحياً حتى لا تكون هذه الطاقة التي تؤدّي إلى الاختلاف ضائعة فيما بين الثقافات والتيارات لأنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول ]وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ[(65). وعلى ضوء ذلك فإن الاختلاف الناشئ من طبيعة التنوع في التكون الإنساني لا يمثل القضاء والقدر الذي يشل قدرة الإنسان على الحركة في خط التوجد أو التقارب بل يمثل حركة في خط الحوار والتفاهم.

لا تفقهون تسبيحهم:

* قال تعالى ]وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[(66). فهل المراد هو التسبيح التكويني، أو المراد التسبيح التشريعي؟

- الظاهر أن التسبيح على قسمين، أي أنّ كلّ صنف يسبّح فيما أودعه اللّه سبحانه وتعالى في داخله من وسائل التعبير عن تعظيم اللّه تبارك وتعالى، فهناك من يسبّح بلسانه وهناك من يسبّح أيضاً بصوته بطريقته الخاصة.

أمّا الجمادات فإنّها تسبّح من خلال ما أودعه اللّه فيها من أسرار العظمة التي إذا نظر اليها الناس في كيانها المهيب كالبحار والجبال فإنّها تسبّح ربّها بوجودها الذي جعله اللّه تعالى آية من آيات عظمته وجلاله وإبداعه، فهي الأخرى تظهر سرّ عظمة اللّه سبحانه وتعالى بطريقتها الخاصّة. وهناك بعض المفسرّين يرى أنّ لكلّ موجود لغة يسبّح اللّه بها، وهذا أمر ممكن في ذاته ولكن ليس لنا طريق إلى معرفته.

معنى (قيل):

* كلمة (قيل) معروفة بأنّها للتضعيف، فهل تستعمل هذه الكلمة في القرآن بمعنى التضعيف أم لا؟ كمثل قوله ]قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ[(67)؟

- ليست (قيل) كفعل مبني للمجهول للتضعيف، بل ربما تستعمل من أجل إرادة إهمال الحديث عن الفاعل القائل، لا من جهة أن القائل ينبغي أن لا يعرف، فهو حيثما يرد في الكتاب الكريم فإنّ القارئ يعرف من هو، ولكن من جهة أن الغرض يتعلّق بالمقول وليس بالقائل ]قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ[.  إن القائل كما هو واضح هو اللّه سبحانه وتعالى ولكنّ اللّه يعبّر عن الأشياء بأساليب متعددة لحكمة وبلاغة في التعبير، فلا يمكن أن تكون (قيل) في القرآن بمعنى التضعيف والقائل هو اللّه سبحانه وتعالى، إذ كيف يمكن أن يضعّف نفسه؟! ولكن قيل كما في المثال الذي أوردته ترتبط بما يراد لنوح أن يبلّغه باعتبار أنّه أدّى ما كلّفه اللّه به ووصل بسلام إلى شاطئ الأمان، واللّه العالم.

زيّن للناس حب الشهوات:

* يقول عزّ وجل في سورة آل عمران ]زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ[(68). فلماذا خوطب بالآية الرجال ولم يجمع السياق القرآني بين الرجال والنساء، ألم يزيّن لكلا الفريقين الشهوات؟

- إن كلمة (الناس) جامعة لكلا الجنسين، وربما جاء تغليب النساء باعتبار ما يرمز إليه من أنهنّ مطلوبات، أما بالنسبة إلى شهوة الرجل فهي التي تجتذب شهوة المرأة، بحيث تتحرك في حالة انفعال بها أو تفاعل معها في عملية الإثارة، وربما يرى بعضهم أن الرجل في العملية الجنسية هو العنصر الفاعل بينما تمثل المرأة العنصر المنفعل من الناحية الفعلية الأمر الذي يجعل للرجل أصالة فيها مع بعض التحفظات في ذلك. وربما لم يكن حديث المجتمع الإسلامي العربي الأول عن شهوة المرأة وعن حبّها للرجل حبّاً غرائزياً حديثاً مألوفاً، بل ربّما كانوا يستنكرون ذلك. ولذلك نلاحظ أنّ القرآن عندما يتحدّث عن الجانب الجنسيّ فإنّه غالباً ما يتحدث عن الجانب الجنسيّ بالنسبة إلى الرجل تجاه المرأة، وإن كان القرآن أشار إلى ذلك في (قصة يوسف) بالنسبة لامرأة العزيز وللنسوة اللاتي قطّعن أيديهن، واللّه العالم.

الاعتداء بالمثل:

* يقول تعالى ]فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ[(69). فإذا كان الاعتداء محرّما فهل يجوز أن نعتدي عليه بما اعتدى علينا مع أن فعله حرام؟

- ليس المراد ب(اعتدوا عليه) ما يتضمّنه الاعتداء من الإيذاء بدون حقّ، بل إنّ هذا من قبيل المحاكاة، أي أريد من معنى الاعتداء هنا القيام بعمل ضد الآخر، فإذا قام أحد بعمل مضاد فإنّ لكم أن تقوموا بعمل مضاد ضده، كما في آية أخرى ]وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ[(70). فالمقصود هو هذا، ويقول البعض من المفسرين أن المحاكاة جاءت بين الفعلين، وإلاّ لا إشكال بأنّ ردّ الفعل لا يعتبر اعتداء في مقام القصاص ]وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ[(71). واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على وجوب الدفع المثل أو القيمة في حالة الغصب في باب الضمان، مما يؤيد أن الاعتداء الثاني يشمل التغريم والتعويض والقيام بالعمل ضد رغبة المعتدي.

نسيان النفس:

* يقول تعالى ]وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ[(72). وتوجد أحاديث وخطب للأئمة(ع) تؤكّد أنّ نسيان النفس يؤدّي إلى نسيان اللّه، فهل أنّ معرفة اللّه تقود إلى معرفة النفس، أم العكس؟

- لمّا كانت نفس الإنسان مخلوقة للّه، ولمّا كانت هذه النفس تنفتح على صلاحها من خلال الانفتاح على اللّه تبارك وتعالى والشعور والإيمان بمعنى العبودية للّه سبحانه وتعالى فإنّ ذلك مما يصلحها في الدنيا والآخرة، وإلاّ فالمسألة هي أنّ الإنسان إذا نسي ربّه نسي نفسه وليس الأمر بالعكس. أما ما ورد في بعض الأحاديث ((من عرف نفسه فقد عرف ربّه)) فلأنّ التفكّر في النفس قائد لا محالة إلى معرفة الخالق العظيم، ومن يهمل ذلك فسوف لن يصل إلى معرفة اللّه فيكون ناسياً لربّه لأنّه أهمل مقدمة معرفة ربّه.

وعدان:

* ورد في القرآن الكريم وعدان لنهاية بني إسرائيل، وقد مرّ وعد الأولى، فما هو تفسيركم لوعد الآخرة؟

- هناك اختلاف بين المفسرين في تفسير الآية، فهناك من يرى أنّ الوعدين قد وقعا ومضيا، ولكنّ الكثير من المفسرين يقولون إنّ هناك وعداً جديداً، ونسأل اللّه تعالى أن يقيم الوعد على أيدي المؤمنين المسلمين.

هل المحاسبة على النوايا؟

* تقول الآية الكريمة }إن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ{(73) فهل المحاسبة الإلهية تترتّب على ما ينويه الإنسان، كما تترتب على أعماله؟

- الظاهر، واللّه العالم، أنّ المراد هو أنّ أعمالكم التي تعملونها سواء كانت خلفياتها بادية أو مضمرة فإنّ اللّه سبحانه وتعالى سوف يحاسبكم عليها، وأنّه يطّلع على سرّكم ونجواكم كما يطّلع على ظاهركم وعلانيتكم. وقد ورد في الحديث ((إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى)). فالله عزّ وجل يحاسبنا على الأعمال من خلال جوهر العمل وجوهر النيّة وهو المطّلع على النيّات.

توبة اللّه على النبي(ص):

* جاء في الآية الكريمة }لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ{(74) فما هو المقصود من التوبة هنا؟

- لم يتب اللّه سبحانه وتعالى على النبي(ص) عن ذنب لأنّ النبي معصوم، ولكن اللّه سبحانه وتعالى يلحق النبي(ص) بالمهاجرين والانصار باعتبارهم أصحابه، فالنسبة هنا بلحاظ الإلحاق.

وربما كانت التوبة على النبي(ص) تختزن معنى الرضا والمحبة لا كونها عفواً عن ذنب.

فصلِّ لربّك وانحر:

* قلتم في تفسير (انحر) في الآية }فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ{(75) أن النحر هو رفع اليد إلى النحر في التكبيرة، والمشهور أنّ النحر هو نحر الإبل أيّ الأضحية، ثم أنّ رفع اليد في التكبيرة أمرّ مستحب ، فما هو ردّكم؟

- ما قلناه هو أحد التفاسير، وما تذكره هو أحد التفاسير أيضاً، وما قلناه ينسجم مع قوله تعالى }فَصَلِّ لِرَبِّكَ {. ولا مانع من أن يكون رفع اليد إلى النحر مستحباً كونه يعطي نوعاً من الخضوع والخشوع للّه سبحانه وتعالى.

رضا اليهود والنصارى:

* ما معنى قوله تعالى }وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ{(76)؟

- يريد اللّه تعالى بذلك أنّ كلّ صاحب فكرة مهما جاملته وتقرّبت إليه فإنّ إخلاصه لفكرته وربّما تعصّبه لها، يجعله يشعر بالمضادة لك ما دمت في تفكير يختلف عن تفكيره، لأنّ العداوة هنا هي عداوة الأفكار لا عداوة الأشخاص.

فمعنى }لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ ولا النصارى{ أي أنّك يا رسول اللّه لن تبلغ الغاية في إرضاء اليهود والنصارى عنك، فما دمت مصرّاً على تبليغ الرسالة، فإنّهم سيبقون في خطّ المواجهة لك.

قتل النفس:

* يقول تعالى }وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ{(77) أفلا تتعارض الآية الكريمة مع العمليات الاستشهادية التي يقوم بها المسلمون ضد أعدائهم؟

- اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية ينهى عن قتل النفس انتحاراً لا في ساحات الجهاد والصراع مع أعداء اللّه والمؤمنين، فهناك من يفشل في أمر حياتي أو عملي فيقوم بقتل نفسه بالانتحار لأن اليأس عنده بلغ مبلغه.

إنّ العمليات الاستشهادية هي جزء من حالة الجهاد، فأنت حينما تخوض معركة غير متكافئة تعلم أنّك سوف تقتل، أو عندما تتمنطق بحزام ناسف لقتل عشرة من الأعداء أو أكثر أو أقل وتقتل نفسك كجزء من متطلّبات العملية، فهذا جهاد وليس انتحاراً، ولذلك فإنّ للعملية الاستشهادية شروطها وليست هي مجرد حالة إعلانية، فلابدّ أن تكون النتائج المتحققة من العملية الاستشهادية أكبر من قتل نفس المؤمن، والاّ إذا كانت أقلّ من ذلك فلا يجوز، فالغاية ليست الاستشهاد بقدر ما هي بذل النفس من أجل تحقيق النصر، ولذلك كان الإمام الخميني (رض) يقول لبعض من يطلبون منه الدعاء بالشهادة: أنا أدعو لكم بالنصر!! فالشهادة ليست مزاجاً وإنّما هي حركة من أجل النصر وبالتالي }قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ{(78) فإذا استشهد فله الجنة واذا انتصر فهو المرتجى }وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ{(79)؟

يسألونك عن الأنفال:

* ما معنى قوله تعالى }يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ{(80). ؟

- الأنفال هي المناطق التي تعتبر حسب العرف العام ملكاً للدولة مثل شطوط الانهار والبراري ورؤوس الجبال. والنفل هو الشي الزائد، فهي للّه تعالى وللرسول(ص) أي أنّها تحت سلطتهما ولابدّ للناس عندما يريدون استثمارها من الرجوع إلى الرسول(ص) ومن بعده إلى الإمام(ع).

}فَاتَّقُوا اللَّهَ{. في كلّ ما تمارسونه }وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ{. فيما يحدث من خلاف بين شخصين أو فريقين فإن عليكم أن تصلحوا بينهما، لأنّ اللّه تعالى يقول }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ{(81).

إعداد القوّة:

* يقول تعالى }وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ{(82). يفسّر البعض القوّة هذه الآية بأنّها قوة السلاح فقط، فكيف تنظرون إلى مفهوم القوّة في هذه الآية، وهل نستطيع أن نجعلها تتحرك في هذه الظروف التي نعيشها اليوم في فلسطين؟

- قد يكون المراد من القوّة هي قوّة السلاح، ولكن السؤال: لماذا قوّة السلاح؟ وذلك من أجل أن نحارب العدوّ من موقع قوّة، فإذا كان الصراع بيننا وبين العدو عسكرياً فلابدّ أن نستوحي من القوة قوة السلاح لنهزم بها العدو ونتوازن في القدرة على المواجهة.

وإذا كانت المواجهة سياسية فإننا نلاحظ أن (إسرائيل) لم تنتصر فقط في القوّة العسكرية، بل إنّها استطاعت أن تجمع أغلب الدول الاستكبارية لمصلحة سياستها ضد العرب، ولذلك فإننا بحاجة إلى العمل في سبيل أن نعدّ ما استطعنا من قوة سياسية.

وهكذا الحال بالنسبة للقوة العلمية، فهذا الكيان استطاع أن يتفوق في هذا المجال أيضاً حتى أنّ الصين وتركيا والهند باتت تحتاج إلى الخبرة الاسرائيلية العلمية والتكنلوجية والعسكرية، ولهذا استطاعت أن تسخّر هذه القوة لكي تقود الدول التي تحتاجها إلى تأييد سياستها أو على الأقل أن تخفّف من تأييدها للعرب.

فعملية صنع القوة بالنسبة للشعوب في كلّ حالات الصراع لا تقتصر على السلاح، بل لابدّ أن تشمل مواقع القوّة كلّها، فالكيان الصهيوني يخطط للسيطرة على العالم، ولذلك عندما يدخل الصهاينة في مكان ما فإنّهم يتوزّعون الأدوار الرئيسية في الامساك بخيوط التحرّك الاعلامي والاقتصادي والسياسي، فهم اليوم يمسكون بمفاصل الاعلام فيسيطرون على أجهزة التلفاز والصحف والاذاعات ووكالات الأنباء، فتراهم يرتّبون الأخبار حسب الطريقة التي يريدون.

فمثلاً، في الوقت الذي يعاني الفلسطينيون من المجازر الوحشية نرى أنّ الصحافة الغربية تتحدث عن تبادل العنف، حتى أن الطفل الفلسطيني (محمد الدرّة) الذي نقلت الفضائيات صوراً حية عن مقتله، حرّف الاعلام حقيقة مقتلة، وقال: إن مقتله كان نتيجة تبادل أطلاق النار، وقد يكون قتل برصاص فلسطيني. وحتى في الحديث عن القتلى فإنهم لا يذكرون هويتهم الفلسطينية مما يترك المستمع الغربي في تصوّر أن القتلى قد يكونون صهاينة أيضاً.

وفي قبال هذا التخطيط العلمي المدروس، ترانا نخطّط لاضعاف بعضنا بعضاً، فما من دولة عربية الاّ ولها ألف مشكلة ومشكلة مع دولة عربية أخرى. وخذ الشعب العراقي الجريح مثلاً، فرغم تعدّد الجهات والفصائل العاملة فإن الموقف يجب أن يكون موحداً إزاء طاغية يجب أن يسقط ثم يمكن أن نختلف فيما بعد، فلا يصحّ أن يكون النزاع على الخريطة من قبل أن نمتلك الأرض، أمّا اليهود الذين قال اللّه تعالى عنهم }بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى{(83). ومازالوا كذلك لكنهم يتضامنون أمام العرب حتى أنك تلاحظ أنّه رغم خلاف (الليكود) و(العمل) لكن هناك اتجاهاً يقدّر خطورة الموقف ويسعى لطرح حكومة وحدة وطنية.

نعم، نحن نتحمّس والحماسة مفيدة لكننا بحاجة إلى الفعل في جانب الحماس حتى نتوازن.

وجوب الحجاب:

* نرجو تفصيل وجوب الحجاب على المرأة بأدلّة من القرآن؟

- يقول تعالى }وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا{(84). وهو الوجه والكفان وربّما القدمان وما عدى ذلك فلا يجوز كشفه. ثم لماذا الأدلّة القرآنية فقط؟ فالله تعالى يقول }وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا{(85). فالنبي(ص) إذا قال فإنّ ذلك يعني أن القرآن قال وأنّ اللّه قال }مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ{(86).} قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ{(87). نعم، لابدّ من توثيق الأحاديث الواردة عن النبي(ص) وعن آل بيته(ع).

أهل النار:

* يقول تعالى }وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ{(88) فهل نفهم من الآية أنّ جميع من في النار هم كافرون؟

- إنّ اللّه يتحدث في هذه الآية عن الذين كفروا وعن الذين آمنوا في حوار يسمعه الطرفان، ولكن عندنا حديث يقول ((لا يدخل النار مؤمن)). ولكن هناك بعض الاحاديث التي تدل على أنّه قد يدخلها العصاة. وثمة فرق بين من يبقى في السجن المؤبّد وبين من يلبث لوقت معين }لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا{(89). واللّه أعلم.

آناء الليل:

* يقول تعالى }أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ{(90). فما معنى آناء الليل؟

- آناء الليل هي ساعاته.

إنّما أعظكم بواحدة:

* ما هو تفسيركم لقوله تعالى  }قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ{(91)؟

- جاءت هذه الآية لتعلّم النبي(ص) كيف يردّ على اتهام المشركين له بالجنون، فعندما لم يقبل أحد منهم باتهام النبي(ص) بأنه شاعر وأنّه ساحر وأنه كاذب وأنه كاهن، وبأن آيات القرآن  }أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا{(92). وأنّه يعلّمه بشر وإلى آخر ما هناك من اتهامات، عند ذلك قالوا إنه مجنون.

وعندما يتهمك شخص بالجنون فإنّ أعصابك لابدّ أن تتوتر، لأنّه يفقدك بذلك معنى وجودك في المجتمع. ذلك أن المجتمع يفصل المجنون عن ساحته فلا يتقبّل مما يقوله شيئاً. ولذا أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يعلّم نبيّه(ص) بأن لا يردّ الكلمة بالكلمة، وأن لا يقول لقومه إنّه ليس بمجنون، ولكن أن يعلّمهم المنهج في الحكم على الأشياء حتى يستطيعوا من خلال اتباع المنهج الوصول إلى النتيجة التي يريدها(ص).

}قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ{ . وهي أن تبتعدوا عن هذا المجتمع الذي أنتم فيه، لأنّ الإنسان عندما يعيش في قلب المجتمع يفقد استقلاله الفكري، وهذا ما يمكن رصده وملاحظته في المظاهرات، فالفرد يذوب في بوتقة الجماعة، فإذا ما ردّدوا: (يعيش) صاح: (يعيش) وإذا ما هتفوا: (يسقط) تراه يردّد: (يسقط) ولكن لو سألته لم فعلت ذلك؟ فإنّه قد لا يجد تفسيراً معقولاً لتصرّفه، فهو مشدود تلقائياً إلى الجوّ الذي يطلق عليه علماء النفس بـ (العقل الجمعي). فالإنسان الفرد إذا انخرط في المجتمع فإنّه يندمج بالشخصية الاجتماعية ويفقد شخصيته الفردية فلا يعود يفكّر بشكل مستقل. فلقد كان (أبو لهب) يمشي خلف النبي(ص) ويصيح إنّه مجنون وإذا بأبناء قريش يردّدون خلفه إنّه مجنون.

فالموعظة هنا هي بعدم الانطلاق من العصبية، بل من خلال الإخلاص للّه سبحانه وتعالى، و(فرادى) بأن يفكّر كلّ فرد دون تأثير خارجي عليه، ثم ينصّب التفكير في كلمات الرسول(ص) هل هي كلمات عاقل، أم هي كلمات تدل على خلاف ذلك؟ وفي سلوكه: هل هو سلوك الإنسان العاقل أم سلوك الإنسان غير السوي؟ فإذا ما فعلتم ذلك فإنكم ولاشك واصلون إلى نتيجة غير تلك التي استخلصتموها وأنتم واقعون تحت تأثير العقل الجمعي، ذلك أنّ المنهج العقلاني الهادئ الذي يتحرك في نطاق الفكر لابدّ أن يقود إلى الحقيقة، وأنّ ما يحجب الحقيقة هي الغوغاء والضوضاء، ولذا يحتاج المرء إلى جوّ هادئ بعيد عن التشنّجات والانفعالات حتى يصل إلى النتائج العلمية في تفكيره.

ولذلك أيضاً فإن ما يصل إليه المفكّر بانفراد وعقلانية هادئة سوف يعرف أنّ النبي(ص) }إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ{. يعطيكم الخط المستقيم ويبشّركم بالجنّة ويحذّركم النار.

فالآية الكريمة واردة في التخطيط للمنهج في التعامل مع الاتهامات الحادّة.

ما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب:

* يقول تعالى  }وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ {  فهذا المقطع من الآية يدل على أنّ الرسول(ص) لم يكن على اطلاع بأنّه سيكون نبيّاً، لكن السياق قد يساعد على خلاف ذلك إذ جاء بعد ذلك قوله عزّ وجل  }إلاّ رحمة من ربّك{(93)؟

- الاستثناء هنا ليس استثناء متصلاً ولكنّه استثناء منقطع فيكون المعنى ولكن رحمة من ربك، وهذا ما يفسره قوله تعالى }مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ{(94). وكلّ الآيات الأخرى التي تدلّ على أنّ الوحي كان متأخراً عن الرسالة.

ويومئذ يفرح المؤمنون:

* يقول تعالى }وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ{(95). فما هو المقصود بذلك اليوم؟ وما هي شروطه؟

- شرطه قوله عزّ وجل  }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{(96). فعلينا أن نعمل من أجل تحقيق أسباب النصر وإعداد أسباب القوة وتوحيد الصفوف وإجادة التخطيط لنطلب من بعد ذلك النصر من اللّه، ذلك أن من الذين لا يستجاب دعاؤهم الشخص الذي يجلس في داره ويقول : اللهم انصرني، اللهم ارزقني.. كما هو حال البعض ممن يدعو أن يقتل اللّه اليهود من دون أن يكلّف نفسه البحث في الطرق التي تؤدّي إلى خلاص المسلمين من أعدائهم، فلقد جعل اللّه لكلّ شيء سببا، ولم يرد للمسلمين أن يوكلوا تكاليفهم ومسؤولياتهم إليه، فالشرط إذن ترتيبي: نصرةٌ من المؤمنين لدين اللّه بالجهاد في سبيله ثم نصرٌ من اللّه لعباده المؤمنين.

والرجز فاهجر:

* يقول تعالى }وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ{(97). فما هو الرجز؟

- الرجز هو كلّ شيء خبيث، وكلّ ما يعبّر عن المعاني التي تحيط بالخبث.

ولكن يناله التقوى منكم:

* ما هو تفسير الآية الكريمة }لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ{(98) وما هي العلاقة بين اللحوم والدماء والتقوى؟

- إنّ اللّه سبحانه وتعالى يتحدث في هذه الآية عن الأضحية التي يقدّمها الإنسان في حجّه، فكأنّه يقول له إنّك تتقرّب بها الى اللّه سبحانه وتعالى من خلال ما تمثله الأضحية من القربان وما تمثله من الطعام للبائس والفقير، ولذلك فإنّ اللّه عزّ وجل لا يستفيد منها، كما ان اللّه تعالى لا يستفيد من صلواتكم وصومكم وحجكم وسائر عباداتكم }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا{(99). ولكنّ ذلك كلّه يعمّق معنى التقوى في نفس المتقرّب بالقربان الذي يمثل عمله الخشية من اللّه والمحبّة له والرغبة في القرب منه.

الاكتفاء بالنصّ القرآني:

* ألا يمكن أن يكتفي المسلمون بالنصّ القرآني الذي لا خلاف في صدوره عن اللّه سبحانه وتعالى وذلك في قضاياهم الحياتية العامّة، لأنّ الرواية بما يحيط بها من احتمالات الصحة والخطأ هي السبب في تشرذم الآراء؟

- إنّ اللّه تعالى يقول }وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا{(100) ويقول }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ{(101) ويقول }مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ{(102) ويقول }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ{(103) ويقول }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا{(104). وفي هذه الآيات دلالة على أن السنّة مكمّلة للقرآن، وأن المسلم مسؤول عن العمل بها كما هو مسؤول عن العمل بالقرآن، لاسيما أن السنّة قد فصّلت ما أجمل القرآن، وبيّنت ما لم يبيّنه، الأمر الذي يدلّل على أن الإسلام ينطلق منهما معاً. فإن الرسول(ص) هو رسول اللّه فيما أوحى به من القرآن أو فيما ألهمه من التشريع مما تعرض إليه في الخطوط العامّة أو في الخطوط التفصيلية على مستوى التطبيق. وأمّا الروايات التي بين أيدينا فعلينا أن نخضعها للأسلوب العلمي والموازين الموجودة لدى السنّة والشيعة. وقد يختلفان في التقويم ولكن تبقى هناك موازين للحكم على الصّحة وعدمها.

الأئمة والوارثون:

* ما هو المعنى الذي نستوحيه من كلمة (أئمة) وكلمة (الوارثين) وكلمة (الإرادة) في قوله تعالى }وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ{(105) ؟

- المراد بكلمة الأئمة هو (القيادة) التي تقود المستضعفين إلى النصر، وأمّا كلمة (الوارثين) فيراد بها المسيطرون على الأرض من خلال بسط سلطتهم عليها.

وأمّا (الإرادة) فهي ليست إرادة تكوينية ولكنها إرادة تنطلق من تهيئة الوسائل المناسبة بما يختزنه المستضعفون من إرادة القوة }وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ{(106). فهي شيء من الغيب وشيء من إرادة الإنسان.

الظهور على الدين كلّه:

* ما هو تفسير قوله تعالى }لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ{(107)؟

- إنّها نزلت في الرسول(ص): }هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ{.  وكانت مسألة الظهور نسبية في زمن النبي(ص) وامتدادية فيما بعده، وسوف يكتمل الظهور علىالدين كلّه عندما تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا بظهور الإمام المهدي r.

ليؤمنن به قبل موته:

* ما تفسير قوله }وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ{(108)؟

- المراد بأهل الكتاب هنا هم اليهود، وورد في بعض التفاسير أنّ المراد ب(يؤمنن به) هو عيسى(ع)، حيث وردت روايات تشير إلى أنّه يخرج في آخر الزمان فيؤمنون به، وربما يعاينون ذلك فيما ينكشف لهم.

بقية اللّه:

* في قوله تعالى }بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ{(109). ما هو المقصود ببقية اللّه؟

- وردت الآية في الحديث عن زمن موسى(ع) وهي تنطبق على كلّ ما يبقى مما ينفع الناس ويصلحهم ومما يتصل بما يريده اللّه ويرضاه ويحبّ لهم.

حسن الظنّ بالحواريين:

* هناك رأي لأحد العلماء يقول فيه: ((أنا لا أحسنُ الظنّ بالحواريين لأنّهم جميعاً قالوا بالثالوث المقدس))؟

- هو يقول ذلك، واللّه يقول على لسان عيسى(ع) }قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ{(110).

الظنّ غير الإثم:

* يقول تعالى }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ{(111) فهل هناك ظنّ لا يعتبر اثماً؟

- نعم، يمكن أن يكون ظنّك بإنسان ما ظنّاً حقيقياً، وإلاّ فقول اللّه عزّ وجل يعني أن ليس كلّ ما ظننت هو حق، فقد يكون ما ظننت إثماً لأنه غير حقيقي، وقد يكون فيما تظنّ الحق.

الإكراه في الدين والحرية:

* يقول اللّه سبحانه وتعالى }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{(112) ولكننا نجد خلاف ذلك من القوانين الصارمة والأحكام التعسفية في الكتب الإسلامية، فاين هي الحرية في اعتناق الإسلام؟

- يقول اللّه تبارك وتعالى }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ{ بمعنى أن لا حاجة للاكراه البتة، فالقضية واضحة وضوح الشمس، أفيمكن أن اكره إنساناً على الإيمان بوجود الشمس والشمس مشرقة؟

وإمّا الارتداد فالإسلام لا يقتل الكافر لمجرد كفره، ولذلك نراه قد دخل في معاهدات مع اليهود والنصارى والمجوس باعتبار انهم أهل ذمّة أو أهل عهد، فتراهم موجودين في العالم الإسلامي منذ بدء الدعوة الإسلامية وحتى الآن، ولم يجبرهم أحد على أن يكونوا مسلمين. لكن المسلم إذا ارتدّ وأعلن ارتداده فهو إنما يقوم بعملية تخريب للنظام. إمّا إذا كان مرتداً وعرفنا ارتداده ولم يعلن ذلك على الناس فليس عليه شيء. وهذه المسألة لا تدخل في نطاق حرية الفكر بل في حماية النظام وهناك مسألة مهمة في هذا الجانب وهي أنه إذا التبست عليك الأمور وداخلتك الشبهات ففي الإسلام علماء ومفكرون يمكننك أن تناقشهم ويناقشوك فإمّا أن تقنعهم أو يقنعوك.

قرب النصارى من المؤمنين:

* قال تعالى }لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ{(113) ولقد كان اليهود وما زالوا أشد عداوة للمسلمين، ولكن هل النصارى اليوم هم اقرب مودة للذين آمنوا؟

- الآية لا تتحدث عن العلاقة بيننا وبين المسيحيين بالمطلق، فاللّه عزّ وجل يقول }ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ{ فإذا تحوّلوا إلى مستكبرين فمن الطبيعي أن يكون حكمهم حكم المستكبرين. بل إننا نرفض التعامل مع المسلمين إذا اخذوا بأسباب الاستكبار في الواقع الإسلامي لأن الإسلام يرفض الاستكبار من كلّ الناس لأنه من أخلاق الكفر لا من أخلاق الإسلام.

إبراهيم(ع) أمّة:

* قال تعالى }إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً{(114) فهل هو أمّة بذاته؟

- لقد كان إبراهيم(ع) يمثل في موقعه وموقفه وتطلعاته ورسالته أمّة، وقد يكون المؤمن الفرد الذي يبلّغ رسالات اللّه ولا يخشى أحداً إلاّ اللّه أمّة فيما يمكن أن تقوم به أمّة مؤمنة عاملة (أي جماعة من الناس) انطلاقاً من أن جهوده الجبّارة تساوي في عطائها وتأثيراتها ما تقدمه تلك الأمّة.

هل هذا من الجبر؟

* يقول اللّه تبارك وتعالى }وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللّه رَبُّ الْعَالَمِينَ{(115) ويقول }وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللّه رِزْقُهَا{(116) ويقول }وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ{(117) فهل ظواهر هذه الآيات توحي بالجبرية؟

- أين الجبرية في ذلك؟ أن الجبرية تعني انك لا تفعل شيئاً بإرادتك بل أن اللّه عزّ وجل هو الذي يفعل، فأمّا قوله }وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللّه رَبُّ الْعَالَمِينَ{ أي ما يشاء اللّه في الإطار التنظيمي وليس بمعنى أن يتدخل في إرادتك المعصية عندما تعصي، أو بإرداتك الطاعة عندما تطيع، فمشيئة اللّه هي إرادته ولكن اللّه سبحانه وتعالى يريد الأشياء بأسبابها ومن أسباب الأشياء اختيار الإنسان، فالاختيار هو جزء من السبب.

وأمّا قوله تعالى }وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللّه رِزْقُهَا { فاللّه هنا يبيّن انه نظّم الكون وجعل لكلّ دابة رزقها ومستقرها. ولكن جعل للرزق أسبابا بيد الإنسان أو بيد الحيوان فيما الهم به الحيوان من وسائل طلب الرزق، ولذلك نراه يقول }فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ{(118) أي انه هيّأ الأسباب وطلب من الإنسان أن يسعى لكسب رزقه المهيّئ هنا وهناك.

وأمّا قوله }وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ{ فقضية الموت والحياة لا جبرية فيها في المسألة المطروحة في قضايا الجبر والاختيار بل هي مرتبطة بمصير الإنسان هي في يد اللّه وعلمه ولا دخل للإنسان فيها ولكنّها وبأسبابها ايضاً، فاللّه يميت الإنسان إمّا بذبحة قلبية أو برصاصة أو بأي سبب من أسباب الموت وربما تكون بيد الإنسان الذي يلقي بيديه إلى التهلكة وهي كثيرة، لكن اللّه الذي خلق الكون يعلم كلّ ما يحدث للإنسان في ولادته وفي وفاته وما بينهما.

إستغفار اللّه واستغفار الرسول(ص):

* ما الذي نفهمه من الآية المباركة }وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوَّابًا رَحِيمًا{(119)؟

- إنّ الآية الكريمة تتحدث عن بعض المنافقين بأنهم لو ظلموا أنفسهم بمعصية اللّه وبما يخططون له من وسائل النفاق، ندموا واستغفروا اللّه من ذلك وعزموا على تركه وطلبوا من النبي(ص) أن يستغفر لهم اللّه لقربه منه لوجدوا اللّه تواباً رحيما.

فاللّه يغفر لمن ظلم نفسه تاب توبة نصوحاً }وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ{(120).

الاستغفار المباشر وغير المباشر:

* جاء في سورة (المنافقون) }وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ{(121). فهل يمكن للمؤمن أن يدعو اللّه ويستغفر بواسطة النبي محمد(ص) وآل محمد(ع) وغيرهم كالصالحين والأولياء والشهداء في حين يمكن له أن يدعو ويستغفر مباشرة؟

- إنّهم عندما كانوا منافقين فإنّ النفاق كأمر طبيعي يمثل الابتعاد عن الرسالة وعن الرسول(ص) ولذلك فإن مجيئهم إلى الرسول(ص) يمثل التراجع عن موقعهم في النفاق وطلبهم منه أن يستغفر لهم اللّه دلالة على توبتهم. ومن الطبيعي فإنّ النبي(ص) عندما يستغفر اللّه لهم فليس معنى ذلك أنهم لا يستغفرون اللّه، لأنهم عندما يأتون إلى النبي(ص) تائبين نادمين فلابدّ وأنّهم كانوا قد استغفروا اللّه قبل ذلك، وهذا ما تؤدّي إليه الآية الأخرى }وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ{(122).

فالآية الثانية أرادت أن تبيّن في أن المجيء إلى الرسول(ص) وطلب الاستغفار لهم هو من أجل أن يعيشوا جوّ الاستغفار، ولكنّهم وبسبب من إصرارهم على النفاق تراهم يقابلون تلك الدعوة بليّ رؤوسهم دلالة الرفض لتلك الدعوة.

أشدّ حبّاً للّه:

* يقول اللّه تعالى }وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه{(123). فكيف نستطيع أن نصل إلى درجة حبّ اللّه حبّاً يجعلنا نخشع في صلاتنا فتطمئن قلوبنا؟

- يحصل ذلك بالتفكّر فيما يحبّب اللّه إلى النفس. فنحن مثلاً نحب الذين يملكون علماً كبيراً، ونحب الذين يملكون قوّة، ونحب الذين يملكون جمالاً، ونحب الذين ينعمون علينا ويحسنون إلينا، ألسنا نعيش مثل هذا الحبّ المتحرّك في حياة الناس؟

وإذاً، فعندما تحبّ الذين يملكون العلم لعلمهم، اعرف }وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ{(124). واعرف }وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ{(125). وعندما تحب الذين يملكون الجمال فاستغرق في الذي خلق الجمال، والذي لا جمال إلا جماله وكلّ جمال فهو عرض وجماله هو الجوهر، وإذا رأيت الأقوياء واحببتهم لقوّتهم وشجاعتهم فاقرأ }أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا{(126). و}إِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا{(127). واقرأ }يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ{(128). }وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{(129). فأيّ قوي يقترب من هذه القوة واللّه هو الذي أعطى القويّ قوته؟!

وعندما تستغرق في العناصر التي تحبّبك إلى الناس وكلّها من اللّه المنّان استغرق في كلّ صفات اللّه }لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى{(130). فكلّ حمد فهو مستمدّ من حمده، وكلّ جمال فهو مستمد من جماله وكلّ قوة فهي مستمدة من قوته.

واللّه سبحانه وتعالى يتحدّث عن هؤلاء فيقول }وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّه وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه{(131). والحبّ للّه أيّها الأحبّة كما نؤكد دائماً ليس نبضة قلب ولكنها حركة كيان }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي{ .. لأنّي أمثّل إرادة اللّه سبحانه وتعالى }يُحْبِبْكُمْ اللّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ{(132).

لكن مشكلتنا أنّنا نستغرق في الناس أكثر من استغراقنا في اللّه }وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّه فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ{(133).

معنى نسيان اللّه:

* قال تعالى }وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا{(134). وفي آية أخرى يقول تعالى }الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ{(135). فما معنى نسيان اللّه هنا؟

- في الأولى: }وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا{. فإنّ اللّه سبحانه وتعالى لا ينسى لأنّ كلّ الأشياء حاضرة بين يديه، أمّا النسيان في الآية الثانية فهو الإهمال، وهو ما ورد في قوله تعالى }قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى{(136). فتُنسى هنا تعني تُهمل. وكذلك }نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ{. لأنّ نسيانهم للّه جعلهم يهملونه فجازاهم اللّه إهمالاً باهمال.

قال إنّي سقيم:

* قال تعالى }فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ{(137). فما معنى هذه الآية؟

- عندما أراد النبي إبراهيم(ع) أن يلقي الحجّة على قومه الذين كان بعضهم يعبد الكواكب وبعضهم يعبد الشمس والبعض الآخر يعبد القمر، فإنّه أراد أن يقف موقفاً تمثيلياً إيحائياً. فقوله }إِنِّي سَقِيمٌ{. إشارة إلى الحالة النفسية التي كان يعيشها جرّاء عبادة قومه لغير اللّه، فنظرته في النجوم المعبودة من قبل قومه من دون اللّه لا ترضي حاجته الأساسية لعبادة خالق هذه الكائنات ومدبّرها ومسيّرها، ليوحي بذلك إلى قومه كيف هو الخلل في عبادتهم لتلك المخلوقات التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرّاً إلاّ ما أراده اللّه لها من وظائف محدّدة ومعروفة لكنّهم لم يوافقوه على ذلك فولّوا مدبرين.

كيف نعقل الأمثال؟

* جاء في القرآن الكريم }وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ{(138). فإذا كانت الأمثال لا يعقلها إلا العالمون حينما تضرب فلماذا توجّه إلى الناس؟

- إنّ اللّه يريد للناس أن يكونوا العالمين، ويريد للعالمين أن يعلّموا الناس الآخرين، فلقد جاء القرآن من أجل أن يجعل كلّ إنسان سائراً في حركة، العلم ولذا قال }وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا{(139). وهذا موجّه إلى كلّ إنسان. ولذا قال أيضاً }قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ{(140).

أخو مدين:

* جاء في الكتاب المبين }وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا{(141). فكيف يكون شعيب وهو نبيّ من أنبياء اللّه أخاً لأهل مدين وهم مشركون؟

- إن الذي ينتمي إلى عشيرة معينة يقال له أخو العشيرة الفلانية، أي ينسب إلى عشيرته، فهو منهم أي من بلدهم وليس بالضرورة أن يكون على شاكلة اعتقادهم.

إختلاف الأمّة الواحدة:

* قال تعالى }وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{(142). فمن أين - اذ جعلهم أمّة واحدة - يأتي الاختلاف بينهم؟

- عندما يجعلهم أمّة واحدة، بحيث تكون عقولهم واحدة وظروفهم واحدة وحاجاتهم واحدة وأحلامهم واحدة، يمكن أن نتساءل كيف: فكيف يأتي الاختلاف؟! ولكنّ اللّه سبحانه وتعالى أراد للناس أن يعيشوا غنى التنوّع في العقل وفي الفكر وفي التجربة وفي حاجات الحياة. ومن الطبيعي أنّ اختلاف هذه الحاجات واختلاف الأفكار والتجارب لابد أن ينتج اختلافاً بين الناس، ولكنّ اللّه عندما جعل طبيعة التكوين الإنساني في الواقع الذي يعيش فيه الإنسان فرصة للاختلاف لم يجعل الإنسان متجمّداً إزاء الاختلاف، ولم يجعل الاختلاف شرّاً، بل قال للناس لو تنوّعتم في حاجاتكم فإنّكم تستطيعون أن تتوحدوا في تكامل هذه الحاجات وفي معالجتها، ولو تنوّعتم في أفكاركم فهناك العقل الذي يتحرّك من أجل أن يزاوج الفكر بالفكر، وأن يفتح العقل على العقل، وهكذا.

فالاختلاف غنى لأنّه يثري التجربة الإنسانية ويثري الواقع الإنسانيّ، ولكنّ المشكلة هي أنّنا لا نعرف كيف ندير خلافاتنا. ولعلّي قد تحدّثت أكثر من مرّة أنّ مشكلتنا ليست في أنّنا لا نعرف كيف نتفق، ولكن المشكلة هي أنّنا لا نعرف كيف نختلف، لأنّنا إذا تعلمنا كيف ندير خلافاتنا فإنّها لن تتحوّل إلى شيء يهدم حياتنا وحضارتنا بل تتحولّ إلى شيء يغني ذلك كلّه ويشق الطريق نحو ما نلتقي عليه ويفتح العقل على الحوار فيما نختلف فيه.

فعلينا أن نتعلّم كيف نختلف لا أن نتعلّم كيف ننتج الخلاف، وكيف نحرّك هذه الاختلافات، فإذا اختلفنا فلا نتعادى، وإذا اختلفنا في المواقع فلا نتحارب، فالقصة هي كيف تكون إنساناً في حركة الاختلاف بينك وبين الآخر، وقد ذكرت اكثر من مرّة أنّك إذا كنت تختلف عن الآخر فمعنى ذلك أنّك تجد لنفسك الحق في أن تختلف معه. فلماذا تفكّر في أنّ من حقك أن تختلف مع الآخر ولا تمنح الآخر حريته في أن يختلف معك؟ فالأساس الذي اختلفت فيه مع الآخر هو أنّ فكرك لم يلتق بفكره وربما لم يلتق فكره بفكرك، فلماذا تعطي لنفسك الحرية في أن تختلف معه وتحجب عليه حريته؟ فإذا كان قد اختلف معك فقل عسى أن يكون قد اختلف معي عن شبهة، كما يمكن أن أكون قد اختلفت معه عن شبهة، وقمة الأسلوب القرآني الذي لم يتعلّم منه المسلمون أنّه يعطي الطرف الآخر الجوّ والمناخ الذي لا يشعر فيه بالحكم السلبيّ من خلال محاوره }وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ{(143). فمن منّا، سواء في الحوزات العلمية والمواقع السياسية والاجتماعية والثقافية، يقول ما علّم اللّه رسوله أن يقوله للكافرين والمشركين؟!}وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ{. فالحال الآن أنّني على الهدى وأنت على الضلال، وأنا المؤمن وأنت الكافر، فلماذا تجعل من نفسك ديّاناً للناس؟ لماذا تعتبر نفسك تمتلك الحقيقة المطلقة، فهذه التي تعتبرها هي من وجهة نظرك وتلك التي اعتبرها حقيقة هي كذلك من وجهة نظري، فتعال لنفتح وجهة نظري على وجهة نظرك فلعلّنا نلتقي في نهاية المطاف عندما يفهم أحدنا الآخر، ولكنّنا ـ في هذا الشرق ـ تعلّمنا حوار الطرشان فأنت تتكلّم ولا أسمعك، وأتكلم فلا تسمعني، ونبقى نتكلّم ونتكلّم ولا يسمع أحدنا الآخر.

كباسط كفيه إلى الماء:

* ماذا يريد اللّه سبحانه وتعالى من المثل في (سورة الرعد) }إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ{(144)؟

- هذا مثله مثل العطشان الذي يريد أن يشرب الماء فيبسط كفّيه إلى الماء، فلعلّ الماء يقفز إلى كفيه ثم يرتفع إلى فمه وهذا أمر لا يتحقّق في الواقع، وكذلك هو حال المشرك باللّه سبحانه وتعالى، فهو لا يقوم بالوسائل التي ترفع الفكرة التوحيدية إلى عقله من أجل أن يهتدي بها، واللّه العالم.

إنقاص الأرض من أطرافها:

* جاء في كتاب اللّه }أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا{(145). فما معنى إنقاص أطراف الأرض؟

- بعض المفسرين فسرّ الآية تفسيراً طبيعياً وهو أنّ اللّه سبحانه وتعالى يُنقص حجم الأرض في مدى الزمن، وبعضهم فسّرها تفسيراً معنوياً وهو موت العلماء باعتبار أنّهم يمثّلون الامتداد الفكري والعلمي والروحي للأرض فإذا مات العالم ثلم ثلمة لا يسدّها إلا عالم مثله.

اليقين بالغيب:

* ورد في فاتحة (سورة البقرة) }الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ{(146). وورد في (صفات المتقين) كما في (نهج البلاغة) ((وفي الآخرة هم يوقنون)). فلماذا ذكر الكلّ ثم الجزء؟

- إنّهم يؤمنون بالغيب ومن إيمانهم بالغيب إيمانهم بالآخرة، فقد وصل إيمانهم إلى حدّ اليقين الذي هو أعلى درجات الإيمان، فالإيمان نوع من أنواع اليقين، فمتى يؤمن الإنسان؟ عندما يستيقن ويتأّكد من الفكرة، ولذلك قال اللّه سبحانه وتعالى }وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{(147). ليبيّن أن مسؤولية الإنسان بالإيمان بالآخرة منطلقة من إيمانه بالغيب. وهناك نقطة أخرى وهي أن الإيمان بالآخرة يمثل أصلاً من أصول الدين في العقيدة الإسلامية، فمن جحد الآخرة كان كافراً، بينما قد لا تكون بعض مفردات الغيب الأخرى بهذه المثابة، وهذا هو الذي جعل الآية تنصّ عليها بخصوصيتها العقيدية ولم تنص على غيرها، واللّه العالم.

شرّ الدواب:

* في الآية الكريمة }إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ{(148). فهل رفع التكليف عنهم بالنسبة لمن لا يعقلون ومنهم المجانين والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم؟

- الظاهر ـ واللّه هو العالم ـ أن الآية واردة بالنسبة للعقلاء الذين لا يعقلون، أي الذين لهم عقول ولكنهم لا يعقلون بها.

ننجّيك ببدنك:

* قال تعالى }فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ{(149). فما هو تفسير هذه الآية؟

- هذه الآية الكريمة وردت في فرعون عندما أغرقه اللّه وقد كان يلاحق موسى(ع) وقومه فجعل اللّه سبحانه وتعالى لهم طريقاً في البحر يبساً لينقذهم من فرعون وبطشه ويهلك فرعون وجيشه، فالقى اللّه بدن فرعون على الشاطئ حيث لفظه البحر حتى يكون آية للناس، أي أنّ اللّه تبارك وتعالى أراد أن يقول للناس: أيّها الناس هذا هو الذي قال }أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى{(150). انظروا إليه كيف أصبح جثة هامدة لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّا. وإنّ هناك الكثير من الآيات الربانية التي تعرّف الناس ربّهم في مواقع عظمته لكنّهم غافلون عنها وعمّا يراد بها.

تقوى النبي(ص):

* قال تعالى }يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّه وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا{(151). فما هو المراد من تقوى النبي(ص)؟

- إنّ اللّه سبحانه وتعالى يخاطب نبيه(ص) في هذه الآية بأن يأخذ بأسباب التقوى، والخطاب للنبي(ص) في القرآن هو في الحقيقة خطاب للأمة كلّها لأنّ اللّه سبحانه وتعالى يخاطب الأمّة في القرآن من خلال النبي على طريقة ((إياك أعني واسمعي يا جارة)). كما ورد في الحديث عن الإمام الباقر(ع). أمّا (الطاعة) في قوله تعالى }وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ{. أي لا تتأثر سلبياً بأساليب الذين يحاولون أن يتحرّكوا بالأساليب الخادعة التي تسعى لأن تصدّك عن السبيل، وهيهات، فقد كان النبي(ص) بما توافر عليه من تقوى اللّه وطاعته أقوى من أساليبهم ومن خدعهم ومؤامراتهم.

الخطاب القرآني لنساء النبي(ص):

* يقول اللّه تعالى }يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا{(152). مع أنه تعالى لم يحل له النساء فيما سواهن؟

- تارة يهدّد اللّه سبحانه وتعالى نساء النبي بتسريحهن وتارة يحرّم عليه استبدالهن بغيرهن، فأيّ منافاة بين هذا وذاك؟ فاللّه عزّ وجل يضع نساء
النبي(ص) في الخيار، وهذا من الروحية العالية التي كان يتعامل بها رسول اللّه(ص) مع أزواجه، فاللّه يقول إنّ نساء النبي(ص) لابدّ أن يتحملن الكثير من المشقّات على أساس موقعهن من صاحب الرسالة، ولذا خاطبهنّ بما لم يخاطب به نساء المسلمين }يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ{(153). فإذا كنتن غير مرتاحات لهذه الحياة التي تعشنها مع النبي(ص) فانا أي الرسول مستعد أن أطلق سراحكن، وإذا فعل فليس من الضروري أن يتزوّج، ولا من الضروري أن يطلبن كلّهن هذا الشيء، فالآية ليست واردة في هذا المجال الذي يطرحه السؤال. وربما كانت الآيات المانعة عن الاستبدال متأخرة نزولاً وحكماً عن هذه الآيات.

لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً:

* قال نوح(ع) }وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا{(154). فما معنى قوله تعالى؟

- عندما استنفد نوح(ع) تجربته الدعوية في مدى (950) سنة ولم يبق هناك أيّ أسلوب وأية وسيلة يمارسها لهدايتهم وهم يصرّون ويستكبرون ولم يؤمن منهم إلا القليل، التجأ إلى اللّه سبحانه وتعالى بالخطاب أن هذا الجيل ليس فيه أية فائدة ترجى فاهلكهم يا ربّ - حتى يأتي جيل جديد يطيعك ويعبدك لا يعبد سواك، لأنّك يا ربّ إن تذرهم يعيثوا في الأرض فساداً فإنّهم يضلّون عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً، لأنّهم سوف يسيطرون عليه ويربّونه على أساس الكفر والفجور.

الطاعة لأولي الأمر:

* يقول اللّه سبحانه وتعالى }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ{(155). فلماذا وردت كلمة (اطيعوا) مرتين فقط وليس ثلاثاً؟

- ذلك باعتبار أنّ إطاعة أولي الأمر إنّما هي ملحقة بإطاعة الرسول(ص) وعلى هذا الأساس فهي ليست مستقلّة في ذاتها بل هي من شؤون الرسالة وتوابعها، واللّه العالم.

تكرار الصلاة:

* إذا صلّيت وكنت مشغولاً بالتفكير بأمور دنيوية فهل يصحّ مني أن أصلّي مرة ثانية لكي اتوجّه في صلاتي أكثر أم لا يصحّ؟

- يجوز للإنسان أن يكرّر صلاته، لكن لا يجب عليه ذلك، وإذا صلّى فإن اللّه يختار أحبّهما إليه.

تدبير الأمر:

* ما معنى قوله تعالى }يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ{(156)؟

- يبيّن اللّه هيمنته على الكون كلّه لكن اللغة العربية لا تتحمل بخصوصياتها الحديث عن أفعال اللّه سبحانه وتعالى باعتبار أن هذه اللغة ولدت ووجدت من خلال حاجات الإنسان مما ألهمه اللّه أن يعبّر عنه من خلال تجاربه الحسية المحيطة به، ففي قوله تعالى }وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا{(157). كان فعل ماض فلا يمكن أن تصف علم الله وحكمته بصفة الماضي باعتبار أنه ليس هناك ماض وحاضر ومستقبل بالنسبة إلى اللّه سبحانه وتعالى، ولذا يقول بعض الناس (كان) عندما تسند إلى اللّه فإن ذلك يجرّدها من معنى الزمان، فهو يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض دلالة على سعة تدبيره. أمّا كيف يكون العروج في قوله عزّ وجل مثلاً }ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ{. فهذا شيء لا نعرفه.

طعام أهل الكتاب:

* يقول اللّه تبارك وتعالى }وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ{(158). ويقول أيضاً: }وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ{(159) فهل هناك من ناسخ ومنسوخ؟

- لا ناسخ ولا منسوخ، فطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم يعني ما أحله اللّه، فلو قدّموا لنا لحم الخنزير فهل نأكله باعتبار أن (طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) ولو قدموا لنا مثلاً خمراً أو ميتة فلا يجوز أن نأكل هذه ونشرب ذاك، ولكن بمعنى أنّ الطعام الذي يقدمونه لكم، مما هو حلال في ذاته لا تمتنعوا عنه لمجرد أنه طعام أهل الكتاب، ولذا فليس هناك ناسخ ومنسوخ أو عام وخاص فنحن إنّما نأكل الأشياء المحللة فقط عندنا (والطيبات من الرزق) أي الطيبات التي أحلّها اللّه سبحانه وتعالى.

اليأس من روح اللّه:

* ماذا يعني قوله تعالى }إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ{(160)؟

- يعني ليبق أمل الإنسان باللّه سبحانه وتعالى وبلطف اللّه وبرحمته وأنّه يغيّر الأمور من عسر إلى يسر وما إلى ذلك وطيداً لا يتزعزع في كلّ الظروف والأحوال. فالإنسان أمام اللّه لا ييأس لأن معنى اليأس من روح اللّه يوحي باعتقادنا أن اللّه غير قادر وهذا كفر.

يا موسى لا تخف:

* ماذا يعني قول اللّه عز وجل }يَامُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَنْ ظَلَمَ{(161)؟

- هنا يريد اللّه سبحانه وتعالى في أول ما أرسل موسى(ع) أن يبين له أنني جعلتك رسولاً فلا ينبغي أن تخاف من العصا إذا تحولت إلى ثعبان وما أشبه ذلك .. وأمّا قوله }إِلا مَنْ ظَلَمَ{. فليس استثناءً متصلاً، يعني لا يخاف لدي المرسلون ولا المؤمنون الذين يثقون باللّه سبحانه وتعالى ويطمئنون إليه، ولكن يخافه الذين ظلموا، فالاستثناء على قسمين: استثناء متصل واستثناء منقطع كما في قولك ((قام القوم، إلا وتداً)). فالوتد ليس من القوم، وإنّما يعني قام القوم بكلّ شؤونهم وبكلّ من يحيط بهم.

أمّ الكتاب:

* ماذا تعني عبارة (أم الكتاب) في قوله تعالى }يَمْحُو اللّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ{(162)؟

- إنّها تعني أنّ اللّه يظهر الأشياء فيمحو بعضها ويثبت بعضها في عالم الإبراز، ولكن الحقائق الأساسية موجودة لديه لا يتغير منها شيء.

صاحب الحوت:

* ما معنى قوله تعالى }وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ{(164)؟

- هذا هو حديث القرآن عن يونس بن متى(ع) حيث جرت القرعة عليه والتقمه الحوت وكان يكظم غيظه ويعيش الألم، فالآية واردة في مقام بيان ما كان عليه من ضيق ومن شدة.

تفضيل بني إسرائيل:

* ما معنى (فضّلناهم) في الآية الكريمة }وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ{(165)؟

- أيّ فضّلناهم في النعمة وليس في القيمة.

المراد ب(الحفظ):

* قال اللّه تعالى }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{(166). والسؤال ما هو المراد بالحفظ: هل هو حفظه من التحريف اللفظي أو المراد منه ما هو أشمل من ذلك؟

- هو الحفظ اللفظي أي حفظ النص بحيث لا يزاد فيه ولا ينقص منه.

ما هي الأمانة؟

* ما هي الأمانة التي عرضت في الآية المباركة؟

- الأمانة واللّه العالم هي المسؤولية الشرعية التي يسئل عنها الإنسان يوم القيامة }قفوهم إنهم مسؤولون{.

تلقّى آدم من ربه كلمات:

* قال تعالى في القرآن }فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ{(167). ولقد خالف آدم أمر ربّه وكانت معه زوجته (حواء) فلم لم تشارك معه في التوبة حسب الآية؟ وهل يعني ذلك كونه زوجاً أنّه يتحمّل المسؤولية أمام اللّه؟

- في آيات كثيرة هناك دلالة على توجههما معاً للّه سبحانه وتعالى، وقد خاطبهما اللّه معاً، وعفا عنهما معاً، ولكن باعتبار أن آدم(ع) يمثل الواجهة في هذا الأمر فكان الحديث عنه حديثاً يراد به هو وزوجه. وأمّا مسألة تحمّل آدم(ع) المسؤولية كونه زوجاً، فإنّ الزوج لا يتحمّل مسؤولية عصيان زوجته ولا هي تتحمل مسؤولية عصيان زوجها }وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى{(168).

سبل السلام:

* ما المراد من (سبل السلام) التي وردت في القرآن الكريم؟

- هو السلام مع اللّه تبارك وتعالى، والسلام مع النفس ومع الآخرين ومع الرسالة بحيث يعيش الإنسان في الخط الذي يؤدّي إلى سبل السلام، والتي ربما يراد بها (الجنة).

الحيّ من الميت:

* ما معنى قوله تعالى }وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ{(169)؟

- أن يخرج الميت من الحيّ وهو خروج الإنسان ولم يكن ذا روح من بطن أمّه، وأما خروج الحي من الميت فهو خروج النبات من الأرض بعد موتها }وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ{(170). وهذا كناية عن أنّ اللّه سبحانه وتعالى يملك الحياة والموت، وانّه يتصرّف كما يشاء فلا يعجزه إخراج الميت من الحي ولا الحيّ من الميت ذلك أنّ بيده كلّ شيء وهو القادر على أن يهب الحياة وأن يسلبها.

كنز الأموال:

* يقول اللّه تعالى }وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{(171). فهل يشمل العذاب من يكنزون الأموال في البنوك فوق حاجاتهم السنوية حتى لو أدّوا الخمس؟

- بعض المفسرين يفسّر الآية بأولئك الذين لا يدفعون الحقوق الشرعية، فيما يقول البعض الآخر انهم الذين لا يحرّكون ثرواتهم في السوق، فهم يجمّدونها مما يؤثر سلبياً على نشاط وحركة السوق بيعاً وشراء. كما أنّ الآية توحي في آفاقها الواسعة بالانتقال من الماديّ إلى المعنويّ وذلك من خلال أنّ القيمة في المعنوي هي في تأثيرها في النتائج الإيجابية أكثر من القيمة في الماديّ، وربما يلتقي ذلك مع المفهوم الأولوية.

الاستقامة على الطريقة:

* ما معنى قوله تعالى }وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا{(172). وما المقصود بـ(هم)؟

- هذه الآية إشارة لكلّ الناس عندما يستقيمون على الصراط المستقيم، فإن الاستقامة تعطيهم كلّ الخير وتجعلهم محلّ رحمة اللّه بحيث يمنحهم اللّه نعمته ورضوانه، فأيّما أمّة تستقيم على النهج الذي رسمه اللّه للأمة الصالحة تنال الوعد الرباني في فتح البركات عليها.

تبت يدا أبي لهب:

* أشرتم في حديثكم عن السباب إلى أن السبّ القرآني موجّه أساساً للخط المنحرف دون تحديد مشخّصات هذا الخط، فكيف قولكم في }تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ{(173)؟

- هذا وارد في مقام بيان وليس في مقام شتيمة، فتبت يدا أبى لهب باعتبار أنّ له معنى خاصاً، فهو عم النبي(ص) ولذا أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يثبت انه ليس هناك في الكفر قرابة، ولذا لم يُنزل بأبي جهل قرآناً مع أنّ أبا جهل كان أشدّ قساوة على النبي(ص) من أبي لهب.

 

 

ثانياً: مسائل عامّة:

 

ثـواب الفاتحة على الموتـى:

س : هل ثبت لديكم أن رسول الله(ص) أمر بقراءة سورة الفاتحة على الموتى؟

ج : ثبت استحباب قراءة القرآن على الموتى، والفاتحة من القرآن.

فضـل السـور القرآنيـة:

س : ما صحة الروايات التي تتحدث عن فضل قراءة بعض السور القرآنية كـ(الرحمن) و(يس) وغير ذلك؟ أليس في ذلك مدعاة لإهمال السور الأخرى؟

ج : إن في قراءة هذه السور ثواباً، وفي قراءة السور الأخرى ثواب أيضاً، فلا يعني ذلك أن تهمل قراءة السور الأخرى، فلها فضائلها أيضاً، و"من بلغه ثواب عن رسول الله على عمله فعمله كان له ذلك وإن كان رسول الله لم يقله"، لأن الله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان على حسب نيّته.

تكرار قصص الأنبياء

س : نرجو إلقاء الضوء ولو بشكل موجز على أبعاد تكرار قصص الأنبياء(ع) وبشكل لافت في القرآن؟

ج : عندما نقرأ القرآن نجد أنّه يكرّر قصص الأنبياء بين سوره، فقد تحدّث عن موسى(ع) في أكثر السور، كما تحدّث عن إبراهيم(ع) وعن نوح(ع) وعن عيسى(ع) في أكثر من موضع من الكتاب الكريم، فلماذا هذا التكرار؟

ونحن نعرف أنّ التكرار ليس من بلاغة الكلام، فالمقصود من القصة هو أن يعرف الناس عناصرها، ويكفي في معرفة عناصر القصة أن تُعرض مرّة واحدة، وكأنّ السائل يسأل: ما هو الأساس الذي انطلق منه القرآن الكريم، وهو كلام الله الحكيم، في هذا التكرار؟

إنّ القرآن الكريم ـ أيها الأحبّة ـ ليس كتاب تاريخ حتى نحتاج إلى أن تُذكر فيه القصة التاريخية مرّة واحدة وكفى، وليس كتاب قصص للتسلية حتى إذا ما تحققت التسلية المرجوّة من القصّة فلا حاجة إلى تكرارها، ولكنّ القرآن كتاب عظة وعبرة وتوجيه وإرشاد وتأكيد على أكثر من فكرة.

ولذلك فإنّ القرآن عندما يتحدّث عن قصص الأنبياء يحاول أن يستفيد من بعض جوانب هذه القصة في تأكيد هذه الفكرة، وبعض جوانب القصة الأخرى لتأكيد فكرة أخرى، وهكذا. فالمفروض بقصة موسى(ع) أن ترد في موضع معين وتنتهي، لكننا لو أمعنّا النظر في هذه القصة لرأينا أنها قصة تضجّ بالحركة منذ البدايات الأولى لحياته(ع)، كيف أن الله سبحانه وتعالى حفظه وهو وليد، وكيف عاش تجارب صعبة عندما قتل القبطي، وكيف سار خائفاً إلى مدين، وكيف التقى بابنتي شعيب، وكيف التقى بشعيب، وكيف استخدمه شعيب، وكيف سافر وتلقّى النبوّة في الطريق، وكيف جاء إلى فرعون عندما تحدّث معه ليهديه، وكيف حدثت قضية السحرة، وكيف دخل(ع) الصراع مع فرعون، وكيف أنّ الله شقّ له طريقاً في البحر يبساً، وكيف واجه مشكلته الجديدة مع بني إسرائيل {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [الأعراف:138]. وغير ذلك من مفاصل مهمّة.

ولذلك ترى أنّ قصة موسى(ع) واحدة من القصص المتحرّكة التي يمكن لك أن تأخذ منها أكثر من جانب حركيّ لتستفيد منه في حركتك في الدعوة إلى الله تعالى. وهكذا الأمر بالنسبة إلى قصة عيسى(ع) وغيره من الأنبياء(ع)، فقصص الأنبياء(ع) إنما جاءت من أجل أن تكون عنصراً من عناصر التوجيه لهذه الفكرة وتلك، باعتبار أنّها تصح أن تكون شاهداً لهذه وشاهداً لتلك. ولقد قال لنا الله سبحانه وتعالى: {لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب} [يوسف:111]. حيث أراد لنا أن نتّعظ بالقصص، ولذلك كان تكرارها ناتجاً من علاقاتها بأكثر من فكرة وأكثر من عظة وأكثر من عبرة.

كفواً أو كفؤاً

س : أيّهما أصح عند قراءة سورة الإخلاص في الصلاة، أن نقول: {ولم يكن له كفواً أحد} أو (كفؤاً)؟

ج : كلاهما جائز.

ترجمـة القـرآن

س : ما حكم ترجمة القرآن إلى لغة أخرى غير اللغة العربية؟

ج : لا بدّ لنا من أن نترجم القرآن إلى كلّ اللغات الحيّة وغيرها، حتى يفهم أهل اللغات الأخرى القرآن، ولا بدّ أن تكون الترجمة دقيقة، ولكن هذه الترجمة لن يكون حكمها حكم القرآن في أحكام الطهارة وما إلى ذلك، بل تصبح من قبيل ترجمة معاني القرآن.

س : وهل يجوز للإنسان المسلم الذي لا يعرف العربية أن يستغني عن القرآن بهذه الترجمة؟

ج : إذا كان لا يعرف العربية فكيف يقرأ القرآن، فعليه أن يتعلّم العربية حتى يفهم القرآن، ليزداد وعياً للمعاني القرآنية من خلال ذلك.

مناهـج تأويـل القرآن

س : هل لتأويل القرآن مناهج خاصة يمكن أن تطبّق؟ أو هي قضية خاصة؟

ج : هناك مناهج خاصّة، فتأويل القرآن كتأويل أيّ كلام عربي. وهناك معنيان للتأويل: ففي المعنى الأول: تأويل القرآن بمعنى حمله على خلاف ظاهره، والمعنى الثاني: تأويل القرآن بمعنى إرجاعه إلى أساسه، والله تعالى يقول: {وما يعلمُ تأويله إلا الله والراسخون في العلم} [آل عمران:7]. {يوم يأتي تأويله} [الأعراف:53]. فالتأويل من آل الشيء إذا رجع إليه مما لا يرى إلا يوم القيامة. وعندنا التأويل بمعنى حمل اللفظ على خلاف ظاهره، وهنا لا بدّ أن تكون هناك قرينة لفظية أو قرينة عقلية تدعو إلى ذلك، فمثلاً ـ كما مثلت لكم مراراً ـ نقول: {فأينما تولّوا فثمّ وجه الله} [البقرة:115]. {كلّ شيء هالك إلا وجهه} [القصص:88]. {يد الله فوق أيديهم} [الفتح:10]. فهذه تدلّ على أنّ الله جسم وله يد وله وجه، وعندما ندرس اللغة العربية نجد أنّ هذه المفردات واردة على نحو الاستعارة، لأنّ كلمة الوجه تستعمل في اللغة العربية كدلالة على الذات، كما يقول القائل: "أنا بوجه فلان"، وهكذا: {فأينما تولّوا فثمّ وجه الله} أي فثمّ الله، فالله معنا أينما نكون وهو الإله في السماء وفي الأرض كما عبّر القرآن، وأما قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} فاليد هنا استعيرت للقدرة، كما لو قلنا إنّ يدك فوق كلّ يد، أي أنك مهيمن على الجميع، وكما ورد في قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة:64]. فاليد تستعمل باعتبار أنها آلة العطاء. وهكذا أيضاً قوله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} [طه:5]. فالاستواء هنا لا يعني الجلوس وإنما السيطرة.

التأويـل الغريب للآيـات

س : كثيراً ما نسمع من قبل بعض الأشخاص تأويلاً لبعض الآيات القرآنية وحملها على خلاف ظاهرها بدعوى وجود بعض الروايات التي تفيد غير المعنى الذي يراد حمل الآية عليه وهي تفيد معنىً غريباً جداً، ويتمسّك هؤلاء بجواز التأويل، وأن جميع العلماء متفقون على ضرورة تأويل بعض الآيات على خلاف ظاهرها؟

ج : هذا السؤال ينطوي على مضمون السؤال السابق نفسه، فنحن نقول إنّ كلّ معنى لا يظهر من اللفظ، وكلّ معنى لا قرينة عليه بحسب قواعد اللغة العربية لا يمكن أن يفسّر به القرآن. والأئمة من أهل البيت(ع) أرادوا لنا أن نعرض الأخبار على كتاب الله في قولهم: "ما خالف كتاب الله فهو زخرف" وقولهم: "لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا". إنما أرادوا ظاهر القرآن. لذلك نقول إن علينا أن ندرس هذه الأحاديث لنرى هل هي صحيحة سنداً أو لا؟ وحتى لو كانت صحيحة سنداً فإنّه ينبغي أن ندرس هل هي موافقة للقرآن، أو أنها ليست موافقة للقرآن؟

وجوب ردّ التّحية:

س : يقول تعالى: {وإذا حيّيتم بتحيّة فحيُّوا بأحسن منها أو ردُّوها} [المائدة: 64]. إنّ كلمة (بتحيّة) جاءت هنا نكرة غير مخصّصة، فهل أنّ معنى ذلك أنّ كلّ تحيّة يجب ردّها سواء كانت باللغة العربيّة أو غيرها من سائر اللغات؟

ج : نحن نتبنّى هذه الفكرة ونرى أنّه يجب علينا أن نردّ التّحية سواء كانت تحيّة بالسلام أو بغير السلام من التحيّات الأخرى مثل (صباح الخير)، أو باللغة الانكليزية أو الفرنسيّة أو أيّة تحيّة. {وإذا حيّيتم بتحيّة} والتحية من أخلاق الإسلام، فالإنسان الذي يحيّيك يكرمك وعليك أن ترد إكرامه بإكرام مماثل. ومن الممكن أن نستوحي من ذلك أنّه إذا أرسل لك شخص رسالة فعليك أن تردّ جواب الرسالة ما أمكن. وعلى أيّة حال فإنّ بعض الفقهاء يرون أنّ الآية مختصّة بالسلام؛ لأنّ تحيّة الإسلام هي السلام، لكنّ الله لم يُحدِّد ذلك {وإذا حيّيتم بتحيّة} أيّة تحيّة، فهي مطلقة وليست مقيّدة؟

نهايـة آية الكرسي

س : هل تنتهي آية الكرسي عند قوله: {وهو العليّ العظيم} [البقرة:255]؟

ج : هي كآية تنتهي عند العلي العظيم، لكن في حكم قراءتها الأحوط أن يأتي بها إلى قوله تعالى: {هم فيها خالدون} [البقرة:257].

معنـى النسـخ

س : ما معنى النسخ؟ هل أن الآية المنسوخة فقدت محتواها؟

ج : هناك من ينكر النسخ في القرآن، ولكن النسخ بالنسبة لمن يقولون به هو نسخ في الأحكام، فكما أن الله شرّع أولاً القبلة باتجاه بيت المقدس ثم نسخ ذلك في قوله تعالى: {قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولينّك قِبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة:144]، أما معنى النسخ في الأحكام، فهو أن الله يغير الحكم الذي شرّعه لمصلحة تنتهي بانتهاء مدة زمنية لتفسح المجال لحكم آخر في زمن آخر لمصلحة أخرى.

قراءة القرآن في رمضان

س : هل يجوز قراءة القرآن في شهر رمضان بالنسبة لمن لا يجيد القراءة؟

ج : نعم، يجوز ذلك.

القسم بوضع اليد على القرآن

س : هل ينعقد القسم بوضع اليد على القرآن الكريم والقول: وحقّ هذا القرآن لم أفعل هذا الأمر؟

ج : إذا كان فعل وأقسم بالقرآن، فهذا كذب وفيه إساءة للقرآن، ولكن القسم المعتدّ به هو القسم بالله سبحانه وتعالى، ولا حاجة لوضع اليد على القرآن.

التفسير العضوي للقرآن

س : كنا نسمع ونقرأ عن لونين من التفسير للقرآن العظيم هما: التجزيئي والموضوعي، وسمعنا أخيراً عن لون ثالث يسمى بـ"التفسير العضوي"، وهو الذي يرى كل سورة من كتاب الله وحدة مستقلة قائمة، لها شخصيتها المميزة رغم وجود مشتركات بينها وبين شقيقاتها من السور الأخريات، فما هو رأيكم بهذا اللون من التفسير؟

ج : عندما ندرس طريقة نزول القرآن التدريجية في قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدة كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً} [الفرقان:32]، فإننا نرى أن الفرق بين القرآن وبين الكتب السابقة، هو أن الكتب السابقة، لا سيما (التوراة) و(الإنجيل)، أنزلت دفعة واحدة على موسى(ع) وعيسى(ع)، لأن طبيعة الواقع الذي عاشاه لم تكن طبيعة حركية متنوعة في تحدياتها وأبعادها وفي أوضاعها. فموسى(ع) واجه فرعون ولم يكن هناك أي حوار فكري معه وقصته مع فرعون لا تكثر فيها التنوعات، بل كانت المسألة تتمثل في استضعاف موسى(ع)، وقد أعطاه الله سبحانه وتعالى بعض عناصر القوة المادية، وفي استكبار فرعون الذي كان يملك أغلب عناصر القوة المادية.

أما عن علاقة موسى(ع) مع بني إسرائيل، فإنها كانت تتمثل في المشكلة الداخلية التي يعيشها موسى(ع) معهم، ولم يكن بنو إسرائيل يملكون ذلك الفكر الذي يحتاج إلى المزيد من الجدل والمعاناة، بل كانت تتمثل في مسألتي الطاعة والمعصية، وتعميق الإيمان في نفوسهم. وباختصار، لم تكن هناك حركية واقعية تفرض الحركية في الوحي لمعالجة ذلك ومواجهته ـ كما هي في قصة النبي محمد(ص) ـ بل هي خطوط عامة وواقع يحتاج إلى تجسيد.

وهكذا الحال في نبوة عيسى(ع)، حيث كانت الأمور تتراوح بين المواعظ والاضطهادات، بينما الحركة في زمن النبوة كانت الخاتمة تتمثل في أن المشركين كانوا يملكون بعض المعطيات الثقافية وكذلك اليهود والنصارى، ولذلك كانت التحديات تتحرّك في أكثر من جانب، ثم إن مجتمع المدينة كان يختلف في أفكاره عن مجتمع مكة، هذا فضلاً عما كان يثيره اليهود من شبهات وقضايا وإشكالات وما خاضه النبي(ص) من حروب وما دخل فيه من مفاوضات سلم من بدر إلى حنين، كانت كلها تستدعي الدخول في نقاشات وتطرح إشكاليات كان ينبغي حلها، وكان هناك التخطيط النبوي لرسم الفارق بين اليهود وبين النصارى وبين الإسلام، والخطوط العامة التي يلتقي من خلالها مع أهل الكتاب.

فالنبي(ص) جاء في واقع متعدّد الأبعاد، متنوّع التحديات، كثير المشاكل، حتى أنه(ص) واجه المشاكل في داخل المجتمع المسلم من خلال ظاهرة المنافقين، لذلك نزل القرآن ليعالج كل مشكلة كانت تحدث في ذلك المجتمع، فحينما وقعت معركة (أحد) أنزل الله عدة آيات ينقد فيها سلوك المسلمين في الحرب. وكذلك في (حنين) و(الأحزاب) وكلّ ذلك عملية تثقيف متحرّك للمسلمين في كلّ القضايا والمشاكل التي حفل بها الواقع الإسلامي، وكان الوحي ينـزل ليحلّها، حتى أن النبي(ص) كان لا يجيب أحياناً ويقول: أنتظر في ذلك أمر ربي، ليعرّفهم أن كل شيء جاء به فهو من الله سبحانه وتعالى.

لذلك، فإن القرآن يمثل خط الوحي الإلهي في رعاية حركة الواقع، ويمكن القول إنه كتاب حركة الدعوة الإسلامية في تلك المرحلة، ولذا نلاحظ أن القرآن يكرّر قصة موسى(ع) عدّة مرات، وهكذا قصة آدم(ع)، لأن في كلّ قصة أبعاداً وجوانب مختلفة.

وعلى ضوء ذلك نقول: نحن بحاجة إلى التفسير الموضوعي الذي يعالج فيه القرآن بعض الموضوعات التي تتناثر مفرداتها هنا وهناك، كما نحتاج إلى التفسير التجزيئي في المفردات التي عالج فيها القرآن الواقع الإسلامي، كما أن التفسير العضوي ليس تفسيراً جديداً، فهو يعني أن السورة القرآنية تمثل وحدة واحدة، ولكن هذا لا يعني أنها وحدة منفصلة عن السور الأخرى. فهدف السورة هو الذي ينتظم موضوعاتها المتعددة، كما يرتبط بأهداف السور الأخرى. فنحن لا نستطيع القول إن كل سورة مستقلة استقلالاً كاملاً عن السور الأخرى، كما لا نستطيع القول إنها مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالسورة الأخرى، فهي مستقلّة في جوانب، وترتبط بسور أخرى في جوانب أخرى.

فلا تصحّ المطالبة بتفسير موضوعي دون التفسير التجزيئي، ولا تصح المطالبة بالتفسير التجزيئي دون الموضوعي، بل نحتاج إلى كليهما، فالقرآن ليس كتاباً أكاديمياً، بل هو كتاب جاء من أجل أن يصنع الإنسان على الصورة التي يحبّها الله سبحانه وتعالى، ولما كان للإنسان أبعاداً مختلفة في فرديته واجتماعيته وحاجاته الذاتية وفي نشاطاته وفعاليته المختلفة، جاء الكتاب ليصنع هذا الإنسان الذي أراد الله له أن يقرأه ويتدبّره من أجل أن يصنع حياته السعيدة {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال:24]، {الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة:257].

فنحن مع التفسير التجزيئي الذي ينفتح على التفسير الموضوعي، والذي لا يبتعد عنه، والصلح سيد الأحكام.

خلق القـرآن

س : ما معنى تفسير الآية الكريمة: {الرحمن* علّم القرآن* خلق الإنسان} [الرحمن:1-3]، فهل القرآن مخلوق قبل الإنسان؟

ج : لا، ليس ضرورياً أن يكون مخلوقاً قبل الإنسان، وليس معنى ذكره قبل خلق الإنسان تقدمه في الخلق.

تحسين الصوت بالقرآن

س : إن الإنسان يسعى بكل جهده أن يحسّن صوته في قراءة القرآن أمام الناس، أليس هذا سمعة أو عجباً؟

ج : لا، ليس سمعة ولا عجباً، فعلى الإنسان أن يقرأ القرآن وعليه أن لا يقصد إعجاب الناس من جهة الرياء. أما إعجاب الناس بالأداء الجيد فهو مما ترتاح إليه النفس.

تحريف القـرآن

س : قرأت لبعض الكتاب المسلمين قوله: وجدت في أحد الكتب الشيعية أن هناك قولاً في تحريف القرآن الذي بين أيدينا كما هو مروي في (الكافي) للكليني، فهل هذا صحيح؟

ج : نعم، هناك روايات في الكافي في هذا الشأن، وقد عالجها أستاذنا المحقق السيد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله) في كتابه (البيان)، وبيّن أن كثيراً منها ضعيف السند، أي غير موثّق، وأن بعضاً منها يراد منه تفسير القرآن كما في قول المفسّر: {وكفى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب:25]، بـ(علي)، فكلمة بـ(علي) ليست جزءاً من الآية، بل هي تفسير لها، وقد خلطوا بين التفسير وبين الآية. ويجب أن نعرف شيئاً آخر، وهو أنه ليس عندنا صحاح، بل عندنا (الكافي) و(التهذيب) و(الاستبصار) و(من لا يحضره الفقيه) و(الوسائل) و(الوافي)، ولكن لا أحد يقول إن هذه كتب صحاح، بل هي كتب جمعت فيها أحاديث يمكن أن نقول إنها صحيحة أو غير صحيحة. ففي (مرآة العقول) علّق على صاحب (البحار) ولم يصحّح منه إلا(5000) حديث، ولذا فقد تعثر في كتب (الكليني) وكتب الشيخ (الصدوق) على أحاديث غير صحيحة، وأخرى ضعيفة، فما كان صحيحاً نأخذ به، وحتى الصحيح نعرضه على كتاب الله، فإذا كان موافقاً لكتاب الله نأخذ به، وإذا كان مخالفاً له نطرحه جانباً، ولذلك عندما يرد حديث في البخاري ننسبه لأخواننا أهل السنة لأنهم يرون أن البخاري هو ثاني كتاب صحيح 100%، وهذا هو الفرق بين كتب الحديث عندنا وكتب الحديث عند أخواننا المسلمين من أهل السنة.

سجـن القرآن

س : ألا ترون أن مشكلة القرآن في هذا الزمن أنه محبوس في سجن يسمّى المسجد ومحبوس في سجن الزخرفات والأطر المزركشة؟ وسؤالنا هو كيف يمكننا أن نجعل القرآن يعود إلى خطّه الحركي المنفتح، بحيث يحرّك الحياة كما كان في عصر صدر الإسلام؟

ج : ليس فقط القرآن سجيناً، بل حتى المسجد هو الآخر سجين بالمتخلّفين الذين لا يحوّلون المسجد إلى منطقة وعي، بل يحوّلونه إلى منطقة تخلّف وجمود. فعلينا أن نتّبع الواعين من العلماء والمثقفين الذين قرأوا القرآن حق قراءته، وهناك الكثير من الناس ممن يمكن أن يكونوا علماء جيدين في الفقه والأصول، ولكن ليس عندهم ثقافة قرآنية ولم يدرسوا القرآن على اعتبار أن الحوزات لا تعتبر دراسة القرآن أساسية، فقد يقرأ الطالب اللغة العربية والبلاغة والفقه والأصول، لكنّه لا يدرس القرآن، إلا أن الأمر قد تغير أخيراً كما في الحوزة العلمية في قم.

القراءات السبع

س : ما هو رأيكم فيما هو سائد من وجود القراءات السبع، حيث يعتبر كثير من الفقهاء أنها موجودة وصحيحة وأنها ليست تحريفاً للقرآن، أليس الاختلاف في القراءة المكسورة والمفتوحة والمضمومة تحريفاً؟

ج : المقصود من التحريف بحسب المصطلح هو التحريف بالكلمة بالزيادة والنقصان، وإلا فإن بعضها يجوز فيه الوجهان كما في قوله تعالى: {مالك يوم الدين}. إذ يمكن أن تقرأ: {ملكِ يوم الدين}، فهذا لا يغير المعنى.

س : وهل أن من يحصل على شهادة الماجستير في تأكيد وجود القراءات السبع دليل على صحة اعتبارها؟

ج : لا، فهي رواية عن أشخاص قرؤوها بعضهم يوثقها وبعضهم لا يوثق، وقد تكون القراءة اجتهاداً من هؤلاء الأشخاص وليست نقلاً.

عظمة ليلـة القـدر

س : هل اكتسبت ليلة القدر عظمتها بنزول القرآن الكريم فيها أم أنها كانت عظيمة قبل ذلك؟

ج : الظاهر من قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} [الدخان:3]. ومن قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر:1]، أنها كانت عظيمة القدر قبل ذلك، وقد أكسبها نزول القرآن فيها عظمة على عظمة.

منهج سماحتـه في التفسيـر

س : هل تعتمدون في تفسيركم للقرآن على مناهج أو أدلة فلسفية؟ وما هو منهجكم في التفسير؟

ج : منهجي التفسيري هو محاولة فهم القرآن بأساليب فهم النص في اللغة العربية، ولا أعتمد على الأدلة الفلسفية إلا في الحالات التي يحتاج فيها إلى بحث فلسفي، فأنا أعتقد أن دراسة القرآن على أساس الفلسفة اليونانية يسيء إلى القرآن، لأن أغلب ما لدينا من الفلسفة هو فلسفة يونانية وليس فلسفة إسلامية، ويمكن أن تكون هناك بعض الجوانب الفلسفية في القرآن، ولكن ليس من الضروري أن تكون فسلفة المشائين والإشراقيين.

 

الفصل الثاني

 

 

المسائل العقيدية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

علاقة البلاء بالذنوب

* اللّه سبحانه وتعالى خير كلّه، فهل البلاء الذي ينزله على عباده ليختبرهم ويمتحنهم بقوله تعالى ]وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ[(1). هو بما كسبت أيدي الناس، أو أنّه لا علاقة له بالذنوب ولابدّ منه؟

ـ إنّ البلاء في الدنيا قد ينطلق مما كسبت أيدي الناس ]ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[(2). ]ذلك بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[(3). ]وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[(4).

وقد يأتي البلاء من خلال طبيعة النظام الكوني، أي أنّ من حكمة اللّه في الكون أن تحدث العواصف والرعود والفيضانات والزلازل والأمراض والكوارث، لأن طبيعة هذا النظام تجعل من هذه الظواهر ذات صلة بالكثير من المصالح التي أودعها اللّه في الكون. فليس في الكون شيء هو 100% خير ولا فيه شيء هو 100% شر، فالكون عالم المحدود. ففي  الخير شيء من الشر وفي الشر شيء من الخير، فليس هناك في الدنيا خير مطلق وليس هناك شر مطلق، فإذا غلبت المصلحةُ المفسدة كان الخير، وإذا غلبت المفسدةُ المصلحة كان الشرّ، ومن الطبيعي أن الإيجابيات تختزن في داخلها بعض السلبيات، والعكس صحيح.

هل أعمالنا مكتوبة؟

* هل كتب اللّه تعالى على الإنسان خطواته كلّها الصغيرة والكبيرة، كما لو التقى شخص بآخر؟ وهل هذا من عند اللّه تعالى، وإذاً ما هو دور عقولنا في التدبير؟ وهل نحن مسيّرون؟

ـ إنَّ اللّه سبحانه وتعالى يعلم بذلك كلّه، ولكن ليس معنى ذلك أننا نعمله لأنَّ اللّه يعلمه، فهو يعلم ما نفعله وما نختاره، ويعلم بإرادتي بلقاء فلان واختياري إلى الذهاب إلى هذا البلد أو ذاك، أو أي شئ آخر أعمله أو أنوي القيام به. وبعبارة أخرى إننا لا نعمل الأشياء لأن اللّه كتبها، وإنما كتب الأشياء التي يعلم أننا سنفعلها بمحض إرادتنا واختيارنا، فكتابة الأعمال لا تنفي الاختيار، وإنّما تنطلق من خلال علمه سبحانه وتعالى بالاختيار.

اختلاف التقية باختلاف المجتمعات:

* يوجد فرق في الميزان القرآني بين التقية في المجتمع الكافر وبين التقية في المجتمع المسلم في التحرّك في نطاق الظروف المتنوّعة الضاغطة، فما الذي يُحدّد الموضوعات في الأحكام الشرعية؟

ـ لا فرق في التقية بين مجتمع وآخر إلا بحسب الدواعي المقتضية للأخذ بها، فالتقية إنّما أريد بها إمّا حفظ النفس، بحيث يمكن أن يؤدّي الموقف الضاغط إلى قتله فيتكلّم بغير الواقع حفظاً لنفسه، أو لحفظ الخطّ الإسلامي وحفظ المجتمع أمام قوى ظالمة قد تكون مسلمة أو غير مسلمة، فيجوز للإنسان أن يتقي في كلّ هذه المجالات سواء في المجتمعات غير الإسلامية أو الإسلامية، بل حتى في المجتمعات الشيعية التي تضغط على صاحب الحق وتهدده في نفسه أو ماله أو في عرضه وما إلى ذلك. والتقية كما أوضحنا مراراً هي مبدأ إسلامي إنساني ]لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ[(5). ولابد للإنسان من أن يدرس وسائل التقية في مواجهته للضغوط السياسية والاجتماعية والنفسية والأمنية ليأخذ بما تفرضه الحاجة في حماية الهدف الشخصي أو الإسلامي ليكون تصرّفه منسجماً مع الحكمة لأن البعض قد يسقط أمام واقع الضغط بحيث يتجاوز الحدود الضرورية بما قد يسيء إلى الخطّ العام من دون ضرورة.

إن التقية هي إحدى الوسائل الواقعية لحماية القضية فلا يجوز الإساءة إليها بما لا حاجة إليه.

التعرّف على اللّه من خلال مخلوقاته:

* كيف للإنسان أن يتعرّف على اللّه سبحانهُ وتعالى مع العلم أنَّ مخلوقات اللّه لا تعدّ ولا تحصى؟

ـ ليس من الضروري أن يعرف مخلوقات اللّه كلّها، إذ يكفي أن يعرف نفسه ليعرف ربّه. أو يعرف بعض مخلوقات اللّه التي توحي بعظمته من خلال الأسرار الكامنة في داخلها، وقد قال الشاعر:

وفي كلّ شيء له آية            تدلّ  على  أنه واحد

في الارتداد:

* أعيش في دولة أجنبية ولي صديق تزوّج من كتابية ثم تحول من دين الإسلام إلى المسيحية، فهل يعتبر مرتداً؟

ـ نعم يعتبر مرتداً ونتعامل معه تعاملنا مع المرتد.

التعقيد في العقائد:

* يذكر في بعض الكتب الإسلامية أن عقيدتنا مبسّطة، ولكننا نجد العكس من خلال واقعنا، ومن خلال بعض الفرق الإسلامية؟

ـ العقيدة الإسلامية غير معقدة، ففي عقيدة التوحيد مثلاً عندنا هذا البيان الإلهيّ الواضح الصريح ]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[(6). وهي عقيدة مبسّطة، بينما بالنسبة للمسيحيين عندهم الثالوث (الأب والابن وروح القدس) فكيف نجمع بين تثليث وتوحيد؟ هذا هو التكلّف وهذا هو التعقيد، بينما العقيدة الإسلامية مبسّطة يمكن للإنسان أن يتفهمها بشكل خال من التعقيد ومن التكلّف.

تغيير بعض المسلّمات المتوارثة:

* إذا تولّدت قناعة لمسلم ما في ضرورة تغييره لبعض المسلّمات التي توارثها وتربّى عليها دون المساس بضروريات الدين فهل يضرّ هذا التغيير في عقيدته؟

ـ إذا فرضنا أنّ هذه العقيدة الجديدة لا تتنافى مع الحقائق الإسلامية العقيدية الجديدة، ولا تتنافى مع الحقائق الإسلامية العقيدية الضرورية فلا مشكلة، لكنّ الكلام هو عندما تتولد قناعة في أمر ما فمن أين تتولد؟ أي لابد للمغيّر أن يملك الثقافة وأدوات الدراسة حتى يستطيع أنّ يركّز هذه القناعة على أساس متين، ولابدّ له في هذا الاتجاه من سؤال أهل الذكر من العلماء والمفكرين الذين يملكون الثقافة الإسلامية العميقة الواسعة، والحوار معهم حول ما يعرض له من اقتناعات فكرية طارئة مخالفة لما يعتبره الناس من المسلّمات الدينية.

عمر إبليس:

* يقال إنّ امتداد عمر إبليس هو مكافأة له للعمر الذي قضاه في عبادة اللّه ويقدّر بستة آلاف سنة، فهل وجوده في هذه الحال هو نوع من العبثية باعتبار أنَّ حياته مكرّسة للوسوسة في صدور الجن والإنس، وبالتالي فإن وجوده وبال على خلق اللّه؟

ـ إنَّ القول إنّ اللّه أمهله حتى يعطيه ثواباً على عبادته غير ثابت، ولكن للّه تعالى حكمة في خلق إبليس في انه أراد للإنسان أن يعيش الصراع بين الخير والشر، ولذلك جعله مفطوراً على الخير وأرسل إليه الأنبياء بوحيه، وجعل الشيطان يوسوس له بالشر، ولكن اللّه خلق للإنسان عقلاً، وقال للشيطان ]إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ[(7) فالعباد الذين يحرّكون عقولهم وإيمانهم ويتحرّكون على أساس دراسة الأمور دراسة واعية، لايستطيع الشيطان أن يؤثّر عليهم، ولذا فهو ليس وبالاً على الإنسان. ولكن مشكلتنا أننا مثل تنابلة السلطان، فبعضنا يريد أن يصبح كبيراً من دون أن يأتي بالعناصر التي تكبّره، ويبلغ الدرجات العالية من دون أن يواجه التحديات التي تواجهه، كما قال ذاك الشاعر:

تريدين إدراك المعالي رخــيـصـة                          ولابد دون الشهد من ابر النحل

ولذلك يقول اللّه سبحانه وتعالى ]إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا[(8). فلقد خلق إبليس وزوّدنا بما نملك من سلاح بما نواجه به كيد إبليس.

هل الظروف الصعبة انتقام؟

* قال أحد الخطباء إنّ ما يجري حالياً في العراق من ظروف صعبة هو انتقام من اللّه سبحانه وتعالى، فكيف نردّ على ذلك؟

ـ هل يمكن القول وفق هذا المنطق أنَّ ما حدث للإمام الحسين(ع) انتقام من اللّه عزّ وجل؟ فأي منطق هذا؟ فاللّه قد يبتلي الناس لكن ليس معنى ذلك أنّه يريد أن ينتقم منهم، فالشعب العراقي أكثره مؤمن وقد عاشوا الجهاد والتضحيات والمعاناة في سبيل الدفاع عن دينهم، وقد وقف علماؤهم وقفات مشهودة ومشرّفة حتى قتل من قتل منهم، والكثير من أبناء هذا الشعب اخرجوا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربّنا اللّه، فهل هذا انتقام؟ وإذن فهل نعتبر خروج النبي(ص) من مكّة انتقاماً من اللّه؟ إنّه منطق لا يصمد أمام النقد ولا ينسجم مع طبيعة الواقع. إنّه بلاء اللّه يبتلي المؤمنين به ليختبرهم: هل يجزعون أم يصبرون؟ ]الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[(9) فالبلاء قد يكون اختباراً وليس بالضرورة عقوبة.

ابن الزنا والجنّة:

* يقولون إنَّ ابن الزنا لا يدخل الجنّة فهل هذا صحيح؟

ـ هذا غير صحيح، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) ((ابن الزنا يستعمل فان عمل خيراً جزي خيراً وان عمل شراً جزي شراً))(10) واللّه تعالى يقول }وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى{(11). فما ذنبه في جرم ارتكبه غيره إذا كان صالحاً يبذل جهده في الوصول إلى مرضاة اللّه.

 

محاسبة الوالدين:

* لو مات صبيّ ولم يبلغ الحلم وكان أبواه كافرين فهل يحاسب باعتباره غير مكلّف؟

ـ لا يحاسب على أعماله لأنه لم يكن في موقع التكليف، ولا يمكن أن يحاسب على كفر والديه فهو في رحمة اللّه }وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى{(12).

اتباع المذهب:

* هل يجب على المسلم أن يتبع مذهباً معيناً أم يحق له أن يختار ما يناسبه وما يجده مناسباً له من كلّ مذهب؟

ـ عليه أن تكون له حجّة على ما يختاره فإذا كان مجتهداً يختار ما يتناسب مع اجتهاده، وإذا لم يكن مجتهداً فيجب أن يقلّد من تقوم الحجّة بتقليده. أمّا أن يختار من هنا ومن هناك فعليه أن يقدّم حجّته في ذلك، فلو سأله اللّه على أي أساس تمّ اختيارك لهذا المذهب أو ذاك؟ فلابد أن يكون لديه الجواب الحاضر.

لماذا انقطعت النبوّة؟

* لماذا انقعطت النبوّة؟ هل أنّ العقل البشري وصل إلى ما أراد أن يوصله الأنبياء(ع) وهو الذروة بحيث يستطيع الناس إدارة شؤونهم دون الحاجة إلى الأنبياء(ع) كما يقول (إقبال) ؟

ـ لقد سأل (ابن السكيت) الإمام علي الهادي(ع) فقال له: ((إنّ اللّه بعث موسى(ع) بالعصا، وبعث عيسى(ع) بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، وبعث النبي(ص) بالكتاب، فسأله: فما الحجّة على الناس اليوم؟)) فأجابه الإمام الهادي(ع) وقلّ منا من يعرف الإمام الهادي(ع) في فكره وتراثه: ((إنّ الحجّة من اللّه الآن على العباد العقل، يعرف الصادق على اللّه فيصدّقه والكاذب على اللّه فيكذّبه)).

 

الشيعة والبداء:

* هناك من يقول إما أن يرفض الشيعة البداء أو يتنازلوا عن أسماء الأئمة ، فما هو ردّكم عليه؟

ـ لقد بيّنا في ندوات سابقة أن الشيعة يرفضون البداء بمعناه اللغوي، أي أنّ اللّه بدا له حيث كان له رأي ثم بدا له غيره تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً ولكنهم يقولون إنّ المراد بالبداء الإبداء، أي أنّ اللّه سبحانه وتعالى يظهر بعض الأمور لمصلحة وحكمة على خلاف الواقع ثم يظهر الحقيقة بعد ذلك، كما في الرؤيا التي رآها إبراهيم(ع) في أنّه يذبح ابنه، فلقد رأى مقدمات الذبح وليس عملية الذبح ذاتها، فالله أظهر لإبراهيم(ع) أن يذبح ولده إسماعيل(ع) ولم يخبره أنّ العملية سوف لن تصل إلى مستوى الذبح وإلاّ ما اظهر إبراهيم(ع)
وإسماعيل(ع) هذا المستوى من الإخلاص، فالله سبحانه وتعالى أظهر ذلك لحكمة ثم بيّن الأمر الواقعي، ولذا فلا معنى لهذين الشرطين.

الدليل على المعاد الجسماني:

* ما هو الدليل الفعلي على المعاد الجسماني؟

ـ القرآن دلّ على ذلك، بأنّ ذكر أصحاب الجنّة وأصحاب النار أنهم يأكلون ويشربون وإلى غير ذلك من الأمور التي تدلّل على أن المعاد جسماني }وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ{(13). وذكرت آيات أخرى إشكالات وشبهات المنكرين للمعاد الجسماني وردت عليها.

عدل اللّه:

* ليس من قبيل الصدفة أن يكون العدل صفة من صفات اللّه أصلاً هاماً من أصول العقيدة وأساساً من أساسيات الدين، ذلك لأن لها بعداً اجتماعياً كبيراً، أليس كذلك؟

ـ طبعاً، فعدل اللّه سبحانه وتعالى يتعلّق بخلقه، ومن الطبيعي أن عدله يتحرّك فيما أرسل به رسله من الدعوة إلى أن يأخذ الناس حقوقهم بالعدل، فللعدل بعد اجتماعي خصوصاً عندما يتخلّق الناس بأخلاق اللّه عزّ وجل، فاللّه عادل يحبّ العدل والعادلين ويبغض الظلم والظالمين.

الدعاء للمجاهدين:

* منذ بدء الانتفاضة في فلسطين والناس يرفعون أيديهم بالدعاء إلى اللّه أن يفرّج عن أهلنا في الأراضي المحتلة، ولكن اللّه تبارك وتعالى لم يستجب هذه الأدعية، فهل يعني ذلك أنّ هذه الأمّة تخلو من أولياء وصلحاء وعلماء عاملين؟ فالبعض يسخر ويهزأ من ذلك، إذ كيف يقول اللّه }ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ{(14)؟

ـ الدعاء بشرطه وشروطه، ومن شروطه العمل، فاللّه سبحانه وتعالى يطالبنا بتحقيق الأسباب وإذا بقيت بعض الأسباب الغيبية فاللّه هو الذي يتكفّل بها. ولقد ذكرنا مراراً أنّ من الذين لا يستجاب لهم رجل يجلس في بيته ويقول: اللّهم ارزقني . وحالنا كذلك فنحن نقول: اللّهم انصرنا على القوم الكافرين، واللّه سبحانه وتعالى يقول }يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ{(15). فنحن لا نريد الجهاد وإنّما نطلب من اللّه أن ينـزل النصر في سلّة من السماء.

إنّ الدعاء ليس بديلاً عن العمل، وإنّما هو قولك: اللّهم هذا ما أستطيع فأعنّي على ما لا أستطيع.

المعصية ظلمٌ للّه:

* ذكرتم في خطبة الجمعة أنّ العصاة يظلمون ربّهم، فهل هذا صحيح؟ أليس اللّه سبحانه وتعالى يقول }وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{(16). ويقول الإمام علي(ع): ((إنّ اللّه خلق الخلق حين خلقهم غنيّاً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم فإنّه لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه))؟

ـ لنعرف أولاّ ما هو المقصود من الظلم؟ فالإمام علي(ع) يقول في تحديد من هو الظالم ((الظالم من الرجال)) ومن النساء أيضاً له ((ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظلمة))(17).

فنحن عندما نظلم ربّنا، فإننا نظلم حقّه، لأنّ من حقّ اللّه علينا أن نوحّده ولا نشرك به شيئاً وأن نطيعه ولا نعصيه، فعندما نعصيه أو نشرك به فقد ظلمناه، لأن الظلم هو أن تسلب المظلوم حقه عليك، وليس من الضروري أن ينال ذلك منه من حيث ميزان القوة والضعف فقد يظلم الضعيف القوي بالتمرّد على ماله من حق، كما قد يظلم القوي الضعيف بقوته الغالبة، وآية ذلك في القرآن قول لقمان لابنه}يَابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ{(18).

فالمقصود بظلم اللّه ليس الظلم بالغلبة، وأمّا قوله تعالى }وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{(19). فاللّه يريد هنا بالظلم الضرّر، ولكن الظلم الذي تعنيه والذي جاء في القرآن وفي كلام الإمام علي(ع) هو ظلم الحقّ وهو قول الإمام(ع) ((يظلم من فوقه بالمعصية)).

في عصمة إبراهيم(ع):

* إذا قلنا إنّ والد إبراهيم(ع) لم يكن موحّداً، فهل يضرّ ذلك بعصمته؟

ـ ما دخل ذلك في عصمته؟! العصمة هي أن يكون النبيّ حقّاً في عقله وفي قلبه وفي كلامه وفي حياته وفي سلوكه، وأمّا أن يكون أبوه موحّداً أو غير موحّد فذلك أمر لا يدخل في العصمة كما أن ذلك لا يضرّ به، بل ربما يزيد في شأنه بأنه تمرّد على كفر أبيه من موقع حرية الفكر في عقله، وليس لخبث الأب علاقة سلبية في شخصية الابن، فقد يخرج اللّه الطيب من الخبيث ولا يؤثر ذلك في طيبته.

والعلماء يقولون إنّه لابدّ أن يكون آباء الأنبياء موحّدين لكنهم لا يشترطون أن تكون أمهاتهم موحّدات، ولو نظرنا إلى أمهات الأئمة(ع) كما بالنسبة لأمّ الإمام الصادق(ع) فهل نقول بأنّ آباء أبي بكر موحّدون من خلال قوله(ع): ((ولدني أبو بكر مرتين))؟ وإذا كان بعض العلماء يذهبون إلى ضرورة أن يكون آباء الأنبياء موحدين فأمّ الإمام الصادق(ع) فروة هي بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر.

وهذا يوحي بأن التوحيد في امتداد النسب للأب والأم لا علاقة له بالجانب القيمي للنبي لأن ذلك يتصل بطهارة المولد ونقاء النسب، فالوارد عندنا أنّ آباء الأنبياء لابدّ أن يكونوا طاهرين بنكاح غير سفاح، وهذا ما وردت فيه الرواية عن الإمام الباقر(ع). علماً أن ذلك ليس من العقائد الأساسية التي تدخل في صلب العقيدة، بل هو من الموضوعات النظرية المثيرة للجدل في فهم الكتاب والسنّة.

عالم الملكوت:

* ما معنى (عالم الملكوت) وهل هناك حساب وعقاب في هذا العالم؟

ـ هو عالم الملك الذي يستقلّ اللّه سبحانه وتعالى به في عالم الغيب، وربما يشمل عالم الدنيا والآخرة الذي يملكه اللّه ويملك أمره.

الشقي والتقي:

* يتردد في أذهاننا القول ((الشقي شقي في بطن امه والتقي تقي في بطن أمه)). فما مدى صحة هذه العبارات؟ واذا كانت صحيحة فما معنى أنّ اللّه سبحانه وتعالى يخلق الإنسان ويكلّفه ويبتليه وهو يعلم المحصّلة النهائية من ذلك كلّه؟

ـ معنى ذلك أنّ اللّه تبارك وتعالى يعلم ما يصنعه هذا الإنسان. وهناك فرق بين أن يخلقه شقياً رغماً عنه فهذا جبر، وبين أن يعطيه عقلاً وإرادة }إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا{(20). }أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * ولساناً وشفتين{(21). }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ{(22). نعم، إنّ اللّه يعلم إن هذا سيختار الشقاء بمحض إرادته لكن ليس معنى ذلك أنّ اللّه فرض عليه الشقاء فرضاً. وإذا أردنا أن نقرّب الصورة بوسيلة إيضاح، فنقول إن مثل ذلك كمثل من يحدس أن طالباً في المدرسة سوف لن ينجح لمقدمات يقدّرها في وضعه، فإذا حصل ورسب هذا التلميذ فلا يعني ذلك أن من حدس فشله ورسوبه هو الذي قدّر ذلك.

فعلم اللّه سبحانه وتعالى بالمستقبل كعلمه بالحاضر والماضي وهذا لا ينافي الاختيار، أي أنّ اللّه يعلم أنّ هذا سيختار الشقاء وهو جنين في بطن أمه، أمّا لماذا خلقه فلأنّ شروط الخلق موجودة ولأنّ اللّه كريم يعطي الحياة لمن يشاء ويعطيه العقل والإرادة وينـزل عليه الوحي من خلال رسله حتى يعاون عقله وإرادته في مشروع هدايته }وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{(23).

هل الشفاعة شكلية؟

* نسب إليكم أنكم قلتم في كتابكم (من وحي القرآن) في الجزء (25) ص (66) حول موضوع الشفاعة بانها في الشكل كالواسطة الدنيوية التي يقوم بها بعض المقربين من كبار الناس لقضاء حوائج أصحابهم أو اقاربهم، فما معنى قولكم؟

ـ لم أقل كمثل الناس بل قلت إنّ الآية تقول إن الشفاعة ليست بالشكل الذي لدى الناس، بل أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يكرم بعض عباده المخلصين من الأنبياء(ع) والأئمة(ع) والمؤمنين بان يشفّعهم في من يملك قابلية الشفاعة }وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى{(24).

فالشفاعة ليست شكلية، لكن كل شفاعة هي بإذن اللّه ولا تنفع الشفاعة إلا بإذنه، والشفاعة ليست كما هي الحال بين الناس الذين اذا بعثت لهم هديه يتوسطون لك على طريقة ((أطعم الفم تستحي العين)). كمثل بعض الناس الذي اذا ذبح ذبيحة للسيدة زينب(ع) تصوّر أنّها ستشفع له يوم القيامة بسبب هذه الذبيحة بقطع النظر عن وجود الشرط الذي تجوز به الشفاعة وهل يستحقها هذا الشخص بذلك أم لا؟ فنحن نرى أن لدى النبي(ص) والأئمة(ع) برنامجاً في الشفاعة من قبل اللّه تعالى وهناك شروط لمن يشفعون له فلا يشفعون مثلاً لمشرك. وهذا لا يعني أنّ الشفاعة شكلية، لكنّ بعض الناس ينسبون إليّ ما لم أقله لأنهم للأسف لم يفهموا مراد كلامي.

صفاته عين ذاته:

* ما معنى أنّ صفاته عين ذاته؟

ـ معناه أن ليس هناك اثنينية بين اللّه تبارك وتعالى وبين صفاته لأن اللّه ليس مركّباً بل ذاته بسيطة، فليس هناك صفات خارجة وإنّما صفاته عين ذاته، فهي بالشكل الذي ربّما لا نستطيع أن نشير إليه بشكل مادي في هذا المجال، انه هو عين العلم وعين القدرة وعين كلّ صفة من صفاته، لأن الفرق بين صفات المخلوق في ذات وفي علم وفي شجاعة وفي قوة، وبين صفات اللّه سبحانه وتعالى إنّما هي في المخلوق لم تكن فكانت، وفي اللّه هي عين ذاته، أما كيف ذلك فاللّه أعلم بذلك.

النبي(ص) والمسيحية:

* كان الرسول الأكرم(ص) إبراهيمياً قبل البعثة، فلماذا لم يدن بالمسيحية، علماً بأنّ المسيح جاء بعد النبي إبراهيم(ع)؟

ـ لم تكن هناك فروق ملحوظة، ولكن دين إبراهيم(ع) هو الذي احتوى الديانات كلّها، الاّ أنّه لم تكن هناك خطوط فاصلة بين دين إبراهيم(ع) وبين الأديان الأخرى.

العصمة الذاتية والإلهية:

* هل عصمة السيدة فاطمة(ع) ذاتية أم إلهية؟

ـ هي عصمة ذاتية والهية، أي أنّها وصلت بجهدها إلى هذه المرتبة وأنّ اللّه أعطاها لطفاً من الطافه بحيث أكد هذه العصمة.

هل الذنب شرك؟

* هل المسلمون المذنبون يعبدون الشيطان ولكن بدون طقوس؟ وهل هذا شرك ويستوجب الخلود في النار إذا لم يتوبوا؟

ـ ليس هذا شركا، فشرك الطاعة عندنا هو شرك العبادة وشرك العقيدة }أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ{(25). أي لا تعبدونه ولا تطيعوه. و لا يوجب الخلود في النار بل هو معصية وكلّ معصية هي طاعة للشيطان.

عذاب اللّه يصيب من؟

* يقول تعالى }قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ{(26). ونحن نرى أن عذاب اللّه يأتي من الكوارث والزلازل والعواصف والفيضانات فيصيب الفقراء والمساكين، أمّا الأغنياء المتسلطون في قصورهم وقلاعهم فمنعّمون لا يصيبهم شيء من ذلك، فمن هم يا ترى الظالمون؟

ـ الواقع أنّ عذاب اللّه ليس في هذه البراكين والزلازل والفيضانات، فهذه جزء مما تحتاجه الأرض في نظامها الكوني الطبيعي. ثم أنّ الفيضانات قد تشرّد الكثير من الناس لكنّها في المقابل تصلح الكثير من الأراضي التي لا يمكن أن يصلها الماء إلاّ من خلال الفيضانات. فهذه الظواهر الطبيعية جزء من طبيعة الكون سواء كانت الرياح العاصفة أو البراكين أو الزلازل أو غيرها، وكما لها سلبيات فإن لها إيجابيات كثيرة وهي ليست من عذاب اللّه أو عقوبة منه فالذين يهلكون جرّاء هذه الظواهر فإنّ اللّه سبحانه وتعالى يعطيهم الكثير من رحمته عندما يفدون على ساحته الكريمة، فالدنيا ليست كلّ شيء وما يجري فيها من كوارث طبيعية ليس عذاباً للناس.

 

الفصل الثالث

 

 

مسائل السيرة

 

 

المسائل العامّة:

 

ميـل آدم للشجـرة

س : بماذا تفسّر ميل آدم(ع) للشجرة، هل هو ضعف بشري؟

ج : الله سبحانه وتعالى يقول عنه: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً} [طه:115]. وكما ذكرنا مراراً، فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يدخل آدم(ع) دورة تدريبية في المرحلة الجنينية كما يصفها الشهيد محمد باقر الصدر(رض) ليواجه تحديات الواقع حينما يخرج من الجنة إلى الأرض، حيث سيواجه فيها أحابيل الشيطان الذي أغراه بالأكل من تلك الشجرة، فالنهي لم يكن أمراً تكليفياً حتى يعاقب عليه، وإنما هو أمر إرشادي كما هي أوامر الطبيب.

المستأكلون بأهل البيت(ع)

س : روي عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: "لعن الله المستأكلين بنا أهل البيت"، فما معنى ذلك؟

ج : أي الذين يتاجرون بهم فيتخذونهم وسيلة من وسائل الاتجار، بطريقة لا هدف لها إلا الحصول على المال والوصول إلى المطامع الشخصية، ولا يعني ذلك خطباء المنبر الذين يقدّمون خدمات للناس من خلال توجيههم وإرشادهم والتحدث عن كربلاء في دروسها الثورية الإسلامية، والناس يعطونهم أجرهم على خدمتهم.

إعفاء أهل الكتاب من الجزيـة

س : لماذا قام النبي(ص) في اتفاقية نجران بإعفاء أهل الكتاب من الجزية، ولم يفعل ذلك مع الآخرين من أهل الكتاب؟

ج : النبي(ص) هو ولي أمور المسلمين، وله أن يعفي الناس من الضرائب، وله أن يأخذها من بعض الناس، ولا بدّ أنه يتحرك من خلال الحكمة ومصلحة الإسلام والمسلمين في ذلك كلّه.

حكـم أو حاكــم

س : في ردّكم حول رواية ولاية الفقيه، ذكرتم أن الخبر وارد بصيغة (حكم) ولكن المستدل على الولاية العامة، كما عند الشهيد محمد باقر الصدر، أنها (حاكم)، فأي الصيغتين أصحّ؟

ج : قلت إن هذا في حال القضاء، فمقبولة عمر بن حنظلة ليس فيها أية دلالة من قريب أو بعيد على ولاية الفقيه العامة، بل هي واردة في القضاء، حيث يسأل سائل: "رجلان تنازعا في دين أو ميراث، فهل يمكن أن يتحاكما لأحد من أهل الجور؟ قال له: لا، بل انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا ونظر في أحكامنا وعرف حلالنا وحرامنا، فارضوا به (حاكماً) أو فارضوا به (حكماً) لا فرق، فإني جعلته عليكم حاكماً" في النـزاعات التي تحدث بين الناس، وليس هو الحاكم السياسي والاجتماعي، وإلاّ فالإمام الصادق(ع) هو الولي في ذلك الوقت، فكيف يجعل للناس ولياً وهو الولي؟ فالمهم أن هذه الرواية مختصّة بالقضاء ولا تشمل الولاية العامة.

صـور الأئمــة(ع)

س : ما حكم ما يوضع من صور الأئمة(ع) في البيوت والمحال التجارية للتبرّك، وهل هناك فرق بين استلزام الهتك وغيره؟

ج : طبعاً إذا استلزم الهتك فلا يجوز، وأنا لا أشجع هذه المسألة، لأن أغلب الصور إن لم يكن كلّها، ليس فيها أي ملامح فنية تجعلنا نتصوّر الأئمة(ع) بما لهم من المعاني الروحية التي تجعل الإنسان يتمثلها في صورهم، بحيث تشعرك بمعاني الوداعة والتسامح والمحبّة وكلّ الصفات التي يمثلونها.

فلا نقول بحرمة رسم صور الأئمة(ع)، ولكن لا بد من فنان بارع، بحيث يستوحي الملامح الروحية للأئمة(ع)، حتى أنك إذا نظرت إلى الصورة، فإنك تتمثل كل المعاني الروحية وكل الصفاء وكل القيم التي تتمثل في الأئمة(ع).

علـم الأنبيــاء(ع)

س : هل يلزم أن يكون الأنبياء والأئمة(ع) أعلم الناس في جميع العلوم والفنون؟

ج : السيد المرتضى(رحمه الله) وجماعة من علمائنا الأقدمين يقولون بعدم وجوب كون الأنبياء(ع) والأئمة(ع) أعلم الناس في كلّ العلوم، بل أن يكونوا أعلمهم في كلّ ما تحمّلوا مسؤوليته من الرسالة، وهذا القول قريب، لأن العقل لا يستقل بأكثر من ذلك.

أدوار الأئمـة(ع)

س : هل كان للأئمة المعصومين(ع) أدوار ثابتة من قِبَل الباري عزّ وجل، أي أن الحسين(ع) يخرج بثورة والصادق(ع) يقوم بنشر علم آل محمد(ص).. الخ؟ أم أن هذه الأدوار تغيّرت حسب الوضع الاجتماعي والسياسي السائد؟

ج : ليست المسألة قصة تعليمات يقول الله فيها للإمام الحسين(ع) اذهب وثُر، فالإمام(ع) يقول: "رضى الله رضانا أهل البيت"، أي أننا نرتضي ما يرضى الله سبحانه وتعالى، ـ وهم أي الأئمة(ع) ـ العارفون بالإسلام والعارفون بالتكاليف الشرعية، وقد رأى الإمام الحسين(ع) أن تكليفه بحسب الموازين الشرعية أن يثور، كما رأى الإمام الصادق(ع) بحسب تكليفه الشرعي أن يقوم بنشر العلوم، فلا توجد إثنينية بين الأئمة(ع) وبين تعاليم الله سبحانه وتعالى، فقولهم حق وفعلهم حق وحركتهم حق، لأنهم المعصومون، ولذلك فلا يوجد توزيع أدوار، وإنما هي مقتضيات التكليف بحسب الظرف الذي يعيشه كل إمام.

التغيـيـر الشامـل

س : ما هو رأيكم في ما طرحه السيد الشهيد الصدر(رض) في المقولة التالية: "وقع تغيير شامل وعالمي بعد تغيير كبير في الأرض في عصر النبي نوح(ع)، وسيقع تغيير شامل وكامل بعد تغيير كبير أيضاً في الأرض في عصر الظهور"؟

ج : إن السيد الشهيد(رض) يريد أن يقرّب الفكرة، فمن الممكن أن يكون عصر الظهور عصر التغيير الذي تنقلب فيه الكثير من الموازين والقوى والأوضاع بالطريقة التي تسهّل للإمام(ع) مشروعه الكونيّ الذي يحمل رسالته، وإلا فلا تشابه بين التغييرين إلا بكونهما شاملين، أما الكيفية في التغيير الثاني، فهي مختلفة تماماً عن التغيير في عصر نوح(ع) كما هو واضح.

من أرادني بسوء فأرده

س : نقرأ دائماً عن خلق أهل البيت(ع) وكرمهم وصفحهم عمّن يخالفهم، ولكننا نرى في دعاء (كميل) صورة مغايرة لصورتهم السابقة، وذلك في قول الإمام علي(ع): "اللهم ومن أرادني بسوء فأرده ومن كادني فكده". أليس من المناسب لخُلُقهم أن يقول الإمام(ع): "من أرادني بسوء فاهده"؟

ج : إن من يريد الإمام(ع) بسوء فإنه يريد الأمة بسوء، فالإمام علي(ع) ليس شخصاً بذاته، وإنما هو شخص للأمة وللحياة كلّها. أما بالنسبة لنا، ففي الوقت الذي نقول فيه: اللهمّ من أرادنا بسوء فأرده، أي فأدّبه حتى يرعوي، فالله هو الذي فتح لنا المجال في ذلك بقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194]. فبعض الناس لا يفيد معهم العفو، بل يضرّهم، بحيث يجعلهم يشعرون أنهم قادرون على الإضرار بالناس، ومن الممكن أن تكون هذه الفقرة في الدعاء واردة في الذين يريدون السوء ويستمرون فيه، بحيث لا يرتدعون عنه إلا إذا أصابهم الله بسوء وشغلهم بالإساءة إلى الناس بأنفسهم.

الإمامـة والوراثـة

س : ألم تصبح الإمامة كالوراثة، حيث يرث الابن أباه؟ ولماذا لم ينص على غيرهم من الناس؟ علماً أنه كان هناك أناس على درجة عالية من العلم والتقوى، وكان الإمام(ع) يعتمد عليهم، وما هي الحكمة من تعدد الأئمة(ع)؟

ج : إن الإيمان بالإمامة ناتج من الاعتقاد أنها من الله سبحانه وتعالى، ولي أن أطرح على السائل هذا السؤال، أنت أعلم بمصلحة الناس أم الله الذي يختار لهم ما يصلح شأنهم ودينهم وحياتهم ومستقبلهم؟!

كتب في فهم الإمامة

س : هل لكم أن تدلونا على أسماء كتب جديدة تنصح بها من يريد الاستبصار في موضوع الإمامة؟

ج : هناك العديد من الكتب في هذا المضمار، فهناك مثلاً كتب السيد مرتضى العسكري (حفظه الله) وكتاب (التشيع) للسيد عبد الله الغريفي (حفظه الله) وكتب عبد الحسين شرف الدين (رحمه الله) وكتب الشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) وكتب السيد هاشم معروف الحسني وغيرها.

الجهـل بالشيـعــة:

س : عندما يظهر عالم شيعي في إحدى الفضائيات يوجّه إليه بعض السائلين السؤال التالي: هل الشيعة مسلمون؟ فمن يتحمّل مسؤولية هذا الجهل، لا سيما وأننا في زمن الاتصالات؟

ج : يتحمّل مسؤوليته الذين يجهّلون الناس ويوجّهونهم بتوجيهات غير صحيحة. فهناك للأسف من يتحدثون عن الشيعة بأنهم مشركون وغير مسلمين وما إلى ذلك.

التدليس على الأئمة(ع):

س : كثيرة هي الأقوال المنسوبة إلى الرسول(ص) والأئمة(ع)، والكثير منها هو من قبيل التدليس والتقوّل، ومهما بذلنا من جهود في تمحيص علم الرجال يبقى هناك مجال للوقوع في الخطأ وقبول أقوال لم يقلها أصحابها، فضلاً عن أنّ الكثير منها قيل في مواضيع معينة فوصلنا القول مبتوراً، أفلا ترون أنّ من الواجب علينا قبل الاستشهاد بأقوالهم أن نعيش الإسلام بخطوطه العامة من خلال القرآن الكريم، ثم نعرض الأقوال على فهمنا للقرآن فنرفض ما خالفه ونوافق على ما يسانده؟

ج : هذا هو المنهج الصحيح الذي ورد عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع)، وذلك هو قولهم: "لا تقبلوا علينا ما خالف القرآن"، وقولهم: "ما خالف كتاب الله فهو زخرف"، وقولهم: "ما خالف قول ربّنا لم نقله"، وقولهم: "ما جاءكم من حديث من برّ أو فاجر فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار".

فالمنهج الإسلامي يقتضي أن نعرض كلّ حديث يردنا على العقل، ثم نعرضه على كتاب الله، ثم ندرس ما إذا كان موثقاً أو غير موثّق، وحتى لو كان الراوي موثّقاً وكان الحديث مخالفاً للقرآن فعلينا أن نطرحه ونضرب به عرض الجدار، لأنّ القرآن يمثل الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

مشروعية فعل النبي(ص)

س : هل صحيح أن مجرد فعل النبي(ص) لا يدلّ إلا على المشروعية أو الاستحباب، أما الوجوب فيحتاج إلى دليل؟

ج : هذا صحيح، ويعني أن النبي(ص) عندما يفعل شيئاً، فإن معنى فعله للشيء أنّه جائز، وليس معنى ذلك أن كلّ ما يأكله ويشربه ويلبسه يصبح مستحباً، فبعض الناس يقول في استحباب أكل البطيخ أو غيره أنّ الإمام(ع) أكل هذا الشيء، والإمام(ع) بشر، فليس معنى ذلك أنّ كل ما يأكله الإمام أو يشربه، أو الوقت الذي ينام فيه مستحب، فقد ينام لأنه محتاج إلى النوم، وقد يأخذ دواءً معيناً لأنه يريد علاج مرض يعاني منه، فلا يعني كلّ ذلك أن أفعال الإمام(ع) صارت مستحبة، فالفعل لا يدل إلا على مشروعية الشيء لا على استحبابه ولا على وجوبه. فلا بدّ لإثبات وجوب الفعل واستحبابه من دلالة لفظية في صيغة الطلب ونحوه.

إرث النـبـي(ص)

س : هل كانت (فدك) ملكاً شخصياً للنبي(ص)؟

ج : نعم، كانت ملكه الشخصيّ، فأنحلها ابنته الزهراء(ع) ـ على رواية ـ أو أورثها إياها على رواية أخرى، وهي مما لم يوجف عليها بخيل ولا بركاب، ولذلك إمّا أن تكون فدك نحلة وهبها رسول الله(ص) للزهراء(ع)، أو أنّها كانت إرثاً، وقد دافعت الزهراء(ع) عنها كإرث، وعن حقّها فيها بالأدلة والبراهين التي تثبت خطأ أولئك الذين منعوها إرثها في فدك. ومن الغريب أنّ الزهراء(ع) كانت الوريث الوحيد للنبي(ص) في هذه الأرض إذا قلنا إن الزوجة لا تملك في العقار شيئاً، فلماذا لم يكن في المسلمين جميعاً من سمع أن النبي(ص) قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة، إلا أبا بكر؟! وكيف لم يُحدّث به ابنته فاطمة الزهراء التي هي صاحبة المصلحة في ذلك؟! إن هذا أمر يلفت النظر.

صحّــة حديـث

س : ما صحة الحديث المروي عن رسول الله(ص): "اللهم بارك لنا في خبزنا ولا تفرّق بيننا وبينه، ولولا الخبز ما صلّينا ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا"؟

ج : أستبعد أن يكون الحديث بهذا التعبير، ولا إشكال أنّ الخبز يمثل الطعام الأساس للناس كلهم، فإذا فقد الناس طعامهم وشغلوا بجوعهم وعطشهم وفقرهم وما إلى ذلك، فربما يتخلّون عن الصلاة وعن الصوم، بينما إذا فرضنا أن الله رزقهم ذلك فإنهم يشكرون الله على ذلك وينفتحون على عباداتهم، لأنه سوف لن يكون هناك ما يشغلهم عن ذلك.

ملاحظـات حول البعثــة

س : كانت لكم ملاحظات في كتاب (قضايانا على ضوء الإسلام) حول الرواية المشهورة عند أخواننا السنة في بداية وكيفية البعثة، فهل ما زلتم على ملاحظاتكم تلك؟

ج : نعم ما زلنا عليها، فلقد كتبت منذ أربعين عاماً في مجلة (الأضواء) التي كانت تصدر في النجف عن (جماعة العلماء) وكنت ممن يشرف عليها، أن الرواية الواردة حول البعثة والمروية عن عائشة غير صحيحة، فلم تكن عائشة يومذاك قد ولدت بعد، فلقد تزوجها النبي(ص) وهي في أول السنة العاشرة من عمرها، ثم إنها لم تروها عن الرسول(ص)، فلم تقل: حدّثني رسول الله(ص)، كما أن مضمون الرواية لا يصمد أمام النقد، ومضمونها أن جبرئيل(ع) جاء إلى النبي(ص) وقد مدّ جناحيه فحجب الأفق ونور الشمس كلّه، وكان النبي(ص) يتعبّد في غار حراء، فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء؟ ثم كرّرها بعد ذلك مرتين والنبي(ص) يقول وهو مرتجف خائف: ما أنا بقارىء؟ ثم قال(ع): {اقرأ باسم ربّك الذي خلق} [العلق:1]، فجاء النبي(ص) ـ حسب الرواية ـ إلى خديجة(رض) وهو يرتعد وكأنه أصيب بمسّ، فهدّأته قائلة: إن الله لن يخذلك لأنك تصل الرحم، وبعثت على ابن عمها (ورقة بن نوفل) وكان مسيحياً، ولذا قال بعض المستشرقين والنصارى إن النبي(ص) كان نصرانياً لأن معلّمه كان نصرانياً، وقد كتب أحد اللبنانيين كتاباً بعنوان (الإسلام بدعة نصرانية).

وحسب الرواية أيضاً، فقد قال ورقة للنبي(ص) هذا هو الناموس الذي بعث به موسى(ع)، ولم يذكر اسم عيسى(ع) مع أنّه مسيحي، ثم يقول له ليتني أدرك نبوّتك، والحال أنه أدركها، فما معنى تمنّيه أن يعيش حتى ينعم بنبوّة النبي(ص)؟!

ويقول له: إن قومك سوف يخرجونك، فيقول(ص) متسائلاً: أومخرجيّ هم؟ فهل يعقل أن يبعث الله تعالى نبيه(ص) دون أن يكون واعياً لما يراد منه من الرسالة وما يستقبلها؟ وهل يعقل أن تكون خديجة أكثر وعياً من رسول الله في أمر اختصّه الله به؟ وهل يعقل كذلك أن يكون مرشد النبي(ص) ودليله شخص مسيحي ولديه جبرئيل(ع) الذي يمكن أن يجيبه على كلّ أسئلته وتساؤلاته؟!

وإذا رجعتم إلى (مجمع البيان) للشيخ الطبرسي، لرأيتم أنه يقف عند هذه الرواية فيرفضها، كما أنني كتبت في (الأضواء) أن الرواية غير صحيحة ويكّذبها مضمونها بالإضافة إلى أنها رواية غير موثوقة.

متـى ابتـدأت عصمـة النبـي(ص)؟

س : هل كانت عصمة الرسول(ص) قد بدأت منذ طفولته؟ فلقد قال بعض العلماء إن محمداً أصبح رسولاً في الأربعين من عمره وكان نبياً منذ ولدته أمه، فما هو تعليقكم؟

ج : لم يكن نبياً منذ ولادته، إنما صار نبياً ورسولاً في الأربعين من عمره، والآيات القرآنية تدلّ على ذلك {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى:52].

أما مسألة العصمة، فكما أكّدنا مراراً من أنه لا بدّ أن يكون النبي(ص) معصوماً، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسوله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلا بدّ لمن يقوم بهذه المهمّة أن يكون نوراً كلّه، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان الخطأ في الفكر ظلمة والخطأ في العاطفة ظلمة، والخطأ في السلوك ظلمة، فكيف يقدّم النبي(ص) النور للناس في عقولهم وقلوبهم وحركتهم؟ ولذلك فلا بدّ أن يكون مُخرج الناس من الظلمات إلى النور نوراً كله، أما كيف أودع الله النور في النبي(ص) وآله(ع)، فذلك أمر لسنا معنيين في البحث عنه، بل يكفي أن نقول بعصمتهم من خلال المنطلق الذي ذكرت، ولا دخل لنا في كيفية هذه العصمة، هل هي تكوينية أو اختيارية؟ وهل هي عصمة منذ الولادة أو بعدها.

وفوق هذا وذاك، فإنّ المطلوب منا هو اتباع النبي(ص) وأن نعتقد أنه رسول الله إلينا جميعاً، ولم يكلّفنا الله سبحانه وتعالى غير ذلك.

بيـن هجـرتيـن

س : هل هجرة المسلمين إلى يثرب والحبشة بدلاً من المواجهة مع المشركين تعتبر مثالاً لهجرة المسلمين الحالية إلى بلدان الغرب بدلاً من المواجهة مع اليهود في فلسطين أو مع الحكّام الظالمين؟

ج : لقد هاجر المسلمون الأوائل إلى الحبشة، لأنهم كانوا يطلبون من النبي(ص) أن يدافعوا عن أنفسهم وأن يقاتلوا أعداءهم، لكن النبي(ص) في ذلك الوقت كان يجيبهم أنه لم يؤمر بقتال، وحينما فتح الله بعد ذلك باب الجهاد، نزل قوله تعالى: {أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا وأن الله على نصرهم لقدير} [الحج:39].

أما الآن فهناك إذن بالجهاد، لكن علينا أن نعرف مواقع الجهاد من حيث شروطه وإمكاناته، فبحسب شروط الجهاد الآن لا أحد يتمكن من دخول فلسطين، ولذا لا بدّ أن نهيّىء الأرضية لفتاوى الجهاد من قبل أن نطلقها، فالفتوى غير الشعار، لأنها تحدّد للناس تكليفهم.

قبور زوجات الرسول(ص)

س : توجد في الشام قبور زوجات النبي(ص) أم سلمة وأم حبيبة، فمتى أتوا إلى الشام؟

ج : لقد كانت الرحلات بين الشام والمدينة مفتوحة، والطريق بين البلدين بعد الفتح كانت سالكة، ثم إن (أم حبيبة) هي أخت معاوية، ويمكن أن تكون قد زارت الشام لهذا السبب أو ذاك.

هل الرسول(ص) يسهـو؟

س : لقد علمت أنكم تقولون إن الرسول(ص) يسهو وينسى، فهل هذا مؤثر ولو بشكل جزئي على تبليغه لرسالة الله؟ وهل هذا السهو والنسيان يتنافى مع العصمة؟

ج : أعد النظر في علمك، فإنّي أقول إن النبي(ص) معصوم في كلّ أمره، لأنه نور كلّه، نورٌ في عقله وفي قلبه وفي كلامه وفي عمله، ومن ينسب إليّ غير ذلك فهو كاذب، وبعض الناس يتجرّأون على الكذب ولا يتقون الله في ما ينسبون ويكذبون.

فاطمة الزهراء(ع):

عصمـة الزهـراء(ع)

س : ما هي فلسفة الحاجة إلى عصمة الزهراء(ع) ما دام هناك بعض المعصومين في زمنها؟

ج : لقد عصمها الله تعالى حتى يعطي مثلاً على أنها نموذج المرأة القمة التي تعيش العصمة في فكرها، والعصمة في عملها وكلامها. وأراد أن يجعلها نموذجاً يُحتذى ومثلاً أعلى يُقتدى، ليعرّفنا أن المرأة قادرة على أن تصل إلى أعلى درجات الانفتاح على الله والقرب إليه سبحانه وتعالى، وليس من الضروري أن تكون العصمة بلحاظ جانب النبوة أو الإمامة، بل قد تكون في الجوانب الأخرى التي تمثل قيمة المرأة كإنسان يمكن أن يرتفع إلى أعلى المستويات. وهكذا كانت سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة، فسلام الله عليها وعلى أهل بيت العصمة: أبيها وبعلها وبنيها.

سيدة نساء العالمـين(ع)

س : هل ورد حديث في حق الزهراء(ع) أنها سيدة نساء العالمين؟

ج : ورد أنها سيدة نساء العالمين، وورد أنها سيدة نساء أهل الجنة.

أم أبيـها

س : لماذا سمّيت فاطمة الزهراء(ع) أمّ أبيها؟ وهل لها دور خاص في حياة النبي(ص) في دعوته الإلهية؟

ج : الزهراء(ع) ـ على حسب رأينا ـ سميت أمّ أبيها لأنها قامت بدور رعاية النبي(ص) في المرحلة التي أعقبت وفاة خديجة(رض)، فهناك ثلاث مراحل في حياة الزهراء(ع)، المرحلة الأولى: وهي التي عاشتها مع أبيها ولا سيما بعد وفاة أمها، فقد حضنت مشاعر أبيها وأحاسيسه، بحيث كانت تعطيه حنانها كلّه، وعاطفتها كلّها، حتى أنّ تاريخ تلك الفترة ينقل أنها كانت وهي في سنّ الطفولة عندما ترى أباها وقد أساء إليه المشركون بوضع أمعاء الشاة على ظهره، كانت تستقبله بالبكاء، وفي بعض الأحاديث أنها كانت تخشى عليه، وكان(ص) يطمئنها أن الله ناصرٌ أباها، وكانت في تلك الفترة التي سبقت الهجرة إلى المدينة، تعيش وحدها مع أبيها، لأن النبي(ص) لم يتزوج في الفترة التي عاشها في مكّة بعد خديجة(رض)، كما عاش علي(ع) إلى جانب الزهراء(ع) في بيت النبي(ص)، وكانا يتعلّمان من رسول الله(ص) وكانا يعيشان آفاق رسول الله(ص)، ولذلك فكلمة (أم أبيها) حسب فهمي لها، تعني أنها استطاعت أن تعوّضه مما فقده من حنان أمّه ومن عاطفتها التي يحتاجها كلّ إنسان بلحاظ بشريته، فالكلمة تعطي هذا المعنى.

وكما قلنا، ففي تلك الفترة كانت تعيش في كنف رسول الله(ص)، وكان عقلها من عقله وقلبها من قلبه، وكانت روحانيتها من روحانيته. ومن الغريب أن بعض الناس يقول لي: كيف تقول إنّ الزهراء(ع) تعلّمت من رسول الله، فهذا نقص في الزهراء(ع)، فقلت لهم: إنّ علياً(ع) يقول عن الرسول(ص): "كان يلقي إليّ في كلّ يوم خلقاً من أخلاقه، وكنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه"، وكان يقول: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كل باب ألف باب"، فلم يكن يرى في ذلك نقصاً، بل موضع فخرٍ واعتزاز، وهناك فكرة مغالية تقول: إن الزهراء(ع) أفضل من رسول الله(ص) وأفضل من علي(ع)، مع أننا نقول: إنّ عظمة الزهراء(ع) وعظمة علي(ع) أنهما تتلمذا على يدي رسول الله(ص)، فضلاً عن الألطاف الإلهية التي أفاضها الله سبحانه وتعالى على علي(ع) وعلى الزهراء(ع)، ونحن نعرف أنها(ع) كما عبّر أبوها(ص): "فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني"، فلقد كانت تعيش في رضا الله سبحانه وتعالى، وكانت تتعبد لله، وأما رسول الله(ص) فهو نبيّها الذي يجب عليها إطاعته، وعلي(ع) بعد رسول الله(ص) إمامها الذي يجب عليها إطاعته، وقد فعلت، فكانت قدوة النساء والرجال في الطاعة لله ولرسوله ولإمام زمانها.

وأما حديث أن الزهراء(ع) هي سرّ الوجود وأنها أفضل من علي وأفضل من رسول الله، فهذا كلام يرفضه أساس الإسلام، فرسول الله(ص) سيد الخلق كلّهم وسيد الزهراء(ع) وسيد علي(ع)، ولا يصحّ أن تبلغ بنا العاطفة درجة الغلوّ.

كانت هذه هي المرحلة التي عاشتها الزهراء(ع) مع أبيها(ص)، ثم جاءت المرحلة الثانية وهي مرحلة زواجها بعلي(ع)، حيث أخلصت وتعبت وعانت الكثير، حتى أن علياً(ع) نقل آلامها إلى رسول الله(ص)، وأنها جرّت بالرحى حتى مجلت يداها، واستقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، وطلب من رسول الله(ص) أن يعطيها خادماً، فأعطاها تسبيح الزهراء الذي خلّد آلام الزهراء(ع) في مدى الزمن، وكانت الزهراء(ع) مع كلّ تلك الآلام، العابدة، فلقد قال عنها ولدها الحسن(ع) أنّها كانت تقوم الليل حتى تتورم قدماها، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وكان يقول لها: يا أماه لِمَ لا تدعين لنفسك؟ فكانت تقول له: "يا بني الجار ثم الدار". وهكذا كانت تجمع نساء المسلمين وتلقي إليهم ما عندها من أحاديث رسول الله(ص) كما يروي في سيرتها، أما بعد وفاة الرسول(ص) فقد كانت الزهراء(ع) الإنسانة القوية المجاهدة التي دافعت عن حقّ علي(ع) كما لم يدافع عنه أحد، حيث نجد أحداً وقف مع علي(ع) وقفة التحدي بوجه الآخرين إلا فاطمة(ع)، وكان أساس خطبتها في المسجد النبويّ حقّ علي(ع) في الإمامة، وعندما استقبلت نساء المهاجرين والأنصار، فإنها لم تحدثهنّ إلا عن هذا الحق، وعندما زارها رجالهنّ لم تحدثهم إلا عن حقّ علي(ع)، وعندما كان علي(ع) يطوف بها على جموع المهاجرين والأنصار لم يكن لها حديث غير حق علي(ع) في خلافة رسول الله(ص)، وقد خلّدت احتجاجها، فأوصت بأن تدفن ليلاً حتى لا يحضر جنازتها أولئك الذين ظلموها وظلموا المسلمين الخلافة لأنها حق المسلمين.

لذلك أقول: افهموا الزهراء(ع) في حركتها كلّها في مواجهة الانحراف وأداء الرسالة.

بيـن الحـب والـولاء

س : ذكرتم في كتابكم الجديد (الزهراء القدوة، ص:26) أن الولاء موقف، والحب عاطفة، ونحن نعرف أنكم تؤكدون أن الحب الحقيقي لا يكون إلا إذا تجسّد طاعة؟

ج : إن الحب عندما يتعمّق في النفس يتحوّل إلى ولاء، وعندما يبقى راكداً في السطح فإنه يبقى عاطفة مجردة. فالولاء هو هذه العاطفة التي تتعمّق في العقل والقلب والإحساس بحيث يتحول الإنسان إلى شخصية ولائية، وهذا هو المروي عن الأئمة(ع): "إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإن كان قلبك يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خير والله يحبك، وإن كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع من أحب". ولا يكون المرء مع من أحب إلا إذا تحول حبّه إلى مواقف، ولذلك يقول الشاعر:

لو كان حبّك صادقاً لأطعته      إن المحبّ لمن يحبّ مطيع

فمن مقتضيات الحب الصادق الطاعة لمن تحب، وإلا فهو الحب الانفعالي الجاهل، وحتى تتجاوز هذا اللون من الحب لا بدّ أن يكون حبك حباً مثقفاً روحياً وعملياً، والولاء هو الحبّ المثقف والفاعل والمتفاعل.

الإمام علي(ع):

صراع علي(ع) ومعاويـة

س : لماذا نشب الصراع بين علي(ع) ومعاوية بن أبي سفيان، هل هو لأجل الخلافة؟

ج : ليس لأجل الخلافة، فالإمام علي(ع) كان خليفة المسلمين الشرعي الوحيد الذي بايعه المسلمون، وقد تمرّد معاوية على الخليفة الشرعي، ولذا نهض الإمام(ع) من أجل أن يحفظ أمن الدولة الإسلامية، لأنه إذا تمرد هذا الوالي وتركه وتمرد الآخر وترك لحاله لاختل نظام الدولة، ولكنّ معاوية كان يفكّر بالخلافة باسم المطالبة بدم عثمان، والإمام كان يقول إنه كان ممن خذلوا عثمان، وقد طلب منه أن ينصره، فكيف تطالب الآن  بدمه؟! فصراع علي(ع) من أجل الرسالة التي يؤمن بها، وأما صراع معاوية فمن أجل السلطان وفضول الحطام.

*** [نقص من عنوان (علم علي(ع) بالسياسة) ص 526 إلى قوله (سياق واحد) ص 528]

ردّوا الحجـر من حيث جـاء

س : يقول أمير المؤمنين(ع) في بعض كلماته: "ردّوا الحجر من حيث جاء، فإن الشر لا يدفعه إلا الشر"، فهل يمكن اعتبار هذه المقولة العلوية قاعدة حياتية اجتماعية إسلامية وسنّة إلهية، خاصة ونحن نواجه أعداء الله في فلسطين ولبنان؟

ج : يقول الله سبحانه وتعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتّقوا الله} [البقرة:194] {وأن تعفوا أقرب للتقوى}. وهذا وارد في الخلق السلوكي العام بأن نجعل مجالاً للعفو عمّن أساء إلينا.

وإذا صحّت الرواية، فإن مقصود الإمام(ع) أن الذي يعتدي عليكم ولا مجال لردّ عدوانه إلا بالمواجهة فواجهوه، وهذا هو الجهاد، وإلا فلِمَ فرض الله سبحانه وتعالى الجهاد؟ فعندما يواجهك الآخرون بالعدوان وليس أمامك فرصة للعفو فإنك تقابل العدوان بمثله، والبادىء أظلم. ومن هنا قال الإمام زين العابدين(ع): "وأما حقّ من ساءك فأن تعفو عنه، فإن رأيت أنّ العفو عنه يضرّه انتصرت".

الإمام الحسين (ع)

التّحدي الذي يوجب ضرراً:

س : كان الشيعة في زمن المتوكّل العباسي يقصدون زيارة الإمام الحسين (ع) وكان يمنعهم بالتنكيل بهم أو قتلهم، وكان ذلك يحصل بعلم الإمام الهادي (ع)، فهل أنّ الزيارة كانت تحدّياً وإن أوجب ضرراً؟

ج : إنّ الإمام الهادي(ع) لم يكن يملك القوة الكافية التي يواجه بها طغيان المتوكّل. وربما كانت الزيارة مواجهة ولائيّة لإلغاء الارتباط الحركي بالإمام الحسين (ع) الذي جسّد في حضوره وغيابه الحركيّة المتجدّدة من أجل العزّة والحريّة وإصلاح الواقع الإسلامي في كل زمان ومكان .. وفي أجواء السؤال قد نكون بحاجة إلى تدقيق تاريخي في التفاصيل المذكورة في الرواية فقد ترتسم بعض علامات الاستفهام حولها.

الحمـل الثقيـل

س : ما الذي نستوحيه من مقالة العباس(ع): "الحمل الثقيل لا يقوم به إلا أهله"؟

ج : إذا ثبت هذا عن العباس(ع)، فمعناه أن علينا أن نكون أهل الحمل الثقيل، بحيث نربّي أنفسنا لأن نحمل أثقال الرسالة وأثقال الأمة وأثقال الدعوة، وأن نطوّر طاقاتنا حتى نستطيع أن نحمل الأمانة الثقيلة، لأن الإنسان الذي يحمل الحمل الثقيل وهو لا يملك الطاقات والقدرات التي يستطيع من خلالها النهوض بأعباء الرسالة، فإنه قد يسيء إليها من حيث لا يقصد الإساءة.

الإمام الحسين(ع) والتقية

س : لماذا لم يعمل الإمام الحسين(ع) بالتقية؟

ج : لأن الإمام(ع) كان يرى في ذلك الوقت أنه إذا أعطى بيده إعطاء الذليل فإنه يعطي الشرعية لمن لا شرعية له. ولذا أراد الإمام الحسين(ع) في موقفه أن لا يعطي الشرعية ليزيد، بل لينزعها عنه.

ولذلك دخل الإمام(ع) معهم بحوار ولم يعلن الحرب في البداية: "ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين". فالإمام(ع) إذاً لم يعلن الحرب في نهضته، بل كان تصالحياً، لكن الفئة الباغية خاطبته بأن ينزل على حكم بني عمه، ولذا قال: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل".

أما بالنسبة إلى الإمام الحسن(ع)، فلم تكن هناك ظروف للمواجهة، لأنه لو خرج الإمام وجيشه منقسم على نفسه ويعان من الاهتزاز والفوضى، لقتل الحسن(ع) والحسين(ع) والعباس(ع) وقتل كل أهل بيته وصحبه ولم يبق أحد في الخط المعارض. ومن هنا فإن الإمام الصادق(ع) عندما تحدث عن التقية، اشترط أن تكون "من غير استفساد في الدين". فلا تقية في مواجهة القضايا الكبرى، وهذا ما كان يعيه الإمام الحسين(ع) تمام الوعي.

الفائدة العملية من وجود الإمام(عج) في غيبته

س : ورد في الأثر أنه يستفيد الناس من الإمام المهدي(عج) في زمن غيبته كما يستفاد من الشمس إذا ظللها الغمام، والسؤال: ما الفائدة العملية للناس من حياة ووجود الإمام(عج) في زمن غيبته؟

ج : هذه التعليلات التي وردت في بعض الأحاديث من قبيل أنه مثل الشمس يظللها الغمام، غير مفهومة. لكننا نقول إنه لا بد من أن تكون هناك حكمة في هذا الأمر، والله سبحانه وتعالى وحده يعلمها ولا نعلم من ذلك شيئاً. ولذلك فإننا آمنا به ولم نره، وإن الصادق المصدق أخبرنا بذلك كما أخبرنا بالجنة والنار فآمنا بذلك كله، والإيمان بعضه من بعض، كلٌّ متكامل.

كيفية ملء الأرض قسطاً وعدلاً

س : ورد في الروايات أن الإمام المهدي(عج) "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً"، فهل يملأها عدلاً بطريقة إعجازية أم بالطرق الطبيعية؟ وماذا عن قول القائل إن لعصر الإمام(ع) أحكاماً خاصة غير الأحكام الإسلامية؟

ج : إن عملية ملء الأرض بالقسط والعدل لا تتم بطريقة إعجازية، بل هناك معارك يخوضها الإمام(ع) وجنده لتحقيق ذلك، ولذلك نقول في الدعاء: "اللهم اجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه"، الأمر الذي يعني أن هناك عمليات استشهاد، وذلك لا يحصل إلا في الجهاد من أجل تحكيم شرعة الله على الأرض. ولكننا نقول إن في مسألة ظهور الإمام(ع) شيئاً من الغيب وشيئاً من الجهاد والحركة في خط الجهاد. وأمّا الحديث عن أنّ لعصر الإمام أحكاماً غير الأحكام الإسلاميّة فهو غير صحيح؛ لأنّ دور الإمام هو أن يُطبّق الإسلام في برنامجه العمليّ، ونقرأ في دعاء الافتتاح: "اللّهمَّ أظهر به دينك زسنّة نبيّك"، ممّا يوحي بما قلناه. وربّما يذكر بعضهم أنّ خفاء الأحكام الحقيقيّة بفعل الاجتهادات الخاطئة أو المختلقة يجعل الأحكام الأصيلة التي يُطبّقها بمثابة أحكام جديدة في نظر الناس. والله العالم.

بين القسط والإيمان

س : ما هو السرّ في قوله: {يملأ الأرض قسطاً وعدلاً}، دون القول: "يملأ الأرض إيماناً"؟

ج : ذلك لأن الله سبحانه وتعالى جعل العدل أساس الإيمان {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد:25]. فالأديان ترتكز على العدل، العدل مع الله، والعدل مع النفس، والعدل مع الناس. فالعدل مع الله سبحانه وتعالى هو أن تعبده وتوحده، وهذا يعني الإسلام كلّه. والعدل مع النفس هو أن تجعلها في موقع الإيمان، لأن الإيمان هو الذي ينقذها من نار جهنم ويعطيها رضا الله سبحانه وتعالى، وهكذا العدل مع الحياة، في أن لا تظلم الناس في تعاملك معهم في أي حقل من حقول الحياة، وأن لا تغمطهم حقوقهم، وأن لا تبخس الناس أشياءهم.

معنـى الانتظـار

س : ما معنى انتظار الفرج؟

ج : الانتظار هو أن تنتظر الإمام(ع) في الطريق الذي يأتي منه، فالإمام يأتي لنشر العدل وقمع الظلم، فلتكن في موقع معركة العدل ضد الظلم، أي أن تنتظره وأنت تقاتل وتخطط وترفض وتواجه، لا أن تنتظر في أجواء الدعة والاسترخاء.

ألسنا نقرأ في (دعاء الافتتاح): "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك". فعلينا أن نعدّ أنفسنا لنكون مشروع دعاة وقادة إلى سبيل الله، وإلا فلن نتحوّل بين عشية وضحاها من مجرد أناس عاديين إلى قادة، بل علينا أن نربّي ونعد أنفسنا من الآن حتى إذا جاء الإمام(ع) نكون القادة الذين نسعى إلى فتح الطريق إلى قيادته الكبرى.

ولكن للأسف، فإن بعض الناس يفهم الانتظار (تنبلة)، ومشكلتنا هي مشكلة القاعدين الذين ينظّرون للتنبلة بتنظيرات دينية مقدسة.

دعـاء الفـرج

س : لماذا الإكثار من الدعاء بتعجيل الفرج؟

ج : ذلك من أجل التعبئة الروحية للارتباط بالله سبحانه وتعالى.

تعدد النواب في الغيبة الكبرى

س : في الغيبة الصغرى كان هناك أربعة نواب، بينما في الغيبة الكبرى تعدد النواب المراجع، ما تسبّب إرباكاً في العلاقات حتى بين الزوجين في حال اختلاف تقليدهما لمرجعين مختلفين، فهلاّ توحّدت الرسائل العملية حسب المناطق؟

ج : كان هناك نوّاب أربعة من خواصّ الإمام(ع) يتلقّون التعليمات المباشرة عنه، أما المراجع فنوّاب عامّون حسب الرواية "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله". أما الرسالة العملية الواحدة فأمر صعب، ولكن مشكلة التقليد بين الزوجين يمكن أن تحلّ بتقليد مجتهد واحد بأن يقنعها أو تقنعه بتقليد من يقلّده هو أو تقلّده هي.

كتب في الإمام المهدي(عج)

س : ما هي الكتب المناسبة لمن يريد الاستبصار في موضوع الإمام المهدي(عج)؟

ج : هناك عدة كتب تناولت الموضوع بالبحث والدراسة المستفيضة، وقد عولج الموضوع في أكثر من دراسة قيّمة، خصوصاً الكتيب الذي صدر عن المرحوم الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رض) الذي يحمل عنوان (بحث حول المهدي)، فهو وإن كان صغيراً في حجمه، لكنه كبير في معانيه التي ركّز عليها، وهناك كتب موسوعية أيضاً تناولت الموضوع، ودراسات معاصرة تتوافر على بحثه يمكن الرجوع إليها.

 

الفصل الرابع

 

 

المسائل الفكريّة

 

الزواج بالأجنبية أم ببنت الوطن؟

 

س : أنا شاب لاجىء في دولة غربية ومتزوج من إحدى الكتابيات زواجاً منقطعاً مدة طويلة، وإني مرتاح ومنسجم جداً معها، وأرغب أن يكون الزواج دائمياً، ولكن المشكلة هي أنّ أهلي لا يرغبون بذلك، وقاموا بخطبة فتاة في بلدي مع أني لم أرها، وأني أنازع نفسي بذلك، فهل أتزوّج الفتاة الغربية وأخسر أهلي ومعارفي، مع العلم أنها قد قدمت لي خدمات كبيرة جداً، أم أتزوج الفتاة التي اختارها أهلي لي وأخسر من أحب؟

ج : الزواج هو حياة شخصية للإنسان، فلا بد أن يتزوج المرأة التي يشعر بالانسجام التام معها وبالمحبة والمودة والرحمة والمعاشرة وما إلى ذلك من هذه الأمور. والأهل ليس لهم أن يتدخلوا ليفرضوا على ابنهم زوجة لا يعرفها ولا يحبّها ولا يشعر بالانسجام معها، وخصوصاً الإنسان الذي يكون مرتبطاً بامرأة أخرى يحبها، ومعنى ذلك أنه حتى لو تزوج الثانية فسوف يظلّ فكره مع الأولى ولا ينجح زواجه الثاني. ولكننا نقول إننا ضد مسألة الزواج بالأجنبيات أولاً، باعتبار أن عندهن تقاليد خاصة كالحرية التي تختلف عما هو عندنا من تقاليد، وربما تشعر بالظلامة عندما تعيش معنا. وثانياً لأنّ هذا يسيء إلى المسلمات اللواتي يعشن في بلاد المسلمين، فإذا كان كلّ من يذهب إلى بلاد الغرب ويتزوج الأجنبيات فمن يتزوج المسلمات؟ ومن الناحية الاجتماعية فإذا كان يشعر السائل أن هذه المسألة تمثل شيئاً أساسياً بالنسبة له، فعليه أن يعرف مصلحته ويقنع أهله.

مع ملاحظة أخرى وهي أنّه إذا أراد أن يُفارقها فليفارقها بالمعروف، من باب الوفاء لها أمام خدماتها التي قدّمتها له، ومن جهة الانطباع الإيجابي الذي لا بُدّ أن تحمله – معها – عن أخلاقيّات الإنسان المسلم في تعهّداته لها بالتحدّث لها عن ظروفه القاهرة التي ضغطت عليه.

هجـوم اللوابـس:

س : ما هو معنى قول الإمام الصادق(ع): "العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس"؟

ج : ذلك يعني أن الإنسان الذي يعرف زمانه لا أحد يقدر أن يخدعه ويشبّه عليه الأمور بحيث تلتبس عليه. ويقول الإمام عليٌّ (ع): "وإنّ معي لبصيرتي: ما لبَّستُ على نفسي، ولا لُبِّس عليَّ".

حركيـة الثوابــت:

س : تدعون دائماً إلى الحركية في الإسلام، فكيف تكون هذه الحركية في الثوابت الإسلامية، وأعني الأصول الإسلامية؟ وهل الحركية بين الطوائف الإسلامية فقط أم هي أعمّ من ذلك، بحيث تشمل الديانات السماوية أيضاً؟

ج : عندما ندعو إلى الحركية الإسلامية فنحن لا نقول بالحركة في داخل الإسلام، بحيث نغيّر الصلاة بذريعة التحريك من الداخل، أو نغير القوانين الإسلامية في المعاملات، فذلك ليس بحركية، وإنما المراد بالحركية الإسلامية هو أن نتحرّك بالإسلام، بحيث يفكّر الإنسان المسلم دائماً أنه مسؤول عن طاقته وإمكاناته، أي لا مجال في الإسلام للقعود على التلّ، بل لا بدّ للمسلمين من النـزول إلى الساحة كلٌ حسب ظروفه، فالله تعالى يقول: {وأمُر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه:132]. ويقول: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} [التحريم:6]. ويقول عزّ وجل: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران:104]. ويقول: {الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً} [الأحزاب:39].

فالحركية الإسلامية هي أن تتحرّك ـ عندما يحتاج الإسلام إلى حركتك ـ كما تتحرّك من أجل إعالة عائلتك، ومن أجل رفع مستواك الاقتصادي والثقافي، وعلى كل جيل أن ينطلق في مسؤوليته وينقل الإسلام إلى الجيل القادم من منطلق أنّ الدعوة الإسلامية لا تتجمّد في جيل واحد، بل إنّ كلّ جيل مسؤول عن أن يحرّك الإسلام في فكره وشريعته ومنهجه وأمنه وسياسته واقتصاده في المجالات كلّها، وهذا الأمر كما يكون في الواقع الإسلامي يكون كذلك بالنسبة إلى الطوائف الأخرى بأن ندعوهم إلى الإسلام وأن نهديهم إليه.

فائـدة المنطـق:

س : لماذا تنكر بعض الفرق دراسة علم المنطق؟ ولماذا ندرسه؟ وإذا كان هذا العلم يوناني المنشأ فكيف يعتدّ به كمقياس للتفكير؟ ألا يجب إعادة التدقيق في ذلك؟ وهل أن المنطق الاستقرائي جاء من المستورد اليوناني أو هو من الإرث الإسلامي؟

ج : إنّ علم المنطق يسمّى بالمنطق الصوري أو الشكلي، فدوره دور إنتاج التعريف وتأليف القضايا حتى تكون منتجة، وقد انكمش دوره، لأن قضاياه أغلب ومقدماته بديهية، وانفتح علم المنطق على المنطق الوصفي الذي امتدّ وتوسّع في أكثر من مجال علمي وحركة الفكر، فيما أخذ المنطق الاستقرائي يتطوّر تطوّراً كبيراً، فهو منطق يمكن أن يحقق نتائج كبيرة على مستوى ظنّي أو قطعي، والعالم كلّه اليوم يعتمد هذا المنطق خصوصاً بالنسبة لاستطلاعات الرأي لمعرفة شعبية هذا المرشح أو ذاك، أو معرفة كم هو ضرر التدخين على الجسد؟ وما هي علاقة بعض العادات ببعض الأمراض؟

فالمنطق الاستقرائي يخضع للخطّ التجريبـي في معرفة المسائل والقضايا ونتائجه، وكما ذكرت، يمكن أن تكون ظنيّة ويمكن أن تكون قطعية، تبعاً لحجم الاستقراء والأسلوب العلمي المعتمد في إجرائه.

مقولة الإسلام الحضارية:

س : كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن صراع الحضارات وحوارها؟ فما هو تعريف الحضارة من وجهة نظركم؟ وهل للإسلام مقولة حضارية في الساحة العالمية؟

ج : إن الحضارة تمثّل الخطوط العلمية والعملية في حركة الإنسان في تطلّعاته وخططه ونظرته إلى الكون والحياة والإنسان، والإسلام يعتبر منظومة حضارية باعتبار أنه أعطى الإنسان الخطّ الفكري الذي يجعله يتصوّر الكون تصوّراً يربط بين ظواهره كلّها، وينطلق من خلال الوحدانية لله والوحدانية في القوانين التي تحكم هذا الكون، وركّز له طريقة السلوك وتنظيم المفاهيم في الحريات، بحيث يجد الإنسان أمامه خطوطاً سلوكية مرتبطة بكل قضاياه العملية، مما يستقيم به في كل أموره العامة والخاصة على أساس الذهنية العقلانية التي تحكم ذلك كله.

سلطـة الإعـلام:

س : يطلق اليوم على الإعلام اصطلاح "السلطة الرابعة" لما له من تأثير على حركة الشعوب، ومع ذلك فإننا لم نرَ اهتمامات من لدن المرجعية الشيعية تجاه هذا الموضوع؟ خاصة بالنسبة للقنوات الفضائية؟ فما هو السبب في رأيكم؟

ج : ما زلت أسعى وأدعو الكثير من الناس إلى المساهمة في مشروع إعلامي على مستوى التلفاز والقنوات الفضائية التي إذا لم نتمكّن من العمل فيها بحرية في الشرق الأوسط، فيمكننا أن نعمل بذلك في البلدان الغربية. ولكن مشكلة البعض ـ كما ذكرت مراراً ـ أنه مستعد لدفع مليون دولار لبناء مشروعٍ غير هام لكنّه غير مستعد لدفع ذلك أو أكثر أو أقلّ منه لبناء فضائية. فذهنية المشاريع التي ترفع مستوى الأمة لم تتكوّن لدينا بعد، والأمر يحتاج إلى تربية في هذا الاتجاه، فرغم امتلاء البلد بالحسينيات تراه يضيف إليها حسينيات جديدة، وهي جيدة على كلّ حال، لكن الحاجة إلى سواها من المشاريع الخيرية أو الثقافية أو الإعلامية أوسع، غير أنّه يرى أن مثل هذه المشاريع لا ثواب فيها، وأن مشروع الحسينية يثاب عليه أكثر. بل حتى على هذا الصعيد، ترى عشرات بل مئات المساجد في بلداننا، لكننا نفتقد المساجد والمدارس في المغتربات ما يشير إلى عدم وعي للمسؤوليات الشرعية إزاءها.

موافقـة العقـل للنـص:

س : قلتم في الندوة السابقة إنّ المنهج الإسلامي يقتضي منّا في كلّ حديث يردنا أن نعرضه على العقل، ثم نعرضه على كتاب الله، ثم ندرس إذا كان موثّقاً أو غير موثّق، والسؤال: هل أنّ كل حديث لكي يقبل ينبغي أن يكون موافقاً للعقل حتى لو كان صحيح السند؟ ألم يقل الإمام الصادق(ع): "دين الله لا يصاب بالعقول"؟

ج : إذا كان الحديث ضد العقل فمن الطبيعي أن يرفض، لأنه لا يمكن أن يتكلّم النبي أو الإمام بما هو ضدّ العقل. وأما قوله(ع): "دين الله لا يصاب بالعقول" فالمقصود العقول الظنيّة، لا العقول القطعيّة، فإذا كان الحديث يضادّ العقل القطعي، فحينئذٍ نحكم أنه غير صحيح، لأنّ العقول الظنيّة مبنية على الاستحسانات، فلا يجوز أن ترفض الحديث لمجرد الظنّ.

اقتنـاع الملحـديــن:

س : في الأسابيع الماضية تحدثتم عن حوارات الإمام الصادق(ع) مع بعض الملحدين، ولاحظنا أنّ الإمام(ع) كان يحاورهم بصدر رحب، وعندما يأتي لهم بالدليل الحقّ، فإن الملحد يقتنع ويشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، لكنّ المشكلة التي تواجه الدعاة والمفكّرين في هذا الزمن هي أنّ الذي تحاوره لا يقتنع بالحجة والدليل من خلال التعصّب الذي يختزنه في عقله، ومن خلال الأفكار المتعددة والمتضاربة، فماذا تقول؟

ج : علينا أن نظلّ نتابع الحجّة والدليل معهم ولا نتعقّد عندما يرفضون منّا ذلك، وعلينا أن نتهم أنفسنا أننا ربما لم نقدّم لهم الحجّة والدليل بالتي هي أحسن. ولذا لا يصح أن نتهم الآخرين دائماً بأنّهم هم الذين لا يفهمون، ونحن فقط الذين نفهم، فعلى الإنسان الداعية أو العامل أو المبلّغ أو العالم أن يتهم نفسه حتى يستطيع أن يربّي نفسه ويعلّمها ويدرس أكثر ويفكّر أكثر. فلا تتهموا الناس بعدم الفهم، بل اتهموا أنفسكم بأنّكم لم تحسنوا أسلوب التفهيم والتفهّم ليدفعكم ذلك إلى تطوير ثقافتكم وتنويع أساليبكم وتنمية معلوماتكم لتملكوا الحجّة على ما تطرحونه من جميع الجوانب.

حقوق المرأة في هذا العصر

س : ما هي الحقوق التي تطلبها المرأة في هذا العصر من المساواة مع الرجل وغير ذلك، فالعالم اليوم يصرّح بقوّة بهذا الموضوع، فهل يا ترى أنّ الإسلام قصّر بحقوق المرأة في شيء، أم أن المجتمع هو الذي أساء معاملتها؟ وهل يمكن للمرأة المساواة مع الرجل؟

ج : الإسلام لم يقصّر مع المرأة ولكنّه المجتمع، فالإسلام شيء والمسلمون شيء آخر، وبشكل عام، فإنّ الرجل يعتبر نفسه رأس المرأة وسيدها ـ حسب ذهنيتنا ـ بل هي إنسان من الدرجة الثانية والثالثة بنظره. فمن جانب التطبيق نحتاج إلى تجسيد القيم الإنسانية في احترام الإنسان، سواء كان رجلاً أو امرأة، وليس معنى المساواة أن تكون المرأة كالرجل في كلّ شيء، بل في حق الإنسانية، فالإسلام وزّع الوظائف بين الرجل والمرأة بشكل تكاملي وبما تستقيم به الحياة، فهل توجد مساواة بين الرجلين واليدين والرأس؟ أم أنّ للرأس وظيفة وللرجلين وظيفة وكلّ هذا يمثل الكيان الكامل للإنسان. فكذلك المجتمع، فالرجل والمرأة هما نوعان من الإنسان وهما يختلفان في بعض القضايا، فلا بد لكلّ منهما أن يأخذ حقه من خلال طبيعة تكوينه ومن خلال التكامل في بناء المجتمع.

إلـغاء عقـول القـرّاء

س : بعض الإسلاميين يجعلون النصّ القرآني مغلقاً لا يفتحه إلا نصّ من النبي(ص) أو الإمام(ع)، أي أنهم يلغون عقل القرّاء، فماذا ترون؟

ج : هذا على خلاف ما جاء في القرآن، لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {أفلا يتدبّرون القرآن}، فهو يطلب منّا أن نتدبّر القرآن {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء:82]. {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد:24]. فالله يطلب منا أن نفهم ونتدبّر ونستمع ونفسر القرآن، نعم هناك بعض الآيات نحتاج أن نرجع فيها إلى أهل الوحي فيما لا يكون له ظهور في هذا المجال. وقد أراد لنا النبي محمد (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) عرض الأحاديث المرويّة عنهم على كتاب الله مما نفهمه من ظواهره لنقبل ما يتّفق معه ونرفض ما يخالف، الأمر الذي يؤسّس لحجيّة ظواهر الكتاب للنّاس.

*** [نقص من عنوان (التنازل عن العنوان الحركي) ص 542 إلى قوله (مواجهة التحديات) ص 543]

الأدب والمحرّمـات

س : هناك من الأدباء من يرى أن لا حدود تحدّ الأدب، فهو حسب رأي هؤلاء لا يعترف بالمحرّمات والخطوط الحمر، وهم بذلك يدافعون عن الإساءات التي ترد في كتب الأدب الذي يرون أن من مسؤوليته نقد الدين أيضاً؟

ج : نحن نقول لهؤلاء: إذا لم تكن هناك مقدسات أمام الأدب، فلا مقدسات في السياسة أيضاً، فهل يمكن للسياسي أن يتعامل مع العدو ويخون وطنه من باب الأخذ بمبدأ حرية إسقاط المقدسات؟ إنّ الخط الحضاري للحرية هو أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر. فليس من حريتك أن تشتم مقدساتي، فهناك فرق بين شتم المقدسات وبين مناقشتها، فالإمام الصادق(ع) يقول لشخص قال له: "رجل شك في الله، قال: كافر، قال: شك في رسول الله، قال: كافر. ثم قال: إنما يكفر إذا جحد".

أدوات الحـوار

س : من كلام لكم عن الحوار منذ عدة سنوات قلتم إنّ الحوار ليس أن أناقشك وتناقشني وأن أغلبك أو تغلبني، ولكن الحوار أن أفهمك وتفهمني، لأن مسألة أن نفهم بعضنا بعضاً فيما نفكّر وفيما نتحرّك، هي أول خطوة في طريق اللقاء. فما هي أهم الأدوات التي نستطيع أن نحرّكها في الواقع الذي نعيش فيه حتى نصل إلى هذه النتيجة التي تتحدثون عنها بحيث نجعلها ممارسة في الحياة، ولا يبقى ذلك مجرد عبارات نطلقها؟

ج : أولاً: يجب أن أفهم وجهة نظرك وتفهم وجهة نظري، فإذا لم نفهم وجهة نظر بعضنا البعض فكيف نتحاور؟ لا سيما إذا كنت أحاورك من خلال تصوري عنك وتحاورني من خلال تصورك عني، لا من خلال واقع حالي وحالك، فأنت تكلمني بما تحمله من فكر، وأنا أكلمك بما أحمله من فكر، فيصبح حوارنا مثل حوار الطرشان، فبعد أن أعرض وجهة نظري كما أفهمها وتعرض وجهة نظرك كما تفهمها، نحاول أن نتفاهم وأن يقنع أحدنا الآخر، فالفهم أول خطوة للّقاء، وهذا شيء يحتاج إلى روحية المتحاورين. ومشكلتنا في الكثير من الحالات هو أنّ الكثير من الناس يحملون عنك فكرة غير مرتكزة على أساس، وأنت تحمل عنهم فكرة غير مرتكزة على أساس، فكيف يكون الحوار؟

التخلّي عن الفكر لإنهاء الخلاف

س : هل تعتقد أن من اللازم علينا أن نتخلّى عن بعض مبادئنا وأفكارنا من أجل إنهاء الفرقة بيننا وبين إخواننا من أهل السنّة؟

ج : لا يجوز للإنسان أن يتخلّى عن فكرته ولو بنسبة واحد بالبليون، فلنا عقائدنا والسنّة لهم عقائدهم، ولا ضرورة للتخلي عن عقيدتنا من أجل أن تكون هناك وحدة إسلامية، فالوحدة الإسلامية ـ كما أوضحنا مراراً ـ هي أن نلتقي على ما اتفقنا عليه، فنحن نلتقي على الشهادتين وعلى القرآن، وعلى الأركان من العبادات، ونلتقي على اليوم الآخر. أما ما نختلف فيه من أمر الخلافة عندهم وأمر الإمامة عندنا، فالمجال للحوار في ذلك مفتوح، وإن اختلفنا فالله تعالى يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} [النساء:59]. {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا} [آل عمران:103]، فأنا لا أوافق على أن نقدّم تنازلات من ديننا. ومنذ خمسين عاماً وأنا أدعو إلى الوحدة الإسلامية التي لا تعني أن نقول للشيعي كن سنياً وتنازل عن تشيّعك، أو نقول للسنيّ كُن شيعياً وتنازل عن تسنّنك بدون أساس، بل علينا أن نلتقي على ما اتفقنا عليه ونتحاور في ما اختلفنا فيه.

التنميـة الاجتماعيـة

س : نسمع من السياسيين والعلماء والخطباء حول التنمية الاجتماعية ومعالجة المشاكل الاجتماعية والتحمّل والصبر، إلا أن الوضع يزداد سوءاً ويهدّد المؤمن في كرامته ودينه من أجل أن يسدّ أفواه أطفاله، وتعلمون أنّ الفقر كفر، فأين أنتم من هذه القضية الاجتماعية؟

ج : في كل خطب الجمعة وفي كلّ الأحاديث الصحفيّة وفي كلّ اللقاءات مع المعنيين والمسؤولين نتكلم عن التنمية الاجتماعية وعن الوضع الاقتصادي، ونعارض الحكام في أي قرار أو قانون ضد مصلحة الشعب، بحيث يرهق كاهله بالضرائب وغيرها، ونعتبر من الضروري جداً لأي إنسان يشتغل بالحقل السياسي والاجتماعي والديني أن يتحمّل مسؤولية الناس في ما يطلقه من آراء ومن نقد وما إلى ذلك. كما أنّنا عملنا ونعمل على تأسيس المؤسسات الاجتماعية التي تساهم في بعض الحلول – بشكل وبآخر – في تخفيف الآلام ومعالجة المشاكل من خلال مبرّات الأيتام والمعاقين والمدارس المهنيّة والتعليميّة ومكاتب الخدمات الاجتماعيّة، من أجل إيجاد نموذج متقدّم للعمل الاجتماعي الحضاري.

الفصل بين السياسة والاقتصاد

س : مع انهيار الفلسفات السياسية المبدئية عالمياً، لم أفهم بعد كيف يمكن الفصل بين السياسة والاقتصاد، فماذا ترون؟

ج : إن السياسة اليوم قد أصبحت في خدمة الاقتصاد، ولذلك فقد تلاحظ أنّ العلاقات الدبلوماسية مقطوعة، ولكن العلاقات الاقتصادية طيبة، ذلك أن العالم أصبح يتحرّك من موقع الاقتصاد لا من موقع السياسة، وهذا هو واقع العلاقات الموجودة في العالم وواقع الحركة السياسية كذلك. ولذا ترى أنّ الشركات الاحتكارية في العالم هي التي انطلقت في إرساء العولمة من أجل أن تفسح المجال لكي يسيطر الاقتصاد الرأسمالي على العالم ثم تأتي السياسة كتابع ومساعد في ذلك.

تضاعف دور العلماء في الغرب

س : هناك حاجة ماسّة في أن يتضاعف دور العلماء في البلاد الغربية، حيث قد تضاعف عدد المهاجرين إلى تلك البلاد، وحيث إنّ الهدف الرئيس هو إذابة العدد الأكبر من الجيل المهاجر في الحضارة الغربية، الأمر الذي لم ينتبه إليه الكثيرون، وإذا انتبه قسم منهم لم يعملوا على منعه أو تعطيله، فالركض وراء جمع الأموال وتحسين الحالة المعاشية، يفقد الكثير من الروحانيات التي يمتلكها الإنسان العامل، بحيث تحوّلت العلاقات الاجتماعية إلى علاقات مادية، فهل في النية القيام بزيارات شخصية لتلك المناطق؟ وما رأيكم بالكارثة التي ننتظرها؟

ج : لا أستطيع القيام بزيارات إلى تلك المناطق، ولكن قلت مراراً إنه يحرم السفر إلى بلاد يضعف فيها الدين، وهذا هو التعرّب بعد الهجرة، فكل إنسان يعرف من نفسه أنه لا يستطيع أن يحفظ دينه ودين أولاده، فلا يجوز له أن يسافر إلى هناك. وإنّنا نرى ضرورة ذهاب مجموعة من علماء الدين الواعين إلى بلاد المهاجرين إلى الغرب لتوعيتهم في دينهم ورعايتهم في أوضاعهم الإسلامية.

التـديّـن والـذكـاء

س : هل الذكاء من شروط التديّن؟

ج : إن بعض الأذكياء قد يقتلهم ذكاؤهم ويوجّههم إلى الكفر. ولكن كلّما كان الإنسان ذكياً أكثر كان تديّنه أعمق، ولكن الذكاء ليس شرطاً في التديّن.

قنـاة فضائيـة شيعيـة

س : دعوتم سابقاً لإقامة قناة تلفزيونية إسلامية شيعية، وقلتم إن العراقيل هي مالية وليست فنيّة، فالناس دائماً يتبرعون لإقامة مساجد ومآتم ولا يتبرّعون لبناء قنوات إعلامية، مع أنها قد تكون أهم، فهل خطوتم باتجاه تصحيح تلك العقليات؟

ج : نحن نتحدث حيثما سنحت الفرصة عن هذا الأمر، ونحاول أن ندرس بعض العروض التي تقدّم بها بعض الأخوان المسلمين في بعض البلدان الأوروبية، وإذا اقتنعنا بواقعية ذلك فسوف ندعو له ونعمل من أجل أن يكون واقعاً إعلامياً.

الإفـادة مـن التاريـخ

س : هل ترون التاريخ مصدراً لأخذ العبر والتعلّم من الأمم المسلمة وغير المسلمة؟ أم أننا نعمل من خلال معطيات واقعنا؟

ج : لا بدّ أن نستفيد من التاريخ، فالله سبحانه وتعالى يقول: {لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب} [يوسف:111]. أي قصص المؤمنين وغير المؤمنين.

س : وما هو رأيكم بالنسبة إلى تقديس الأمجاد البطولية في الإسلام؟

ج : لا نقول بتقديسها، بل ينبغي أن نتعلّم منها باستعادتها، واحترام الأمجاد يكون على أساس:

ونبـنـي كمـا كانت أوائلـنا      تبنـي ونفعـل مثلـما فعلـوا

دور المسلـم الحضـاري

س : نرى غياب الإنسان المسلم عن ركب الحضارة، فما هو دور المسلم الحضاري؟ وما هو السبيل أمامه ليأخذ مكانه المناسب؟

ج : لا نستطيع أن نقول إن الإنسان المسلم غائب عن دوره الحضاري، لأنّ كثيراً من المسلمين يملكون المواقع المتقدمة في العلم، وإنّ كثيراً من المسلمين يشاركون في الاكتشافات العلمية، وكثيراً منهم يشاركون في أبحاث الفضاء وما إلى ذلك. فلدينا الكثير من المسلمين ممن عاشوا الحضارة في مواقع العلم. ونعتقد أن هناك بعض المجتمعات الإسلامية التي أخذت بأسباب الحضارة، لكنّ المسألة هي طبيعة نقاط الضعف الموجودة عند المسلمين، سواء من خلال الأنظمة التي تحكم المسلمين والحكّام الذين يديرون بلدانهم، أو طبيعة الواقع الاقتصادي المتخلّف الذي يعيشه المسلمون، فهذا كلّه وغيره هو الذي أخّر ركب المسلمين الحضاري، ولذلك لا بدّ لنا من أن نعمل على أن ندرس أسباب هذا النقص وهذا الغياب، حتى نستطيع أن نسدّ هذه الثغرات لنصل إلى النتائج المرجوّة. وقد قال الشاعر:

أتى الزمـان بنوه في شبيبته      فسرّهم وأتيناه على هـرمه

فهم أخذوا بأسباب الحضارة في شباب الزمان ولما هرم الزمان جئنا نطلب تلك الأسباب.

تاريخ الأنبياء(ع) والآثار التاريخية

س : لقد أصبح من اليقين عندنا من خلال ما درسناه، أن البشر موجودون قبل آدم من خلال آثارهم وعمرانهم، وليس هناك أحد يستطيع نفي ذلك بصورة علمية، فكيف يمكن توفيق ذلك مع النظرة الدينية، وهي أن آدم أبو البشر عمّر ستة آلاف سنة؟

ج : هناك نقطتان في هذه المسألة، فمن قال إن تاريخ آدم هو ستة آلاف سنة، كان ذلك مما أخذ من تاريخ اليهود الذي يكثر فيه الدسّ، وهذا غير ثابت تاريخياً، إذ ليس عندنا تاريخ بشكل استقرائي يمثل الحقيقة لنطمئن إليه حتى نستطيع أن نطمئن إليه بشكل استقرائي يمثل الحقيقة بما نستطيع أن نحكم به بشكل جازم.

والنقطة الثانية، هي أن القوانين العلمية التي تقدر السنين من خلال طبقات الأرض أو من خلال طبيعة الجمجمة أو ما أشبه ذلك، ليست قطعية، بل هي ظنيّة ومجرد نظريات، ولذلك فإنه عندما تثبت عندنا حقيقة دينية قطعية، فلا نستطيع أن نرفع عنها اليد بالنظرية العلمية، فالنظرية العلمية هي شيء والحقيقة هي شيء آخر. وذلك أن الحقيقة العلمية هي مثل (1+1=2)، أما النظرية العلمية فإنها تعتمد على استقراء ناقص، والاستقراء الناقص لا يفيد إلا الظنّ، ثم إن عندنا بعض الأحاديث المروية عن الإمام الصادق(ع) ـ إذا صحّت ـ تقول: "قبل آدمكم ألف ألف آدم وأنتم في آخر الآدميين"، ما يعني أن هناك مخلوقات مشابهة للبشر سبقت خلق آدم، ما حمل بعض المفسرين على التساؤل حول معرفة الملائكة بطبيعة البشر {وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة:30]. فالقضية ليست محسومة لا في الجانب العلمي ولا في الجانب التاريخي.

زواج آسية من فرعون

س : كانت آسية زوجة فرعون مثال الإيمان للرجال والنساء، فكيف ارتضت أن تكون زوجة لمثال الكفر والضلال والطغيان فرعون؟

ج : ربما كانت هناك ظروف اجتماعية فرضت عليها الزواج، ألا ترى الآن كيف تتزوج بعض المؤمنات ـ حسب الظروف والتقاليد والعادات الحاكمة ـ شخصاً فاسقاً وكذلك العكس؟

والأمر نفسه في خصوص بعض الأنبياء(ع)، ألم يتزوج نوح(ع) امرأة عاصية؟ فالزواج منذ انطلق وحتى الآن لم يخضع لخطوط دقيقة، بل قد يخضع لظروف موضوعية، فالنبي(ص) زوّج ابنته زينب لأبي العاص الذي كان كافراً، وقد قاتل النبي(ص) في بدر وقد فداه النبي(ص) بعد ذلك، فلم يكن ذلك في تلك الفترة محرماً، لكنه أصبح فيما بعد حراماً.

الـروح الجماعيــة

س : تتصف العقلية الشرقية بالروح الفردية بخلاف العقلية الغربية، فلماذا لا نستفيد من هذه الروح لإنجاز مشاريع متروكة كمشاريع الشهيد الصدر الأول(رض) في بحث (مجتمعنا) بالتقاء عدد من العلماء المتخصصين؟

ج : ليس ذلك قاعدة عامة، فلا يمكن القول إن الغرب يتميز بالعقلية الجماعية فيما نتصف دائماً بالعقلية الفردية، ففي الغرب قد يكون الانطلاق في المؤسسات من عقول فردية، وقد يفكّر الشرقيون بمثل ذلك، لكن الإمكانات قد تحول دون ذلك. وربّما تتحرّك بعض المجتمعات في خط التربية الفردية التي تربّي الفرد على أن يعيش ذاتياته في أوضاعه في المجتمع ممّا قد يؤدّي إلى أكثر من نتيجة سلبية على النتائج العامّة في الواقع الإسلامي الاجتماعي والسياسي.

إظهـار العلــم

س : كيف يكون إظهار العلم إذا ظهرت البدع حسب الرواية المشهورة، هل في المسائل الفقهية فقط أم في ميادين الحياة كلّها؟

ج : معنى إظهار العلم هو أن يعرضه العالم للناس، بحيث يستفيدون منه، وذلك بكل الوسائل المتاحة، فقد يحتاج العالم أن يدخل بيوت الناس، شأنه شأن الأطباء الذين يمسكون مفارق الطرق حتى يلقّحوا الناس ضد الوباء، فالعالم ليس حراً في أن يعيش الدعة والاسترخاء، وإنما هو في حالة طوارىء دائمة، ولذلك أطلقت شعار (الراحة حرام)، لكننا مشغولون بكلّ شيء إلا الإسلام.

فـائــدة الـربــا

س : ألا يخلو الربا من فائدة ومنفعة خاصة، وأنه يدعو إلى تحريك الأموال وتوليدها، فالاستثمار بلا ربا قد يقضي على التنافس، وبالتالي يؤدي إلى جمود العملية الاقتصادية؟ وهل تنجح عملية التوفيق بين الإسلام والرأسمالية؟

ج : أن تكون هناك فائدة في محرّمٍ ما لا يعني أنه يصبح حلالاً كليةً، إذ لا بد من المقايسة بين المنفعة التي تحصل والمضرة المترتبة، فالله تعالى تحدث عن الخمر والميسر في جانبي النفع والضرر، فقال: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة:219].

ثم إن لدى الإسلام بديلاً لعملية الربا، فلقد شجع الاستثمار، كما لو أنّ لديك أموالاً، ولكنك لا تريد أن تعمل، وهناك آخر لديه طاقة وليس لديه أموال، فالشركة بين رأس المال والعمل ممكنة على ضوء اتفاق بنسبة الربح، فإذا كان هناك ربح فبينكما وحسب الاتفاق، وإذا حصلت خسارة فعلى رأس المال والعامل أيضاً يكون قد خسر عمله.

أما في الربا، فالاستدانة تجعل من الدائن رابحاً على كلّ حال، فهو لا يتحمل أية مسؤولية في الخسارة، بينما المضاربة وسيلة إسلامية يتحمّل فيها صاحب المال مسؤولية أمواله في حال الخسارة،كما يخسر العامل عمله، وإذا نقص الربح انعكس على الاثنين أيضاً، وهذا هو التزاوج بين العمل وبين رأس المال.

ولذلك فمن الصعوبة بمكان أن تنجح محاولة التوفيق بين الإسلام وبين الرأسمالية، لأنّ للإسلام منهجه الاقتصادي، وللرأسمالية منهجها الاحتكاري، وهي تشجّع نموّ الثروات عن طريق الربا.

ويبقى الجانب الأخلاقي في المسألة، فالله سبحانه وتعالى حرّم الربا لأنه يمنع الناس من عمل الخير، ولذلك جاء في الحديث أن "درهم الصدقة بعشر ودرهم القرض بثمانية عشر".

*** [نقص من عنوان (التعايش مع أهل الكتاب) ص 550 إلى قوله (بسبب ذلك) ص552]

أزمة الثقافـة الإسلاميـة

س : لماذا نجد أن الثقافة الإسلامية تدور في حلقة مفرغة، والموجود منها ليس إبداعاً، إنما هو إعادة صياغة، بخلاف الثقافة الغربية التي تثري الواقع بالإبداع على مستوى العلوم الإنسانية والتكنولوجية؟

ج : أولاً، لا دخل للعلوم التكنولوجية بالإسلام والكفر، وإنما هي دراسات وأبحاث وتجارب يقوم بها المسلمون وغيرهم {ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض} [آل عمران:191]. فالقرآن أراد للمسلم أن يتعلّم وأن يجرّب ويختبر، فلقد ركّز التجربة كأساس للمعرفة، وأما العلوم الإنسانية، فلدينا في حقولها المختلفة أبحاث ودراسات وإبداعات ربما لم يطّلع السائل عليها.

الاتجاهات النقدية الغربية

س : توجد اتجاهات نقدية في الغرب كالبنيوية والسميائية والتفكيكية، وقد تدخلت هذه المناهج حتى في معرفة القرآن، كما عند (نصر حامد أبو زيد) فما هو رأيكم؟

ج : لقد درسنا بعض هذه النظريات وهي قابلة للمناقشة، وقد ناقشت الدكتور نصر حامد أبو زيد نفسه، وأقرّ بأن ما يعتمده هو مجرد نظريات قابلة للأخذ والردّ، وعلينا أن نواجه النظريات المستحدثة بمناقشة أصحابها دون أن نتعقّد منها.

ضعف الخطـاب الإسلامي

س : لماذا نجد ضعفاً واضحاً في الخطاب الإسلامي، مع العلم أنه لا يوجد أي ضعف في مفردات الإسلام؟

ج : ليس هناك خلل في مفردات الإسلام، ولكن هناك خلل في مفردات المسلمين، فالبعض منهم لا يعيش ثقافة الإسلام وتطلّعاته والتحديات التي تعصف به والواقع الذي يعيش أكثر من مشكلة، ولذلك من الطبيعي أن يكون خطابه ضعيفاً.

الوطنيـة والقوميـة والإسلام

س : هل هناك تعارض بين المفاهيم الثلاثة (الوطنية والقومية والإسلام)؟

ج : ليس هناك تعارض، فأنا مثلاً لبناني، وأنا في الوقت نفسه عربي، وأنا مسلم أيضاً، فهذه حالات إنسانية، والله تعالى يقول: {قرآناً عربياً} [يوسف:2]. ويقول: {حكماً عربياً} [الرعد:37]. ويقول: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} [الحجرات:13]. فهناك شعوب وقبائل، وإلا فمتى صارت القومية تعارض الإسلام؟ عندما أدخلنا الماركسية في القومية فصرنا نناقش الماركسية، أو عندما أدخلنا الوجودية في القومية، فصرنا نناقش الوجودية.

فلم يعش المسلمون التناقض بين مكّيتهم أو مدنيّتهم وبين عروبتهم وبين إسلامهم، لكننا عندما أدخلنا الماركسية علّقناها في رقبة العروبة، فأصبح حالنا حال بائع الجمل والقطة معاً، على أن يكون سعر الجمل عشرة دراهم وفاءً بنذره، وسعر القطة بألف درهم رعاية لسعر الجمل، وإلا فالعروبة حالة إنسانية، والعرب يحتاجون إلى مبدأ، ومبدأهم الإسلام. والله سبحانه وتعالى اعترف بخصوصيات الناس القومية، ولكن غاية الأمر هي {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13].

قراءة الكتب الإلحاديـة

س : هل يجوز قراءة الكتب الفلسفية الإلحادية من قِبَل الشباب الناشئين؟

ج : إذا كانوا يملكون قوة علمية يستطيعون من خلالها مناقشة تلك الأفكار، فيجوز، وإلا فلا.

البيعـة والانتخـاب

س : هل أن مفهوم البيعة يرادف مفهوم الانتخاب في العصر الحديث؟

ج : قد يلتقي معها وقد يختلف، فالانتخاب ينطلق من المنهج الديمقراطي في الحكم، ولهذا المنهج فلسفته الخاصة في انتخاب أي شخص، سواء كان كافراً أو مسلماً، بينما لا بد في البيعة من الشرعية، أي لا يجوز لك أن تبايع إلا من يملك الشرعية الإسلامية، والمبايعة هي ليست إعطاءً للشرعية، بل إعلان الالتزام بالقيادة الشرعية.

الوجدان ـ الارتكاز ـ السيرة

س : ما الفرق بين (الوجدان) و(الارتكاز) و(السيرة)؟

ج : الوجدان: هو الاطمئنان الذي يحصل لدى الإنسان، والارتكاز: هو القضايا التي تدخل في تفكير المتشرعة بحيث يرسلونها إرسال المسلّمات، والسيرة: هي ما يجري عليه الناس.

الموقف التركي من الحجاب

س : نسمع أن لبس الحجاب في تركيا ممنوع على المرأة والمسلمون هناك يعترضون على ذلك يعتبرونه مصادرة لحريات الناس، فهل يعتبر فرض الحجاب على المرأة في الدول الإسلامية وملاحقتها إذا لم تلبسه كأمر بالمعروف ونهي عن المنكر؟

ج : هناك فرق بين الأمرين، لأننا نحاسب تركيا على ذلك باعتبارها دولة علمانية، والنظام العلماني يعطي الحريات للناس في ما يلبسون وفي ما يتحركون بما لا يسيء إلى حرية المجتمع، فالقاعدة العلمانية في قضية الحرية، هي أن لك الحرية المطلقة في أمورك ما لم تصطدم بحرية الآخر من حولك، فحريتك تنتهي عندما تبدأ حرية غيرك، واللباس ـ كما هو معلوم ـ مسألة شخصية في النظرة العامة للحريات، فالإنسان يرتدي من الملابس ما يشاء، بل حتى العري ليس مشكلة في المجتمعات الغربية، فهو يعتبر من الحرية الشخصية إلا إذا أساء للنظام العام.

فنحن إذاً نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم، فإذا قالوا إن دولتهم إسلامية فلذلك حسابه، وإذا قالوا إنهم دولة علمانية فلذلك حسابه أيضاً، فليس من شأن العلمانية الضغط على الإسلاميين، لأن روح العلمانية هي الديموقراطية، والديموقراطية تعطي مثلاً الحرية للحزب الإسلامي إن هو حصل على الأكثرية ضمن نطاق تداول السلطة، ولذلك فإن تركيا ليست علمانية بالمعنى الديموقراطي للعلمانية، بل هي دولة دكتاتورية تلبس ثوباً ديموقراطياً من دون أن تمارس وسائل الديموقراطية في الحريات العامة، لأنها حظرت نشاط حزب إسلامي، ويمكن أن تحظر على حزب إسلامي آخر حريته في العمل لاعتبارات غير واقعية.

أما الدولة الإسلامية فنظامها إسلامي، ومن الطبيعي أنها تفرض الحجاب الإسلامي، لأن الحجاب من أحكام الإسلام، فهناك فرق لا بدّ أن يلحظ، ولا يمكن للعلمانيين أن يقولوا لنا: لِمَ تمنعون المرأة من السفور؟ فنحن ننطلق من نظامنا الإسلامي الذي لا يجوّز للمرأة أن تخرج سافرة.

الحقيقـة المطلقـة

س : ورد في كلمة لكم في (جمعية المبرات الخيرية): ليس في الناس الذين يعيشون معنا أو من الذين عاشوا في التاريخ من يمتلك فكراً يمثل الحقيقة المطلقة، فما هو المقصود بذلك؟

ج : كنت أتحدث عن الإنسان غير المعصوم، فليس هناك إنسان غير الأنبياء(ع) والمعصومين(ع) يقول أنا أمتلك الحقيقة المطلقة، لأنه ينطلق في فهمه للأشياء من خلال اجتهاده، وقد يخطىء في اجتهاده وقد يصيب، ولكنه يستطيع القول هذا ما فهمته، وهذه هي الحقيقة من وجهة نظري.

وحينما نتحدث عن هذه المسائل، فإننا دائماً نخرج الأنبياء والمعصومين(ع) باعتبارهم الأدلاّء على الحق والحقيقة، ولذا فهم مستثنون من ذلك.

ظالـمـاً أو مظـلومـاً

س : هل يمرّ الإنسان بحالة ثالثة بين أن يكون ظالماً أو مظلوماً؟

ج : لا، ليس هناك حالة ثالثة في الواقع الخارجي، فالذي يعطي ربّه حقه والناس حقوقهم ونفسه حقها فهو عادل، ومن يمنع ذلك أو يجحده فهو ظالم، ويمكن أن يكون الإنسان لا ظالماً ولا مظلوماً، لأنه قد يعطي الناس حقوقهم وليس هناك أحد يظلمه حقه، ولكن أين هو الذي لا يُظلم؟!

خطـورة الفقـر اجتماعيـاً

س : قال الإمام علي(ع): "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"([72])، فبعض الناس يندفع إلى الشرّ عند اغتصاب حقه وشعوره بعدم العدالة في توزيع الأموال، بحيث يلجأ إلى أساليب الشر المختلفة مثل الغشّ والتزوير والمخدرات، فهل من الممكن إصلاحهم ومساعدتهم؟ وهل عقوبة السجن حسب القوانين الوضعية مجزية لهم من الناحية الشرعية؟

ج : الإمام علي(ع) يريد بحديثه هذا أن يبيّن خطورة الفقر على توازن المجتمع وسلامته وواقع الإنسان، ولكن هذا لا يبرّر للإنسان الذي يبتلى بالفقر أن يفقر غيره، فالذي يلجأ إلى القتل أو للمخدرات فإنه يوقع ضحايا كثيرين، فالذي يعيش مشكلة ينبغي أن لا يحرّك مشكلته في خلق مشاكل للناس من حوله، فكما لا تحب للناس أن يظلموك فكيف تبيح لنفسك أن تظلمهم؟!

وأما العقوبات، فسواء كانت حبساً أو غيره، فهي وسيلة تنطلق بها الشرائع، سواء كانت دينيه أو غير دينية لحماية المجتمع، وقد لا تفيد فائدة كبرى حاسمة، ولكنها يمكن أن تعطي بعض النتائج ولو بمستوى معين.

خيـر الحريـّات وشرّها

س : الحريات الموجودة في الغرب وبلاد الكفر تخالف الإسلام بشكل عام، ولكنها عملياً تخدم الإنسانية، فهي خير للإنسان وشر بلحاظ الإسلام أليس كذلك؟

ج : هي شرّ للإنسان، فالأساس ـ كما ذكرنا ـ في الخير والشر ليس هو ظاهر الأمور، فليس كل ما يفرح الناس هو خير، فقد يكون ذلك خمراً أو مخدرات أو بعض الموبقات، فهل هذه خيراً؟

فالمعيار هو أن نعرف الخير والشر في العمق لا في السطح، أي ما هي المصلحة الحقيقية أو المفسدة الحقيقية للإنسان في هذا أو ذاك، ولا بد من أن يكون الإنسان محيطاً بالأمر من جوانبه كلها، فبعض الأمور قد تكون المصلحة في جانب منها والمفسدة في جانب آخر، فإذا غلبت المفسدة على المصلحة كان الأمر شراً، وإذا غلبت المصلحة على المفسدة كان خيراً.

تحديد مصلحة الخير والشر

س : قلتم إن الخير والشر يتشخصان من خلال المصلحة والمفسدة، فمن هو الذي يحدّد تلك المصالح والمفاسد؟

ج : إن الذي يحدّدها هو الله سبحانه وتعالى، كما أنّ العقل الفطري يحددهما أيضاً بما أعطاه الله من الصفاء والوضوح.

تحليل حالة الإحباط

س : كيف تفسّرون حالة اليأس والإحباط التي تصيب شريحة واسعة من الجماهير عندما تفقد قائدها؟

ج : هذا التصور خاطىء، فالقائد يبرز من بين ظهراني الأمة، فالأمة التي تنتج هذا القائد بإمكانها أن تنتج قائداً آخر {وما محمد إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران:144]. فالرسول يموت، ولكن الرسالة تبقى، وهي قادرة على الدوام على صناعة قيادات للأمة، لكننا عندما نعيش الجانب العاطفي مع القائد ننسى الذين هم مشروع قيادة في المجتمع، فالقائد لم يصبح قائداً إلا بعد أن يكون قد حرّك طاقاته في خدمة القضية التي يضحّي من أجلها واكتشفته الجماهير فالتفّت حوله، ويمكن أن نكتشف قيادات أخرى أيضاً، فالأمة ليست عقيمة، لذلك علينا أن نحترم القيادات، ولكن بشرط أن لا نتعبّد لها ونحوّلها إلى أصنام، وأن لا نكون كبعض الشعراء إذا مات العالم أو القائد قالوا لقد مات الإسلام.

إن الإسلام لا يموت، فقد مات النبي(ص) ولم يمت الإسلام، وقد مات الأئمة(ع) وبقي الإسلام، وقد مات كبار العلماء وبقي الإسلام، فلا ينبغي أن نعيش المبالغة والصنمية إزاء قادتنا، فمشكلتنا أننا نعطي لقياداتنا أحياناً أكبر من حجمها ونكبّرها في خيالاتنا، فإذا أحببنا قائداً، سواء كان دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً، فإننا لا نقبل أن يُنقد ناسين أنه ليس بمعصوم.

ونؤكد القول أن لا نعبد قياداتنا، بل نحترمها، ومن احترامنا لها أن ننقد فكرهم وندرسه بتجرّد، فقد نكتشف فيه خطأ وقد نكتشف فيه صواباً، فنحن في بعض الأحيان نشبه قوم موسى(ع) بعدما حرّرهم من عبادة فرعون، ولكن ما إن رأوا قوماً يعكفون على عبادة أصنام لهم حتى طالبوا موسى بإله كإلههم، تماماً كالطفل الذي يرى لعبة بيد طفل آخر فيطالب أباه بشراء لعبة مماثلة {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [الأعراف:138].

فإذا مات القائد ترحّمنا عليه واحترمنا فكره، بأن ندرس فكره ونعتمد الصواب فيه ونترك الخطأ، ثم نلتفت إلى القيادة الجديدة، فالقائد السابق قد رحل ولم يبق إلا فكره وتجربته، وعلينا أن نصنع في رحيله قيادة جديدة.

قراءة كتب اليهود والنصارى

س : هل يجوز قراءة الكتب الدينية لليهود والنصارى من أجل الدراسة ومقارعة الحجة بالحجة؟ وهل يجوز مخالطة أصحاب الديانات خاصة الديانتين اليهودية والمسيحية علماً أنه قد يحدث تأثير سلبي على نفسية الإنسان المسلم دون إرادته حيث قد يضطر أحياناً إلى مجاملتهم؟

ج : لا مانع للإنسان من أن يخالط الناس الآخرين من الديانات الأخرى وأن يقرأ كتبهم إذا كان يرى في نفسه القدرة والمناعة ضد التأثر السلبي، كما لا مشكلة في المجاملة، إلا أنّ غاية الأمر هي: أن لا يسقط تحت تأثيرهم في هذا المجال.

ما هو مقدس وما هو خرافة

س : ذكرتم في لقائكم على قناة أبو ظبي الفضائية، أننا يجب أن نميز بين الدين والتراث وبين ما هو خرافة وما هو مقدس حتى لا نقدس الخرافة، فهل هي دعوة جديدة للانفتاح على الآخر في الانفتاح المذهبي والطائفي ونفض الغبار عن الموروث حتى نعقل ما نقرأ لا أن نقرأ ما لا نعقل؟

ج : الدين هو ما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله(ص)، وهو الحق الذي لا يقترب الباطل منه، ولكن التراث هو ما رواه الرواة واجتهد فيه المجتهدون والمثقفون وسار عليه الناس في حركة التاريخ، وقد نجد في الروايات الصحيح وغير الصحيح، والموثوق وغير الموثوق، والاجتهادات ـ على أية حال ـ ليست معصومة، فليس هناك مجتهد يقول عن نفسه إنه يملك العصمة في فكره، بل قد يخطىء المجتهد وقد يصيب، وله أجران إن أصاب وواحد إن أخطأ، والتاريخ يصنعه الناس، وقد يكون تاريخاً مزيفاً وقد لا يكون كذلك.

فالقرآن كتاب الله، لكنّ فهم القرآن هو أمر البشر، إلا ما صدر بشكل قطعي عن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع) وما عدا ذلك، فإن العلماء يختلفون في تفسير القرآن نتيجة اختلافهم في فهم القرآن.

ولذلك، فإننا لا نعتبر تفاسير القرآن مقدسة، بل هي خاضعة لكتاب الله الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت:42]. ففهم القرآن يمكن أن يكون خطأ ويمكن أن يكون صواباً، ولذلك نجد أن المفسرين يختلفون، فقد يفسّر أحدهم آية بطريقة ويفسر الآخر الآية بطريقة أخرى، راجعوا (مجمع البيان) وراجعوا كل التفاسير، فليس كل ما فيها صحيح، والروايات المروية عن النبي(ص) وعن الأئمة(ع) منها الصحيح ومنها غير الصحيح، والتاريخ أيضاً هو تاريخ دخلت فيه السياسة والمذهبية والتعقيدات النفسية، فهو ركام من الحقائق ومن الدسائس والمزوّرات.

كذلك نقول إن علينا أن ندرس تراثنا بطريقة غير مقدسة، بمعنى أن ننظر إليه كتراث قد يكون موثوقاً وقد لا يكون، فنأخذ الموثوق ونترك غير الموثوق، وقد يكون صائباً وقد يكون خاطئاً، فنأخذ الصائب ونترك الخاطىء.

وهكذا أيضاً دخلت الخرافة من خلال الكثير من الأحاديث، ومن خلال التاريخ المزيّف وما إلى ذلك، وجاء التخلف ليقدّس الخرافة والتي أصبحت الخرافة تمثل عند الكثير من الناس ديناً. ولذلك لا بد أن نميز بين ما هو خرافة وبين ما هو حقيقة، وأن تكون لنا أصالة البحث حتى لا نفرض على الدين بعض الاجتهادات الخاطئة وبعض الروايات المكذوبة وبعض الفهم الخاطىء، ولذلك أقول لكم لا تقبلوا إلا من يملك علم الإسلام، وأقصد بألا تقبلوا بمعنى أن لا تستمعوا له، فهناك الكثير من الجهلة الذين قد يصورون أنفسهم بأنهم في مواقع العلم أو الذين يملكون بعض جوانب العلم، لكنهم يعطون آراءهم في غير علم، على طريقة ما يقول ذلك الشاعر:

            فقل لمن يدّعي في العلم معرفة                        حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء        

كما أنّ التعبّد في فكر معيّن لا معنى له، فنحن إذا لم تكن لدينا خبرة نرجع إلى أهل الخبرة، لكن علينا أن نعرف من هم أهل الخبرة، ومن كان خبيراً بالطب لا يجوز أن نرجع إليه بالهندسة، ولذلك ترى أنّ بعض الناس ربما كانت عنده بعض الخبرة في الفقه، ولكن يرجع إليه في الفقه كله، وربما ليس لديه خبرة وافية بالعقائد، لأنه يدرس العقائد فقط ولم يدرس الفلسفة وعلم الكلام، ولكنك تراه يعطي آراءه بشكل مطلق، فيكفّر هذا ويضلّل ذاك، وهو لم يدرس حقيقة التكفير والتضليل، والله تعالى يقول: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء:36].

فعلينا أن ندرس كلّ شيء، وأن نعيد دراسة التاريخ ودراسة الفقه، وأن نعيد دراسة علم الكلام، حتى نستطيع أن نعرف أين الحقيقة وأين الباطل أمام كل هذا الركام التاريخي. والدراسة المعمّقة العلمية لا تمنع من الوصول إلى الحقيقة بل تؤكدها، لكن بعض الناس يخافون من أن تدرس الأمور ويخافون من أن تناقش المسائل، لأنهم لا يملكون العلم الذي يستطيعون أن يؤكدوا ما يلتزمون به، ولذلك تراهم يخافون من أي علم آخر.

هل الله عقل وعلم؟

س : يقول (ابن رشد) إن الله عقل محض وعلم خالص، فما هو الرد على هذا القول؟

ج : الحديث أن الله عقل وعلم غير صحيح، فهذه من صفات الله، ومن الناحية الحركية الفكرية للعقل لا يمكن أن نصف به الله سبحانه وتعالى، لكننا نستطيع أن نقول إن الله سبحانه وتعالى هو نور، هو النور لكل شيء ولا ظلمة فيه وهو علم مطلق وقدرة مطلقة.

الديـن والفلسفـة

س : ما هي العلاقة بين الدين والفلسفة؟

ج : الفلسفة تحاول في بعض جوانبها ـ كما في الفلسفة الإسلامية ـ أن تناقش العناوين الكبرى للدين مثل قضية الوجود وقضية التوحيد وما إلى ذلك، ولذلك فالفلسفة بحث حول الدين وحول القضايا الأخرى، والدين هو الحقيقة التي تبحث عنها الفلسفة، وقد تصل إليها وقد لا تصل.

مستقبـل الشبـاب

س : ما هو قولكم للشباب الذين يفكّرون في المستقبل.. أي مستقبل تريدونه لهم؟ وكيف يعملون لذلك ومعوقات الحاضر وعقباته كثيرة؟

ج :  لا بد للشاب المسلم أن يكون مسلماً في عقله، فلا يفكر إلا في الخط الذي ينسجم مع القاعدة الفكرية للإسلام، وأن يكون قلبه مسلماً، فلا يحب ولا يبغض إلا من خلال حبّه في الخط وبغضه في الخط الذي يرضاه الله. وكما ورد في الحديث الشريف: "إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإن كان يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خير والله يحبك، وإن كان يعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب". وأن تكون حياته في الخط المستقيم، وأن يعمل على الأخذ بأسباب العلم، بحيث إذا تمكن أن يبلغ أعلى درجة في العلم، فلا يتوقف، وليس من الضروري هنا أن يكون علم الدين، بل حتى علم الحياة، لأن الصراع الذي يعيشه المسلمون مع الآخرين هو صراع العلم، فالآخرون يتقدمون علينا بالعلم، ونحن نعتقد أن ما من مجال من مجالات الحياة، سواء في الاقتصاد أو الأمن أو أي شيء آخر إلا وللعلم مدخل فيه.

وأن عليه أن يكون قوياً في إرادته وأن يتحمل ضغط الصعاب، وأن لا يسقط أمام أية مشكلة تواجهه، وإذا واجهته بعض ضغوطات الأسرة من خلال التخلف الذي تعيشه أو بعض ضغوطات المجتمع من خلال التخلف الذي يعيشه، فعليه أن يصبر، وأن يحاول معالجة المسألة بفكر ووعي وإرادة، فإن على الشاب أن يشعر أن الحياة عقيدة وجهاد، وأن الجهاد مع الإصرار والإرادة لا بد أن يحقّق الانتصار.

أساليب النهوض بالعمل الدعوي

س : ما هي في نظركم الطرق المؤدية إلى النهوض بالعمل الدعوي في أيامنا هذه حيث نشعر أن بعضاً من الأساليب المعروفة في التبليغ لم تعد ذات جدوى، أو ضعف تأثيرها لدرجة البحث الجدي عن وسائل أبلغ في التأثير؟

ج : يقول الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل:125]. الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وإذا عرفنا أن لكل عصر أسلوبه وأن لكل عصر ذهنيته، وأن لكل عصر حركيته، فلا بد من مراعاة ذلك كله، فعندما تعيش في عصر فعليك أن تملك حس المعاصرة، أي أن تملك وعي العصر وذهنيته ووعي حاجاته ولغته وأساليبه، فلا يجوز لنا أن نخاطب شباب اليوم، لا سيما الذين يعيشون في الغرب وغيره، بما كنا نحدّثهم به قبل(500) سنة، لأن الذهنية لغة، والأسلوب لغة، وقد هدانا في ذلك رسول الله(ص)، فلقد روي عنه أنه قال: "إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم". فلنفهم عقل الإنسان وعناصره وتركيبته وحركيته ونتعامل معه على هذا الأساس. ولقد ذكرت مراراً أن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أي ما يقتضيه الحال من الحاجات الطبيعية، ونجاح الدعوة يتوقف في كثير من الأحيان على مطابقتها للمجتمع الذي ندعو فيه، غير أن مشكلة الكثير من الدعاة والمبلّغين أنهم تثقفوا بأساليب قديمة، ولذلك فإنهم لا يفهمون الناس ولا يفهمهم الناس.

الانتساب لجمعيات ترفيهية

س : نحن في المغترب والتجمع هناك ضروري، لكن هل يجوز الانتساب والاشتراك بعضوية جمعية أو مركز غير إسلامي له أهداف ليست إسلامية أي أنها جمعيات ترفيهية فقط؟

ج : في هذه الصورة، على الإنسان أن يدرس هذا التجمّع ليرى هل أن هذه البرامج الترفيهية تختلف مع الخطوط الأخلاقية الإسلامية أو لا؟ فقد تكون برامج ترفيهية، بحيث يملك فيها الناس رجالاً ونساءً الحرية بالطريقة التي يبتعدون فيها عما أراده الله للإنسان، وهذا مخالف للنهج التربوي الإسلامي، لأن الإنسان ربما يضل من خلال المناخ غير الإسلامي.

المجتمع المتماسك

س : في عدد من أعداد (بينات) بين أيدينا كلام لكم تقولون فيه: يجب أن يكون  المجتمع المسلم الذي ينطق بالشهادتين ويسير في خط الأئمة من أهل البيت(ع) مجتمعاً متماسكاً متناصحاً، فكيف تجدون هذا الكلام على أرض الواقع؟

ج : أرض الواقع لا تنسجم مع هذا الكلام، لكننا ندعو الناس إلى ذلك، لعل في الناس من يتمكن من ذلك.

وسائل الإعلام المضادّة للشعب العراقي

س : أرجو منكم توجيه كلمة لوسائل الإعلام التي تسخر من الشعب العراقي وتحمله جرائم النظام التي يقوم بها اتجاه جيرانه؟! حيث لا ذنب للشعب في ذلك، بل هو الضحية الأولى لجرائم هذا النظام؟!

ج : هؤلاء الذين يتحدثون عن الشعب العراقي بهذه الطريقة لم يعانوا ما عاناه، وربما كانت بعض هذه الدول قد عانت من النظام العراقي بعض ما عاناه الشعب العراقي، ولقد فهموا شيئاً بسيطاً جداً من وحشية هذا النظام الإرهابي المستبد، فما بالك بالشعب العراقي الذي يعيش تفاصيل هذه الوحشية منذ عشرات السنين؟!

ولذا نقول: إن الشعب العراقي قد عانى من الطاغية الذي ما زالت الدول الكبرى والمستكبرة في العالم، وفي مقدمتها أمريكا، تحميه من شعبه كما حمته عند الانتفاضة الشعبانية، فلقد أسقطت أمريكا الانتفاضة الشعبانية، وهي الآن تتحدث عن إسقاط النظام، في حين نعتقد أن هناك رغبة أمريكية ببقاء النظام، لأن للسياسة الأمريكية حاجة في بقائه كعنصر تهديد لدول الخليج، ومن أجل أن تستقر القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج، ولإرباك السياسة العربية في المنطقة، ولكي يظل هذا النظام يهدد بطريقة وبأخرى إيران، ويبقى الشعب العراقي مجمداً ومشرداً في العالم.

إنّ الذين يتحدثون عن الشعب العراقي بهذه الطريقة لا يفهمون مأساة الشعب العراقي، ولعلّ الذي يدرس مأساة هذا الشعب في الداخل ومأساته في الخارج يجد أنها المأساة التي قلّ نظيرها في العالم. وقد يقول كثيرٌ من الناس لماذا لا يثور الشعب العراقي؟ ولكنهم لا يعلمون أو يتجاهلون حقيقة أنّ النظام هو محل حماية أكثر الدول الإمبريالية الموجودة في العالم التي تدّعي أنها ضد النظام. وعندما ركضت المعارضة العراقية وراء أميركا رأينا كيف أنّ أميركا أفقدتها ثقة الشعب العراقي بها، وكيف ميّعتها. باختصار، نقول لهؤلاء الذين يتحدثون بالإعلام بهذه الطريقة: اتّقوا الله.

تقبّل الرأي الآخـر

س : الاختلاف في وجهات النظر وأساليب العمل من الأمور الواقعية التي لا مفرّ منها، ولكن ألا تعتقدون أن هناك خللاً في التربية الاجتماعية والدينية والفكرية، بحيث لا نتقبّل الرأي الآخر حتى على المستوى الفقهي، فلا نتثقف إلا على فتوى مجتهد واحد فقط؟ وما هو الحل برأيكم؟

ج : هذا هو التخلّف، فمعنى أن تكون إنساناً يحترم عقله هو أن تحترم عقول الآخرين، وإذا كانت لك الحرية في أن تختلف عن الآخر، فلماذا لا تترك للآخر الحرية في أن يختلف معك؟ ليكن الحوار هو الذي يحل المشكلة بينك وبينه.

إن هذا من العصبية، والتعصّب ضعف، لأن المتعصّب شخص يخاف أن يطّلع الآخرون على رأي الشخص الآخر أو على فكر الجهة الأخرى وهو لا يستطيع أن يقنع الآخرين بما يلتزم، ولذلك قيل "كل العصبيات في النار"، وقد قلت أكثر من مرة إن هناك شيئاً اسمه (التعصّب) وآخر اسمه (الالتزام)، كن ملتزماً100% برأيك إذا كنت مقتنعاً به، ولكن لا تكن متعصباً، لأن التعصب هو أن تغلق على الآخر الفرصة بأن يتحدّث عن رأيه.

ونحن عندما نقرأ القرآن نجد أنه حمل لنا ما قاله المشركون في رسول الله(ص) كما حمل لنا الردّ على ذلك، فلماذا يحدّثنا القرآن بأنّهم قالوا عن النبي(ص) أنه ساحر وكاذب وشاعر ومجنون، وعن أقواله والآيات التي يأتي بها بأنها أساطير كما في قوله تعالى: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً} [الفرقان:5]؟ إنه ينقل لنا الرأي المضاد كما ينقل لنا الرأي الآخر ليقول لنا أن الشخص الذي يملك قوة الفكر لا يخاف من الفكر الآخر، وأنّ كل الذين يخافون من الفكر الآخر ويمنعونه من التعبير عن نفسه هم ضعفاء، لأن صاحب الحجة لا يخاف الرأي الذي يعتقد أنه خطأ.

لذلك علينا أن نربّي الناس على أن يقبلوا الرأي الآخر وأن يملكوا الحجة على مناقشته، لتكون الحجة هي التي تحكم بينهم. والله يقول لنا: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت:46]. وهكذا أرادنا أن نجادل وفق منهج ومرجعية لا خلاف عليها {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء:59].

القطب الإسلامي الموجّـه

س : في ذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني(رض)، هل يمكن أن يقف القطب الإسلامي والفكر الموجّه للبشرية وحماية المستضعفين والمستكبرين بوجه القطب الأمريكي المدافع عن الصهيونية، تلك الغدة السرطانية المزروعة في قلب المسلمين؟ وهل ننتظر الفرج بقدوم الحجة(عج) لتحرير فلسطين واستعادة كرامة المسلمين؟

ج :  لماذا نبقى ننتظر الفرج من أجل أن نحرّر فلسطين؟ صحيح أن الإمام(عج) يأتي ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، لكننا نحاول أن نحرر هذه الأرض وتلك الأرض، وعلينا أن لا نكون اتكاليين حتى في هذا، فالله يريد منا أن نجاهد، والجهاد ليس محصوراً بزمن، وعلينا أن نخطط للجهاد، والجهاد ليس مجرد شعار نرفعه، ولكنه خطة لا بد أن نرسم بنودها وآلياتها وأهدافها، كما علينا أن نواجه التحديات السياسية والعسكرية والاقتصادية وما إلى ذلك.

توجيه الاختلاف نحو الوحـدة

س : ما يزال الاختلاف يتحرّك معنا منذ خلق الله البشرية، ولكن هذا الاختلاف يزداد يوماً بعد يوم، ونحن كمسلمين إلى الآن نختلف، فترى الخلافات تعصف بين أفراد الأسرة الواحدة، ولم نتوصل إلى حل إلا من رحم الله، والسؤال: كيف يمكن لنا كمسلمين أن نوجّه خلافاتنا نحو الوحدة التي تجعلنا نعيش على أساس الإسلام الذي هو القاعدة الكبيرة التي نلتقي عليها جميعاً؟

ج : علينا كمسلمين أن نرجع إلى الله ورسوله، فالله تعالى يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} [النساء:59]. والله تعالى يقول: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [آل عمران:64]. فلنقل: يا أهل القرآن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ولنتحاور حول ما اختلفنا فيه {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة:111]. فالله تبارك وتعالى ركّز لنا المنهج ولكننا لم نأخذ به.

نظرة الإسلام  للعلوم الحديثة

س : ما هي نظرة الإسلام إلى العلوم الحديثة كعلم الاجتماع، فهل هو علم نافع برأيكم؟

ج : إن الإسلام ينفتح على العلوم الإنسانية تماماً كما على العلوم الطبيعية، وغاية ما هناك أن الإسلام قد يختلف وقد يتفق مع علم الاجتماع في نظرياته لفهم المجتمع ومعالجة قضاياه، لكنها تبقى مجرد وجهات نظر شخصية في هذا المجال.

خيار الوحـدة الإسلامية

س : هل أن الوحدة الإسلامية هي خيار استراتيجي تفرضه مرحلة ما، أم أنها خيار طبيعي ديني؟

ج : الوحدة الإسلامية هي خيار استراتيجي ديني، لأن الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نلتقي على الإسلام كله في مواجهة الكفر كله في هذا المجال، وهذا هو الذي نفهمه من الإمام علي(ع) في قوله: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة".

إن بعضنا يمكن أن يتعصب ويخرّب الحياة الإسلامية باسم الإمام علي(ع)، لكن الإمام علي(ع) في كتابه لأهل مصر كما في (نهج البلاغة) يقول: "فما راعني إلا انثيال الناس على فلان ـ ويقصد أبا بكر ـ يبايعونه، فأمسكت يدي حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص) فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه". فالإمام(ع) كان ينطلق من خلال الإسلام وليس من خلال الأشخاص، ولكننا لا نملك هذا الوعي، فليكن لدينا وعي تلك المرحلة حتى نحافظ على وحدة الإسلام والمسلمين، لا سيما أن المذهبية أصبحت عشائرية وليست إسلامية.

وأنا أقول دائماً لنلتزم الحقائق الموجودة في المذهب، وعلينا أن لا نتعصّب، بحيث نحوّل المذهب إلى حالة عصبية، وإن هناك فرقاً بين المذهبية الفكرية وبين المذهبية الطائفية، فالمذهبية الطائفية هي عشائرية والمذهبية الفكرية علمية والاختلاف المذهبي يغنينا فكرياً، ولكن العصبية المذهبية هي أم المشاكل.

دور سياسي في لبنـان

س : حاورتكم مؤخراً (قناة أبو ظبي الفضائية) واتّسم حديثكم بالصراحة والوضوح والجرأة، وعندما تحدثتم عن لبنان كنتم وكأنكم لا تنتمون بأية صلة له ولا تعنيكم الأحداث مباشرة، فلماذا لا تلعبون دوراً سياسياً مباشراً في الأحداث الساخنة في لبنان حتى ضمن نظام الحكم الحالي، أي من خلال توزيع الأدوار السياسية للطوائف المختلفة؟

ج : إن طريقتي في العمل السياسي هي أنني أتحدث بموضوعية وبعقلانية، سواء بالنسبة إلى لبنان أو العالم العربي أو العالم الإسلامي أو حتى بالنسبة للاستكبار العالمي، لأن العقلانية هي التي تقنع الآخرين وليس السباب والشتائم وما إلى ذلك، كما أننا نحن نتابع في كل خطبة جمعة وفي كل حديث صحفي أو مقابلة تلفازية أو لقاء مع مسؤول القضايا التي تهم البلد والمجتمع، كما نتابع الأحداث العربية ومشاكل العالم العربي ومشاكل العالم الإسلامي، وأظن أن الأخ السائل غير مطّلع على نشاطنا في المسألة الإعلامية وفي الجانب السياسي.

الخلاف مع حز//ب الله والمجلس الشيعي

س : ما هي الخلافات بينكم وبين حز//ب الله والمجلس الشيعي؟

ج : الواقع لا توجد هناك خلافات حقيقية، فنحن مع الخط الجهادي الذي اختطه (حز//ب الله) وكنا أول من دافع عن المقاومة، والكثير من الشباب الذين هم في حز//ب الله كانوا قد تتلمذوا على يدي منذ طفولتهم، أي منذ ثلاثة أجيال، ومن الطبيعي أن تكون هناك خلافات في وجهات النظر، وأنا أرحب بالاختلافات في وجهات النظر التي تثري الواقع، ولكن لنا أيضاً رؤية مشتركة في الكثير من الأمور، وباختصار فنحن مع الخط الجهادي في لبنان، ومع الخط الجهادي في فلسطين، ومع الخط الجهادي في العراق ومع الخط الجهادي في كل بلد إسلامي يقارع العدوان من أجل حريته وكرامته، ولا توجد مشكلة مع المجلس الشيعي، لكنّ أسلوبي هو ليس أسلوب المجالس الرسمية، فمنذ أيام السيد موسى الصدر قلت: لن أنتخب ولن أنتخب.

معرفـة الحـق

س : قلتم في محاضرتكم إن الحق لا بد وأن يتبع، وقلتم إن الأكثرية الصامتة هي التي تخذل الحق والعدل، ولكن من أين لنا أن نعرف الحق حينما نواجه أطرافاً تستند كلها إلى الشريعة والسنة ولهم القدرة على الإقناع؟

ج :  علينا أن نحاول التدقيق والتمحيص، وأن ندرس الأمور بعناية حتى نستطيع أن نتعرف الحق فنتبعه، فالمهم أن ما نؤمن به من حق علينا أن نثيره في الأمة، وأن ندخل في حوار مع الذين يعتقدون أن الحق في جانب آخر، لا أن نتحرّك بالعصبيات التي يتعصّب فيها هذا الشخص وذاك وهذه الجماعة وتلك.

إن مشكلتنا هي العصبية وليست غموض الحق فينا، فإذا اختلفنا في بعض الأمور فعلينا أن نقف عند مواطن اللقاء، وقد قال الله سبحانه وتعالى للنبي(ص): {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [آل عمران:64]. فلِمَ لا نقول لأهل القرآن {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}. {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء:59]. فهذا ليس صعباً لمن أراد أن يصل إلى الحق، فإذا عرفه عرف أهله.

ثلاث حجج تنفي الفقر

س : عن الصادق(ع): "من حجّ ثلاث حجج لم يصبه فقرٌ أبداً"، فهل هذا صحيح؟

ج : بشرطها وشروطها، وإلا فما أكثر الضجيج وأقل الحجيج.

شرح (دعاء كميـل)

س : نشر كتابكم (شرح دعاء كميل) في السعودية ويقال إن سماحتكم ذكرتم أن الإمام علي(ع) كان يقرأ هذا الدعاء لكثرة ذنوبه، فهل هذا صحيح؟

ج : ألم تسمعوني أقول بأن علي بن أبي طالب(ع) فوق العصمة، بل إنني عندما أذكر الإمام علي(ع) فإنني أذوب في شخصيته الرسالية، فما عدا رسول الله(ص)، لا تملك إلا أن تصمت أمام عظمته، لأنه الإنسان الذي باع نفسه لله.

ففي هذا الشرح لم أقل إن علياً يستغفر لكثرة ذنوبه، بل قلت إن علياً يستغفر من ذنبه في مقام تفسير، كما لو طلب منك أن تترجم قوله(ع): "اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم". فماذا تقول؟ ألا تقول إن علياً(ع) يستغفر من ذنبه؟ وهذا تفسير لغوي للدعاء. ولقد تحدثت في مجلة (الموسم) التي طبعت ثلاث طبعات في سوريا وبيروت وإيران عن ذلك، فمنذ كنت أذهب إلى الحج كان الشباب يجتمعون ويسألون وقد جمع أحدهم ثلاثة آلاف سؤال من بينها: كيف نفسّر استغفار الأنبياء(ع) كما في قول نوح(ع): {رب اغفر لي ولوالديّ} [نوح:28]. أو قول إبراهيم(ع): {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} [إبراهيم:41]. والله يخاطب النبي(ص) فيقول له: {واستغفر الله} [النساء:106]. والأئمة كذلك يستغفرون مثل الإمام علي(ع) الذي يقول: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم". وكذلك الإمام زين العابدين(ع) فإنه يتكلم عن جرائم في حق الله "أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرشا، أنا الذي حين بشّرت بها خرجت إليها أسعى" "أنا الذي أمهلتني فما ارعويت، وسترت عليّ فما استحييت، وعملت بالمعاصي فتعديت". وجوابي كان أن الإمام(ع) عندما يقول: "اغفر لي كل ذنب"، ليس على أساس أنه علي بن أبي طالب الإمام المعصوم، بل أنه الإنسان بصفته العامة، فكأنه يتحدث بالصفة الإنسانية التي فيه لا بالصفة الإمامية أو الصفة الشخصية، وهذا هو التفسير الذي يمكن أن يكون مقبولاً لكل الأدعية التي فيها استغفار وفيها اعتراف بالجرائم أو ما أشبه ذلك.

وإلا فهل من المعقول أن الإمام زين العابدين(ع) يرتكب هذه الجرائم التي وردت في دعاء (أبي حمزة الثمالي) وفي (دعاء التوبة) وغيرها، فمرة نسأل: ما معنى هذا الكلام؟ فنقول في مقام الجواب أن المراد بها (أنا الإنسان). ومع ذلك فقد رفعنا هذه العبارة في الطبعة الثانية، لأن بعض الناس يصطادون بالماء العكر، وكذلك في الطبعة الثالثة التي طبعت بطهران، وما زالوا يقولون: انظروا كيف يتهم السيد عليّاً بأنه يذنب، فهل هذا بربّكم من التّقوى؟!

الضربة الأمريكية ضد العراق

س : كونكم من الذين يحملون هموم المسلمين، فما هو تحليلكم للضربة الأمريكية على الشعب العراقي، ومن هو المقصود بهذه الضربة؟ وهل هي تهديد للنظام؟

ج : هذه نكتة أمريكية، فمن يقول إن أمريكا تهدد النظام؟ إن أمريكا استطاعت أن تقوّي النظام بأقوى ما يكون، لأنها استطاعت بسياستها أن تجذب عطف العالم عليه، فلو فرضنا أن أمريكا تضرب كل يوم وتقتل اثنين أو ثلاثة مدنيين أو عسكريين فماذا يخسر النظام من ذلك؟! لقد حاصرت أمريكا الشعب العراقي من الناحية الاقتصادية وبقي النظام يأكل أفضل مما يأكل الناس ويبني القصور.

فإذا كان هناك من دولة أسقطت الانتفاضة ودافعت عن الطاغية فهي أمريكا، وإلا فقد تحوّل العراق في الانتفاضة إلى فوضى، إذ لم تكن هناك حكومة بالمعنى النظامي، وإخواننا الذين كانوا في العراق يعرفون أن أمريكا هي التي أعطت البنزين للدبابات وقالت للبقية الباقية من جيش صدام دافعوا عن نظامكم حسب تصريح مسؤول أمريكي.

وأمريكا أساساً لم تضع خطاً أحمر لصدام، بل شجعته على أن يحتل الكويت، والخط الأحمر الوحيد كان على السعودية فقط، وهذا ما جاء في تقرير (غلاسبي) التي كانت سفيرة أمريكا في بغداد آنذاك. فأمريكا تريد أن يسقط العراق ثمرة ناضجة في أحضان سياستها، وهي تريد للعراق أن تكون استثماراته وبتروله وأسواقه وثرواته لها ولا يكون لأوروبا أي شيء. لذلك فرضت سيطرتها، وحتى بريطانيا ما هي إلا هامش من هوامش أمريكا من الناحية السياسية. وقد نتصور بعض فصائل المعارضة العراقية أن أمريكا إذا أعطت بضعة ملايين من الدولارات فإنها ستكون جادة في إسقاط صدام، في حين أن المخابرات الأمريكية هي التي تساند صدام، فما الفائدة من بضعة ملايين من الدولارات؟ ولكن ما زلنا نعاني من سذاجة سياسية في هذا الموقع أو ذاك.

رمـي الحجـارة

س : يقول أحد إخواننا الشباب: ما فائدة رمي الحجارة على الإسرائيليين، فما هو قولكم له؟

ج : هذه الحجارة هي التي حركت وجدان العالم، ولو كان الفلسطينيون قد استخدموا منذ البداية السلاح لكان يقال ـ كما يقال هذه الأيام ـ إن قضية الصراع هي قضية عنف، لكن الحجارة أشعرت العالم بأن هناك شعباً يطلب حريته ويواجه المحتل بطريقة سلمية، والمحتل يواجهه بالرصاص الحيّ وبالدبابات وبالطائرات وبالمدافع. إن هذا الأسلوب الذي لا يرى فيه هذا الأخ فائدة هو الذي استطاع أن يهز وجدان العالم ويدفعه إلى الاهتمام بالقضية الفلسطينية.

الانتفاضة الفلسطينية في عهد (شارون)

س : كيف ترون مستقبل الانتفاضة الفلسطينية الباسلة في ضوء تولّي السفاح (شارون) زعامة الكيان الصهيوني؟ وكيف لنا أن نشارك في ساحة الجهاد المقدس ونحن لا نستطيع أن نشارك بصورة فعلية؟

ج : أنا لا أفهم لماذا يتحدثون عن (شارون) كفزّاعة؟ إذ ما الفرق بين (شارون) و(باراك) و(نتنياهو) و(بيريز)؟ لقد قام (شارون) بمجرزة صبرا وشاتيلا، و(بيريز) قام بمجزرة قانا، و(باراك) قام بأكثر من مجزرة في قمع انتفاضة الأقصى.

إن الفرق بينهم كما قلنا مراراً هو تماماً كالفرق بين سرطان الرئة وسرطان المعدة، فأي سرطان نقبل؟ فليست المسألة هي مسألة من يكون رئيس الكيان الصهيوني؟ بل المسألة هي مسألتنا نحن: ماذا نفعل؟ ذلك أن مشكلة العرب دائماً أنهم يفكرون بطريقة ردّ الفعل فيما يجب أن نفكّر بطريقة الفعل، إذ يجب أن نخطط ونفكّر ماذا نريد، وما هي الخطة التي نعمل على أن نحرر بها فلسطين ولو بعد (50 سنة)، وهذا هو الفرق بين الواقع العربي وبين الواقع الصهيوني. إن الواقع الصهيوني هو واقع فعل، وواقعنا هو واقع ردّ الفعل. فنحن مثلاً ننتظر كل أربع سنين الانتخابات الأمريكية لنرى من سيصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وإذا تكلم المرشح كلمات حلوة قلنا أن هذا هو الأمل، في حين أن الأمريكيين في كل عهودهم كانوا يعطوننا الكلمات ويعطون إسرائيل الدبابات والطائرات والمدافع. وإسرائيل ليست مستعدة أن تجامل أمريكا، بل هي تضغط على الرئيس الأمريكي من خلال اللوبي الصهيوني، وعندنا في أمريكا ما يقارب عشرة ملايين مسلم أي أكثر من اليهود، لكننا ما نزال مختلفين. فلو فرضنا أن المسلمين الموجودين في أمريكا شكلوا فريق عمل سياسي، وتحركوا من أجل أخذ المواقع، فإنهم قطعاً يستطيعون أن يضغطوا على السياسة الأمريكية مثلما يفعل اليهود، لكن الفردية عندنا هي التي تتحكم فينا، كما قال أحد شعراء العراق وهو المرحوم (علي الشرقي):

            قومي رؤوس كلّهـم               أرأيت مزرعـة البصـل؟!                     

فتوى سياسية لمنع دخول البضائع الصهيونية

س : أعتقد بأن الفتوى الدينية في تحريك البضائع الصهيونية والأمريكية لا تكفي وحدها في مواجهة الواقع، فلا بد من أن تؤازرها فتوى سياسية من قبل الحكام من خلال منع دخول مثل هذه البضاعة للبلاد الإسلامية؟

ج : أنا أضمّ صوتي إلى صوتكم، فهذا صحيح، ولكننا نقول إذا لم تصدر فتوى سياسية من الحكام فتكليفنا الشرعي هو أن نصدر فتوى دينية. ونحن لا نضغط على الناس، فلكلّ إنسان أن يعمل بالفتوى بحسب ظروفه وإمكاناته.

انتصـارنا علـى العـدوّ

س : الا ترون أن العدو الصهيوني يخطّط ونحن ننفعل، وهو يفكّر كأمّة ونحن نفكّر بشكل فردي، فهل يتوقف نصرنا على الاستفادة من نقاط قوة العدو ومهاجمته من خلال نقاط ضعفه؟

ج : هذه هي القاعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وهي أن تدرس نقاط ضعف القوي الآخر ونقاط قوتك وتنطلق من هذه النقاط لمواجهة ضعف العدو.

ألم تر أن الصهاينة قد فكّروا في نقاط ضعف العرب وعملوا على إسقاطهم من خلالها ونجحوا في ذلك، ومن الغباء أن الخطة الإعلامية والثقافية والسياسية كانت تتعمّد إبعاد العرب عن معرفة اليهود في تفكيرهم وكتاباتهم وحلّهم لمشاكلهم، فتلك كانت من الممنوعات، فالكتاب الذي يتحدّث عن اليهود يصادر، والصحيفة التي تنشر شيئاً عن اليهود تغلق ويعتبر صاحبها عميلاً للعدو.

وفي الجانب الآخر، ماذا كان اليهود يعملون في الجامعات؟ لقد خصّصوا في كلّ جامعة منبراً لدراسة كلّ ما لدى العالم العربي من قصص ليعرفوا من خلالها كيف يفكّر العرب في الابتداء بقصصهم وإيصالها إلى العقدة وكيفية حلّ العقدة، بل كانوا يدرسون الأفلام ليعرفوا الروايات العربية التي تثقّف العالم العربي، فمثلاً يتعرّفون على كيفية حلّ الإنسان العربي لمشكلاته، هل يهرب منها؟ أم يعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها؟

وكانوا يناقشون المذاهب السنية والشيعية، بل كانوا يناقشون حتى الخلافات التي تدبّ في داخل كلّ مذهب وفي الأحزاب السياسية الإسلامية والعلمانية، ولقد كنا في دائرة الضوء وكانوا في دائرة الظلام، أي أننا لم نعرف شيئاً عنهم، ولذلك لم نكن نعرف مدى قوة العدو، وانطلت علينا مقولات العدو طويلاً، حيث كان يطلق على جيشه اسم الجيش الذي لا يقهر، وأن الجندي الصهيوني هو (السوبرمان) أي الخارق الشخصية، وصدقنا ذلك، حتى أن بعض الرؤساء العرب وهو (أنور السادات) خاف من النصر حينما انتصر العرب في حرب تشرين، فزعم أنه لا يقدر على قتال أمريكا. ولكنّ الشبان المؤمنين في لبنان استطاعوا قتال السياسة الأمريكية التي تدعم السياسة الصهيونية وانتصروا عليهما.

إن المشكلة هي أن الحيلة انطلت علينا في أن الجندي اليهودي والمفكّر اليهودي والعالم اليهودي والسياسي اليهودي في المستوى الذي لا يبلغه أحد، فتقازمنا وبدوا في نظرنا عمالقة، فنحن نردّد دائماً أننا لا نساوي شيئاً، وأننا ممزقون، وأن خلافاتنا حادة، وأننا غير قادرين على فعل شيء، فنحن نتحدث دائماً في نقاط ضعفنا، وهذا لا يعني أننا نريد أن نغفل نقاط ضعفنا، لكن ينبغي أن لا ننسى نقاط قوتنا أيضاً، فالفرق هو بين أن تتحرك كفرد وبين أن تتحرّك كجزء من أمة.

ما يمكن تقديمه للفلسطينيين في انتفاضتهم

س : ماذا بوسعنا نحن العرب والمسلمين أن نقدّم للشعب الفلسطيني الذي يقدّم القرابين في سبيل الله لتحرير القدس؟

ج : لقد ذكرت في خطبة الجمعة الأخيرة، أن علينا أن نقدّم لهم خطة، ونفكّر في أفضل الوسائل التي تساعد الانتفاضة على الاستمرار، وأن نفكّر ما هي الخطة التي يستطيعون من خلالها مواجهة العدو مواجهة تخضعه لمطالب الأمة، وما هي الإمكانات المادية التي يمكن أن تقدّم لهم لتعزيز نضالهم بما فيها الأسلحة، لأن المعركة طويلة، فحتى لو أجهضت الانتفاضة ـ لا سمح الله ـ إلا أن التعنّت الصهيوني سيفجّر انتفاضات وانتفاضات، فالصراع بيننا وبينهم هو صراع وجود لا صراع حدود.

أمّتــنـا حيـّــة

س : ما نراه في الشارعين العربي والإسلامي من تفاعل وتأييد للانتفاضة الفلسطينية هل هو مؤشر على أن أمتنا حية وترفع مشعل الإسلام؟

ج : لا شكّ أن هناك حالة شعورية وحدوية، لكننا نريد لهذه الحالة أن تتحول من حالة ثقافية وأخرى سياسية لتتحول إلى حالة أمنية موحّدة، فعلينا أن نعمل بهذا الاتجاه ولا نيأس.

تميـيـز الشعـارات

س : لعبت الشعارات على طول خط الصراع بين قوى الخير والشرّ دوراً كبيراً في خداع قطاع عريض من الناس وما زالت، فكيف نقيّم الشعار لنفرز الزائف من الحقيقي والمتلاعب بالعواطف من الصادق؟

ج : علينا أن ندرس الشعار في مضمونه الفكري والسياسي، لنرى هل أنه ينسجم مع الخطوط الفكرية التي نؤمن بها؟ وهل أنه شعار ينفتح على القضايا السياسية الحية التي نعمل من أجلها؟

ثم ندرس خلفية الذي يطلقون الشعارات لنرى هل أنهم يطلقون كلمة حق يراد بها باطل؟ أم يطلقون كلمة حق يراد بها حق، ورحم الله السيد الصافي النجفي حيث يقول:

كثر الخداع اليوم في أقوالنا      فانظر إلى من قال لا ما قيلا

فقد تكون الكلمة التي يطلقها صاحب الشعار حقّة، لكن يا ترى هل أن مطلقها حقاني؟ أي هل أنه من أهل الحق فعلاً أم أن لديه أغراضاً وحسابات أخرى، فلقد بتنا لا نصدق الكلمات الطنّانة والفضفاضة، لأنها أصبحت استهلاكية، حتى صرنا نستهلك الكلمة مثلما نستهلك الطعام والشراب، ولذا لا بدّ من أن نتحرّى عن القائل ومطلق الشعار، لنرى هل أنه أمين على ما قاله أو ليس بأمين.

 

الفصل الخامس

 

 

المسائل التّربويّة

 

عدم احترام غير المعمّمين:

 

س : نسمع كثيراً من الأحاديث عن علي أمير المؤمنين(ع) وهو يتفقّد الفقراء ويسأل عن أحوال الناس، وهذا ما يتحدّث به العلماء والخطباء، ولكن للأسف ترانا نعاني من ظاهرة أننا عندما ندخل مجالس العلماء ونسلّم، فلا نجد من يردّ علينا بحرارة واحترام، وبالعكس فيما لو سلّم رجل علم أو رجل يرتدي العمامة فإنه يجد احتراماً ويوسّع له، فلماذا هذه التفرقة؟

ج : الخلق الإسلامي هو أن نحترم كل الناس وأن لا نحتقر إنساناً فقيراً أو بسيطاً، فالله عزّ وجل علّم النبي(ص) وعلّمنا من خلال النبي(ص): {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرُطا} [الكهف:28]. وعندنا حديث شريف يقول: "من لقي فقيراً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني لقي الله وهو غضبان يوم القيامة".

نصيحة للشباب اللاجئين إلى الغرب:

س : بِمَ تنصحون الشباب المتوجهين إلى الدول الغربية علماً بأنهم يخرجون من دولهم لظروف أمنيّة ومعيشية قاهرة؟

ج : نصيحتي هي أن يحافظوا على دينهم تماماً كما يحافظ الإنسان على ماله في بلد يكثر فيه اللصوص، أو يكثر فيه المجرمون، ألا يقوم باتخاذ الاحتياطات اللازمة ليتجنب هذا وذاك؟ وبعبارة أخرى، فإن على الإنسان الذي يسافر إلى بلاد الكفر التي لا يعيش فيها الأجواء الإسلامية، والتي تقدّم له فيها المعصية على طبق من ذهب، أن يعيش حالة طوارىء في الحفاظ على دينه، لأنّ الإنسان في بعض البلدان ينطبق عليه الحديث الشريف: "القابض على دينه كالقابض على الجمر"، ولا يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد يضعف فيه دينه أو دين أهله، أما إذا أراد أن يحقّق الشرعية لسفره فعليه أن يحاول ـ ما أمكنه ذلك ـ أن يحفظ دينه وأهله.

ضرب الصبيـان لأجل الصلاة:

س : إذا بلغ الصبي عشراً، فهل يجوز ضربه على تركه الصلاة؟

ج : أنا لا أرى الضرب لأجل الصلاة إيجابياً، بل لا بدّ أن نقنعهم بذلك ونرغّبهم به حتى يقبلوا على شيء يحبّونه لا على أمر مدفوعين إليه بالقوة والإكراه، فهذا مما قد ينفّر، ونحن نريد أن يستشعر الصبي حلاوة القرب من الله ولذة الطاعة إليه منذ نعومة أظفاره. ولكن إذا كان الضرب – كأسلوب تأديبي – يمثّل الطريقة الوحيدة للالتزام بالصلاة ثم العمل على إزالة المؤثرات السلبية من نفسه بعد ذلك كان مقبولاً، ولكن بفعل الضرورة القصوى.

إساءة التعامـل مع الزوج:

س : ما هو حكم الزوجة التي تواجه زوجها بشكل غير لائق ولا تمنحه المودّة والروابط الزوجية الصادقة؟

ج : هذا عمل غير أخلاقي وغير إسلامي، لأنه يتنافى مع المودة والرحمة اللتين جعلهما الله تعالى بين الزوجين. كما يتنافى مع المعاشرة بالمعروف التي هي عماد الحياة الزوجية والتي يتعيّن على كلٍّ من الزوجين رعايتها لتستقيم هذه الحياة وتسعد. وينبغي للزوج أو للأهل أو للأصدقاء القريبين إلى العائلة القيام بتحذيرها من النتائج السلبيّة المترتّبة على ذلك على مستواها الشخصي أو مستوى الأسرة.

إساءة بعض الخطبـاء:

س : تحدّث أحد الخطباء حديثاً لا يليق بالمكان والمنبر، وكان ذلك بحضور بعض الشخصيات المعروفة ولم يعترض أحد على ذلك، فما هو القول في ذلك؟

ج : إن مشكلة بعض الخطباء هي أنهم يحاولون التنفيس عن غرائزهم وعقدهم أمام الناس بالهجوم على العلماء وإثارة الفتن، ولذا فنحن ننصح إخواننا المؤمنين أن يمنعوا أمثال هؤلاء عن القراءة، فدور الخطيب هو وعظ الناس وإصلاحهم وإرشادهم وربطهم مع بعضهم البعض من أجل توحيد صفوفهم لا من أجل تمزيق شملهم وخلق العقد النفسية بينهم.

والمسؤولية في ذلك يتحمّلها ليس الخطيب وحده، بل الذي يدعوه للقراءة أيضاً، ولذا قد يأثم الذين يأتون بالخطباء من مثيري الفتن أكثر مما يؤجرون، بل قد لا يؤجرون على ذلك. كم ا أنّها مسؤولية المستمعين أيضاً بأن يُقاطعوا أمثال هذه المجالس، وإلاّ كانوا من المشاركين في الإثم، أمّا إذا حضروا واستطاعوا الردّ فهو أفضل.

رفض لقـاء أختيـن:

س : شخصان تزوّجا أختين، إلا أن أحدهما، ومن دون سبب معروف، لا يريد لزوجة الآخر أن تدخل بيته، لأن زوجة الرافض تقوم بضيافة أختها، فهل يحقّ للرافض أن يقوم بإبلاغ عديله بعدم رضاه بدخول زوجته إلى بيته؟ وهل يعتبر هذا العمل محرّماً لأنه يؤدي إلى قطع ما أمر الله به أن يوصل؟

ج : نحن نحتاج أولاً إلى فهم الدوافع التي تدفع هذا الإنسان إلى أن يرفض دخول أخت زوجته عليها، فربما يكون في دخولها مشاكل أو أضرار أو ما أشبه ذلك. أما إذا كانت القضية خالية من ذلك وكانت ثمة عقدة، فهذا يصبح شبيهاً بقطع الرحم بين الأختين، في حين يجب على الإنسان أن يشجّع على صلة الرحم، وحتى لو كانت أخت زوجته ليست من رحمه، لكنها رحم زوجته، وعليه أن يعمل على الصلح بينهما، ولا إشكال أنّ هذا عمل غير شرعي من وجهة النظر الأخلاقية الشرعية في التزام الإنسان المؤمن بتنمية روح التواصل في المجتمع بين الذين يريد الله لهم أن يتواصلوا كالأرحام بقدر ما يتعلق له به.

التخلّـص من الذنـوب:

س : أحاول كلّ جهدي عدم الوقوع في الذنوب وارتكاب المعاصي، ولكن كيف يصل الإنسان إلى التخلّص منها؟ وهل يستطيع أن يصل إلى مرحلة الابتعاد عن الخطأ؟

ج : يقول تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا} [العنكبوت:69] فإذا كان الإنسان واعياً لنفسه في أموره، وكان يدرس ما حوله ومن حوله وأخذ لنفسه بالمحاسبة والمراقبة والمجاهدة بالأسلوب العلمي في إدارة نفسه فإنّ الله يهديه بلطفه الربّاني إلى ذلك، فيمكن أن يصل إلى هذه النتيجة.

إنسـان اللـه:

س : تذكرون دائماً عبارة (إنسان الله) فماذا تقصدون بها؟

ج : المقصود بـ(إنسان الله) هو الإنسان الذي يؤمن بالله ويطلب رضاه ويعيش في أجواء طاعته ومحبته وتقواه، وهو بعبارة أخرى إنسان القرآن الذي يعمل على أن يكون خلقه وعمله موافقاً لما جاء في كتاب الله بحيث يكون انتماؤه إلى الله من موقع العبودية أكبر من انتمائه إلى أي شخص آخر من حيث الرغبة في الحصول على محبته ورضاه بحيث يكون الله كل شيء بالنسبة إليه.

قراءة أخبـار الممثلين

س : تكثر زوجتي قراءة المجلاّت المختصّة بأخبار الممثلين والفنانين وأخشى عليها من ذلك، فهل يجب عليّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنعها عن قراءة هكذا مجلات؟

ج : إذا فرضنا أنّ قراءتها ستؤدي إلى انحرافها وضلالها، فإن منعك إيّاها يكون من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما إذا لم يؤدّ إلى ذلك فيكون من باب النصيحة من خلال توعيتها بأنّ استغراقها في ذلك قد يؤدّي إلى تضخيم شخصيّات هؤلاء في النفس، مم قد يحمل بعض الانحراف فيترك تأثيره السلبي على النفس من الناحية الروحية والعاطفية؛ لأنّ الإنسان مفطورٌ على انّه إّا أحبّ شخصاً أحبّ فكره ونهجه وعمله.

السـلام علـى مـن؟

س : في التسليم أثناء الصلوات لمن يكون السلام الثالث أي "السلام عليكم ورحمة الله"؟

ج : نسلّم على من حولنا، أو على الملائكة، فالأمر يتبع قصد المسلِّم.

من أجل إرضـاء الآخـر

س : كثير منّا يلبس من أجل الآخر، ويأكل من أجل الآخر، ويركب السيارة من أجل أن يرضي الآخر، وليس من أجل أن يرضي الله سبحانه وتعالى، فكيف نعالج هذه المشكلة؟

ج : هذه القضايا لا تجب فيها نيّة القربة، فقد يلبس شخص لباساً معيناً حتى يخرج بهندام يرضي الناس. ولكن على الإنسان ـ في جميع الأحوال ـ أن يكون نفسه ولا يكون صدى للآخرين، ولعلّ هذا المذكور في السؤال يدلّ على أنّ الشخص ضعيف الشخصية، فهو لا يتحرك من خلال قناعاته ومن خلال ما يرتضيه لنفسه، بل من خلال قناعات الناس، ورضا الناس ـ كما هو معلوم ـ غايةٌ لا تُدرك. نعم، لا يصحّ للإنسان أن يلبس أو يمشي أو يقصّ شعره بطريقة تجعله في موضع سخرية الناس على طريقة خالف تعرف.

مبـررات المدرسة قبل المسجد

س : تؤكدون بشأن المشاريع التي ينبغي إقامتها في أوروبا على شعار "المدرسة قبل المسجد"، فما هي مبررات هذا الشعار؟

ج : ذلك لأن المدرسة هي التي تحفظ لنا عقائد الدين ولغة أولادنا، إذ يمكن أن نصلّي جماعة في المدرسة، ولكننا نفتقد في كثير من الحالات دين أولادنا، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} [التحريم:6]. فلا إشكال بأننا عندما نؤسس المدارس في الغرب يمكننا أن نصلي فيها جماعة، ونسمع الموعظة، ونعلّم أولادنا، بينما لو اكتفينا بالمساجد فقد لا نحقِّق ذلك، وإذا استطعنا أن نؤسس مدرسة ومسجداً فالجمع أفضل.

إعانة الإمام(ع) على الورع والاجتهاد

س : من كلام للإمام علي(ع): "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد". فكيف نستطيع أن نعين الإمام على الورع والاجتهاد، ونحن ما زلنا نختلف في التوافه من الأمور التي تواجهنا وعلى كلّ الاتجاهات، فهل من حلّ؟

ج : يقول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} [المائدة:105]. فعلينا أن نعينه بأن يعيش كلّ منا الورع والاجتهاد والطاعة لله والعفّة والسداد في الرأي، وإذا فكّر كلّ واحد منّا بمسؤوليته الشرعية فسوف لن يكفّر الناس عند ذلك. أمّا اعتبار ذلك إعانةً للإمام عليٍّ (ع) فقد يكون المقصود الإعانة له على أنفسنا بتوجيهها إلى الورع والاجتهاد والفقه والسداد، باعتبار أنّ ذلك هو مسؤوليته في إصلاح الناس على أساس الخط الإسلامي الأصيل في طاعة الله وتقواه.

افتراق صديقين بسبب التقليد

س : نريد منكم نصيحة لصديقين افترقا بسبب اختلاف التقليد مع أنّهما كانا حميمين قبل ذلك، كما أننا نعلمكم بأن في المجتمع نفوراً ومشادات كلامية بسبب التقليد؟

ج : هذا العمل تخلّف واضح، وهو يدلّ على جهل وعلى عدم التزام بالدين. فهذا هو أخوك المؤمن وبينك وبينه أخوّة الإيمان، ومن حقّه أن يكون له رأي فيمن يقلّده وعلى حسب قناعته، ومن حقّك أن يكون لك رأي فيمن تقلّده وعلى حسب قناعتك، فلماذا لا تختلفان عندما تذهب أنت إلى طبيب ويذهب هو إلى طبيب آخر؟

إن المقلّد هو رجل مجتهد عنده خبرة بالفقه، والمجتهد الآخر عنده خبرة بالفقه أيضاً، فلا هذا خرج عن المذهب لأنه اختلف مع الآخر، ولا ذاك خرج عن المذهب لأنه اختلف عن الفقيه الآخر، وحتى لو فرضنا أنّ وجهة نظرك بالفقيه الآخر سلبية أو وجهة نظره في مقلّدك سلبية فالله سوف لن يحاسبك على تقليد فلان فقيهاً آخر ولا يحاسب الآخر على تقليدك لفقيه غير مقلّدك.

إني أقول لهما إنّ فراقكما لهذا السبب خطيئة ومعصية وتخلّف ودليل على عدم التديّن، لأنكما متعصّبان ولستما متدينين. وهكذا فإنّ الذين يختلفون ويتباغضون على أساس التقليد لا يخلصون للتشيّع ولا للإسلام وإنما يخلصون لنـزواتهم وتخلّفهم ولجهلهم في هذا المجال. والخلاصة أن هناك فرقاً بين أن يكون الإنسان ملتزماً وبين أن يكون متعصباً، فـ"العصبية في النار".

اصطحـاب الصغار إلى المسجد

س : أحب اصطحاب ابني الصغير إلى المسجد والمجالس العلمية، لكن البعض يشكل على أن ذلك قد يؤثر على الهدوء، فما هو رأيكم؟

ج : أنا أشجع ذهاب الأطفال إلى المسجد، حتى يعيشوا أجواءه ويتربّوا من خلالها، مع مراعاة ضبط حركتهم حتى لا يتحوّل المسجد إلى ساحة للّعب.

الهيبـة الاجتماعيــة

س : ألا ترون أن القرب من الأهل والأصدقاء يترتب عليه عدم التقدير والاحترام، وفي التراث العربي يقال: "حمامة الحي لا تطرب"، فكيف السبيل إلى كسر هذا المظهر؟

ج : هذا الأمر ليس قاعدة شاملة، فربما كانت الألفة الاجتماعية تذهب الهيبة من النفوس، لكن بإمكان الشخص إذا كان يمتلك المقومات الشخصية التي يستطيع بها أن يكون محترماً ومقدراً ومهاباً، أن يحقق هذه الهيبة في أي وسط اجتماعي يعيش فيه، ولذا نرى في مجتمعاتنا الكثير من الشخصيات العلمية والفكرية والاجتماعية والسياسية التي تنال احترامها وهيبتها من الناس.

عامل الناس بما يشتهـون

س : في المدرسة السلوكية الغربية هناك إشكالية حول الصداقة، فهم يرون أن تعامل الناس مبني على قاعدة بما تحب أن تعامل به، أي كما يشتهون، فما هو الموقف الصحيح، هل يجب أن يكون التعامل من خلال ما يشتهون أم من خلال قناعتنا؟

ج : علينا أن نعامل الناس بالأخلاق الحسنة، بأن ننصحهم ونحسن إليهم ونصدق في تعاملنا معهم، ولا يعني معاملة الناس بما تحب أن يعاملوك، أن تعاملهم وفق الذوق والمزاج، بل من خلال التزامك بالحدود التي يلتزمها الناس في القضايا الأخلاقية، لا الأمور المنحرفة اللاأخلاقية، أي التحرك في خط العدالة، بأن تعامل غيرك بما تحب أن يعاملك به من احترام واعتزاز وتقدير، لتدرس ظروفه النفسية والعملية في تعاملك معه من خلال ما تريده من مراعاته لظروفك في تعامله معك.

الواجب اتجاه صديق منحرف

س : ما هو الواجب عليّ اتجاه صديق انحرف وقد نصحته عدة مرات؟

ج : حاول أن تواصل نصحه ما أمكنك ذلك.

قيـاس سوء الظـنّ

س : كيف نقيس سوء الظن أحياناً، خاصة وأنّ هناك علامات تشير إلى المتهم، فما هو الفاصل بين سوء الظن وبين السذاجة؟

ج : لا يعني حسن الظن أن تحكم بالخير المطلق، بل أن لا تحكم بالسوء، وفي الحديث: "إذا ظننت فلا تحقّق"، فالمطلوب على مستوى النظرة للآخر هو تغليب احتمال الخير على الشرّ، لا أن تحكم بالخير ولم يثبت لك الخير، فعليك أن لا تسيء الظنّ بالآخر، وعليك في الوقت نفسه أن تكون حذراً، والإمام علي(ع) يقول: "لا تثقنّ بأخيك كلّ الثقة، فإن صرعة الاسترسال لا تستقال"، أي لا تثقنَّ بشخصٍ 100%، يعني ثقة عمياء، بل اترك مسافة أو خط رجعة، كما في مثال المسافة بين سيارة وأخرى الذي ضربناه أكثر من مرّة، فالمسافة المناسبة تحفظ لك وللآخر سلامتكما: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما".

بين إعانة اليتيم وصلة الرحم

س : أيّهما أكثر ثواباً، إعانة اليتيم أو صلة الرحم؟

ج : لكلٍّ فضل، فقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "أنا وكافل اليتيم كهاتين ـ وجمع بين الوسطى والسبّابة ـ في الجنة"، وصلة الرحم أيضاً تطيل العمر وتنمّي الرزق، فلكلٍّ فضل، ومن الممكن للإنسان أن يجمع بينهما، بأن يعين اليتيم الذي هو من أرحامه، أو يعطي هذا وذاك معاً.

تنافـر القلـوب

س : ما رأيكم بقول الشاعر:

إن القلوب إذا تنافر ودّها                       مثل الزجاجة كسرها لا يجبر؟

ج : لا، هذا غير صحيح، فقد تتنافر القلوب ثم تلتقي على الودّ من جديد.

السياسة كعامل فرقة

س : كثيراً ما تفرّق السياسة بين المؤمنين، فكيف نوازن بين السياسة والرأي والصداقة؟

ج : يقول الله تعالى: {إنّما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10] حتى لو اختلفوا في السياسة، ولذلك إذا اختلف إنسان سياسياً أو اجتماعياً مع أخيه المؤمن وتقاطعا وتعاديا بسبب ذلك، فهما ليسا في خط الإيمان، فكأنّما يقول: قال الله وأقول. وعن الإمام الصادق(ع): "إذا قال المؤمن للمؤمن أنت عدوّي كفر أحدهما". ويقول شوقي:

اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية

ولكنّ ذلك في القضايا الهامشية لا المفصلية.

*** [نقص من عنوان (استيضاح ورد) ص 587 إلى قوله (ما لا تفعلون) ص 588]

مشاهدة الأفلام الخلاعية

س : عندي أخ يشاهد الأفلام الخلاعية لفترة طويلة وأنا أصغر منه في السن، ولا أستطيع أن أكلّمه وأنا في حيرة من أمري، فبِمَ تنصحونني؟

ج : عليك أن تحاول منعه ببعض الوسائل حتى لو اضطررت لإخبار من هو أكبر منك إذا عرفت أن ذلك سيمنعه.

الغيـور على عائلتـه

س : المؤمن الغيور صاحب العائلة قلق في نهاره وليله على أطفاله في أجواء الغرب، فكيف نوازن بين القلق والأهداف المرجوّة للخلاص من الانزلاق؟

ج : يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} [التحريم:60]. فإذا عرف الإنسان أنّ سفره إلى هناك يضلّه ويضلّ أولاده فيحرم السفر عليه، لأنه يحرم السفر إلى بلاد يضعف فيها الدين، إلا إذا حاول أن يحمي نفسه وأولاده بطريقة ما.

البشاشة بين المؤمنين

س : بالإضافة إلى الصداقة والصديق نحتاج نحن المسلمين إلى البشاشة بين بعضنا البعض، وهذا مفقود إلى درجة كبيرة حتى بين بعض علمائنا الأعزاء، فهل هناك طريق وأسلوب يتّبعه المسلم لتجاوز ذلك؟

ج : يقول تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} [الأحزاب:21]. وفي الحديث عن الرسول(ص) الأسوة الحسنة: "ألق أخاك بوجه منبسط"، ولكن بعض الناس يحب أن يخلق لدى الناس الشعور بالكآبة، فتراه مقطباً وعبوساً قمطريراً وينسى أن النبي(ص) كان دائم التبسّم، والإمام زين العابدين(ع) كما يصفه الشاعر:

يغضي حياءً ويغضى من مهابته      فلا يكلّـم إلا حين يبتسـم

فمن علامات المؤمن أن يكون بشره في وجهه، لكن بعض الناس إذا نظرت إليه أدخل على قلبك الهمّ والغمّ والحزن والأسى، حتى ولو كان الناس في فرح وسرور.

الحديث عن المرجعية بالسوء

س : لي صديق عزيز أذهب إليه ونجلس ونتحدث، ولكنّه يتكلم بالسوء على مرجعية كبيرة ومؤمنة، وعندما أقول له لا يجوز ذلك لا يقبل مني، بل يزيد في حملاته وهو إنسان مؤمن؟

ج : كيف يكون مؤمناً وهو يغتاب المراجع، وهو يعلم أن "الغيبة طعام كلاب أهل النار"، وأن الله تعالى يقول: {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} [الحجرات:12]، وأنّ "الغيبة أشد من الزنا، قالوا كيف؟ قال: لأن الزنا قد يغفره الله للإنسان إذا تاب ولكن الغيبة لا يغفرها الله حتى يغفرها صاحبها". لقد أصبح البعض من الناس يبرّر لنفسه اغتياب الآخرين بعناوين مختلفة، فمنهم من يقول أريد نصرة المذهب والوقوف ضد الضلال وهكذا، ولكنّه الشيطان يوسوس لبعض الناس.

جـار الســوء

س : إذا كان الجار سيئاً فهل يكون ذلك عقاباً؟ وماذا يعمل المُساء إليه والجار السيّىء لا يريد أن يصلح نفسه؟ فهل تحمّل الأذى يعدّ تكفيراً للذنوب؟

ج : عليك أن تتحمل أذاه، وليس من الضروري أن يكون ذلك عقاباً لك، ولكنه ابتلاء، وإذا صبرت فإن الله يجزيك أجر الصابرين، ويعطيك الثواب الدائم على تحمّلك الدائم، وقد يكون ثواباً يزيد عن ذنوبك، فيغفر الله لك به ما ارتكبت من ذنوب.

التديـن كشرط في الجـوار

س : هل يدخل شرط التدين في الجار والجـوار؟

ج : لا فرق في الجوار بين الجار المسلم والجار الكافر، وبين الجار المتدين وغير المتدين، وعندنا حديث نبوي يشير إلى هذا المعنى: فقد يكون للجار ثلاثة حقوق، وقد يكون للجار حقان، وقد يكون للجار حق واحد، أما الجار الذي له ثلاثة حقوق فهو الجار المسلم الرحم، فهذا له حقّ الإسلام وحق الجوار وحق الرحم، والجار الذي له حقان هو الجار المسلم وليس رحماً، أو الجار الرحم وغير المسلم، والجار الذي له حقّ واحد وهو الجار المشرك.

التفريـق بيـن الأولاد

س : هناك أمّ تفرّق بين أولادها وتحاول أن تعطي ابناً أكثر من الثاني وتدعو للأول بالتوفيق وتدعو على الثاني بالموت أو بغير ذلك، فما هو رأيكم؟

ج : هذه امرأة تعقّد أولادها بالنسبة إليها، وتعقّدهم بالنسبة لبعضهم البعض، وعلى الأم أو الأب أن يعدلوا بين أولادهم، حتى أنه يقال إن شخصاً جاء إلى النبي(ص) وقبّل أحد ولديه، فقال له النبي(ص) قبّل الثاني حتى لا يكون في نفسه شيء.

كلمات الفحش بين الزوجين:

س : الكلمات التي تخدش الحشمة عادةً هل يجوز تبادلها بين الزوج والزوجة؟

ج : نعم يجوز ذلك، فرأينا هو أنّ الفحش من القول محرّم إذا وجّه للآخر بقصد الإساءة إليه، وليس كلام الفحش في ذاته محرّماً، إلاّ إذا كان فيه نتائج أخلاقيّة سلبيّة فلا يجوز.

العجـب بالعلـم

س : تحدّثتم عن العجب بالعلم، وعندما نقرأ في نصوص الإمام علي(ع) نراه يقول: "علمني رسول الله ألف باب من العلم"، فهل هو العجب؟

ج : علّمه رسول الله(ص) ذلك العلم كلّه، ولكنّه لم يتحدث من خلال العجب، بل أراد أن يبيّن طبيعة ما عنده من العلم حتى يعرف الناس سعة علمه، وحتى يتعلّموا منه. وهذا شبيه بقوله(ع): "إن ها هنا لعلماً جماً لو وجدت له حملة" وقوله(ع): "سلوني قبل أن تفقدوني فإني بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض".

سبّ الشخص الغائب

س : إذا كان شخص يسبّ شخصاً مؤمناً غائباً ويحاول الانتقاص من شخصيّته وسمعته ولم يقم السامع بردعه عن عمله فهل يأثم؟

ج : إذا كان قادراً على أن ينهاه عن المنكر وترك ذلك يكون مأثوماً.

الإساءة إلى الزوجـة

س : حصلت لي مشكلة مع زوجتي وأنا في الخارج، واتصلت بها تليفونياً، وبسبب نفسيتي المتعبة أسأت إليها وتعديت عليها بكلام فظّ وردّت عليّ أيضاً بمثله وهدّدتني فطلّقتها، فهل يعتبر عملي حراماً؟

ج : طبعاً، فالسبّ والشتم غير جائزين، فزوجتك هي أختك في الإيمان وإن كانت زوجتك في الجسد، وعليك أن تحترمها بما تحترم به أخاك المؤمن وأختك المؤمنة. لذلك فعملك غير صحيح وهي عندما سبّتك وردّت عليك بمثل كلامك عملت على طريقة {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194]. وفي الحديث قيل: "رجلان تسابّا، قال البادي منهما أظلم ووزره ووزر صاحبه عليه". والإنسان العاقل هو الذي لا يطلق كلماته وأحكامه جزافاً نتيجة انفعال ونتيجة فعل وردّ فعل، فإن هذا من موارد الندم في غالب الأحيان.

هل هذا من العجـب؟

س : هل تدخل في العجب الحالتان التاليتان:

أولاً: عدم قراءة أفكار وأبحاث الآخرين بدعوى عدم توفرهم على العلم والفهم؟

ج : تارة لا يقرأ الإنسان كتاب فلان لأنه لا يفهم، أو أنه ليس له علم حسب خبرته به، وهذا لا يعتبر عجباً. وتارة هو لا يقرأ كتب الآخرين لأنه يرى أنه مهما كتب الآخرون فهو لا يستفيد من أحد حتى لو كانوا علماء، أو لا يوجد أحد يفهم قدر فهمه كما هو حال بعض الناس الذي يقول لك: إنّ عقلي يزن بلداً وأنا أوزّع عقلي على عقول الناس كلهم، وليس لدى الآخرين عقل مثل عقلي، فهذا عجب.

وكما بينّا في المحاضرة، أنّ نتيجة ذلك هي أنّ علم الإنسان يتحوّل إلى جهل. وينقل في هذا المجال عن أحد المراجع، وهو شيخ الشريعة الأصفهاني، في بحث الخارج، وهو البحث الأهم والأعمق في الدراسات الحوزوية، حيث تعرض الآراء وتناقش بشكل استدلالي عميق، حيث يحضره العلماء من مختلف المستويات، فقد يحضره من قضى (20) سنة في طلب العلم، ويمكن أن يحضره طالب أنهى للتو دراسة السطوح، لأن ترتيب الدراسة في الحوزات العلمية ليس على الطريقة الأكاديمية، بحيث يكون كل الذين يحضرون الدرس هم بمستوى واحد من ناحية الدرجة العلمية. والطريقة المتعارفة في دروس بحث الخارج أن الأستاذ غالباً يكون مرجعاً أو مدرساً معترفاً به، فهو يعرض الفكرة ويطرح الطلبة إشكالاتهم، فيقطع الدرس ويردّ عليهم. فحصل أن طالباً جديداً حضر بحث شيخ الشريعة، فأشكل عليه في مطلبٍ ذكره الشيخ، فسكت واستمع له وناقشه، وبعدما فرغ من الدرس جاء بعض العلماء ممن قضوا سنين طويلة في البحث الخارج وقالوا له: لو كان الشخص الذي يسأل رجلاً فاضلاً أمضى فترة في الدرس لكان موقفك مبرراً، أما وأنه طالب مبتدئ فما قدر ما يعرف؟ فلماذا تعطّل وقتنا في مناقشة شاب مبتدئ؟

فكان جواب شيخ الشريعة حسب ما يُنقل أنه "ليس العلم بكثرة التعلّم، ولكنّه نور يقذفه الله في قلب من يشاء، ونحن مسنّون، وربما كانت الذنوب التي عندنا قد حجبت عنا الحقيقة، ولكن ذنوب هذا الطالب الجديد قليلة، فهو لا يزال شاباً مما قد يفتح الله قلبه على الحق، ولذا أردت أن أستمع إلى ما يفتح الله قلبه منه، فلعلّ الله يلقي الحق على لسانه وأنا أريد أن أستمع إلى الحق".

ثانياً: عدم الإيمان بعلم الآخرين بسبب عدم الاطلاع على علمه؟

ج: إنه يريد أن يقول إن الآخرين ليس عندهم علم لأنهم لم يطلعوا على علمي وعلى فكري، وهذا من العجب أيضاً، فليس من الضروري أن يكون علمك فوق العادة والآخرون ليسوا بعلماء، فإذا لم يطّلعوا على علمك فلا يصح أن تتهمهم بالجهل.

العجـب المستحـب

س : هل هناك مورد أو موارد يكون العجب فيها مستحباً أو ضرورياً للداعي إلى الإسلام؟

ج : ليس هناك أية حالة يكون فيها العجب مستحباً. نعم، هناك فرق بين العجب وبين السرور الذي يداخل العامل حينما يقوم بواجبه مع إحساسه أنه يجب أن يقوم بواجبه أكثر، فهذا ليس عجباً، أما العجب فهو يمثّل حالة ورم الشخصية، فهل يمكن أن يكون الورم مستحباً؟! وقد قال المتنبي لسيف الدولة وهو يعرّض بشخص آخر:

أعيـذها نظرات منـك صادقة      أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

هذا هو ورم العجب وهو يمثل ورم الشخصية، ولا يمكن أن يكون الورم حسناً، لأن المرض لا يمكن أن يكون عافية.

امتـداح المعلّـم لأسلوبـه

س : أنا مدرس وطلابي يمدحون أسلوبي وطريقة طرحي، وأعتقد في نفسي أن أسلوبي فريد مميز وذو تجديد، وأصرّح بذلك كثيراً، فهل أنا معجب بنفسي، أم أنه واقع وأنا أخبر عنه؟

ج : لا مانع من أن يشعر الإنسان أن أسلوبه جيد، ولكن أن تشعر أن أسلوبك هو الأسلوب الأمثل الذي ليس فوقه أسلوب، وأنه ليس هناك أية نقطة ضعف فيه، فهذا يمنعك من أن تفكر في أسلوبك لتطوّره أو أن تدرس نقاط الضعف فيه أو أن تستفيد من أساليب الآخرين في التجديد، فربما تحوّلت هذه الحالة إلى عجب يمنع من الازدياد وأنت لا تشعر.

اغتيـاب الزوجة للزواج بغيرها

س : أنا رجل متزوج وأريد أن أتزوج مرة ثانية، فأقوم بالتكلّم عن أخطاء زوجتي ونقائصها وسلبياتها لإقناع الآخرين بضرورة الزواج بالثانية، فما هو رأيكم؟

ج : هذا حرام لأنه غيبة، و"الغيبة طعام كلاب أهل النار". والغيبة أن تذكر أخاك بعيب مستور، وزوجتك هي أختك في الإيمان وإن كانت زوجتك في الجسد، كما أن هذا يمثل حالة تشهير بها وهو ما لا يجوز لك، فبدلاً من أن تحدّثهم عن نقائص زوجتك حدّثهم عن كمالاتك.

لا تعلّموهنّ سورة يوسف

س : هناك روايات تقول: لا تعلّموا النساء سورة يوسف لأن فيها فتنة، أفلا يمكن أن تكون الفتنة بالنسبة للرجل والمرأة معاً؟

ج : أنا أناقش مثل هذه الروايات، فليس في القرآن فتنة، فالله سبحانه وتعالى جعل القرآن نوراً للناس كافة. ولذلك فإن سورة يوسف كما تمثل موقف يوسف من العفّة، فهي أيضاً تمثل نقاط الضعف بالنسبة للمرأة والتي ذمّها الله سبحانه وتعالى، خصوصاً وأن امرأة العزيز قالت: {الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} [يوسف:51]. فليس في السورة أية فتنة للنساء، بل هي مثل حي في العفة للرجال والنساء معاً، وقد ناقشنا ذلك في بعض أبحاثنا.

حـدود التـوبــة

س : هل لعفو الله وتوبته ورحمته حدود؟ أم أن التوبة مقبولة في كلّ وقت مهما كانت الذنوب ومهما تكررت؟

ج : يقول الله سبحانه وتعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون} [الشورى:25]. ويقول تعالى: {إن الله يحب التوابين} [البقرة:222]. ويقول تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا ـ تجاوزوا الحدّ ـ على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر:53]. ويقول: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} [الزمر:54]. وقد ورد في الحديث: "إن لله رحمة في يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس". فعندما يرى إبليس كيف يرحم الله الخلائق يطمع بالرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء، فكيف نحدّد رحمة الله بالقول إن فلاناً لا يدخل الجنة، وفلاناً يجب أن يدخل النار، والله سبحانه وتعالى يقول: {لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسَكْتُم خشية الإنفاق} [الإسراء:100]. فلو فرضنا أن الله جعل الجنة بأيدينا، فكم هم الذين سيدخلون الجنة؟ وكم هم الذين يدخلون النار؟ وقد نقل لي الشيخ سعيد شعبان أنه تحدث مع ابن باز في وقته، حيث كان يقول إن الشيعة كلّهم في النار، وتلك الفئة من المسلمين في النار وتلك في النار وهكذا، فقال له شعبان: الجنة عرضها السماوات والأرض وأنت تريدها لك ولجماعتك فقط؟! إن الله رحمن رحيم ولا علم لنا بحدود رحمته الواسعة.

أما التوبة المقبولة فهي التوبة النصوح التي لا يعود بعدها إلى ارتكاب الذنب، لأن الإصرار على الذنب تجرّؤ على الله سبحانه وتعالى، وأبواب التوبة مفتوحة لمن أناب إلى الله واستغفر من ذنبه وتاب إليه.

طلـب المسامحــة

س : سائل يقول سامحني واعفو عني لأني اغتبتك؟

ج : نحن نسامح كلّ أخواننا ونرجو الله أن يسامحنا، ولكننا نقول لهم من باب النصيحة، ولسنا ندّعي الكمال: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات:6]. ونقول لهم: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء:31]. فعلى الإنسان أن يذكر ربّه في هذه الأمور، وأن لا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أنّ في ذلك لله رضا. فنحن نحظى بالحسنات إذا اغتابنا أحد، ولكنه يتحمّل إثماً، ولست مغضباً لذاتي أبداً، ولكني مشفق على الناس وعلى الفتنة التي يثيرونها.

هل العلم عاصم من الحمـق؟

س : هل نتصور إصابة العلماء بالحمق، وهل العلم يعصم من الحمق؟

ج : ربما كان العلم يزيد في الحمق أحياناً، لأن بعض الناس إذا حصل على مرتبة من العلم فإنه يشعر بانتفاخ شخصيته، إذ ما هو العلم؟ إنه عبارة عن النظريات التي يتعلّمها الإنسان أو التي يصل إليها بجهد خاص، فعندما ينظر إلى غيره من فوق، فإن شخصيته تتضخم فيعجب بها، والعجب كما ورد في بعض الأحاديث من الحمق.

س : وهل يمكن تفادي أضرار الحمق في العالِم؟

ج : عندما يصير العالم أحمق فإن خطورته تكون أشدّ، لأنه حينذاك يوزّع حمقه على الناس باسم العلم، ولذلك فإن حمق العالم أخطر من حمق الجاهل. فالناس لا تعترف بالجاهل ولا تتأثر به، ولكن عندما تكون عند العالم نقاط ضعف، فمن الطبيعي أن ذلك يترك تأثيره السلبي على كلّ الذين يتّبعونه {وما تفرّقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} [الشورى:14]. فبـزلّة العالِم يزلّ قومٌ كثيرون، وبحمقه ينال الناس شرّ مستطير، ولذلك فلا بد للعالِم أن يتواضع للعلم الذي لا يملكه كلّه ويربي نفسه على اكتشاف نقاط الضعف عنده ونقاط القوة عند الآخرين.

إعـالة الولـد لوالـده

س : هل يجب شرعاً إعالة الولد لوالده في حالة فقره وحاجته؟

ج : يجب ذلك، كما يجب على الوالد أن يعيل ولده إذا كان محتاجاً، ويجب على الولد أن يعيل والده إن كان محتاجاً.

س : وفي حال رفض الوالد مساعدة ولده، فما هو تكليف الولد؟

ج : إذا عرض الولد عليه الإعالة ورفض الوالد ذلك فقد أدّى واجبه، ولكن لا بأس أن يبقى يعرض عليه ذلك.

المحاسبة على الخواطـر

س : هل يحاسب المرء على ما يعترضه من خواطر كسوء الظن بشخص، أو التكبر في أداء العبادة، أو الغرور في مجالٍ ما؟

ج : لا يحاسب الله الإنسان على مجرد النية، ولكن يحاسبه على ما ظهر منه. نعم، في حالة التكبر قد لا تظهر هذه الخصلة بشكل واضح، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يعالجها في المهد، لأنها إذا عاشت في النفس فلا بد أن تطفح إلى الخارج، وهكذا الحال بالنسبة إلى الغرور، فهذه من الأمور الذميمة في ذاتها، لكن العقاب في الإسلام يترتب على العمل لا على النية أو الخواطر الذهنية.

س : وما هو السبيل لطرد مثل هذه الخواطر ومنعها من أن ترد التفكير؟

ج : إذا جاءت، فعلى الإنسان أن يعالجها بما لديه من وسائل، فلو فرضنا أن الإنسان يسيء الظن بشخص آخر، فيقول أنا أسيء الظن بفلان، لكن ما هو البرهان عندي على أن ما أحمله عنه صحيح؟ وما هو الدليل على ذلك، وأنا غير مطّلع على القضية من جميع الجهات؟ ولو طلب مني أن أحلف يميناً في ذلك، فهل أنا مستعد؟ ولو أريد مني الدليل على اتهامي أو سوء ظني فهل عندي أدلة مقنعة؟ ولذا فإن مجرد سوء الظن لا يمكن أن يقوم بنفسه كدليل على صحة افتراض السوء في الآخرين، وهذا ما ذكره أمير المؤمنين(ع) بقوله: "ضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك عليك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً".

أما قصة التكبر، فالإنسان يرجع إلى نفسه ويراقب نقاط الضعف فيها حتى يمنعه ذلك من المزيد من التكبر، تمهيداً للقضاء على التكبر نهائياً. وهكذا الغرور، فيمكن أن يعالج عندما يدرس الإنسان نفسه دراسة واقعية.

إفسـاد العجب للعمـل

س : ورد في كلامكم أن العجب يفسد العمل، فلو أفسد الإنسان عمله بالعجب، فهل يجب عليه من الناحية الشرعية أن يقوم بقضاء ذلك العمل الذي أفسده في العجب؟

ج : هنا في هذه الصورة إذا عمل ثم أعجب بعمله، فإن العجب يفسد روحانية العمل، فالإمام زين العابدين(ع) يقول في دعاء مكارم الأخلاق: "وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب". وذاك هو الرياء الذي يفسد العمل، فإذا تحوّل العجب إلى حالة الرياء فإنه يحبطه، أما العجب فلا يفسد العمل من الناحية المادية، حيث يبقى العمل ولا يجب عليه القضاء، فما يفسد من العمل هو نتائج العمل، وهي الحالة العبادية التي يعيش فيها الإنسان الانفتاح على الله والعبادة له.

الغيبة في العمـل الإسلامـي

س : في العمل الإسلامي كثيراً ما يتعرّض العاملون لمناقشة بعض السلبيات، إذ يرون أنّ هناك مناهج أفضل للعمل الإسلامي، فهل هذا يعتبر غيبة، وخاصة إذا كان فيه نقد لبعض العاملين؟

ج : إذا كان النقد للفكرة، فلا يكون هذا غيبة، فالغيبة إنما هي ذكرك أخاك بعيب مستور، ثم إنك إذا كنت تناقش فكر هذا الإنسان أو هذا الخط نقاشاً موضوعياً، فهذا ليس عيباً، إذ ما أكثر ما تناقش آراء العلماء الفكرية والفقهية وغيرها.

الحـبّ والمــودّة

س : تحدّث القرآن الكريم عن الحب والمودة في عدة آيات، وورد في حديث عن الإمام الصادق(ع): "وهل الدين إلا الحب"، ومما لا شك فيه أن الإسلام مبنيّ على قواعد الحبّ، فكيف تنظرون إلى هذه الكلمة في واقعنا المعاصر، وخصوصاً بين المؤمنين بعضهم مع بعض؟

ج : من الطبيعي أن على المؤمنين أن يحبّوا بعضهم بعضاً، {إنما المؤمنون أخوة} [الحجرات:10]. فلا إشكال أنّ الحبّ من مقتضيات الأخوة، ولا بدّ أن يعيش المؤمنون هذه العاطفة النبيلة. وقد ورد أيضاً: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها"، وهذا أعلى درجة من الحب الشعوري أو العاطفي المجرّد، بحيث ينطلق الإنسان المؤمن في حبه لأخيه من اعتباره كنفسه، فكما يهتم بنفسه ويخلص لها ويعطف عليها ويتمنى لها الخير كله ويكره لها الشر كله، فعليه أن يكون شعوره تجاه أخيه كذلك. ولعلّ قيمة التأكيد على هذه الحالة العاطفية المتمثلة بالحب بين الناس أنّها تفتح العقول على بعضها وتساهم في إيجاد قاعدةٍ نفسيّة روحية للتفاهم باعتبار التقارب الذاتي الذي يؤدّي إليه الحب بين الشخصين بحيث يقبّل أحدهما الآخر ذاتاً ليصل بهما الأمر إلى القبول ببعضهما فكراً.

أهميـة المكاشفــة

س : قال أمير المؤمنين(ع): "لو تكاشفتم لما تباغضتم". فإلى أي مدى يمكن أخذ هذا القول بصراحتنا في المجتمع، ابتداءً من الأسرة بكاملها وانتهاءً بجميع طبقات المجتمع؟

ج : ربما كان القول: "لو تكاشفتم ما تدافنتم"، فكثير منا يخاف من المنطقة الخفيّة، ولو ثبت القول بما ذكر السائل: "لو تكاشفتم لما تباغضتم"، فإن هذا يعني أن الإنسان في الغالب يشكّ بالآخر ولا يثق به من جهة المنطقة الخفيّة الموجودة في نفسه، فلو كشف كلّ واحد منهم عن دخيلة نفسه ورأى الآخر أن ليس عنده سوء في نيّته في ما فعل، فلا يكون هناك بغض، ولكن لا بدّ أن نقدّر الأمور بقدرها، لأنه في بعض الحالات قد تخلق المكاشفة تعقيدات ومشاكل، والحديث هنا يريد أن يبيّن طبيعة المكاشفة التي تقتضي ذلك، ولكن ربما تنجم عن المكاشفة مشكلة تعقّد العلاقة.

التثاقل في القضاء:

س : في ذمتي قضاء صلوات ولكني أتثاقل في أدائها، فكيف أهيئ نفسي لقضاء الصلاة؟

ج: هيّئ نفسك بأن تتصوّرها وهي واقفةٌ غداً بين يدي الذي سيطالبها بما في ذمّتها من صلاة، فإذا كان فيها ثقل عليك الآن فهي أثقل عليك يوم القيامة.

ثـواب الأعمـال

س : ورد في بعض التفاسير والأدعية الكثير من الروايات حول ثواب الأعمال، فهل الثواب المذكور هو على وجه الحقيقة أم المجاز؟

ج : إن البعض قد يستكثر على الله الذي يمتلك خزائن السماوات والأرض عطاءه، فلقد سأل أحدهم عن شفاعة الحسين(ع) وهو يستبعدها، فقيل له: إما أن الحسين(ع) لا يستأهل وإما أن الله ليس بكريم، والحال أن الله أكرم الأكرمين وأن للحسين(ع) وجاهة عند الله يستحق بها ذلك.

ثم إن لدينا حديثاً شريفاً يقول: "من بلغه ثواب عن رسول الله على عمل فعمله رجاء ذلك الثواب كان له ذلك وإن كان رسول الله(ص) لم يقله". فالله يعطي بحسب النية، وهو رحيم وكريم، وأنت بذلك تكون قد أحسنت الظن به، وحسن الظن بالله دليل الإيمان، ومن أحسن الظن بالله لم يخيّب الله ظنّه.

الهوس في معرفة أسرار الناس

س : ما هي نصيحتكم لمن عنده هوس لمعرفة أسرار الناس وهو متدين، حيث يضغط عليهم لمعرفة ذلك؟

ج : على الإنسان المتدين أن يتقي الله في ذلك.

الفضول والتجسس

س : هل الفضول من التجسس، خاصة وأن حب الاستطلاع قد يدفع إلى لون من ألوان التجسس؟ وهل الفضول بهذا المعنى منهيّ عنه؟

ج : الفضول في حياة الناس الخاصة لا يجوز، وأما في القضايا العامة السياسية والاجتماعية أو لو كانت هناك مصلحة إسلامية عليا فلا مشكلة، على أن يرجع إلى أهل الخبرة في تقدير ذلك، فليس بإمكان كلّ شخص أن يحدّد المصلحة الإسلامية، لأن شهواته قد تحدّد له المصلحة.

الاطلاع على الأوراق المكشوفة

س : أحياناً يترك بعض الزملاء أوراقه الخاصة أو دفاتره على طاولته، أي أنه لا يخفيها في درج الطاولة، بحيث يمكن اعتبارها من أسراره، فهل يجوز قراءتها؟

ج : لا يجوز ذلك، فقد يكون نسيها هناك، وكذلك الحال مع من يتنصّت لاثنين يتحادثان همساً، أو يختلس النظر لرسالة يقرأها صاحبها، فهذا كلّه من التجسس.

إفشـاء السـرّ

س : هل أن إفشاء السر جريمة وخيانة إذا لم يطلب صاحب السرّ إخفاءه وكتمانه؟

ج : تارة تعرف أنه يجوز لك أن تفشي السرّ، فلا مشكلة، أما إذا شككنا فلا يجوز، لأن "المجالس بالأمانات"، وليس لأحد أن يظهر مكتوم سرّ إلا أن يكون ذكراً له بخير، فالسرّ يعني أن صاحبه لا يريد إفشاءه. نعم، إذا قامت القرائن في أن كشف السرّ ينطوي على الخير لصاحبه فلا بأس.

ناقـل الأحاديـث

س : لي صديق يدخل منـزلي ويتبادل الأحاديث مع جمع من الأصدقاء، لكن هذا الصديق ينقل كل ما يجري من حديث، بل ينقل حتى الأسرار الشخصية لأناس ذكرناهم، وذلك لغرض زرع الفتنة بينهم؟

ج : لا يجوز له أن يفشي ذلك، وأما إذا وقعت النميمة ففي الحديث: "لا يدخل الجنة نمّام"، فمجرد إفشاء السر حرام، وإذا أدّى إلى النميمة فتلك حرمة أخرى.

التجسس على الأبناء والأخوة

س : أحياناً يضطر الرجل من خلال شعوره بالمسؤولية أن يتجسس على أبنائه أو أخوته ليطلع على بعض الكتب أو غيرها ليطمئن عليهم؟

ج : لا يجوز للأب أن يتجسس على ولده أو ابنته إلا إذا كانت هناك مفسدة يخشى منها وقوع ابنه أو ابنته أو أخيه فيها، ويريد أن يدفع تلك المفسدة بغية إصلاحهم، فيمكن ذلك.

عقدة الذنب بعد التوبة

س : ليس بعد الكفر وترك الصلاة وإنكار وجود الله ذنب، هذه هي حالي في السابق، ولكن عقدة الذنب تلاحقني بعد التوبة، كما أعيش حالة عدم الثقة بالله، وضاع مني عنصر الخشوع، فأصبحت الصلاة كبيرة عليّ، فكيف أعود لخطّ العبودية؟

ج : إنك عندما عشت هذه الحالة النفسية القاسية الصعبة، فإن الله قد غفر ذنبك، وهو القائل: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر:53]. فالله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب بعد التوبة: "من تاب تاب الله عليه". ولكن الشيطان عندما رآك قد آمنت وانفتحت على الله قعد لك في الطريق كما قال في الكتاب الكريم: {قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف:16ـ17]. فإذا جاء الشيطان وقال لك لا تصلِّ لأن صلاتك لا قيمة لها، قل له: إني أصلّي رغماً عنك، وبالتدريج يمكنك أن تتأمل في صلاتك وعبادتك وفي نعم الله عليك وبأسرار عظمته، بحيث تمتلىء روحك بالإيمان، وستعود خاشعاً مؤمناً بالله: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف:87].

الصوم من أجل الصحـة

س : هل هناك إشكال في أن يصوم المؤمن لأجل الحصول على الصحة البدنية ليقوى على إطاعة الله أكثر وليقوم بمهامه الرسالية على أفضل وجه؟

ج : هذه نية ثانوية، فالمفروض أن يصوم امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى. نعم في الصوم فوائد صحية "صوموا تصحّوا"، ولكن يجب أن لا تكون هذه هي النية أو الغاية من الصوم، فهو عبادة، ولا بدّ في العبادة من نيّة يقصد بها ربّه.

الدعـاء المستجـاب

س : سمعت أن الدعاء في رمضان مستجاب دون توفر شروط الداعين، فهل هذا صحيح؟

ج : لا بدّ أن تدعو من عقلك وقلبك ليستجيب الله لك، أما أنه يستجيب لك الدعاء وأنت تفكّر في عالم آخر فلا، فمعنى عدم توفر الشروط هو أن الدعاء سوف لن يستجاب، سواء في شهر رمضان أو في غيره، فقوله(ص): "دعاؤكم فيه مستجاب"، بشرطه وشروطه، ومن شروطه قوله (ص): "فاسألوا الله بنيّات صادقة وقلوب طاهرة".

الصـوم الكامـل

س : أعيش في هولندا، فهل أستطيع الصوم الذي يستوفي الشروط والمحرّمات تحيط بي من كل جانب؟

ج : على الإنسان أن يتوافر على شروط الصيام الذي فيه قربة إلى الله، فإذا رأيت مثلاً النساء السافرات فعليك أن لا تنظر بريبة، وأن تحاول أن تجد تقواك في نفسك فلا تتعمّد النظر المريب وما إلى ذلك، وعلى المؤمن أن يسعى للحفاظ على إيمانه بالبحث عن بيئةٍ أفضل.

الدفاع عن المرجعيّة

س : أحد مقلديكم يسمع من يتكلّم ضدكم، فينبري للدفاع لاعتقاده بأنكم مظلومون، لكنّ ذلك يؤدي إلى الحرج، فما هي نصيحتكم؟

ج : إن من يتكلمون ضدي يضيفون إلى سجلّ حسناتي حسنات أخرى، ولي في ذلك أسوة برسول الله(ص)، وأنا تراب أقدامه، فلقد قيل عنه بأنه ساحر وشاعر وكاهن: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها} [الفرقان:5]. {ويقولون إنه لمجنون} [القلم:51]. ولن أسامحهم، ولي موقف معهم بين يدي الله، فلقد خلقوا فتنة في الساحة، وكانوا بوقاً للمخابرات حتى لو لم يتعاملوا معها بشكل مباشر. وأنا أزعم أن لا حجّة لهم، بل كل ما في الأمر عصبية وحقد وحسد، ولقد قلت مراراً، إنني مستعد للإجابة على أي سؤال أو إشكال أو مناقشة، ولكن ماذا تفعل لمن لا يقبل أن يقرأ ويسمع.

وأقول كما قال رسول الله(ص) مخاطباً الله عز وجل: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي"، فحساباتي ليست مع الناس، بل مع رب الناس، وأرجو أن تكون حساباتي معه موضع رضاه وقبوله.

هل هذا غيبة؟

س : هل يجوز إخبار المؤمنين عما يفكّر به بعض الناس بتفتيت العمل الموحّد لخدمة الإسلام؟ وهل يعتبر هذا ضمن عنوان الغيبة؟

ج : الغيبة حرام، ولكن إذا كانت من أجل النصيحة ودفع المنكر فتجوز.

نقد علماء الديـن

س : هل أنّ نقد علماء الدين جائز؟

ج : نعم، النقد البنّاء جائز، فعلماء الدين ليسوا معصومين وليسوا مقدسين، فهم يملكون الثقافة الدينية والالتزام الديني، فإن أحسنوا كان لهم موقع وأجر المحسنين، وإن أساءوا كان عليهم ما على المسيئين. [ولكن لا بد أن لا يكون النقد بأسلوب التشهير أو بالقصد إليه، أو بما يؤدي إلى سلب الثقة الاجتماعية بهم، إلا إذا كان هناك أمور حيوية تفرض ذلك من خلال المصلحة العامة، ولا بد من التدقيق في موارد الرخصة بذلك، والحذر من تسويلات النفس الأمارة بالسوء في ذلك كله] ([73]).

العجب كمحبط للعمل

س : هل الإعجاب بالنفس يحبط العمل؟

ج : تارة يكون الإعجاب على طريقة {أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً} [فاطر:8]، فهو يمتنّ على الله بذلك، فهذا غير صحيح، أما إذا كان الإنسان يرتاح إلى ما لديه من علم من دون أن يطغى ذلك على نفسه و يدفعه إلى الاستعلاء والاستكبار على غيره فلا مانع.

ترك الحجاب الذي يسبب ضرراً

س : هل يجوز للمرأة المسلمة المحجبة أن تترك الحجاب في الغرب إذا كان يسبب لها ولزوجها ضرراً؟

ج : لا ضرر ولا حرج، ولكنه ضعف في الشخصية، فإذا كان الشرقيون فضوليين، فإن الغربيين ينادون باحترام الحريات، والزي من الحرية الشخصية، فأين الحرج وأين الضرر؟ ولكنه ضعف نفسي، وإلا فإن المرأة المسلمة المحجّبة تُحترم أكثر من المتساهلة في أمر حجابها، فلتكن لنا ثقة بأنفسنا وبديننا وبالله سبحانه وتعالى {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً} [الطلاق:4].

نصيحـة أبويـة

س : نريد نصيحة أبوية لأبنائكم العراقيين في الداخل والخارج؟

ج : نصيحتي لكل أبنائي وأخواني من العراقيين الذين يعيشون مأساة ولا أقسى، ومشكلة ولا أصعب، لأنهم يعيشون بين المطرقة والسندان، بين نظام طاغٍ في الداخل وبين الحصار الجائر والأساليب السلبية التي تمارس ضدهم في الخارج، ولذلك نقول إن عليهم أن يستمعوا قول الله عز وجل: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان:17]. فلا تفقدوا إيمانكم: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} [محمد:31]. {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [البقرة:214]. {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف:87].

ولا تفقدوا دينكم الذي هربتم من بلادكم لأجل الحفاظ عليه، في ما يقدّم إليكم من إغراءات في مهاجركم، ولا تفقدوا كرامتكم التي شرّدتم من بلادكم من أجل الحفاظ عليها، وكونوا كما قال الإمام علي(ع) لولده محمد بن الحنفية: "تزول الجبال ولا تزُل! ... أعِر لله جمجمتك، تِد في الأرض قدمك، ارمِ ببصرك أقصى القوم"، واعملوا لبلدكم ولأمتكم حتى يأتي النصر من الله سبحانه وتعالى.

تعامل الزوجة السيىء مع زوجها

س : زوجتي تعاملني بطريقة غير لائقة، فهل هي آثمة؟

ج : كل إنسان يعامل الإنسان الآخر بطريقة غير لائقة بلا مبرر، وخصوصاً الزوجة لزوجها آثم، ولا بدّ من دراسة الأمر ميدانياً، فقد يكون ذلك أحياناً كردّ فعل لتعامل الزوج السلبي مع زوجته، ومهما يكن من أمر، فالتعامل غير اللائق مرفوض من قبل كلا الزوجين.

الطريق إلى الصـلاة

س : لي صديق لم يصلّ في حياته أبداً وهو كبير السن، وكلما نصحته في الصلاة يقول لي لن أصلّي حتى يهديني الله، فما هو السبيل الذي عليّ اتّباعه معه حتى يصلّي؟

ج : قل له إن الله هداك، ولكنك لم تقبل الهداية، لأن الله خلق للإنسان عقلاً وإرادة من أجل أن يهتدي بها، وخلق له جوارح يستعين بها في ذلك {ألم نجعل له عينين* ولساناً وشفتين* وهديناه النجدين} [البلد:8ـ10]. فالله هدانا، أي دلّنا على الطريق ورغّبنا فيها وحذّرنا من السير في الخط الآخر، لكننا لم نقبل بذلك.

س : وهل إذا تركت نصيحته آثم في ذلك؟

ج : إذا كان لك أمل في ان تهديه تابع هدايتك له، وعليك أن لا تتركه، وسواء استجاب أو لم يستجب فأنت مثاب.

معنـى العرفـان

س : أرجو أن توضحوا لنا ما هو العرفان؟

ج : العرفان هو خط السلوك الفكري والعملي إلى الله سبحانه وتعالى، ومن الطبيعي فإن القرآن كله والسنّة كلها وسيلة من وسائل معرفة الله والوصول إليه، ولكن العرفان قد تحول إلى فلسفة ودخلت فيه الكثير من متاهات الفلسفة. ولذلك ينبغي لنا أن نأخذ العرفان من القرآن مما ثبت من سنة النبي(ص) وأحاديث أئمة أهل البيت(ع)، أما المصطلحات التي استحدثها الفلاسفة فقد تدخل الإنسان في متاهات قد لا يستطيع أن يحصل من خلالها على هذه السكينة الروحية.

الخوف من الذنـوب

س : هل يجب أن نخاف من الله تعالى أم من الذنب ونار جهنم؟

ج : نخاف من الذنوب، فالله لا يخوّف إلا العصاة الذين لا يخافونه، لأنه هو الرحمن الرحيم، ولقد قال الإمام علي(ع) في بعض وصاياه: "أوصيكم بخمس، لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلاً، لا يرجونّ أحدٌ منكم إلا ربّه، ولا يخافنّ إلا ذنبه". فالخوف إنما هو من الذنب من خلال نتائجه.

المعقّدون من الإحسان

س : لي صديق صرف عليه أحد المحسنين مالاً لمدّة سنة وأسكنه في بيته وتكفّل في معيشته، فهل يجوز لهذا الشخص المستفيد التَّقوّل على الشخص المحسن بالباطل؟

ج : هذا يصدق عليه"اتَّقِ شرَّ من أحسنت إليه"، فهو معقّدٌ من الإحسان ولا يطيق أن يُحسن غليه أحد، ولذا تراه يتكلّم على المحسن إليه بالباطل.

شتم السائق المخالف

س: عندما أقود السيارة يعترض طريقي من لا يُحسن قيادة سيارته فأشتمه بعصبيّة، فهل أنا آثمٌ في ذلك؟

ج : نعم تأثم بذلك، فبإمكانك أن تنبّهه لا أن تشتمه.

 

 
الفصل السادس

 

المسائل الفقهيَّة

أوّلاً: المرجعية والتقليد

ثانياً: النجاسات والطهارات

ثالثاً: الوضوء والصلاة والإقامة

رابعاً: الصيام والكفّارات

خامساً: الخمس والزكاة

سادساً: الحجّ والعمرة

سابعاً: الزواج والطلاق

ثامناً: أموال وبنوك

تاسعاً: السلوك والمعاملات

 

أولاً: المرجعية والتقليد

 

مقاصـد الشريعـة:

س : ما المقصود بمقاصد الشريعة؟ وهل إغفالها كشرط للاجتهاد أدّى إلى ما يسمى بالحيل الشرعية؟ وهل هي أساساً شرط للاجتهاد؟

ج : مقاصد الشريعة تمثل منطلقات الشرع في أحكامه، أو ما يسمّى بعلل التشريع أو ملاكاته، وهو ما يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يحققه من أهداف في حياته من خلال التزامه بهذا الحكم الشرعي أو ذاك، كما نلاحظ مثلاً أنه تبارك وتعالى يحدّثنا عن الصلاة بقوله: {إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت:45]. فالنهي عن الفحشاء والمنكر هو من مقاصد تشريع الصلاة، ولذا ورد في الحديث الشريف: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً"، كما أن مقصد الصوم هو التقوى {كتِب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون} [البقرة:183]. وهكذا، فمقاصد الشريعة هي الأهداف التي تستهدفها الشريعة من خلال التشريع.

ولكن المشكلة في البحث الفقهي الاجتهادي هي أنّ الكثير من الفقهاء يقولون بأنّه ليست عندنا أدلة حاسمة وقاطعة تدلنا على مقاصد الشريعة بشكل صريح على نحو يمكّننا من تحديد علاقة المقاصد بالتشريع كعلاقة العلّة بالمعلول. ولكننا نظنّ ذلك {وإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً} [النجم:28]، ولذلك، فعلينا أن نأخذ بالشريعة حتى لو لم تحقق ما لم نظنّ أنه المقاصد، لأن ما نظن أنه كذلك قد لا يكون هو المقصد الحقيقي، وهذا يعني أن المسألة ترتبط بالمصداق الذي يحقّق المفهوم والثبوت، فلا طريق لنا إلى إثبات مقاصد الشريعة على أنها بمثابة العلل والأسباب للشريعة. وهذه هي المشكلة في هذا المجال، ولذلك ربما أضعنا الكثير من مقاصد الشريعة في كثير من الفتاوى التي يشعر الإنسان معها بأن الحكم الشرعي يمثّل جسداً بلا روح. ومن الطبيعي أن هذه الأمور تحتاج إلى دقّة في الاجتهاد.

تعليـل الأحكـام:

س : ما معنى تعليل الأحكام؟ وهل هو منكر لدى علماء الشيعة؟ وهل عدم الاعتقاد بضرورة تعليل الأحكام هو عدم العلم بمقاصد الشريعة؟

ج : لقد بينّا ذلك في الإجابة عن السؤال السابق، ولكنّنا نجد فيما روي عن النبي(ص) والأئمة(ع)، كما في (علل الشرائع) للشيخ الصدوق، ولا سيما ما ورد عن الإمام الرضا(ع) بيان علل كثير من الأحكام، ولكنهم قد يناقشون في السند في مثل هذه الروايات. وهذا يعني أن الاتجاه الاجتهادي لدى المسلمين الشيعة هو أن أحكام الله تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، أي ما من حكم إيجابي إلا وهناك مصلحة في متعلّق الحكم، وما من حكم سلبي إلا وهناك مفسدة في متعلّق الحكم، ولكن كيف نكتشف المصالح والمفاسد؟ هذه هي المسألة المطروحة عندهم، وربما يعبّرون عن بعض هذه الأمور بأنها من قبيل الحكمة التي لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، كما في عدم اختلاط المياه ـ أي أنواع المني ـ في تشريع العدة التي قد تمتد إلى صورة القطع بالعدم، فليس كل مقصد من مقاصد الشريعة المذكور في الحديث يمثل علة في الحكم.

ولكنّنا في الوقت نفسه نحبّ الإشارة إلى أنّ خفاء علل الأحكام قد يكون في أمثال العبادات أو الأحكام التعبديّة، ولكن من الممكن معرفة الكثير منها في المعاملات أو في بعض الأمور المرتبطة بالعلاقات أو السياسات ممّا يمكن فيه معرفة سر الحكم بشكل يوحي بالاطمئنان، بما يؤدّي إلى تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر مع ضرورة التدقيق في اكتشاف ذلك.

القياس أسوة بالاجتهـاد:

س : لماذا لا يجوز القياس كما جوّز الاجتهاد مع أنه ثمرة من ثمار الاجتهاد؟

ج : ما هو القياس؟ هو أن يكون هناك حكم متعلّق بموضوع، وهناك موضوع آخر مشابه لهذا الموضوع لم يرد فيه حكم، ففي هذه الحال تقول إنّ علة الحكم المتعلّق بالموضوع كذا، ولما كانت العلّة ذاتها موجودة في الموضوع الثاني فنقيس الثاني على الأول فنجعل الحكم المثبت للأصل هو الحكم المثبت للفرع.

والشيعة بما أخذوا عن أئمتهم(ع) الذين ناقشوا من قال بالقياس كأبي حنيفة وأبي يوسف، عرفوا أنّ اكتشاف علّة الحكم الذي يسرونه من حكم إلى آخر يحتاج إلى دليل، والقائلون بالقياس لا يملكون ذلك. ففي بعض حوارات الإمام الصادق(ع) مع أبي حنيفة، سأله: أيهما أعظم، الصوم أم الصلاة؟ فقال: الصلاة، وهذا يعني أن كلّ حكم يثبت للصلاة لا بدّ أن يثبت للصوم أيضاً، ولذا سأله(ع): فلماذا تقضي المرأة الصوم في أيام الحيض ولا تقضي الصلاة؟ ثم سأله: أيّهما أقذر البول أم المني؟ قال البول، في حين أن البول يطهر بغسل موضعه أما المني فلا بدّ معه من غسل الجنابة كأن الجسد برمّته ينجس، فالمفروض أن يغتسل من البول لا المني.

فالإمام الصادق(ع) أراد أن يوحي لأبي حنيفة أنّ هناك الكثير من الأحكام لا ينطبق عليها القياس.

وأما بالنسبة لأبي يوسف، فكان في نقاشه مع الإمام موسى الكاظم(ع) يقول له: إنكم تقولون إن الحاج لا يجوز له أن يتظلّل أثناء السير وهو محرم، فلماذا تتظلّلون عندما تستريحون في الخيام وأنتم محرمون؟ فإذا كان الظلّ في حال الإحرام محرّماً في أثناء السير، فهو محرّم أثناء النـزول أيضاً، فقال له الكاظم(ع): إنّ الدين لا يُقاس، فنحن نقول: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7]. فعندما كان النبي(ص) يسير في إحرامه كان يرفع الظلال، وعندما ينـزل ليجلس أو يستريح فإنه يستظلّ، فنحن أتباع النبي(ص) {مَن يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء:80].

فعالم التشريع ليس عالماً عقلياً لتقول إنّ هذا الحكم مثل هذا الحكم، فرفض القياس عندنا لجهة أنّ العلة التي يكتشفها القياس بين الموضوعين قد لا تكون ثابتة عن طريق الحجّة العقلية. وإلا فحتى الشيعة يقولون إن العلة إذا كانت قطعية فيمكن تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

تغيـر الفتـوى بتغيـر الزمـان:

س : هناك من يقول بأنّ الفتوى الشرعية تتغيّر حسب تغيّر الزمان والمكان، فما كان حراماً في زمان ومكان فقد يكون حلالاً في زمان ومكان آخرين والعكس صحيح، فما هو تعليقكم على هذا القول؟

ج : الحكم الشرعي لا يتغيّر، وإنما الموضوع هو الذي يتغير، فأنت مثلاً عندما تكون حاضراً في بلدك تصلّي تماماً، لأن عنوان الحضور في بلدك يوجب ذلك، لكن إذا سافرت فإن العنوان سوف يتغيّر، فإذا تغيّر الموضوع تغير الحكم فتصلّي قصراً، ويجب أن تفطر عند السفر، فالحكم يتغيّر بتغير الموضوع، فإذا غيّرت الظروف الزمانية والمكانية موضوع الحكم، فإن الحكم سوف يتغيّر، لأن الحكم تابع لموضوعه، وإلا فـ"حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة".

س : وهل يجوز لبعض الأخوة المسلمين الالتزام بالحكم الشرعي في أوطانهم الإسلامية ولا يفعلون ذلك في أوطان الغربة الأوروبية؟

ج : لا فرق في الالتزام بالحكم الشرعي في داخل الوطن أو خارجه، فالأحكام سارية في كلّ مكان يحلّ فيه المسلم المكلّف ولا علاقة لها بالجغرافيا. نعم، ربما تكون هناك سعة في بعض الأمور في البلاد الإسلامية، وقد يكون فيها حرج في البلاد غير الإسلامية، والله تعالى يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78]. كما في مسألة المصافحة مع الأجنبية، فإذا وقع في أوروبا أو حتى في البلاد الإسلامية في حرج في حكم من الأحكام، فإن الحكم يتغير بحسب تغير العنوان.

قيـاس الأولويــة:

س : ما معنى الاصطلاح الفقهي "قياس الأولوية"؟

ج : الأولوية هي أن يكون هناك حكم ثابت لموضوع أخف فننتقل منه إلى الموضوع الأكثر أهمية، فالله سبحانه وتعالى يقول: {فلا تقُل لهما أفّ} [الإسراء:23]. وبعض الناس يقول مثلاً هل يجوز أن أضرب أبي وأمي، لأن الله قال: {فلا تقل لهما أف}، ولم يقل لا تضربهما؟ هنا يقول الفقهاء بأن قول "أفّ" هو من باب أنها أخف الأشياء التي تمثل الإيذاء، فإذا حرّم الله أخف الأشياء فالأكثر محرّم بطريق أولى، وهذا معنى قياس الأولوية، وهو ما يقول به كلّ العلماء من سنّة ومن شيعة.

مشكلة التقليد عند الشيعة:

س : لماذا يمثّل التقليد مشكلة عند الشيعة؟

ج : إذا ابتعدنا عن العصبية في التقليد فلا يمثل التقليد مشكلة، لأنّه يمثّل تنوّعاً في الثقة بالفقهاء من الناحية الثقافية والسلوكية، ممّا قد يوحي بالغنى في هذا الجانب من حيث تعدّد الاجتهادات. فمشكلة التقليد هي مشكلة العصبيات، كما هي العصبية الحزبية أو العائلية أو الشخصية، وإلا يمكنك الآن أن تذهب إلى هذا الطبيب ويذهب الآخر إلى طبيب آخر، ولا مشكلة في اختيار أي الطبيبين، لأن كل شخص له اعتقاد بطبيب معين، ومعنى التقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم، فيمكن لأي جاهل أن يرجع إلى أي عالمٍ تبعاً للاطمئنان النفسي إلى هذا أو ذاك اتّباعاً لقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). فلماذا يسبّ هذا، ولماذا يرجم ذاك؟ إنّ العصبية ليست ديناً "فمن تعصّب أو تُعصِّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"، ونحن – للأسف الشديد - أناس متعصبون ولسنا ملتزمين.

الإذن بالتقليــد:

س : هل أنّ التبعيض في المسائل الشرعية يحتاج إلى إذن من مرجع التقليد أم لا؟ علماً أنني أقلّد السيد الخوئي ولا أريد تغيير تقليدي، بل إني بحاجة إلى التبعيض لأنّي أعيش في إحدى الدول الغربية؟

ج : يمكنك أن تبقى على تقليد السيد الخوئي بفتوى الحيّ، أي يجب أن ترى الشخص الذي ترجع إليه في بقائك على التقليد، فإذا كان هذا الشخص يجوّز التبعيض فيجوز لك أن تلتزم رأيه، وإذا لم يجوّز لك التبعيض فلا، ونحن نجيز التبعيض.

الاختـلاف في الفتيـا:

س : ورد في خطبة للإمام أمير المؤمنين(ع) ذمّ لاختلاف العلماء في الفتيا، فهل في ذلك دعوة لغلق باب الاجتهاد؟

ج : كان الإمام علي(ع) يتكلّم عن الذين يختلفون في الفتيا استناداً إلى قواعد غير صحيحة، ولم يكن حديثه عن الاختلاف في فهم النصوص واستنباط الأحكام منها.

تجـزّؤ الاجتهــاد:

س : ما هو الموقف من تجزّؤ الاجتهاد، فهل يصحّ أن يكون المرء عالماً بفرع من فروع الاجتهاد؟ وهل أنّ الاجتهاد ببعض الأبواب مظنّة للتقصير؟

ج : لا بدّ أن تكون عناصر الاجتهاد متوافرة لدى المجتهد، وهي القواعد التي يحتاجها كلّ باب من أبواب الاجتهاد، ولكن قد يوجه بعض المجتهدين نظره إلى الاستنباط في جانب معين دون الجوانب الأخرى، فلا بدّ إذاً من وجود القدرة على استنباط الأحكام في كلّ الأبواب، غير أن هذا لا يمنع من تخصص الفقيه في باب فقهي أو جانب من جوانب الشريعة.

الأصـول الفقهيـة:

س : هناك من يقول إن أصول الفقه قطعية ولا يصح الاجتهاد بها، ومنهم من فصّل فقال إن منها الظني ومنها القطعي، ونرى أيضاً أن ليس هناك جزئية من جزئيات الأصول إلا وفيها خلاف وآراء، وعلى هذا، فمن أين استمدّ الاجتهاد شرعيته؟

ج : يستمد شرعيّته من خلال الدراسة، صحيح أن بعضها ظنيّ وبعضها قطعي، ولكن السؤال هل قامت عليه حجّة قطعية أو لم تقم عليه حجة قطعية، فدور الاجتهاد هو أن يدرس الأصول ليبني عليها أسس الفقه.

اختـلاف المجتهـديـن

س : ما هي أسباب الاختلاف بين المجتهدين، علماً أن النص القرآني الموجود عربيّ مبين؟

ج : قد يكون الاختلاف من جهة فهم النص، وقد يكون الاختلاف من جهة تعارض النصوص بين نص يحلّل وآخر يحرّم، ويكون في بعض القضايا التي ليس فيها نصوص مباشرة، فهذا يحاول أن يجتهد في حكم هذه المسألة من خلال القاعدة التي يطبّقها على هذا المورد، وذاك يطبّق قاعدة أخرى على مورد آخر.

الـرجوع إلـى الحـيّ

س : إذا كان شخص مقلّداً لمن يقول بوجوب تقليد الأعلم كالسيد الخوئي، ثم مات هذا المجتهد، فهنا يرجع المكلف إلى الحي ولا يصح له التقليد. فبأي اعتبار يرجع إلى الحي؟ هل يرجع إلى الأعلم أم يتخير بين الأحياء؟

ج : لا بدّ له أن يعرف أنّ هناك رأيين، فهناك رأي يقول أن يرجع إلى الحي الأعلم، وهذا موافق للاحتياط، وهناك رأي يقول، عليه أن يرجع إلى الحي حتى لو لم يكن الأعلم، فالمقلّد لا بدّ له أن يتدبّر أمره ويعمل بالاحتياط إذا لم يكن ممن يملك الرأي في ذلك.

تقليـد غيـر المعصـوم

س : إني من مقلديكم، ولكن هناك نقطة تشغلني، وهي هل أن على الإنسان أن يقلّد غيره وهو يخطىء ويصيب فيما الإنسان مسؤول عن نفسه يوم الحساب؟

ج : صحيح أن المجتهد الذي يقلّد ليس معصوماً، ولكنّه حجة عليه، والله سبحانه وتعالى يقول: {فاسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43]. ويقول عزّ وجل: {فلولا نفَرَ من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدين وليُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون} [التوبة:122]. فحتى لو كان يخطئ ويصيب ولكنّه غدا حجة بين يدي الله سبحانه وتعالى.

رسالة عملية موحّدة

س : لو اتّفق، وهذا أمرٌ مستحيل، أن يجتمع العلماء بشكل مستمر ويتداولوا المسائل المختلف فيها، فهل بالإمكان إصدار رسالة عملية واحدة لمجموعة فقهاء، بحيث تكون لها قوة معنوية في التأثير في جمهور المقلدين؟

ج : إذا كان ذلك من المستحيل فلماذا إذاً نبحثه؟ ثم إنّ مجرد الاجتماع ليس معناه أن يحصل الاتفاق، فربّما أنّ أحدهم يبقى مصراً على رأيه لأنه لم يقتنع بكلام الآخرين، وليس معنى إصراره التعصب، بل إصرار القناعة أنّ ما وصل إليه بالأدلة الشرعية هو الحكم الشرعي.

تغيّــر الفتـوى

س : قيل إنّ بعض الوقائع والأمور القديمة قد يطرأ عليها من الأحوال والأوصاف ما قد يغيّر طبيعتها أو حجمها أو تأثيرها، فلا يلائمها ما حكم به الأقدمون وما أفتوا به في شأنها، فهل هذا يبرّر تغيّر الفتوى بتغيّر المكان والزمان والعرف والحال؟

ج : الفتوى لا تتغير من جهة تغيّر الزمن، لكن قد يكون تغيّر الزمن عاملاً في تغيّر الموضوع، لأنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها، فإذا تغيّر الموضوع تغير الحكم، فالخمر حرام، لكن إذا استحالت الخمرة خلاً صارت حلالاً. فإذا كان تغيّر الزمان أو المكان أو الحالة الطارئة يؤدي إلى تغيّر الموضوع تغير الحكم حسب تغيّر الموضوع. هذا أمر، وأما الأمر الثاني، فإنّ الثقافة قد تتغيّر، فقد يكون القدماء فهموا نصوص الكتاب والسنّة بحسب ما لديهم من ثقافة، ما جعلهم يصدرون هذه الفتوى أو تلك، والمسألة هنا هي كم ترك الأول للآخر؟ فالمجتهدون المتأخرون لديهم ثقافة المجتهدين السابقين، وعندهم ثقافة جديدة، وبذلك استطاعوا أن يفهموا الشريعة بطريقة أكثر سعة وانفتاحاً. وهذا هو الذي يمثّل تغيّر الفتاوى من خلال تغيّر وجهة النظر في فهم الكتاب والسنّة وفي فهم الأمور. وهي عملية طبيعية ليست حكراً على الفقهاء في عصرنا، فلقد حدثت في جميع مراحل أو مسار العمل الفقهي الاجتهادي سابقاً ولاحقاً.

تقليـد الميــت

س : هل الاستنكار مسوّغ شرعي لتغيير رأيكم في جواز تقليد الميت إلى المنع؟

ج : لا، ليس الاستنكار هو الدافع. فهناك من الفتاوى ما كانت محل استنكار الناس كقولنا بطهارة كلّ إنسان، وما زلنا على فتوانا في ذلك وفي غيرها من الفتاوى التي جاءت نتيجة إعمال أدوات البحث والاستنباط لا نتيجة المزاج والذوق، فعدم جواز تقليد الميت ابتداءً من جهة أنه يخل بأجواء المرجعية، فهناك من يقلد الشيخ الطوسي وآخر يقلد الشيخ المفيد، ولقد رأينا أنّ نظام المرجعية الذي هو نظام يستفيد منه المسلمون الشيعة يختلّ بهذه الطريقة، ولذا جعلنا ترك هذا التقليد احتياطاً وجوبياً.

اجتهـاد المقلّـد

س : هل يستطيع المكلّف أن يقول إني لا أطمئن إلى من يعتمد إلى غير الكتاب والسنّة والعقل والإجماع؟

ج : إذا كان مجتهداً بحيث يقدر أن يقول ذلك، فهذا من حقه كمجتهد. أما إذا لم يكن مجتهداً فما دخله في ذلك؟ فالشخص الذي ليس عنده خبرة بشيء ليس له أن يقول أطمئن أو لا أطمئن بهذا الشيء، وإلا يكون كمن يقول أنا لا أطمئن للذي يصف العملية الجراحية للمرض الفلاني، فالإنسان الذي يحترم علمه وعلم الآخرين هو الذي يقول بالاطمئنان وعدمه، أما الأمر الذي يجهله ولا يملك رأياً يعتدّ به فيه فلا دخل له في ذلك؟

استفتـاءات الإنتـرنـت

س : من الذي يتولى الإجابة بشكل مباشر على الأسئلة التي توجّه إليكم أياً كان مجالها ونوعها؟

ج : أنا الذي أشرف على الاستفتاءات الصادرة بتوقيعي، وعندنا مكتب استفتاء يعرف آرائي ويحاول أن يجيب عليها، وفي نهاية المطاف لا يوقّع أي جواب على أي فتوى سواء كانت شرعية أو فكرية أو ما أشبه ذلك إلا بعد أن أقرأه وأوقّعه بشكل مباشر.

الـرأي بالتبعيــض

س : نريد موجزاً عن رأيكم في التبعيض، فهل يعني أنّ كل مكلّف يفتح أية رسالة عملية لأي مجتهد يتبع فتواه، سواء كان ميتاً أو حياً، متأخراً أو متقدماً، وهل يجوز لأي كان أن يعمل بالتبعيض، أم يشترط أن يكون مقلّده قائلاً بالتبعيض؟

ج : لا بدّ أن يكون المقلد قائلاً بالتبعيض حتى يجوز له أن يبعّض، ثم إنّ التبعيض لا يجوز في المسائل التي قال بها المجتهد الميت، لأننا نقول بعدم جواز تقليد الميت ابتداءً سواء كان في التبعيض أو في الكل، فنحن نحتاط وجوباً كما ذكرنا رأينا في هذه المسألة. وحتى عندما نفتي بجواز التبعيض، فإن ذلك ليس عملاً فوضوياً، بل يقع التبعيض في ما يحتاجه الإنسان، فنحن مثلاً نرى حرمة التدخين لأنه مضرّ، وكلّ ما يضرّ البدن فهو حرام، وهناك علماء كثيرون لا يرون ذلك، لأنهم يرون الضرر المحرّم هو الضرر الذي يؤدي إلى التهلكة. وهناك بعض الناس ممّن اعتاد على التدخين حسب زعمه، وهو لا يستطيع تركه وهو يقلدنا، فأنا أقول له إنك تستطيع أن ترجع إلى غيري في هذه المسألة. لكن هناك العديد من المسائل الحسّاسة التي لا أجوّز فيها التبعيض حتى لا يتحوّل التبعيض، من رخصة إلى لعبة تنتهك بها حرمة الفتوى.

فـي التـبعيـض

س : هل يجوز لنا التبعيض في العودة ببعض الأمور لمن كنّا نقلّده قبلكم؟

ج : نعم، في البقاء على التقليد يجوز.

الخلاف الاجتهادي

س : في ظلّ الاختلاف في الرأي بين المجتهدين فيما يخصّ المسائل الفقهية والمواضيع التاريخية والفقهية المعاصرة، هل هناك خطة، أو أي دور للعلماء من المجتهدين لتلافي الخلاف الذي لا يكون رحمة، بل تنجم عنه الفرقة وشتات الأمة، وخصوصاً إذا نـزل الخلاف إلى ساحة الجهلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فما هو دوركم في هذه الأجواء؟

ج : دعوت دائماً أن يبقى الخلاف الاجتهادي أو الخلاف التاريخي في الدائرة العلمية، ذلك أن الخلاف بطريقة علمية موضوعية يمكّن كل طرف أن يطرح وجهة نظره ويقيم الدليل عليها، والطرف الآخر يناقشه، والعلم ينمو بالاختلاف ووجهات النظر المتعددة. ولكن المشكلة هي بالعصبية وبالذين لا يتقون الله، وليست القضية فقط قضية الجهلاء، بل هي أيضاً في الذين يحسبون أنفسهم من العلماء وهم من الجهلاء في الواقع، لأنهم يحاولون إثارة الفتنة بين الناس، فقد يقول البعض كيف يفتي فلان بهذه الفتوى؟ وهنا نسأله: هل أنت من أهل الخبرة حتى تشكل على فتواه؟ فالسيرة الفقهائية هي هذه، بأن يفتي عالم بشيء ويفتي الآخر بشيء آخر، بل ربما يفتي الفقيه في حياته بشيء ثم يتراجع عنه، فالسيد محسن الحكيم (رحمه الله) كان يرى لمدى ستين سنة نجاسة أهل الكتاب، وفي أواخر حياته أفتى بطهارة أهل الكتاب، ومثل هؤلاء كمثل من يقول كيف يصف الطبيب هذا الدواء؟ والحال أن الطبيب أخصائي والمعترض لا اختصاص له، فإذا كنت عالماً فناقش هذا العالم في دليله، وإذا لم تكن عالماً فاترك الأمر لأهل الخبرة.

تكليف المرجع:

س : يقال إن المرجع الأعلى للشيعة يجب أن يكون مكلّفاً من الإمام الحجّة(عج)، فما قولكم في ذلك؟

ج : ليس عند الإمام (ع) مرسومٌ إمامي خاص بكل مرجع، وإنما أطلق مرسومه في الإطار العام: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجّة الله"، فليس لديه مرسوم خاص بكلّ مرجع أو فقيه. ولذا لم يلتزم أحدٌ من الفقهاء بما يتحدّث عنه السؤال.

حـدود الترخيـص

س : هناك أناس لا يلتزمون بفتوى الفقهاء وغير مبالين بأمور دينهم، وحينما تسألهم لماذا أنتم عاكفون على لعب الورق ليلاً ونهاراً يقولون السيد يجوّز ذلك، ولماذا تحلقون لحاكم يقولون السيد يجوّز ذلك، ثم يأتي غيرهم فينسب السبب الرئيسي إليكم؟

ج : صحيح أنني أقول بجواز لعب الورق دون عوض، لكن لم أقل أن يستغرق الإنسان وقته باللعب، فأكل لحم الغنم كذلك جائز، فهل يأكل الإنسان (50) رطلاً من اللحم بحجّة أن أكل لحم الضأن حلال؟ فهذا جائز من حيث المبدأ، لكن لا يجوز أن يقوم الإنسان بعمل يصدّه عن ذكر الله، لا يجوز أن يقوم بعمل يصدّه عن الصلاة، كما لا يجوز أن يقوم بعمل يصدّه عن مسؤولياته العائلية وعن مسؤولياته الإسلامية. وافرض أننا نرى أن حلق اللحية جائز، لكننا نقول أيضاً بأن الأفضل إبقاؤها، أما قولهم كيف يقول السيد بأن هذا حلال وهذا حرام، فهل القائل مجتهد؟ فإذا كان مجتهداً فليناقشني، وإذا لم يكن كذلك فعلى أي أساس يوجه انتقاده؟

ولاية الفقيه وشرط الأعلميـة

س : هل يجب على من يتصدّى لولاية الفقيه أن يكون الأعلم في جميع الموارد الفقهية والتشريعية؟

ج : أغلب الذين يقولون بولاية الفقيه لا يقولون بالأعلمية إلا البعض منهم، كالشيخ المنتظري الذي يشترط الأعلمية، والأعلمية في ولاية الفقيه تعرف كما تعرف أعلمية الآخرين.

مناقشة العـوامّ للفقيـه

س : هل يصح مناقشة الفقيه في الفتوى من حيث الاستدلالات الفقهية؟

ج : إذا كانوا يحبّون أن يتفقّهوا فنعم، أما المناقشة فإذا لم تكن عندهم خبرة، فكيف يناقشون ما ليس لهم به علم {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم} [آل عمران:66].

تعـدّد الولـي الفقيـه

س : في نظرية ولاية الفقيه، هل يجوز التعدّد، أي أن يكون لكلّ إقليم ولي، وإذا تصدّى أحد الفقهاء لمنصب الولي الفقيه، فهل تكون طاعته وولايته على جميع المسلمين حتى على باقي الفقهاء؟

ج : إذا قلنا بولاية الفقيه من حيث الأدلّة الأولية، فيجوز التعدّد، لأنّ الولي الفقيه، حسب النظرة الإمامية،هو نائب الإمام(ع)، ويمكن لنوّاب الإمام أن يتعدّدوا، لكن قد تكون هناك بعض العناوين الثانوية التي تقتضي وحدة الولاية، ووفقاً لنظرية ولاية الفقيه، فإذا تصدّى فقيه وقلنا بالوحدة، فيجب على الجميع أن يطيعوه إذا كانوا يرون ولاية الفقيه.

الفتـاوى الشفويــة

س : نعيش في المهجر حيث تكثر الفتاوى المنقولة شفهياً من الأشخاص الذين يعيشون معنا، فبِمَ تنصحون مقلديكم في ذلك؟

ج : عليهم أن يتثبّتوا مما يسمعون من الفتاوى.

العدول إلى الميـت الأعلـم

س : هل يجوز العدول إلى المجتهد الميت إذا أحرز أنه أعلم من الأحياء بناءً على عدم جواز تقليد الميت ابتداءً إما فتوى أو على الأحوط الوجوبي؟

ج : لا يجوز ذلك على الأحوط.

الاشتبـاه في الفتـوى

س : اشتبهت في تطبيق فتوى من فتاواكم، فما حكم عملي؟

ج : عليك أن تتدبر أمرك في وجوب القضاء أو عدمه بالرجوع إلى طبيعة الفتوى في استلزامها لذلك أو عدمه.

حكـم خــاص

س : نسمع كثيراً أن بعض الناس يكتب لبعض المجتهدين ويستحصل على حكم خاص بالسماح له في مسألة ما قد يكون غير مسموح بها بصورة عامة، فهل يوجد لدينا إسلام خاص وإسلام عام؟

ج : لا نستطيع أن نعلق على هذا الموضوع، لأننا لا نعرف ما هو الشيء الذي وصفته بالحكم الخاص، فربما يرى المجتهد في بعض الحالات مصلحة عامّة في عدم الإفتاء بحكم ترخيصي، لكنه يرى الجواز مثلاً عندما يشعر بأن لدى الشخص حالة ضرورية، فيعطيه الإذن عندما لا يجد مصلحة بالعنوان الثانوي أن يبرزه ذلك للناس كافة.

عـدول ورجـوع

س : شخص قلّد مرجعاً، ثم عدل عنه إلى مرجع آخر، ثم توفي المرجع المعدول عنه، فهل يجوز الرجوع إلى تقليد المرجع المتوفى بعد العدول؟

ج : رأينا جـواز ذلك.

قوانـين الحـوزة الإداريـة

س : تسنّ الحوزة بعض القوانين بما يسمّى بالنظام الداخلي للحوزة، ومنها مثلاً منع التدخين أثناء الدوام، فهل يجوز للطلبة أن يدخّنوا أثناء الدوام؟

ج : لا يجوز لهم ذلك.

س : وما هو مصدر الإلزام في ذلك، هل هو الشرط أم العهد؟

ج : هناك تعاقد بين الحوزة وبين الطالب أن يقبل بشرط أن لا يدخّن كما لا يرخّص له ذلك بمقتضى الولاية، فالقائمون على الحوزة هم أولياء عليها، فلا يجوز التدخين من هذه الناحية أيضاً. وكما بينّا مراراً، فإن في التدخين جريمتين: جريمة في حق الإنسان نفسه، لأنه يحرق رئتيه ويعرّضها للسرطان، وجريمة ثانية، وهو أنه يؤذي الناس الذين يجلسون إلى جانبه ويتنفّسون الدخان، وقد ذكرت لكم قول بعض الأطباء من أنّ التدخين السلبيّ يؤدي إلى نسبة من الخطر الحاصل من التدخين الإيجابي، وهو التدخين الذي يحصل من خلال جلوسك إلى جانب المدخّن، ولذلك فإن المدخن يقوم بعمل حرام حتى لو لم نقل إن التدخين حرام، فلا يجوز لك أن تؤذي الآخرين وأن تفرض عليهم دخانك.

عمل المكلّـف بـدون تقليـد

س : يذهب إجماع المجتهدين إلى أن عمل المكلّف بدون تقليد باطل، ويستند بعضهم إلى حديث الإمام العسكري(ع): "فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه"؟ فالعبارة هي (للعوام) وليس (على العوام) فماذا تقولون؟

ج : أولاً، ليس هذا هو الدليل، فالرواية ضعيفة، وهي منسوبة إلى تفسير حديث الإمام العسكري(ع)، فالسيد الخوئي يقول إن هذا الحديث يحوي على كلام لا يمكن أن ينسب إلى عالم فضلاً عن الإمام(ع)، فالتفسير المنسوب للإمام ليس صحيحاً لا سنداً ولا مضموناً.

ثانياً، فإن معنى التقليد أن تكون لك حجّة في ما تعمل وفي ما تدع، فأنت لست صاحب اختصاص في الفقه، ولذلك لا بدّ لك من حجّة في صحّة عباداتك ومعاملاتك، ومعنى أنّ عملك (باطل) ليس فاسداً وإنما لا يمكنك أن تعتمد عليه، فإذا عمل الإنسان بدون تقليد، ثم قلّد، فإن عليه أن يعرض أعماله على المقلّد الذي قلّده ليرى مطابقة أعماله وتروكه لفتاوى مقلّده.

طهـارة مولـد المجتهـد

س : إذا توفّرت في شخصٍ ما شروط المجتهد إلا طهارة المولد، فهل المانع يكون من جهة الاجتهاد، أم من جهة حرمة التقليد؟

ج : هو كمجتهد عليه أن يعمل برأيه، لأنه حجّة عليه، ولكن المشهور بين الفقهاء أن المقلّد لا بد أن يكون طاهر المولد.

ما يخالف العقل من الأحكام

س : هناك الكثير مما يخالف العقل في الرسائل العملية، مع العلم أن الشريعة جاءت تخاطب العقل، فكيف ذلك؟

ج : هناك فرق بين العقل وبين المألوف، فمخالفة الأحكام العقلية هي كمن يقول: (1+1=5)، في حين أن العقل يقول إن: (1+1=2)، أو أن الشيء يمكن أن يكون موجوداً ومعدوماً في آن واحد والنقيضان لا يجتمعان، أو أن يكون الأبيض والأسود لوناً لشيء واحد، أو السكون والحركة في حالة واحدة، فهذا مخالف للعقل.

ولكن أن تقول إن هذا لا يقبله عقلي، لأنني ألفت شيئاً آخر، فالعلماء أوسع عقلاً، فهم يلاحقون أي احتمال مهما كانت درجته، وقد قال ابن سينا: "كل ما سمعته فذره في بقعة الإمكان حتى يذوّدك عنه واضح البرهان". فعلينا أن نفرّق بين المعقول وبين المألوف، ثم إن هناك عقلاً فطرياً، وهو الذي يتساوى فيه الناس، وهناك العقل الثقافي، وهو عقل يتبع الخلفية الثقافية التي يحصل الإنسان عليها، فعقليتك الثقافية ليست حجة، لأن قيمتها بقيمة تجربتك الثقافية.

من لا يقول بولاية الفقيه

س : في ظل نظرية وجوب تقليد الأعلم بالفتوى أو الاحتياط، هل نستطيع أن نقول بأن المجتهد الذي لا يقول بولاية الفقيه العامة غير أعلم باعتباره ينفي حاجة الأمة للولاية؟

ج : هل نقول ـ على ضوء ذلك ـ إن السيد الخوئي(رحمه الله) ليس الأعلم، وهكذا الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله) إن الأعلمية لا دخل لها في القول بالولاية وعدمه، فهي بحث فقهي ينطلق من المعطيات الفقهية، فقد يقتنع مجتهد بها وقد لا يقتنع على ضوء ما يتوافر له من أدلتها.

أما حاجة الأمة لولاية الفقيه، فحتى الذي لا يقول بولاية الفقيه، يقول: إذا احتاجت الأمة إلى الفقيه وتوقّف حفظ النظام عليه، فعند ذلك إذا دار الأمر بين الفقيه وبين غيره فالفقيه هو المقدّم، فالسيد الخوئي يقول مثلاً: إذا دار الأمر في قيادة الجهاد بين التعيين والتخيير فالفقيه هو الذي يقود حركة الجهاد على أساس الاحتياط الواجب.

تقليـد ورجـوع

س : أنا من مقلدي السيد الشهيد محمد صادق الصدر (قده) ولا زلت على تقليدي له، فهل يجوز لي تقليدكم في الأمور المستحدثة مع البقاء على تقليدي؟

ج : لا مانع من ذلك.

الاعتماد على أية رسالة؟

س : نحن من مقلديكم، فنرجو أن تبيّنوا لنا على ماذا نعتمد من كتبكم الفقهية في التقليد، هل هو (الفتاوى الواضحة) أم (المسائل الشرعية) أم (فقه الشريعة)؟

ج : كلها صحيحة وإن كانت هناك اختلافات بسيطة في الفتاوى، ولكن في الإجمال الاعتماد عليها جميعاً مجزٍ، ولكن رسالتنا العملية الجامعة التي لم تكتمل أجزاؤها بعد هي (فقه الشريعة).

شجاعـة المرجـع

س : هل يجب في المرجع أن يكون شجاعاً؟

ج : المرجعية علم، ونحن نأخذ من علم المرجع، من بطولته وشجاعته، نعم إذا كان شجاعاً فذلك أفضل، حتى يتخذ المواقف الجريئة في مواجهة التحديات الكبرى التي يعيشها المسلمون.

الحجية في الخبر الموثوق

س : ينقل عنكم أن الحجية هي في الخبر الموثوق لا الخبر الثقة بغضّ النظر عن الطريق إليه، فالمعيار هو المضمون والاطمئنان إليه، وهنا تختلفون مع السيد الخوئي الذي يأخذ بحجيّة الخبر الثقة لا الخبر الموثوق كما في تحقيقه لكتاب (سليم بن قيس) كما دافع عن مضمون الكتاب فيما ضعّف الطريق إليه؟

ج : نحن نقول بحجيّة الخبر باعتبار السيرة العقلائية، فالعقلاء يأخذون بالخبر الموثوق، فربما كان الراوي رجلاً غير ثقة، لكنه نقل لنا خبراً، فإذا درسناه ولم نجد عنده أي داعٍ للكذب، فيمكن عندئذ الاطمئنان به، ولذا نقول إن العقلاء يأخذون بالخبر الموثوق، وإنما يؤخذ بخبر الثقة، لأن وثاقته توجب الوثوق النوعي. وهذا بحث في الأصول لا نريد الخوض في تفاصيله.

أنـا الأول والآخـر

س : في أحد خطب الإمام علي(ع) يقول "أنا الأول والآخر"، فهل هذا صحيح؟

ج : الإمام علي(ع) لم يقل ذلك، وكلّ من ينسب إليه ذلك فهو كاذب، لأن هذا مخالف لكتاب الله وكل ما خالف كتاب الله فهو زخرف، فهذه الروايات وأمثالها كلها مكذوبة على أمير المؤمنين(ع)، ولذلك فلا يجوز أن تنسب لعلي(ع) ويحرم أن تنسب إليه.

الدليل في جواز تقليد المرأة

س : ما دليلكم الشرعي من القرآن الكريم أو السنة المطهرة الذي استندتم عليه بخصوص فتواكم في جواز تقليد المرأة؟

ج : أنا لم أفتِ بذلك، وإنما قلت إن القاعدة العلمية تقضي أن لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك، وهو ليس رأيي فقط وإنما هو رأي السيد محسن الحكيم(رحمه الله) وكذلك السيد أبو الحسن الأصفهاني (رحمه الله). والنص القرآني في ذلك: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43]. فقد يكون الرجل من أهل الذكر وقد تكون المرأة من أهل الذكر، فأهل الذكر هم المختصون، وفي العلم ليس هناك فرق بين المرأة والرجل، فقد تكون المرأة أفضل، وقد يكون الرجل أفضل، فكما نرجع إلى المرأة المهندسة أو الطبيبة، كذلك يمكن الرجوع إلى المرأة الفقيهة المجتهدة العالمة الورعة التقيّة المتخصّصة.

ثم إن التقليد لا نصّ فيه وإنما هو رجوع الجاهل إلى العالم: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون} [التوبة:122]. فالأساس الذي نرجع فيه إلى العالمة في أي حقل من حقوق المعرفة هو نفسه الذي نرجع فيه إلى المجتهدة، وغاية ما هناك أن العلماء يتحفّظون في الفتوى.

والمشكلة في الواقع الإسلامي أن هناك نظرة دونية للمرأة وهي نظرة غير إسلامية {ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف} [البقرة:227].

الاستنباط في (نهج البلاغة)

س : هل يوجد في (نهج البلاغة) أمور نسبت إلى مولانا أمير المؤمنين(ع)، وهل يستطاع الاستفادة منها في مجال استنباط الأحكام الشرعية؟

ج : يمكن ذلك، ولعل بعض علمائنا حاول أن يستفيد من عهد الإمام(ع) لمالك الأشتر في بعض القضايا الفقهية، مثل قضية الاحتكار وأشياء أخرى تدخل في عالم التنظيم الإداري.

شجاعـة الفقيـه

س : افتقار الفقيه للشجاعة الفقهية في اتخاذ الرأي، هل يخلّ بعدالته؟

ج : لا يخل بالعدالة، ولكن ربما تكون هناك عناوين أخرى.

تجسيد المؤسسة المرجعية

س : إلى أي مدى استطعتم تجسيد مشروعكم المؤسسة المرجعية ولو في نطاق حركيتكم المرجعية؟

ج : لقد أطلقنا مشروع المؤسسة المرجعية والمرجعية المؤسسة في الخط الذي أطلقه الشهيد محمد باقر الصدر(رض) فيما اصطلح عليه بـ(المرجعية الرشيدة)، لأننا اعتبرنا أن المرجعية الشخصية، مع احترامنا لها ولكلّ تاريخها، قد تجاوزها الزمن. وأقصد بكلمة (تجاوزها الزمن) أن التحديات الموجودة من فقهية وسياسية واجتماعية قد تحتاج إلى أسلوب آخر، وإلى منهج آخر، وإلى مواقف أخرى، وقد حاولنا أن نطلق هذا كوسيلة من وسائل التوعية، ولكن المؤسسة المرجعية لن تجد النور إلا عندما تملك رأياً عاماً واسعاً في الحوزات العلمية، لأن المسألة لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد، بل لا بد أن يكون هناك توافق عليها.

فالمرجعية المؤسسة ـ حسب تصوري ـ تقتضي أن تكون هناك مؤسسة تتنوع فيها الدراسات التي تقدم إلى المرجع، وأن ينتخب المرجع من عدة مجتهدين في العالم، بحيث يكونون كهيئة حوله من أجل أن يمارس دوره، وذلك يشبه، مع الفارق الكبير جداً، الحال بالنسبة للبابوية في (الفاتيكان)، فالبابا عندما يريد أن يسافر إلى أي مكان، فإن اللجان المختصة تقدم له كل الدراسات السياسية والاجتماعية المطلوبة، وحتى عندما يريد أن يقوم بأي مشروع، فإن الأوليات تكون بين يديه، وعندما يموت (البابا) فإن البابا الجديد يبدأ من حيث انتهى الأول، بينما في المرجعية الشخصية الكل يبدأ من الصفر، لأن التراث المرجعي السابق لا يملكه المرجع الحالي، وهكذا، ولذلك ضاع كثير من التراث في هذا المقام، لكن المسألة ـ كما قلت ـ تحتاج إلى وعي الرأي العام لذلك حتى تتحرك بشكل واقعي.

إنهاء الخلاف مع الأطراف الأخرى

س : ما هي السبل العملية الكفيلة لإنهاء الخلاف بينكم وبين الأطراف الأخرى؟

ج : ليس بيني وبين أحد خلاف، وإذا كان من كلام فيقال للذين يسبون ويشتمون ويكذبون علينا ويحرّفون كلامنا عن مواضعه، ولست أحب الخوض في هذا الموضوع، لكن أريد أن أقول لكم بأن كل ما قيل، سواء صدر على مستوى المراجع أو الفضلاء أو المشايخ، وكلّ ما نسب إليّ هو بين 90% كذب وبين 10% تحريف للكلام عن مواضعه.

وحاولوا أن تجربوا بأنفسكم.. قولوا لهؤلاء تفضلوا لمقابلة السيد وهو مستعد لأن يجيبكم على إشكالاتكم، ولكنني أعتبر أن وراء ذلك يداً للمخابرات الخارجية والداخلية، وأن ذلك ليس موجهاً ضدي فقط، ولكنه موجه لإرباك الواقع الإسلامي والعراقي أيضاً، لأنهم مشغولون عن قضيتهم بالقال والقيل "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

هذا هو كل ما عندي، وأنا غير مستعد أن أدخل في معركة معهم، لأن عندي أشغالاً كثيرة.. شغل من أجل الإسلام.. وشغل من أجل خط أهل البيت(ع)، وشغل من أجل مواجهة الاستكبار العالمي، وشغل من أجل مواجهة إسرائيل. هذا هو خطنا منذ(50) سنة.. وهذا هو طريقنا منذ أيام النجف، ولا أرضى أن يشغلني أحد عن أهدافي، وأقول مثلما قال (برناردشو): "إنهم يقولون.. ماذا يقولون.. دعهم يقولون!!".

ليتكلم من يتكلم، ولكن يجب أن يكون الناس واعين: "لولا تخاذلكم عن نصر الحق وتوهين الباطل لم يُطمَع فيكم"، فلو أن الناس تصدوا لهؤلاء ما كانوا ليتمكنوا من إرباك الأمة، ولا أقول ذلك للدفاع عن محمد حسين فضل الله، ولكن دفاعاً عن الحق في هذا المجال.

رأي العلماء في التبعيض

س : هل هناك من علمائنا السابقين من يرى رأيكم في جواز التبعيض لمن يقلّدكم؟

ج : يقول تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43]. أي اسألوا أي فقيه من أهل الذكر، إلا إذا قلنا بوجوب تقليد الأعلم، بل حتى إذا كان هناك ثلاثة أو أربعة فقهاء في مرتبة واحدة، فإن الإمام الخميني(رحمه الله) يقول إذا تساوى الأعلم بين هؤلاء، فيجوز التبعيض بينهم، أي أن تأخذ من هذا ومن ذاك، بل حتى علماؤنا المتأخرون يقولون بذلك.

ثانياً: النجاسات والطهارات

نجاسـة الكافـر والكتابـي:

س : هل أدرج السيد الخوئي(قده) الكافر مع الكتابي في احتياطه الوجوبي بالنسبة للنجاسة؟ أم أنّ نجاسة الكافر غير الكتابي لديه في مقام الفتوى؟

ج : كان يفتي بنجاسة الكافر غير الكتابي وكان يحتاط احتياطاً وجوبياً بالنسبة إلى الكتابي، ولذلك من كان مقلداً للسيد الخوئي(رحمه الله) يمكن أن يرجع إلى غيره بالنسبة إلى نجاسة الكتابي، ويقلّد من يقول بالطهارة لأن المسألة احتياطية. أما بالنسبة إلى غير الكتابي كالهندوسي والبوذي والملحد وما إلى ذلك، فالسيد الخوئي عنده فتوى في هذا المقام. لكنّنا بينّا أننا نفتي بطهارة كلّ إنسان، سواء كان مسلماً أو كافراً أو كتابياً أو غير كتابي، لأنه لا دليل عندنا على نجاسة الكافر.

وقـوع ميتـة في بئـر:

س : إذا وقعت قطّة أو كلب ميت في بئر وتم نزح المقدار الشرعي للبئر، فهل يجوز سقي المزروعات بالماء المنـزوح من البئر أم لا؟

ج : إذا وقعت القطّة أو الكلب وماتا ولم يتغيّر الماء برائحة الميتة فلا ينجس كليّة ولا يحتاج أن ننـزح من مائه إلا استحباباً، وأما إذا تغيّر فيجب أن ننـزح المقدار الذي يذهب به التغيّر. وعلى كلّ حال فلا مانع من سقي الزرع بالماء المنزوح لأنّه لا يُشترط في ماء السقي للزرع أن يكو طاهراً.

عـدم الثقـة بطهارة الآخـر

س : هناك بعض النساء لا تثق بطهارة الآخر، فمثلاً لا تؤمن إلا بطهارة بيتها؟

ج : هذه وسواسية، وعلى الإنسان أن يحكم بطهارة كلّ مكان وكلّ بيت لا يعرف النجاسة فيه "كل شيء لك طاهر حتى تعلم نجاسته".

ماهيـة الخمـر

س : هل أنّ الخمر ما اتخذ من العنب فقط أم أنّ كل مسكر هو خمر؟

ج : كلّ مسكر حرام، سواء سمي بالخمر أو لم يسمّ، لأنَّ الخمرة إنما حرِّمت لإسكارها، فالأساس هو أنّ كلّ مسكر حرام، وليس فقط الخمر بعنوانه المعروف. وقد ذكر البعض أنّ كلّ مسكر خمر؛ يُخمّر العقل ويغطّيه.

ملاقاة الأجبـان للنجاسـة

س : هل يجوز أكل الأجبان المستوردة من بلاد غير إسلامية مع اشتمالها على أنفحة، علماً بأن هناك احتمال في ملاقاتها النجاسة من رطوبة الميتة حال استخراجها، فما هو الحكم مع عدم العلم؟

ج : يجوز أكلها.

كيفية الطهارة:

س : هل تتحقّق الطهارة بزوال العين مع عدم وجود نيّة للتطهير؟ وهل يطهر ما يُصبُّ الماء عليه وتزول عين النجاسة ولا يُقصد به التطهير؟

ج : ليس ضروريّاً أن يقصد الإنسان التّطهير بل يكفي صبّ الماء وتزول النجاسة بواسطة الغسل، إذ يتحقّق عنوان الغسل حتى لو لم يقصد ذلك.

التطهير بالمـاء القليـل

س : كنت أتعبّد على المذهب الشافعي، ثم صرت أتعبّد وفقاً لمذهب الشيعة الإمامية في الأصول والفروع، وسؤالي هو إن أهلي يطهّرون الملابس بالماء القليل عن طريق غمسها بالماء مباشرة، ويكرّرون ذلك مرتين مع الصابون، فهل يجوز أن أغسل ثيابي معهم؟

ج : إذا كان التطهير بالماء القليل فلا تطهر، أما بالماء الكثير كما لو كانت الحنفية تجري فلا مشكلة، أي أن لا يغلب الصابون الماء ويبقى الماء ماءً.

طهـارة الغسـالة:

س : أعمل في محل غسيل وكيّ الملابس، فيقع بعض ماء الغسالة على ملابسي التي أرتديها، ومن ثم أذهب إلى الصلاة وأصلّي بنفس تلك الملابس التي وقع عليها ماء الغسالة، فهل ملابسي طاهرة؟

ج : إذا كانت الغسالة متّصلة بماء الكر فلا مشكلة.

آثـار النجاسة بعد إزالتـها

س : شخص يجتهد في إزالة النجاسة من موضعها المعتاد، ثم تبيّن بعد الوضوء وجود آثار لها في ملابسه الداخلية، فماذا يفعل؟ وما حكمه، علماً أن الآثار المذكورة من جراء إجراء عملية جراحية؟

ج : في هذه الصورة، إذا فرضنا أنه كان قاطعاً بأنه أزال النجاسة مطلقاً ولم يبق هناك أثر، ثم اكتشف ذلك، فإن صلاته صحيحة، سواء كان الأثر ناتجاً من عملية جراحية أو لا، وإذا فرضنا أن هناك جراحات، فتصبح من الجروح والقروح المعفوّ عنها، بمعنى أنه تصح الصلاة مع عدم إزالتها وتطهيرها.

طهارة الأقـدام

س : هل صحيح أن الأقدام تطهر بالمشي؟ وأين يكون المشي على الأرض أم على التراب؟

ج : على مطلق الأرض، فإنّ الأرض من المطهّرات.

هل هو مـاء مضـاف؟

س : أضفنا إلى ماء السخّان مادة لإذابة الكلس، ولكن ذلك أدّى إلى تحول الماء إلى ماء عكر، فهل يخرج عن كونه ماءً مطلقاً؟

ج : لا، فهو ماء مطلق، لأنّ الماء المضاف هو ماء العصائر، وتقدير ذلك عرفي وليس شرعياً.

الثياب بـدون تطهيـر

س : إذا كانت الملابس نجسة بعين النجاسة كالبول، وتغسل بدون تطهير، فهل إذا يبست ولمستها باليد الرطبة تنجس؟

ج : إذا غسلت بدون تطهير مما هو شرط في تحقق الطهارة، أي بقيت على النجاسة، فإن ملاقي عين النجاسة نجس، وإذا كانت عين النجاسة غير موجودة فهي من قبيل المتنجس الأول بعين النجاسة، أي أنها تنقل النجاسة، أما إذا كان المتنجّس هو ثانٍ فعلى رأينا لا ينقل النجاسة.

ثالثاً: الوضوء والصلاة والإقامة:

قنـوت صـلاة الجمعـة:

س : هل يجوز القنوت في صلاة الجمعة مرة واحدة فقط، في الركعة الثانية؟

ج : القنوت مستحب في صلاة الجمعة وفي غيرها، ولكن إذا أتى بالقنوتين فذلك أكمل.

هل الإقامـة جزء من الصلاة؟

س : هل تعتبر الإقامة عندكم جزءاً من الصلاة؟

ج : لم يثبت عندي أنها جزء من الصلاة، ولكن يحتمل ذلك من جهة بعض الروايات مما جعلنا نحتمل ذلك احتمالاً قوياً جداً، لأن الإقامة لا بدّ فيها من الطهارة وهي الوضوء، أما الأذان فلا تجب فيه الطهارة. ويجوز الالتفات في الأذان بينما لا يجوز الالتفات في الإقامة، وتجوز الفاصلة بين الأذان وبين الصلاة، ولكن لا يجوز أن تكون هناك فاصلة بين الإقامة والصلاة. وهناك حديث نناقش في سنده (إذا دخل في الإقامة فقد دخل في الصلاة) وهو موجود في الوسائل، ولذلك نقول الأحوط أن لا ندخل في الإقامة أي شيء لا يجوز إدخاله في الصلاة، وهذا هو الذي جعلنا لا نذكر الشهادة الثالثة في الإقامة، مع أننا نقولها في أذان صلواتنا وإن كانت هي ليست أصلاً لا في الأذان ولا في الإقامة بإجماع العلماء تقريباً، باعتبار احتمال أن تكون الإقامة جزءاً من الصلاة، فلا يجوز أن تدخل فيها شيئاً من باب الاحتياط.

الصـلاة قـرب قبـر:

س : هل يجوز الإتيان بالصلاة نافلة وليس فرضاً قرب قبر؟ وما هي نيّة الصلاة في هذه الحالة؟

ج : الصلاة خيرٌ موضوع، فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر، فلا بأس أن يصلّي الإنسان قربة إلى الله تعالى ويهدي ثوابها إلى صاحب القبر.

الإتمـام أم التقصيـر:

س : أسكن بعيداً عن مكان عملي حوالي(60) كيلومتراً وأعمل فعلياً يومين في الأسبوع، فهل أصلي الظهر والعصر تماماً أم أقصّر؟ وهل يجوز أن أصوم شهر رمضان؟

ج : في رأينا إذا كنت تعمل في الشهر ثمانية أو عشرة أيام أو أقلّ من ذلك مع كونك دائم السفر بلحاظ عملك فإنك تتم صلاتك وتستطيع الصيام في شهر رمضان، وفي ضوء ذلك فإنّ حكمك التمام في الصلاة والصيام.

س : وإذا ذهبت إلى مدينة عملي فهل أتم أم أقصّر؟

ج : عليك أن تتم في جميع الحالات.

إذا نسـي الإمام آية:

س : هل أنّ نسيان آية من (سورة الجمعة) من قِبَل الإمام يبطل الصلاة أم لا؟ وهل أن التصحيح له واجب من قِبَل المصلّين؟

ج : لا تبطل الصلاة بذلك، وينبغي للمأمومين أن يصحّحوا له ذلك.

وضع الزينة قبل الصلاة:

س : هل يجوز للمرأة بعد الوضوء وضع الماكياج ولبس الحلي والزينة داخل منـزلها، ثم التوجه إلى الصلاة؟

ج : لا مشكلة في أن تتبرّج حال الصلاة، فذلك ليس حراماً، وإنما المهم أن لا تتبرّج أمام الأجنبي.

وســوســة:

س : إذا كنت أشك اليوم في القراءة وغداً بعدد الركعات وبعدها بالطهارة وهكذا، فهل أُعتبر كثير الشك؟

ج : أنت وسواسي ولست كثير الشك، وعليك أن لا تعتني بكلّ ما شككت فيه.

القضـاء عـن الأم

س : توفيت والدتي في المشفى قبل أربعة أشهر تقريباً، وكانت عليها بعض الصلوات لم تستطع أن تصليها لشدة المرض، وأنا ابنها البكر، فهل يمكنني قضاء صلاتها هنا في حرم السيدة زينب(ع) بصورة تامة أو قصراً؟

ج : الصلاة قضاءً عنها تامة ما دامت فاتتها وهي في بلدها، فلا يلاحظ في القضاء حالة المسافر الذي يقضي، بل حالة الذي يقضى عنه، فالذي فاتته فريضة فليقضها كما فاتته.

تزاحـم المدرسة والجمعة

س : أعيش في إحدى الدول الأوروبية، ويتعارض وقت صلاة الجمعة مع دوامي في المدرسة، ولا أستطيع الاستئذان في كلّ أسبوع، فهل صلاة الجمعة واجبة في هذه الحالة؟

ج : إذا كان هناك مانع يمنع من حضور صلاة الجمعة، وكان في حضورها حرج عليه، فلا يكلّف بصلاة الجمعة.

الإمـام والتجويـد

س : هل يجب على إمام الجماعة أن يكون ملمّاً بعلم التجويد؟

ج : ليس من الضروري ذلك، بل يكفي أن يقرأ قراءة صحيحة.

السّهـو في القنـوت

س : هل السهو في القنوت أثناء الصلاة يوجب سجدة السهو؟

ج : لا يوجبـها.

المتابعة في الصـلاة

س : هل يجوز في صلاة الجماعة أن يقرأ المأموم وراء إمام الجماعة ما شاء من السور؟

ج : عليه أن يستمع في الصلاة الجهرية، ويجوز أن يذكر الله في الصلاة الإخفاتية.

قضـاء الأخت عن أخيـها

س : هل يجوز للأخت أن تقضي الصلاة عن أخيها الأكبر المتوفى وتسقط عنه شرعاً؟

ج : نعم، يجوز ذلك وتسقط الصلاة عنه.

تأجيـل الصلاة بسبب التعـب

س : هل يجوز للمسافر تأجيل صلاته بسبب التعب والإرهاق؟

ج : يجوز تأجيلها شرط أن لا تفوته الصلاة.

الصلاة على الميت الكافـر

س : يموت في بلاد المسلمين الكثير من الكفّار والمرتدّين والمجاهرين بالفسق، ثم تقام عليهم صلاة الميت وما شابه ذلك، فما هو حكمها؟

ج : إذا كان كافراً فلا يجوز الصلاة عليه. ولكن عادةً عندما يكون أهله مسلمين فإن هذه القضايا تخضع لظروف وعادات اجتماعية تجعل أهله أو المصلي في حالة حرج من ترك الصلاة عليه، لأنه قد يسبب فضيحة في الواقع الإسلامي لديهم. أمّا إذا لم يكن يعلم [هل أنه كافر أم لا] فلا مشكلة في الصلاة عليه، لأنه يحكم عليه ـ في الظاهر ـ بإسلامه باعتبار أنه من آباء مسلمين.

التجـافــي

س : ما هي فلسفة التجافي عند المأموم المسبوق بعدد من الركعات في صلاة الجماعة؟ وما هو حكمه، هل هو واجب أم مستحب؟

ج : التجافي إنما هو من أجل أن يتابع المأموم المتأخر مع الإمام الذي سبقه في بعض الركعات، أي يحاول أن ينتظر الإمام حتى يقوم إذا كان جالساً للتشهد حتى يتمّ الجماعة. أما لو كان الإمام في الركعة الأخيرة وكان المأموم في الركعة الثالثة فإنه يستطيع أن يقوم بعد ذلك. إنه نوع من الحفاظ على الجوّ العام لصلاة الجماعة وانتظامها.

حاجـز بيـن الجماعـة

س : هل يجوز للنساء في صلاة الجماعة مع الرجال أن يفصل بينهم فاصل مثل الجدار؟ وهل يجوز المرور أمامهن؟

ج : يجوز إذا كان هناك فاصل ولكن فيه عنوان اتصال كما لو كان حاجزاً من قماش، ويجوز المرور أمامهن حتى بدون فاصل، فالنساء في عهد النبي(ص) كنّ يصلين الجماعة مع الرجال بدون فاصل.

الجمعـة والمنافقـون

س : من يرجع إلى القائل بوجوب قراءة سورتي (الجمعة) و(المنافقون) في صلاة الجمعة هل تصح صلاته خلف إمام لا يقرأ (المنافقون)؟

ج : يصحّ هذا باعتبار أنه يكفي في صحة صلاة المأموم صحة صلاة الإمام.

فـي الوضــوء

س : قد يقع أثناء الوضوء بعض قطرات الماء على القدم والرأس، فهل تعدّ مبطلة للوضوء إذا مسحنا فوقها؟ وما حدود الرطوبة المسموح بها في هذا المجال؟

ج : إذا وقعت نقطة ماء على الرأس فلا تشمل الرأس كلّه ولا الرجل كلّها، ولذلك فلا مشكلة في هذه الناحية، إذ يمكنك المسح على الأجزاء اليابسة، وأما الرطوبة المسموح بها فهي الرطوبة التي لا تنتقل إلى اليد أو التي تكون أقل من الماء الذي يأتي فوقها.

المـاء الجديـد للمسـح

س : ما ورد في (المنهاج) من عدم صحة استئناف ماء جديد للمسح، هل يؤثر تماس اليد الماسحة على الرأس بأعلى الجبهة المبتلة بالماء والذي يحدث عادة عند المتوضئين؟

ج : لا بدّ أن يكون المسح ببلّة اليمين، فإذا كان هناك ماء من الجبهة، فمعنى ذلك أن هناك بللاً آخر غير بقية البلل الذي في اليمين، لكن إذا بقي في كفه شيء من البلل فيستطيع أن يمسح بها.

صـلاة معتقـل

س : كنت معتقلاً وكانت تمرّ عليّ أيام وأنا مقيّد اليدين إلى الخلف ومعصوب العينين، وكنت أتيمّم للصلاة وأضع جبهتي على الأرض مباشرة وألامس يدي مع الأرض وأنا مقيد إلى الخلف، فهل عليّ قضاء تلك الفترة علماً أنني كنت أصلي دون معرفة القبلة؟

ج : صلاتك صحيحة إذا احتملت أنها كانت على القبلة ولم تعلم أنك كنت مستدبراً لها، ولعلّ هذه أفضل صلواتك.

س : كان في المعتقل مجاهدون يصلّون وهم معلّقون في السقف وبعضهم معلّق من يديه وبعضهم معلّق من رجله، فما حكم صلاتهم؟

ج : صلاتهم بالإيماء وهي صحيحة، وحتى إذا كان لا يستطيع أحدهم الطهارة أي الوضوء، فنحن نرى أنه لا يجب عليه ذلك إذا كان فاقد الطهورين، ولا يجب عليه القضاء وإن كان بعض العلماء يرون أنه يجب القضاء.

س : في أغلب الأحيان يصلّي المعتقلون مع وجود النجاسة عليهم؟

ج : يعفى عن مانعية النجاسة على الجسد في هذه الحالة.

س : نقلونا إلى أحد المعتقلات، وبعد فترة عرفنا أن هذا المكان هو بيت مغصوب من أحد المجاهدين، فما حكم صلاتنا؟

ج : صلاتكم صحيحة، لأنكم مضطرون لهذا، ويقيناً أن هذا الإنسان المجاهد يقبل بصلاتكم.

المسـافـة التلفيقـيـة

س : أسكن في مدينة(أ) وسافرت منها إلى مدينة(ب) التي تبعد مسافة(15) كم، لعملٍ ما، ثم سافرت منها إلى مدينة(ج) التي تبعد عن(ب) بعشرة كيلومترات العمل استجددّ مؤخراً ولم أكن أقصده، ثم رجعت إلى المدينة(ب)، فهل أصلّي قصراً على أساس أنها مسافة تلفيقية؟

ج : تصلّي تماماً، باعتبار أنك لم تكن قاصداً المسافة، أي لم تقصد(22)كم ذهاباً و(22)كم إياباً، فأنت قصدت في البداية(15) كم، ولم تقصد العشرة كيلومترات، أما لو كنت قاصداً أن تذهب إلى(ب) ثم إلى(ج) فصلاتك قصر، ولكنك إذا كنت قاصداً أن تذهب إلى(ب) وطرأ طارىء جعلك تذهب إلى(ج)، ففي هذه الحال عليك أن تصلّي تماماً، لأنك لم تقطع المسافة بقصد.

الكسـل في أداء الصـلاة

س : أقيم في الغرب ولي ولد يبلغ من العمر(18) سنة وسلوكه جيد وأخلاقه كذلك، ولكنه كسول جداً في أداء صلاته اليومية، فهل يجوز لي أن أضغط عليه؟

ج : عليك أن تضغط عليه ضغطاً خفيفاً لا يعقّده من الصلاة، وسيساعدك في ذلك سلوكه الحسن وأخلاقه الجيّدة.

الصدقـة لمـن لا يصلّـي

س : هل تجوز الصدقة على الإنسان الذي لا يصلّي؟

ج : تجوز ولو لتشجيعه على الصلاة، فـ"لكلّ كبد حرّى أجر".

صلاة خالية من الخشوع

س : مرّت عليّ فترة كنت أصلي فيها صلاة خالية من أدنى درجات الخشوع، وكنت حريصاً على قضاء الصلاة بأقصى سرعة ممكنة، فهل عليّ أن أقضي صلوات تلك الفترة؟

ج : ليس عليك القضاء، فهذه الصلاة صحيحة إذا كانت جامعة للشروط، ولكنّها من دون روح، والصلاة كلّما كانت خاشعة كان ثوابها أكبر وأدّت المراد منها بشكل أكبر، فليس للإنسان من صلاته إلا ما وعى.

مانع من الوقوف والركوع

س : أعاني من انزلاق في الفقرات، وطلب مني الطبيب عدم الانحناء وعدم الوقوف، فما هو الحكم بالنسبة لصلاتي؟

ج : صلّ بحسب ما تستطيع، فإذا كنت لا تستطيع الانحناء للركوع وللسجود، فعليك بالإيماء، أي في الركوع اخفض رأسك بمستوى معين، ثم في السجود انحن أكثر، وإذا منعك المرض من الوقوف فصلّ جالساً.

صلاة المرأة بمحاذاة الرجل

س : هل يجوز للمرأة أن تصلي بمحاذاة الرجل؟

ج : في رأينا يجوز ذلك، وإن كان رأي الفقهاء الآخرين أن يكون هناك فاصل شبر، وبعضهم يقول أكثر من ذلك.

صلاة الجماعة مع المسلمين

س : كنا مقيمين في الأردن وكنا نصلي جماعة في المسجد، وقد أخذ علينا البعض أن صلاتنا باطلة، علماً أننا كنا نصلّي على هيئة إسبال ولا نقول آمين بعد الفاتحة، وإنما كنا نبتغي ثواب صلاة الجماعة، فما حكم صلاتنا؟

ج : الصلاة صحيحة وتثاب عليها، ولقد كان الأئمة من أهل البيت(ع) يوصون أصحابهم بأن يصلّوا الجماعة مع المسلمين، وقد كان السيد الخوئي(رحمه الله) يفتي بجواز ذلك، ولكن بشرط أن يقرأ الإنسان الفاتحة والسورة ويُثاب ثواب الجماعة.

من فاتتـه صلاة العشـاء

س : هل صحيح أن من فاتته صلاة العشاء حيث نام ثم استيقظ صباحاً فكفّارته أن يصوم ذلك اليوم؟

ج : هناك بعض الأحاديث التي وردت في هذا وأفتى بها بعض العلماء.

الصلاة في المسجد أو البيت

س : لو دار الأمر بين أن أصلّي في المسجد في خارج وقت الفضيلة أو أصلّي في البيت في وقت الفضيلة فأيّهما يقدّم الزمان أم المكان؟

ج : الزمان يقدّم على المكان، إلا إذا كانت الصلاة صلاة جماعة، لأن الجماعة لا يحصي ثوابها إلا الله تبارك وتعالى.

التـردّد في الإقامـة

س : الأسير المتردد في الإقامة وهو لا يملك إرادة التردّد أصلاً، لأن الأمر بيد آسره، فكيف ينطبق عليه حكم التردّد؟

ج : هو متردّد باعتبار أنه لا يعرف كم يقيم، سواء كان أمره بيده أو بيد غيره، فالمتردّد هو الذي لا يعرف كم يقيم، ولذا يصدق على الأسير المتردّد.

عـدم ذكـر التكبيرة

س : كنت أصلي سابقاً ولا أذكر تكبيرة الإحرام في الصلاة حيث كنت لا أعلم أنها من الصلاة، فما حكم صلاتي السابقة؟

ج : أعانك الله على قضائها.

جماعتان في مسجد واحد

س : نسأل عن صحة الحديث الشريف: "لا تقام جماعتان في مسجد واحد"، وما حكم ما نرى من وجود أكثر من جماعة في بعض الأماكن المقدسة؟

ج : يمكن أن يكون المقصود بالجماعتين صلاة الجمعة، أو أن الجماعتين في مسجد واحد ربما توجبان الكثير من الحساسيات التي تذهب روحانية الصلاة، وأما صلوات الجماعة في المراقد المقدسة فتعتبر عدة جماعات ولا تعتبر مكاناً واحداً ولا توجد حساسية في ذلك.

الأوسـاخ تحت الظفـر

س : ما هو حكم الأوساخ الموجودة تحت الظفر التي لم يعرف بوجودها إلا بعد الفراغ من الصلاة؟

ج : إذا لم تكن من الظاهر، أو كانت موجودة داخل الظفر فلا إشكال.

السهو في الصلاة المستحبة

س : هل تجب سجدتا السهو وصلاة الاحتياط في الصلاة المستحبة والنوافل في حال حدوث ما يوجبها؟

ج : الأحوط ذلك.

الاطمئنـان فـي الصـلاة

س : ما معنى الاطمئنان في الصلاة؟ وهل هو واجب في كل أجزاء الصلاة، أم أنه واجب في أجزاء دون أخرى؟

ج : الاطمئنان هو الاستقرار، وأن لا يعبث بيديه ويكون مستقراً في صلاته.

حبـر الحبـّـار

س : هل يعد حبر الحبّار، وهو كائن بحري يفرز حبراً، مانعاً لوصول الماء إلى البشرة؟

ج : إذا كان مجرد لون وليس له سمك وحجم فلا مانع.

قضـاء المرأة عن والدها

س : في باب قضاء الولي عن الميت، هل يجوز للمرأة أن تقضي عن والدها الصلاة والصوم، أم لا يجب عليها ذلك؟

ج : لا يجب عليها ذلك، ولكن يجوز منها ذلك.

السلـس والغسـل

س : تصيبني في كثير من الأحيان حالة السلس، فأضطر إلى أن أغتسل في اليوم أكثر من مرة، فماذا عليّ؟

ج : يجوز للمسلوس أن يصلي إذا لم يكن عنده وقت للصلاة بطهارة، أي بدون خروج البول، وإذا استطاع أن يصلّي صلاة كاملة بدون خروج البول فعليه أن يتوضأ ويصلّي.

نـذر خمسيـن ركعـة

س : نذر شخص أن يصلّي خمسين ركعة لأمرٍ ما، فكيف تتمّ الصلاة؟

ج : ركعتين ركعتين.

بيـن الوضـوء والتيمّـم

س : أصبح الصباح ولم أجد ماءً فتيمّمت بالتراب للصلاة، وبعد أن رقدت في الفراش اتّضح لي من أحد أفراد العائلة أن الماء موجود، فهل تجب عليّ إعادة الصلاة؟

ج : عليك إعادة الصلاة إذا كان الوقت باقياً.

الغروب بسقوط القرص

س : بناءً على رأي من يتحقق عنده الغروب بسقوط القرص، فلو فرضنا أن إنساناً أخّر صلاة العصر إلى ما بعد سقوط القرص، وقبل ذهاب الحمرة فهل تكون الصلاة قضاءً؟

ج : يرى السيد الخوئي (رحمه الله) أن الغروب يتحقق بسقوط القرص لا بذهاب الحمرة المشرقية، ويرى أنّ المراد بالحمرة المشرقية ليست الحمرة في الأفق، وإنما المراد منها الحمرة التي فوق الرأس والتي تزول بسقوط القرص، وإنما يحتاط ليس من جهة الدليل، بل من جهة مشهور الفتوى، احتياطاً استحبابياً وليس وجوبياً، فلا يجوز أداء صلاة العصر في الفاصل بين سقوط القرص وذهاب الحمرة. فلو أدّى صلاة العصر في ذلك الوقت كان قضاءً، وهذا هو رأينا الفقهي في المسألة.

المصافحـة أثنـاء الصلاة

س : في صلاة الجماعة وأثناء سجدة السهو مدّ أحدهم يده ليسلّم عليّ، فهل أسلّم أم لا، وما الحكم إذا سلّمت؟

ج : لا تصافحه، وإذا صافحته على نحو لا يسيء إلى سجدتك فلا مشكلة، ولكن الإنسان في وقت الصلاة يكون عادة مشغولاً عن السلام والمصافحة.

التكلّـم أثنـاء الوضوء

س : هل يجوز التكلّم مع شخص آخر أثناء الوضوء؟

ج : يجوز ذلك، ولكن ينبغي للإنسان أن يجعل وضوءه مقدمة لصلاته، أي يدخل في الصلاة عند الوضوء، بحيث عندما يغسل وجهه يقول: "اللهم بيّض وجهي يوم تبيض الوجوه"، وحينما يغسل يمناه يقول: "اللهم أعطني كتابي بيميني" وهكذا في بقية الأذكار، ممّا يعني انشغاله في جوٍّ روحيٍّ يصرفه عن الحديث مع الآخرين.

القضاء نيابة عن الابن الأكبـر

س : توفي الوالد وعليه صلوات وأنا أصغر إخوتي، فهل لي أن أقضيها بدلاً عن أخي الأكبر، لأني أشك في صحة صلاته؟

ج : تُثـاب على ذلك، إن شاء الله.

س : وما حكم القيام بالأعمال الموصى بها في الوصية من صلاة وصيام؟

ج : يجوز لك ذلك وأنت مُثاب عليه.

صلاة من يخوض في المـاء

س : رجل يعمل في الأهوار بحيث يدخل الماء مسافة ألف متر أو أكثر سيراً على الأقدام، علماً بأن الماء لا يعلو السرة، فكيف هي صلاته؟ وكيف هو الوضوء؟

ج : عليه أن لا يجعل هذا العمل في وقت الصلاة، إلا إذا كان مضطراً كلية بحيث لا مجال لترك العمل، أو أن يكون حرجاً عليه فيتوضأ ويصلّي، ولكن السجود يكون بالإيماء إذا لم يستطع السجود باعتبار وجود الماء. ومن حيث المبدأ، لا يجوز للإنسان أن يعمل عملاً يضطرّه لترك الصلاة.

خـروج الريــح

س : ما حكم من يخرج منه الريح باستمرار في أثناء الصلاة، وما الحكم عند الشك به في الصلاة؟

ج : إذا كان عنده وسوسة فلا يعتني بذلك، وإذا كان الريح يخرج منه دائماً فيتوضأ ويصلّي حتى لو خرج الريح منه في أثناء الصلاة.

الجهــل بالطـهــارة

س : أنا شاب في سن الـ(18)، ومنذ فترة قصيرة اطّلعت على أمور الطهارة، فماذا عليّ أن أفعل في السنين التي مضت وكنت لا أعرف فيها ذلك؟

ج : إذا كنت تجهل أن ذلك يفسد وضوءك واكتشفت فيما بعد أن وضوءك باطل، فعند ذلك عليك بإعادة صلاتك، أما إذا كان لا يؤثر في الوضوء فليس عليك شيء.

مسح القـدم بإصبعيـن

س : هل يجزي مسح القدم بإصبعين من الكفّ أم يجب المسح بكامل الكف؟

ج : يجزي ذلك بما يصدق عليه المسح.

الصلاة على القماش جهـلاً

س : إذا كان قد صلّى شخص عدداً من الصلوات وكان يسجد على طرف قماش كان على رأسه، فما هو حكم الصلاة بعد أن علم بذلك؟

ج : إذا كان جاهلاً بشروط ما يسجد عليه، فصلاته صحيحة.

حكم صلاة

س : أعمل في بلدي، ولكني خلال إجازة الصيف ولمدة شهر واحد فقط أعمل كسائق باص لنقل الركّاب خارج البلد، وأكون منتقلاً من بلد إلى بلد، فما هو حكم صلاتي؟

ج : إذا كنت في كلّ سنة تفعل ذلك في هذا الشهر، فعملك السفر وتكون صلاتك تامّة.

س : ما هو حكم صلاة المرأة التي ولدت في بلد وتزوجت فيه، ثم انتقل أهلها إلى بلد آخر، فهل تقصّر الصلاة في بيت أهلها، أم تتمّ؟

ج : إذا تزوجت وخرجت من بيت أهلها وسكنت مع زوجها وأعرضت عن بلد أهلها، فتصلي قصراً في بيت أهلها، أما إذا كانت سترجع إلى بيت أهلها في المستقبل وكانت ساكنة فيه سابقاً، فعند ذلك تصلّي تماماً.

اتخـاذ عـدة مواطـن

س : هل يمكن للإنسان أن يتخذ عدة مواطن، أي أكثر من اثنين؟

ج : ما هو الوطن؟ الوطن هو عبارة عن المكان الذي يسكن فيه الإنسان إلى آخر العمر أو مدة طويلة غير معروفة، أو المكان الذي يستقر فيه مدة طويلة، وعلى هذا الأساس يمكن للإنسان أن يكون له في الشتاء موطن وفي الصيف موطن وفي الخريف موطن وفي الربيع موطن، أو تكون عنده أربع زوجات، كلّ زوجة في بلد، فيذهب ليبقى عند هذه(3) أشهر وعند تلك(3) أشهر.. فيصير عنده أربعة أوطان بالإضافة إلى الوطن الأصلي، فلا مانع من ذلك.

الترتيـب في القضـاء

س : وأنا أقضي صلاتي أقدّم صلاة العصر على الظهر وصلاة العشاء على المغرب، فما حكم صلاتي المقضيّة؟

ج : لا بدّ لك من أن تراعي الترتيب بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولذلك فإذا كنت قدّمت صلاة العصر على الظهر والعشاء على المغرب فعليك أن تعيدها.

الصـلاة خـلف المخالـف

س : على ما ورد في (منهاج الصالحين) من جواز اختلاف الصلاة بين الإمام والمأموم، وعطفاً على جواز الصلاة خلف المخالف مع قراءة المأموم لوحده، فهل تجوز الصلاة خلف المخالف الذي يصلّي صلاة نافلة مع نية القضاء؟

ج : لا يجوز ذلك، إذ لا يجوز أن نصلّي فريضة وراء إنسان يصلّي نافلة، سواء كان مخالفاً أو موافقاً.

قضاء صلاة الآيـات عن ميـت

س : إذا توفي شخص ولم يصلّ صلاة الآيات في عمره لجهل أو لغيره، فهل يجوز القضاء عنه إذا كانت متعلّقة بذمته؟

ج : نعم.

إقامـة للجماعـة

س : نرى في بعض الأحيان أن الإمام في صلاة الجماعة هو الذي يقيم للصلاة، وأحياناً يفعل المأموم ذلك بالإضافة إلى الأذان، فهل هناك اختلاف؟

ج : يجوز للإمام أن يقيم ويجوز للمأموم أن يقيم الإقامة.

الإيقـاظ للصـلاة

س : هل يجب على ربّ الأسرة إيقاظ عياله لصلاة الصبح، وهل يتعيّن عليه إيقاظهم بتحريكهم والمناداة عليهم، أم يرفع صوته للأذان مثلاً؟ وماذا بالنسبة لغير العيال، هل يتوجب إيقاظ ضيفك إذا لم يطلب هو منك ذلك؟

ج : لا يجب من حيث الأصل على ربّ الأسرة ذلك، بل قد يحرم عليه ذلك إذا كان الأولاد بالغين وكانوا يتأذون بذلك أو ينـزعجون، وخصوصاً إذا كان عنده ضيوف، فليس له ذلك، لأنه ما غلب الله عليه فهو الأولى بالعذر، لكن إذا أحرز منهم أنهم لا ينـزعجون من ذلك وأنهم يرتاحون إليه، أو إذا حاول أن يوقظهم بطريقة محبّبة، فلا مانع من ذلك.

الجمع بين القضاء والنافلة

س : هل يمكن الجمع بين قضاء الابن الأكبر لما فات أباه من صلاة وبين التنفّل للصلاة المستحبة؟

ج : إذا كان قادراً على الجمع بينهما فلا مانع من ذلك، ولكن الإنسان إذا كان مكلّفاً بشيء، فعليه أن لا يتبرّع وهو مدين.

حـالات الاحتيــاط

س : هل هناك في الفقه احتياط على النحو الوجوبي والاستحبابي، وما هي مصاديق هذا الاحتياط؟

ج : الاحتياط إنما ينطلق من حالتين: فتارة هناك احتياط تفرضه القاعدة، فإذا فرضنا أنه علم إجمالاً بوجوب أحد الأمرين عليه، كما في وجوب صلاة الجمعة أو صلاة الظهر، ولم يستطع أن يحدّد أياً منهما الواجب، فهنا عليه احتياط الجمع بين الجمعة والظهر، أو لو علم الإنسان بنجاسة أحد الإناءين ولم يحدّد النجس منهما، فيجب عليه أن يهملهما معاً. وقد يكون الاحتياط من الشبهة قبل الفحص، كما لو فرضنا أن مجتهداً يواجه شيئاً لا يعلم هل هو حرام أم حلال، فقبل أن يفحص الأخبار، عليه أن يحتاط. وكذلك، إذا كان المكلّف لا يعرف رأي المقلد أو المجتهد فإن عليه أن يحتاط.

وهناك احتياطات تنطلق من بعض الشبهات، كما لو استنبط المجتهد من هذا الرأي أو ذاك ولم يحصل عنده جزم بالرأي، فهنا يطلق الاحتياط للمكلفين، فيكون المكلف من قبيل من يواجه الشبهة قبل الفحص، وقد تكون الاحتياطات ناشئة من أن المجتهد يتورّع ولا يريد أن يخالف المشهور، وقد أكثر الفقهاء المتأخرون من الاحتياط، بحيث إنهم أربكوا الناس بذلك.

حكـم صـلاة وصيـام

س : أعمل حالياً في الأردن، وكل(12) يوماً أسافر إلى سوريا وأبقى يومين أو ثلاثة أيام، فما حكم صلاتي وصيامي، علماً أن ظروفي تجبرني على البقاء في الأردن اثني عشر يوماً؟

ج : إذا كان عمله دائماً بهذا الشكل فإنه يصلي تماماً، لأنه يصدق عليه أنه كثير السفر.

*** [نقص من عنوان (في القضاء عن الأب) ص 651 إلى قوله (أربع ركعات احتياطاً) ص 651]

 

التصديق بعد القراءة

س : بعد الانتهاء من تلاوة القرآن نقول: صدق الله العلي العظيم، فهل ورد في ذلك نص؟

ج : لا، ليس هناك نصّ في ذلك، وإنما هو اعتراف بصدق الله تعالى: {ومن أصدق من الله قيلا} [سبأ:122]، وهو التزام إعلانيّ بأن القارئ أو السامع ينفتحان على كلام الله بالإقرار بأنه الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها.

قضـاء ديـن الميـت

س : هل يجزى أو يثاب المرء إذا قضى ما في ذمّة أمه أو أخيه أو أخته باعتبار أن الميت ينقطع عمله؟

ج : صحيح أنّ عمله ينقطع بمعنى أنه لم يعد له عمل، لكن دينه يقضى، فلقد جاءت امرأة إلى النبي(ص) وقالت له: إني حججت عن أبي، فهل ينفعه ذلك؟ قال(ص): "أرأيت إن كان على أبيك دين فقضيته عنه ألا ينفعه ذلك؟ قالت بلى: قال دين الله أحق أن يقضى". فهذا من قبيل قضاء الدين، وإذا كان عمل الميت قد انقطع فإن صلته لم تنقطع، أولسنا نقرأ في بعض الأدعية: "اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وتابع اللهم بيننا وبينهم بالخيرات". فالصلة بين الأحياء والأموات موصولة، والله يتقبل الهدايا بقراءة القرآن أو بالصدقة عن الميت أو بقضاء الصلاة عنه أو الحج وما إلى ذلك.

السلام عند الانتهاء من الصلاة

س : عند الانتهاء من الصلاة، هل يجوز السلام يميناً ويساراً؟

ج : يمكن ذلك بالقول: السلام عليكم يا ملائكة ربي، أو السلام عليكم، قاصداً الناس الذين عن يمينه ويساره.

التكبيـر ثلاثـاً

س : عند الانتهاء من الصلاة، هل يجوز عدم التكبير ثلاثاً؟

ج : لا يجب التكبير ثلاثاً، فالصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، وإذا قلت: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، خرجت من الصلاة وأصبح لك حرية أن تتكلم ما تريد من ذكر الله أو غير ذكر الله.

الحركة أثنـاء الصـلاة

س : إذا فقد المصلي أثناء الصلاة ما يصح السجود عليه كأن يأخذه الطفل، فهل له أن يخطو خطوات إلى الأمام لجلبه؟

ج : إذا بقي على اتجاه القبلة وأمسك عن القراءة ليأتي به فلا مشكلة.

المتأخـر عن الجمعـة

س : ورد في قول أحد خطباء المساجد أنه لا أجر ولا ثواب لمن يأتي الجمعة متأخراً، أي بعد صعود الخطيب المنبـر؟

ج : كيف ولربما اقتضته الظروف ذلك، وكان يحبّ أن يشهد الجمعة في أولها؟ نعم، ربما لا يحصل على ثواب الخطبة.

عدم القدرة على القضاء

س : لم تتح لي الفرصة لأداء صوم القضاء في العام الماضي حتى حلول شهر رمضان القادم، فهل يستوجب دفع الكفارة مجدداً، أم أن ذلك يستلزم القضاء فقط؟

ج : تارة يكون الإنسان قادراً على الصيام بين رمضانين ولم يصم، فهنا يجب عليه أن يقضي وأن يدفع الفدية، أما إذا لم يكن قادراً، كما بالنسبة للمرأة في فترة الحمل إذا كان الحمل يضرّها، فعليها الفدية وليس عليها القضاء.

الخوف من ضرر الغسل:

س: استيقظت على جنابة، وكان الجو بارداً، ولم يتبقّ لطلوع الشمس وقت طويل، فتيمّمت وصلّيت، فهل عليّ قضاء؟ وهل يجب عليّ أن أغتسل لصلاة الظهر، أم أنّ التيمم يسقط الغسل عن المجنب؟

ج: إذا كنت تخاف الضرر من الغسل فصلاتك صحيحة، والتيمم لا يسقط الغسل عن المجنب، بل يجب عليه الغسل، فالتيمم يسقط الغسل ما دام الغسل ضرورياً أو حرجياً، فإذا ارتفع الضرر فإنه يجب الغسل.

كثرة الشك في الحدث

س : يقول الفقهاء، إن كثير الشك لا يعتنى بشكّه، فهل يشمل ذلك الحدث والوضوء والغسل؟

ج : هذا مختص بالصلاة فقط.

القرآن في الصلاة:

س: هل يجوز في الصلاة المستحبة أن أقرأ أجزاء من القرآن؟

ج: يجوز لك ذلك في الصلاة المستحبة، بل يجوز أن يكتفى بقراءة الفاتحة.

الحروف القمرية والشمسية:

س: البعض منا يقلب الحروف القمرية والشمسية في لفظ بعض الآيات القرآنية، فهل يضر ذلك بالصلاة؟

ج: نعم، يضر ذلك بالصلاة، فعلى الإنسان المصلّي أن يراعي الأمور المعتبرة في اللّغة العربية.

تـارك الجمعـة

س : بعد منع صلاة الجمعة في العراق على أثر استشهاد السيد الصدر(رض) ما حكم تاركها الذي لم يجد أياً من العلماء يقيمها في منطقته؟ وهل يجوز أن يصلّيها مع أفراد أسرته في هذه الحال؟

ج : يجوز له أن يقيم صلاة الجمعة إذا توافر سبعة أشخاص لتوافر الشرط في انعقادها.

الابـن الأكبـر معـوّق

س : توفي شخص وفي ذمّته صلاة وصوم ويريد ابنه الأكبر أن يقضي الصلاة ولكنه معوق وصلاته من جلوس، فهل تجزي صلاته بهذا النحو عن والده؟

ج : يمكن له أن يستأجر من يصلي بدلاً عنه إذا لم يمكنه الصلاة عن والده من قيام، فإذا لم يستطع جاز القضاء عنه بقدر استطاعته، أي بالصلاة من جلوس.

صـلاة بلا توجـه

س : أصلي في البيت والمسجد، وصلاتي في البيت أسرع من صلاتي في المسجد، وكذلك في المسجد أعبث بيدي أقل من البيت وليس في نيتي أن أصلي للسمعة، فهل هذا يعتبر سمعة، ولكن لا أشعر فيه، وهل تبطل صلاتي بذلك؟

ج : لا تبطل الصلاة بذلك، لكن عليك أن تختار الموقع والحالة التي تكون فيها صلاتك بطمأنينة وتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى.

تعديل الوضع في الصـلاة

س : في الصلاة أثناء القراءة نرفع رجلنا قليلاً ونتقدم قليلاً لتعديل الحركة، فهل تبطل الصلاة أم يجب علينا السكوت عن القراءة؟

ج : نعم يجب السكوت عن القراءة، ثم تعديل الحركة.

تكبيرة الإحـرام

س : ما هو الوجه الصحيح لأداء تكبيرة الإحرام من حيث اللفظ، وهل هناك اعتبار بالنسبة لحركة الهاء؟

ج : لماذا الوسوسة؟ ألا تقولون في المظاهرات (الله أكبر) فهذه التكبيرة هي نفس التكبيرة، تكلموا في الصلاة كما تتكلمون بالشكل الطبيعي خارج الصلاة، وإلا فمن دخل الوسوسة تعذر عليه الخروج منها.

الشك في مسح الرأس

س : عندما أتوضأ للصلاة اليومية أشك في ما إذا كنت قد مسحت الرأس أم لا، فأضطر لإعادة الوضوء مرة ثانية، فهل يحق لي أن أمسح الرأس مرتين؟

ج : إذا شككت في مسح الرأس فتبني على عدم المسح، فتمسح مرة واحدة، لأنك شككت في المرة الأولى فلا حاجة للمسح مرتين.

الصلاة بالنجاسـة

س : من صلّى بالنجاسة وهو معتقد بالطهارة، ثم انكشف له ذلك وتأكد بأنه صلى بها يقيناً، فليس عليه أن يعيد صلاته ولو كان وقتها قائماً، فهل يشمل ذلك من كان جنباً؟

ج : هناك فرق بين نجاسة الجسد ونجاسة الثوب وبين النجاسة الحدثية، فـ"لا صلاة إلا بطهور"، فإذا ظنّ أحد أنه قد توضأ ولم يكن قد فعل، أو أنه تصوّر أنه مغتسل من الجنابة ولم يغتسل فصلاته باطلة جاهلاً كان أو عالماً. أما نجاسة البدن أو الثوب فمعفوّ عنها في حال الجهل.

إقامة الجمعة في العـراق

س : مرّت علينا ذكرى شهادة المرجع الكبير محمد الصدر(قده)، ما هو تقييمكم لإقامته صلاة الجمعة المباركة في العراق؟

ج : أعتقد أن إقامة صلاة الجمعة المباركة في العراق كانت من أشد البركات ومن أعظمها، لأنها استطاعت أن تجمع الناس على هذه الفريضة التي تركها الكثير من المسلمين، والتي هي الفريضة العبادية السياسية التي يريد الله أن يجتمع المسلمون من خلالها كلّ أسبوع ليلتقوا على اسم الله ويتدارسوا أمورهم ومشكلاتهم، وأعتقد أن السيد الشهيد الثاني (رحمه الله) استطاع أن يثير الوعي الإسلامي الأخلاقي في العراق، بما لم يستطع أحد إنجازه بهذه الطريقة الجماهيرية، ولذلك فهو يتميز بهذه الروح التي كان عليها منذ شبابه، فلقد عرفته من أطهر الناس وأكثرهم إخلاصاً لله تعالى، وإذا كان بعض الناس يناقشونه في بعض أفكاره أو بعض آرائه، فإن من الطبيعي أن يناقَش كل العلماء في بعض أفكارهم، وذلك لا ينتقص من فضله شيئاً.

ومنذ بداية صلاة الجمعة أصدرت بياناً وزّع في العراق في تأييد صلاة الجمعة، لأني أعتقد أن صلاة الجمعة لا بد أن تقام، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لم يهتم في القرآن بصلاة كما اهتم بصلاة الجمعة، وفي حديث للإمام الباقر(ع): "من ترك ثلاث جمع من غير عذر فهو ممن طبع على قلبه"، والنبي(ص) يعتبر صلاة الجمعة حجّ المساكين، فغير القادر على الحج ويريد أن يحصل على ثوابه، فليحضر صلاة الجمعة.

الصلاة وقت الأداء

س : إذا قامت الصلاة وأنا موجود في مكان وسافرت فجأة إلى مدينة البصرة، فهل تصح صلاة القصر أو الصلاة التامة في المكان الذي أنا فيه؟

ج : الصلاة هي في وقت الأداء، فإذا كنت مسافراً فإنك تصلي قصراً حتى لو دخل عليك الوقت وأنت في الحضر.

الجمعة في غير المدينة التي نسكن فيها

س : هل يجوز لي أن أقيم صلاة الجمعة في مدينة غير التي أسكن فيها؟

ج : يجوز ذلك، ولكن ينبغي تقوية صلاة الجمعة في مدينتك.

(الحمد) بعد الفاتحـة:

س : أثناء صلاة الجماعة نسمع بعض المصلين ينطقون بعد سورة الفاتحة بالثناء على الله فيقولون (الحمد لله رب العالمين) فهل هذا جائز؟

ج : يستحب للإنسان بعد سورة الفاتحة أن يقول (الحمد لله رب العالمين) وذلك بعد أن ينتهي الإمام من القراءة.

العدول إلى الصلاة المستحبة:

س : هل يصح العدول من الصلاة الواجبة اليومية إلى الصلاة المستحبة؟

ج : في بعض الحالات يستحب ذلك، كما لو كان يصلي صلاة واجبة وأراد ن يدرك الجماعة فإنه يعدل للصلاة المستحبة.

رابعا: الصيام والكفارات

كفّـارة المدخـن الصائـم

س : أفتيتم بحرمة التدخين، فلماذا لا تفتون بوجوب الكفارة على المدخن في شهر رمضان، مع أن ارتكاب المحرّم يوجب الكفارة؟

ج : ليس ارتكاب كلّ محرّم يوجب الكفارة، فاغتياب الناس في شهر رمضان والنظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة لا كفّارة عليه. إنما هي بالنسبة لمن يمارس المفطرات، نعم من يرى أن التدخين مفطّر يجب عليه الكفارة، أما من لا يرى أن التدخين مفطر ولكن يرى أنه حرام يكون مأثوماً ولا تجب عليه الكفارة.

الصيـام فـي مكـة:

س : في السنة الماضية ذهبت إلى مكة للعمرة في شهر رمضان، فهل يجوز لي أن أصوم في مكة أو في المدينة المنوّرة إذا كانت الإقامة أقل من عشرين يوماً؟

ج : إذا كنت نويت الإقامة في مكة أو في المدينة عشرة أيام فيمكنك ذلك، وإذا لم تنوِ هذه المدة فليس لك أن تصوم.

صـوم المصابـة بالشقيقـة

س : أنا مصابة بداء الشقيقة منذ مدة طويلة وأعاني من آلام شديدة من الجوع الذي يزداد بسبب الصيام، فهل يجب عليّ الصوم؟

ج : يحرم عليك الصوم، فإذا كان الصوم ضرراً للإنسان بحيث يزيد من مرض أو يحدث مرضاً فلا يجوز للإنسان أن يصوم.

في صوم القضاء:

س : الإصباح جنبا يبطل صوم القضاء فقط، فما هو الدليل على ذلك؟

ج : الدليل هو رواية فهم منها الفقهاء ذلك، ولم نفهم ذلك فلم نصدر الفتوى بذلك بل جعلنا الأمر مبنيا على الاحتياط.

كفـّارة نـذر صيـام

س : نذر شخص أن يصوم ثلاثة أشهر، وعندما صام اليوم الأول وجد أنه لا يطيق الصيام، فهل عليه الكفارة؟ وما مقدارها؟

ج : إذا كان لا يستطيع الصيام من ناحية صحيّة، فليس عليه شيء، لأنه يشترط في صيام النذر أن يكون مقدوراً وراجحاً.

س :وهل يجوز له أن يوكّل من يصوم بدلاً عنه؟

ج : لا تجوز النيابة بالنسبة للحي، لا في الصوم ولا في الصلاة.

صوم الصبيّة الحرج:

س : إذا بلغت البنت تسع سنين ولم تقدر على صوم شهر رمضان بكامله إلا بصعوبة، فهل يجب عليها الصيام ولو بهذه المشقة؟

ج : إذا كان الصوم حرجا عليها أي كانت تخاف الضعف والمرض فلا يجب عليها الصوم وتقضي إذا تمكّنت، أو تفدي إذا لم تتمكن من القضاء.

الفحص الطبي والصوم

س : هل الفحص الطبي يفطّر المرأة؟

ج : لا يفطّرها.

الضرر الذي يسبّبه الصوم

س : لي أخ مريض مصاب بالسكري والضغط، ويقول: إنني إذا صمت فإن الصوم يؤذيني، فهل يجب عليه الصيام؟

ج : لا يجوز له الصوم إذا كان يضرّه أو يخاف الضرر.

العـلاج أثنـاء الصوم

س : أنا مريض بالربو وأستخدم علاجاً خاصاً، فهل يجوز استخدامه في أثناء الصيام؟

ج : إذا كان من قبيل البخّاخ الذي لا ماء فيه وإنما هو أوكسجين فليس بمفطّر، أما إذا كان العلاج الخاص يوجب الإفطار، بحيث يدخل فيه الماء ولا يستطيع أن يعالج نفسه إلا به، فلا يجب عليه الصيام.

سقوط الصيام في بعض البلدان

س : تفتون بسقوط الصيام في بعض المناطق كما في شمال النرويج والسويد، حيث لا نهار ولا ليل، وعلى المكلّف القضاء، ألا يجري ذلك على الصلاة أيضاً؟

ج : هناك فرق بين الصلاة والصوم في هذا المجال، ففي الصوم لا بد في شهر رمضان من نهار وليل {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187]. فإذا انعدم النهار والليل فليس للصوم موضع.

أما بالنسبة إلى الصلاة فلدينا حديث يقول: "الصلاة لا تسقط بحال"، وليس عندنا حديث يقول: الصوم لا يسقط بحال، وعلى هذا الأساس فلا بد من الصلاة في هذه البلدان حتى لو انعدمت الأوقات الشرعية، فعلى الإنسان أن يصلي خمس صلوات مختاراً، والأحوط أن يصلي على ضوء مواقيت أقرب البلدان.

النيـة والفرار من الصـوم

س : كيف نوفّق بين الحديث الذي يقول: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى"، وبين مسألة الفرار من الصوم بقطع المسافة التي تسمح لقاطعها بالإفطار، وكذلك الحال بالنسبة للحيلة الشرعية التي تخلّص من الربا؟

ج : إذا سافر فإنه يحق له أن يفطر، لأن الصوم واجب الحاضر، أما المسافر فيقول تعالى عنه: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:185]. فالسفر ليس موضوعاً لوجوب الصوم، نعم ورد عندنا أن ما يخسره من الأجر أكثر مما يربحه من الراحة التي يجنيها في هذا المقام. أما بالنسبة للحيل الشرعية التي تخلّص من الربا فنحن نتحفّظ فيها ولا نفتي بها.

ضمـان فطـرة

س : نحن في سوريا منذ سبع سنين ولا تسمح لنا ظروفنا أن ندفع الفطرة، وقد أعطينا الفطرة إلى أناس محتاجين، ولكننا احتجنا إلى المال وصرفناه من أجل طعام إلى العائلة فماذا علينا؟

ج : إذا كان الذي أعطاك الفطرة أعطاك إياها على أساس حاجتك وعدم ملكك لمونة سنتك فلا مشكلة، أما إذا أعطاك إياها لتبعثها لآخرين فأنت ضامن لها وعليك أن تبعثها إلى من أرسلت إليهم.

صعوبـة الصيـام

س : لقد أفطرت شهر رمضان لمدة سبع سنوات بسبب صداع ونحول مستمر، وكنت أدفع كفارة لكل شهر، وحالياً لا أقدر على الصوم، فماذا أفعل؟

ج : لا يجب عليك القضاء إذا كان العذر مستمراً بين الرمضانين، بل يجب الفدية فقط.

خامسا: الخمس والزكاة

تأخيـر دفع الخمـس:

س : هل يجوز تأخير دفع الخمس لأسباب تتعلّق بظروف وإمكانية المكلّف، وهل الإجازة إن وجدت مطلقة؟

ج : لا بدّ أن يأخذ إجازة من الحاكم الشرعي حتى يرى هل أنّ الظروف تجوّز له أن يؤخّره أو لا.

توزيع الحقوق على المجاهديـن:

س : إني أقوم بتوزيع حقوق الخمس المترتبة عليّ سنوياً على المجاهدين العاملين في العراق وعوائل الشهداء والمعتقلين في سجون الطاغية، علماً أنني لا أرجع بذلك للحاكم الشرعي، فهل أكون مأثوماً؟

ج : ينبغي لك احتياطاً أن ترجع إلى الحاكم الشرعي ليجيزك في ذلك.

هل يجب الخمـس:

س : أنا شاب شرعت ببناء منـزل، ولكن لا يوجد معي المال الكافي لإكماله فمرّ عليه سنتان ولم ينته فهل يستوجب الخمس؟

ج : في رأينا أنه لا يستوجب الخمس، لكن على رأي السيد الخوئي(رحمه الله) إذا لم يسكن الإنسان البيت في السنة الأولى فعليه الخمس.

خمس معاش في البنك:

س : كنت معتقلاً في (سجن الخيام) لعدة سنوات، وعندما تحررت وجدت أن أهلي كانوا يقبضون معاشي ويودعوه لي في البنك، فهل هذا يستوجب الخمس أم لا؟

ج : نعم، يجب الخمس باعتبار أن هذا المال مجموع من عدة سنين هذا إذا كنت قد وكّلت أهلك في قبضه، أما إذا لم تحصل الوكالة فلا يجب عليك خمسه إلاّ بعد مرور سنة على قبضك له.

تخميس أموال الأطفال:

س : النقود التي ندّخرها لمستقبل الأطفال هل لها زكاة أو خمس؟

ج : على رأي المشهور أنها تخمّس، وفي رأينا أنها لا يجب فيها الخمس إلا بعد بلوغهم.

مـاذا أخـمّـس

س : إذا كان عندي رأس سنة للخمس وجاءت رأس السنة فخمّست وبقي عندي عشرون ألف ليرة، ثم جاءت السنة وصرفت هذا المبلغ ولم يبق عندي شيء، وبالتالي لم أخمس، وجاءت السنة الثالثة فصار عندي(25) ألف ليرة، فهل أخمس جميع هذا المبلغ أم أستثني الـ(20) ألف ليرة التي كانت عندي في السنة الأولى؟

ج : عليك أن تخمّس المبلغ كلّه، لأن لكل سنة رصيدها المستقل، فإذا ثبت أن هذه الـ(20) ألف ليرة المخمّسة هي للسنة الثانية، كانت رأسمالك مما ربحته في السنة الأولى وخمّسته. أما إذا جاءت السنة الثانية ولم يكن عندك شيء، فرأسمالك صفر ويحسب في السنة الثالثة على أساس الصفر.

تخميـس هديــة

س : شخص من مقلديكم عنده رأس سنة للخمس وهي بداية شوال، وجاءته هدية في رمضان، وجعل لها رأس سنة لوحدها، وعلم أنّ هذا لا يجوز على رأيكم، وأنه يجب أن يخمّسها في سنته، فماذا يفعل الآن وقد صرفت الهدية وليس عنده ما يخمّسه؟

ج : تبقى ديناً في ذمته ويخمّسها عند الإمكان.

هـل علـى هـذا خمـس

س : هل على زواج الابن وشراء السيارة وغيرها من المصروفات للأبناء خمس؟

ج : إذا كان من شؤون الأب أن يصرف على ولده بحسب وضعه فلا خمس في ذلك.

س : هل بناء المنـزل أو شراء الأرض أو صيانة المنـزل عليها خمس مع العلم أنها تستمر سنتين أو أكثر؟

ج : في رأينا أنه لا يجب الخمس في بناء البيت إذا كان الإنسان محتاجاً إليه في المستقبل ولم يستطع في وقت الحاجة أن يشتريه أو يبنيه، أما إذا كان عنده قدرة مالية بحيث يستطيع في وقت الحاجة الفعلية أن يبني بيتاً مثلاً فيجب عليه الخمس.

تخميس المـال المختلـط

س : المال الحلال المخلوط بالحرام هل يكون حلالاً بتخميسه؟

ج : لماذا يخمّس المال الحلال المختلط بالحرام؟ لأننا لا نميز الحلال فيه من الحرام، فالمال الحلال لا يخمّس، لكنه إذا اختلط بالمال الحرام ولم نميز الحلال من الحرام يكون التخميس سبباً لتطهيره. أمّا إذا كان مقدار الحرام معروفا أو مميزا فلا بد من إخراجه بمقداره أو بعينه قلّ أو كثر.

المصالحـة على الخمـس

س : صديق لي لم يخمّس في حياته، ويريد المصالحة، ورأس السنة هو في الأول من شهر أيلول، فماذا عليه؟

ج : يجب تخميس ماله لأنه قد مرّت عليه رأس السنة على كل حال، كما هو مفروض السؤال.

س : سنتي الخمسية تبدأ في 25ذي القعدة، وقبل مجيئي من ليبيا إلى هنا، وبينما كنت أرتّب حقيبتي، وجدت 30ديناراً ليبياً ولا أعلم هل وضعتها قبل سنة أو ثلاث سنوات أو قبل الخمس الأخيرة، ولكنّه ظنّ ضعيف، فماذا عليّ أن أفعل؟

ج : تعمل وفق اطمئنانك، والأفضل الاحتياط بتخميس هذا المبلغ.

القليـل من الخمـس

س : أحياناً يكون مبلغ الخمس أو الصدقات قليلاً، فيكون الشخص المخمّس محرجاً من إعطائه لمستحقه، فهل يجوز أن تشتري به شيئاً كملبس أو مأكل؟

ج : الأحوط الرجوع إلى الحاكم الشرعي في هذا الموضوع.ِ

الخمس مع راتب بلا عمـل

س : في دول أوروبا يستلم المقيم راتباً بدون عمل لحين تعلّمه لغة البلد، فهل يجب عليه الخمس؟ وإذا كان يجب، فكيف يحتسب؟

ج : إذا بقي هذا المال عنده إلى رأس سنته فيجب فيه الخمس.

تخميس مال مجموع لبناء مسجد

س : نحن في بلاد المهجر نقوم بجمع المال لبناء مسجد أو ما شابه من أعمال خيرية، فهل يجب علينا أن نخمّس المال الذي نجمعه؟

ج : لا يجب ذلك، لأنه أصبح كالوقف.

تخميـس كتـب

س : توجد لدي كتب اشتريتها، وقد حال عليها الحول، وفي هذه الحالة يجب عليّ الخمس، ولكن لا أملك المال لتخميسها، فماذا أفعل في هذه الحالة؟

ج : إذا كانت هذه الكتب مما يحتاج إليه الإنسان، لأنه في معرض الحاجة إليها، مثل كتاب لغوي يحتاجه بين الحين والآخر كمرجع، أو كتاب فقهي باعتباره في معرض الحاجة إلى الرجوع إلى المسائل الشرعية كلما دعت الضرورة، فلا يجب الخمس فيه. نعم، الكتاب الذي لا يحتاج كلية لا في هذه السنة ولا في السنة الثانية، وإنما يحتاجه بعد خمس سنوات أو ست سنين، فهذا يجب أن يخمّس، ويستطيع أن يخمّس الكتاب بمقدار الخمس ويدفعه إلى من يستحق.

تخميـس قـرض

س : أنا مقيم في إحدى الدول الأوروبية، حيث أدرس وأعيش على قرض دراسي يجب عليّ ردّه بعد التخرّج وحصولي على عمل، بالإضافة إلى الفوائد المفروضة على القرض وهي عالية جداً، وفي نهاية كلّ سنة يبقى عندي فائض مادي، فهل عليّ دفع خمس هذا الفائض علماً بأنه دين علي؟

ج : إذا كان هذا من الدين فلا يجب عليك الخمس، لأن الخمس إنما يجب في ما يربحه الإنسان ويكسبه، أما الدين فليس عليه شيء.

تخميـس شقـة

س : اشتريت أرضاً وبنيت عليها شقتين بمال مخمّس وغير مخمّس خلال سنوات عديدة، وبعد الانتهاء قرّرت السكن في إحدى الشقتين وحسبت المال المخمّس فكان يعادل أكثر من قيمة شقة واحدة، فهل علي تخميس الثانية أم تعتبر سكناً لي ولعائلتي؟

ج : إذا كنت محتاجاً إليهما جميعاً فيكونان من المؤنة، لكن إذا كان هذا المال غير المخمّس قد تعلّق به الخمس قبل أن تصرفه في الشقّة فلا بد من تخميسه على كلّ حال.

دفـع الخمس لغيـر المقلَّد

س : هل يجوز لمن يقلّد أحد المراجع دفع الخمس لمرجع آخر، فلقد سمعنا أن بعضهم يجوّز ذلك مع وحدة المصرف، فما المقصود بـ(وحدة المصرف)؟ أليس كل المراجع يصرفونه في سبيل الله؟

ج : بالنسبة لسهم الإمام(ع) يحتاط بعض المراجع في إعطائه لأي مرجع كان، وبعضهم يفتون بذلك ـ أي بعدم الجواز ـ وعلى رأي الذي يقول بالجواز مع وحدة المصرف، فلا مانع من إعطائه لمرجع آخر مع وحدة المصرف لأنهم قد يختلفون في بعض المفردات وبعض الجزئيات، فقد يرى هذا المرجع أن لا يعطي المال في هذا الجانب، بل يرجّح إعطاءه للفقراء أو للمشاريع الخيرية مع وجود الفقراء، وبعضهم يقول لا، لا يمكن أن يعطى للمشاريع الخيرية مع وجود الفقراء. فقد تكون هناك خلافات اجتهادية في مسألة المصرف.

تخميـس ذهـب

س : شخص استحق إرثاً من ذهب، فهل يخمّس هذا الذهب؟

ج : لا يجب تخميسه إذا كان الذي ورث منه قد خمّسه، أما إذا كان متعلقاً به الخمس في حياة من ورّثه، فيجب عليه.

س : فإذا استحق الخمس متى يجب التخميس؟

ج : إذا كان من ورثه لم يخمّس وكان متعلق الخمس فيجب أن يخمّسه فوراً.

س : وهل دفع الخمس للمقلد هو من باب الاحتياط الوجوبي؟

ج : أغلب المقلدين يقولون من باب الاحتياط الوجوبي، لكن لا من باب الفتوى.

تقسيـط خمـس

س : عليّ خمس من مال جمعته في أقل من سنة في أحد البلدان الأجنبية، ولي عائلة مكونة من عدد من الأطفال الذين انتقلت لأجلهم إلى سوريا، وأعيش وأنا وعائلتي من خلال أرباح ذلك المال، فإذا أردت إعطاء الخمس فسوف يؤثر ذلك على معيشتي، ولكنني قد أتمكن من ذلك بعد حين، فماذا أفعل؟

ج : إذا فرضنا أن الإنسان لا يستطيع دفع الخمس كلّه فعليه أن يستأذن من الحاكم الشرعي في أن يدفعه أقساط.

جمـع الزكـاة

س : لماذا لا يجمع مراجع وعلماء الشيعة الزكاة، وهي أوضح من الخمس ولا خلاف بين المسلمين عليها؟

ج : إن مراجع الشيعة كما هم مراجع المسلمين يجمعون الزكاة أيضاً، ولكنهم يختلفون في بعض الموارد التي يقول علماء السنة أن فيها زكاة في حين لا يرى علماء الشيعة ذلك.

وإلا فالزكاة ثابتة في النقدين والغلاّت والأنعام والذهب والفضة، بل إننا نحتاط ـ كما هو رأي علماء آخرين ـ احتياطاً وجوبياً في زكاة مال التجارة والنقدين بالإضافة إلى الخمس.

التخميـس ابتـداءً

س : الذي يخمّس أمواله ابتداءً ولم يسبق له أن خمّس من قبل، فهل يخمّس الملابس وأثاث البيت؟

ج : إذا اشترى الملابس من أرباح السنة أو اشترى مؤنة البيت من مكتسبات السنة، أو لم يشتر البيت من مال مجمّد وإنما جمعه تدريجياً فلا خمس فيه على رأينا.

سادسا: الحج والعمرة

غيـر مستطيـع:

س : إذا لم يستطع الحاج ذبح الهدي بسبب الفقر، ولم يستطع الصيام لمرض مثل القرحة، فماذا عليه؟

ج : هذا غير مستطيع للحجّ كلية لأنّ الاستطاعة تعني أن يكون متمكنا من الإتيان لفروض الحج ماليا وجسديا.

س : بالنسبة للأيام العشرة التي يصومها الحاج ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، هل يجوز له أن يصوم يومين ويفطر ثم يصوم الباقي عند العودة؟

ج : الأحوط الموالاة في السبعة أما الثلاثة الأيام – في الحج- فيعتبر فيها الموالاة.

فـي التظليـل

س : ذهبت إلى أداء فريضة الحج وأجبرت على ركوب سيارات لا يسمح الصعود فوقها، وكان ذلك من الميقات، وفي اليوم التاسع تسنّى لي الركوب على سطح السيارة، وكنت مريضاً، فلم أصعد، فهل تجب عليّ الكفارة في الحالتين؟

ج : في الحالة الأولى إذا كان الإنسان مكرهاً على الصعود لا يجب عليه الكفارة، وفي الحالة الثانية إذا كان مريضاً تجب عليه الكفارة.

طواف النساء والوداع

س : تزوّج شيعي من فتاة سنية، فطافت طواف الوداع ولم تطف طواف النساء، وبالعكس، فقد تزوجت فتاة شيعية من فتى سني، فطاف هو طواف الوداع وطافت هي طواف النساء، فهل يجزي؟ وهل تحلّ له ويحلّ لها؟

ج : ((ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم))، فإذا طافت السنية طواف الوداع بحسب مذهبها فلا مشكلة، وكذلك السنيّ، فلا تحرم السنيّة على الشيعي ولا تحرم الشيعية على السني إذا كان كل منهما يطوف بحسب مذهبه، هذا بالإضافة إلى أن طواف النساء يوجب الحرمة على تاركه لا على الطرف الآخر من الزوج أو الزوجة.

الاستطاعة مرة واحدة

س : هل يجب على الشخص حج بيت الله الحرام عدة مرات بحسب استطاعته؟

ج : بل مرّة واحدة {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97]، فلا يتكّرر الوجوب بتكرّر الاستطاعة.

عمرة بدون طواف نساء

س : قام شخص بعد أداء مناسك الحج بعمرة نيابة عن والده المتوفى، ولكن بدون طواف نساء، فهل تحرم زوجته عليه؟

ج : عليه أن يطوف طواف النساء، لأن طواف النساء تكليف المحرم نفسه وليس تكليف من ينوب عنه.

طـواف وسعـي

س : هل لطواف القدوم إلى الحج سعي؟

ج : نعم، لا بد من السعي، لأن المراد بطواف القدوم حسب السؤال هو طواف الحج وطواف الحج يجب معه السعي إلا إذا كان الطواف مستحباً فلا حاجة معه للسعي.

استطاعـة بنـت

س : هل يوجب غضب الأم على ابنتها التي تريد الحج، بحيث تمنعها لأن عندها أولاداً صغاراً من القيام بواجب الحج إذا كانت مستطيعة؟

ج : إذا كانت البنت مستطيعة للحج، فلا يجوز لها أن تطيع أمها، لأنه: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وعليها أن تتدبر أمر أولادها الصغار مع أمها أو مع من يقوم بشؤون الرعاية في غيابها.

هل يجوز الجمـع

س : لقد نويت أن أحج قربة إلى الله تعالى، لأجل شخص لا يجب عليه الحج، ولكن شخصاً أعطاني مبلغاً لكي أحجّ فيه لشخص آخر، ولقد مات هذا الإنسان ولم يجب عليه الحج من قبل، فهل يجوز لي أن أجمع بالحج عنهما؟

ج : لا يجوز لك ذلك، لأنه إذا دفع لك لتحج عن شخص، فمعنى ذلك أنك أصبحت نائباً عنه، وإن كان حجاً مستحباً، فلا يجوز أن تحج عن شخصين مع كونك نائباً عن أحدهما، بل إن مشروعية الجمع في النية عن شخصين أو أكثر في حالة التبرع عنهما.

سابعا: الزواج والطلاق

 الـزواج بالملحـدة:

س : ما حكم عقد الزواج من غير أهل الكتاب من الكفّار والملاحدة؟

ج : لا يجوز الزواج إلا من المسلمة أو من الكتابية، أما الهندوسية أو البوذية أو الملحدة فلا يجوز الزواج بهنّ.

إخبـار الزوجة الثانية بالزواج الأول:

س : لي زوجة في بلدي ولا أستطيع العودة إليه ويصعب عليّ أن أحضرها قبل سنة أو سنتين وأرغب بالزواج من فتاة من بلاد أخرى، فهل واجبي الشرعي إخبارها بزواجي الأول؟ وإن لم أذكر ذلك فهل يؤثر ذلك على صحة العقد؟

ج : إذا كانت كتابية فلا يجوز له أن يتزوّج من كتابيّة إذا كانت لديه زوجة مسلمة بالعقد الدائم، أما بالعقد المنقطع فيجوز ذلك، ولكن عندي وجهة نظر إسلامية ربما تنطبق عليها بعض العناوين الشرعية، فالزوج الذي يغيب عن زوجته سنتين وثلاث وأربع وعشر سنين ويتركها معلّقة، ينسى أنّ لها حاجات مثل ما له من حاجات مادية كالنفقة، ولها حاجات غريزية أيضاً كما أنّ له حاجات مماثلة، ولكن لدى بعض الأزواج حالة أشبه ما تكون بحالة وحشية وليس إنسانية، فلا مشكلة لديه أن تعيش زوجته معلّقة على ذمّته(20) سنة وهو يأخذ حريته في الزواج المنقطع والدائم.

وفي هذا المجال نقول: إمّا أن يعرض عليها الطلاق وإما أن يحاول أن يأتي بها، فالله حلّل للرجل أن يتزوج بالعقد المنقطع والدائم أكثر من زوجة، ولم يحلّل ذلك للزوجة، فلا بدّ أن تشعر بمشاعرها الإنسانية، وهذه القضايا على أهميتها يخجل بعض الناس من الحديث عنها، حتى أن الكثير من الأزواج يريد من زوجته أن تستجيب له في كلّ وقت، لكن عندما تكون لدى زوجته حاجات غريزية فإنه لا يلبيها لها، والله جعل الزواج مودّة ورحمة {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة} [الروم:21]. وهذا ضد الرحمة: ولسنا في وارد هل أن ذلك حلال أم حرام؟ وإنما هناك أخلاقيات إسلامية، فقد قال الله للنبي(ص): {يا أيها النبي لِمَ تُحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم:1]. والنبي لم يحرّم تحريماً تشريعياً بأن قال هذا حرام، لكن إنسانيته كانت تحرم نفسه مما يشتهيه، لأن زوجاته لا يرغبن في ذلك، ولذا ورد في حديث النبي(ص): "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، لكننا للأسف ليس عندنا تربية أخلاقية، حتى في أوساط بعض المتدينين الذين لا يحسنون التعامل مع زوجاتهم.

قـرار الزوج بعدم الإنجـاب:

س : هل يحقّ للزوج أن يقرّر عدم الإنجاب لسببٍ ما؟

ج : له أن يقرّر، ولكن مرة يقرّر ذلك بعد إنجاب عدة أولاد، ومرة يقرّر أن يحرم زوجته من الولد، فهذا ليس معاشرة بالمعروف، ولكن للزوجة الحق أيضاً أن تقرّر هذا الإنجاب بعدما يكون عندها ولد أو ولدان حتى لو أن الزوج لم يرد الإنجاب، ولا يجوز له أن يجبرها على الإجهاض كما يفعل بعض الأزواج، اولاً لأن الإجهاض محرّم – من حيث المبدأ، وثانيا لأنه لا سلطة له عليها في ذلك.

الزواج بالأجنبية أو بالمسلمة؟

س : أنا شاب لاجئ في دولة غربية ومتزوج من إحدى الكتابيات زواجاً منقطعاً مدة طويلة، وإني مرتاح ومنسجم جداً معها، وأرغب أن يكون الزواج دائما، ولكن المشكلة هي أنّ أهلي لا يرغبون بذلك، وقاموا بخطبة فتاة في بلدي مع أني لم أرها، وأني أنازع نفسي بذلك، فهل أتزوّج الفتاة الغربية وأخسر أهلي ومعارفي، مع العلم أنها قد قدمت لي خدمات كبيرة جداً، أم أتزوج الفتاة التي اختارها أهلي لي وأخسر من أحب؟

ج : الزواج هو حياة شخصية للإنسان، فلا بد أن يتزوج المرأة التي يشعر بالانسجام التام معها وبالمحبة والمودة والرحمة والمعاشرة وما إلى ذلك من هذه الأمور. والأهل ليس لهم أن يتدخلوا ليفرضوا على ابنهم زوجة لا يعرفها ولا يحبّها ولا يشعر بالانسجام معها، وخصوصاً الإنسان الذي يكون مرتبطاً بامرأة أخرى يحبها، ومعنى ذلك أنه حتى لو تزوج الثانية فسوف يظلّ فكره مع الأولى ولا ينجح زواجه الثاني. ولكننا نقول إننا ضد مسألة الزواج بالأجنبيات أولاً، باعتبار أن عندهن تقاليد خاصة كالحرية التي تختلف عما هو عندنا من تقاليد، وربما تشعر بالظلامة عندما تعيش معنا. وثانياً لأنّ هذا يسيء إلى المسلمات اللواتي يعشن في بلاد المسلمين، فإذا كان كلّ من يذهب إلى بلاد الغرب ويتزوج الأجنبيات فمن يتزوج المسلمات؟ ومن الناحية الاجتماعية فإذا كان يشعر السائل أن هذه المسألة تمثل شيئاً أساسياً بالنسبة له، فعليه أن يعرف مصلحته ويقنع أهله.

مع ملاحظة أخرى وهي أنه إذا أراد أن يفارقها فليفارقها بالمعروف من باب الوفاء لها أمام خدماتها التي قدمتها له، ومن جهة الانطباع الإيجابي الذي لابد أن تحمله - معها – عن أخلاقيات الإنسان المسلم في تعهداته لها بالتحدث لها عن ظروفه القاهرة التي ضغطت عليه.

الشك في الانتماء للإسلام:

س : تقدّم لأختي شاب نشك في أصل انتمائه إلى الإسلام، ونحن متردّدون في الموافقة، فماذا نفعل؟

ج : "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه" أما إذا جاءكم من تشكّون في خلقه ودينه فعليكم الحذر والتحفّظ قبل أن تسلّطوه على مؤمنة.

منـع حـق المعاشرة:

س : هل يجوز للزوجة منع زوجها حقّ المعاشرة بحجّة الطلب منه إيجاد حلّ لوضعها لأنه يعيش في بلد آخر ولا يقدر على نقلها إليه؟

ج : لا يجوز لها ذلك، وعليها أن تقنعه بطريقة أخرى.

الزواج عن طريق الإنتـرنت:

س : هل يجوز الزواج من امرأة مثلاً عن طريق المراسلة أو حتى على الإنترنت، بحيث يتفقان على الزواج، وما هو الواجب على الطرفين فعله؟

ج : من حيث المبدأ يجوز عقد الزواج بأية وسيلة ممكنة، ولكن على الإنسان أن يتزوّج المرأة التي يستطيع أن يتعرف عليها معرفة تكفي لاتخاذها شريكة لحياته، وهي لا بدّ لها أن تتعرّف عليه، ولا أدري هل أن المراسلة أو الإنترنت يكفيان لإحراز ذلك، فإذا استطاع كلّ منهما أن يتعرّف على شخصية الآخر ويثق بأنّه قادر على أن يعيش السعادة معه فلا بأس بذلك.

الـزواج بالمبادلـة:

س : هل يجوز الزواج بالمبادلة، كأن يتزوج إنسان فتاة فيقول أخوها للعريس زوّجني أختك في المقابل ولا تدفع لنا شيئاً من المهر ولا ندفع لك شيئاً؟

ج : هذا زواج الشغار، وهو أن يجعل مهر أخته المرأة الأخرى، وهو غير جائز شرعاً، ذلك أنّ كل واحدة من الزوجتين مستقلة في نفسها وإرادتها وليس لأخيها أن يتبرع بمهرها أو يجعلها مهرا لامرأة أخرى، ولا بد أن يدفع كل واحد من الزوجين مهر زوجته.

العقـد علـى عاصيـة

س : شخص عقد على ابنة خالته وهي في دولة أخرى، واكتشف أنها لا تنفعه، فهي تعصيه دائماً وثمة أمور أخرى سلبية، وهو يريد أن يفسخ العقد ويعلم أنه إذا فسخ العقد فإنه يقطع العلاقة بين أهله وبين خالته، فماذا يصنع؟

ج : إذا كان يرى أنّ زواجه منها سوف لن يكون فيه طاعة لله ومصلحة له، فيجوز له أن يفسخ العقد، وعلى أهله أن يتدبّروا أمرهم وهو غير مسؤول عنه.

ادعـاء الانفصـال

س : هناك ظاهرة شائعة في البلدان الأوروبية، وبالخصوص في أمريكا، وهي سيئة جداً، لأنها تمسّ بصورة مباشرة بسمعة المسلمين، وهي ادّعاء الزوج أو الزوجة أمام الدوائر الحكومية بأنهم كشريكي حياة منفصلون مطلّقون، والحقيقة هي عكس ذلك، وقد كشفت السلطات الحاكمة بعض تلك الحالات وصار شائعاً بأنّ المسلمين محتالون وكاذبون، والأنكى من ذلك أن هناك فتوى من سماحة السيد الخوئي تبيح الكذب والاحتيال على الكافر وهم يستغلّونها؟

ج : أولاً، هذا العمل محرّم في ذاته، لأنه كذب، فمن يقول طلّقت زوجتي أو تقول طلّقت زوجي كيما تحصل على معاش مستقل عن زوجها وهي على ذمّته فإنها تكذب، والكذب حرام، سواء كان على الكافر أو على المسلم، لأنّ الكذب يمسّ حيثية الكاذب ولا يتصل بالآخر، ثم إنّ الكافر يمكن أن يقول لك إنّك تؤمن وتصلّي وترفض الزنا، فكيف تعاشرها مثل معاشرة الصديق لصديقته والعشيق لعشيقته؟ أليس الزنا حراماً عندكم؟ فإذا كنتم مطلّقين فعلاقتكم هذه علاقة زنا. علاوة على ما في ذلك من هتك لحرمة المسلمين بشكل عام، بما يستلزمه من تشويه صورتهم في نظر الناس بالنفاق السلوكي. وأما الكلام الذي ينسبونه للسيد الخوئي(رحمه الله) فكلام غير صحيح، فالسيد الخوئي لا يجيز الكذب لا على الكافر ولا على المسلم، وهو لا يجيز الاحتيال بهذه الطريقة لا على الكافر ولا على المسلم، ولكن من يكذب على الدولة يكذب على السيد الخوئي رحمه الله.

الحضانـة لـلأب

س : طلّق رجل امرأة وتزوج من غيرها ولهما طفل عمره خمس سنوات، فهل أنّ القانون الإداري هو مع استرجاع الطفل وأخذه من الأب؟

ج : إن الحضانة للأب وليست للزوجة

حضـانـة الطفـل

س : هل حضانة الطفل ذكراً كان أم أنثى للأم أو للأب، وما هي الفترة التي يبقى فيها عند الأم ليعود بعدها إلى الأب؟

ج : الحضانة للأم سنتان وهي سن الرضاع، وبعد ذلك تكون الحضانة للأب إلا أن يتنازل، والحضانة للأب إذا كان أميناً على ولده، وأما إذا لم يكن أميناً، بل كان يضطهده ويتعسّف، كما لو تزوّج امرأة تضطهد هذا الولد وتسيء تربيته، فعند ذلك يحق للحاكم الشرعي أن يتدخّل ويأخذه، وقد يعطيه لأمه أو لشخص آخر.

حضـانـة البنـت

س : هل صحيح أنّ حضانة البنت تختلف عن حضانة الولد، فقد قرأت في بعض الكتب أنّ الأم أولى بحضانة البنت إلى عمر سبع سنوات؟

ج : هناك اجتهادات تقول إنّ حضانة البنت بالنسبة للأم هي سبع سنوات ولكننا لا نرى ذلك.

س : ما هي أقصى وأطول مدة للحمـل؟

ج : يُقـال السنـة.

هجـران لأربعـة أشهـر

س : لي زوج هجرني لمدة أربعة أشهر، وقد سألت أحد المشايخ، فقال لي يحق لك الزواج ما دام قد هجرك هذه المدة من دون طلاق؟

ج : أي شيخ هذا؟ فالحكم هو أنه لا يجوز انفصال المرأة من زوجها إلا بطلاق منها أو طلاق الحاكم الشرعي إذا توفرت عناصر الطلاق، هذا شيخ جاهل يفتي بما ليس له به علم.

إخبـار الزوجة بالزواج من أخرى

س : هل من الضروري شرعاً أن أخبر زوجتي، سواء كانت قريبة مني أو بعيدة، بأني سوف أتزوّج من امرأة أخرى، سواء كانت مسلمة أو كتابية زواجاً مؤقتاً؟

ج : إذا أردت أن تتزوج زواجاً دائماً فلا يجوز لك الزواج بالكتابية إذا كان لك زوجة مسلمة إلا بإذنها، أما المؤقت فاختلف العلماء فيه، فبعضهم لا يجوّز إلا باستئذان الزوجة، ولكننا نجوّز ذلك في زواج المؤقت. أما الزواج بالمسلمة دائماً أو مؤقتاً فلا يشترط فيه الاستئذان من زوجته المسلمة.

عقـد مؤقـت على مسيحية

س : أقيم في أوروبا ولي ولد يبلغ من العمر(19) سنة ولديه علاقة بفتاة مسيحية ملتزمة لا تشرب الخمر ولا تدخن وليس لها علاقة بشخص آخر، وقد عقد عليها عقداً مؤقتاً، فهل أتركه يستمر أم أضغط عليه لتركها؟

ج : يجوز الزواج في رأينا ورأي جماعة من العلماء بالكتابية دائماً ومؤقتاً، وما دامت المرأة في نص السؤال لا تشرب الخمر وليس لها علاقة بآخرين، فليحاول أن يجعل من هذا النوع من الالتزام الأخلاقي والديني الطريق لأن يقنعها بالإسلام. ولكن لا بدّ من دراسة النتائج المستقبلية على حياة الولد وسلوكه في الخط الإسلامي، فإذا لم يكن هناك أية سلبية في ذلك، فاعمل على أن تترك له حريته في ذلك، ولكننا نفضل له الزواج بالمسلمة، إلا إذا كانت ظروفه لا تسمح بذلك.

إلحـاق ابن الزنـا بأبيـه

س : هل يجوز إلحاق ابن الزنا بأبيه نسباً، وهل له كلّ ما للابن الشرعي من ولاية ورعاية ونفقة عدا الإرث؟

ج : رأينا، والذي يتفق مع رأي السيد الخوئي(رحمه الله)، هو أن ابن الزنا ولده 100% ما عدا الإرث، فلا يرث أباه ولا يرثه أبوه، لكنّه ولده من حيث وجوب النفقة والرعاية وما إلى ذلك، وهو ابن حقيقي، لأن الدليل نفى ولديته من ناحية الإرث ولم ينفِ ولديته مطلقاً. لكن هناك آراء مشهورة عند العلماء الآخرين يقولون بأن ولد الزنا ملغى تماماً.

قدرة المرأة على الخلع

س : ما رأيكم لو ساءت علاقة زوجين، هل يجوز للمرأة الخلع أم لا؟

ج : يجوز لها أن تبذل لزوجها ليطلّقها إذا كانت لا تستطيع أن تطيع الله في علاقتها به ولكن لم يثبت وجوب استجابته لها في ذلك من الناحية الفقهية.

تـرك زوجـة لزوجها

س : امرأة مسنّة تركت زوجها المسنّ والمريض وسافرت وزوجها غير راضٍ عنها، فما الحكم الشرعي في ذلك؟

ج : لا يجوز لها ذلك.

تخلّف المرأة عن سفر زوجها

س : هل يجوز للزوجة أن تتخلّف عن زوجها وتتركه عند ساعة سفره، خاصة وأن سفره نجاة له من المخاطر؟

ج : عليها أن تتبعه في حضره وسفره إذا لم يكن هناك مانع شرعي.

رؤيـة الخاطـب للمخطوبـة

س : كيف يمكن أن يتحقّق هذا الذي تتحدثون عنه، وخصوصاً أن الخاطب لا يسمح له في أكثر الأحيان برؤية من يريد أن يخطبها، فكيف له أن يدرس فكرها ومذهبها ومزاجها؟

ج : الإسلام حلّ المشكلة، إذ يجوز للإنسان أن ينظر إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها وترقّق له الثياب من ناحية الشكل، أما أن يجلس ويتحدث معها حسب الأصول الشرعية، فهذا جائز أيضاً، ولكن بعض تقاليدنا غير إسلامية، حتى أننا صرنا أكثر غيرة من الله سبحانه وتعالى، فالله يقول يجوز ونحن نقول لا يجوز.

 الخروج مع الزوج أثناء العقد

س : رجل عقد على فتاة ولم يدخل بها وهي لا تزال عند أهلها، وذلك بانتظار إجراء الزفاف، فهل يحقّ لها أن تخرج بدون إذن زوجها مع رضا أبيها بذلك ومعارضته لتبعية زوجته له بدعوى أنها لم تصبح زوجة له انطلاقاً من المنظور العرفي في هذا المجال؟ علماً أن والدها سنيّ، فما هو رأي علماء أهل السنّة في ذلك؟

ج : على رأي من يقول إنه يحرم خروج المرأة من البيت من دون إذن زوجها إذا كانت في بيت زوجها فلا يجوز، أما إذا كانت خارج بيت الزوجية فلا يشملها هذا الحكم، لا سيما إذا قلنا إن الخروج ينافي حقّ الاستمتاع والاستمتاع لا يكون في هذه الفترة السابقة على الزفاف.

متقـدّم للـزواج لا يصلّي

س : تقدّم شاب لخطبة أخت لي وهو مثقّف ومتعلّم ويقول إنه يؤمن بوجود الله وهو مسلم إلا أنه لا يصلّي ولا يصوم، فبم تنصحونني باعتباري أخاها؟

ج : لا ننصحك بتزويج أختك منه، لأنّ المرأة تأخذ من دين زوجها.

س : قرأت في أحد أعداد (بيّنات) بأنّكم جوّزتم استئجار رحم ووضع بيضة مخصّبة داخله، وأن المولود الجديد يجوز له الزواج منها، فأرجو ربط ذلك بما يخصّ المرأة المرضعة؟

ج : نحن لم نتحدّث بهذا الشكل، فنحن نستشكل في أن توضع نطفة رجل مخصّبة في رحم امرأة أجنبية، فلو حدث مثل هذا المعنى، فبهذه الصورة لا يستبعد أن تكون الحامل هي بمثابة المرضع، وعندنا إشكال في الزواج منها، فنحن نقول ذلك باعتبار الأحاديث التي دلّت على تحريم الرضاع إذا كان عشر رضعات، لأنها تنبت اللحم وتشدّ العظم، فأساس تحريم الرضاع هو إنبات اللحم وشدّ العظم، فالطفل يتغذى من دم الحامل مما سيكون فيه إنبات اللحم وشدّ العظم بشكل أكبر.

الإجهـاض خلال(40) يومـاً

س : أغلب أطباء الأمراض النسائية لديهم فتوى بجواز الإجهاض حتى(40) يوماً، وتراجعني بعض النساء كوني طبيبة بهذه الفتوى، وأنا ألتزم بأنه لا يجوز ذلك، فهل ينطبق عليّ "ألزموهم بما ألزموا أنفسهم" أم أبقى على موقفي؟

ج : إبقي على موقفك، لأنه لا يجوز الإجهاض حتى في اليوم الأول للحمل، إلا إذا كان الحمل يؤدي إلى ضرر صحّي بالغ قبل نفخ الروح، ففي هذه الحالة يجوز. أما إذا كان يؤدي إلى ضرر بعد نفخ الروح فلا يجوز، إلا إذا كان الحمل فيه خطراً على الحياة، وهذه فتوى السيد الخوئي (رحمه الله) ونحن نوافقه عليها.

تحريـر عقد زواج شكلـي

س : حصلت أمامي حادثة غريبة، حيث إن رجلاً اراد السفر مع عائلته إلى الخارج حيث يقيم إخوته وأمّه، وجاء أخوه من الخارج وأخبره أن الطريقة الوحيدة هي أن يعملوا على تحرير عقد زواج رسمي بين زوجة الرجل الذي يريد السفر وبين أخيه، ويتم هذا العقد في المحاكم الرسمية دون أن يطلّق الزوج ودون انقطاع لأي شكل من الأشكال للعلاقة الزوجية، وكما هو معروف فإنه أثناء العقد يجري ما يعرف بالقبول والإيجاب، مثل زوّجتك نفسي وقراءة سورة الفاتحة، فهل يجوز هذا؟ وما هي كفّارته؟

ج : حرمة هذا العمل في الكذب فقط، فطالما أنه لم يترتب عليه شيء لأنه مجرد حالة شكلية، فلا هي تصبح زوجته ولا هو يصبح زوجاً لها، فهذا زواج باللفظ وليس زواجاً حقيقياً، لأنه لا يقصد به الزواج ولا معنى العقد عندما ينشئانه، فهو ليس حراماً من ناحية الزوجية، ولكنه قد يكون حراماً من ناحية الكذب.

الزواج الذي يوجـب التحليـل

س : المرأة المطلقة ثلاثاً إذا تزوجت زواجاً منقطعاً هل يحق لها الرجوع؟

ج : لا يجوز ذلك، لأنه {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229]. {فإن طلقها فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما} [البقرة:230]. فهذا يعني أن الزواج الذي يوجب تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول إنما هو الزواج الذي يعقبه الطلاق، والزواج المنقطع ليس فيه طلاق وإنما ينتهي بانتهاء المدة.

فصـل التوأميـن

س : بخصوص ما أثير مؤخراً حول فصل التوأمين في بريطانيا من حيث الجواز وعدمه، ما هو رأي الشريعة في ذلك، حيث يلاحظ أن الفصل يؤدي إلى موت أحدهما لوجود قلب واحد؟

ج : إذا كان التوأمان كذلك، فلا يجوز الفصل بينهما، بل لا بد من إبقائهما ملتصقين.

الـزواج بثانيـة غير علويـة

س : هل يجوز التزوج بثانية غير علوية إذا كانت الأولى علوية؟ وهل يجوز الجمع بين زوجتين علويتين؟

ج : نعم يجوز ذلك، ولكن بعض الناس يقولون إن الزهراء(ع) تتأذى من ذلك، وهي أعظم وأجلّ من أن ينسب إليها ذلك، لأن الزهراء(ع) هي العالمة غير المعلّمة، العالمة بالإسلام كله، ولا يمكن أن تكره ما أحلّ الله سبحانه وتعالى.

زواج الزانيـة أثنـاء الحمـل

س : إذا حملت امرأة من الزنا وتزوجت برجل آخر في فترة الحمل، فهل يصحّ ذلك باعتبار أن لا عدة في الزنا؟ وما فلسفة ذلك؟

ج : يصحّ الزواج لأنه لا عدّة لماء الزاني، لكن الولد هو ولد الزاني وليس ولد الزوج الجديد، وأما فلسفة ذلك، فإن الزنا لا حرمة له، والحرمة إنما تكون للعلاقة الشرعية.

غسل وتكفين الزوج لزوجته:

س : في حال وفاة الزوجة هل يحق للزوج القيام بتغسيلها وتكفينها في حال وجود من يقوم بذلك؟

ج : الزوج أولى بتجهيز زوجته، ولكن بعض الناس يتصوّر أنّ المرأة تحرم على زوجها عندما تموت فلا يجوز تغسيلها من قبله، ولكن الحرمة المقصودة هي حرمة بالمعنى الجنسي، وإلا كيف قام الإمام علي (ع) بتغسيل الزهراء (ع) حسب الروايات.

هل هي زوجته:

س : عقد أحد الشباب على فتاة بمهر معين لكنه لم يعطها شيئا منه وكان العقد شرعيا دائما ولم يدخل بها، فما هي حدود العلاقة بها إلى حين دفع المهر؟

ج : هي زوجته شرعا بمقتضى العقد وعليه أن يدفع مهرها إلاّ إذا طلّقها قبل الدخول فإنّ عليه أن يدفع نصف المهر.

زرع البويـضـة

س : هل يجوز زرع البويضة في رحم المرأة من قِبَل الأطباء لكي تنجب من قِبَل الزوج وغيره؟

ج : أما من الزوج فهناك بعض الفتاوى التي تجيز ذلك، ولكن هناك من يتحفّظ في هذه المسألة، ونحن منهم، مع ملاحظة أخرى وهي أن الولد يتبع صاحبة البويضة لا المرأة الحامل، لأنّ الحمل يأتي نتيجة عملية تلقيح النطفة والبويضة، الأمر الذي يجعل صاحبة البويضة شريكة في تكوينه، أما الحامل فلها دخل في نموّه. ولكن الولد إذا جاء وكانت النطفة من الزوج فالولد شرعي. وأما من غيره فلا يجوز أن توضع النطفة في رحم غير الزوجة، بمعنى أنه لا يجوز للإنسان أن يضع نطفته في رحم من تحرم عليه، كما جاء في بعض الأدلّة، سواء بويضة المرأة ذاتها أو بويضة أخذت من الخارج.

المهـر بقيمته الحاليـة

س : تطالب زوجة بمهرها المؤجل، فهل يعطيها زوجها المبلغ المحدّد بالدينار العراقي بما يساوي الدينار في وقت عقد المهر أم بالعملة الحالية؟

ج : بل بقيمة التاريخ السابق، فليس المقصود بالعملة الورق وإنما مالية الورق، فعليه عند المطالبة أن يدفع لها مهرها بالقيمة المالية للدينار، أي بما يعادله من عملة الصرف، كالدولار أو قيمة الذهب.

عقد قران من لم يقلّد

س : تزوّج شخص ولا يريد تقليد أي مرجع، فهل عقد قرانه باطل؟

ج : عقده صحيح، ولكن المسألة هل أن عمله صحيح أو ليس صحيحاً؟! إذ لا بد في العمل من الاعتماد على حجة، وإلا فهو كمن يريد أن يأخذ الدواء دون الرجوع إلى الطبيب، من دون أن يكون له خبرة في ذلك.

العودة للمطلقة رجعياً

س : لو أراد الرجل الذي طلّق زوجته طلاقاً رجعياً أن يعود إليها فرفضت، فهل تعتبر زوجته؟

ج : تعتبر زوجته إذا رجع إليها بالفعل حتى لو رفضت، لأن المطلقة الرجعية بحكم الزوجة، فيجوز لها أن تكشف له ويجب عليه الإنفاق عليها، ويجوز له أيضاً مواقعتها بدون عقد، فهي بحكم الزوجة، فإذا رجع إليها كانت زوجته حتى لو رفضت، وهذا هو الفرق بين الطلاق الرجعي وبين الطلاق البائن.

لمـن ترفـع أمرها

س : سجن زوج امرأة قبل عشر سنوات واستلمت ورقة وفاته من النظام في العراق، فهل ترفع أمرها لكم؟

 ج : نعم، يمكنها أن ترفع أمرها لنا، وإذا لم يثبت وفاة زوجها فيمكن للحاكم الشرعي أن يطلّقها فتكون حرة في أن تتزوج من تشاء.

عـدّة غير الحامـل

س : امرأة حامل لم يقربها زوجها بعد أن وضعت ثم طلقها دون أن يكون هناك احتمال للحمل، فهل تجب العدة؟

ج : نعم، تجب العدة بالنسبة للمدخول بها حتى في غير حال الحمل.

عـدة من استؤصل رحمـها

س : في حال إذا استؤصل رحم المرأة فهل عليها عدّة أم لا؟

ج : تجب العدة حتى في هذه الحال مع أنه لا مفسدة فيها من ناحية اختلاط المياه، فلقد جعل الحكم شاملاً حتى لا يصير هناك خلل في بعض الحالات، والله العالم.

عـدة من استؤصل رحمـها

س : في حال إذا استؤصل رحم المرأة فهل عليها عدّة أم لا؟

ج : تجب العدة حتى في هذه الحال مع أنه لا مفسدة فيها من ناحية اختلاط المياه، فلقد جعل الحكم شاملاً حتى لا يصير هناك خلل في بعض الحالات، والله العالم.

تبنّـي طفلـة

س : لي طفلة تبنّيتها وأنا غير متزوج، فهل لي أن أربيها كابنتي؟

ج : لك أن تربيها ولكن ليس كابنتك، أي إذا بلغت سن التكليف فلا يجوز لك أن تنظر إليها كما تنظر إلى ابنتك، لأنها تبقى أجنبية عليك {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} [الأحزاب:4].

تطلـب الطـلاق

س : أنا امرأة عراقية جئت برفقة زوجي منذ أربعة أشهر بعقد قران بدون دخول ووصلنا إلى سوريا وقد هجرني ولم يعد لحد الآن ولم أعرف له أي مكان، وأنا أرغب في الطلاق منه، فما هو الحل؟

ج : راجعي مكتبنا هنا في دمشق لنعمل لك ملفاً وندرس وضعك ووضع زوجك ونتصل به، فإذا كان غير مستعد أن ينفق عليك وأن يقوم بالشؤون الزوجية فبإمكان المكتب حينئذ أن يطلقك منه

المطالبة بأجرة الخدمة البيتية

س : طلّق زوج زوجته، وبعد الطلاق طالبته الزوجة بأجرة خدمتها في البيت وإرضاع الأولاد، مع العلم أنه لم يكن هناك اتفاق على أن تكون خدمتها في البيت بأجرة، كما لم يكن هناك اتفاق على الخدمة المجانية، فهل يجب دفع الأجرة؟

ج : لا يجب عليه ذلك، والسبب هو أن المرأة عندما تشتغل في البيت فإنها تشتغل متبرعة، ولو فرضنا أنها منذ البداية اشتغلت على أساس الأجرة، فنعم يحق لها المطالبة، ولكن الواقع هو أن الرجل يعطي المرأة أكثر مما يجب عليه من النفقة، فقد يجلب لها بدلاً من الثوب الواحد ثوبين أو خمسة أثواب. المهم أن نفهم أن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة الزوجية مودة ورحمة، ولهذا فهي من الناحية الشرعية لا تستحق شيئاً ولا يجب عليه دفع ذلك.

رشـد الفتـاة

س : متى تبلغ الفتاة سن الرشد حتى يمكن أن تأخذ برأيها بنفسها؟ وهل لها أن تختار زوجها بنفسها حتى مع معارضة الأهل؟

ج : الرشد ليس سناً، بل هو وعي، وذلك هو قوله عز وجل: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبِداراً أن يكبروا} [النساء:6]. فقد تكون فتاة عمرها(13) سنة وهي راشدة، وقد يكون عمرها(20) سنة وهي غير راشدة، فالقضية تتصل بالجانب العقلي وجانب الخبرة التي يمكنها أن تمارس بها إدارة أموالها بنفسها، بحيث لا تغلب، فإذا كانت كذلك فهي مستقلة في أمرها بما في ذلك الزواج.

أجنـبيــان

س : خطب شخص فتاة ولم يتم بينهما عقد شرعي، فما هي حدود المعاملة بينهما، علماً أنهما أجّلا ذلك إلى حين التفاهم؟

ج : حالهما حال أي أجنبيين.

الإرادة والقصد الجدي

س : في إحدى اللقاءات المتلفزة معكم، قلتم إن مجرد الإيجاب والقبول بين الزوجين لا يكشف عن صحة العقد، وإنما يجب أن تكون هناك إرادة جدية من كلا الطرفين، فهل من إيضاح؟

ج : إن بعض الشباب ممن يعقدون العقد المنقطع مع الأوروبيات أو الأمريكيات لا يحققون القصد الجدي في العقد، خاصة من جهة المرأة التي تريد أن تحصل على المال وأن تقضي وطرها معه، فهي ربما تردد كلمات أو صيغة العقد وهي لا تفهمها وليست قاصدة له، أي أنها كلمة تقولها دون إرادة جدية، فهذا ليس عقداً، وإنما هو زنا، فالعقد هو أن يقصد الطرفان أنهما زوجان، أي أنها عندما تقول: زوّجتك نفسي، فيجب أن تعتقد أنها قد دخلت في زواج مؤقت تماماً كما لو قالت: زوجتك نفسي في الزواج الدائم، فهذا زواج وهذا زواج، فإذا لم تقصد معنى الزوجية وإنما تلفّظت بالكلمة من دون قصد إرضاءً له، فهذا ليس عقداً، فالعقد ارتباط بين إرادتين للزوجية، ولكن الكثير من العقود المؤقتة في الغرب ليست صحيحة.

ثامنا: أموال وبنوك

الشك في دفع أجرة:

س: في (سيارة الأجرة) قد يوصل الراكب الذي أمامي أجرتي إلى السائق، وقد ركبت ذات مرة في سيارة ودفعت (100) ليرة وانتظرت استرجاع الباقي، لكن بعد نـزول الركاب قال السائق إنه لم يتلق أي قطعة نقود من فئة (100) ليرة، فطلبت منه أن يقسم، فرفض وطلب مني أن أقسم فأقسمت، فأعاد لي (95) ليرة، وهو يؤكد أنه يدفعها من حسابه الخاص، وبعد أن أخذتها، خفت أن أكون قد أكلت من رزقه، فهل أن الـ(95) ليرة حلال لي، علماً أنه يمكن أن يكون أحد الركاب قد أخذها؟

ج: ما دام لم يثبت أنه أخذها فليست حلالاً لك، وأنت لا يمين لك عليه في هذا المقام، حتى لو حلفت أنك دفعتها، فقد لا يكون استلمها. فلذلك إما أن تعرف هذا الشخص وترجع له الـ(95) ليرة، أو تتصدّق بها عنه إذا كنت لا تعرفه، لأن ذلك المال يصبح مجهول المالك.

العثور على عملات في بيت مستأجر:

س : استأجرت بيتاً لمدة شهرين وأثناء تنظيفي له وجدت بعض العملات القديمة المتروكة في البيت ولا تعود لأحد، وأنا محتفظ بها لكونها قديمة، فما هو حكمها؟

ج : تارة تكون مطروحة بشكل يدلّ على أنّ صاحبها معرض عنها فيجوز له أخذها. وأما إذا كانت محفوظة في مكانٍ ما، فعليه أن يبقيها في مكانها وأن يسأل صاحب البيت عنها.

شراء بيت على أرض مغصوبة:

س : هل يجوز شراء بيت أو إقامة بناء على أرض مغصوبة؟ وهل يجوز زراعة الأرض المغصوبة من قِبَل أصحابها وهم أحياء؟ وإذا قام أحد بزراعتها عالماً بذلك فما هو حكم الأرباح؟

ج : لا يجوز ذلك، فالغصب حرام، ولا يجوز أن يتصرّف بمال امرئ مسلم إلا بإذنه، والزرع له، ولكن عليه أن يدفع أجرة الأرض ويكون مأثوماً عند الله.

التراجع عن سرقـة:

س : سرق شخص قطعة ذهبية في أيام الانتفاضة الشعبانية في العراق من أحد المنازل ليلاً، وبعدها هداه الله وما زال يحتفظ بهذه القطعة الذهبية، فما هو الحكم الذي يترتّب عليه؟ وهل يجوز له التصرّف بها على أن يكون ضامناً؟

ج : عليه أن يبحث عن صاحبها ليردّها إليه بأي طريق من الطرق، وإذا يئِس من ذلك فحينئذٍ يكون حكمها حكم مجهول المالك، ولا بد من مراجعة الحاكم الشرعي في شأنها ولا يجوز له التصرف فيها حتى لو كان ضمانا لها.

الوفـاء بالدَّيـن:

س : أقيم في دولة أجنبية، وقد منحتني هذه الدولة قرضاً وفيت بقسط منه وبقي جزء منه، فإذا تركت هذا البلد ولم أستطع سداد المبلغ فما هو الحكم الشرعي بعد وفاتي؟

ج : على الإنسان أن يفي دينه لمسلم كان أو كافر.

استيفـاء الفـرق

س : لو دخل شخص وسيطاً بين طرفين (البائع والمشتري) واستطاع أن يشتري للطرف الثاني بضاعة محددة الثمن بأرخص من ثمنها، فهل يحقّ له أخذ الفرق؟

ج : إذا استطاع أن يشتري بضاعة محددة بأرخص من ثمنها بأن راعاه البائع في السعر وكان وكيلاً عن أحدهما فلا يجوز له أن يأخذ الفرق.

تسريع إنضاج الثمار بالزيت

س : مزارعو منطقتنا يقومون بوضع الزيت على ثمرة التين غير الناضجة لتسريع نضوجها، وهذه العملية قد تنعكس سلباً على الثمرة شكلاً وطعماً، فما هو الحكم الشرعي فيما لو بيعت لأهل المنطقة المطّلعين على الأمر؟ ولأهل المناطق الأخرى الذين لا يعرفون ذلك؟ ولتجار المنطقة الذين ينقلونها؟

ج : إذا كانوا مطلعين واشتروها فلا غش، أما أهالي المناطق الأخرى الذين اشتروا التين وكانوا لا يعرفون أنّ هذا يمثل غشاً وإنّما اشتروا الثمرة على أساس أنها ناضجة نضوجاً طبيعياً فهو غش والغش حرام، ولا يجوز بيعها للتجار أيضاً.

ما يؤخـذ من سوق المسلمين

س : ورد في (منهاج الصالحين) أن ما يؤخذ من سوق بلاد المسلمين من ثوب أو طعام أو جلود محكوم بالطهارة والحليّة، فهل ينطبق ذلك أيضاً على الثياب المأخوذة من دور الغسيل إن كان صاحبها مسلماً دون سؤال عن كيفية التطهير؟

ج : إذا قال لك إنه طاهر وشككت هل أن هذه الطهارة جامعة لشروطها أم لا، فإنك تحكم بالطهارة.

بيت على أرض مصادرة

س : اشتريت قطعة أرض من الدولة وبعد تشييدها علمت بأنها مصادرة من شخص، فهل يجوز لي السكن في البيت الذي أنشأته عليها؟

ج : إذا كانت الأرض مغصوبة فلا يجوز لك السكن فيها.

التصـدّق على الكنيسـة

س : ما حكم التصدّق على الكنيسة؟

ج : على الإنسان أن يتصدّق على ما يعرف أن الله يرضى به.

حصـة الزوجـة من الإرث

س : توفي رجل وترك لورثته بيتاً كبيراً، فلو أراد الورثة تقسيم البيت دون بيعه، فهل تستحق امرأته شيئاً من البيت، وماذا لو بيع البيت، فهل تستحق شيئاً؟

ج : المشهور بين علمائنا أنّ الزوجة تستحق البناء ولا تستحق من الأرض شيئاً، وعلى ذلك فلا بدّ أن نرى كم يساوي البناء بدون أرض ويقدّر على ضوء ذلك الثمن، إذا كان عندها أولاد، ولكننا نحتاط ونرى أن هناك إمكانية أن ترث الزوجة الأرض، ولذا يحتاج الأمر احتياطاً وجوبياً إلى الصلح بين الورثة وبين الزوجة.

الأخـذ مـن مـال الأب

س : هل يجوز للولد أخذ المال من أبيه من دون علمه إذا كان المصرف المخصص له لا يكفيه؟

ج : لا يجوز له ذلك إلا باستئذان الحاكم الشرعي.

صفقـة بـدون علـم الشركـاء

س : أنا أحد الشركاء في مشروع معيّن، فهل يجوز لي الاتفاق مع المجهّزين للمواد لقاء نسبة معينة بدون علم شركائي، حيث أدخل هذه النسبة في حسابي الخاص؟

ج : إذا كان في ذلك حيف على شركائك، فإنه خيانة للشراكة.

دفـع الحقـوق لفـك ديـون

س : أحد المؤمنين مدين ولدي حقوق شرعية، فهل يحق لي فك دينه بإعطاء الدائن مباشرة دون إعطاء الأموال بيد المدين؟

ج : يجوز ذلك إذا كان مستحقاً.

منـع الإرث

س : بعد أن حصل الإرث ثبت لي حصة فيه وهو مسجل باسم أخي الأكبر، وعندما أردت بيعه أنا وأخوتي باستثناء الأخ الأكبر، ثبت أنه لا يريد بيعه وتمسك به على أن له الحصة الكبرى منه وهو لا يعطينا حقنا ولا يبيعه، فماذا نفعل؟

ج : آخر الدواء الكي، فإذا كان يتمرّد على أن يعطيكم حقكم فعليكم أن تأخذوا حقكم بالوسائل الأخرى، ومنها الرجوع إلى القضاء وما أشبه ذلك. والصلح خير، فبمزيد من الإقناع والتفاهم قد تصلون إلى حل مرضٍ.

هـل الفـرع يـرث؟

س : في فقهنا الجعفري، هل يرث الفرع الذي مات أصله وفرع الفرع إذا توسّط بينهم ابن الابن وبنت الابن؟

ج : الإرث عندنا درجات، أي أن هناك طبقة أولى وهم الأب والأم والابن أو الأخت، فهؤلاء إذا كانوا موجودين منعوا الطبقة الثانية، فابن الابن لا يرث مع وجود الابن. فلو فرضنا أن شخصاً مات أبوه في حياة جده فلا يرث جده إذا كان أعمامه أو عماته أحياء، إنما يرث ابن الابن عندما يكون الأبناء غير موجودين، لأنه يعتبر من الطبقة الثانية، كما أن الأخ أو الأخت لا يرثان مع وجود الأب والأم والأولاد، وهكذا

بيـع وقـف المقبـرة

س : هل يجوز بيع وقف مقبرة في حال الخوف عليه من الضياع؟

ج : لا يجوز ذلك، لا سيما إذا كان في ذلك إساءة للأموات.

استخـدام أوانـي الوقـف

س : هل يجوز استخدام أواني المآتم للأغراض الشخصية، أي في البيت الموجود فيه المأتم؟

ج : "الوقوف على حسب ما يقفها أهلها"، فإذا كانت وقفت على المآتم فقط فلا يجوز استخدامها في غيره إلا بأجرة.

س : وإذا أراد أي شخص استخدام الأواني، فهل يمكن لصاحب المأتم أن يأخذ أجرة؟

ج : إذا لم يعارض حاجات المأتم في الوقت الذي يحتاجه المأتم، نعم عليه أن يأخذ أجرة.

س : إذا عمل أصحاب المأتم طعاماً للتوزيع ثم بقي منه بعض الشيء، فهل يجوز أكله؟

ج : الظاهر لا مانع من ذلك، لأنه أفضل من أن يرمى في صناديق القمامة.

معامـلات بنكيـة

س : نرجو بيان الحكم الشرعي بخصوص نوعين من المعاملات البنكية وهما كثيرتا الانتشار، أولهما الإقراض بفائدة عندما لا يتوفر البديل وهو القرض الحسن، وذلك في حالات الضرورة، وثانيهما: الإيداع بفائدة وهي الحالة التي لا يشترط فيها الزبون الفائدة كونه يعلمها ضمناً ويعلم مقدارها وربما يكون قد أجرى بحثاً ليتبين من خلاله أي البنوك يمنح فائدة أكثر؟

ج : نحن نعرف أن الربا محرّم سواء، بالمصارف أو الربا الفردي، فالله حرّم الربا ولم يقيّد تحريمه بأن يكون بالطريقة المصرفية أو بطريقة أخرى، وبالنسبة للأول، فإذا أراد الإنسان أن يستقرض من البنك فالبنوك لا تعطي إلا قرضاً بفائدة، فكيف يمكن أن يتفادى الإنسان الوقوع في الحرام؟ هناك طريقة شرعية لكنّها تحتاج إلى توافر وعي لدى المقترض، بحيث عندما يوقّع على عقد القرض يلتزم بالدين فقط ولا يلتزم بالفائدة حتى لو عرف أنه سيجبر على دفع الفائدة، أي يقصد التوقيع على الدَّيْن وليس على الفائدة، بحيث لو تمكن في المستقبل أن لا يعطي الفائدة بشكلٍ ما فإنه لا يعطيها، ولكن قد يعطيها بغير طيب نفس، فإذا قصد القرض فقط ولم يقصد الفائدة وإن كان يعرف إنها سوف تؤخذ منه فهذا حلال، لأن العقود تابعة للقصود، فإذا لم يقصد الفائدة فليس فيه ربا. أما الثانية فقد جاء الربا من قبل الشرط، فلا بدّ من عدم الشرط وعدم الذهاب إلى هذا المصرف أو ذاك للسؤال عن مقدار الفائدة الممنوحة، فإذا لم تشترط وإنما أردت أن تودع مالك في البنك خوفاً من أن يضيع أو يسرق فلا بأس، سواء أعطوك أو لم يعطوك زيادة، فإنما وضعته في البنك لا من أجل أن تستثمره ولكن من أجل أن تحفظه. وأما إذا وضع الإنسان المال في البنك من أجل الاستثمار فهو قاصد للربا.

تكلفـة حفـل تكريـم

س : يقوم صندوق خيري أو جمعية خيرية في استيفاء التبرعات والاشتراكات من الأفراد والمؤسسات الأهلية والحكومية في إطار التشجيع والحثّ على المساهمات والتبرعات، بإقامة احتفال يتم فيه تكريم المساهمين بصورة مستمرة، وكذلك الذين يدعمون الجمعية مادياً ومعنوياً، فهل يجوز صرف تكلفة الحفل بالصورة المذكورة من أموال الجمعية المتمثلة في إعانة الفقراء والمساكين والطلبة المحتاجين للدراسة في الداخل والخارج وترميم المساكن والمساجد والمآتم وغيرها والأمور الاجتماعية التي يكون لزاماً على الجمعية القيام بها؟

ج : إذا كان صرفها يشجّع المتبرعين على التبرع أكثر وتقوى الجمعية بذلك فلا مانع.

الاتجـار بأسهـم البنـوك

س : ما حكم الاتجار بأسهم البنوك علماً بأن هذه البنوك تعمل في البلاد الإسلامية وغيرها؟

ج : إذا كانت البنوك تعمل في الربا وفي غيره من استثمارات فيجوز شراء الأسهم، وإذا أخذ أرباحاً من هذه البنوك، فإن المال الحلال يصبح مخلوطاً بالمال الحرام، أما إذا فرضنا أن البنوك ربوية فلا يجوز ذلك.

شريـك سكّـيـر

س : عندي شريك في العمل وكان عملنا في المواد الغذائية، وفي بعض الأيام وجدته يشرب الخمر، فهل أستمر بعملي معه أم أتركه؟

ج : يجوز لك الاستمرار بعملك، لأنه لا يشترط في الشريك أن يكون عادلاً، بل قد يكون الشريك كافراً، ولكنّ المهم أن يكون أميناً في شراكته لا يبيع المحرّمات في شركته وما إلى ذلك، كما يجب عليك من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تنهاه عن شرب الخمر.

التعويض مع النفقـة

س : هجر والدي عائلته وتزوّج امرأة أخرى، وهو يسكن حالياً في أوروبا ولم ينفق علينا، وتحمّلت مسؤولية ونفقة والدتي وإخوتي القاصرين، فهل يحقّ لي المطالبة شرعاً بالتعويض على النفقة، علماً أنّه مترف في أوروبا؟

ج : ليس لك ذلك، وأنت متبرّع ومأجور أجراً كبيراً على ذلك، وهو مأثوم في ترك النفقة على والدتك وعلى أخواتك وإخوانك، ولكن هذا لا يقتضي المطالبة بالتعويض. مع ملاحظة أخرى وهي أنّ لوالدتك واخوتك الحق في مطالبته بالنفقة كما أنّ نفقة والدتك تبقى دينا في ذمته إذا لم تسامحه بذلك.

هـل السيـف من الحبـوة

س : مات شخص وترك سيفاً مرصّعاً بالذهب، فهل يعدّ ذلك من الحبوة أم من الإرث المشترك؟

ج : هـو من الحبـوة.

الـمُتاجر بأقراص الكمبيوتر

س : يتاجر شخص بأقراص أجهزة الكمبيوتر ويسجّل عليها أنواعاً من المحاضرات، فهل يأثم لو سجّل على بعضها أغاني غير لائقة أو سجّل كلاماً فيه نيل من هذا أو ذاك؟

ج : يحرم عليه كل شيء لا يرضى الله به، سواء الأغاني غير اللائقة، أو الكلام على بعض العلماء والمؤمنين، أو ما يسيء إلى النظام الاجتماعي العام واحترام الصفّ المؤمن.

مساعدة من بائع الحلال والحرام

س : هل يجوز أخذ مساعدة مالية من شخص يبيع أشياء محلّلة وأخرى محرّمة مثل المشروبات الروحية؟ وهل عليها خمس أو زكاة؟

ج : نعم، يجوز أخذها وليس عليها خمس أو زكاة، لأنه يمكن أن يكون قد أخذها من المال الحلال.

الأخذ من الإرث قبل التقسيم

س : ما حكم الأخذ من مال الإرث قبل أن يقسّم في حال العسرة ثم استرجاعه؟

ج : لا يجوز ذلك بدون رضا الورثة.

أرض مجاورة لأرض الوقف

س : في بيع الوقف هناك أرض زراعية وقفٌ على أهل العلم تجاور أرضاً زراعية أخرى صاحبها له مصلحة في جمع أرضه مع أرض الوقف، فهل يستطيع أصحابها بيع أرض الوقف إذا اشترى صاحب الأرض المجاورة أرضاً أخرى لها قيمة ومردود أكبر؟

ج : لا يجوز ذلك إلا إذا انتفت مصلحتها كلية ولم يعد فيها أية فائدة.

البيــع بالتقسيـط

س : هل البيع بالتقسيط محرّم، علماً أن سعر القطعة نقداً أرخص من سعرها بالتقسيط؟

ج : ليس محرماً، فالمهم أن يقطع الثمن عند المعاملة، فلو باع نقداً بعشرين وبالتقسيط بثلاثين فلا ضير، أما إذا باعك بعشرين وفرض عليك كلّ شهر فائدة فذلك ربا.

تـرك العمل الإسلامي بحجّة الوضع المالي

س : ما رأيكم في أن يترك بعض العاملين في الإسلام العمل بحجّة الظروف المادية وعدم ضمان المستقبل، علماً أنّ حالة بعضهم جيدة جداً؟

ج : العمل للإسلام هو تكليف شرعي عينيّ على كلّ إنسان قادر، مع ملاحظة ظروفه، أما إذا كانت حالته جيدة جداً، وكان قادراً على العمل، فيجب عليه الاستمرار فيه ويكون مأثوماً بتركه. هذا فضلا عن أن العمل الإسلامي لا يقطع الرزق بل ربما يطرح البركة فيه خاصة إذا كان العامل يحسن الظنّ بالله الرزّاق العليم، إن هذا البعض يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

بيع الدنانيـر ببعضها

س : هل يجوز بيع ثمانية دنانير عراقية بعشرة دنانير عراقية نقداً؟

ج : هذا ليس بيعاً، فالبيع يجب أن يكون في مقام مقايضة شيء بآخر، فهذا دين ولكن بصورة البيع، حتى أنّ السيد الخوئي يرى في البيع وجوب أن يكون هناك تغاير، وفي مفروض السؤال لا يوجد تغاير.

البنـك الربـويّ واللاربـوي

س : ما هو الفرق بين البنك الربوي واللاربوي؟

ج : بإيجاز وبشكل مبسّط، البنك الربوي هو الذي يعطي الدَيْن أو يأخذ الدَين بفائدة، وأما البنك اللاربوي فهو الذي لا يرتكز دينه على الفائدة، بل يحاول أن يرى طرقاً أخرى تخرج الربح عن الفائدة المتعارفة، كما في الأعمال التي يقوم بها البنك في مقابل ما يأخذ أو ما يقدّم من خدمات أو هبة أو ما أشبه ذلك.

س : وكيف يمكن تجنّب الربا في معاملاتنا المالية، وبالأخص مع البنوك الموجودة، والتي تتعامل بالفائدة، فلقد سمعت، والعهدة على الناقل، بأنّ في لبنان مصرفاً إيرانياً يعطي الفائدة كبقية البنوك؟

ج : القاعدة العامة تقول: "جاء الربا من قبل الشرط وإنما تفسده الشروط"، فالإنسان إذا اشترط الفائدة فإن ذلك يكون ربا، أما إذا لم يشترط الفائدة كما لو كان يريد أن يودع ماله في البنك، لأنه يخاف أن يسرق أو غير ذلك، وهو يعلم أن البنك يعطيه فائدة ولا يهم بالنسبة له كثيرها أو قليلها أو عدم إعطائها، ففي هذه الحال يجوز له أن يأخذها.

فائدة بطاقات الائتمـان

س : أعيش في أمريكا وأستخدم أحياناً بطاقات الائتمان لحاجتي الماسّة والمستمرة لاستخدام هذه الأموال للعمل التجاري، وأربح منها بطبيعة الحال، ولكن لا بدّ أن أدفع نسبة معينة لشركات هذه البطاقات وهي تساعدني في عملي ولا يوجد مصدر آخر للاستلاف، فهل عملي جائز؟

ج : إذا لم تقصد بأخذك بطاقات الائتمان إلا تسهيل أمرك، ولم تقصد دفع الفائدة إلاّ على تقدير الضغط والضرورة فلا مانع من ذلك.

هـل تجـب الديـّـة؟

س : أرضعت أم طفلها في أيامه الأولى من الولادة، وبعد أن استيقظت صباحاً وجدته ميتاً، فغلب على ظنّها أنها السبب في ذلك، فهل تجب عليها الدية؟

ج : لا تجب عليها الدية إذا لم تحرز ذلك، أما إذا كان من قبيل القتل الخطأ فتجب عليها الدية عند ذلك.

شراء أرض موقوفـة

س : اشتريت أرضاً موقوفة وقفاً ذرياً بعد أن بيعت عدة مرات، ولا أدري إذا كانت البيعة الأولى ضمن مجوزات بيع الوقف الذري، وهي أرض زراعية أوقفها الوالد على ذريّته، وقد باعها أولاده بعد موته، فما حكم شرائها بعد المرة الثالثة أو أكثر؟

ج : لا بدّ للإنسان أن يحتاط في الشراء، ولا بد أن يحرز أنّ البيع في المرة الأولى والثانية أو الثالثة قد حصل ضمن الشروط الشرعية.

تصـرّف بالمـال العـام

س : اتفق شخص مع موظف في أحد المخازن الغذائية باستخراج كمية من أكياس الرز وبيعها في السوق السوداء، وظل تقريباً سنتين على هذه الحالة إلى أن تاب من ذلك، فما هو حكم هذه الأموال؟ وما الذي يفعله الآن بعدما صرف الأموال؟

ج : لا بد أن ترجع هذه الأموال إلى أصحابها، وإذا لم يمكن عودتها إلى أصحابها، فلا بد أن يتصدّق بها ويرجع إلى الحاكم الشرعي ليتصدّق بها.

ديـون ربـويــة

س : غرق شخص في ديون ربوية وهو الآن في حيرة، فهل له من توبة؟

ج : ))من تاب ، تاب الله عليه(( وإذا استطاع أن لا يدفع الربا فعليه أن لا يدفعه.

أخذ فواكه من بستان:

س : في بدايات سنّ التكليف كنا نأخذ بعض الفواكه من مزارع في القرية من أجل أن نأكلها فقط، فماذا يجب علينا ؟

ج : عليك أن تطلب السماح من أصحاب البستان، وإذا لم تعرفهم، أو لا يمكن ذلك، فتصدّق عنهم بمقدار ما أكلت.

حـرمـة معـاملــة

س : إذا كان ثمن شيء في لبنان(50) دولاراً، وقد كلّف المشتري بشراء ذلك الشيء لأنه لا يستطيع أن يحصل عليه إلا بواسطة هذا الوسيط، الذي قال إن سعر الشيء(75) دولاراً، فهل المعاملة حرام؟ مع العلم أن المشتري لا يعلم ثمن الشيء؟

ج : نعم حرام، فالوسيط تارة يكون وكيلاً، فالوكيل لا يجوز له أن يأخذ إلا ما يدفعه له الموكّل، أما إذا أراد الشخص المذكور الشراء من الوسيط فلا بأس، لأن الناس مسلّطون على أموالهم، وإذا اطّلع الشخص الآخر على أن سعر البضاعة(75) وليس (50) دولاراً، فله أن يفسخ المعاملة، لأنه مغبون وللمغبون خيار الغبن.

تقسيم تركة:

س : وريث من والدي بيتا وأرضا صغيرة ولي أخوات متزوجات وليس بيني وبين أزواجهن قرابة، فهل يقسّم البيت وقطعة الأرض بيننا، أم أضعها أمام أهل الخبرة لتقييمها ثم أدفع لهن دون أن ابخس أيّا منهن؟

ج : إنّ الأرض التي تركها والدك إرث مشترك بينك وبين اخواتك، فلا يجوز لك أن تتصرف بأية طريقة إلا برضاهن.

الانفاق على الأهل:

س : أنا وحيد لأهلي وأقوم بالإنفاق عليهم وبسبب من ذلك لا أستطيع الزواج، فهل يجب عليّ أن أعيلهم أم أنصرف لشأني؟

ج : إذا تمكنت من التوفيق بين الأمرين فهو خير بأن تصرف على أهلك وأن تتزوج، وإلاّ فإعالتك لأهلك غير ملزمة في حال ضيق ذات اليد، الاّ إذا أردت أن تؤثر على نفسك.

أجرة معقب المعاملات:

س: أعمل كمعقِّب معاملات، ويحدث أن يسألني شخص عن كلفة معاملة، فأحدد له مبلغاً معيناً، فيفهم أن ذلك ليس لي، بل لمن ينجز المعاملة، فهل يجوز لي أن آخذ المبلغ بالكامل؟

ج: تارة يقول لك أنجز لي المعاملة بما تتكلّف فيجوز لك أن تأخذ المبلغ، وتارة يكلّفك بالبحث عن شخص آخر، فهنا لا تعتبر موكّلا من قبله، وحتى لو كانت الوكالة تشملك فلا يجوز لك أن تأخذ إلا أجرة المثل .

تجاهـل اللقطـة

س : إذا وجدت نقوداً في الشارع أو في أي مكان آخر، فهل أتركها أم ألتقطها وأتصدق بها عن صاحبها؟

ج : قد يكون الأفضل أن تأخذها وتتصدق بها عن صاحبها، ولقد كانت بعض الأحاديث تقول بعدم وجوب انتشالها، لأنه قد يأتي صاحبها فيعثر عليها حيث فقدها، ولكنّ هذا الأمر قد تغير في هذه الأيام.

عـزل المـال للصدقـة

س : أستخرج في اليوم ليرة أو ليرتين كصدقة، ولكنني أجمع الصدقات في البيت، فهل يجوز لي شراء مأكولات بهذا المبلغ وإعطاؤها للفقراء؟

ج : المال يبقى ملكك ما دمت لم تعطه للفقير، فلو عزلته بعنوان الصدقة، فلا يصبح صدقة حتى تتصدق به. والمال ملكك حتى إذا مرّت عليه سنة، فيجب أن تخمّسه، إنما يخرج المال عن ملكك إذا سلّمته للفقير، أما مجرد عزله فلا يجعله صدقة، ولذا يجوز أن تأخذه أو ترجعه كما يجوز أن تشتري به غذاء وما شاكل.

وراثـة الشركـة

س : من ليس له وارث وله ضمان من شركة التأمين، هل ترثه الشركة إذا مات؟

ج : يرثه بيت المال الإسلامي.

مقاطعة البضائع الأمريكية

س : أعيش في أمريكا الشمالية، فكيف لي ولمن يعيش في الولايات المتحدة أن يقاطع البضائع الأمريكية؟

ج : قلنا إن ذلك بحسب الإمكان، لكننا إذا استطعنا ونحن في أمريكا أن نشتري بضاعة غير أمريكية من بضائع بلد ليس له علاقة وطيدة مع الكيان الصهيوني، فلنفعل.

بيـع البضائـع للأمريكان

س : تصدر الفتاوى الكثيرة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية، ولكن هل يجوز لنا أن نبيعهم البضائع الإسلامية كالنفط وغيره؟

ج : المقاطعة هي مقاطعة ذات جانبين، لا نشتري منهم ولا نبيع لهم.

فتـوى أم حكـم؟

س : هل أن مقاطعة الشركات الصهيونية والأمريكية حكم أم فتوى؟

ج : هي حكم، وهي فتوى قائمة على أساس شرعي: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه".

ما فضل من مال العقيقة

س : إذا دفع لشخص مبلغ من المال لشراء عقيقة، وكان ثمنها أقلّ من المال المدفوع، فهل يجوز صرف ما فضل منه لطبخ الطعام مع لحم العقيقة؟

ج : عليه أن يستأذن صاحب المال في ذلك.

إعطاء ما يعادل النـذر

س : في ذمتي نذر طعام لوجه الله، وفي ثواب سيدتنا أم البنين(رض)، فهل يجوز لي إعطاء ما يعادله نقداً إلى إنسان مستحق أم لا، علماً بأن هذا الإنسان لا معين له؟

ج : إذا كان النذر صحيحاً، بأن تقول: لله عليّ نذر بأن أصنع طعاماً وأعطيه للفقراء وأهدي ثوابه لروح أم البنين، فلا يجوز، لأن عليك أن تفي بنذرك كما وقع، أما إذا قلت إن عليك نذراً لأم البنين ولم تقل لله، فأنت حر في دفع ثمنه مالاً أو أن تقدمه طعاماً.

فندق مموّل إسرائيلياً

س : أعمل متعهد ديكور، وقد اتفقت مع بعض العمّال على إنجاز ديكور لفندق، اتضح أن تمويله من قِبَل رجل إسرائيلي، فهل أنجز العمل أم أتركه؟

ج : إذا كان الفندق للإسرائيلي أو للمتعاملين مع إسرائيل أو المؤيدين لها، فلا يجوز.

توكيل في مـال

س : في حال غياب الزوج بسبب الهجرة مضطراً، فهل يحق للزوجة توكيل غريب أو محام للتصرف بأموالها رغم وجود أخيها أو ولدها الكبير؟ وهل نعتبر نتائج تلك الوكالة المطلقة باطلة شرعاً بما فيها قيام المحامي تطليق الزوجة غيابياً من زوجها للحجز على دار الزوجية وتشريد الأسرة؟

ج : ليس للزوج سلطة على أموال الزوجة، وكذلك ليس لأخ الزوجة سلطة على أموال أخته، فالمرأة تملك مالها ملكاً مطلقاً وليس لها أن تستأذن أباها أو زوجها أو أخاها في التصرف به إذا كانت بالغة رشيدة. هذا من ناحية المال فهي حرة التصرف به، أما مال زوجها فليس لها أن تتصرف فيه إلا بإذنه. نعم إذا هجرها زوجها ولم ينفق عليها لها أن تقتص من ماله الذي تحت يده لتنفق به على نفسها وعلى أولادها.

أما تطليق الزوجة فليس بيد المحامي، بل بيد الحاكم الشرعي، وهو المجتهد العادل الذي ترفع إليه أمرها، فإذا رأى أن الزوج لا ينفق على زوجته ولا يقوم بحقوقها عليه، فإنه ينذر الزوج، فإن استجاب فإما أن يطلّق أو أن يرجع إليها {الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229]. وإلا فالحاكم الشرعي هو الذي يطلّقها. فللقضية أصول وقد لا يمارسها المحامي وفق أصولها.

تصدّق بمـال الربـا

س : هل يجوز فتح حساب توفير في المصرف بفائدة 8% في حال تبرع كامل الفائدة إلى الفقراء والمحتاجين في العراق؟

ج : لا تجوز المعاملة الربوية، سواء كانت بقصد التبرع للفقراء أو لا، لأن المعاملة الربوية باطلة، فالتصدق بالمال الحرام لا يصح.

الشك في مشروعية عمل

س : أنتمي إلى جهة إسلامية وأتقاضى راتباً شهرياً على ضوء انتمائي لتلك الجهة، وبعد فترة تغيّرت قناعتني، فهل يجوز شرعاً الاستمرار والبقاء فيها وتقاضي الراتب الشهري؟

ج : إذا كنت تجد أن هذه الجهة غير مشروعة، وكنت معذوراً في نظرتك لها، فلا يجوز لك الاستمرار فيها. وكذلك الراتب الشهري، فإنما تتقاضاه على أساس اقتناعك بها والعمل معها، فإذا تغيّرت قناعتك وعزفت عنها بالإعراض عن العمل معها حتى ولو لم تخبرها، فلا يجوز لك ذلك.

الصدقة في الصنـدوق

س : عندما أضع الصدقة في الصندوق الذي أعددته لجمع الصدقات، هل يتحقق مفهوم الصدقة، وبالتالي يترتب عليها الآثار المروية عن الصدقة؟

ج : كلا، إذ لا بد من تسليم الصدقة للفقير، أما وهي في الصندوق فهي ملكك، بحيث يحقّ لك التصرف بها.

س : ولو وضعت صدقة في صندوق عام وأتى سارق وسرق الصندوق، فهل يترتب أيضاً أثر الصدقة؟

ج : إن الله يعطيك بحسب النيّة، فعندنا أن الصدقة تقع بيد الله قبل أن تقع بيد السائل.

نسخ أقراص الليزر

س : ما هو الحكم الشرعي في عملية نسخ أقراص الليزر المحفوظة بحقوق طبع وعملية بيعها بأسعار رمزية تساعد على سرعة انتشار مثل هذه الوسائل الثقافية بين شرائح متعددة من المجتمع غير القادر على شرائها من مؤسسة الإنتاج نفسها نظراً لارتفاع ضئيل في أسعارها؟

ج : لا نجوّز ذلك، فهو ملك شأنه شأن أي ملك عين، فصاحب البرنامج المسجّل على القرص الليزري يملك البرنامج، كما أنّ الكاتب يملك حق كتابه، فنحن نعتقد أن حقوق الطبع والنشر والاختراع والبرمجة محفوظة، فلا يجوز الاتجار بها دون إذن أصحابها. وإني لأسال السائل لو كنت أنت صاحب البرنامج فهل كنت ترضى أن يستنسخه غيرك بدون إذنك أو دفع حقوقك؟! "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به". وهناك من العلماء من لا يرى حقوق الطبع أو النسخ محفوظة، لأنهم يرون أن مثل هذه الأموال لا تملك.

حرمان البنت من الإرث

س : رجل بلغ من العمر سبعين عاماً، وقد حرم بناته من الإرث ويقول إن الصهر لا يملك ولا يرث، علماً أن بناته فقيرات، فما هو رأي الشريعة؟

ج : هذا العمل غير أخلاقي، فكما أن الكنّة تأخذ من الإرث فكذلك صهرك، وإلا فما هو الفرق، فهذا ابنك وهذه ابنتك، والله سبحانه وتعالى قد جعل نظاماً للميراث من أعظم الأنظمة يقوم على التوازن.

وحتى إذا فرضنا أنه حرم بناته على نحو الوصية، فالوصية تنفّذ في الثلث وللبنات حق النقض في الثلثين الباقيين، إذ لا تسري الوصية فيهما.

الأموال المودعة عند الأب:

س : عندما كنت شابا أعمل وأودع أموالي عند أبي، وعندما تركت العمل طلبت منه بعض المال فلم يعطني شيئا مما أخذه مني؟ فما هو حكمه؟

ج : إذا كنت تعطي هذه الأموال لأبيك حتى يحفظها لك فلا يجوز له أن يمنعها عنك. أما إذا أعطيتها بنحو التبرع، أو أنه صرفها عليك فلا يحق لك المطالبة بها. نعم إذا كنت محتاجا فعليه أن ينفق عليك.

إدارة بيت مال المسلمين

س : أتحدث عموماً وأقول من خلال قرائن عدة، وأحاديث ثقاة عدة، وأحاديث في تاريخ الشيعة المعاصر من خلال واقع يدل على نفسه، أن الإدارة المرجعية لبيت مال المسلمين هي إدارة ذات طبيعة فاسدة تتسم جوهرياً بهدر أموال المسلمين، إما بتجزيئها في بنوك العالم، وبأسماء شخصية، أو بصرفها في مشاريع شكلية خالية من الفائدة الحقيقية للمسلمين الشيعة، ولا أريد هنا تسمية أشخاص معينين، فهل تتفقون مع مقولتي؟ وإذا كان الأمر كذلك فهذا منكر، والمرجعية ومن خلال مواقع مختلفة أولى بتحمّل مسؤولية تغيير هذا المنكر، وهذا الواقع الفاسد، وإيجاد آليات عملية وجريئة وضاغطة لهذا التغيير؟

ج : إن هناك مبالغة في السؤال، فمع أن هناك أموراً من هذا القبيل، إلا أنني أعرف كثيراً من الأرقام التي وضعت أمام بعض المراجع الذين توفوا وهي أرقام مبالغ فيها، فليست القضية كذلك، وأعتقد أن تقوى المراجع تمنعهم من هذا، ولكن قد تخرج بعض القضايا عن أيديهم، وهناك كثير من المراجع الذين قاموا بمشاريع ممتازة على مستوى خدمة الناس والجوانب الصحية والاجتماعية والتربوية وما إلى ذلك، ونحن نحاول تفادياً لذلك كله أن نقيم المؤسسات التي تسير وفق نظام مالي معين، فعندنا أكثر من(25) مؤسسة للأيتام ولغيرهم، ولا يوجد أي شيء مسجّل باسمي شخصياً، فهناك لجنة تدرس ميزانية وإنفاق كل مؤسسة، ونحن نجرّب، وأعتقد أن الآخرين أمناء، ولكن لا يوجد إنسان عنده قدرة على الضبط الكلي في هذا المجال، وعلى كل حال، فنحن نتحدث دائماً عن المرجعية المؤسسة والرشيدة التي يمكن أن تتقلص فيها سلبيات المرجعية الشخصية.

استبدال ذهب بذهب

س : أعمل صائغ ذهب، وكثيراً ما يحضر لي بعض الزبائن قطعاً ذهبية قديمة أو مكسورة فأبدلها لهم بنفس الوزن من الذهب الجديد المصنّع وآخذ منهم الذهب مضافاً إلى أجرة الصياغة، فهل هذا جائز؟

ج : لا توجد مشكلة باستبدال ذهب بذهب، والأجرة التي تتقاضاها على أساس أنها أجرة للصياغة وليس على أساس أنها جزء من الثمن فلا مانع.

تقسيم بيـت

س : قسّم رجل بيته إلى قسمين في حال حياته، القسم الأول لزوجته الأولى مع أولادها، والآخر لزوجته الثانية مع أولادها، ومن الأولاد من هو ساكن في ذلك القسم ومنهم من يسكن في بيت مستقل، فهل يؤخذ بهذا التقسيم بعد وفاته؟

ج : إذا كان البيت ملكاً لهؤلاء وأولئك، فيؤخذ بهذا التقسيم، أما إذا كان مجرد إسكان وبقي البيت كلّه ملكاً لصاحبه المتوفى، فالبيت يكون ملكاً للجميع.

(100) ألف مقابل (4) آلاف

س : ما حكم من أعطى لشخص آخر مئة ألف ليرة على أن يعطيه كل شهر(4) آلاف ليرة زيادةً، علماً أن صاحب العلاقة مضطر ومحتاج؟

ج : هذا ربا ومحرّم ولا يجب عليه أن يدفع له(4) آلاف ليرة.

زكاة الليرات الذهبية

س : هل يمكن اعتبار الليرات الذهبية التي تشترى في أيامنا لغرض قيمتها المادية مما يجب فيها الزكاة؟

ج : نعم يجب فيها الخمس والزكاة.

تاسعا: السلوك والمعاملات

 اللجوء لغرض الدراسة:

س : أسكن في دولة إسلامية وليس لديّ مشكلة في السكن والمعيشة، لكن المشكلة هي أن ثلاثة من أولادي وصلوا إلى مرحلة الجامعة والقبول هنا صعب ويكاد يكون مستحيلاً، فهل يجوز لي من ناحية شرعية أن أهاجر إلى دولة أوروبية لإكمال الدراسة لأولادي؟

ج : لا يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد يضعف فيه دينه ودين أهله، وهذا أمر مقدّم على اللحاظات الأخرى من قبيل الدراسة أو العمل أو غيرهما. ولكن إذا كان السائل يملك الضمانات الواقعية التي تمنع أولاده من الانحراف الديني فلا بأس بذلك.

العودة مع العلم بالإعدام:

س : لديّ ثلاثة إخوة شهداء ورابعهم جنّ بسبب التعذيب في أقبية أمن النظام في العراق، وأنا مريض وحالتي الصحية صعبة ومزمنة ولا يمكن علاجها، فهل تجوز عودتي إلى العراق بالرغم من أنني أعلم أنني سأعدم؟

ج : لا يجوز لك ذلك إذا كنت تعلم أنّك ستعدم، أو تحتمل ذلك احتمالاً معتدًّا به.

التسبّب في مرض مؤمن:

س : اعترف أحد الأشخاص بأنه هو الذي كان السبب في مرض أحد المؤمنين لأنه يعاديه، وهو إذ يعترف بذلك يفتخر بأنه سبّب له الجلطة القلبية، فإذا مات المؤمن لا سمح الله فهل يكون المسبّب قاتلاً؟

ج : إذا كان يعرف أنّ هذا يقتله ويسبّب له الجلطة القلبية فهو قاتل.

طـعام للتبـرّك:

س : اعتدت في كل عام أن أطبخ الطعام بمناسبة شهادة الإمام الحسين(ع)، علماً أنه ليس نذراً بل للتبرّك، هل يجب عليّ ذلك بعد أن انتقلت إلى دولة أوروبية؟

ج : لا يجب عليك ذلك ، ويمكنك التصدق بثمن الطعام للفقراء عن روح الحسين(ع) إذا أحببت إبقاء هذه الهدية للحسين(ع) في التصدق عنه.

كشف الهويـة الدينيـة:

س : هل يجوز للمسلم الشيعي أو السني عدم الكشف عن هويته الدينية لأسباب تضرّه؟

ج : يجوز له ذلك.

انتحـار مختطفـة

س : هل يجوز للمرأة أن تنتحر إذا اختطفت؟

ج : لا يجوز لها ذلك.

شهادة غير المسلم

س : هل تقبل شهادة غير المسلم على الزواج أو الطلاق أو البيع والشراء؟

ج : الأصل عدم القبول، ولكن إذا أفادت الاطمئنان في تكليف الإنسان الشخصي، وليس في مقام القضاء، فيمكن أن يعمل الإنسان باطمئنانه.

شهادة غير المسلم

س : هل تقبل شهادة غير المسلم على الزواج أو الطلاق أو البيع والشراء؟

ج : الأصل عدم القبول، ولكن إذا أفادت الاطمئنان في تكليف الإنسان الشخصي، وليس في مقام القضاء، فيمكن أن يعمل الإنسان باطمئنانه.

حـدود النظـر

س : هل الفخذ بالنسبة للرجل عورة؟

ج : ليس عورة.

س : ماذا يحلّ للأخ أن يرى من أخته؟

ج : يجوز النظر إلى ما عدا العورتين، وإن كان لا يستحب له ذلك، وقد يجب الاحتشام، فربما يؤدّي النظر إلى نتائج سلبية بالعنوان الثانوي.

إطـلاق عنان التصوّر الشعري

س : من الواضح أن بعض الأدباء والشعراء يطلقون لمخيلتهم العنان دون تقيد بالتصورات الدينية، سواء جاء إنتاجهم على شكل قصيدة فيها تشبيب أو وصف الخمرة أو جاء ذلك النتاج على شكل رواية أدبية، فما هو الموقف الإسلامي من ذلك؟

ج : الخيال ليس محرّماً، ولكننا لا نشجع ـ على مستوى الرواة ـ وصف المحرّمات كالخمرة، حتى أنني أنتقد الشعر العرفاني الذي يحاول أن يستعير الخمرة وبعض الأشياء التي توجب هتك الحرمة من ناحية إيحائية، كمن يقول:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن تخلق الكرم

فلا يجوز أن تأتي بكلمة الخمر لما فيها من إيحاءات السكر وغير ذلك.

موهبـة الرسـم

س : هل تعتبر موهبة الرسم عند شخص معين موهبة من الله تعالى ليفيد بها غيره مما يقوّي الإيمان ويزيد الاستقامة في الدين من خلال الرسومات التي تدور في ملك الله والمعجزات؟

ج : الرسم كأي موهبة من المواهب ينطلق من خلال قابليات موجودة عند الإنسان، وعليه أن ينميها وأن يحرّرها فيما يبني الحياة فيرفع مستوى الإنسان ويرضي الله سبحانه وتعالى.

الصدق في القســم:

س : تزوّجت امرأة وبعد فترة من الزواج حصل خلاف بيني وبين أهلها، ما أدى إلى الانفصال بيننا، وكان بيني وبينهم مبلغ من المال وضعناه في بيتهم للتأمين عليه، فأنكروه، إلا أن أقسم إنه لي، وأنا متأكد من المبلغ الموجود فأقسمت، فهل من ذنب في هذا القسم أم لا؟

ج : إذا كنت صادقاً بما أقسمت عليه وكان واضحاً أن المبلغ لك فلا بأس، أما إذا كان القاسم شاكّاً فلا يجوز، لأنه لا يجوز للإنسان أن يقسم على ما كان شاكّاً فيه، وعليك الاستغفار، ولا كفّارة في ذلك.

سيجـارة للتسليـة:

س : إنكم تحرّمون التدخين، فهل يجوز تدخين سيجارة أو أركيلة لغرض التسلية، أو عندما يقدّمها لنا الناس كضيافة؟

ج : هل يجوز لك أن تشرب الخمر للتسلية؟ أو تلعب قماراً بعوض للتسلية؟ إن الحرام حرام سواء كان للتسلية أو لغير التسلية، ولا مجاملة في الحرام إطلاقاً.

قميـص عليـه الصليـب

س : هل يجوز ارتداء قميص رسم عليه الصليب، أو قصّ بشكل يوحي بالصليب؟

ج : لا يجوز ذلك، لأن فيه دعاية لشعائر غير إسلامية، بل وضد الإسلام، ولأن مظهره هو مظهر الالتزام به.

علاقـات المسلمين مع اليهـود

س : نقرأ في سيرة النبي(ص) والأئمة(ع) والصحابة أن لهم علاقات مع اليهود والنصارى، فكيف يكون ذلك؟

ج : هذا الأمر قائم حتى الآن، فعندنا علاقات مع اليهود والنصارى، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحبّ المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم} [الممتحنة:8ـ9]. ويقول عز وجل: {ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون} [المائدة:82]. ونحن نلاحظ الآن في البلاد الإسلامية كيف أن الإسلام أبقى اليهود والنصارى في تلك البلاد وأباح للمسلمين أن يقيموا معهم علاقات تجارية واجتماعية، ولكن غاية الأمر هي {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} [المائدة:51]. فالموالاة غير المعاشرة، والعلاقات التجارية ليست من الموالاة التي ينطلق فيها شيء من القلب ومن الإخلاص ومن المودة، ما يوحي بأن الكفر لا يمثل أي اهتمام لدى الإنسان المسلم، فلا مشكلة عنده مع الذين لا يلتزمون بالإيمان بالله وبرسوله، فالمطلوب من المسلم أن تكون علاقته الشعورية مرتبطة بالتزامه العقيدي والروحي والعملي.

مصادقـة غير المسلـم

س : هل يجوز مصادقة غير المسلم؟

ج : لا مانع من ذلك، لا بمعنى المعاشرة والموادة والموالاة، بل بمعنى المشاركة في التجارة ومشاريع العمل ونحوها، نعم إذا كانت المصادقة لتقربيه من الإسلام باطلاعه على خطوطه الفكرية والعملية وكوسيلة من وسائل الدعوة فلا بأس.

زيت كبد الحوت:

س : ما حكم الأدوية التي تحتوي على زيت كبد الحوت؟

ج : لا يجوز شرب هذا الزيت حتى لو كان داخلاً في دواء، إلا إذا اضطر الإنسان إلى هذا الدواء اضطراراً.

سفر النساء بدون محرم

س : هل يجوز سفر النساء بدون محرم إلى الأماكن المقدسة وغيرها؟

ج : نحن لا نشترط وجود المحرم في سفر المرأة إذا كانت أمينة على نفسها، أو إذا سافرت مع شخص أمين عليها، ربما كان الحال في الماضي، أن المرأة حينما كانت تريد السفر فإنها تسافر عن طريق الحيوانات كالجمال وتحتاج إلى من يركبها وينـزلها عن البعير مما لا يجوز فعله إلا للمحرم، وربما كانت تتعرض لبعض المخاطر التي تدعو إلى الدفاع عنها والملامسة لها، وقد زالت هذه الإحراجات مع وسائط النقل الحديثة، فيمكنها أن تستقل بسفرها. ففي الفقه الشيعي، لا يشترط وجود المحرم في جواز سفر المرأة إلى الحج أو إلى غيره.

خـروج النساء إلى المآتـم

س : هل يجوز خروج النساء إلى المآتم ومواكب العزاء؟

ج : ليس محرماً بذاته، ولكن قد تدخل بعض العناوين الثانوية التي تجعله غير راجح، أو قد تجعله محرّماً.

واجبـنا كمهاجريـن إزاء عوائلـنا

س : ما هو واجبنا كمهاجرين اتجاه عوائلنا واتجاه أوطاننا؟ وهل نحن مأثومون كأولياء أمور لأننا أخرجنا عوائلنا إلى أوروبا؟

ج : عليكم عندما تخرجون عوائلكم إلى أوروبا أن تعملوا بكلّ الوسائل في سبيل أن لا ينحرفوا وأن يبقوا في أجواء إسلامية {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم:6]. وإذا كان سفرهم إلى أوروبا يوجب ضلالهم فأنتم مأثومون ويحرم عليكم البقاء هناك ما أمكن ذلك.

زراعـة التبـغ

س : من المعلوم أنّ التدخين حرام، فما حكم زراعة التبغ بجميع أنواعه والمتاجرة به؟

ج : على فتوانا لا يجوز ذلك، لكن يمكن الرجوع إلى فتوى العلماء الذين يجوّزون ذلك.

شبهـات الجاليـة المسلمـة

س : توجد شبهات كثيرة في أوروبا، خاصة لدى الجالية المسلمة، فمثلاً يخصّص راتب شهري لكل شخص، وأكثر الأزواج يمنعون زوجاتهم من مخصصاتهم ويتصرّف بها الزوج بما في ذلك مساعدة أهله وهم ليسوا بحاجة للمساعدة، وعندما تريد الزوجة مساعدة أهلها يمنعها وتضطر أن تساعدهم خفية منه، فهل في ذلك إشكال شرعي أم لا، وهل الزوجة مأثومة؟

ج : إذا كان هذا المال الذي تعطيه الدولة مخصصاً للزوجة، فلا يجوز للزوج أن يتصرّف به، ولا يجوز له أن يمنعها منه وهو غاصب له في ذلك، وللزوجة أن تأخذ حقها حتى من دون أن يعرف ذلك وتصرفه على نفسها أو على أهلها.

هـل الجهـاد بحاجة إلى فتـوى

س : هل الجهاد في سبيل الله يحتاج إلى فتوى المجتهد مع أن الله قد أمر بالقتال؟

ج : صحيح أنّ الله أمر بالقتال، ولكنّه بأمر القيادة وليس قتالاً فوضوياً.

تزيـين المسـاجـد

س : هل مستساغ في الشرع أن تزين المساجد بشكل مترف بحيث يصرف عليها مبالغ خيالية؟

ج : ليس محرّماً إذا كان التزيين تزييناً بالآيات القرآنية وما أشبه ذلك، والأفضل عدم تزيين المساجد، ولا سيما بما لا يتناسب مع طبيعة المسجد، وربما ترتفع الحرمة بالعنوان الثانوي لإعطاء المساجد مسحة فنية غير مبالغ فيها. نعم، لا يجوز أن نصرف الحقوق الشرعية في المبالغة بالتزيين.

الوصيــة الواجبــة

س : ما معنى الوصية الواجبة؟

ج : الوصية الواجبة إذا كان المقصود منها أن يوصي الإنسان بما عليه من حقوق وواجبات، فإنه يجب عليه أن يوصي بما لا يستطيع أداؤه في الحياة ليؤدى عنه بعد الموت.

الأغانـي المتـداولـة

س : هل الأغاني المتداولة كلّها محرمة، وإذا كانت محرمة فما السبب في ذلك، فأنا أريد السبب المقنع؟

ج : الأغاني عندنا على قسمين: فهناك أغانٍ تشتمل على كلام حق مثل الأغاني التي فيها مناجاة الله، والأغاني التي فيها مدح النبي(ص) والأئمة(ع)، والأناشيد التي تتمثل فيها قضايا سياسية ضد الظلم والظالمين والوقوف مع الصادقين وما إلى ذلك، وهناك الأغاني التي فيها جانب الحنين للأهل والأوطان ووصف الربيع والطبيعة بشرط أن يكون اللحن لحناً لا يثير الشهوات. نعم، الأغاني المشتملة على كلام الباطل محرّمة، سواء إذا كان الكلام كذباً أو فيه تأييد للظالمين وللانحراف، أو كان مثيراً للشهوات، لأن الغناء يعمّق المعنى في النفس، فإذا كان المعنى باطلاً عمّق الباطل في النفس، وإذا كان المعنى حقاً عمّق الحق في النفس، ولذلك نحن نفرق بين الغناء المشتمل على كلمات الحق وبين الغناء المشتمل على كلمات الباطل، فالأول يجوز إذا لم يكن اللحن مثيراً للشهوات.

خاتـم من فضـة

س : هل يجوز لبس خاتم فيه أجزاء من الذهب؟

ج : إذا كانت الأجزاء مستهلكة بحيث لا يعتبر ذهباً فلا مانع.

ساعـة مطليـة بالذهـب

س: هل يجوز لبس ساعة مطلية بالذهب؟

ج : يجوز ذلك إذا كان مجرد طلاء.

كشف الحسنـاء وجههـا

س : ما هو حكم كشف المرأة الحسناء الملفتة للنظر لوجهها في مجتمع قلّ فيه من لا يملأ عينيه بالمرأة إذا مرّت عليه؟

ج : على الناس أن لا تنظر بشهوة وريبة وتلذّذ، ولكن يجوز للمرأة أن تكشف وجهها حتى لو كانت جميلة، إذ لا يحرم عليها ذلك، ولكن يحرم على الناس أن ينظروا بشهوة ولذة، {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [النور:30].

قيـادة المـرأة السيـارة

س : ما هو رأيكم في قيادة المرأة للسيارة وهي تعيش في محيط وعرف بحيث لا تستطيع أن تخلّص نفسها من بعض المواقف، كأن تقف على قارعة طريق نائية وهي تطلب المساعدة إذا أصاب سيارتها العطل، وقد يحدث ذلك ليلاً إضافة إلى وجود من يتكفّل ذلك؟

ج : من حيث المبدأ لا يحرم أن تقود المرأة السيارة إذا كانت متحفّظة من الناحية الشرعية في حجابها وما إلى ذلك، ولكن إذا طرأت أمور تعرّضها للخطر بالعنوان الثانوي فقد لا يجوز ذلك، وهذه القضايا تختلف باختلاف النساء والظروف.

الأوانـي الثمينــة

س : هناك أوانٍ في الأسواق أغلى من أواني الذهب، فهل يجوز الأكل فيها؟ وهل الملاك في التحريم كونه مخصوصاً بأواني الذهب فيكون أمراً تعبدياً؟

ج : ليست المسألة في قيمة الآنية، بل في خصوصية الذهب والفضة.

العـدل في العقوبـات الجزائيـة

س : في قانون العقوبات الجزائية في النظام الإسلامي، كيف يتمّ تحقيق العدل ضد مرتكبي الجرائم، مع وجود اختلاف كبير في حجم الجريمة في حين أنّ الحكم واحد؟

ج : الملحوظ في الإسلام طبيعة الجريمة وليس حجمها، ولذا فليس في القصاص طبقية، فعندما قتل ابن ملجم أمير المؤمنين(ع) وهو ابن ملجم والقتيل هو علي(ع)، ومع ذلك فإن الإمام(ع) قال: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين.. قتل أمير المؤمنين.. ألا لا يقتلنّ بي إلا قاتلي، ثم انظروا إذا متّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور". فالجريمة ليست في تأثيرها، فقد يُقتل شخص ولديه عائلة من 20نسمة، وقد يقتل طفل ليس له أحد، فالديّة في الحالتين هي نفسها، وكذلك القصاص مع أنّ حجم الجريمة هناك من حيث نتائجها المأساوية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي أكبر من الجريمة هنا. فهذه القضايا تعتبر في العرف القانون أنظمة، وهذا أمر قائم في العالم كلّه وليس في الإسلام فقط.

الصيـد اللـهــويّ

س : إذا كان الإنسان يذهب إلى الصيد للتسلية، لكنّه لا يستفيد من الطير أو الحيوان الذي يصطاده، فهل يعدّ ذلك من الصيد اللهوي؟

ج : الصيد اللهوي هو الصيد الذي يكون اللهو فيه هو الأساس، بحيث لا يقصد الاستفادة من الصيد، أو أن يأكل الصيد، كمثل بعض الناس الذي يصطاد طائراً أو حيواناً ثم يرميه أو يعطيه للآخرين، فهذا هو الصيد اللهوي.

الغنـاء الغـزلــي

س : ذكرتم في (فقه الشريعة) الجزء الثاني، أن الغناء إذا كان باطلاً شهوانياً أو غزلياً فهو محرّم، فهل أنّ الغناء الغزلي محرّم حتى لو لم يكن مثيراً للغرائز الشهوانية، أو إذا لم يكن يشتمل على وصف المحرّم؟

ج : الواقع أن جانب الغزل في طبيعته يهيّىء النفس لهذه الأجواء المثيرة، فهذه الأمور يلحظ فيها الجانب النوعي ولا يلحظ فيها الجانب الشخصي في هذا المجال، فلا إشكال أنّ القصائد الغزلية تعدّ الوجدان الإنساني والأحاسيس والمشاعر لأن تعيش عالماً قريباً من عالم الجنس بما تتغزّل به من أوصاف حسيّة تزيد من محاسن الأشياء المصوّرة، وقد لا يطرب بعض الناس بأي غناء، ولكنّ الملحوظ هنا بأن تكون طبيعة الغناء في مضمونه ولحنه غير مثيرة للشهوات، فالغزل ليس محرّماً، وإنّما الغناء هو الذي يعمّق المعاني الغزلية في النفس.

الدفن من دون إجراء المراسم

س : في الانتفاضة التي حدثت في العراق، دفن مجموعة من الشبان بعد قتلهم في حفرة كبيرة من دون إجراء مراسم الدفن، فهل يجوز نبش القبر الجماعي مع الأمن من الضرر وإجراء المراسم؟

ج : نعم يجوز ذلك إذا لم يوجب الهتك.

الخروج للجهاد من دون إذن الوالدين

س : بعض المجاهدين، وقد قتل بعضهم، يخرج بدون إذن والديه ورضاهما، وهم لا يستأذنون آباءهم لأنهم لا يأذنون لهم إذا طلبوا ذلك خوفاً من المصير الذي يلحق بهم، فما حكم جهادهم؟

ج : إذا كان الجهاد مشروعاً، فلا شيء عليه ولا حاجة للإذن في ذلك.

عـقــد صــوري

س : هل يجوز إجراء عقد صوري بين الأخ وأخته، علماً أن اسم الأخ غير مطابق لاسم الأخت من ناحية الأب والجد وذلك لغرض الالتحاق به؟

ج : هذه الأشياء الشكلية التي لا يترتب عليها شيء.. ليست محرّمة في ذاتها، ولكنّنا لا ننصح بذلك.

مخالفـة الاستخـارة

س : في اختياري لسلوك طريق معين، خالفت الاستخارة التي كانت أربعة نواهي وتفاءلت بالقرآن أيضاً وخالفته، فهل يترتّب على هذه المخالفة إثم شرعيّ؟

ج : مخالفة الاستخارة لا يترتب عليها إثم شرعي، ولكن معنى الاستخارة هو أنّ هذه مصلحة فأقدم عليها، وهذه غير مصلحة فلا تقدم عليها، كمن يذهب إلى الطبيب ويقول له هذه الأكلة تضرّك فلا تأكلها، وهذا الدواء ينفعك فخذه، إذا لم يكن الضرر بالغاً.

ألعـاب الكمبيـوتـر

س : هل تعتبر ألعاب الكمبيوتر أدوات لهو حرام؟

ج : كلاّ، فليس كل أداة لهو حرام.

هل الطـب حجـة دائماً؟

س : أثبت الطب والعلم الحديث فوائد تطبيق الواجبات الشرعية مثل الصيام والغسل عن الجنابة وغيرها، ولكن ثبت العكس في بعض الأمور، فهل ذلك يدلّ على الحرمة؟

ج : أولاً، العلم ليس معصوماً، حتى أنّ العلماء لا يقولون إن العلم يمثل الحقيقة المطلقة، فقد يطرح اليوم نظرية ويمكن أن يأتي بعكسها غداً، وما أكثر النظريات التي جاءت في السابق ثم تلتها نظريات أخرى وقلبتها على عقبها. ولذا فالعلم لا يمثل الحقيقة، لأننا نفرّق بين النظرية العلمية والحقيقة العلمية، فالحقيقة العلمية هي مثل الحقيقة الرياضية، أي أن (1+1=2)، فهذه قاعدة لا تتغير، لكنّ النظرية العلمية قد تأتي من تجربة معينة، وربما كانت التجربة ناقصة، وقد تأتي من استقراءات معينة، وربما كانت الاستقراءات غير وافية، ولذلك فالنظرية العلمية ليست حجّة، فقد قيل سابقاً إن الختان يعتبر حالة صحية، والآن يقولون إنه ليس كذلك.

فعندما يثبت عندنا أن الله قال ذلك، فهو الحقيقة، وأما النظريات العلمية فلا تجعلنا نترك ما قاله الله. نعم، إذا كانت هناك حقيقة علمية، فإننا نؤوّل النص لمصلحة الحقيقة العلمية.

مصافحة الزبائن من النساء

س : أعمل في أحد محلاّت بيع الملابس في تركيا، ويشترط عليّ صاحب المحل مصافحة الزبائن من النساء المشتريات لجلبهنّ للشراء، وهذا شيء متعارف عليه هناك، فما هو الحكم الشرعي؟ علماً أن جميع فرص العمل المتوفرة تشترط ذلك، بل إن الغالب منها يشترط حتى التقبيل؟

ج : هذا عمل محرّم ولا يجوز، وعلى الإنسان أن يبحث عن عمل لا يعصي الله فيه.

التوفيق بيـن حكميـن

س : كيف نوفّق بين فتواكم في حرمة التواجد في الأماكن التي تباع فيها الخمور وبين جواز العمل في الأماكن التي يباع فيها لحم الخنـزير والخمور؟

ج : هناك فرق بين أن تكون المطاعم أو الأماكن التي تباع فيها الخمور إسلامية، فهذه لا يجوز حتى الشراء منها، إلا إذا كان هناك حرج. فالسؤال الذي يطرح علينا غالباً هو من الأخوة المهاجرين، وذلك تقدّم عندما تكون المطاعم في الغرب، وهي مطاعم غير المسلمين، ويباع فيها الخمر ولحم الخنـزير. وهم مضطرون للعمل فيها، ولذا نجيز لهم بالشروط المذكورة، أما بالنسبة إلى بلاد المسلمين فينبغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

التبعيـض في التدخيـن

س : نحن مجموعة من مقلديكم، بعضنا يدخن ويقول إن السيد يحرم التدخين، فيمكن أن نقلد غيره في هذه المسألة، فهل هذا التبعيض جائز؟

ج : أنا أجوّز التبعيض، أي الرجوع إلى غيري في بعض المسائل إذا كانت هناك حاجة ملحّة، لا من خلال هوى النفس فقط. وأنا أنصح المدخنين أن يلتزموا بعدم التدخين حفاظاً على صحتهم، وإشفاقاً عليهم، لأن التدخين هو الصديق الذي يقتل صاحبه، والعالم اليوم يتجه إلى تحريم التدخين ومنعه قانونياً، سواء في الطائرات أو في الأماكن العامة، ذلك أن الأطباء أجمعوا على أنّ التدخين مسؤول عن تهيئة الجسم لسرطان الرئة والفم وما إلى ذلك. فالإنسان عندما يريد أن يحكّم مزاجه بما يمكن أن يقتل حياته، فأي عاقل هو؟ إن مثل المدخن مثل الذي يفتح فمه ليعبّ دخان المدخنة. ثم إني أسألكم هل في التدخين أية فوائد أو فيتامينات؟ إن المبرر الوحيد لذلك هو العادة، ولا بدّ للإنسان أن لا تحكمه العادة، بحيث يكون أسير عادته، إنما شرع الله الصيام من أجل أن يحرّر الإنسان من الخضوع لعبودية العادة.

ضابـط الإسـراف

س : ما هو الضابط في السرف الزائد الذي يتوجّب فيه الخمس؟

ج : المراد بالسرف هو الشيء الزائد عن حاجاته الطبيعية والكمالية، فكل إنسان عنده حاجات طبيعية وأخرى كمالية، ولكن ربما يسرف بشكل فوق العادة، مثل الذي يعدّ طعاماً ويرمي نصفه في صندوق القمامة أو ما أشبه ذلك، فالإسراف يحدده العرف.

نتـف الوجنتيـن

س : هل نتف الوجنتين حرام أم لا؟

ج : ليس حراماً.

فتـوى موحّدة لدعم الانتفاضة

س : لماذا لا يجتمع علماء المسلمين في طرح فتوى موحّدة لدعم انتفاضة القدس، وذلك لمقاطعة البضائع الأمريكية والصهيونية؟

ج : نحن مع هذا الاقتراح، ولكن من يجمعهم؟!

الجلـوس مع المدخنيـن

س : المعروف أنكم تقولون بحرمة التدخين، فهل تسري الحرمة لمن يجلس إلى جانب المدخّن؟

ج : إذا كان الضرر معتداً به، أي يؤدّي إلى ما يؤدّي إليه التدخين ولو بنسبة أقلّ من السرطان، فلا يجوز، ولذلك نقول إن المدخّن يرتكب جريمتين؛ جريمة بحق نفسه، وجريمة بحقّ الناس الذين يجلسون إلى جانبه، خصوصاً الأطفال، لأن مناعتهم أضعف، وكذلك المرأة الحامل، سواء كانت تدخّن هي شخصياً أو كان هناك من يدخّن إلى جوارها.

لكن عادة بعض الناس أفضل من حياتهم، حتى أنّ أحد المدخنين طلب منه الطبيب ترك التدخين، فسأله إذا ترك التدخين فكم أعمّر؟ قال له: ستة أشهر، فقال له وإذا استمريت عليه فكم أعيش؟ قال تموت سريعاً، فقال المدخن لا حاجة لي بستة أشهر خالية من التدخين! وهكذا بعض الناس، فإن العادة تتحكم فيهم، بحيث إذا دار الأمر بين حياتهم وبين مزاجهم، فإنّهم يقدّمون مزاجهم على حياتهم، وهذا لون من ألوان العبودية. ولعلّ من أعظم فوائد الصوم لمن يصوم واعياً، أنه يحرّر الإنسان من عبودية العادة.

شهداء العمليات الاستشهادية

س : هل أنّ المؤمنين الذين ينفّذون العمليات الاستشهادية ضد إسرائيل شهداء؟

ج : هم من أعظم الشهداء، فعملهم جهاد في سبيل الله، إذ ما الفرق بين من يدخل المعركة وهو يعلم أنه سوف يقتل برصاص العدو، وبين مجاهد آخر يدخل المعركة من جهة حاجة الخطة الجهادية إلى من يفجّر الألغام أو يفجّر نفسه في سيارة. ولا بدّ أن يكون القائم بهذا العمل قد حصل على إذن من جهة شرعية تشرف على خط الجهاد. وبالطبع تجري عليه أحكام الشهيد إذا كان في قلب المعركة، أما إذا كان في مكان آخر فالحكم يختلف.

إرجاع الحقوق الشرعية:

س : كنت محتاجا ماديا وقد أخذت من الحقوق الشرعية بعناوين متعدّدة كطالب علم وعابر سبيل وغير ذلك، والآن أمري المادية جيدة جداً وذلك عن طريق العمل في بلاد الغرب، وأنوي إرجاع كلّ ما أخذت من الحقوق الشرعية، فهل أعطي الحقوق إلى كلّ من أعطاني بعينه؟

ج : لماذا ترجعها؟ لقد كنت إبّان أخذك للحقوق فقيرا وكنت مستحقًا للحقوق الشرعية، فالحقوق وصلت إلى أهلها ومن أهلها وفي محلها فلا يجب عليك إرجاعها عندما يوسّع الله عليك. نعم، عليك أن تخرج حقوقك الشرعية وتعطيها للفقراء وليس لمن أعطاك.

قطع رجل الدجاجة:

س : هل يجوز قطع رجل الدجاجة بعد ذبحها، وقبل زهق الروح؟

ج : ليس ذلك محرما ولكنه قد يكون مشكلا من جهة تعذيب الحيوان، فالله تعالى أحلّ لنا أن نذبح الدجاج فقط ولم يحلل لنا أن نعذبه لأنّه ظلم وعدوان سواء بالنسبة للحيوان أو للإنسان. نعم، نحن نذبحه لأنّ الله حلّل ذلك والله هو ولي الحيوان وولي الإنسان.

العمل عند غير المسلمين:

س : في أكثر البلدان الأميركية والأوروبية هناك طاقات إسلامية تدخل في إدارة عجلة الاقتصاد وتقويّها، وتقوم تلك الدول باستعباد العمال المساكين من البلدان الإسلامية، فهل العمل هناك يعتبر مساعدة للظالمين ككراء الجمال؟

ج : هذا لا يعتبر ككراء الجمال، كما في الرواية عن صفوان، باعتبار انّ القضية هناك لها حالة صراع معين ومباشر والإمام(ع) كان يريد أن يربّي اتباع أهل البيت(ع) على هذه الروحية، وإلاّ لما كان يطلب من (علي بن يقطين) وجماعة آخرين أن يتوظفوا عند الخليفة. أمّا إذا كان لدى الإنسان حاجة في العمل عندهم وهم يملكون الاقتصاد ففي ذلك خدمة لنفسه وان كان فيها خدمة لهم، لكن المهم أن المسألة هنا تختلف عن المسألة في الرواية المذكورة.

في الحلف:

س : حلفت امرأة أن لا تدخل بيت ابنتها المتزوجة عندما كانت غير راضية عنها، فإذا أرادت الدخول إلى بيتها فهل تحنث؟

ج : لا تحنث، وليس عليها كفارة، لأنّ الحلف على قطيعة الرحم لا قيمة له، إذ لابدّ أن يكون متعلق اليمين راجحا وطاعة للّه سبحانه وتعالى.

الغنـاء والرقص في الأعراس

س : في الأعراس يقرأ ما يعرف بمواليد أهل البيت(ع) أو يبث من المسجلة بعض الأغاني، فهل يجوز أن ترقص النساء من أخوات العريس أو العروس على نغمات هذه الأغاني؟ وإذا كان ذلك حراماً، فهل يجب إنكار ذلك بأية طريقة؟

ج : هناك فتوى تقول يجوز الغناء للنساء في الأعراس، ولكن لا بد أن يكون الغناء بالحق لا بالباطل، كما جرى تأكيد ذلك مراراً في هذه الندوة، أما الرقص فقد اختلف العلماء في جوازه وفي حرمته، فهناك مشهور العلماء الذين يقولون بحرمة الرقص، ولكن رأي سيدنا الأستاذ أبو القاسم الخوئي (رحمه الله) أن رقص النساء للنساء حلال، ورقص الرجال للرجال حلال، بشرط أن لا يكون خليعاً وأن لا يكون مصاحباً للمحرمات مثل اختلاط النساء والرجال، كما أن رقص المرأة لزوجها أو رقصهما معاً جائز، ونحن نرى رأي السيد وليس عندنا دليل على حرمة الرقص إلا إذا كان بنحو مائع خليع يثير الشهوات.

استغلال فتوى الرقص

س : تستغل كثير من النساء ظاهر الفتوى بحليّة الرقص، فيقمن برقصات مثيرة جداً، ويقلّدن فيها المنحرفات، ما يؤثر على شخصيتهن، حيث تقول عنهن رفيقاتهن إنهن راقصات أو مطربات؟

ج : لقد قلنا بالحلية المشروطة، بحيث لا يكون الرقص رقصاً مثيراً وليس فيه ميوعة أو خلاعة، فإذا حرّك الإنسان بدنه بطريقة الرقص العادي ليس حراماً، أما تحريك البدن بطريقة مثيرة للشهوات أو الدعوة للجنس بالمستوى الذي قد يوحي بالإثارة أو يقود إلى الانحراف الجنسي في الجنس الواحد، فهذا لا يجوز لا للنساء ولا للرجال، ولكن بعض الناس يستغل الفتوى ويتجه بها إلى غير المنحى المراد منها.

الحلي المنقوشة بالآيات:

س : هناك بعض الأخوات المؤمنات يسألن عن الحكم في لبس الحلى الذهبية المنقوشة بالآيات القرآنية في حال الدخول إلى بيت الخلاء، هل هو جائز؟

ج : ليس محرّماً، لأن الحرمة من جهة أن هذا يوجب هتك حرمة الآيات القرآنية، ولكن عرفاً لا إشكال في ذلك، كمن يدخل بيت الخلاء والقرآن في جيبه، أو أنه يضع شيئاً فيه بعض الآيات القرآنية، فلا يعتبر ذلك هتكاً وإنزالاً لقيمة القرآن. وقد يكون ذلك مما هو مستنكر سابقاً، ولكن في عرفنا الاجتماعي الحالي ليس في ذلك هتك لحرمة القرآن، ولذا يجوز الدخول إلى بيت الخلاء بالحلي المذكورة من الناحية الشرعية.

التصفيـق والزغاريـد

س : ما هو الحكم الشرعي حول موضوع تصفيق الرجال والنساء وزغاريد النسوة في بعض مناسبات ولادات الأئمة(ع)؟

ج : ليس ذلك محرماً، لكن بعض الناس لا يطيقون أن يروا الناس يفرحون أو يعبّرون عن إعجابهم بهذه الطريقة، فإذا كانت هناك حفلة وكان هناك شاعر يلقي قصيدة لاقت استحسان المستمعين فصفقوا له، أو أنهم صفقوا لمحاضر بعد انتهاء محاضرته إعجاباً بها، فإنهم يستنكرون عليهم ذلك، والتصفيق والزغاريد ليست حراماً، لكننا نختزن الشخصية البكائية، حتى أنك ترانا في مواليد الأئمة(ع) نبكي ونردد:

يفرح هذا الورى بعيدهم   ونحن أعيادنا مآتمنـا

والحال أن الأئمة(ع) كانوا يرتاحون ويستأنسون ويفرحون، ورحم الله السيد مصطفى جمال الدين الذي ألقى قصيدة في النجف في مولد الإمام الحسين(ع) يقول في مطلعها:

قابلت رزءك غير مكتئب   أشدو وأنت السر في طربي

نـذر فـي كربـلاء

س : لي نذر ذبيحة في حضرة الإمام الحسين(ع) بكربلاء، ولكن يشق عليّ الذهاب إلى هناك، فهل يجوز الذبح في بغداد وتوزيع اللحم على الأقرباء والجيران والعائلة نفسها؟

ج : إذا كان النذر صحيحاً، أي أنك نويته لله بأن قلت (لله عليّ نذر) فعليك أن تفي بنذرك وأن توزّعه على الفقراء في كربلاء، أما إذا لم يكن صحيحاً، أو كنت تستطيع أن توكل ذبح الشاة إلى شخص ثقة، بحيث يتمكن من ذلك ويوزّعها على الفقراء هناك فافعل، وأما إذا لم تتمكن أبداً من الوفاء بنذرك فيمكنك أن تذبحها في أي مكان وتوزعها على الفقراء.

اللجوء إلى القضاء غير الإسلامي

س : هل يجوز اللجوء إلى القضاء غير الإسلامي كما في الدول الأوروبية للحكم بين مسلمين رغم وجود علماء دين هناك؟

ج : لا يجوز الرجوع إلى حكام الجور إذا كان بإمكان الإنسان أن يحصل على حقه من خلال حكام العدل.

صديقة تستمع إلى الأغاني

س : أنا امرأة ملتزمة، ولي صديقة أحبها كثيراً، لكنها تستمع إلى الأغاني، وقد حاولت أن أنصحها، ولكنها لم تستمع لي، فدلّني على طريقة أتمكن من إقناعها بها؟ وإذا لم تقتنع فهل عليّ مقاطعتها؟

ج : الطريقة المناسبة هي أن تقوّي إيمانها وخوفها من الله سبحانه وتعالى بالتدريج، وأن تذكّريها بأسلوبك الخاص بالجنّة والنار، ولا يجب مقاطعتها إذا لم ترتدع، لأن من الممكن أن تكون لديها جوانب أخرى إيجابية، ومن خلال مصاحبتك لها يمكن أن تؤثّري فيها.

التجسس على الأحاديث السلبية

س : هل يجوز لي التجسس على رفاقي إذا كانوا يتحدثون عني بحديث إيجابي أو سلبي؟

ج : لا يجوز ذلك.

تحريم المفرقعات النارية

س : في خطبتي العيد والجمعة أطلقتم فتوى بتحريم المفرقعات النارية، وحرمتم دفع المال للأطفال حتى لا يتمكنوا من شرائها، فما هي الأسباب الرئيسية لذلك؟

ج : لقد حرمت ذلك بالعنوان الثانوي، فالمفرقعات، خاصة الجديدة منها تولّد الرعب للأطفال وإزعاجاً للمنطقة السكنية كلها، فهي مظهر من مظاهر التخلّف والتربية السيئة، وهي مضرّة بالجو العام، فهي محرّمة بالعنوان الثانوي، بلحاظ النتائج السلبية المترتبة عليها، ولذا فأنا أحرّم الاتجار بها وإعطاء المال للأطفال لشرائها واستعمالها.

قتلى الانتفاضة الفلسطينية

س : هل أن قتلى المواجهات اليومية مع القوات الصهيونية في داخل فلسطين يعتبرون شهداء؟

ج : أية شهادة أفضل من هذه الشهادة في واقعنا المعاصر؟!

الذبح بآلة مكتوب عليها التسمية

س : هل ذبح الدجاج بآلة ميكانيكية مكتوب عليها (بسم الله والله أكبر) والعامل الذي يقف عليها مسلم، جائز شرعاً؟ وهل إشراف مركز إسلامي يعتمد في ذلك؟

ج : يقول الله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121]. ولم يقل لم يكتب أو كتب، فذكر اسم الله إما يكون باللسان أو من خلال مسجّلة يضعها المشرف على الذبح، كما لو كان قد نطق بها، وإذا أخبرنا المشرفون على الذبح أن اسم الله يذكر عند الذبح ونحن نعلم بصدقهم أو نطمئن به فذبحهم حلال.

التنويـم المغناطيسـي

س : هل التنويم المغناطيسي حرام؟

ج : ليس حراماً إذا كان برضا صاحبه.

التحويل البيولوجي للذكورة والأنوثة

س : لو أن رجلاً وامرأة تحوّلا إلى جنس آخر من حيث الأنوثة في الأول والذكورة في الثانية، فهل يجوز للمرأة المتحولة إلى رجل أن تتزوج من امرأة وبالعكس، علماً أن العملية الجراحية تكون بتغيّر في الأعضاء الخارجية فقط؟

ج : هذه العملية ليست واقعية إلا في الخنثى، وأما بالنسبة لغير الخنثى فهي أمر غير واقعي، ولذا يبقى الرجل رجلاً حتى لو ظهرت عليه بعض العلامات الأنثوية، ويقال إن المرأة يمكن أن تتحول إلى رجل، وهذه القضايا يرجع فيها إلى أهل الاختصاص.

ولكن إذا بقي عنصر الذكورة في الرجل وعنصر الأنوثة في المرأة فحكمهما هو الحكم السابق على عملية التحويل، وأما إذا تحقق ذلك فعلاً فالحكم هو حكم الواقع الجديد.

كفارة مخلف العهد

س : إذا عاهد الإنسان الله عهداً على القيام بشيء معين، ثم أخلف، فهل عليه كفارة كلما عمل الذنب؟

ج : إذا عاهد الله ونقض عهده، فليس عليه سوى كفارة واحدة حتى لو كرّر الذنب، ولكن ذلك اجتراء على الله، بحيث تجعله أهون الناظرين إليك.

تعبئـة عطور غير أصليـة

س : لي صديق يعبّىء العطور ويبيعها على أنها أصلية، فما حكم المال الذي يجنيه منها؟ وما حكم شراكته معي في المسكن والطعام؟

ج : يقول النبي(ص): "ليس منّا من غشّ"، ولذلك فلا يجوز الغش، خصوصاً إذا اشترطوا عليه أن يعطيهم عطراً أصلياً وأعطاهم عطراً من جنس آخر، فهو إنسان يغشّ في المعاملة، أما عن شراكته في المسكن والطعام فليس في ذلك مشكلة.

إجـازة مدخّـن

س : أنا أدخّن قبل أن أقلّدكم وأنتم تحرّمون التدخين، فهل تجيزون لي ذلك؟

ج : رحمةً بك لا أجيز لك ذلك، ولتكن لك إرادة قوية في الترك لتحافظ على صحتك، فهي أثمن من أن تهدرها في الدخان الذي ثبت من خلال تقارير علمية أنه المسؤول عن سرطان الرئة وسرطان الحنجرة وسرطان الفم، وعلى كلّ حال، فهو يهيّأ الجسم للسرطان ولا يعقل أن يترك إنسانٌ يحرص على صحته وسلامة بدنه للسرطان فيمنحه المجال في أن يهدم صحته. ولكن إذا كان الترك حرجًا عليك وكنت تأمن على نفسك المرض بطريقة وبأخرى فيجوز التبعيض بالرجوع إلى من يجيز ذلك.

صرف الهدية في الحرام

س : إذا بعثت لصديقي أموالاً كهدية وهو يصرف هذه الأموال في الأشياء الحلال والحرام، فهل أكون قد ارتكبت ذنباً أم ثواباً؟

ج : إذا دفعت له المال بعنوان الإعانة له على معيشته فلا بأس، لكن إذا عرفت أنه سوف يصرفه في الحرام فعليك أن لا تعاونه على ذلك.

س : وإذا ساعدت شخصاً لشراء راديو أو فيديو وهو يسمع أو ينظر إلى المحرمات وغير المحرمات؟

ج : نفس الجواب السابق.

فضـح الظالـم

س : إذا ظلمني شخص أو ظلم أقربائي، فهل يحق لي أن أفضحه أمام الغير؟

ج : {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء:148]. إذا كنت مظلوماً فلأحوط أن تتحدث عن ظلامتك، وإذا كانت ظلامة أهلك ظلامة لك فيجوز ذلك لدفع الظلم.

الدليل على جواز حلق اللحية

س : ما هو الدليل على جواز حلق اللحية واستحباب إطلاقها؟

ج : لا حاجة للدليل على الجواز، وإنما الحاجة هي للدليل على الحرمة، فالأصل الحليّة، فنحن نرى أن الأدلة التي استدلّ بها العلماء على حرمة حلق اللحية ليست تامّة الدلالة ولا تامة السند.

الالتزام بقانون الدول المضيفة

س : ما هو رأيكم بمقلّديكم من طالبي اللجوء في الغرب في مسألة الالتزام بقانون الدولة التي يسكنون فيها، فهل يلتزمون بقانون الأحوال الشخصية؟

ج : الالتزام بالقانون فيما لم يحرّم الله، فلا يسيئون إلى أمن البلد الذي يقيمون فيه، ولا إلى أموال الناس ولا إلى أعراضهم ولا إلى قانون السير ولا أن يقترضوا فلا يوفون، ولا أن يحرقوا محلاتهم ليتقاضوا عوضاً من شركات التأمين، وباختصار أن لا يسيئوا للنظام العام.

أما الزواج والطلاق والميراث فعلى كل إنسان أن يعمل بحسب تكليفه الشرعي.

معرفة الأمر بالمعروف

س : كما في الحديث: "من يفتي بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار"، فكيف تطلبون من الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ألا يعدّ ذلك من العمل بغير علم؟

ج : ليس في كل شيء، فالإنسان المسلم يعرف أن الصلاة واجبة فيأمر بها، ويعرف أن الخمر حرام فينهى عن شربها، فعلى الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر فيما يعرفونه لا فيما يجهلونه.

غنـاء الحنيـن

س : هل الاستماع إلى الغناء لا بقصد الطرب، بل بقصد الشوق إلى الأحبة جائز؟

ج : إذا كان مضمون الغناء مضمون الحنين الذي ليس فيه أية إثارة للغريزة، فليس محرماً.

وشم حاجب المرأة بالليزر

س : ما هو حكم تعديل أو وشم حاجب المرأة بالليزر؟ وهل يصطلح عليه مصطلح(الوشم) أم لا؟

ج : الوشم الذي تحدث عنه السائل هو (لعن الواشم والمتوشم) الذي يكون فيه تدليس وغش، أما هذا فهو من طبيعة زينة المرأة وليس محرماً.

جواز النظر إلى الأجنبية العارية

س : هل صحيح أنكم أفتيتم بجواز النظر إلى عورة النساء المبتذلات، سواء على شواطى البحر أو في أي مكان آخر؟

ج : ليس أنا فقط الذي أفتى بذلك، فالسيد كاظم اليزدي والعلماء الآخرون قالوا بجواز النظر إلى اللائي لا ينتهين إذا نهين، ويقول السيد اليزدي في (العروة الوثقى): "والأحوط الاقتصار على ما جرت عادتهن على عدم ستره". وليس النظر بشهوة وبريبة، وإنما النظرة العابرة وذلك في مورد خروج بعض النساء عاريات في الشارع كما قد يحدث في الغرب ويصادف ذلك مرور إنسان بشكل عادي على نحو الصدفة فيقع نظره عليها ولا يشمل ذلك صورة الذهاب إلى نوادي العراة أو قصد النظر للمرأة العارية بشكل متعمد للشهوة والريبة. لكنّ البعض ممن لا تقوى له يريد إثارة الفتنة في أوساط بعض الناس غير المتفقهين فيحاول نقل الفتوى على طريقة ((ويل للمصلين)).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

*** [نقص من عنوان () ص  إلى قوله () ص ]

 


([1]) الندوة: الجزء الثالث. ط1.ص80.

[2])) آل عمران/175.

[3])) الندوة: الجزء الرابع. ط1.ص39-40.

[4])) الندوة: الجزء الخامس. ط1.ص334-335.

[5])) الندوة: الجزء الثاني. ط1.ص41.

[6])) الزمر: 17-18.

[7])) الندوة: الجزء الخامس. ط1.ص170.

[8])) نفسه: ص86.

[9])) الإسراء: 36.

[10])) الندوة: الجزء الخامس. ط1.ص126.

([11]) الندوة: الجزء الثامن. ص543.

[12])) الندوة: الجزء الثامن. ص170.

[13])) القيامة: 14-15.

[14])) الندوة: الجزء الرابع. ط1.ص339.

[15])) الندوة: الجزء الخامس. ط1.ص18.

[16])) نفسه: ص343.

[17])) سبأ/24.

[18])) الندوة: الجزء الثاني. ط1.ص233-234.

[19])) الندوة: الجزء الخامس. ط1.ص289-290.

[20])) المائدة/8.

[21])) الأنعام/152.

[22])) النساء/135.

[23])) الندوة: الجزء الخامس.ط1.ص293.

[24])) الحشر/7.

[25])) الندوة: الجزء الأول. ط2.ص100.

[26])) الندوة: الجزء السابع: ط1.ص171.

[27])) الندوة: الجزء السادس: ط1.ص381-382.

[28])) الندوة: الجزء الثاني. ط1.ص42.

[29])) يوسف/111.

[30])) البقرة/134.

[31])) الندوة: الجزء الثامن. ط1. ص286-287.

[32])) الندوة: الجزء الخامس. ط1.ص290-291.

[33])) الندوة: الجزء السادس. ط1.ص143.

[34])) الندوة: الجزء السادس. ط1.ص53.

[35])) الندوة: الجزء السابع. ط1ص284-285.

[36])) الندوة: الجزء السادس. ط1.ص181.

[37])) الندوة: الجزء السادس. ط1.ص278.

([38]) آل عمران: 144.

[39])) الندوة: الجزء الأول. ط1.ص107.

[40])) الندوة: الجزء السابع. ط1.ص367.

[41])) الندوة: الجزء السابع. ص280 - 281.

[42])) الندوة: الجزء السادس. ص248-249.

[43])) الندوة: الجزء الخامس.ط1.ص113-114.

[44])) الندوة: الجزء الخامس. ط1.ص33.

[45])) الندوة: الجزء الثامن. ط1 ص 500.

([46]) الندوة: الجزء السابع. ط1. ص285.

[47])) الندوة: الجزء السادس. ط1.ص182.

[48])) الندوة: الجزء السابع. ط1.ص268.

[49])) الندوة: الجزء الرابع. ط1.ص57.

[50])) الندوة: الجزء السابع. ط1.ص364.

[51])) الندوة: الجزء الرابع. ط1.ص384-385.

[52])) الندوة: الجزء السابع. ط1.ص209.

[53])) الندوة. الجزء الثالث. ط1. ص90.

[54])) الندوة. الجزء الخامس. ط1. ص116.

[55])) الندوة: الجزء الخامس. ط1. ص85-86.

[56])) الندوة: الجزء الثالث. ط1. ص34-35.

(*) وهي ((إعمل لديناك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً)).

[57])) الندوة: الجزء السابع. ط1. ص341-342.

[58])) الندوة: الجزء الخامس. ط1. ص338-339.

[59])) النساء: 59.

[60])) الندوة: الجزء الخامس. ط1. ص110-111.

[61])) الندوة: الجزء الخامس. ط1. ص110-112.

[62])) الندوة: الجزء الخامس. ط1. ص140-141.

[63])) الندوة: الجزء الرابع. ط1. ص67.

[64])) الندوة: الجزء الخامس. ط1. ص115.

[65])) النساء: 51.

[66])) الندوة: الجزء الأول. ط2. ص111.

[67])) الندوة: الجزء السادس. ط1. ص388-389.

[68])) الندوة: الجزء الرابع. ط1. ص119-120.

(1) الجاثية:24.

(2) المؤمنون:37.

(3) تنويه: الرواية عن أحمد بن محسن الميثميّ التي كانت محور المحاضرة مأخوذة عن كتاب (أصول الكافي) للكليني، الجزء الأول، طبعة دار التعارف بيروت. ص130-132.

(4)الكليني:  الكافي/ج1/ح2/ص74.

(1)الكليني: الكافي. ج1. ح4. ص79.

(2)الكليني: الكافي. ج1. طبعة دار التعارف. ص223-224.

(1)أصول الكافي. ج2. ص224 -37.

(1) الأعراف: 20-21.

(2) البقرة:38.

(3) الأعراف: 16-17.

(4) ق:16.

(5)الكليني: الكافي. ج2. ص425. ح3.

(6)الكليني: الكافي. ج2. ص425.ح4.

(7)الأعراف:201.

(8) المؤمنون:97.

(9)الكليني: الكافي. ج2. ص424.

(10)النحل:43.

(11)المائدة:6.

(12)الكليني: الكافي. ج1. ص11. باب عدم جواز الوسوسة في النيّة والعبادة.

(13) فروع الكافي: ج3. ص358.

(14)الناس: 1-6.

(1) الزخرف: 67.

(2)الكليني: الكافي. ج2. ص170.

(3) الحجر : 47.

(4) آل عمران : 15.

(5) الكهف : 28.

(6) الشعراء: 100-101.

(7) الفرقان: 27.

(8) الفرقان: 28.

(9) الفرقان :29.

(10) الحشر : 16.

(11) إبراهيم : 22.

(12) آل عمران : 133.

(13) إبراهيم : 22.

(14) فاطر : 6.

(15) إبراهيم : 22.

(16) الحجر : 42.

(17) إبراهيم : 22.

(18) الأعراف : 16-17.

(19) إبراهيم : 22.

(20) الزخرف : 67.

(21) الصافات : 51-53.

(22) الزخرف:  38.

(23) ق~: 27-30.

(24) فصلت: 25.

(25) الأحاديث المروية الواردة في المحاضرة عن ميزان الحكمة، لري شهري. ج5.

(1) الفرقان: 27-29.

(2) الأنعام: 68.

(3) الزخرف : 67.

(4) البقرة: 166-167.

(5) الحجر: 47.

(6) التوبة: 119.

(7)الكليني: الكافي. ج5. ص88. ح1.

(8) الزلزلة: 9.

(9) القصص: 77.

(10) المائدة: 82.

(11) فصلت: 34.

(1) الحجرات:10.

(2) الروايات عن كتاب (ميزان الحكمة) لري شهري/ ج5. باب الصداقة.

(1)الكليني: الكافي. ج2. ص78. ح 14.

(2) التوبة:105.

(3) الزلزلة: 7-8.

(4) الأحاديث المروية عن الأئمة من أهل البيت i والواردة في متن المحاضرة مأخوذة عن كتاب (ميزان الحكمة) لري شهري. المجلد الخامس. ص312-315.

(1)الكليني: الكافي. ج5. ص507. ح4.

(2) النساء: 36.

(3) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد. ج 6. ب 69. ص120 الأحاديث.

(4)الكليني: الكافي. ج1. ص239. ح1.

(1) الانفطار :19.

(2) القمر: 55.

(3) البقرة: 187.

(5) الروايات والأحاديث التي وردت في بحث الصداقة بقسميه مأخوذة عن كتاب (ميزان الحكمة) المجلد الثاني. لري شهري. باب (الجار) ص190-196.

(1) فاطر: 8.

(2) الكهف: 103-104.

(3) التوبة: 25.

(4) الحشر: 14.

(5) روايات المحاضرة عن (ميزان الحكمة) مجلد 6، ص42، باب العجب.

(1)الكليني: الكافي. ج2. ص314. ح7.

(2) البقرة :183.

(1) النحل: 53.

(2)الأعراف: 16-17.

(3)الإسراء: 14.

(4) الكهف: 49.

(5) الزلزلة: 7-8.

(6) روايات وأحاديث هذا الفصل من موضوع (العجب) عن كتاب (ميزان الحكمة) مج 6. ص48-50.

(1)ملاحظة: الروايات في هذا الفصل عن كتاب (ميزان الحكمة/ مج6. ص51-53).

(*)إشارة إلى الطفل الفلسطيني الشهيد (محمد الدرّة) الذي هزّ مقتله ضمير العالم. (المعد)

(1) آل عمران:139-140.

(2) آل عمران:26.

(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج6. ب73. ص166.

(4) نفسه. ج17. ب53. ح32.

(5) المائدة:8.

(6) آل عمران:61.

(7) شرح نهج البلاغبة لابن أبي الحديد. ج13. ب238. ص197.

(8) نفسه. ج2. ب37. ص297.

(9) شرح نهج البلاغبة لابن أبي الحديد. ج2. ص74. ح3.

(10) نفسه. ج16 . ب45. ص205.

(11) نفسه. ج6. ب69. ص120.

(12) نفسه. ج17. ب47. ص5.

(13) الصدوق: من لا يحضره الفقيه. ج4. ص35. ح5025. ب2.

(14) البقرة:214.

(1) البقرة: 257.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج9. ب151. ص146.

(3)الكليني: الكافي. ج2. ص147. ح16.

(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.ج18. ب13. ص115.

(5) نفسه. ج19. ب268. ص147.

(6) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج2. ب 37. ص297.

(7) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج17. ب47. ص5.

(8) النساء:79.

(9) الصف:1-2.

(10) آل عمران:159.

(11) التوبة:128.

(12)الأحزاب:21.

(13) النحل:125.

(14) فصلت:34.

(15) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج18. ب10. ص107.

(16) الإنسان:10.

(17)الأنعام:108.

([69])الكليني: الكافي. ج2. ص110.

([70])نفسه، ص68.

(1)الكليني: الكافي ج1. ص60-61.

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج13. ب238. ص197.

(2) العنكبوت: 48.

(3) النساء: 113.

(4) الشورى: 52.

(5) القصص: 86.

(6) آل عمران: 144.

(7) الأحزاب: 40.

(8) النساء: 59.

(9) الأنبياء: 107.

(10) آل عمران: 104.

(11) آل عمران: 110.

(12) النساء: 51.

(13) التحريم: 6.

(14) آل عمران: 103.

(15)الكليني: الكافي. ج2. ص163. ح1.

(16) الأنفال: 46.

(17) الجمعة: 2.

(18) الحجرات: 10.

(19) آل عمران: 103.

(1) البقرة: 214.

(2) المنافقون: 8.

(3) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد. ج1. ب11. ص241.

(1) الحج: 6.

(2) يوسف: 111.

(3) البقرة: 134.

(4) الصف: 2-3.

(5) هود: 113.

(6)الكليني: الكافي. ج2. ص334. ح18.

(7) الأنفال: 34.

(1) الحجرات/12.

(2) البقرة/189.

(3) النور/27.

(4)الأحزاب/10-12.

(5) روايات المحاضرة عن كتاب (ميزان الحكمة) موضوع (التجسّس).

(6) الحجرات/12.

(1) البقرة: 185.

(2) التوبة: 31.

(3) آل عمران: 3.

(4) البقرة: 285.

(5) النساء: 82.

(6) فصلت: 30.

(7) الأنعام: 153.

(8) غافر: 60.

(9) الأنعام: 103.

(10) غافر: 60.

(11) البقرة: 186.

(12) ق~: 16.

(13) غافر: 19.

(14) البقرة: 186.

(15) القصص: 24.

(16) القصص: 17.

(17) طه: 114.

(18) المؤمنون: 97.

(19) البقرة: 183.

(20) النساء: 1.

(21) الحشر: 18.

(22) الأعراف: 194.

(23) البقرة: 187.

(24) الحشر: 19.

(25) القصص: 77.

(26) الروايات الواردة في أصل المحاضرة عن كتاب (ميزان الحكمة) المجلد الخامس، الفصل الخاص بالصوم.

(1) البقرة: 216.

(2) النساء: 19.

(3) آل عمران: 180.

(4) البقرة: 218.

(5) الكهف: 46.

(6) الإسراء: 11.

(7) الجمعة: 6.

(8) الجمعة: 7.

(9) الحاقة:30-32.

(10) الفجر: 27-30.

(11) الزلزلة: 7-8.

(12) ملاحظة: الروايات الواردة في أصل المحاضرة مأخوذة عن كتاب (ميزان الحكمة) ل(ري شهري) المجلد الخامس - الباب 261 (الشر) ص 36 – 37.

([71])ملاحظة:الروايات الواردة في أصل المحاضرة مقتبسة عن كتاب (ميزان الحكمة) لري شهري: المجلد الخامس باب (الشر)، الأحاديث الواردة في حقل (شر الناس). ص37-38.

(1) البقرة: 14.

(2) البقرة: 159.

(3) المائدة: 15.

(4) الأعراف: 32.

(6) الأحزاب: 37.

(7) الحجرات: 12.

(8) القصص: 83.

(9) سبأ: 39.

(10) الروايات والأحاديث الواردة في نص المحاضرة عن كتاب (ميزان الحكمة) المجلد الخامس. باب (الشر).

(11) المطففون: 26.

(1)الكليني: الكافي. ج8. ص107. ح80. ب8.

(2) الأحزاب: 21.

(3) الحشر: 8.

(4)السبأ: 80.

(5) آل عمران: 144.

(6)الأحزاب: 40.

(7)الكليني: الكافي. ج2. ص74. ح3.

(8) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد. ج16. ب45. ص205.

(9) المنافقون: 8.

(10)الكليني: الكافي. ج4. ص125. ح5.

(11) سبأ: 24.

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد. ج6. ب86. ص375.

(2) الحجر: 9.

(3) البقرة: 197.

(4) آل عمران: 133.

(5)الكليني: الكافي.ج3. ص564.

(6) نفسه. ص565.

(7) نفسه. ج2. ص 566.

(8)الكليني: الكافي. ج3. ص570.

(9) فاطر: 15.

(10) غافر: 60.

(11) النحل: 53.

(12) الأنفال: 24.

(13) يوسف: 106.

(14) البقرة: 40.

(15)الكليني: الكافي. ج3. ص574.

(16)الكليني: الكافي. ج3. ص578.

(17) نفسه. ص578.

(18) نفسه. ص578.

(19)الكليني: الكافي. ج3. ص579.

(20) نفسه. ص580.

(21) نفسه. ص581.

(22) محمد: 24.

(23)الكليني: الكافي. ج3. ص 583.

(24) الحاقة: 44-46.

(25) الزمر: 65.

(26)الإسراء: 74.

(27)الكليني: الكافي. ج3. ص594.

(28) نفسه. ج1. ص113.

(29) نفسه. ص114.

(30) نفسه. ص 123.

(31)الكليني: الكافي.ج1. ص 123.

(32) نفسه.

(1) الأحزاب: 40.

(2) آل عمران: 144.

(3) القصص: 77.

(4) نهاية الإرب. ج3. ص247.

(5) عيون الأخبار. ج2. ص70.

(6)أمالي المفيد: ص174.

(7) الأنفال: 24.

(8) النساء: 97.

(9) قرب الإسناد: ص215.

(10) النساء: 1.

(11) آل عمران: 50.

(12) عيون الأخبار. ج2.ص37.               

(13) البقرة: 214.

(14) الحج: 78.

(15) لقمان: 14.

(16) النساء: 1.

(17) البقرة: 260.

(18) المحاسن: ص247.

(19) البقرة: 188.

(20) تفسير العياشي: ج1. ص85.

(21) النساء: 140.

(22) تفسير العياشي. ج1. ص282.

(1) الإسراء: 53.

(2) الإسراء: 53.

(3) المائدة: 91.

(4) فاطر: 6.

(5) النساء: 48.

(6) الأنعام: 108.

(7) البقرة: 207.

(8) البقرة: 194.

(9) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4. ب56. ص54.

(10) الحجر: 47.

(11) النور: 4.

(12) ملاحظة: الروايات الواردة في نص المحاضرة عن (ميزان الحكمة) المجلد الرابع. باب السبّ. ص360-365.

(1) البقرة: 207.

(2) الخطبة: 192.

(3) الكهف: 29.

(4) الأنبياء: 107.

(5) سبأ: 28.

(6) الأعراف: 157.

(7) الحجر: 94.

(8) الشعراء: 214.

(9) النساء: 59.

(10) الحشر: 14.

(11) الأنبياء: 92.

(12) آل عمران: 103.

(1) الفلق:4.

(2) البقرة:27.

(3) المائدة:33.

(4) العنكبوت:45.

(5) يوسف:29.

(6) القلم:48.

(7) الحج:32.

(8) البقرة:158.

(9) الصافات:123.

(10) الأنبياء:87.

(11) الفلق:1-2.

(12) الحشر: 16.

(13) عبس 12.

(14) النساء:59.

(15) البقرة:223.

(16) الكوثر: 1-2.

(17) البقرة: 36.

(18) النساء: 34.

(19) النساء: 34.

(20) النمل: 32.

(21) النمل: 33.

(22) النمل: 34.

(23) الأحزاب: 40.

(24) نفسه.

(25) البقرة: 285.

(26) التوبة: 97.

(27) الطارق: 1-3.

(28) الجن: 18.

(29) الأنبياء: 26-27.

(30) الأعلى: 6-7.

(31) مريم: 71.

(32) القصص: 23.

(33) نوح: 23.

(34) المجادلة: 1.

(35) الاسراء: 1.

(36) الشورى: 11.

(37) الأنعام: 108.

(38) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد. ج4. ب54. ص12.

(39) نفسه. ج9. ب136. ص31.

(40) البقرة: 124.

(41) الفتح: 2.

(42) الفتح: 1.

(43) النجم: 39-41.

(44) النحل: 111.

(45) التحريم: 6.

(46) آل عمران: 104.

(47) طه: 132.

(49) الشعراء: 214.

(50) الكهف: 29.

(51) البقرة: 272.

(52) الأعلى: 9-12.

(53) الغاشية: 21-22.

(54) الممتحنة: 5.

(55) النساء: 25.

(56) المؤمنون: 5-6.

(57) الرعد: 11.

(58) الروم: 41.

(59) البلد: 11-13.

(60) المائدة: 8.

(61)الكليني: الكافي. ج2. ص333. ح14.

(62) الحجرات: 10.

(63) الشعراء: 88-89.

(64) هود: 118-119.

(65) الانعام: 153.

(66) الاسراء: 44.

(67) هود: 48.

(68) آل عمران: 14.

(69) البقرة: 194.

(70) النحل: 126.

(71) البقرة: 179.

(72) الحشر: 19.

(73) البقرة: 284.

(74) التوبة: 117.

(75) الكوثر: 2.

(76) البقرة: 120.

(77) النساء: 29.

(78) التوبة: 52.

(79) الصف: 13.

(80) الأنفال: 1.

(81) الحجرات: 10.

(82) الأنفال: 60.

(83) الحشر: 14.

(84) النور: 31.

(85) الحشر: 7.

(86) النساء: 80.

(87) آل عمران: 31.

(88) الأعراف: 50.

(89) النبأ: 23.

(90) الزمر: 9.

(91) سبأ: 46.

(92) الفرقان: 5.

(93) القصص: 86.

(94) الشورى: 52.

(95) الروم: 4.

(96) محمد: 7.

(97) المدثر: 5.

(98) الحج: 37.

(99) فصلت: 46.

(100) الحشر: 7.

(101)السبأ: 59.

(102)السبأ: 80.

(103) آل عمران: 31.

(104) الأحزاب: 21.

(105) القصص: 5.

(106) القصص: 6.

(107) التوبة: 33.

(108) النساء: 159.

(109) هود: 86.

(110) آل عمران: 153.

(111) الحجرات: 12.

(112) البقرة: 256.

(113) المائدة: 82.

(114) النحل: 120.

(115) التكوير: 29.

(116) هود: 6.

(117) لقمان: 34.

(118) الملك: 15.

(119) النساء: 64.

(120) الشورى: 25.

(121) المنافقون: 5.

(122) النساء: 64.

(123) البقرة: 165.

(124) الانعام: 59.

(125) يوسف: 76.

(126) البقرة: 165.

(127) يونس: 65.

(128) فاطر: 15-17.

(129) الزمر: 67.

(130) طه: 8.

(131) البقرة: 125.

(132) آل عمران: 31.

(133) الحشر: 19.

(134) مريم: 64.

(135) التوبة: 67.

(136) طه: 125-126.

(137) الصافات: 88-90.

(138) العنكبوت: 46.

(139) طه: 114.

(140) الزمر: 9.

(141) الأعراف: 85.

(142) هود: 118.

(143) سبأ: 24.

(144) الرعد: 14.

(145) الرعد: 41.

(146) البقرة: 3.

(147) البقرة: 4.

(148) الأنفال: 22.

(149) يونس: 92.

(150) النازعات: 24.

(151) الأحزاب: 1.

(152) الأحزاب: 28.

(153) الأحزاب: 32.

(154) نوح: 26-27.

(155) النساء: 59.

(156) السجدة: 5.

(157) النساء: 17.

(158) المائدة: 5.

(159) الأنعام: 121.

(160) يوسف: 87.

(161) النمل: 10-11.

(162) الرعد: 39.

(164) القلم: 48.

(165) الجاثية: 16.

(166) الحجر: 9.

(167) البقرة: 37.

(168) الأنعام: 164.

(169) يونس: 31.

(170)يس: 33.

(171) التوبة: 34.

(172) الجن: 16.

(173) المسد: 1.

(1) البقرة:155.

(2) الروم:41.

(3) الروم:41.

(4) الروم:41.

(5) آل عمران: 28.

(6) الإخلاص:1-4.

(7) الحجر:42.

(8) الإنسان:3.

(9) العنكبوت: 1-3.

(10)الكليني: الكافي. ج8. ص238. ح322. ب8. الأحاديث.

(11) الأنعام:164.

(12) الأنعام:164.

(13) فصلت: 31.

(14) غافر: 60.

(15) التوبة: 73.

(16) البقرة: 57.

(17)الكليني: الكافي. ج1. ص37. ح7.

(18) لقمان: 13.

(19) البقرة: 57.

(20) الإنسان: 3.

(21) البلد: 8-9.

(22) البقرة: 256.

(23) النحل: 118.

(24) الأنبياء: 28.

(25)يس: 60.

(26) الأنعام: 47.

([72]) خرّجوا هذا الحديث في الندون من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 145، ب 5. وهو غير موجود فيه ولا في غيره من المصادر، وهو مشهور لا أصل له، فيلزم الإشارة إلى ذلك عند تحقيق الكتاب، والعناية بصياغة كلام السيد(ره) لكي لا يبدو منه الاطمئنان بكونه حديثاً [أخوكم الشيخ جهاد فرحات، 12/2/2016]

([73]) هذه الإضافة موجودة في (فكر وثقافة)، ونرجّح بقاءها لما فيه من إشارة مهمّة.[أخوكم الشيخ جهاد فرحات 13/2/2016]