النـدوة

 

 

آية اللّه العظمى

السيد محمد حسين فضل الله

 

النـــدوة

سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق

محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة

 

 

إعداد: عادل القاضي

 

 

الجزء التاسع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم


بسم الله الرحمن الرحيم

 

المقدمة

 

الثقافة الشرعية

 

لا أريد أن أتطفل على اختصاص غيري، فلست من أهل الاختصاص في الشأن الفقهي الأصولي، ولذا فإنني سوف لن أخوض في هذه المقدمة في منهج آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله -دام ظله- الفقهي، الذي كتب فيه المختصون والمعنيون في الشؤون الفقهية معتبرين إن ابرز وأهم ملمح من ملامح هذا المنهج هو استناده الكبير على القرآن في الاستنباط.

لكنني أريد أن اطل – في هذه المقدمة - على القارئ من زاوية أخرى، وهي الثقافة الفقهية التي وضعها سماحته بين يدي جمهوره من أبناء الأمة من خلال هذه السلسة المباركة (الندوة): اللقاء الحي والصحيفة والكتاب المسطور، فلقد أشرت في خاتمة المجلد الأول من هذا الكتاب إلى أننا -في مثال مرجعية السيد- بتنا نعيش الفقه ثقافة جماهيرية مفتوحة.

فالسائد الدارج في عرفي المرجعيات أن يلجأ المقلد إلى أحد الطرق التالية لمعرفة فتوى الفقيه:

إمّا أن يلتقيه مباشرة ليستمع منه إلى حكم الشريعة فيما يسأل، أو أن يلتقي أحد وكلائه ليتعرّف من خلاله على فتوى مرجعه. أو أن يقرأ فتواه من خلال كتبه وأبحاثه ودراساته الفقهية والأصولية أو أن يستمع إليها من مقلديه الثقاة الذين ينقلون الفتوى بأمانة شرعية دونما زيادة أو نقصان.

وفي مثال مرجعية السيد كلّ ذلك موجود ومعمول به، فتلك قنوات يمكن لأي مقلد أن ينفذ من خلالها إلى فتاوى سماحته مستفيداً أيضا من وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف والفاكس والانترنيت.

لكننا نلاحظ من كلّ هذه الوسائل التي تيسّر سبل الاتصال بالمرجع انه يُقصَد إمّا في بيته أو مكتبه أو عبر هاتفه أو موقعه الإلكتروني إمّا أن ينظّم علاقته بالجمهور في لقاءات دورية منتظمة يطلّ من خلالها عليه ليفتح له الباب على مصراعيه ويستقبل أسئلته مباشرة، فهذا ما يحصل -في حدود إطلاعي المتواضع- لأول مرة في تاريخ المرجعية.

ولقد حقق هذا التواصل والاتصال المباشر بالجمهور الأمور التالية:

1- المباشرة في تحصيل الفتوى.

فالأسئلة التي يطرحها السائلون يجاب عليها في حينها ودونما تأخير.

2- الاستيضاح.

فقد يجد السائل ان سماحته لم يوفّ سؤاله أو مسألته حقّها أو أنّه ربما يكون قد فهمها من زاوية غير التي يريد السائل معرفته، فيمكنه أن يردف سؤاله بسؤال لاحق يستوضح فيه عما يريد معرفته.

أو أنّه يريد المزيد من المعرفة بشأن الفتوى، كالدليل الذي بنى سماحته عليه رأيه الفقهي، أو الجوانب الأخرى المتعلقة بالمسألة، وما إلى ذلك، وكلّ ذلك مفتوح ومسموح من خلال الندوة.

3- تعميم الفائدة.

سبق ان شبّهت الندوة في قراءة لإيجابياتها وفوائدها وآثارها، بالمؤتمر الصحفيّ، الذي قد يطرح فيه الصحفيّ سؤاله أو أسئلته فيجد الإجابة، لكنّه من جانب آخر يحصل على فائدة اكبر من خلال استماعه لإجابات المسؤولين عن أسئلة زملائه الصحفيين الآخرين.

فالسائل في الندوة يحظى بالإجابة عن أسئلة غيره من روّادها وجمهورها، وبذلك تكون حصيلته الشرعية أوسع من عرفان الإجابة على مسألته وحدها.

4- المسائل الخلافية.

وقد يطرح سماحته آراء مجتهدين آخرين في خصوص المسألة الواحدة، وقد يلتقي معها أو يرى غير ما يرون، وبذلك تتسع دائرة المعرفة الفقهية لدى جمهور الندوة.

بل هناك من يطرح آراء فقهاء آخرين ويريدون معرفة رأي سماحته فيها، أو أنه يطلب من سماحته أن يجيبه وفقاً لفتوى العلماء البارزين لآن السائل من مقلدي أحدهم، الأمر الذي يكشف رحابة الصدر الشرعي لاستقبال وجوه الآراء المتعددة حتى وإن كانت آراء مخالفة.

كما أنّ قول سماحته بالتبعيض -فتح هو الآخر- المجال للإفادة من فتاوى المراجع الآخرين.

5- تسليط الضوء على أبعاد الفتوى

فالمتابعون لإجابات سماحته على الأسئلة الشرعية في ندوة السبت، يلاحظون أن إجاباته تأخذ منحيين: الإجابات الموجزة القصيرة المقتضبة التي تدور بين الجواز وعدمه.

والإجابات التي يتوسّع سماحته في تبيان الرأي الفقهي فيها، وكأنّ المستمع يحضر درساً في البحث الخارج، ذلك أن بعض المسائل التي يكثر الجدل حولها تحتاج إلى إشباع بحث والى معرفة طرق الاستدلال عليها، أو حتى الحكمة التي تقف وراء التشريع.

فأنت مثلاً ترى في إجابته عن الرؤية الفلكية توسعة ضافية اقرب إلى البحث منها إلى الاجابة الفتوائية المعروفة، وهكذا الحال في إجاباته على المسائل المتعلّقة بالفقه الحركي أو الفقه السياسي.

6- رفع الشبهات

ومن بين جوانب تعميق الثقافة الشرعية لدى الجمهور، هو أن فتوى المجتهد تتعرض أحياناً إلى التشويه والاستغلال وسوء الفهم، وحتى لا تبقى الشبهات قائمة مستشرية كان لابد من طرح أسئلة تتعلق بذلك كلّه، كما كان لابدّ من إيضاح الموقف الشرعي السليم من أية إشكالية فقهية أو شبهة شرعية. إذا صحّ الاصطلاح.

فإعادة الفتوى إلى نصابها الصحيح مسؤولية شرعية تقع على عاتق الفقيه المجتهد وعلى عاتق الجمهور المقلّد، ولابدّ من تنقية ما يعلق بالفتوى من شوائب وشبهات وعلامات استفهام، فقد يلتزم بعض المقلدين بفتوى معينة ثم يتضح بعد حين انّه قد تلقّاها عن طريق الخطأ، مما تتكفل الندوة -كاتصال مباشر- بحلّه وتجليته.

7- توسيع دائرة الثقافة الشرعية

ولما كان جمهور الندوة -على سعته- محدوداً، فقد اتجه الرأي إلى توسيع دائرة الانتفاع من الثقافة الشرعية وغير الشرعية أيضا من خلال مشروعي صحفية (فكر وثقافة) وكتاب (الندوة) وأخيراً، موقع سماحته على الشبكة العنكبوتية.

من ذلك كلّه نخلص إلى أنّ حرص سماحته على أن يكون قريباً من جمهوره يسأله فيجيبه، لم يكن حدثاً جديداً أو ابن المرجعية المتأخرة، فمن حين عودته من النجف إلى لبنان وهو يلتقي الناس ويستقبل أسئلتهم المتنوّعة والشرعية منها على وجه الخصوص، وكنت تستمع إلى إجاباته وفقاً لفتاوى مراجع التقليد في حينهم.

كما نخلص أيضا إلى أن صيغة طرح الثقافة الشرعية الواسعة بين يدي الجمهور العريض، هي ثابت من ثوابت النهج الثقافي الذي يعتمده سماحته، الأمر الذي جعل فتواه متداولة على الألسن لأنها مما يستمع إليه هذا الجمهور الكريم ويتناقلها باستمرار.

ولأنّ باب المسائل الفقهية في كتاب (الندوة) هو أوسع الأبواب على الإطلاق، فقد ارتأيت أن أقف عند مسائل بعينها -مما ينتظم تحت عناوين معاصرة أو قضايا شرعية ملحّة- أو تلك التي لسماحته فيها نظر وبصمة خاصّة.

وسنتناول الشؤون التالية.

 المرجعية الدينية

 استنباط الأحكام

 صلاة الجمعة

 الزواج والطلاق -قضايا معاصرة

 احترام ملكية الغير

 ثقافة الإنفاق

 حفظ النظام العام

 فقه القضاء

 فقه السياسة

مسائل عصرية متفرّقة

أولاً: المرجعية الدينية

1- الذهنية الاجتهادية الشيعية

ففي معرض الإجابة عن سؤال؟ هل أن الذهنية الاجتهادية في المدرسة الشيعية قادرة على معالجة الإشكالات التي تواجه إنسان العصر؟ يقول سماحته:

((أتصور أن الذهنية الاجتهادية الشيعية تملك طاقة علمية كبيرة، ولكنها تحتاج إلى أن تنفتح على العصر لتعيش ذهنية العصر، وتتفهم روحه، وتعرف كيف يفكر الناس؟ وما هي مشاكل الشباب؟ وما هي قضاياهم؟ وما هي التحديات التي تواجههم؟!!)).

ويضيف: ((عندما نفهم العصر بذهنيته فإننا نستطيع أن نحل مشاكل العالم، وسنجد في الإسلام حلولاً لها، ولكن عندما لا تشعر بأن هناك مرضا فهل يمكن لك أن تفكّر في معالجة المرض؟.

إنّ  لدينا طاقات شيعية كبيرة جداً، ولكننا بحاجة إلى طاقة كطاقة السيد محمد باقر الصدر (رض) وكطاقة الشهيد مطهري (رض) هذه الطاقات التي واكبت عصرها وفهمته وانسجمت معه فأثرت فيه بقوة وساهمت بتطور المجتمع وتقدمه.

إننا نريد للذهنية الاجتهادية أن تنفتح على الإسلام في منهج أهل البيت بطريقة علمية منفتحة تتحرك من خلال الكتاب والسنّة، وتنطلق من العقل في مواقع حركته بطريقة عميقة تؤكّد المنهج الإسلامي الأمامي في عقلانيته الفكرية، وفي وعيه للإسلام من مصادره الأصيلة)).[1]

2- كفاءة المرجع:

وفي سؤال حول كفاءة الفقيه العادل كشرط لتصديه للمرجعية، يقول سماحته:

((عالم المرجعية على قسمين: هناك مرجعية فتيا، بحيث يرجع إلى المرجع في الفتاوى الشرعية، وهذه مسألة ثقافية يكفي فيها أن يكون المرجع مثقّفاً ثقافة اجتهادية يستطيع من خلالها أن يستنبط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية.وهناك من يشترط الأعلمية في ذلك، وهناك من لا يشترطها.

أمّا الآن، فالمرجعية أوسع إطاراً، فقد أصبح الناس يراجعون المرجع في القضايا السياسية والاجتماعية والأمنية، ومن هنا فإنّ المرجعية الفتيائية لا تستطيع أن تملأ الفراغ الذي يشتكيه المسلمون اليوم، فالمرجع ـ بهذا المعنى ـ ليس لديه إطلاع على واقع المسلمين، وربما من خلال ذلك أيضاً لا يطّلع على الموضوعات التي يريد الإفتاء بها لأنها تحتاج أيضاً إلى معرفة الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي حتى يفتي في مسألة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.

لذلك فنحن نعتقد أنّ طريقة المرجعية في السابق أصبحت لا تسدّ حاجة الناس، بل أضحت خارج نطاق الزمن، في حين يحتاج المرجع اليوم، بالإضافة إلى اجتهاده في الفقه والأصول، أن يكون عارفاً بزمانه وأكثر من ذلك أن يكون عارفاً بالقرآن، فالمرجع الذي ليس لديه ثقافة القرآن لا يستطيع أن يكون مجتهداً بالمعنى الصحيح للاجتهاد، لأنّ الاجتهاد قائم على الكتاب والسنّة، فإذا كان لا يعرف من الكتاب إلاّ آيات الأحكام وبطريقة أصولية بحتة فإن من الصعب أن يفهم كلام اللّه)).[2]

3- ثقافة المرجع:

وحول ضرورة إطلاع المجتهد المرجع على الواقع الثقافي الاجتماعي، يقول سماحته:

((إن مسألة المرجعية مسألة تتصل بالإسلام كلّه، لأن معنى أن تكون مرجعاً للمسلمين هو أن تكون واعياً لكلّ قضاياهم الفقهية في الجانب العلمي ليكون رأيك معذّراً لهم أمام الله تعالى.

ولابدّ أن تكون واعياً للثقافة العقيدية في أصولها الحقيقية الخالية من كل تحريف ومن كل تشويه لتعرف كيف تعطي الناس الإسلام العقيدي في أصالته وثقافته. وان تكون ملماً بالواقع الذي يتحرك فيه المسلمون في ساحة الصراع التي يواجه فيها الكفر الإسلام لتعرف كيف تحمي الإسلام بمعرفتك وثقافتك، وتنقذ المسلمين من الضلال، من خلال ما يطرحه الكفر من شبهات وما يثيره من تعقيدات ضد العقيدة الإسلامية. وأن تكون واعياً للجانب السياسي من حياتهم، والجانبي الاجتماعي في واقعهم، حتى إذا رجع المسلمون إليك أمكنك أن تعطيهم الرأي السياسي الذي يتفق مع خطّ الإسلام ومع مصلحة المسلمين، وأن تعطيهم الرأي الاجتماعي الذي يجمعهم على أساس الوحدة والتعاون على البرّ والتقوى.

فنحن نلاحظ مثلاً أن أئمة أهل البيت (ع) الذين نقول إن المراجع نوّاب عنهم كانوا يعيشون -بما أعطاهم الله من علم- كلّ القضايا التي يواجهها المسلمون)).[3]

4- شجاعة المرجع:

وحول ما إذا كانت الشجاعة شرطا في المرجعية يقول سماحته:

((المرجعية علم، ونحن نأخذ من علم المرجع لا من بطولته وشجاعته. نعم إذا كان شجاعاً فذلك أفضل حتى يتخذ المواقف الجريئة في مواجهة التحديات الكبرى التي يعيشها المسلمون))[4]

وعما إذا كان الافتقار للشجاعة يخلّ بعدالة الفقيه، يرد سماحته:

((لا يخل بعدالته، ولكن ربما تكون هناك عناوين أخرى)).[5]

5- المرجعية والسياسة:

وعما إذا كانت المرجعية تتكامل مع العمل الحركي، يقول سماحته:

((المرجعية تعطي النظرية والخط العملي، فيما العمل الحركي يعطي الخطة التنفيذية التفصيلية. فإذا كانت المرجعية الواعية الرائدة تمثل القيادة الفكرية للعمل الحركي فمن الطبيعي أنهما لا ينفصلان، بل يعطي كلّ واحد منها ما يملك من قوة فكرية وحركية للآخر)).[6]

6- المرجعية والقومية:

وسئل سماحته عن تأثير القومية في تقليد الفقهاء والرجوع إليهم، فقال:

((القومية خصوصية إنسانية والعرق كذلك، وهي تغني تجربة الإنسان ولا تخلق حواجز بينه وبين الإنسان الآخر.

وأما بالنسبة للتقليد والعلم فالله سبحانه وتعالى يقول )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(.[7] سواء كان أهل الذكر عرباً أو فرساً، فلا قومية في العلم ولا قومية في الحكم، فنحن نتعلّم من كلّ الناس ونرجع إلى أي مرجع إذا كان واجداً لشروط المرجعية سواء كان عربياً أو فارسياً أو تركياً أو من أية قومية أخرى))[8] .

7- تعدد المرجعية:

وطرح على سماحته سؤال يقول: هل أنّ الاجتهاد سبب في فرقة العلماء والفقهاء، فأجاب:

((العلماء مجتمعون على الإسلام وعلى خط أهل البيت (ع)، ولكنهم مختلفون في استنباط بعض الأحكام، وهذا ليس عند الشيعة فقط بل حتى عند السنّة أيضا.

فالسنّة مختلفون في مذاهبهم التي هي ليست أربعة فقط، فهذه هي الصيغة الرسمية للمذاهب، وإلاّ فهناك مذهب الأوزاعي وابن حزم الظاهري ومذاهب أخرى، وقد بدأ الكثير من علماء السنّة يدعون إلى فتح باب الاجتهاد، وقد فتح باب الاجتهاد عند بعضهم من خلال المسائل المستحدثة التي لم يصدر فيها حكم من أئمة المذاهب الأربعة))[9].

وفي سؤال آخر حول تعدد المرجعية في ظلّ ولاية الفقيه التي طرحها الإمام الخميني (رض)، قال:

((المرجعية حالة ثقافية، أي أن من يتلزم برأي المرجع فانه يقلّده في الأحكام الشرعية. والولاية هي حالة تنفيذية، فلا علاقة للمرجعية بالولاية، وقد تلتقي المرجعية بالولاية فيكون المرجع ولياً، وقد لا تلتقي.

وقد أعلن الإمام الخميني (رض) في آواخر حياته عن الفصل بين المرجعية وبين القيادة، وربما لا تشترط الأعلمية فيمن له صلاحية القيادة))[10].

8- مشاريع التوحيد:

وهناك عدد من الأسئلة التي طرحت على سماحته في شأن توحيد الجهد الفقهي، ففي سؤال عن توحيد الفقه الإسلامي، قال:

((المسألة هي مسألة الاجتهاد في فهم الإسلام، وعلينا أن نتحاور حتى نصل إلى صيغة مشتركة إذا أمكن ذلك))[11].

وعن إمكانية إصدار رسالة علمية موحدة لعدد من الفقهاء، يقول سماحته:

((إن مجرد الاجتماع ليس معناه أن يحصل الاتفاق فربما أنّ أحدهم يبقى مصرّاً على رأيه لأنّه لم يقتنع بكلام الآخرين، وليس معنى إصرار أحدهم على رأيه هو التعصب، بل القناعة ان ما وصل إليه بالأدلة الشرعية هو الحكم الشرعي))[12].

وفي هذا الصدد، سئل سماحته أيضا عن إمكانية تأسيس مجلس علمائي شيعي، فقال:

((يقول تبارك وتعالى )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ([13]، فهناك تعقيدات وظروف تمنع ذلك، وهو طموحنا المبنيّ على أساس قوله تعالى)وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ([14]، ولكن ثمة فرقً بين الطموح وبين عناصر الواقع التي تقف حائلاً دونه))[15].

9- المؤسسة المرجعية:

وقد سئل سماحته - عدة مرات - حول رأيه في المؤسسة المرجعية ومدى إمكانية تحققها على أرض الواقع، والعقبات التي تحوّل دون نشوئها.

ففي جانب الرأي في هذه المؤسسة، يقول سماحته:

((نحن نطمح إلى المرجعية المؤسسة، وليس معنى أن تكون المؤسسة مرجعية أن يبقى المرجع وتبقى القيادة كما هي، بل نريدها قيادة تتحرّك من خلال المؤسسة بحيث تقدم لها الدراسات وترتب لها العلاقات، وتقدّم لها المشورة، بحيث ينطلق المرجع في تصريحاته السياسية والاجتماعية والعلمية من دراسة جاهزة تقدّمها المؤسسة، بل حتى إذا أراد أن يستنبط حكما شرعياً فإنّ المؤسسة تهيّئ له الدراسات التي قد لا يستطيع أن يحيط بها بجهده الخاص الا بعد أن يعطّل الكثير من عمله)).

ويضرب سماحته لذلك مثلاً، فيقول:

((عندما يعيش الفقيه في مدى عشرين أو ثلاثين سنة فمن الطبيعي أن يتلقّى الكثير من الرسائل، وان يمارس الكثير من النشاطات، وأن يقوم بالكثير من العلاقات، وكل هذا يصبح في الواقع الحالي ملكاً لأبنائه. فلقد ذهب السيد أبو الحسن الأصفهاني (رض) ولم يستفد الذي جاء بعده من تراثه المرجع الذي جاء من بعده، بل حتى ولا من رسالة واحدة أرسلت إليه. ورحل السيد محسن الحكيم (رض) ولم يستفد أي مرجع من بعده من أية نشاطات قام بها، وهكذا فإنّ كل حياة المرجع في رسائله وعلاقاته ونشاطاته يرثها أبناؤه.

وعندما يبدأ كلّ مرجع من نقطة الصفر فهذا خلل، ولو كانت هناك مؤسسة للمرجعية لها أجهزتها فإنّها ستحتفظ بكلّ رسائل المرجع وعلاقاته في تقاريره ونشاطاته وأبحاثه وحواراته، وعندما يأتي المرجع الجديد فإنّه يبدأ من حيث انتهى المرجع السابق.

واعتقد أنّ هذه المسألة تحتاج إلى توعية شاملة في الذهنية الشيعية وعلى مستوى المثقفين والناس والعلماء، واعتقد أنّ هذا هو مشروع المستقبل، مثلما طرح المرحوم الشهيد الصدر (رض) المرجعية الرشيدة وهي مشروع المستقبل أيضا، وهذه المشاريع تحتاج إلى أرضية، والأرضية هي الوعي.

وإذا لم نحقّق ذلك فعلى الأقل أن ينفتح المرجع على العصر، ويعيش هموم الناس، وان يعرف الهموم السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وليس من الضروري أن يكون عالماً بالاقتصاد أو بالسياسة وما إلى ذلك، لكن يفترض أن تكون له إطلالة على الواقع، وإذا لم يستطع أن يحقّق النتائج الكبرى فمن الضروري أن يحقّق لنا نوافذ تطلّ على المستقبل يمكن أن تقرّب لنا النتائج الكبرى في هذا المضمار))[16].

ورأى سماحته، في الإجابة على سؤال في السياق نفسه، أنّ المرجعية الشخصية قد تجاوزها الزمن، فيقول:

((اعني بكلمة (تجاوزها الزمن) أن التحديات الموجودة الفقهية والسياسية والاجتماعية قد تحتاج إلى أسلوب آخر، وإلى منهج آخر، وإلى مواقف أخرى. وقد حاولنا أن نطلق هذا كوسيلة من وسائل التوعية، ولكن المؤسسة المرجعية لن تجد النور إلاّ عندما تملك رأياً عاماً واسعاً في الحوزات العلمية، لأنّ المسألة لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد، بل لابدّ أن يكون هناك توافق عليها))[17].

وأما عن العقبات التي تقف في طريق إنجاز هذا المشروع، فيرى سماحته:

((لا يزال هذا المشروع يبحث عن كثير من مجالات الحوار والنقاش حتى يتحوّل إلى مشروع واقعي عملي.. واعتقد أن كتاب (المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية) أثار الكثير من الجدل في إيران ولبنان، ولكننا نعرف أنّ التغيير في الذهنية العامّة في منهج عاش مئات السنين لا يمكن أن يختصره كتاب أو موعظة أو حوار، فالمسألة - كما في كل أمر يراد له تغيير الواقع - تحتاج إلى جهود كبيرة وإلى زمن طويل))[18].

وسئل سماحته ذات مرّة عن مدى التقاء تجارب رائدة ثلاث في ميدان العمل المرجعي: تجربة الشهيد الصدر، وتجربة الإمام الخميني، وتجربته، فقال:

((إن الأفق الذي تحركت به هذه التجارب هو أفق واحد ينطلق من قاعدة واحدة، وهي أنّ المرجعية في معدنها المنطلق من الإسلام والمنفتح على الأمّة لا تمثّل مجرد حالة ثقافية يتمتع بها المرجع ليقدّم فتواه إلى الناس، وليس دوره الذي أريد له أن يقوم به هو دور المفتي فحسب، فالنظرية الإسلامية بشأن المرجع لدى أتباع أهل البيت (ع) هي أنّ المرجع نائب للإمام، أي أنّه يحمل في دوره وموقعه دور الإمام بشكل أو بآخر.

فالإمام الخميني (رض) انطلق من موقع أنّ على المرجع، إذا توفرت له ظروف التحضير للحركة الإسلامية والثورة الإسلامية، وممكنات تغيير الواقع، أن يعمل من موقعه القيادي باعتباره وليّاً لأمر المسلمين.. فتجربته الرائدة لم تتحرك من خلال أسلوب تنظيم العمل المرجعي، ولكنّها تحركت من خلال توسيع الساحة المرجعية والأفق المرجعي بحيث ينطلق المرجع ليكون ثورة وليصنع دولة وليحرّك العالم من خلال الإسلام كلّه.

وأما تجربة الشهيد الصدر (رض) فكانت تنطلق من خلال محاولة التنظيم للمرجعية الرشيدة في إدارة حركة المرجعية في الدعوة والتبليغ وتنظيم الأوضاع الحوزوية التي تنقل رسالة المرجع وتنجح في إبلاغ الدعوة إلى كلّ إنسان، وبلورة الأساليب التي يمكن أن تنفتح بالإسلام على عقول الناس في كلّ ما ينتجه التطوّر من أساليب.

وكان الشهيد الصدر من صنّاع الحركة الإسلامية، ومن المنظّرين الإسلاميين الذين أبدعوا في صياغة النظرية الإسلامية الفلسفية والاقتصادية والعمل الإسلامي والمفاهيم الإسلامية، وعندما أطلّ على المرجعية أطلق شروط المرجعية الرشيدة.

أمّا التجربة المتواضعة التي حاولت أن أثيرها في حوار (المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية) فهي استكمال لمشروع الشهيد الصدر بضرورة انتقال المرجعية الشخصية إلى مرجعية المؤسسة))[19].

ولذلك يرى سماحته أن الوجه الحضاري لولاية الفقيه، التي لا يراها بشكل مطلق، أي بما يتوقف عليه حفظ النظام وعمل الدولة، يتمثل في معرفة الفقيه للإسلام كلّه، حيث يقول:

((ليس كلّ فقيه ولياً لأنّ الولاية تتصل بحياة الناس، أما الفقيه الذي يعيش داخل زاويته يقرأ الحياة من خلال الكتب لا من خلال الحياة ذاتها، كيف يمكن أن يفهم الناس ليحكمهم؟ وكيف يمكن أن يدبّر أمورهم ليتولّى أمورهم؟ وكيف يمكن أن يواجه المشاكل وهو لم يعش وعي المشكلة ولا الإحساس بها؟

لذلك فعندما نقول إنّ الولاية من شؤون الفقيه، فإنّ فعلية الولاية لابدّ أن تكون من خلال المعرفة بأهل الزمان وحركة الزمان والمعرفة بتطلعات الزمان، وأن يعيش (الولي الفقيه) مع الناس في كلّ يوم، ويتقصّى الأحداث والمشاكل والآلام ليكون له رأي في كلّ شيء يعرض للناس.. مما يعتبر نقلة حضارية أمام حكم الحاكمين الذين لا يعرفون الكثير مما تحتاجه الأمّة في خطوطها الفكرية والعملية))[20].

10- الفقهاء والغوغاء:

وفي الجواب عن وقوع بعض الفقهاء أسرى الرأي المألوف أو مسايرة العرف المناهض للوعي، يقول سماحته:

((المشكلة هي أن بعض الفقهاء يبتلون بالغوغاء الذين يعطلّون عليهم أمرهم، يقول الإمام علي (ع) ((الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كلّ ريح لم يستضيئوا بنور الحقّ ولم يلجأوا إلى ركن وثيق))، فهذا هو الذي منع الكثير من المفكرين أن ينطلقوا في أفكارهم بكلّ حرية، ومنع الكثير من الفقهاء أن يعلنوا عن فتاواهم لأنّهم يخافون من العامّة. فالمشكلة هي أنّ العامّة أصبحت تحكم الخاصّة))[21].

وسئل سماحته ذات مرة عن افتراق صديقين بسبب اختلاف التقليد ونشوب مشادات كلامية حادة بينهما، فقال:

((هذا العمل تخلّف واضح، وهو يدلّ على جهل وعدم التزام بالدين، إنّي أقول لهما إنّ فراقكما لهذا السبب خطيئة ومعصية وتخلّف ودليل على عدم التديّن لأنّكما متعصبان ولستما متدينين، فالذين يختلفون ويتباغضون على أساس التقليد لا يخلصون للتشيع ولا للإسلام، وإنّما يخلصون لنزواتهم وتخلّفهم وجهلهم))[22].

ثانياً: استنباط الأحكام

1. مقاصد الشريعة:

سئل سماحته: إلى أي مدى تؤمنون بأنّ للشريعة مقاصد عليا لابدّ من مراعاتها والاستناد إليها في استنباط الأحكام الشرعية؟، فقال:

((إننا نؤمن بأنّ أحكام الله تابعة للمصالح وللمفاسد في متعلقاتها، فما من حلال إلاّ وفيه مصلحة، وما من حرام إلاّ وفيه مفسدة، فإذا استطعنا أن نعرف المصلحة بكلّ جوانبها فيمكن لنا أن نستوحيها في أحكام أخرى بشكل قطعي.

لكن إذا لم نعرفها بشكل قطعي بحيث يمكن أن تكون المصلحة أولاً، أو أنّ تكون المفسدة أولاً ولا نستطيع أن نستوحيها على هذا الأساس، فنحن نناقش في حجيّة القياس، ذلك أنّ الشيعة يقولون إنّ لله الحكم إذا كانت منصوصة، أو كان مقطوعاً بها فيمكن لنا أن نستخرج منها الحكم في كل مورد من الموارد التي لم يأت بها الحكم، لأنّ الحكم ينصّب على العنوان، فلو فرضنا أنّه قال لا تشربوا الخمر لأنّه مسكر فنستطيع أن نقول بأن (كلّ مسكر حرام) باعتبار أنّ العلّة منصوصة هنا، فكأنّ الله تعالى قال (لا تشربوا المسكر) والله تعالى يقول )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ([23] ويقول )وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا([24].

فعندما يكون هناك قطع فالقطع حجّة، ولذا فنحن نؤمن بمقاصد الشريعة بشرط أن تكون هذه المقاصد محلّ يقين أو مستنبطة من نصّ، أمّا إذا كانت العلّة ظنيّة فلا يمكن أن نعتمد عليها في تسوية الحكم الذي يشتمل موضوعه عليها إلى ذلك الحكم لأنّ الظنّ ليس حجّة))[25].

2. منطقة الفراغ:

وسئل سماحته عن منطقة الفراغ في التشريع، فقال:

((إنّ منطقة الفراغ التي نظّر لها السيد الشهيد الصدر (رحمه الله) تتمثل في القضايا التفصيلية التي تتصل بالواقع التنظيمي والقضايا الإدارية التي يمكن أن يستأنفها الزمن.

فمثلاً هناك – في الوقت الحاضر – نظام بلديات، وليس في الإسلام (في عهده الأول) نظام بلديات، بل وعندنا أنظمة إدارية يحتاجها المجتمع لحفظ النظام وقد يحتاج إلى أشياء أخرى ليست موجودة، وهنا يقوم المجتهد بالاجتهاد في هذه المسائل، وبالطبع فإنّه لا يجتهد حسب مزاجه بل من خلال القواعد الموجودة لديه.

وهذا هو رأينا في (إنّ لله في كلّ واقعة حكما) لأنّ المقصود بالحكم هو الخطوط العامّة التي تبيّن الحكم بشكل مباشر، أو التي تطلّ على الحكم بطريق غير مباشر))[26].

كما أجاب سماحته عن المعيار أو الضابط بين العناصر المرنة في الشريعة (منطقة الفراغ) وبين العناصر الثابتة، بقوله:

((العناصر الثابتة هي العناصر التي جاء فيها نص لا مجال للاجتهاد فيه، أمّا العناصر المرنة فهي العناصر التي تتصل بحياة الإنسان مما لا تشريع فيه، مما يمكن للفقيه أن يستوحيه من النصوص الإسلامية))[27].

3. الأصالة والتجديد:

وعن التجديد الفقهي، يقول سماحته:

((البعض من الناس يقول بضرورة تجديد الفقه، في حين أنّ الفقه هو علم تحصل من خلاله على أحكام الله، وهي تنطلق من الكتاب والسنّة فلا يصحّ بأن نقول بتجديد الفقه بل نقول إنّه لابدّ لنا من أن نقرأ الكتاب والسنّة بطريقة تختلف عمّا قرأه الآخرون، لأنّ الآخرين تركوا لنا شيئاً وحصلنا على شيء آخر، فالمسألة هي (كم ترك الأول للآخر)، فعلينا أن لا نتجمّد أمام القديم، وأن لا نقدّس المجتهدين الذين سبقونا ف‍ (هم رجال ونحن رجال) فلقد كانوا يملكون علماً، وقد نمتلك علماً أكثر مما اختزنوه لأنّنا أخذنا علمهم وعلم ما جاء بعدهم وعلم ما نعيشه الآن.

لذلك، فنحن لا نقول بوجوب تجديد الفقه، لأنّنا عندما نعيش عقدة التجديد فربّما نحرّم الحلال ونحلّل الحرام من خلال هذه العقدة، لا من خلال أنّ الدليل يدلّ على ذلك، لكن علينا أن نفهم النصوص الإسلامية فهما جيداً بما نملك من العناصر الاجتهادية المعذّرة لنا أمام الله، وقد نلتقي بالجديد، وقد نبقي على القديم))[28].

وسئل سماحته عمّا إذا كانت بعض الوقائع التي يطرأ عليها من الأحوال والأوصاف يتغير حكمها بتغيّر طبيعتها فلا يلائمها ما حكم به الأقدمون وما أفتوا به في شأنها، فقال:

((الفتوى لا تتغير من جهة تغيّر الزمن، لكن قد يكون تغير الزمن عاملاً في تغيّر الموضوع، لأنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها، فإذا تغيّر الموضوع تغير الحكم، فالخمر حرام لكن إذا استحالت الخمرة خلاًّّ صارت حلالاً. فإذا كان تغيّر الزمان أو المكان أو الحالة الطارئة تؤدي إلى تغيّر الموضوع فإن تغير الحكم يكون حسب تغيّر الموضوع، هذا أمر. وأمّا الأمر الثاني فإنَّ الثقافة قد تتغير، فقد يكون القدماء فهموا نصوص الكتاب والسنّة بحسب ما لديهم من ثقافة ما جعلهم يصدرون هذه الفتوى أو تلك، والمسألة هنا هي كم ترك الأول للآخر؟))[29].

4. الفتاوى والعرف:

وقد طرحت عليه عدة أسئلة تتعلق بعلاقة الشرع والعرف، فأوضح سماحته أنّ المراد بالعرف هو المفاهيم لا التقاليد التي ابتدعها الناس وساروا عليها، حيث يقول:

((ليس المرجع إلى العرف في الأحكام بل في المفاهيم، فمثلاً يقال: ما يصدق عليه أنه حلقُ اللحية، أو ما يصدق عليه أنّه غناء عرفا، فالرجوع إلى العرف إنّما هو في فهم الألفاظ، وفي بعض القضايا من أجل تحديد المصاديق حسب العرف العام، وإلاّ فالعرف ليس مرجعاً في الأحكام حتى يفرّق بين العرف الضالّ والعرف المهتدي))[30].

وسئل عمّا إذا وقع الخلاف بين الفقهاء في الفهم العرفي، فإلى أي شيء يرجعون في استدلالهم، فقال:

((إذا اختلفوا في طبيعة الحكم، فيمكن لكلّ واحد أن يقتنع بحسب ما يراه باجتهاده في أنّه أمر عرفيّ، والاّ فعليهم أن يرجعوا إلى شيء آخر))[31].

وسئل أيضاً: إلى أيّ العرفين يرجع الفقهاء في تحديد المصاديق: العرف العام (أي الناس)؟ أم العرف الخاص (أي المختصين)؟ فقال:

((إن الموضوعات الواردة في الخطابات الشرعية لابدّ من الرجوع في دلالاتها إلى العرف العام في وعيه لمفاهيمها في استعماله لها بلحاظ الجانب التصوري في وجدانه، لأن ذلك هو الذي يكشف عن المعنى المراد للشارع منها في تعلّق الحكم بها.

أما العرف الخاص فقد يعبّر عن مصطلح جديد ناشئ عن الاجتهادات، كما في مفهوم الموت الذي يخضع للنظريات الطبية، وكما في توقف الدماغ ونحوه، فلا يكون كاشفاً عن مراد الشارع في وقته، وربما ينطلق العرف الخاص، كما في الغناء، لتحديد خصوصياته لا تحديد مفهومه، فلا يختلف العرف الخاص في المفهوم حول ذلك عن العرف العام))[32].

ثالثاً: صلاة الجمعة

ونركّز هنا على صلاة الجمعة تحديداً لأنّها الصلاة التي توصف بأنّها عبادية – سياسية، ولأنّ سماحته اقامها في بيروت ولا تزال تقام حتى اللحظة، فحديثه عنها حديث في الإطارين معاً: المبنى الفقهي، والإقامة لهذه الصلاة.

1. المبنى الفقهي:

سئل سماحته السؤال التالي في خصوص صلاة الجمعة: ((على ماذا استندتم في الوجوب؟ هل على قوله تعالى )إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ([33]؟)). فأجاب بالقول:

((لم يقيدنا الله تعالى بقيد في ذلك، فلم يقل إذا كان المعصوم حاضراً، بل أطلق الوجوب، وعندما يطلق الوجوب فعلينا أن نثبت الطاعة في هذا الوجوب))[34].

2. أسباب وشروط إقامتها:

 وسئل عن أسباب إقامتها في الضاحية الجنوبية في بيروت، وعن شروط إقامتها، ووجوب حضورها، فقال:

((هناك آراء كثيرة في أسباب الإقامة، أمّا في الوقت الحاضر فليس للوقت أية صلة، فليس – كما يقول بعض الناس  إنّ سبب إقامتها سياسي بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية أبداً، فالقضية هي أنّي كنت أحبّ أن أصلّي هذه الصلاة من قبل خمسة عشر أو عشرين سنة، وعندما قمنا بتعمير المسجد الكبير (مسجد الحسنين) الذي يتسع لعشرة آلاف مصل ولعشرات الألوف حوله استخرت الله على التوفيق، بأن يكون آخر جمعة من ذي الحجة أول موعد لإقامتها، وهكذا كان.

وأمّا شروط إقامتها، فهي واجبة حسب قوله تعالى )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ([35] حيث يحرم البيع وقت ذكر الله، وكان هناك جدل بين علماء الشيعة وحتى عند علماء السنّة، وهو هل يشترط في (صلاة الجمعة) وجود دولة إسلامية بحيث يعيّن الخليفة أو الإمام إمام الجمعة أو لا يشترط ذلك.

فعلى رأي البعض أنّها مشروطة، لأنّ الشرط هو وجود الإمام المعصوم أو نائبه الخاص، وهذا ليس موجوداً الآن بحسب الواقع الظاهري، وقد اختلفوا بين من يقول بالوجوب التعييني، وهو أقرب إلى الحق، وبين من يقول بالوجوب التخييري، والرأي الغالب في العصور المتأخرة أنّ الإنسان مخيّر بين صلاة الجمعة وبين صلاة الظهر، فهي واجب تخيّري.

وبعض الذين يقولون بالوجوب التخييري يرون أنّها إذا أقيمت وجب الحضور، وهذا هو رأي السيد الخوئي، حيث كان يقول بالأحوط به وجوباً. فشرط الجمعة أن يجتمع سبعة أحدهم الإمام، ويكون هناك من يخطب فيهم. وأن يكون الإمام عادلاً في دينه.

وحتى لو افترضنا أنّه لا يجب الحضور، لكننا يجب أن نعرف ما هي قيمتها في الحسابات العبادية من حيث الثواب، فعن رسول الله (ص) أنّ إعرابياً جاء إليه، وقال: يا رسول الله حاولت أن أحجّ عدّة مرات ولكن لم أوفّق من ناحية ماديّة، وأريد أن أحصل على ثواب الحج، قال: ((عليك بصلاة الجمعة، فإنّها حجّ المساكين)). أي أنّ الإنسان الذي يصلّيها يثاب بثواب الحجّ إذا كان لا يستطيع الحجّ.

وهناك حديث آخر يقول: ((من صلّى الجمعة إيماناً واحتساباً قيل له استأنف العمل)). أي لا يوجد عليك شيء في السجل فابدأ العمل من جديد، أي يخرج من صلاة الجمعة كيوم ولدته أمّه.

 ويوجد حديث ثالث يقول: ((من ترك ثلاث حجج من غير عذر طبع الله على قلبه، أو ختم على قلبه، أو كان من أهل النار)). فعندما نقرأ هذه الأحاديث هل نتساءل عن وجوب الحضور أو عدم وجوبه؟!))[36].

ومن الجدير ذكره، أنّ سماحته حينما سئل عن تقييمه لإقامة صلاة الجمعة في العراق من قبل السيد الشهيد الصدر الثاني (رض)، قال: ((أعتقد أنّ إقامة صلاة الجمعة المباركة في العراق كانت من أشد البركات ومن أعظمها، لأنّها استطاعت أن تجمع الناس على هذه الفريضة التي تركها الكثير من المسلمين، والتي هي الفريضة العبادية السياسية التي يريد اللّه أن يجتمع المسلمون من خلالها كلّ أسبوع ليلتقوا على اسم اللّه ويتدارسوا أمورهم ومشكلاتهم.

واعتقد أنّ السيد الشهيد الصدر الثاني (رحمه الله) استطاع أن يثير الوعي الإسلامي الأخلاقي في العراق بما لم يستطع أحد إنجازه بهذه الطريقة الجماهيرية، ولذلك فهو يتميز بهذه الروح التي كان عليها منذ شبابه، فلقد عرفته من أطهر الناس وأكثرهم إخلاصاً للّه تعالى. وإذا كان بعض الناس يناقشوه في بعض أفكاره أو بعض آرائه فإن من الطبيعي أن يُناقَش كلُّ العلماء ولكنّ ذلك لا ينتقص من فضله شيئاً.

ومنذ بداية صلاة الجمعة أصدرت بياناً وزّع في العراق في تأييد صلاة الجمعة، لأنّي أعتقد أن صلاة الجمعة لابدّ أن تقام لأنّ اللّه سبحانه وتعالى لم يهتم في القرآن بصلاة كما اهتم بصلاة الجمعة. وفي حديث للإمام الباقر (ع) ((من ترك ثلاث جمع من غير عذر فهو ممن طبع على قلبه)) والنبي (ص) يعتبر صلاة الجمعة حجّ المساكين، فغير القادر على الحج ويريد أن يحصل على ثوابه فليحضر صلاة الجمعة))[37].

3. الجمعة تغني عن الظهر:

وسئل عما إذا كان يقول بوجوب صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة احتياطا، فقال:

((نحن نرى أنّ صلاة الجمعة تغني عن الظهر، ولذلك إذا صلّى الإنسان الجمعة بشروطها الشرعية، لا يجب عليه أن يأتي بصلاة الظهر، وإذا أحبّ أن يحتاط بالمطلق فلا مشكلة، لكنّه ليس وجوبياً))[38].

4. حضور خطبة الجمعة:

وسئل عن وجوب حضور خطبة الجمعة، فقال:

((بعض العلماء لا يرون وجوبها، بمعنى أنّ الصلاة تصحّ بدون حضورها، ولكنّنا نرى إننا إذا قلنا بوجوب حضور صلاة الجمعة فيجب الاستماع إليها))[39].

وسئل أيضاً عن جواز حضور الجمعة رغم أن الإمام لا يثير موضوعاً سياسياً، أو ما يتعلّق بواقع الأمّة والتحديات التي تحدق بها، فقال:

((الأفضل في خطبة الجمعة أن يثير الإمام قضايا الأمّة، وذلك في الخطبة السياسية، أي الخطبة الثانية، ولكن على كلّ حال صلاة الجمعة واجبة، والأفضل أن يحضرها إذا أقيمت بشروطها حتى ولو كانت بهذا الشكل))[40].

رابعاً: الزواج والطلاق .. قضايا معاصرة

ورغم أنّ الأسئلة في هذا الباب كثيرة لا يسع هذه المقدمة حصرها، لكنني سأقف عند المسائل ذات الاهتمام المعاصر.

1. أنواع الزواج:

أ) الزواج العرفي:

فلقد سئل سماحته عن سبب تحريم الإمامية الزواج العرفي، فقال:

((الزواج العرفي هو الزواج غير المسجّل رسمياً، وهو ليس حراماً، لأنّ التسجيل الرسمي هو عملية توثيق للزواج، ونحن لم نحرم الزواج العرفي ولكننا ننصح النساء أن لا يلجئن إلى هذا الزواج لأنّ حقوقهنّ قد تضيع بذلك))[41].

ب) الزواج المدني:

وسئل عن شرعية الزواج المدني وصحّته، فقال:

((في الزواج المدني لا يشترط الشروط الشرعية في الزواج، فيمكن للمسلمة أن تتزوج من غير المسلم، أو للمسلم أن يتزوّج من غير الكتابية بوذية كانت أو هندوسية، وهذا لا يجوز شرعاً، وحتى على رأي من يقول بجواز الزواج من الكافرة الكتابية فإن الحكم يختصّ بالكتابية، فلا يجوز الزواج من الملحدة المشركة أو البوذية أو الهندوسية.

أما إذا عقد الزواج مدنياً بأن يقول لها: هل تقبلين بفلان زوجاً؟ أو هل تقبل بفلانة زوجة؟ أو جعلتكما زوجين، فعلى رأينا يجوز ذلك، وكان المرحوم السيد محسن الحكيم يقول بجوازه. إلاّ أنّ بعض العلماء يتحفّظون في ذلك لأنّ عندهم شرطا معينا في صيغة الزواج ونحن لا نشترط ذلك بل كلّ ما يعبّر عن الزواج بشكل عام يجوز، ولكن نحن لا نقر الزواج المدني كقانون لأنّ هذا القانون يختلف بأحكامه عن قانون الإسلام، ومع استجماع الشروط فلا مانع من ذلك))[42].

ج) زواج المسيار:

وسئل عن الموقف الشرعي من زواج المسيار الذي يطرح في بعض دول الخليج، فقال:

((زواج المسيار هو زواج شرعي باعتبار انهما يتفقان معا على عقد الزواج، وغاية الأمر أنه يشترط عليها أن لا ينفق عليها، وأن يتخفّف من بعض شروط ومسؤوليات الحياة الزوجية و((المؤمنون عند شروطهم إلاّ يشرط أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً.

فإذا اشترط الزوج على زوجته في عقد الزواج أن تسقط عنه حق النفقة فلا تجب عليه النفقة، أو أن تسقط حق الحضانة لأولادها فلا تجب، أو اشترطت أن تكون وكيلة عنه في طلاق نفسها، فتقدر حينئذ أن تطلّق نفسها.

فالزواج من هذه الناحية صحيح لكنّه غير موثّق عند الدولة، وعالم الإثبات شيء وعالم الشرعية شيء، وقد يقول البعض أنّه ليس فيه مصلحة، وأنّه قد يشتمل على بعض المشاكل، لكنّ الجانب الشرعي غير الجانب التطبيقي، فقد يكون التطبيق غير صحيح، ولذا ينبغي - مثلاً - أن نحيطه ببعض الضوابط والشروط مما يجعل منه زواجاً لا يسيء للرجل أو للمرأة)).

د) زواج المحكمة:

وسئل عن زواج المحكمة، فقال:

((زواج المحكمة زواج شرعي، وذلك أن يقال لها (زوجتك فلانا) أو (أزوّجك فلاناً) فتقول: قبلت، أو ما شاكل ذلك، فإذا أدّى زواج المحكمة إلى المعنى الذي تدلّ اللفظة على الزوج بسبب العرف العام فهو زواج صحيح))[43].

ه‍) الزواج بالمكالمة والمراسلة والانترنيت:

وسئل سماحته عن جواز إجراء عقد النكاح بغير المواجهة، كما في المكالمة الهاتفية أو المراسلة أو غيرها، فقال:

((لا إشكال في إجراء عقد النكاح بواسطة الهاتف إذا كانا يعرفان بعضهما ويؤكّدان صفتيهما، فيمكن للزوجة أن تنشئ عقد الزواج، ويمكن للزواج أن يقبل ذلك، وليس هناك فرق بين إجراء عقد الزواج بطريقة الهاتف أو بإجرائه بشكل مباشر.

أمّا بالنسبة للكتابة كأن تكتب رسالة قاصدة إنشاء الزواج: (زوّجتك نفسي) فيجيبها برسالة أخرى (قبلت الزواج) فالمشهور بين العلماء أنّ إنشاء الزواج بطريقة الكتابة ليس صحيحاً، ولكنّنا نرى أنّه لا مانع من إجراء عقد النكاح بواسطة الكتابة، إذا كانا قاصدين بالكتابة الإنشاء، وكان العرف العام يتقبّل ذلك))[44].

وعن الزواج عبر الانترنيت، يقول سماحته:

((من حيث المبدأ يجوز عقد الزواج بأيّة وسيلة ممكنة، ولكن على الإنسان أن يتزوّج المرأة التي يستطيع أن يتعرّف عليها معرفة تكفي لاتخاذها شريكة لحياته، وهي لابدّ لها أن تتعرّف عليه، ولا أدري هل أنّ المراسلة أو الانترنيت يكفيان لإحراز ذلك؟ فإذا استطاع كلٌّ منهما أن يتعرّف على شخصية الآخر ويثق بأنّه قادر على أن يعيش السعادة معه فلا بأس بذلك))[45].

ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ سماحته يرى أن المراسلة بين الجنسين عبر الانترنيت:

((إذا كانت لغرض عملي أو ديني، وكانت بعيدة عن الأجواء المثيرة فلا حرمة عندئذ، ولكننا لا ننصح بذلك، لأنّها قد تؤدّي - بفعل العلاقة الحميمة - إلى مالا تحمد عقباه، وقد تخضع بعض النساء، للاغراءات في الزواج، أو في علاقات غير شرعية من خلال بعض أساليب التخاطب))[46].

و) عقد التراضي:

وسئل سماحته عن عقد الزواج الذي لا إيجاب فيه ولا قبول، أي مجرد الرضا والاتفاق بدون التلفّظ بالألفاظ المعهودة، فقال:

((إنّ معنى العقد هو إيجاب وقبول، أمّا الرضا وحده فلا يكفي بل تقوم الحاجة إليه في التزام العقود، أي الالتزام العقديّ بين الناس على نحو يخلق حالة عقدية قانونية بحيث يشعر كلّ واحد منهما أنّه ملتزم بعقد، والعقد كلمة، والكلمة موقف، فلابدّ في العقد من أن تلتزم بالزوجية، وأن تلتزم المرأة بموجبه بالزوجية أيضاً، وأن تعبّر عن التزامك بما يُظهر هذا الالتزام بشكل واضح في العرف العام)).

وفي خصوص الزواج المؤقت يرى سماحته أنّ مجرد الإيجاب والقبول بين الزوجين لا يكشف عن صحّة العقد، وإنّما يجب أن تكون هناك إرادة قصد جدّي من كلا الطرفين، حيث يقول في معرض الإجابة عن سؤال بهذا الصدد:

((إنّ بعض الشباب ممن يعقدون العقد المنقطع مع الأوروبيات أو الأمريكيات لا يحقّقون القصد الجدّي في العقد، خاصّة من جهة المرأة التي تريد أن تحصل على المال وأن تقضي وطرها معه، فهي ربّما تردّد كلمات أو صيغة العقد وهي لا تفهمها وليست قاصدة له، أي أنّها كلمة تقولها دون إرادة جدّية، فهذا ليس عقداً وإنّما هو زنا. فالعقد هو أن يقصد الطرفان أنّهما زوجان، أي عندما تقول المرأة: زوجتك نفسي، فيجب أن تعتقد أنها دخلت في زواج مؤقت، كما لو قالت: زوجتك نفسي الزواج الدائم. فهذا زواج وهذا زواج، فإذا لم تقصد معنى الزوجية وإنّما تلفّظت بالكلمة من دون قصد إرضاء له، فهذا ليس عقداً، فالعقد ارتباط بين إرادتين للزوجية، ولكنّ الكثير من العقود المؤقتة في الغرب ليست صحيحة))[47].

ز) زواج (الشغار):

ويرى سماحته أن الزواج بالمبادلة كأن يتزوّج إنسان فتاة فيقول أخوها لطالب يدها: زوّجني أختك في المقابل ولا تدفع لنا شيئاً ولا ندفع لك شيئا، حرام، حيث يقول:

((زواج الشغار، وهو أن يجعل مهر أخته المرأة الأخرى، غير جائز، شرعاً، ذلك أنّ كلّ واحدة من الزوجتين مستقلة في نفسها وإرادتها، وليس لأخيها أن يتبرّع بمهرها أو يجعلها مهراً لامرأة أخرى، ولابدّ أن يدفع كلّ واحد من الزوجين مهر زوجته))[48].

وأمّا عن الطلاق عبر الأجهزة المذكورة، فيقول سماحته:

((لا فرق بين طلاق الهاتف وطلاق الحضور، فالطلاق يحتاج أن ينطق الزوج بكلمة الطلاق، وأن تكون المرأة على طهر لم يواقعها فيه، وأن يكون هناك شاهدان عدلان، ولنفرض أنّه يحمل سماعة الهاتف من طرف، وهناك شهود عدول يمسكون سماعتين، فالطلاق صحيح مع توفر الشروط الطبيعية، فالمهم أن يتكلّم بصيغة الطلاق، وأن يسمع الشاهدان العادلان طلاقه سواء كانا يسمعان ذلك بشكل مباشر أو بالهاتف لا فرق))[49].

ح) أذن الولي بزواج البكر:

وسئل عن فرض أن فتاة بكراً اختارت الكفوء للزواج ولم يرض وليّها، فما الحكم بناء على اشتراط زواجها بإذن وليها، فقال:

((أولاً: نحن لا نشترط إذن الولي إذا كانت المرأة بالغة رشيدة تعرف مصلحتها، نعم الاحتياط يقتضي ذلك.

وثانيا: فإنّ العلماء الذين يشترطون أذن الوليّ يقولون إذا عضلها الولي، بمعنى إذا منعها من الزواج بالكفوء، سقط إذنه، وهذا ينطبق على الصورة التي يفرضها السؤال))[50].

خامسا: احترام ملكية الغير

مرّ معنا، كيف أنّ سماحته لم يجز لصق الإعلانات على واجهات الدور والمحلات لأنّها ملك لأصحابها ولا يجوز التصرّف بملك امرئ مسلم إلاّ بإذنه، وكان ذلك خطاً أحمر لم يسمح سماحته بتجاوزه في كلّ الملكيات الأخرى، كما رأينا كيف أنّه لم يجز سرقة الدولة ولا سرقة الدول المضيفة بأيّ حال من الأحوال، وثمة مجالات أخرى أكّد فيها سماحته على احترام ملكية المال العام والخاص، ومنها:

1. تهريب الآثار:

فلقد طرح سماحته السؤال التالي: ((يقوم البعض بتهريب الآثار من بعض البلدان ذات الوجود الحضاري، فما حكم هذا العمل؟ وما حكم المال؟ خاصّة وأنّ هذه الآثار ملك للأمة والشعوب؟)) فقال:

((لا ينبغي للمؤمن القيام بذلك))[51].

2. المتاجرة بالمسروقات:

وسئل سماحته: ((لي صديق يتاجر بالأشياء المسروقة، فما هو حكم الهدية المقدمة منه لي؟)) فقال:

((إذا عرفت أنّها من المسروقات فلا يجوز لك أن تقبلها))[52].

3. نسخ أقراص الليزر:

وسئل أيضا:

((ما هو الحكم الشرعي في عملية نسخ أقراص الليزر المحفوظة بحقوق طبع وعملية بيعها بأسعار رمزية تساعد على سرعة انتشار مثل هذه الوسائل الثقافية بين شرائح متعددة من المجتمع غير القادر على شرائها من مؤسسة الإنتاج نفسها نظراً لارتفاع ضئيل في أسعارها؟))، فقال:

((لا نجوّز ذلك، فهو ملك شأنه شأن أي ملك عين، فصاحب البرنامج المسجّل على القرص الليزري يملك البرنامج، كما أنّ الكاتب يملك حق كتابه، فنحن نعتقد أن حقوق الطبع والنشر والاختراع والبرمجة محفوظة، فلا يجوز الاتجار بها دون أذن أصحابها. وإنّي لأسأل السائل: لو كنت أنت صاحب البرنامج فهل كنت ترضى أن يستنسخه غيرك بدون اذنك أو دفع حقوقك؟! ((عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به)). وهناك من العلماء من لا يرى حقوق الطبع أو النسخ محفوظة لأنّهم يرون أنّ مثل هذه الأموال لا تملك))[53].

وسئل تبعاّ لذلك عن احترامه للملكية الفكرية في برامج الحاسوب الأصلية الغالية الثمن، وقيل إن البرامج التي يتداولها الناس برامج منسوخة وغير قانونية، ولو اردنا احترام الملكية الفكرية فلن يحصل إي تطوّر في مجال الحاسوب حيث أن ثمن بعض البرامج يساوي ثمن جهاز الكمبيوتر نفسه، فالرجاء إعادة النظر في هذا الموضوع، فقال سماحته:

((نحن لا نستطيع إعادة النظر في هذا الموضوع لأنّه حكم شرعي، فهذه المسألة تتصل بالماليات، حيث كان المال سابقا عبارة عن جهاز يملكه شخص، أمّا الآن فالحال هو نوع الجهاز.. فالمتاجرة بهذا البرنامج أو ذاك غير جائزة، بل إن عدم مراعاة ضوابط الاشتراك التي طرحتها أجهزة التواصل في مجال خدمات الانترنيت يعتبر تعدياً على الملكية الفكرية))[54].

4. التصدّق بمال الآخرين:

وطرح أحدهم السؤال التالي على سماحته:

((ذهبت إلى مدينة الألعاب للنزهة فركبت بعض الألعاب دون أن ادفع المال وهم يعلمون ذلك، وعندما خرجت أردت أن أتصدّق بها على الفقير، فهل يجوز لي ذلك؟)) فقال له:

((لا يجوز لك أن تتصدّق بمال الآخرين، بل عليك أن تدفع لهم ما يستحقونه من أجرة استعمال الألعاب))[55].

5. التصرّف بالأموال المشكوك فيها:

وسئل عن كيفية التصرّف بالأموال المشكوك فيها، فقال:

((إذا اشترينا بضاعة من شخص وهي في تصرّفه فنستطيع أن نقول إنها ملكه ف‍ (اليد أمارة على الملكية)، إلا إذا علمنا أنّها ليست ملكه، فإذا كنت تعلم صاحبها فلابدّ من إرجاعها إليه، وإن كنت لا تعلم صاحبها، فالمال مجهول المالك، ويجب إرجاعه إلى الحاكم الشرعي ليرى رأيه فيه))[56].

6. إذن الفحوى:

وسئل عن تناول الحلوى في الضيافة، هل يجوز أن يضع الضيف قسماً منها في جيبه، مع علمنا بكرمه، فقال:

((لو قدّم لك خمسة قطع حلوى فلا يجوز لك أن تأخذ عشرة أو عشرين، فربّما كان يريد أن تبقى الحلوى لضيافة الناس الآخرين، فلذا لا يحرز الرضا أحرازاً حقيقياً اللهم إلا إذا عرف المضيّف بذلك فرضي به، فعندها يجوز))[57].

7. استعمال الأوقاف لغير ما وقفت:

وسئل أيضاً: ((هل يجوز استعمال الأوقاف خارج ما وقفت عليه، كأن تستعمل في سبيل الخير))، فقال:

((الوقوف على ما يقفها أهلها، فلا يمكن تجاوز الوقف عمّا وقف عليه حتى ولو في الخير))[58].

8. التصرّف بالمغصوبات:

وسئل سماحته: ((حصل أحدهم على قسيمة سكنية من الدولة، واتضح أن هذه الأرض مغصوبة، علماً بأن الحكومة قد استردتها ووزعتها على المواطنين فهل يجوز امتلاكها؟))، فقال:

((لابد من إرجاعها إلى مالكها الأصلي إذا كان معلوماً، أو إلى الحاكم الشرعي إذا كان المالك مجهولاً، ولكن إذا كان صاحبها قد قبض ثمنها من الدولة ورضي بذلك أو أعرض عنها بعد استيلاء الدولة عليها جاز تملكها))[59].

وسئل عن جواز لعب كرة القدم في أرض يشاع أنها مغصوبة، وأنّها مجهولة المالك، فقال: ((لابدّ من العلم بكونها كذلك حتى يبني على حرمة التصرّف بها بما يكون عنواناً للغصب، ولابدّ إذا كانت مجهولة المالك من الرجوع إلى الحاكم الشرعي))[60].

وسئل في مرة سابقة عن جواز تنمية عضلات الجسم بأدوات رياضية مغصوبة أو مسروقة إذا لم يكن الرياضي هو الغاصب، فقال:

((لا يجوز للإنسان أن يتصرّف في المال المغصوب أو المسروق سواء كان هو الغاصب أو كان الغاصب غيره، وبذلك فإنّني أخشى على هذا الإنسان الذي ينمّي عضلات جسمه فيطلب القوة بضعف إيمانه، ذلك بل إنّ تقوية عضلات جسمه بالآلة التي لا يرضاها الله قد يؤدّي به إلى ضعف عضلات روحه وإيمانه، الأمر الذي يوجب سخط ربّه)).

وسئل عمّا إذا كان جسمه نما بها لمدة طويلة، فقال:

((عليه أن يستغفر الله من ذلك ويطب السماح من صاحبها، أو يدفع له عوض استعماله لهذه الأدوات، وإذا لم يعرف صاحبها فعليه أن يقيّم أجرة استعمالها في تلك المدّة ويدفعها إلى الحاكم الشرعي إذا كان صاحبها مجهولاً ليتصدّق بها عنه))[61].

سادساً: ثقافة الإنفاق:

يردّد سماحته دائماً أنّ الإنفاق في سبيل الله ليس له حدود معينة، فهو في كلّ شيء، وكلّ أمر يخدم الدين ومعتنقي هذا الدين، ويرى أنّ المحسنين مستعدون للإنفاق في سبيل الله على المساجد والحسينيات وأمثالها، وغير مستعدين - إلا ما رحم ربي - للبذل من أجل مشروع إعلامي إسلامي، كبناء فضائية إسلامية مثلاً.

ولذلك نراه دائم الدعوة إلى ترشيد ثقافة الإنفاق واعتبار بناء الفضائية ليس موازياً للمسجد بل لعلّه يفوقه لكثرة ما هناك من مساجد، وبناء المدرسة في المهجر أهم من بناء المسجد لأنك يمكن أن تقيم صلاتك في المدرسة الأمر الذي يدعونا إلى أفراد المساحة التالية للمحات من هذه الثقافة:

1. الخمس والزكاة لدعم المسلمين:

سئل سماحته أثناء اندلاع المعارك العرقية في البوسنة والهرسك:

((هل يجوز دفع الخمس والزكاة لتقوية المسلمين في البوسنة مثلاً؟))، فأجاب:

((يمكن أن ندفع الحقوق الشرعية في هذا المجال بنظر الحاكم الشرعي، ولم تعد المسألة مسألة البوسنيين فحسب، بل هناك الأفغان والعراقيون وغيرهم من المسلمين في بلدان أخرى))[62].

2. دفع الحقوق للمبرّات الخيرية:

وسئل عن الترخيص بدفع الحقوق الشرعية ل‍ (جمعية المبرّات الخيرية) التي ترعى الأيتام وتضمّ عدداً من المبرات، مثل مبرّة الإمام الخوئي ومبرّة خديجة الكبرى (ع) والتي ترعى الأيتام والمعوقين في لبنان، فقال:

((باعتبار انها جمعية تكفل آلاف الأيتام والمعاقين لتربيهم وتفتح عيونهم على الحياة الكريمة وخط الاستقامة، فإنّ دفع الحقوق إليها - حسب معرفتي بها - هو من أفضل مصارف الحقوق))[63].

3. سهم الإمام (ع) للتبليغ:

وسئل عمّا إذا كان يجوّز بتخصيص سهم الإمام للتبليغ والاحتفال بمناسبات ولادات الأئمة (ع) ولبناء مدارس أهل البيت (ع)، فقال:

((كلّ عمل فيه رفعة للإسلام، وفيه هداية للناس، وفيه تعظيم لشعائر الله، يجوز أن يصرف سهم الإمام فيه))[64].

وسئل في السياق نفسه عن جماعة من اللاجئين أحيوا ذكرى الزهراء (ع) باحتفال كلّفهم مبلغاً من المال، وطلبوا إجازتهم في صرف جانب من الحقوق الشرعية لإحياء مناسبات المعصومين (ع)، فقال:

((إنّ إحياء مناسبات العظماء، لاسيما إذا كانت عظمتهم من خلال رسالتهم، ومن خلال قربهم لربّهم والتزامهم بالإسلام، وتحرّكهم في خطّ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولاسيّما سيدتنا فاطمة الزهراء (ع) سيدة نساء العالمين التي كانت النموذج الأكمل والأعلى في حياتها دفاعاً عن الحقّ ووقوفاً معه، وعبادة لله، وقمة في الصدق، والتحرك بمسؤولية في إغناء الواقع الإسلامي كلّه ثقافة وحركة وعبادة.

إنّ إحياء هذه المناسبات، عندما تتحرك في الأسلوب الأصيل والمنهج الذي يبيّن نواحي العظمة وبرنامج الرسالة في ذلك ليعيشوا معنا ونعيش معهم، لهو من أفضل وسائل الدعوة إلى الله، وأفضل موارد صرف الحقوق ما كان في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى))[65].

4. الخمس لنشر الفكر الإسلامي:

وسئل عن جواز إعطاء مال الخمس (سهم الإمام) لنشر الفكر الإسلامي بشراء كتب إسلامية وتوزيعها، وهل يجوز صرفه لمشاريع العمل الإسلامي؟، فقال سماحته:

((يجوز ذلك، ونحن نجيزه شريطة اختيار الكتب الإسلامية النافعة والصحيحة، ولابدّ من مراجعة الحاكم الشرعي في ذلك))[66].

5. دعم العراقيين الواقعين تحت الحصار:

هذا وقد رخّص سماحته بدفع الحقوق (الخمس) بمقدار النصف للفقراء المستحقين من أبناء الشعب العراقي نتيجة للظروف الخاصة الضاغطة التي يمرّون بها جرّاء الحصار الداخلي والخارجي الذي يعانون منه.

فلقد سئل: ((سمعنا أنكم أجزتم للعراقيين إرسال الخمس إلى الفقراء والمحتاجين في العراق، فهل يدخل ضمنهم الأهل والأقارب؟))، فقال:

((يدخل في ذلك الأقارب، ما عدا الأب والأم والأولاد لأنّ هؤلاء واجبو النفقة، ولذلك فالأحوط أن لا يعطوا من الخمس بل يدفع لآخرين كالأخوة بشرط أن يكونوا متدينين وان يكونوا فقراء، فسهم الإمام للفقراء من غير السادة، وسهم السادة للسادة الفقراء، ولكن ذلك بمقدار النصف على أن يرجع النصف الآخر إلينا))[67].

وسئل أيضاً عن حكم الأهل الذين هم خارج العراق، فقال:

((إذا كان الأهل خارج العراق وكانت امورهم جيدة فلا تنطبق عليهم الحقوق الشرعية، أمّا إذا كانوا فقراء محتاجين خصوصاً إذا شرّدوا وأوذوا وأخرجوا من ديارهم بغير حقّ الاّ أن يقولوا ربّنا الله، فحال العراقيين خارج العراق ممن وصفناهم، هو مثل حال العراقيين داخل العراق))[68].

وسئل عن حكم أموال النفط العراقي التي يذهب بعضها إلى (المفوضية العليا لشؤون اللاجئين) وتقدّمه بشكل رواتب للاجئيين العراقيين، هل هي أموال عامّة متوقفة على الأذن الشرعي، أو أنّها مغصوبة، فقال:

((الشعب العراقي أحقّ بها، وهي ليست من أملاك الحاكم الظالم، وعلى فرض احتياجها للإذن فنحن نأذن باستلامها))[69].

سابعاً: حفظ النظام العام:

حرص سماحة السيد أيّما حرص على تقديم الشريعة الإسلامية بوجهها الأخلاقي الناصع المشرق سواء في بلاد المسلمين أو البلاد التي يهاجرون إليها، مما يحتاج إلى افراد بحث مستقل يتناول هذا الجانب من فقاهة سماحته، ويمكن الوقوف على بعض ملامح دعوته للحفاظ على النظام العام، من خلال:

1. عدم جواز سرقة الدولة:

لقد اعتبر سماحته الدولة معلوم المالك حينما أجاب عن أسئلة كثيرة بهذا الشأن، حيث يقول:

((بعض العلماء يرى أنّ الدولة لا تملك، أي أنّ الجهة لا تملك، فلا الحزب يملك ولا الجمعية تملك ولا الدولة تملك، فهم يعتبرون الملك للشخص فقط، وباعتبار أنّ الدولة ليست شخصاً في رأي هؤلاء فهي مجهولة المالك.

وبعضهم يقول بأنّ الدولة تملك بشرط الإمضاء، أي أن تكون الدولة شرعية.

ونحن نقول بإن الدولة تملك وهي موجود اعتباري واقعي، وغاية ما هناك أنّ الدولة قد تمتلك مما تغصب به الناس، فهي لا تملك المال الذي يكون غصبا، أمّا المال الذي تأخذه من دول أخرى، أو المال الذي تستنتجه جرّاء الدخول في معاملات معينة فهي تملكه، ولذلك نعتبر الدولة معلوم المالك وليست مجهول المالك))[70].

وسئل سماحته سائل ذات مرّة: ((أعمل في دائرة حكومية، لكنّ الحكومة ليست إسلامية والبلد إسلامي، فهل يجوز لي أخذ بعض الحاجيات أو المال من خلال عملي، وبدون علم المشرف على موقع عملي؟)) فقال:

((لا يجوز ذلك جملة وتفصيلا))[71].

وسئل عن سرقة الكهرباء والماء، ((هل يجوز لنا التلاعب بعدّاد الكهرباء أو الماء من أجل تخفيض أجور الفاتورة؟))، فأجاب: ((لا يجوز ذلك))[72].

وقال في إجابة عن سؤال مماثل:

((لا يجوز سرقة المياه والكهرباء سواء كانت حكومية أو أهلية، لأنّها قضايا تتصل بالنظام العام وبالصالح العام))[73].

ثم سئل عن مؤجّر يسرق الكهرباء، فما حكم صلاة المستأجر وغسله، فقال:

((لا يجوز له أن يفتح زرّ الكهرباء، أمّا بالنسبة لصلاته وغسله فصحيحان، فلو أنّ الماء أصبح حارّاً بواسطة الكهرباء وتوضّأ فيه أو اغتسل فلا إشكال، ولكنّه مأثوم بسرقة الكهرباء ولا يقع الأثم على المؤجر وحده الذي ربط الكهرباء بالخط العام بدون صفة شرعية، بل عليه أيضاً لأنّه استعمله))[74].

وسئل سماحته عن سرقة الهاتف:

((توجد محلات للاتصالات الهاتفية العامّة وهي رخيصة، وهي إمّا مسروقة أو لشخص يحاول أن يجمع بعض الأموال ثم يهرب، هل يجوز الاتصال منها؟))، فأجاب:

((لا يجوز سرقة الدولة ولا سرقة الناس، لأنّ كلّ أموال الدولة هي أموال الشعب، وإذا سرقت هذه الأموال فإنها ستكلّف الناس مرة أخرى من خلال الضرائب وغير ذلك))[75].

2. عدم جواز سرقة غير المسلمين:

وكما أن سماحته يحرّم سرقة المسلمين، فكذلك يحرّم سرقة غير المسلمين، فلقد سُئل:

((هل باستطاعة المقيم في دولة أوروبية أن يتعامل مع الذين يسرقون من المحلات الأوروبية، ومن غير محلات المسلمين؟)) فقال:

((يحرم سرقة غير المسلمين كما يحرم سرقة المسلمين )لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ([76]، والله تعالى يقول )وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا([77] فليس لديهم توازن في الأمانة )ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ([78] فكانوا يعتقدون بأنّ كل يهودي يمكن قتله وسرقته في حين أن الله لا يريد لنا أن نتعدّى على أموال غيرنا، لذلك لا يجوز الشراء من المحلات التي تتعامل بالسرقة من الآخرين))[79].

3. عدم جواز مخالفة القوانين:

سئل سماحته عن مدى الالتزام بالتعليمات الإدارية من الناحية الشرعية كعدم التدخين، وعدم رمي أعقاب السجائر، وعدم إحداث ضجّة، ونحو ذلك، فقال:

((لا يجوز مخالفة التعليمات المكتوبة في الدوائر والسيارات العمومية والطائرات أو المحلات العامة أو الخاصة، بترك التدخين أو بعدم رمي أعقاب السجائر، لأن جواز ذلك منوط برضا أصحابها أو القائمين عليها أو ولاة الأمر عليها، فإذا لم يوافقوا على ذلك كان التصرف حراماً))[80].

وسئل عن احترام قانون السير وما إذا كانت فتواه تشمل تجاوز السرعة المحدّدة، فقال:

((لا يجوز مخالفة قوانين السير، وهذا هو رأي الكثير من العلماء ومنهم السيد الخوئي (رحمه الله) باعتبار أنّ الحفاظ على نظام المجتمع ضرورة، فإذا تجاوزه الناس أدّى إلى إزهاق النفوس والأموال، وهذا مما لا يجوز في بلداننا وفي خارجها، إلاّ إذا كانت هناك ضرورة فوق العادة واستطاع الإنسان أن يؤمن سيره من الحوادث الطارئة))[81].

وسئل عن التزام مقلديه من طالبي اللجوء في الغرب بقانون الدول المضيفة ومنه قانون الأحوال الشخصية فأجاب:

((الالتزام بالقانون فيما لم يحرّم اللّه فلا يسيئون إلى أمن البلد الذي يقيمون فيه، ولا إلى أموال الناس ولا إلى إعراضهم ولا إلى قانون السير ولا أن يقترضوا فلا يوفون ولا أن يحرقوا محلاتهم ليتقاضوا عوضاً من شركات التأمين، وباختصار أن لا يسيئوا للنظام العام.

أمّا الزواج والطلاق والميراث فعلى كلّ إنسان أن يعمل بحسب تكليفه الشرعي))[82].

وسئل عن ظاهرة تفشت في بعض البلدان الأوروبية في ذهاب الزوجين المسلمين إلى بلدية المدينة ليعلنا الطلاق بينهما ويسجّلا أنّهما منفصلان بغية الحصول على معونة مالية أكبر، ثم يعودان ليعيشا في بيت واحد كأيّ زوجين وكأنّ الطلاق لم يحصل بينهما، فأجاب سماحته:

((هذا الفعل حرام بحدّ ذاته باعتبار أنّه يشتمل على كذب وعلى هتك لحرمة المؤمنين، ذلك أنّ الناس عندما يرون أنّهما مسلمان وأنّهما مطلقان ولكنّهما يعيشان في بيت واحد، كما يعيش أي إنسان مع إنسان آخر بطريقة غير شرعية، فذلك سوف يؤدّي إلى هتك حرمتهما وهتك حرمة الإسلام، ولذلك فبعنوان ثانٍ أيضاً يعد ذلك حراماً))[83].

وعن الذين يحصلون على مساعدات من الدولة وهم يعملون بالخفية حتى لا تقطع عنهم المساعدة، يقول سماحته:

((على المؤمن المسلم أن يكون أميناً على التزامه، وحيث أنّه أعطى التزامه للحكومة فإنّه يأخذ منها مادام عاطلاً عن العمل، يقول تعالى )أَوْفُوا بِالْعُقُودِ([84] وقال النبي (ص): ((المؤمنون عند شروطهم)) وجاء عن الإمام الصادق (ع): ((كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الصدق والخير والورع فإنّ ذلك داعية)). حتى مع الحكومات الضالّة، إلا إذا كان في ذلك دفع ضرر.

وأمّا في الحالات العادية فعلينا أن نبيّن للناس بأنّ الإسلام يحمي الإنسان من نفسه ومن غيره )لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ([85] فما بالك بالذين احتضنوكم وهيئوا لكم المسكن والمأمن، كيف لا تبرّوهم؟))[86].

4. التهذيب الاجتماعي:

يحرّم سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله – دام ظلّه – أي إضرار بالمسلمين حتى ولو كان على نحو الإزعاج والتبرّم، ويمكن التقاط ذلك من العناوين التالية:

أ) حرمة التدخين:

يوماً بعد آخر يثبت الطب أنّ خطورة التدخين على حياة المدخن نفسه وعلى المحيطين به شديدة، ولذلك حارب سماحته هذه الآفة محاربة شديدة، كما حارب أخواتها من الآفات التي تهدد الشبان والمسلمين رجالاً ونساء، فلقد سئل مراراً عن حرمة التدخين التي يقول بها، هل هي مطلقة أم خاصّة بالمبتدئين؟ فقال:

((حرمته – في رأينا – مطلقة للمبتدئين ولغيرهم، لأنّه مضرٌ بالجسد بإجماع الأطباء، وكلّ ما يضرّ الجسد فهو حرام))[87].

وسئل عما إذا كان التبعيض يشمل فتواه بحرمة التدخين، فقال:

((أنا أجوّز التبعيض، أي الرجوع إلى غيري في بعض المسائل إذا كانت هناك حاجة ملحّة لا من خلال هوى النفس فقط. وأنا انصح المدخنين على أن يلتزموا بعدم التدخين حفاظاً على صحتهم وإشفاقاً عليهم، لأنّ التدخين هو الصديق الذي يقتل صاحبه، والعالم اليوم كله يتجه إلى تحريم التدخين ومنعه قانونياً سواء في الطائرات أو في الأماكن العامة، ذلك لأنّ الأطباء أجمعوا على أنّ التدخين مسؤول عن تهيئة الجسم لسرطان الرئة والفم وما إلى ذلك. فالإنسان عندما يريد أن يحكّم مزاجه بما يمكن أن يقتل حياته، فأي عاقل هو؟ إنّ مثل المدخن مثل الذي يفتح فمه ليعبّ دخان المدخنة.

ثم إني أسألكم: هل في التدخين أية فوائد أو فيتامينات؟ إن المبرر الوحيد لذلك هو العادة، ولابدّ للإنسان أن لا تحكمه العادة بحيث يكون أسير عادته، وإنّما شرع اللّه الصيام من أجل أن يحرّر الإنسان من الخضوع لعبودية العادة))[88].

وسئل عما إذا كانت الحرمة تسري إلى من يجالس المدخنين، فقال:

((إذا كان الضرر معتدّاً به، أي يؤدّي إلى ما يؤدّي إليه التدخين ولو بنسبة أقلّ من السرطان فلا يجوز، ولذلك نقول إن المدخن يرتكب جريمتين: جريمة بحقّ نفسه، وجريمة في حقّ الناس الذين يجلسون إلى جانبه خصوصاً الأطفال لأنّ مناعتهم أضعف، وكذلك المرأة الحامل، سواء تدخينها هي شخصياً أو هناك من يدخّن إلى جوارها))[89].

وسئل مرة عن التدخين في مكان يمنع فيه التدخين، أو مكان لا يوجد فيه أحد، فقال:

((في رأينا لا يجوز للإنسان أن يدخّن حتى لو كان في الصحراء وحده، لأنّ التدخين حرام – كما أكّدنا مراراً – ذلك أن ضرره أكبر من نفعه كما هو الخمر والميسر، وكلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، كما لا يجوز للمدخن – على القول بحلّية التدخين – أن يدخّن في مكان مكتوب فيه ممنوع التدخين أو بين جماعة لا يدخنون وينزعجون من التدخين، لأنّ فيه إضراراً بالمؤمن، وهو غير جائز))[90].

وسئل عن زراعة التبغ بجميع أنواعه والمتاجرة به، فقال: ((على فتوانا لا يجوز ذلك))[91].

وسئل عن تدخين (الأركيلة) فقال:

((الأركيلة أخطر من السيجارة، لأنّ الأطباء – وهم أهل الخبرة في هذا المجال – يقولون بأنّ كلّ نفس أركيلة يساوي علبة دخان ذات عشرين سيجارة، على رأي بعضهم، وخمسة علب – أي مائة سيجارة – على رأي آخرين))[92].

وسئل عما إذا كان تدخين السيجارة أو الأركيلة للتسلية خاصة عندما يقدمان للضيافة، فقال:

((هل يجوز لك أن تشرب الخمر للتسلية أو تتقبلها كضيافة، أو تلعب قماراً بعوض للتسلية؟!

إنّ الحرام حرامٌ سواء كان للتسلية أو لغير التسلية، ولا مجاملة في الحرام إطلاقاً))[93].

ب) المفرقعات النارية:

شاعت في بعض بلداننا عادة استخدام المفرقعات في الأعياد، وقد حذّرت بعض الحكومات من استعمالها لما قد تسببه من مخاطر على الأطفال، وقد سئل سماحته عن ذلك، فقال:

((لقد حرّمت ذلك بالعنوان الثانوي، فالمفرقعات خاصة الجديدة منها توجب الرعب للأطفال، وإزعاجاً للمنطقة السكنية كلّها، فهي مظهر من مظاهر التخلّف والتربية السيئة، وهي مضرّة بالجو العام، فهي محرّمة بالعنوان الثانوي بلحاظ النتائج السلبية المترتبة عليها، ولذا فأنا أحرّم الاتجار بها وإعطاء المال للأطفال لشرائها واستعمالها))[94].

وقيل له: ((عندما ينزل الثلج فإنّ الكثير من الشباب يرمون المارّة به من على السطح، وبعض المارّة يقبلون ويبتسمون والبعض لا يقبلون، فهل هناك حرمة على هؤلاء الشباب، علماً أنّهم يفعلون ذلك بدافع المزح والدعابة؟)) فقال:

((هو حرام في ذاته حتى لو قبله الآخر، وهو بهذه الطريقة مظهر تخلّف، نعم قد يذهب البعض إلى محلّ الثلج ليلعبوا هناك فيضرب أحدهم الآخر مزحاً ودعابة فلا إشكال، أمّا أن يصعد للسطح ويرمي به المارّة فهذا قطعاً حرام، وهو مظهر تخلّف حضاري لا نريد للمؤمنين أن يأخذوا به))[95].

ج) إطلاق مزامير السيارات:

وسئل أيضاً: ((هل إطلاق مزامير السيارات، أو استخدام مكبرات الصوت بصوتٍ عالٍ – بسبب أو بغير سبب – جائز؟)) فقال سماحته:

((لا يجوز القيام بالأعمال التي تسيء إلى الناس وتؤدِّي إلى إزعاجهم في راحتهم ونومهم وأوضاعهم التي تتطلب الهدوء، من دون فرقٍ بين إطلاق المزامير بنحو مزعج من غير ضرورة، أو استعمال مكبَّرات الصوت، حتى في الحفلات الدينية والاجتماعية، أو رفع صوت المذياع أو التلفزيون أو آلة التسجيل، بما يؤدي إلى إيذاء الجيران وإقلاق راحتهم. حتى أن من اللازم الاكتفاء في آذان الفجر – بواسطة المكبر – بالمقدار الضروري الذي يحقق المصلحة الإسلامية العليا، لأنه لا يجوز الإضرار بالناس وبالوضع العام، فقد جاء عن النبي (ص): ((لا ضرر ولا ضرار))، وقد تحدث القرآن الكريم عن غضِّ الصوت كقيمة إيجابية من حيث هو الأسلوب الإسلامي في طريقة أداء الكلام، وعن رفعه بطريقة مزعجة كقيمة سلبية، من حيث منافاته للأخلاق الإسلامية، وذلك هو قوله تعالى )وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ([96].

ولعل في هذا التشبيه بعض الإيحاء بأن الذين يرفعون أصواتهم عالياً يتمتعون بذوق حماري، ما ينفر منه الإنسان بشكل طبيعي، لأنه لا يحب تشبيهه بالحمار الذي يمثل البلادة الذهنية في العرف العام))[97].

ه‍) مراقبة الكاميرا الخفية:

وسئل ذات مرّة: ((انتشرت الكاميرات الخفيّة في صالات الأفراح، فهل يجوز للمحجبات الذهاب إلى هذه الصالات مع عدم العلم بوجود الكاميرات؟)) فقال:

((إذا لم يكنّ عالمات فهنّ معذورات في ذلك، إلاّ إذا كانت لديهن فكرة في هذا الموضوع من أنّ الآخرين يستغلون ذلك لأغراض غير شرعية أو لابتزازهن بطريقة وبأخرى فعليهنّ أن يحفظن أنفسهن من ذلك، وننصح المؤمنات بالحذر من التردّد على المسابح النسائية الخاصّة أو صالات الأفراح، وبالتأكّد من القائمين عليها في عدم وجود كاميرات خفيّة، أو عيون سحرية، أو متلصصين على النساء، لأنّ ذلك قد يوقعهنّ في حالات التهديد والابتزاز من قبل الأشرار لإخضاعهنّ لما يريدونه منهنّ مما لا يتناسب مع العفّة والموقع الاجتماعي))[98].

وسئل في نفس السياق: ((بعض رؤساء العمل يقومون بمراقبة العمّال من خلال الكاميرا الخفيّة، فهل تجوز مثل هذه المراقبة، سواء كان بعلم العمّال أو بعدم علمهم، وهل هي من التجسس؟))، فقال:

((الحكم يختلف، فتارة يتجسّسون ويراقبون العمّال ليعرفوا طبيعة أداء عملهم حتى ينتبهوا إلى  الأخطاء من خلال الإشراف عليهم في إخلاصهم بالعمل، فهذا من حقهم ولا مشكلة في ذلك. أمّا إذا كان التجسّس على أشياء لا ترتبط بالعمل، بل بخصوصياتهم الشخصية التي لا علاقة لها بالعمل فلا يجوز، حيث يصبح ذلك من باب التجسّس المحرّم))[99].

و) لصق الإعلانات على الجدران:

سئل سماحته: ((هل يجوز لصق الإعلانات على جدران المنازل بدون إذن أصحابها؟)) فقال:

((لا يجوز ذلك، ولا يجوز كتابة الشعارات أيضاً على جدران المنازل إذا لم يعلم أذن أصحابها، أو علم أنّ أصحابها لا يقبلون، لأنّه لا فرق في ملكية هذا الجدار بين الداخل وبين الخارج، فلا يحلّ مال امرء مسلم إلاّ عن طيب نفسه، ولكنّ الناس اعتادوا على الحرام باسم الثورة أو باسم أي شيء من هذه الأشياء، وهذا أمر غير حضاري، فقد يكون صاحب البناية قد صبغها بشكل جيد، وجعل لها واجهة ممتازة، فتأتي أنت لتتجاوز كلّ ذلك لتكتب عليها (يسقط) أو (يعيش) أو (الموت لفلان) وما إلى ذلك.

فإذا أردتم أن تكونوا حضاريين فيجب أن تكون هناك لوحة في هذا الشارع، ولوحة في ذاك الشارع لإلصاق الإعلانات، والذي يلصق على جدران الآخرين أوراقه وصوره يكتسب إثماً لأنّه تصرّف في مال امرء مسلم بغير أذنه، وقد صرّحنا بذلك في بعض الصحف قبل ما يقارب الستة عشر سنة أيام الحرب اللبنانية))[100].

وحينما طرح عليه سؤال آخر في أن ما وصفه سماحته بالأسلوب المتخلّف تتخذه بعض الدول وسيلة لإبراز مظلوميتها وحقوقها المشروعة، قال:

((يمكن تعليق الشعارات في لوحة على الجدران لأنّ ظاهر البيت كباطنه.. نعم، عندما تصل القضية إلى حدّ الضرورة – كما في القضايا السياسية الكبرى – أو إذا عرفنا بتعاطف أهل البيوت معنا، فلا مانع من ذلك))[101].

ز) الغش في الامتحانات:

وسئل سماحته عن حكم الغش في الامتحانات المدرسية، فقال:

((يحرم الغش في الامتحانات وغيرها، وهذه هي فتوى السيد الخوئي (رحمه الله) ونحن نرى ذلك، لأنّه لو أبحنا لكلّ الطلاب أن يغشّوا في الامتحانات المدرسية، وأبحنا للمراقبين أن يغضوا الطرف عن الغش، فسوف ينجح الطالب بدون كفاءة، وسيتصرّف في أمور المسلمين طبيباً أو مهندساً، أو في مهنة أخرى، بلا كفاءة أو جدارة، وفي ذلك مضرّة للإسلام وللمسلمين، ولذا فإنّ هذه القضايا مما يتصل بالجانب النوعي، والنظام التربوي العام الذي لا يجوز التعدّي عليه))[102].

ح) تلويث البيئة:

وحرّم سماحته أي شكل من أشكال تلويث البيئة لأنّها ملك الجميع وعلى الجميع احترامها والمحافظة عليها نظيفة سليمة، فلقد سئل ذات مرّة أن ((هناك ظاهرة غير صحيّة، وهي أنّك ترى الناس يكثرون من البصاق في الشارع، وهناك من يرمي القمامة على الأرض، مما يؤدي إلى تفسخّها وانتشار الأمراض، فنرجو أن تبيّنوا الموقف من ذلك من الناحية الشرعية؟)) فقال:

((علينا أن نحافظ على نظافة شوارعنا كما نحافظ على نظافة بيوتنا، لاسيما إذا كان ما نلقيه في الشارع من البصاق أو المخاط أو القمامة يمكن أن يؤدّي إلى انتشار الأمراض من خلال الميكروبات. لذلك نقول إنّ علينا أن نحافظ على البيئة وعلى النظافة في الشارع كما نحافظ على ذلك في بيوتنا من موقع شرعي وأخلاقي واجتماعي فانّ كلّ ما يضر الناس مما يترك تأثيره السلبي على البيئة العامة محرّم شرعاً))[103].

ط) أواني ضيافة الطائرات:

وسئل عن إمكانية اخذ الأواني البلاستيكية التي يوزّعها المضيفون في الطائرات لتناول الطعام، فقال:

((إذا كانوا يشترطون إرجاعها فلا يجوز ذلك))[104].

ي) إثم المجتمع:

وقد طرح سماحته عنوان (الإثم الجماعي) في سكوت الأمة عن المنكرات التي تسيء للنظام العام أو اختراق المجتمع للشريعة الإسلامية، فعلى سبيل المثال لو أن المجتمع – كما افترض أحد الأسئلة الموجهة إليه – أجبر شخصاً على تغيير طباعه وعاداته والتزاماته الإيمانية، فقال:

((نعم، يأثم المجتمع بمقدار التزامه بالخطّ المنحرف، أو بمقدار ضغطه على الناس ليسيروا في الخط المنحرف، ومن شارك في هذا الضغط، وفي هذا الالتزام لا يكون معذوراً بل مأثوماً، كما لو أنّ المجتمع – بصفة عامّة – يحلف بالله كذباً، فعلى الإنسان أن لا يخضع للمجتمع في ذلك، فنحن نرى أن مجرد سير الوضع العام في المجتمع – على هذا المنوال – لا يمثل حالة ضغط أو إكراه))[105].

ك) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وسئل سماحته في العمل بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشارع الإسلامي، فقال:

((للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط، فإذا تحققت هذه الشروط فلابدّ من القيام بهاتين الفريضتين اللتين هما من أعظم الفرائض وأجلّها))[106].

وسئل عن طلبه من الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، إلا يعدّ ذلك من العمل بغير علم، فأجاب:

((ليس في كلّ شيء، فالإنسان المسلم يعرف أنّ الصلاة واجبة فيأمر بها، ويعرف أن الخمر حرام فينهي عن شربها، فعلى الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر فيما يعرفونه لا فيما يجهلونه))[107].

وسئل سماحته عما إذا كان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زماننا هذا عينيّاً، نظراً لتكالب وسائل الكفر في إضلال مجتمعنا الإسلامي مما يدعونا إلى تعبئة جميع المسلمين للنهوض من أجل هذا الواجب، فقال:

((في هذه الأيام برز الشرك كلّه إلى الإيمان كلّه، وبرز الاستكبار كلّه إلى الاستضعاف كلّه، ولذلك نعتقد لو أنّ المسلمين بأجمعهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر لما كان ذلك كافياً، ولو أنّ المسلمين بأجمعهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر لما كان ذلك كافياً، ولو أنّ المسلمين بأجمعهم دعوا إلى الله لما كان ذلك كافياً، لأنّ التحديات الآن أكبر من طاقة المسلمين.

لذلك اعتقد أنّ الراحة – في هذه الأيام – لا تجوز، فليس لأي إنسان أن يرتاح راحة استرخاء، وعلينا أن نكون جميعاً دعاة إلى الله بكلّ ما نملك من أساليب ووسائل وطاقات. وعلينا جميعاً أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لكن قبل ذلك وبعده لابدّ لنا أن نعرف أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأساليب الدعوة إلى الله )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ([108] و)وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ([109] و)وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ([110])).

ثامناً: فقه القضاء

1. ممارسة القضاء:

سئل سماحته من قبل شاب جامعي يرغب بالدخول إلى معهد القضاء لكي يصبح قاضياً في ملاك القضاء والمدني، فأجابه:

((القضاء حرام إذا لم يكن بما أنزل الله، وهو عندئذ بمثابة من لا يعطي الحقّ إلى أصحابه بنحو يكون قضاؤه مساعِداً للظالم في ظلمه، أما إذا كان القاضي دقيقاً في أحكامه بنحو يكون في منصبه غير مضيِّع لحقوق الناس أو حقوق الله، وكان مراقباً لله في كل ما يصدر من أحكام، وبنحوٍ لا يستند إلى رأيه في قبال ما شرع الله، فإنه لا يكون حراماً عندئذٍ. وربما تمسّ الحاجة إلى مثل هذه الوظائف للمصلحة الإسلامية العليا بلحاظ العنوان الثانوي، مما يرجع فيه إلى أهل الخبرة الذين يدرسون طبيعة الظروف والأوضاع في موارد الحاجات الملحّة العامة))[111].

2. عمل المحامي في مجتمع إسلامي:

وسئل عن شرعية عمل المحامي في ظلّ القوانين الوضعية في المجتمع الإسلامي، فقال:

((إذا كان المحامي يدقّق في القضايا التي يكلّف بها في موافقتها للشريعة الإسلامية فيجوز له أن يدافع عنها، أمّا إذا كانت غير موافقة للشرع الإسلامي بحيث يقول الشرع إنّ فلاناً مدان وهو يريد تبرئته، ففي هذه الحال لا يجوز ذلك))[112].

3. التلاعب بالقانون:

وسئل ما إذا كان يجوز للمحامي إن يستلم دعوى تظهر له من خلال الأدلّة أنّ موكله على باطل ولكنّه يستطيع بالقانون أن يخرجه من هذه الورطة، فقال:

((لا يجوز له ذلك إذا كان هذا الإنسان مجرماً، وأمّا إذا كان بريئاً فلا يجوز له أن يجرّمه، إذ لابدّ للمحامي أن يدافع بالحقّ عن الحقّ))[113].

4. اللجوء إلى القضاء غير الإسلامي:

وسئل عن جواز اللجوء إلى القضاء غير الإسلامي، كما في الدول الأوروبية للحكم بين مسلمين رغم وجود علماء دين هناك، فقال:

((لا يجوز الرجوع إلى حكّام الجور إذا كان بامكان الإنسان أن يحصل على حقّه من خلال حكّام العدل))[114].

تاسعاً: فقه السياسة:

1. المراد بالفقه السياسي:

سئل سماحته عن المقصود بالفقه السياسي، فقال:

((الفقه السياسي هو الذي يعالج القاعدة السياسية، وهي قضية الحكم في شريعته وفي طبيعته وفي شكله وفي قاعدته وكلّ ما يتعلّق بحركة المنهج السياسي إنّ في إدارة الحكم، أو في حركة الصراع السياسي وصولاً إلى الأهداف الكبرى))[115].

2. الكتابيون في هذا العصر:

وسئل سماحته عن حكم الكتابيين في هذا العصر، فقال:

((حكمهم ما قاله الله تعالى )لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ([116] أي أن نحسن إليهم، ونتعامل معهم بالعدل، فلا نأخذ حقوقهم ولا نظلمهم في شيء في ذلك))[117].

وسئل أيضاً: هل الإنسان الأوروبي كافر حربيّ، فقال:

((يمكن اعتبارهم كفّاراً ولكن ليسوا حربيين.. أما الفتاوى التي تكفّر هؤلاء وتعتبر أموالهم ودمائهم حلالاً فهذا ليس من القرآن ولا من السنّة في شيء، فهناك من يصدر الفتاوى ليجعل المهاجرين حرامية شرعيين)).

3. التعايش مع أهل الكتاب:

وسئل عن التعايش مع أهل الكتاب تحت إطار التعددية الحزبية والطائفية، فقال:

((يقول اللّه سبحانه وتعالى }قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ{[118]. فالقرآن لم يحرّم علينا التعايش معهم))[119].

4. مسايرة الاستكبار:

وسئل عن المتصدين في مواقع المسؤولية من المسلمين الذين يتماشون مع الاستكبار العالمي والصهيونية، فقال:

((لابدّ لكلّ مسلم أن يتبع من يقوده إلى الحقّ وإلى الله وإلى سبيل رسول الله (ص) أما من لا يتبعون ذلك فلا يجوز لأي إنسان أن يتبعهم فيما هم سائرون فيه))[120].

5. استعانة المسلمين بالمشركين:

وسئل عن مدى ما يحق للمسلمين الاستعانة بالمشركين في الحرب، فقال:

((الأصل أنّه لا يجوز ذلك إلاّ في حالة الضرورة القصوى))[121].

6. الانتماء للأحزاب الغربية:

وسئل عن رأيه بانتماء المسلم المغترب لأحد الأحزاب السياسية الغربية من أجل خدمة المسلمين وإيصال صوتهم إلى الحكومات الغربية فقال:

((لابدّ من دراسة الأمر على الأرض، فإذا فرضنا أنّ دخوله في هذا الحزب لا يزيد الحزب قوة إذا كان للحزب مضمون فكري، وكان يتوقف على دخوله خدمة مصالح المسلمين ورعاية أمورهم فلا بأس، وطبعاً  ]بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ^ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [[122]. فيجب عليه أن يدقّق جيداً في هذه القضايا. وليست هذه إجازة للدخول في هذه الواجهات بل يحتاج الأمر إلى دراسة ميدانية ثم تطلب الإجازة من المرجع))[123].

7. تحريم قتل السواح:

وسئل عن فتواه بحرمة قتل السواح الأجانب، وكيف يحرّم ذلك وهم يجوّزون قتل إخواننا وأبناء ديننا وينشرون الفساد في مجتمعنا فقال:

((في الإسلام كلّ من دخل في جوار المسلمين وذمّتهم فلا يجوز قتله، فليس من الضروري أن يكون السوّاح الأجانب الذين يأتون بلادننا محاربين أو أعداء، فهناك وفود تأتي إلى لبنان وهي ضد سياسة أميركا أما نشرهم للفساد فهذا عنوان ثانٍ.

ولكن للننظر من أين انطلقت المسألة؟

انطلقت من خلال أنّ الذين يقتلون هؤلاء المسلمين إنّما يريدون منع السياحة والله تعالى يقول )لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ([124].

فليس كلّ كافر محارباً، وليس من الضروري أن يكون غير المحارب مخالفاً لنا في الدين وفي الموقف، يقول تعالى )وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ([125].

وأمّا الفساد فليس الأجانب وحدهم الذين قاموا به بل إن حكوماتنا هي التي تشجّعه، فهم أي السيّاح – يأتون – في الغالب – لزيارة الآثار، وعندما يأتون نتحدث معهم، وربّما تتغير وجهة نظرهم عندما يحاورون الناس في البلدان الإسلامية))[126].

كما حرّم سماحته اختطاف الطائرات وترويع المدنيين وقتل الأبرياء كما جرى في إحداث 11 أيلول بأمريكا.

8. العمل والمتاجرة مع اليهود:

وسئل سماحته عن اضطرار بعض المغتربين للعمل عند اليهود، فقال:

((في حالات الضرورة القصوى يجوز ذلك )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ([127]. لكنّ الأفضل للإنسان أن يطلب العمل في غير هذه الأماكن))[128].

وسئل عن المتاجرة بين المسلمين واليهود، فقال:

((لا تجوز التجارة مع أي يهودي إسرائيلي، أو تقوية إسرائيل، أو التعاطف معها، وذلك لأنّ أيّ نوع من أنواع التجارة يمثل قوّة لهم، ولا يجوز للمؤمن أن يقوّي أعداء الله اقتصادياً، كما لا يجوز له أن يقوّيهم عسكرياً وسياسياً لاسيما ونحن في حالة حرب معهم.

وقد ألّف بعض اليهود عصابة لجمع المال تحت شعار (ادفع دولاراً تقتل عربياً) فمن يدفع أيّ شيء لليهود بحيث يكون ربحاً تجارياً لهم فمعنى ذلك أنّه يساهم في شراء رصاصة يقتل بها اليهودي من شاء من المسلمين أو من العرب))[129].

9. شراء المنتوجات الصهيونية:

وسئل عن حكم من اشترى منتجات إسرائيلية من دون أن يعلم مصدرها، وهل يجوز الشراء من اليهود في الدول الغربية؟ فقال:

((إذا لم يكن يعرف ذلك فهو معذور، ويستطيع أن يستعملها من دون أن يكون شراؤه للبضاعة دعاية في استعمالها والترويج لها أمام الناس الآخرين.

أمّا الشراء من اليهود الذين يساعدون إسرائيل فحكمهم حكم إسرائيل في هذا الحكم))[130].

10. التعامل مع الشركات المتعاونة مع الصهاينة:

وسئل عن التعامل مع الشركات التجارية التي تعطي نسباً من أرباحها للكيان الصهيوني، فقال:

((لا يجوز التعامل مع كلّ مؤسسة وشركة ومحل يتعاون مع الكيان الصهيوني ويقوّيه))[131].

وسئل من قبل المهاجرين إلى أوروبا عن التعامل مع بعض المؤسسات اليهودية كالبنوك، فقال:

((الأصل أنّنا لا نتعامل مع كلّ إسرائيلي يحمل الجنسية الإسرائيلية، وكلّ يهودي يشجّع إسرائيل، إلاّ في حال الضرورة))[132].

وسأله متعهد ديكور اتفق مع بعض العمال على إنجاز ديكور لفندق اتضح أن تمويله من قبل رجل إسرائيلي، فقال له:

((إذا كان الفندق للإسرائيلي، أو للمتعاطين المتعاملين مع إسرائيل والمؤيدين لها فلا يجوز))[133].

11. استراتيجية موحّدة ضد الصهاينة:

وسئل عما إذا كانت هناك استراتيجية موحّدة بين الشيعة والسنّة في مواجهة الكيان الصهيوني، فقال:

((اعتقد أنّ المسلمين لم يتوحّدوا على شيء، كما توحّدوا في مواجهة إسرائيل، فالمسلمون الواعون الملتزمون المنفتحون على قضايا الحرية والعدالة في خط الإسلام يقفون صفاً واحداً، وعندما نتحدث عن الوحدة الإسلامية نقول لكلّ المسلمين: علينا أن نتوحّد – كما توحّدنا في التجربة في القضايا السياسية – حتى نستطيع أن نفهم أن مصير المسلمين واحد، وأنّ الاستكبار والكفر العالمي والصهيونية العالمية لا تريد رأس السنّة أو رأس الشيعة، ولكنّها تريد رأس الإسلام أيّاً كان، ولذلك حاربوا السنّة عندما وقفوا في خطّ الثورة مثلما حاربوا الشيعة عندما وقفوا في خطّ الثورة، ولذا فإنّ علينا أن نتعلّم من الجراح أن درسها أعظم من ألف محاضرة وألف كتاب))[134].

12. رجم العدوّ بالحجارة:

وقيل لسماحته: أحدهم يقول ما فائدة رمي الحجارة على الصهاينة؟ فقال معقّباً:

((هذه الحجارة هي التي حرّكت وجدان العالم، ولو كان الفلسطينيون قد استخدموا منذ البداية السلاح لكان يقال – كما يقال هذه الأيام – إنّ قضية الصراع هي قضية عنف، لكن الحجارة أشعرت العالم بأنّ هناك شعباً يطلب حريته ويواجه المحتل بطريقة سلمية، والمحتل يواجهه بالرصاص الحيّ وبالدبابات وبالطائرات وبالمدافع.

إنّ هذا الأسلوب الذي لا يرى فيه هذا الأخ فائدة هو الذي استطاع أن يهزّ وجدان العالم ليفتح اهتمامه بالقضية الفلسطينية))[135].

13. شهداء العمليات الاستشهادية:

وسئل عن المؤمنين المجاهدين الذين ينفّذون العمليات الاستشهادية ضد الكيان الصهيوني ويقتلون، هل هم شهداء؟ فقال له:

((هم من أعظم الشهداء، فعملهم جهاد في سبيل اللّه وأيّ جهاد؟! إذ ما الفرق بين من يدخل المعركة وهو يعلم أنّه سوف يقتل برصاص العدو، وبين مجاهد آخر يدخل المعركة من جهة حاجة الخطّة الجهادية إلى من يفجّر الألغام أو يفجّر نفسه في سيارة؟ ولابدّ من أن يكون القائم بهذا العمل قد حصل على إذن من جهة شرعية تشرف على خطّ الجهاد. وبالطبع تجري عليه أحكام الشهيد إذا كان في قلب المعركة، أمّا إذا كان في مكان آخر فالحكم يختلف))[136].

وسئل عن تلغيم المجاهد لنفسه ليقتل الأعداء، هل هو انتحار؟ فقال:

((إذا كان في حالة جهاد بحيث يفجّر نفسه ليقتل أكبر عدد من الأعداء، أو يحقّق هدفاً استراتيجياً للجهاد، فإنّه يكون مجاهداً وشهيداً، ويعتبر عمله استشهادياً وليس انتحارياً))[137].

وكان هناك بعض المشايخ الذين حرّموا العمل الاستشهادي واعتبروه انتحاراً وإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، فسئل سماحته عن ذلك، فقال:

((هؤلاء لم يتعمّقوا في الفرق بين الانتحار وبين الاستشهاد، فالانتحار هو أن يقوم الإنسان بقتل نفسه انطلاقاً من حالة ذاتية، كمن يفشل في دراسته كالكثير من المراهقين، أو كمن يفشل في حبه العاطفي أو كمن يخسر في صفقة تجارية أو يعيش في حالة كآبة نفسية فوق العادة. فالانتحار هو أن يقتل الإنسان نفسه على أساس دوافع أو أسباب ذاتية فيمكن أن يقال )وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ([138].

أما الجهاد فهو إلقاء النفس بالتهلكة من اجل هدف سام )إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ([139]. لكن الفرق بين الجهاد كإلقاء النفس في التهلكة بالحرب وإلقاء النفس في التهلكة في الحالات الفردية، هو أن الجهاد هو أن تقتل نفسك في سبيل قضية كبرى على أساس شرعي. ولذا نقول إنّ هذه العمليات التي يقوم بها هؤلاء المجاهدون سواء في لبنان أو في فلسطين استشهادية، والذين يقومون بها شهداء لأنهم فجّروا أنفسهم بالعدو من أجل القضية الشرعية الكبرى، إذ ما الفرق بين من يبرز للمعركة من أجل أن يقتل العدو بسيفه ليقتله العدو بسيفه وبين من يفجّر نفسه بالعدو، فهذا جهاد وهذا جهاد، واللّه سبحانه وتعالى لم يحدّد للمجاهدين آلية الجهاد بل إنّه رخّص لهم أن يقاتلوا العدو بكلّ الوسائل التي تحقّق الهدف، فإذا كانت العمليات الاستشهادية تحقق الهدف فإنّها عمليات استشهادية جهادية.

ونحن نقرأ في واقعة كربلاء عندما صلّى الإمام الحسين (ع) الظهر أنّ هناك شخصاً وقف أمام الحسين (ع) وهو يصلّي وكانت السهام تنهال عليه من كلّ جانب والرجل ينزف وانتهى الحسين من صلاته وسقط الرجل وهو يقول: هل وفيت يا بن رسول الله؟ قال: نعم، أنت أمامي في الجنة. أليست هذه عملية استشهادية؟ وفي حرب الجمل أعطى الإمام علي (ع) لأحد جنوده القرآن حتى يعرضه على الجمهور قائلاً تعالوا نحتكم إلى كتاب الله فقتله الجمهور وهذه عملية استشهادية أيضاً.

فهؤلاء الذين يقولون بهذه الفتاوى لا يعلمون معنى الجهاد لأنهم لم يعيشوا قضية الجهاد، فلا يفهم الجهاد إلا من يعانيه، وبعض هؤلاء لا يعيشون القضايا الكبرى ولاسيما إذا كانوا موظفين عند السلطان يعطونه فتوى بالسلم عندما يريد السلم وفتوى بالحرب عندما يريد الحرب))[140].

14. مقاطعة البضائع الأمريكية:

ولمّا كانت الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الأكبر للكيان الصهيوني الإرهابي والتي تمدّه بالمال والسلاح والموقف المساند المؤيد لجرائمه ضد الشعب الفلسطيني،  أوجب سماحته مقاطعة البضائع الأمريكية كجزء من الحملة ضد أصدقاء العدو وحلفائه، فكانت له الفتاوى التالية من خلال أسئلة طرحها جمهور الندوة عليه:

فلقد سئل سماحته: ((هل أنّ مقاطعة الشركات الصهيونية والأميركية حكم أم فتوى؟)) فأجاب:

((هي حكم، وهي فتوى قائمة على أساس شرعي ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه))[141].

وسئل عن شركة (الكوكاكولا) و(الببسي كولا) التي يقال أنهما تدعمان الكيان الصهيوني، فقال:

((علينا أن نستغني عن ذلك كلّه، فلدينا الآن الكثير من الأمور التي لا تمثّل الضرورة، بل إنّها ليست من الكماليات، ثم أنّ العصير أفضل وعندنا فواكه طبيعية وطازجة جيدة، فلماذا لا نشجّع الزراعة والفلاحين؟ ولماذا يخلق الغرب دائماً حاجاتنا من السجائر والمرطبات وسواها، وسواء كانت تلك الحاجيات تدعم إسرائيل أو لا تدعمها، فإنّ السؤال المهم هو: لماذا لا ندعم اقتصادنا وزراعتنا وحياتنا؟

إنّ بعض الناس لا يملكون – للأسف – حسّاً إسلامياً أو وطنياً أو قومياً بل لديهم حسّ ذاتي، فالمهم أن أتلذّذ بهذا الشيء أو ذاك بقطع النظر عن كلّ النتائج السلبية المترتبة عليه.

فنحن نقول إنّ كلّ شيء نستطيع أن نستغني عنه فينبغي الاستغناء عنه، وقد كان بعض العلماء الزهاّد في النجف مثل (الشيخ القمي) لا يلبس إلا القماش الإسلامي المصنوع في البلاد الإسلامية(*).

ولقد قلنا مراراً إن أميركا تضطهد الواقع السياسي الإسلامي وهي التي صنعت الكيان الصهيوني وتدعمه وتقوّيه، والدول الآسيوية أخفّ في سياستها من أميركا، فلماذا لا نشتري إلاّ بضاعة أميركية؟! فالبضاعة الأمريكية لها بدائل أوروبية أو يابانية أو آسيوية، فكيف نردّد شعار (الموت لأميركا) ونحن ندخن (المالبورو) ونشرب (السفن آب) أو (الببسي)؟!

إنّ هذا يعني أنّك تقول بلسانك (الموت لأميركا) وتأخذ بفمك ما يعطي الحياة لأميركا، وأميركا لا تتعامل مع المعنويات فلو ردّدت من الصباح إلى المساء (الموت لأميركا) وأنت تشتري بضائع أميركية فإنّ مصانع أميركا لا تتأثر، لكننا شعب يقول كثيراً ويعمل قليلاً))[142].

وسئل عمن يعيشون في أميركا الشمالية، كيف يقاطعون البضائع الأميركية، فقال:

((ذلك بحسب الإمكان، لكننا إذا استطعنا ونحن في أميركا أن نشتري بضاعة غير أميركية من بضائع بلد ليس له علاقة وطيدة مع الكيان الصهيوني، فلنفعل))[143].

وسئل عن جواز بيع البضائع الإسلامية كالنفط وغيره لإسرائيل وأميركا، فقال:

((المقاطعة هي مقاطعة ذات جانبين، لا نشتري منهم ولا نبيع لهم))[144].

وسئل عن التسوّق من أسواق (سبنسر) البريطانية التي تخصّص ريع أيام السبت لليهود في الكيان الصهيوني، هل يجوز التسوّق منها في غير أيام السبت؟ فقال:

((لو كانت هناك محلات تخصّص ريعها في يوم من أيام الأسبوع للمشركين ضد النبي (ص) فهل نشتري منها؟ بالطبع لا.

فما دامت هذه المحلات تشارك في دعم اليهود لقتلنا فلا يجوز، فهل تعطي شخصا مالاً من أجل أن يقتلك، أو يقتل أخاك؟! ولم الشراء من هذه المحلات تحديداً، لم لا نشتري من محلاّت أخرى؟

فحينما يعرف أصحاب هذه المحلات أنّنا نقاطعهم لأنّهم يعاونون إسرائيل فسوف يعيدون حساباتهم، ولكنّهم يعرفون أنّ العرب وبسبب اهتمامهم ببطونهم وملابسهم وزينتهم لا يتخلّون عن الشراء منهم، فإنهم يزدادون تعاوناً مع الكيان الصهيوني، وتلك هي المشكلة. ولو فرضنا أنّ اليهود في بريطانيا عرفوا أن هناك محلاً يقدم أرباحه في كلّ يوم جمعة إلى الفلسطينيين فهل يشترون منه؟ بالتأكيد لا، فلنتعلّم من أعدائنا))[145].

وسئل عن مطاعم (مكدونالد) الأمريكية، فقال:

((أليس عندنا مطاعم سعودية وكويتية وباكستانية وعراقية ولبنانية، فلم الأكل من هذه المطاعم التي لا يعلم لحمها، هل هو مذكّى أم لا؟

أليس لدينا من يعرف الطبخ ويجيده؟ فلماذا عقدة ((كل شيء فرنجي برنجي)). إنّ طعامنا أطيب من طعامهم وطبخنا لأفضل))[146].

عاشراً: مسائل عصرية متفرّقة

المتابع لندوة السبت في دمشق يرى أنّ سماحته لم يدخر وسعاً في الإجابة على مختلف الأسئلة العصرية أو تلك التي يصطلح عليها ب‍(المسائل المستحدثة) الأمر الذي يعني ملاحقة سماحته لآخر تطورات العلم وتقنياته الحديثة، وإعطاء الرأي الشرعي السليم في ذلك كلّه، ويمكننا هنا التقاط المسائل التالية المندرجة تحت هذا العنوان:

1. الرؤية الفلكية:

فلقد سئل سماحته مراراً عن المقياس أو المعيار الذي يمكن اعتماده لتحديد بداية الشهر، فقال:

((إنّ الهلال ظاهرة كونية مثله مثل الشمس فهما مرتبطان بالنظام الكوني، فالله جعل للشهور نظاماً )إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ([147] وهذا هو كتاب الكون.

فالقمر لا يغيب عن الكون غياباً تاماً، أي ليس له حالة انعدام كلّي، ولكن ما الذي يجعل هذا الشهر أو ذاك مميزاً عن شهر آخر؟

إنّه دخول القمر في المحاق، حيث يبدأ الشهر الثاني بخروجه من المحاق الذي يعني أنّه ليس للقمر كمية ضوء كافية بحيث يمكن رؤيته عندما يخرج من المحاق، وتسمّى هذه الحالة بولادة الهلال. وعندما يولد الهلال فإنّه لا يختزن كمية من الضوء إلاّ عندما يكون عمره، كما يقول علماء الفلك المختصّون بين (13-14) ساعة، وتستحيل الرؤية بأقلّ من ذلك، فكيف يمكن أن نعرف أنّ الهلال قد ولد؟

نحن نقول إنّ معرفة الهلال تحصل من خلال أهل الخبرة الموثوقين، فإذا عرفنا أنّ الهلال قد ولد، وأنّه وصل في عمرة إلى مستوى يختزن كمية كافية من الضوء بحيث يمكن رؤيته، وأحرزنا إمكانية العلاوة والرؤية، أمكن الاعتماد على قول أهل الخبرة والإفتاء طبقاً لشهادتهم، ولا مشكلة في الرؤية.

وهذا هو الرأي الذي يتبّناه علمياً السيد الخوئي ونحن نتبنّاه أيضاً، وعلى هذا الأساس نحكم ببداية الشهر ونعلن ذلك قبل حلول الشهر لأنّنا نطلع على ذلك من خلال مراصد العالم بحسب نشاطنا التجوالي في هذا المجال سواء في أميركا أو أوروبا أو المنطقة، لأنّنا نرى أنّ الوسائل العلمية قطعية بالمعنى العرفي حيث أنّ نسبة الخطأ في التوليد وإمكانية الرؤية هي نسبة الواحد إلى المليون، بينما ما أكثر الخطأ في الرؤية العينية.

فالفلك الحديث يختلف عن الفلك القديم، وأنّ الحسابات الفلكية الآن هي التي تخطّط لرحلات الفضاء والصعود إلى القمر، مما يعني أنّ الفلك أصبح من دقّة الحسابات بحيث تحوّل إلى ما يقرب من الحقيقة العلمية.

فإذا استطعنا من خلال بحث فقهي – أن نصل إلى نظرية فقهية تعتمد العلم فالعلم واحد، ونستطيع أن نلتقي على عيد موحّد))[148].

2. الاستنساخ:

وسئل، حينما ضجّ العالم بآخر صيحات الطب أو الهندسة الوراثية، عن الاستنساخ وعن مدى صحّة استنساخ الموتى والمنقرضين من العلماء والعباقرة والأبطال؟ وما هي وجهة نظر الشرع في ذلك، فأجاب سماحته:

((حسب قراءتي، ولا أدّعي الشمولية في القراءة، أنّ ذلك ليس واقعياً، فالبعض قالوا بإمكانية استنساخ الديناصورات المنقرضة، في حين لابدّ من الاستنساخ أن تكون الخليّة حيّة، فعلى صعيد الصحّة يبدو أنّ ذلك غير صحيح.

أمّا الوجهة الشرعية للاستنساخ، فإذا افترضنا أنّهم تمكّنوا من استنساخ شبه الميت، فهو ليس الميت بل إنسان آخر، وغاية الأمر أنّ المخلوق الذي لا يولد من أب وأمّ ستتغير الجوانب الشرعية في النظر إليه، فيكون حاله كحال عيسى (ع) الذي ولد من أم بدون أب، فتترتب عليه آثار الأمومة لا الأبوة، إذا كان بالإمكان أن يؤخذ من خلية أنثى وليس من خلية مزدوجة من الرجل والمرأة.

ولذا فإننا لا نستطيع أن نحكم بحليّة الاستنساخ أو حرمته إلا من خلال النتائج السلبية أو الإيجابية، فإذا كانت إيجابية نحكم بحليّته، وإذا كانت سلبية نحكم بحرمته))[149].

وسئل لاحقاً: ((ذكرتم أنّ الاستنساخ من خلية الأم يجعل من الأم هي الأم والأب في آن واحد، ألا يخالف هذا العرف والشريعة؟)) فأجاب:

((صحيح، أنّ ذلك يخالف العرف لكنّه لا يخالف الشريعة، فالأصل الإباحة، وكل ما هناك أن مولود الاستنساخ يولد من أم دون أب ولقد أوضحنا كيفية ذلك، فبعد أن اخذوا خلية من الأم وزرعوها في داخل البويضة، بعد تفريغ البويضة من الكروموسومات، ولد الولد من هذه الأم، وهذا مثله مثل عيسى (ع) لكن ذاك كان بالقدرة المباشرة لله وهذا بما ألهم الله الإنسان معرفته في هذه الطريقة.

لذلك نحن لا نرى أنّ هناك حرمة في ذلك. نعم نحن نناقش في قضية الاستنساخ البشري من خلال إمكانية أن يسيء إلى كثير من الأوضاع الاجتماعية وأن يخلق فوضى من هذه الناحية، ولكن أصل المبدأ لا يوجد دليل على حرمته))[150].

وسئل سماحته عن جواز أخذ نطفة الرجل وفصل الخلايا الذكرية عن الأنثوية عند الطبيب المختص ليصار إلى تلقيح زوجته بأحدهما وفقاً للاختيار المطلوب ذكراً كان أو أنثى، فقال:

((يجوز ذلك، ولكن لابد من قيام الطبيبة بعملية التلقيح، لأنه لا يجوز للطبيب النظر إلى عورة المرأة إلا في حالة الضرورة، وليس هذا المورد من موارد الضرورة))[151].

4. التلقيح ببيضة مخصّبة:

وسئل عن امرأة لا يعيش الجنين في رحمها، فقام الأطباء بأخذ بويضة منها وحويناً من زوجها وتم التلقيح خارج رحمها، ومن ثم نقلت البيضة المخصّبة إلى رحم إمرأة أخرى، فلمن يكون الولد، فأجاب:

((هناك اختلاف في الرأي – في هذه المسألة – فالسيد الخوئي يرى أنّ الأم هي الحامل احتجاجاً بقوله تعالى )إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ([152] فالتي تلد هي الأم وليست صاحبة البويضة.

ولكن هناك رأي يستقربه السيد السيستاني، ونحن نرى ذلك أيضاً، وهو أنّ الأم هي صاحبة البويضة، وأنّ الحامل ليست أمّاً، فمع أنّ الولد عاش في داخل رحمها ولكنها لم تنتجه، بل الذي أنتجه في أصل وجوده هو صاحب النطفة وصاحبة البويضة، فالولد يخلق من النطفة زائداً البويضة، ونسبة الولد إلى النطفة والبويضة – على حدّ سواء – حسب قول أهل الخبرة.

ولكن يمكن أن تكون هذه المرأة الحامل محرماً، لأنّه إذا كان الرضاع بمستوى خمسة عشر رضعة، أو الذي ينبت اللحم ويشدّ العظم – أي يوجب الحرمية – فلا إشكال بأن إنبات اللحم وشد العظم بالنسبة للإنسان الذي يعيش في رحم امرأة ويتغذّى من دمها تسعة أشهر، أقوى في إنبات اللحم وشدّ العظم من الرضاع.. لكن المسألة في محلّ إشكال وليس هناك فتوى بالحرمة المطلقة في مسألة المحرمية الملحقة بالرضاع))[153].

5. التعقيم:

وسئل سماحته عن تناول المنشّطات المقوّية للعضلات والتي ثبت طبّياً أنها تؤدّي إلى عقم مؤّقت، فقال:

((ما يؤدّي إلى عقم مؤقت ليس محرّماً، نعم ما يؤدّي إلى عقم دائم فيه إشكال))[154].

وسئل عن ربط الأنابيب، فقال:

((يمكن التعقيم في ربط الأنابيب أي التعقيم المؤقت الذي يمكن إزالته في أي وقت وليس التعقيم النهائي الذي لا يمكن إرجاع الوضع فيه إلى ما كان عليه. كما يجوز تعقيم الرجل في بعض الحالات)).

ثم أوضح سماحته قاعدة عامّة، أي أنه يضع بين يدي الجمهور ثقافة شرعية أوسع من دائرة السؤال، حيث يقول:

((ولابدّ من اعتماد هذه القاعدة وهي أن الإنسان بعمومه طاقات، فلا يجوز أن تقتل نفسك أو أن تقتل طاقتك، فأنت مثلا تستطيع أن تغمض عينك ولكن لا يجوز لك أن تفقأها، وتستطيع أن تجمّد لسانك ولكن لا يجوز لك قطعه، وكذلك طاقة الإنجاب فإنّك تستطيع أن تجمّدها لكنّك لا تستطيع أن تقتلها. ولذا فانّ التحفّظ الشرعي في كلّ ما يؤدي إلى قتل طاقة الإنسان هو الذي يحكم هذه المسألة من ناحية الحكم الشرعي))[155].

6. الإجهاض:

وسئل سماحته عدة مرات عن إسقاط الجنين في حال إضرار الحمل بحياة المرأة، فقال:

((هناك عدة آراء في هذا المقام، هناك رأي لفريق من العلماء ومنهم السيد الكلبايكاني، وهو أنّه لا يجوز للمرأة – في أيّ حال من الحالات – إن تسقط حملها حتى لو كان في أول أيام الحمل، وحتى لو كان الحمل يشكّل خطراً على حياتها، وإنّما عليها أن تنتظر أمر الله.

وهناك رأي السيد الخوئي ونحن نوافقه عليه وهو أنّ هذا الجنين إذا كان في الأشهر الأولى من الحمل، بمعنى أنّه لم تنفخ فيه الروح، وكان بقاء الحمل يمثل ضرراً صحيّاً، من المشقّة الصبر عليه، فإنّه يجوز لها أن تسقطه من باب الدفاع عن النفس.

ولذلك لابدّ من معرفة هل أنّ الجنين هو في مرحلة ما قبل نفخ الروح أو بعدها، ثم هل أنّ الضرر بسيط يمكن الصبر عليه، أو أنّه فوق العادة؟ ثم ترجع إلى من تقلّد لتتبع تقليدها في ذلك))[156].

وسئل عن آلية وضع اللولب تمنع استقرار البيضة الملقّحة في الرحم بعد الألقاح لسبعة أيام، مما يسميّه بعض الأطباء بالإجهاض المبكر، فقال:

((إنّ المحرّم هو إجهاض البويضة الملقّحة بعد استقرارها في جدار الرحم، أمّا اللولب فيمنع استقرارها، وحتى لو أسميناه إجهاضاً باكراً فهو ليس محرّماً، لأنّ الإجهاض المحرّم هو إذا استقرت البويضة في الرحم وبدأت عملية الحياة))[157].

7. إهداء الأعضاء وبيعها:

وسئل عن رأيه في إهداء أعضاء البدن للآخرين، فقال:

((إذا لم تكن موجبة للخطر على الحياة فيجوز ذلك من باب )وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ([158] فالله يحب المؤثرين على أنفسهم، ولا إشكال إنّ إعطاء الإنسان بعض أعضاء بدنه لمن يحتاج إليه هو من أروع أنواع الإيثار))[159].

وسئل عن بيع الإنسان لأحد أعضائه بثمن معين، فقال:

((هذا البيع باطل، لأنّ بيع الأعضاء غير جائز، نعم في التنازل عنها أو الوصية بها في قبال أن يعطيه مالاً فليس في ذلك مشكلة))[160].

8. التبرّع بالدم للتصدير:

وسئل عن الإجازة في التبرّع بالدم لجهة تصدّره إلى بلاد غير إسلامية ولأغراض تجارية، فقال:

((علينا أن لا نعطي دماً إلاّ لما ينفع الناس، أمّا أن تتبرّع لتاجر، فإنّ الله لن يثيبك على ذلك، إلاّ إذا فرضنا أنّ التاجر يقدّم الدم لجهات إنسانية لا يمكن أن يصلها هذا الدم إلاّ بالطريقة التجارية))[161].

9. زرع قلب خنزير في جسم الإنسان:

وسئل عما توصّل إليه الأطباء من زرع قلب وأجزاء أخرى من الخنزير في جسم الإنسان، حيث أجاز علماء الأزهر ذلك، فقال:

((نعم، يجوز ذلك، وإذا صار عضو الخنزير عضواً من أعضاء الإنسان صار حكمه حكم أي عضو من أعضائه الأصلية.

فالحرمة في أكل لحم الخنزير لا في زرع بعض أجزائه في جسم الإنسان، لاسيما في حال الضرورة))[162].

10. التجويف:

وسئل عن شرط استخراج أحشاء جثة الميت لنقله من بلد غير إسلامي إلى بلد إسلامي، فقال:

((لا يجوز ذلك مطلقاً، بل لابدّ أن يدفن الميت في البلد الذي توفي فيه، لأنّه لا يجوز لنا أن نمارس شيئاً مستحبّاً بآخر محرم حتى لو أوصى الميت بذلك، لأنّ التشريح بهذه الطريقة تمثيل بالميت، فلا يجوز ذلك إلاّ بلحاظ بعض الاستثناءات والعناوين الخاصّة وليس هذا منها، كما لو لم يكن هناك مكان لدفنه، أي لا توجد مقبرة للمسلمين أو ما أشبه ذلك.

 وربما تبرز بعض المناقشات الفقهية في الحكم بالحرمة على أساس عنوان التمثيل، بأنّ هذا العنوان يختزن في داخله معنى التنكيل بحسب إيحاء معناه فلا يصدق في هذا المورد الذي يراد من خلاله الإحسان إلى الميت بدفنه في مقابر المسلمين.

وكذا تأتي المناقشة، إذا كان الأساس في الحرمة الحديث المتضمّن ((أنّ الله حرّم من المؤمن ميتاً ما حرذم منه حيّاً)) أي أنّ (حرمته ميتاً كحرمته حياً) فإنّ الظاهر من ذلك هو الجانب العدواني لا الجانب الذي تكون فيه مصلحة له كما في العملية الجراحية التي تشبه عملية إخراج الأمعاء.

وكذا يمكن المناقشة في الاستثناء على تقدير القول بالحرمة، كما إذا لم تكن هناك مقبرة للمسلمين، فإنّ تحريم الدفن في مقبرة الكفّار لا يخضع لإطلاق دليل لفظي، بل هو خاضع لدليل لبيّ، أو للزوم هتك حرمته، وهما لا ينطبقان على المورد المذكور، والله العالم))[163].

11. ألعاب الكمبيوتر والأتاري:

وسئل سماحته عمّا إذا كانت ألعاب الكمبيوتر أدوات لهو محرّم، فأجاب:

((كلا، فليس كلّ أداة لهو حرام))[164].

كما سئل عن جواز فتح محلات للألعاب الالكترونية (الأتاري) لاستحصال المال بدون مراهنة، فقال:

((يجوز ذلك، لأنّ الذي يحرّمه العلماء، إمّا اللعب بآلات القمار مطلقاً، أو اللعب مع العوض فقط، كما هو رأينا))[165].

غير أن سماحته أكّد مراراً على ضرورة عدم الاستغراق في هذه الألعاب وإلهائها عن ذكر الله والصدّ عن الصلاة وعن الواجبات الإسلامية الأساسية.

وشاعت لعبة للأطفال تسمّى (البوكيمون) وتحدّث بعض الفقهاء عن حرمتها لأنّها تجعل الأطفال يعتقدون بنظرية داروين في النشوء وأنها تحوي كلمات يهودية، فسئل سماحته عن ذلك، فقال:

((لم يثبت عندي حرمتها، فإذا كان البعض يقول إنّ هذه تؤدي إلى أنّ الأطفال يعتقدون بنظرية داروين أو أن فيها كلمات يهودية، فلقد ناقشت هذا الموضوع مناقشة علمية بعد دراسته، ولكننا لا ننصح بها من ناحية تربوية، كما لا ننصح بكثير من الألعاب التي قد تثير العنف وتعلّمه الأطفال وما إلى ذلك))[166].

وسئل عن تحريم مفتي مصر لمسابقة تلفازية تسمّى (من سيربح المليون) فقال:

((قرأت الفتوى والحيثيات التي ذكرها المفتي عنها فلم أر فيها أساساً للتحريم، لأنّ في المسألة جانبين: جانب المهاتفة والخسائر المترتبة عليها دونما نتيجة، وهذا ليس قماراً، فأنت قد تستعمل الهاتف الذي تنتفع منه شركة الهاتف وليس الأشخاص القائمون على البرنامج، وذلك من أجل أن تحصل على فرصة معينة، وهذا أمر عقلائي، فالإنسان قد يدفع مالاً في سبيل احتمال كسب.

وأمّا في قضية (من سيربح المليون) فالمال يدفع في قبال جائزة لمن يجيب أجوبة معينة، فالربح مشروط في الأساس بأن يمتلك المشارك الإجابة فيدخل ذلك في باب الجعالة أو في باب الجائزة، أمّا القول أنه أكل مال الباطل فليس صحيحاً، فالمشارك لا يدفع مالاً ليحصل على مال))[167].

وسئل عن التحريم من جهة إلهاء الشباب، فقال:

((هذه المسابقة – وربما لها نظائر – فيها فائدة للناس لمعرفة الكثير من الأشياء وليس فيها شيء مضرّ أو محرّم، وحتى كرة القدم فهي ليست لإشغال الشباب بل فيها فائدة جسدية كما في كلّ أنواع الرياضات، وقد ورد في الحديث ((روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة)) نعم إذا استغرقت وقت الإنسان كلّه وانفق عليها أمواله كلّها فسيكون هناك عنوان ثانوي))[168].

12. الصيد والذباحة:

وسئل عن اصطياد السمك بواسطة الكهرباء حيث يوضع كيبل كهربائي في الماء فيتكهرب السمك ويطفو إلى سطح الماء فيستخرج بالشباك، أمّا صغيرة فيموت أثناء وضع الكيبل في الماء، فقال:

((إذا بقي السمك على قيد حياته فلا مشكلة، أمّا إذا مات في الشبكة وكان موته بواسطة الكهرباء فلعلّه يحرم، أمّا إذا مات في الشباك وهو في الماء لا نتيجة الصدمة الكهربائية بل نتيجة الضغط، فهناك رواية صحيحة كان يفتي بها السيد الخوئي (رحمه الله) ونحن نستقربها ونقول بأنّه حلال حتى ولو مات في الشبكة))[169].

وسئل عن الذبح بآلة مكتوب عليها التسمية (بسم الله والله أكبر) فهل يجوز لذلك والعامل مسلم، فقال:

((يقول اللّه تعالى }وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ{[170] ولم يقل لم يكتب أو كتب، فذكر اسم اللّه إمّا يكون باللسان أو من خلال مسجّلة يضعها المشرف على الذبح كما لو كان قد نطق بها، وإذا أخبرنا المشرفون على الذبح أن اسم اللّه يذكر عند الذبح ونحن نعلم بصدقهم فذبحهم حلال))[171].

وسئل عن ذباحة الكتابيين، إذا سمّوا، فقال:

((إذا قلنا بطهارتهم – كما نقول فعلاً – فكلّ شيء عندهم طاهر ما لم يعلم نجاسته كما هو الحال بالنسبة للمسلمين، نعم، بالنسبة للحم هناك رأي غالب لدى فقهاء الشيعة وهو أنّ ذبيحة غير المسلم لا تحلّ حتى ولو سمّى.

وهناك فقهاء مثل الشهيد الثاني والسيد الشهيد الصدر يتحفّظون في الحكم بالحرمة مع توفر كلّ شروط الذبح مع التسمية، ونحن نوافقهم على ذلك. فإذا سمّى فالحكم بالحرمة مبنيّ على الاحتياط))[172].

وفي إجابة عن سؤال مماثل، قال:

((إن الحكم مع التسمية مبني على الاحتياط، وفي بعض الأحاديث ((إن الذبيحة أسم ولا يؤمن عليها الاّ مسلم)). فلا نستطيع الاطمئنان لغير المسلم، ومن باب الحفاظ على التسمية لا تؤكل ذبيحة غير المسلمين، لأنّ المسلمين وحدهم يعتقدون بذلك))[173].

وسئل عن تخدير الذبيحة قبل ذبحها من قبل قصابين مسلمين في بلدان غربية، فقال:

((لا مشكلة في ذلك، فالمهم أن تبقى حيّة حال الذبح))[174].

13. الأزياء:

وسئل عن حدود الحجاب الإسلامي (الستر) بالنسبة للمرأة، فقال:

((حدود الحجاب الإسلامي في خطين: ستر الجسد وعدم التبرّج )وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى([175] )وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ([176]. فيجب الجمع بين ستر الجسد وعدم إظهار الزينة، وتلخّصه كلمة أن تخرّج المرأة إلى المجتمع كإنسانة لا كأنثى))[177].

وسئل عن جواز لبس البيجاما أو البنطال الفضفاض بدلاً من (المانتو) الجبّة النسوية المعروفة، أو العباءة، فقال:

((ليس هناك شيء محدّد في الحجاب، بل يجب أن يتحقّق ستر الجسد أولاً، وأن لا يكون مصداقاً للتبرّج والإثارة ثانياً، والمسألة بين حال وحال تختلف، ففي بعض الحالات هناك ساتر للجسد وفيه عنصر إثارة، ولذا فإنّ كلّ ما يرتبط بإظهار الأنوثة فالشرع يتحفّظ عليه))[178].

وسئل عن ربطة العنق (الكرفيت) وهل أن سبب تحريمها لدى بعض العلماء كونها من علامات الصليبيين، فقال:

((ليست من علائم الصليبيين، بل هي مجرد زيّ من الأزياء الموجودة في العالم، وإذا صحّ تحريمها فهذا ناتج عن وضع محلّي وبعنوان ثانوي، وإلاّ فإنّ السترة أيضاً ليست من لباسنا وكذلك البنطلون، فهذه الملابس أصبحت من الأزياء العامّة وليست أزياء كفّار أو مشركين أو صليبيين، نعم كانت في البداية كذلك ولكنها تحوّلت إلى أزياء عامّة، فسابقاً كانت المرأة تلبس البنطلون ويقال عنها إنّها تتشبّه بالرجال، ولآن أصبح البنطلون للرجال وللنساء، أي من الأزياء المشتركة.

وقد يحتاج الإنسان في وضعه الاجتماعي إلى أن يلبس ربطة العنق لأنّها تعتبر من اللياقات الاجتماعية، فمن ناحية شرعية لا مانع من لبسها))[179].

وسئل عن الجلد الطبيعي والصناعي محمولاً وملبوساً، فقال:

((إذا كان الجلد طبيعياً ولكنه غير معروف المصدر كأن يكون مأخوذاً من جلد مما يؤكل لحمه ومن مسلم فهو مذكّى ويجوز الصلاة فيه محمولاً وملبوساً، وإذا كان الجلد طبيعياً واشتراه من دول أوروبية ولم يكن مذكّى فهناك رأي يقول إنّ المحمول إذا كان غير مذكّى فلا يجوز الصلاة فيه، وهناك رأي يقول إنّ الملبوس لا يجوز الصلاة فيه لأنّه ميتة، ولكن المحمول يجوز.

أمّا رأينا فهو جواز حملها في الصلاة، أمّا إذا شكّ في أنّ الجلد طبيعي أو صناعي فلا إشكال في جواز الصلاة فيه محمولاً وملبوساً))[180].

وسئل عن الملابس التي عليها كلمات أجنبية هل يجوز الصلاة فيها، فقال:

((يجوز الصلاة فيها ولكن حذار من وجود دعاية مجانية لأمريكا، أو دعاية مجانية لشركة أميركية أو لفنانة أجنبية أو لغير ذلك مما قد يدفع الناس مبالغ مالية على هذه الدعاية))[181].

وسئل عن جواز ارتداء قميص رسم عليه الصليب أو قصّ بشكل يوحي بالصليب، فقال:

((لا يجوز ذلك إذا كان يوحي بالرمز العبادي الخاص المعبّر عن الالتزام به لأنّ فيه دعاية لشعائر غير إسلامية بل وضد الإسلام، ولأن مظهره هو الالتزام به))[182].

وسئل عن لبس السلسلة من قبل بعض الشبان المسلمين فقال:

((هذا ليس في التقاليد المألوفة في الواقع الإسلامي، ولا نشجع إحداث تقاليد جديدة في الملبس))[183].

وسئل عن عمليات التجميل لإزالة التجاعيد وإصلاح بعض الأعضاء، فقال:

((لا مانع من أن يزيل الإنسان تجاعيد وجهه وإصلاح بعض أعضائه كالأنف لاسيما إذا كان ذلك يسبب حرجاً له))[184].

14. الخادمات الأجنبيات في بيوت المسلمين:

وسئل عن جواز إدخال خادمات أو مربيات أجنبيات إلى بيوت المسلمين، فقال:

((هذا يختلف بحسب اختلاف التقليد، فالخادمة إذا كانت كتابية، وكنت تقلّد شخصاً يقول بطهارة الكتابي والناس الذين يدخلون إلى بيتك يأكلون من يدها وهم يقلّدون من يقولون بطهارة أهل الكتاب فلا إشكال.

وإذا كنت لا تخاف على أولادك وعلى بيتك من الناحية الأخلاقية فلا مشكلة.

أمّا إذا كنت تقلّد من يقول بنجاسة الكتابي فأنت تأتي بالنجاسة نجاسة العين إلى بيتك، وإذا كان الذين يدخلون بيتك يقولون أيضاً بالنجاسة فلا يجوز أن تقدّم لهم شيئاً من يدها، وعلى الإنسان أن يدرس الموضوع جيداً قبل الإقدام عليه)).

هذا بعض ما التقطناه من حصاد الندوة لعشرة مجلّدات، وأقول (بعض) لأنّ الحصاد وفير لا يسعه أناء المقدمة الصغير هذا.

وإنّي لأتمنّى أن يفرد لهذه المسائل كتاب خاصّ بها لما فيها من بصمات فضل إلهية، ولحاجة جمهور المقلدين المعاصرين إليها، ولأنّ فيها مادة لكتاب مستقل فعلاً.

والحمد لله رب العالمين

 

 

عادل القاضي

15 رمضان 1422ه‍

30 تشرين الثاني ‏2001 م

 


جدول احصائي بمحاضرات ومسائل المجلد التاسع

 

المحاضرات

المسائل القرآنية 30 محاضرة

المسائل العقيدية 97 مسألة

مسائل السيرة 33 مسألة

المسائل الفكرية 35 مسألة

35 مسألة

المسائل التربوية 57 مسألة

المسائل الفقهية 440 مسألة

مجموع أسئلة ج9 697 مسألة

 

 

 


 

المحاضرة الأولى 22 ذي الحجة 1422ه‍ - 17/آذار/2001م

 

 

 

في عيد الغدير

علي(ع) الإسلام كلّه

 

 

* إنّ الخلافة عن رسول الله(ص) تختلف عن أية خلافة أخرى، لأنّ المسألة ليست حكماً يتطلّب الإدارة، ولكنها رسالة تتطلب العمق والامتداد *

 

علي(ع) الإسلام كلّه.

علي(ع) السبّاق دوماً.

علي(ع) الحق كلّه.

علي(ع) إنسان اللّه.

علي(ع) نفس رسول اللّه(ص)..

علي(ع) الإخلاص كلّه.

علي(ع) الروح السمحاء.

علي(ع) مالئ المرحلة.

رائد الوحدة الإسلامية.

 

 

 
 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

علي(ع) الإسلام كلّه:

قبل أيام كنّا في غدير علي(ع). هذا الغدير الذي ربّما كان في الصحراء من دون ماء ولكنّ غدير علي(ع) في شخصيته يمثل النبع الذين يمنح الحياة عقلاً وروحاً وروحانية ووعيا ويقظة وحركية وقوة وصلابةً في الموقف، لأنّ علياً(ع) كان ذلك كلّه. وعندما نقف معه فإنّنا من موقع دراسة كلّ تلك المرحلة وما بعدها، ومن خلال النفاذ إلى عمق الناس الذين عايشهم وعايشوه بعد رسول اللّه(ص) نرى أنّ علياً(ع) هو وحده الذي يجمع الإسلام كلّه، فلم يكن يعيش التخصّص في بعض الجوانب الإسلامية، بل كان يعيش الإسلام كلّه، لأنّ الإسلام كلّه كان يتجسّد في رسول اللّه(ص) الذي أراد اللّه للمسلمين أن يتطلعوا إليه ويقتدوا به }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّه وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّه كَثِيرًا{([185]). لأنّ رسول اللّه(ص) كان في قوله وفعله ومواقفه ونظراته لما يقوم به الناس الآخرون، ليعطي السلب تارة والإيجاب أخرى، كان إسلاماً كلّه، وقد عاش علي(ع) رسول اللّه(ص) منذ طفولته في آفاقه الروحية وتأملاته الفكرية قبل البعثة، وعاش رسول اللّه(ص) – بعد رحيله – في آفاقه الروحية المنفتحة على الوحي والحركية الإسلامية والأخلاقية الإسلامية وعلى كلّ المفاهيم الإسلامية لأنّه كان كما قال له رسول اللّه(ص) ((يا علي إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع ولكنّك لست بنبيّ)). وهذا ما حدّثنا عنه علي(ع) في (نهج البلاغة). لذلك فقد كان علي(ع) يسمع الوحي كما يسمعه رسول اللّه(ص) وكان يلتقي برسول اللّه(ص) فيتحدث معه عن تفاصيل الآيات وأبعادها وامتداداتها، لذلك كانت الآيات القرآنية في عقل علي(ع) كونا ينفتح على الحياة كلّها، وكانت امتداداً في الزمن كلّه، وحركة في الإنسان كلّه، ولذلك فإنّنا عندما نلتقي بعلي(ع) الآن، فإننا نشعر بأنّه يعيش قضايا عصره كلّها بحيث نستطيع أن نستنطقه فيما نوجهه من أسئلة فنجد في كلماته جواباً لكلّ سؤال.

علي(ع) السبّاق دوماً:

وكان علي(ع) أول من صلّى بعد رسول اللّه(ص) وهو القائل ((لم يسبقني إلاّ رسول اللّه بالصلاة)). وكان يصلّي معه ويتعبّد معه ويناجي ربّه معه، ولذلك كانت روحانيته هي روحانية رسول اللّه(ص) عاشها في عقله قاعدة للفكر، وفي قلبه قاعدة للعاطفة، وفي حياته امتداداً للمنهج والحركة.

وتحرّك علي(ع) في ميادين الجهاد ولم يكن قد تدرّب على أيَّ فن من فنون الحرب، فاستطاع من خلال وعيه للقوّة، التي كانت من حيث طبيعتها قوّة ربّانية، أن يحرّكها في قوته البشرية، فكان فارس (بدر) و(أحد) و(الأحزاب) و(حنين) وغيرها من حروب الإسلام، حتى لم تخل أية معركة للإسلام في عصر رسول اللّه(ص) من بطولة علي(ع). وقد استغرب علي(ع) أن لا يأخذه رسول اللّه(ص) معه في بعض أسفاره الجهادية كما في موقعة (تبوك)، ولكنّه قال له إنّ هذه لن تكون معركة حربية وأريدك أن تبقى في المدينة لتشرف على توازن النظام فيها ((أما ترضى أن تكون منّي بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي)). وهذا مستوحى من قوله تعالى  }وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا{([186]).


علي(ع) الحق كلّه:

وكان علي(ع) يعطي المسلمين من فكره الذي هو فكر الإسلام ومن تجربته الغنية بعطاء الإسلام. فكان المعلّم والزاهد والعامل، فلقد كان يخرج للعمل من أجل أن يكسب رزقه، لا لأنّه كان يعيش ضائقة مالية ولا أقسى فحسب بل ليعطي من نفسه المثل في أن موقع المسؤولية لا يعفي صاحبها من العمل والكسب من كدّ يده، ولذلك تحدّث رسول اللّه(ص) عن علي(ع) في المفاصل الأساسية للإسلام بما لم يتحدّث به عن أيّ صحابي آخر مع احترامنا لكل الذين عاشوا مع رسول اللّه(ص) بإخلاص ((علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار))([187]). ((أنا مدينة العلم وعليّ بابها))([188]). وكانت كلمات رسول اللّه(ص) تتحرّك لتعرّف المسلمين أنّ الحقّ هو الإسلام، فاللّه سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض بالحقّ، وهو الحقّ، والشريعة هي الحقّ، والقرآن كتاب اللّه هو الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولذلك أراد رسول اللّه(ص) أن يقول للناس إنّ عظمة علي(ع) في أنّه الإنسان الذي لا يقترب الباطل منه، فالدائرة التي يتحرّك فيها علي(ع) هي دائرة الحقّ التي تمنع أيّ شيء من الباطل أن ينفذ إليه، وهذا هو دليل عصمة علي(ع) وهو أعلى من العصمة لأنّها – أي العصمة – حالة في حركة الإنسان، ولكنّ علياً(ع) كان العصمة مجسّدة، فليس في فكره شيء من الباطل، وليس في قلبه شيء من الباطل، وليس في حياته أية حركة من حركات الباطل.

علي(ع) إنسان اللّه:

وسرّ علي(ع) أنّه باع نفسه للّه تبارك وتعالى، وهذا ما نصّ عليه القرآن }وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّه وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ{([189]). لأنّ الآية الكريمة كما يذكر المفسرون نزلت في علي(ع) عندما بات في فراش النبي(ص) ليلة الهجرة.. وهذا ما تحدّث عنه عندما حكم المسلمين في خلافته ((ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم))([190]). فلقد كان يريد أن يدفع الناس إلى اللّه ليعيشوا مع اللّه فكراً وروحاً وحركة ومنهجاً، وتلك كانت مأساة علي(ع) لأنّه كان يعيش مع اللّه بشكل مطلق وكان الناس يعيشون مع أنفسهم بعيداً عن اللّه، وكانوا يريدونه لأنفسهم، وأن يعطي الكلمة التي لا يؤمن بها حتى يستطيع أن يضمن لنفسه موقعاً. فقد قال له عبد الرحمن بن عوف ((أبايعك على كتاب اللّه وسنّة رسوله وسيرة الشيخين)). فقال له ((أمّا كتاب اللّه وسنّة رسوله واجتهاد رأيي فنعم، وأمّا سيرة الشيخين فلا))([191]). لأنني – أنا علي – قد أفهم كتاب اللّه وسنّة رسوله(ص) فهما مختلفا عنهما، وأفهم الواقع الموضوعي فيما يتحرّك به واقع الناس فهماً مختلفاً، فعلى أيَّ أساس أبايعك على ما تريد؟!

وابتعدت عنه الخلافة من خلال ذلك. وقد قال لمن طلب منه أن يعيش اللعب على الحبال من خلال أن الغاية تبرّر الوسيلة: ((قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين فينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين))([192]). وقال لمن اتهمه أنه يجهل السياسة، أو أنه لا يمتلك دهاء معاوية: ((واللّه ما معاوية بأدهى منّي ولكنّه يغدر ويفجر ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس))([193]). وقال لمن أراده أن يميّز في العطاء ((أتأمرونيّ أن أطلب النصر بالجور واللّه ما أطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف والمال مال اللّه))([194]). لذلك كان الإسلام أعصاب علي(ع) ودمه وكيانه، وكانت مأساته أنّه كان يريد للناس إسلاماً لا شرك فيه، وحقّاً لا باطل فيه، وعدلاً لا ظلم فيه ((واللّه لو أعطيت الأقانيم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت))([195]).

علي(ع) نفس رسول اللّه(ص):

إنّ علياً(ع) جمع ذلك كلّه ولم يجمع صحابيّ حتى بعض ذلك. ولقد قلنا أكثر من مرّة إنّ الخلافة عن رسول اللّه(ص) تختلف عن أية خلافة أخرى، لأنّ المسألة ليست حكماً يتطلّب الإدارة، ولكنّها رسالة تتطلّب العمق والامتداد بما لم تسمح به الظروف للرسول(ص) أن يصل إليه، لأنّ المشركين شغلوه بالحروب والمشاكل والألغام التي زرعوها في طريقه، لذلك كان الواقع الإسلامي يحتاج إلى شخص هو كلّ رسول اللّه(ص) ما عدا النبوّة، وليس هناك من تتوافر فيه هذه الصفّة سوى علي(ع) }فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ{([196]). وكان علي(ع) نفس رسول اللّه(ص).

وتأسيساً على ذلك كلّه، فلم تكن مسألة الغدير تعيش على هامش الواقع الإسلاميّ، بل كانت تمثّل مصير الإسلام  }يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ{. وكان الرسول(ص) قد بلّغ كلّ ما جاء إليه من ربّه، ولكن الولاية تمثّل العمق في سلامة كلّ ما أنزل إليه من ربّه في الامتداد والاستمرار  }وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ{([197]). ولا تخف – يا رسول الله - أن يتحدّث الناس عنك بسلبية، فاللّه يعصمك من الناس في هذا كما عصمك منهم في غيره، وكانت الكلمة التي أعطت علياً(ع) معنى الحكم في معنى الرسالة عندما انطلق النبي(ص) ليؤكّد القاعدة في شرعية ما يفرضه على المسلمين، فاللّه تعالى يقول  }النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ{([198]). وهذا هو دليل الحاكمية، كما كان قوله عزّ وجل }يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا{([199]). دليل النبوّة والرسالة.

ولذلك فحينما قال الرسول(ص): ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم))([200]) فإنّه أراد أن يقول لهم بأنّه يملك من أنفسهم ما لا يملكون منها، وهذا يعني أنّ الدولة تملك من الناس – بحسب القانون وهو هنا إلهيّ – ما لا يملكونه من أنفسهم. ولمّا أقرّوا بذلك، قال: ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه))([201]). وبهذا أعطى رسول اللّه(ص) دوره في حاكمية المسلمين لعلي(ع) في النظرية والتطبيق والأسلوب والغاية لأنّها ليست مجرد حاكمية إدارية، بل كانت الرسالة تعيش في قلب الإدارة، وكانت الإدارة تتحرّك في خطّ الرسالة.

علي(ع) الإخلاص كلّه:

إنّ علياً(ع) وبعد أن دارت الدائرة لم يعتزل لمجرد أنّه بات بلا دور، فالمسألة لم تكن مجرد خلافة يمنع من حقّه فيها، بل كانت مسألة رسالة حمّله اللّه تبارك وتعالى ورسوله(ص) المسؤولية فيها، وعندما نُحيّت الخلافة عنه كان يحدّق بالرسالة، وعندما منعه بعض الناس من حقّه كان يحدّق في الواقع الإسلاميّ كلّه وبالمسلمين كلّهم، فكانت كلماته كما في الكلمة التي خاطب فيها أهل مصر من خلال كتابه الذي حمله عامله عليها (مالك الأشتر) ولم يصل إليهم لأنّه وقع في أيدي أعوان معاوية الذين اغتالوه: ((فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه)) ويقصد أبا بكر ((فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد(ص) فخشيت)) وانظروا إلى هذا الجانب العاطفي الذي يشدّ علياً(ع) إلى الإسلام تماماً كما يتحدّث الإنسان عن كارثة تصيبه في نفسه وفي أهله، والعاطفة هنا أعمق عند علي(ع) لأنّ الإسلام عنده فوق كلّ شيء ((فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ)). وما أعمق كلمة (المصيبة) هنا، فهي تبكي وتفيض دماً في المأساة ((أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه))([202]).

وقال(ع) في حالة من أروع وأندر حالات نكران الذات وأرقاها: ((لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليّ خاصة))([203]). فلا مشكلة عندي في أن أُظلمَ، ولكن المشكلة في أن يُظلم المسلمون. وقال(ع) مؤكداً مسؤوليته في تلك الظروف العصيبة: ((لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا على سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنـز))([204]). وقال لابن عباس الذي دخل عليه فرآه يخصف نعله ((أترى هذه النعل إنّها أعظم من إمرتكم)). وكان في كرسيّ الخلافة آنذاك ((إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً)). فمن مثل علي(ع) وهو مجرّد من كلّ شيء؟ ومنْ مثلُ علي(ع) وهو يملك الدنيا كلّها؟

وعندما تسلّم الخلافة كان كرسول اللّه(ص) في موقع مسؤولية الحكم والرسالة، ولم يكتف بأن يحرّك خطوط الإدارة من أجل فرض النظام، بل كان يعمل على توعية المسلمين بالإسلام كلّه، فعندما نقرأ تراث علي(ع) و(نهج البلاغة) لا يمثل إلاّ نزراً يسيراً جداً من تراثه، حيث كان همّ الشريف الرضي (رحمه الله) في إبراز بلاغة علي(ع) وليس في إبراز فكر علي(ع) ولذلك قطّع الكثير وحذف الكثير من خطبه. فعندما ندرسه نرى أنّه تحدّث في كلّ شيء كان الناس يتطلّعون إلى معرفته. فلقد تحدّث عن العقيدة الإسلامية، وعن الشريعة الإسلامية، وعن الأخلاقية الإسلامية، وعن المنهجية الإسلامية، والمشاكل التي كانت تعيش في واقع المسلمين، فأعطى لكلّ واحدة منها حلاً. وقد أعطى(ع) منهجاً للحاكم الإسلاميّ في أنّه لا يرفض الذين يخالفونه ولا يقاتلهم، بل كان القتال عنده في حال إسائتهم إلى أمن المسلمين، ولذلك رأيناه في رسائله إلى معاوية كيف كان الناصح والعالم الذي يتحدّث إليه بالأسس الإسلامية، وكان أسلوبه يعنف تارة ويرّق أخرى تبعاً لما يحتاجه معاوية من التأثير. وكان حديثه مع طلحة والزبير كذلك حديث المشفق الناصح وصاحب الحجّة الذي يريد أن يناقشهم حجّة بحجّة، لذلك لم يعرض لأمّ المؤمنين عائشة، ولم يعرض لطلحة والزبير عندما اعتزلوه، بل عرض إليهم عندما انتقلوا إلى البصرة واستغلّوا زوجة النبي(ص) وأساءوا إلى أمن المسلمين، وأرادوا أن يقسّموا البلاد الإسلامية، فنهض بمسؤولية الحريص على الواقع الإسلاميّ لمواجهتهم.

علي(ع) الروح السمحاء:

وعندما انطلق في صفين، فإنّه لم ينطلق بروحية القائد الذي يريد أن يسفك الدم، ولكن بروحية الإمام والخليفة والقائد الذي يعتبر الحرب وسيلة ضغط، وهذا ما عبّر عنه(ع) كما في (نهج البلاغة) عندما استبطأ أصحابه إذنه بالقتال لهم، فقالوا: ((أكان ذلك كراهية للموت؟)) أي هل كره علي(ع) الموت لأنّ العمر قد تقدّم به، كما جاء في الحديث المأثور ((إذا شاب ابن آدم شبّ فيه خصلتان الحرص وطول الأمل))([205]). أي لم يعد يحبّ الموت ((أو شكّاً في أهل الشام؟)) وكان علي(ع) لا يتعقّد من نقد، بل كان يطلب من الناس أن ينقدوه في حكمه وإن كان هو فوق مستوى أن يُنقَد، فقال لهم برحابة صدر ((أمّا قولكم إنّ ذلك كان كراهية للموت، فواللّه ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ، وأمّا قولكم إنّ ذلك كان شكّاً في أهل الشام فواللّه ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها))([206]). فأنا لست محارباً أعيش الحرب كمزاج ولكنّي رسالي يحرّك الحرب في خطّ الرسالة.

وعندما سمع قوماً من أهل العراق وهم جنده يسبّون أهل الشام، فماذا قال لهم؟ اقرأوا (نهج البلاغة) جيداً، وقلّ منا من يقرأه ويفهمه ويعمل به، قال ((إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين)). فليس من خلق المسلمين أن يعالجوا مشاكلهم بالسبّ لأنّ السبّ ينطلق من عقدة وليس من روحيّة. ((ولكن لو وصفتم أفعالهم)). وهذا هو منهج الإسلام في النقد والتقييم الذي يريدك عندما تختلف مع إنسان وتريد أن تقدّم القضية التي تختلف فيها معه أن لا تسبّه بل أن تصف أفعاله ((وذكرتم حالهم)). من الاستقامة أو الانحراف ((لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر)). فالإمام(ع) لا يريد لجنده أن يحقدوا على المسلمين حتى وهم في حالة حرب معهم، ولا يريد للمسلم أن يعيش روحاً تدميرية ضد المسلم الآخر الذي يختلف معه، بل كان يريد له أن يعيش رحابة الصدر حتى وهو يختلف مع المسلم الآخر ((وقلتم مكان سبّكم إيّاهم ربّنا احقن دمائنا ودمائهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به))([207]). فالمشكلة ليست ذاتية ولكنّها مشكلة الصراع بين الحق والباطل، ونحن ندعو اللّه تبارك وتعالى أن يهديهم إلى الحقّ وأن يفتح عقولهم عليه. فأين نحن من عليّ(ع) في خلافاتنا كلّها المذهبية والطائفية والحزبية وغيرها؟!

لكنّ مجتمع المسلمين اليوم – على العكس من ذلك – فهو يعيش روحية التدمير ضد بعضه البعض، وقد تحرّك التدمير في خطّ التكفير لا في خطّ الحوار، ولهذا عشنا كما كان اليهود  }تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى{([208]). ولقد كنّا أشدّاء على الكفّار رحماء بيننا، فأصبحنا أشدّاء على بعضنا رحماء على الكفّار.

من هنا فقد ملأ علي(ع) مرحلته إسلاماً كلّها، وكان كما قال بعض أصحابه ((يجيينا إذا سألناه ويبتدأنا إذا سكتنا)). لأنّه كان يعيش مسؤولية العلم ((إنّ ها هنا لعلماً جمّا لو وجدت له حملة))([209]). وكان يقول ((ما أخذ اللّه على الجّهال أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا))([210]).

علي(ع) مالئ المرحلة:

ونفهم من سيرة علي(ع) كلّها أنّ على الذي يتسلّم قيادة المواقع الفكرية والاجتماعية والسياسية للإسلام أن يملأ كلّ فراغ المسلمين بما يحتاجونه في حقل التوعية الإسلامية، بحيث يجيب على أسئلتهم كلّها، ويتحرّك من أجل تطلّعاتهم كلّها، لاسيما عندما تنتشر البدع، فلا نكتفي بجانب واحد من المعرفة خاصّة في عصرنا الذي تحرّكت فيه التحديات الفكرية والروحية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والأمنية لتربك الواقع الإسلامي بحيث يبدو المسلمون كما في وصف اللّه تعالى للناس في يوم القيامة }وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى{([211]). ولكنّ التحديات كبيرة.

لذلك كلّه، لا يمكن أن يكون غير علي(ع) وصيّاً لرسول اللّه(ص) من ناحية منطقية وليس من ناحية عصبية. فادرسوا علياً(ع) وادرسوا غيره دراسة مقارنة لتروا كيف أنّ علياً(ع) كان في الموقع الذي كان فيه رسول اللّه(ص) وكان غيره في الموقع المواجه له، وقد يقول قائل لقد نجح المسلمون في غياب علي(ع) ولم ينجح علي(ع) عندما تسلّم الخلافة، ولكنّهم نجحوا في الامتداد، وكان علي(ع) منفتحاً على كلّ هذه النجاحات، وكان يعطي المشورة والرأي ويحمي المواقع القيادية للمسلمين ويحمي حياتهم، لكنهم زرعوا الألغام في طريقه، حتى قال ((لو استقامت قدماي في هذه المداحض لغيّرت أشياء))([212]). ولكن المرحلة لم تنتج علماً وعمقاً وامتداداً، فالقضية لم تكن قضية أن تفتح أرضاً ولكن أن تفتح إنساناً، وكان علي(ع) يعمل على أن يفتح عقل الإنسان على الحقّ، وقلبه على المحبّة، وحياته على العدل، ولذلك فإنّ علياً(ع) لم يفشل لخلل في خطّته ولكنهم زرعوا الألغام في طريقه ((فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث قال  }تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{([213]). بلى واللّه قد سمعوها ووعوها ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها))([214]).

رائد الوحدة الإسلامية:

واختم كلمتي بالقول إنّ علياً(ع) كان رائد الوحدة الإسلامية، فلم يتنازل عن حقّه ولا عن خطّه، لكنّه كان يتطلّع إلى أن لا تتحرّك الفتنة لإسقاط الإسلام في نفوس المسلمين، فمع أنّه كان صاحب الحقّ لكنّه امتنع عن المطالبة بحقّه في الولاية من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين.

وفي هذه الظروف القاسية التي يعمل الاستكبار العالمي بالتحالف مع الكفر العالمي من أجل إن يستغلّ خلافات المسلمين المذهبية ليكفّر بعضهم بعضا، وليضلّل بعضهم بعضا، وليمتنعوا عن السير في الخط الذي وجههم اللّه إليه في فضّ نزاعاتهم }فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ{([215]). ولذلك استطاع الاستكبار العالمي سرقة ثرواتنا ومواقعنا ومواقفنا وأن يمنعنا من أن نؤسس مستقبلنا مستقبل الحرية والعزّة والكرامة.

أيّها الأحبّة: إنّ علينا أن نستهدي علياً(ع) الذي استهدى الإسلام  }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا{. فلا ترجعوا إليها  }كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{([216]). أقول قولي هذا واستغفر اللّه لي ولكم. والحمد للّه رب العالمين.

 

 

 

المحاضرة الثانية 29 ذي الحجة 1422ه‍ - 24 /آذار/2001م

 

 

 

 

مشكلة التقليد

 

 

* يجب أن لا تكون الإنسان الذي إذا سئل عن فكره وعن حركته فإنّه يقول: إنني مع الناس، فلقد كانت مشكلة الأنبياء(ع) مع أقوامهم في مدى التأريخ هي هذه *

 

 
 

مشكلة التقليد.

البحث عن الاستقلالية.

تقليد المترفين.

إتباع الظنّ.

التبعية كما وردت في الأحاديث.

تبعية العوام.

خداع الظاهر.

التحرّر من التبعية.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

مشكلة التقليد:

موضوعنا في هذا اللقاء هو التقليد. فهل أنّ المنهج الإسلاميّ الذي يريد الإسلام للناس أن ينتهجوه هو الإتباع أم هو الإبداع؟

إنّ هذه المسألة هي من المسائل الحيوية في الواقع الثقافي للإنسان، فاللّه يريد له أن يأخذ بأسباب العلم، وأن يحرّك عقله لينمّيه ويقوّيه ويطلقه في آفاق المعرفة كلّها، وقد اعتبر الإسلام العلم قيمة إنسانية والجهل ضد القيمة. ولهذا فإن اللّه يريد أن يكون لدى الإنسان في كلّ ما يؤمن به ويتحرّك به ويؤيده أو يرفضه، الحجّة الواضحة الثابتة بحيث يستطيع أن يقدّم حجّته في التأييد والرفض بين يدي اللّه يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

وعلى ضوء هذا، فالمسألة التي تفرض نفسها في الجانب المنهجي للإسلام على الإنسان المسلم هي أن تكون له حجّة على كلّ ما يصدر عنه أو كلّ ما يعيش فيه سواء كانت تلك الحجّة ناتجة عن رأي رآه من خلال إمكانات المعرفة التي يملكها، أو من خلال شخص اتبعه ممن يملك الخبرة التي تكون حجّة بينه وبين اللّه، فالمهم أن لا يكون ممن يخوض مع الخائضين، أو ممن يتحرّكون مع الغوغاء الذين وصفهم الإمام علي(ع) بقوله ((همج رعاع أتباع كلّ ناعق يميلون مع كلّ ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق))([217]). وكما عبّر عنهم الشاعر بقوله:

إذا الريح مالت                                                                    مال حيث تميل

البحث عن الاستقلالية:

ومن هنا، لا ينبغي أن يكون عنوان حركة الإنسان في الحياة هو أن يسير مع الناس في الطريق الذي يسيرون فيه من دون أن يعرف أوّله من آخره، أو يأخذ بالعادات والتقاليد التي يتحرّك بها الناس من دون أن يعرف الأساس في هذه العادة أو الدليل في هذا التقليد، ولذا يجب أن لا تكون الإنسان الذي إذا سئل عن فكره وعن حركته فإنّه يقول: إنّني مع الناس، فقد كانت مشكلة الأنبياء(ع) مع أقوامهم في مدى التاريخ هي هذه، وهي أنّهم عندما يأتون إلى المجتمع ويقدّمون رسالتهم، ويطلبون منه أن يناقش هذه الرسالة ليقبلها عن اقتناع، فإنّ الكلمة التي تقال كردّ فعل لذلك هي إن آباءنا كانوا على منهج ونحن نتبع منهجهم، كما حدثنا القرآن عن ذلك }مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ{([218]).  }وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ{([219]). فكأن القرآن يريد أن يناقش هذا المنطق ليقول لهم إنّ المسألة في رفض ما يرفضه الإنسان، أو في قبول ما يقبله، ليست مسألة تتصل بالقرابة لأنّ القرابة هي صلة دم بدم، وما دخل الدم هنا والدم هناك في فكر تقبله أو ترفضه؟!  كما أنّ المسألة ليست مسالة عاطفة كي تنفتح مشاعرك عليها أو لا تنفتح، لأنّ قصة العاطفة هي قصة إحساس وشعور وغريزة، في حين أنّ قصة الفكر هي قصة عقل وعلم ومنطق، ولذلك يأتي السؤال: ماذا يملك آباؤكم من ثقافة حتى تقولوا إنّنا نثق بثقافتهم ونتّبعهم كما يتّبع الجاهل العالم؟ وماذا يملك آباؤكم من هدى حتى تقولوا إنّ الضالّ يتبع من يملك وسائل الهدى التي تهديه إلى الطريق }أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ{ لأنّهم يعيشون الجهل والتخلّف في ظلمات الجاهلية كلّها، ولا يهتدون لأنّهم يعيشون الضياع الفكريّ والروحي في كلّ ما ينطلقون به.

تقليد المترفين:

ويحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن مشكلة الأنبياء بشكل أوضح في قوله عزّ وجل  }وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا{([220]). وقد ركّز على المترفين لأنّهم يتزعّمون المستضعفين ويحرّكون في أفكارهم القضايا التي تدعم سلطانهم وتحمي امتيازاتهم، وتوفّر لهم السيطرة الدائمة عليهم، ذلك أنّ المترفين في تخطيطهم لاحتواء الساحة كلّها يحاولون أن يقولوا للمستضعفين إنّ ما نعطيكم إيّاه هو الحقيقة المطلقة، ولذلك لا تناقشوا ولا تعترضوا، بل أغمضوا عيون قلوبكم عن كلّ علامة استفهام، ومن حاول أن يشكّك فهو خارج عن الملة، ومن حاول أن يناقش فهو خارج عن الدين، ولذلك عندما منعوهم أن يفكّروا فإنّهم منعوهم عن الانفتاح على أي فكر آخر وأية رسالة أخرى، وهذا هو ديدن الطغاة في كلّ زمان ومكان بأن يمنعوا الفكر من أن يمارس حريته، وهذا هو أيضاً منطق المتخلّفين والجهّال الذين لا يملكون عمق الفكرة فيمنعون الناس من أن يناقشوا أو يعترضوا، فإذا اعترض معترض فالفتاوى بالتكفير والتضليل تأتي من كلّ مكان، واللّه يريد للإنسان أن يفكّر لأن العقل هو حجّة اللّه على الناس، فهو يعرف الصادق على اللّه فيصدّقه والكاذب على اللّه فيكذّبه.

ويقول تعالى }وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ{ وفي آية أخرى مماثلة }قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ{([221]). هبوا أن في بعض فكر آبائكم ونهجهم بعض الهدى، ولكن عندما يأتي الفكر الأكثر هدى والأرشد والأصلح والذي يمنحكم وضوح الرؤية بحيث لا يكون هناك أي ظلام فهل تصرّون على ذلك؟ }قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ{([222]). أي سنصرّ على ذلك.

ولقد حدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن مصير هؤلاء الإتباعيين من دون وعي والسائرين وراء المتَّبَعين من دون عقل }إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا{ وعندما واجهوا المسؤولية أمام اللّه والنتائج السلبية قالوا: لا دخل لنا فيكم، فأنتم الضالّون باختياركم }وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ وقْالَ الذينَ اتَبَعُوا لوْ أنَّ لَناْ كَرّةً{([223]). أي لو أنّ اللّه يرجعنا ويرجعكم إلى الدنيا }فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ{([224]).

إتباع الظنّ:

ومن خلال هذه الآيات القرآنية نخلص إلى أنّ على الإنسان أن يتحرّك من خلال الحجّة فيما يستقلّ به عقله من خلال الدراسة العميقة والتفكير والعلم النافع، أو من خلال الاعتماد على الحجّة وهم الذين يملكون الخبرة التي انطلقت من دراسة وعقل وتقوى ليعطوها للناس الذين لا يملكون هذه الخبرة. وقد تحدّث اللّه سبحانه وتعالى عن هذا الخطّ في قوله }وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ{([225]). فلا تتبع ما لا تملك علمه بشكل مباشر أو غير مباشر }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا{([226]). وتتتابع الآيات في هذا المضمار }إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا{([227]). والظنّ هو التفكير بلا حجّة ثابتة.

التبعية كما وردت في الأحاديث:

ونتابع بعد ذلك النصوص الواردة في هذا المجال في أحاديث النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع). فعن حذيفة قال، قال رسول اللّه(ص): ((لا تكونوا إمعّة تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن أساءوا أسأنا)) فإن مشوا في الخير فنحن معهم وان ساروا في دروب الشرّ فنحن معهم ((ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا)) لأنّكم مؤمنون بهذا الإحسان من خلال إيمانكم بالخط الذي تتحرّكون فيه ((وإن أساءوا أن لا تظلموا)) أي اعلموا أنّ الظلم حرام وقبيح ويسيء للإنسان وللحياة فلا تظلموا أحداً.

وقد ورد في بعض التفاسير عن أبي عبد اللّه(ع) قال رجل عن أصحابه ((لا تكن إمعّة تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس)) بل ليكن لك رأيك وموقفك، ولا تكن مجرّد ريشة في مهبّ الريح أو خشبة في مجرى التيار. وقال الجذري في (النهاية) ((اغدُ عالماً أو متعلّماً ولا تكن إمعّة)) فالإمعّة هو الإنسان الذي لا رأي له، وهو يوافق كلّ شخص يقول رأياً على رأيه، فإذا قال أحدهم قولاً صدّقه، وإذا قال آخر شيئا مضادّاً أيدّه، فليس لديه قاعدة فكرية يستطيع أن يقبل أو يرفض على أساسها. وقيل هو الذي يقول لكلّ أحد: أنا معك.

وقد ورد أيضاً في الحديث عن أبي حمزة الثمالي قال، قال أبو عبد اللّه(ع): ((إياك والرئاسة وإياك أن تطأ أعقاب الرجل، فقلت جعلت فداك، أما الرئاسة فقد عرفتها)) أي أنّها تجعل الإنسان في موقع الذي يستعلي على الناس ويتكبّر عليهم ((وأمّا أن أطأ أعقاب الرجال)) وأعقابهم تعني أقدامهم ((فما ثلثا في يدي إلاّ مما وطأت أعقاب الرجال)). فهذا كناية عن المشي وراء الرجال حتى أتعلّم منهم، فكيف تنهاني عن ذلك؟ ((قال: ليس حيث تذهب فإياك أن تنصب رجلاً دون الحجّة فتصدّقه في كلّ ما قال))([228]). فالشخص الذي لا يمثّل حجّة بينك وبين اللّه، والذي لا يرتكز على قاعدة فكرية أو رسالية أساسية بحيث تصلح أن تكون معذّراً لك بين يدي اللّه سبحانه وتعالى، ليس لك أن تصحبه أو تتبعه.


تبعية العوام:

وفي الحديث عن (عدي بن حاتم) قال: ((أتيت النبي(ص) وهو يقرأ في سورة براءة }اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ{([229]). فقال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا استحلّوا لهم شيئاً استحلّوه وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه)) أي أن الأحبار والرهبان كانوا يحلّلون ويحرّمون من خلال أهوائهم وشهواتهم وخطوطهم الضالّة، وكانوا يعرفونهم بذلك، وكانوا يتبعونهم من دون أن يكونوا لهم الحجّة في ذلك.

وقد ورد في بعض الأحاديث في كتب أبو جعفر الجواد(ع) إلى سعد الخير ((فاعرف أشباه الأحبار والرهبان)) الموجودين في المجتمع المسلم ((الذين ساروا بكتمان الكتاب وتحريفه }فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ{([230]). واتبعهم الناس، ثم اعرف أشباههم من هذه الأمّة الذين أقاموا حروف الكتاب وحرّفوا حدوده فهم مع السادة والكثرة، فإذا تفرّقت قادة الأهواء كانوا مع أكثرهم دنيا وذلك مبلغهم من العلم، أولئك أشباه الأحبار والرهبان قادة في الهوى سادة في الردى))([231]) أي أنّهم السادة في قيادة الناس إلى هلاكهم، لذلك ورد في الحديث عن النبي(ص): ((العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قالوا: وما دخولهم في الدنيا يا رسول اللّه؟ قال: إتباع السلطان))([232]). بحيث ينظّرون له، فإذا أراد فتيا فهي جاهزة يعطوه منها ما يشاء: فتيا في الحرب وفتيا في السلم وفتيا تحلّل له شهواته وجرائمه، أي أنهم يتبعون السلطان  فيخضعون لما يريده منهم حتى يأخذوا المواقع البارزة والأموال الطائلة ((فإذا رأيتم العالم محبّاً لدنياه بحيث تكون الدنيا كلّ همّه فاتهموه على دينكم))([233]). أي  لا تأخذوا منه دينكم لأنه سوف يخلط لكم دينكم بدنياه، وقد تكون دنياه دنيا السلاطين وما أكثر وعّاظ السلاطين.

وفي قوله تعالى }فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا{([234]). أي كما كان يفعل اليهود، فالتوراة الموجودة بين أيدينا لا يمكن أن يكون الكثير منها قد جاء من قبل اللّه سبحانه وتعالى، فهي تخالف الوحي الذي أنزله اللّه على رسله، وتخالف كلّ معاني الخير والحقّ والعدل والإنسانية، بل تركّز على عنصرية بني إسرائيل مما يتعارض وما جاءت به الرسالات، ولم تكن التوراة موجودة بين أيدي الناس بل كان هناك حجر عليها حيث كانت هناك جماعة من اليهود لم تسمح بأخذ التوراة إلاّ من خلالها، ولذا فقد تحداهم القرآن بقوله }قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ{([235]). فكانوا يكتبون شيئاً على أنه التوراة وما هو من التوراة في شيء. وهذا ما يشير إليه القرآن }فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ{([236]).

قال رجل للصادق(ع): ((فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا يقلّدون علماءهم)) أي ما الفرق بين عوامّنا وعوامّهم؟ فعوامّنا يأخذون عقائدهم وتفسير القرآن والمسائل الشرعية من علمائهم ((فكيف ذمّهم على تقليدهم لعلمائهم وعوامّنا وعوامّهم سواء؟ فقال(ع): يبن عوامّنا وعلمائنا وعوامّهم وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة، أما من حيث استووا فإن اللّه ذمّ عوامّنا بتقليدهم كما ذمّ عوامّهم)). فالعوامّ إذا لم يجدوا العلماء في موضع الثقة فلا يجوز لهم أن يقلّدوهم أو يتّبعوهم أو يأخذوا منهم علمهم فيجب عليهم أن يملكوا المعرفة بوسائلهم الخاصة أو ينطلقوا في الأخذ ممن يملك الحجّة لهم أمام اللّه. ((وأمّا من حيث افترقوا فلا، قال: بيّن لي يا ابن رسول اللّه، قال(ع): إنّ عوّام اليهود كانوا قد عرفوا علمائهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشا وبتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات والعنايات والمصانعات)) أي يحكمون للناس حتى وإن لم يكونوا على حقّ، إمّا بأخذ الرشوة، أو بتوسط المتنفذين من الوجهاء، أو مجاراة لهؤلاء ((وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم وأنهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وإن كان له الحق، وأعطوا ما لا يستحقه من تعصّبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم وعرفوهم يقارفون المحرّمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى إن من فعل ما يفعلون هو فاسق لا يجوز أن يصدق على اللّه ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه، ولذلك ذمّهم لما قلّدوا من قد عرفوه ومن قد علموا انه لا يجوز خبره ولا تصديقه في حكمه، وكذلك عوامّ أمتنا إذا عرّفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم اللّه بالتقليد لفسقة فقهائهم، أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه وذلك لا يكون إلاّ ببعض فقهاء الشيعة لا جميعهم)).

خداع الظاهر:

وهناك حديث عن الإمام زين العابدين(ع) يحذّر فيه من خداع الظاهر، يقول: ((إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقة وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرّنكم فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيّته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخّا لها)). فهو لم يستطع أن يأخذ الدنيا بالطريقة المعروفة في الكسب والصراع، فاختار أن يكون عالماً ينصب الدين فخاً يلتقط به الناس ((وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّنكم فإنّ شهوات الخلق مختلفة)). فهو لا يريد المال ولكنه يبحث عن الجاه من أجل أن تطرحوا الثقة به فيستغل حسن ثقتكم به. ((ولكن الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر اللّه)) فما يأمر اللّه به فإنه يحرّك هواه في اتجاهه ((وقواه مبذولة في رضا اللّه يرى الذلّ مع الحق أقرب إلى عزّ الأبد من العز في الباطل)). أي لا يحاول أن يحصل على العزّ في الباطل ((ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤذيه إلى دوام النعيم)). أي أنّه يتحمّل المشاكل والأذى ليصل إلى دوام النعيم ((فذلك نعم الرجل فبه فتمسكوا)). فهو لا يريد المال ولا يريد الجاه ولكنه يريد الحقّ والعدل ووجه اللّه ويغلّب ما يريده اللّه على ما يريده هواه ((وبسنّته فاقتدوا وإلى ربّكم به فتوسّلوا إنّه لا تردّ له دعوة ولا تخيّب له طلبة)).

التحرّر من التبعية:

من خلال ذلك كلّه نفهم أنّ على الأمة الإسلامية في أفرادها وجماعاتها أن تعتبر أنها مسؤولة عن الإسلام في داخل كلّ واحد منا بأن يكون مسلم العقل والقلب والحركة، وأن تكون مسؤولة عن قوة الإسلام في ساحة الصراع أمام القوى والتيارات الأخرى بحيث أن الناس إذا أبدعوا في مجالات العلم فإن علينا أن نأخذ بالإبداع، لأنّ الصراع هو فيمن يبدع أكثر، وإذا انطلق الناس بالعلم في حقوله كلّها فعلينا أن نأخذ بأسباب العلم لأنّ الصراع الحضاري الآن ليس صراع سلاح، فالكثير من السلاح لا يمكن للذين يملكونه تحريكه، فهناك أكثر من دولة من الدول الكبرى تملك قنابل نووية بكلّ أنواعها ولكن توازن الرعب يمنع أية دولة من أن تستعمل القنبلة النووية، فالعالم يتقدّم بالعلم بتعبئة مواقعه وتحريك طاقاته في هذا السبيل، لذلك فإنّ علينا أن نعرف أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر صراع في الفكر والعلم والأخلاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكلّ تيار يؤكّد شخصيته في هذا الإطار، لذلك فنحن كمسلمين لا يجوز لنا أن نتنازل عن إسلامنا لمجرد أنّ الآخرين يملكون علماً لا نملكه، فالإسلام لا يمنعنا من أن نأخذ بأسباب العلم، بل يعتبر العلم قيمة }قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ{([237]). }وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا{([238]). ((طلب العلم فريضة))([239]). ((اطلبوا العلم من المهد إلى الحد))([240]). ((اطلبوا العلم ولو في الصين))([241]). ولم يكن هناك من يعرف الصين ولكن أراد بذلك أن ينبّه إلى ضرورة طلب العلم أينما كان وفي أي حقل كان، ولكننا تركنا العلم لنعيش التخلّف، ولذلك فإنك حينما تسمع أنّ عليك أن لا تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، فإنّ عليك أن لا تقول أنا مع العصر أو أن العصر يريد هذا، أو أن الناس يريدون هذا، بل قل: ماذا يريد اللّه؟ وماذا أريد أنا في خط ما يريده اللّه سبحانه وتعالى؟

فلا تبيعوا – أيّها الأحبّة – أنفسكم وعقولكم لأحد، ولا تسلموها فيما تحتاجون إليه من عقل إلا للذين تأمنون عقله وعلمه، ذلك أنّ المسألة هي مسألة مصير في الدنيا فعندما تتبعون الجهّال فلن تكون النتيجة إلا المزيد من التخلّف يهيمن عليكم، فلا مجاملة فيما تأخذ من فكر تفقد علمه، ولا مجاملة لإسم كبير أو عمامة كبيرة أو صغيرة، أنظر أين العلم فخذه من مصادره، وانظر أين التقوى فانفتح عليها في مصادرها، لأن القضية إمّا سقوط في الدنيا أو سقوط في الآخرة }إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا{ ممن لا يملكون المسؤولية }وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ{([242]). وليس لهم كرّة }إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا{([243]). إنّ اللّه يذكّرنا ذلك حتى لا نقع في الحسرة }أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ{([244]).. الوعي.. الوعي.. العقل..العقل.. فالمستقبل الذي لابدّ أن نصنعه هو مستقبل علم وقوة وإرادة وإبداع، وهو مستقبل لابدّ أن يعيش في عقولنا وحياتنا.. والعالم يركض في العلم فلماذا نبقى في وهدة الجهل يقول بعضنا لبعض:

وما أنا إلاّ من غزّية إن غوت                                       غويت وإن ترشد غزية أرشد

لماذا ندمن التخلّف والجهل والخوض في الوحول الفكرية والسياسية والاجتماعية والينابيع بين أيدينا: ينابيع القرآن والرسول(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته(ع)؟ والحمد للّه رب العالمين.


 

المحاضرة الثالثة 12 صفر 1422ه‍ - 5/ أيار /2001م

 

 

 

في ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع):

أسلوب التعامل مع الخصم

 

 

 

 

* الأصالة الإسلامية الرسالية أن تعنف عندما يكون العنف هو الخط الإسلامي الشرعي في ساحة المواجهة، وترق وتلين وتسالم عندما يكون في السلم مصلحة للإسلام *

 

ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع).

الشخصيتان الحسنية والحسينية.

كتاب الحسن(ع) إلى معاوية.

السلام على المنحرفين.

إقامة الحجّة.

إيجابيات الخصم.

الإمساك عن النـزاع.

نقد معاوية.

الخلافة عند آل البيت(ع).


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ذكرى وفاة الإمام الحسن(ع):

قبل أيام مرّت علينا ذكرى وفاة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالبo. ولعلّ الكثيرين منّا لم ينفتحوا على آفاق هذا الإمام، فالمعلومات التي نتداولها غالباً تتصل بالكلمات الرائدة عن رسول اللّه(ص) التي قالها في حقّه، وبقضية صلحه وشهادته.

ولكننا عندما ننفذ إلى داخل شخصية الإمام الحسن(ع) في مواجهته السياسية خاصة عندما بدأ الصراع بينه وبين معاوية بعد وفاة أبيه الإمام علي(ع) واستخلافه من قبل المسلمين، لأنّ إمامته كانت بالنصّ عن رسول اللّه(ص) وأضيفت إليها البيعة التي بايعه بها المسلمون، نرى أنه كان سياسياً من الطراز الأول.

الشخصيتان الحسنية والحسينية:

وعندما ندرس الكتاب الذي أرسله إلى معاوية فإنّنا نرى فيه عناصر القوة والرسالة والانفتاح على الشريعة الإسلامية كلّها، كما نعرف أنّ الفكرة التي طرحت في التأريخ وما زال البعض يستهلكها وهي أنّ الإمام الحسن(ع) شخصية مسالمة وليس شخصية صدامية أو ثائرة لا تتوخى الدقّة الموضوعية، حتى أنّ بعض الناس يتحدثون – ومنهم بعض العلماء – أنّ هناك الشخصية الحسنية وهي الشخصية التي لا تأخذ بأسباب الثورة ولا تميل إلى العنف، ولا تدخل ساحة الصراع، بل تجتنب ما أمكنها الدخول في الصراع، وأنّ هناك الشخصية الحسينية وهي الشخصية الثائرة التي تقتحم ساحة الصراع وتواجه الموقف بالعنف، لدرجة أنّ بعض الكتّاب من المستشرقين وتلامذتهم، وفي مقدمتهم الكاتب المعروف (طه حسين) تحدّثوا عن أنّ الإمام الحسن(ع) اختلف مع أبيه عندما خاض أبوه معركة البصرة أو معركة صفين، وهذا ليس له عين ولا أثر في أصالة التاريخ.

كتاب الحسن(ع) إلى معاوية:

لذلك نريد أن نقرأ نصّ الكتاب حتى نستطيع أن نعرف الأصالة الإسلامية الرسالية التي تعنف عندما يكون العنف هو الخطّ الإسلامي ّالشرعيّ في ساحة المواجهة، وترقّ وتلين وتسالم عندما يكون في السلم مصلحة للإسلام، لأنّ الإسلام في تشريعه لا يجعل الأسلوب واحداً في ساحات الصراع، بل يدرس الظروف المحيطة بالساحة سواء كانت ظروفاً سياسية أو أمنية على مستوى الحاضر وعلى مستوى المستقبل لأنّ الإسلام لا يستغرق في الحاضر استغراقاً كاملاً، بل إنّه عندما يريد أن يتحرك في الحاضر فإنّه يرصد النتائج الإيجابية والسلبية التي تنتجها هذه الحركة الحاضرة في طبيعة المستقبل لأنّ القضية ليست أن تعيش العنف على أساس اللحظة، أو أن تعيش الرفق على أساس اللحظة، فحركة الإسلام ليست في الراهن فحسب بل هي على امتداد الزمن كلّه فلابدّ للقيادة أن تدرس خط الامتداد عندما تريد أن تتحرك في خطّ البداية، وهذا ما عالجه الإمام الحسن(ع) عندما أقام الحجّة على معاوية وعلى الناس من خلال المنطق الذي واجه به معاوية، ثم عندما اجتمعت الظروف وتكاتفت وتحوّل الموقف إلى أن يكون خطراً على الإسلام في المستقبل، عند ذلك هادن معاوية.

السلام على المنحرفين:

وهذا هو نصّ رسالته التي كتبها له مع رجلين من أهل الكوفة: ((من الحسن بن علي(ع) إلى معاوية بن ابي سفيان سلام عليك فإنّي أحمد اللّه الذي لا إله غيره)) وأحب أن أقف هنا عند قوله(ع) ((سلام عليك)) لأقول إنّ أسلوب الأئمة من أهل البيت(ع) أسلوب الإسلام، هو أنّك عندما تلتقي مع مسلم حتى لو كان في أعلى درجات الانحراف، أو تكتب إليه، فإنّ عليك أن لا تترك التحية (السلام) لأنّ قصة السلام ليست قصة من تسلّم عليه، وإنّما هي قصّتك أنت الذي تعيش روحية السلام مع المسلمين حتى المنحرفين منهم، لأنّك عندما تعطيهم كلمة السلام فقد تترك هذه الكلمة تأثيرها الإيجابي في وعي هذا الإنسان فيهتدي بك عندما تفتح الكلمة قلبه فينفتح بها عقله، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) بقوله ((احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك))([245]). كن الإنسان الذي تعيش الخير كلّه للناس كلّهم في خطّ الرسالة والهدف فإنّ ذلك يمكن أن يحصد الشرّ من صدور الآخرين. ولعلّ من المؤسف جداً أنّنا ونحن أتباع هذا الإمام العظيم، كما نقول بذلك، هو أنّنا نعبّأ صدورنا بالحقدّ حتى على المؤمنين منّا عندما نختلف معهم في أي رأي أو أي موقع، حتى أنّ بعض الناس يتحدّث عن (الحقد المقدّس) ولا ندري كيف يمكن أن يأخذ الحقد القداسة، فالقداسة هي للمحبّة، أمّا الحقدّ فليس مقدساً حتى الحقد ضد الكافرين، لأنّ المسألة هي ليست في أن تستهين بالكفر، ولكنّك عندما تحبّ إنسانية الكافر فذلك من أجل أن تهديه لما أنت عليه، لأنّ الإنسان الذي يغلق قلبه للناس لا يمكن أن يفتحوا عقولهم له، والإنسان الذي يكون قاسي القلب لا يستطيع أن يهدي الناس }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ{([246]).

إقامة الحجّة:

ويمضي الإمام الحسن(ع) في رسالته قائلاً: ((أمّا بعد فإنّ اللّه جلّ جلاله)) وهنا أراد أن يربطه بالرسالة وبامتدادها في أهل البيت(ع) ليقيم عليه الحجّة في ذلك ((بعث محمداً رحمة للعالمين)) }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ{([247]). ((ومنّة للمؤمنين)) }لَقَدْ مَنَّ اللّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا{([248]). ((وكافّة الناس أجمعين)) لأنّ اللّه سبحانه وتعالى قال لرسوله(ص) قلْ للناس }إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعًا{([249]).

((لينذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين، فبلّغ رسالات اللّه وقام بأمر اللّه حتى توفاه اللّه غير مقصّر ولا وان)) فلقد أعطى نفسه كلّها ومبادراته كلّها من أجل الرسالة التي تستحق ذلك كلّه ((وبعد أن أظهر اللّه به الحقّ ومحق به الشرك وخصّ قريشاً به خاصّة، فقال له: وإنّه لذكر لك ولقومك. فلما توفي تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقّه)) وهذا ما حدث عندما قال المهاجرون والأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، واحتجّوا على أنّ الخلافة في قريش ((فرأت العرب أنّ القول ما قالت قريش، وأنّ الحجّة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد فأنعمت لهم وسلّمت إليهم، ثم حاججنا نحن قريش بمثل ما حاججت به العرب)).. لأنّهم قالوا بأنّ الخلافة في قريش، وقد قال علي(ع) ((احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة)). فعندما تحتجّ بالشجرة على أنّها أساس الشرعية من خلال طبيعة ما توحي به فالشجرة ليست مجرد أغصان وأوراق بل هي تتحرك من خلال الثمرة، والثمرة تتكامل مع الشجرة، ولذلك فمن يقبل الشجرة لابدّ أن يقبل الثمرة.

((فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها)) فالعرب قبلوا منها حجّتها ولم تقبل قريش منّا حجّتنا ((إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما صرنا آل بيت محمد وأولياءه إلى محاجّتهم وطلب النصف منهم)) بأن ينصفونا بما هو الحقّ لنا ((باعدونا واستولوا على الخلافة بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد اللّه وهو الولي النصير)). ولابد من الالتفات إلى أن الإمام الحسن(ع) لا يتحدث هنا عن حق في الخلافة من خلال القرابة بل من خلال الشرعية الإسلامية بالنص من خلال النبي محمد(ص) المرتكز على أمر اللّه وعلى أساس الكفاءة الشاملة التي لا يملكها أحد غير علي(ع).

((لقد كنّا تعجبنا لتوثّب المتوثبين علينا في حقّنا وسلطان نبينا أن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام)).. لكنّ هذا لا يمنع من أنّهم لم يأخذوا بالحقّ، فلقد سبقوا إلى الإسلام وربّما كانوا قد جاهدوا مع النبي(ص) ولكن الأمور بخواتيمها، والقضية هي قضية العاقبة لأنّ اللّه سبحانه وتعالى لا يعطي الناس النتائج الحاسمة في البدايات ولكنّه يعطيها عندما تلتقي النهايات بالبدايات، فالإسلام ليس شيئاً تجزيئياً يمكن أن تأخذ شيئاً منه وتترك شيئاً آخر لاسيما إذا كان هذا الشيء مما ترتكز عليه سلامة الإسلام وامتداده في خطّ الاستقامة.

إيجابيات الخصم:

ونلاحظ هنا أنّ الإمام الحسن(ع) لا يترك الجانب الإيجابي لخصومه، في حين أننا عندما نذكر شخصاً نعيش العقدة إزاءه فلسنا مستعدين أن نستمع إلى أية خصلة حسنة تذكر له، ولو ذكر إنسان حسنة له لاسيما في القضايا الدينية لنادى الناس بالويل والثبور وعظائم الأمور، أليس كذلك؟ واللّه سبحانه وتعالى يقول لنا، لكننا للأسف لسنا قرآنيين }وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى{([250]). فالعدل أن تعطي لكلّ ذي حقّ حقّه وإن كان الحقّ عليه في جانب، فقد يكون له الحقّ في جانب آخر فأعطه حقّه في الجانب الذي له ولا تمنعه هذا الحقّ بحجّة أنّ عليه حقّاً في جانب آخر، ثم واجهه فيما عليه من حق ّفي الجانب الآخر.


ولقد علّمنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في (الصحيفة السجادية) الأسلوب الأمثل في ذلك ولكن قليل منّا من يقرأ هذه الصحيفة ويفهمها ويتعلّم منها، يقول(ع) ((اللّهم وارزقني التحفّظ من الخطايا)) وهو هنا يعطينا المفهوم والخط في العلاقات وأصالة إسلام المسلم وإيمانه ((والاحتراس من الزلل في حال الرضا والغضب)) أي أن يكون غضبي ورضاي على حدّ سواء ((حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء عاملاً بطاعتك مؤثراً لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري وييأس صديقي من ميلي وانحطاط هواي))([251]). بحيث إذا ذُكرتُ عند عدوي فإنّه يقول بأنّ فلاناً لم يظلمني لأنّه مسلم، وإذا ذكرت عند صديقي فإنّه يقول بأنّ فلاناً لن يحابيني ولن يميل إليّ ضد الحقّ لأنّه مسلم، فمن منّا إذا عادى ينصف عدوّه؟ وإذا صادق يبقى على العدل مع صديقه؟

إنّ المشكلة عند الدول هي مشكلة القطع النادر، والمشكلة عند المسلمين هي مشكلة القطع الأخلاقي النادر، فعندما تذكر خصمك في إيجابياته، فلا يعني أنّك أضعفت موقعك، بل هذا يعني أنّك قوي لدرجة أنّك لا تخاف من إيجابيات خصمك أمام سلبياته.

الإمساك عن النـزاع:

((وأمسكنا عن منازعتهم)) وهذا المقطع يجيب على سؤال: لماذا لم يندفع علي(ع) ليقتحم الساحة وقد جاءه أبو سفيان ليقول له في مبايعته أثناء اجتماع القوم على مبايعة غيره ((فلأ ملأنّها عليهم خيلاً ورجلاً)) ولكنّ علياً(ع) كان المسؤول عن الإسلام خارج الخلافة كما كان مسؤولاً عنها في موقع الخلافة، لأنّه هو خليفة رسول اللّه(ص) في تأكيد الإسلام ونشره وامتداده وتأصيله، كما هو خليفته في إدارته، لذلك كان علي(ع) يمارس المسؤولية الإسلامية مع خصومه كما كان يمارسها عندما كان في الخلافة، لأنّنا ذكرنا مراراً أنّ علياً(ع) وحده المؤهل لأنّ يكون خليفة الرسول(ص) لسبب واحد وهو أنّ خلافة رسول اللّه(ص) ليست خلافة الإدارة فقط بل هي خلافة الرسالة وليس في المسلمين من عاش الرسالة في عقله كلّه وقلبه كلّه وشعوره وجهاده كما عاشها علي(ع).

((وأمسكنا عن منازعتهم مخافة أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يتمثلونه به، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده)).. وفي ذلك يقول علي(ع) ((فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا)). ويقول ((فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه))([252]).

نقد معاوية:

((فليتعجّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر من لست من أهله)) أي كيف توثّبت على علي(ع)؟! فمتى أسلمت يا معاوية؟ ومتى أسلم أبوك؟ فالإمام يطلقها هنا في صرخة التعجّب ((لا بفضل في الدين)) أي ما هي سابقتك في الإسلام؟ وما هو جهادك؟ وما هي ثقافتك الإسلامية؟ ((ولا أثر في الإسلام محمود وأنت ابن حزب من الأحزاب)) التي كانت تحارب رسول اللّه(ص) فلم يقل له يا ابن أبي سفيان لأنّ هذا كان يمثّل قيادة الحزب القرشي الذي عطّل مشروع رسول اللّه(ص) واشغله بحروب دامية، ومعاوية ابن هذا الحزب الذي تربّى على أخلاقه ((وابن اعدى قريش لرسول اللّه(ص) ولكتابه الكريم، واللّه  حسيبك  فسترد)) غداً على اللّه ((وتعلم لمن عقبى الدار)) فنحن الآن نكلّمك وتكلّمنا وتحاول أن تأتي بالكلام من هنا وهناك لكنّ غداً هو يوم الفصل. ((وباللّه لتلقينّ عن قليل ربّك، ثم ليجزينّك بما قدّمت يداك))([253]) لأنّك عطّلت مشروع علي بن أبي طالب(ع) الذي لو أنّه انطلق به وأكمله لانفتح الإسلام على العالم وعيا وفكراً وجهاداً وحركة.

((إنّ علياً لما مضى لسبيله – رحمة اللّه عليه – يوم قبض ويوم منّ اللّه عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّاً ولاّني المسلمون الأمر من بعده)) فإذا كان الكلام في الشورى فإنّ الشورى قد اجتمع رأيها عليّ فأنا الخليفة الشرعي.

((فأسأل اللّه أن لا يؤتينا في هذه الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا في الآخرة بما عنده من كرامة)) وهذا هو تواضع الأئمة(ع) للّه سبحانه وتعالى. ((وإنّ ما حملني على الكتابة إليك الأعذار فيما بيني وبين اللّه عزّ وجل في أمرك)) حتى يعذرني اللّه في إقامة الحجّة عليك بيّنت لك من الحقائق ودعوتك إلى الصراط المستقيم. ((ولك في ذلك إن فعلته الحظّ الجسيم والصلاح للمسلمين)) أي فيما إذا دخلت فيما دخل فيه المسلمون وسرت معي في الخط الذي يمثّل الشرعية الإسلامية ((فدع التمادي في الباطل)) بادّعاء الخلافة لنفسك ((وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند اللّه)).. لأنّ رسول اللّه(ص) قال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة))([254]). ((الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا))([255]).

((وعند كلِّ أواب)) إلى اللّه ((حفيظ)) على العهد والإيمان ((ومن له قلب منيب)) راجع إلى اللّه ((واتق اللّه ودع البغي واحقن دماء المسلمين وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منك ليطفئ اللّه النائرة ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين)) لأنّ الأساس في إصلاح ذات البين هو أن يعطي الناس الشرعية لمن له الشرعية الحقيقية، لا أن يكونوا في خطّ الانحراف ((وإن أنت أبيت إلاّ التمادي في غيّك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك)) على أساس الواقع الميداني، وأن أواجهك بالمسلمين ((حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين))([256]).

الخلافة عند آل البيت(ع):

هذه هي الرسالة التي بعثها الإمام الحسن(ع) إلى معاوية وهي كلّها رسالة وكلّها حجّة ونصيحة للمسلمين ورغبة في أن يصلح اللّه أمرهم ويحقن دماءهم، لأنّ الأئمة من أهل البيت(ع) ولاسيما سيدهم علي(ع) لم يطلبوا الخلافة لطموح شخصي أو لطمع ذاتيّ أو لأيّ شيء مما يدخل في حاجات النفس الأمّارة بالسوء. وقد عبّر عن ذلك علي(ع) ليقدّم حسابه للّه ((اللّهم انّك تعلم)). وعلي يرتفع ويرتفع ويرتفع عندما يتضع الناس من حوله، وللأسف فإنّ أفق علي(ع) مازال بعيداً عنّا. ((انّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك، اللّهم إني أول من سمع وأجاب لم يسبقني إلاّ رسول اللّه للصلاة)). فقد كنت في البداية مع رسولك بين يديك، وأنا الآن بين يديك - يا ربّ - أعمل من أجل دينك والمظلومين من عبادك.

وقال(ع) ((لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز))([257]).

هذا هو علي(ع) وهذا هو ابن علي الحسن(ع) وهذا ابن علي الحسين(ع) وهؤلاء هم الأئمة(ع) أئمة الهدى ومصابيح الدجى، فتعالوا - أيّها الأحبة - لنسير معهم فكراً وروحاً وروحانية وجهاداً وسموّا وحباً للّه ولرسوله وحبّاً للناس ووقوفاً مع العدل كلّه ضد الظلم كلّه، وبذلك نكون شيعتهم وشيعة الإسلام وشيعة رسول اللّه(ص)، وبذلك نكون أولياء اللّه }وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ{([258]). وسلام اللّه على الحسن(ع) وأخيه الحسين(ع) وأمّه وجدّه وأبيه، سلام اللّه عليهم جميعاً، والحمد للّه رب العالمين.

 


 

المحاضرة الرابعة 19 صفر 1422ه‍ - 12/ أيار /2001م

 

 

 

شروط الانتماء إلى الإسلام

 

 

* الإسلام ليس كلمة نقولها، وليس طقوساً نمارسها، بل هو النهج الذي أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن ينهجه في فهمه لنفسه، وتركيزه على معالجة نقاط الضعف فيها ليعيش إنسانيته في معنى إسلامه *

 

 

 

الانتماء إلى الإسلام.

نفي الانتماء.

الانتماء محاسبة.

الانتماء ضبط النفس عند الغضب.

الانتماء صحبة حسنة.

الانتماء أخلاق.

الانتماء مرافقة وجوار.

الانتماء مسؤولية اجتماعية.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

الانتماء إلى الإسلام:

عندما نتحدث عن الانتماء إلى الإسلام، أو إلى الإيمان، أو إلى رسول اللّه(ص) وهو نبيّ الإسلام، أو إلى الأئمة من أهل البيت(ع) وهم أئمة الإسلام، فإنّ هناك خطين لهذا الانتماء:

الخط الأول: هو خط السطح وهو أن تشهد الشهادتين، وأن تقوم بالعبادات وأنْ تحبّ رسول اللّه(ص) وأن تحبّ الأئمة من أهل البيت(ع) وتنتهي المسألة عند هذا الحدّ لتكون مسلما.

والخط الثاني: هو أن يكون الانتماء عميقاً بحيث ينفذ إلى طريقتك في وعي الإسلام، ووعي نفسك فيما تختزنه من فكر الإسلام ومنهجه، ومن قيم الإسلام وأخلاقياته، بحيث أنّك من خلال هذا الخطّ قد تكون مسلماً في السطح، ولكنّك لن تكون مسلماً في العمق، لأنّ الإسلام ليس كلمة تقولها وليس طقوسا تمارسها، بل هو النهج الذي أراد اللّه سبحانه وتعالى للإنسان أن ينهجه في فهمه لنفسه وتركيزه على معالجة نقاط الضعف فيها ليعيش إنسانيته في معنى إسلامه، وذلك هو قوله تعالى في التفريق بين (السطح) وبين (العمق) )قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ(([259]).

نفي الانتماء:

ويمكن بهذا اللحاظ أن يُنفى الإسلام في معناه العميق عن بعض المسلمين الذين ليس لهم من الإسلام إلا شكله، وقد وردت في ذلك عدة كلمات عن رسول اللّه(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) تنفي الانتماء عمّن لم يتصف بهذه الصفة أو تلك مما يعبّر عن العناصر الحيوية لعلاقة الإنسان في العمق مع نفسه، وعلاقته في العمق والامتداد مع الناس من حوله. وفي ضوء ذلك أيضاً لابدّ أن ننفتح على هذه الخطوط النبوية والإمامية المستمدّة من الخطّ النبويّ لنبدأ بدراسة جدية الانتماء فيما نحسبه انتماء وننسب أنفسنا إليه صدقاً أو زورا.

ولابدّ من التأكيد على أن الأحاديث التي أسقطت صفة الإسلام عن بعض المسلمين يراد منها إلفات النظر إلى الأمور التي تمثل حقيقة الإسلام.

الانتماء محاسبة:

يقول الإمام علي(ع) وهو يؤكّد على علاقة الإنسان مع نفسه في كلّ ما يصدر عنه بشكل يومي في سلبياته وإيجابياته، وفي نقاط ضعفه وفي نقاط قوّته، إنّ عليك أن تحدّق بنفسك لتعرف ما أنت؟ ومن أنت؟ ولتكتشف حقيقتها في كلّ ما تفكّر فيه في حركة الداخل في نفسك، أو فيما تتحرك فيه من حركة الخارج في ذاتك.

((ليس منا من لم يحاسب نفسه كلّ يوم))([260]). فعندما تبدأ يومك ويمتدّ يومك معك، وتمتد مع الحياة في هذا اليوم فيما تتكلمه، وفيما تعمله، وفيما تنشئه من علاقات، وفيما تقفه من مواقف، وفيما تتحرك به من عواطف، وفيما تحكم به من أحكام.. حاسب نفسك .. أجلس مع نفسك وابسط بين يديها الإسلام كلّه، وابسط نفسك بين يديك عندما تتجرد منها لتكون شخصاً ناقداً ومحاسباً وحاكماً لتدخل في مقارنة بين ما فعلته وبين ما قالته وبين ما قاله اللّه ورسوله وما أراد اللّه ورسوله لك أن تفعله.

((فإن عمل خيراً حمد اللّه واستزاده وإن عمل شراً استغفر منه))([261]). وبذلك يكون الإنسان في يقظة متحركة دائمة بحيث لا يغيب عنه شيء من نفسه بفعل سيطرة البيئة المحيطة عليه، أو بفعل ضغط الظروف الموضوعية المحيطة به، بل يعمل على أن يتجرّد من ذلك كلّه ليقف أمام نفسه ليحاسبها - كما ورد في بعض الأحاديث عن علي(ع) نفسه - أشدّ من محاسبة الشريك شريكه.

الانتماء ضبط النفس عند الغضب:

ويقول الإمام الصادق(ع) في كلمة أطلقها في مجتمع جماهيري احتشد في بيته، بحيث اجتمع لديه أكثر من شخص من بلدان مختلفة، ف((عن أبي الربيع الشامي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه(ع) والبيت غاصّ بأهله: الخراساني والشاميّ ومن أهل الآفاق، فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد اللّه(ع) وكان متكئاً وقال: يا شيعة آل محمد)) ونستوحي من هذا أنّ الأئمة من أهل البيت(ع) ولاسيما الإمام جعفر الصادق(ع) الذي انفتحت له الساحة من خلال الظروف السياسية التي ملك فيها حرية الدعوة، أنّهم كانوا يعيشون مع الناس وهم يتحسسون المسؤولية في أن لا يجلس إليهم أحد إلاّ ويبادرونه بالموعظة والنصيحة ولا ينتظرون أن يسألهم الناس بل كانوا يبدأونهم، وذلك هو شأن رسول اللّه(ص) وشأن علي(ع) وشأن الأئمة(ع) من قبل الصادق وبعده، فلقد كانوا يتحسسون المسؤولية في أن يفتحوا على الناس مغاليق غفلتهم لينقذوهم منها، وكانوا يشعرون بأنّ العلم الذي وهبهم اللّه لابدّ من أن يغني كلّ مجتمعهم بطريقة وبأخرى، لأنّ الدعوة إلى اللّه سبحانه وتعالى في عهد الرسالة وعهد الإمامة كانت منفتحة على الناس كلّهم، فالسيرة النبوية الشريفة تحدثنا عن أنّ النبي(ص) كما يوصف من قبل صحابته ومعاصريه ((كان فينا كأحدنا)) فلم يميّز نفسه عن الناس، فكان يلتقيهم ويحدّثهم ويبتدرهم ويجيب على أسئلتهم.

وعندما ندرس علياً(ع) فإنّنا نراه يتألم لأنّ هناك مجتمعاً لا يستمع إليه، وكان يقول ((إنّ ها هنا لعلماً جمّا لو وجدت له حملة))([262]). كان يبحث عمّن يسأله، وعمّن يسمعه، ولذلك فإنّنا عندما نقرأ تراثه فإنّنا نجد أكثر ما صدر عنه(ع) كان ابتداءً منه، فلقد كان الخليفة الذي يريد أن يثقّف الناس بالإسلام لأنّه كان يرى أنّ الناس كلّما تثقفوا بالإسلام أكثر وعوا أكثر، وانفتحوا على الحياة أكثر، وأخذوا بأسباب التقدّم أكثر، وتطوّرت حركتهم أكثر، فلم تكن العلاقة بين النبي(ص) أو الإمام(ع) وبين الناس علاقة رسمية بحيث يحتاجون عندما يأتون إلى الشخصية الدينية إلى الكثير من التحفّظات وحالات الهيبة فلا يأخذون حريتهم في المناقشة وفي السؤال، لأنّ عصور التخلّف جعلت من هذه الوجودات أقرب إلى الوجودات الرسمية التي تضع الحواجز بين المسؤول وبين الناس حتى ليخاف هؤلاء من طرح أسئلتهم.

ولكن الأئمة(ع) لم يكونوا كذلك، فتصوّروا مثلاً أنّ هؤلاء جاءوا ليسلّموا على الإمام الصادق(ع) وكانوا من شيعته، وكان يرى أنّ التشيع ليس شيئاً غير الإسلام، وليس شيئاً زائداً عن الإسلام ((من كان ولياً للّه فهو لنا وليّ ومن كان عدواً للّه فهو لنا عدوّ)). هذا هو خط التشيع، بأنّ تكون مسلماً كما هو الإسلام في كلّ معناه وامتداداته.

وأحبّ أن انقل في هذا المجال قصة للعلامة الكبير المرحوم السيد محسن الأمين صاحب كتاب (أعيان الشيعة) والذي كان يقطن في دمشق، وكان عالماً جليلاً، فلقد جاءه شخص سنّي وقال له: إنني أريد أن أكون شيعياً، فقال له وهو يدرس الجوّ الاجتماعي والديني كلّه، ليس هناك فرق بين الشيعة والسنّة، فالسنّة مسلمون والشيعة مسلمون فأصرّ الرجل على طلبه، فقال له السيد الأمين (رحمه الله): هل تريد أن تصبح شيعياً؟ قال الرجل: بلى، فقال له: قل أشهد أن لا إله إلا اللّه، فقال ذلك، فقال له: قل أشهد أنَّ محمداً رسول اللّه، فنطق بهذه الشهادة أيضاً، فقال له: لقد صرت شيعياً!!

فالولاية حينما تبحث فإنّها تبحث من خلال كتاب اللّه وسنّة رسوله، فهي ليست شيئاً زائداً على الشهادة للّه بالوحدانية والشهادة للرسول بالرسالة، لا بل إن كلّ ما جاء به الرسول(ص) هو الذي يركّز لنا خط الولاية إذا أثبتناها وهي ثابتة لدينا، وهو الذي يركّز لنا الخطوط الأخرى إذا أثبتنا أصولها وهي كذلك ثابتة لدينا. وهذا الموقف يؤكّد الوعي الذي يحمله العلماء الكبار في أنّ يفتحوا للناس خطّ أهل البيت(ع) من باب الإسلام، ولا يتحدثون إليهم عن شيء زائد عن الإسلام، بل هو الإسلام الأصيل. وقد قال الإمام زين العابدين(ع) ((أحبّونا حبّ الإسلام)). لا تحبّونا حبّاً ذاتياً بل أحبّونا على أساس ما نمثّل من إمامة الإسلام وخطّه فهذا الحبّ هو الذي يربطكم بالإسلام الذي قد نرحل ذات يوم ويبقى.

لذلك فإنّ الإمام جعفر الصادق(ع) كان قد لاحظ أنّ هؤلاء قد يفهمون التشيّع نبضة قلب وخفقة إحساس ومحبّة ساذجة، فأراد أن يبيّن لهم أنّ التشيّع الذي يمثل الانتماء إلى أهل البيت(ع) لابدّ فيه من أن يكون انتماءً إلى منهج الإسلام في أخلاقيته، ولابدّ أن يكون منفتحاً على واقع المجتمع بحيث يكون الإنسان المنتمي إلى خطّ أهل البيت(ع) إنساناً يعيش إنسانيته في إنسانية الآخر، ولا يكون منغلقاً على الآخر، ولا يكون الإنسان الانعزالي أو الأناني أو الذي ينفتح على الناس من خلال مطامعه أو شهواته.

استمعوا إليه(ع) يقول: ((اعلموا أنّه ليس منّا)) وهذا يعني أن الشخص الذي يريد أن يصفه الإمام(ع) لا ينتمي لمدرستهم، لأنّ الانتماء إليهم ليس انتماءً لأشخاص ولكنه انتماءٌ إلى الإسلام وإلى المنهج الذي طرحناه للناس ((من لم يملك نفسه عند غضبه)) فالإنفعاليون الذين إذا غضبوا ابتعدوا عن خط الاستقامة في الحق وعن خط العدالة مع الناس، ليسوا من مدرسة أهل البيت(ع) في شيء لأنّ الخط الإسلامي هو }وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{([263]). وهذا هو خط التقوى.

فليس منهم من لم يملك نفسه عند غضبه، سواء كان غضبه في البيت مع زوجته وأولاده، أو كان غضبه في المجتمع وساحات الصراع، أو كان غضبه في عمله، أو في المواقع السياسية أو غيرها، فإذا كنت في خط أهل البيت(ع) فلابدّ أن يكون صدرك واسعاً سعة الحياة كلّها بحيث يمتص كلّ حالات الانفعال، ولابدّ أن يكون عقلك موضوعياً يبقى في دراسة الأمور بشكل هادئ عاقل طبيعي جداً، وإلاّ فان الغاضب الانفعالي الذي لا يضبط نفسه ولا يملك زمامها عند الغضب يخرج عن التشيع.

الانتماء صحبة حسنة:

((ومن لم يحسن صحبة من صحبه)) فإذا صحبت إنساناً في سفر أو في حظر فإنّ للصاحب عليك حقاً، فعليك أن تحسن صحبته بان ترعاه إذا كان بحاجة إلى الرعاية، وأن تكشف غمّه وهمّه وكربه إذا كان بحاجة إلى ذلك، وأن تساعده في صحبتك له، ونحن نروي عن علي(ع) أنه سار ذات يوم مع يهودي في طريق ووصلا إلى مفترق الطرق واليهودي يعرف أن طريق علي(ع) في السير يختلف عن طريقه منذ البداية، وحانت منه التفاتة فإذا بعليّ يسير في الطريق التي يسير فيها اليهودي، فوقف اليهودي وقال لعلي(ع): يا أبا الحسن إن طريقك من هنا، فقال(ع): صحيح ما تقول ولكن رسول اللّه(ص) علّمنا أننا إذا صحبنا شخصاً في الطريق كان له علينا حقّ الصحبة فلابدّ لنا أن نشيّعه خطوات في اتجاهه تدليلاً على احترامنا لهذه الصحبة، فقال اليهودي: هل هذا هو كلام رسولكم؟! فقال علي(ع): بلى، فقال: مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه.

ولنا أن نسأل لو أنّ الإمام علي(ع) جلس مع هذا اليهودي من الصباح حتى المساء ليقنعه بالإسلام بطرح الأفكار المجرّدة فقد يقتنع وقد لا يقتنع، ولكنّ هذه اللفتة الأخلاقية الرائعة اقتحمت إنسانية هذا اليهودي فكانت بمثابة الصدمة التي هزّت مشاعره كلّها وفتحت الإسلام أمامه.

الانتماء أخلاق:

((ومخالقة من خالقه)) أي عندما يكون الآخرون متخلّقين بأخلاق الإسلام فعليك أن تمارس أخلاقية الإسلام معهم ((عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به)). لتكن الإنسان الذي يكون ردّ فعله إزاء أخلاقية الناس معه هو أن يقدّم لهم أخلاقية مماثلة أو أحسن منها، وهذا مما ينبغي للإنسان المؤمن أن يسير عليه لأنّ خط الإسلام الأخلاقي هو هذا، فيما نرى أنّ بعض الناس يعتقدون أنّ من واجب الآخرين أن يتصرفوا معهم بأخلاق عالية، وليس من واجبهم أن يتصرفوا مع الآخرين بأخلاق عالية لأنّهم أعظم وأكبر قدرا كما يتصورون، وكما يقول بعضهم إنّ على الناس أن يحترموني وليس عليّ أن احترمهم، وهذا يدلّ على التكبّر الذي يعني أن الإنسان يعاني من عقدة نقص يحاول التنفيس عنها بتكبّره.

وانقل لكم في هذا المجال حديثاً للإمام الباقر(ع) حتى تعرفوا كيف أنّ الأئمة(ع) كانوا ينفذون إلى عمق النفس الإنسانية ليحلّلوها ويقدموا لنا دراسة عنها ((ما من امرئ يتيه)). أي يمشي بخيلاء وتكبّر وغرور ((إلاّ لذلّة يجدها في نفسه))([264]) فهو ذو عقدة نقص يحاول تغطيتها باستعراض عضلاته.

الانتماء مرافقة وجوار:

((ومرافقة من رافقه)) فإن عليك أن تحسن مرافقة من ترافقه فلا تسيء إليه ولا تعنف معه، بل تنفتح عليه بكلّ إنسانيتك حتى ينفتح عليك بكلّ إنسانيته. ((ومجاورة من جاوره)) بأن تكون ممن يحسن الجوار مع جارك، وقد ورد عن رسول اللّه(ص) ((ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيوّرثه))([265]). وجاء في وصية علي(ع) ((مازال رسول اللّه(ص) يوصينا بالجار حتى ظنّنا أنّه سيورّثه)).

وقد ورد عن النبي(ص) ((ليس منّا من لم يأمن جاره بوائقة))([266]). والبوائق الأذى والإساءة، فالجار الذي يعاني جيرانه من عنته وبذاءته أو سوء خلقه ليس من رسول اللّه والإسلام في شيء.

((وممالحة من مالحه)) وقد تعني الممالحة: الطعام باعتبار أنّ الملح كناية عن الزاد، فإذا أطعمك أطعمه، وقد تكون الممالحة كناية عن الممازحة والدعابة بأن تسرّه كما يسرّك، وأن تكون هشّاً معه كما تريد أن يكون هشّاً معك.

((يا شيعة آل محمد اتقوا اللّه ما استطعتم)) فإنّ التشيع لابدّ أن يتحرك من عمق خط التقوى، و((التقوى هي أن لا يراك اللّه حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك)).

((ولا حول ولا قوة إلا بالله))([267]).

الانتماء مسؤولية اجتماعية:

وهناك كلمة لرسول اللّه(ص) كررناها كثيراً ونكرّرها من أجل أن نعمّقها في نفوسنا وأن نكون الأمّة التي لا تحصر نفسها في دائرة ضيقة من أطر العائلية والحزبية والطبقية والقومية والإقليمية، فأن أكون منفتحاً على المسلمين كلّهم لابد أن أتابع قضاياهم كلّها سواء فيما يواجهون من مشاكل أو فيما يحصلون عليه من انتصارات، وذلك بان تتفاعل مع المسلمين جميعاً، وأن يكون همّهم همّك ولا تحصر نفسك في دائرة ضيقة، حتى ولو كانت إسلامية، بحيث تكون كلّ شيء عندك، بل تذكر أنّ الإسلام أراد للدوائر الإنسانية أن تكون منفتحة على بعضها البعض، فدائرة العائلة تنفتح على المحلّة، ودائرة المحلّة تنفتح على المدينة، ودائرة المدينة تنفتح على الوطن، ودائرة الوطن تنفتح على الأمّة كلّها، والأمّة تنفتح على الإنسان كلّه، وهذا ما نفهمه من كلام اللّه المجيد الذي لم يلغ خصوصياتنا ولكنه أراد لهذه الخصوصيات أن تنفتح على الخطّ العام }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{([268]). حتى ينفتح كلّ شعب على الشعب الآخر في تجاربه وخبراته وحاجاته وموارده ومصادره حتى يكون التعارف على أساس أنّ كلّ شعب يمنح الشعب الآخر بعض خصوصياته ويأخذ منه بعض خصوصياته.

ولذلك فليس في الإسلام مناطق مغلقة بأن تعيش في دائرة قطرك ولا شغل لك بالأقطار الأخرى، أو أن تعيش في داخل قوميتك ولا شغل لك بالقوميات الأخرى، أو في داخل أمتك ولا شغل لك بالأمم الأخرى، فالعالم يعيش نوعاً من التداخل والتشابك في مصالحه لاسيما في هذا العصر، فلابدّ للإنسان أن يعيش هذا الانفتاح، ولعلّ من أعظم الذين ركّزوا هذه القاعدة هو علي(ع) في عهده إلى مالك الأشتر عندما يقول ((فإنّ الناس صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق))([269]). أي انفتح على الناس كلّهم.

يقول رسول اللّه(ص) ((من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم)) فهذا الحديث يريد أن ينفي المسألة الطائفية والمذهبية والإقليمية والقومية التي جعلت كلّ فريق ينغلق على الفريق الآخر، فالآن المسلمون يعانون اشدّ المعاناة في فلسطين في مواجهة الصهيونية، وبعض العرب يقولون ما دخلنا نحن فلنا مشاكلنا المحلية أو الإقليمية أو الدولية، وقد يقول البعض إن الفلسطينيين سنّة ونحن شيعة، كما كان يقال – أثناء الحرب العراقية الإيرانية - عن العراقيين أنهم سنّة وأن الإيرانيين شيعة، وما إلى ذلك من اللغة المتداولة في عالم العصبيات المذهبية والطائفية والعرقية.

فقد تصلّي وتصوم ولكن لا تتحرك نبضات قلبك لما يحصل للمسلمين هنا وهناك، لأنّ الأمة الإسلامية واحدة، ولانّ  ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر))([270]). وهذا يعني أن صلاتك وصومك لم تنطلق بك إلى الآفاق الأرحب لتعيش هموم المسلمين وقضاياهم من خلال هذه الصلاة وهذا الصوم.

((ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين)) يستغيث بهم ليعينوه ويساعدوه وأن يقفوا معه ((فلم يجبه فليس بمسلم))([271]) وهذا يعني أنّ على المسلم أن يتفاعل مع الواقع الإسلاميّ كلّه في آلامه كلّها ومشاكله كلّها، حتى ليمكننا أن نأخذ من هذه القاعدة النبوية أنّ على المسلم أن يكون له الوعي السياسي لقضايا المسلمين كلّها، فإنّ عليك أن تتابع الإذاعات والتلفازات والصحف لتراقب واقع المسلمين في العالم، ليكون لك من خلال وعي قضاياهم موقف المشاركة في حلّ مشاكلهم.

وسنواصل الحديث في هذا المجال في الأسبوع القادم إن شاء اللّه، والحمد للّه رب العالمين.


 

 

المحاضرة الخامسة 26 صفر 1422 ه‍ - 19 أيار 2001م

 

 

 

المفهوم الأصيل للإيمان

 

 

 

* الإيمان ليس مجرد كلمة طائرة في الهواء، وليس مجرد ممارسات لا روح فيها ـ ولكنه كلمة وعقيدة وموقف وسلوك*

 

 

 

تتمة البحث.

الإسلام باللسان.

إحصاء العثرات.

خيانة الأمانة.

الغش.

التقتير على العيال.

الجار الجائع.

الإضرار بالآخرين.

الدعوة إلى العصبية.

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

تتمة البحث:

كنا نتحدث حول ما إذا كان الانتماء إلى الإسلام يمثل النطق بالشهادتين وممارسة العبادات، أو أنّه أعمق من ذلك بحيث ينفتح على أصالة الإنسان في فهمه لنفسه ولخطّه ولعمله، وفي علاقته بالآخرين، وفي اهتمامه بالواقع الإسلامي كلّه وبالمسلمين جميعاً. وهذا ما تحدثنا عن جانب منه في أحاديث النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) الذين يمثلون رسول الله في كلّ ما حدّثوا به وساروا عليه، ولذلك فإننا نحاول أن نستكمل هذا الحديث بملاحقة الكلمات النورانية التي جاءت عن رسول الله(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع).

الإسلام باللسان:

ففي الحديث عن الإمام الباقر(ع): «قال، قال رسول الله(ص): يا معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه). فلقد كان يخاطب الناس الذين كان الإسلام عندهم كلمة ولم يكن فكراً وعقلاً وعمقاً في الوعي «لا تتبعوا عثرات المسلمين فإنّه من تتبع عثرات المسلمين تتبع الله عثرته ومن تتبع الله عثرته يفضحه»(1)، إنّه يريد أن يقول إنّ من يتتبع عثرات المسلمين بحيث يحصي عليهم أخطاءهم وزلاّتهم وعيوبهم ليلاحقهم بها وليوبّخهم وليعيّرهم وليبتزّهم بذلك، فهو لا يمثل الإنسان المسلم الذي يعيش معنى الإسلام في عقله وفي قلبه، ولذلك خاطبهم بالقول «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه» فكأنّه يقول لهم إنّني أحذّركم مما أنتم فيه من تتبّع عثرات المسلمين فإنّ الله سبحانه وتعالى قد يجازيكم بمثل ما فعلتم تجاه المؤمنين في الدنيا قبل الآخرة، فإذا أردتم من تتبع عثرات المؤمنين أن تفضحوهم فإنّ الله يعلم السرّ وأخفى، وهو المهيمن على كلّ شيء، سوف يفتح النافذة للناس على عثراتكم ليفضحكم بها، وهو القادر على ذلك كلّه.

ولعلّ النبي(ص) عندما تحدث بهذا الحديث في زمنه كان يشير إلى ظاهرة بدأت تفرض نفسها على الواقع الإسلامي مما كان فيه بعض المسلمين يعيشون بعض أخلاق الجاهلية، وهؤلاء الذين سمّاهم القرآن بالمسلمين ولم يسمّهم بالمؤمنين {قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي دخلنا في الإسلام سلماً لنحصل على امتيازات الإسلام وعلى مكاسبه، ولنتفادى كلّ ما قد يحصل لغير المسلم في مسائل الحرب والسلم {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(الحجرات/14).

وأظنّ أنّ هذه الظاهرة منتشرة بين المؤمنين من المذاهب كلّها، فالمسلمون الذي لا يعيشون الإيمان مسؤولية في عقولهم وفي سلوكهم فإنهم يعيشون مثل هذه الظاهرة، ولذلك أصبحنا في عصر لا يأمن فيه الإنسان في المجتمع المسلم على نفسه ممن يتجسسون عليه لحساب عقدهم النفسية أو لحساب فضولهم الشخصي، أو لحساب مصالحهم الخاصّة في ابتزاز هذا وذاك، فهم لا يتجسسون لصالح جهاز مخابرات هنا وجهاز آخر هناك، ولذلك فإنّ النبي(ص) يحذّر من أمثال هؤلاء سواء ممن كانوا في الماضي أو في الحاضر أو ممن يعيشون في المستقبل.

إحصاء العثرات:

وهناك حديث قريب إلى هذا الحديث وهو أخطر منه، أي أنه ينطلق في أجواء الحديث السابق ولكنّ خطورته على الإنسان المسلم أكثر، ففي الحديث عن الإمامين الباقر والصادق(ع) قالا: أقرب ما يكون العبد إلى الكفر» أي أن الفاصل بينه وبين الكفر يتمثّل من خلال أخلاقية الكفر في أخلاقه «أن يؤاخي الرجل على الدين» فقد يصادق إنسان مسلم إنساناً آخر على أساس أنّه مسلم، وذاك يصلي وهذا يصلي «فيحصي عليه عثراته وزلاّته» أي يحاول أن يستغل هذه الصداقة والمؤاخاة التي ينكشف بها الإنسان على صديقه وأخيه في الإيمان بحيث يفشي له أسراره ويطلعه على عيوبه وأخطائه وعثراته، أو أنّ وحدة الحال بينهما تجعله يطّلع على ما يستره الإنسان عادة على الناس «ليعنّفه بها يوماً ما». فإذا جاء الوقت الذي تنفصم فيه عرى هذه العلاقة فإنّه يحاول أن يعنّفه ويعيّره ويفضحه بها. فلماذا كانت هذه الصفة أقرب إلى الكفر؟

لأنّ الإيمان يجعلك أخاً للمؤمن {[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات/10). والأخوّة بحسب طبيعتها عندما تكون في النسب وتمتد إلى الإيمان فإنّها تمثّل علاقة عميقة بين الشخصين بحيث تكون كرامة هذا الأخ كرامته، ويكون شأنه شأنه، وهذا ما ورد عندنا في أكثر من حديث ربط بين الإيمان وبين انفتاح الإنسان على أخيه كما في الحديث النبوي الشريف «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه ويكره ما يكره لها»([272]). ومن الطبيعي أن تحب من أخيك أن يحفظ سرّك، وأن يستر عيوبك، وأن لا يفضحك ولا يعيّرك أو يعنّفك بما يطلّع عليه من حالك، وطالما أنك تكره لنفسك أن يعاملك بهذا، فعليك أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لها.

وفي العلاقة بين المؤمن والمؤمن نقرأ الحديث النبوي الشريف الآخر الذي يقول: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى»([273]). ولذلك فإنّ الإنسان الذي يعامل أخاه بروح عدوانية هو إنسان لا يعيش معنى الإيمان في علاقته به، لأنّ المفروض أن يعيش المؤمن مع أخيه بروح رحمانية تنفتح في لقائهما على أساس العلاقة بالله، لأنّ علاقة الأخوّة في الإيمان أعمق من علاقة الأخوّة في النسب، لأنّ علاقة الأخوّة في النسب هي علاقة ترتبط بوحدة الدم، بينما علاقة الأخوّة في الإيمان فترتبط بالله سبحانه وتعالى ورسوله(ص) وبكلّ هذه السلسلة المباركة من أولياء الله. ولذلك فإنّ انتماءك للإسلام يفرض عليك أن تعيش مسؤوليتك تجاه أخيك المؤمن في أن تحفظه وتصونه وتستر عليه ما تعرف من زلاّته، وأن لا تكون مشاعرك معه على أساس أن تتّبع عثراته لتعنّفه بها يوماً ما، فهذا ممّا يدخل في عمق الانتماء الإسلامي.

خيانة الأمانة:

وهناك أيضاً حديث عن الإمام الصادق(ع) قال، قال رسول الله(ص) «ليس منّا من أخلف بالأمانة»([274]). وفي حديث آخر أيضاً «ليس منّا من يحقّر الأمانة حتى يستهلكها إذا استودعها»([275]) وهو ذاك الذي لا يحترم الأمانة إذا أودعت عنه بحيث يستهلكها ويتلفها ويضيّعها.

وفي حديث آخر «ليس منّا من خان مسلماً في أهله وماله»([276]). فهذه ثلاثة أحاديث تسير كلّها في اتجاه واحد. وهناك حديث رابع مشهور أيضاً «لا دين لمن لا أمانة له وإن صام وصلّى»([277]). وهذا أمر تفرضه طبيعة الالتزام بالخط الإسلامي لأنّ مسألة الأمانة هي مسألة تتصل أولاً بالقيمة الإنسانية في احترامك لنفسك، وبالقيمة الاجتماعية الروحية في احترامك للآخرين ولا سيما للمجتمع المسلم من حولك، أمّا القيمة الإنسانية في احترامك لنفسك فلأنّ الإنسان إذا قبل الأمانة والتزم بها فإنّ معنى ذلك أنّه يعطي كلمته وعهده والتزامه بأنّه سيحفظها.

فالإنسان الذي يعيش احترام إنسانيته هو الذي يعيش احترام كلمته، لأنّ الإنسان هو كلمة، بمعنى أنّ الكلمة موقف وليس مجرد لقلقة لسان، فكلمتك تعني أنّك جعلت كيانك كلّه ونبضات مشاعرك وأحاسيسك في قلب هذه الكلمة التي أعطيتها، فكلمتك هي أنت فإذا أهدرت كلمتك فكأنّك أهدرت إنسانيتك وذاتك، أي أنك لم تحترم نفسك. أمّا ما تمثله الأمانة من القيمة الاجتماعية، فلأنّك عندما تتحسس وجودك كجزء من المجتمع ترى أنّ كلّ واحد منّا هو فرد في حياته الخاصّة أي في أكله وشربه وملذاته ونومه ويقظته، ولذلك فهذه هي مظاهر فرديتك، ولكنّك جزء من عائلة وجزء من محلّة وجزء من وطن وجزء من أمّة، فكونك من قلب هذا المجتمع، حيث ولدت من الخلية الاجتماعية الأولى التي هي أبوك وأمك، ثم تحركت في الخلية الثانية وهم إخوانك وأخواتك، ثم انفتحت على الخلية الثالثة وهي زوجتك وأولادك، ثم انتقلت إلى المجتمع من خلية صغرى إلى خلية كبرى، فأنت جزء من المجتمع كما أنّ يدك جزء من جسدك، وإذا كنت جزءاً من المجتمع فمن الطبيعي أن يتحمّل الجزء مسؤولية الكلّ فيحفظ الكلّ بقدر ما يتصل الأمر بالطاقة التي يملكها الجزء، ولعلّ من الطريف أن بعض الأحاديث تقول إنّ «اللسان يشرف في كلّ يوم على بقية الأعضاء ويقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: نحن بخير ما تركتنا». أي وفّر علينا ما يقطع رجلاً أو يداً أو يجرّ مصيبة.

وكذلك اليد إذا سرقت فإنّها قد تودع الجسد كلّه في السجن، فأنت من خلال كونك جزءاً من المجتمع عندما تلتزم، ولو بلحاظ بعض أفراده، بأن تفي بما ائتمنك عليه من مال أو أهل أو إدارة أو سرّ، فلا بدّ أن تحفظ هذا المجتمع في بعض أفراده أو في كلّ أفراده خصوصاً إذا كانت الأمانة أمانة الأمّة كلّها، لأنّ الخيانة هنا قد تؤدي إلى الكثير من العقوبات والسلبيات في حياة الأفراد في المجتمع، لذلك كانت الخيانة من الأمور التي حذّرت كلّ الديانات منها، وقد ورد في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(الأنفال/27). {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}(النساء/58)؟ وهي إن كانت في ظهورها الأوليّ تتصل بأمانة المال ولكنها تتسع لتشمل كلّ مسؤوليات الإنسان، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(الأحزاب/72). وفسّرت كلمة الأمانة هنا بالمسؤولية، فكأنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يبيّن ـ ولو على نحو الكناية ـ ثقل المسؤولية من خلال عرضها على هذه الكائنات الضخمة التي رفضتها قاطبة وقبلها الإنسان.

فليس من الإسلام والمسلمين من خان أمانة الله الذي اؤتمن عليه، وأمانة الأهل والعرض والإدارة والمسؤولية في القضايا الاجتماعية، وأمانة السياسة والحكم، فكلّ من خان الأمانة فيما أؤتمن عليه فليس من المسلمين بالمعنى القيمي العميق للإسلام.

الغش:

وفي الحديث أيضاً «ليس منّا من غشّ مسلماً». وهو الغش بالمال، كمن يحاول أن يخلط الجيد بالرديء ويبيعه على أساس أنه جيد، أو يغش على أساس أنّ ما يقدّمه إليهم من صناعة بلاد معينة وهو من صناعة محلّية بحيث يضع علامة البلد الذي يدّعي أنّه هو الذي صنّع تلك البضاعة، وما إلى ذلك مما يتعامل به الناس.

أو يغشّ الناس في رأيه، فقد يطلب منه صاحبه النصيحة فيغشّه، وقد ورد في الحديث «من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله رأيه»([278]). وتمتد المسألة إلى الغش في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث لا يكون هذا الإنسان ناصحاً للمجتمع.

وقد ورد في الحديث عن النبي(ص) قال «الدين النصيحة، قيل لمن؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين». وفي بعض الأحاديث «وللمسلمين»([279]).

وفي الجانب الأخلاقي الاجتماعي في اختلاف العلاقة بين الجيل القديم والجيل الجديد وعلاقة هذا بذاك، ورد عن النبي(ص) أنّه قال: «ليس منّا من لم يبجّل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا»([280]). فالشخص الذي يحترم الكبير من خلال سنّه وتجربته ومعرفته، ويرحم الصغير بحيث يقدّر قلّة تجربته وصغر عقله وظروفه النفسية، ويعرف علم العالم هو إنسان مسلم يستحق معنى الانتماء للإسلام، فهذه من العناصر الإنسانية التي تستدعي احترام الكبير في ضعفه وفي تجربته التي خاضها في سنيّ حياته الطويلة.

وعلى الكبير أن لا يعامل الصغير كما يعامل الكبار ولا يحمّله المسؤولية كما يحمّلها الكبار بل يدرس تركيبة ذهنية ومستوى عقله وحاجته إلى الرحمة والحنان والعطف، ولا بدّ للكبار دائماً أن يتذكّروا كيف كانوا صغاراً، وكيف كانوا يعيشون المشاعر المؤلمة عندما كان آباؤهم يعاملونهم بقسوة ولا يرحمونهم ليتعاملوا مع أولادهم على هذا الأساس.

وقد ورد عن النبي(ص) «من كان عنده صبيّ فليتصاب له»([281]).  أي لا بدّ أن تتقمّص شخصية الطفل فتخاطبه كما لو كنت طفلاً يخاطب طفلاً، وتلعب معه كما يلعب الطفل مع الطفل، وتدرس حاجاته النفسية تماماً كما هو الطفل عندما يتحرّك مع حاجات زميله الطفل الآخر، لكن مشكلة بعض الآباء أنّه يريد لطفله أن لا يلعب ولا يتكلم ويعتبر ذلك من الآداب، وربما إذا لعب ضربه أو عنّفه، ولهذا فقد ينشأ بعض الأطفال معقّدين لأنّ الآباء لم يسمحوا لهم بأن حققوا حاجاتهم إلى اللهو واللعب لأنّهم كبتوا مشاعرهم وحاجاتهم الطبيعية نتيجة القسوة البيتية، فاللعب هو جزء من غذاء الطفل، ونحن نعامل الأطفال كما لو كانوا كباراً، وقد نقل أحد المفكرين هذه الحالة وهو يتكلّم على لسان طفل حين يقول: مشكلتنا مع الكبار أنّهم يحملّوننا مسؤولياتهم ولا يعطوننا امتيازاتهم!!

التقتير على العيال:

وهناك حديث آخر يتصل بمسؤولية الإنسان عن عائلته، وهذا هو نموذج للإنسان الذي يرزقه الله مالاً ولكنّه يقتّر على عياله، في حين أن عيالك هم أمانة الله عندك على أن تُهيّأ لهم الحياة الكريمة في حاجاتهم الطبيعية والنفسية والتربوية الكمالية في مرحلة إعالتك لهم وذلك عندما لا يكونون قادرين على الاستقلال بأنفسهم في رعاية أمورهم، فعليك أن تفهم أنّ الله عندما يرزقك فإنّ الرزق ليس فقط من أجل سواد عيونك، ولكنّ الله ينـزّل المعونة بقدر المؤونة. فكما أنّ بعض الدول تقدم مساعدات اجتماعية للأب بمقدار وللأم بمقدار وللطفل بمقدار، فالله عندما تتزوج ويكون لك أولاد يفرض لك ولزوجتك ولأولادك مالاً يغطي حاجاتكم جميعاً، فعندما تبخل على زوجتك وأولادك بما رزقك الله من مال فأنت تسرقهم مما رزقهم الله على يديك، وهذا ما يجب أن يفهمه أرباب الأسر والعوائل، فعندما يكون لديك مال وتلعب به قماراً أو تذكّر أن المال هو من الله حتى تعيل به نفسك وعيالك فليس لك حقّ التصرّف المطلب به أو تبذيره على ملذاتك الذاتية، ولذا يقول تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}(الإسراء/31). فالرزق الذي ينـزله الله هو للأسرة بالمعنى القانوني ولكنها حصّة من منطلق المسؤولية والرعاية الاجتماعية باعتبار أن الله حمّلك مسؤولية إعالتهم.

فالنبي(ص) يقول: «ليس منّا من وُسّع عليه ثم قتّر على عياله». وفي الاتجاه نفسه يقول(ص)  وهو موجّه لكلّ الذي يضيّقون على عيالهم بحيث يصرفون أموالهم في الخمر والقمار واللهو والعبث فيما عيالهم يتضوّرون جوعاً «ملعون ملعون من ضيّع من يعول»([282]). واللعنة حينما تأتي من رسول الله(ص) فهي عن الله لأنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم3-4).

الجار الجائع:

وهناك أيضاً حديث يتحرّك في جوّ التكافل الاجتماعي، فعن الإمام الباقر(ع) قال: قال رسول الله(ص) «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع، وما آمن أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة»([283]). فإذا كان هناك تكافل اجتماعي فإنّ أهل المحلّة والقرية يتعاونون فيما بينهم حتى لا يبقى جائع فيهم، وإذا لم يتمكن الفرد من إعالة الجائع فإن بإمكان القرية أن تعيله وتطعمه.

الإضرار بالآخرين:

وفي حديث آخر «ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه». بأن يتصرّف معه بما يضرّه في ماله أو نفسه أو في عرضه أو في جاهه «أو ماكره»([284]). ومعنى المكر هو أن يخطط الخطط التي تؤدي إلى نتائج سلبية في حياة الإنسان الذي يمكر به.

الدعوة إلى عصبية:

وفي الحديث عن النبي(ص) «ليس منّا من دعا إلى عصبية»([285]) وما أكثر العصبيات عندنا... فنحن مجتمع العصبيات: العصبية الشخصية، والعصبية الحزبية، والعصبية الطائفية والمذهبية والقومية والاجتماعية، وفي كلّ يوم نستحدث عصبية جديدة.

فلا بدّ للمسلم أن لا يتعصّب، وقد ذكرنا أكثر من مرة أنّ هناك فرقاً بين الالتزام وبين التعصّب، فمن حقّ الإنسان أن يلتزم ما يؤمن به، أو يلتزم بمن يؤمن به، ولكن عليه أن لا يتعصّب لهذا وذاك لأنّ العصبية تجعل الإنسان لا يمارس إنسانيته ضد الآخر الذي يتعصّب عليه ويغلق عنه عقله وقلبه وحياته.

وقد ورد في الحديث «إنّ العصبية في النار»([286]) وورد أيضاً «من تعصّب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه»([287]). فالإيمان هو قيد يقيّد الإنسان بما يراد له أن يلتزم به من المسؤوليات، أمّا المتعصّب فهو الشخص الذي لا إيمان له.

الوقيعة بين الزوجين:

وجاء عن النبي(ص) «ليس منّا من خبّب امرأة على زوجها»([288]) أي حاول أن يوغر صدرها على زوجها بحيث يحدّثها عن الأشياء التي تبغّض إليها زوجها وتفرقها عنه مما قد يؤدي إلى فسخ العلاقة بينهما.

وفي إطار تعامل الإنسان مع الدنيا والآخرة، ورد عن الإمام الصادق(ع) «ليس منّا من لا يرى دنياه لآخرته» أي من لا يخطط من خلال دنياه ليحصل على آخرته {}.

«ولا آخرته لدنياه»([289]) فعلى الإنسان عندما يفكّر في قيم الآخرة أن يحرّكها فيما يجمعها على طلب الحصول على رضوان الله ليجعل دنياه تتحرك في هذا الاتجاه.

أيّها الأحبّة: هذه بعض الأحاديث التي تخاطب في الإنسان المسلم إسلامه وإيمانه لتؤكد له بأنّ الإيمان ليس مجرد كلمة طائرة في الهواء، وليس مجرد ممارسات لا روح فيها، ولكنّ الإيمان كلمة وعقيدة وموقف وسلوك، فمن لم يجمعه ذلك كلّه فإن عنوان المؤمن سوف لا يصدق أو ينطبق عليه، إن لم تنتف هذه الصفة عنه كلية.

نسأل الله أن يوفّقنا وأن نكون المؤمنين الصادقين في إيماننا وفي مواقفنا وفي علاقاتنا الاجتماعية وفي السير على الخط المستقيم في الدنيا والآخرة.

والحمد لله ربّ العالمين.


 

 

المحاضرة السادسة 3 ربيع الأول 1422 ه‍ - 26 أيار 2001م

 

 

 

من هم المؤمنون؟

 

 

 

* المضمون لا الشكل هو الذي يحوّل الذات المؤمنة إلى تجسيد حيّ للإيمان*

 

 

 

تعظيم الله.

التوحيد في الحب.

الإيمان والتوكّل.

الإيمان والصلاة.

الإيمان والإنفاق.

الإيمان والصدق.

الإيمان والعلاقة بالآخرين.

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

لا نزال مع المفهوم الأصيل للإيمان الذي يؤكّد على أن الإيمان ليس كلمة ولا مجرد شكل، ولكنه المضمون الذي يحوّل الذات المؤمنة إلى تجسيد حي للإيمان، بحيث إنك تتمثل الإيمان عندما ترصدها وتعيش معها... فالمضمون، لا الشكل فقط، هو الأساس. وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك في الأحاديث الواردة عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع).

تعظيم الله:

وفي السير نحو هذا المضمون الأصيل للإيمان في شخصية المؤمن مع القرآن الكريم، نرى أن هناك عدة آيات تحصر المؤمن في نموذج خاص، نفهم منه أنّ الذين لا ينطبق عليهم هذا النموذج خارجون عن مصطلح الإيمان في أصالته ونقائه.

يقول الله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ} {إِنَّمَا} تفيد الحصر، أي أن المؤمنين هم هؤلاء لا غيرهم {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}(الأنفال/2). أي هم الذين تجسّدت عظمة هؤلاء في عقولهم وقلوبهم وفي مشاعرهم حتى أضحوا يعيشون حضور الله كما لو كان ماثلاً ـ بكلّ أسرار عظمته ـ أمامهم. ومن الطبيعي أن هذا النوع من الإحساس بحضور الله في مواقع عظمته في النفس لا بدّ أن ينتهي إلى هذه النتيجة، حيث يشعر الإنسان بوجل القلب، وأن عقله يعيش هذه الهيبة وهذا التعظيم لله سبحانه وتعالى، بحيث يخاف أن تنحرف مسؤوليته أمام الله عن الخطّ.

وهذا هو الذي درج القرآن عليه في تربية عظمة الله سبحانه وتعالى في نفس الإنسان المؤمن. فنحن نلاحظ الآيات التي تتحدث عن أسرار عظمة الله في الكون فتدعو الإنسان إلى أن يفكّر {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}(آل عمران/191).

وهكذا يستعرض لنا القرآن نعم الله بحيث يحسّ الإنسان إحساساً مباشراً ـ في حجم اللحظة ـ أن حياته مرتبطة بالله ارتباطاً عضوياً ـ إن صحّ التعبير ـ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}(النحل/53). {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا}(النحل/18). وهو أن تستحضر كلّ شيء يتصل بوجودك لتجد أنّ الله وحده الذي أعطاك إياه وهو الذي يهيمن عليه.

التوحيد في الحب:

ونجد أيضاً أنّ القرآن الكريم يتحرّك ليحدّثك عن الله سبحانه وتعالى في صفاته وأسمائه الحسنى التي تستوحي من كلّ منها هذا النوع من صفات الحمد، فتشعر بأنّ الله وحده في الكون، وما عداه فهو ظلّ له من خلال الجانب المعنوي لا الجانب المادي، حتى أنّ القرآن تحدّث عن الخوف تارة وعن الحبّ أخرى بحيث أنّه وجّه الإنسان إلى أن لا يحبّ أحداً في مستوى الله، فكما تكون موحّداً في العقيدة وفي العبادة وفي الطاعة فإن عليك أن تكون موحّداً في الحبّ أيضاً {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}(البقرة/165). حتى أنّه أراد للإنسان عندما يتوجّه إلى الله أن لا يتوجه لغيره في الكون مهما عظم {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}(الجنّ/18). وحتى أننا في التشهد عندما نذكر رسول الله(ص) نقول: «أشهد أن محمداً عبده ورسوله». لئلا تفرض شخصية رسول الله(ص) في مواقع عظمته نفسها علينا بالنحو الذي يجعلنا نرتفع به إلى ما يقرب من الله، ولذلك فإنّ أيّ نوع من إعطاء المخلوق شيئاً من صفات الخالق بحيث يقترب من الخالق هو أمر على خلاف القرآن.

وكلّ ذلك من أجل أن تتربّى عظمة الله في نفس الإنسان المؤمن، لماذا؟ لأنّ الدين لا يتحرك مع الإنسان من خلال القوة المادية، فهو لا يفرض عليك إيمانك وامتداداته كلّها من خلال قوة تسيطر عليك، بل إنّه يريد لك أن تكون المؤمن بعفويتك وبساطتك وفطرتك وإنسانيتك، وأن يقودك إيمانك في عقلك وقلبك لتتحرك كما هو النبع عندما يجري ويمتدّ في الأرض، لذلك فالإسلام ينطلق من قاعدة واحدة وهي الله سبحانه وتعالى، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}(فصِّلت/30). فالإسلام يتلخّص في قوله تعالى «ربّنا الله». وعليك أن تستقيم عليه، أي أن تكون حياتك كلّها سائرة في خطّ «ربّنا الله» وعندما تفكّر، وعندما تتعاطف، وعندما تمارس حياتك، وعندما تؤيّد وترفض، وعندما توالي وتعاند... فكلّ شيء لا بدّ أن يمرّ عن طريق الله، فلا تفسح المجال لأيّ شخص أن يدخل عقلك ليهيمن عليه، وأن يدخل قلبك ليهيمن عليه، أو ليدخل إلى حياتك ليهيمن عليها إذا لم يدخل عن طريق الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإننا نّدخل الأنبياء(ص) في عقولنا لأنّهم أنبياء الله ورسله، وندخل الأولياء في عقولنا لأنّهم أولياء الله، فليس هناك أحد يمكن أن تنفتح عليه بشكل مستقل أمام الله عزّ وجل، أي ينبغي أن تؤدّي كل الطرق إليه وإلا زاغ الإنسان وضلّ وهوى.

ومن أساليب القرآن أنّه يحدّثنا عن عظمة الله مقارناً بكلّ الذين يراهم الناس مظهراً للعظمة حتى يصغر هؤلاء كلّهم ويبقى الله هو الكبير المتعال، وهذا هو الذي عبّر عنه الإمام علي بن أبي طالب(ع) وفي وصفه للمتقين «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم»([290]) وهو ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في دعاء يوم الفطر والجمعة «كلّ جليل عندك صغير وكلّ شريف في جنب شرفك حقير»([291]).

فالمؤمن المؤمن هو الذي عاش الله في قلبه بحيث إذا ذكر الله تجلّت عظمة الله له فوجل قلبه {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}(الأنفال/2). ارتجفت... خشيت... خافت... اهتزت تماماً كما يهتز القلب أمام أي عظيم، ولقد ذكرنا مراراً أنّ القلب في القرآن يعبّر عن المنطقة الداخلية من العقل والقلب والإحساس والشعور.

{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(الأنفال/2). وهؤلاء الذين انفتحت عقولهم على آيات القرآن التي تتحدث عن الله في وحدانيته وعظمته بحيث إنّ الإنسان المؤمن عندما يقرأ القرآن. أو عندما يستمع إليه. فإنّه يستمع إليه استماع من يريد للقرآن أن يفتح عقله كلّه ليقويّ إيمان عقله ويفتح مسامع قلبه كلّها ليقويّ إيمان قلبه، فهو لا يمرّ على القرآن مرور الكرام ولكنّه يعتبره مدرسة ثقافية للإيمان بحيث يتثقف إيمانياً من خلال القرآن، لأنّ الإنسان عندما ينفتح ثقافياً على المضمون القرآني فإنّه ينفتح على الثقافة التوحيدية التي لا تحريف فيها، ذلك لأنّ القرآن هو كتاب الله {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}(فصِّلت/42). بينما تواجه مشكلة الوضع في الأحاديث، فلا يصحّ الحديث إلا بعد عرضه على كتاب الله فإن وافقه أخذنا به وإن خالفه ضربنا به عرض الجدار.

فكلّما قرأوا القرآن أو استمعوا إليه ازداد إيمانهم {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}(الأنفال/3). لأنّ الصلاة تمثل هذا الأسلوب التعبيري العميق عن الإيمان، ولهذا جعل الإسلام أساساً للإيمان لأنّها هي التي تجعلك، من خلال الحضور بين يدي الله، تستحضر إيمانك كلّه، فلماذا لم يجعل الله الصلاة صلاة واحدة؟ لماذا هذه الصلوات الخمس بالإضافة إلى النوافل والمستحبّات؟ لعلّ السبب في ذلك هو أن الصلاة لا بدّ أن ترافق مفردات الحياة كلّها، بأن ترافق صباحك وظهرك وعصرك ومغربك وعشائك، وإذا أضفت إليها صلاة الليل فإن معنى ذلك أنك تعيش من خلال الصلاة في انسجام روحيّ يجذبك إلى الله عندما يحاول الشيطان أن يجذبك إليه، وهذا يعني أن تعيش صلاتك في يومك كلّه وأن تعيش يومك في صلاة كلّها.

ولقد اختار الله سبحانه وتعالى للمسلمين صلاة فيها كلّ وسائل التعبير عن العبودية لله ـ جلّ شأنه ـ، فالأذان والإقامة يدخلانك في مناخ الصلاة من خلال تكبير الله وتوحيده، وشهادتك بالرسالة ودعوتك نفسك أن تقبل على الصلاة، ثم تبدأ صلاتك بالتكبير وتشرع بالفاتحة وسورة من بعدها لتعيش أجواء القرآن بكلّ القواعد الفكرية الإسلامية التي تشتمل عليها آيات القرآن بحيث تكون الصلاة مدرسة ثقافية تستحضر فيها مفاهيم القرآن، ثم هذا الإسبال في الصلاة الذي هو مظهر من مظاهر التسليم لله، ثم الركوع الذي يمثل حالة من الانحناء والسجود الذي يمثل انحناءة تامة تعبّر عن غاية الخضوع للخالق العظيم، ولذلك جعل الله الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من هذا التسليم التام لله والذكر الكبير له والمفاهيم الإسلامية الأساسية. ولذلك جاء في الحديث «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد عن الله إلا بعداً»([292]). أو الحديث الآخر «الصلاة عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها»([293]).

الإيمان والإنفاق:

ويقول تعالى في وصف المؤمنين {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(الأنفال/3). فالمؤمن هو الذي لا يعيش حالة البخل واليد المغلولة إلى العنق، بل يرى أن الله رزقه المال من أجل أن يلبيّ حاجاته وأن ينفق على عياله وفي مجالات الخير والبرّ الواسعة. وقوله تعالى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} توحي بأنّ الإنسان عندما ينفق فإنّه لا ينفق من ماله وإنّما ينفق من مال الله، وهذا ما عبّر القرآن الكريم بشكل صريح {آَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}(الحديد/7). {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آَتَاكُمْ}(النور/33). ولذلك فإن الإنسان المؤمن هو الذي يعيش روحية العطاء بحسب البرنامج الذي وضعه الله له.

{أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا} فهؤلاء الذين تتمثل فيهم هذه الصفات هم الذين يمكن أن نصفهم بالمؤمنين {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(الأنفال/4).

الإيمان والصدق:

ويحدثنا الله عن أن المؤمنين لا يكذبون وإنّما الذين يكذبون هم غير المؤمنين: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ}(النحل/105). لأن الإنسان المؤمن هو الذي يلتزم بالحقّ لأنّ هو الحقّ، ولذا ورد في بعض الأحاديث «لا يكذب وهو مؤمن». أي عندما يكذب المؤمن فإنه يخرج من معنى الإيمان في نفسه.

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا}(الأنفال/74). فالله يتحدّث عن هذه الفئة من الصحابة الأبرار الذين انطلق بعضهم في خطّ الجهاد، أو الذين آووا المهاجرين ورسول الله(ص) ونصروا الإسلام بكلّ ما يملكون من طاقة {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(الأنفال/74).

الإيمان والعلاقة بالآخرين:

وفي آية أخرى يربط الله سبحانه وتعالى بين صدق الإيمان وبين طبيعة العلاقة مع الذين حادّوا الله ورسوله، أي الذين كفروا بالله وأشركوا به، بأن لا تعيش المودة لهم، وإلاّ فكيف يجتمع رفضك للكفر كلّه مع المودة التي تمثّل عمق الإخلاص والمحبة في قلبك، للذين يكفرون بالله ورسوله ويضادّون الله ورسوله؟، فالإمام علي(ع) يقول في هذا المجال: «أصدقاؤك ثلاثة: صديقك وصديق صديقك وعدو عدوك، وأعداؤك ثلاثة: عدوك وصديق عدوك وعدوّ صديقك» فإذا كان صديق عدوّ صديقي فكيف بعدو الله؟ وهل هناك صداقة أعظم من صداقتنا لله؟ فكيف نوالي أو نوادّ من عاداه؟ يقول الإمام علي بن الحسين(ع) في دعاء استقبال شهر رمضان: «وأن نسالم من عادانا حاشا من عودي فيك ولك، فإنه العدو الذي لا نواليه والحزب الذي لا نصافيه»([294]).

ويقد يقول قائل إزاء ذلك: هل نبتعد عن إنسانيتنا وعن الانفتاح عمن نختلف معهم في العقيدة؟ هل ننعزل عن الناس وعن المجتمعات غير الإسلامية؟

إنّ الإسلام هنا يتحدث عن الموادّة، أي أن تكون عاطفة قلبك مع هؤلاء، لا عن المعاشرة والمشاركة والمواصلة التي ترتكز عليها المصالح العليا للإسلام والمسلمين، فأن تنفتح على عنصر الإنسانية في الإنسان فلا يعني الموادّة.

الآية تقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ}. يمتنعون عن الموادّة لمن حادّ الله ورسوله. {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} لأنّهم عاشوا هذه الروحية التي ارتفعت إلى المستوى الذي تجعل فيه علاقتها بكلّ الوجود من خلال علاقتها بالله. والإمام الباقر(ع) يقول في ذلك «من كان ولياً لله فهو لنا وليّ ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ}»([295]). وهذه هي المعادلة لأنّ القلب لا يحتمل أن تحبّ الله وتحب الشيطان {مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}(الأحزاب/4). الله وليّ الذين آمنوا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}(البقرة/257) والله يريد لك أن تكون جاداً في إيمانك بحيث يكون الله في نفسك ولا شيء فيها يبعدك عنه.

{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ}. لأنّه اطلع عليهم فرأى صدق الإيمان في قلوبهم {وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ}(المجادلة/22). أي الذي يتحزّبون عقلياً وشعورياً وعملياً فلا يتحزّبون لغيره، بل حتى أعضاء الأحزاب الإسلامية إنّما يتقرّبون إلى الله من خلال انتمائهم لهذه الأحزاب التي يتخذونها وسائل للوصول إلى مرضاته وتحقيق حكمه وشريعته، ولذلك تتساوى القيادة والقاعدة في هذه الأحزاب من حيث الطاعة لله والامتثال لشريعته، فالحزب الإسلامي ليس شيئاً قبال الله، وطاعته ليس في عرض طاعة الله، وإلا خرج عن كونه وسيلة، فهو تحزّب لله وللإسلام وللرسالة.

فنسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء حتى نحصل على رضوانه فيرضى عنا ونرضى عنه بأن نكون من حزبه كما في دعاء الإمام زين العابدين(ع) في يوم الثلاثاء: «اللّهم اجعلني من جندك فإن جندك هم الغالبون، واجعلني من حزبك فإن حزبك هم المفلحون، واجعلني من أوليائك فإنّ أولياءك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».

والحمد لله ربّ العالمين.

 


 

 

المحاضرة السادسة 11 ربيع الأول 1422 ه‍ - 2 حزيران 2001م

 

 

 

عناصر الإيمان في شخصية المؤمن

 

 

 

* أن تكون مؤمناً... أن تلتزم الإسلام كلّه... لا أن تأخذ جانباً وتترك جانباً آخر*

 

 

 

الالتزام بأوامر القيادة الشرعية.

الصبر على الأذى.

المنافقون كطابور خامس.

الإيمان التزام كلّه.

طاعة الرسول(ص).

الاحتكام إلى الرسول(ص) في المنازعات.

الإيمان والحرية.

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ونبقى مع كتاب الله نستنطقه ونستلهمه ونستوحيه في العناصر التي تمثل الشخصية الحقيقية للإنسان المؤمن، لأننا ذكرنا أنّ هناك عناصر أساسية لا بدّ للمؤمن أن يتصف بها ليمكن أن تصدق عليه هذه الصفة وإلاّ فإنها تنتفي، وهذا ما أكده القرآن الكريم كما أكّدته السنّة.

الالتزام بأوامر القيادة الشرعية:

ونقرأ قوله تعالى مخاطباً النبي(ص) حول علاقة المسلمين بقيادتهم في أي أمر من الأمور العامّة، حيث تكون هناك قيادة إسلامية شرعية في مستوى النبي أو الإمام، أو في مستويات قيادية أخرى كالعلماء مثلاً، فهل يملك المسلمون أن يتصرّفوا بحرية في القضايا العامّة؟ أم لا بدّ لهم أن يستأذنوا القيادة في ذلك حتى يصدق عليهم أنّهم المؤمنون؟

فالخطاب في الآية التالية موجّه إلى النبي(ص) في علاقة المؤمنين به {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ}. وكلمة (إِنَّمَا) دالّة على الحصر في اللغة العربية {الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}. يتصل بالحياة العامّة للمسلمين {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} فقد يحتاج القائد أحدهم في تنفيذ هذا الأمر أو في المشاركة فيه، وعليهم أن يضعوا أنفسهم تحت تصرّفه في تنفيذ هذا الأمر أو في المشاركة فيه، وعليهم أن يضعوا أنفسهم تحت تصرفّه ورهن إشارته، فإذا كانوا معه فعليهم أن ينتظروا أوامره، وإذا كان هناك ما يدفعهم إلى أن يذهبوا فعليهم أن لا يذهبوا إلا بعد الاستئذان {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}، من حربٍ أو سلم أو مهمّة، وما إلى ذلك.

{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ}. أما الذين يذهبون دون أن يستأذنوك، وقد تكون بحاجة إليهم فإنّهم لا يتحركون في خطّ الانقياد للقيادة، ولذلك فإنّهم لا يمثلون شخصية المؤمن الحقيقي، لأنّ الإيمان بالله ورسوله لا يمثل مجرد كلمة أو مبايعة أو التزام شكلي بل يمثل التسليم والانقياد الذي يجعل حركتهم كلّها صدى لما يريده الله ورسوله من حركة.

{فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ}. وهنا يتوجه الأمر إلى النبي(ص)، بصفته القائد الأعلى، أنّ عليه أن يراعي ظروف المسلمين والناس في حاجاتهم وأمورهم الخاصّة فلا يضيّق عليهم بالمطلق، بل يدرس طبيعة القضية التي يستأذنونه فيها ليرى إمكانية الإذن فيها وعدمه. {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ}. فعندما تدرس ظروفهم وترى أنّهم فعلاً في حاجة إلى أن تأذن لهم فأذن لهم {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ}، لأنّ الاستغفار يوحي بالمحبّة وبالرعاية والرضا {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النور/62).

فهذه الآية تؤكد على أنّ صفة الإيمان في معناها العميق في علاقة القاعدة بالقيادة هي أن تضع القاعدة نفسها في تصرّف القيادة، فلا تتحرك بعيداً عنها، حتى في شؤونها الخاصّة، إلاّ بعد استئذان القيادة، لأنّها قد تكون في حاجة إلى هذا أو ذاك.

الصبر على الأذى:

وهناك آية أخرى تتحدث عن هذه المسألة، وعن الذين يقولون: (آَمَنَّا بِاللهِ)، فبعض الناس أنا مؤمن وقد يتحرّك بإيمانه في مواقع التحدي، ولكن كم هي قدرته على الصبر والتحمّل؟ فأن تكون مؤمناً في ساحات الصراع فإن عليك ضريبة أن ينالك الأذى من القوى المضادة، وعندما تطلق كلمة الحقّ فإنّ كلّ الذين يسيرون في خطّ الباطل يندفعون ليشتموك أو ليتهموك أو ليؤذوك في بعض شؤون حياتك. ففي هذه الحالة، كيف يكون شعورك؟ هل تشعر بالقوة؟ هل تصبر؟ هل تصمد؟ هل تحسّ بالرضا النفسي لأنّك تتحمّل الأذى في جنب الله وفي سبيله؟ أو أنّك تشعر بالجزع وبالسقوط وتعتبر أنّ هذه المشكلة إنما نجمت من خلال إيمانك فتتحسس أن إيمانك قد أدّى إلى ضررك وخسارتك فيضعف التزامك بإيمانك بقدر ما يتوجه إليك من الضرر والأذى، كالكثير من الناس الذين إذا أوذوا في الله حمّلوا الله «جميلاً» في ذلك ومنّوا عليه فيه.

والقرآن يعالج هذه المسألة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ}. بحيث يوصل المسألة في مشاعره وأحاسيسه، فيما يلاقي من أذى الناس، إلى ما يعبّر عنه القرآن بالفتنة باعتبار أنّه يهزّ شخصية الإنسان وقد يؤدّي بها إلى السقوط، بحيث يتعاظم شعوره بالأذى الصادر إليه من الناس لقاء إيمانه، تماماً كما هو عذاب جنهم، فيساوي بين العذابين في الجزع لدرجة الامتنان على المسلمين بذلك أو السقوط أمامه.

{وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ}. فإذا ما انتصر المسلمون وجاء الفتح {لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}. ففي حالة الأذى الذي يصيبه من خلال إعلانه الإيمان فإنّه يواجه المسلمين كما لو كانوا هم الذين أوقعوه في ذلك، وكما يعبّر القرآن أنه يجعل فتنة الناس كعذاب الله، أمّا إذا جاء النصر فإنّه يحاول أن يأخذ مكاسبه وثماره من خلال زعمه أنّه كان مع المسلمين {أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ}. أي: ألا يعرف هذا المنافق بأنّ الله مطّلع على ما في داخله، وأنّ إيمانه مجرّد إيمان سطحي ظاهري لم ينفذ إلى أعماق قلبه، والله مطّلع عليه في حال النصر أو في حال الأذى والهزيمة.

{وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ}(العنكبوت/11). فيعلم أنّ هذا النموذج من الناس هو من نماذج المنافقين وليس من نماذج المؤمنين، لأنّ المؤمن إذا أوذي في الله فإنّه يصبر ويصمد ويثبت ويشكر الله على ما لاقاه في سبيله، ولعلّ القمّة في ذلك هي الكلمة الرائدة لرسول الله(ص) حينما لاحقه مشركو الطائف وضربوه بالحجارة حتى دميت رجلاه فاستند إلى حائط وناجى ربّه وكانت كلمته الصادرة من أعماق إيمانه: «إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي»([296]). ومثلها الكلمة الرائدة التي تمثّل سرّ الإمام الحسين(ع) في فرحه الروحي في قلب المأساة عندما تناول بيده دم ولده الرضيع، حيث قال: «هوّن ما نزل به أنّه بعين الله». لأنّ ألمه كان في الله ومن أجل الله، وهذا هو شأن المؤمن عندما يؤذى في الله.

المنافقون كطابور خامس:

وهناك نماذج أخرى من الناس يتحدّث عنها القرآن، فيقول الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ}. وهذا يعبّر ـ كما في المصطلح المعاصر ـ عن الطابور الخامس، وهم المنافقون الذين كانوا يحاولون إعاقة المسيرة وأن يخذّلوا المسلمين أمام الزلزال الذي حدث بفعل الحصار الذي أخذ به المسلمون من قبل الأحزاب {وَالقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}. أي سيروا مع فريقنا ولا تذهبوا مع رسول الله(ص) {وَلَا يَأْتُونَ البَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}(الأحزاب/18). والبأس هنا كناية عن الحرب، فهم ليسوا مستعدين للمشاركة في الحرب {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}، بخلاء، لا يعطونكم ما تحتاجونه {فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ}(الأحزاب/19). أي في ظل الحرب النفسية التي تزرع الخوف في القلوب والتي عبّر عنها القرآن في آية أخرى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا}(الأحزاب/10).

فإذا جاء الخوف {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}. أي شعروا أنكم في موقع الهزيمة فأظهروا ما في نفوسهم ضد المؤمنين والمسلمين فتحدثوا بالكلمات الحادّة التي تمثل الإهانة للمسلمين { أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ}. فهم ليسوا مستعدين أن يعطوا من نفوسهم الخير {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا}. وهذا هو محل الشاهد، فهؤلاء الذين يتحركون في حال الحرب بطريقة التخذيل والتعويق للمسيرة والتكلّم بشكل سلبي ضد المسلمين لا يعطونهم شيئاً مما يحتاجونه، لم يؤمنوا. فالمؤمن هو الذي يعيش مع المؤمنين بكلّ معنى المشاركة في الحرب والسلم، وفي كلّ أوضاعهم وحاجاتهم في ساحة المشاركة في الحرب والسلم، وفي كلّ أوضاعهم وحاجاتهم التي يحتاجونها في ساحة التحديات {فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا}(الأحزاب/19) لأنّهم لم ينطلقوا من قاعدة، فإنما حبطت أعمالهم لأنهم أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان، ومن الطبيعي أنّ الكفر يحبط عمل الإنسان.

الإيمان التزام كلّه:

وهناك نقطة مهمة جداً عالجها القرآن الكريم في أكير من آية وهي أنّك إنما تكون مؤمناً عندما تلتزم الإسلام كلّه، فلا تحاول أن تأخذ من الإسلام جانباً لتترك جانباً آخر، فأن تلتزم الإسلام في مواقع العبادة ولا تلتزم به في مواقع السياسة فإنك عندئذ تتحرك في الخط السياسي على قاعدة غير إسلامية. وأن تتحرك في الخط العباديّ على أساس الإسلام، يعني أن يكون شرع الله هو المرجعية التي ترجع إليها في كلّ ما تختلف فيه من قضاياك مع الناس بحيث لا تتحاكم إلاّ إلى شرع الله، وإلاّ إلى القائمين على شرع الله المؤتمنين عليه. وإذا اختلفت أيضاً مع الآخرين في بعض المفاهيم سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو حياتية بشكل عام فعليك أن ترجع إلى القاعدة الإسلامية التي تحدّد لك هذه المفاهيم وتؤصّلها... أن تلتزم بالإسلام يعني أيضاً أن تفقد ـ بإرادتك ـ حريتك في الانفتاح على التيارات الأخرى انفتاح التلقّي والتأثّر، بل لا بدّ من أن يكون الإسلام كلّ شيء في حياتك... أن تكون مسلماً في نفسك. وفكرك وعاطفتك وحركة طاقاتك... أن تكون مسلماً في حياتك العائلية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفي أوضاعك القضائية، فإذا لم تكن كذلك فلست مؤمناً بما يحمله الإيمان من مضمون.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}(النساء/60). يعلنون الإسلام وأنّهم يؤمنون بالله وبرسوله وبرسالاته، لأنّ الرسالة الإسلامية انطلقت من خلال احتوائها على كلّ الرسالات في عناصرها الأصيلة {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}(البقرة/285) و{مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}(الأنعام/92). ولذلك فإنّ هذه الآية قد جمعت الحديث عن شخصية المؤمنين لأنّهم آمنوا بالله وبما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، فالإسلام يؤمن بالكتاب كلّه، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في الفرق بين أهل الكتاب وبين المسلمين {وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ}(آل عمران/119). بينما هم لا يؤمنون بالكتاب كلّه.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ }(النساء/60). والطاغوت هو كلّ خطّ في حكم أو قضاء أو سياسة تتحرّك على خلاف دين الله، وقد فرّق الله بين المؤمنين والكافرين بالولاية له أو الولاية للطاغوت {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}(البقرة/275). فالطاغوت إذاً هو كلّ شخص أو كلّ كيان أو كلّ خط يواجه الله بما تعنيه ولاية الله من العبادة والدين والشريعة.

{وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}. لأنّه لا يجتمع في قلب إنسان إيمان بالله والإيمان بالطاغوت {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}. أي أن يصدّهم عن الله ويدخلهم في المتاهات التي لا تؤدّي بهم إلى أي موع من مواقع الهدى. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} لأنّكم أعلنتم الإيمان، ومن يعلن الإيمان لا بدّ أن يلتزم به، والالتزام بالإيمان هو التزام بكتاب الله وسنّة نبيه وذلك هو معنى الإيمان.

فإذا قيل لهم تعالوا إلى الله في كتابه وإلى الرسول في سنّته وموقع الولاية له {رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}. يعرضون عنك ولا يقبلون عليك {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}. ويقع البلاء {ثُمَّ جَاءُوكَ}. في وقت الشدة {يَحْلِفُونَ بِاللهِ}. لأنّهم مشوا بحاجتهم إلى النبي(ص) في أن يرضى عنهم ويحضنهم وأن يمنحهم ما يريدون وأن يخرجهم من المصيبة التي هم فيها {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}. أي يدّعون أنّهم ما أرادوا إلا الخير {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}، فلا تحاسبهم، ولا تدخل في جدل معهم، ولكن قبل أن يذهبوا عظهم وذكّرهم وأخرج لهم ما يخفونه في أنفسهم وبصرّهم بأنّ ذلك يؤدّي بهم إلى الهلاك {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}(النساء/60-63). أي حاول أن تعرّفهم أنّك تعلم ما يخفونه في دخيلة أنفسهم من الضلال.

طاعة الرسول(ص):

ثم إنّ الله تبارك وتعالى يعطي القاعدة للمسلمين آنذاك، وللمسلمين في امتداد الزمن {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ}(النساء/64). فإنّ معنى أن تلتزم بالرسول هو أن تطيعه وقد قال في آية أخرى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ}(النساء/80) حتى أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الصدق في حبّ الناس له ـ عندما يدّعون المحبّة ـ هو إطاعة الرسول، وهذا ما جاءت به الآية {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}(آل عمران/31)، والإقبال عليه ليس مجرد شهادة ولا كلمة وإنّما هي عملية اتباع {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}. بالنفاق أو العصيان {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ} فقد فتح الله لهم باب التوبة {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}. عندما يرى منهم صدق الاستغفار {لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(النساء/64).

الاحتكام إلى الرسول(ص) في المنازعات:

كما أنّ الله يركّز الإيمان في صفته العميقة بالالتزام بأحكامه. قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}. فلا يمتلكون الإيمان إلاّ إذا جعلوك الحكم في كلّ ما اختلفوا فيه، وأن يجعلوا الرسول(ص) حكماً هو أن يجعلوا شريعته هي الحكم بحيث تكون هي المرجعية في خلافاتهم كلّها سواء في القضايا الفكرية أو العملية {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ}. فلو كان الحكم ضد ما رأوه فإنهم لا يشعرون بالحرج والمشقّة والرفض النفسي {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء/65). وهذا ما ورد من أن الإسلام هو التسليم وهو ما حكاه الله عن إبراهيم(ع) {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة/131).

الإيمان والحرية:

وتؤكد آية أخرى في (سورة الأحزاب) هذا المعنى حيث تقول للمؤمن: إنّ التزامك بالإيمان يفقدك حريتك في أن تختار أي خطّ أو أي حكم مضاد للإيمان، لأنّك لا يمكن أن تؤمن بالشيء وضده، وليس هذا اضطهاداً لك، وقد يقول البعض من الناس إن هذا يناقض حريّة الإنسان التي أكّدها القرآن الكريم نفسه حيث قال: {وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(الكهف/29). ولكننا نقول: نعم، إنّ الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان حرّ التكفير حيث يمكن أن يلتزم الإيمان أو يلتزم الكفر، ولكن عليه أن يتحمّل مسؤولية نتائج الإيمان هناك ونتائج الكفر هنا. فإذا التزمت الإيمان بإرادتك واختيارك فمن الطبيعي أن تستقيم على الإيمان في هذا المجال. فحريتك تبقى ما دمت غير ملتزم، فإذا التزمت فقد حركّت حريتك من خلال إرادتك في الخطّ الذي اخترته، وهذا مما ينبغي أن يلتفت الناس إليه لأنّهم يحركّون مفهوم الحرية في كلّ مجال، فعندما ينبغي أن يلتفت الناس إليهم لأنّهم يحركّون مفهوم الحرية في كلّ مجال، فعندما تقول أنا مؤمن فإن ذلك يعني أنّك تمارس حريتك في اختيار الخط، واختيارك للخطّ هو عملية لممارسة الحرية، فعندما تمارس حريتك في اتجاه معيّن فلا معنى لأن تنفتح على اتجاه آخر انفتاح الاتباع، إلاّ إذا تراجعت عما اخترته من هذا الفكر أو هذا الاتجاه.

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. فليست لك حرية أمام الله، فأنت حرّ أمام العالم ولكنّك عبد أمام الله وحده وهذا هو معنى التوحيد، فمعنى «لا إله إلاّ الله» أنّك تنفي كلّ الآلهة وتمارس حريتك أمام كلّ من يدّعون الألوهية وتبقى عبداً لله وحده {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}(الأحزاب/36).

ويحدّثنا الله عن بعض هذه النماذج التي تعلن الإيمان ولكنّها لا تلتزم بالتزاماته، {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}. فهم يعربون عن الانسجام في خط الإيمان وفي الالتزام بلوازمه وأحكامه ولكن، {وَمَا أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ}(النور/47). فالإيمان يعني أمرين: أن تقول الكلمة التي تعبّر عن إيمانك، وأن تستقيم في خط سيرك الفكري والعملي في اتجاه هذه الكلمة.

{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}(النور/48). لا يقبلون ذلك {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}(النور/49). فعندما يختلفون يأتي أحدهم ليسأل: لمن الحق؟ فإذا قيل له معك، فيقول: أنا مع الحق ومع الشرع، ولكن إذا عرف أنّ الحكم سوف يأتي لن يكون في صالحه فإنّه يتمرّد ويطالب بأحكام أخرى غير حكم الشرع والقرآن يتساءل: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}. أي هل في قلوبهم مرض النفاق؟ {أَمِ ارْتَابُوا}. أم دخل الشك في إيمانهم؟ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}. فلماذا لم يرجعوا إلى أحكام الله في كتابه وسنّة رسوله؟ ألأنهم يخافون أن يجور الله عليهم ويظلمهم والله سبحانه وتعالى لا يظلم من عباده أحداً «وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علّواً كبيراً»([297]). والرسول لا يبتعد عن خط الله في شرعه.

{بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ](النور/50). الذين ظلموا ربّهم بالمعصية، وظلموا أنفسهم بالنفاق وبالانحراف عن خطّ الله فالخط الإيماني هو: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}(النور/51) الذين يسمعون نداء الله ويطيعونه ويتحرّكون في خطّه.

هذه هي بعض الآيات، وهي في هذا المجال كثيرة، التي تجسّد لنا عناصر الإيمان العميقة في شخصية الإنسان المؤمن التي بها يكون الإنسان مؤمناً، فعلينا أن نعمل على أن نعمّق الإيمان في عقولنا، وفي قلوبنا، وفي حركتنا في الحياة، لأننا نخشى أن نكون مصداقاً لقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(الكهف/104).

 

 


 

المحاضرة الثامنة 18 ربيع الأول 1422ه‍ - 9/ حزيران/2001م

 

 

في ذكرى مولد الرسول (ص)

علي(ع) يعرّف بالنبي(ص)

 

 

* لم يعش غير علي(ع) مع رسول الله(ص) كما عاش هو معه في عمق ذاته، وفي حركة حياته، وفي كلّ امتدادات شخصيته *

 

 

تجربة الطفولة الأولى.

الرسول(ص) قبل البعثة.

من معجزات النبي(ص).

في بعثة النبي(ص).

الداعية الدائب الحركة.

الصلاة على النبي(ص).

زهد النبي(ص).

أصحاب الرسول(ص).

مثل آل محمد(ص).

علي(ع) المؤهل للخلافة.

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

في ذكرى مولد الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام لابدّ لنا من أن نعيش آفاقه كلّها في حياته كلّها قبل أن يبعثه اللّه بالرسالة وبعد أن بعثه اللّه بها، وذلك من خلال شاهد ليس هناك شاهد مثله في عظمته بعد رسول اللّه (ص) من حيث عناصر الشخصية ما عدا النبوة.. فلم يعش غير علي(ع) مع رسول اللّه (ص) كما عاش هو معه في عمق ذاته، وفي حركة حياته، وفي كلّ امتدادات شخصيته. فمن أولى بأن يتحدث عن رسول اللّه (ص) من علي(ع)؟! ولذلك فنحن نحاول أن نلتقط من كلمات علي(ع) في (نهج البلاغة) بعض ما تحدث به عن رسول اللّه (ص) وعن أصحابه وعن أهل بيته i.

تجربة الطفولة الأولى:

فها هو أولاً يتحدث عن تجربته مع رسول اللّه (ص) في طفولته حيث كان وهو يعيش بين أحضانه(ص) فيقول(ع): ((أنا وضعت)) في الصغر ((بكلاكل العرب)) و(كلاكل العرب) يعني الذين لهم الصدارة من أكابر العرب ((وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر)) و(نواجم القرون) يعني القرون الظاهرة الرفيعة، وهي كناية عن أشراف القبائل ((وقد علمتم موضعي من رسول اللّه (ص) بالقرابة القريبة)) فهو ابن عمه، وأخوه في الروح، وصهره في السبب ((والمنزلة الخصيصة)) حيث قال رسول اللّه (ص) بحقه ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي))([298]) وقال أيضاً: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))([299]) وقال كذلك: ((علي مع الحق والحق مع علي))([300]).

((وضعني في حجره وأنا وليد)) والإمام آنذاك في بداية الطفولة ((يضمني إلى صدره)) كما تضمّ الأم ولدها، بحيث كان رسول اللّه (ص) يختزن في شخصيته مع علي(ع) حنان الأم وعطف الأب في حياة أمه وأبيه، فهو عندما كان يحتضنه فإنّه كان يريد أن يعطيه كما تعطي الأم لولدها والأب لولده، لأنّه كان يعيش معه ولم يعش في أحضان أمّه وأبيه فكان بحق ربيب رسول اللّه (ص) وتلميذه منذ نعومة أظفاره.

((ويكنفني في فراشه)) أي ينام معه. ((ويمسني جسده)) لأنه كان يحتضنه وينام إلى جانبه ((ويشمني عرفه)) و(العرف) هي الرائحة الذكية التي تفوح من رسول اللّه (ص) ((وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه)) لأنه ربما لم تكن بعدُ قد نبتت أسنان علي(ع) ولذلك كان يمضغ اللقمة حتى ترق ثم يلقمها له. ونستوحي من هذه الفقرات أن النبي (ص) كان يحمل في روحيته حنان الأبوة والأمومة الذي يختزنه في شخصيته في الوقت الذي لم يكن قد عاش ذلك في حياته، فقد عاش كل الإحساس الروحي حتى كأنه في حضن أمه وأبيه.

((وما وجد لي كذبة في قول)) فقد عشت معه منذ طفولتي وتعلّمت الصدق منه، ومن خلال لطف اللّه بي أنه لم يجد لي كذبة في أي قول من أقوالي. ((ولا خطلة في فعل)) و(الخطلة) هي الخطأ الذي ينشأ من عدم الرؤية والرويّة، وهذه الكلمة تعطي فكرة عن أنّ علياً(ع) كان معصوماً في كلامه وفي فعله منذ طفولته الأولى.

وهذه التجربة الشخصية مع رسول اللّه (ص) توحي لنا بتدفق ينابيع العاطفة التي كانت تتفجر من قلب رسول اللّه (ص) وتنساب في كلّ كيان وشخصية علي(ع) بحيث كانت ينابيع روحانية الرسول وأخلاقه وكلّ حركيته تتفجر في شخصية علي(ع) فعقله ينساب في عقل علي، وقلبه ينبض في قلب علي، وحركته تنطلق في حركة علي(ع).

الرسول (ص) قبل البعثة:

ثم يحدثنا عن لطف اللّه برسوله (ص) قبل أن يبعثه بالرسالة، فيقول: ((ولقد قرن اللّه به (ص) من لدن كان فطيماً)) فكما أنّ علياً(ع) منذ أن كان فطيماً، أو بعد الفطام بقليل، اختصّه رسول اللّه (ص) بحضانته ورعايته، فكذلك الرسول (ص) منذ أن كان فطيماً أعطاه اللّه رعايته بشكل غير مألوف ((أعظم ملك من ملائكته)) ولم يشر إلى شخصية الملك، هل هو جبرائيل أم غير جبرائيل؟ ولكن عندما يقول إنه قرن به أعظم ملك فمعنى ذلك أنّ هذا الملك الذي أراد اللّه له أن يربّي رسول اللّه  (ص) بعين اللّه بلغ من كلّ الصفات ما لم يقترب إليها ملك، لأن أعظم الأنبياء يحتاج إلى أعظم الملائكة، فالمعادلة تفرض ذلك. ((يسلك به طريق المكارم)) ليدلّه على كلّ المكارم الإنسانية بكلّ عناصرها الروحية ((ومحاسن أخلاق العالم)) بحيث يجمع له أفضل أو كلّ المحاسن التي يتميز بها العالم بأسره بحيث تتمثل في أخلاقه كلّ الأخلاق التي يتمثل بها العالم فيما يتمثلون به من محاسن الأخلاق ليكون النموذج الأكمل الذي إذا تمثله العالم كلّه رأى فيه النموذج الذي يقتدي به .. ((ليله ونهاره)) بحيث كان هذا الملك لا يفارقه في الليل والنهار.

((ولقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل أثر أمه)) فكما أنّ ولد الناقة يتبع أمه عندما تمشي، فكلّ خطوة من خطواتها تتحول إلى خطوة من خطواته، كذلك كان علي(ع) مع رسول اللّه (ص). ومن هنا نعرف كيف أنّ الإمام(ع) كان  - وهو في تلك السن، (ما قبل العاشرة)، يعيش صورة رسول اللّه (ص) في أخلاقه كلّها وفي كمالاته كلّها.

((يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علَماً ويأمرني بالاقتداء به)) أي أنّه يقول لي: اعمل كذا واعمل كذا، وسر في هذا الطريق، وتكلّم بهذه الطريقة، مما يعني أنّ النبي (ص) كان يعدّه ليكون أخاه ونفسه ووزيره، وأنه كان يحمل مسؤولية تربيته الأخلاقية والروحية وبما يعمّق ذلك في عقله ووجدانه، كما يحمل مسؤولية تنشئته الجسدية، وهذا هو الدرس الذي لابدّ أن يتعلّمه كلّ الذين يتولون عملية تربية الأطفال وحضانتهم في اهتماماتهم بالتربية الأخلاقية ((ولقد كان يجاور بكلّ سنة بحراء (غار حراء) فأراه ولا يراه غيري)) لأن النبي (ص) عندما كان يجاور بحراء كان لا يسمح لأحد أن يزوره ولا يلتقي أحداً هناك، بل كان يستغرق في عزلته التأملية التي يناجي فيها ربّه ويعيش فيها كلّ روحانيته وعبادته مع اللّه. ((ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام)) عندما بعث النبي (ص) بالإسلام ((غير رسول اللّه (ص) وخديجة وأنا ثالثهما)) بحيث كان علي(ع) عندما أتى النبي (ص) بالرسالة يعيش في البيت الإسلامي الأول الذي كان يضمّ رسول اللّه (ص) وخديجة (رض) وهو الثالث. ((أرى نور الوحي والرسالة)) عندما يشرق على رسول اللّه (ص) ((واشمّ ريح النبوة)) ريحها المعنوي والروح والأخلاق وكلّ ما يتميز به رسول اللّه (ص) من نفحات النبوة وعطر الرسالة.

ثم يعبّر عن التجربة التي لم يعشها مسلم منذ كان الإسلام وإلى أن قبض رسول اللّه (ص) إلى رحاب ربه. ((ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (ص))) فهو ينقل لنا كيف عاش الشيطان في حالة طوارئ، والرنّة هنا كناية عن الصرخة ((فقلت يا رسول اللّه ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير وانّك لعلى خير)).

إنّ هذا النص العلويّ الذي هو النص المعصوم الذي لا يقترب الباطل إليه يدلنا على أن النبي (ص) كان يعدّ علياً(ع) للوزارة التي هي الوصاية والخلافة منذ كان علي(ع) في بداية شبابه. فقد أراد له أن يعيش أجواء حركية الرسالة فيما يشبه أجواء الغيب الذي لا يشعر به الناس كما يعيش مضمون الرسالة في القرآن وفي السنّة.

من معجزات النبي (ص):

((ولقد كنت معه)). وهنا يعطينا التجربة كيف أن قريشاً كانت تطالب رسول اللّه (ص) أن يقدّم لهم المعجزة. وهذا نص يمكن أن تختلف الأخبار وبعض الروايات بشأنه، ولكننا نعتدّ بوثاقته لأنّ علياً(ع) هو الشاهد الناقل للمعجزة على أساس وثاقة (نهج البلاغة): ((ولقد كنت معه - صلى اللّه عليه وآله - لمّا أتاه الملأ من قريش، فقالوا له يا محمد أنّك قد ادّعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أنت أجبتنا إليه وأريتناه علمنا انك نبي ورسول، وان لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب)) تحاول أن تسحر عيون الناس بسحرك ((فقال - صلى اللّه عليه وآله - وما تسألون؟)) أي ما هو طلبكم؟ ((قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك، فقال (ص): إنّ اللّه على كلّ شيء قدير))، فليست قدرتي التي تقتلع الشجرة وإنمّا هي قدرة اللّه ((فإن فعل اللّه لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا: نعم، قال: فإني سأريكم ما تطلبون وأني لأعلم أنّكم لا تفيؤن إلى خير)) فهذا هو التحدّي ولكنني سأكون في مستوى التحدي بإذن اللّه ((وإنّ فيكم من يطرح في القليب (في معركة بدر) ومن يحزّب الأحزاب)) لقد عرّفني اللّه من آبائكم الذين كانوا يحرّضون على القتال ضدي وضد الإسلام ((ثم قال (ص) يا أيتها الشجرة ان كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر)) طبعاً الإيمان بوجودها لا الإيمان بعقلها باعتبار أنّ كلّ موجود يتجسّد فيه الإيمان من خلال طبيعة ما ركّب اللّه فيه من أسرار الخلق ((إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن اللّه)).

ثم ينقل الإمام(ع) ما شاهده، فيقول: ((فوالذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دويّ شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللّه (ص) مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه (ص) وببعض أغصانها على منكبي وكنت عن يمينه (ص) فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّاً واستكباراً.. فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دوياً، فكادت تلتف برسول اللّه (ص)، فقالوا: كفراً وعتواً، فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان فأمره فرجع، فقلت أنا: لا اللّه إلا اللّه، إني أول مؤمن بك يا رسول اللّه، وأول من آمن بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك، فقال القوم كلّهم بل ساحر كذّاب عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدّقك في أمرك إلا مثل هذا؟ (يعنونني).

ثم يقول ((وإنّي لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم)) أهل البيت i ((سيماهم سيما الصديقين وكلامهم كلام الإبرار عمّار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّه وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون)) لا يحقدون ((ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل))([301]).

هذه هي إحدى الكلمات التي تحدّث بها علي(ع) عن حياته الأولى مع رسول اللّه (ص) وعن بعض التجارب التي عاشها معه.

في بعثة النبي (ص):

ونحاول بعد ذلك أن نلتقط بعض كلماته عن بعثة النبي (ص) حيث يقول: ((بعثه والناس ضلاّل في حيرة))، وقد قال تعالى في كتابه  }وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ{([302]). ((وحاطبون في فتنة)) فهو يصوّر الفتنة كما لو أن الناس يأخذون الحطب الكثير ليشعلوا به النار أو ليلقوه على النار ((قد استهوتهم الأهواء)) وعاشوا مع أهوائهم التي لا ترتكز على أية قاعدة، أو أساس ((واستزلّتهم الكبرياء)) مما كانوا يأخذون به من الكبر انطلاقاً من شعورهم بضخامة شخصيتهم ((واستخفّتهم الجاهلية الجهلاء)) أي جعلتهم خفافاً في عقولهم ومواقعهم ((حيارى)) لأنهم لا يبصرون طريق الهدى ((في زلزال من الأمر)) لأن الإنسان الذي لا يرتكز على قاعدة يبقى في زلزال من أمره قلقاً، مذبذباً، لا يستقر على حال. ((وبلاء من الجهل)) وهل جهلٌ أنكى وأشدّ من جهل الجاهلية الجهلاء؟ ((فبالغ صلى اللّه عليه وآله في النصيحة)) حيث أعطى كلّ جهده وألقى كلّ كلماته، وحرّك كلّ طاقاته من أجل أن ينصحهم بما أعطاه اللّه من حكمة وبما أنزل عليه من وحي ((ومضى على الطريقة)) التي خططها اللّه له ((ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة))([303]) إتباعاً لقوله تعالى )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(([304]).

الداعية الدائب الحركة:

ثم يصوّر لنا كيف كان رسول اللّه (ص) يتحرّك في المجتمع فلا يجمد في بيته بحيث ينتظر الناس ليأتوا إليه كما يفعل الكثيرون من الذين لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن أن يتحركوا مع الناس بل أن يبقوا في بيوتهم ليقصدهم الناس، فإذا سألوهم أجابوا، وإذا لم يسألوهم رأوا أنفسهم في حلّ. ((طبيب دوّار بطبّه)) فلا يجلس في العيادة في انتظار مرضاه، فعندما ينتشر الوباء فإن الأطباء يمسكون مفارق الطرق كلٌّ يقف بمفرق الطريق لمداواة القادمين والخارجين حتى يمنعوا من تفشيه، ولكن رسول اللّه (ص) طبيب العقول والقلوب لا طبيب الأبدان، فانظروا كيف يصوّر الإمام(ع) المسألة: ((قد أحكم مراهمه)) لجرحى العقول والقلوب، وجرحى الأخلاق والآداب، وجرحى القيم والمثل، وجرحى الجهل والتخلف. فالمرهم يوضع على الجراح ليدملها ((وأحمى مواسمه)) والمواسم هنا جمع ميسم وهو المكواة باعتبار ((أنّ آخر الدواء الكي)) فقد لا ينفع المرهم الذي يمثل الدواء فلا يكون أمام الطبيب من علاج سوى الكي ((يضع من ذلك حيث الحاجة إليه)) يضع المرهم لعلاج مرض هنا ويكوي مرضا هناك ((من قلوب عمي)) يعالجها حتى تنفتح ((وآذان صمّ)) يعالجها حتى تستمع بعد وقر ((وألسنة بكم)) يدوايها حتى تنطق بعد خرس ((متتبّع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة)) فهو يتحرك ليهدي الناس الغافلين الذين لم ينفتحوا على أفق الوعي، بل كانوا في ظلمة الغفلة يتقلبون، ليعيدهم إلى وعيهم ورشدهم، فهو كما الطبيب الذي يتتبع مواقع المرض الموجودة هنا وهناك، ويحاول أن يدرس كلّ مظاهر المرض، وكلّ أوضاع المرضى حتى يتمكن من القضاء على المرض ((لم يستضيئوا بأضواء الحكمة ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة)) ومعنى أن يقدح الزناد أن يخرج النور من خلاله، وكأن الإنسان عندما ينفتح على العلم فإنّه يضيء له النور الذي يبدّد ظلام الجهل ((فهم في ذلك كالأنعام السائمة والصخور القاسية))([305]).

الصلاة على النبي (ص):

وهناك نصّ آخر يدعو فيه الإمام علي(ع) اللّه تعالى بالصلاة على رسول اللّه (ص) يقول فيه ((اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق)) من الرسالات ((والفاتح لما انغلق)) لكلّ مواقع الوعي والبصيرة ((والمعلن الحقّ بالحق)) الذي كان الحقّ عنده يمثل الأسلوب والغاية معا بحيث عندما يدعو إلى الحق فإنّه يدعو بوسائل الحق ولا يدعو إلى الحقّ بالباطل. ((والدافع جيشان الأباطيل)) فعندما تجيش الأباطيل في المجتمع بحيث يتحرك الباطل من خلال ما يزرعه هنا وهناك من فتنٍ وإحنٍ في العقل وفي القلب وأوضاع الناس ومواقعهم فإن الرسول (ص) وكلّ إتباع الرسالة الذين يتأسون به لابدّ من أن يندفعوا لدحر جيش الأباطيل. ((والدامغ صولات الأضاليل كما حُمّل)). أي يدمغها بالقوة فإذا هي زاهقة ((فاضطلع قائماً بأمرك مستوفزاً في مرضاتك)) فهو يتحرك بكلّ ما لديه من طاقة ليؤدّي المهام التي اضطلع بها على خير وجه ابتغاء مرضاة الله. ((غير ناكر عن قدم)) أي أنّه يتحرك في كلّ المواقع التي يُدعى إليها ((ولا واهن في عزم)) بل كانت عزماته، إن في جبهات الصراع وإن في محاربة المنكر، قوية ((واعياً لوحيك، حافظا لعهدك)) فالنبي (ص) ليس مجرد ناقل للكلمة فقط بل هو واع لها، ولذلك فإنّه عندما يطلقها فإنّما يطلقها من خلال وعيه بكلّ معاني الكلمة، وهذا ما عبّر عنه اللّه سبحانه وتعالى بقوله }هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ{([306]) فالنبي (ص) كان المعلم ولم يكن مجرد ناقل، فهو يتلو أولاً ويزكّي ثانياً ويعلّم الكتاب والحكمة ثالثاً.

((حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك)) حتى ينفذه إلى الناس أجمعين ((حتى أوري قبس القابس)) والقابس هو طالب النار، لأنّ الناس يومذاك كانوا يلاحقون النار وبأيديهم أعواد يشعلونها بها ليرجعوا إلى أهلهم ليوروا بها حطبهم وهذا ما عبّر عنه القرآن في قصة موسى(ع) )سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(([307]). ((وأضاء الطريق للخابط)) الذي يتخبّط في الظلماء من غير مصباح، وكانت العرب تعبّر عن ذلك بالقول: يخبط خبط عشواء.

((وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآلام وأقام موضحات الأعلام ونيّرات الأحكام فهو أمينك المأمون وخازن علمك المخزون وشهيدك)) الذي يشهد على الناس ((يوم الدين، وبعيثك بالحقّ ورسولك)) لأنّك أنت الذي بعثته بالحقّ.

((اللّهم أفسح له مفسحاً في ظلّك واجزه مضاعفات الخير من فضلك))([308]) جزاء ما دعا وبلّغ وهدى. وهذا هو الأدب الإسلامي في الدعاء للرسول (ص) من خلال الإحساس بقيمة جهده الرسالي في الدعوة والتربية والتزكية والهداية ليعيش المسلمون في وجدانهم الروحي الشعور بالجميل فيما قدمه إليهم من وسائل الهداية، وليشهدوا اللّه على الارتباط به في خط رسالته طالبين منه أن يرفع درجته وأن يجزيه عنهم أحسن الجزاء.

زهد النبي (ص):

ويتحدث علي(ع) في شهادة أخرى عن زهد النبي المصطفى (ص) فيقول: ((قد حقّر الدنيا وصغّرها)) فلم ينفتح عليها انفتاح الإنسان الذي تبطره زخارفها وتصرعه أحجامها وتجرّه شهواتها وأهوائها إلى نفسها، ذلك لأن الدنيا لم تكن همّه ولا مبلغ اهتمامه، ولأنّ الدنيا عنده مجرد موقع لرسالته ينفتح من خلالها على اللّه وليس لها قيمة ذاتية في كلّ طيباتها ومتاعها، وليس معنى ذلك أنّه كان يحرّم ملذات الدنيا، بل ينظر إليها بحجمها من خلال حركة الرساليين في نظرتهم إلى الدنيا المادية ليرتفعوا من خلال هذه النظرة إلى آفاقها الروحية، وهذا هو الذي عبّر عنه تلميذه وأخوه وابن عمّه وصهره علي(ع) عندما تحدث عن الدنيا بقوله: ((من أبصر بها بصّرته)) أي أن من جعل الدنيا عينا يبصر بها حقيقتها بصرّته وعرّفته وكشفت له أنها إلى زوال، وأن نعيمها غير دائم ولا مقيم ولا يمثل طموح الإنسان، وأنّ الآخرة هي دار الحيوان، أي دار الإقامة والحياة الحقيقية التي لا فناء بعدها. ((ومن أبصر إليها)) أي من يتوجّه إليها ببصره ((أعمته)) من خلال بهارجها وزخارفها، ولذلك ينبغي أن تكون الدنيا بالنسبة إلينا عيناً نبصر بها حقيقتها وليست منظراً نوجّه إليه أبصارنا المنبهرة بصوره الحائلة الزائلة.

 ((وأهون بها وهوّنها وعلم أنّ اللّه زواها عنه اختياراً)) فلقد كان النبي (ص) الفقير واليتيم }أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى{([309]) فلقد كان يربط حجر المجاعة على بطنه كما تروي سيرته في أثناء حفر الخندق. ((وبسطها لغيره احتقاراً)) لأنّها لا تمثل عند اللّه كرامة لأوليائه. وهذا ما عبّر عنه اللّه سبحانه وتعالى في (سورة الفجر) }فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي{ فلا ذاك إكرام ولا هذا إهانة، وإنّما هي حكمة اللّه الذي }يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ{([310]).

((فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه كي لا يتخذ منها رياشاً، أو يرجو فيها مقاماً، بلّغ عن ربّه معذّراً)) حتى يعذر إلى اللّه في تبليغ رسالته ((ونصح لأمته منذراً)) ينذرهم عذاب اللّه وسخطه ((ودعا إلى الجنّة مبشراً)) ليبشرهم برحمة من اللّه ورضوان ونعيم مقيم ((فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر (ص) فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى وعزاء لمن تعزّى)). لمن قدر عليه رزقه، ولمن حرم من بعض ما في الدنيا من نعيم ولمن واجه العنت والجحود من قومه.

((وأحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيه والمقتصّ لأثره)) أي السائر على أثره والمتتبع لخطواته، وكأنّ الإمام(ع) يشير إلى قوله تعالى }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا{([311]).

((قضم الدنيا قضماً ولم يعرها طرفا)) أي أكلها أكلاً سريعاً ولم يتلذّذ بها تلذّذ المتمهّل في طعامه، ولم يتوقف عند ملذّاتها طويلاً بحيث تستغرق نظره وهواه ((أهضم أهل الدنيا كشحاً)) والهضم هو خمص البطن ومعناه خلوّها، والكشح هو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلفي ((وأخمصهم من الدنيا بطناً)) فالنبي (ص) كانت بطنه خالية ولم يكن يأكل كثيراً، ((عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها)) فلقد قيل له: خذ الدنيا كلّها ولا ينقص من أجرك شيء، ولكنّه قال }وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى{([312]).

((وعلم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه)) فهو يبغض ما يبغضه اللّه في كلّ شيء ((وحقّر شيئاً فحقّره)) فكان يحقّر ما حقّره اللّه ((وصغّر شيئاً فصغّره)) أي لا يعطي الأشياء أحجاماً مبالغاً فيها، فهو يعطيها حجمها الذي أعطاها اللّه لها. ((ولو لم يكن فينا)) أي أنّ المشكلة هي فينا نحن الذين جئنا بعده، ولا يتحدث علي(ع) هنا عن نفسه ولكنه يتحدث عن المجتمع لأنّ علياً(ع) كان يحبّ اللّه ورسوله وكان اللّه ورسوله يحبّانه، ولأنّ علياً(ع) طلّق الدنيا ثلاثاً فلقد كان يعيش مثال رسول اللّه (ص) في كلّ معانيه وآفاقه. ((إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه وتعظيمنا ما صغّر اللّه)) فنحن نحبّ الأشياء التي يبغضها اللّه لأننا لم نعش معنى حبّ اللّه وحبّ ما أحبّه اللّه، والله صغّر الكثير من الجبابرة والمستكبرين ولكنّنا نعظّمهم ((لكفى به شقاقاً للّه ومحادّة عن أمر اللّه)) أي تحدياً لأوامره، والحيد هو الزيع والميل عن الطريق وهذا هو الدرس النقدي الذي أراد لنا الإمام علي(ع) أن نتعلمه من رسول الله (ص) في دراستنا لواقعنا الذي نعيشه، فإن الإقتداء بالرسول (ص) والتأسّي به يفرض علينا أن نكون مثله نحب ما أحبه اللّه، ونبغض ما أبغضه، ونصغّر ما صغّره ونكبّر ما كبّره. ولكننا لم نفعل ذلك، بل فعلنا العكس منه وهو ما ينبغي لنا أن نرفضه من سلوكنا لنتغير على صورة رسول الله (ص).

ثم يقول في وصف آخر لرسول اللّه (ص): ((مستقره غير مستقر)) لأنّه كان في مكة ثم انتقل إلى المدينة، أو لعلّه أراد أنه لم يتخذ الدنيا مستقراً بل اعتبرها دار ممر، لأنّ مستقره الجنّة ((ومنبته أشرف منبت)) فهو من هاشم بالمكان الأعلى وهو المصنوع على عين الله بما وكّل به من ملك يسلك به طريق المكارم. ((في معادن الكرامة ومعاهد السلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار)) فتوجهت إليه لتهواه وتطيع أوامره وتلبّي دعوته ((وثنيت إليه أزمّة الأنصار)) الذين عرفوا رسالته وعظمته ((دفن اللّه به الضغائن)) لأنّه عندما انطلق في رسالته ألقى المحبّة في قلوب الناس لتكون الجسر الذي يربط بعضهم ببعض ((واخرج الحقد من نفوسهم)) واللّه تعالى يقول }لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ{([313]). من خلال كلماته ورعايته لها. ((وأطفأ به النوائر)) نيران الأحقاد والفتن ((ألّف به إخوانا وفرّق به أقراناً)) ألّف الذين آمنوا به وقد كانوا أعداء، وهو ما تحدّث اللّه سبحانه وتعالى عنه }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا{([314]).

((أعزّ به الذلّة)) فأصبح الذين كانوا بالأمس أذلاّء أعزاء بالإيمان )وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ(([315]) ((وأذلّ العزّة)) فأصبح المشركون الذين يمتلكون ظواهر العزّة أذلاّء بكفرهم.

((كلامه بيان)) لأنه يشرح لهم فيه كلّ الرسالة مما أراد أن يعلّمهم إياه، ويزكّيهم، ويسلك بهم سبل الوعي والهداية. ((وصمته لسان)) لأنّ صمته يتحرّك في مواقع الفكر.

أصحاب الرسول (ص):

ويحدّثنا علي(ع) عن أصحاب رسول اللّه (ص) وهو منهم وأولهم: ((لقد رأيت أصحاب محمد (ص) فما أرى أحداً منكم ليشبههم)) فلقد كان علي(ع) معهم وكان يعرف العناصر الطيبة والمجاهدة منهم، وعلينا أن نعيش مع هؤلاء الأصحاب كظاهرة عامّة ولا نطلق السلبيات، بل نحاول أن نعيش إيجابياتهم لأنّ اللّه تحدّث عن هؤلاء بقوله: }مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ{([316]). وتحدّث عنهم بقوله: }وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ{([317]). وتحدث عن المهاجرين، وعن النماذج الإيجابية التي انتصر الإسلام بها، وهذا ما يدفعنا إلى التركيز على الصحابة الذين هم مهملون في أحاديثنا، يصفهم علي(ع) بقوله:

((لقد كانوا يصبحون شعثاً غبرا)) في عالم العبادة والجهاد والإخلاص للّه. ((وقد باتوا سجّدا وقياما)) كما تحدّث اللّه عنهم في القرآن ((يراوحون بين جباههم وخدودهم)) أي يعفّرونها بالتراب في أثناء السجود والشكر للّه ((ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم)) فكانوا إذا ذكروا الآخرة فكأنّ النار تلتهب في أجسادهم كما لو كانوا يسيرون على الجمر إحساساً بخطورة ما قد يقبلون عليه إذا انحرفوا عن طريق اللّه سبحانه وتعالى.

((كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم)) بحيث ترى أثر ذلك واضحاً بين أعينهم }سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ{([318]) ((إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتى تبتلّ جيوبهم)). }إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ{([319]) وإذا وجلت القلوب سخت الدمعة ((ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء للثواب))([320]) وهذا وصف للشفافية الإيمانية التي كانوا عليها.

ويقول(ع) في خطبة أخرى وهو يتحدث عن مجتمع الأنصار والمهاجرين ليصف لنا كيف كان أصحاب رسول اللّه (ص) يتصرّفون مع قائدهم ونبيهم(ص): ((ولقد كنّا مع رسول اللّه (ص) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا وتسليما)) فلا قرابة والقضية هي قضية اللّه، ولا نسب والقضية هي قضية الإسلام ((ومضيا على اللقم)) وهو الطريق الواضح ((وصبرا على مضض الألم، وجدّا في جهاد العدوّ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما)) أي ينتهز كلٌّ الفرصة من الآخر حتى يقتله ((أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا ومرّة لعدونا، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر)) لأنّه }وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{([321]) }إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{([322]). ((حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه)) والجران هو مقدم عنق البعير فعندما يذبح البعير يقع ويلقي عنقه على الأرض، ومعنى ألقى الإسلام جرانه أي ثبت على الأرض واستتب له الأمر، ((ومتبوّئاً أوطانه، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم)) من الخلافات والنزاعات والعصبيات والأحقاد والضغائن وعدم الانفتاح على اللّه وعلى رسوله والسعي وراء شهواتكم وملذاتكم ((ما قام للدين عمود ولا اخضرّ للإيمان عود، وأيم اللّه لتحتلبنها دماً)) من خلال الواقع السلبي الذي تعيشونه بالشكل البعيد عمّا يريده اللّه ((ولتتبعنّها ندما)).

مثل آل محمد (ص):

وفي نهاية المطاف يتحدث الإمام علي(ع) عن آل محمد (ص) في حديث طويل يقول فيه: ((ألا إن مثل آل محمد (ص) كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم)) أي مال إلى المغيب ((طلع نجم، فكأنكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصنائع وأراكم ما كنتم تأملون))([323]) فلقد منّ اللّه عليكم بما لم يمنّ به على الأمم من قبلكم.

علي(ع) المؤهل للخلافة:

هذا هو بعض حديث علي(ع) عن رسول اللّه (ص) ولم نأخذ منه إلا القليل. وقد ذكرنا في البداية أنّ عليا(ع) عاش رسول اللّه (ص) بكلّه، وكان يقضي ليله ونهاره معه، فلقد كان في بيته قبل أن يتزوج ابنته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) وكان رسول اللّه (ص) في بيت علي(ع) بعد أن تزوّج ابنته، ولذلك لم يفترق رسول اللّه (ص) عن علي(ع) ولم يفترق(ع) عن رسول اللّه (ص) في حياته، وكان علي(ع) يتطلّع إلى عيني رسول اللّه (ص) ليرى كيف تلمعان ليعرف ما يريد أن يقوله الرسول قبل أن يقول كلمته. وكان ينفتح على كلّ خطواته ليعرف خطّ السير.

ومن هنا كان علي(ع) وحده، ولا أحد غيره، المؤهل لأن يكون الوليّ بعد رسول اللّه (ص) مهما كان للآخرين، مما يتحدث به الآخرون، من فضل. فعلي(ع) الأفضل في كلّ شيء، وكما قال الخليل بن احمد الفراهيدي عندما سئل: لم فضّلت عليا(ع) على غيره؟ قال: ((احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل على انه أمام الكلّ)) لأنّه كان الإسلام كلّه، ولذلك كانت إمامة المسلمين حقّه من خلال عقله وقلبه وطاقاته وعلمه وجهاده، ولذلك فنحن عندما نذكر رسول اللّه (ص) فإننا لا نملك إلا أن نذكر عليا(ع) معه، ولا نذكر عليا(ع) إلا ونذكر رسول اللّه (ص) معه.

من كان مع رسول اللّه (ص) فلابدّ أن يكون مع علي(ع) ومن كان مع علي(ع) فلابدّ أن يخشع لرسول اللّه (ص) رسالة وسيرة. والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 


 

المحاضرة التاسعة 25 ربيع الأول 1422ه‍ - 16/ حزيران/2001م

 

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (1)

مسؤولية

الحفاظ على التوازن الاجتماعي

 

* اعتبر الإسلام العهد مسؤولية ترقى إلى أن تكون عهداً بين الإنسان وبين الله بشكل غير مباشر *

 

 

 
 

حفظ التوازن الاجتماعي.

الغدر في الأحاديث الشريفة.

الوفاء بالعهد.

لا يجوز الغدر حتى بغير المسلمين.

إفشاء السر غدر.

علي(ع) وكراهة الغدر.

الغدر في موضعه وفاء.

إجتناب الغدر في الحياة الاجتماعية.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

حفظ التوازن الاجتماعي:

ما الذي يحفظ التوازن الاجتماعي في علاقات الناس بعضهم ببعض سواء كانت هذه العلاقات شخصية كالعلاقات الزوجية أو كالمعاملات العقدية بين الناس، أو علاقات الحرب والسلم، أو العلاقات بين الدول؟

إنّ الإسلام طرح مسألة العهد وأراد للناس الوفاء به، واعتبره مسؤولية ترقى إلى أن تكون عهداً بين الإنسان وبين اللّه بشكل غير مباشر، وقد أكدّ القرآن ذلك في أكثر من آية، ففي الالتزامات العقدية ورد قوله تعالى }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ{([324]). وفي مطلق المعاهدات الخاصّة والعامّة }وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا{([325]). وتحدث عن النماذج الطيبة والمخلصة والقريبة من اللّه في قوله تعالى }وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا{([326]). وقوله تعالى }وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا{([327]).

ولقد اعتبر اللّه سبحانه وتعالى العلاقة بينه وبين عباده علاقة متبادلة }وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ{([328]). ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الالتزامات التي تمثلها كلمة (العهد) تارة و(العقد) أخرى و(المعاهدة) و(الميثاق) هي التي تقيم للمجتمع روابطه التي تمثل ارتباط المسؤولية بالمسؤولية، وهذا هو الذي يحفظ للمجتمع نظامه لأنّ المجتمع إذا كفّ عن الوفاء بهذه الالتزامات فمعنى ذلك أنّ العلاقات تتقطّع وأنّ الفردية تحكم المجتمع، وأنّ نقض هذه الالتزامات يمثّل مؤشراً خطيراً على انهيار المجتمع.

وقد أعطت السنّة النبوية الشريفة وسنّة أهل البيت(ع) التي هي في عمقها منطلقة من السنّة النبوية الشريفة لأنّ أحاديث الأئمة من أهل البيت(ع) هي أحاديث رسول اللّه(ص) كما عبّر عن ذلك الإمام جعفر الصادق(ع) في قوله ((حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي - إلى أن يقول - وحديث جدي حديث رسول اللّه وحديث رسول اللّه عن جبرئيل عن اللّه))([329]). بحيث اعتبروا الإخلال بهذه الالتزامات غدراً ونقضاً للعهد وتحلّلاً من الالتزام من دون سبب شرعيّ.

الغدر في الأحاديث الشريفة:

وفي هذا اللقاء نحاول أن نستعرض ما جاء من الأحاديث في هذه المسألة (مسألة الغدر). ففي رواية الإمام علي(ع) أنّ رسول اللّه(ص) قال له فيما عهد إليه: ((وإيّاك والغدر بعهد اللّه والإخفار لذمّته)) و(الإخفار) هنا تعبير آخر عن نقض العهد([330])، ((فإنّ اللّه جعل عهده وذمّته أماناً أمضاه بين العباد برحمته، والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره وتبعاته وسوء عاقبته)) فكأنّ الرسول(ص) يريد أن يؤكّد أن مسألة العبودية للّه سبحانه وتعالى والإخلاص له تفرض على الإنسان أن يحافظ على ما عاهد عليه اللّه في أموره كلّها، وعلى ما للّه في ذمّته، وأن لا يغدر بعهد اللّه، ولا ينحرف عن ذمّته في أيّ شأن من شؤونه، وكأن النبي(ص) يقول بأنّ هذا هو الأمان الذي يمثّل الخطّ الذي يأمن فيه الناس بعضهم بعضاً، لأنّهم إذا التزموا عهد اللّه سبحانه وتعالى وذمّته في كلّ ما أراد لهم أن يلتزموه سلباً أم إيجاباً، فإنّ معنى ذلك أنّ ما يحكم علاقة الناس ببعضهم هي المسؤولية أمام اللّه عزّ وجل، فإذا كان كلّ إنسان يفي بعهد اللّه في عباده فإنّ معنى ذلك أنّه يعطي الأمان لعباد اللّه بقدر ما يختصّ الأمر به.

ثم يحاول الحديث أنّ يبيّن للإنسان أنّه قد يضيق بالعهد الذي عاهده لأنّ الإنسان بطبعه يضيق بمسؤولياته، ولكنّه عندما يعيش هذه الحالة النفسية عليه أن يوازن بين ما يحصل عليه من نتائج ومكاسب من خلال هذا الضيق الذي يرجو انفراجه وبين ما يخسره مما يكون نتيجة الغدر الذي عليه أن يخاف من أوزاره وتبعاته وعاقبته. وكأنّه يقول بأنّ وفاءك للعهد هو أفضل من غدرك، أو لا يقاس بما تحصل عليه جرّاء الغدر من ضيق وتعب وجهد ومشقة لما تواجهه من النتائج السلبية.

وفي (الغرر والدرر) مما روي عن علي(ع) من كلمات يبيّن فيها طبيعة الإنسان الغادر، وما هي الصفة التي يستحقّها، حيث يقول: ((الغدر شيمة اللئام)) لأنّ اللئيم هو الذي لا يحترم كلمته في عهده ولا يراعي القيمة الإنسانية في علاقته بالآخر فيدفعه ذلك إلى الغدر به، ويقول: ((الغدر يضاعف السيئات)) لأنّ النتائج التي تترتب عليه ربما تخلق للمغدور أكثر من مشكلة، وتوقعه في أكثر من خطيئة، لا في جانب الغدر فقط بل بمجانبة القرآن الذي أكدّ على الوفاء بالعهد وبذلك فإنّ الوفاء بالعهد، يختزن رفض الغدر.

يقول(ع): ((إيّاك والغدر إنّه أقبح الخيانة)) لأنّ الإنسان الذي عاهدته والتزمت بما التزمت به إزاءه أعطاك ثقته ورتّب أموره في الحياة على أساس التزاماتك، وبهذا فإنّك عندما تغدر به وتنقض عهدك فإنّك تربك كلّ حياته في هذا المجال، وأيّة خيانة أعظم من الخيانة التي تربك حياة الناس في كثير من أمورهم، وربمّا تؤدّي إلى بعض الأخطار التي تهدّد حياتهم تبعاً لخطورة الشيء الذي أعطيت العهد من نفسك في الالتزام به.

ويروى عن علي(ع) قوله: ((أسرع الأشياء عقوبة رجل عاهدته على أمر وكان من نيتك الوفاء له ومن نيّته الغدر بك)). فإذا ما تعاهد اثنان وكان أحدهما مخلصاً في عهده والآخر ينوي الغدر ويبيّته، فإن هذا مما يعتبره علي(ع) من الأشياء التي يعجّل اللّه به العقوبة.

ويتحدث علي(ع) عن الغدر في كتابه إلى (مالك الأشتر) وهو الكتاب الذي يمثّل الوثيقة الإدارية الأولى التي ركّزها أمير المؤمنين(ع) بما ينظّم لأيّة سلطة مسؤولة كلّ ما تواجهه من مسؤوليات على صعيد العلاقة بالناس في رعاية أمورهم وتنظيم حياتهم ونشر العدل فيهم وما إلى ذلك.

الوفاء بالعهد:

يقول الإمام(ع) في كتابه إلى (مالك الأشتر) (رض) ((وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمّة)) بحيث جعلت ذمّتك لباساً يلبسه ((فحط عهدك بالوفاء)) أي حاول أن تحيطه بالوفاء لهذا الشخص وإن كان عدوّاً لك ((وارع ذمتك بالأمانة)) أي كن الإنسان الأمين الذي إذا عاهد فإنّه يفي بكلّ الالتزامات التي في ذمّته.

((واجعل نفسك جنّة دونما أعطيت)) والجنّة هي الدرع الذي يمنع من الاختراق، والمراد به الحماية ((فإنّه ليس من فرائض اللّه شيء أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم وتشتت آرائهم)) فهذا الشيء الذي يجتمع الناس ويلتقون عليه مع تفرّق الأهواء وتشتت الآراء من تعظيم الوفاء بالعهود، وهذا هو الشيء الذي يحفظ للمجتمع توازنه، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين ((لما أستوبلوا من عواقب الغدر)) أي استثقلوه فلماذا التزم المشركون الوفاء بالعهد؟ لقد كانوا إذا دخلوا في أي عهد أو عقد أو حلف أو التزام فإنّهم كانوا يفون بذلك ولا ينقضونه لأنّهم درسوا النتائج السلبية التي تترتب على عدم الالتزام بالعهد فرأوا أنّها تؤثر على حياتهم كلّها، وتثقل أوضاعهم، ولهذا فبالرغم من تشتت آرائهم وتفرّق أهوائهم لكنّهم اجتمعوا على هذا، فلقد وجدوا الغدر وبيلاً أي ثقيلاً.

 ((فلا تغدرنّ بذمتك)) فإذا التزمت بشيء أمام خصمك أو عدوّك أو أمام أي إنسان آخر فلا تغدر به بنقض ذمّتك وفكّها بحيث تتحلل من التزامك أمامه ((ولا تخيسنّ بعهدك)) لا تنقضنه أي لا تغدرنّ ((ولا تختلنّ عهودك)) أي لا تمكر بأحد لأنّ عهدك هو الذي أعطاه الأمان والثقة والمعنى الإنساني المتمثل بك وبما تمثّله من الإسلام ((فإنّه لا يجترئ على اللّه إلا جاهل شقي)) أي أنّ الاجتراء على العهد ونقضه يمثل اجتراءً على اللّه سبحانه وتعالى. ((وقد جعل اللّه عهده وذمّته أمناً)) باعتبار أنّ الناس يأمنون بذلك ويشعرون بوجود عروة وثقى يتمسّكون بها في أمورهم كلّها فيما دخلوا فيه من عهد اللّه.

((أفضاه بين العباد برحمته)) أي جعله مشتركاً بين العباد برحمته والمنفعة – بالتحريك – ما تمتنع به من القوة ((وحريماً يسكنون إلى منعته)) أي جعلوا العهد كما الحرم الآمن الذي يحمي الناس من غوائل الأعداء. يفزعون إليه بسرعة ((ويستفيضون إلى جواره)) أي ينتشرون في طلب حاجاتهم في ظل الطمأنينة والسكينة التي يوفرها لهم ((فلا إدغال)) إي لا إفساد ((ولا مدالسة)) أي لا خديعة فيه.

وفي الحديث عن رسول اللّه(ص) من طرق العامّة، رواه البخاري عن أبي هريرة، قال اللّه تعالى: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر)) وأعطى بي يعني أعطى العهد بي ((ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه)) ولا يجوز بيع الحرّ ((ورجلاً استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفّه أجره)) أي تركه يعمل وبعد أن أنجر عمله لم يوفّه الأجر.

لا يجوز الغدر حتى بغير المسلمين:

وعن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه(ع) قال: ((سألته عن قريتين من أهل الحرب)) أي ليسوا من المسلمين ((لكلّ واحدة منهم ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا)) على أساس معاهدة فيما بينهم ((ثم إنّ أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء به إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة؟)) أي أنّه أراد أن يستغلّ عداوة المسلمين للملك الآخر ليغدر به ((فقال أبو عبد اللّه(ع) لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، ولا يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا)) فمع أن كلاّ منهما حربيّ أي أن هذا محارب للمسلمين والآخر كذلك ولكن لا يجوز للمسلمين أن يغدروا بأيّ منهما في موقف المساعدة للآخر. نعم إذا شنّ المسلمون الحرب فالخدعة في الحرب وسيلة من وسائل الدفاع وهي مباحة في هذا المضمار، أمّا أن يكونوا عوناً في الغدر لفئة على فئة فلا يجوز لهم ذلك ((ولكنّهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفّار)).

ولاحظوا هنا الدقّة التي يؤكدها الإسلام في أنّ على الإنسان المسلم أن لا يغدر هو نفسه ولا يساعد الغادر في غدره، ولو تأمّلنا في بعض الحالات الاجتماعية لرأينا أن بعض الأشخاص لو كان بينه وبين إنسان آخر اتفاق ومعاملة مالية، أو كما في العلاقة الزوجية، ويحاول أحد المتعاملين، كما في المثال الأول، أو أحد الزوجين، كما في المثال الثاني، أن ينقض اتفاقه مع شريكه في العمل أو في الحياة الروحية فلا يعطي زوجته مهرها، وأن لا يقوم بشؤونها، أو كما لو باع إنسان شيئاً لآخر، أو تعاقد معه على شيء وأراد أحدهما أن يغدر بصاحبه، والغادر هو أحد أقربائك أو صديقك أو ابن دينك أو طائفتك وأراد منك أن تساعده في تنفيذ غدره بالطرف الآخر، فلا يجوز لك ذلك حتى لو كان الغادر مسلماً، وكان من توجّه إليه الغدر كافراً لأنّ اللّه سبحانه وتعالى لا يحبّ الغادرين.

وورد عن علي(ع) ((الغدر بكلّ أحد قبيح، وهو بذي القدرة والسلطان أقبح)). أي الذي يستعمل قوته في الغدر ذلك لأنّ الخلق الإسلامي يتمثل في العفو عند المقدرة، لا أن تُتخذ السطوة والسلطة كسلاح للغدر والبطش والفتك بمن لا يملك قوة ولا ناصرا.

إفشاء السر غدر:

وفي الحديث عنه(ع) أيضاً، وهو مما نبتلى به كثيراً ((أقبح الغدر إذاعة السرّ)). أي عندما يودعك أحد سرّه، ويريد منك أن تكتمه، فإنّ هذا هو عهد بينك وبينه على كتمان السرّ، فأنت عندما تذيع سرّه فقد غدرت به لأنّك نقضت التزامك له في فضح سره والمجالس – كما هو معروف – بالأمانات فلا ينبغي لك أن تفشي سرّ من أودعك سرّه لأنك بذلك تغدره.

وقد ورد في الحديث عن علي(ع) تعليقاً على بعض الناس الذين يعتبرون منْ يتقن اللعبة الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية ذكياً، فيخطّط من أجل خداع الناس، فيمنحهم الالتزامات التي توحي لهم بالثقة به فيرتبون أمورهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على هذا الأساس، ثم يضرب ذلك عرض الجدار فيغدر بمن عاهدهم حتى يسقط أوضاعهم كيما يحصل على النتائج الإيجابية لمصلحته من خلال ذلك.

إنّ هذا المخادع الذي يصفه المأثور الشعبي بأنّه يأخذك إلى النهر ويرجعك عطشاناً، أو أنه يجيد اللعب على كلّ الحبال، أو أنه يعرف من أين تؤكل الكتف، يحذّر الإمام(ع) من اعتباره كذلك، فهو يعلّق على الانحراف الأخلاقي في تقويم الأشخاص من الغادرين فيقول في (نهج البلاغة) ((أيها الناس، إنّ الوفاء توأم الصدق)). أي أنّهما أخوان، لماذا؟ لأنّ الوفاء يمثّل الصدق في العهد والصدق في الموقف والصدق في الالتزام، فكلّ وفيّ هو صادق، فإذا كنت غير وفيّ فأنت لست صادقاً. ((ولا أعلم جّنّة أوقى منه)) أي درعاً اشد وقاية منه، فلا شيء هناك يقي المجتمع من المخاطر والمشاكل والنتائج السلبية كما هو الوفاء. ((ولا يغدر من علم كيف المرجع)) فالإنسان ينبغي أن يفكّر بالآخرة وبما يقبل عليه من خلال خسرانه لرضوان اللّه تعالى وتعرّضه لسخطه بما يؤدي إليه غدره من عواقب وخيمة يوم يقوم الناس للّه تعالى ويحكم بينهم، فإنّ الغدر ربما يعطي للإنسان بعض الأرباح في الدنيا ولكنّه يعطي الخسارة – كلّ الخسارة – في الآخرة، وأيّة خسارة أفدح من هذه، لأنّه يخسر نفسه ومصيره.

علي(ع) وكراهة الغدر:

((ولقد أصبحنا في زمان)) وهو زمانه(ع) فكيف يا ترى بزماننا الذي انقلبت فيه الموازين؟! ((قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً)) والكيس من الكياسة وهي الذكاء والفطنة ((ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة)).

ثم أنّه(ع) يتحدث عن نفسه، ويردّ بذلك على من يقولون إنّ علياً(ع) لا يعرف السياسة، وأنّه لا يعرف كيف يدير الأمور التي يستطيع بها أن يربح النتائج ((ما لهم قاتلهم اللّه قد يرى الحوّل القلّب)) والحوّل القلّب هو الشخص المجرّب الذي يقلّب الأمور على وجوهها، ويقدّر عواقبها، ويعرف نتائجها الإيجابية والسلبية، فأنا، أي علي(ع)، أعرف كيف يُنقض العهد، وكيف تُتخذ الحيلة ولكن ثمة ما يمنعني من هذا وذاك ((ودونها مانع من أمر اللّه ونهيه)) فإذا قال اللّه تعالى لي قف هنا ولا تتقدم في تيار هذه الحيلة فإنني أقف حيث أراد اللّه لأنّ الحيلة لا تنسجم مع البرنامج الشرعي الذي وضعه سبحانه وتعالى في تنظيم علاقات الناس العامّة والخاصّة ((فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)) أي من لا تقوى له.

وتلك هي مشكلة الإمام علي(ع) مع مجتمعه، فلقد ملك الفكر كلّه، وعرف كيف يعمّقه في كلّ دقائق الأمور وخفاياها، وهو الإنسان الذي فهم الحياة كما لم يفهمها أحد في عهده، وهو الذي عاش التجربة في أدقّ مراحلها، والإنسان الذي ارتفعت به المعرفة حتى قال: ((لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا)). وعاش المعرفة كلّها حتى قال: ((فإنّي بطرق السماء أعرف منّي بطرق الأرض)) ([331]) ولكنّ علياً(ع) هذا الصلب العنيد كان ضعيفاً أمام اللّه سبحانه وتعالى حتى أنّه كان يقول ((وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين)) كان القوي أمام العالم كلّه الضعيف أمام اللّه عزّ وجل، فإذا قال له تبارك وتعالى شيئاً أحنى رأسه وخضع حتى قال: ((كفى بي عزاّ أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً أنت كما أحبّ فاجعلني كما تحبّ))([332]).

فنحن نقرأ في سيرة الإمام(ع) في مسألة الشورى التي تحدّث عنها بقوله: ((فيا للّه وللشورى متى اعترض الريبُ فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر)). أنّ عبد الرحمن بن عوف جاءه وكان عمر بن الخطاب هو الذي جعل الشورى فيمن يخلفه، فقال لعلي(ع): تبايعني (أي أبايعك) على كتاب اللّه وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين؟، فقال علي(ع) له: ((أمّا كتاب اللّه وسنّة نبيه فنعم، وأمّا سيرة الشيخين فلا))([333]) فإذا كانا يسيران على كتاب اللّه وسنّة نبيّه فما الحاجة إلى سيرتهما؟!، وأما إذا كانت سيرتهما تعني اجتهادهما فلي اجتهادي ولهما اجتهادهما، فلم لا أعمل باجتهادي أنا أيضاً؟! وبهذا صرف عبد الرحمن بن عوف الخلافة عن علي(ع) وأعطاها لعثمان وأعطاه عثمان العهد في ذلك ولم يلتزم به وماتا وهما متباغضان.

وفي واقعة صفين تغلّب جماعة معاوية على الماء فمنعوا أصحاب علي(ع) من أن يأخذوا الماء من النهر، فهجم أصحاب الإمام(ع) وتغلّبوا عليهم وقالوا لعلي(ع) فلنمنعهم كما منعونا فرفض ذلك باعتبار أنّ اللّه جعل الماء مشاعاً ومباحاً لكلّ الناس فإذا منعونا منه فإنّهم يخالفون إنسانيتهم وهيهات أن نفعل ما يفعلون.

فعلي(ع) كان يتحرك من خلال منهج رسالي وروح منفتحة لا من خلال حقد أعمى، وهذا ما قرأناه في (نهج البلاغة) عندما سمع جماعة من أهل العراق يسبّون أهل الشام فوقف فيهم خطيباً وقال لهم: ((إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في الغدر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: ربّنا أحقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به))([334]).

وقد عبّر عن روحيته هذه بأكثر من كلمة حيث قال: ((واللّه ما معاوية بأدهى منّي)) وما زال البعض حتى يومنا هذا يقولون إن عليا(ع) ليس سياسياً وأنّ معاوية هو السياسيّ، فهذا حافظ على ملكه وعلي(ع) لم يستطع أن يحافظ على ملكه وقد عالج الإمام(ع) ذلك بهذا القول ((ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدرة فجرة، وكلّ فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة))([335]). فالمؤمن لا يمكن أن يغدر بل هو يلتزم بعهد اللّه ((واللّه ما أُستغفَل بالمكيدة، ولا أُستغمَز بالشديدة)) فلا أحد يستطيع أن يستغفلني بمكائده، ولا أحد يستطيع أن ينتقص من شأني وموقعي وقوتي بما يوجهه إليَّ من الشدائد.

وعن الأصبغ بن نباتة قال: ((قال أمير المؤمنين(ع) ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة: أيّها الناس لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ألا إن لكلّ غدرة فجرة، ولكلّ فجرة كفرة، ألا إنّ الغدر والفجور والخيانة في النار)).

الغدر في موضعه وفاء:

يقول(ع): ((الوفاء لأهل الغدر غدر عند اللّه، والغدر بأهل الغدر وفاء عند اللّه)) فالإمام(ع) لا يطلب منّا أن نغدر بلا مناسبة بل يركّز على أنّ أهل الغدر – وهم الذين يخططون للغدر بالمسلمين يجب الحذر منهم فلا يفي المسلمون لهم، لأنّ الغادر يبتعد عن التزاماته بنقضه عهده، ولذا فإنّ من حقك أن تنقض عهدك معه، وهذا المفهوم ينطلق من الآية الكريمة }وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ{([336]). وقد نزلت في يهود بني قينقاع الذين أعطوا النبي(ع) عهداً وعزموا على نقضه وأخبره اللّه تعالى بذلك وأمره بحربهم، ومن هنا فإنّ الوفاء لهم غدر.

وورد عن رسول اللّه(ص) ((إذا جمع اللّه الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكلّ غادر لواء فقيل هذا غدرة فلان بن فلان))([337]).

اجتناب الغدر في الحياة الاجتماعية:

وعلى هذا الأساس فإنّ علينا أن ننطلق في حياتنا الخاصّة والعامّة من خلال هذا البرنامج، فالالتزامات الخاصّة بين الناس هي هذه المعاقدة بين الرجل وبين المرأة في عملية الزواج، فعلى الرجل أن يفي لزوجته بحقها، وعلى الزوجة أن تفي لزوجها بحقّه، فلا يجوز لأحدهما أن يغدر بالآخر بأن ينقض عهده ويتحلل من التزاماته، وقد عبّر اللّه سبحانه وتعالى عن الذين يأخذون مهر زوجاتهم بقوله }أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا* وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا{([338]). وهكذا بالنسبة للالتزامات في الدين والبيع والشراء والإجارة والمضاربة والشركة، فكلّ هذا فيه عهد يمثّل عهد اللّه ولا يجوز للإنسان أن ينقضه، فنقض العهد يمثل حالة غدر.

كما نعيش في واقعنا السياسي مسألة الوفاء لأهل الغدر والغدر بأهل الغدر في المعاهدات التي تحصل بين شعوب العالم الثالث وبين المستكبرين، حيث يعمل القوي على أن يتحلل من التزاماته إزاء الضعيف على أساس لعبة سياسية أو اقتصادية، وعلى الضعيف أن يراقب ذلك ويكون حذراً، فإذا تحلّل القوي من بعض التزاماته بالمكر والحيلة والخداع فعلى الضعيف أن يواجهه بالتحلل من التزاماته حتى لا يمكّنه من الغدر به بلحاظ غفلته وأخلاقيته.

فلقد قلنا في بعض التصريحات أننا لا نمكّن الاستكبار العالمي من أن يقيدنا بأخلاقياتنا فهي تتسع للكثير من الخطوط التي تجعلنا نتحرك أخلاقياً من دون أن نسيء إلى مبادئنا، ولكنّنا نواجه المستكبر باستكباره بالحيلة وبالخداع وبالمكر إذا أراد أن يخدعنا ويمكر بنا، وهذا ما نواجهه الآن مما يعقد من التزامات بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين، خاصة الالتزامات التي وقّع عليها الفلسطينيون، ونقضها العدوّ فلم يف بالتزاماته، بل حاول أن يلعب لعبة الإيحاء بأنّ الفلسطينيين هم الذين لم يلتزموا باتفاقاتهم. ونحن نراقب الاتفاق الذي عقد أخيراً بين الصهاينة وبين الفلسطينيين بإشراف رئيس المخابرات الأميركية فنجد أنهم وقّعوا على اتفاق إطلاق النار، ولكن الصهاينة خطّطوا لنقض هذا الاتفاق فلم يرفعوا الحصار وما زالوا يعتدون. وقد عرف الفلسطينيون طبيعة اللعبة، لهذا ولد الاتفاق شبه ميت، إذا لم يكن ميتاً.

إنّ علينا أن نفي بالتزاماتنا مع الآخرين ولكن علينا أن نكون الواعين اليقظين الحذرين الذين لا نستغفل بالمكيدة ولا نستغمز بالشديدة، بل نعرف كيف نفي في مواقع الوفاء، وكيف ننبذ إلى الذين نخاف منهم الخيانة في مواقعها.

وإن على المؤمن أن يكون الواعي لما حوله ولمن حوله، وأن يكون إنسان الأخلاق الذي يركّز منهجه الأخلاقي مع عدوه ومع صديقه ليفي بالتزاماته ولكن عليه أن لا يكون الإنسان المغفّل الذي يقيده الآخرون بأخلاقه في الوقت الذي ينقضون فيه كلّ مبادئ الأخلاق. والحمد للّه رب العالمين.

 


 

  المحاضرة العاشرة 2 ربيع الثاني 1422ه‍ - 23/ حزيران/2001م

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (2)

كتابه إلى الحارث الهمداني

- الفصل الأول -

* كان علي(ع) يتحسّس مسؤوليته عن توعية الناس، فلم تكن علاقته بأصحابه أو بولاته في فترة حكمه علاقة رسمية، بل كانت علاقة رسالية *

مسؤولية علي(ع).

كتاب علي(ع) إلى الحارث الهمداني.

التمسّك بالقرآن.

التصديق بالحقّ.

الإعتبار بالماضي.

تعظيم لفظ الجلالة.

الإكثار من ذكر الموت.

اجعل نفسك ميزاناً.

حاذر من الأعمال المخجلة.

صنْ عِرضك.

لا تحدّث بكلّ ما تسمع.

تكذيب كلّ المسموعات جهل.

كظم الغيظ.

التجاوز عند المقدرة.

الحلم عند الغضب.

الصفح من موقع السلطة.

استصلاح النعم.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

مسؤولية علي(ع):

ونبقى مع علي(ع) نستنطقه ونسأله وننفتح على آفاقه التي هي آفاق الإسلام في صفائه ونقائه وسعة أفقه، لأنّ علياً(ع) كان إسلاماً بكلّه فلم يكن فيه شيء لغير الإسلام. فهو قد عاش الإسلام بمعناه التوحيدي قبل أن يولد رسالة في عقل رسول اللّه(ص) الذي أعدّه اللّه إعداداً في عقله وقلبه وحياته ليكون الإنسان الذي تتجسّد فيه الرسالة.

وقد كان علي(ع) يتحسّس مسؤوليته عن توعية الناس، فلم تكن علاقته بأصحابه أو بولاته في فترة حكمه علاقة رسمية، بل كانت علاقة رسالية، ولهذا فإننا نجده عندما يعيش مع جمهوره يغتنم كلّ فرصة ليخطب فيهم، وليتناول كلّ القضايا التي تتحرك بشكل ضبابيّ في المجتمع ليعالجها بوحي من مسؤوليته الرسالية، وليحلّها عندما تتحوّل إلى مشكلة. وكان يكتب إلى ولاته وإلى أصحابه ليرفدهم في كلّ ما يمارسونه من ولايتهم عنه في حكم الناس لينقد انحرافاتهم إذا انحرفوا وليبلور لهم الفكرة عندما تشتبه عليهم الأمور، وليتابعهم في قضاياهم كلّها ليخطّط لنظام إداري هنا، أو لخطوط حركية هناك حتى يكونوا صورة عنه في الرفق بالأمّة، وبالعدل فيما يحكمون.

ولذلك فنحن بحاجة – أيّها الأحبّة – إلى أن ندرس علياً(ع) بكلّه.. ندرسه في خطبه التي نستطيع أن نتعرّف من خلالها ما هي الأحداث؟ وما هي القضايا؟ وما هي التعقيدات التي كانت تتحرك في المجتمع في عهده؟ لأنّ خطبه كانت تمثل الركائز التي يخطّط من خلالها لقضايا المجتمع كلّها. وعلينا أن ندرسه في كتبه ورسائله التي كان يرسلها إلى الذين عارضوه وحاربوه، لنرى كيف كان يخاطبهم؟ وكيف كان يحاورهم؟ وكيف كان يقيم الحجّة عليهم؟

وندرسه في كلماته القصار التي تمثّل كلّ كلمة فيها عالماً من فكر أو حكمة أو موعظة. ولعلّ مشكلة علي(ع) مع الذين ينتسبون إليه أنّهم لم ينفتحوا عليه الانفتاح الواعي في حياته، كما لم ينفتحوا عليه الانفتاح الواعي في مدى الزمن، بعد انتقاله إلى رحاب اللّه.

ولو قمنا بإجراء إحصائية في المجتمعات التي تنتسب إليه بالاسم أو تتشيّع له، فكم نجد من هؤلاء الناس، حتى الذين يحملون صفة رسمية دينية، من يفهم علياً(ع) في منطلقاته وفي كلماته؟!

كتاب علي(ع) إلى الحارث الهمداني:

وفي هذا اللقاء – أيّها الأحبّة – نريد أن نتابع علياً(ع) في كتابه إلى (الحارث الهمداني) وهو من أصحابه المقربين إليه، ولم ينقل (الشريف الرضي)(رحمه الله) في (نهج البلاغة) الكتاب كلّه كعادته في اقتطاع بعض كلمات الإمام(ع) مما يتوافر على شرط بلاغي، ولذلك فقد أهمل الكثير من كلمات الإمام(ع) في اختياراته التي لم تقع تحت الشرط المذكور فأضاع علينا الكثير من الجانب الفكري. ونحن نتصوّر أنّ كلمات علي(ع) كلّها في مستوى البلاغة لأنّه لم ينحطّ في كلمة ليرتفع في كلمة أخرى، بل كانت كلماته فيما نقرأه منها يشبه بعضها بعضاً في المستوى البلاغيّ الأرفع.

التمسّك بالقرآن:

يقول(ع) مخاطباً الحارث: ((وتمسّك بحبل القرآن)) كما يتمسّك كلّ إنسان بالحبل عندما يريد أن يثبّت نفسه في مواقع السقوط والاهتزاز، وقد عبّر رسول اللّه(ص) في حديث الثقلين عن القرآن بقوله: ((إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي)). فالقرآن حبل ممدود من السماء إلى الأرض لأنّه وحي اللّه من السماء التي تمثل موقع العلو، وإلاّ فاللّه تبارك وتعالى لا تحويه سماء ولا أرض لأنّه فوق الزمان والمكان.

فالإمام(ع) يوصي الحارث بأن يتخذ القرآن القاعدة التي يرتكز عليها، فيقول له انفتح عليه وليكن تمسكك بالقرآن بأن يمثل لديك القاعدة الفكرية التي يمكنك أن تنفذ إلى كلّ جذورها وأسسها من أجل أن تصنع لنفسك الفكر الذي ينفتح عليه عقلك، لأنّ اللّه أودع في هذا القرآن قاعدة الفكر للإنسان بحيث يتحرّك من خلاله إلى كلّها تفريعاته.

((وانتصحه)) فإذا عشت مشكلة فافتح القرآن وأنظر كيف ينصحك في حركة الحلّ لهذه المشكلة، وعندما تريد أن تدخل في مشروع أو تسلك طريقاً أو تؤيّد شخصاً أو جهة أو ترفضهما، وعندما تطلب النصيحة فيما يطلبه الناس من الناصحين، فالقرآن خير ناصح فاستنصحه في آياته كلّها ففيه كلّ النصيحة بشرط أن تعيه القرآن وعي تدبّر وتعمّق لا وعي استهلاك سطحي كما يفعل الذين يستهلكون القراءة القرآنية )أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(([339]).

((وأحلّ حلاله وحرّم حرامه)) فالقرآن هو كلمة اللّه، وهو شريعته، ولذلك فإن عليك أن تلتزم القانون القرآني بأن تحلّ ما أحلّه وأن تحرّم ما حرّمه، وأن لا تلجأ إلى شريعة أخرى غير القرآن)وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ(([340]).

التصديق بالحقّ:

((وصدّق بما سلف من الحق)). لأنّ اللّه سبحانه وتعالى إنّما أكّد الحقّ في رسالته لأنّ الحق هو الثبات الذي يمثل الرسالات كلّها، فهي – أي الرسالات – لا تختلف في الحقّ الذي يجمعها إن في حق التوحيد أو في حقّ اليوم الآخر أو في حق المفاهيم التي تؤصّل للإنسان إنسانيته وتفتح له الطريق إلى اللّه سبحانه وتعالى، ولكنّ الفرق بين رسالة ورسالة هو فرع هنا وفرع هناك )وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ(([341]). كما جاء على لسان عيسى(ع). و((إنّما بعثت لأتممّ مكارم الأخلاق)). كما جاء على لسان الرسول(ص). ولذلك فإنّ القرآن )مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ(([342]) و)لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ(([343]).  لأنّ كلّ رسول جاء بالحقّ.

الإعتبار بالماضي:

((واعتبر بما مضى من الدنيا ما بقي منها)) فإذا أردت أن تفهم الدنيا فيما تستقبل فانظر إليها فيما مضى عنك لأنّ السنن التأريخية التي أودعها اللّه في حركة المجتمعات من هزيمة وانتصار ونجاح وفشل وحياة وموت هي السنن الثابتة فيما أقام اللّه عليه الدنيا، ولذلك فقد يختلف المستقبل عن الماضي في بعض التفاصيل ولكنّهما ينطلقان من قاعدة واحدة وسنّة واحدة في القواعد العامّة التي تحكم حركة الإنسان في الزمن)وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا(([344]). )وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا(([345]).

((فإنّ بعضها يشبه بعضاً، وأخرها لاحق بأوّلها)). وهكذا نرى كيف تنطلق المسيرة الإنسانية .. جيل يمضي وجيل يأتي وما يجري على الجيل الآتي فيه الكثير مما جرى على الجيل الماضي.

((وكلّها حائل مفارق)) أي أن كلّ ما في الدنيا زائل وهو مفارق الناس الذين يعيشون فيه.

تعظيم لفظ الجلالة:

((وعظّم اسم اللّه أن تذكره إلاّ على حقّ)). فلا تبتذلوا اسم اللّه، ولا تجعلوا اسم اللّه عرضة لأيمانكم، فإنّ الحلف باللّه يمثل عنواناً من أخطر العناوين، لماذا؟ لأنّ معنى أن تحلف باللّه على خبر تنقله، أو تحلف به على شيء تفعله هو أنّك تجعل اللّه شاهداً على ما تخبر به، فإذا كان ما تخبر به زوراً وباطلاً فإنّك تأتي باللّه شاهد زور، وإذا كنت لا تقبل أن يؤتى بك كشاهد زور لأنّ ذلك يمثل انتهاكاً لحرمتك وإسقاطا لموقعك فكيف بك وأنت تأتي باللّه شاهد زور سواء كنت تخبر عن شيء في غير حالة الشهادة، أو كنت تخبر عن شيء في موقع الشهادة. وقد ورد في الحديث ((إنّ اليمين الكاذبة تضع الديار بلاقع)). أي قفراء، فيما تنتجه هذه الشهادة من نتائج سلبية على الإنسان وعلى الآخرين، وكأنّك فيما تحلف باللّه تغري الآخر أن يثق بك باسم اللّه، وكأنّك تقول بأنّ اللّه يشهد عليّ أنني سأفعل ذلك، فإذا كنت عازماً أن لا تفعل فكيف تأتي باللّه لتوثق التزامك بعهدك ووعيك باسم اللّه؟ إنّ ذلك يمثّل نوعاً من عدم التعظيم للّه سبحانه وتعالى، حتى أنّ بعض الآثار الدينية تقول: ((لا تحلف باللّه صادقاً ولا كاذباً)).. وينقل عن إمامنا الإمام زين العابدين علي بن الحسين(ع) أنّ امرأة من نسائه طلّقها ولم تكن في مستوى المسؤولية فادّعت عليه مالاً ولم تكن لديها بيّنة وقدّمته إلى القاضي واقتضت الدعوى أن يحلف الإمام(ع) على نفي ما طلبته وهو مئتا دينار، فقال لولده الإمام محمد الباقر(ع): يا بني أعطها مائتي دينار، فقال: يا أبتاه ألست صادقاً في نفي ذلك؟ فقال: بلى، ولكنّي ((أجللت اللّه أن أحلف به يمين صدق)). أي لا أريد أن أقحم اللّه سبحانه وتعالى في نفي ما تدعيه هذه المرأة وإن كان ذلك يوجب خسارتي، فإنني أريد أن أشهد اللّه بأنّني أكرم اسمه فلا أقحمه في هذه الدعوى.

الإكثار من ذكر الموت:

((وأكثر ذكر الموت وما بعد الموت)). فهل يريدنا الإمام(ع) في هذه النصيحة أن نموت قبل أن نموت؟ وهل يريد منّا أن يضع كلّ واحد منّا قبره وأجله أمامه ليعيش حالة اليأس من الحياة أو الإحساس بأنّه سوف يموت اليوم أو غداً فيمنعه ذلك من الانفتاح على الحياة في قضاياها وصراعاتها ومشاريعها؟

إنّ الإمام(ع) فيما نفهمه من كلامه لا يريد ذلك لأنّه يعرف – وهو الذي علّمنا مما علّمه اللّه ورسوله – بأنّ الحياة مسؤوليتنا، وأنّ علينا أن نندفع إلى الحياة في نطاق المسؤولية لنبنيها على ما أراد الله سبحانه وتعالى الذي جعل الإنسان خليفته في الأرض من أجل أن يحقق هذا الهدف، والإمام(ع) يقول: ((اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)). أي اعمل لدنياك كما لو لم يكن هناك موت أبداً، وخطّط لمشاريعك على أساس الاستمرار من دون انقطاع، ووازن بين المسؤولية وبين الحركية، بأن تكن حركيتك منفتحة على الزمن كلّه في التخطيط لنجاح مشروعك، وفي نطاق إحساسك بالمسؤولية في كلّ خطوة تخطوها، فالإمام علي(ع) يريد من الإكثار من ذكر الموت أن نعيش المسؤولية في حياتنا، لأنّ الإنسان عندما يعيش طول الأمل وينسى الموت فإنّه يفقد إحساسه بالمسؤولية في الحياة، وقد ورد عن النبي(ص) ((إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: الهوى وطول الأمل، أمّا الهوى فيصدّ عن الحقّ وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة)).

ويقول في حديث آخر: ((إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قالوا: يا رسول اللّه وما جلاؤها، قال: قراءة القرآن وذكر الموت)) كلّ ذلك من أجل أن يستعدّ الإنسان لما بعد الموت وهو لا يزال على قيد الحياة.

ويمضي الإمام(ع) قائلاً: ((ولا تتمنّ الموت إلا بشرط وثيق)) فلا تتمنّ الموت عندما تضغط عليك الحياة، ولا تتمناه عندما تزحف إليك عناصر الفشل والإحباط، إلا إذا كنت تملك الحجّة لنفسك أمام اللّه في يوم القيامة، فإذا عرفت بأنّ كتابك مليء بالحسنات، وأنّ السيئات لا تمثّل شيئاً كبيراً في كتابك عندما يقول لك)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(([346]). وعندما تقف أمام اللّه لتقدّم حسابك)يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا(([347]). عند ذلك يمكن أن يرحّب الإنسان بالأجل، ولذلك فقد تحدّى اللّه اليهود في سورة (الجمعة) لأنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم أولياءه وأحبّاءه، فقال لهم)فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(([348]). وقد ورد في دعاء (مكارم الأخلاق) عن الإمام زين العابدين(ع) ((وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك عليّ))([349]). ويقول(ع) في دعاء (يوم الثلاثاء): ((واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير والوفاة راحة لي من كلّ شرّ)). ويقول الشاعر:

ولو  أنّا   إذا   متنا   تركنا                                        لكان الموت  راحة  كلّ  حيّ

ولكنّا  إذا    متنا     بعثنا                                         ونُسأل  بعده  عن  كلّ  شي

إجعل نفسك ميزاناً:

((واحذر كلّ عمل يرضاه صاحبه لنفسه ويكرهه لعامّة المسلمين)). فربما يرضى بعض الناس لأنفسهم أعمالاً معينة لأنّها تعطيهم فرصاً للحياة ومكسباً وربحاً ولكنّه لا يريد لعامّة المسلمين أن يحصلوا على ذلك، وهذه هي الأنانية التي تجعل الإنسان يعيش في سجن ذاته ويفصل نفسه عن المسلمين في تمنياته وأحلامه وتطلّعاته وكلّ ما يخطّط له، وهذا ليس من شأن المسلم. ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها)). ويقول علي(ع) في وصيته لولده الحسن(ع): ((يا بني اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها)).

حاذر من الأعمال المخجلة:

((واحذر كلّ عمل يُعمل به في السرّ ويُستحى منه في العلانية)). والإنسان غالباً ما يلجأ إلى الأعمال السرية القبيحة والمنحرفة فيما يخجل من القيام به في العلانية، ولا يملك أن يقدّم عذراً ولا حجّة عليه، لذلك يقول الإمام(ع) لا تعمل الأعمال القبيحة التي لو ظهرت إلى الناس لخجل صاحبها منها، ولتكن علانيتك وسّرك في العمل الذي تعمله بمنزلة سواء.

((واحذر كلّ عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره واعتذر منه)). فلا تعمل الأعمال التي يعتذر منها لأنّك بذلك تضع نفسك في مواقع الذلّ. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) ((إنّ اللّه فوّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض له أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذلّ نفسه؟ قال: يدخل فيما يعتذر منه)). لأنّ موقف المعتذر وهو موقف الندم يمثل موقف الذلّ أمام الآخرين، وقد ورد في الحديث في الفرق بين المنافق وبين المؤمن ((إنّ المنافق يسيء ويعتذر وأنّ المؤمن لا يسيء ولا يعتذر)). لذلك كلّه جاء النهي في الحديث عما يعتذر منه ((إيّاك وما يعتذر منه)).

صنْ عِرضك:

((ولا تجعل عرضك غرضاً لنبال القوم)) فالعرض يمثل كرامة الإنسان وسلوكيته وكلّ معنى الكرامة في حياته، فلا تعمل الأعمال السيئة التي تجعلك هدفاً لسهام ونبال الناس باعتبار أنّها الأعمال التي تغري الآخرين بالنقد والانتقاص منك، أي أن ذلك كناية عن جعل النفس في موقع العمل الذي لا يملك أحد أن ينقده بلحاظ العناصر السلبية الموجودة فيه.

لا تحدّث بكلّ ما تسمع:

((ولا تحدّث الناس بكلّ ما سمعت فكفى بذلك كذباً)) فالإنسان يسمع في كلّ يوم، من الناس أو الإذاعات، كلاماً كثيراً، ولكن ليس كلّ ما يسمعه هنا وهناك صدقاً، فقد يحدّثك الناس بالكذب، وقد تحدّثك الأجهزة الإعلامية بالكذب، فحاول أن تغربل ما سمعته وتحدّث الناس بما ثبت لك صدقه ولا تحدّثهم بكلّ ما سمعت لأنّ بعض ما سمعت قد يكون كذباً، وبذلك يكون حديثك حديث الكذب ولو ببعض مفرداته.

تكذيب كلّ المسموعات جهل:

((ولا تردّ على الناس كلّ ما حدّثوك به فكفى بذلك جهلاً)). فقد يحدّثك الناس بالكثير من أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد والأمن وغيرها، وربما يبادر البعض من الناس إلى تكذيب كلّ ما يسمعه وهذا جهل، فليس من الضروري أنّ كلّ ما يحدّثك به الناس كذب كلّه، فقد يكون فيه بعض الصدق، فلابدّ لك أن تدقّق في أحاديثهم فقد ترى فيها بعض الصدق وربما ترى فيها بعض الكذب، لتصدقهم فيما ثبت لك صدقه ولتكذّبهم فيما لم يثبت لك صدقه، فقبل أن تحكم على ما سمعت دقّق فيه لتميّز الصادق من الكاذب ولا تشمل في التكذيب كلّ ما حدّثك الناس به فلعلّ فيه بعض الصدق.. كن الدقيق في حكمك ولا تنطلق في أحكامك من موقع انفعالاتك أو هواجسك، ولا تكن الإنسان الذي يصدّق كلّ شيء يسمعه، أو يكذّب كلّ شيء يسمعه.

كظم الغيظ:

((واكظم الغيظ)) لأنّ ذلك يمثل قوة الإرادة على ضبط انفعالاتك، فالغيظ عندما يفور في نفسك ويتفجّر فقد يقودك إلى ما لا تحمد عقباه، وقد يجعلك تتحرك من موقع غريزتك لا من موقع عقلك، لأنّ الإنسان إذا ثار غيظه سكت عقله ذلك لأنّ الغيظ يمنع العقل من الانفتاح، وقد جعل اللّه كظم الغيظ من صفات أهل الجنّة  )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(([350]).

التجاوز عند المقدرة:

((وتجاوز عند القدرة)) فلا تجعل نفسك تتعقد بالغيظ بل حاول أن تعفو، فالتجاوز عند المقدرة يمثل قوة الموقف، فعندما تعفو من موقع القدرة فإنّ الآخر لا يعتبر عفوك ضعفاً بل يعتبره حلماً.

الحلم عند الغضب:

((واحلم عند الغضب)) فإذا غضبت فليتسع صدرك وكن حليماً تنفتح على القضية من موقع التفكير الهادئ الذي يتلقّى الأمور بصدر رحب ليعالجها بحكمة وروية.

الصفح من موقع السلطة:

((واصفح مع الدولة)) والدولة كناية عن السلطة والقوة، فإذا كنت صاحب سلطة فحاول أن تصفح عندما يمثّل الصفح الخط الأخلاقي الذي ينسجم مع مصلحة المجتمع، ((تكن لك العاقبة)) الحسنة، فالذين يعفون ويصفحون لابدّ أن ينالوا النتائج الطيبة عند اللّه وعند الناس.

استصلاح النعم:

((واستصلح كلّ نعمة أنعمها اللّه عليك)) فإذا أنعم اللّه عليك بأي شيء سواء كان مالاً أو جاهاً أو علماً أو عافية، فحاول أن تحافظ على هذه النعمة ولا تهملها، بل حاول أن تستصلحها وتمّنيها وأن تعمل على تقوية عناصرها كلّها.

((ولا تضيعنّ نعمة من نعم اللّه عندك)) بل حافظ عليها لأنّها تمثّل كرامة من اللّه لك، وعليك أن لا تضيّع كرامة اللّه، وعليك أن تعمل على تحريكها فيما يريده اللّه ولاسيما أن هناك نقطة تجدر ملاحظتها وهي أنّ كلّ نعمة وضع اللّه إلى جانبها المسؤولية، وكلّ نعمة ينعم اللّه بها على الفرد تكون أمانة عنده للجماعة لأنّ الجماعة ليست شيئاً مستقلاً، فالمجتمع ليس شيئاً معلّقاً في الفضاء، فهو أنا وأنت والآخرون، والأمّة هي أنا وأنت والآخرون، فقوّة الأمة هي في قوة أفرادها كلّهم، وطاقة المجتمع في طاقات أفراده، فعليك أن لا تعتبر أنّ ما أعطاك اللّه من مال أو عمل أو قوة هي ملكك الذي تتصرف به كما تشاء، بل هي ملكك وملك المجتمع الذي أنت جزء منه، فلست حرّاً أن تحبس علمك عن المجتمع، ولا أن تحبس ما فضل من مالك )وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(([351]). )وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ(([352]). )وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ(([353]). فعلمك لك وللأمة، وطاقتك لك وللأمة وجاهك كذلك.

((وليرَُ عليك أثرُ ما أنعم اللّه به عليك))([354]) فاللّه يحب لك أن تحدّث بنعمه)وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(([355]). لتظهر نعمة اللّه عليك دون خيلاء ودون تكبّر ودون استعراض يقهر الآخرين في نفسياتهم كما فعل قارون مع قومه حينما خرج عليهم بزينته فتمنّى بعضهم أن يكون لهم مثل ما لقارون من مال. والحمد للّه رب العالمين.


 

المحاضرة الحادية عشرة 9 ربيع الثاني 1422ه‍ - 30/حزيران/2001م

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (3)

كتابه إلى الحارث الهمداني

 - الفصل الثاني –

 

* عندما نجلس مع رسول الله (ص) ومع علي(ع) فإننا ننفتح على الله بكلّه *

 

الفصل الثاني من كتابه إلى الهمداني.

العناية بالأهل.

تقديم المال.

إعرفوا أهل البيت(ع).

مواصفات الصحبة الصالحة.

أي المساكن أفضل؟

لا تتدخل في شؤون الآخرين.

التحذير من الجلوس في الأسواق.

انظر إلى من فُضّلت عليه.

اشهد الجمعة.

طاعة اللّه في كلّ شيء.

المخادعة في العبادة.

النهي عن مصاحبة الفسّاق.

إحذر الغضب.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ونبقى نسير مع علي(ع) فالسير معه هو سير مع رسول اللّه (ص) لأنّ علياً(ع) ينطق عن رسول اللّه (ص) في كلماته كلّها، ويتحرك مع رسول اللّه (ص) في خطواته كلّها، وينفتح في آفاقه كلّها على آفاق رسول اللّه كلّها لأنّه نفسه عقلاً وقلباً وروحاً وحركة حياة.

وعندما نجلس مع علي(ع) ومع رسول اللّه (ص) فإننا ننفتح على اللّه بكلّه لأنّ محمداً (ص) هو رسوله، ولأنّ علياً(ع) هو خليفة رسوله وهو وليّه، لذلك فنحن هنا – أيّها الأحبّة – مع اللّه سبحانه وتعالى في وحي كتابه وسنّة رسوله، ومع رسول اللّه (ص) في تعاليمه كلّها، ومع علي(ع) في كلّ ما تعلّمه من رسول اللّه (ص) وفيما ألهمه اللّه عزّ وجل.

الفصل الثاني من كتابه إلى الهمداني:

ونتابع كتابه إلى (الحارث الهمداني) الذي هو كتاب إلى الأمّة كافّة لأنّه ليس فيه أية خصوصية تتصل بالشخص، بل هو ينفتح على الأمة كلّها في القضايا التي يؤكدها الإسلام في السلوك العملي في كلّ ما تمثّله انتماءات الإنسان المسلم، وفي كلّ ما يتحرّك به في نفسه وفي علاقاته مع الآخرين ومع الحياة كلّها.

وسترون – كما رأينا في الفصل السباق من الكتاب – أنّ علياً(ع) يحدّثنا كما لو كان حاضراً معنا. يقول(ع) : ((واعلم أنّ أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه وأهله وماله)). إنّ الإمام(ع) يريد أن يؤكّد لنا من هو الأفضل؟ فهو يرى أن الأفضلية في الجانب الذي يتجاوز فيه الإنسان نفسه إلى غيره، فأنت الأفضل بمقدار ما تكون الأفضل للناس، وأنت نفسك، ونفسك هي عقلك وقلبك وطاقتك المودعة في ذاتك، فكيف تقدّم نفسك للناس للتحرّك في اتجاه خيرهم؟

فإذا كان لك عقل يتحرك في مواقع الفكر كلّها مما يحتاجه الناس من فكرك فعليك أن تقدّم فكرك من خلال عقلك للناس.. لا تبخل به.. ولا تكن أنانياً في علمك، لأنّ فكرك شركة بينك وبين كلّ فرد من أفراد الأمّة من خلال شركة الجزء مع الكلّ، وعلمك كذلك، ولهذا أطلق اللّه اللعنة على الذين يكتمون ما أنزله )مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللّه وَيَلْعَنُهُمْ اللاعِنُونَ(([356]). فأن تحبس علمك بأن تكون لك أنانية العلم، بحيث تقول: علمي لي وليس من واجبي أن أقدّمه للناس الذين يحتاجونه مع حاجة الناس إليه، فإن ذلك يجعلك من الملعونين عند اللّه وعند خلقه. وقد أكّد رسول اللّه (ص) هذه المسألة بما روي عنه ((إذا ظهرت البدع)) وانتشرت الشبهات والانحرافات والضلالات، وتحرّك الكفر ليحاصر الإسلام في عقيدته وشريعته ((فعلى العالم أن يظهر علمه)). وأن يبادر إلى ذلك، لا كما يتصوّر بعض الناس أن إظهار العلم يعني كشفه لمن يطلبه، بل أن تشعر أنّ البدع راحت تأكل الإسلام وعليك أن تمارس دور الأطباء حينما ينتشر الوباء حيث يقفون في مفارق الطرق ليجبروا كلّ إنسان على التلقيح ضد الوباء. ((ومن لم يفعل فعليه لعنة اللّه)). فاللّه تعالى يبعد الذي يحبس علمه عن رحمته لأنّه لم يؤدّ أمانة العلم إلى من يحتاج إليه، وقد رزقك اللّه العلم ليكون أمانة عندك لأنّه ((ما أخذ اللّه على الجّهال أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا))([357]).

وإذا كان الناس بحاجة إلى نبضات قلبك، وإلى المحبّة تبذلها لهم، لتحرّك فيهم عناصر الحب ولتطرد عناصر الحقد والعداوة والبغضاء .. ففجّر الحبّ في قلبك حتى يتفجّر في قلوب الناس من حولك، وقد قالها علي(ع): ((احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك))([358]). انزع العداوة والبغضاء والحقد من الآخرين بأن تبادر إلى نزعه من صدرك أنت.. كن المبادر ولا تنتظر أن يبادر الآخرون.

وعندما تملك طاقة قوة والضعفاء يحتاجون اليها، وعندما تملك طاقة جاه أو سلطة والناس بحاجة إليها، فقدّم ذلك كلّه على طبق من حبّ الخير للناس.. كن الإنسان الذي يفكّر بحاجات الآخرين من خلال ما يملكه من تلبية لهذه الحاجات .. لتكن الأفضل فيما تقدم من نفسك من خلال مسؤوليتك أمام اللّه، ولذا قيل ((اليد العليا خير من اليد السفلى)). والعليا هي التي تعطي وتقدّم فيما السفلى التي تأخذ فقط.

العناية بالأهل:

و((أفضلهم تقدمة في أهله)). أي أن تجعل من أهلك الخلية الاجتماعية التي تنفع الناس .. ربّهم على الخير والعلم والوعي والتقوى والعطاء والصلاح كلّه، فإنّ ذلك يمثل أفضل ما تقدمه من خلال نعمة الأهل التي وهبك اللّه إيّاها، لأنّك مسؤول عن أن تهيأ من أهلك للمجتمع ما يحميه وينفعه، فإذا أهملت ذلك فقد تقدّم للمجتمع مجرماً، وذلك عندما يتطوّر إهمالك لأهلك إلى أن يصل إلى مستوى التحرّك في طريق الإجرام، وقد تقدّم للمجتمع كافراً أو ضالاً أو منحرفاً، وقد ورد في الحديث ((إن ابن دم إذا مات انقطع إلاّ من ثلاث: صدقة جارية وورقة علم ينتفع بها وولد صالح))([359]). وربّما تتسع كلمة الصلاح هنا إلى الأخ الصالح والقريب الصالح والزوج الصالح، والزوجة الصالحة، لأنّ اللّه أراد لنا أن نصلح الخلية العائلية في كلّ مفرداتها، فقال: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ(([360]). وقال تعالى )وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا(([361]). وقال لنا إذا أصلحتم أهلكم: الأب والزوجة والولد فإنّه سوف يجمعنا غداً في دار قدسه )جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(([362]).

وقد ورد في الحديث ((عن الصادق عن آبائه(ع) قال: قال رسول الله (ص): مر عيسى بن مريم(ع) بقبر يعذّب صاحبه ثم مرّ به من قابل فإذا هو ليس يعذّب، فقال: يا ربّ مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذّب ثم مررت به العام، فإذا هو ليس يعذّب)) يا ربّ هذا لم يعمل عملاً صالحاً فإذا كان يستحق العذاب فكيف رفع عنه؟ وإذا كان لا يستحقه فكيف عذّب؟ ((فأوحى اللّه عزّ وجل إليه يا روح الله إنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فغفرت له بما عمل ابنه))([363]) فأن تقدّم من أهلك أن تجعلهم عناصر خير للمجتمع.

تقديم المال:

وأمّا أن تقدّم من مالك فأن تنفق ما يفضل منه على من يحتاج إليه مما جعله اللّه حقّا لازماً، أو مما جعله اللّه حقّاً مستحبّاً  )وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(([364]). )وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللّه الَّذِي آتَاكُمْ(([365]). ولذلك فإنّ الإمام(ع) يجمع المسؤولية للإنسان الذي يريد أن يرتفع إلى الأعالي فيقول له إنّ الارتفاع إلى الدرجات العليا ينطلق من إحساسك بالناس في كلّ قضاياهم، وأن لا تعيش في زنزانة نفسك لتتصوّر أنّ ذاتك تختصر العالم كلّه، ولكن عش مع الناس وفكّر كيف تستطيع أن تجعل من حياتك حركة تنفّس عن همومهم وتقضي حاجاتهم؟

وهناك حديث كنت أكرّره دائماً في هذه الندوة وهو للإمام علي بن موسى الرضا(ع) حيث سأله شخص: ((من أحسن الناس معاشاً؟)) ولو طرح هذا السؤال علينا لأجبنا أنّه ذاك الذي يملك بيتاً وزوجة وأولاداً ووظيفة وسيارة وصحّة وعافية، فالتفكير ينصبّ على المسائل المادية والحاجات الذاتية، ولكن الإمام(ع) ككلّ أئمة أهل البيت(ع) وكما هو رسول اللّه (ص) وكما هو القرآن في تعاليمه كلّها يقول: ((من حسن معاش غيره في معاشه)) فأحسن الناس معاشاً هو من إذا عاش مع الناس ازدادوا علماً من علمه، ومالاً من ماله، وحركة من حركته، وحرية من حريته، وجهاداً من جهاده، بحيث يكون واقع الأمة قبل دخوله الحياة على صورة ما، وبعد أن يدخلها تتبدل إلى ما هو أرفع وأعظم. ((قال: ومن أسوأ الناس معاشاً؟ قال: من لم يعش غيره في معاشه)). أي ذاك الأناني الذي يعيش لنفسه ولا يعيش للآخرين.

إعرفوا أهل البيت(ع):

وثمة تعليقة على الهامش، فإذا أردتم أن تعرفوا أئمة أهل البيت(ع) في آفاقهم كلّها وإنسانيتهم المنفتحة على الإنسان كلّه.. إعرفوهم من خلال هذه الكلمات، حتى ورد عن الإمام الرضا(ع) نفسه قوله: ((أحيوا أمرنا رحم اللّه من أحيا أمرنا، قيل وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ثم يعلّمها للناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا))([366]). وعندما تزورونهم لا تقفوا فقط عند حدود الزيارة المكتوبة بل عليكم أن تزوروهم بكلّ ما تحفظونه من كلماتهم، وأن تقفوا أمام أضرحتهم لتسترجعوا سيرتهم وحياتهم ووصاياهم، وبذلك تكون الزيارة زيارة ثقافية وفكرية وروحية وعملية لا أن تخرج من الزيارة كما دخلت أي مجرد أن تطلب الحسنات من دون أن يدخل في عقلك وقلبك شيء من نور عظمتهم.

فعندما نزور السيدة زينب u التي رزقنا الله جوارها وزيارتها فعلينا أن نتصور بطولتها الروحية والسياسية والفكرية حتى يمتلأ عقل الزائر بالسيدة زينب u لا أن يقرأ زيارة مفجعة ليبكي قليلاً، وإن كان للبكاء معناه، ولكن البكاء ينبغي أن يكون على واقعك وعلى نفسك لا على الذين عاشوا المأساة في الماضي، فلقد عاشوا المأساة من أجل أن يجنّبوك الانحراف الذي عاشه أولئك الذين قال عنهم الفرزدق ((قلوبهم معك وسيوفهم عليك))([367]).

فإذا كنت تقدّم عطائك من نفسك وأهلك ومالك فأنت الأفضل في الدرجة الإيمانية عند اللّه ((فإنّك ما تقدّم من خير يبق لك ذخره)) وذلك قوله تعالى )الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا(([368]). ويقول عزّ وجل )وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه(([369]).

((وما تؤخّر)) أي ما تبخل به من مالك عمن أراد اللّه أن تعطيه من هذا المال، أو تبخل في علمك على من أراد اللّه أن تعطيه من علمك، وهكذا في طاقتك التي كان يمكن أن تجعلها قوة للآخرين، فإذا بخلت بذلك كلّه وبقي علمك في داخل ذاتك فقد يتحوّل إلى تراب حينما تغادر هذه الحياة الدنيا ولم تنفع به أحدا، وأمّا مالك فللوارثين الغنم منه وعليك الغرم فيه. ((وما تؤخّر يكن لغيرك خيره)).

مواصفات الصحبة الصالحة:

ثم ينطلق الإمام(ع) ليحدّثنا عن منْ نصاحب ((واحذر مصاحبة من يفيل رأيه)) أي يضعف رأيه، فعندما تريد أن تصاحب فانظر إلى من يملك قوة الرأي وعمق الفكر لأنّ الصاحب يتأثر بصاحبه، فعندما يكون أصحابك سطحيين فإنّ السطحية سوف تزحف إلى عقلك من خلالهم، وعندما يعيشون ضعف الرأي فإن ذلك سوف يترك تأثيره عليك في ضعف رأيك لأنّك عندما تصاحب صديقك ويصاحبك، وتحادثه ويحادثك فإنّه ينقل لك ما يفكّر فيه ليدخل في عقلك فيربكه تماما كدخول الطعام غير الناضج في داخل جسمك الذي يربك معدتك، ((وينكر عمله)) باعتبار أنّه يتحرّك في عمله في خطّ الفكر الذي أراد اللّه للناس أن يتركوه ((فإنّ الصاحب معتبر بصاحبه)) قل لي منْ تصاحب أقل لك من أنت، وكما قال ذلك الشاعر:

صاحب أخا ثقة تحظى بصحبته                               فالطبع مكتسبٌ من كلّ مصحوبِ

والريح آخذةٌ مما تمرّ به                                       نتناً من النتن أو طيباً من الطيب

أي المساكن أفضل؟

وهناك سؤال يمكن أن نطرحه على الإمام(ع) وهو: أين نسكن يا أمير المؤمنين؟ فقد يفضّل بعضنا السكن في القرى المغلقة والمجتمعات المتخلّفة التي قد تتمظهر في لون واحد، والعدوى بين الناس منتشرة فالجاهل يبيع جهله للآخرين، والمتخلّف ينقل تخلّفه للآخرين، ولكنّ علياً(ع) يقول في الجواب على سؤالنا: ((واسكن الأمصار العظام)). والأمصار العظام هي المدن الكبيرة لما فيها من مزايا، ولكن ذلك يتبع ظروف الإنسان. ((فإنّها جماع المسلمين)). أي أنّ هذه المدن – وهي في البلدان الإسلامية تحديداً، مراكز لتجمّع المسلمين، وعندما يجتمع المسلمون في تنوعاتهم في العلم والتقوى والخبرة وكلّ الصفات التي يختلف الناس فيها فإنّك تملك حرية الاختيار، فعندما تتنوّع الساحة في نماذجها كلّها الخيّرة منها وغير الخيّرة فعند ذاك تستطيع أن تتخيّر المجتمع الذي يبني لك عقلك وقلبك وروحك وتقواك بينما لا تستطيع ذلك في مواقع أخرى يعيش الناس فيها لوناً واحداً ودائرة مغلقة.

((واحذر منازل الغفلة)) عن اللّه سبحانه وتعالى ((والجفاء وقلّة الأعوان على طاعة اللّه)) سواء في المدينة أو في القرية أو في الصحراء، فلا تنزل منزلاً تسيطر عليك فيه الغفلة عن اللّه، ولا تسكن المنازل التي يعيش فيها الناس الجفاء والقسوة والغلظة فلا ينفتحون في إنسانيتهم على إنسانية الإنسان الآخر، وعليك أيضاً أن لا تسكن في المواطن التي يقلّ فيها الأعوان على طاعة اللّه لأنّك بذلك تفقد الحيوية التي يحتاجها الإنسان في التشجيع على أعمال الخير من الداخل ومن الخارج لأنّ الإنسان يتأثر بمجتمعه.

لا تتدخل في شؤون الآخرين:

((واقصر رأيك على ما يعنيك)) فأنت إنسان تعيش حياتك ولك اهتماماتك التي تتصل بعقيدتك فيما تعتقده، وبشريعتك فيما تلتزمه، وبتطلّعاتك في الحياة فيما توجّه فيه حياتك، وبكلّ القضايا التي ترتبط بأهدافك وبمسؤولياتك، فحاول أن توجّه رأيك سواء من خلال تفكيرك الذاتي أو من خلال الشورى التي تشاور فيها أرباب الآراء والعقول. فليس من الضروري أن تتدخل في شؤون الآخرين إذا لم يكونوا مسؤوليتك، وليس من الضروري أيضاً أن تطلق رأيك في القضايا التي لا علاقة لها بكلّ ما تؤمن به وتعيشه وتتحرك فيه كالكثير من الناس الذين يتناقشون ويتجادلون ويتحاقدون في عناوين لا دخل لها في عقيدة ولا شريعة ولا حياة، بل هي مجرد أفكار آمن بها الإنسان أو لم يؤمن بها فإنّه يبقى في الخط المستقيم. وهذا ما تعيشه مرحلتنا سواء في الحوزات أو في غيرها، حيث يثير الكثير من الناس عناوين يتحاقدون من خلالها، ويكفّرون بعضهم بعضاً، ويضلّلون بعضهم بعضا، من دون أن يكون لذلك أية مدخلية فيما يسأله الملكان في قبرك أو فيما تقف فيه مسؤولاً أمام ربك.

ولذلك يقول الإمام(ع) إنّ لك مسؤوليات في نفسك تتصل بحياتك وبمصيرك وبموقفك أمام ربّك، فعليك أن تقصر رأيك، عندما تنضّجه وتنتجه وتنفتح من خلاله، على ما يعنيك، فلا تتحرك بما لا يعنيك فتلقى ما لا يرضيك.

التحذير من الجلوس في الأسواق:

((وإياك ومقاعد الأسواق)) فالأسواق أماكن العمل، وبعض الناس قد يكون لديه صديق تاجر أو صاحب محل، وترى التاجر مشغولاً بشغله في حين أنّ هذا الصديق لا عمل لديه فيأتي ليجلس عنده، والإمام(ع) يقول إنّ الذين يجلسون تلك المجالس يعيشون الكثير من المشاكل والنزاعات والخلافات، فقد تجد شخصاً يسبّ آخر أو شخصاً يغتاب آخر، وقد تجد الكثيرين ممن يتاجرون بأعراضهم أو بما لا يرضي اللّه، فإذا حضرت هذه المحاضر السيئة فربما تتأثر بذلك. ((فإنّها محاضر الشيطان ومعاريض الفتن)) فالشيطان يحضر في كلّ موقع من المواقع التي تختزن في داخلها المشاكل، وينفذ من الأبواب العريضة للفتن التي تعتبر هذه الأماكن تربتها الخصبة.

انظر إلى من فُضّلت عليه:

((وأكثر أن تنظر إلى من فضّلت عليه فإن ذلك من أبواب الشكر)) فلا تنظر إلى من فوقك ولكن انظر إلى من تحتك من أجل أن تتحسّس نعمة اللّه عليك، لأنّك إذا نظرت إلى من فوقك فعند ذلك تستهين بنعمة اللّه عليك، فقد ترى منْ يقول إنّ اللّه أعطى فلاناً ولم يعطني شيئاً وبذا فهو يستهين بنعمة اللّه عليه ويكفر بها، وقد يتحوّل إلى حسد لمن أنعم اللّه عليه، بينما إذا نظرت إلى من فُضّلت عليه فإنّك تحمد اللّه عندما تدخل في مقارنة بينك وبينه، وترى أنّ اللّه أعطاك ما لم يعطه وبذلك تشعر بنعمة اللّه عليك، ولذلك فإنّ من آداب الإسلام أنّك إذا نظرت إلى شخص مبتلى بعقله أو في جسده أو في بعض أوضاعه الاجتماعية، فقل ((الحمد للّه الذي عافاني مما ابتلى به غيري ولو شاء لفعل)). وبذلك تشعر بنعمة اللّه عليك فيما أعطاك مما منعه عن هذا الإنسان أو ذاك بحكمته.

اشهد الجمعة:

((ولا تسافر في يوم جمعة)) أي في صباحها ((حتى تشهد الصلاة)) فإنّ اللّه أراد للمسلمين في يوم الجمعة أن يحضروا الصلاة، ولم يهتم بصلاة كما اهتمّ بصلاة الجمعة التي تركناها من خلال شبهات فقهية وحرمنا من بركاتها العظيمة حتى أنّ بعض الناس الآن قد ينهون عن صلاة الجمعة. ((إلاّ فاصلاً في سبيل اللّه)) أي إلاّ إذا أردت أن تسافر إلى الجهاد وكان وقت الجهاد في يوم الجمعة، أو في أمر تعذر به فإن اللّه يعذرك عند ذلك.

طاعة اللّه في كلّ شيء:

((وأطع اللّه في جميع أمورك فإنّ طاعة اللّه فاضلة على ما سواها)) ولتكن طاعة اللّه هي طابع شخصيتك بحيث لا تفرّق بين صغير من الطاعات أو كبير لأنّ اللّه أرادنا أن لا نحقّر الذنوب ولا نحقّر الطاعات.. فلا تستصغرنّ معصية فلربما أدخلتك النار، ولا تستصغرنّ طاعة فلربما أدخلتك الجنّة، فأيّ موضع من مواضع طاعة اللّه عليك أن تفعله ولو كان صغيراً، وأي موقع من مواقع معصية اللّه عليك أن تتركه ولو كان صغيراً لأنّ اللّه أخفى رضاه في طاعته وأخفى سخطه في معصيته.

المخادعة في العبادة:

((وخادع نفسك في العبادة)) أي لا تقهر نفسك على ما تريده من العبادات المستحبّة بل حاول أن تخادعها في أوقات التعب والإرهاق، فإننا إذا صلينا هذه الصلاة المستحبّة فإننا سنحصل على الثواب عند اللّه.. تكلّم مع نفسك كلام المخادع الذي يريد أن يأخذ عفوها ونشاطها من حيث لا تشعر لأنها فرص الاستزادة من التقرّب إلى اللّه سبحانه وتعالى.

((وارفق بها ولا تقهرها، وخذ عفوها ونشاطها)) أي استغل أوقات فراغها وارتياحها إلى العبادة. وقد تحدّث الإمام علي(ع) في بعض كلماته عن ذلك، فقال: ((إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض)). وفي الحديث عن النبي (ص) ((إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)). فالدخول في الشيء الصلب ينبغي أن يكون برفق وإلا انكسر ((ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد اللّه)) بالإلحاح عليها وقهرها وإجبارها على ما لا تريد من المستحبّات ((فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع وظهراً أبقى)) أي ذاك الذي يواصل سيره بلا انقطاع بحيث يهلك دابته ولا يصل إلى مبتغاه. ويروي الإمام الصادق(ع) عن عبادته في شبابه: ((اجتهدت في العبادة وأنا شاب، فقال لي أبي: يا بني دون ما أراك تصنع فإن اللّه عز وجل إذا أحب عبداً رضي منه باليسير)). واستشهد بالحديث المذكور. وفي حديث آخر ((ولا تبغّض إلى نفسك عبادة اللّه)).

((إلا ما كان مكتوباً عليك من الفريضة فانّه لابد من قضائها وتعاهدها عند محلّها)) فهي الفريضة الواجبة التي لا يجوز التفريط بها أو التهاون في أدائها عند أوقاتها المعلومة.

((وإياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق من ربّك في طلب الدنيا)). والعبد الآبق هو الذي يهرب من مولاه، والإمام(ع) يقول عندما يأتيك الموت فعليك أن تكون في مواضع طاعة اللّه ورضاه ولا يراك مبتعداً عنه في طلب الدنيا، وهذا هو الذي عبّر عنه الإمام زين العابدين(ع) بقوله: ((وعمّرني ما كان عمري بذلّة في طاعتك فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ أو يستحكم غضبك عليّ)).

النهي عن مصاحبة الفسّاق:

((وإيّاك ومصاحبة الفسّاق فإنّ الشرّ بالشرّ ملحق)). وكما حذّر(ع) هناك من الصاحب ضعيف الرأي يحذّر هنا من الصاحب الفاسق الذي لا يطيع اللّه في أموره، وهو الذي لا يصلّي ولا يصوم ويزني ويلعب القمار ويشرب الخمر ويظلم الناس ويرتكب الموبقات، والفاسق يجسّد الشرّ في أخلاقه وسلوكه فإذا صاحبته فإنّك ستلحق به وسيزحف شرّه إليك فتصبح إنسان الشرّ كما هو إنسان الشرّ، ولذا قيل إنّ الطبع يسرق من الطبع.

((ووقر اللّه)) أي عظّمه في لسانك وفي مواقع طاعته ورضاه.

((وأحبب أحبّاءه)) لأنّ إخلاصك للّه يفرض عليك أن تخلص وأن تحبّ أحبّاءه، كما ورد عن الإمام علي(ع): ((أصدقاؤك ثلاثة، وأعداؤك ثلاثة، فأما أصدقاؤك: فصديقك وصديق صديقك وعدّو عدوك، وأمام أعداؤك: فعدّوك وصديق عدوك وعدوّ صديقك)).

إحذر الغضب:

((واحذر الغضب فإنّه جند عظيم من جنود إبليس)). لأنّ الغضب كالسيل الجارف يكتسح كلّ شيء في طريقه، فإذا انطلق فقد الإنسان عقله وانفتحت غريزته وكلّ رواسب الشرّ في نفسه وبذلك فإنّه يتحرّك بدون قاعدة، فالغضب حسب تعبير الإمام جندي كبير بل ضابط من ضبّاط الشيطان، فكيف تسلّطه عليك؟ فقد ورد في الحديث ((من لم يملك غضبه لم يملك عقله)). وقد ورد عن الإمام الباقر(ع) ((أيّ شيء أشدّ من الغضب إن المرء ليغضب فيقتل النفس المحترمة)). فحينما ندرس جرائم القتل نرى أنّها غالباً ما تأتي في حالات الغضب المستشيط، ولقد قال الشاعر وهو يصوّر كيف أن الغضب يفضح أسرار الإنسان:

إغضب صديقك تستطلع سريرته                             للسرّ نافذتان السكر والغضب

ما صرّح الحوض عمّا في قراراته                             من راسب الطين إلا وهو مضطرب

فما دام مزاجك هادئاً فإنّك تتكلم بكلام موزون وتحافظ على أسرارك، لكن إذا جاء الغضب وخبط عقلك وغريزتك وكلّ شيء فيك فعند ذلك سوف تفضح نفسك، ولذلك كانت وصية النبي (ص) لمن استوصاه هي: ((لا تغضب)) قال: زدني يا رسول اللّه، قال: لا أزيدك، أي أنك لو اكتفيت بهذه النصيحة لكفتك.

((والسلام))([370]). والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، والحمد للّه رب العالمين.


 

المحاضرة الثانية عشرة16 ربيع الثاني 1422ه‍ - 7/تموز/2001م

 

 

 

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (4)

الموقف من المعارضة

 

* إذا اختلفت مع فئة أو شخص من الناس سواء كنت حاكما أو حزبا أو مرجعا أو مثقفا فإن عليك أن لا تسقط إنسانيته ولا تعيش عقدة الذات في خصومتك معه *

 
 
 
 
 

 

في مدرسة علي(ع).

التجربة الصعبة.

موقف المعارضة.

موقف علي(ع) من الخوارج.

الاحتجاج على من شهد صفين.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

في مدرسة علي(ع):

ونبقى مع امتداد الزمن كلّه، في مدرسة علي(ع) لأنّه كان النموذج الأمثل بعد رسول اللّه(ص) فقد صنع مدرسة الإسلام في فكره الذي ما زال الإنسان يستمدّ منه في كلّ موقع إبداعاً، وفي تجربته التي امتدت في أعماق الحياة وآفاقها، وتعمّقت في معنى الإنسان ومعاناته، وهو يجاهد في سبيل اللّه بسيفه وبحركته، وبكلّ الوسائل الحضارية في حلّ المشاكل التي واجهته بالحوار حتى مع أعدائه.

ومن مميزاته(ع) أنّه لم يكن يحمل في قلبه حقداً على أحد، وكان كلّ الذين خاصموه يعيشون في قلبه لا لأنّه يشرّع خصامهم فعلي(ع) صاحب فكرة الحقّ التي لا تتعدّد، ولكنّه كان يجمع الناس في قلبه ليضيء لهذا عقله، وليفتح لذاك قلبه، وليخطّط لهذا أو لذلك حياته، ولذلك كان علي(ع) كرسول اللّه(ص) في شغل دائم بالإنسان كلّه لأنّه كان في شغل دائم مع اللّه بكلّه.

التجربة الصعبة:

وقد عاش علي(ع) التجربة الصعبة عندما كان خارج موقعه الطبيعي الذي جعله اللّه له وهو خلافة المسلمين، لأنّه كان، وهو المظلوم في حقّه كلّه، يبتسم للإسلام وللمسلمين، فكانت كلمته الخالدة ((لأسلّمن)) مهما انطلقت الفتن، ومهما واجهتني الصعوبات، ومهما اضطهدني المضطهدون، ومهما جار عليّ الجائرون، لأسلّمن لهؤلاء أو لأولئك، فلن أدخل حرباً هنا ولن أدخل حرباً هناك ((ما سلمت أمور المسلمين)) لأنني أتحمّل مسؤوليتهم خارج الخلافة بنفس القوة التي أتحمّل فيها مسؤوليتهم داخل الخلافة، لأنّ علياً(ع) كان يرى نفسه مسؤولاً عن الساحة الإسلامية كلّها، فالخلافة لم تكن طموح علي(ع) وإنّما كانت رسالته ومسؤوليته، وكان يشير إلى نعله ليقول ((إنّها أعظم من إمرتكم هذه إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً)).

وعندما استلم الخلافة عاش أزمة أكثر صعوبة في مفرداتها من تلك الأزمة، فلقد كانت الأزمة قبل ذلك في خطّ واحد، وكان علي(ع) يعالج حركة ذلك الخط، ولكنّها تنوّعت وتعقّدت فيما بعد ((فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول )تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(([371]). بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها)).([372])

ثم يقول وهو يؤكّد خط السير وضخامة المسؤولية ((لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أنْ لا يقارّوا على كظّة ظالم)) عنفه ووحشيته وظلمه ((وسغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز))([373]). فالدنيا عند علي(ع) رسالة ولا شيء غيرها ((ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، إلا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد))([374]) وكان يقول ((لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة))([375]). ويقول كذلك ((ما ترك لي الحقّ من صديق))([376]).

موقف المعارضة:

فعندما نهض بالأمر، كانت المشكلة التي تواجهه تتنوّع من قبل الذين عارضوه، وكانت الأرض مزروعة بالألغام، فلو أنّه تسلّم الخلافة بعد رسول اللّه(ص) حيث كانت الأرض مفروشة بالإسلام الذي زرعه رسول اللّه(ص) وأينع في عهده، لحملهم على المحجّة البيضاء لأنّ المحجّة التي انطلقت في خطّ رسول اللّه(ص) هي التي راحت تنطلق في خطّ علي(ع) لأنّه نفس رسول اللّه(ص) لكنهم لم يتركوا له الفرصة من خلال خلافات هنا وتعقيدات هناك، وعصبيات هنا ومشاكل هناك، وجاء إلى الخلافة والأرض مزروعة بالألغام، والطامحون أخذوا ممن سبقهم بعض ما يرتفع بطموحاتهم ((فجعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم، فياللّه وللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر؟!))([377]).

فالمشكلة كانت تتحرك في دائرتين: الدائرة الأولى: وهي دائرة الطامحين للخلافة والذين حاولوا أن يسلكوا إليها في أسلوبين: أسلوب (طلحة والزبير) اللذين كانا يريدان لعلي(ع) أن يشاركهما الخلافة، وأسلوب معاوية بن أبي سفيان الذي كان يريد لعلي(ع) أن يطلق يده في مصر والشام ليحكمهما من دون ضوابط كما كان سابقاً، وإلاّ فإنّه سيطالب بدم عثمان. وكانت مشكلة علي(ع) مع هذه الفئة وتلك هي مشكلة الذين يريدون أن يحدثوا الخلل في نظام الأمّة.

والدائرة الثانية: وهي دائرة الخوارج الذين لم تكن مشكلته معهم كمشكلاته مع الطامحين للخلافة مشاركة أو استقلالا، بل كانت مشكلة فكرية حيث كانوا يفهمون الإسلام بطريقة متخلّفة ويعتبرون تخلّفهم مقدساً ولذلك كانوا يكفّرون كلّ من لا يلتقي بهذا التخلّف. فكيف عالج علي(ع) هاتين المشكلتين؟

كان الخط البيانيّ العريض في كلّ هذه المشاكل التي أحاطت بعلي(ع) من طلحة والزبير ومعهما أم المؤمنين عائشة ومعاوية والخوارج. هو الخط الإسلامي الذي آمن به، والذي انفتح القرآن به على الناس، هو أن لا يقمع في البداية أية معارضة سواء كانت معارضة سياسية أو فكرية ولا سيما في الساحة الإسلامية، وكانت المسألة عند علي(ع) هي أن يفتح قلوب هؤلاء على الحقيقة، وأن يقيم الحجّة عليهم ما دامت القضية قضية معارضة في الخطّ أو في الفكر.

فلو درسنا كتب الإمام(ع) في (نهج البلاغة) إلى طلحة والزبير، أو في حديثه المباشر معهما، وفي كتبه إلى معاوية، وفي حواره مع الخوارج، لرأينا علياً(ع) ذلك الإنسان الذي يحرّك الفكرة مع خصومه بكلّ إنسانيته وكلّ روحية القائد الداعية الذي يريد للآخر أن ينفتح على الحقّ، ولم نجد في أي كتاب من كتبه أو أي حوار من حواراته عنفاً إلاّ إذا كان العنف هو الوسيلة التي يردّ بها عنف الآخر، فكان لا يبدأ بعنف في الكلمة فلقد كانت كلمته رقيقة، وكان يتواضع لمحاوره حتى لتحار كيف أنّ علياً(ع) ذلك البطل العظيم الذي جاهد من أجل الإسلام وكان شديداً على الكفّار والمشركين، يخاطب الناس الذين عارضوه بهذه الطريقة؟! ولذلك فإنّه أعطانا نهج مدرسته التي هي مدرسة الإسلام، وهي أنّك إذا اختلفت مع فئة من الناس سواء كنت حاكماً أو حزباً أو مرجعاً أو مثقفاً، فإنّ عليك أنْ لا تسقط إنسانيته بل أن تحترمها، وأن لا تعيش عقدة الذات في خصومتك معه، فعندما يطرح فكراً إطرح فكرك في مواجهته وأقنعه أو أقم الحجّة عليه، وعندما يحرّك خطّاً ارسم خطاً في مقابله، فالفكرة تحاور الفكرة، والعقل يحاور العقل، والقلب ينفتح على القلب، والساحة تتسع للجميع حتى إذا وصلت المسألة إلى نقطة اللارجوع كان للحديث مجال آخر. وقد علّمنا اللّه سبحانه وتعالى مما لم نتعلّمه في واقعنا الإسلامي، حيث يقول )وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( وهي الكلمة الطيّبة والأسلوب الطيّب والمناخ الطيّب والروح الطيّبة )إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ(. لأنّ الظالم ليس إنسان الحوار بل يريد أن يقمعك ويصرعك ويصادرك. وعلّمنا مما لم نأخذ به )وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(([378]). أي تعالوا إلى مواطن اللقاء، وقولوا لي: منْ منَ السنّة والشيعة يتحدّث بلغة مواقع اللقاء؟ فحتى في داخل السنّة أنفسهم وداخل الشيعة أنفسهم عندما يختلفون فليس هناك منطق إسلاميّ يحكم خلافهم بل هو منطق العصبية. ولذا فلم نتعلّم من القرآن، ولم نتعلّم من رسول اللّه(ص) ولم نتعلّم من علي(ع).

موقف علي(ع) من الخوارج:

كان علي(ع) هو صاحب الحقّ، فلندرس كيف مارس الأسلوب الحكيم في الدفاع عن حقّه؟ وكيف أدار الحوار في مواقع الصراع؟ وتعالو ندرس موقف علي(ع) من الخوارج لأنّ قضيتهم تتصل بالموقف الإسلاميّ في خطّ علي(ع) في الجانب الفكري، فكيف ينظر علي(ع) إلى الذين يختلفون معه في الفكر حتى الذين يكفّرونه، وكيف حاورهم؟ ولماذا قاتلهم؟ هل قاتلهم لأنّهم رفضوه؟ هل قاتلهم لأنّهم كفّروه؟ أم قاتلهم لأنّهم عاثوا في الأرض فساداً وقتلوا الأبرياء؟

ونحاول هنا أن ندرس بعض النصوص التي جاءت في (نهج البلاغة) في حديث علي(ع) مع هؤلاء. فكيف بدأت قصة الخوارج؟ فنحن نعرف أنّ علياً(ع) قد خاض الحرب مع معاوية في صفين وكانت حرباً من أعنف الحروب وقد امتدت وقتاً طويلاً، وفي نهايتها كان علي(ع) يشارف على الانتصار، وكان (مالك الأشتر) قائد الحرب آنذاك يخوض الجولة الأخيرة، وقد شعر معاوية ومستشاره (عمرو بن العاص) كما يقول (الطبري)، أنّ علياً(ع) سوف يربح الحرب وسوف يسقط ملك معاوية، فاستشار معاوية عمرو بن العاص قائلاً: ماذا نفعل؟ قال له: إنّ أفضل وسيلة هي أن نطرح أمراً يبقينا في وحدتنا ويجعل جماعة علي تتفرّق.

وهذا هو الذي نعيشه الآن من خلال نشاط المخابرات الدولية عندما تطرح أموراً تبث الخلاف بيننا ففرقة تؤيّد وفرقة تعارض في القضايا السياسية والمذهبية والاجتماعية والأمنية وغيرها، ويبقى الموقف الإستكباري واحداً.

اقترح عمرو بن العاص على معاوية رفع المصاحف، وقال نتنادى قائلين: من لثغور العراق غير أهل الشام ومن لثغور الشام غير أهل العراق؟! فتعالوا إلى كتاب اللّه ليحكم بيننا. وهنا انطلقت السذاجة الثقافية والسياسية والعسكرية في بعض جيش الإمام(ع) وقالوا له: لقد دعانا القوم إلى كتاب اللّه ونحن جميعاً مسلمون فعلينا أن نستجيب لكتاب اللّه، وإلاّ كيف نقول إنّنا نؤمن بكتاب اللّه ونعمل به؟ وقال لهم علي(ع): أنا قاتلت هذين (معاوية وعمرو) على كتاب اللّه ليؤمنا به، ونحن نقاتلهم الآن على حركية كتاب اللّه في الواقع، فهما لم ينفتحا على القرآن كما ينفتح المسلمون عليه، فلقد دخلا في الإسلام رغبة أو رهبة، ولذلك فإنّ هذه الدعوة ليست دعوة صادرة من إيمان ولكنّها دعوة صادرة من لعبة سياسية يراد من خلالها أن تدبّ الفرقة بينكم، وأن يحصلوا على النصر بفرقتكم ما داموا لم يحصلوا على النصر من خلال الحرب.

وهذا هو الذي عشناه – أيّها الأحبّة – في تأريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، فلقد استطاعت المخابرات الدولية والإسرائيلية أن تثير في ساحتنا الإسلامية والعربية الفتن المذهبية بين السنّة والشيعة والفتن الطائفية من المسلمين والمسيحيين، والفتن السياسية بين هذا الحزب أو ذاك، وبين هذا الإقليم أو ذاك، وكنّا نقاتل بعضنا بعضاً والعدوّ يتسلّح ويتقوّى ويخطّط ويتوسّع ولا يزال.

وقالوا لعلي(ع) ابعث إلى الأشتر لينسحب حتى نعقد الصلح على أساس التحكيم وإلاّ فعلنا بك ما فعلناه مع عثمان، وأرسل علي(ع) إلى مالك بالانسحاب، وصاح الأشتر: اتركني وقتاً قصيراً وسوف أدخل الشام، ولكنّ القوم ألحّوا على إيقاف القتال، فذهب الرسول إلى مالك وقال له: إذا لم تنسحب فقد تربح الحرب ولكن يقتل إمامك.

فالغوغائيون – كما هم عندنا وكما هم في كلّ مرحلة يضعف فيها الوعي أو يتسطّح – قد سيطروا على الساحة من خلال الشعارات الفضفاضة التي تختزن الباطل في عمقها، وإن كانت تظهر الحقّ في صورتها، واضطر مالك الأشتر تحت ضغط هذا الواقع إلى الانسحاب، وبدأت المفاوضات، وطرح موضوع التحكيم واختار علي(ع) عبد اللّه بن عباس فلم يقبلوا به واختار جماعته أبا موسى الأشعري الإنسان المعقّد من علي(ع) والساذج الذي تنطلي عليه اللعب السياسية، واختار معاوية عمرو بن العاص الداهية المعروف، والتقيا وخدع عمرو أبا موسى، وقال له: إنّ المشكلة هي بين علي وبين معاوية، فقال أبو موسى لنخلع علياً ومعاوية وليختر المسلمون شخصاً آخر وسكت عمرو أو تظاهر بالموافقة، وعندما اجتمعا مع الناس قدّم عمرو أبا موسى ليعلن الاتفاق: فقال: اتفقنا على أن نخلع صاحبينا وها أنذا أخلع صاحبي، فقال عمرو لقد خلع صاحبه وأنا أثبت صاحبي، وتسابّا وانفرط الجمع.

وحدث ما أراده معاوية وعمرو من اختلاف المسلمين، وهنا انطلق المتخلّفون ثقافياً والمقدسون عبادياً، فهم أصحاب الثقافات الساذجة، فقالوا لعلي(ع): كيف حكّمت الرجال في دين اللّه؟ لا حكم إلاّ للّه، فعلّق الإمام(ع) بعدة أحاديث. وسنحاول التقاط بعض ذلك في هذا اللقاء على أن نستكمل الحديث في اللقاء القادم بإذن اللّه. فمن كلام له(ع) قال للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة (أي التحكيم) وقالوا له: لقد كفرت يا علي وعليك أن تسلم من جديد لأنّك حكّمت الرجال في دين اللّه ولا حكم الاّ للّه.

الاحتجاج على من شهد صفين:

لقد أجاب الإمام(ع) عن ذلك بقوله: ((أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا: منّا من شهد ومنّا من لم يشهد، قال: فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفين فرقة ومن لم يشهدها فرقة حتى أكلّم كلاً منكم بكلامه، ونادى الناس فقال: أمسكوا عن الكلام وأنصتوا لقولي وأقبلوا بأفئدتكم إليّ)). والأفئدة هنا العقول، أي لتكن عقولكم حاضرة حتى تعي ما أقول ((فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها، ثم كلّمهم(ع) بكلام طويل – لم ينقله الشريف الرضي بأجمعه – من جملته أنّ قال: ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة ومكراً وخديعة: إخواننا وأهل دعوتنا استقالونا)) أي طلبوا منّا الإقالة من الحرب ((واستراحوا إلى كتاب اللّه سبحانه، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم، فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان)) فالمسألة ليست هي ما يتكلّم به الآخرون، بل هي ما يضمره الآخرون وما يريدون أن يصلوا إليه، وهذا ما نفهمه من علي(ع) وهو أن لا يكفي أن يقول إنسان كلمة حقّ لنتبعه، بل لابدّ أن ندرس خلفياته لنرى ماذا يريد من كلمة الحقّ؟ هل يريد بها الحقّ؟ أو يريد أن يجعلها وسيلة إلى الباطل من خلال بعض المناخات القلقة التي تحيط بالمسألة؟

ثم يعلّق على قرار رفع المصاحف بقوله: ((وأوله رحمة)) وهو كتاب اللّه فأيّ رحمة أعظم من هذه؟ ((وآخره ندامة)) لأنّ جماعة معاوية يستغلّون كتاب اللّه من حيث ما يؤلونه ومن حيث طبيعة الطرح الذي يراد منه شقّ الصف وإثارة الفرقة ((فأقيموا على شأنكم وألزموا طريقتكم وعضّوا على الجهاد بنواجذكم)) أي أنني قلت لكم أكملوا المعركة فالقوم ليسوا بمؤمنين ((ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن أجيب أضلّ وإن ترك ذلّ، وقد كانت هذه الفعلة، وقد رأيتكم أعطيتموها، واللّه لأن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها)) فلو امتنعت عن ذلك ما كنت مسؤولاً ((وما حمّلني اللّه ذنبها، وواللّه إن جئتها إنّي للمحق الذي يتبع وانّ الكتاب لمعي)) فأنا صاحب القرآن، وأنا الذي أفهمه حقّ الفهم، وأنا الذي قاتلت من أجل أن يكون للقرآن موقعه وامتداده ووعيه ((ما فارقته منذ صحبته، فلقد كنّا مع رسول اللّه(ص) وإنّ القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات فما نزداد على كلّ مصيبة)) من خلال ما تفرضه الحرب ((وشدّة)) من خلال ما نعيشه من شدائد ((إلاّ إيماناً ومضيّاً على الحقّ)) فلا نتراجع ((وتسليماً للأمر وصبراً على مضض الجراح)). فالمؤمن في النكبات وقور يسلم أمره إلى اللّه سبحانه وتعالى.

فالمشكلة هي أن القضية بالأمس كانت واضحة، فلقد كان هناك كفّار ومشركون ((ولكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج)) فالإمام علي(ع) لم يخرج هؤلاء عن الإسلام بالرغم من أنّهم حاربوه وقاتلوه، بل عبّر عنهم بإخواننا في الإسلام لكنّهم زائفون اختاروا طريق الانحراف ((والشبهة والتأويل)) أي دخلت إليهم بعض الشبهات وحملوا الكلام على غير ظاهره ((فإذا طمعنا في خصلة يلمّ الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا رغبنا فيها وأمسكنا عمّا سواها)) فطالما طُرح هذا الأمر وأفهمتكم نواياه فلم تفهموا ذلك، كان علينا أن نخضع له.

هذه هي الكلمة الأولى التي أقام الإمام(ع) الحجّة فيها عليهم، وأنّهم هم الذين رفضوا وضغطوا عليه وبقوا على تخلّفهم. ويبقى من كلام علي(ع) مما يمكننا أن نستفيد منه الكثير الكثير في حركتنا في واقع صراع الذي نعيشه الآن مع الكفر والاستكبار والضلال والتخلّف. والحمد للّه رب العالمين.


 

المحاضرة الثالثة عشرة23 ربيع الثاني 1422ه‍ - 14/تموز/2001م

 

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (5)

الحوار مع المعارضة

 

* عليك عندما تسمع شعاراً أن لا تنجذب إليه بل تدرس خلفياته وحركيته في الواقع حتى تستطيع أن تتعرف على اتجاه مضمونه بحسب الواقع *

 

 

الحوار مع الخوارج.

تحكيم القرآن.

الردّ إلى الرسول(ص).

تأجيل التحكيم.

أفضل الناس.

الاحتجاج على تجاوزات الخوارج.

الموقف من علي(ع).

شكوى علي(ع) المريرة.

مناقشة (لا حكم إلاّ للّه).

وعي الشعار.

الدقّة في التشخيص.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

الحوار مع الخوارج:

ونبقى مع أمير المؤمنين(ع) في حواره مع الخوارج الذين كانوا يمثلون العقل المغلق الذي لا يحاول أن ينفتح على مفاهيم الإسلام من حيث رحابتها وسعة مجالاتها، بل كانوا كالكثيرين ممن لا نزال نعيش معهم، يتجمّدون أمام النصّ بطريقة حرفية، ولا يحاولون أن يفهموا النصوص الدينية من خلال روحها والآفاق الواسعة التي تتحرّك فيها.

ولذلك فنحن نريد أن نواكب أسلوب أمير المؤمنين(ع) لنرى كيف عالج مشكلته معهم؟ وكيف حاول أن يدخل معهم في حوار لعلّه يستطيع أن يفتح عقولهم من خلاله ليجتذبهم إليه وليناقشهم ويناقشوه، ولكنّهم كانوا كالكثيرين من الذين إذا استحكمت في عقولهم فكرة أطبقوا عليها أفكارهم ولم يفسحوا المجال لأية نافذة تنفتح على الحقيقة في عملية الحوار.

وهذا أسلوب نحاول أن نفهمه في طريقة الإمام علي(ع) في مواجهة مشكلته مع أصحاب العقول المغلقة. فتعالوا إلى علي(ع) لنتعلّم منه، فلقد كانوا يقولون له، بعد أن نفّذ معاوية ومعه عمرو بن العاص الخطّة التي طرح فيها على أصحاب علي(ع) أن يحكّموا القرآن أن ((لا حكم إلا للّه)). واختلف أصحاب علي(ع) وقال لهم - كما ذكرنا في المحاضرة السابقة - إن القوم ليسوا أهل القرآن، وأنني أعرفهم جيداً، ولذا فهي خدعة باسم القرآن، ولكنّ أصحابه الذين كانوا لا يملكون عمق الفكر، ولا معرفة خلفيات الأمور، ضغطوا عليه حتى هددوه بالقتل إذا لم يستجب لذلك. فبعد أن حدث التحكيم ولم ينجح الحكمان في حلّ المشكلة انقسم أصحاب علي(ع) إلى قسمين، وكان الخوارج هم القسم الذي كفّر علياً(ع) وطلبوا منه أن يسلم من جديد على أساس أنه لا يجوز أن نحكّم الرجال في كتاب اللّه كما هو شعارهم ((لا حكم إلا للّه)).

تحكيم القرآن:

استمعوا إلى علي(ع) في رحابة أفقه وسعة صدره، قال لهم ((إنا لم نحكّم الرجال)) بصفتهم الشخصية، ولم نقل لأبي موسى الأشعري ولعمرو بن العاص، أحكما بما تريانه من خلال اجتهادكما الشخصي، بل قلنا لهما لقد أطلق شعار الرجوع إلى كتاب اللّه فضعا هذا الكتاب بين أيديكما، وحاولا أن تطبّقا الخطوط العامّة فيه على هذا النزاع لتحكما من خلال ذلك: هل الحق مع علي أم مع معاوية؟ فنحن لم نحكّم الرجال ((وإنّما حكّمنا القرآن)) ولكن كيف نحكّم القرآن ((وإنّما هو خط مسطور بين الدفتين)) فهو كلمات وحروف مكتوبة ((لا ينطق بلسان)) ليحدّد لنا بطريقة ناطقة هل الحق لهذا أم لذاك ((ولابدّ له من ترجمان)) أي من مفسّر يفسّره في خطوطه الفكرية العامّة وتطبيقاته على الواقع، ((وإنّما ينطق عنه الرجال)) الذين يفهمونه ويتدبّرونه ويعرفون مصادره وموارده ((ولما دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن، لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب اللّه سبحانه وتعالى)) فلسنا الذين إذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم أعرضوا عنه، كما تحدث اللّه عن ذلك في آية أخرى )وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(([379]). فلسنا من هؤلاء، لأننا قاتلنا من أجل تحيكم القرآن في حياة الناس، وفي كلّ ما يأخذون به من مفاهيمهم وعقائدهم وأحكامهم، ((وقد قال اللّه تعالى عزّ من قائل )فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (([380]))) وقد خضعنا لذلك، ولكن، ما معنى أن نردّ الأمر إلى اللّه والى الرسول عندما نتنازع في أي أمر من الأمور؟ ((نردّه إلى اللّه أن نحكم بكتابه)) وذلك بأن نقرأ كتاب اللّه ثم نحاول أن نفهمه لنعرف كيف ينطبق ما جاء في هذا الكتاب على ما نتنازع حوله في الواقع؟

الردّ إلى الرسول(ص):

((وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته)) بأن نقول: ماذا قال رسول اللّه(ص)؟ فإذا عرفنا أنّ الحديث حديثه وليس موضوعاً أو منسوباً إليه فإننا نجعله الحكم في كلماته التي تمثل الشريعة الفقهية والفكرية لنطبقها على ما نحن فيه ((فإذا حكم بالصدق في كتاب اللّه)) فإذا فرضنا أن الحكم حكم بما هو الصدق في كتاب اللّه فنحن أحقّ الناس به لأنّنا القائمون على كتاب اللّه ولأننا المسؤولون عن تفسيره وتطبيقه وقيادة الناس من خلاله، لأننا نملك الشرعية من خلال ما جعله الرسول(ص) في شرعية الخلافة. ((وإن حكم بسنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه فنحن أحق الناس وأولاهم بها)) ومن أحقّ الناس برسول اللّه(ص) من أهل بيته ولا سيما من ابن عمه وتلميذه وصهره الذي كانت نفسه نفسه، والذي عاش معه بكلّه، فكان عقله عقل رسول اللّه(ص)، وكان قلبه قلب رسول اللّه(ص) وكانت حياته حياة رسول اللّه(ص)؟!

تأجيل التحكيم:

((وأمّا قولكم: لم جعلت بينك وبينهم أجلاً في التحكيم؟)) أي لماذا لم تقل لهم: احكموا الآن؟ ولماذا أعطيتهم أجلاً إلى فترة معينة؟ ((فإنما فعلتُ ذلك ليتبيّن الجاهل ويتثبّت العالم)) حتى نعطي الفرصة للجاهل ليفهم الحقيقة عندما يبحث عنها، وللعالم الذي يحتاج إلى دراسة وتدقيق في الأمور ليتثبّت من ذلك. ((ولعلّ اللّه مصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة)) وكأنّه يقول لهم أنا لم أخض الحرب حبّاً بالحرب وإنّما خضتها من أجل إصلاح أمر المسلمين، ولأجل أن أمارس ضغطاً على هؤلاء المنحرفين لعلّهم يرجعون إلى خط الاستقامة، ولذلك فإذا كانت هناك فرصة للإصلاح فأنا أول من يأخذ بهذه الفرصة. ((ولا يؤخذ بأكظامها)) أي لا يؤخذ بخناقها بما يؤدّي إلى الاختناق ((فتعجل عن تبيّن الحق، وتنقاد لأول الغيّ)) فنحن نريد إعطاء الأمة فرصة حتى تستطيع أن تتبيّن الحق وأن ترتدع عن الغي. ونستوحي من ذلك أن عملية الإصلاح العام للأمة قد تبرّر الأخذ بأنصاف الحلول إذا كانت الحلول الحاسمة الكلية غير واقعية في المرحلة التي يختلف فيها المسلمون بفعل الفتنة التي يثيرها المنافقون والمنحرفون في الواقع الإسلامي، فيكون امتداد النزاع خطراً على المصلحة الإسلامية العليا وبهذا نكتشف الشرعية للحلول السياسية القائمة على التسويات في نطاق الظروف الممتدة.

أفضل الناس:

((إنّ أفضل الناس عند اللّه من كان العمل بالحقّ أحبّ إليه)) وهو الإنسان الذي يلتزم الحقّ في فكره وفي قلبه وفي كلّ حركته بالحياة، سواء كان متصلاً بذاته أو بالآخرين في علاقاته معهم، والإمام هنا يريد أن يطرح قاعدة عامّة في من هو الأقرب والأفضل عند اللّه؟ ((و إن نقصه وكرثه)) وان كان العمل بالحق يوجب خسارة أو مشكلة شخصية بالنسبة له فإنّ العمل بالحقّ يبقى أحبّ إليَّ ((من الباطل وإن جرّ إليه وزاده)) أي أن الحقّ أقرب إليه من الباطل حتى لو كان في الباطل ربح وزيادة، لأن مسألة الالتزام بالمبادئ لاسيما إذا كان ذلك في خط الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والالتزام بشريعته – تفرض على المؤمن أن يعمل على أساس إخضاع حياته وتحريك التجربة في حياة الآخرين لحركة الخط المستقيم للإيمان والالتزام، لأن النتائج الإيجابية في ذلك أعظم من السلبيات الجزئية على الذات والواقع.

((فأين يتاه بكم)) إلى أين أنتم ذاهبون؟ ((ومن أين أتيتم؟)) هل انطلقتم من قاعدة الحق الذي يمثله فريقكم من موقع قيادة الحق التي عرفتم التزامها بالحق في تاريخها وفي وقتها في الإخلاص للّه ورسوله؟ أو أنكم انطلقتم من موقع الأهواء الضالّة والانحرافات المضلّة. إن ذلك كلّه يفرض عليكم التفكير في العواقب التي تقبلون عليها مما يعرّضكم إلى سخط اللّه بفعل إثارتكم الفتنة في الأمّة.

ثم يقول لهم بعد أن انتهت الحرب وتبيّنت خيانة القوم الذين رفعوا المصاحف ((استعدّوا السير إلى قوم حيارى عن الحقّ لا يبصرونه)) لأن الحرب قد تكون النافذة التي يطل منها الآخرون على الحقّ من خلال الضغوط التي قد تثيرها في الساحة مما يدفعهم إلى التفكير في الأمر، ويدخلهم في أكثر من تجربة تتيح لهم فهم الأمور بطريقة واضحة. وهذا هو ما تحدث به الإمام(ع) في موقف آخر، وذلك في قوله: ((ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تهتدي بي فئة فتعشوا إلى ضوئي)) أي إلى جماعة معاوية الذين لا يبصرون الحق، فلنسر إليهم حتى نهديهم ونضيء لهم طريق الحق ((وموزّعين بالجور لا يعدلون عنه)) أي ملهمين بالظلم الذي سيطر عليهم فلا يعدلون عنه إلى العدل ((جفاة عن الكتاب)) أي انحرفوا عن الكتاب ((نكّب عن الطريق)) أي يعدلون عن الطريق الصحيح إلى غيره.

ثم يعيش الإمام(ع) نفثة الصدر من الذين ابتلاه اللّه بهم ((ما أنتم بوثيقة يعلق بها)) فلستم أنتم الفئة التي يستوثق الإنسان بها عندما يدخل ساحة الصراع ((ولا زوافر عزّ يعتصم بها)) والزوافر هم العشيرة والأنصار. ((لبئس حشاشة نار الحرب أنتم)) ففي الحرب لن تكونوا الحطب الذي به يشعل نارها، وهذا كناية عن أنهم جبناء مهزومون ((أفّ لكم لقد لقيت منكم ترحا، يوما أناديكم ويوماً أناجيكم فلا أحرار صدق عند النداء، ولا أخوان ثقة عند النجاء)) وهذه هي  مصيبة علي(ع) في أصحابه.

ونلاحظ رحابة صدره(ع) تتسع لأكثر من ذلك في حواره. ونحن إذ نقرأ تجربة علي(ع) فإنّا نريد أن نتعلّم الدرس، سواء كنّا في موقع الحكّام بالنسبة للمعارضة، أو كنّا في موقع المرجعية بالنسبة لمن نختلف معهم، أو كنّا في موقع الأحزاب عندما تختلف الأمور فيما بينهم، وفي أي من مواقع المسؤولية، أن نتعلّم أنّ على المسؤول أن يحاور الذين يعارضونه، وأن يدخل معهم في دراسة حول القضايا التي هي محل الخلاف لا أن يضطهدهم لمجرد أنّهم يختلفون معه في الفكر، وأن لا يخرجهم عن الإسلام لأن لهم رأياً يختلف عن رأيه. والاختلاف هنا مع من؟ مع علي(ع) الذي هو كلّ الإسلام بعد رسول اللّه(ص) ومع ذلك فالملاحظ أنه لم يُخرج الخوارج عن الإسلام حتى عندما كفّروه، بل وتعامل معهم كمسلمين، وستأتي كيفية تعامله معهم.

الاحتجاج على تجاوزات الخوارج:

فلنقرأ هذه الوثيقة الحوارية التي لا أعتقد أن أحداً من المسؤولين، في جميع المستويات، يستطيع أن يتحدث بهذا الأسلوب الحواري المنفتح، لكنّ علياً(ع) يرتفع حيث يتضع الناس. ((فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت)) فأنتم تقولون إنّي أخطأت في التحكيم وإنّي ضللت عن الخط المستقيم، فإذا لم تسمعوا كلامي ولم تقبلوا عذري وبياني لكم أني لم أقبل التحكيم وأني لم أحكّم الرجال وإنما حكّمت القرآن ولكنّ الحكمين ابتعدا عن القرآن، فلتحاسبوني إذاً أنا شخصياً ولا تعتدوا على المسلمين الذين لا ذنب لهم ((فلم تضللون عامّة أمّة محمد(ص) بضلالي)) فالخوارج عندما تحولوا إلى معسكر معارض راحوا يقتلون الرجال والنساء والأطفال ((وتأخذونهم بخطئي، وتكفّرونهم بذنوبي)). فإذا كنت أنا المذنب فلم الاعتداء على الآخرين وأخذهم بجريرة غيرهم؟! )ولا تَزِرْ وازرةُ وَزرَ أُخرى(([381]) تعالوا اقصدوني دونهم.

((سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم)) أي للمذنب وللبريء ((وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب)) أي أصبح المسلمون عندكم جميعاً بلا استثناء كفاراً، فالخوارج يعتقدون أن مرتكب الكبيرة كافر، ولمّا كان المسلمون قد قبلوا التحكيم فإنّهم ارتكبوا الكبيرة فأصبحوا كفّاراً، وربّما ينسب إليهم بعض الباحثين أنهم يرون أن كلّ من أذنب فهو كافر، فالإمام(ع) يريد أن يبيّن لهم أنهم ما زالوا يؤمنون برسول اللّه(ص) ويشهدون الشهادتين، فلنر كيف تعامل رسول اللّه(ص) مع الذين ارتكبوا الكبائر ككفّار أم تعامل معهم كمسلمين؟

((وقد علمتم أن رسول اللّه(ص) رجم الزاني المحصن ثم صلّى عليه وورّثه أهله)) أي عامله كمسلم، خاصّة وأن زنا المحصن كبيرة، ومع ذلك فقد صلّى عليه والصلاة لا تجوز على الكافر وإنّما على المسلم، فهذه المعصية لم تخرج الزاني من الإسلام. والكافر لا يرث المسلم وإنما المسلم يرث المسلم، الأمر الذي يعني أن الزاني لم يعامل ككافر.  ((وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله)) فأهل القاتل مسلمون وهم يرثون ابنهم القتيل وهو مسلم فالقتل لم يخرج القاتل عن الإسلام ((وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفيء)) أي أعطاهم رواتبهم وأعطياتهم من بيت المال، رغم أن هذه كلّها كبائر ((ونكحا المسلمات)) أي تزوّجا منهن ((فأخذهم رسول اللّه(ص) بذنوبهم وأقام حقّ اللّه فيهم)) بالحدّ الذي أجراه عليهم ((ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام)) أي تعامل معهم كمسلمين ودفع إليهم حصصهم من المال ((ولم يخرج أسماءهم من بين أهله)) أي من بين أهل الإسلام.

وبعد أن أقام الحجّة البالغة عليهم، وقال لهم إنكم مخطئون في فهمكم العقيدي للإسلام، فالكبيرة لا تخرج المسلم من الإسلام بدليل سيرة رسول اللّه(ص) فعلى أي أساس تقتلون المسلمين وتكفّرونهم؟! يقول(ع): ((ثم أنتم شرار الناس)) لأنكم تتحركون بالذهنية العدوانية المتعصّبة لا بالروحية الإسلامية المتسامحة التي تفكر بالخير وتخطّط للوصول إلى مواقعه بالحوار بالتي هي أحسن مما يدلّ على روح الشر المتأصلة في نفوسكم التي تدفعكم إلى العدوان على البلاد والعباد.

 ((ومن رمى به الشيطان مراميه)) أي رماهم الشيطان بعيداً فضلّوا عن الطريق ((وضرب به تيهه)) أي سلك به في بوادي الضلال التي يتيه فيها الإنسان.

الموقف من علي(ع):

ثم ركّز الإمام(ع) موقف الناس منه. ((وسيهلك فيّ صنفان: محبّ مفرط يذهب به الحبّ الى غير الحق)) أي هذا الذي يرتفع بي إلى ما يقرب من الألوهية، وقد نقل لنا التاريخ إن هناك من ادّعى الألوهية لعلي(ع) في حياته وقد قتلهم إحراقاً بالنار. ((ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق))، أي ذاك الذي بخس علياً(ع) حقّه ((وخير الناس فيّ حالاً النمط الأوسط فالزموه)) أي الذين يلتزمون بي كما أراد اللّه ورسوله من أنني خليفة رسول اللّه(ص) ووصيه، وأنني مع الحق، وأنني بشر كما أن رسول اللّه(ص) بشر. ((والزموا السواد الأعظم)) فالخوارج كانوا خارج نطاق الجوّ الإسلامي الذي كان مع علي(ع) ((فإنّ يد اللّه مع الجماعة وإيّاكم والفرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان)) أي الذي يبتعد عن الجماعة السائرة على طريق الحق، كما هو الشاذ من الغنم الذي يخرج عن قطيعه فهو للذئب يفترسه، فكذلك الشاذ عن الجماعة هو للشيطان يفترسه.

((ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه)) أي شعار (لا حكم إلا للّه) وشعار الفرقة والتمزّق ((ولو كان تحت عمامتي هذه، فإنما حكّم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، وإحياؤه الاجتماع عليه، وإماتته الافتراق عنه. فإن جرّنا القرآن إليهم اتبعناهم، وإن جرّهم إلينا اتبعونا، فلم آت لا أبا لكم بجرا)) أي لم آت شراً أو أمراً عظيما ولا أذنبت ولا ارتكبت كبيرة ((ولا ختلتكم عن أمركم)) فما كنت خدعتكم عن أمركم ((ولا لبّسته عليكم)) أي لم أخلط الأمور حتى تشتبه عليكم، فلقد كنت واضحاً أشد الوضوح. ((إنّما اجتمع رأي ملتكم على اختيار رجلين)) فلم أكن راضياً لا بأبي موسى الأشعري ولا بعمرو بن العاص لكنّكم ضغطتم عليّ بعد أن كنت قد اخترت عبد اللّه بن عباس وهو حبر الأمة، وهو يعرف كيف يخوض المعركة، فيما أن أبا موسى ليس معي وهو ساذج وبسيط. ((أخذنا عليهما أن لا يتعديا القرآن فتاها عنه، وتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما فمضيا عليه، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكومة بالعدل - والصمد للحق- سوء رأيهما، وجور حكمهما)) فلقد استثنينا عليهما ذلك ولكنهما لم يلتزما به.

ونقرأ أيضاً نصاً آخر لنعرف أن مصيبة الإمام علي(ع) هي أعظم من مصيبة الحسين(ع) فلقد كانت كربلاء معركة خاضها الحسين(ع) كأقسى ما تكون المأساة، ولكن علياً(ع) كان يتقطّع في كلّ يوم قطعة قطعة منذ توفي رسول اللّه(ص) إلى أن استشهد(ع)، وإلى الآن ما زال الإمام(ع) مبتلى بنا لأننا لم نفهمه جيداً ولا نسير معه في خطته.

قام إليه رجل من أصحابه فقال: ((نهيتنا عن الحكومة)) ففي البداية قلت إنّ جماعة معاوية ليسوا أهل كتاب فلا تقبلوا بالتحكيم ((ثم أمرتنا بها)) فحين أطبق الناس على ذلك قلت لا بأس ((فلم ندر أي الأمرين أرشد؟)) أحين نهيتنا أم حين أمرتنا؟ ((فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى، فقال: هذا جزاء من ترك العقدة)) أي ما حصل عليه التعاقد. ((أما واللّه لو أني حين أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل اللّه فيه خيرا، فإن استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم قوّمتكم، وان أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقى)) فلقد كان يمكنني ذلك بالضغط وبالقوة.

شكوى علي(ع) المريرة:

 ((ولكن بمن، والى من؟)) فبمن أصول؟ والى من أتجه؟ ((أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي)) فهل يُداوى المرضُ بالمرض؟ وهذا يكشف عن مدى معاناة الإمام(ع) من قومه ((كناقش الشوكة بالشوكة)) كذاك الذي يريد إزالة الشوكة بالشوكة ((وهو يعلم أن مثلها معها)) أي أنها جارحة ((اللّهم قد ملّت أطباء هذا الداء الدويّ)) أي الذي يتمثل في جماعتي، فلقد ملّ الأطباء منه لأنّ علاجه أعياهم ((وكلّت النـزعة بأشطان الركي)) والأشطان هي الحبال والركي هو البئر ((أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف من الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا، لا يبشّرون بالأحياء)) فلو بقي شخص منهم حياً فإنّهم يسعون بالبشارة له فإنّ أفضل الأشياء عندهم هو القتل في سبيل اللّه لأنّه أكرم القتل والبرّ الذي لا برّ فوقه. ((ولا يعزّون بالموتى)) لأنهم يعتبرون الذي يموت في سبيل اللّه لا يعزّى به بل يفرح له لأنّه كرامة من اللّه. ((مره العيون من البكاء)) فهؤلاء الذين كانوا في عهد رسول اللّه(ص) قد فسدت عيونهم من كثرة البكاء من خشية اللّه ((خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخواني الذاهبون، فحقّ لنا أن نظمأ إليهم، ونعض الأيدي على فراقهم)).

وهناك نصوص قصيرة خاطب بها الخوارج ومنها قوله ((أصابكم حاصب)) وذلك بعد أن اعتزلوا الحكومة وتنادوا أن: (لا حكم إلا للّه) ((ولا بقي منكم أثر)) أي أنه يدعو عليهم بأن لا يبقى منهم لشخص أثر، أي يُمحقوا ويُبادوا جميعاً ((أبعد إيماني باللّه وجهادي مع رسول اللّه(ص) أشهد على نفسي بالكفر)) أي تريدون مني أن اعترف بأنّي كفرت )قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ(([382]). إذا فعلت ذلك ((فأوبوا شرّ مآب)) أي ارجعوا شرّ رجعة ((وارجعوا على أثر الأعقاب. أما أنكم ستلقون بعدي)) وهنا يحدثهم عن مستقبلهم ((ذلا شاملا، وسيفا قاطعا، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنّة)) وهكذا تفرّق الخوارج أيدي سبا ولم تبق منهم إلا القلة القليلة.


مناقشة (لا حكم إلاّ للّه):

وهناك نصّان آخران في الاتجاه نفسه، يحاول الإمام(ع) من خلالهما أن يردّ على شعار (لا حكم إلا للّه) فهو صحيح من خلال قوله تعالى)وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ(([383]). )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(([384]). )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(([385]). ولكنّ القضية ليست أن تطلق الشعار بل كيف تطبّقه على الواقع؟ وكيف تحرّكه في مواقع الخلاف والنزاع؟ لذا أراد الإمام علي(ع) أن يعالج المشكلة معالجة فكرية ويعطينا من خلالها خطّاً للعمل سواء في خط المعارضة أو في خط الموالاة، إذا صح التعبير.

قال(ع) لما سمع قول الخوارج (لا حكم الا للّه) : ((كلمة حق يراد بها باطل)) فليس المهم أن تقول كلمة الحق بل ما هو هدفك من قولها؟ هل هو أن تقيم الحق أو أن تستغل الكلمة في غير مجالها لتركّز الباطل باسم الحق؟ ((نعم إنه لا حكم إلا للّه، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا للّه)) فهناك فرق في المعنيين، فالحكم للّه يعني أن نأخذ بما حكم اللّه به في كتابه، لكنّ الحكم كإجراء تنفيذي يحتاج إلى أمير ومسؤول وحاكم، واللّه لا يحكم بشكل مباشر، أي أنه لا يعطي المظلوم حقه من ظالمه مباشرة، بل لابدّ من حاكم يحكم بين الناس بحكم اللّه ليقتصّ من الظالم لحساب المظلوم وليرجع الحق إلى صاحبه، فلابدّ أن يكون هناك حاكم ((وأنّه لابد للناس من أمير برّ أو فاجر)) أي أن المجتمع لا بدّ له من نظام يرتكز عليه، فلا يمكن له أن يعيش الفوضى. فالأصل أن يكون هناك أمير برّ يحكم بحكم اللّه، ويعدل بين الناس بالحقّ، فإذا لم يكن فلابدّ من أمير فاجر من أجل أن يحفظ نظام المجتمع الذي إذا لم يكن له أمير أو حاكم أو مسؤول أو رئيس دولة فإن الفوضى تدبّ في أوساطه وبذلك يضيع الناس ويفقدون الأمن بحيث يأكل القوي الضعيف ((يعمل في إمرته المؤمن)) على قاعدة التعايش مع الباطل وعدم الاعتراف بشرعيته ((ويستمتع فيها الكافر ويبلّغ اللّه فيها الأجل، ويجمع به الفيء)) أي ميزانية الدولة ((ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل)) أي أن تكون هناك شرطة وجيش ورجال أمن حتى يحافظوا على أمن الطرق من استغلال قطّاع الطرق، وعلى البلد من العدوان الخارجي ((ويؤخذ بها للضعيف من القوي، حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر)).

وفي رواية أخرى قال(ع) لما سمع تحكيمهم ((أما الإمرة البرّة فيعمل فيها التقي، وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي، إلى أن تنقطع مدته، وتدركه منيته)).

فالإمام(ع) حلّل مضمون الشعار الذي أطلقه الخوارج تحليلاً دقيقاً، فالفرق واضح بين أن تقول (لا حكم إلا للّه) وبين أن تقول (لا إمرة إلا للّه) فاللّه يحكم ولكنه يحكم من خلال الناس ولا يحكم بشكل مباشر، وإذا دار الأمر بين الفوضى وحكم الحاكم غير الحق فلا إشكال أن حكمه يقدّم على الفوضى. نعم، إذا دار الأمر  بين الحاكم الحق وبين الحاكم الباطل فلا بد أن نقدّم الحاكم الحق على الحاكم الباطل.

وعي الشعار:

ولابدّ من أن نأخذ من هذه الكلمة درسا في القضايا السياسية والدينية والاجتماعية من خلال ما يطلق من شعارات فضفاضة تجتذب مشاعر الناس وعواطفهم. فعليك عندما تسمع الشعار أن لا تنجذب إليه بل تدرس خلفياته وحركيته في الواقع حتى تستطيع أن تتعرّف على اتجاه مضمون هذا الشعار بحسب الواقع؟ والى أين يتجه بحسب الخلفيات؟ لأننا نعرف – أيّها الأحبة – منذ الخوارج وفي مدى التاريخ الإسلامي أو التأريخ الحاضر الذي سيطر فيه الغرب المستعمر على مقدرات المسلمين، أن الناس يتحرّكون خلف شعارات برّاقة فضفاضة تلتقي مع غرائزهم ومع أحاسيسهم ولكنّ الذي يطلق الشعار ربّما يكون قد خبّأ في خطته العناصر التي تحاول أن تصل به إلى ما يريد من السيطرة على الناس.

فعندما دخل الإنجليز في أوائل القرن الماضي إلى واقع العرب، جاءوا إليهم بعنوان أو شعار أنكم تعيشون تحت ضغط الحكومة العثمانية، وهؤلاء أتراك وأنتم عرب، وقد جئنا لنساعدكم على تحرير بلادكم من الحكم التركي، فكان الشعار هو هذا، وكان أول من استجاب لهذا هو الشريف حسين الذي كان ملك مكة آنذاك، ولكن المسألة انتهت بالشريف حسين إلى أن ينفى والى أن يسيطر الإنجليز على كلّ مقدرات العالم العربي وشاطرتهم فرنسا السيطرة على دول أخرى بعنوان التحرير، فكلمة الاستعمار تعني أن هؤلاء جاءوا ليعمّروا لنا حياتنا، ذلك أن مصطلح الاستعمار يعني طلب العمران، ولما كانت الأمة تعيش الخراب فلابدّ من التعمير، وهذا ما توحي به كلمة الاستعمار. ثم انقلب الشعار بعد ذلك إلى عملية احتلال، وما زالت تنطلي علينا الشعارات التي ترفعها أميركا في المنطقة.

ولذا يريدنا الإمام علي(ع) أن نكون الواعين لمرامي الشعارات لا أن تجتذبنا الشعارات، وأن ندرس من يطلق الشعار؟ وإلى أين يتجه؟ وما هي خلفياته؟. فمشكلتنا هي في هذه السذاجة الدينية والسياسية والاجتماعية التي تجعلنا نخضع للإشاعات والشعارات وكلّ الخطط التي تتحرّك هنا وهناك .. واذكر في هذا المجال كلمة للإمام الصادق(ع) يردّ فيها على من يقولون بأن المؤمن بسيط طيب ساذج أي يمكن أن تنطلي عليه اللعب والأحابيل ((المؤمن حسن المعونة)) أي يعين غيره وليس أنانياً ((خفيف المؤنة)) لا يثقل نفسه على الآخرين ((جيد التدبير لأمر معيشته)) أي لا يغلب في التجارة والحصول على المعيشة ((لا يلدغ من جحر مرتين)). فإذا خاض تجربة فاشلة فلا يكرّرها في موضع الفشل، وكم لدغنا من ألف جحر وما تزال أصابعنا ممدودة في كلّ هذه الجحور الغربية والاستكبارية .. أميركا.. وأوروبا.. أما من نحن؟ وماذا نريد؟ فهذا ما لا نعلمه حتى الآن.

ولقد زارني السفير الفرنسي في لبنان أيام الحرب اللبنانية، وقال: إن مشكلتنا مع اللبنانيين أنهم يحدّثوننا عما نريد ولا يحدثوننا عمّا يريدون. أي أن سؤالهم دائماً: ماذا يريد الفرنسيون؟ وليس ماذا يريد اللبنانيون؟ والجو السياسي الآن يشبه ذلك، فالسؤال الآن ماذا تريد أميركا؟ وماذا تريد إسرائيل؟ وماذا تريد أوروبا؟ أما ماذا نريد؟ فلا نفكّر فيما نريد، أو بالأحرى هل نعرف ماذا نريد؟! فلو فاجئنا شخص وقال: ماذا تريدون كعرب؟ وماذا تريدون كمسلمين؟ فإننا نقول له: دعنا نفكّر. أمّا إذا سألنا ماذا تريد أميركا؟ فيمكن أن نجيبه فوراً.

فمشكلة علي(ع) انه ابتلي بفئة غير واعية تنجذب إلى كلّ الكلمات وكلّ الشعارات، ومازلنا نمثل الأكثرية غير الواعية التي تنساق خلف الشعارات البرّاقة، السهل إثارة فتنة مذهبية وأخرى طائفية وثالثة حزبية أو إقليمية، وأن نثير الحرب بيننا، لأنّ عقولنا ذابت في غرائزنا ولم تعد غرائزنا تحت سلطة عقولنا.

الدقّة في التشخيص:

وهناك كلمة للإمام(ع) ترسم خطاً فكرياً في هذا المجال، فبعد أن قاتل الخوارج أعطاهم حقهم في الفيء، وإنّما قاتلهم لأنهم قطعوا طريق المسلمين وصاروا مفسدين في الأرض، فقاتلهم من أجل حماية النظام، ولذا قال ((لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه)) فالفرق بين الخوارج وبين معاوية أن الخوارج متدينون ولكنّهم متدينون جاهلون، وفي الحديث : ((قصم ظهري اثنان عالم متهتك وجاهل متنسك))([386]) يتعبّد بشتى العبادات لكنّه يفهم القضايا بشكل مقلوب. فالإمام علي(ع) ينهى عن مقاتلتهم ويدعو إلى محاورتهم لأنّهم أرادوا الحقّ وأخطأوا، فمن يطلب الحق يمكن التفاهم معه بمجرد أن يفتح عقله، لكن معاوية طلب الباطل وهو يعرف الحقّ وانحرف عن الحق عمداً فأدرك الباطل.

فعندما نعيش الاختلاف في دوائرنا المذهبية أو الطائفية أو السياسية نرى أن هناك أناساً يطلبون الحقّ ولكنّهم يخطئون الطريق إليه لأنّهم لم تتوفر لديهم البيئة التي تعطيهم مناخ الحقّ، ولم تتوفر الوسائل التي يفهمون بها الحقّ ويصلون إليه، فلا يصحّ مقاتلة ومقاطعة هؤلاء، بل علينا أن نواصلهم ونبقى في حوار معهم. أمّا الذي يطلب الباطل وهو يعرف الحق فنقاتله لأنّ الحوار معه لا يجدي نفعاً. فالقضية ليست قضية خلاف فكري بل هي خلاف على الواقع، ولذا يقول اللّه تعالى )وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ(([387]). وهم الذين يريدون أن يفرضوا القوة عليكم ويصادروا حرياتكم وواقعكم، فهؤلاء لا يريدون الحوار إطلاقاً.

أيّها الأحبّة – هذا هو علي(ع) الذي ارتفع حتى لم يبق مجال للارتفاع، وقد قال: ((لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً))([388]) هل تريدون أن تكونوا مع علي(ع)؟ إنّ السير مع علي(ع) متعب متعب متعب، لأنّ علياً(ع) مع الحق والحقّ مرّ وكريه مطعمه، حتى قال ((ما ترك لي الحق من صديق))([389]). لذلك علينا أن نكون مع علي(ع) في كلّ الإسلام الذي جاهد في سبيله، وفي كلّ الإسلام الذي شرحه وفسّره وعرّفه.. علينا أن نحمل فكر علي(ع) وثقافته وخطه حتى نستطيع أن نقدّم للعالم صورة علي الذي يمثل الإسلام الحضاري الذي إذا انطلق في العالم عرف أنّه يمكن أن يحلّ مشكلة الإنسان المعاصر..

علي الحوار.. علي الأفق المنفتح .. علي الإنسان الذي عاش إنسانية الناس من حوله، وأراد أن يرفعهم إلى اللّه، وأن يبعدهم عن الوحول التي يتخبّطون فيها، وتلك كلمته ((ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم))([390]). والحمد للّه رب العالمين.

 

 


 

المحاضرة الرابعة عشرة 1 جمادى الأول 1422ه‍ - 21 /تموز/2001م

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (6)

أسلوب الحكم

 

* ليس الحكم سيطرة ولا تعسّفاً ولا تجبّراً ولكنه عقد بين الحاكم والمحكوم *

 

 

 

 

 
 
 

عليّ(ع) المؤهَّل لخلافة رسول اللّه(ص)..

إدارة الخلافة في خطّ المعارضة .

خطابه لقادة الجيوش.

أين نحن من علي(ع) ؟

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ونبقى مع عليّ(ع) صوت العدالة الإنسانية، لنلتقط من نهج بلاغته بعض الكلمات التي توضح لنا كيف كان أسلوبه في حكمه، وفي علاقته مع بعض الذين يتولّون جانباً من شؤون حكمه، وكيف كان خطابه لبعض الذين انتقضوا عليه ونكثوا عهده وواجهوا خطّته، لأنّ هذا الجانب ليس واضحاً عند الكثيرين، ولأنّ مثل هذه الملامح الإسلامية العلوية تعلّمنا ـ سواء كنّا على مستوى المسؤولية أو على مستوى الواقع الشعبي ـ كيف نحرّك أساليبنا مع الذين نعارضهم ويعارضوننا، أو الذين يتحرّكون معنا في مسؤولياتنا.

عليّ(ع) المؤهَّل لخلافة رسول اللّه(ص):

فنحن نلاحظ في أسلوب عليّ(ع) وهو الخليفة، أنّه عندما كان يرسل كتبه إلى عمّاله، أو الذين يتولّون بعض شؤون الناس من قبله، لـم يكن يستخدم اللغة الرسمية مما اعتاد الخلفاء أو المسؤولون في الدول أن يوجهوها إلى من هم تحت مسؤوليتهم، لأنّ عليّاً(ع) كان ينطلق من خلال خطّين في المسؤولية: الخطّ الأول هو الخطّ الرساليّ، لأنّه كان مسؤولاً عن تربية النّاس على الإسلام، تماماً كما كان رسول اللّه(ص) مسؤولاً عن ذلك. والخطّ الثاني، وهو خطّ تنفيذ الإسلام في حياة النّاس من خلال حركة الحكم في إقامة العدل وحفظ النظام الأمني، ولهذا كرّرنا الحديث في هذه اللقاءات أنّ عليّاً(ع) وحده هو الذي كان مؤهَّلاً لأن يكون خليفة رسول اللّه(ص)، لأنّ خلافة عليّ(ع) لرسول اللّه(ص) تختلف عن خلافة أيّ خليفة أو مسؤول آخر، لأنّ رسول اللّه(ص) كان الرسول والشاهد والمبشر والنذير )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللّه بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا منِيرًا(([391]). وكان الحاكم )النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ(([392]). فلا بدّ لمن يقوم مقامه أن يكون الإنسان الذي يجسّد الرسالة في عقله وفي قلبه وفي سلوكه، بحيث يكون نفس رسول اللّه(ص) في ذلك كلّه، بأن يكون علمه علم رسول اللّه(ص)، وخلقه خلق رسول اللّه(ص)، وسلوكه سلوك رسول اللّه(ص)، حتى يكمل حركية الرسالة بعد الرسول(ص)، لأنّ قريشاً لم تمنح رسول اللّه(ص) الفرصة في إكمال هذه الحركية، فلقد بلّغ(ص) الرسالة كلّها )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينًا(([393]). فلم يبقَ من الرسالة شيء لم يبلّغه رسول اللّه(ص)، ولكن كان من بين مهامّ رسالته أن يزكّيهم وأن يعلّمهم الكتاب والحكمة، فلا بُدَّ من شخص يكمل عملية التزكية والتعليم الفكري والتطبيقي، ولا بُدَّ أن يكون حاكماً يملك المعرفة الشاملة لخطوط الإدارة كلّها، ولم نجد لأيّ صحابي من الصحابة ـ مع احترامنا لهم ـ وثيقة كاملة في خطوط الإدارة العريضة وتفاصيلها كما وجدنا لعليّ(ع)، فعهده لمالك الأشتر، وعهده لأكثر من عامل من عمّاله دليل على ذلك.

ولهذا كان عليّ(ع) وحده المؤهَّل للخلافة، ومن هنا نعرف سبب نزول آية التبليغ: )بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ ربِّك(([394]). لأنَّك إن لـم تبلّغ فسوف تفقد الرسالة حركيتها في الامتداد والتربية والتوعية والانفتاح، فلا بُدَّ أن ندرس عليّاً(ع) في خطّ الرسالة، كما ندرسه في خطّ الإدارة والحكم. ولا نستطيع أن نفهم عليّاً(ع) في جانب واحد دون غيره، وهذا هو الذي نستدلّ به على أنه(ع) كان المعيّن لموقع الخلافة، لأن مسألة أن يكون هناك خليفة يحكم ليست هي كلّ مسألة الإسلام بعد رسول اللّه(ص)، بل أن يكون هذا الشخص رسالياً يركّز الرسالة في العمق، ولابُدَّ أن يكون هناك حاكم ينفّذ حركة الرسالة في الواقع، وخصوصية الرسالة الإسلامية أنّها تدخل في تفاصيل الإدارة كما أنّ الإدارة تدخل في مفردات الرسالة.

إدارة الخلافة في خطّ المعارضة :

ولذلك فإننا نحاول في هذا اللقاء أن نلتقط بعض رسائل عليّ(ع) لنعرف كيف كان يدير مسألة الخلافة في الخطّ السلبيّ مما كان يواجهه في معارضة المعارضين وفي الخطّ الإيجابي.

فمن كتاب له(ع) إلى معاوية بعد فتنة الخوارج، قال له: ((وإنّ البغي)) الذي تمثّل في مواقفك وممارساتك ((والزور)) أي الباطل الذي حمل شعار الرجوع إلى كتاب اللّه وهو لم يأخذ به ((يوتغان المرء في دينه ودنياه)) ويوتغان يعني يهلكان، وكأنّه يقول له إنني أحذّرك من البغي ومن الزور الذي أخذت به، لأنّ ذلك سوف يهلك دينك ودنياك مهما أخذت من شكليات الدين، ومهما حصلت عليه من شأن الدنيا.

((ويبديان خلله عند من يعيبه)) لأنّ البغي يفتح الثغرات الموجودة في شخصية الباغي، ولأنّ الزور يبيّن الخلل في سلوكه وفي خطّه في الحياة. ((وقد علمت أنّك غير مدرك ما قضي فواته)) أي ما فات وسلف من أنّك لم تدرك طبيعة هذا التاريخ الذي صنعته وفاتك الآن، ولم تدرك نتائجه السلبية. ((وقد رام أقوام بغير الحقّ فتألوا على اللّه)) والتأل من الألية، وهي اليمين التي حلفوها فيما أرادوا أن يفعلوا، ((فأكذبهم)) لأنّهم لم يصدقوا فيما تألوه، أي حلفوه، ((فأحذر يوماً يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله)) وهو الإنسان الذي ينظر في العواقب بحيث كانت عاقبة عمله خيراً ((ويندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه)) لأنّ الشيطان يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير. ((وقد دعوتنا إلى حكم القرآن)) عندما رفعت المصاحف وقلت من لثغور أهل العراق غير أهل الشام ومن لثغور أهل الشام غير أهل العراق ((ولست من أهله)) لأنّك لم تنفتح على القرآن منذ كنت مع أبيك في خطّ الكفر، ولم تنفتح عليه عندما صرت مسلماً، بل كانت المسألة عندك دنيا تريد أن تحصل عليها باسم القرآن.

((ولسنا إيّاك أجبنا)) فنحن لـم نجبك إلى ما دعوت لأنّك لست في مستوى أن تجاب ((ولكنَّنا أجبنا القرآن في حكمه)) لأننّا قوم حاربنا من أجل تنزيل القرآن ونحارب من أجل تأويله، ليكون القرآن هو الذي يحكم الحياة الإسلامية كلّها، فإذا دعانا القرآن لأيّ موقف حتى لو كان الداعي لا يحمل معنى القرآن، فإننا نجيب القرآن إلى ذلك ((والسّلام)).

وهنا نلاحظ أنه مع كل هذا السلوك السيئ الذي سلكه معاوية معه ورغم أنه أثار الحرب عليه، نلاحظ كيف استعمل الموعظة معه، لأنّه لا يريد أن يتحدّث معه في السياسة بمعناها الجامد، بل أراد أن يتحدث معه في السياسة في عناصرها الروحية لتكون مظهراً لسياسة الإسلام الذي ينفتح على اللّه عندما ينفتح على النّاس.

ومن كتاب له(ع) إلى معاوية أيضاً ((أمّا بعد، فإنّ الدنيا مشغلة عن غيرها)) فإذا استغرقت أنت وأمثالك في الدنيا بكلّ أطماعها ولذّاتها وشهواتها، فإنّها تشغلك عن الآخرة فلا تنفتح على الآخرة لأنّ الدنيا الأخروية هي التي يعيش فيها الإنسان الآخرة كهدف في كلّ أوضاعها وقضاياها.

((ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلاَّ فتحت له حرصاً عليها)) فعندما يحصل الإنسان على الدنيا فإنّه لا يوجهها في مواقع العطاء، ولا يحرّك الأهداف الكبرى التي جعلها اللّه للإنسان في حياته في الدنيا إلى ذلك، بل يحرص عليها أكثر.

((ولهجاً بها، ولن يستغني صاحبها بما نال فيها عمّا لـم يبلغه منها)) فالإنسان إذا حصل على شيء من الدنيا فإنّه لا يكتفي ولا يقتنع به بل يتطلّع إلى ما لم يبلغه منها، ويظلّ في حالة جوعٍ وحرصٍ دائمين. ((ومن وراء ذلك)) اجمع ما شئت واحرص على كلّ ما جمعت ولكن ما هي النهاية؟ ((فراق ما جمع، ونقض ما أبرم)) فهو يجمع المال بكلّ وسيلة من حلال ومن حرام، ثُمَّ يفارقه، وهو يبرم الكثير من المواثيق والعهود والأوضاع لكنّه ينقض ما أبرم من ذلك لأنّه سيفارقه كلّه.. ((ولو اعتبرت بما مضى)) بحيث أخذت درساً من الماضي الذي سبقك، أو الذي عشته في حياتك ((حفظت ما بقي)) لأنَّ الإنسان عندما يأخذ دروس الماضي يعرف كيف يركّز الحاضر، وكيف يؤسس للمستقبل، ولكنّك لم تفعل ذلك يا معاوية.

خطابه لقادة الجيوش:

ومن كتاب له(ع) إلى أمرائه على الجيوش، نجد كيف كان يخاطب قادة الجيوش التي يبعثها للقتال: ((من عبد اللّه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين)) وأمير المؤمنين هي الصفة الرسمية، أمّا صفة العبودية للّه سبحانه وتعالى فهي من أجل أن يوحي إليهم أنّه يعيش عبوديته للّه حتى وهو يحكم النّاس ويمارس الإمارة عليهم، حتى لا يتصوّر النّاس أنّ الإمارة ترتفع به عن مواقع العبودية كما الكثيرون من النّاس الذين إذا تأمّروا على النّاس وحكموهم فقدوا إحساسهم بمعنى عبوديتهم للّه، فخيّل إليهم أنّ لهم شيئاً من الألوهية بحيث يعيشون أرباباً للناس لا أخواناً لهم.

وأمّا إمارة المؤمنين فهو الموقع الذي يجعله مسؤولاً عنهم ويجعلهم مسؤولين أمامه، لأنّه إذا كان أميرهم فهذا يعني أنّه مسؤول عن رعايتهم وحفظ نظامهم، وإذا كانوا مأمورين أمامه فعليهم أن يطيعوه، وهذا ما بيّنه لهم.

((إلى أصحاب المسالح)) مواقع السلاح ومسؤولي حركته في خطّ المواجهة ((أمّا بعد، فإنّ حقّاً على الوالي أن لا يغيّره على رعيته فضلٌ ناله)) أي أن لا يتكبّر ولا يتجبّر ولا ينظر إلى رعيته من فوق، بل عليه أن يعتبر ولايته مسؤولية بحيث يشعر بثقلها أكثر مما يشعر بشرفها، فالولاية على النّاس هي مسؤولية وتكليف وليست تشريفاً يضخّم للإنسان ذاته، ((ولا طَوْلٌ خُصَّ به)) والطَوْل هو القوّة والامتداد في السلطة ((وأن يزيده ما قسمه اللّه له من نعمه دنوّاً من عباده)) بحيث كلّما أعطاه اللّه نعمة أكثر وقوة أكثر، قرب من النّاس أكثر، لا أن يبتعد عن النّاس كما يبتعد الذين يعيشون في الأبراج العاجية عندما يملكون سلطة أو غنى أو ما إلى ذلك ((وعطفاً على إخوانه)) أي أن ينطلق الوالي والحاكم والأمير ليعيش العطف على النّاس، ولاحظوا كيف يعبّر(ع) عن النّاس الذين يتحمّل مسؤوليتهم بأنّهم إخوانه، وهذا الخطّ لا يقتصر في إيحاءاته الإسلامية الأخلاقية على من يملك السلطة العليا، بل إنّه يتحرّك في أية سلطة يملكها الإنسان على الآخرين سواء في الدائرة الصغيرة أو الوسطى أو القضايا الإدارية والسياسية والاجتماعية والعسكرية، بأن تعيش في نفسك الإحساس بأخوّة النّاس الذين هم في مواقع مسؤوليتك وأن تعطف عليهم.

وقد صوّر لنا سبحانه وتعالى رسول اللّه(ص) بهذا العمق الإنساني في إحساسه بالمؤمنين )لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم ـ يشق عليه ـ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ـ كما تحرص الأم على أولادها ـ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(([395]) وهذا ما تعلّمه عليّ(ع) من رسول اللّه(ص)، فإذا بلغت بك الدنيا موقعاً عالياً فلا تبتعد عن النّاس بل اقترب منهم، بحيث لو أنَّهم لـم يصلوا إلى ما أنت فيه فعليك أن تتنازل لتصل إليهم.

ولعلّنا نستوحي هذا المعنى من بعض الأدعية، ألا نقرأ: ((فإن لـم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء)) فقد لا أكون يا ربيّ في مستوى أعمالي بحيث أصعد إلى رحمتك لألتصق بها، ولكنّ رحمتك التي وسعت كلّ شيء تفيض وتمطر وتهمي على كلّ النّاس كما ينطلق المطر من الأعالي على الأرض ليعطيها الخصب والرخاء.

((ألا وإنّ لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرّاً إلاَّ في حرب)) أي سوف لن أتعامل معكم بطريقة المخابرات بحيث لا تعرفون من أمر الدولة شيئاً وأنتم المسؤولون في بعض مواقعها، بل لكم عليّ أن أتعامل معكم في شؤون الدولة، خاصّة في ما يتعلّق بمسؤلياتكم الخاصّة على قاعدة الوضوح في الأمور المتعلّقة بها بحيث تتعرّفون خفاياها وأسرارها، وأمّا أسرار الحرب فلأنّها تفرض الكتمان في بعض الخطط حتى بالنسبة للمسؤولين عنها وأنّ كشفها قبل أن يأتي وقتها قد يعطّل الخطّة.

((ولا أطوي دونكم أمراً)) فالأمور مبسوطة كلّها بين أيديكم ((إلاَّ في حكم))، لأنّ الحاكم سواء كان في موقع القضاء أو في موقع إدارة الدولة لا بُدَّ له أن يحافظ على السرية في أوضاع النّاس الذين يتنازعون ويختلفون وتتحرّك الإدارة في مواجهة قضاياهم، ولذلك ففي هذه الحالة قد أحتجز بعض الأمور عنكم حفاظاً عليها، وأمّا خارج هذا النطاق فلا أطوي دونكم أمراً إلاَّ في حكم ((ولا أؤخر لكم حقّاً عن محله)) بل تأخذون حقوقكم كلّها في مواقع الحق كلّها من دون تأخير ((ولا أقف به دون مقطعه)) أي دون الحدّ الذي أقطع به أن يكون لكم، بل أقف فيما لكم من حقّ عند مقاطع الحقّ ومفاصله ((وأن تكونوا عندي في الحقّ سواء)) فلا طبقية، فالعسكر في ذلك سواء القائد والضابط والجندي، فعندما تكون المسألة مسألة حق فإنّ اللّه لا يميّز أحداً عن أحد في الحقّ، فصاحب الحقّ يأخذ حقّه سواء كان صغيراً أو كبيراً، ولذا ورد في كلام عليّ(ع) عندما تحدّث في أول خلافته ((القويّ العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ منه الحق، والضعيف الذليل عندي قويّ عزيز حتى آخذ له بحقّه)) فالحقّ أقوى من كلّ أشكال الطبقية والدرجات العليا.

((وأن تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت للّه عليكم النعمة)) لأنّ النّاس عندما يعيشون مع إمام عادل ومع نظام يتحرك بالعدل ويحترم إنسانية النّاس فلابدّ لهم أن يشكروا نعمة اللّه، فأيّة نعمة أعظم من أن يعيش الإنسان في دولة ينشر فيها العدل والأمن ويعيش النّاس فيها إنسانيتهم، ويتعاونون من خلالها على طاعة ربهم.

 ((ولي عليكم الطاعة)) ولاحظوا كيف يجعل الإمام(ع) المسألة متبادلة بين الراعي والرعية، فالوالي لا يطلب من الرعية أن تطيعه إلاَّ بعد أن يأخذ على نفسه الميثاق والعهد بأن يقوم بكلّ مسؤولياته فيما لهم من حقوق، ولذا قال: ((فإذا فعلت ذلك)) أي إذا لم أفعل فلا حقّ للطاعة عليكم.

((وأن لا تنكصوا عن دعوة)) أي أن لا تتراجعوا عن دعوة أدعوكم إليها في الخطّ الذي ذكرته لكم ((ولا تفرّطوا في صلاح)) فيما يصلح أمر الأمّة من خلال مسؤولياتكم فيما يصلح أمركم. ((وأن تخوضوا الغمرات إلى الحقّ)) أي أن تتحمّلوا الأثقال والمصاعب وأنتم سائرون إلى الحقّ، فالحقّ لا يقوم إلاَّ على يد الذين يجاهدون في سبيله ويتحمّلون المشاق والآلام في سبيله.

((فإنّ أنتم لـم تستقيموا)) أي أنّكم أخذتم السير في خطّ الانحراف وتركتم خط الاستقامة ((لي على ذلك)) على ما أردته منكم من الطاعة ((لـم يكن أحدٌ أهون عليّ ممن اعوجّ منكم)). وهنا نلاحظ كيف أن الإمام الذي يريد أن يتحمّل المسؤولية في قمع كلّ الانحرافات التي تسقط الدولة وتوقع النّاس في حالة الارتباك والاضطراب، يتكلّم بلغة القوّة ((ثُمَّ أعظم له العقوبة)) فالقضية ليست قضية شخصية ((ولا يجد عندي فيها رخصة)) فسأطبّق عليه القانون مائة في المائة، فلا أرخّص لأحد منكم أو من غيركم في مخالفة النظام العام تحت أيّ اعتبار من اعتبارات المداهنة والمجاملة، لأنَّ المسألة هي مسألة حدود اللّه ومصالح النّاس وموقع المسؤولية عندي.

((فخذوا هذا من أمرائكم)) أي طالبوا أمراءكم بهذا البرنامج ((وأعطوهم من أنفسكم ما يصلح اللّه به أمركم والسلام)).

أين نحن من علي(ع) ؟

فكيف تجدون عليّاً(ع) في هذا البرنامج الذي يوجهه إلى قادة الجيوش؟ إنّه يتحدّث إليهم على أنّ الحكم ليس سيطرة وليس تعسّفاً ولا تجبّراً ولكنَّه عقد بين الحاكم والمحكوم، فعلى الحاكم أن يقوم بمسؤوليته في ما حمّله اللّه من أمانة الحكم بين النّاس، وعلى النّاس أن يتحمّلوا مسؤوليتهم في مساعدة الحاكم على أنفسهم وعلى ما يريده من إقامة العدل والحفاظ على الأمن، فأين عليّ مما نحن فيه؟

أيّها الأحبّة: إننا لا نملك إلاَّ أن نحبّه، وأن نعظّمه، لأنّ عليّاً(ع) يرتفع حيث يتضع النّاس، ويسمو حيث يسقط النّاس، لأنّ عليّاً(ع) عاش مع اللّه .. وباع نفسه للّه، فهل نبيع بعض أنفسنا للّه لنسير في خطّ عليّ؟ وقد قلت أكثر من مرّة إنَّ الانتماء إلى عليّ(ع) يتعب ويكلّف جهداً كبيراً، لأنّ عليّاً(ع) لو وليها لحملهم على المحجّة البيضاء، وقد تعوّدنا على البياض المخلوط بالسواد، ولم نتعوّد على البياض الناصع.

تعالوا ليعيش عليّ(ع) فينا.. في بيوتنا .. في مجتمعاتنا في مسؤولياتنا.. أن يكون فينا بعضٌ من عليّ(ع)، لأنّ القضية ليست نبضة قلب ولا خفقة إحساس، بل هي موقف، فالولاء موقف، بأن تسير حيث سار عليّ(ع)، وأن تقف حيث وقف: ((ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهادٍ وعفّةٍ وسداد)). ونبقى مع عليّ(ع) في أسلوبه في حكمه وفي طريقته في الحديث مع النّاس في مسؤولياتهم. والحمدّ للّه ربّ العالمين.

 


 

المحاضرة الخامسة عشرة 8 جمادى الأول 1422ه‍ - 28/تموز/2001م

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (7)

أسلوب التعامل مع الحكومة

 

 

 

* نحن بحاجة إلى أن نقرأ علياً(ع) في كلماته وكتبه كلّها لأنّها تصوّر لنا عناصر شخصيته كلّها*

 

 

 

مع كتب علي(ع) ورسائله.

إلى عماله على الخراج .

الافتتاح بالموعظة.

إنصاف الناس.

كتابه إلى طلحة والزبير.

كتابه إلى أهل الكوفة.

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

مع كتب علي(ع) ورسائله:

ونبقى مع علي(ع) في نهج بلاغته من خلال رسائله التي كان يرسلها إلى المسؤولين من قبله، والى خصومه الذين انتقضوا عليه، والى ما كان يقدّمه من تقارير إلى الأمة حول ما قام به وما عارض به خصومه.

فنحن نستطيع أن ننفذ إلى فكر علي(ع) وإلى قلبه وأسلوبه في العمل وإلى تواضعه للأمّة مما قد لا يعرفه بعض الناس عن علي(ع). فمشكلة الكثيرين من الناس أنّهم لم يقرأوا (نهج البلاغة) في دلالاته عن شخصية علي(ع) ولذلك فإنّنا بحاجة إلى أن نقرأ علياً(ع) من خلال كلماته كلّها لأنّها تصّور لنا عناصر شخصيتة كلّها والتي هي الشخصية الإسلامية الكاملة التي بلغت من العصمة ومن رحابة الأفق ومن عمق الفكر ما بلغت، فكان علي(ع) هو الإنسان الذي حرّك الإسلام في وجدان الناس علماً وسيرة وحركة في الحياة.

الى عماله على الخراج :

فتعالوا إلى علي(ع) لنفهمه ولنتعلّم منه. فمن كتاب له(ع) إلى عمّاله على الخراج، والخراج هو عنوان للضرائب الإسلامية التي كانت تفرض على الناس من خلال ما تملكه الدولة من الأراضي التي يأخذها الناس منهم ليزرعوها ويستثمروها. ومن الطبيعي فإنّ موظفي الضرائب غالباً ما يتميزون بالقسوة وبعدم مراعاة ظروف الناس ما يجعل هؤلاء ينظرون إليهم بطريقة سلبية، لذلك فإنّ علياً(ع) يحاول في هذا الكتاب أن يستثير إنسانيتهم في التعامل مع المكلفين بدفع الضرائب بأسلوب إنساني.

 ((من عبد اللّه علي أمير المؤمنين)) وقد اشرنا فيما سبق من حديث في التعليق على كتاب مماثل إلى أنّ علياً(ع) يبدأ كتابه بصفة العبودية للّه لأنّه – كما هو رسول اللّه (ص) – يعيش العزّة والكرامة في معنى عبوديته للّه، فالإنسان كلّما كان عبداً للّه أكثر كان حرّاً أكثر، ذلك لأنّك كلّما انفتحت على عبودية اللّه في معنى الوحدانية، فإنّك بذلك تكون حرّاً أمام العالم كلّه والناس كلّهم، ولذلك روي عنه(ع) في دعائه للّه ((كفى بي عزّاً أنّ أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً أنت كما أحبّ فاجعلني كما تحبّ))([396]). وعظمة علي(ع) أنّه اعتبر  عبوديته للّه سبحانه وتعالى مسؤولية مما جعله يتحرّك ويفكّر دائماً أنّ عليه أن يتعامل مع اللّه تعامل العبد مع سيده، فاللّه عزّ وجل أراد له أن يجاهد فخضع وسار في خطّ الجهاد، وأراد له أن يقوم بمهمة الدعوة فدعا إلى اللّه في خطّ هداية الناس إلى الحقّ، وأراد له أن يصبر على ما واجهه من تحديات أبعدته عن حقّه، وعقّدت له موقعه، وواجهت مخططاته ((فصبرت وفي العين قذى وفي الحق شجا أرى تراثي نهبا))([397]) وعاش عبوديته للّه الذي أراد له أن يحرّك فكره من خلال ما أعطاه من عقل، فأعطى للإنسانية كلّها العقل الذي لا يزال الإنسان يتعلّم منه، وفرّغ قلبه من كلّ حقد فأحبّ الناس وقال لكلّ إنسان يستمع إليه ((احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك))([398]). ليكن صدرك عامراً بالخير كلّه، مملوءاً بالحبّ كلّه للناس كلّهم ليجتذب قلوبهم إلى مواقع الإسلام كلّها.

وأعطى علي(ع) من طاقاته للأمّة ما جعلها تغتني، وعبد اللّه كما لم يعبده أحد بعد رسول اللّه (ص)، وكان الزاهد الذي اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، وكان المسؤول الذي عاش العدل في حياته كلّها، فكان يقول ((لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت))([399]).

كان عبد اللّه، وكان يعمل على أن يعلّم الناس بأن يكونوا للّه لا لأنفسهم، وكان يقول لهم ((ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم))([400]).

الافتتاح بالموعظة:

ونعود إلى كتابه إلى عماله: ((من عبد اللّه أمير المؤمنين)) فهو يقول لهم إنني في موقع الخلافة والإمارة ولكنّني وأنا أمارس دوري فيها فما أنا إلا عبد من عبيد اللّه أطيعه فيكم وفي مسؤوليتي كلّها.

 ((إلى أصحاب الخراج، أما بعد فإنّ من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدّم لنفسه ما يحرزها)). ويبدأ كتابه بالموعظة فيقول إلى عمّاله إن عليكم أن تفكروا في مصيركم بعد مسيرتكم هذه التي مهما أمتدت فإنّها لابدّ أن تبلغ شاطئ الآخرة )يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(([401]). وعليكم أن تحذروا ما تصيرون اليه لأنّ هناك سؤالاً وثوابا ًوعقاباً، ولذا فمن لم يدرس أموره كلّها وأقواله وافعاله، وعلاقاته التي يفترض به أن يجعلها في الموقع الذي يرضي اللّه فإنّه لن يقدّم لنفسه ما يربح به نفسه بل ما سيخسرها )الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(([402]).

((واعلموا أن ما كلّفتم يسير)) مما أمر اللّه به ونهاكم عنه مقارناً بما رخّصه لكم في المباحات، فإنّكم ستجدون أنّ ما كلّفكم به يسير وأن ّثوابه كبير، فلماذا تخسرون الكثير بعدم إتيان اليسير؟

((ولو لم يكن فيما نهى اللّه عنه من البغي والعدوان عقاب يخاف لكان في ثواب اجتنابه مالا عذر في ترك طلبه)) فهو يحاول بأسلوبه الاقناعي أن يفتح قلوب الناس على الطاعة، فهو يقول لهم لو افترضنا أنّ اللّه لم يعاقبكم على فعل ما نهاكم عنه لكنّه حدّثكم عن الثواب في اجتناب وترك ما نهاكم عنه، فلماذا تتركون هذا الربح في ثوابه الذي يمنحكم إياه على ترك ما نهاكم عنه مع أنّ فعل ما نهاكم عنه فيه عقاب؟ فلماذا تنزل بنفسك العقاب وتخسر الثواب على ما اجتنبته من منهيات ومحرّمات، فبعض الناس يترك ذلك لأنّ فيه عقاباً، على طريقة ذلك الشاعر:

والعبد يقرع بالعصى                                                     والحرّ تكفيه الإشارة

فذهنيتنا هي ذهنية العبد الذي لا يتحرّك إلا والعصى فوق رأسه، فلو لم يكن هناك عقاب على فعل ما نهيت عنه لكان هناك ثواب في ترك ما نهيت عنه وهذا بحدّ ذاته مدعاة إلى اجتناب المعاصي. وقد ذكر علي(ع) في عالم الطاعة للّه قوله ((لو لم يتوعّد اللّه على معصيته)) أي لو ترك اللّه الحبل للإنسان على غاربه لكان حقّاً عليه أن يشكره ((لكان يجب أن لا يعصي شكراً لنعمه)). فالإنسان الذي يعيش إنسانيته بشكل سليم هو الذي يشكر المنعم، فلو خدمك شخص فهل يمكن أن تؤذيه؟ فكيف تفعل ذلك مع اللّه الذي لا تعدّ نعمه ولا تحصى؟! )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللّه(([403]).

وقد قيل لرسول اللّه (ص) لم ترهقْ نفسك بالعبادة والصلاة وقد غفر اللّه من ذنبك ما تقدّم وما تأخّر، فقال ((أفلا أكون عبداً شكورا؟!)) فالصلاة هي الشكر للّه، ولذا فإنّ من لا يصلّي لا يعيش معنى إنسانيته لأنّه لا يشكر المنعم عليه، وأي منعم أعظم من اللّه الذي أعطاك وجودك وكلّ ما تستمر به في هذا الوجود.

إنصاف الناس:

((فأنصفوا الناس من أنفسكم)) قبل أن تتحملوا المسؤولية أمام اللّه، فإذا كان للناس حق عليكم فلا تنتظروا الناس أن يطالبوكم به بل حاولوا أن تعطوهم ما لهم من حقّ من خلال محاكمتكم لأنفسكم بأنفسكم ((واصبروا لحوائجهم)) فإذا أثقلكم الناس بحوائجهم فلا تجزعوا ولا تستثقلوا ذلك ((فإنّكم خزّان الرعية)) لأنّكم تخزنون أموال الأمّة في بيت المال لتنفق في مصالحها، فبيت المال ليس ملكاً للخليفة ولا لأقربائه ولا للموظفين بل هو ملك للأمّة كلّها وينفق في مصالحها، فهم يطلبون منكم ما يستحقونه من هذا البيت ((ووكلاء الأمّة)) أي أنّها جعلتكم وكلاء على ذلك لأنّها ولّت الخليفة وهو الذي ولاّكم على هذه المهمّة. ((وسفراء الأئمّة)) إلى الناس.

((ولا تحسموا أحداً عن حاجته)) أي لا تقعطوه ((ولا تحبسوه عن طلبته)) فإن كان له مطلب فأعطوه مما يستحق منه، فالإمام(ع) يعالج ظاهرة موجودة، فعمّال الضرائب يأتون للمكلّف بالضرائب فيطالبونه بدفع الضريبة وقد لا يكون معه شيء فيجبرونه على بيع فراشه أو أثاثه أو ما يحتاجه من الضروريات ليترك من دونها، فكيف عالج الإمام ذلك؟

((ولا تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابّة يعتملون عليه ولا عبداً)) فلا تجبروا الناس على أن يدفعوا لكم ما فيه خدمة لهم ((ولا تضربنّ أحداً سوطاً لمكان درهم)) فإذا كان في ذمته شيء فلا يحقّ لعامل الضريبة أن يضربه ليعطي المال ((ولا تمسّن مال أحد من الناس مسلم ولا معاهد)) أي طالب الناس ولا تأخذ من أموالهم بالإكراه والأمر في ذلك سواء بين المسلم وبين المعاهد الذي أعطاه المسلمون العهد والذمّة والميثاق في أن يحموه فيما يحفظ المسلمون به أنفسهم.

((إلاّ أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يعدى به على أهل الإسلام)) فإذا وجدتم في عهدتهم خيلا أو سلاحاً يمكن أن يستعمل ضد الإسلام فهذا عنوان ثان غير الخراج فانتزاعه فيه دفاع عن الإسلام والمسلمين ((فإنّه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعدائه)) ففي السياسة الإسلامية لا يجوز للمسلم أن يبيع سلاحا أو ما يشبهه لأعداء الإسلام مما يتقوّون به على المسلمين أو أن يبقي ذلك في أيديهم ما أمكنه ذلك، وهذه هي مشكلتنا مع تجّار السلاح عندنا فهم لا يفهمون هذا المعنى ولذلك تراهم يبيعون السلاح لأعداء الإسلام ليستقووا به على المسلمين. ((فيكون شوكة عليه)) على الإسلام.

((ولا تدخروا أنفسكم نصيحة))  أي حاولوا أن توجهوا النصيحة لأنفسكم ((ولا الجند حسن سيرة)) فلا تدخروا حسن السيرة مع الجنود الذين يدافعون عن الإسلام و((الرعية معونة)) فلا تدخروا معونة الناس ((ولادين اللّه قوّة)) فإذا وجدت عندكم قوة تبذلونها في دين اللّه فلا تحبسوها عنه ((وأبلوا في سبيله ما استوجب عليكم)) أي في كلّ طريق يصل بما يحبّه اللّه ويرضاه ولا سيما في الجهاد ((فإنّ اللّه سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا)) أي أن اللّه طلب منا أن نشكره في قبال صنيعه معنا بأن نبذل جهدنا في سبيل مرضاته، فإنّ كلّ إنسان يبذل قوته وطاقته وجهده وخبرته فيما يريده اللّه سبحانه وتعالى من آيات وأهداف فإنّ ذلك يمثل شكراً عملياً له ((وأن ننصره)) بما بلغت قوتنا ((ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم)). ولاحظوا كيف يتعامل علي(ع) مع عماله في أداء مسؤولياتهم ووظائفهم بأن يعظهم كيما يفتح قلوبهم على اللّه وان يحذّرهم الآخرة وأن لا يعيشوا إنسانيتهم في إنسانية الناس وأن لا يضطهدوا إنسانية أحد من مسلم أو معاهد، وهذه هي رسالته إلى كلّ عمّاله وإلى كلّ الموظفين، فأين الموظفون من رسالة علي(ع) ؟

كتابه إلى طلحة والزبير:

ونقرأ في كتاب له لشخصين كانا من أوائل المنتقضين عليه وأعلنا الحرب عليه بعد أن بايعاه وهما (طلحة) و(الزبير) هو ابن عمّته وقد حملا معهما أم المؤمنين عائشة بعد أن أقنعاها بأن تنطلق معهما لتعطل مسيرة علي(ع) في تنفيذ مخططاته الإصلاحية في واقع المسلمين بحجّة الثأر لدم عثمان، وكانت أم المؤمنين تثير الناس وتؤلّبهم ضد عثمان، وكان طلحة والزبير ينقمان على عثمان أموراً كثيرة ومع ذلك كان علي(ع) بريئاً من دم عثمان براءة الذئب من دم يوسف، ويعرفان أن علياً أرسل ولديه الحسنين(ع) ليدافعا عنه، وأنّه قام بنصيحته وتحذيره مما وصل إليه، ولاحظوا أسلوب علي(ع) في الحديث معهما:

((أما بعد، فقد علمتما وإن كتمتما)) لأنّ كثيراً من الناس الذين يعلمون الحقّ قد يكتمونه ((أني لم أرد الناس حتى أرادوني)) فمع أنّي أحق الناس بالخلافة بعد رسول اللّه (ص) وذلك هو قوله(ع) ((إنّه ليعلم أن محلّي منها محلّ القطب من الرحى ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إلي الطير)) إلى أن يقول ((فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا وطفقت  أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخيّة عمياء)) وقال ((لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة))([404]). فحينما أبعدت عن الخلافة لم أدخل في صراع حولها وإن كنت صاحب الحق فيها، ولم أتنازل عن حقّي ولكنني جمّدته لمصلحة الإسلام.

((ولم أبايعهم حتى بايعوني، وأنّكما ممن أرادني وبايعني وأنّ العامّة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر)) فقد يبايع الناس شخصاً رغبة ورهبة وانتم تعرفون أنني لست من يخيف الناس بل كنت وما أزال أخيف الكافرين، ولو كنت أريد إخافتهم لدفعت بالواقع الإسلامي منذ البداية نحو الفتنة، وهو الذي قال لأخيه عقيل بن أبي طالب ((واللّه لو تظافرت العرب على قتال أخيك ما ولّى عنها هارباً)).

((فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى اللّه من قريب، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل)) فأنا لم أجبركم على بيعتي، ولذا فلي الحجّة عليكم بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية ((ولعمري ما كنتما بأحقّ المهاجرين بالنصيحة والكتمان))، فإذا قلتما إننا فعلنا ذلك تقية فاني أعرف أنّكما لستما جبناء ولا خائفين ((وان دفعكما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به)). فلو كنتما منذ البداية رفضتما بيعتي كما فعل عبد اللّه بن عمر وسعد بن آبي وقّاص اللذين اعتزلا ولم أجبرهما على مبايعتي، فهذا أفضل من أن تبايعا وتنكثا البيعة. ((وقد زعمتما أنّي قتلت عثمان)) وأنّكما خرجتما للمطالبة بدمه ((فبيني وبينكما من تخلّف عنّي وعنكما من أهل المدينة)) فلو كنتم تدّعون شيئاً لا شاهد عليه فقد يكون الأمر محلّ جدال ولكن هؤلاء أهل المدينة يشهدون أنني بريء من دم عثمان. ((ثم يلزم كلّ امرء بقدر ما احتمل)) فالشهود موجودون ويعرفون من الذي دفع ضد عثمان؟ ومن قتله؟ ومن الذي خذّل عنه؟ ((فارجعا أيّها الشيخان عن رأيكما فإن الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يتجمّع العار والنار)) لأنّكما إذا سرتما في هذا الخط، وسفكتما دماء المسلمين، وأثرتما الفتنة، وأبعدتما صاحب الحق عن حقّه، فإنكم ستواجهون العار بالهزيمة والنار عند اللّه سبحانه وتعالى فلاحظوا هذا الأسلوب الإنساني العقلاني الذي لم يتحدث فيه الإمام علي(ع) بأية كلمة نافرة أو حادّة بل كان يحاول أن يعالج الأمور معهما بالحق. وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلمه عندما نبتلى بمثل هذا أو ما يقرب منه، أن لا نتحدث حتى مع خصومنا بغرائزنا، بل أن نجعل العقل هو الذي يؤكّد الحديث ويركّزه.

كتابه إلى أهل الكوفة:

وهناك كتاب آخر للإمام علي(ع) عندما سار من المدينة إلى البصرة، فلقد كتب إلى أهل الكوفة، وكان أبو موسى الاشعري الذي كان والي علي(ع) على الكوفة يخذّل الناس عن نصرة علي(ع) ولاحظوا هذا السموّ في علي(ع) عندما يخاطب الرعية أو الشعب:

((أما بعد، فإني خرجت من حيّي هذا)) والحي موطن القبيلة ((إمّا ظالماً وإمّا مظلوما)) فهل يعقل أن يكون الإمام علي(ع) ظالماً في سيره لمقاتلة الذين خرجوا عليه؟ وإنّما استعمل هذا الأسلوب ليفتح للشعب وللأمّة الحرية في أن تفكّر بالموضوع من دون ضغط ((وإمّا باغياً)) معتديا ((وإما مبغياً عليه)) معتدى عليه ((وإنّي أذكّر اللّه من بلغه كتابي هذا) أي أجعلوا اللّه في حسابكم عندما تحكمون على الأشياء ((لما نفر إلي فإن كنت محسنا)) أي ليفكّر كلّ واحد منكم في طبيعة الموقف الذي وقفته بموضوعية وحياد، وفي المسيرة التي سرتها بمسؤولية شرعية، فإذا كنت محسناً ((أعانني على إحساني، وإن كنت مسيئاً استعتبني)) أي نبّهني وحذّرني منه، فأيّ حاكم يتكلّم مع شعبه بهذه الطريقة سواء من الحكّام المسلمين أو غير المسلمين؟

هذا هو منطق علي(ع) المنطق الإنساني الذي يريد للأمة أن تدرس مسؤوليتها من خلال ذكرها للّه وإخلاصها له، وبذلك يعطيها حرية أن تنقد الحاكم وتحاسبه، فأي حاكم بهذا المستوى؟! ولكن علياً(ع) يعلو حيث ينزل الناس ويرتفع حيث يسقط الناس.

هذا هو علي(ع) فلنقترب منه، وقد قلت لكم كثيراً أن حب علي(ع) يكلّف كثيراً، وأنّ ولايته تتعب كثيراً ((ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع)) عن الحرام ((واجتهاد)) في طاعة اللّه ((وعفّة)) عمّا يغضب اللّه، ((وسداد)) في القول والعمل والرأي، هؤلاء هم جماعة علي(ع).

فالولاية ليست نبضة قلب ولا خفقة شعور بل هي موقف، فإذا أردتم أن تكونوا مع علي(ع) فقفوا معه لأنه مع الحقّ والحقّ معه يدور حيثما دار، ولن تجدوا إلى جانب علي(ع) شيئاً من الباطل الذي تتحرّكون به أحياناً في بيوتكم أو أسواقكم أو مجتمعاتكم، لذلك قال علي(ع) ((ما ترك لي الحق من صديق)) فهل نصبح أصدقاءه لمجرد أننا نهتف باسمه..  إنه يريدنا أن نهتف باسم اللّه سبحانه وتعالى وباسم رسول اللّه (ص) وباسمه في خط الولاية التي تتحرك بالإسلام وباسم الإسلام، والحمد للّه رب العالمين.


 

المحاضرة السادسة عشرة 15 جمادى الأول 1422ه‍ - 4/ آب /2001م

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (8)

ما هو الهدف من الحياة؟

 

 

 

* علي(ع) هو إمام الإسلام .. عاش من أجله مسالماً ومحارباً وواعظاً ومرشداً ومحاوراً.. ولذلك فهو يوجد حيث يوجد الإسلام *

 

 

 

 

كتابه في معنى الزهد.

هدف الحياة.

كتابه في التحذير من الدنيا.

كتابه في أسلوب الحوار.

كتابه في الاستقامة.

في رثائه للزهراء(ع).

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ونبقى في مدرسة أمير المؤمنين(ع). هذه المدرسة التي لا يزال الإنسان بحاجة إلى دروسها لأنّ علياً(ع) لم يتكلّم لجماعة معينة من الناس عاشت معه، ولم يتكلّم لمرحلة من الزمن انقضت وتصرّمت لأنّه هو إمام الحقّ وليس للحقّ زمان معين ولا جماعة معينة، بل هو للزمان كلّه وللإنسان كلّه، ولأنّ علياً(ع) هو إمام الإسلام، عاش من أجله مسالماً ومحارباً وواعظاً ومرشداً ومحاوراً .. ولذلك فعلي(ع) يوجد حيث يوجد الإسلام وحيثما كان الإسلام يكون علي(ع).

كتابه في معنى الزهد:

لذلك – أيها الأحبّة – أرانا بحاجة في كلّ جيل إلى أن ندرس علياً(ع) لنستضيء بنور علمه ولنهتدي بهداه، ولتبقى سيرته مع الزمن كلّه. ولنلتقط – في هذا اللقاء - بعض كتبه. فمن كتاب له(ع) إلى عبد اللّه بن عباس حبر الأمّة، الذي قال عن أثر هذه الكلمات القصيرة في نفسه ((ما انتفعت بشيء من كلامه كما انتفعت بهذا الكلام)) لأنّه يمثّل وجهة نظر الإسلام في رؤية الإنسان المسلم للحياة في عالم الرخاء والبلاء وبرنامجاً للعمل: ((أمّا بعد، فإنّ المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته)) فالناس يفرحون عندما يربحون وينجحون وعندما يرزقهم اللّه ولداً، وعندما يحصلون على فرصة تلبّي حاجاتهم وتروي ظمأ شهواتهم. والإمام(ع) يقول إنّ هذا الشيء الذي تفرح به هو شيء تفرضه طبيعة الأسباب في الحياة، فأنت تُرزَق حيث يتحقق سبب الرزق، وأنت تنجح حيث يتحقق سبب النجاح، وأنت ترزق ولداً حيث تتحقق أسباب ولادة الولد. ولذلك فإن عليك أن تتلقّى كلّ ما يأتيك كما تتلقّى أيّ شيء طبيعي في الحياة لأنّ الشيء إذا تحقق سببه تحقّق.

 ((ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه))، فأنت تخسر لأنّ سبب الربح لم يتحقّق، وتفشل لأنّك لم تأخذ بأسباب النجاح، وتفقد ولدك لأنّ سبب الحياة لم يمتدّ به، كما أنّك تحزن على الشيء الذي لم تكن لتصيبه، ولكن لماذا تحزن؟ فهذا الشيء لن تصيبه ولن تحصل عليه لأنّ سببه لم يتحقّق، وقد استوحى علي(ع) هاتين الكلمتين من قوله تعالى في القرآن الكريم وعلي(ع) تلميذ القرآن ومفسّره )لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ (([405]). فلا تتألم لما فاتك لأنّه لن يحصل بحسب الظروف الطبيعية لحصول الأشياء، ولا تفرح بما أتاك لأنّه سوف يحصل على كلّ حال، فلا تتقبّل الخسارة بطريقة غير طبيعية، ولا تواجه الربح بشكل غير طبيعي، فالخسارة والربح يشبهان تعاقب الليل والنهار، فلو جاء النهار فهل نقيم له احتفالاً؟ كلاّ، لأنّه أمر طبيعي، فالشمس تشرق في كلّ نهار، وعندما يأتي الليل ويذهب النهار فهل نقيم حفلة تأبينية لرحيل النهار؟! إنّه كذلك أمر طبيعي، فالليل يأتي بسببه والنهار يأتي بسببه وهكذا شؤون الحياة الأخرى. ولذلك فهذه النظرة القرآنية تقول للإنسان إنّ عليك أن تتقبّل الحياة بطريقة طبيعية فلا يطغيك الربح ولا تسقطك الخسارة فللربح أسبابه وللخسارة أسبابها.

وقد استوحى علي(ع) من هاتين الفقرتين في القرآن مفهوم الزهد فقال كما في (نهج البلاغة) ((جمع اللّه الزهد في كلمتين: لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)). أي تقبّل الحياة كما هي، فإذا جاءت الدنيا فتقبّلها بشكل طبيعي ولا تطغى ولا تنتفخ )كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى(([406]) ولا تشعر بأنّك أصبحت أكثر من حجمك، وإذا خسرت الدنيا فلا تسقط ولا تتعلق بها بحيث ترى نجاحها هو النجاح وسعادتها هي السعادة، أو ترى فشلها هو الفشل وشقاءها هو الشقاء، فلا تتألم لما فاتك ولا تفرح بما أتاك ولتكن في حالتيك سواء، وهذه هي النظرة الإسلامية الموضوعية للحياة التي تجعل الإنسان متوازناً أمام الربح والخسارة لأنّه يرجع الأشياء الى طبيعتها وعند ذاك يمكنك أن تواجهها بشكل عادّي.

هدف الحياة:

فالإمام(ع) في هذه الكلمة يرصد الحالات الشعورية للإنسان فيما يستقبل به من الربح والخسارة، وهنا يأتي التوجيه ((فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذّة وشفاء غيظ)) فلا يكن طموحك وقضيتك وخطتك التي تشعر من خلالها أنّك حصلت على ما تريد أن تشفي غيظك ممن أغاظك أو مما أغاظك فتفجّره عنفاً وانفعالاً وغضباً شديداً، أو إذا بلغت لذّتك فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك ذلك، لماذا؟ لأنّ اللذة تمثل حجم اللحظة وادرسوا لذاتكم كلّها لتروا أنها قصيرة الأمد، فلذّة الطعام هي مجرد دوران اللقمة في الفم، ولذة الشراب بمجرد أن يرويك، ولذة الجنس بمجرد أن تنطفئ الرغبة، فكم هو إحساسكم باللذة؟ إنّها لحظة، فهل يكون أفضل ما نلت في دنياك في حجم اللحظة بحيث تختصر حياتك كلّها في هذه اللحظة؟ وهذا ما عبّر عنه علي(ع) في تجربته الخاصّة ((ما لعليّ ولذّة تفنى ولنعيم لا يبقى))([407]) فهو يقول لنفسه: هل يكون حجمي هو حجم لذّة تأتي ثم تذهب؟ وهل يكون حجم عقلي وقلبي وطاقتي وإنسانيتي مجرد نعيم أتقلّب فيه للحظة ثم يفنى ولا يبقى من لذّته شيء؟

فلا تكن طموحاتك أن تبلغ لذّتك وتشفي غيظك. فما هو إذن – يا أمير المؤمنين – العنوان الذي يكون هدفنا في الحياة؟ وما هو طموحنا الذي نسعى إليه؟ ((ولكن إطفاء باطل وإحياء حقّ)) فلتكن صاحب رسالة في الحياة كلّها للإنسان كلّه، فهناك باطل لابدّ أن تسقطه فهو يرهق حياة الإنسان ويسقط إنسانيته، وهناك حقّ يرتفع بالإنسان ويسمو به ويحقّق للحياة نتائجها الإيجابية، فهذا هو الذي يبقى حتى لو فارقت الحياة لأنّك بذلك تترك للحياة شيئاً من الحق في عقلك، ومن المحبّة شيئاً في قلبك، ومن الخير شيئاً في طاقتك، ومن العدل شيئاً في سلوكك، فإنّك قد تموت ولكنّك تبقى حيّاً في الحقّ، وتلك هي المسألة. وقد كان طموح علي(ع) الحق ولا شيء غير الحق، حتى قال رسول اللّه(ص) ((علي مع الحق والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار))([408]) وقال لنا وهو يروي مأساته في مسيرته التي عاشها بعد رسول اللّه(ص) ((ما ترك لي الحقّ من صديق))([409]).

ثم يقول(ع): ((فليكن سرورك بما قدّمت)) لآخرتك )وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ (([410]) )وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا (([411]).  وفي الحديث ((إذا مات ابن آدم تقول الملائكة: ما قدّم؟ ويقول الناس: ما أخّر؟)). ((وأسفك فيما خلّفت)) من فرص فاتتك، ومن سيئات عملتها وأثقلت ظهرك ودخلت في كتاب أعمالك. ((وهمّك فيما بعد الموت)) لأنّ همّك في حركة الحياة من حولك هو همّ لا عمق له لأنّ الحياة تزول والهمّ يزول ولكن الآخرة هي الخلود ((والهمّ فيما يخلد)) إذا لم تحرّكه في إعطائه فرصة من أجل أن يتحوّل إلى عمل في خط النجاح فإنّك ستبقى في همّ دائم وأيّ همّ أعظم من أن تصل إلى يوم القيامة فيقال )خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (([412]).

وهذه الكلمة هي برنامج عمليّ لأنّها تركّز لنا موقفنا من الحياة وأهدافنا فيها ومشاعرنا تجاه ما نواجه من أعمال ومسؤوليات.

كتابه في التحذير من الدنيا:

وفي كتاب له في الموعظة إلى سلمان الفارسي وقد كتبه له قبل أيام خلافته، ولنلاحظ كيف أن سلمان الذي بلغ الدرجة العليا من القرب لرسول اللّه(ص) من خلال قربه للّه والتزامه بالإسلام حتى قال عنه رسول اللّه(ص) ((سلمان منّا أهل البيت))([413]) عندما يتحدّث معه علي(ع) ويكتب له فإنّه يكتب له كتاب موعظة يصف له فيه الدنيا وهشاشتها، ونتعلّم من ذلك – أيّها الأحبّة – أنه ما من إنسان إلا وهو بحاجة إلى موعظة لأنّ القلوب قد تقسو، ولأنّ الحياة قد تدخل الإنسان في مداخل لا يشعر إلا وقد استسلم فيها للنفس الأمّارة بالسوء، ولأنّ الوسواس الخنّاس يأتي للصغار وللكبار، ولذلك فالإنسان مهما علا شانه وكبر موقعه فهو ليس أكبر من أن يوعظ، وقد حدّثنا اللّه عن بعض الناس الذين وصلوا إلى مواقع اجتماعية أو سياسية وشعروا بأنّهم أكبر من أن يوعظوا وأعظم من أن يأمرهم أحد بالتقوى، ألم تسمعوا قول اللّه سبحانه وتعالى  )وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ( فهو يتحدّث بالوعظ والإرشاد وكلمات الحق )وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ( ويقول الله على ما أقول شهيد )وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ( فهو في واقعه وثقافته وخلفياته من الذين إذا دخلوا في ساحة الصراع كان المخاصم الألدّ والأشد عداوة وخصاماً، )وَإِذَا تَوَلَّى( فما دام خارج السلطة والولاية والمسؤولية فإنّه يستسقى به الغمام في كلامه  )سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ( فإنه يرفض ذلك بشدة إذ كيف يقال له اتق اللّه وهو يعظ الناس بالتقوى. وهذه ظاهرة موجودة، ونحن لا نتحدث بالمطلق – فإذا كبر موقع الإنسان الاجتماعي أو الديني أو السياسي فإن شخصيته تتضخّم بحيث يرى الوعظ تنزيلاً من مقامه، وحطّا من قدره، وأنه لا يناسبه )فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(([414]).

ولذلك استمعوا لعلي(ع) كيف يخاطب سلمان الفارسي (رض) وهو من هو ((أمّا بعد، فإنّما مثل الدنيا مثل الحيّة ليّن مسّها قاتل سمّها)) فالدنيا إذا أفرغت سموم الغواية في الإنسان فإنّه يموت روحياً وإن لم يمت جسدياً والموت الروحيّ هو أخطر من الموت الجسدي.

((فأعرض عمّا يعجبك فيها)) أي لا تلتفت إلى زخارفها وزبارجها وإلى ما يعجبك من مواقعها ودرجاتها ولذّاتها وشهواتها ((لقلّة ما يصحبك منها)) لأنّ كلّ هذه الأمور تلازمك وقتاً محدوداً ثم تفارقك، وعملك هو الوحيد الذي يصحبك. ((وضع عنك همومها لما أيقنت به من فراقها)) فلا تهتم بالدنيا لأنّك قد تواجه فيها مشكلة فقر أو مشكلة مرض أو خوف أو مواقع تنتقص من موقعك وما إلى ذلك، فلا تبتئس وواجه المسألة بصدر رحب، لماذا؟ لأنّ الهمّ الذي يفرض على الإنسان أن يعيش ثقله هو الهمّ الذي يبقى، أمّا همّ الدنيا فإنّك سوف تفارقه ولا يبقى منه شيء وتتصرّف حالاتها فلا الرخاء يدوم ولا البلاء يبقى )وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ(([415]). فهي لا تبقى على أية حال. ((وضع عنك همومها)) جانباً، فلا تدخلها عقلك لتثقله، ولا تدخلها قلبك لتثقله، ولا تدخلها حياتك لتؤخّر مشاريع الحياة التي تريد أن تنطلق بها عندما تحيط بمشاريعك فلا يتبقّى لك ما تتوجه به أو ما تعيشه منها ((لما أيقنت به من فراقها وتصرّف حالاتها، وكن آنس ما تكون بها أحذر ما تكون منها)) فعندما يواجهك شيء من سرورها فلا تستسلم له سواء كان سرور نجاح أو ربح أو حصولك على فرصة أو شهوة أو لذّة ((فإنّ صاحبها كلّما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته عنه إلى محذور)) فبينما تكون ضاحكاً يأتيك البكاء في قلب الضحك ((أو إلى إيناس أزالته عنه إلى ايحاش)). وقد تقبّل سلمان كلمة علي(ع) لأنّ علياً(ع) عندما يتكلّم فإنه ينطلق من عين صافية هي عين الحقّ، وينفتح على أفق رحب هو أفق اللّه سبحانه وتعالى.

كتابه في أسلوب الحوار:

ومن بين كلماته في أسلوب الحوار مع الآخرين، وقد درسنا بعض أساليبه الأخرى في هذا المجال. فنحن نعرف أنّ علياً(ع) ابتلي بالناكثين والقاسطين والمارقين، وهم الخوارج وقد تحدثنا في ندوات سابقة عن الحرية التي أعطاها علي(ع) لمعارضيه في نقده في الوقت الذي أطلقوا كلمة الكفر عليه، ولم يخرجهم عن الإسلام لذلك بل اعتبرهم خاضعين لشبهة، وقال ((لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه))([416]) ودخل في حوار معهم، وعندما أرسل عبد اللّه بن عباس ليحاورهم أعطاه خط الحوار، فقال: ((لا تخاصمهم بالقرآن)) أي لا تسرد عليهم الآيات القرآنية كشواهد ودلالات ((فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون)) أي يمكن أن يواجهوك ببعض التفسيرات والتأويلات للقرآن فلا تنتهي معهم إلى نتيجة، إذ يمكن أن تحتجّ بفكرة من القرآن وربّما احتجوا عليك بفكرة أخرى منه ((ولكن حاججهم بالسنّة)) أي بكلام رسول اللّه(ص) ((فإنّهم لن يجدوا عنها محيصا)) أي لا مهرب لهم منها، وربما يقول قائل إنّ القرآن هو النور )قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ(([417]). فالقرآن ينير غيره ولا يستنير بغيره، فكيف ينهى علي(ع) عن المخاصمة أو المجادلة بالقرآن؟ فكأنّه يريد أن يقول لابن عباس إننا عندما نختلف مع الآخرين، فتارة نختلف في الخطوط العامّة في مسألتي التوحيد والشرك فيمكن أن نقول  )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا(([418]). وهكذا الحال في كلّ القضايا الفكرية التي يقابل فيها فكر فكراً آخر، فالقرآن عندما يطرح الخطوط العامّة فإنّه يردّ بذلك على الخطوط التي يطرحها الآخرون فتظهر الحقيقة، وأمّا عندما لا تكون المسألة اختلافاً في الخطوط العامّة بل في التطبيق، كما في قولهم ((لا حكم الا للّه)). فالكلمة صحيحة، ولذا قال علي(ع) ((كلمة حق يراد بها باطل))([419]) فلا نزاع حول الكلمة  )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ(([420]). فكلّ حكم غير حكم اللّه هو حكم الطاغوت واللّه أمر أن نتحاكم إليه ولا نتحاكم إلى الطاغوت، فالنزاع ينطلق من عملية التطبيق، فكيف يا ترى يكون حكم اللّه؟ إنّه يحكم من خلال عباده، ولذلك نرى أن هناك أنبياء وأوصياء وقضاة يحكمون )فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(([421]).

أمّا عندما نقدّم لهم السنّة فإننا نرى أنّ رسول اللّه(ص) قال في حق علي(ع) مما يرويه السنّة والشيعة ((علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار))([422]). ويروي السنّة والشيعة ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي))([423]). ويروي السنّة والشيعة أيضاً ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه))([424]). فإذا كان علي(ع) هو ولي المؤمنين، وبمنزلة هارون من موسى، ومع الحقّ، فمعنى ذلك أنّ كلّ ما يقوم به هو الحقّ، فكيف تقولون إنّه كَفَر؟ فإذا قدّم لهم السنّة من خلال كلام رسول اللّه(ص) فإنهم لا يستطيعون ردّه.

ويقول ابن أبي الحديد إنّ ابن عباس لم يأخذ بكلام علي(ع) فخاصمهم بالقرآن فلم يصل معهم إلى نتيجة. وهذه نقطة يجب أن نفهمها في جميع حواراتنا فإذا كانت القضية عامّة ونظرية فيمكن أن نحرّك القرآن فيها لأنّه يحدّد لنا المفاهيم، وعندما تكون القضية قضية التطبيقات فعلينا أن نرجع إلى السنّة لأن النبي(ص) كان يعلّم الناس في سنّته كيف يحرّكون التطبيق في خطّ النظرية، وقد بيّنا مراراً أنّ قوله تعالى )وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ(([425]). يعني أنّ الكتاب هو خطّ النظرية، والحكمة هي خط التطبيق لأنها وضع الشيء في موضعه، ولذا لابدّ للإنسان الذي يعي ثقافة الإسلام أن يملك خط النظرية الإسلامية، وأن يعرف كيف يحرّك هذه النظرية في خط الواقع، فبعض الناس يقرأ القرآن كمفاهيم ولكنّه لا يعرف كيف يطبّق تلك المفاهيم في الواقع، فلابدّ لعلماء الإسلام من ثقافة الواقع ولا يكفي أن تكون لديهم ثقافة القرآن والسنّة حتى يعرفوا كيف يحرّكون الإسلام في واقع الناس، ويخطئ الكثير منهم حينما يعيشون في أجواء المفاهيم والنظريات ولكنهم لا يفهمون من الواقع شيئاً.

كتابه في الاستقامة:

وهناك كتاب آخر في الخط العملي عندما استخلف علي(ع) حيث أرسل رسالة إلى أمراء الأجناد (الجند) يوجههم فيها كيف يسيرون على الخطّ المستقيم ليعلّموا الناس كيف يتحركون في خطّ الاستقامة، وقد استعمل(ع) أسلوب التذكير بالحضارات السابقة والمسؤولين السابقين، كيف سقطت حضارتهم؟ وكيف هلكوا نتيجة الانحراف عن الخط؟ وكيف ضلّلوا الناس؟ حيث قال لهم ((أمّا بعد، فإنّما أهلك من كان قبلكم أنّهم منعوا الناس الحقّ فاشتروه)) فمن أين تأتي الرشوة؟ ومجتمعاتنا هي مجتمعات الرشوة، ومن الصعب أن يأخذ الإنسان في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية حقّة بالطريق الطبيعي، بل ربّما يأخذ غير حقّه بالرشوة، فمشكلة المسؤولين انهم منعوا الناس حقوقهم ولم يعطوا كلّ ذي حق حقه فاضطرّ الناس إلى أن يدفعوا ثمن الحقّ وهذه هي الرشوة، فالرشوة ليست في القضاء فقط بل في جميع الأعمال، فلما حُجب الحقّ عن الناس اشتروه بالرشوة ((وأخذوهم بالباطل)) أي ساروا بهم بسيرة الباطل ((فاقتدوه)) فالمسؤولون الكبار سواء كانوا دينيين أو سياسيين أو اقتصاديين أو اجتماعيين عندما يملكون السيطرة على المجتمع ويأخذون الناس بالباطل فانّ الباطل حينذاك سوف ينتشر وبهذا فإنّ الناس سوف يقتدون بالباطل فيبسط ظله من خلال ذلك.

في رثائه للزهراء(ع):

وبمناسبة وفاة سيدتنا فاطمة الزهراء(ع) نقف مع علي(ع) وهو يقف عند قبر الزهراء(ع) ليخاطب رسول اللّه(ص) ونقرأ في هذه الكلمة التأبينية عمق مشاعر علي(ع) تجاه رسول اللّه(ص) والزهراء(ع) أيضاً، ونعرف كيف كان علي(ع) يعيش أعمق الألم فيما كان يشاهده من آلام الزهراء(ع). وقد كانت آلام الزهراء(ع) هي آلام علي(ع) فلم يكن لعلي(ع) آلام شخصية ولم تكن للزهراء(ع) آلام شخصية، فلقد كان الإسلام هو كلّ همّ علي(ع) كما كان كلّ هم الزهراء(ع) وكانت خلافة علي(ع) هي الطريق المستقيم الذي ينهج بالناس النهج الحق إلى الحقّ في حياتهم كلّها لأنّ عقل علي(ع) كان عقل رسول اللّه(ص) وكان قلبه قلب رسول اللّه(ص) وكان علمه علم رسول اللّه(ص) وكانت حركيته حركية رسول اللّه(ص) ولذلك فقد كان علي(ع) رسولَ اللّه(ص) بدون رسالة وبدون نبوة وهذا هو قول رسول اللّه(ص) ((إنّك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع ولكنّك لست بنبي))([426]). ولذلك فقد كان همّ الزهراء(ع) هو أن يجلس علي(ع) في الموقع الذي أجلسه اللّه فيه، وأجلسه رسول اللّه(ص) بأمر اللّه فيه، وكان همّ علي(ع) أن يقيم الحق ويزهق الباطل حيث قال وهو يشير الى نعله ((إنّها أعظم من إمرتكم هذه إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلا)). ولذلك فقد كان يتألّم للحق الذي انحرف المسلمون في مسيرتهم عن جادّته. وكذلك كان ألم الزهراء(ع) ولذلك رأيناها في حديثها مع المهاجرين والأنصار وفي حديثها مع رجالهم ومع جموع المهاجرين والأنصار لإقامة الحجة عليهم، وحديثها في خطبتها في المسجد النبويّ، تركّز على أحقية علي(ع) في الخلافة ((ما الذي نقموا من أبي حسن، نقموا منه نكير سيفه وقلة مبالاته في حتفه وتنمّره في ذات اللّه)). حتى أنّ حزنها على رسول اللّه(ص) كان بسبب انقطاع الوحي عن الأرض لأنّ الرسول(ص) كان القوة للحق وعندما غاب ضعف الحقّ، ولذلك كانت تقول لولديها الحسن والحسين (عليهما السلام): هنا كان يصليّ رسول اللّه وهنا كان يخطب وهنا كان يلتقي بالناس، حتى أنها عندما تحدثت عن فدك فإنّها لم ترد فدكا وإنّما أرادت الخلافة، وقد قال علي(ع) ((وما اصنع بفدك وبغير فدك والنفس مضانّها في غد جدث))([427]). وكما قال أستاذ ابن أبي الحديد أنّها كانت تريد أن تسجّل نقطة على خط الخلافة غير الشرعي، فإذا طالبت اليوم بفدك وحقها في الأرض الذي أنكره الآخرون واستجيب لطلبها فإنّها ستطالب غداً بحق علي(ع) في الخلافة، وبذلك منعت من فدك. ولم تتحدث الزهراء(ع) برغم كلّ ما جرى عليها عن آلامها الخاصّة، ولذلك فإنّ عظمتها أنّ آلامها كانت آلام الإسلام، وعظمة علي(ع) أيضاً في أنّ آلامه كانت آلام الإسلام، وليس معنى ذلك أنّه ليست هناك آلام شخصية ولكنها لم تكن لتطغى على آلام الرسالة.

ونقرأ حزن علي(ع) في هذا النعي: ((السلام عليك يا رسول اللّه عني وعن ابنتك النازلة في جوارك)) فهو يتحدث عنها وكأنّها وكّلته بتقديم سلامها لأبيها ((والسريعة اللحاق بك)) لأنّها كانت أول أهل بيته لحوقاً به ((قلّ يا رسول اللّه عن صفيتك صبري ورقّ عنها تجلّدي)) ونلاحظ في هذا التعبير (صفيتك) أن الزهراء(ع) كانت الإنسان الذي اصطفاه الرسول(ص) لنفسه لما تتميز به من كل الميزات الروحية في معاني الصفاء والنقاء، فهل أنّ عليا(ع) كان يتحدث عن هذه الحالة النفسية المأساوية كما يتحدث إنسان عن فقد زوجته التي يحبّها؟ إنّ الزهراء(ع) كانت صنو علي(ع) من قبل أن تتزوج عليا(ع) وكانا في بيت رسول اللّه(ص) منذ طفولتهما وعاشا معه وكانا يسمعانه ويتربيان على يديه، ولذلك كانت روح الزهراء(ع) هي روح علي(ع) وعقلها عقله وأخلاقيتها أخلاقيته، ولذلك فقد كانت قطعة من عقله ومن روحه وليست زوجة كبقية الزوجات، ولذلك صدر عن الأئمة(ع) أنه لو لم يكن علي(ع) لما كان لفاطمة(ع) كفوء. هل هي قضية ابن عم وابنة عم؟ ما أكثر أبناء عمومة رسول اللّه(ص)، بل هي قضية ما كانت تملكه الزهراء(ع) من الغنى العلمي والروحي والأخلاقي والعبادي الذي جعلها في مستوى علي(ع) في ذلك كلّه، ولذلك عندما فقدها فقد شعر بفراغ لرفيقة حياته في خطّ جهاده ورسالته ((إلاّ إنّ لي في التأسّي بعظيم فرقتك)) ففراقي لك يا رسول اللّه(ص) هو الفراق العظيم الذي أتأسّى به في مصيبتي بالزهراء لأنّك كنت الأب والمربّي والمعلّم والرسول للناس جميعا ((وفادح مصيبتك موضع تعزّ)) فلقد رأيت أن الحياة تسير ليفقد الإنسان في كلّ يوم حبيباً وهذه هي سنّة اللّه في الكون ((فلقد وسدتك في ملحودة قبرك)) وكان المسلمون مشغولين عنك ((وفاضت بين نحري وصدري نفسك)) فقد احتضنتك بكياني كلّه عندما كانت روحك ترتفع إلى الملأ الأعلى ((إنا للّه وإنّا إليه راجعون فلقد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة)) فلقد كانت الزهراء(ع) وديعة رسول اللّه عند علي(ع) وقد حفظها كما لم يحفظها أحد رغم أنّ هناك من يقول إنّ علياً(ع) لم يحفظ الوديعة ((أمّا حزني فسرمد)) لأنّني أعيش أحزان الأمّة كلّها وأحزان الإسلام كلّه وأحزاني فيك وأحزاني في الزهراء(ع) وهي الطاهرة المطهرة المعصومة التي هي بضعة منك ((وأمّا ليلى فمسّهد)) لا يأتيني النوم فيه ((إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم وستنبؤك ابنتك بتظافر أمتك على هضم حقّها)) والتعدّي عليها، والإساءة لها، وترويعها ((فأحفها السؤال واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد)) فبين وفاتك ووفاة ابنتك أشهر معدودات((ولم يخل منك الذكر. والسلام عليكما سلام مودّع لا قال ولا سئم فإن انصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظنّ باللّه)) بل رضا بقضاء اللّه بما وعد اللّه الصابرين، وتلك هي أحزان علي(ع) التي لابد أن نعيشها لتكون أحزاننا في رسول اللّه(ص) وفي أهل بيته(ع) هي أحزان الإسلام كما قال الإمام زين العابدين(ع) ((أحبونا حبّ الإسلام)) لأننا نتحرّك بالإسلام، فليكن حبّكم للإسلام لا حبّ الشخص للشخص وإن كان الشخص تجسيد الإسلام. والحمد للّه رب العالمين.


 

المحاضرة السابعة عشرة22 جمادى الأول 1422ه‍ - 11/ آب /2001م

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (9)

خطاب افتتاح العهد بالخلافة

 

 

 

* كلمات علي(ع) هي طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رسوله(ص) وطريقنا إلى الجنّة *

 

 

 

 

 

خطاب الافتتاح.

حرمة المسلم.

أسلوب الحكم على الناس.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ونبقى مع علي(ع) القمة التي لا قمة فوقها بعد رسول اللّه(ص) .. قمة الروح والفكر والبطولة في الحقّ، وقمة الإنسانية كلّها.. علي(ع) الذي بقي في عقل الإنسان عقلاً يمدّه بكلّ عقلانية الفكر، وبقي في قلب الإنسان قلباً يمدّه بكلّ طهر العاطفة، وبقي في حركية الإنسان طاقة تمدّه بكلّ خير وعدل، وبما يغني إنسانية الإنسان لتأصيل إنسانيته. ولذلك فإنّ علينا أن نقرأ علياً(ع) دائماً قراءة العقل، وأن ننفتح عليه انفتاح الوعي، لأنّه لابدّ أن يُفهم جيداً لكي يُحبّ جيداً، ولابدّ أن يُعرف جيداً لكي تتأصّل الولاية في معناها في الحياة بشكل جيد.

خطاب الافتتاح:

تعالوا نستمع إليه في أول خطاب له في مفتتح خلافته، كيف بدأ خطابه؟ وكيف قدّم نفسه للناس لاسيما الذين يجهلونه؟ وكيف عمّق معرفته بالنسبة للذين يعرفونه؟

يقول(ع) ((إنّ اللّه سبحانه أنزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشرّ)) فلقد أعطى الفكرة للناس أنّ خلافته تبدأ من حيث القرآن، وسوف تمتدّ في ممارسته لتكون قرآناً يتجسّد، لأنّ علياً(ع) كان قرآنا يتحرّك، ولذلك قال للناس إنّ المسألة في حكمه هي أن ينطلق الحكم في خطوط الكتاب، فاللّه أعطى الهداية بالكتاب حيث ميّز بين الخير وبين الشرّ، ومن خلال ذلك أراد للناس أن يتبعوه في حكمه.

((فخذوا نهج الخير تهتدوا)) إقرأوا الخير في القرآن في مفاهيمه العقيدية والشرعية والمنهجية والحركية كلّها فإنّ القرآن يهديكم إلى نهج الخير ((واصدفوا عن سمت الشرّ تقصدوا)) أي أنكم تصلون إلى خطّ الاعتدال باعراضكم عن خط الشرّ، لأنّه يركز للإنسان الخطوط العامّة التي توضّح له مواقع الخير وامتداداته في شؤونه الفكرية والعملية.

((الفرائض الفرائض)) ثم يؤكد(ع) على ما يؤكد اللّه تعالى عليه مما لا رخصة فيه، بقطع النظر عن الطوارئ التي تحيط بالإنسان مما قد يملك فيه الاختيار، فهناك فرائض فرضها اللّه عليكم في عباداتكم، وهناك فرائض فرضها عليكم في معاملاتكم، وأخرى فرضها عليكم في علاقاتكم، وهناك فرائض فرضها عليكم في مواقفكم ((أدّوها إلى اللّه)) فهي أمانة اللّه تعالى عندكم )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا(([428]). وأهل الفرائض هو اللّه، فإذا قمتم بها ((تؤدّكم إلى الجنّة)) فهي تسير بكم إلى الجنّة، فإذا عشتم مع الفرائض بكلّ حدودها وخطوطها فإنّها تفضي بكم إلى الجنّة لأنّها مواقع رضا اللّه، وعندما يقف الإنسان في هذه المواقع فإنّها سوف ترتفع به إلى مواقع القرب منه سبحانه وتعالى. لأنها تمثل الأعمال المنطلقة من خط الإيمان والمتحرّكة في خطوط حركته في العقل والروح والقلب والحياة، فتقرّب الإنسان إلى اللّه وتوحي له بكلّ القيم الروحية التي ترفعه إليه.

((إنّ اللّه حرّم حراماً غير مجهول)) فاللّه تعالى تحدّث إليكم عن المحرّمات، كما في قوله تعالى )إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ(([429]). وقوله )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ(([430]). وقوله )لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ(([431]). وقوله )وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ(([432]). وقوله)وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا(([433]). إلى غير ذلك من المحرّمات فهي واضحة بيّنة وعليكم أن تجتنبوها لتطيعوا اللّه في ذلك. ((وأحلّ حلالاً غير مدخول)) فهو حلال واضح ليس فيه أي خلل )الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ(([434]) )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ(([435]) )وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ(([436]) إلى غير ذلك من الآيات.

حرمة المسلم:

((وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها)) وهنا تتجلّى عظمة الإسلام الذي أراد للناس كلّهم أن يحترموا إنسانية الإنسان المسلم بحيث يكون أعظم حرمة من كلّ المقدسات المكانية، وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنّه كان جالساً في المسجد الحرام وكان إلى جانبه شخص من أصحابه. فقال له: ((أترى إلى حرمة هذه الكعبة؟ قال: بلى، قال: إن حرمة المسلم عند اللّه أعظم من حرمة الكعبة سبعين مرّة))([437]). فما بالحكم بمن يهين الكعبة أو يهدمها؟ إنّ من يهدم المسلم في نفسه وفي عرضه وفي حياته، وإن من يهينه ويذلّه ويحطّم كرامته، يقوم بعمل أعظم وأشنع من تحطيم كرامة الكعبة، فنحن نقدّس البناء الذي تمثله الكعبة، واللّه تعالى أراد لنا أن نحترمه، ولكنّه أراد لنا أن نحترم الإنسان الذي يؤمن باللّه ورسوله واليوم الآخر أكثر مما نحترم الكعبة، وهي مسألة نسيها المسلمون، ولهذا فإننا في حياتنا العملية نتحرك على أساس موازين القوة والضعف، فالقوي يهين الضعيف ويسقطه على أساس المواقع الاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك. ولذلك أراد الإمام أمير المؤمنين(ع) في موقفه في أول خلافته أن يقول للناس إنّ برنامج الحكم عندي هو احترام كلّ المسلمين، فعلى الخليفة أن يحترمهم، وأن يكون البرنامج العملي الذي يأخذ به هو أن يحترم المسلمون بعضهم بعضاً،  وهذا هو المنهج الذي ينبغي أن يأخذ به كلّ حاكم إسلاميّ، بأنّ يضع في حساباته تأكيد احترام المسلمين في حكمه. وعلينا أن نعرف حقيقة أنّ اللّه سبحانه وتعالى وضع الدين لخدمة الإنسان ولم يضع الإنسان لخدمة الدين )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ(([438]). فاللّه سبحانه وتعالى والرسول(ص) في دعوتهما المؤمنين لما يحييهم أرادا أن يمنحاهم الحياة الفكرية والروحية والعملية في أبعادها الاجتماعية والسياسية والأمنية وما إلى ذلك، فالدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس، فالإنسان لم يكلّف بخدمة الدين وإنّما كلّف بالسير عليه حتى ينهج نهجه وينفتح على مفاهيمه.

((وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها)) أي مواضعها من الذمم بأن يجعل حقوق المسلمين متحركة في حركة الإخلاص والتوجيه الذي يريد للمسلمين أن يأخذوا حقوقهم في مواقع التعاقد بين اللّه وبين خلقه وبين الخلق أنفسهم. ثم يؤكّد مسألة من هو المسلم؟ هل هو الذي يشهد الشهادتين؟ ذلك هو المدخل الذي يدخل به الإنسان إلى الإسلام، ولكن عندما يدخل في الإسلام فأيّ موقع يؤكّد إسلامه؟ ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحقّ)) فهو الذي لا يأتي للمسلمين منه إلا الكلمات التي تحترم إنسانيتهم وإسلامهم، ولا يصدر عنه إلا العمل أو الممارسة التي تحفظ كرامتهم وتحترم أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ((ولا يحلّ أذى المسلم إلا بما يجب)) فلا يحلّ لكم أن تؤذوا المسلم، أي مسلم كان، فلا يحلّ لك أن تؤذي زوجتك أو أباك أو أمك أو ولدك أو جارك أو أي مسلم من المسلمين إلاّ بما يجب، فإذا اقتضى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذلك فبحدوده، وإذا كان لك حق تطالب به فبحدوده، وما عدا ذلك فلا يجوز لك أذى أي مسلم مهما كانت علاقتك به، ومهما كانت موازين القوّة والضعف بينك وبينه، ولاحظوا كيف أن الإمام يضع البرنامج في أول خلافته مخاطباً المسلمين بأن كلّ من آذى مسلماً فأنا خصمه لأن أذى المسلم لا يجوز إلا بما يجب.

((بادروا أمر العامّة وخاصة أحدكم وهو الموت)) أي الخطّ الذي يشمل الناس في مصيرهم وهو الموت، لأنّ الإنسان عندما يضع الموت أمامه فإنه يضع المسؤولية نصب عينيه، لأنّ الموت في حساب الدين ليس هو العدم المحض الذي ينفيك تماما لكنّه الجسر الذي يربط بين حياتين: حياتك في الدنيا وحياتك في الآخرة ليقول لك دائماً إنّ حياتك في الدنيا هي حياة المسؤولية وحياتك في الآخرة هي حياة حساب نتائج المسؤولية ((اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل))([439]). )يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(([440]). )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(([441]).

((فإنّ الناس أمامكم)) انظروا إلى المسيرة البشرية التي كانت تتحرك قبلكم، فأين هم أجدادكم وآباؤكم؟ إنّهم تقدموا لتلتحقوا بهم. ((إنّ الساعة)) وهي الأجل الذي تشرفون من خلاله على القيامة ((تحدوكم من خلفكم)) أي أنّ الإنسان يمشي والموت يسير وراءه ((تخفّفوا تلحقوا)) تخفّفوا من أثقال خطاياكم تلحقوا المسيرة، لأنّ الإنسان الذي يكون خفيف الظهر من أثقال خطاياه يستطيع أن يلحق بالداخلين إلى الجنّة دون أن يؤخّره ثقل الحساب ((فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم)) فالمسيرة تسير والأول ينتظر الآخر في ساحة المحشر.

((فاتقوا اللّه في عباده وبلاده)) والتقوى هي الخط الذي أراد اللّه للإنسان أن يأخذ به ليكون زاده )وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ(([442]) .)وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(([443]).

)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(([444]).  فلكلّ إنسان تعيشون معه حقّ عليكم، ومن التقوى أن تؤدّي إلى كلّ ذي حقّ حقه، كما أنّ لكم حقوقاً على الناس وعليهم أن يؤدّوا ما لكم عليهم من  حقّ.

((وللبلاد حقوق عليكم)) فاجعلوا التي تعيشون فيها أرضاً للإيمان ولطاعة اللّه وللإسلام وللتقوى، حاولوا أن تزرعوا فيها غراس الإسلام لتنمّوها بالإسلام من خلال ما تزرعونه في أنفسكم من الإيمان، وفي حياتكم من العمل الصالح، وفي أولادكم فيما تبنوه في قلوبهم وعقولهم وحياتهم من أسس الإيمان )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ(([445]). )وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا(([446]). )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(([447]). فلا تمكّنوا أحداً من أن ينشر الفتنة في بلادكم، لأنّ البلاد التي تخضع للفتنة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو دينية، تسقط عند الفتنة ويسيطر عليها الظالمون. وحاولوا أن تعطوا بلادكم الحرية، ولا تمكّنوا أحداً من أن يستعبدها لأنّ استعباد الأرض يؤدّي إلى استعباد الإنسان، فالأرض الحرّة تحتضن الإنسان الحرّ، والإنسان الحرّ هو الذي يصنع للأرض حريتها كما يصنع للأرض إنسانيتها ليؤنسنها، بأن نعطيها نبض عقولنا ونبض قلوبنا. ((فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع)) فاللّه سيسألكم عن البقاع التي عشتم عليها أو كانت من ضمن مسؤولياتكم، فكيف تصرّفتم فيها؟ كيف نظّمتموها؟ وكيف حرّكتموها؟ ((والبهائم)) فأنتم مسؤولون حتى عن البهائم أن تسيروا بها وتتعاملوا معها بما أراد اللّه، ومن هنا تأتي مسألة الرفق بالحيوان، فقد يجوز لك بما رخّص اللّه لك أن تذبح الحيوان الذي يحلّ لك أكله، ولكن لا يجوز لك أن تعذّبه، ولا أن تؤذيه، ولا أن تجرّب عضلاتك فيه، ومن هنا فإنّ كثيراً ممّا يستعمله الناس الآن في عمليات مصارعة الثيران والديكة ومهارشة الكلاب وما إلى ذلك مما استحدثته الوثنيات الغربية في السابق وبقي حتى الآن غير جائز إسلامياً، فإنّ اللّه لا يريد الظلم للحيوان كما لا يريد الظلم للإنسان، وتعذيب الحيوان ظلم، ولولا أنّ اللّه أجاز لنا أن نذبحه لتستمر الحياة من خلال ذلك، أو أنّ نقتله لندفع عن أنفسنا ضرره، لما جاز لنا ذلك.

((وأطيعوا اللّه ولا تعصوه)) فالخطّ هو خطّ طاعة اللّه وعدم معصيته. ((وإذا رأيتم الخير فخذوا به)) أي تلمّسوا الخير في كلّ مكان.. تابعوه.. حدّقوا في مواقعه.. سواء كان الخير عندكم في بلادكم، أو كان عند الآخرين، أو سواء كان خيراً في العلم الذي تحصلون عليه، أو في العدل الذي تتحركون فيه، أو في الخدمات الإنسانية التي تنطلقون بها ((وإذا رأيتم الشرّ فأعرضوا عنه)). فكما بدأ الإمام(ع) بالخير والشرّ في أول خطابه فإنّه انتهى بهما أيضاً داعياً للأخذ بالخير من أي مكان انطلق وفي أي مجال سار، وترك الشر أينما كان وكيفما كان.

أسلوب الحكم على الناس:

ومن كلام له(ع) في كيفية الحكم على الناس، وكلماته(ع) مبادئ، فمن الطبيعي أن الناس في مجتمعاتهم يحملون انطباعات عن بعضهم البعض، وهذا أمر تعارف الناس عليه، والإمام(ع) يضع لذلك منهجاً فيقول ((أيّها الناس)) وهو لا يخاطب الذين عاشوا معه ولكنّه يخاطب الذين يمتدوّن في خطّ الإسلام لأنّه إمام الإسلام، لذلك فإنّه يلاحق حركة الإسلام في الزمن، وحركة الناس في الإسلام في مدى الحياة، لأنّه يرى أنّ مسؤوليته كمسؤولية رسول اللّه(ص) في أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، لذلك فهو يتحدّث بهذه الطريقة: ((من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق)) فإذا عرفت من أحد إخوانك بحسب عشرتك له وخبرتك به، أنّه يتحرك في حياته من قاعدة دينية في كلّ أقواله وأفعاله وعلاقاته، وأنّه لا يسير إلا في الطريق السديد الذي يرتكز على الحقّ ويؤدّي إليه ((فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرجال)) فعندما تعرفه من خلال الخبرة والتجربة والمعاشرة الطويلة وتسمع الناس يقولون عنه كلاماً سلبياً غير مسؤول، فقل لهم لا أستطيع أن أسمع كلماتكم في هذا الإنسان لأنني خبرته وعاشرته وجرّبته وعرفت العمق من شخصيته، ولذلك فإنّ كلامكم لا ينطبق على معلوماتي الحقيقية.

وبهذا يؤكّد الإمام(ع) على الناس أن ينطلقوا بالثقة في العمق، وأن لا يسمحوا للناس الذين يريدون أن يهزّوا ثقة الآخرين بالكلمات الطائرة التي لا ترتكز على أساس. وبهذا يسقط الذين يثيرون الأقاويل من موقع عقدة أمام المعرفة التي انطلقت من موقع خبرة ((أما إنّه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام)) فبعض الكلمات التي يطلقها الناس تشبه السهام التي يرميها الرماة، ألا تشاهدون بعض الرماة الذين يطلقون السهام فلا يصيبون الهدف؟ فكذلك هناك بعض الذين يطلقون الكلمات فلا يصيبون الحقيقة.

((ويحيل الكلام)) أي يبطله، ويقال أحال الرجل في منطقه إذا تكلّم الكلام الذي لا حقيقة له ((ومن الناس من يرويه وباطل ذلك يبور)) فالكلام الذي يرتكز على الباطل والذي يخطئ الحقيقة يفسد، ((واللّه سميع وشهيد)) وعليك عندما تتكلّم وتحكم وتخلق الانطباع السلبيّ في نفسك أن تراقب اللّه الذي يسمعك كيف تتكلّم ويحاسبك على ما تتكلّم )وما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(([448]).  فاللّه يشهد عليك وهو يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين )أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(([449]). 

وقد قال علي(ع) للناس الذين قد يعصون اللّه في أنفسهم، وفي الناس عندما تكون لديهم خلوة أو جلسة سرية بحيث يتصورون أن لا أحد يسمعهم أو يراهم ((اتقوا معاصي اللّه في الخلوات فإنّ الشاهد هو الحاكم)) وعندما يكون الشاهد هو الحاكم، فما نفع الدفاعات؟!

((أمّا إنّه ليس بين الحقّ والباطل إلا أربع أصابع)) فعندما تريد أن تحكم على شيء تملك عيانه ويحدثك الناس عن سماعه، فما هو موقفك؟ ولقد سئل(ع) عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وفمه ثم قال: ((الباطل أن تقول سمعت)) فكيف تحكم على الناس؟ ولماذا اهتزت ثقتك بأخيك وقد عرفته موضع ثقة؟ ما الذي جعلك تغيّر رأيك؟ وما الذي جعلك تقول فيه ما قلت؟ ويأتيك الردّ: لقد سمعت الناس يقولون ذلك! والحق أن تقول رأيته فعل ذلك بعيني، ورأيته كتب ذلك بعيني، وسمعته تحدّث عن ذلك بأذني، وعندما يكون بين الحقّ والباطل أربع أصابع، فكيف يمكن أن تثبت لربّك بأنّ كلامك هو الحقّ، فقد يسمعك الناس وقد يقبلون منك ما تقوله لاسيما إذا كانت هناك خلفيات، وكانت هناك مخابرات، وكانت هناك تعقيدات تشجّع إهدار كرامات الناس الكرماء، فربّما يقبل الناس منك ذلك، في ظلّ ما نعيشه من إشاعة تتبع إشاعة في السياسة وفي الاجتماع وفي الدين وسوف تقف غداً بين يدي اللّه )يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا(([450]) فهل تملك دفاعاً عن كلمتك؟ وهل قلت الحقّ في فلان عندما يقف بين يدي اللّه ليقول يا عدل يا حكيم احكم بيني وبين فلان فقد أهدر كرامتي، وشوّه سمعتي، وهتك حرمتي. إنّ الإمام(ع) يريد أن يقول حاول أن لا تتكلّم إلا من خلال عين صافية تملك فيها أن تقدّم حسابك لربّك )لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ(([451]). 

ونبقى مع علي(ع) في كلماته التي هي نورٌ كلّها، وحقّ كلّها، وعدلٌ كلّها، وهي طريقنا إلى اللّه سبحانه وتعالى وإلى رسوله(ص) وطريقنا إلى الجنّة، والحمد للّه ربّ العالمين.

 

 

 

المحاضرة الثامنة عشرة 29 جمادى الأول 1422 ه‍ - 18 آب 2001م

 

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (10)

قراءة القرآن في الواقع

 

 

 

* علي(ع) مدرسة لا بدّ أن ندخلها ونتعلّم فيها لننجح في ساحة الصراع بين الحق والباطل *

 

 

 

ثلاثة نصوص.

حديث القرآن.

أطلب النصيحة من الله.

التواضع لله.

قراءة القرآن في الحياة.

مشورة علي(ع) لعمر بن الخطاب.

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

... وما أحلى السير مع علي(ع)... هذا الإنسان ولا أحلى، ولا أعظم، ولا أوعى، ولا أحقّ بعد رسول الله(ص). تعالوا إلى علي(ع) لا لنسافر إليه في مرحلته ولكن لندعوه إلينا، لأننا بحاجة إلى أن يزورنا وأن يعظنا ويرشدنا ويغيّر الكثير من انحرافاتنا، وأن يربينا حتى يكون لدينا الأفق الواسع عندما نعارض وعندما نحبّ، وأن نتحرك في خطّ التوازن في الإسلام، لأنّ الإسلام كما عرّفنا إياه علي(ع) الذي تلمّذ على يد رسول الله(ص) وعلى القرآن، يجسّد في خطّه التوازن للإنسان الذي يحرّك عاطفته، فالعاطفة جزء أساس من شخصيتنا، ومن لا عاطفة له لا إنسانية له، ولكنّ الإسلام يقول لنا لا تحرّكوا عاطفتكم بعيداً عن مبادئكم، فعندما تكون المسألة مسألة الحقّ فعليكم أن تكونوا مع الحقّ، وتعقّلوا العاطفة عندما تريد أن تنحرف به عن قصده.

ثلاثة نصوص:

تعالوا إلى علي(ع) في ثلاثة نصوص في (نهج البلاغة): نص يذكر فيه رسول الله(ص) أستاذه ومربيه ومعلّمه، ويذكر فيه القرآن، وقد كان لعلي(ع) في حياته عناوين ثلاثة: الأول هو الله، فقد باع نفسه لله، وأنزل الله فيه قرآناً {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ}(البقرة/207). وقال للناس «ليس أمري وأمركم واحداً إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم»([452]). والعنوان الثاني: هو رسول الله(ص) الذي يؤكّد علي(ع) الانفتاح عليه والالتزام به ويدعو إلى أن نعرف جيداً، لأنّ مشكلة المسلمين أنهم لا يعرفون رسول الله(ص) في كلّ عناصر شخصيته في الداخل أو في الخارج، وإنما يعرفون منه ما هو على السطح فقط. والعنوان الثالث: هو القرآن، ولم يوص علي(ع) بشيء كما أوصى بالقرآن، وكان عندما يتحدّث عن القرآن فإنّما يتحدث من خلاله عن الخط المستقيم، ثم ينفذ إلى الواقع ويرصد الناس في كيفية تعاملهم مع القرآن، وكيف يسير القرآن فيهم.

والخطبة الثانية التي سنتحدث عنها هي نصيحته للخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما استشاره بالشخوص بنفسه إلى الفرس، وأنتم تعرفون ماذا فعل عمر بعلي(ع)؟

والخطبة الثالثة هي كلامه إلى أبي ذر (رض) عندما اضطهده من اضطهده ونفي عن مدينة الرسول(ص).

ومن خلال هذه الكلمات الثلاث نستطيع أن ننفذ إلى المبادئ الإسلامية التي يريدنا علي(ع) في خطّه الرسالي أن نلتزم بها، ولنبدأ بحديثه عن رسول الله(ص) وعن القرآن.

حديث القرآن:

يقول(ع): «فبعث محمداً(ص) بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته» فقد جاء رسول الله(ص) بالحقّ التوحيدي الذي هو رسالة الأنبياء كلّهم. والتوحيد ـ أيّها الأحبّة ـ هو عنوان الرسالات كلّها، فالخطوط الرسالية كلّها تتحرك لتجتمع عند التوحيد، لأنّ توحيد الله يعني الانفتاح على وحدانيته من حيث أنّه الإله الواحد، وعلى عبادته، وعلى طاعته {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}(فصِّلت/30). فالإسلام كلّه يمثل حركة الاستقامة في خطّ التوحيد، ولذلك لن يكون موحداً من لا يستقيم على هذا الخطّ في عقله وقلبه وكلّ تفاصيل حياته.

«ومن طاعة الشيطان إلى طاعته» والوسيلة في ذلك هي القرآن وهو أطروحة رسول الله(ص) الربانية في هذا الهدف التوحيدي ليثقّف عقول الناس وقلوبهم وطاقاتهم بالتوحيد حتى يتحوّل الإنسان إلى كيان توحيدي لا يرى إلاّ الله في عقله وعاطفته وحركته.

«بقرآن قد بيّنه» أوضحه «وأحكمه» فلقد أحكمت آياته فلا ترى فيها خللاً ولا اهتزازاً «ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه» ليكون القرآن هو وسيلة معرفة الناس بربّهم. وعلى ضوء هذا ـ أيّها الأحبّة ـ وأنتم تقرآون القرآن مراراً وتكراراً استمعوا إلى عليّ(ع) وهو يحدّثنا أنّ القراءة القرآنية الواعية تنتج علم الإنسان لربّه وابتعاده عن جهله لربّه «وليقرّوا به بعد إذا جحدوا» ولينطلق الإنسان بالقرآن في براهنيه كلّها وأدلّته ليرجع إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ}(الحج/62). {أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(إبراهيم/10). فبالقرآن نعرف ذلك من خلال الخطوط الثقافية العلمية الموضوعية التي تتحرك في القرآن.

«وليثبتوه بعد إذ أنكروه» ليثبتوا الله في وجدانهم «فتجلّى لهم سبحانه في كتابه» وهذا هو قمة التعبير في أنّ القرآن يجعلنا نرى الله كما لو تجلّى لنا بذاته المقدسة، وهذا ما نستوحيه عندما نقرأ آياته التي تتحدث عن الله حتى كأننا نرى الله سبحانه وتعالى جهرةً وهو الذي تستحيل رؤيته بالعيان ولكننا نراه بالعقل والقلب وبالوجدان. فالله يتجلّى في قرآنه حتى لنراه رؤية عقل وقلب «من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته» {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(الزُّمر/67) {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(آل عمران/26).

«وخوّفهم من سطوته، وكيف محق من محق بالمثلاث» بما تحدّث به عمّا جرى على الأمم السابقة «واحتصد من احتصد بالنقمات» فلقد أراد لنا علي(ع) أن نتمثّل القرآن ليكون النور الذي نهتدي به، وهو الذي عرّف الناس بالقرآن وربطهم به وأرادهم أن يستهدوه وأن يعرفوا الله من خلاله، ولكن الإمام(ع) يتحدث عن المستقبل وعن مجتمع ليس في علي(ع) وإذا كان هناك أبناؤه من بعده وهم علي(ع) فكراً وخطاً وسيرة وعصمة إلاّ أنّ الناس اتبعوا غيرهم «وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى ولا أظهر من الباطل». وهذا ما نتمثله في الواقع من إخفاء الحق وإظهار الباطل بألف صورة وصورة «ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله» ممن ينسب إلى الله كلاماً لم يقله، أو ينسب إلى الرسول(ص) وليس لرسول الله(ص) علاقة به، هؤلاء الذين سمعوا بعض آيات القرآن وهم يتحدثون عن التحريف، والله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر/9). هؤلاء الذين نسبوا إلى الله كلاماً لا يجمل أن ينسب إلى إنسان عادي يعرف اللغة العربية، ونسبوا إلى رسول الله(ص) كلاماً انطلاقاً من حاجتهم إلى حديث رسول الله(ص) ليثبّتوا حاكماً جائراً هنا أو إنساناً منحرفاً.

«وليس عند أهل ذلك الزمان» وزماننا صورة لذلك الزمان «سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته» فهم يسمعون الكتاب جيداً ولكنهم يسمعونه وقلوبهم مغلقة عنه، ويسمعونه إذا حرّف عن مواقعه، ومن أجل يؤكدوا ضلالهم من خلال المتشابهات القرآنية.

«ولا أنفق منه» ولا أروج منه إذا حرّف «ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر» ألسنا نأمر بالمنكر لأنّ الزمان جرى على هذا، ولأنّ الناس تحرّكوا بهذا، ألا فبرّر الكثير من انحرافاتنا بالقول: إنّ الوقت يقتضي ذلك، ولا دخل للوقت في ذلك، وإنما هي مسؤوليتنا فقد نرتفع وقد نتضع، ولذا يقول الشاعر:

يقولون الزمان به فساد                                    وهم فسدوا وما فسد الزمان

«فقد نبذ الكتاب حملته» فحتى الذين حملوا الكتاب تركوه وراء ظهورهم عندما غرقوا في الشهوات ورأوا أنّ الكتاب لا يحمي شهواتهم، وعندما أخذوا بالامتيازات وهم يعرفون أنّ الكتاب لا يحمي امتيازاتهم ولذلك نبذوه وانطلقوا هنا وهناك.

«وتناساه حفظته فالكتاب يومئذ وأهله منفيان طريدان» لا مكان لهما في المجتمعات لأنّ بعض الناس كذلك الذي صار خليفة باسم المسلمين واستفتح بالقرآن وخرجت الآية {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}(إبراهيم/15). ومزّق القرآن، وهو يقول:

تهدّدني بجبار عنيد                                         فها أنا ذاك جبّا عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر                                 فقل يا ربّ مزّقني الوليد

وقد مزّقه الله شرّ ممزق.

«وصاحبان مصطحبان» الكتاب وأهله الذين فهموه ووعوه وحرّكوا مفاصله في ساحة الواقع، «وأرسلا نوره في كلّ مكان في طريق واحد لا يؤيهما مؤوٍ فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم»، فما أكثر المصاحف في بيوتنا ولكن ما أقلّ القرآنيين في مجتمعنا، وما أكثر حروف القرآن في مصاحفنا ما أقلّ مفاهيم القرآن في حياتنا، وهذا بيان سياسي، فالسياسة في الإسلام دين والدين سياسة، وعظمة السياسة الإسلامية تتجلى في انطلاقها من خلال مفاهيم الإسلام الحقيقة القرآنية «ومعهم ليس معهم» لأنّ المعيّة ليست المعيّة المادية لكنّها المعيّة الروحية والعقلية والقلبية والحركية، فأن يكون القرآن معك أن يتحرك في الواقع الذي تعيشه لا أن يكون مجرد كتاب تتعددّ صفحاته «لأنّ الضلالة لا توافق الهدى» لأنّ الناس يسيرون في طريق الضلالة والقرآن يتحرّك في طريق الهدى «وإن اجتمعا في مكان واحد اجتمع القوم على الفرقة» {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}(المؤمنون/53). وكما يقول الشاعر:

وتفرّقوا شيعاً فكلّ قبيلة                                    فيها أمير المؤمنين ومنبر

فنحن مسلمون وما أكثر مذاهبنا، وشيعة وما أكثر أحزابنا ومراجعنا وعصبياتنا. «كأنّهم أئمة الكتاب» فهم الذين يحرّكون الكتاب في اتجاهاتهم «وليس الكتاب إمامهم فلم يبق عندهم منه إلا اسمه، ولا يعرفون إلا خطّه وزبره» أي حروفه «ومن قبل ما مثّلوا بالصالحين كل مثلة» فكم قتلوا من الصالحين، وكم اضطهدوا منهم، وكم هتكوا حرماتهم عندما مثّلوا بأجسادهم وكرامتهم وبمعنوياتهم ومواقعهم «وسمّوا صدقهم على الله فرية» {أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}(سبأ/8). وهم الصادقون على الله. «وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة» أي أنّهم أبدلوا الحسنة بالسيئة فاعتبروا الحسنة سيئة «وإنّما هلك من كان قبلهم بطول آمالهم وتغيّب أجالهم» والرسول(ص) يقول «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان الهوى وطول الأمل، أمّا الهوى فيصدّ عن الحقّ وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»([453]).

«حتى نزل بهم الموعود الذي تردُّ عنه المعذرة» أي المعذرة للإنسان عندما يأتيه أجله «وترفع عنه التوبة» فالتوبة تبقى معك حتى يأتي أجلك، فإذا جاء أجلك فلا توبة لك «وتحلّ معه القارعة» التي تقرع النفوس والمصائر.

اطلب النصيحة من الله:

ثم يبدأ الإمام(ع) بعدما صوّر الواقع، بتقديم النصيحة: «أيّها الناس» وهو يخاطب الأجيال كلّها لأنّ علياً(ع) للحياة كلّها، وليس لجيل معين ولا لمرحلة معينة لأنّ عقله هو عقل الكون، ولأنّ رسالته هي رسالة للحياة «من استنصح الله وفّق» فهل تريد ناصحاً إذا حلّت بك مشكلة؟ أو إذا تحيّرت في طريق؟ فأيّ ناصح أعظم من الله؟! فكثير من الناصحين قد يختزنون الغش والجهل في نصحهم، ولكن الله الذي هو الحقّ، وهو الرحمن وهو الرحيم، وهو الذي وسعت رحمته كلّ شيء، وهو أحنى على الإنسان من أمّه وأبيه، ليس هناك ناصح أعظم منه، والله سبحانه وتعالى قد قدّم لنا نصائحه في القرآن، وقد حدّث شعيب(ع) قومه بقوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}(الأعراف/79).

«ومن اتخذ قوله دليلاً» أي أنّك إذا سرت في الظلمات والمتاهات واحتجت إلى دليل فإنّ قول الله هو الدليل الذي يأتيك في ظلمات البرّ والبحر وكلّ متاهات الحياة «هدي للتي هي أقوم، فإنّ جار الله آمن» فلتجاوروا الله، ومجاورته ليس في المكان ولكنها في العمل «وعدوه خائف» لأنّ عدو الله هو الذي ينتظر نار جنهم لينـزل به عذابه وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، ألا نقرأ في (دعاء كميل) «فكيف بي وأنا عبدك الذليل الضعيف الحقير المسكين المستكين».

التواضع لله:

ثم ينتقل للحديث عن المتكبرين الذين إذا حصل أحدهم على شيء من العلم انتفخ، وإذا حصل على شيء من المال تعاظم، وإذا امتلك السلطة تكبّر وتجبّر. وعلي(ع) يقول اعرفوا عظمة الله فإذا عرفتم عظمته فلا يمكن أن تشعروا بعظمة أنفسكم «وإنّه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظّم فإنّ رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له» لأنهم يشعرون أنّ كلّ ما عندهم هو من عند الله وأنّهم لا يملكون أنفسهم نفعاً ولا ضرّاً إلا بالله، ولذلك فهم لا يشعرون بأي حجم من القوة في الجانب الذاتيّ له بكلّ ما عندهم من الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}(النحل/53)

{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة/131). «فلا تنفروا من الحق» سواء كان الحق معكم أو عليكم «نفار الصحيح من الأجرب» ليكون الحقّ هو الأجرب والباطل هو الصحيح «والبارئ من ذي السقم».

قراءة القرآن في الحياة:

وإذا أردتم أن تعرفوا سلبيات الآخرين فانظروا إلى الواقع ولا تنظروا إلى كلماتهم... حدّقوا بسلوكيات الناس وبسيرتهم «واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه» لتروا آثار ترك الرشد من السلبيات التي تحدث لتاركه فتعرفوا طبيعة الرشد عندما يستبدل الإنسان غيّه به، كيف ينقذه في مقابل الغيّ الذي أسقطه؟

«ولم تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه» ومعنى ذلك أنه يقول للناس أن لا يقرأوا الخطوط العامّة للقيم والأخلاق في الكتب بل أن يدرسوها في الواقع، لأنّ الله أعطانا القيم الإيجابية من أجل أن يرفع الواقع الذي نعيشه إلى المستويات العليا، وأعطانا القيم السلبية ليعرّفنا نتائجها السلبية على حياتنا، ولذلك لا تنظروا إلى كلمات الأشخاص وأشكالهم بل إلى الواقع، أي اقرأوا القرآن في الحياة لتعرفوا كيف يعطي الرفعة والعزّة والكرامة والتقدّم لمن يأخذ به والأشياء المضادة لمن لم يأخذ به والأشياء المضادة لمن لم يأخذ به «ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه» فالتمسوا ذلك «من عند الله» وأهله هم أهل البيت(ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، طهّرهم في عقولهم وفي قلوبهم وفي كلماتهم وفي طاقاتهم وكلّ شيء حتى كانوا الطهارة كلّها والعصمة كلّها «هم الذين يخبروكم حكمهم عن علمهم» لأنّ علمهم لا ينطبق إلاّ من خلال قواعد العلم التي تثبت على أساس الحجّة والدليل «وصحته عن منطقهم» لأنّ صحتهم فكر وانفتاح على كلّ آفاق الحقيقة «وظاهرهم باطنهم» لأنّ باطنهم هو الحقّ كلّه والخير كلّه «لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه» لأنّ الحقيقة واحدة لا لبس فيها ولا اختلاف «وبينهم شاهد صادق وصامت ناطق» وهذه هي كلمة علي(ع) عن رسول الله(ص) وعن أهل بيته وعن القرآن الذي انطلق به.

مشورة علي(ع) لعمر بن الخطاب:

ولننطلق إلى أفق آخر يعطينا أسلوب علي(ع) وعظمته وروعته وسموّه عندما يستشيره الإنسان الذي قاد كلّ الحركة في إبعاد علي(ع) عن حقّه لأنّه انطلق إلى السقيفة ليحرّكها في غير خطّ علي(ع) الذي عيّنه رسول الله(ص) خليفة له بأمر الله، ففي كلام له(ص) لعمر بن الخطاب وقد استشاره في الشخوص لقتال الفرس بنفسه عندما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس وبين المسلمين، فقد جمع عمر المسلمين واستشارهم في الرسالة التي جاءت من قائد المعركة الذي طلب منه أن يأتي ليقود المعركة بنفسه ليكون ذلك أقوى لجانب المسلمين في معركتهم، وأشاروا عليه بذلك، وجاء إلى علي(ع) يستشيره والإمام(ع) لو كان يحمل حقداً وضغينة كما هو حال بعض السياسيين لقال إنّها الفرصة المواتية للخلاص من عمر، ولكن علياً(ع) كان رجل الإسلام، وكان يفكّر بالإسلام لا بالشخص، وهو القائل: «لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصّة». فلو أُظلم لوحدي فلا مشكلة إذ لا بدّ للإسلام أن يقوى وللمسلمين أن تسلم أمورهم، فمن منّا يفكّر بهذا أو يعمل به؟ وهو القائل لابن عباس «فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذّة وشفاء غيض، ولكن إطفاء باطل وإحياء حقّ»([454]) فأين علي(ع) وأين نحن؟! فنحن لا نرى منه سوى قتله لمرحب وابن عبد ودّ ولم نر كيف قتل الباطل ونصر الحقّ.

قال لعمر ابن الخطاب: «إنّ هذا الأمر» وهو الإسلام «لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة، فقد نصرنا الله ببدر ونحن أذلّة وقد نصرنا الله بالأحزاب» وقد جاءت كلّ الأحلاف لتقضي علينا في المدينة «وقد نصرنا الله في أحد» ثم خذلنا عندما تركنا أسباب النصر، وهكذا في حنين. {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}(التوبة/25). فالقضية ليست قضية كثرة ولا قلّة.

«إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة وهو دين الله الذي أظهره» وهذا قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ}(التوبة/33). «وجنده الذي أعدّه وأمدّه». وهذا قوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ}(المائدة/56). «حتى بلغ ما بلغ وطلع حيثما طلع ونحن على موعد من الله والله منجز وعده وناصر جنده» وهو قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(محمد/7).

«ومكان القيّم بالأمر» فعلى حسب الأمر أنت ـ يا عمر ـ المسؤول الأول في الدولة «مكان النظام من الخرز» كمثل الخيط الذي ينتظم الخرز «يجمعه ويضمّه فإذا انقطع النظام تفرّق» أي تتساقط حبّاته فلا يكون هناك ما يجمعها، أي إذا سقط الخليفة فيسقط المسلمون ولا يكون هناك من يجمعهم «ثم لم يجتمع بمحذافيره» أي بجميع جوانبه «والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام» والتعبير رائع هنا، فالإمام(ع) لم يركّز على الكثرة والقلّة العددية بل على القوّة الروحية والفكرية التي يقف الإنسان مرتكزاً عليها لمواجهة أعدائه، كما قال(ع) عندما سئل عن السرّ في قلعه لباب خيبر وجعلها جسراً، كما قال ابن أبي الحديد:

يا قالع الباب الذي عن هزّه                                عجزت أكفّ أربعون وأربع

حيث قال(ع): «والله ما قلعت باب خير بقوة جسدية ولكن بقوّة ربّانية»([455]).

أمّا اليوم فالعرب كثيرون ولكنهم قليلون في منطق الإسلام لأنّهم تفرقوا عن الإسلام أيدي سبأت. «عزيزون بالاجتماع» فلقد كان المسلمون مجتمعين في مواجهة المشركين والكافرين حتى مع اختلافهم في بعض الأمور، ونحن اليوم ذليلون بالافتراق. «فكن قطباً» أي العصا التي في وسط الرحى «واستدر الرحى بالعرب» لأنّ العرب هم الذين كانوا يقاتلون وهم قاعدة الحكام، وإلا فالإمام علي(ع) لا يتكلّم بمنطق القومية العربية «وأصلهم دونك نار الحرب فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها» فإنّ كلّ الذين هم ضد الإسلام، إذا غاب القائد عن المركز وعن عاصمة حكمه، يتحركون متحينين فرصة غيابه «حتى تكون ما تدع وراءك من العورات» أي الثغرات «أهم إليك مما بين يديك» فالخطر إذاً يتهدد الإسلام لا الشخص.

«إنّ الأعاجم إذا نظروا إليك غداً يقولون هذا أصل العرب فإذا اقتطعتموه استرحتم» أي حشّدوا قواكم لقتله «فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك» أي قوتهم ضدك «وطمعهم فيك، فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين» أي أنّ الأعداء قادمون للّهجوم على المسلمين «فإنّ الله هو أكره لمسيرهم منك» أي أين الله في حسابك؟ «وهو أقدر على تغييره ما يكره، وأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنّما كنّا نقاتل بالنصر والمعونة». فانظروا كيف يرتفع علي(ع) حيث يتضع الناس؟ وكيف ينطلق من خلال مسؤوليته وهو خارج الخلافة ليمارسها كما لو كان داخل الخلافة لأنّ علياً(ع) كان يرى نفسه مسؤولاً عن الإسلام في الداخل وفي الخارج.

فهل نقتدي بعلي(ع) كما قال الإمام الباقر(ع) «أفحسب الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً فرسول الله خير من علي، أفيكفي الرجل أن يقول أحبّ رسول الله ثم لا يعمل بسنّته». ثم يقول الباقر(ع) «من كان ولياً لله فهو لنا وليّ ومن كان عدواً لله فهو لنا عدو والله لا تنال ولايتنا إلا بالورع عن محارم الله». وهذا هو مكمن الخطورة، فالبعض يقول إنّ حبّ علي حسنة لا تضرّ معها سيئة.

لذلك علينا أن نعرف أن الأئمة من أهل البيت(ع) جاءوا من أجل أن يقودوا الناس للورع عن محارم الله، فهل يمكن أن يقبلوا الذين يتمردون على الله ويتجرّأون عليه؟!

أيّها الأحبة، علينا أن نكون مع منهج علي(ع) في الفكر والسياسية والاجتماع والحرب والسلم، فعلي(ع) مدرسة لا بدّ أن ندخلها ونتعلّم فيها لننجح في ساحة الصراع بين الحق وبين الباطل، من وقع علي(ع) الذي هو حق والحق معه.

وسنرجئ حديث علي(ع) مع أبي ذر(رض) إلى اللقاء القادم إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.

 

 


 

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                 

المحاضرة التاسعة عشرة 9 جمادى الآخرة 1422 ه‍ - 18 آب 2001م

 

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (11)

شخصية الصحابي الجليل

(أبو ذر الغفاري)

 

 

 

* لنقف مع المظلوم سواء كان شخصاً أو شعباً أو أمّة، وضد الظالم سواء كان دولة أو محوراً دولياً أو شخصاً *

 

 

 

ملامح شخصية أبي ذر الغفاري.

الوصايا السبع.

تقييم علي(ع) لأبي ذر.

أبو ذر المعارض.

وداع علي(ع).

وداع الآخرين.

تعقيب أبي ذر.

خط الإسلام.

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ملامح شخصية أبي ذر الغفاري:

حديثنا في هذا اللقاء حول كلام علي(ع) عن شخصية إسلامية صحابية متميزة أثارت ولا تزال تثير الكثير من الجدل في الأبحاث الإسلامية، فمنهم من يتطرّف في تقديمها الفكري ليضعها في دائرة الاشتراكية، ومنهم من يتطرّف في تقويمها ليضعها في دائرة المشاغبة، ومنهم من ينفتح على عناصرها الفكرية والحركية ليقدمها نموذجاً للشخصية الإسلامية المتحرّكة التي تملك صلابة الموقف وقوّته ولا تأخذها في الله لومة لائم مهما كانت درجة الشخصية التي تعارضها وتأمرها بالمعروف وتنهاها عن المنكر. وقد لاقت هذه الشخصية في العهد الإسلامي الأول بعد الرسول(ص) الكثير من التعسّف ومن النفي، وهي شخصية الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (جندب بن جنادة) الذي قال عنه رسول الله(ص) مما رواه أكثر المسلمين «ما أقلّت الغبراء ولا أضلّت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ»([456]).

ولا بدّ لنا قبل أن ندخل في كلمة علي(ع) لأبي ذر، أن ندرس بعض ملامح هذه الشخصية مما ذكره المؤرخون. ففي البداية كان تأريخ قبيلة هذه الشخصية سلبياً، فقد كان من عشيرة بني غفّار وكانوا يقطعون الطريق ويسلبون المارّة، ولكنّ هذا الرجل كان يعيش منذ بداياته موحّداً لله، حتى أنّه كان يصلّي على طريقته كما يحدّث عن نفسه في العشاء مبتهلاً إلى الله سبحانه وتعالى. وكان يعيش قلق البحث عن الحقيقة، ويحدّث عن نفسه أيضاً أن أخاه ذهب إلى مكّة في بداية عهد الرسالة وسمع عن رسول الله(ص) ما كانت تحدّث به قريش، وكان أخوه شاعراً، وسمع رسول الله(ص) وحدّث أبا ذر بما سمعه من رسول الله(ص) وقال له إنّ حديثه ليس حديث شعر فأنا أعرف الناس بالشعر، وليس حديث كهانة، ولكنّه حديث جديد يأخذ بمجامع القلب. وجاء أبو ذر إلى مكّة باحثاً عن الحقيقة والتقاه عليّ(ع) واستضافه والتقى برسول الله(ص) وعندما سمعه أسلم وتشهّد الشهادتين، وسأل رسول الله(ص): ماذا أفعل؟ بعد أن لاقى من قريش العنت والاضطهاد، وعندما أسلم قال لرسول الله(ص): يا رسول الله إنّي أريد أن أعلن إسلامي، فقال له رسول الله(ص): يا رسول الله إنّي أريد أن أعلن إسلامي، فقال له رسول الله(ص): إنّهم سوف يؤذونك، لكنّه أعلن إسلامه، وضربوه حتى نالوا منه، ولكنّ العباس عم النبي(ص) أنقذه منهم وقال لقريش إنّكم أهل تجارة، وإنّكم تمرّون على بني غفّار فقد يعرضون لتجارتكم، فكفّوا عنه، وقال له رسول الله(ص): اذهب إلى عشيرتك وانتظرني، إلى أن أذهب إلى المدينة، وذهب ودعا عشيرته إلى الإسلام وأسلم نصفهم، كما تقول الرواية، وقال النصف الآخر عندما يأتي رسول الله(ص) إلى يثرب فإننا نلتقيه ونسلم على يديه، والتقوا رسول الله(ص) وأسلم كلّ بني غفار، وأسلمت معهم عشيرة أخرى وهي عشيرة (أسلم) وقد دعا لهم رسول الله(ص).

الوصايا السبع:

وعاش هذا الصحابي مع رسول الله(ص) يسمع منه ويروي عنه، ونقرأ مما رواه عن رسول الله(ص) قوله: «أوصاني خليلي بسبع» وانظروا إلى كلمة خليلي أي صديقي، فلقد بلغت العلاقة مبلغاً كانت بمثابة الصداقة بينه وبين رسول الله(ص) وهذا التعبير لا ينطلق إلا بعد أن تكون العلاقة قد وصلت إلى نوع من الحميمية والصميمية بحيث أن الرجل أصبح في علاقته برسول الله(ص) في مستوى الصداقة من خلال هذا الحبّ الذي عاشه أبو ذر لرسول الله(ص). ثم انظروا إلى هذه الوصايا الغضّة الحيّة بحيث ما زالت تتحرك في المجتمعات الإسلامية لتؤصّل القيمة الروحية الأخلاقية لشخصية الإنسان المسلم.

«أمرني بحبّ المساكين والدنوّ منهم» أن أعيش مع الفئة التي ترتبط بالأرض، والتي تعيش عفوية القيمة الإنسانية وبساطة الروح، هؤلاء الذين عاشوا المسكنة فقراً وجوعاً ولكنّهم عاشوا العزّة في أنفسهم، فلقد أمره رسول الله(ص) أن يعيش مع هؤلاء حتى يتعلّم كيف يعيش الارتباط بالمعنى الإنسانيّ للإنسان، وهذا ما نقرأه في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) وكم نجهل زين العابدين تلك القمة الروحية العلمية العظيمة التي ترتفع وتسمو وتعيش مع الله في الوقت الذي تؤثر فيه العيش مع الإنسان: «اللهم حبّب إليّ صحبة الفقراء وأعنّي على صحبتهم بحسن الصبر» لأنّ من الطبيعي أن تكون هناك بعض التعقيدات في حياتهم مما قد يتضايق الإنسان من العيش معهم، ولذلك فلا بدّ من أن يصبر على تلك التعقيدات.

«وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي» لأنّ الإنسان إذا نظر إلى من هو دونه عرف نعمة الله عليه فيما أعطاه مما يميّزه عن هؤلاء، بينما إذا نظر إلى من هو فوقه لم يشعر بنعمة الله عليه، بل ربّما يدفعه الحسد وعدم الرضا بقضاء الله لأنّ يتصوّر أن الله لم يعطه كما أعطى فلاناً.

«وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً» فكلّ ما أستطيع أن آتيه أحاول أن أقوم به بنفسي ولا أكلّف غيري مشقته، وما لا أستطيع أن آتيه أصبّر نفسي عليه، وأحاول أن أطوّر قدراتي حتى أتمكّن منه.

وينقل عن رسول الله(ص) في هذا المضمار أنّه جاءه بعض أصحابه وقالوا له: يا رسول الله(ص) إنّ وجودك فرصة ثمنية بيننا، فأنت حبيب الله وشفيع المذنبين، نريد منك أن تضمن لنا على الله الجنّة؟ فأطرق برأسه إلى الأرض وكان بيده عصا ينكت بها الأرض، ثم رفع رأسه وقال: «أضمن لكم على الله الجنّة بشرط» فقالوا: ما هو؟ قال: «أن لا تسألوا الناس شيئاً» فالشيء الذي تقدرون عليه إئتوا به والذي لا تقدرون عليه لا تحاولوا أن تسألوا الناس عنه، فكأنّه يقول لهم إنّ الإنسان تستعبده حاجاته فإذا طلبتم منه شيئاً فإنهم قد يستغلّون حاجاتكم إليهم ليفرضوا عليكم الانحراف والشروط التي تذلّكم، وهذا هو ما نلاحظه عندما نمدّ أيدينا للغرب وللشرق لنستورد منهم الكماليات والحاجات غير الضرورية بل مما يضرّنا ويفرض علينا شروطاً سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية قاسية، فكم يستورد العالم العربي والإسلامي من السجائر والأمور التي لا يحتاجها حاجة فعلية كاللحوم المثلجة في حين أن عندنا لحوماً طازجة، فنحن نربّي الأغنام والأبقار والمواشي؟ وكم نستورد غير ذلك من الكماليات؟ حتى أن العالم الإسلامي يعيش اليوم تحت ضغط الديون للبنك الدولي الذي يفرض على الشعوب والحكومات شروطاً في اقتصادها بحيث تربك واقعها السياسي والاقتصادي معاً، ونحن لسنا مستعدين للاستغناء عن هذه الكماليات لنحفظ عزّة أنفسنا، في حين أننا نروي في الكلمات المأثورة مما ينسب إلى الإمام علي(ع) ومما يمكن توظيفه أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً «أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره»([457]).

ويقال بعد أن أوصى النبي(ص) هؤلاء المسلمين بهذه الوصية كان أحدهم إذا كان الماء إلى جانب جليسه لا يقول له: أعطني الماء بل يتناول بنفسه، وإذا كان راكباً الفرس وسقط السوط من يده لا يقول للذي على الأرض أعطني السوط وإنّما ينـزل ليتناوله بنفسه، وليس مقصود النبي(ص) هو هذا وإنّما أراد الاعتماد على النفس، يعني أن تكون سيد حاجاتك وسيد شهواتك ونفسك، وأن لا تستعبد نفسك للآخرين.

«وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت» أن أصل الرحم حتى ولو كان قاطعاً.

«وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مرّاً» بحيث أواجه كلّ مواقع الباطل فلو جاء الباطل بكلّ إغراءاته ليقدّم لي كلّ حلاوة المطامع والشهوات فإنّي أقول الحقّ لأنّ الناس إذا قالوا الحقّ وتحمّلوا مرارته ركّز الحقّ وجوده في الواقع، ولكنّنا إذا كنّا لا نقول الحقّ بل نتحرك مع الباطل لأنّ شهواتنا تتفق مع الباطل فسوف يموت الحقّ وتموت الإيجابيات التي نحصل عليها من خلال الحقّ.

«وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم» بحيث أنّ الله إذا أمرني في شيء ورأيت رضاه في شيء وكانّ كلّ الناس يلومونني ويشتمونني ويضطهدونني فإنني لا أخاف منهم بل أراقب الله في ذلك كلّه.

«وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» التي تعني أنّ الإنسان عندما يضعف فإنّه يستمد الحول والقوة من الله، وعندما يقوى لا يشعر بذاتية القوّة، ولا بطغيانها، بل يشعر أنها من الله سبحانه وتعالى، وأن الله الذي أعطاه القوّة يمكن أن يسلبه القوّة فلا يستعمل قوّته فيما لا يرضي الله، وقد قام أبو ذر بتنفيذ كلّ هذه الوصايا في حياته.

تقييم علي(ع) لأبي ذر:

وتعالوا نسمع تقييم الإمام علي(ع) لأبي ذر(رض) وعلي مع الحق والحق مع علي وهو لا يخاف في الله لومة لائم، ولذلك فهو لا يجامل أحداً في الحقّ، فعن علي(ع) كما ينقل ذلك ابن سعد في طبقاته في الجزء الرابع حيث يقول «لم يبق اليوم» وهذا كان قبل خلافة علي(ع) «أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ولا نفسي، ثم ضرب على صدره». أي ليس هناك سوانا من لا يخاف في الله لومة لائم.

وسئل علي(ع) عن أبي ذر، فقال: «وعى علماً عجز فيه وكان شحيحاً حريصاً، شحيحاً على دينه» بحيث لا يمكّن أحداً من أن يخترق دينه أو يلعب بدينه «حريصاً على العلم» يتحرّك في كلّ موقع من مواقع العلم ليكتسب علماً «وكان يكثر السؤال» أي كان يعيش قلق المعرفة، كما نعبّر هذه الأيام، وكان يحاول كلّما ارتسمت علامات الاستفهام في ذهنه أن يلاحقها ليقدمها إلى الذي يملك أن يجيبها عليها، وهذا هو الذي يريده الإسلام بأن نعيش قلق المعرفة، وأن نسأل عن كلّ شيء، وأن لا نخاف ولا نخجل من أي سؤال، لأنّ على الإنسان أن يتعلّم فالعلم هو النور الذي يضيء قلبك وعقلك ويؤصّل إيمانك ويقويّ حركتك في الحياة. «فيعطى ويمنع» أي يعطي الجواب تارة ويمنع تارة أخرى عندما لا يكون هناك مصلحة في الجواب. «أما أن قد ملأ له في وعائه حتى امتلأ» أي لكثرة ما اكتسب من علم امتلأ وعاؤه به فلم يبق في وعائه متسع.

ويقول ابن سعد: «فلم يدر ما يريد علي بقوله: وعى علماً عجز فيه، أعجز عن كشف ما عنده من العلم أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي(ص)» وبقيت الكلمة غاضمة.

فأبوذر من القلائل الذين ثبتوا مع علي(ع) بالإضافة إلى سلمان وعمار، لأنّ القضية كانت عندهم في مستوى الوضوح الذي ليس فيه أي مجال لأية شبهة أو لأي خلل.

أبو ذر المعارض:

وقد برز موقف أبي ذر المعارض في زمن عثمان، أي لم ينقل عنه أنّه كان في خطّ المعارضة القوية في زمن أبي بكر وعمر، فكيف بدأت معارضته؟

يقول ابن أبي الحديد: إن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال واختصّ زيد بن ثابت بشيء منها جعل أبو ذر يقول بين الناس، وكان المعارض الوحيد آنذاك، فكأنّ الناس في ذلك الوقت لم يكونوا يجرءون على نقد الحاكم بالرغم من أنّهم تعلّموا من رسول الله(ص) أن يسألوا عن كلّ شيء حتى بما يتصل برسول الله(ص) وهو سيد الخلق وهو المعصوم، فكانوا يعترضون ولم يكن يتعقّد من اعتراضهم حتى كانوا يسيئون الأدب معه، ولم يكن يعاقبهم على ذلك، حتى أن (عباس بن مرداس) جاءه في معركة حنين وكان النبي(ص) يوزّع الغنائم، فقال له: إعدل يا محمد! قال: «ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل»، ولم يعنّفه، ولكن العهد كان قد بعد ونسي الناس الكثير مما كان رسول الله(ص) قد علّمهم إياه.

وهذا ما نحتاجه في واقعنا، فنحن صرنا نخاف أن نعيش المعارضة.

يقول: «جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع بشرّ الكافرين بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(التوبة/34) فرفع ذلك إلى عثمان مراراً وهو ساكت ثم أنّه أرسل إليه مولى من مواليه أن أنته عما بلغني عنك» أي كفّ عن ذلك «فقال أبو ذر: أو ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله».

ومن هذا نستوحي أننا في بعض الحالات قد نعيش الضغط السياسي أمام الحاكم الجائر والمحتلّ، وقد لا نستطيع أن نتكلّم بشكل حرّ فيمكن في هذه الحال أن نلجأ إلى القرآن لنقرأه، وقد كنت أقول للناس في أيام الاحتلال الإسرائيلي للبنان في عام 1978 وكان ضاغطاً ضغطاً شديداً، إن لديكم حفلات تأبينية فاختاروا في قراءة القرآن الآيات التي تتحدث عن اليهود، كقوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ}(المائدة/64). وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}(البقرة/27). وما إلى ذلك، فالقرآن يمكن أن يكون الناطق بلسان الأمّة في هذه المواقف ويعرّف الناس بما عليه اليهود، وهذا لون من ألوان المعارضة السياسية الصامتة، وهذا هو أسلوب أبي ذر.

«قال: أوينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى وعيب من ترك أمر الله تعالى» فأنا أتحدث عن الذين تركوا أمر الله تعالى «فوالله لئن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخيرٌ لي من أن أسخط الله برضا عثمان» فحينما يدور أمري بين رضا الله وسخط عثمان فرضا الله يقدّم وهو فوق سخط الساخطين «فأغضب عثمان ذلك وأحفظه فتصابر وتماسك إلى أن قال عثمان يوماً والناس حوله: أيجوز للإمام» أي للخليفة «أن يأخذ من المال شيئاً قرضاً، فإذا أيسر قضى» أي استقرض مالاً من بيت المال وإذا توفر المال لديّ أُوفي دين «قال كعب الأحبار» وكان يهودياً وأسلم «لا بأس بذلك، فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي، الحق بالشام» فأخرجه إليها فنفاه إلى الشام، وقد ارتاح منه فابتلي به معاوية «فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوماً بثلاثمائة دينار،  فقال أبو ذر لرسوله: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبله، وإن كان الصلة فلا حاجة إلي بها وردّها عليه، ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية إن كانت هذي من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت مالك فهي الإسراف» وكان أبو ذر يقول وهو في الشام «والله إني لأرى حقاً يطفأ وباطلاً يحيا وصادقاً مكذّباً وأثرة بغير تقى وصالحاً مستأثراً عليه». «قال، حبيب بن مسلم الفهري لمعاوية إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كان لك فيها حاجة».

وكتب معاوية إلى عثمان إذا كان لك حاجة في الشام فخذ أبا ذر عندك فلا أستطيع تحمّله لأنّه يفسد على الشام، وحينما رجع أبو ذر إلى المدينة أعاد الكرّة من جديد فأمر عثمان به ونفاه إلى الربذة وهي منطقة نائية ليس فيها شيء من شروط الحياة المعقولة، وعندما أخرج أمر عثمان أن ينادى في الناس: «لا يكلّم أحد أبا ذر ولا يشيّعه، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به وتحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً(ع) وعمّاراً فإنهم خرجوا معه يشيعونه. يقول الراوي فجعل الحسن(ع) يكلّم أبا ذر، فقال مروان: إيه يا حسن ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل، فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل علي(ع) على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته، وقال: تنحّ لحاك الله إلى النار، فرجع مروان إلى عثمان مغضباً فأخبره فتلظّى على علي(ع) فوقف أبو ذر يودّعه القوم ومعه ذكوان مولى أم هاني، قال ذكوان فخفظت كلام القوم وكان حافظاً».

وداع علي(ع):

«فقال علي(ع): يا أبا ذر إنّك غضبت لله فارجو من غضبت له» فأنت لم تغضب لنفسك بل رأيت منكراً فنهيت عنه، ورأيت معروفاً يترك فأمرت به «إنّ القوم خافوك على دنياهم» لأنّهم أرادوا أن يحصلوا على الدنيا بطريقة غير شرعية وخافوا من الذي يرصدهم «وخفتهم على دينك» لأنّهم أرادوا أن يأخذوا منك دينك ترغيباً وترهيباً «فاترك في أيديهم ما خافوك عليه» أترك لهم دنياهم «واهرب منهم بما خفتهم عليهم فما أحوجهم إلى ما منعتهم» لأنّه هو الذي ينجّيهم في الآخرة «وأغناك عمّا منعوك» لأنّك لست طالب دنيا «وستعلم من الرابع غداً الأكثر حسداً» فالحسد ليس في الدنيا وإنّما الحسد في يوم القيامة عندما يؤمر بأناس إلى النار ويؤمر بآخرين إلى الجنّة.

«ولو أنّ السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا» أي مغلوقتين «ثم اتقى الله لجعل الله له منهم مخرجاً» {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}(الطَّلاق/2). «لا يؤنسنك إلاّ الحقّ» فلو أنّ الناس كلّهم تركوك وكان الحقّ معك فإنّ الحقّ هو الأنيس الذي يؤنس عقلك وقلبك وحياتك «ولا يوحشنّك إلاّ الباطل» لأنّ الباطل لا يملك العناصر التي تفتح عقل الإنسان وروحه بل يملك العناصر التي تسقط للإنسان روحه وحياته «ولو قبلت دنياهم لأحبّوك» أي لكن أصبحت من فريقهم «ولو قرضت منها» أي لو أخذت منها مما يريدون أن يرشوك به «لأمّنوك».

وداع الآخرين:

«ثم قال لأصحابه ودّعوا عمّكم، وقال لعقيل، ودّع أخاك، فتكلّم عقيل وقال: ما عسى أ، نقول يا أبا ذر وأنت تعلم أنّا نحبك وأنت تحبّنا فاتق الله فإنّ التقوى نجاة واصبر فإنّ الصبر كرم، واعلم أن استثقالك من الجزع واستبطائك العافية من اليأس».

ثم تكلّم الحسن(ع) فقال: «يا عمّاه لولا أنّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت وللمشيع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف، وقد أتى القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها، وشدّة منها برجاء ما بعدها، وأصبر حتى تلقى نبيك(ص) وهو راض عنك».

ثم تكلّم الحسين(ع) فقال: «يا عمّاه، إنّ الله تعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى» فهذا لا يدوم، وهذا يعني أن الحسين(ع) كان يفكّر في التغيير منذ ذلك الوقت، وكان هاجسه أنّ الواقع السيء لا بدّ أن يتغيّر «والله كل يوم في شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل الله الصبر والنصر، واستعذ به من الجشع والجزع، فإنّ الصبر من الدين الكرم، وإنّ الجشع لا يقدّم رزقاً، والجزع لا يؤخّر أجلاً».

ثم تكلّم عمّار (رحمه الله) مغضباً، فقال: «لا آنس الله من أوحشك، ولا آمن من أخافك، أما والله لو أردت دنياهم لأمّنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك، وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا، والجزع من الموت، مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه، والملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم، ومنحهم القوم دنياهم، فخسروا الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين».

تعقيب أبي ذر:

فبكى أبو ذر(رحمه الله) وكان شيخاً كبيراً، وقال: «رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله(ص) ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد الناس عليهما، فسيّرني إلى بلد ليس به ناصر ولا دافع إلاّ الله، والله ما أريد إلاّ الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة» فلا تخافوا عليّ ما دمت مع الله والله معي «يا صاحبي في شدّتي» ولا يستوحش من كان الله معه.

ورجع القوم إلى المدينة فجاء علي(ع) إلى عثمان، فقال له: «ما حملك على ردّ رسولي، وتصغير أمري، فقال علي(ع): أمّا رسولك، فأراد أن يردّ وجهي فرددته، وأمّا أمرك فلم أصغّره.

قال: أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر! قال: أو كلّما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه، قال عثمان: أقد مروان من نفسك». أي لمروان قصاص عليك. «قال ممّ ذا؟ قال من شتمه وجذب راحلته، قال: أمّا راحلته فراحلتي بها، وأمّا شتمه إياي، فوالله لا يشتمني مثلها، لا أكذب عليك».

خط الإسلام:

أيّها الأحبّة: هذا هو أبو ذر، وهذا هو صاحب رسول الله(ص) وهذا هو علي(ع) وهؤلاء هم أهل بيت الرحمة في موقفهم مع الحقّ ومع المظلوم وفي مواجهتهم للباطل وللظلم كلّه.

وما نريد أن نأخذ الدرس منه هو هل نكون في خط علي(ع) وأهل بيته(ع) لنقف مع المظلوم سواء كان شخصاً أو شعباً أو أمّة؟ ونقف ضد الظالم سواء كان دولة أو محوراً أو شخصاً؟ هي تلك وصية علي(ع) لولديه الحسن والحسين(ع): «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً» لنكن مع المظلومين حتى لو لم يكونوا مسلمين، ولنكن ضد الظالمين حتى ولو كانوا مسلمين لأنّ الله لا يريد لأحد أن يظلم ولا يريد لأحد أن يظلم، وقد علّمنا زين العابدين(ع) أن نطلب من الله أن يقينا من أن نظلم الناس، كما يقينا من أن يظلمنا الناس، وذلك هو دعاؤه: «اللهم فكما كرّهت لي أن أُظلم فقني من أن أظِلم» وذلك من دعائه «ولا أُظلمنّ وأنت مطيق للدفع عنّي ولا أظلمنّ وأنت قادر على القبض منّي».

أيّها الأحبّة: ذلك هو خط الإسلام... خط أهل البيت(ع) خطّ العدل كلّه... خط الحقّ كلّه... خط الوقوف مع المظلومين ضد الظالمين ومع المستضعفين ضد المستكبرين ومع المبطلين ضد المحقين. فإذا أردتم أن تكونوا مع الحق، فالحق مع علي وعلي مع الحق يدور معه حيثما دار، ولا مكان للباطل في دائرة علي(ع) فمن أراد أن يكون مع علي(ع) ومع الباطل فإنّه لا يقترب من علي(ع) قيد شعرة، والحمد لله رب العالمين.

 


 

المحاضرة العشرون13 جمادى الآخرة 1422ه‍ - 1/ أيلول /2001م

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (12)

(مالك الأشتر)

تلميذ علي(ع)  البارّ

 

 

 

* عندما نتحدث عن شخصية مالك الأشتر فلأجل أن نعمل على صناعة أكثر من مالك الأشتر *

 

شخصية مالك الأشتر (رض).

سيف اللّه.

عهد علي(ع) إلى مالك الأشتر.

موقف الأشتر من رفع المصاحف.

تقييم الأشتر لعلي(ع).

تقييم علي(ع) للأشتر (رض).

الأشتر وأبو ذر.

الغرض من دراسة هذه الشخصيات.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

شخصية مالك الأشتر (رض):

كنّا مع أبي ذر الغفاري (رض).. واليوم نلتقي بشخصية حركية مجاهدة واعية في كلّ مجالاتها، وهي شخصية مالك الأشتر (رض). هذا الإنسان الذي يتحدّث عنه المؤرخون أنّه أسلم في حياة النبي(ص) عندما سمع بالإسلام، ولكن ظروفه لم تساعده على أن يلتقي النبي(ص) فيكون من أصحابه. وقد روي عن رسول اللّه(ص) أنّه سمع عنه، فقال: ((إنّه المؤمن حقّا)) وهي شهادة عظيمة من رسول اللّه(ص) من خلال ما حدّث عنه مما يوحي بأنّ الرجل كان من المسلمين الذين امتلأت عقولهم بالإسلام ونبضت قلوبهم به، وعاشت حياتهم لأجله بالرغم من بعده عن مجتمع الإسلام، لأنّ الإنسان الذي ينفتح على الإسلام وهو في جو رسول اللّه(ص) يختلف عن الإنسان الذي عاش الإسلام وهو في مناخ آخر، فإذا استطاع أن يبلغ الدرجة العليا في وعيه الإسلامي وهو في مناخ بعيد عن المناخ الإسلامي في أجوائه الفكرية والروحية والعملية فإنّ ذلك يمثّل درجة عالية بالنسبة له.

وقد انطلق مالك الأشتر بعد رسول اللّه(ص) ليدخل المجتمع الإسلامي من الباب الواسع فكان المجاهد في الفتوحات الإسلامية عندما انطلق المسلمون بها بعد رحيل رسول اللّه(ص) كما يحدّث المؤرخون. وقد ارتبط بالإمام علي(ع) مبكّراً عندما عاش فكره وروحه وجهاده واندمج معه بكلّ شخصيته، وهذا ما نقرأه في العلاقة الوثيقة التي كانت تشدّه لعلي(ع) وتشدّ علياً(ع) له بحيث تشعر أنّ علياً(ع) كان ينظر إلى هذا الرجل كشخص يمثّل بمفرده قوة له وللإسلام وللمسلمين آنذاك بحيث أنّه عندما أستشهد عبّر عنه الإمام(ع) بأنّ هناك ركناً كبيراً قد انهار.

لذلك نحاول هنا أن ندرس بعض عناصر هذه الشخصية من خلال بعض مواقفه، ونبدأ بكتاب علي(ع) إلى أهل مصر عندما استخلفه ليكون والياً إلى مصر، ونلاحظ من خلال ذلك كيف هي نظرة الإمام علي(ع) إلى المسلمين في مصر في معارضتهم للوالي الذي أرسله عثمان وعاث في الأرض فساداً فواجهوه بكلّ قوة وأبعدوه عن موقع الولاية.

من كتاب له(ع) إلى أهل مصر لما ولّى عليهم الأشتر ((من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا للّه حين عصي في أرضه)) فالإمام(ع) كان يواكب الأحداث وكان يريد أن يؤكّد هذا الخطّ وهو خطّ المعارضة لكلّ سلطة تعصي اللّه في الناس فتفسد حياتهم وتتحرك بالظلم فيهم، وكان يريد للناس أن يغضبوا لذلك وأن لا يسكتوا ولا يقفوا على الحياد بل أن يواجهوا الظلم لاسيما إذا كان متمثلاً في المعصية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال انحرافه عن البرنامج الذي وضعه اللّه للعدل في الناس.

((وغضب بحقّه)) أي أنّ أهل مصر غضبوا لحقّ اللّه في العدل فاللّه يأمر بالعدل، وقد أقام الحياة كلّها على أساس الحقّ والعدل ((فضرب الجور سرادقة على البرّ والفاجر)) والسرادق مثل الخيمة وهو الغطاء الذي فوق صحن البيت، وهذا هو كناية عن سيطرة الجور المطلقة على المجتمع ((والمقيم والضاعن)) أي ضرب الجور سطوته على المقيم في البلد والضاغن عنه أي المسافر ((فلا معروف يستراح إليه)) فقد تركت السلطة المعروف الذي يطمئن الناس ويسكنون إليه ((ولا منكر يتناهى عنه)).

تلك كانت الصورة في السلطة (الإسلامية) التي كانت تسيطر على مصر قبل أن يرسل إليها الإمام(ع) مالك الأشتر (رض) ((أمّا بعد، فقد بعثت إليكم عبداً من عباد اللّه)) يعيش العبودية للّه من خلال إيمانه به وطاعته له وجهاده في سبيله ((لا ينام أيام الخوف)) فلا يبتعد عن الخوف لينجو بنفسه ولكنّه يقتحم الخوف في مواقعه ويواجهه بكلّ قوة من أجل أن يطرد شرّه عن الناس، والمقصود بأيام الخوف تلك الأيام التي يسيطر فيها الظلم ويخاف الناس فيها سطوة الظالم وسيطرته، ((ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع)) أي لا يجبن في ساعات الصراع والشدّة والقتال ((أشدّ على الكفّار من حرق النار)) من خلال قوته وبأسه ((وهو مالك بن الحارث أخو مذحج فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ)). وهذه نقطة على غاية من الأهمية، فنحن نعرف أن مالكاً هو من أصحاب علي(ع) المميزين ومع ذلك فإنّه عندما أرسله إليهم قال هذه الكلمة ((اسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق)) أي لم يطالبهم بالطاعة المطلقة له، بل قال ادرسوا ما يأمركم به وينهاكم عنه فإنّ الرجل يتحرك في الحقّ، ولكنّه إذا أخطأ الحقّ فلا تطيعوه ولا تسمعوا له، وليكن الحقّ الأساس في علاقاتكم بالوالي وبالحاكم كمنطلق ونهج عام، ونستفيد من هذه الفكرة على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي، أنّ الإنسان المسؤول عندما يرسل مندوباً عنه فعليه أن لا يعطيه الثقة المطلقة بحيث يطلب من الناس إطاعته بشكل مطلق بل يطالب بذلك من خلال ثقته به بشرط أن يكونوا واعين لما يأمرهم وينهاهم ليقارنوا بين ذلك وبين ما يعرفون من الحقّ، فإذا كان مع الحقّ ساروا معه، وإذا لم يكن معه لم يسيروا معه، وهذا ما نلاحظ خلافه لدى كلّ المسؤولين سواء كانوا من الدينيين أو السياسيين أو الاجتماعيين أو الحزبيين فهم يعطون الثقة المطلقة ويطلقون يد مندوبهم أو المسؤول المرسل من قبلهم على الناس، فإذا ما أخطأ الحقّ كانوا معه ضد الناس وكأنّه لا يخطئ، وهذه هي العصبية العمياء الطائفية منها والعائلية والحزبية، ونحن أمّة العصبيات. ولكنّ علياً(ع) كان مع الحق وكان الحقّ معه وما ترك له الحقّ من صديق حتى أقرب الناس إليه.

فلابدّ أن نستوحي من كلمة الإمام علي(ع) الكثير من المعاني، لأنّ بعض الناس يريدون السير مع علي(ع) ، حتى وهو في رحاب اللّه، على الحق وعلى الباطل الذي يتحرّكون فيه أو يُنسَبون إليه زوراً وبهتاناً، والحال أنّ الإمام(ع) مع الحق ولا مكان له مع الباطل ولا للباطل مكان معه.

سيف اللّه:

((فإنّه سيف من سيوف اللّه)) وهذا هو الوسام الرائع العظيم أن تقول عن شخص أنّه سيف من سيوف اللّه فإنّ ذلك لا يصحّ إلاّ إذا كان شاهراً سيفه في ساحة الحرب وسيفه (أي مواقفه) في ساحات السلم، أي يتحرك في خط اللّه ويستقيم في محبته مهما اختلفت الأمور ولا يشهره في غير هذا الاتجاه. فهذا تقييم كبير وكلمة رائدة لم يقلها علي(ع) لأحد ((لا كليل الضبّة)) والضبّة هو حدّ السيف والسنان، والكليل الذي لا يقطع فهو ليس من قبيل السيوف التي لا تقطع فإذا توجّه إلى أي موقع فإنّه يقطعه أي أنّه سيف بتّار ((ولا نابي الضريبة)) ونبا الشيء إذا ارتفع، فمالك إذا توجه إلى شيء لا يرتفع ولا يبتعد عنه بل يواجهه ويقع فيه.

((فإنّ أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا)) لأنّه يعرف كيف يوجه الأمر بالحرب فيما يصلح الناس، وكيف يوجه الأمر بالقعود فيما يصلح أمرهم ((فإنّه لا يقدم ولا يحجم ولا يؤخّر ولا يقدّم إلاّ عن أمري)) أي يريد أن يقول إن مالكاً الأشتر هو نفسي، فإذا أمركم بالنفير فأنا الذي آمركم به، وعندما يأمركم بالإقامة فهذا هو أمري، وعندما يحجم عن الانطلاق في أي طريق فإنّي أنا الذي أحجم، وعندما يقدم فإنّي أنا الذي أقدم، إنّه يمثل موقفي في كلّ ما يقف فيه من مواقف.

((وقد آثرتكم به على نفسي)) فأنا احتاجه للرأي وللحركة وللدفاع وليحوط لي ما أريد حياطته من المجتمع، لكنني عندما درست أوضاعكم وأدركت أن مصر تمثل الثغر الذي لابدّ من رعايته وحمايته وتقويمه لذلك بعثت لكم هذا الرجل الشديد في اللّه. ((لنصيحته لكم)) فلقد جاءكم ناصحاً ((وشدّة شكيمته على عدوّكم)) والشكيمة هي الحديدة المعترضة التي تضبط الفرس من الانطلاق، وهذا كناية عن قوة النفس وشدّة البأس. ((والسلام)).

عهد علي(ع) إلى مالك الأشتر:

هذه هي رسالة الإمام(ع) إلى أهل مصر في تولية الأشتر عليهم. وكان الإمام(ع) عندما أرسل مالك الأشتر إلى أهل مصر كتب عهده إليه كقانون إداري ينظّم له كلّ قواعد الحكم في الناس، ولا يزال عهد الإمام لمالك الأشتر يمثل الوثيقة التي تقنّن النظام الإداري في جانبه الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والأمني بحيث أنّ الباحثين لا يزالون يبحثون ليروا فيه النظرية الإسلامية في الحكم والإدارة، أي كيف يمارس الحاكم المسلم السلطة الإسلامية على الناس في هذا الخطّ القانوني والذي يمثل القاعدة الفكرية الإسلامية والخطّ الأخلاقي الإسلامي والنظام الإداري؟ ولعلّنا نرى أن الإمام(ع) لم يبعث هذا العهد إلاّ إلى أهل مصر وإلاّ إلى مالك الأشتر، فلقد كان للإمام(ع) عمال كثيرون وكان يعظهم ويرشدهم ويعطيهم بعض التوجيهات والتعليمات الكثير ولكنّه لم يعط أي والٍ من ولاته مثل هذه الثروة القانونية والإدارية، ومن ذلك نفهم أنّ الإمام(ع) كان يهتم بمصر. وفي عهده لمالك يتحدث الإمام(ع) أنّ مصر مرّت عليها حضارات ودول فأراد الإمام(ع) أن يقدّم لهؤلاء الذين يمتدّ تأريخهم الحضاري قروناً سحيقة إلى ممالك وحضارات حتى يقدّم الإسلام في مواجهة تلك الحضارات.

كما أنّ الإمام(ع) كان يثق بأنّ مالك الأشتر يملك من الفكر والوعي ما يستطيع أن يستوعب به كلّ هذا النظام الإداري الإسلامي وينفّذه، فعندما تقدّم برنامجاً فيه الكثير من العمق وحركية السلطة وتنظيم الإدارة لشخص معين فلابدّ أن يكون ممن يملك الثقافة والوعي والروحية والإخلاص ليعي هذا البرنامج في آفاقه وتطبيقاته. فنحن نستطيع أن نفهم القدرة الفكرية التي يتميز بها مالك الأشتر من خلال دراستنا لعهد الإمام(ع) لمالك. وكان معاوية يعرف قيمة مالك الأشتر، كما كان يعرف قيمة محمد بن أبي بكر، وكان يهتم اهتماماً شديداً بمصر لأنّه كان يريد أن يجمع لنفسه مصر والشام. ولذلك عندما أرسل الإمام(ع) محمد بن أبي بكر دس معاوية إليه السمّ، وعندما أرسل الإمام(ع) مالك الأشتر عمد إلى شخص في ذمّته ضرائب كثيرة وقال له سأعفيك من الضرائب كلّها بشرط أن تقتل مالك الأشتر، فعقد صداقة وطيدة مع مالك ودعاه إلى مائدة ودسّ إليه السمّ في شراب عسل واستشهد مالك مسموماً، وينقل عن معاوية قوله: ((كان لعلّي يمينان فقطعتهما)) وقال ((إنّ للّه جنوداً من عسل)).

موقف الأشتر من رفع المصاحف:

وعندما نريد أن ننفذ إلى جوانب أخرى في شخصية مالك الأشتر، فإننا نلاحظ أنّ هناك عدة نصوص تتحدث عن تأريخ الرجل، ونلتقط من ذلك بعض اللقطات، حيث يقال عن مالك أنّه شهد أكثر مشاهد علي(ع): الجمل وصفين، والموقف المميز له موقفه في صفين حيث كاد أن يحسم الحرب لصالح علي(ع) ويهزم معاوية ولكن لمّا رفعت المصاحف تغيّر الوضع.

ينقل المؤرخون أنّ جماعة معاوية عندما اشتدت المعركة وبات النصر متجهاً لصالح جيش الإمام علي(ع) استشار معاوية عمرو بن العاص فأشار عليه برفع المصاحف وتنادى القوم أن تعالوا لكتاب اللّه ليحكم بيننا، وعندما سمع الإمام علي(ع) ذلك قال ((واللّه إنّهم ما رفعوها حقّاً إنّهم يعرفونها ولا يعملون بها وما رفعوها لكم الاّ خديعة ومكيدة أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة)) أي أصبحنا من النصر قاب قوسين أو أدنى ((فقد بلغ الحقّ مقطعه ولم يبق الاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا فجاءه زهاء عشرين ألفاً مقنعين بالحديد وشاكي السلاح سيوفهم على عواتقهم وقد سودت جباههم من السجود)) فلقد كانوا يسجدون من دون وعي ولا عقل ولا تقوى ((يتقدمهم مسعر بن فدكي وزيد بن حصين وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه يا علي: أجب القوم إلى كتاب اللّه إذا دعيت إليه والا قتلناك)).

 ((فقال لهم: أنا أول من دعا إلى كتاب اللّه، وأول من أجاب إليه وليس يحلّ لي ولا يسعني أن أدعى إلى كتاب اللّه فلا أقبله، إنّي إنّما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا اللّه فيما أمرهم ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم)) فهذه مؤامرة وخديعة ((وأنهم ليسوا بالعمل بالقرآن يريدون)) بل أرادوا أن يفرّقوا المجتمع ويمزّقوه وأن يجعلوكم في موضع النـزاع ((قالوا فابعث إلى الأشتر ليأتيك، وكان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على معسكر معاوية ليدخله. فأرسل إليه يزيد بن هانئ فأتاه فبلغه. فقال الأشتر: قل له (أي للإمام) ليس هذه الساعة ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقعي إني قد رجوت أن يفتح اللّه بي فلا تعجلني. فرجع يزيد بن هاني إلى علي فأخبره، وارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام)). وهذه هي مشكلة القيادة الواعية حينما تبتلى بقاعدة غير واعية يمكن لكلّ لاعب أن يتلاعب بها ويخدعها. ((فقال له القوم: واللّه ما نراك إلاّ أمرته بقتال القوم)). وكانوا أغبياء يشكّكون بكلّ حركة تصدر عن علي(ع) فلقد اتهموه أنه لم يأمر مالكاً بالإنسحاب ((قال: رأيتم ساررت رسولي؟ أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون! قالوا: فابعث إليه فليأتك والا واللّه اعتزلناك! قال: ويحك يا يزيد قل له أقبل فإنّ الفتنة قد وقعت)) أي أن معاوية انتصر الآن لأنّه مزّق الجيش ((فأتاه فأخبره، فقال الأشتر: الرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم. قال: أما واللّه لقد ظننت أنّها حينما رفعت ستوقع اختلافاً وفرقة، وقال اللّه لنا، أينبغي أن ندع هذا أو ننصرف عنه.

فقال له يزيد: أتحبّ أنك ظفرت ها هنا وأمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم إلى عدوه. قال: سبحان اللّه، واللّه ما أحبّ ذلك، قال: فإنّهم قالوا لترسلنّ إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك كما قتلنا عثمان. أو لنسلمك إلى عدوّك)). ومن هنا نعرف حجم مأساة الإمام علي(ع) التي أعتبرها أعظم من مأساة الإمام الحسين(ع) لأنّه ابتلي بهذا المستوى من الناس.

((فأقبل الأشتر، فصاح: يا أهل الذلّ والوهن، أحين علوتم القوم فظنّوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد واللّه تركوا ما أمر اللّه فيها وسنّة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم أمهلوني فواقا فإنّي قد أحسست بالفتح، قالوا: لا، قال: فأمهلوني عدو الفرس، فإنّي قد طمعت في النصرة، قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك. قال: فحدّثوني عنكم، وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم متى كنتم محقّين حيث كنتم تقتلون أهل الشام فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون أم الآن محقّون فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم، كانوا خيراً منكم في النار! قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في اللّه وندع قتالهم في اللّه، إنّا لسنا نطيعك فاجتنبنا، قال: خدعتم واللّه فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود كنّا نظنّ أنّ صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق في لقاء اللّه، فلا أرى فراركم الاّ إلى الدنيا من الموت ألاّ قبحا يا أشباه النيب. ما أنتم برائين بعدها عزاً أبداً فابعدوا كما بعد القوم الظالمون، فسبّوه وسبّهم وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب بسوطه وجوه دوابهم فصاح بهم علي فكفّوا)).

((ولمّا كتبت صحيفة التحكيم دعي لها الأشتر ليوقّعها فيمن وقّعها)) بصفته قائداً عسكرياً ((فقال: لا صحبتني يمينٌ ولا نفعتني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح أو موادعة، أو لستُ على بيّنة من ربي ويقين من ضلالة عدوّي، أو لستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور؟ فقال له رجل: إنّك واللّه ما رأيت ظفراً ولا خوراً هلمّ فاشهد على نفسك وأقرّ ربّما في هذه الصحيفة فإنّه لا رغبة بك عن الناس. قال: بلى واللّه إنّ لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة، ولقد سفك اللّه بسيفي هذا دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي ولا أحرم دما، ثم قال: لكن رضيت بما صنع أمير المؤمنين، ودخلت فيما دخل فيه وخرجت عما خرج منه فإنّه لا يدخل إلاّ في هدى وصواب)). فأنا لست مقتنعاً بهذا التحكيم، وأنا أعلم أن علياً(ع) ليس مقتنعاً بذلك لكنّ هناك ضغطاً مورس عليه، وعليٌ(ع) أميري وأنا مستعدٌ أن أسير خلفه معصوب العينين لأنّه مع الحق والحقّ معه، ولذا فأنا أطيعه. وهذا الموقف يبيّن مدى إخلاص الأشتر فهو القائد الذي يطيع اللّه من خلال إطاعته وليّه.

تقييم الأشتر لعلي(ع):

والآن دعونا نتعرّف على تقييم مالك الأشتر لعلي(ع)، فهو لم يكن فقط مقاتلاً من الطراز الأول بل كان يحاول أن يعرّف الناس بعلي(ع) وكان يريد أن يجمع الناس على طاعة علي(ع) وأن يبتعد بهم عن كلّ ما كان يثار ضده من قبل القاسطين والناكثين والمارقين.

قال في خطبة له: ((معنا ابن عم نبينا، وسيف من سيوف اللّه علي بن أبي طالب، صلّى مع رسول اللّه لم يسبقه إلى الصلاة ذكر حتى كان شيخا، لم يكن له صبوة)) فلم يصبو إلى دنيا أو شيء من الدنيا ((ولا نبوة)) فلم ينحرف قيد أنملة ((ولا هفوة ولا سقطة)) لأنّه المعصوم الذي لا يخطئ ((فقيه في دين اللّه تعالى عالم بحدود اللّه وعليكم بالحزم والجدّ. واعلموا أنّكم على حقّ وأنّ القوم على باطل إنّما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى ما هو لكم من أصحاب محمد، أكثر ما كان وحكم رايات)) فهذه الرايات التي هي معكم كانت مع رسول اللّه(ص) وكلّ فريق يعرف من خلال الرايات التي ترفع فيه ((وعدونا مع رايات قد كانت مع المشركين على رسول اللّه، فمن يشك في قتال هؤلاء الاّ ميت القلب، أنتم على إحدى الحسنيين إمّا الفتح أو الشهادة، عصمنا اللّه وإيّاكم بما عصم به من أطاعه وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه، واستغفر اللّه لي ولكم)).

وله خطبة أخرى في صفين: يقول فيها: ((الحمد للّه الذي جعل فينا ابنّ عمّ نبيّه أقدمهم هجرة وأولّهم إسلاماً، سيف من سيوف اللّه صبّه اللّه على أعدائه. فانظروا إذا حمي الوطيس وثار القتال وتكسّر المران، وجالت الخيل بالأبطال فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة فاتبعوني وكونوا في أثري)).

وهذا يعني وعي الأشتر لعلي(ع) ولمنزلته ولأوضاعه كلّها.

تقييم علي(ع) للأشتر (رض):

وفي المقابل دعونا ننظر كيف كان يقييم علي(ع) مالك الأشتر (رض)؟ يقول(ع): ((كان لي مالك كما كنتُ لرسول اللّه(ص)) وهذه مرتبة عالية، ولقد كان من دعاء النبي(ص) عندما برز علي(ع) لعمرو بن عبد ودّ )رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(([458]). وكان المسلمون كلّهم معه.

وعندما بلغه موت الأشتر، قال ((إنّا للّه وإنّا إليه راجعون والحمدُ للّه ربّ العالمين، اللّهم إني أحتسبه عندك فإنّ موته من مصائب الدهر، ثم قال: رحم اللّه مالكاً فقد كان وفياً بعهده وقضى نحبه ولقي ربّه مع أنّا قد وطّنا أنفسنا على أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول اللّه فإنّها من أعظم المصائب)). وهذه كلمة لم يقلها علي(ع) في فقد أي رجل من أصحابه.

وحدّث أشياخ النخع، قالوا: ((دخلنا على أمير المؤمنين حيث بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهّف ويتأسّف عليه، ثم قال: للّه درُّ مالك وما مالك؟! واللّه لو كان من جبل لكان فندا)) والفند هي القطعة العظيمة من الجبل ((ولو كان من حجر لكان صلدا)) والصلد هو الصلب شديد الصلابة ((أمّا واللّه ليهدّنّ موتك عالماً وليفرحنّ عالماً)) فلأنّك كنت تمثل قوة كبيرة لعالم الإسلام فإنّه سيحزن لفقدك، ولكن عالم الضلال سيفرح بموتك لأنّك كنت شديداً عليه ((على مثل مالك فلتبك البواكي، وهل موجودٌ كمالك)). أي ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وهزم موته أهل العراق. ومن خلال ذلك نعرف - أيّها الأحبّة - قيمة مالك الأشتر، فربّما لم ينقل لنا التأريخ الكثير من خصائصه وعناصره الشخصية، ولكنّ كلمات علي(ع) عنه تدلّنا على أن الرجل كان في المنزلة الخصيصة من علي(ع) كما كان علي(ع) في المنزلة الخصيصة من رسول اللّه(ص).

الأشتر وأبو ذر:

ونحن نعرف أيضاً أن مالك الأشتر (رض) كان صديقاً لأبي ذر (رض) وكان هو الذي دفنه، فحين نفي أبو ذر ووافته المنية بكت امرأته لأنّها لم تجد من يساعدها على دفنه، فقال لها إنّ رسول اللّه(ص) حدّثني أنّ جماعة من المسلمين يأتون فيقومون بتجهيزي ودفني، فإذا رأيت نفراً من الناس قادمين قولي: هذا صاحب رسول اللّه قد مات فتعالوا أعينوني على دفنه، وصادف أنّ الأشتر وأصحابه في قافلة مرّت بالقرب منهم فقاموا بدفنه، وقد أبّنه بكلمة تدلّ على موقفه الحاسم في مواجهة الحكم آنذاك الذي منع الناس من أن يودّعوا أبا ذرّ، ومنعهم من أن يساعدوه أو يتعاطفوا معه.

فعندما دفنه قام على قبره، ثم قال: ((اللّهم هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه(ص) عبدك في العابدين، وجاهد فيك المشركين لم يغيّر ولم يبدّل)) أي بقي على ما فارقك عليه، فلقد كان من الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه ((لكنّه رأى منكراً فغيّر بلسانه وقلبه)) فصرخ بالذين صنعوا المنكر أن يبتعدوا عنه ((حتى جُفي ونُفي وحُرم واحتُقر ثم مات وحيداً غريباً اللّهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره وحرم رسولك فقال الجميع: آمين)).

وهناك مسألة لابدّ من الإشارة إليها وهي أن (الطبري) ذكر في تأريخه أن الأشتر كان ممن نقموا على عثمان حكمه ولكنه اعتزل الفتنة فلم يشارك في القتال ضده مما قد يوحي بأنه لم يرد للموقف أن ينتهي إلى ما انتهى إليه، لأن ذلك قد لا يكون في مصلحة الإسلام والمسلمين من خلال النتائج السلبية في وقت الفتنة وما بعدها.

الغرض من دراسة هذه الشخصيات:

أيّها الأحبّة: عندما ندرس هذه الشخصيات الإسلامية في هذا المستوى الرفيع فإنّنا لا نريد أن ندرس التأريخ لنستغرق فيه ولكنّنا نستجيب لقوله تعالى )لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ(([459]). فقيمة التأريخ عندنا أننا نأخذ منه ما بقي للحياة وما يمكن أن يعطينا القوّة والعنفوان، ولذلك فأننا عندما نتحدّث عن مالك الأشتر فلأجل أن نعمل على أن يصنع فينا أكثر من مالك الأشتر، فإذا لم نكن في عصر علي(ع) وهو وليّ اللّه ووصيّ رسول اللّه وإنسان الحقّ في كلامه كلّه وفعله كلّه، فإنّنا نبقى مع خطّ علي وهو خطّ الحقّ، لذلك فهل تريدون أن تكونوا في الخطّ الذي سار عليه مالك الأشتر؟ كونوا مع الحقّ في العقيدة وفي السياسة وفي الاجتماع وفي الحرب، وفي السلم، كونوا جنود الحقّ الذين يعملون على أن يصنعوا مجتمع الحقّ لأنّ المسألة ليست أن نهتف باسم علي(ع) ولكن أن نعيش فكره ومواقفه وتطلعاته وحبّه للّه ومسؤوليته عن الناس.

أيّها الأحبة: لقد كان علي(ع) غريباً في عصره وما أشدّ غربته فينا نحن الذين لم نفهمه جيداً، ولم نعشه جيداً، بل تفرقنا عن حقّه كما تفرّق الكثيرون عن حقّه هناك، وأخذنا بالباطل كما اخذ الكثيرون في عصره بالباطل. فهل يعود الحقّ فينا لنقول لعلي(ع): يا أبا الحسن نحن معك في الخطّ وسوف نتابعه بعيداً عن أية عصبية وعن أية مطامع شخصية.. نقف مع حقّك الذي نزل به الكتاب وجاء به رسول اللّه(ص) وجاهدت من أجله في حياة رسول اللّه(ص) ومن بعده، وقلت ((لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليّ خاصّة))([460])، وقلت: ((لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذي أهون عندي من عفطة عنـز))([461]).

وأخيراً نردد مع الشاعر المسيحي (بولص سلامة).

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي                                 واخشعي  إنّني  ذكرتُ  عــلياً

والحمد للّه رب العالمين.


 

المحاضرة الحادية والعشرون 20 جمادى الآخرة 1422ه‍ - 8/ أيلول /2001م

 

 

في ذكرى ولادة الزهراء(ع)

بين

(مريم بنت عمران) و(فاطمة بنت محمد)

 

 

* العبرة من ذكرى الزهراء(ع) هي أن تتحرك المرأة المسلمة لترتفع بروحانيتها وتعبّدها وإنسانيتها وثقافتها ونشاطها الاجتماعي *

 

 

مقارنة الزهراء(ع) بمريم(ع).

الزهراء(ع) السموّ الروحي.

حياتها المتحرّكة.

حركتها في المدينة.

علاقة فاطمة(ع) بالنبي(ص).

الدفاع عن الولاية.

أسلوب خطابي جديد.

الإقتداء بالزهراء(ع).


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

نعيش هذا اليوم ذكرى ولادة سيدتنا الطاهرة المعصومة العلوية سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع) ونريد أن نقف عند هذه الذكرى، ونؤجّل الحديث في (نهج البلاغة) إلى فرصة أخرى.

مقارنة الزهراء(ع) بمريم(ع):

وقد تحدّثنا في هذه الندوة كثيراً عن حياة هذه المرأة العظيمة، ولكنني أحبّ أن أشير إلى عدّة لقطات في حياة الزهراء(ع) فنحن نلتقي في ذكراها بعملية مقارنة بينها وبين مريم بنت عمران(ع) لا لندخل في عملية التفضيل لأنّ ذلك ليس من شأن البحث الذي يريد أن يركّز على حركة الواقع، بل هو أمر يرجع فيه إلى اللّه سبحانه وتعالى، وقد وردت عدة أحاديث في هذا الجانب، لكنني أريد أن اركّز على الدراسة الدقيقة لشخصية الزهراء(ع) مقارنة بشخصية السيدة مريم(ع).

فإنّنا عندما نقرأ حديث القرآن الكريم عن السيدة مريم(ع) فإننا نجد أنّ اللّه اصطفاها وطهّرها واصطفاها على نساء العالمين حيث جعلها أمّا لعيسى(ع) وآية من آيات اللّه في ولادتها لعيسى(ع) من غير أب، وأنّ اللّه سبحانه وتعالى أنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريا، وأنّه أعطاها كرامته بحيث )كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(([462]).

وهكذا عاشت التجربة الصعبة ورعاها اللّه رعاية مباشرة حيث أنّها استطاعت أن تقبل على قومها لتثبت أنّها الطاهرة العفيفة التي لا غبار على أخلاقيتها وعفّتها من خلال ما ألهم اللّه ولدها عيسى(ع) )قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(([463]).

ولم نجد في القرآن على الأقل أية حياة متحركة للسيدة مريم(ع) بل كلّ ما تحدث عنه القرآن هو )وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(([464]). و)وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ(([465]). حيث ضربها اللّه مثلاً للذين آمنوا من الرجال والنساء، بل كانت إنسانة في المستوى العالي من الروحية والمحبّة للّه والإقبال عليه، وكانت الإنسانة الطاهرة العفيفة التي صدّقت بكلمات ربّها وكتبه، أمّا حركيتها في الواقع، فإنّ القرآن لم يحدّثنا عن ذلك.

الزهراء(ع) السموّ الروحي:

فإذا جئنا إلى سيدتنا فاطمة الزهراء(ع) فإننا نجد أنّها لا تختلف عن السيدة مريم(ع) في هذا السمو الروحي الذي كانت تعيشه مع اللّه، فكانت تقوم الليل حتى تتورم قدماها كما يتحدث ولدها الإمام الحسن(ع) وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات قبل أن تدعو لنفسها، وعاشت حياتها مع اللّه ومع رسول اللّه ومع وليّ اللّه مما أنزل اللّه من تصوير هؤلاء الذين تميّزوا عن المجتمع من حولهم في الآية الكريمة )إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(([466]). فكما طهّر اللّه مريم(ع) )إِنَّ اللّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ(([467]). فإنّه طهّر فاطمة(ع) إلى جانب أبيها وبعلها وبنيها سلام الله عليهم أجمعين. وكما أنّ اللّه اصطفى مريم اصطفاء لتكون موقعاً لآيته وهي ولادة عيسى(ع) فإنّ اللّه سبحانه وتعالى اصطفى السيدة زهراء(ع) على لسان نبيه لتكون سيدة نساء العالمين، فهناك حديث يقول إنهّا ((سيدة نساء العالمين)) وأنها ((سيدة نساء أهل الجنّة)) بمعنى أنّ كلّ النساء اللواتي يدخلن الجنّة ستكون الزهراء سيّدتهن.

حياتها المتحرّكة:

أمّا حياتها المتحركة، فإذا كانت السيدة مريم(ع) قد احتضنت السيد المسيح(ع) وربّته وأعطته الحنان كلّه والعاطفة كلّها وعاشت آلامه كلّها عندما عذّب وأريد له أن يصلب )وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ(([468]). فإنّ السيدة الزهراء(ع) عاشت منذ طفولتها الأولى آلام رسول اللّه(ص) وتفاعلت مع هذه الآلام، وكانت كما تقول كتب السيرة تستقبل رسول اللّه(ص) عندما يعود من المسجد والقوم قد ألقوا أمعاء الجزور على ظهره، فكانت تستقبله بكلّ بكاء الحنان والعاطفة وتغسل ذلك عنه.

وكانت تعيش وحدة رسول اللّه(ص) في طفولته عندما فقد أباه وأمّه، ووحدته بعد أن فقد أمّها أم المؤمنين خديجة(ع) فكانت فاطمة(ع) تعيش هذه الحركية النبوية في كلّ وجدانها وكيانها فكانت تعطي رسول اللّه(ص) كلّ ينابيع الحنان المتفجّرة من قلبها، بما يعوّضه عمّا فقده من حنان أمّه، وفي المقابل فقد أعطاها رسول اللّه(ص) كلمته الخالدة ((إنّها أمّ أبيها))، فلقد شعر بأمومة ابنته له لا أمومة الجسد ولكنّها أمومة الروح والحنان والعاطفة.

ورأينا كيف أنّها هاجرت مع الفواطم من مكة إلى المدينة بكلّ ما كانت الهجرة تحمل من معاناة ومن آلام، لأنّ المهاجرين لم يكونوا يعرفون ما هم مقبلون عليه، فالتحديات من ورائهم من قبل قريش، ولا يعرفون ماذا يواجههم من تحديات جديدة في الموقع الجديد، وإن كانت يثرب قد تحوّلت إلى ما يشبه القاعدة الإسلامية الأولى بعد أن دخل الكثير من الأنصار في الإسلام، وبايعوا رسول اللّه(ص) على أن يمنعوه مما يمنعون به أنفسهم وأهلهم.

حركتها في المدينة:

ودخلت المدينة مع رسول اللّه(ص) ومع علي(ع) وكانت مع علي(ع) تعيش في بيت رسول اللّه(ص) فلم يكن لعلي(ع) بيت غير بيت النبي(ص)، وتزوّجت علياً(ع) وبدأت معاناتها في الجهد الذي كانت تبذله مع أولادها في الفقر الذي كان يطبق على هذا البيت المبارك، وكانت تمارس أعمال البيت بنفسها حتى أنّها تقاسمت مسؤوليات البيت مع علي(ع) فكان عليها أن تطحن وتعجن وتخبز، وكان على علي(ع) أن يستقي ويحتطب ويكنس البيت، فمن منكم مستعد لأن يكنس بيته أو يعاون أهله في الشؤون المنزلية؟ حتى أنّهما ذهبا إلى رسول اللّه(ص) ليطلب علي(ع) ، لا هي، خادماً لها فعلّمهما رسول اللّه(ص) تسبيح الزهراء وكأنّه أراد لهما الراحة الروحية التي تستوعب التعب الجسدي وتمتصه.

وكانت الزهراء(ع) في حياة رسول اللّه(ص) تبذل جهد الدعوة والتربية، وكانت تستقبل نساء المسلمين لتحدّثهم عمّا تعلّمته من رسول اللّه(ص) وما ألهمها اللّه إياه، وبذلك كانت حياتها حياة متحرّكة بحيث كانت موزّعة الجهد بين أبيها الذي كان بيتها قاعدة له، وبين زوجها الذي كان ينطلق بين وقت وآخر إلى الحرب ليعود وهو يحمل وسام الانتصار، وبين أبنائها الذين ربّتهم تربية رائعة وبين المجتمع المسلم الذي كانت ترعاه في شقّه النسوي، لأنّ الزهراء(ع) كانت تحمل علم رسول اللّه(ص) في وجدانها، وكانت تتحسس مسؤوليتها عن هذا العلم حتى أن أبا جعفر بن جرير الطبري في كتابه (دلائل الإمامة) ذكر أن ّ جاريتها أو خادمتها أضاعت بعض أوراقها، فقالت لها. ((ابحثي عنها فإنّها تعدلّ عندي حسناً وحسيناً))، مما يوحي بمزيد الاهتمام بالعلم الذي أخذته عن رسول اللّه(ص).

علاقة فاطمة(ع) بالنبي(ص):

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ العلاقة بين فاطمة(ع) وبين رسول اللّه(ص) كانت أكثر من علاقة ابنة بأبّ، فقد نقل لنا تأريخ سيرتها أنّها كانت إذا دخلت على رسول اللّه(ص) قام من مجلسه واستقبلها وقبّل يدها، وكان رسول اللّه(ص) إذا دخل عليها استقبلته وقبّلت يده، وهذا النوع من العلاقة قد لا يكون مألوفاً بين الأب وابنته، ولذا فنحن نستوحي من ذلك أنّ رسول اللّه(ص) في الوقت الذي يعيش حبّه للزهراء(ع) كان يحمل احترامه لها لما يعرفه من ملكاتها الروحية ومن ثروتها الثقافية ومن إخلاصها للّه وللإسلام والمسلمين. ونعرف حركية هذه العلاقة في روح الزهراء(ع) وذلك عندما احتضر النبي(ص) فقد ضمّها إلى صدره فبكت عندما أخبرها بأنّه سوف يفارق الحياة قريباً، ثم ضمّها  إلى صدره فضحكت لأنّه أخبرها أنّها أول أهل بيته لحوقاً به، فتصوروا امرأة أمّا وزوجة يخبرها أبوها بأنها ستموت في وقت قريب وتلحق به فإذا هي تشعر بالفرح والسرور، فأية علاقة هي هذه العلاقة بين الأب وبين ابنته؟!

الدفاع عن الولاية:

أمّا بعد رحيل الرسول(ص) فنحن نعرف أنّ الزهراء(ع) عاشت أزمة لم تمر على امرأة من المسلمين منذ كان الإسلام، حتى أنّ الجاهلية لم تحدثنا عن مأساة امرأة كما تحدّث التأريخ عن مأساة الزهراء(ع) فقد أبعدت الخلافة عن علي(ع) وهي حقّه الذي يستحقّه، وخشي القوم من المعارضة كما نسميها في هذه الأيام. وهدّدوا بإحراق البيت إذا لم يخرج المعارضون منه وهم علي(ع) والزبير والعباس وجمع من بني هاشم الذين اجتمعوا في بيت علي(ع) وفاطمة(ع) للتداول في الأمر، وقيل للذي هدّد بالهجوم كيف تهدّد بإحراق البيت وفيه فاطمة(ع) فكان جوابه. وإنْ!! وهذا يعني أنّ كلّ المحرّمات قد سقطت عنده مما يثير الكثير من التساؤلات عن مدى التزامه الإسلامي، لأن التهديد بإحراق البيت الذي يُضم علياً(ع) وأولاده(ع) وبضعة النبي(ع) التي يؤذيه ما يؤذيها ويغضبه ما يغضبها بالإضافة إلى بعض المسلمين الآخرين، أن هذا التهديد لا يخضع في مضمونه إلى أيّ أساس شرعي إسلامي بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك قد تحقّق أو لم يتحقّق لأن أسلوب مواجهة المعارضة لا يمكن أن يتحرّك في هذا الاتجاه، وهو ما لم يسبق له مثيل في المسيرة الإسلامية في طبيعته ودلالاته.

ويختلف المؤرخون في مسألة دخول البيت. هل دخلوه وكان ما كان؟ أو لم يدخلوه؟ وهذه مسألة متروكة للبحث والتحليل التاريخي، فهناك من العلماء من يتحفّظ في ذلك، وهناك من العلماء – وهو المشهور بين الشيعة - من يقول إنهم دخلوا وفعلوا ما فعلوا من المآسي والمظالم.

وفي هذا المجال نشعر أنّ الزهراء(ع) أيّاً كان الذي حدث لها لم تتحدث عن ذلك أبداً، ولم يتحدث علي(ع) عن ذلك أبداً، بل كان كلّ هم الزهراء(ع) هي كيف تستقيم قضية الحكم في الإسلام بعد رسول اللّه(ص)؟ لأنّها كانت ترى أنّ علياً(ع) وحده هو المؤهّل ليسير بالمسلمين في الصراط المستقيم لأنّها تعرفه.. تعرف علمه وزهده وشجاعته وحكمته وإخلاصه للّه ولرسوله وتعرف محبّته للّه ولرسوله ومحبّة اللّه ورسوله له، وكانت تعرف أنّه ليس هناك في المسلمين من يملك كلّ هذه الصفات التي تمتدّ في خطّ الرسالة كما تمتدّ في خطّ الواقع السياسي، لذلك كان كلّ حديثها عن أبي الحسن(ع) ومنه قولها ((وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه نكير سيفه وقلة مبالاته بحتفه)). وقد تحدثت بذلك مع نساء المهاجرين والأنصار ومع رجالهم، وتحدثت عن ذلك في خطبتها في المسجد النبويّ لأنّ المسألة عندها كانت مسألة الإسلام كلّه .. وكانا يلتقيان معاً، هي وعلي(ع)، في هذا الخطّ. ((لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور الاّ علي خاصة))([469]). وكانت تريد أن تقيم الحجّة على المسلمين في علي(ع) ولذلك نسيت آلامها كلّها وظلاماتها كلّها.

وعندما تحدّثت عن فدك فإن (فدك) لم تكن قيمة كبيرة عندها، فلقد كانت إرثها أو نحلتها لكنّها تحدّثت بقوّة وصراحة لتسجّل نقطة في هذا الاتجاه، لتقول للقوم إنكم لم تصدقوا عن رسول اللّه(ص) في هذا، وخالفتم كتاب اللّه في ذلك، وقد قال علي(ع) ((وما اصنع بفدك وغير فدك والنفس مضانّها في غد جدث))([470]). لأنّ أهل البيت(ع) لم يكونوا يفكّرون في الدنيا وإنّما كانوا يفكّرون في الآخرة.

أمّا ما يتحدث عنه البعض من أنّها عاتبت علياً(ع) وقالت إنّها ((بُلغة ابنيّ)). فهو حديث ليس صحيحاً لأنّ الزهراء(ع) أكبر من ذلك، فهي عندما رأت رسول اللّه(ص) في حياته لم يرتح للكساء الجديد الذي وضعته على باب بيتها، وقد أهداه علي(ع) إليها جمعته وأرسلت به إلى رسول اللّه(ص) وهو في المسجد مع ولديها الحسنين(ع) وعندما رأى رسول اللّه(ص) ذلك هزّته الأريحية، وقال. ((فداها أبوها.. فداها أبوها .. فداها أبوها ما لآل محمد وللدنيا إنّهم خلقوا للآخرة))([471]). فلذلك كانت تفكّر بالآخرة، وحتى عندما كانت تفكّر بالدنيا فمن خلال الدنيا التي تخطط للآخرة، والتي تتحوّل إلى آخرة من خلال البرنامج الذي وضعه اللّه ورسوله للسير في هذا الخطّ.

أسلوب خطابي جديد:

وعندما ندرس خطبتها في المسجد النبوي فإنّها كانت أول خطبة تبدع أسلوباً جديداً لم يعرفه الناس في ذلك العهد، فنحن ندرس في هذه الخطبة أنّها أعطت تفسيراً لأكثر من تشريع من التشريعات الإسلامية مما يتصل بالعبادة أو بالعلاقات الإنسانية أو بالمنهج الإسلامي. ونلاحظ أيضاً أنها قدمت للمسلمين في خطبتها دراسة عن الواقع السلبي الذي تمثّل في المرحلة التي أعقبت وفاة رسول اللّه(ص) مما دلّل على أنّ الزهراء(ع) قدّمت تقريرا سياسياً عن المرحلة التي كان يعيشها المسلمون بعد رسول اللّه(ص). ولأوّل مرة تدخل في جدل فقهي قرآني في إثبات مسألة إرثها، فقد قدمت القرآن في آياته التي دلّت على أنّ الأنبياء(ع) يورّثون أبناءهم وذريتهم المال، ورسول اللّه(ص) ليس بدعا من الرسل ولذلك فإنّ القرآن يخالف قولهم ((نحن معاشر الأنبياء لا نوّرث ما تركناه صدقة)) لأنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول )وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ(([472]). وقوله تعالى )فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ(([473]). لذلك فإنّ هذا الأسلوب الفاطمي، أسلوب الجدل الفقهي القرآني في مواجهة فكرة فقهية أخرى، لم يكن معروفاً في حياة المسلمين.

كما أنّ أسلوب الإثارة الذي حرّكته الزهراء(ع) من أجل إثارة مشاعر المسلمين وعواطفهم وأسلوب العتاب الذي عاتبتهم به لأنّهم لم يحفظوا رسول اللّه(ص) في أهله وعقبه كان أسلوباً غير معهود. ولهذا فإنّنا نعتقد أنّ خطبة فاطمة الزهراء(ع) تعتبر وثيقة إسلامية علمية سياسية جدلية استطاعت أن تؤكّد المفاهيم التي أرادت تركيزها في حياة المسلمين، وعندما نقرأ الردّ الذي رُدّ عليها فإنّه لا يخرج عن كونه ردّاً عاطفياً من دون الدخول في مناقشة للقضايا التي أثارتها.

ومن خلال ذلك نعرف أنّ الزهراء(ع) كانت الإنسانة الحركية التي لا تجلس في بيتها لتندب حظّها وتبكي مأساتها ولكنّها كانت تتحرك في المجتمع من أجل أن تصدم الانحراف الذي عاشه المجتمع، ومن أجل أن تطلق الصرخة الإسلامية لتهزّ المجتمع من أعماقه بطريقة علمية تارة وعاطفية تارة أخرى.

ومن خلال ذلك أيضاً نعرف أنّ الزهراء(ع) كانت تحمل علماً جمّاً ولو امتدت بها الحياة لجنى المسلمون الكثير الكثير من علمها الذي أخذته عن رسول اللّه(ص) لأنّها كانت في حياتها مع رسول اللّه(ص) تغرف من بحر علمه وتتحرك في خطّ أخلاقه وتعيش آفاق روحانيته، ولهذا كانت بضعة منه ((فاطمة بضعة مني)) فعقلها بضعة من عقله، وقلبها بضعة من قلبه، وطاقاتها بضعة من طاقاته، وروحانيتها بضعة من روحانيته، فليست كلمة (بضعة مني) تعني مجرد أنّها ابنته، ولذلك قال ((يؤذيني من آذاها، ويريبني ما يريبها، ويبسطني ما يبسطها))([474]) لأنّها كانت منه بمنزلة الروح من الجسد.. كانت شيئاً من ذاته، بكلّ ما تعنيه ذاته المقدسة، حتى أنّها كانت في وعيها السياسي تريد أن تسجّل احتجاجها الأخير لتثير التساؤل، فأوصت علياً(ع) ليدفنها ليلاً .. وليست المسألة مجرد أذى شخصي كما يوصي أحدهم أن لا يحضر فلان جنازته من ناحية عقدة شخصية، وإنّما أرادت أن تسجّل احتجاجا أخيراً بعد الموت كالاحتجاج الكبير الذي أطلقته قبل الموت، ليتساءل الناس. لماذا أوصت بذلك؟ لماذا دفنت ليلاً؟ وكلّ المسلمين يحبّونها، وكان حبّهم لها ليس فوقه إلا حبّهم لرسول اللّه(ص) والدليل على ذلك أنّ الرجل عندما هدّد بإحراق البيت لم يقل الذين حوله إنّ فيها علياً(ع) ولم يقولوا إنّ فيها حسناً وحسيناً، بل قالوا. إنّ فيها فاطمة، أي كيف تحرقها وفيها فاطمة؟! مما يدلّ على أنّ للزهراء(ع) مكانة في نفوس المسلمين بالمعنى العاطفي للمكانة، لذلك كانت تريد أن تثير التساؤل فلعلّه يفتح نافذة من الوعي لدى المسلمين الذين ابتعدوا عن خط الاستقامة في الحكم الإسلامي.

ومن خلال ذلك كلّه – أيّها الأحبّة – نعرف أنّ السيدة الزهراء(ع) تلتقي بالسيدة مريم(ع) في طهرها وروحانيتها وإخلاصها لربّها واصطفاء اللّه لها بطريقة وبأخرى، ولكنّها كانت تتميّز عنها بأنّ حياتها كانت متحرّكة في خطّ الرسالة فقامت بأداء الرسالة في رعايتها لأبيها رسول اللّه(ص) ورعايتها لزوجها لوليّ اللّه، وتربية ولديها الإمامين الحسنين(ع) وإنتاج بطلة كزينب(ع) على مستوى المستقبل، وأداء الرسالة في توعية المسلمات ومواجهة كلّ تحديات الانحراف في الواقع. وتلك هي ميزة الزهراء(ع) عن السيدة مريم(ع) عندما نريد أن نتصوّر حياة هذه وحياة تلك، وهما معاً حبيبتان للّه قريبتان إليه.

الإقتداء بالزهراء(ع).

وعندما نريد – أيّها الأحبّة – أن نثير ذكرى السيدة الزهراء(ع) سواء في مولدها أو في وفاتها فإنّ العبرة من هذا الدرس هي أن تتحرك المرأة المسلمة من أجل أن تكون المرأة التي ترتفع بروحانيتها إلى اللّه، وتعبد اللّه، وتعيش إنسانيتها بالتفكير في الآخرين قبل التفكير بنفسها، وتعيش ثقافة الإسلام وثقافة الواقع السياسي، وتتحرك بحسب ظروفها لتدخل الواقع الإسلامي الذي يواجه  التحديات سواء كانت ثقافية لتقدم ثقافتها في وجه هذه التحديات، أو اجتماعية لتقدم خبرتها الاجتماعية في خط المواجهة، أو التحديات السياسية لتقدم وعيها وثقافتها السياسية في ذلك، فالمرأة إنسان كما هو الرجل.

وإذا كنّا نتحدّث عن ضرورة التزام المرأة بالمنهج الأخلاقي في سلوكها في الحياة فإنّ المنهج الأخلاقي ليس ضريبة على المرأة بل هو للمرأة وللرجل معاً، فقول النبي(ص) ((إنّما بعثت لأتممّ مكارم الأخلاق))([475]) هو للمرأة وللرجل معاً، فإذا كانت المرأة مسؤولة عن العفّة فإنّ الرجل أيضاً مسؤول عن العفّة، وإذا كانت المرأة مسؤولة عن حفظ نفسها من الانحراف، فإنّ الرجل مسؤول عن حفظ نفسه من الانحراف، فليس هناك فرق في الجانب الأخلاقي لدى المرأة والرجل، لذلك نقول إنّ الإسلام الذي قدّم أم المؤمنين خديجة الكبرى (رض) لتدعم النبي(ص) في رسالته بكلّ ما عندها من قوّة، وقدّم السيدة الزهراء(ع) لتكون مع رسول اللّه(ص) ومع زوجها وابنيها في خطّ الإسلام، وقدّم لنا السيدة زينب(ع) بطلة كربلاء، ليقول لنا إنّ علينا أن نواجه التحديات الكبرى التي تأتينا من الرجال ومن النساء في خط الكفر والاستكبار لنقدّم الرجال والنساء في خطّ الإسلام. وسلام اللّه على السيدة الزهراء(ع) وعلى أبيها وبعلها وبنيها ورزقنا اللّه شفاعتها. والحمد للّه رب العالمين.


 

المحاضرة الثانية والعشرون 27 جمادى الآخرة 1422ه‍ - 15/ أيلول /2001م

 

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (13)

خصال فريقين من الناس

- القسم الأول -

 

 

* لننطلق مع علي(ع) كما لو كان معنا، لأنّ علياً الفكر والروح والخط لا يزال حياً كأعظم ما تكون الحياة *

 
 

 

 

 

في رحاب أمير المؤمنين(ع) .

أحباء اللّه .

مصباح الهدى .

التذكير بالنعم الإلهية .

الصبر على تحمّل المشقات .


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

في رحاب أمير المؤمنين(ع):

ونعود إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) في إحدى خطبه التي فرّق فيها النَّاس إلى فرقتين، ثُمَّ انطلق ليتحدّث عن موقعه، وعمَّا تحدّث به رسول اللّه(ص) عن الثقل الأكبر والثقل الأصغر، ودعوة المسلمين إلى الالتزام بهما. ولعلّ قيمة هذه الخطبة أنَّها تفتح للإنسان عناصر السموِّ الروحي، والانفتاح الفكري والعلمي، والاستقامة العملية في الخطّ الإيجابي الذي يلتزمه الإنسان السائر على الطريق المستقيم. وفي مقابل ذلك، يتحدّث لنا عن الإنسان السلبي في عناصر شخصيته التي تضيف جهلاً فوق جهله، وتضيف تخلُّفاً إلى تخلُّفه، وانحرافاً إلى انحرافه.

فلننطلق مع عليّ(ع) كما لو كان معنا الآن، لأنَّ عليّاً الفكر والروح والخطّ لا يزال حيّاً، كأعظم ما هي الحياة. وسيأتي في آخر حديثه عن رسول اللّه(ص) وعن أهل البيت(ع) قوله: ((يموت منَّا الميت وليس بميت))([476]) يعني أنَّهم أحياء، لأنَّهم ـ أعني أهل البيت(ع) عاشوا للحياة كلّها من حيث عاشوا للإسلام كلّه، وللّه أبداً.

يقول(ع): ((عباد اللّه، إنَّ من أحبِّ عباد اللّه إليه عبداً أعانه اللّه على نفسه..)) ويحسن أن نلفت النظر إلى أنَّ قوله (عباد اللّه) هو إحدى الصيغ التي كثرت في الأدبيات الإسلامية، فهناك نداء (يا أيُّها النَّاس) وقد ورد كثيراً في القرآن، ليُثير في الإنسان إنسانيته، وليدفع به في خطّ استذكار تلك الإنسانية, والانفتاح على ما يُراد له أن يأخذ به. وهناك نداء (يا أيُّها الذين آمنوا) وهو نداء ينفتح بالإنسان على إيمانه في العقل والحركة, ليشعر الإنسان بأنَّ عليه تفعيل إيمانه اتجاه عمله, وأن ينفتح على هذا النداء باعتباره يتضمّن معنىً يُثيـر فيه نوازع الإيمان أو ما يقوِّي هذا الإيمان.

وهناك نداء ثالث وهو (عباد اللّه)، وهذا النداء يُحاول أن يستثير في الإنسان الإحساس بعبوديته للّه، كأنَّه يقول للنَّاس، إنّي أُخاطبكم من خلال معنى العبودية في إنسانيتكم، فلا تغادروا هذا الأفق الذي يجعلكم تتحرّكون في الحياة من خلال خطّ العبودية في الحضرة الربوبية. وقد ضجَّت النصوص القرآنية بهذا المعنى لتؤصِّل في الإنسان هذا الشعور. يقول اللّه سبحانه وتعالى: )قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(([477])، وقد نسبهم اللّه سبحانه وتعالى إلى نفسه ليُعطيهم معنى سيادته الحانية, والتي تحتضنهم بالمغفرة والرحمة، وليقول لهم إنَّ ربّكم هو السيِّد الذي لا يضطهد عباده، بل هو السيِّد الذي يغفر لعباده أخطاءهم ويرحم ظروفهم وضعفهم, وكلّ ما يحيط بهم مما قد يبتعد بهم عن الخطّ المستقيم ويقرّبهم إلى الخطّ المنحرف، ليقول لهم أنيبوا إلى ربِّكم وأسلموا إليه لأنَّه هو الغفور الرحيم.

وفي كلمة (عباد اللّه) الكثير من الإيحاء، ففيها أنَّ على الإنسان أن يتواضع للّه, لأنَّ العبد لا يمكن أن يتكبَّر على سيِّده، وفيها ـ أيضاً ـ أن لا يتكبَّر على النَّاس الآخرين لأنَّه يتساوى مع الآخرين في العبودية للّه، فليس هناك في النَّاس عبدٌ وسيِّد، بل النَّاس كلّهم عباد اللّه، وليس أحدٌ منهم أقرب إلى اللّه من غيره إلاّ من خلال ما يقدّمه من عمل. وهذا كان حال الأنبياء والملائكة، كما جاء في الآيات القرآنية: )بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(([478]). ولذلك فإنَّ هذا النداء يُلغي في الإنسان الشعور بعلوِّه على الإنسان الآخر، سواء كان علوّاً يجعله مستكبراً يستضعف الآخرين، أو أن يستعلي به ليشعر بنفسه أنَّه ربُّ النَّاس. )وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّه(([479]).

أحباء اللّه:

يقول عليّ(ع): ((عباد اللّه، إنَّ مِنْ أحبِّ عباد اللّه عبداً أعانه اللّه على نفسه)) فكان اللّه له عوناً في حياته، يمدّه بالقوّة والمنعة والحصانة. وهو عونٌ ينطلق من توجّه الإنسان نفسه إلى اللّه. فإذا توجّه الإنسان إلى اللّه واطّلع اللّه على قلبه، في صدقِ نيته وإخلاصه، فإنَّه يمنحه الألطاف الروحية والفكرية والخطوط العملية، لتعالج نقاط الضعف. وما أكثر الضعف في الإنسان )إِنَّ النَّفْسَ لأمَّـارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي(([480]). فالنفس قد تجر الإنسان إلى السوء وتستثير غرائزه في خطّ الانحراف، فيضعف الإنسان أمام نفسه ويتهاوى، وعندئذ يحتاج إلى اللطف الإلهي الذي ينطلق من خلال الرحمة الإلهية، فبها تنـزل الألطاف على الإنسان، وتستنقذه من هذا الضعف والانكسار. وقد ورد في الدعاء: ((وأِعنّي على نفسي بما تُعين به الصالحين على أنفسهم)) أي أعطني ما تعطي الصالحين من الألطاف التي تمنع استيقاظ نقاط الضعف فيهم وانحرافها بهم عن الخطّ، لتقوّي فيهم إرادة الطاعة، والبُعد عن المعصية، وذلك قوله تعالى: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(([481]). فالذي يُجاهد في اللّه نفسه، ويُجاهد في اللّه غرائزه، هو في أمان من الانحراف بعونٍ وتسديدٍ من اللّه سبحانه وتعالى، فإذا أُريد له أن ينحرف، وأحاطت به المتاهات وأخذته خطوط الضياع وعاشت الفوضى في المجتمع، فإنَّ اللّه يُشرق في عقله وقلبه ليهديه إلى طريق الهدى: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا( فاللّه مع الذين أحسنوا الإيمان في عقولهم، وأحسنوا الخير في قلوبهم، وأحسنوا العدل في حياتهم، وانطلقوا من خطِّ الإحسان. الإحسان إلى النفس بتسييرها في خطّ اللّه، والإحسان إلى اللّه بتوحيده في الألوهية والعبادة والطاعة، والإحسان إلى النَّاس بالقيام بحقوقهم والإفضال عليهم.

فكيف عاش هذا العبد الذي أحاطت به ألطاف اللّه، فتجنب بفضلها القبيح، واختار الخير والحسن، وانطلق في الخطّ المستقيم ((فاستشعر الحزن)) أي عاش الحزن. ولكن الحزن على ماذا؟ إنَّه الخوف على ما فاته من الفرص التي أضاعها دون أن يعمّق طاعته للّه، وأنّه لم يبادر إلى مواقع الجهاد والدعوة إلى اللّه يوم كانت الساحات مفتوحة, ولكنَّه فضّل الراحة على التعب، واختار السَّلامة على الخطر، وضيَّع الفرصة، فتحوّلت إلى غصّة، فاستشعر الحزن. وهذا ما عبّر عنه عليّ(ع) في رسالته إلى ابن عباس: ((فليكن أسفك فيما خلّفت)) يعني أن تأسف على ما خلّفت وراءك من الفرص فلم تنتهزها، لتستزيد من خير الدُّنيا والآخرة.

((وتجلبب الخوف)) والجلباب - في اللغة - الثياب، ويعني هنا لبس الخوف، لأنَّه يخاف أن يعرض اللّه عنه، ويخاف من وسوسات الشَّيطان في المستقبل، ويخاف من النفس الأمَّارة بالسوء أن تقوى عليه )وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(([482]) يعني أنَّهم يخافون مما هم مقبلون عليه عندما يقفون بين يدي اللّه، وقد لا يكونون في مواقع السَّلامة بحيثُ لا يملكون جواباً في مواقع السؤال.. )يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا(([483]). فهذه الألطاف الإلهية، وهذا الحزن الإيماني والإيحابي والخوف المستقبلي على المصير، هو الذي يجعله يحزن على الماضي ليتجنب كلّ مواقع الحزن الآتية، ويتجلبب جلباب الخوف في المستقبل، فيُحاول أن يأخذ بأسباب الأمن التي تخلّصه عند اللّه، وتنقذه من عذابه، ليكون في خطّ الاستقامة )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(([484]).

مصباح الهدى:

((فزهَّر مصباح الهدى في قلبه)) والقلب كما ذكرنا أكثر من مرة هو المنطقة الداخلية التي قد تتمثّل في العقل، فالعقل هو قلب الإنسان )إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ(([485]). هو منطقة الوعي في عالـم الإحساس والشعور. ((فزهَّر مصباح الهدى في قلبه)) فلم يكن قلبه مظلماً يتخبط في الظلمات، لأنَّه أدخل اللّه في قلبه، وقلب المؤمن عرش اللّه، وقد ورد في بعض النصوص: ((ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)). وعندما يُشرق اللّه من خلال سرّ الإيمان في القلب، فإنَّ القلب يتحوّل إلى شمسٍ تضيء للإنسان كلّ جنبات نفسه، وكلّ مواقع طريقه، وكلّ غاياته وأهدافه. يقول عليّ(ع): ((فزهَّر مصباح الهدى في قلبه))، ذلك المصباح الذي يهديه الطريق أينما تحرّك، فيهديه الطريق عندما يفكّر ليكون تفكيره في طريق الحقّ، ويهديه الطريق عندما يحبّ ويبغض، ويهديه الطريق عندما يتحرّك في الحياة، فهو في إشراق الهدى الذي ينطلق من قلبه، ليتحوّل إلى نور في حياته كلّها.

((وأعدَّ القِرى ليومه النازل به)) والقِرى ـ بكسر الراء ـ في اللغة ما يُهيَّأ للضيف، لأنَّ لكلّ إنسانٍ يوماً لا بُدَّ أن يترك فيه الحياة، ولهذا اليوم زادٌ لا بُدَّ أن يتزوَّده، وقِرَى لا بُدَّ أن يقري نفسه به، فهذا اليوم هو ضيفك تماماً كما هو الضيف عندما ينـزل عليك، ألا تستعد له بالقرى والضيافة؟! وقد قال اللّه تعالى: )وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الألْبَابِ(([486]). والقِرى هنا هو عبارة عن القيام بكلِّ وظائف العبادة وبكلِّ وظائف الطاعة، وبكلِّ ما تمثّله التَّقوى، مما يقرّب الإنسان إلى ربِّه.

((فقرَّب على نفسه البعيد)) ولعلّ المراد أنَّه جعل الموت بين يديه صباحاً ومساءً، فإنَّ الذي يراه النَّاس بعيداً من خلال طول الأمل، جعله قريباً منه، حاضراً عنده، فهو ينتظر الموت في كلّ وقت. وقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين(ع) إذا نعي إليه ميت أو ذكر الموت: ((اللّهم اكفنا طول الأمل، وقصِّره عنَّا بصدق العمل، حتّى لا نؤمل استجماع ساعة بعد ساعة، واستيفاء يومٍ بعد يوم، ولا اتصال نفسٍِ بنفس ولا لحوق قدم بقدم)) يعني أنَّه عندما ينقل الإنسان قدمه لا يأمل أنَّه ينقل قدمه الثانية، لأنَّه قد يأتيه الموت. ولكن قد يقول قائل: إذا جعلنا الموت أمامنا فإنَّ ذلك سوف يُبعدنا عن الحياة ويمنعنا عن العمل والبناء والابتكار! والأمر ليس كذلك، فليس في التعاليم الإلهية ما يوحي بذلك. كيف وقد خلق اللّه الإنسان مستخلفاً إيَّاه في الأرض يعمّرها بالخير، وسخَّر له كنوزها وما فيها من نعمٍ وخيرات! كيف وقد قالها الإمام عليّ(ع): ((اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً))([487]) فعندما تفكّر في مشاريع الدُّنيا وحاجاتها، وكلّ ما يتصل منها بحياتك الشخصيّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة، أو في حياة النَّاس من حولك، أو في بناء الحياة من خلالك، باعتبارك - أيُّها الإنسان - خليفة اللّه في الأرض، وقد أوكل اللّه إليك إعمار الأرض إعماراً ثقافياً وإعماراً مادياً وروحياً وسياسياً واجتماعياً، فكّر أنَّك لا تموت، يعني ليكن إقبالك على عملك إقبال الإنسان الخالد الذي يشعره بالخلود والاستمرار في العمل، فإذا فاتتك فرصة اليوم فستحصل عليها غداً وبعد غد وما إلى ذلك، أمّا إذا فكّرت في المسؤولية، لجهة أنَّ العمل يتضمن الكثير من المسؤوليات، في إتّقان العمل في نفسه، وفي صيانة العمل من أن يتحوّل إلى شرّ وإلى مشكلة للنَّاس، أو يتحرّك العمل في معصية اللّه، هنا عندما تعمل وتنشط وتبني، فكّر في المسؤولية كما لو كنت تموت غداً، بحيث إذا واجهك الانحراف فكّر أنَّك سوف تقف غداً بين يدي اللّه، وكيف تقدّم حسابك عمَّا قمت به من انحرافٍ أو ما أشبه ذلك. فلا تهدِّم حياتك بنفسك بالإحساس بالموت، ولكن أن تعيش المسؤولية في نفسك )وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(([488]).

((وهوّن الشديد)) يعني هوّن الشدائد على نفسه. ولعلَّ المراد من الشدائد هي ما يتحمّله الإنسان من المشقة والجهد والصعوبة في طريق طاعة اللّه، وقد حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النّار بالشهوات، ولأنَّ العمل في سبيل اللّه يحتاج إلى كثير من الصبر، حتّى يستطيع الإنسان أن يملك خطّ الاستقامة في حياته ولا يسقط أمام الصعاب )وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ(([489]). وهكذا أن تصبر على الطاعة، وأن تصبر على المعصية.

((نظر فأبصر)) نظر يعني ركّز نظره، ولعلّ المراد بالنظر هو النظر الفكري، يعني فكّر وانطلق في الخطوط الفكرية، ليتعرّف على طبيعة الأمور وحقائق الأشياء وعواقب المسير، ولا يتجمّد عند أوائلها، وأن ينفذ إلى عمق الأمور ولا يبقى على سطحها، لذلك ((نظر فأبصر)) أي حرّك فكره من خلال ما زوَّده اللّه به من وسائل الإعانة على التفكير، من بصره وسمعه ولمسه وذوقه وشمه وكلّ حواسه، ليتحرّك بجميع ذلك كلّه ويقدّمه إلى العقل المتحرّك، ليصنع منه الفكر المستقيم. وهذا ما أشار إليه القرآن عندما كان يتحدّث عن البصيرة )فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(([490])، فلا بُدَّ أن يكون قلبك مستيقظاً مبصراً. وقد عبَّر الإمام عليّ(ع) عن طريقة التعامل مع ما يحيط بالإنسان من الدُّنيا ((مَنْ أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته))، يعني أنَّ الإنسان الذي يوجِّه نظره إلى زخارف الدُّنيا فإنَّها تهجم عليه لتعشي بصره بكلِّ زخارفها وبريقها، ولكن إذا جعل الدُّنيا عيناً يُبصر بها ما في داخلها، فإنَّها تبصّره وتعرفه طبيعتها وعواقبها ونتائجها، وما يقبل عليه من خلالها إلى مزرعة الآخرة )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّه الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا(([491]).

((وذكر فاستكثر)) يعني فاستكثر من ذكر اللّه، لأنَّ ذكر اللّه في العقل وفي القلب وفي اللسان وفي الموقف، هو سرُّ النجاة في الدُّنيا والآخرة، ولأنَّك إذا جعلت اللّه أمامك فإنَّك لا تخطو خطوة إلاَّ وتُراقب فيها نفسك من خلال مراقبة اللّه لك. وأمّا إذا نسيت اللّه فإنَّك تنسى نفسك، لأنَّك تنسى معنى العبودية في شخصك، وتنسى معنى المسؤولية في تحركاتك في الحياة، وتنسى نتائج المسؤولية مما تُقبل عليه عند اللّه )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّه فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(([492])، لأنَّ هذه المقدمة فيها نسيان اللّه والنتيجة نسيانك نفسك، لأنَّ نفسك هي خلق اللّه، ومعنى الكيان في وجودك المرتبط باللّه.

التذكير بالنعم الإلهية:

أيُّها الأحبّة، ألفت نظركم إلى أنَّ هناك فكرة كثيراً ما يركّز عليها القرآن، ليخلق فينا حالةً من عمق الوعي في علاقتنا باللّه وهي التذكير بالنعم )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللّه(([493])، يعني أنَّ كلّ نعمة، سواء كانت هذه النعمة مما يتَّصل بجسدك، بما يتمثّل بالأجهزة التي تنظّم حياتك في جسدك، أو النعم التي تحصل عليها من الخارج مما تأكل وتشرب وتشتهي وتتلذَّذ وتلبس وتسكن وتتعلّم وما إلى ذلك، فهو كلّه من اللّه. دلني على شيء هو لك تستقل فيه! فلو أنَّ اللّه حبس عنك الهواء فهل تستطيع أن تعيش؟! وبعبارةٍ أخرى، إنَّ هناك ارتباطاً محكماً بين وجودك وبين ربوبية اللّه لهذا الوجود، لأنَّك أنت في ارتباطٍ دائم وأبدي، وليس لك من الأمر شيء. )وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّه لا تُحْصُوهَا(([494]). وقد استوحى أمير المؤمنين(ع) ذلك فقال: ((لو لـم يتوعَّد اللّه على معصيته لكان يجب أن لا يعصى شكراً على نعمه))، فإذا كان وجودك من اللّه سبحانه وتعالى فإذاً كيف تعصي اللّه سبحانه وتعالى؟! وكما ورد في بعض المأثور، بما مضمونه إنَّك إن أردت أن تعصي اللّه فاعصه بغير ما أنعم به عليك، أي اعصه بما تستقلُّ به من وجود وقوّة ومنعة. ولكن كيف وكلُّ ما حولنا وما يتَّصل بنا بشؤوننا منه تعالى حدوثاً واستمراراً وبقاءً. ولكن المسألة إنَّ الإنسان إذا غفل عن سرِّ وجوده أصبح مجرّد ورقة يلعب بها الشَّيطان، وأصبح مجرّد خشبة في مجرى التيار لا تعرف هل ينقلها التيار إلى عمق البحر أو يلقيها على الشاطئ. لذلك مسألة الإحساس باللّه سبحانه وتعالى هي من المسائل التي لا بُدَّ أن تتحرّك مع الإنسان في كلِّ لحظة من لحظات حياته، بحيث لا يغفل عن اللّه تعالى. وعن الإمام زين العابدين (سلام اللّه عليه) في دعاء له يقول: ((واشغل قلوبنا بذكرك عن كلِّ ذكر، وألسنتنا بشكرك عن كلِّ شكر، وجوارحنا بطاعتك عن كلِّ طاعة))، يعني أنَّني أبقى معك، في القلب وفي اللسان وفي الحركة، لنحسّ بحضورك في حياتنا كما لا نحسّ بحضور أحد ((خف اللّه كأنَّك تراه فإن لـم تكن تراه فإنَّه يراك)).

((وذكر فاستكثر، وارتوى من عذبٍ فرات سُهِّلت له موارده)) أي عندما يرتوي من حبّ اللّه ـ لأنَّنا الظِماءَ إلى اللّه ـ وعندما يشرب من هذا الينبوع الصافي وهو ينبوع الحبّ للّه والانفتاح عليه، فإنَّه يشرب من عذبٍ فرات. وهو الذي سهَّل اللّه لنا موارده وجعلنا أهلاً للوصول إليه. أمّا كيف نحصل على محبّة اللّه؟ كيف نحبّ اللّه؟ فهو بالتفكير في عظمته، لنعرف عظمته من خلال عظمة خلقه وأسرار هذا الخلق، ونتذكر نعم اللّه علينا، ونبتهل إلى اللّه في كلِّ آلامنا وأفراحنا وأحلامنا، وندعو اللّه في ذلك كلّه ونركع له ونسجد ونقف بين يديه، لنعيش معه ونشعر بعطفه وحنانه، حتّى نحسَّ ببرد لطفه ورحمته علينا.

الصبر على تحمّل المشقات:

((فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً))[495] والسبيل الجدد ـ في اللغة ـ هو الطريق المستقيم، لأنَّ الإنسان إذا عاش إحساسه وإيـمانه بتوحيد اللّه، انفتح له الطريق المستقيم )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(([496]).

وفي المثل: ((وعند الصباح يحمد القوم السَّرى)) يضرب لمن يسير ويقطع المسافات ليلاً، فيصبر على تحمُّل العناء والمشقة ومقاومة السهر والألـم، فإذا وصل إلى مبتغاه حمد اللّه بعد أن كان يُكابد ويُعاني. وحال المؤمنين كذلك، فهي معاناة ومكابدة تنتهي برضوانٍ من اللّه ومغفرة ورحمة، عندئذ يجتمع المؤمنون ويتواصلون مع ذريتهم وآبائهم من الصالحين، فيأنس بعضهم ببعض، ويظلّلون بالرحمة وتنـزل عليهم الملائكة بما صبروا على طاعة اللّه، ومكابدة البلاء في سبيله، ومجاهدة النفس والابتعاد عن المعصية. فيُسلِّم الملائكة عليهم جزاء صبرهم، ويُبشِّرونهم بالجنّة جزاء نجاحهم في الامتحان. والحمــد للّــه ربِّ العالـميـن.

 

 

المحاضرة الثالثة والعشرون 4 رجب 1422ه‍ - 22 / أيلول /2001م

 

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (14)

خصال فريقين من الناس

- القسم الثاني -

 

 

* المؤمن مصباح الدنيا ينير للناس طريقهم في ظلمات الجهل والتخلّف والشبهات *

 

 

 

 

 

 

 

فريقان من الناس .

همُّ الآخرة أولاً .

الدليل إلى الهدى .

المؤمن مصباح الدُّنيا .


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

فريقان من الناس:

لا نزال في الحديث عن الخطبة التي خطبها أمير المؤمنين عليّ(ع) وهو يتحدّث عن فريقين من النَّاس، ثُمَّ يتحدّث عن نفسه وعن أهل بيته(ع).

وكان الحديث عن الفريق الأول، وهو الفريق السائر على طريق الحقّ، والذي يمثِّله العبد الذي استشعر الخوف، وقد تقدّم الحديث عن ذلك، حتّى قال: ((قد خلع سرابيل الشهوات وتخلّى عن الهموم، إلاَّ هـمَّاً واحداً انفرد به)). فمن بين صفات هذا الإنسان، أنَّه الإنسان الذي تحرَّر من ضغط شهواته. وهذا لا يعني أن يترك كلّ شهواته، لأنَّ الشهوات التي تمثِّل غرائز الإنسان هي من شروط استمرار حياته، فالإنسان يعيش شهوة الأكل ليسدَّ حاجة الجوع، وشهوة الشراب ليسدَّ حاجة الظمأ، فالأكل هو الذي يمسك عليه حياته، لما تحتاجه حياته من العناصر الموجودة في الغذاء، تلك العناصر التي تحتاجها كلّ أجهزة جسمه، وهكذا بالنسبة للماء )وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كلّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ(([497])، فلا يحيا بدونه، وهكذا بالنسبة إلى شهوة الجنس التي يحتاجها الإنسان التي يتوقف عليها توازن حاجاته الجسدية من جهة، واستمرار الحياة بشكل طبيعي من جهة أخرى. وهكذا بالنسبة إلى الغرائز التي في مقدمها غريزة حبّ الذات، وهي الغريزة التي تجعل الإنسان يتطوّر ويندفع، للمحافظة على حياته، وللحصول على ما يرفع مستواه، وما يُغني حاجاته، حتّى أنَّ حبّ الذات يجعله يطيع اللّه أكثر، ليحصل على السعادة في الآخرة، لذلك لا نعتبر حبّ الذات أمراً سيئاً في ذاته، بل يختلف في حركته حسب اختلاف اتجاهاته، ولـم يرد الإسلام أن يلغي شهوات الإنسان، بل أراد له أن يأخذ بها، لأنَّها من العناصر الحيوية لجسده ووجوده، غير أنَّ هناك فرقاً بين ممارسة الشهوات بطريقة متوازنة من خلال أنَّها حاجة، وبين أن تُمارس الشهوات لتسقط تحت تأثيرها، بحيث تتجاوز الشهوات مبادئك، فإذا وقفت بين ممارسة القيم الروحيّة والأخلاقيّة وبين حاجات الشهوة، فإنَّك تسقط أمام حاجات الشهوة وتلغي كلّ قيمك. هنا التحفظ على الشهوات وهنا الإشكالية.

همُّ الآخرة أولاً:

يقول أمير المؤمنين عليّ(ع) في خطبه والتي تقدّم الحديث عن بعضها في وقتٍ سابق: ((قد خلع سرابيل الشهوات عن نفسه))، بمعنى أنَّه لـم يجعل الشهوات ثوباً يلبسه، بحيثُ يحيط كلّ حياته، لتكون حياته واقعة تحت ضغط شهواته. والإسلام – كما ذكرنا - يريد لك أن تملك نفسك، وهو ما أكدته الأحاديث، إذ ورد أنَّه ((ليس الزهد أن تملك الدُّنيا بل أن لا تملكك الدُّنيا)). فهناك فرقٌ بين أن تكون سيِّدَ نفسك وبين أن تكون عبد نفسك، كن عبد اللّه ولا تكن عبد الشهوة، لأنَّها تجرك إلى كثيرٍ من المزالق، وتوقعك في المخاطر.

((وتخلّى عن الهموم، إلاَّ هـمَّاً واحداً انفرد به)) فهو تحرّر من الأمور الطارئة التي تملأ حياة الإنسان، ولكلٍّ منَّا همومه؛ هموم الحاجات، وهموم الشهوات وهموم المطامع، تلك الهموم التي تختصرها كلمة (هموم الدُّنيا).

هنا يقول(ع) عن هذا الإنسان إنَّه تخلّى عن الهموم، بمعنى أنَّه لـم يجعل الهموم تُحاصر حركته في الحياة، لتشغله عن مسؤولياته وعمَّا يقبل عليه أمام ربّه، بل إنَّه يُمارس هذه الهموم كحالات طارئة في حاجاته، يأخذ منها بالمقدار الذي يحقّق فيه حاجاته، فإذا لـم تتحقّق تركها وراءه، لأنَّ هذه الهموم لا تعنيه بقدر ما يعنيه الهمّ الأساسي، ذلك الهمّ الذي انفرد به، وهو هـمّه فيما بعد الموت، وهـمّه برضا اللّه، وهـمّه بالنجاة عندما يقف بين يدي اللّه سبحانه وتعالى.

وهذا ما عبَّر عنه الإمام(ع) في كلمته لابن عباس ((فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذة وشفاء غيظ))، بمعنى أن لا يكون هـمّك وطموحك في حياتك أن تبلغ لذاتك أو تشفي غيظك، مما أغاظك أو ممّن أغاظك، ((فليكن سرورك فيما قدّمت)) من عملٍ صالح، وقد قال اللّه تعالى: )وَمَا تُقَدِّمُوا لأنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه(([498])، ((وأسفك فيما خلّفت)) من الفرص التي ضاعت وكان بإمكانك أن تربح بها خير الدُّنيا والآخرة ((وهـمّك فيما بعد الموت)) لأنَّ ما بعد الموت يمثِّل المصير، وعلى الإنسان أن يكون هـمّه سلامة كلّه مصيره، فيحرّك حياته وكلّ ما يشغله في إطار هـمّه الرئيس، بحيثُ لا تغلب عليه الهموم الأخرى. وقد تحدّث اللّه سبحانه وتعالى عن قوم قارون وهم يخاطبون قارون )إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللّه لا يُحبّ الفرحين(([499])، أي لا تبطر ولا يأخذك الكبرياء والبطر )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّه الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنيا(([500])، بمعنى أن تتحرّك في الدُّنيا من خلال حاجات الدُّنيا، التي تحقّق لك استمرار حياتك بطمأنينة، من غير أن تكون الدُّنيا هـمّك، فالدُّنيا حاجة لك وليست رسالة أو غاية، لأنَّك سرعان ما تتركها.

((وتخلّى عن الهموم إلاَّ هـمّاً واحداً انفرد به فخرج من صفة العمى)) فهو عندما خلع ثياب الشهوات، وتخلّى عن الهموم إلاَّ همّ رضا مولاه، أبصر وانفتحت بصيرته على الحقيقة، وعلى آفاق الخير، وعلى ما يدفعه إلى القرب من اللّه سبحانه وتعالى، فتحرر من صفة العمى، وأصبح من المبصرين ((ومشاركة أهل الهوى)) أي خرج من مشاركة أهل الهوى، لأنَّه انطلق من خلال دينه ومبدئه ورسالته، وتحرّر من قيودهم، لأنَّ تلك القيود تجعلهم يتحرّكون مع أهوائهم، وهي تتجه بهم ساعة نحو اليمين، وتلقي بهم ساعة أخرى صوب الشمال، فهم أسرى هذه الأهواء، يميلون معها حيث تميل. وقد قال الشاعر: ((إذا الريح مالت مال حيث تميل)). وقد قال عليّ(ع) يصف أهل الهوى: ((همجٌ رعاع أتباع كلّ ناعق يميلون مع كلّ ريح لـم يستضيئوا بنور الحقّ ولـم يلجأوا إلى ركن وثيق)).

الدليل إلى الهدى:

ويُتابع عليّ(ع) فيقول: ((وصار من مفاتيح أبواب الهدى)) فهو لـم يتحرَّر من الأهواء، ولـم يُفارق العمى وحسب، بل تحوّل إلى موقف إيجابي، في خطّ حركة الرسالة في حياته، فأصبح صاحب رسالة، ((وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى)) وعندما يُمسك الإنسان هذا المفتاح، فهو يملك أن يفتح للنَّاس أبواباً تدخلهم إلى الهدى، وإلى ساحات الخير والحقّ والعدل، وهي الساحات التي تدلهم على اللّه وتدخلهم في طاعته ((وأغلق أبواب الردى)) التي تقود النَّاس إلى الهلاك، حتّى لا يدخل النَّاس أبواباً تؤدي بهم إلى الهلاك. وهذا يعني أنَّه لا يكفيك أن تمنع نفسك عن الشرّ، بل لا بُدَّ من أن توجهها نحو الخير، وعليك أن لا تترك أهل الهوى لتعيش وحدك، بل لا بُدَّ لك أن تتحرّك مع مجتمع الهدى، فلا تقف على الحياد بين أهل الهدى وأهل الهوى، بل عليك أن تكون مع الحقّ ومع أهل البصيرة، فمن ترك الهوى وترك العمى انطلق إلى البصيرة. وقد قالها الإمام موسى الكاظم(ع): ((لا تقل أنا مع النَّاس وأنا كواحد من النَّاس، إنَّما هما نجدان ـ طريقان ـ نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحبّ إليك من نجد الخير))([501]).

ثُمَّ يقول عليّ(ع) في وصفه: ((وقد أبصر طريقه)) فهو عندما خرج من صفة العمى صار مبصراً، وبذلك أبصر طريقه، لا بعينه بل بقلبه، كما في قوله تعالى: )فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(([502])، وقال تعالى: )قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(([503])، نسيتها أي عميت عنها وصرت أعمى لأنَّك عشت عمى القلب وإن كنت مبصر العين.

((وسلك سبيله)) فقد أبصره ودعاه إلى أن يسلك هذا الطريق، ((وعرف مناره)) يعني عرف ما ينير له الطريق، ((وقطع غماره)) أي أنَّه قطع الغمار، والغمار في اللغة معظم البحر، ويعني أنَّه عبر بحار المهالك إلى سواحل النجاة. ((استمسك من العرى بأوثقها)) والعرى ما يتمسك به، وقد قال اللّه تعالى: )وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللّه عَاقِبَةُ الأُمُورِ(([504]) فهو استمسك بأوثق العرى وبأقواها. ((ومن الحبال بأمتنها)) ومن أراد أن يتمسك بحبل النجاة لا بُدَّ له أن يتمسك بحبلٍ متين وإلاَّ انقطع وتردَّى.

وحال المؤمن هنا كما وصف عليّ(ع) أنَّه يتمسك بحبل متين لينقذه من الردى والهلاك. ثُمَّ يعقّب(ع) فيقول: ((فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس)) يعني عندما أبصر طريقه وسلك سبيله وانفتح على الهدى، فإنَّه عرف الحقيقة، عرف حقيقة الموقف وحقيقة الغاية وحقيقة الإيمان، وعرف حقيقة موقعه من ربِّه ومقام ربّه، وبذلك أصبح من اليقين على مثل ضوء الشمس، فلم تكن له أيّة حالة ضبابية في إيمانه، ولا في أهدافه وغاياته وما إلى ذلك، وقد آل به اليقين إلى أنَّه ((قد نصب نفسه للّه سبحانه)) يعني صار جندياً من جنود اللّه ووليّاً من أوليائه ومن حزبه، والإنسان الذي ينفتح على اللّه سبحانه وتعالى من الأفق الواسع، لأنَّه أبصر ربَّه ببصيرته وعرف مقامه ((قد نصب نفسه للّه سبحانه في أرفع الأمور)) فهو عندما يرتبط بالأمور الرفيعة التي ترقى إلى المستوى الأعلى في أهداف الإنسان، يصبح مؤهلاً لأن يتبوَّأ موقع المتيقن ((من إصدار كلّ ورادٍ عليه)) فهو كلّما ورد عليه سؤال يسأله عنه النَّاس يعلّمهم ويرشدهم ويجيبهم بما يتفق ووجهه وحقيقته، وقد ورد أنَّه ما أخذ اللّه على الجهّال أن يتعلّموا حتّى أخذ على العلماء أن يعلِّموا، وقد ورد ((إذا ظهرت البدع فعلى العالـم أن يُظهر علمه فمن لـم يفعل فعليه لعنة اللّه))، ((وتصيير كلّ فرع إلى أصله)) يعني قد بلغ من الثقافة موقعاً ودرجةً تؤهّله لأن يردَّ الفروع إلى أصولها، وذلك شأن الفقيه الذي يعرف أصول الشريعة، فيُحاول أن ينفتح ويتعمَّق في هذه الأصول من الكتاب والسنّة والعقل وما إلى ذلك من الأدلة، ليردَّ الفروع إلى الأصول، ويجيب على أسئلة النَّاس، مما يبتلى به النَّاس في حياتهم العامّة والخاصّة.

المؤمن مصباح الدُّنيا:

((مصباح ظلمات)) فيكون هذا الإنسان الذي استطاع أن يربّي نفسه ويثقّفها بمثابة المصباح في الظُّلمات، لينير للنَّاس طريقهم في ظلمات الجهل والتخلّف والشبهات وما إلى ذلك ((كشّاف غشاوات)) فإذا واجهت النَّاس الشبهات وضغطت عليهم كلّ غشوات الجهل والضلال وأعشت عيونهم عن النظر إلى الحقّ، فإنَّه يتحمّل عناء كشف هذه الغشاوات التي تغشي عيون النَّاس وتحجب عنها ضوء الشمس. ((مفتاح مبهمات)) فإذا واجه النَّاس الأمور المبهمة وغير الواضحة وأرادوا من يفتح لهم هذا المبهم ليوضحه لهم وليعرفهم طبيعته وأسراره، فإنَّ هذا الإنسان وأمثاله هو المؤمل لفتح المبهم وفك رموزه ومغاليقه ليدخل النَّاس في الوضوح. ((دفّاع معضلات)) بمعنى إذا هجمت المعضلات ـ الأمور المعضلة ـ والأمور المعقَّدة وأخذت تداهم حياة النَّاس، وتحيّر النَّاس في كيفية حلّها والخروج منها، فإنَّه من خلال إحساسه بالمسؤولية ومن خلال معرفته بالأمور المعقَّدة يتصدّى لدفع هذه المعضلات عن النَّاس، فيشعر النَّاس بالراحة والطمأنينة والسكينة.

((دليل فلوات)) والفلوات ـ في اللغة ـ الصحارى، وفي مثلها يحتاج إلى الدليل، ذلك الدليل الذي يدل الإنسان على الطريق، حيث الرمال تملأ الساحات كلّها، فلا يعرف الإنسان طريقه، والمقصود هنا من الفلوات فلوات الجهل وصحارى الضلال، فيُصبح هذا الإنسان دليلاً في مثل هذه الصحارى ينقذ النَّاس من المتاهات وينصب لهم العلامات ((يقول فَيُفهِم)) فهو إن تحدّث مع النَّاس تحدّث بوضوح وبما يفهمهم، وليس له همٌّ إلاّ أن يكونوا في وضوح، إذ ليس من العبقرية أن يتحدّث الإنسان بما لا يفهمه النَّاس، ولا أدل على ذلك من كلام اللّه في كتابه الكريـم، وقد أنزل بلسان عربي مبين، ووفق أصول ومحاورات أهل اللغة واللسان.

((ويسكت فيسلم)) فإنَّه يسكت عندما يكون النّاس في غير حاجة إلى الكلام أو عندما يؤدّي الكلام إلى خلق مشكلة له وللنَّاس، فإنَّ الصمت في كثير من الحالات يمثِّل قيمة فكرية للإنسان، لأنَّ الإنسان يصمت هنا ليفكّر، لأنَّه إن تكلّم بلا تفكير، فهو يفقد فرصة تعميق كلامه، ولذا قالوا: ((إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب)) وإنَّما عُدَّ السكوت من ذهب لجهتين، من جهة أنَّه قد يسكت لدفع ما يمثِّله الكلام من مشكلة له وللمجتمع، وقد يصمت الإنسان من جهة أخرى ليستجمع فكره ولكي يحرّكه في استخراج المعاني من خلال عمقها ومن خلال الحاجة إليها.

((وقد أخلص للّه فاستخلصه)) أخلص للّه في فكره وعقله وقلبه وإحساسه وعمله، ولما عرف اللّه منه الإخلاص استخلصه، بمعنى قربه واستخلصه لنفسه فجعله من أوليائه ((فهو من معادن دينه)) فأصبح يمثِّل قاعدة من قواعد الدين، باعتبار أنَّه يمثِّل المعدن، وهو الذي يتميّز بالخصائص الأساسية التي تغني الإنسان، وهذا هو شأن المعادن ((وأوتاد أرضه)) وهي التي تثبت الأرض كما في قوله تعالى: )وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً( فكما تحتاج الأرض أوتاداً مادية تثبتها حتّى لا تهتز ولا تنهار، فنحن بحاجة إلى أوتاد إنسانية تثبت العقول والنفوس وتثبت الحقّ في مواقعه حتّى لا يهتز أمام الشبهات وأمام التحدّيات ((قد ألزم نفسه العدل)) لأنَّه رأى في العدل رسالة اللّه إلى النَّاس وقد قال تعالى: )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاس بِالْقِسْطِ(([505]) والقسط العدل ((فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه)) لأنَّه لا بُدَّ للإنسان أن يعدل مع نفسه أولاً، فلا يظلم نفسه، ولا يسير بها نحو الهلاك )وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(([506])، وفي دعاء كميل يقول عليّ(ع): ((ظلمتُ نفسي وتجرأتُ بجهلي وسكنتُ إلى قديـم ذكرك لي ومنِّك عليّ)) فهذا هو أوّل عدله، وهو عدله مع نفسه، فاستقامت في الطريق المستقيم الذي يدفعها إلى النجاة. وهو إن عدل مع نفسه فإنَّه يفكّر من خلال ذلك أن يعدل مع النَّاس، لأنَّ الإنسان الذي يظلم نفسه ينطلق من خلال هوى نفسه، وهو إن منع النَّاس حقوقهم فهو يلبي رغبة نفسه الظالمة لنفسه أولاً، وإن نفى الهوى عن نفسه أصبح منفتحاً على الحقّ مستعصياً على الهوى، فيُعطي النَّاس حقوقهم.

((يصف الحقّ ويعمل به)) فهو ليس ممن يقول ولا يفعل، ويتحدّث عن الحقّ ويتنكر له، بل هو أولى بالحقّ، وقد تحدّث اللّه على لسان نبيّه(ص) )وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(([507])، يعني أدعو النَّاس إلى الإسلام, وأكون أنا أوّل المسلمين الذين يتحرّكون في خطِّ الإسلام في الطريق إلى اللّه ((لا يدع للخير غاية إلاَّ أمّها)) يعني قصدها ((ولا مظنة إلاَّ قصدها)) فأيّ شيء يظن به خيراً قصده، فهو في تفتيش دائم عن الخير.

((قد أمكن الكتاب من زمامه)) يعني جعل زمام نفسه ومصير حركته في الحياة وانطلاقته فيها من الكتاب الكريـم ((فهو قائده وإمامه)) فقد استنار بالقرآن واستنطقه وفعَّله في حياته، فكان إمامه الذي يهتدي بهداه وليس كالذي يفرض رأيه على الكتاب فيحرّفه عن مواضعه ((يحل حيث حلّ ثقله)) بمعنى أنَّه يحل أينما حل الكتاب، بأوامره ونواهيه، فيأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ((وينـزل حيث كان منـزله))([508])، فلا يُفارق الكتاب الكريـم في صغيرة ولا كبيرة... وللكلام بقية في الأسبوع القادم إن شاء اللّه. والحمـد للّـه ربّ العالـمين.


 

المحاضرة الرابعة والعشرون 11 رجب 1422ه‍ - 29/ أيلول /2001م

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (15)

خصال فريقين من الناس

- القسم الأخير -

 

 

* هذا هو درس علي(ع) أن تظلّ حركتنا باسم اللّه، وان يظلّ طريقنا على ملّة رسول اللّه(ص) وأن نشعر أن الفوز كلّ الفوز هو الالتزام بطاعة اللّه وطاعة رسوله *

 

 

 

 

مقتضيات الوثاقة .

تجنيد الدِّين للابتزاز .

المظاهر الزائفة .

الأئمَّة(ع) أعلام الدِّين .

الأئمَّة(ع) أحياءٌ ما بقي الزمن .

كشف الحساب .

عاشق اللّه .


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

نحن مع الفصل الأخير من خطبة الإمام عليّ(ع) التي قسّم فيها النَّاس إلى قسمين، ولا سيّما المتصدّين للعمل الإسلامي في المجتمع، الثقافي منه أو العام. وكان الحديث في ما تقدّم عن القسم الأول من النَّاس وهم المؤمنون.

ونتناول في حديثنا هذا القسم الثاني، فيقول: ((وآخر قد تسمّى عالماً وليس به))، أي أنَّ هناك فريقاً من النَّاس من يدّعي العلم والكفاءة في العمل الإسلامي الثقافي، وليس له نصيبٌ منه، سواء الذي يتزيى بزي العلم أو الذي يتّخذ لنفسه مركزاً في المواقع الثقافية التوجيهية، فهو يضع نفسه موضع العلماء أو المثقفين والمفكّرين الإسلاميين، وليس له حظ مما يدّعي، بل لو سبرنا أغواره لوجدناه كما يقول الإمام عليّ(ع): ((فاقتبس جهائل من جهَّال)) فهو عندما تعلّم فإنَّه لـم يأخذ علمه من العلماء الذين يملكون المعرفة الحقيقية أو يملكون قواعد العلم ومناهج التفكير، بل اتكأ على جهّال لا يملكون من الحقّ أيّة معرفة ولا يملكون من العلم أيّة قاعدة، فألبسوه جهلاً على جهل.

مقتضيات الوثاقة:

((وأضاليل من ضُلاّل)) أي اقتبس الأضاليل التي تبعده عن الحقّ من جماعات ضالة ومنحرفة، فأخذ يتحرّك من مواقع جهله وينطلق في خطّ الضلالة. ويكثر هذا الفريق من النَّاس في المجتمع عندما تنعدم الموازين وتضيع الأسس التي يقوم عليها التقييم، كما نراه اليوم في المحافل العلمية، سواء في الحوزات أو غيرها، ولعلّ أوضح مثال على ذلك ما نراه في ارتداء الزيّ الديني، بحيث يتيسَّر لأي إنسان أن يتزيى بهذا الزي ويفرض نفسه من خلال بعض الأوضاع الاجتماعية على الإسلام وأهله، وربَّما تُمهد له بعض الأجواء المتخلّفة الحركة في المجتمع وتعطيه الشرعية، لأنَّ المشكلة القائمة اليوم هي أنَّ الساحة الإسلامية بحكم بعض الظروف أخذت تتّسع للمتخلّفين الذين لا يملكون وعي الانفتاح على الجوانب الحضارية للإسلام وعلى مفاهيم الإسلام الأصيلة، بل ينطلقون من خلال الآفاق الضيقة ومن خلال التخلّف التاريخي حتى أنك، وتشعر أنَّ بعض النَّاس يعيشون في الماضي وكهوف التاريخ ولا يعرفون شيئاً من الحاضر، وبالتالي فهم لا يستطيعون أن ينفتحوا على المستقبل، وعندما يتصدّون للعمل الإسلامي، فإنَّهم يفرضون على الإسلام تخلّفهم ويحمّلونه آراءهم المتحجّرة، من خلال كلّ أوضاع الكهوف المظلمة. فالمشكلة في هذا النموذج الذي يقدّمه الإمام عليّ(ع) أنَّه نموذج الجهلة الذين يتزيون بزي العلم، من خلال بعض الظروف الاجتماعية التي جعلتهم في الواجهة أو جعلتهم في مواقع التبليغ والتعليم أو في مواقع التجربة، ومشكلتهم أنَّهم أخذوا جهلاً من جهّال وضلالاً من ضلاّل.

وكأنَّ الإمام عليّ(ع) يوحي إلينا أنَّ علينا أن لا نخضع للظروف الاجتماعية في ثقتنا بالأشخاص، لأنَّ بعضهم قد يملك الضخامة الشخصية من جهة بعض التعقيدات الاجتماعية، ولكنَّه قد لا يملك ما يؤهله لهذه المواقع، وقد لا يكون أهلاً للمسؤولية، فلا نُعطي الثقة إلاّ من خلال الخبرة والمعاشرة، ولا نعوّل على الشكل أو المظاهر الخارجية، أو بعض الامتيازات الاجتماعية التي تُفرض لبعض الوقت ولسببٍ ما، فلا تُعطي قيادك إلاَّ لمن خبرته وعجنته وعركته وعرفت مصادره وموارده، ولا سيّما أنَّك تسلّم لهذا الإنسان عقلك، فكيف تسلّمه لمن لا يملك مسؤولية العقل؟ أو تُذعن له في العمل وأنت لا تعرف مؤهلاته في هذا الاتجاه؟! بل كيف تُذعن له في تحديد تكليفك الشرعي وتحديد الإطار العقيدي الذي تؤمن به، وهو على هذا الحال من الجهل والضلال والانحراف؟! وإنّي أتساءل أمام هذه الفوضى التي نعيشها في هذه الأوضاع التي يمثّل الزي الديني فيها المدخل المناسب لكلّ ما يوجب الوثاقة، فيكون المتزيي بهذا الزي الديني موجباً للوثاقة به في العلم والمعرفة، وموجباً للوثاقة به في الدّين، وموجباً للوثاقة به في استلام الحقوق الشرعية وقبضها، وهو ليس أهلاً للوثاقة بأيّ مستوى من هذه المستويات. لأنَّه كما قال الإمام عليّ(ع)، ((قد تُسمّى عالماً)) وهو يقتبس الجهل من الجهّال، والأضاليل من الضالّين ومصادر الضلال، فكان ادعاؤه للعلم مصدر تمويه وتضليل للنَّاس.

تجنيد الدِّين للابتزاز:

((ونصب للنَّاس شركاً)) فهو قد اتخذ الدِّين والمعرفة وسيلةً للابتزاز، ووسيلة لاصطياد دين النَّاس وعقولهم وأموالهم، يصطادهم بشركه الذي صنعه ((من حبائل غرور)) فجعل من أفعاله ومظهره مصدر تغرير للنَّاس ليسهل عليه صيدهم، ((وقول زور)) وجعل كلماته الباطلة وقوله الزور وسيلةً لاجتذابهم واختطافهم، فيُداعب مشاعرهم وأحاسيسهم، ويتحدّث لهم بما يشتهون وبما يحبّون، فهو لا يحدّثهم بالحقيقة المرّة أو بما يجعلهم يقفون على مسؤولياتهم. ((قد حمل الكتاب على آرائه)) بمعنى أنَّه يُخضع القرآن لآرائه وتفكيره ولا يخضع تفكيره للقرآن، فهو إمام القرآن وليس القرآن إمامه، وهذا ما نلمسه في صورة الواقع، حيث ظهر عدد من الاتجاهات الفكرية في حقب مختلفة من التاريخ، وفي مقدّمتها المجسمة الذين قالوا إنَّ اللّه جسم، واستدلوا ببعض الآيات القرآنية الكريمة كقوله تعالى )فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه(([509]) وقوله تعالى )يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ(([510])، وقوله تعالى )بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ(([511])، فتنكروا لآيات القرآن الأخرى التي تضيء الفكرة الصحيحة، أو أنَّهم تنكروا لقواعد اللغة العربية وأسرار البلاغة، كلّ ذلك اتخذوا من القرآن الكريـم وسيلةً لتبرير أفكارهم وتسويقها، متناسين متغافلين قوله تعالى )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ(([512]) وقولـه )لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ(([513]) وعندئذٍ لا يُراد من اليد في قوله تعالى )يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ(([514]) اليد الجارحة، وهي اليد العضوية المادية، بل المراد هنا القوّة، كما نقول إنَّ لفلان يداً، بمعنى السطوة والقوّة. وكذلك في قوله تعالى )بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( فإنَّ المراد هنا العطاء، وهكذا في عدد من الموارد التي ابتلي القرآن الكريـم فيها، حيث فسّرته كلّ طائفة وكلّ فريق بما يشتهي، وبما يؤمن ويفكّر، ليكون القرآن متفقاً مع آرائها، لا أن تكون هي متفقة مع القرآن.

((وعطف الحقّ على أهوائه)) أي أخضع الحقّ لما يهوى وما يشتهي وما يريد أن يوظّفه لأهوائه وشهواته، كالكثيرين ممن يستشهدون بالقرآن لتغطية ظلمهم وطغيانهم، وما أكثر الطغاة الذين يحاولون أن يحرّفوا الكلام عن مواضعه، ويحرّفوا القرآن لإضلال النَّاس على حسب أهوائهم.

((يؤمّن النَّاس من العظائم)) بمعنى أنَّه يهوّن للنَّاس فعل المعاصي والانحراف عن الصراط المستقيم، فيؤمنهم من العذاب ومن سخط اللّه تعالى، فيشيع في حياتهم استسهال فعل المعصية والموبقات متذرعاً بقوله تعالى )إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً(([515]) وقوله تعالى )إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ(([516]) أو ما ورد من ((إنَّ حبَّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيئة))، أو ما أشبه ذلك، ما يجعل النَّاس يواجهون كلّ ما يقومون به من معاصي للّه مواجهة المطمئن، من دون أن يتعرّفوا على الشروط التي لا بُدَّ أن تُصاحب ذلك كلّه بالرجوع إلى اللّه والتوبة من الذنوب ونحو ذلك.

 ((ويهوّن كبير الجرائم)) وعندما يتلبس النَّاس بالكبائر التي تصل إلى حدِّ الجرائم في حقّ النَّاس، فإنَّه يهوّن عليهم ذلك، ويحاول أن يطمئنهم، بأنَّ اللّه لا يجازيهم على ذلك بعقابه.

المظاهر الزائفة:

((يقول أقف عند الشبهات)) فيظهر للنَّاس بمظهر الإنسان الورع الذي يقف عند الشبهة موقف المحتاط، الذي لا يقدم على ما يشتبه من الأمور التي تتردّد بين الحلال والحرام، بمعنى أنَّه لا يرتكب حتّى ما فيه شبهة الحرام فضلاً عن الحرام، ولكنَّه في واقعه على خلاف هذه الحال، فهو في الوقت الذي يدّعي فيه الوقوف عند الشبهة يقع فيها.

((وفيها وقع، واعتزل البِدَع وبينها اضطجع)) والبِدْعة كلّ ما يُنسب إلى الدِّين وليست من الدِّين في شيء، فهو يدّعي أنَّه يعتزل البِدَع ولكنَّه ينام بينها على حدِّ وصف أمير المؤمنين(ع)، وذلك كناية عن مدى اقتحامه البِدَع، بحيثُ أحاطت به من جميع الجهات.

((فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان)) فمظهره مظهر الإنسان، ولكن قلبه وعقله وأحاسيسه لا تنتمي إلى الإنسان، بل هي إلى الحيوان أقرب، من حيث العقل والقلب والأحاسيس فيما يفكّر ويعقل ويشتهي، ولذلك وصف سبحانه وتعالى هذا الفريق بقوله تعالى )إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً(([517]) لأنَّ الحيوان بطبعه يخضع للغرائز ولا ينفتح على الفكر، لأنَّه لا يملك حركية الفكر ولا ينفتح على الإبداع، لأنَّ تكوينه الداخلي لـم يؤسس على الانفتاح على الحقائق الكبرى، وما نحن بصدد الحديث عنه من هذا الفريق من النَّاس أشبه بالحيوان من هذه الجهة، لأنَّه لـم يفتح قلبه على اللّه، ولـم يفتح حياته على الصراط المستقيم، وقد قال تعالى )لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ(([518])، لأنَّ الأنعام بطبيعة تكوينها كذلك، على خلاف الإنسان الذي جمع بين العقل والغريزة، فأرسل اللّه لهم الأنبياء، ليكوّنوا لهم عقولاً احتياطية، لمساندة العقل في السير على الطريق المستقيم.

((لا يعرف باب الهدى فيتبعه)) فهو عندما سار في متاهات الضلال أضاع أبواب الهدى، ولذلك فهو يتخبّط في حياته، ولا يعرف باب الهدى فيتبعه، ((ولا باب العمى فيصدَّ عنه))، لأنَّـه أعمى القلب )فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(([519]) فيدخل أبواب العمى ويُخيل إليه أنَّها أبواب الهدى. ((فذلك ميت الأحياء)) لأنَّ الميت على قسمين؛ ميت الأموات وهو الذي فقد الحياة في جسده، وهناك ميت الأحياء، وهو الذي تدبّ الحياة في جسده، ولكنَّه فقد الحياة في عقله وقلبه وانفتاحه على حياة الهدى. ولذلك عندما قُرىء على الإمام الباقر(ع) قوله تعالى )وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعاً(([520]) قال: ((تأويلها الأعظم من نقلها من ضلال إلى هدى))، يعني أنَّك عندما تنقل الإنسان من ضلال إلى هدى فقد أحييته، لأنَّك أحييت عقله ليسير في رحاب الحقيقة، وأحييت قلبه لينفتح على اللّه، وأحييت حياته ليتحرّك في الخطّ المستقيم. ومن الطبيعي أنَّ من ينقل النَّاس من الهدى إلى الضلال فإنَّه ينقلهم من الحياة إلى الموت، وأيُّ موتٍ أعظم من أن يموت عقلك وقلبك وأن تموت حياتك؟! لأنَّها تعيش في قبور مظلمة لا تستطيع أن تخرج منها، وهذا أبلغ وصفٍ يوصف به الإنسان المنحرف ((فذلك ميت الأحياء)). ثُمَّ إنَّ الإمام وهو يتحدّث لمجتمعه آنذاك يتحدّث إلينا أيضاً، لأنَّه كان حاضراً في ذلك المجتمع بوجوده المبارك، وهو حاضر في مجتمعنا بفكره وبعلمه وبكلّ روحانيته.

((فأين تذهبون)) بمعنى إلى أيّ المتاهات أنتم ذاهبون ((وأنى تؤفكون)) يعني تصرفون عن الحقّ ((والأعلام قائمة)) والمراد بالأعلام هنا الرموز، يعني الشيء الذي يظهر ويدلك على الطريق، ولذلك تُسمّى الجبال أعلاماً، لأنَّها تشير لك وتكون علامة ((والآيات واضحة)) أي آيات الهدى التي بيّنها اللّه سبحانه وتعالى في ما أرسله من رسل، أو ما أعقبهم من الأئمَّة والأولياء ((والمنار منصوبة)) فيما يدل على الطريق ((فأين يُتاه بكم)) فإلى أين يذهب بكم هؤلاء المضلّون الذين ينحرفون بكم عن الخطّ المستقيم ((بل كيف تعمهون)) والعمه هو الحيرة والتردّد.

الأئمَّة(ع) أعلام الدِّين:

((وبينكم عترةُ نبيّكم)) وكان الذي يمثِّل العترة آنذاك عليٌّ وولداه الحسن والحسين o وأعقبهم الأئمَّة المعصومون من ذرية الحسين(ع) ((وهم أزمة الحقّ وأعلام الدِّين)) فهم الذين يمسكون زمام الحقّ وينظّمون للنَّاس خطَّ سيرهم تماماً كزمام الناقة، تشبيهاً بالإنسان الذي يمسك زمام دابته خشية أن تذهب أو تتجه به في الاتجاه غير الصحيح. كذلك الأمر بالنسبة لأهل بيت النبيّ(ع) فإنَّهم هم الذين يمسكون الزمام لئلا يضيع النَّاس، فيوجهونهم نحو الحقّ والطريق المستقيم، ويجنبونهم طريق الضلال والانحراف. ((وألسنة الصدق)) وهم ألسنة الصدق، لأنَّهم لا يقولون إلاَّ صدقاً، ولا يقولون إلاَّ حقّاً. فينفتح النَّاس على هذا الصدق، فيتحرّكون في ألسنتهم، ليكرِّسوا هذا الصدق في كلِّ كلماتهم، وفي كلِّ الأجيال ((فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن)) أي أنزلوا أهل البيت(ع)  بأحسن منازل القرآن، ومن منازل القرآن أن تعظمه وأن تتلوه وأن تتدبّره وأن تعمل به، وكذلك أهل البيت(ع) فهم عدل القرآن. وقد قال النبيّ(ص): ((إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب اللّه حبلٌ ممدود من السَّماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي))([521])، فكما يجب علينا أن نعظِّم الكتاب وأن نقرأه ونتدبره ونعمل به، علينا أيضاً أن نعظِّم أهل البيت(ع) بما عظّمهم اللّه به من إمامتهم وعصمتهم وطهارتهم، وأن نقرأ تراثهم ونتدبره ونعمل به، لأنَّهم لا يقولون إلاَّ ما قاله رسول اللّه(ص)، ولا ينطقون إلاَّ من خلال القرآن ((ورِدوهم ورود الهيم العطاش)) وهنا تشبيه، بمعنى أنَّه كما تردّ الإبل العطشى الماء بتلهف وباندفاع شديد، فليكن حالكم في التلهف والاندفاع إلى أهل البيت(ع) كما هي حال الإبل العطاش.

((أيُّها النَّاس خذوها عن خاتـم النبيّين(ص))) بمعنى خذوا هذه الكلمة التي تمثِّل قيمة أهل البيت(ع) والنبيّ(ص) وهو الذي لا ينطق عن الهوى )وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى(([522])، لأنَّ النبيّ عندما تحدّث عن أهل بيته، فإنَّما تحدّث عنهم لأنَّهم موضع الرسالة وموضع الحقّ ولأنَّهم كسفينة نوح كما قال: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلَّف عنها غرق وهوى)).

الأئمَّة(ع) أحياءٌ ما بقي الزمن:

((إنه يموت من مات منَّا وليس بميت)) فهم وإن كانوا لا يخلدون في الحياة جسداً كما قال تعالى: )وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ(([523]) )إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(([524]) فإذا ماتت أجسادهم فهم باقون في روحانيتهم وفي عقولهم وتراثهم، وفي أرواحهم الطاهرة التي تتحرّك في مدى الزمن عند اللّه، وما ركّزوه لنا من السنّة، وما أوضحوه لنا من المفاهيم الإسلامية، وما تحرّكوا به من خلال التطبيق في الواقع، فهم أحياء كما في قوله تعالى )وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(([525])، فلم هناك حياةٌ عند اللّه يعيشون فيها رضوان اللّه وفي رحاب اللّه، ولهم هناك حياة تبقى في حياة النَّاس، من أجل أن تُعطيهم كلّ ما يحقِّق لهم الحياة الروحيّة والعقليّة والفكريّة.

((ويبلى من بلي منَّا وليس ببالٍ)) ويبلى بمعنى يفنى، فهو إن بُلي فإنَّه لا كما تبلى النَّاس، لأنَّهم حاضرون في حياتنا على مدى مئات السنين، وها نحن نشعر عندما يذكر رسول اللّه(ص) أنَّه الحاضر الأكبر في حياتنا كلّها، فلا نشعر بأنَّ النبيّ(ص) ميت، بل نشعر بحضوره أكثر من أي حضور آخر؛ نذكره في صلاتنا، ونذكره في كلِّ مواقع حياتنا كما لو كان حاضراً معنا، وكذلك عندما نعيش ذكرى أهل البيت(ع)، فإنَّنا لا نشعر أنَّ عليّاً(ع) وأولاده من أهل بيته(ع) غائبون، بل نحسّ بحضورهم كأقوى ما يكون الحضور، لأنَّهم حاضرون بيننا في علمهم وفي روحانيتهم، وفي الخطّ المستقيم، الذي ساروا عليه وهدونا إليه، وفي كلّ المعاني التي ترتفع بمستوى الإسلام، ومستوى الإنسان في خطّ الإسلام.

((فلا تقولوا بما لا تعرفون)) أي لا تتكلّموا الكلام الذي لا تملكون قواعده ولا تملكون علمه، ((فإنَّ أكثر الحقّ فيما تنكرون))، فأنتم قد تنكرون الكثير من الحقّ، لأنَّكم تجهلونه، أو لأنَّكم ضللتم عنه، ولذلك عليكم أن تبحثوا عن الحقّ من مصدر الحقّ وممن يملك الحقّ.

((واعـذروا من لا حجّة لكم عليه وهو أنا)) فلا حجّـة لكم عليّ ـ والكلام للإمام(ع) ـ لأنَّ اللّه هو الذي أوصى لنبيّه أن يجعلني إماماً وخليفة من بعده )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاس(([526])، وقال(ص): ((من كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار))([527]).

كشف الحساب:

((ألـم أعمل فيكم بالثقل الأكبر)) وهذه الكلمات تدل على عمق ما كان يشعر به الإمام عليّ(ع) من الألـم، لأنَّه بمقدار ما كان يملك من العلم والأفق الواسع بما لـم يملكه أحد بعد رسول اللّه(ص)، فإنَّه يشعر بالمرارة وهو يُقرن إلى هذا أو ذاك، ولذا كان يقول: ((فيا للّه وللشورى، متى اعترض فيّ الريب مع الأول منهم حتّى صرتُ أقرن إلى هذه النظائر)). إنَّه يتكلّم بألـم، وهو الذي أعطى كلّ هذا العطاء وترك كلّ هذا الأثر ((ألـم أعمل فيكم بالثقل الأكبر)) وهو القرآن، فقد قدّمت إليكم القرآن تلاوةً كما كان رسول اللّه(ص) يتلوه عليكم، وتفسيراً كما كان(ص) يفسِّره لكم، ولهذا كان القرآن الكتاب الصامت وكنت ـ والكلام لأمير المؤمنين ـ الكتاب الناطق، أنطق عن القرآن. فإنّي ما أحللت إلاَّ ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلاَّ ما حرّم القرآن، كما قال رسول اللّه(ص) في آخر حياته: ((يا أيُّها النَّاس، إنَّكم لا تمسّكون عليّ بشيء، إنّي ما حلّلت إلاَّ ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلاَّ ما حرّم القرآن))([528]).

((وأترك فيكم الثقل الأصغر)) وهما الحسن والحسين o، وقد قال رسول اللّه(ص) ((إنّي تاركٌ فيكم الثقلين)) ويريد بهما القرآن والعترة ((وقد ركزت فيكم راية الإيمان)) أي أنا الذي رفعت راية الإيمان في مجتمعاتكم، فأعطيتكم الإيمان بكلّ حقائقه، ولذلك عندما ارتفعت راية الإيمان فإنما ارتفعت من خلال جهدي ونشاطي. ((ووقفتكم على حدود الحلال والحرام)) فقد أخذتـم عني معرفة الحلال والحرام حتّى لا يختلط عليكم الحلال والحرام بالشبهات، ((وألبستكم العافية من عدلي)) فنهجت بكم نهج العدل، وأعطيتكم العافية في حقوقكم، والعافية في كلّ علاقاتكم وأوضاعكم، عندما نشرت العدل بينكم. وكأنَّه أراد أن يقول إنَّ العدل هو الصحة وإنَّ الظلم هو المرض.

 ((وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي)) وفرشت لكم فراش المعروف في كلّ حياتكم الخاصّة والعامّة، فعرّفتكم المعروف الذي أراد اللّه لكم أن تعرفوه من خلال قولي فيما أوضحته لكم من حدود المعروف، ومن خلال فعلي فيما جسّدته لكم من المعروف، في سلوكي وفي سيرتي ونشاطي، حتّى أصبحتم تنامون على فراش المعروف، من خلال هذا الفراش الثقافي والروحي الذي يملأ كلّ حياتكم بما يرضي اللّه وبما يحبّه اللّه.

((وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي)) فعشت بينكم مع الكبير والصغير على السواء، فكنتُ كواحد منكم لا أميّز نفسي عن أيّ واحدٍ منكم بأي موقع ((ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفةٍ وسداد))، فادرسوا كلّ سيرتي وأنا بينكم: كيف كانت كرائم الأخلاق تفيض من هذه النفس التي عاشت للّه والتي جاهدت في سبيل اللّه والتي عرفت اللّه كما لـم يعرفه أحد بعد رسول اللّه(ص)؟ وكيف أحبّت اللّه ورسوله كما لـم يحبّها أحد؟ فأية كريمة لـم تنطلق في حياة عليّ(ع)؟

((فلا تستعملوا الرأي فيما لا يُدرك قعره البصر، ولا تتغلغل إليه الفكر))([529]) فهناك أشياء عميقة وأنتم لا تستطيعون أن تدركوا لها عمقاً، لأنَّ ما تملكون من وعي ومن معرفة لا تستطيعون أن تنفذوا به إلى عمق هذه الأشياء، وقوله: ((لا يدرك قعره البصر)) يشير إلى أنَّ ما لا يدرك لا يستعمل فيه الرأي، بل يرجع في معرفته إلى أهله.

((حتّى يظنّ الظان أنَّ الدُّنيا معقولة على بني أمية)) وهنا ينتقل الإمام(ع) إلى مقطع آخر، ويشير ابن أبي الحديد إلى أنَّ هذه الخطبة طويلة، ولكن الشريف الرضي هو الذي اختصرها. ويريد بقوله معقولة أي محبوسة عليهم، وأنَّهم هم الذين يملكونها، ويملكون كلّ الفرص فيها وكلّ مصادرها ومواردها ((تمنحهم درها وتوردهم صفوها)) كنايةً عمّا يحصلون عليه من الشّهوات واللذات والفرص الكثيرة ((ولا يرفع عن هذه الأمّة سوطها ولا سيفها)) فيظلّ سوطها وسيفها، أي سوط هذه الدُّنيا وسيفها، لا يُرفع عن هذه الأمَّة من خلال هؤلاء الذين يحكمون بالسوط وبالسيف ((وكذب الظان بذلك)) يعني فمن يظنّ أنَّ الأمر كذلك فقد كذب، ((بل هي مجّة من لذيذ العيش)) والمجّة ما يتذوقه الإنسان ثُمَّ يقذفه من فمه، في إشارة إلى أنَّ هذه اللذات وهذا الحكم سرعان ما يقذفه بنو أمية كما هو حال المجّة، لأنَّ سطوتهم مجرّد فرصة وحالة طارئة، وقد قذفت بهم الدُّنيا بعد ذلك ((يتطعمونها برهة)) مدّة من الزمن ((ثُمَّ يلفظونها جملة))([530])، وقد لفظوها جملة عندما دارت الدوائر وانتهت بهم إلى البوار والنسيان.

عاشق اللّه:

أيُّها الأحبة، هذا هو حديث عليّ(ع) وهو حديث الصفاء والنقاء، حديث الروح وحديث العقل. ونحن نقترب من ذكرى مولد الإمام عليّ(ع)، هذا المولد المميّز الذي أكرمه اللّه تعالى به، إذ جاءت أمّه وقد أخذها الطلق فدخلت الكعبة فولدت عليّاً(ع)، لتكون كلّ حياته كعبة، فقد انفتحت عينه في بيت اللّه، وعاش مع رسول اللّه(ص) عندما حوَّل الساحة كلّها إلى بيتٍ من بيوت اللّه، يعبدانه بالرسالة، ويعبدانه بالجهاد، ويعبدانه بالعدل، ويعبدانه بانفتاح النَّاس على اللّه وعلى الصراط المستقيم، وكما قال تعالى )وَمِنْ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّه وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(([531]) فكان عاشق اللّه، عاش معه عشق الحبيب إلى حبيبه، وهو القائل في دعاء كميل: ((فهبني يا إلهي صبرت على عذابك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك، وكيف أسكن في النَّار ورجائي عفوك)) وهكذا عاش عليّ(ع)، الذي ولد في الكعبة، لتكون خاتمة حياته في بيتٍ آخر من بيوت اللّه، وهو يقول: ((بسم اللّه وعلى ملّة رسول اللّه، فزت وربُّ الكعبة)).

هذا هو درس عليّ(ع)، أن تظلّ حركتنا ((بسم اللّه))، وأن يظلّ طريقنا ((على ملّة رسول اللّه)) وأن نشعر أنَّ الفوز كلّ الفوز هو بالالتزام بطاعة اللّه وبتعاليمه، وبطاعة رسوله(ص)، )وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ([532] السَّلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حياً. والحمـــد للّــه ربّ العالمـين.


 

المحاضرة الخامسة والعشرون 18 رجب 1422ه‍ - 6/ تشرين الأول/2001م

 

 

 

في ذكرى وفاة الإمام الكاظم(ع)

إضاءات في سيرته وكلماته ووصاياه

 

 

* إنّ أهل البيت(ع) يمثّلون القمة في كلّ شيء في فهم حجج اللّه على عباده، وهم النور الذي نستضيء به، وهم الخط المستقيم الذي يهدينا إلى اللّه *

 

 

حدود فدك.

برنامج الإمام الكاظم(ع) .

تراث الإمام(ع) .

بواكير حياته(ع) .

أستاذية متوارثة.

علامات الإمامة.

كلمات مضيئة.

تقسيم الوقت.

أمُّ الوصايا.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

نلتقي بعد أيام بذكرى وفاة الإمام السابع من أئمة أهل البيت(ع) الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، الذي يمثِّل في نشاطه الإسلامي الحركي أكثر من بُعد، فنُلاحظ في نشاطه الثقافي التربوي أنَّه كان يعيش قضايا المسلمين الثقافية حيثُ كان يدور جدل فكري يتصل بالعقيدة، كما في مسألة التوحيد، أو في مسألة الإمامة، أو في ما يتصل بأصول الفقه في قضية القياس، أو في القضايا التي تتصل بالقرآن والموقف منه. ونُلاحظ في جانب آخر أنَّه كان يمثِّل الموقف المتحدّي للحاكمين آنذاك، فكان يُطلق الكلمة (القوية)، ويتحدّث عن اللاشرعية في حكمهم. وقد نقل أنَّه(ع) دخل على المهدي العباسي، وكان المهدي قد أعلن ردّ المظالـم إلى أهلها، فرآه الإمام(ع) مشغولاً بذلك، فبادره الإمام(ع) قائلاً ((ما بال مظلمتنا لا تردّ، فتساءل المهدي قائلاً وما ذاك يا أبا الحسن؟ فقال(ع) فدك، فقال له حدّها لي؟)).

حدود فدك:

وكان المهدي ينتظر من الإمام(ع) أن يتحدّث له عن حدودها الجغرافية، من خلال أنَّها مزرعة من المزارع أو ما أشبه ذلك، وكان من السهل على المهدي أن يردّها إلى الإمام(ع)، ولكنَّ الإمام(ع) أرادها بحدودها، فقال له ((حدّ منها جبل أحد، وحدّ منها عريش مصر، وحدّ منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل)). وعندما تحدّث الإمام(ع) عن حدود فدك بهذه الطريقة فإنَّما عنى بذلك حدود الدولة الإسلامية، وأنَّ فدك لا تمثِّل مزرعة، وإنَّما تمثِّل الشرعية الإسلامية في الحكم. وقد نقل التاريخ أنَّه(ع) تحدّث في أكثر من حديث مع هارون الرشيد يتحدّى به سلطانه. وأمّا ما ينقله بعض المؤرخين من أنَّه كان(ع) يتواضع أو يتنازل له، فهو كلامٌ غير صحيح. وقد تحدّثنا عن ذلك في كتابنا ((تأمّلات في آفاق الإمام الكاظم(ع))).

برنامج الإمام الكاظم(ع) السياسي:

وكان الإمام(ع) يؤيد الحركات التي كانت تثور في وجه العباسيين، كما في موقفه من ثورة الحسين بن علي بن الحسن المثنى (صاحب فخ)، غير أنَّ تأييده لهذه الثورات والقائمين عليها، كان يتمّ بطريقة مرنة وفاعلة في آنٍ واحد، وذلك بسبب الظروف التي كانت قائمة آنذاك، والتي لـم تكن تُساعد على نجاح هذه الثورات عسكرياً. ولذلك كان الإمام(ع) يدعم الروح الجهادية التي تُطلـق هذه الثورات وتغذيها بما يضمن لها البقاء والاستمرار، وإن لـم تكن حاسمة على المستوى السياسي والعسكري. ولذا يُقال إنَّه(ع) ودّع الحسين صاحب فخ وهو يبكي وقال له ((إنَّك مقتولٌ لا محالة، ولكن أحدّ الضراب، فإنَّ القوم وإن أظهروا الإسلام ولكنَّهم يُبطنون النفاق)). وهكذا نُلاحظ أنَّ الإمام(ع) كان يثقف شيعته على مقاطعة الظالـم، ولكنَّه كان يشجّع أحياناً بعض أصحابه على الدخول في الحكم من أجل أن يقضوا حوائج النَّاس ويدفعوا عنهم الظلم. وقد ورد عنه أنَّه قال ((كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان)).

وكان الإمام(ع) يمثِّل أنقى وأطهر سيرة، في حُسن الخلق، وكَظمِ الغيظ، والعفو عن النَّاس، وفي الإحسان إليهم، وفي جوده وكرمه، حتّى عرفت صرار الكاظم، وكان يُقال ((من جاءته صرار الكاظم موسى بن جعفر فلا يفتقر)). وإذا كان هو(ع) كذلك على المستوى الاجتماعي، فإنَّه على مستوى علاقته باللّه تعالى أرفع وأعظم، فلم تشغله حياته مع النَّاس في كلّ ما ذكرناه عن أن يشغل حياته كلّها بالعبادة للّه تعالى، في حلِّه وترحاله، في بيته وسجنه، وفي ليله ونهاره...

تراث الإمام(ع) :

وعندما نطلّ على تراث الإمام الكاظم(ع)، فإنَّنـا نرى تراثـه غنياً، ما يوحي أنَّ الإمام(ع) قد ملأ المرحلة التي عاشها بالإسلام في كلّ حقائقه، في أصوله وفروعه، وعاش قضايا المسلمين ومشاكلهم. وبلغ التحدّي الذي أطلقه الإمام(ع) في وجه الخلفاء العباسيين ذروته، إلى درجة أصبحوا يخافون من هذا الامتداد الروحي، الذي كان يمثِّل موقع الإمام في نفوس المسلمين. وهو ما دعا هارون الرشيد إلى التوجس من الإمام(ع)، فيما انتهى به إلى السجن والحبس، بل وانتهى به خوفه وتوجسه منه إلى أن ينقله من حبسٍ إلى حبس ومن سجنٍ إلى آخر، في عملية ضغطٍ متواصلة مستمرة، فيما كان يأمر به هارون السجّانين من ممارسة القسوة مع الإمام(ع) وتعذيبه. والذي بلغ أشدّه ـ كما ينقل التاريخ ـ في سجن السندي بن شاهـك، والذي انتهت في طواميـره المظلمة حياة الإمام(ع) شهيداً.

وقد تحدّثنا في هذه (الندوة) عن الكثير من حياة الإمام الكاظم(ع) وكلماته المأثورة عنه، في أحاديثنا السابقة، فيما نشر في كتاب (الندوة).

بواكير حياته(ع) :

وفي هذا اللقاء، نحاول أن نتحدّث عمّا ذكره المؤرخون عن الإمام(ع) في طفولته وكيف كانت طفولةً مليئةً بالعلم، وتحديداً في القضايا المعقّدة، مما نقله الرّواة. ونُحاول أن نلقي الضوء على بعض هذه الرِّوايات التي رويت عن الذين عاشوا معه تلك المرحلة.

فأبو حنيفة الذي كان يتردّد على الإمام الصادق(ع) لتتلمذه عليه، وهو القائل ((لولا السنتان لهلك النعمان)) يعني بذلك نفسه ((رأيت موسى بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه، فقلت أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك)). ولـم تكن يومذاك مواضع كما هو الحال اليوم لقضاء الحاجة، من المرافق الصحية وبيوت الخلاء العامّة، ولذلك أراد أبو حنيفة أن يمتحن الإمام(ع) لمعرفة ما إذا كان على جانبٍ كبيرٍ من المعرفة الشرعية، وكأنَّه يريد أن يقول له ما هي الشروط الشرعية، سواء الإلزامية أو الراجحة عندما يريد الإنسان أن يقضي حاجته في بلدكم. وقد يكون هذا السؤال ساذجاً ولا أهمية له، غير أنَّ هناك مقصداً وغاية لأبي حنيفة أراد من خلالها أن يتعرّف على ولد أستاذه الأعظم وهو الإمام الصادق(ع). يقول أبو حنيفة ((فنظر إليّ ثُمَّ قال يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار)) ويعني الجيران المحيطين بالمكان، ((ويتجنّب شطوط الأنهار)) لأنَّها محال جلوس النَّاس وتردّدهم ومما يستقون منه، ((ومساقط الثمار)) يعني تحت الأشجار، باعتبار أنَّها محل سقوط الأثمار، فيُوجب ذلك تلوثها بالنجاسات. ((وأفنية الدور)) والفناء ساحة الدار أمامه أو ما امتد من جوانبه، ((والطرق النافذة)) التي يسير فيها النَّاس فيُوجب ذلك تلويثهم وإلحاق الأذى بهم، ((والمساجد، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ويرفع ثوبه ويضع بعد ذلك حيث شاء)). ((قال أبو حنيفة فلمّا سمعت هذا القول منه نبل في عيني وعظم في قلبي)). فقد اختصر الأحكام الشرعية التي تتعلّق بالتخلي ببضع كلمات، ((فقلت له جعلت فداك)) وهذا خطاب من موقع التعظيم، وقد جاء بعد معرفة منـزلته ومكانته وهو في هذه السن. ((ممن المعصية؟))، وكأنَّ أبا حنيفة أراد أن يسترسل في التعرّف على الإمام، فكان سؤاله فيما تقدّم سؤالاً عن أمور الفقه، وهو هنا ينتقل إلى عالـم العقيدة، فأراد أن يتعرّف على مدى إطلاعه في هذا العالـم، وقد طمع فيه وفي مدى رجاحة عقله.

أستاذية متوارثة:

((فنظر إليّ ثُمَّ قال اجلس حتّى أخبرك)) وهنا اتخذ الإمام لنفسه موقع الأستاذ أمام التلميذ، ((فجلست فقال إنَّ المعصية لا بُدَّ أن تكون من العبد أو من ربِّه أو منهما جميعاً)) فلا تخرج المسألة إمّا أن تكون مفروضة عليه من ربِّه، وإمّا أن تكون مشتركة بينه وبين ربِّه، ((فإن كانت من اللّه فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لـم يفعله)) فلا يمكن أن تكون من اللّه وهو القوي، ثُمَّ يؤاخذ الإنسان بشيء فعله هو، وليس للإنسان اختيار فيه، لأنَّ الإنسان ضعيف لا يقدر على مقاومة ذلك. فكيف يقهره اللّه على فعلٍ ثُمَّ يُؤاخذه عليه ويُعاقبه على فعله، واللّه العادل! أليس هذا من الظلم، وهو المنـزَّه عنه سبحانه وتعالى، ((وإن كانت منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف)) فإذا كانت المعصية من اللّه ومن العبد، فإنَّ اللّه شريك العبد في إنتاج هذه المعصية، وعندما يكون أحد الشريكين قوياً والآخر ضعيفاً، فليس من الإنصاف أن يؤاخذ القوي الضعيف، وليس للضعيف إلاّ النصيب الأضعف، ((وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه توجَّه النهي وله حقّ الثواب والعقاب ووجبت الجنّة والنَّار)) لأنَّه يتحمّل كلّ المسؤولية، عندها تكون المعصية من العبد وحده وليس للّه سبحانه وتعالى دخلٌ فيها، لا على نحو الاستقلال ولا على نحو المشاركة. ((فقلت - والكلام لأبي حنيفة - ذرية بعضها من بعض)).

وعن عيسى بن شلقان قال ((دخلت على أبي عبد اللّه وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطّاب)) وكان أبو الخطّاب من أصحاب الإمام الصادق(ع)، ثُمَّ تمرّد عليه وانحرف عنه، وأصبح يكذب على الإمام ويروي الرِّوايات غير الصحيحة عنه، وهذه طريقة دأب عليها الكذبة على الأئمَّة(ع) من أمثال أبي الخطّاب المذكور وسعيد بن المغيرة، الذي كان يدسّ في كتب أصحاب الأئمَّة(ع) حتّى وصل ما دسه من روايات باطلة إلى أربعة آلاف رواية، ولذلك نرى روايات الغلو وما شابه ذلك تنشر في بعض الكتب، بحيث أخذ بعض النَّاس يرويها دونما تمحيص، في وقتٍ كان فيه أصحاب الأئمَّة(ع) يتوقَّون ذلك، ولا يعتمدون الكتب إلاَّ مع السماع، لئلا تكون هذه الرِّوايات مدخولة أو أنَّها أضيفت إلى كتب الرّواة من أصحاب الأئمَّة(ع).


وسؤال الراوي عيسى بن شلقان عن أبي الخطّاب، لأنَّه كان من أصحاب الإمام الصادق(ع)، وكان مستقيماً، ثُمَّ أخذ الإمام(ع) يحذّر النَّاس منه، فصار ذلك موجباً لأسئلة البعض من النَّاس عن سرّ هذا التحذير، وكان عيسى بن شلقان أحد هؤلاء، فدخل على الإمام الصادق(ع) يسأله عن أمره، فقال له(ع) ((يا عيسى، ما منعك أن تلقى ابني فتسأله عن جميع ما تريد؟)) قال عيسى ((فذهبت إلى العبد الصالح(ع))) والعبد الصالح من كُنى الإمام الكاظم(ع)، وهي من أرقى كناه، إذ كان وصف العبد الصالح من ألقاب النبيّ إبراهيم(ع)، كما في قوله تعالى )وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(([533]) لأنَّ كلمة العبد تعني كلّ معاني العبودية في كلّ عمقها وامتدادها في وجدان الإنسان، وفي حياته، وكلمة الصالح تعني كلّ خطوط الصلاح في الفكر، لأنَّ من الفكر ما هو صالح ومنه هو ما ليس كذلك. ولذلك فإنَّ هذه الكلمة تجمع كلّ عناصر الإنسان القريب من اللّه من موقع العبودية والطاعة والعبودية والانصياع والاستسلام له. ((فذهبت إلى العبد الصالح(ع) وهو قاعد في الكتّاب وعلى شفتيه أثر المداد، فقال لي مبتدئاً يا عيسى، إنَّ اللّه تبارك وتعالى أخذ ميثاق النبيّين على النبوة فلم يتحوّلوا عنها أبداً)) وهذا دليل عصمة الأنبياء، ((وأخذ ميثاق الوصيين على الوصية فلم يتحوّلوا عنها أبداً)) وهذا أيضاً دليل عصمة الأوصياء، ((وأعار قوماً الإيمان زماناً ثُمَّ سلبهم إياه))، ولا يقصد بإعارتهم إجبارهم عليه، وإنَّما يعني أنَّه لـم يعصمهم، بل خلق فيهم من المكوِّنات الإنسانية ما يدعوهم إلى فعل الخير وما يدعوهم إلى الشر، فهم إلى الإيمان تارةً وإلى الكفر تارةً أخرى. ((وإنَّ أبا الخطّاب ممن أُعير الإيمان زماناً ثُمَّ سلبه اللّه تعالى عنه)) وهو سرّ قربه من الإمام الصادق(ع) أولاً، ثُمَّ طرده من قبله لاحقاً. لأنَّه كان من المستقيمين أولاً ثُمَّ انحرف فاستوجب ذلك طرده والتحذير منه.

يقول عيسى بن شلقان ((فضممته إليّ وقبّلت بين عينيه، ثُمَّ قلت بأبي أنت وأمي )ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ([534]، ثُمَّ رجعت إلى أبي عبد اللّه(ع) فقال ما صنعت يا عيسى؟ فقلت له بأبي أنت وأمي، أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما أردت أن أسأله عنه، فعلمت عند ذلك أنَّه صاحب هذا الأمر)) يعني خليفتك ومن بعدك، ((فقال يا عيسى)) وهذه شهادة عظيمة من الإمام الصادق(ع) ((إنَّ ابني هذا الذي رأيت لو سألته عمّا بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم، ثُمَّ أخرجه ذلك اليوم من الكتّاب فعلمت ذلك اليوم أنَّه صاحب الأمر)). وهذه الرِّواية في قرب الإسناد، وفيها أنَّ الأمر ـ أي الإمامة ـ كان واضحاً جلياً في الإمام موسى الكاظم(ع)، وذلك لجهة ظهور علمه على نحو كان الإمام الصادق(ع) يحيل السائلين إليه في الأمور الشرعية والمسائل العقيدية، وكان يومذاك صغيراً. وإذا كان ثمة تساؤل في هذه الرِّواية عن سبب وجود الإمام الكاظم(ع) في مكان تعليم الكتابة ((الكتّاب))، فإنَّه قد يكون لجهة الظروف الاجتماعية التي تفرض على الآباء أن يرسلوا أبناءهم إلى الكتّاب وإن لـم يكونوا محتاجين إليها، ولعلّ هذا هو التفسير الطبيعي لذلك مع عدم حاجة الإمام الكاظم(ع)، وهو يجيب على أسئلة السائلين وفي أمورٍ ومسائل معقَّدة.

وعن الإمام الرضا(ع) ((أنَّ موسى بن جعفر(ع) تكلّم يوماً بين يدي أبيه فأحسن)) أي تكلّم الإمام الكاظم(ع) بمحضر ومجلس أبيه(ع) وربَّما كان في سنّ الطفولة أو بداية الشباب فأحسن في حديثه وكلامه، بحيث أعجب الإمام بكلامه ((فقال له يا بني، الحمد للّه الذي جعلك خلفاً من الآباء وسروراً من الأبناء وعوضاً عن الأصدقاء)) فهو الخلف المناسب له، وهو أيضاً يملأ حياته سروراً، بما عليه من العلم والمعرفة الذي تسرُّ الآباء في أبنائهم، وفوق ذلك فإنَّه عوضٌ عن الأصدقاء، ما يجعله الصديق لأبيه، لما عليه من رجاحة العقل وكماله، ذلك العقل الكامل والمعصوم.

علامات الإمامة:

وفي (أخبار الرضا) للصدوق أنَّه روى الوشاء عن عليّ بن الحسين ـ وهو راوٍ وليس المراد به الإمام زين العابدين(ع) ـ عن صفوان الجمّال أنَّه قال ((سألت أبا عبد اللّه عن صاحب هذا الأمر)) أي الخليفة والإمام من بعده، ((قال صاحب الأمر هذا لا يلهو ولا يلعب)) وكان أبو الحسن موسى الكاظم(ع) صغير السن، وكأنَّ الإمام الصادق(ع) يريد أن يقول إنَّ طفولته ليست طفولة لاهية لاعبة، بل إنَّ طفولته طفولة جادة ومنفتحة على اللّه حتّى في حالة اللعب، ((وأقبل أبو الحسن وهو صغيرٌ ومعه بهمة عناق مكية)) والبهمة في اللغة الواحد من أولاد الضأن، والعناق الأنثى من أولاد المعزى ما لـم يتمّ لها سنة من عمرها، ((وهو يقول لها اسجدي لربّك)) فهو لا يلعب ولا يلهو، بل إنَّه كان يُخاطبها اسجدي لربّـك، لأنَّه كما قال تعالى )وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ(([535]) فكأنَّما يريد الإيحاء لمن يسمعه أنَّ من واجب، أو من مسؤولية كلّ المخلوقات أن تسجد للّه سبحانه وتعالى، ((فأخذه أبو عبد اللّه، وضمّه إليه وقال بأبي أنت وأمي، أنت من لا يلهو ولا يلعب)) فأي لهو ولعب هذا الذي يُمارسه الإنسان في هذه السن، وهو يُشير إلى أعظم الحقائق الكونية، مثل العبودية والخالقية...

وفي رواية أخرى أشارت إلى المفاد نفسه، إذ قال له شخص وقد سمع الإمام(ع) يقول ((اسجدي لربّك)) قل لها أن تموت، فقال(ع) ((ربّي الذي يحيي ويميت، وأمّا الأمر بالسجود فهذا مما أملكه ولا أملك الحياة والموت، لأنَّهما بيد اللّه سبحانه وتعالى)).

وفي رواية أنَّ الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) قال ((دخلت ذات يوم من المكتب ومعي لوحي - يعني اللوح الذي يقرأ به ويكتب عليه – قال: فأجلسني أبي بين يديه وقال يا بني اكتب تنح عن القبيح ولا تردّه، ثُمَّ قال اجزه، فقلت ومن أوليته حسناً فـزده)) أي لا تتنح عن القبيح وحسب، بل زد من أعطيته الخير خيراً على خير ((ثُمَّ قال ـ أي الإمام الصادق(ع) ـ ستلقى من عدوّك كلّ كيد، فقلت ـ أي الإمام الكاظم(ع) ـ إذا كاد العدوّ فلا تكده، فقال ذرية بعضها من بعض)).

وهكذا نلاحظ أنَّ الإمام الكاظم(ع) كان في طفولته يعيش العلم كأعمق وأوعى وأصبر ما يكون العلم، ما يوحي أنَّ سرّ الإمامة في الإمام ينطلق مما يمنحه اللّه للإمام، من ملكات تتحرّك طفولته معها، ليشمل حركة الإمامة عندما يحين وقتها، )اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ(([536]).

كلمات مضيئة:

ونُحاول هنا أن نلتقط بعض الكلمات المروية عن الإمام الكاظم(ع)، لأنَّنا ذكرنا أكثر من مرّة أنَّه عندما نتحدّث عن الأئمة(ع) فإنَّه يلزم أن نستضيء بكلماتهم، وأن نرتبط بفكرهم وبوصاياهم، لأنَّ هذا هو ما يبقى لنا منهم، وهذا مـا يمثِّل حركية الإمامة على مدى الزمن، لأنَّ الإمام كالنبـيّ يبقى مدّة مع النَّاس ثُمَّ يلحق بربّـه )إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(([537])، ويبقى من الإمام (ع)كما يبقى من النبيّ  (ص)، ما يبقى من علمه، وما يبقى من إيحاءات سيرته وما إلى ذلك.

وعن موسى بن جعفر عن آبائه(ع) قـال الحسين(ع) ((جاء رجل إلى أميـر المؤمنين(ع) يسعى بقوم)) يريد الفتنة ويشي بهؤلاء القوم أنَّهم عملوا كذا وكذا. ليعتقلهم الإمام عليّ(ع) ويُعاقبهم، ككلّ الوشاة الذين ينقلون السوء عن النَّاس لدى الحاكمين حتّى يؤاخذوهم، ((فأمرني أن دعوت له قنبراً، فقال له عليّ(ع) اخرج إلى هذا الساعي، فقل له قد أسمعتنا ما كره اللّه تعالى فانصرف في غير حفظ اللّه تعالى)) أي أنَّ الإمام عليّ(ع) أمر الحسين(ع) أن يدعو قنبراً خادمه، فقال له الإمام عليّ(ع) يا قنبر اخرج إلى هذا الساعي، فقل له قد أسمعتنا ما كره اللّه تعالى، لأنَّ اللّه يكره أن ينقل الإنسان السوء عن المؤمنين لمن يملك أن يعاقبهم، لأنَّه من النميمة، وقد ورد في الحديث أنَّه ((لا يدخل الجنّة نمّام))، ما أوجب ذلك أن يدعو الإمام عليّ(ع) عليه، فيقول ((فانصرف في غير حفظ اللّه تعالى)) بمعنى أن لا يحفظك اللّه، ولا يكثر أمثالك.

وفي وصيته ـ أي وصية الإمام الكاظم(ع) ـ لهشام بن الحكم قال ((يا هشام، كان أمير المؤمنين يوصي أصحابه يقول أوصيكم بالخشية من اللّه في السرّ والعلانية)) وذلك هو التَّقوى، وقد قال تعالى )وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(([538])، ((والعدل في الرضا والغضب)) أي أن تكون عادلاً تراعي حقوق النَّاس في إنسانيتهم، وفي كلّ قضاياهم التي تختزن الحقّ لهم، سواء كنت راضياً أو غاضباً، فلا يدفعك الرضا عن شخص إلى أن تعطيه ما ليس بحقّ، كأن تمدحه بغير حقّ، ولا يدفعك الغضب إلى أن تمنع إنساناً حقّاً، أو أن لا تعطيه ما هو بحقّ، أي ليكن الغضب والرضا عندك سواء في خطّ المسؤولية.

((والاكتساب في الفقر والغنى)) فلا تكن بطّالاً، اكسب رزقك في حالة الغنى والفقر، لأنَّ اللّه لا يحبّ العبد البطّال، ((وأن تصلوا من قطعكم وتعفوا عمّن ظلمكم وتعطوا من حرمكم))، وهنا يرسم الإمام عليّ(ع) الصورة الحقيقية للمؤمن في أخلاقه، فيما بيّنه رسول اللّه  (ص) من مكارم الأخلاق، فلا تكون الأخلاق برسم البيع أو الشراء، لأنَّ الأخلاق ليست تجارية، ولا تخضع للتجارة والعرض والطلب، بمعنى أن أعطيك لأنَّك أعطيتني، وأصلك لأنَّك وصلتني، فهذه ليست أخلاقاً، بل هي بيع وشراء ومبادلة. وأمّا الأخلاق في حقيقتها، فهي تلك التي تنطلق من داخل شخصيتك، كما ينطلق الماء من الينبوع بعفوية، وكما تنطلق الشمس عندما تعطي الضوء، فتصل من قطعك، لأنَّك تعيش معنى الصلة، وتعطي أن تصل من قطعك، وتعفو عمَّن ظلمك، وتعطي من حرمك))([539]). وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين(ع) في دعاء (مكارم الأخلاق)((اللّهمّ وسددني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأُثيب من حرمني وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر))([540]).

ثُمَّ يقول الإمام عليّ(ع) في وصيته ((وليكن نظركم عبراً)) يعني حينما تمرون بهذه الديار التي يسكنها النَّاس المساكين، والقلاع التي بناها أُناس آخرون، فلتكن لكم العبرة فتأخذوا منها درساً، ((وصمتكم فكراً)) وعندما تصمتون فإنَّما تصمتون للتفكير ولتعميق المعرفة، ((وقولكم ذكراً)) وعندما تتكلّمون ليكن كلامكم في ذكر اللّه، ((وطبيعتكم السخاء)) يعني العطاء بما تستطيعون ((فإنَّه لا يدخل الجنّة بخيل ولا يدخل النّار سخي))([541]) حتّى أنَّه يُقال في بعض الأحاديث، إنَّ اللّه جعل لحاتـم الطائي المعروف بالكرم مساحة بين الجنّة وبين النّار، تقديراً لكرمه.

تقسيم الوقت:

وفي كلمة مضيئة أخرى عن الإمام الكاظم(ع) أنَّه قال ((اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات)) أي لينقسم يومكم إلى أربع ساعات، والساعة في كلامه(ع) ليس المراد بها الساعة باصطلاحنا اليوم التي تعدُّ ستين دقيقة، بل هي كناية عن الوقت. ((ساعة لمناجاة اللّه)) فتجلس لربّك، لتصلّي وتناجيه في كلّ آلامك وأحلامك، ((وساعة لأمر المعاش)) لتطلب رزقك، ((وساعة لمعاشرة الأخوان)) تخلو فيها لأخوانك وتحدّثهم ويحدّثونك، ((وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرّم)) فإنَّ النفس الإنسانية بما تشتمل على غرائز وطبائع تحتاج إلى ما يلبّي لها احتياجاتها الطبيعية، ولكن في غير ما حرّم اللّه تعالى، ((وبهذه الساعة)) التي تعطي نفسك لذتها باللعب وباللّهو ((تقدرون على الثلاث ساعات))([542]) لأنَّها تنشّط الإنسان، فليس من الطبيعي أن يعيش الإنسان في جدٍّ مستمر، وقد ورد ((أنَّ القلب إذا أكره عمي))([543])، وورد أيضاً ((روِّحوا القلوب ساعة بعد ساعة))([544]) ولذلك لـم يضيق الإسلام على الإنسان حياته، بل أعطاه نافذة على حاجاته النفسية والجسدية، وفي الحديث ((اجعلوا لأنفسكم حظاً من الدُّنيا)) بإعطائها ما تشتهي من الحلال، فيعيش الإنسان في الدُّنيا بما لها من حاجات ولذّات وطيبات دونما تجاوز للحدود المعقولة والمشروعة ((واستعينوا بذلك على أمور الدِّين)) فعندما تعطي لنفسك حاجاتها الدنيوية، فإنَّها تقبل على أمور الدِّين بنشاط، لأنَّها عندئذٍ لا تعيش الحاجات الجسدية والأزمات النفسية وما إلى ذلك ((فإنَّه روي ليس منّا من ترك دنياه لدينه)) بحيث أقبل على الدِّين ومنع نفسه من كلّ لذاتها في الدُّنيا ((أو ترك دينه لدنياه))([545])، بل عليه أن يعيش التوازن بين حاجاته وبين متطلبات عبوديته للّه ومسؤوليته الدينية.

وفيما حدّثنا اللّه سبحانه وتعالى إشارة إلى ذلك، إذ يقول )وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(([546]) وكذلك فيما حدّثنا اللّه عن قوم قارون )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّه الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللّه إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(([547]) ولذا صح أن يُقال إنَّ الإسلام دين التوازن.

أمُّ الوصايا:

وفي كلمة أخرى له، كما جاء في (تحف العقول) أنَّه قال لبعض ولده ((يا بني، إياك أن يراك اللّه في معصية نهاك عنها)) ولقد نهاك اللّه عن أشياء فاحذر أن يراك اللّه في مواقع المعصية ((وإياك أن يفقدك اللّه عند طاعةٍ أمرك بها)) لأنَّ اللّه يريد لك أن تتواجد في مواقع الطاعة ((وعليك بالجدّ)) فلا تأخذ حياتك بالهزل واللامبالاة، فكن جادّاً في الحياة، لأنَّ الحياة مسؤولية، وعلى الإنسان أن يواجه مسؤولية الحياة بكلّ تصميم وتخطيط، ليقوم بمسؤوليته وليحقّق أهدافه ((ولا تخرج نفسك من حدِّ التقصير في عبادة اللّه وطاعته)) فمهما عبدت اللّه ومهما أطعته فلا تشعر بالرضا عن نفسك، وانظر إلى نفسك مقصِّراً، فإنَّ هناك مراتب ومراحل لعبادته لا يبلغها الإنسان إلاَّ بعد جدٍّ وجهد، ((وإياك والمزاح)) يعني أن تكون مزّاحاً، تتحرّك في حياتك بالمزاح، وليس المقصود أن لا تمزح المرة والمرتين، بل الإمام(ع) في مقام النهي عن الاستغراق في المزاح، لأنَّ بعض النَّاس يعيش يومه من الصباح إلى الليل بالمزاح.

((فإنه يذهب بنور إيمانك ويستخفّ بمروءتك. وإياك والضجر والكسل)) فلا تضجر، بل جدِّد نشاطك وإقبالك على العمل، ولا تكسل عن مسؤولياتك، فإنَّهما يمنعانك حظّك من الدُّنيا والآخرة، لأنَّك إذا ضجرت فستترك حظك في الدُّنيا والآخرة، وإذا كسلت فلا تؤدّي حقّاً في الدُّنيا والآخرة.

كانت هذه بعض إضاءات الإمام الكاظم(ع) في حياته وسيرته وفي كلماته ووصاياه. أيُّها الأحبّة، إنَّ أهل البيت(ع) يمثِّلون القمة في كلّ شيء، فهم حجج اللّه على عباده، وهم النور الذي نستضيء به، وهم الخطّ المستقيم الذي يهدينا إلى اللّه، ولذلك حاولوا أن تتعرفوا أهل البيت(ع) في سيرتهم التي تجسِّد الإسلام، وفي كلماتهم التي تضيء لنا مفاهيم الإسلام ومنهجه ووسائله وغاياته، فلا يكن أهل البيت(ع) مجرّد مأساة تستنـزف دموعكم، ولا مجرّد فرحٍ مادي يجتذب بسماتكم، بل ليكن أهل البيت(ع) عقلاً يرتفع بعقولكم، وقلباً يفتح قلوبكم على اللّه وعلى المحبة، وحركةً تفتح حياتكم على الحقّ والعدل وما يؤدّي إلى القرب من اللّه، وسلام اللّه على الإمام الكاظم(ع) يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حياً. والحمدُ للّه ربِّ العالـمين.

 


 

المحاضرة السادسة والعشرون 25 رجب 1422ه‍ - 13/ تشرين الأول/2001م

 

 

 

في ذكرى المبعث النبويّ والإسراء والمعراج (1)

العمل على توسيع رقعة الإسلام

 

 

m في ذكرى المبعث نستذكر أنّ النبي(ص) كان وحده والمسلمون الآن يمثّلون خمس البشرية أو أكثر، فعلينا أن ندعو إلى الله، وأن نثبت في مواقع الاهتزاز، وأن نواجه التحديات ليتسع الإسلام ويشمل البشرية كافّة m

 

 
 
 

 

صورة النبيّ(ص) في القرآن.

الرسالة حياة النبيّ(ص) كلّها.

تنوّع التجربة النبوية.

مسؤوليتنا في ذكرى المبعث.


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

نلتقي بعد يومين بذكرى المبعث النبوي الشريف، وذكرى الإسراء والمعراج الذي يحتفل فيه عند البعض في هذا اليوم، وهو يوم ولادة الإسلام، لأنَّه وُلِد في هذا اليوم ومنه انطلق.

وعندما نريد أن نتحدّث عن المبعث النبوي الشريف، فإنَّنا نستذكر أنَّ اللّه سبحانه وتعالى أعدَّ رسوله(ص) إعداداً فكرياً، بحيثُ ملأ كلّ عقله بالحقّ، في كلّ ما ينفتح الفكر عليه، مما تنطلق به الرسالة، وكان القرآن ـ بعد ذلك ـ يُتابع النبيّ(ص) بالتفاصيل في حياته كلّها، فضلاً عن التسديد الإلهي على اختلاف أشكاله، إذ لـم يكن القرآن الكريـم مجرّد فكرٍ تجريدي يحلّق في الفراغ، بل كان يُتابع حركية الرسالة في كلّ ما يُحيط بها من ظروف، ويواجهها من تحدِّيات، وما تصطدم به ـ من خلال النَّاس الذين هم جمهورها ـ من أخطاء ومن انحرافات، فكانت المسيرة تتقدّم، وكان القرآن يرعى هذه المسيرة من خلال نقدها تارةً، ومن خلال تأصيل الفكرة تارةً أخرى، فكان ذلك خلاصة التجربة. ولهذا نجد القرآن الكريـم فكراً يتحرّك، وأسلوباً ينفتح، ونقداً يدخل إلى تفاصيل التجربة.

صورة النبيّ(ص) في القرآن:

ولهذه الخصوصيات كان القرآن الكريـم أفضل مصدر للسيرة النبوية، في إطاريها العام والخاص، فقد حدّثنا القرآن عن النبيّ(ص) في حياته الشريفة قبل البعثة، فقال تعالى)مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ(([548])، وحدّثنا عن خُلُقه فقال تعالـى)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(([549])، وحدّثنا عن هذا القلب الليِّن الذي كان يمتلئ بالحبّ للنَّاس وبالانفتاح عليهم، وعن هذا اللسان الرقيق الذي ينساب عذوبة وهو يدخل مشاعر النَّاس فيجتذبها إليه، فقال تعالى)فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ(([550]) وهكذا كان الرَّسول(ص)، فقد كان الإنسان الذي عاش إنسانيته في إنسانية المؤمنين من حوله، يُعطيهم من إنسانيته بما يفتح إنسانيتهم على حركة الرسالة ويجعلهم في رحاب اللّه، ليرقى بهم إلى اللّه. وهذا هو سرُّ قوله تعالى)لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عليكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(([551])، فإذا كانت )مِنْ أَنفُسِكُمْ( تُعطي معنى المجتمع الذي ينتمي إليه رسول الله(ص)، فإنَّ إيحاءات هذه الكلمة تعني أنَّه احتوى مشاعرهم فكان جزءاً من هذه المشاعر، واحتوى نبضات قلوبهم فكان جزءاً من هذه القلوب، فدخل في جملة آلامهم وأحلامهم، فهو في العمق من أنفسهم، فكأنَّهم يتمثّلونه في أنفسهم كما يتمثّل الكلّ الجزء،)عَزِيزٌ عليهِ مَا عَنِتُّمْ(  يُتابعهم في متاعبهم وفي جهدهم، في المشقات التي يواجهونها، فهو ليس مجرّد قائد يُشرف على أتباعه من فوق، وإنَّما كان يُلاحقهم في كلّ معاناتهم. في داخل بيوتهم، وفي كلّ أوضاعهم، وبكلّ ما يتصل بأمورهم، فقد كانت مشاعره تذوب في مشاعرهم، وكانت اهتماماته تندمج باهتماماتهم، ولذلك كان يعزّ عليه ما يشق عليهم، كما يعزّ عليه ما يشقّ على أنفسهم، )حَرِيصٌ عليكُمْ( فهو يجمعكم إليه حتّى لا تضيعوا أو تتيهوا في متاهات الباطل، أو متاهات الضلال، حريص عليكم حرص الأم التي تحضن أولادها، لأنَّكم أبناؤه في الروح وإن كنتم بعيدين عنه في الانتماء القبلي، )مَا كَانَ محمَّد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللّه وَخَاتَمَ النبيّينَ وَكَانَ اللّه بِكلّ شَيْءٍ عليماً(([552])،  فانتماؤكم إليه انتماء روحي، وليس انتماء النسب، وهو أرفع وأرقى من كلّ انتساب وانتماء. ولذلك روي عنه(ص) أنَّه قال ((يا عليّ أنا وأنت أبوا هذه الأمّة))([553]) لأنَّها أبوَّة الرسالة، تلك الرسالة التي بدأت به وتحرّكت عملياً في خطّ عليّ، وهكذا كانت أبوَّة الرعاية، فكانا معاً أبوي هذه الأمّة، ليُكلّل إعلان هذه الأبوَّة في ((غدير خمّ)) حيث خاطب النبيّ(ص) النَّاس ((ألست أولـى بالمؤمنين من أنفسهم)) فهو أولى بالإنسان من نفسه، ثُمَّ يقول(ص) ((من كنتُ مولاه فهذا عـليٌّ مولاه))([554])  بمعنى من كنتُ أولـى به من نفسه فعليٌّ أولى به من نفسه.

)بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(  فهو لا يعنف بهم ولا يقسو عليهم، إنَّها قيادة تتصلب في التركيز على الخطّ بكلّ قوّة وحزم، ولكنَّـه حـزم في غير عنف، ولين في غير ضعـف، )رَحِيمٌ( بالنَّاس، يرحم ظروفهم، كما يرحم ذهنيتهم، ولهذا كان يُخاطبهم على قدر عقولهم، فلا يستعرض عضلاته الثقافية كما يفعل البعض عندما يتحدَّثون للنَّاس بأعلى من مستواهم الثقافي، ليبينوا قدراتهم العلمية، ولذلك قال(ص)  ((إنَّـا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نُكلّم النَّاس على قدر عقولهم)) وقد ورد في الحديث عن سيرته(ص) ((ما تكلّم بكنه عقله قط)) لأنَّه كان يتكلّم بحقيقة عقول النَّاس، لأنَّ الكلمة هنا هي الرسالة، وإذا كانت كذلك، فلا بُدَّ أن تأخذ طريقها إلى العقل والقلب والإحساس والشعور بما يعين على ذلك، من مُداعبة القلب، ومحاججة العقل..

الرسالة حياة النبيّ(ص) كلّها:

لـم يكن النبيّ(ص) الرسول الذي يعيش رسالته كمسؤولية يريد أن يتخفَّف منها، فقد كان التبليغ جـزءاً منها، وجـزؤها الآخر إيـمان النَّاس بهذه الرسالة إلى درجة تمثّلها وتقمصها، فكان(ص) يفتح قلوبهم دائماً وأبداً عليها، وفي كلّ مناسبة، وهذا سرُّ كلامه وحديثه في قوله(ص) ((لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها)) لأنَّ تبليغ الرسالة لن ينتهي بإعلان هذه المبادئ العظيمة، بل بإشاعتها في حياة النَّاس، وتفاعلهم معها. ولذلك كان يتألـم، وكان ألمه يثقله، فيعيش الحسرة إثر الحسرة إلى درجة أخذ القرآن الكريـم يخفف عنه آلامه وأحزانه الرسالية، وهو يُ رهق نفسه بهذه الآلام والأحزان، ليقول له اللّه سبحانه: لقد أعطيت كلّ ما في وسعك وأدخلت كلمتك إلى عقولهم وقلوبهم، ولكنَّ القوم تحجَّروا وأصبحوا حجارة، أو أشدَّ قسوة، وتحوَّلت قلوبهم إلى صخور، وتحوَّلت مشاعرهم إلى ذرَّات من الرماد، ليس فيها نبضة من أية حياة. فيقول اللّه تعالى)يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ(([555])، ويقول تعالى)فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(([556])  ويقول تعالى)قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّه يَجْحَدُونَ(([557])، ويقول تعالى)وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا(([558])، ويقول)وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعليمُ(([559])، ويقول أيضاً)وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّـه وَلا تَحْزَنْ عليهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(([560])، ويقول تعالى)فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً(([561])  فلا تحزن يا رسول اللّه لكلّ هذا التحجّر والتصحر ولا تذهب نفسك عليهم، فإنَّهم إن يصدّوا عنك فإنَّهم يصدّون عن اللّه، وإن يُكذبوك فإنَّهم يُكذبون اللّه.

وهكذا انطلق رسول اللّه(ص) بكلِّ رحابة صدره، في وقتٍ كان فيه النَّاس على عمى وضلال، وعلى أشدّ ما تكون المعارضة له من شتمٍ وتشويهٍ، وتعدٍّ على شخصيته الكريمة معنوياً ومادياً، من اتهام وصل إلى حدّ الرمي بالجنون، ومن تعدٍّ وصل إلى حدّ الرجم بالحجارة، من دون أن يتذمر(ص) أو يستكين، فلقد عاد من رحلته إلى الطائف وقد دُميت رجلاه من رمي الحجارة، وهو يُناجي ربّه ((إن لـم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي)) كان يعيش الحبّ لربّه، وكان يعيش العشق له، فرضا اللّه سبحانه وتعالى هو الغاية والمأمول عنده، فيتصاعد الحبّ والعشق ليبادله اللّه سبحانه وتعالى بأعظم من ذلك وهو يثبّته ويؤصّل كلّ عصمته وكلّ إنسانيته، فقال تعالى)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عليهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً(([562])،  أي  لماذا لـم ينـزّل القرآن كتاباً واحداً كما نزّل التوراة والإنجيل؟ فيأتي الجواب )كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً(([563]) لأنَّ الفرق بين رسالة النبيّ ورسالة الأنبياء من قبله، ولا سيّما موسى وعيسى(ع)، أنَّ التجربة التي عاشها النبيان العظيمان(ع)  لـم تتحرّك في رسالة تعيش التحدِّيات في الجانب الفكري والجانب العملي، وتعيش حركية الصراع بشكل متنوّع  وممتد في أكثر من موقع، ومنفتح على أكثر من قضية، كما هو تنوّع هذه التجربة الجديدة.

وعندما نُلاحظ تجربة النبيّ موسى(ع)، فإنَّ القرآن يحدّثنا عن أكثر من مقطع من مقاطعها، فهو تارة يتحدث عن تجربته مع فرعون، وتارة عن تجربته مع بني إسرائيل، ولـم تكن هناك أيّة تجربة حرب، وأيّة تجربة دعوية خارج نطاق هذه الدائرة التي كان يعيش معها، مع أنَّه كان من الأنبياء أولي العزم.

وهكذا عندمـا ندرس تجربة عيسى(ع) نرى أنَّهـا كانت تجربة مليئة بالآلام، وكان لعيسى(ع)  أكثر من تجربة كما حدّثنـا القرآن الكريـم، في تجربته مع الحوارييـن تارة )قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه آمَنَّا بِاللّه وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(([564])، ومع النَّاس تارةً أخرى يعظُ هذا ويُبارك ذاك، وما إلى ذلك، ولكن عيسى(ع)  لـم يدخل تجربة الصراع كما هي تجربة النبيّ محمَّد(ص)، فعندمـا ندرس الرسالة الإسلامية في حركة الدعوة عند النبـيّ(ص)، فإنَّنا نلاحظ أنَّ النبيّ(ص) عاش التجربة الأولى في حركة الصراع على المستوى الفكري، ولذلك عندما نقرأ السور المكية في القرآن، فإنَّنا نجد أنَّ القضايا الفكرية في العقيدة، من توحيد في مواجهة الشرك، ومن النبوة، ومن اليوم الآخر، وكثير من المفردات العقيدية، كانت تتحرّك في خطّ الجدل الفكري في مجتمع لا يملك الكثير من الفكر، ولذلك فإنَّ الآيات القرآنية التي دخلت هذا الجدل حول هذه الأمور وحول هذه المفردات الفكرية، كانت تعمل على تثقيف المجتمع لتدفعه إلى أن يفكّر، فلم تكن المسألة مجرّد تفكير، بل خلق القدرة على التفكير أيضاً.

ونحن نقرأ أنَّ هؤلاء الذين كانوا يتزعمون الحملة ضدَّ الرَّسول(ص) كانوا يأتون متخفّين من دون أن يشعر أحدهم بالآخر ليستمعوا إلى الرَّسول(ص) وهو يقرأ القرآن، فيجذبهم بيان القرآن وعمقه وامتداده، وعندما يرجعون يكتشف بعضهم الآخر فيتلاومون على ذلك، فقد كان القرآن يفرض نفسه عليهم، على عقولهم، لأنَّهم لـم يلتقوا عقلاً بهذا المستوى في كلّ  تجربتهم الثقافية، وقد كانت مكة تمثِّل سوقاً ثقافية، كما في سوق عُكاظ وغيره من الأندية الثقافية، ولكنَّهم لـم يعيشوا عمق هذه الثقافة الجديدة، ولـم يعهدوا بياناً كهذا البيان، الذي لـم يكن شعراً ولا نثراً مما ألفوه.

وهكذا عاش النبيّ(ص) هذه التجربة الصعبة لتحقيق أهداف ثلاثة في مكة: الهدف الأول: أن يُثقّف المجتمع المكيّ والقادمين إليه من العرب في المواسم.  والهدف الثاني: هو أن يلتقي بأكبر قدر ممكن من شخصيات شبه الجزيرة العربية حيثُ كانت مكة عاصمتهم الثقافيّة والتجاريّة والسياسيّة والدينيّة، والهدف الثالث: هو أن يهيئ من كلّ هذه اللقاءات قاعدة أخرى للدِّين. وهكذا فتح يثرب على الرسالة، وكانت عاصمة الدولة الإسلامية الأولى، ولذلك امتنع النبيّ(ص) في مكة عن أي ردّ فعلٍ للعنف الذي كان يواجه أصحابه، فكانت الهجرة إلى الحبشة هي الوسيلة لتأمين من لـم يستشعر الأمان أو الصبر في مكة.

تنوّع التجربة النبوية:

لهذا كانت التجربة النبوية متنوّعة الأبعاد ومتعدّدة الاتجاهات. وإذا كان البعض يتحفّظ على كلمة ((التجربة)) لأنَّها قابلة للخطأ، فإنَّنا نقصد الأعم من تجربة النبيّ(ص) وتجربة المسلمين، لأنَّ العصمة من مختصات النبيّ(ص) ولـم تكن تتعدّى إلى غيره من المسلمين. فإذا كانت هناك عصمة فهي عصمة لشخص النبيّ(ص)، أمّا المسلمون في تجربتهم التي كانت تحيط بالرسول(ص) فإنَّهم في حركة مستمرة بين التجربة الصحيحة والتجربة الخاطئة.

ويمكن القول: إنَّ التجربة التي عاشها النبيّ(ص) والصراع المرير الذي عاناه لـم يشهده أحد من الأنبياء، فلم يُتهم أحدٌ منهم بأنَّه ساحر تارةً وشاعر تارةً أخرى، كما اتهم النبيّ(ص)، فقد اتهم بعض الأنبياء(ع) بالجنون، ولكن أحداً منهم لـم يُتهم بكلِّ هذه الاتهامات من قول الشعر وفعل السحر والجنون والاختلاق. فقيل عنه كما ورد في القرآن)وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عليهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(([565])، أو قولهم على لسان القرآن)إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ(([566]). فقد زُجّ بالنبيّ(ص) في جميع هذه الأعمال والأفعال.

ومن خلال ذلك، فإنَّنا نعرف أنَّ هذه الاتهامات كانت تمثِّل المفردات التي تعيش في الواقع الثقافي في المنطقة، إذ كان هناك سحرة وكان هناك شعراء، ولذا أرادوا أن يُدخلوه في كلّ موقع من هذه المواقع، وفي كلِّ دائرةٍ من هذه الدوائر، لتنـزع عنه قدسية النبوة من شخصيته، غير أنَّه(ص) نجح في تجاوز ذلك كلّه، لتنتهي هذه التجربة وتبدأ التجربة الثانية الصعبة، تجربة الحروب المتحرّكة التي أثارتها قريش، ثُمَّ الحرب التي أثارها اليهود، والتي دخل فيها المسلمون في أكثر من مشكلة، فإنَّهم عاشوا النصر تارةً وعاشوا الهزيمة تارةً أخرى، وعاشوا نقاط الضعف كما عاشوا نقاط القوّة. ولـم يكن المسلمون الذين دخلوا مع النبيّ(ص) في الحروب كالذين كانوا مع موسى(ع) عندما قالوا له)فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(([567]) بل قال قائلهم في معركة بدر وقد أراد النبيّ(ص) أن يستشير المسلمين والأنصار بالذات ((لا نقول لك كما قال قوم موسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدون، بل نقول لك اذهب أنتَ وربُّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، واللّه لو خضت بنا البحر لخضناه معك))  فقد كان المسلمون مخلصين للرّسول في حروبهم وإن كانت نقاط الضعف تحيط بهم. قال تعالى في هذا الصدد)كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُون * وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّه أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكلمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ(([568]).

فقد كانت هناك أكثر من نقطة ضعف تُحيط بالمسلمين، ولـم يكن ليخفى ذلك، وقد تحدَّث القرآن عن ذلك بشكل واضح وصريح، وقد بيّـنّا أكثر من مرة ضرورة أن نتعلّم ذلك من القرآن وأن تكون لنا شجاعة الاعتراف بنقاط الضعف، لأنَّ الأمّة التي تنكر نقاط ضعفها سوف تعيش في ضعفٍ دائم، أمّا الأمّة التي تواجه نقاط ضعفها، فإنَّها تحوّل نقاط ضعفها إلى قوّة من خلال وعيها واصطدامها بالتجربة. ولذلك يتحدّث القرآن الكريـم عن المسلمين بلغة نقدية في وقت كان قد امتدحهم في مناسبات أخرى، قال تعالى)وَإِذْ زَاغَتْ الأبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّه الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا(([569]).

وهكذا كانت التجربة الثانية التي عاشها النبيّ(ص) المشابهة لتجربة موسى(ع) من بعض الجهات، وهي مشكلة النبيّ مع المنافقين الذين كانوا يمثِّلون ما نُسميه في أيامنا ((الطابور الخامس)) فكانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، وقد تحدّث القرآن عنهم كثيـراً، لأنَّهم كانوا يمثِّلون المشكلة الأصعب للمسيـرة الإسلامية آنذاك، وقد عاشها النبيّ(ص) وعاش القرآن معها، حيث كان القرآن يشير إلى النبيّ(ص) بكلّ ملامح هؤلاء، ويوجّه حركته معهم بين الشدّة واللين، ليُعطي المسلمين وعي مسألة النفاق التي هي من أخطر الأمور التي كان يعيشها الإسلام، لأنَّهم كانوا يمثِّلون القوّة المنحرفة والقوّة المضادة التي ترتبط بالمشركين من جهة، وباليهود من جهة أخرى. ولعلّنا نعرف دورهم في معركة الأحزاب، تلك المعركة التي تحالف فيها المشركون مع اليهود وكان للمنافقين نصيبهم فيها)وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً(([570]) فإنَّهم كانوا يدسون الرعب في قلوب المسلمين.

لذلك نقول إنَّ المبعث النبوي يُعطينا كلَّ هذه التجارب، التي لـم تمر على أي نبيّ(ع) قبل نبينا(ص)، إذ لـم تكن معاناته معاناة جسدية كما عاناها عيسى(ع)، بل كانت معاناة نفسية حتّى قال ((ما أُوذي نبيٌّ مثلما أُوذيت))، لأنَّ الرسالة كانت كلّ حياته، ولأنَّ المجتمع كان كلّ همّه، ولأنَّ اللّه كان كلّ شيء عنده، ولذلك كانت التحدِّيات التي تواجهه لا تثقله ثقلاً ذاتياً، ولكنَّها كانت تثقله نفسياً على مستوى الهمّ الرسالي، لأنَّ الإيذاء الذي كان يحصل لموسى وعيسى ولإبراهيم ولنوح(ع) كان إيذاءً في خطٍّ واحد، بينما كان الإيذاء للنبيّ(ص) إيذاءً متنوّعاً متحرّكاً، كان يواجهه في نفسه، في الاضطهاد الذي عاشه في قريش، وفي عشيرته، وفي أصحابه، وفي أهل بيته، وفي  دعوته للإسلام، وفي كلّ التحدِّيات التي واجهته، والتي شغلته عن الدعوة الإسلامية وعن إكمال عملية التربية للمجتمع، لأنَّ مهمّة النبيّ(ص) لـم تكن تبليغ الرسالة فحسب، بل كانت مهمته فوق ذلك تجذير الرسالة وتعميقها وتأصيلها، حتّى يعود النَّاس رسالة تتحرّك، قال تعالى)هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عليهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(([571])  فإنَّه يُزكيهم وينفذ إلى داخل نفوسهم، من أجل أن يُنمّي طاقاتها الروحية والأخلاقية والثقافية، ويعلّمهم الكتاب بحيث يتحوّل كلّ واحدٍ منهم إلى مثقف في القرآن كلّه، والحكمة فيتحوّل كلّ واحدٍ منهم إلى إنسان حركي يعرف كيف يحرِّك القرآن في الواقع ليجمع بين ثقافة القرآن والواقع.

وهكذا انطلق الإسلام، وتركت رواسب هذه التجارب ـ وسلبياتها ثقلها على واقع الإسلام بعد رحيل الرسول(ص).

مسؤوليتنا في ذكرى المبعث:

وفي نهاية المطاف، وفي ذكرى المبعث، نودُّ أن نطل على الواقع المعاصر، لأنَّ الإسلام هو مسؤوليتنا جميعاً تماماً كمسؤولية الصحابة في مكّة والمدينة، مع اختلاف الزمن، ومع اختلاف نوعية التجربة، لأنَّ التحدِّيات التي واجهت الصحابة مع النبيّ(ص) كانت تحدِّيات صعبة على مستوى ذلك الزمن. ولكنَّها لـم تكن تحدِّيات في حجم العالـم، كانت تحدِّياتهم في حجم المنطقة التي تحرّك فيها الإسلام ((أم القرى)) وما حولها وبعض مناطق شبه الجزيرة العربية. أمّا التحدِّيات التي تُواجه الإسلام وتواجهنا كمسلمين فهي تحدِّيات تدخلنا في تاريخ جديد، وفي مرحلة جديدة، ولـم تترك مكاناً في العالـم إلاَّ ودخلته، وهذا ما عشناه عندما أعلن الحلف الأطلسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أنَّ العدوّ هو الإسلام، وإنَّ على الحلف الأطلسي أن يواجهه تماماً كما كان يواجه الاتحاد السوفياتي، لأنَّ الإسلام بروحيته وثقافته والنبض الحركي الذي يحرّكه في كلّ مسلم، عندما يعيش كلمة التكبير، وكلمة التوحيد، وكلمة الجهاد، وكلمة الاهتمام بأمور المسلمين، وكلمة التعاون مع المسلمين في كلّ همومهم، فإنَّ هذا يمثِّل الخطر على المصالح الغربية في كلّ مواقع العالـم الإسلامي، بل في كلّ مواقع الإسلام. وهو وإن فقد الكثير من مواقعه، إلاَّ أنَّه القوي إذ يكفيه موقعه الرئيسي وهو المسجد، والأذان يرتفع ليُعلن سقوط الآلهة المزيفة كلّها، ليقول إنَّ الإله والمعبود هو اللّه فقط، وإنَّ كلّ ما عداه هو موقع منخفض وهابط.

إنَّ هذه الكلمات العبادية هي كلمات ثورية سياسية تحفِّز في قلوب المسلمين كلَّ عناصر الثورة، ولذلك تجد أنَّ المسلمين قد يعيشون التخاذل، وقد يعيشون الركود، وقد يعيشون الجمود، ولكن عندما تأتي الظروف الموضوعية فإنَّك تجد أنَّ كلّ هذه الشعارات تدخل إلى عمق الإنسان لتستنفر كلّ هذه المعاني فتطيعه نبض الإسلام وحيويته وحركيته، فالتوحيد ثورة، وعليه قامت كلّ الأديان، وهو الذي يجعل الإنسان المسلم بركاناً يتفجّر ثقة" باللّه، ولذلك يقول اللّه تعالى)أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْـدَهُ وَيُخَوِّفُونَـكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ(([572]) ويملأ تلك القلوب النابضة بالتوحيد والعقول بالقوّة والعزيمة فيقول تعالى)الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ( أي أنَّ العالـم يقف ضدّكم )فَاخْشَوْهُمْ( وتراجعوا وتنازلوا واسقطوا واهربوا )فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ( فكانت النتيجة أن منحهم التوحيد، في خطّ التوكل على اللّه مع الاستعداد، القوّة والصلابة )فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّه وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللّه وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(([573]) فكلّ الذين  يخوِّفونكم هم من جنود الشَّيطان، أمّا الذين يُعطونكم العزّة ويقولون لكم)وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ(([574]) ويقولـون لكم)وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس(([575]) ويقولون لكم )إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللّه مَا لا يَرْجُونَ(([576]) فهؤلاء جنود اللّه وأولياؤه وهم أحباؤه، لأنَّهم ينبضون بالحيوية، ويزيدون النَّاس قوّة إلى قوّة، وواقعية إلى واقعية، وشعارهم كما يقول الشاعر:

فيومٌ علينا ويومٌ لنا                                                          ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر

فخذوا إرادة القوّة من اللّه تعالى )أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعاً(([577]) لأنَّكم جنوده، ولأنَّكم تنتسبون له.

وفي ذكرى المبعث النبوي، نستذكر أنَّ النبيّ(ص) كان وحده والمسلمون الآن يمثِّلون خُمس البشرية أو أكثر، فعلينا أن ندعو إلى اللّه، وأن نثبت في مواقع الاهتزاز، وأن نواجه التحدِّيات ليتسع الإسلام ويشمل الخُمس الثاني من البشرية، ويأتي الأجيال الجديدة فتحمل على عاتقها حمل الإسلام إلى الخُمس الثالث والرابع والخامس، لنمهد في النهاية لإمامناr  ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً، ولنكون من أنصاره والمستشهدين بين يديه. والحمدُ للّــه ربِّ العالـمين.

 


 

المحاضرة السابعة والعشرون2 شعبان 1422ه‍ - 20/ تشرين الأول/2001م

 

 

في ذكرى المبعث النبويّ والإسراء والمعراج (2)

مواجهة الأحداث من وجهة نظر إسلامية

 

 

* علينا أن لا نتحرك في مواجهة التحديات بعقلية المغامرة أو بعقلية الانفعال، بل علينا أن ندرس كلّ حركة سياسية أو عسكرية أو أمنية حتى نعرف من أين نبدأ؟ وأين تنتهي؟ *

 

 
 

 

 

 

 

 

 

 

ذكرى المبعث النبويّ.

الظاهرة التجزيئية.

الأحداث الأخيرة في أميركا.

وجهة نظر مختلفة.

ليست دعوة للتجمّد.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ذكرى المبعث النبويّ:

ونبقى مع ذكرى المبعث النبوي الشريف، لنحدِّد من خلال هذا الحدث الذي غيَّر وجه العالـم، من جاهلية جهلاء متخلّفة، إلى حركة عقلية علمية منفتحة على كلّ ما يرفع مستوى الإنسان، ليجعله يتحرّك مع العقل في مواقع الفكر، ومع القلب في مواقع العاطفة الإنسانية، ومع كلّ كيان الإنسان في حركيته من أجل العدل والحقّ والخير.

ونبقى مع هذه الذكرى لنحدِّد مسؤولية الإنسان المسلم ـ الآن ـ مقارنةً بمسؤولية الإنسان المسلم في بداية الدعوة، إذ كانت مسؤولية الإنسان المسلم في بداية الدعوة، أن يستمع إلى آيات اللّه يتفهمها ويتدبرها، لتتحوّل إلى ثقافة تنفتح على قضايا الإنسان، في كلّ ما يريد اللّه للحياة أن تتحرّك فيه، من خلال النشاط الإنساني، على المستويين الفردي والاجتماعي.

ثُمَّ كان المسلم الذي يدخل إلى الإسلام ـ بعد أن يستمع إلى آيات اللّه ـ يعيش المسؤولية بأرقى صورها، وهو يفتش عن إنسان جديد يُحدِّثه عن الإسلام، ويدعوه إليه بأسلوب يتزاوج فيه العقل والقلب فيجذبه إلى الإسلام. وهذا ما حدّثتنا عنه السيرة النبوية الشريفة، إذ كان المسلم يدخل إلى الإسلام اليوم ويأتي في اليوم الآخر ومعه مسلم جديد، لأنَّ المسلمين يوم ذاك لـم يفهموا الإسلام حالةً فردية، كعلاقة بين العبد وربِّه، بل كانوا يفهمون الإسلام حالة حركية تجمع النَّاس على وحي اللّه، ليتحرّكوا في طريق مرضاته، وكان الإسلام لديهم دعوة ثقافية تُغيِّر عقول النَّاس، من الظلامية إلى النور. وهم يسمعون آيات اللّه وهي تتحدّث عن مهمة النبيّ(ص) ووظيفته في إخراج النَّاس من الظلمات إلى النور. ولذلك كان كلّ همّ الإنسان المسلم أن يطرد كلّ الظلام: ظلام التخلّف، وظلام الجهل من العقل الإنساني، لأنَّ سرّ النجاح في حركة الإنسان في الواقع، هي أن يملك الضوء في عقله، باعتبار أنَّ المشكلة التي عاشها الإنسان منذ البداية حتّى الآن، تتلخَّص في مشكلة الظلام العقلي، وفي الذين يعيشون التخلّف الثقافي والروحي والحركي، ويعيشون الجهل بحقائق الأشياء، ويفقدون حركية الحوار. وهذا ما كان الأنبياء i يواجهونه عندما يحدّثون النَّاس عن الرسالة، فيحدّثهم النَّاس عن الجمود، وتقليد الآباء وصمّ الآذان والهروب من الحوار وإغلاق الأبواب التي من شأنها أن تسمح للفكر أن يتسرب إليهم.

الظاهرة التجزيئية:

ونحن في هذا العصر، نواجه الكثير من جهل المسلمين بالإسلام، لأنَّ مسألة الإسلام حتّى في ذهنية الدُّعاة والمبلِّغين هي مسألة محدودة، تنطلق بحسب مزاج الداعية والمبلِّغ، وربَّما نجد الكثير من هؤلاء ينفتحون بالإسلام على النَّاس في دوائر ضيقة، فهناك من يحدِّث النَّاس عن المسألة الفقهية ولا يحدّثهم عن المسألة الفكرية، وهناك من يحدّث النَّاس عن المسألة الفقهية ولا يحدّثهم عن المسألة المنهجية في الفقه أو في المفاهيم، وهناك من يدفع بهم إلى المسألة السياسية باعتبارها الواجهة في المسألة الإسلامية، من دون أن يحدّثهم حتّى عن عمق السياسة الإسلامية، وعن خطوطها وامتدادها ووسائلها وغاياتها. ولهذا رأينا أنَّ هناك نوعاً من التجزيئية في فهم الإسلام، فيقدّم الإسلام كأجزاء متفرّقة في وقتٍ نُلاحظ فيه القرآن الكريـم وهو يمزج بين الجانب العقلي والجانب العاطفي، وبين الجانب الفقهي والجانب الوعظي، وبين الجانب المنهجي والجانب الحركي، لأنَّه يُخاطب الإنسان بأبعاده المتعدّدة والمتنوّعة.

وفي هذا المجال، وتحديداً في هذه المسألة، نلتقي بالحوزات الدينية، لنجد أنَّ هناك أفقاً لا بُدَّ أن تبلغه، فتعيش العصر وتملك حسّ المعاصرة. ولا نقصد من ذلك أن نسقط تحت تأثير الفكر المعاصر، ففي الفكر المعاصر الكثير من الكفر والكثير من الضلال والانحراف، ولكنّي أقصد من ذلك أن نفهم كيف يفكّر النَّاس، وما هي الأساليب التي يُمكن أن ننفذ فيها إلى عقولهم، حتّى نكلّمهم على قدر عقولهم، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: ((إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلِّم النَّاس على قدر عقولهم))، حيثُ بات الشأن الثقافي اليوم مختلفاً ومتنوّعاً، فهناك الجامعات الكبرى في الغرب، وحتّى في الشرق الذي بدت فيه جامعاتنا مجرّد صورة عن الغرب، بل صورة ممسوخة أيضاً، وإن كانت هناك بعض الجامعات المنفتحة على الخطوط الفكرية المعقولة. وبالإضافة إلى بعض المواقع الثقافية الممتدة في كلّ العالـم، والتي تدرس الإسلام في مذاهبه، وفي طريقة إدارة النَّاس لهذه الاختلافات المذهبية، كما تدرس المجتمعات الإسلامية، في أحزابها وفي التيارات التي تطبق عليها.

الأحداث الأخيرة في أميركا:

وربَّما نجد في كلّ مرحلة من المراحل التي نعيشها تحدّياً جديداً وهجمة جديدة، وربَّما يقف الكثيرون منّا في حالة اللامبالاة أمامها ليأخذوا منها السلبيات السياسية، بعيداً عن المسألة الثقافية، وعن التأثيرات المستقبلية في الأحداث التي تحدث هنا وهناك، فقد نكتفي بالشجب والرفض لبعض ما يحدث من سلبيات ضدَّ الآخرين مما يتهم المسلمون به خطأً أو صواباً، ولكنَّنا لا نُحاول أن ندرس المسألة بشكلٍ علميّ موضوعيّ، وربَّما يتحمّس بعضنا للأحداث، لأنَّها تُرضي الغيظ الذي يجتمع في صدورنا ضدَّ الذين استهدفتهم الأحداث، وربَّما يتخذ بعض النَّاس موقفاً مضاداً بطريقة عنيفة تخلو من التوازن.

لذلك لابُدَّ لنا ونحن نتحدّث عن مسؤولية الإنسان المسلم من الدعوة إلى الإسلام، وعن مسؤوليته في نزع كلّ الألغام المزروعة في الطريق، وعن اجتياز كلّ الحواجز التي تقف حائلاً لتمنعنا من النفاذ إلى الآخرين، أن نعرف كيف نواجه المسألة بشكلٍ موضوعي عقلاني.

ونحن في هذا اللقاء نحاول أن نطل على الأحداث الأخيرة التي حدثت في أمريكا، وتركت تأثيراً على مستوى الاهتزاز في العالـم، من النواحي العسكريّة والسياسيّة والاستخباراتيّة والماليّة والثقافيّة، حيث لا حديث في العالـم الآن إلاّ عن هذا الحدث الكبير، حتّى أنَّ قضايانا الحيوية التي تمثِّل قضية المصير في تاريخنا الحديث، وهي القضية الفلسطينية، أُبعدت بفعل كلّ هذه الضوضاء وبكلّ هذا الزلزال المتنوّع في مواقعه ـ عن دائرة الضوء، وأصبحت على هامش الأحداث ووراءها.

وفي هذا اللقاء، نُحاول أن نواجه الحدث من وجهة نظر إسلامية، ونتساءل: هل يوافق الإسلام في حركته السياسية تجاه الآخرين، بمن فيهم الذين يكيدون للإسلام والمسلمين من المستكبرين والمتجبرين، من ناحية ثقافية وفقهية على مستوى التكليف الشرعي في الحلال والحرام، على مثل هذا الأسلوب أو لا؟

ثمة وجهة نظر تقول: إنَّ الإسلام يوافق على هذا الأسلوب ويشجّعه، لأنَّ المسألة فيما يعتقد هؤلاء ترجع إلى مسألة تزاحم المصالح والمفاسد، فقد يكون هناك مفاسد في هذا الأسلوب باعتبار أنَّه يستلزم قتل الأبرياء من المدنيين، سواء ركّاب الطائرات التي استخدمت كقنابل متفجرة، أو من خلال النَّاس المدنيين في مركز التجارة العالمي، الذين لا يقتصرون على الأمريكيين بل ينتمون إلى جنسيات متعدّدة، ولكن القضية هي أنَّ المستهدف هو العنفوان الأمريكي، والهيبة الأمريكية، والقوّة الأمريكية، التي أطبقت على العالـم الإسلامي كلّه، والتي أعطت التأييد المطلق لإسرائيل في كلّ جرائمها الوحشية ضدَّ الفلسطينيين، والتي لا تزال تعبث باقتصادنا وسياستنا وأمننا.

ومن خلال الموازنة بين المفاسد التي تحصل من جرّاء قتل المدنيين والأبرياء، وبين المصالح التي يمكن تصوُّرها من جرَّاء إلحاق الأذى بأمريكا وإسقاط هيبتها، وبما يفقدها القدرة على الإضرار بالنَّاس ويدفعها لمراجعة سياساتها، فإنّ هذه الموازنة تبرّر هذا الفعل بلحاظ المصالح التي تتقدّم على المفاسد لأنَّ المصلحة أكبر. وإذا كان الإسلام لا يرى أنَّ الغاية تبرر الوسيلة، فذلك يختصّ بالغايات الشخصية، وأمّا على مستوى الغايات الكبرى، فإنَّ الغايات هذه تبرر الوسائل، ولعلّ أوضح مثال على ذلك ما ثبت فقهياً عند السنّة والشيعة من أنَّه إذا تترّس الكفّار بأسرى المسلمين، فكان لدى الكفّار أسرى مسلمون ووضعوهم أمام الجبهة، من أجل تعطيل تقدّم المسلمين إلى جبهة الكفّار، وتفويت فرصة النصر عليهم، إذ يحجم المسلمون عندئذٍ عن قتل المسلمين الأسرى الذين أصبحوا دروعاً بشرية يحتمي بها الكفّار. فإنَّه يجوز الهجوم على الكفّار ولو أدّى ذلك إلى قتل أسرى المسلمين، إذا توقف النصر على ذلك. ولذلك جاز للمسلمين خوض المعارك والدخول في النـزاعات العسكرية وإن أدّت إلى سقوط الأبرياء والمدنيين ما دامت الحرب مشروعة.

هذه وجهة نظر الذين يتحمسون لما حدث، أو الذين يباركون هذا الحدث، ويباركون فاعليه، ويعتبرونهم شهداء وفي الدرجات العليا عند اللّه. وربَّما نجد الجانب العاطفي لدى الشارع الإسلامي والشارع العربي أيضاً حتّى غير الإسلامي يلتقي مع هذه النظرية، على خلفية العقدة من أمريكا التي تجعل كلّ عمل ضدَّ أمريكا محل ترحيب وتبريك.

وجهة نظر مختلفة:

ولكن لنا وجهة نظر أخرى، وقد عبَّرنا عنها في الإعلام العالمي منذ وقع هذا الحدث، وهي تنطلق من عدّة نقاط.

النقطة الأولى: أنَّ مشكلتنا هي مع الإدارة الأمريكية، وليست مع الشعب الأمريكي، وليست مع الذين يقيمون في أمريكا من الشعوب الأخرى، وليست مع الذين يقدِمون إلى أمريكا للاتجار أو لإنجاز بعض المعاملات الاقتصادية أو العلمية أو غيرها. فمشكلتنا هي مع الإدارة الأمريكية تحديداً، ولذلك لا يجوز لنا أن نعاقب هؤلاء النَّاس الذين لا علاقة لهم بالإدارة الأمريكية أو كانت لهم بها علاقات على مستوى ما، إذ يقول اللّه تعالى:)وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(([578])، فلا يجوز لك أن تحمِّل أي إنسان جريمة إنسان آخر، فكلّ إنسان يتحمَّل مسؤولية جريمته )وَأَنْ لَيْسَ للإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(([579]) سواء كان سعياً إيجابياً أو سلبياً. لذلك من حيث المبدأ هذا العمل غير جائز. وإن كان القتلى والجرحى من غير المسلمين، لأنَّ اللّه يقول )لا يَنْهَاكُمْ اللّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللّه عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(([580]) فالمسالـم وإن لـم يكن مسلماً، لا بُدَّ لك أن تتصرّف معه بالعدل وبالإحسان. وليس من العدل أن تقتله ولا أن تُصادر ماله أو ما أشبه ذلك.

والنقطة الثانية هي: هل تعود هذه العملية بالمصالح على المسلمين بما يبرر ارتكاب هذه المفاسد؟ هل تُعدّ النتائج الإيجابية التي حصلنا عليها أكبر من المفاسد لو كان المنفِّذون من المسلمين؟ لأنَّنا لا نملك دليلاً على ذلك، ولا نريد الدخول في التحقيق عن مسؤولية أيّ طرف عن هذه العملية، وإنَّما نحن بصدد دراسة المسألة من وجهة نظر إسلامية. وما هي وجهة نظر الإسلام في مثل هذا الحدث بغضِّ النظر عن الحدث الخاص نفسه؟ وهل يجوز للمسلم أن يقوم بذلك أو لا؟

إنَّنا نلاحظ أنَّ هذه المسألة ربَّما أصابت عنفوان أمريكا في الصميم، وهذا صحيح، بل إنَّنا تحدّثنا في أحاديثنا الإعلامية أنَّ أمريكا عاشت حالة انعدام الوزن لعدّة ساعات، بحيث لـم يشعر النَّاس بوجود أمريكا، فقد اختبأ المسؤولون فيما هرب الآخرون، بشكل لـم يحدث له مثيل في كلّ تاريخ أمريكا. ولكن عندما ندرس النتائج، فإنَّنا نرى أنها في غالبيتها سلبية تجاه المصلحة الإسلامية العليا، لأنَّ هذا الحدث الذي أصاب الجانب العاطفي للإنسان الغربي، باعتبار أنَّه يمثِّل المأساة، وأصاب إحساس الأمريكي بعدم الأمن وباختلال توازن حياته، وأصاب الغرب كلّه بالقلق والخوف، مما قد يحدث له على الطريقة التي حدثت مع أمريكا، إنَّ هذه الأمور قد خلقت حالةً عدوانيةً لدى الإنسان الغربي العادي، الذي كان لا يحمل ما هو سلبي ضدَّ المسلمين بشكل عام، فقد كان بعض الغربيين على اتصال بقضايا المسلمين، وبعضهم الآخر يعيش بشكل إنساني وطبيعي مع المسلمين، ولذلك فالمسألة أصابت المسلمين الذين يعيشون في الغرب بمشكلة كبيرة، في استمرار وجودهم هناك. والجميع سمع أو قرأ كيف أُحرقت المساجد، وكيف أُحرقت المدارس الإسلامية، وكيف كانت تُلاحق المرأة المسلمة المحجّبة والإنسان العربي والمسلم وما إلى ذلك، ما أفقدنا الكثير من الساحة الشعبية في الغرب، لأنَّها أصابت الإنسان الغربي في صميم حياته الخاصّة من دون أن يفهم لماذا يحدث له ذلك، خاصّة وأنَّنا لا نملك إعلاماً في الغرب، بحيث يصوِّر للغربيين الجرائم التي يقوم بها الغرب، سواء كان أمريكياً أو أوروبياً ضدَّ المسلمين أو ضدَّ العرب، ولذلك فإنَّ هذه العملية التي ربَّما أرضت عنفواننا السياسي، أدّت إلى نتائج سلبية على واقع المسلمين هناك، هذا أولاً.

وثانياً: فإنَّنا وإن كنّا نُلاحظ أنَّ هذه المسألة ربَّما أفادت من جهة، إذ وجّهت الغربيين ليتعرّفوا على الإسلام ويفهموه، ولكنَّها من جهةٍ أخرى، أعطت الرأي العام الغربي صورة مشوَّهة عن الإسلام، بحيث التقت كلمة الإسلام بكلمة الإرهاب، ونحن نعرف أنَّ الإعلام الغربي دأب منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، ومنذ المشكلة الفلسطينية، بلحاظ سيطرة الإعلام الصهيوني على الإعلام، على تشويه صورة الإسلام، ملتقطاً ما يحدث في البلاد الإسلامية، كما في الجزائر وما إلى ذلك من قتل الأطفال والنساء والشيوخ، حيثُ ولّد ما حدث هجمة فوق العادة ضدَّ المسلمين، بحيث أصبح النَّاس في العالـم الذين تعاطفوا مع هذا الحدث يحملون فكرةً سيئة عن المسلمين بأنَّهم إرهابيون، بالرغم من استنكار علماء المسلمين وإدانتهم. ولكن التيار العدائي أصبح مسيطراً.

وثالثاً: إنَّ أمريكا وإن خسرت بعض عنفوانها وهيبتها، وحتّى ثقة شعبها بها، ولكنَّها استطاعت أن تحوّل المسألة إلى مكسبٍ كبير لسياستها في العالـم، فاستغلت هذه الصدمة التي أصابت العالـم كلّه، وأقصد العالـم المستكبر، من الدول الأوروبية وروسيا والصين أو العالـم الثالث، بحيث إنَّها عندما طرحت التحالف الدولي لمحاربة ما يسمونه (الإرهاب)، لـم يستطع أحد أن يعترض على المبدأ. وإن كانت هناك اعتراضات فهي اعتراضات خجولة، كتلك التي صدرت من الدول العربية والإسلامية، وهي تتحدّث عن ضرورة تعريف الإرهاب وضرورة التفريق بين المقاومة التي هي حقٌّ إنساني حضاري للشعوب المحتلة، وبين الإرهاب، ولا يزال الجدل قائماً.

ولهذا فإنَّ أمريكا استفادت في تحريك هذا التحالف الدولي لشنّ الحرب على ما يسمونه الإرهاب، وإن لـم يُتوصل حتّى الآن إلى صيغة قانونية واقعية متحرّكة في الجانب السياسي، والذي تحدّث الرئيس الأمريكي عنه بأنَّه يشمل الجانب الاستخباراتي والمالي والسياسي فضلاً عن الجانب العسكري، فيما أخذت أمريكا تستعرض عضلاتها السياسية الآن أمام شعب من أضعف الشعوب في العالـم عسكرياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً وسياسياً، ليتعدّى هذا التهديد كلّه، إلى كلّ الذين يقفون ضدَّ السياسة الأمريكية، تحت تأثير التهمة بالإرهاب، فيما انضمّت إلى أمريكا دول تحالف شمال الأطلسي، تحت عنوان المعاهدة بين دول الحلف الأطلسي، والتي تنصّ على أنَّه إذا وقع على دولة ما من دول التحالف عدوان خارجي، فإنَّ مسؤولية كلّ الدول أن تدافع عن هذا العضو الذي اعتدي عليه. وعلى ضوء ذلك، انطلقت كلّ هذه الدول من بريطانيا إلى فرنسا وإلى إيطاليا، إلى آخر القائمة لتشارك أمريكا الحرب.

وهكذا تستفيد أمريكا من خلال حصولها على مواقع استراتيجية واقتصادية في آسيا، وبسط نفوذها على أكثر من دولة آسيوية، حتّى أنَّها يمكن أن تُحاصر روسيا من جهة، أو تُربك السياسة الروسية، أو الصينية، بالإضافة إلى باقي الدول من إيران وباكستان والهند وما إلى ذلك، لذلك فإنَّ أمريكا بالرغم من الجانب المعنوي الذي فقدته، استطاعت أن تربح ربحاً كثيراً لـم تحلم به في تاريخها من الجهة المادية السياسية.

وهكذا رأينا أنَّها أثارت الحرب ضدَّ الشعب الأفغاني باسم الحرب على نظام طالبان بحجّة إيوائه ما يسمونهم بالإرهابيين، وبحجّة أنَّ الحرب تنتهي بالقبض على الإرهابيين وما إلى ذلك. وصحيح أنَّ الشعوب الإسلامية قامت بالتظاهر ضدَّ هذه الحرب، ولكنّ ليس بالمستوى اللائق والفاعل، لأنَّ الأنظمة قد صادرت شعوبها، كما منعت التعقيدات في أكثر البلدان العربية والإسلامية هذه الشعوب من القيام بمظاهرات استنكارية.

لذلك عندما ندرس السلبيات التي تولّدت من هذا الحدث وما تزال السلبيات تتحرّك، من تهديدٍ هنا وتدخل هناك، ومن تلويحٍ بتجميد الأرصدة هنا وتقديـم قوائم بالإرهابيين هناك، ما حدا بأمريكا لأن تطلب من الدول أن تغيّر قوانينها في قضية السرّية المصرفية أو ما أشبه ذلك، ونقارن بين هذه السلبيات وبين الإيجابيات فيما يمكن أن يستفيد منه المسلمون والإسلام بالذات، أو يخسره، نجد أنَّ السلبيات أكثر، ولهذا فإنَّنا عندما نواجه مثل هذه الأحداث لا بُدَّ أن نواجهها بطريقة عقلانية لا انفعالية، لأنَّنا نواجه في العالـم التحدِّيات الكبرى في سياستنا واقتصادنا وأمننا وثقافتنا، وعلينا أن نحسب حساب كلّ خطوة نخطوها.

ليست دعوة للتجمّد:

إنَّني لا أريد أن أدعو إلى التجمّد ولا أدعو إلى الخوف أمام الاستكبار، فإنَّ اللّه يقول: )وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس وَلِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(([581]). لكن عندما نريد أن ندخل حرباً علينا أن ندرس خطّة الحرب، بحيث لا يكون ما نقوم به مجرّد صوت في الفراغ، ثُمَّ يتلاشى عندما تقع الحرب، بل علينا دراسة نتائج الحركة لتكون نتائج إيجابية على مستوى المستقبل الإسلامي.

ولذلك نحن قلنا جواباً على كثير من الأسئلة التي وجهت إلينا من قبل الإعلام الغربي عن سبب عدم اعتبار هذا العمل استشهادياً في الوقت الذي نعتبر فيه ما يقوم به الفلسطينيون عملاً استشهادياً، مع أنَّ الأبرياء يسقطون هنا وهناك؟ أن هناك فرقاً بين الموردين، لأنَّ في فلسطين شعباً احتلت أرضه وطرد منها وهناك حرب ساخنة، يستخدم فيها الصهاينة كلّ الأسلحة الأمريكية لإبادة الشعب الفلسطيني، في عملية تشبه عملية الإبادة، ولا يملك الفلسطينيون ما يدافعون به عن أنفسهم إلاّ بتفجير أنفسهم، وبهذا أسقط الاستشهاديون مشروع شارون عندما دخل رئاسة الوزارة الصهيونية، وهو يعد اليهود بالأمن، ولذلك فإنَّ الفلسطينيين الاستشهاديين لـم يوجهوا تفجيرهم للمدنيين، بل وجهوه للأمن الإسرائيلي، ولا يمكن أن يقتلوا الأمن الإسرائيلي إلاَّ من خلال سقوط المدنيين، فضلاً عن هذه الحرب الساخنة التي يشترك فيها اليهود كلّهم. أمّا في أمريكا، فليست هناك حرب ساخنة، هذا علاوةً على أنَّ المجتمع اليهودي مجتمع عسكري كلّه، وهو في الخدمة العسكرية وعلى أهبة الاستعداد والإنذار والاحتياط. مع ملاحظة فقدان فرصة الدفاع أمام الفلسطينيين والتي انحصرت في الاستشهاد، في وقت يعيش فيه اليهود بأمان وطمأنينة ويسكنون مساكن الفلسطينيين وينعمون في أرضهم.

أمّا في أمريكا، فإنَّ الأمر مختلف، فالنَّاس في مركز التجارة العالمي ليس لديهم دخل في الموضوع. ولذلك هناك فرق بين الموردين، فإنَّنا نبرّر العمليات الاستشهادية ونعتبرها جزءاً من آلية الجهاد عندما يتوقف الجهاد عليها، وأمّا غيرها من العمليات فإنَّها ليست عمليات استشهادية، خاصّة وأنَّها عملت على تحويل ركاب الطائرات الذين لا علاقة لهم إلى قنابل متفجّرة، فيما أطاحت بآخرين كانوا آمنين في مواقع عملهم.

ومنذ أن راج خطف الطائرات ـ منذ زمن بعيد ـ أعلنّا بشكلٍ فقهي شرعي حرمة خطف وسائل النقل، فليس لأحد أن يختطف سيارة أو طائرة أو سفينة، لأنَّ وسائل النقل هذه يجب أن تبقى آمنة ويبقى أهلها آمنين، و اعتبرت خطفها أمراً غير جائز شرعاً مهما كانت القضايا.

ما أريد قوله هو أنَّ علينا أن لا نتحرّك في مواجهة التحدّيات التي توجه إلينا بعقلية المغامرة أو بعقلية الانفعال، بل علينا أن ندرس كلّ حركة سياسية أو عسكرية أو أمنية، حتّى نعرف من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ وعلينا أن نتذكر الحديث النبوي الشريف عندما جاء شاب إلى النبيّ(ص) وقال له: ((أوصني يا رسول اللّه، قال: هل أنت مستوصٍ إذا أنا أوصيتك؟ قال: بلى، وكرّر عليه القول ثلاث مرات، ثُمَّ قال: إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يكُ رشداً فأمضه، وإن يكُ غيّاً فانته عنه))([582]).

علينا أن لا ننظر إلى بدايات الأمور، بل أن ننظر إلى نهاياتها، ولا سيّما أنَّنا في عملنا السياسي، وفي عملنا الأمني، وفي عملنا الثقافي دعاة إلى اللّه، فكلّ حركة تضعف ساحة الدعوة إلى اللّه وتحاصر حركتنا في الدعوة إلى الإسلام غير مقبولة، ونحن إذ نعتبر العمل السياسي عملاً في خطّ الدعوة إلى اللّه لا بُدَّ أن يأخذ حركيته من هذا الطابع، وكذلك العمل الاقتصادي والعمل الأمني. ولهذا استنكرنا ما حدث في أمريكا، لأنَّنا كنّا على وعيٍ دقيق، وواسع للأحداث والنتائج، وفي الوقت نفسه أصدرنا فتوى بأنَّه يحرم على كلّ دولة إسلامية، أو كلّ جهة إسلامية أن تساعد أمريكا في حربها ضدَّ المسلمين، ولا سيّما أفغانستان، ولا نزال نثير الثائرة ضدَّ الحرب الأفغانية، لأنَّها حربٌ تفتقد إلى أيّة شرعية، وهذا ما تحدّثنا به في كلّ أحاديثنا الإعلامية في العالـم.

كما علينا في ذكرى المبعث النبوي أن ندرس أسلوب النبيّ(ص) ومنهجه وطريقته وأسلوب المسلمين في كلّ ما حصلوا عليه من نتائج إيجابية لمصلحة الإسلام، وأن نستهدي أسلوب القرآن وأسلوب السيرة في كلّ أوضاعنا، وندرس المستجدات، لتبقى المسألة هي: ما هي مصلحة الإسلام في ذلك كلّه؟ والحمد لله رب العالمين.

 


 

المحاضرة الثامنة والعشرون 10 شعبان 1422ه‍ - 27/ تشرين الأول /2001م

 

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (16)

رابطة الحب الإنسانية

 

 

* في نفس كلّ إنسان فراغ يملؤه الآخر ليس فقط بين الرجل والمرأة، بل بحاجة الرجل إلى صداقة ومودة الرجل، وحاجة المرأة إلى ذلك *

 

 

 
 
 
 
 

الاستهداء بعلي(ع).

إشاعة المحبّة والألفة.

دروس في المخالطة.

علي(ع) منهج الحياة.


       بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

ونبقى مع الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في عنوان جديد، وهو يتحدث عن طبيعة ارتباط الإنسان بأخيه الإنسان، ارتباط المودة والحب، وكيف يتبادل معه الحب بالحب والمودة بالمودة؟ وكيف يتوفر الإنسان على ما يشجع محبة الآخرين، وما هي العناصر التي تحفّز على ذلك؟ وكيف يحب الإنسان الآخر، وما هي الدرجة التي لابد للحب أن يبلغها؟ وعندما يبغض الإنسان فما هي الدرجة التي ينبغي للبغض أن يبلغها؟ ثم هل يملك الإنسان أن يتحرك بالطريقة التي يفقد فيها الإخوان الذين ربحهم باختياره أو لا؟

هذه العناوين المتحركة هي التي تمثل حاجاتنا في حياتنا الاجتماعية كلها، ولا سيما في حياتنا الإسلامية التي فقدنا فيها الكثير من الحب واستبدلناه بالبغض، فلم يتوازن الحب فينا كما لم يتوازن البغض، فأصبحنا نحب حباً أعمى لا يفتح نافذة للتغيير، ونبغض بغضاً أعمى لا نبقي فيه مجالاً للحب.

الاستهداء بعلي(ع):

ونحن هنا نريد أن نستهدي عليا(ع) إمام الهدى، لأن علياً(ع) إنسان الروح والفكر والحياة، وهو الذي انطلق ليخاطب الإنسان كلّه في الزمن كلّه، ولذلك فإن كلّ علامات الاستفهام التي ترتسم في عقل الإنسان حول أية قضية من القضايا التي تتحرك في حياتنا، نجد أن عند علي(ع) جواباً لها. فتعالوا إليه لنعرف كيف نحب، وكيف نملأ حياتنا بالحب، وكيف يتوازن الحب فينا؟

في كلمة له(ع) هو يدّلنا كيف نجتذب الآخرين للحب فيقول: ((قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت إليه))([583]) ولا يقصد أمير المؤمنين(ع) من الرجال المعنى الذكوري للكلمة، بل يريد الإنسان، بمعنى أن كلّ إنسان لا علاقة بينك وبينه فإنه يستوحش منك، لأن كلّ إنسان لا يعرفك و لا تربطه بك علاقة، فإن الشك يطوف به حول ما تفكّر فيه تجاهه أو حول طبيعة عناصر شخصيتك، وهل هي عناصر تتحرك في مصلحته أو لا تتحرك في مصلحته؟ لذلك فإنّ من الطبيعي أنك عندما تلتقي إنساناً لا تعرفه، فإنه يعرض عنك ولا يقبل عليك، فإذا أحببت أن يقبل عليك فحاول أن تتألفه، ومعنى أن تتألفه أن تقوم بالوسائل والأساليب التي تجعله يألفك، بالابتسامة - مثلاً - وهي التي تمثل رسالة القلب إلى القلب. ولذلك كان من صفات رسول الله(ص) إنه دائم كان الابتسام، وكان ذلك من صفات الأئمة(ع) كذلك، وهذا ما عبّر عنه الفرزدق في قصيدته التي يمدح بها الإمام علي بن الحسين(ع) عندما قال

يغضي حياءً ويغضى من مهابته                   فلا يكلم إلاّ حين يبتسم

على احتمال إرجاع الكلام إليه وأنه لا يتكلم إلاّ وهو يبتسم، فكانت بسمته تسبق كلمته. والابتسامة - أيها الأحبة كما قلنا - رسالة القلب إلى القلب، لأن معنى أن تبتسم للشخص هو أنك تقول له إن علاقتي بك هي علاقة الفرح، ومعنى أن تسلّم عليه فذلك رسالة أخرى. ولذلك كان من أخلاق الإسلام إفشاء السلام، وكان من صفات رسول الله(ص) أنه يبتدأ من يلتقيه بالسلام، وقد أراد الله لنا أن نعيش تحية الإسلام، حيث ورد في الحديث ((للسلام سبعون حسنة تسع وتسعون للمبتدئ وواحدة للرادّ وإن أحسن فعشر))([584])، لأن كلمة السلام هي الكلمة التي تعبّر للآخر أن علاقتك به علاقة الحبّ والسلام لا علاقة الحرب. ولهذا أراد الله سبحانه وتعالى لنا أن نعيش ذلك فسمَّى جنته دار السلام في قوله تعالى )لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ(([585]) ، وجعل تحية أهل الجنة السلام كما في قوله تعالى )تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ(([586]). ويقول تعالى )وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ(([587]) فأراد الله لنا أن نتدرب على السلام، بأن نعطي السلام لكلّ الناس، فيوجب ذلك الألفة. وكذلك الكلمة الطيبة عندما ترسلها إلى الإنسان الآخر الذي تلتقيه، فإنها رسالة أخرى تفتح قلبه، وهكذا في كلّ ما يمكنك أن تحتوي به الإنسان الآخر. وهذا ما أشار إليه الإمام(ع) في قوله: ((قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه))([588]).

إشاعة المحبّة والألفة:

ثم عليك أن تدرس الناس من حولك، فإذا كنت تريد أن تجتذب إنساناً إليك، فادرس عناصر شخصيته، وتعرّف ما يحبّ وما يبغض، وادرس كلّ نقاط ضعفه وكلّ نقاط قوته، وحاول أن تحرك ذلك كله، فإذا عاش الانسجام معك من خلال هذه الوسائل التي تنسجم مع أفكاره ومشاعره وأحاسيسه، فإن من الطبيعي أن يتحول هذا القلب الوحشي إلى قلب أليف، تماماً كالحيوان، و لا نريد أن نشبّه الإنسان بالحيوان، ولكن وسيلة إيضاح الفكرة قد تفرض ذكر مثال من هذا القبيل، ونحن نشهد كيف يتآلف المدربون بالحيوانات التي يريدون تأليفها، فإنهم يدرسون الحيوان ويدرسون حاجاته، ويدرسون طبيعته، فيحاولون أن يتعاملوا معه بما يشعر فيه بالانجذاب إليهم. وهذا أمر نلاحظه في كلّ الذين يدرّبون الحيوانات حتى المفترس منها، فيتألّفونها ويوظّفونها في الكثير من الوظائف التي هم بصدد الإفادة منها، سواء في السيرك أو غيره. وعلي(ع) وهو يقول ((قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه))([589]) يشير إلى هذه الظاهرة، لأن ما من شأنه أن يفتح قلب الإنسان عليك مما ذكرنا من وسائل يعود بالربح عليك. ومن تلك الوسائل ما أشار إليها أمير المؤمنين(ع) بقوله ((احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك))([590]). بمعنى هل تريد أن ينفتح الآخر عليك بالخير انفتح عليه إذاً بالخير، فرّغ صدرك من كلّ إحساس بالشر للناس، واجعل قلبك ينبض بالخير، فستنطلق هذه النبضات التي تحمل الخير في قلبك إلى صدور الآخرين لتنزع الشر منها، لأن الآخرين إذا رأوا منك ومن سلوكك معهم - الذي يكشف عن كلّ ما تختزنه في نفسك - ما يوحي بالحب انجذبوا إليك، لأن الإنسان عندما يشعر بالنبضات الإنسانية في الإنسان الآخر تتحرك نبضاته الإنسانية بذلك.

وهكذا نجد الإمام علي(ع) يحدثنا في هذا المجال فيقول : ((مودة الآباء قرابة بين الأبناء))([591]) فعندما يكون آباؤكم أصدقاء و أودّاء لآباءٍ ممن حولكم، فإن المودة المتبادلة بين الآباء هي نوع من القرابة بين الأبناء، إذ تسهم هذه المودة بخلق مودة جديدة بين أبنائهم تصل إلى حد القرابة. بل أنّ القرابة لولا المودة لا قيمة لها، ولذلك يقول(ع) ((والقرابة أحوج إلى المودة من المودة إلى القرابة))([592]) لأن القرابة مجرد علاقة في الدم، أما المودة فهي علاقة القلب بالقلب، والروح بالروح، والإحساس بالإحساس، وكي تتعمق القرابة لابد أن تُعبّأ بالمودة، فالقرابة بحاجة إلى المودة، والقرابة أحوج إلى المودة من المودة إلى القرابة، لأن المودة هي التي تربط الإنسان، في عناصر إنسانيته، بالإنسان الآخر في عناصر إنسانيته، فأي حاجة إلى الدم أن يرتبط بالدم ما دامت الروح ترتبط بالروح؟!

دروس في المخالطة

وهكذا يتابع الإمام علي(ع) المسألة في طريقة معاشرة الناس، ومخالطتهم، ولابد للإنسان أن يختلط بالإنسان، لأنه المدني والاجتماعي بطبعه، وفي نفس كلّ إنسان فراغ يملأه الآخر، ليس فقط بين المرأة والرجل في إحساس المرأة بالفراغ للرجل وإحساس الرجل بالفراغ للمرأة، بل الرجل بحاجة إلى الرجل الآخر، حاجته إلى صداقته ومودته وحاجته إلى التعاون في الحياة كلها، وكذلك حاجة المرأة إلى المرأة في كلّ ذلك. ولذلك يوجهنا(ع) إلى أسلوب المخالطة فيقول ((خالطوا الناس مخالطة إن متُّم معها بكوا عليكم))([593]) بحيث تكون مخالطتكم لهم ملأى بالحب والخير والتعاون والمساعدة. فيشعرون بوجودكم الأساسي في الحياة، بحيث لو متم لشعروا بالفراغ الكبير والضياع، لغياب هذا الحب وهذا الخير وهذا التعاون، لأنكم كنتم تملأون حياتهم بكلّ هذا الزخم من المشاعر الصادقة والطاهرة. ((وإن عشتم حنّوا إليكم)) وإذا غبتم عنهم حنّوا إليكم لأن الإنسان يحنّ إلى من يحب، ويحن إلى ما يملأ فراغ نفسه. وهكذا يقول الإمام(ع) في وصيته إلى الإمام الحسن(ع) : ((يا بني اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك)) فعندما تريد أن تتصرف مع الآخرين فكّر كيف تحب أن يتصرف الآخرون معك في هذه الحال أو تلك الحال. ((فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم)) لأن عليك ان تكره الظلم كله، فكما تكره ظلم الآخرين لك اكره ظلمك للآخرين، لأن الإنسان الذي يرفض الظلم لابد أن يرفضه كمبدأ، ولا يعيش الأنانية في مسألة الظلم، ((وأحسن كما تحب أن يحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس ما ترضاه لهم من نفسك))([594]) فارضَ للناس في كلّ أمورهم بما ترضاه للناس من نفسك في المعاملة. وهو يقول(ع) ((كفاك أدباً لنفسك اجتناب ما تكرهه في غيرك))([595]) ((ولا تقل ما لا تعلم وان قل ما تعلم))([596]) بمعنى اقتصر على ما تملك ثقافته و لا تتكلم بما لا تملك علمه لتحصل على ثقة الناس واحترامهم لك في انسجام كلامك مع الفكرة المرتكزة على العلم الذي تملك عناصره الفكرية في ثقافتك بينما تمثل الكلمات الناتجة عن عدم وعي المعرفة للفكرة احتكارهم لك، ((ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك)) فلا تبادر الناس بالكلمات التي لا تحب للناس أن يبادروك بها. ومن الطبيعي أن مثل هذه المفردات الأخلاقية التي تجمعها كلمة العدل مع الناس، تشعر بأن للناس حقاً عليك تماماً كما أن حقاً لك على الناس وأن تُوازن بينهما، وقد بلغ كلام رسول الله(ص) القمة في ذلك وهو يربط بين أن تكون مؤمناً وبين هذا المعنى إذ يقول(ص) ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها))([597]).

ويقول علي(ع) في كلمة له أيضاً: ((وإذا حييت بتحية فحيي بأحسن منها)) وهذا من عناصر اجتذاب الناس إليك وتمتين علاقتك بهم، وهذا منهج قرآني، كما في قوله تعالى )وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا(([598])، فلا تهملوا التحية فإن لم تحيوا بالأحسن فلا أقل بالمساوي. فمن قال لك (السلام عليك)، فقل (السلام عليك ورحمة الله وبركاته)، ومن قال لك (صباح الخير)، فقل له (صباح الخير أهلاً ومرحباً بك)، ليشعر أن تحيتك له من روحك ومن قلبك ومن أعماقك. ويقول(ع): ((وإذا أُسديت إليك يدٌ فكافئها بما يُربى عليها))، فإذا قدّم لك أحد خدمة فلتكن مكافئتك له بما يزيد عليها ويبقى الفضل للبادئ. فإن الذي حيّاك بتحية إنما بادلك الحب والتكريم وهو صاحب الفضل لكونه البادئ، وهو الذي فتح قلبك، ولذلك يقول(ع): ((والفضل مع ذلك للبادئ)). وينقل في هذا المجال إن الرئيس الأمريكي (إبراهام لنكولن) الذي قيل أنه صاحب مشروع تحرير العبيد في أمريكا كان ماشياً وقد مرّ على شخص يهزأ بالعبيد فبادره لنكولن بالسلام ومدّ له يده، فقيل له : إن السلام من واجبه هو ، فقال: إنما بادرت لمصافحته لأني أحترم نفسي، لأني إن بادرت بالسلام فهذا يعبّر عن إنسانيتي، وإن بادر هو فيكون هو صاحب الفضل، وعندئذٍ سيكون ردّ سلامه مجرد ردّ فعل. وقال أمير المؤمنين(ع) في بعض كلماته، ((مقاربة الناس في أخلاقهم أمن من غوائلهم)) بمعنى أن مقاربة الناس تعود عليك بالفائدة أيضاً فضلاً عن الصداقة، لأنك إذا انفتحت على الناس في اجتذاب أخلاقهم لأخلاقك، أو اجتذاب أخلاقهم إليك، فإنك تأمن من مشاكلهم، لأنهم إن أحبوك فإنه لا يمكن أن يأتي الشرّ إليك منهم. وفي مقابل هذا الجانب الإنساني المضيء ثمة جانب سلبي يشير إليه(ع) بقوله ((من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون)) فمن كان من الناس سريعاً في فعل أو قول مكروهٍ في الناس فإنهم سيقولون فيه ما ليس فيه، وذلك كرّد فعل على طريقته في الحديث وتناول الناس، خصوصاً إذا كان هذا الكلام منطلقاً من الحالة الغرائزية والإنفعالية فإنه يفتقر إلى التوازن.

وفي كلام لعلي(ع) آخر يقول فيه ((أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأخوان وأعجز منه من ضيّع من ظفر به))، بمعنى أن الإنسان الذي لا يقدر على تكوين علاقات الصداقة مع الآخرين فإنه من أعجز الناس، ولكن اعجز منه من وفّق لتكوين علاقات الصداقة مع الآخرين ثم يفرّط بهذه الصداقة ويضيعها. وهذا يعني أن يحافظ الإنسان على صداقته للآخرين قدر المستطاع ويبذل جهده في ألاّ تضيع )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا(([599]). فالمهم أن تعمل على أن تجتذب أصدقاءك وأن تحتفظ بصداقتهم وأُخوّتهم. ويقول(ع) أيضاً ((عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد الشر بالإنعام عليه)). ولطالما اختلف الإخوان في النسب وفي الصداقة، فيتعاتبون، فيقول هذا إنك فعلت معي كذا، وذاك يقول إنّك فعلت كذا. أما الإمام(ع) فيقول عاتب أخاك بالإحسان إليه والإنعام عليه، وهذا أحسن وأفضل مصاديق العتاب. فليكن عتابك إليه بالسلام عليه ومعانقته وضمّه إليك، و لا تقل إن كرامتي وعزتي تقتضيان عدم الخضوع له، فإن الله سبحانه وتعالى وهو العزيز )فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا(([600]) يغفر لعباده ويتوب عليهم، فهل يغفر لهم عن ضعف؟

ويقول(ع): ((المودة قرابة مستفادة)) لأن المودة كالقرابة من حيث الاندماج بالآخرين، حيث تندمج عناصر الإنسانية في شخصك وعناصر الإنسانية في الآخر، فتتوحّد الإنسانيتان في شعور وإحساس واحد.

ويقول(ع) - و لازلنا في رحاب علي(ع) - ((إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه))([601]) فهو(ع) يحض المؤمن على أن يبذل نفسه لأخيه و لا يحتشمه، إذ ليس هناك رسميات بين المؤمن وأخيه المؤمن. لأن الله يقول )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(([602])، وإذا أنت وضعت حواجز بينك وبين المؤمن، فإنك تعلن مفارقتك له ((إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه)).

ويقول(ع): ((شرّ الأخوان من تُكُلّف له))([603]) فالأخ الذي تكلّف نفسك له - فتعدّ له- مثلاً - مائدة طويلة عريضة وتخسر ما تخسر وتتحمل من المشاكلّ ما أنت في غنى عنه، يصبح كالغريب وليس أخاً حقيقياً، لأن الأخ الحقيقي لا يتكلّف له، ولا تتطلب أخوته مثل هذا التكلّف. إن بعض الناس يتطلب من إخوانه التكلف له، فيبذلون جهدهم في تعظيمه كما يفعلون مع الغريب، في وقت لابدّ فيه من أن نجعل مع الأخوان نوعاً من وحدة الحال كما يقولون. ولذا يقول الإمام علي(ع) في وصيته الأخيرة ((وعليكم بالتواصل والتباذل وإياكم والتدابر والتقاطع)) وهنا يركّز الإمام(ع) لنا كيف نحب؟ هل نحبّ حباً أعمى؟ هل نحبّ مائة بالمائة؟ وكيف نبغض؟ هل نبغض بغضاً أعمى فنبغض مائة بالمائة أو لا؟

يقول(ع) ((أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما)) فعندما تحب لا تربط كلّ الجسور مع من تحب، بل اجعل لك جسراً تهرب منه، لأنه يمكن أن ينقلب إلى بغيض، وما أكثر ما تحوّل الأصدقاء إلى مبغضين.. أحبّه لكن بنسبة 80% واجعل 20% بينك وبينه من التحفظ والحذرحتى إذا تحول هذا الحب إلى بغض، فإنك تستطيع أن تجد نافذة تهرب منها. ((وابغض بغيضك هوناً ما)) فلا تبغض من كلّ قلبك، فاجعل زاوية في قلبك للحب ((عسى أن يكون حبيبك يوماً ما))([604]) فلا تنسف كلّ الجسور مع من تبغضه، بل أبق جسراً يمكن أن يعود إليك فيه أو تعود إليه فيه. وهذا – أيها الأحبة – لا يقتصر على الجوانب الأخلاقية الشخصية، بل يشمل الجوانب السياسية والجوانب الاجتماعية والجوانب الاقتصادية، وكأن الإمام(ع) يريد أن يقول لا تقاطع و لا تواصل بالمطلق. فإذا كانت هناك مشكلة على المستوى السياسي مثلاً بين دولتين أو حزبين، فلتكن هناك مساحة لا تشملها القطيعة، يمكن الرجوع إليها عندما تتغيّر الأمور، كأن تكون هناك مصالح تفرض العودة، أو كان من الضروري أن يعطى الآخر فرصة للعودة. وكذلك عندما تتواصل مع أي فئة، سواء على المستوى السياسي أو على مستوى العلاقات الاقتصادية أو الاجتماعية، فلا تجعل العلاقات وطيدة مائة بالمائة، بل اترك نسبة ولو ضئيلة بمكن معها أن تمّكن نفسك من الانسحاب من هذه العلاقة لو أصبحت عبئاً. وبكلمة مختصرة كان الإمام(ع) يريد أن يقول: كن حذراً، والحذر شيء وقضية التعقيد شيء آخر.

ويقول(ع) في حديث آخر ((اتق شر من أحسنت إليه)) ولا يعني ذلك أن كلّ من تحسن إليه سوف يأتيك الشرّ منه، فالإمام(ع) لا يقصد ذلك، بل يعني أن لا تستسلم إلى من أحسنت إليه. فإذا خدمت شخصاً أو أحسنت إلى شخص فلا تغمض عينيك، وتقول إن فلاناً قد أديت له خدمة وليس من المعقول أن يؤذيني، فإن بعض الناس كلّما خدمته أكثر يتعقّد اكثر. فقوله(ع) ((اتق شر من أحسنت إليه)) يعني أحذر منه، فلعلّ الشر يأتيك منه، أي كن حذراً و لا يعني أن تتجمد في حياتك أو تتعقد من الآخرين، بل كن كما هي العفوية، إن في الحب وفي البغض، أو في التواصل وفي التقاطع. سر في حياتك سيراً طبيعياً لكن افتح عينيك، وكن حذراً، كما هو الشخص الذي يسير في الطريق لابد أن يكون حذراً، فلعل هناك من حفر له حفرة، يمكن أن يقع فيها، والحذر إنساني، في سيرك وفي نومك، وفي صحتك، وكما قلنا فإنّ هذا المنهج هو للحياة كلها ولا يشمل العلاقات الشخصية وحسب بل يشمل كلّ العلاقات. ونحن في عالم تنطلق فيه الصداقات والعداوات على أساس المصالح، وربما تتشابك المصالح والمفاسد، لذلك يشير الإمام(ع) إلى هذا المنهج لنكون على وعي لما نتحرك فيه.

وفي هذا الإطار هناك كلمة للإمام(ع) في مسألة الثقة، فنحن نثق بعلماء الدين وبسياسيين وبشخصيات اجتماعية وبأناس متدينين، وبمن نراه زاهداً فنقول أنا أثق بفلان ثقة عمياء، وهذا أمر شائع في حياتنا. أما الإمام(ع) فيقول ((لا تثقن بأخيك كلّ الثقة)) فلا تثق بإنسان ثقة مطلقة مادام ليس معصوماً مائة بالمائة، لأنه قد يكون طوال عشرين سنة مستقيماً، ثم بعد ذلك تدور الدوائر وينقلب 180 درجة، على مستوى العلاقات الشخصية أو الإيمانية أو ما إلى ذلك، ((فإن صرعة الاسترسال))([605]) والاسترسال يعني أن تمشي معه خطوة خطوة فإذا وقعت فإنك لا تستطيع أن تقوم من صرعتك إذا صرعت، وأفضل مثل تقريبي وتوضيحي هو ما يكثر في عالم السيارات فإن السائقين يتركون مسافات أمان بين سياراتهم أثناء المسير، وذلك لتفادي الكوارث والحوادث، لأن السير بسرعة هائلة خلف بعضهم البعض دونما اهتمام لهذه المسافة لا يمكنّهم من تفادي هذه الحوادث لو حصل مكروه لمن يتقدم منهم من السائقين. وكما قلنا فإن الإمام(ع) لا يريد لنا أن نفقد الثقة في بعضنا البعض، ولكنه يريد الثقة التي فيها شيء من الحذر، حتى لا تسقطك نقاط الضعف الموجودة في الآخر، فلا تستطيع أن تحمي نفسك منه. ويشير الإمام(ع) إلى ظاهرة متعارفة عندنا إذ تمر على بعض الحوانيت وقد علقت لوحة كتب عليها (الدين ممنوع بأمر من قطع سبيل المعروف)، لأننا أقرضنا بعض الناس، وأكلوا علينا ديننا. هنا الإمام يريد أن يزيل هذه العقدة، لأنك يمكن أن تخدم إنساناً و لا يشكرك على خدمتك، بل قد يتعقّد منك، مما يجعلك أن لا تعمل خيراً مع أحد، لأنك فعلت خيراً مع فلان، ولم يذكرك ومع فلان وفلان وهكذا. هذه طبيعة إنسانية، أما الإمام(ع) فيقول ((لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك)) لا تقل لمن أفعل بعد هذا خيراً، لأن فعل الخير مبدأ وليست من أجل سواد عيون فلان وفلان، بل إنّك تعمل الخير لأنك إنسان الخير، وإذا كان هذا الشخص لا يشكرك، فإن هناك أناساً يشكرونك حتى الذين لا ينتفعون منك. فيقول الإمام(ع) ((فقد يشكره لك من لا يستمتع لشيءٍ منه)) فقد يكون هناك أناس يراقبونك وهم يحبون الخير ويرونك وأنت تعمل الخير، فتمتلئ قلوبهم حباً لك وتتحرك حياتهم تأييداً لك، فتحصل من خلال شكر هؤلاء الذين يحبون الخير ولا ينتفعون منك فيه أكثر مما أضاعه ذلك الذي خدمته وكفر بالنعمة. ((وقد تجد من شكر الشاكر أكثر مما أضاع الكافر))([606]).

علي(ع) منهج الحياة:

أيها الأحبة، هذا هو علي بن أبي طالب(ع) في مواعظه ووصاياه، وهذه الكلمات هي أعظم من ضربته لمرحب وأعظم من ضربته لعمر بن عبد ود. لأن علياً يحارب البغض والعداوة وسقوط الإنسان وكلّ القيم السلبية في الإنسان، وعلي(ع) يرتفع حيث يتضع الناس، ويسمو حيث يسقط الناس. لذلك فإذا أحببتم علياً فحاولوا أن ترتفعوا إلى عليائه وإلى فكره وإلى روحه وإلى خُلقه وإلى كلّ منهجه في الحياة. ويبقى علي للحياة كلها، وللإنسان كله، ويبقى المثل بعد رسول الله(ص) إذ لا يقارن به أحد و لا يقرن به أحد. فعلي(ع) ليس الإنسان الذي ندخله في تفاصيل قضية الفاضل والمفضول في الخلافة وفي غير الخلافة وتنتهي المسألة، بل علي(ع) فوق كلّ الذين يعيشون إنسانيتهم بعد رسول الله(ص) . ولهذا فعلينا - أيها الأحبة - أن نظل معه نقرأه ونتفهمه وهو القائل ((ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد))([607]). كأن عليا يقول ساعدوني على أنفسكم في وقت لا أحتاج فيه إلى مساعدتكم، فهل نساعده على أنفسنا، هذا هو السؤال الكبير، والجواب هو في حركتنا في الحياة. والحمد لله رب العالمين.

 

 


 

المحاضرة التاسعة والعشرون 17 شعبان 1422ه‍ - 3/ تشرين الثاني /2001م

 

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (17)

موقع الفكر في حياتنا

 

 

* أن يكون الإنسان مفكّراً فذلك يعني مقدار احترامه لنفسه *

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 

التفكير مفتاح المعرفة

التاريخ مصدر فكر

مع علي(ع) في رحابة علمه

الفكر عبادة

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

وتبقى للحديث عن أمير المؤمنين علي(ع) ومعه – دائماً- تتمة، وحديثنا اليوم عن موقفه من الفكر وموقعه في حياة الإنسان، فأن يكون الإنسان مفكّراً فذلك يعني مقدار احترامه لنفسه، لأن الإنسان بدون فكر هو مجرد حيوان يعيش غرائزيته، وذلك لأنّ الفكر يمثّل في عمقه النافذة التي يطل منها الإنسان على نفسه، وعلى الكون من حوله، وعلى الناس في حياتهم.

التفكير مفتاح المعرفة:

فبالفكر يمكن للإنسان أن يعرف الله، وبالفكر أيضاً يعرف نفسه، وبالفكر يعرف الناس من حوله، وبالفكر يتعرّف على ظواهر الكون كلّها، لينفذ إليها من خلال التأمل الفكري تارة، ومن خلال التجربة التي يتحرّك الفكر في كل مواقعها تارة أخرى، فيستطيع أن يفهم الكون وظواهره، وأن يأخذ نتاج ذلك في كلّ ما يخترعه وما يبتدعه وما يتحرك به في هدى السنن الكونية. وينقل عن (ديكارت) الفيلسوف الأوروبي المعروف أنه عندما أراد أن يستدلّ على وجوده قال ((أنا أفكر فأنا موجود)). ومن وحي الخط الإسلامي يمكن للإنسان المسلم أن يقول ((أنا أفكر فأنا مسؤول)) لأن مسألة أن تفكر تعني أنك تعيش مسؤوليتك، وتشعر بإنسانيتك المسؤولة.

لقد تحدّث الله سبحانه وتعالى عن الفكر في أكثر من آية، ومن خلال هذا المنهج القرآني تحدث علي(ع) عن الفكر وموقعه ودوره أيضاً. ولذلك نحاول في هذا اللقاء أن نستنطق بعض الآيات القرآنية التي تمثّل سرّ الثقافة الإسلامية في عقل النبي(ص)، الذي أراد الله في القرآن الكريم أن يثبّت فؤاده، وفي عقل علي(ع) الذي تحدّث عن القرآن كما لم يتحدث أحد عنه، وفي واقع المسلمين الذي قال الله عنهم أنه أنزل القرآن عليهم ليثبّت الذين آمنوا منهم.

فلنستنطق بعض آيات القرآن لنفهم منهج علي(ع) من خلال المنهج القرآني نفسه. ومن ذلك قوله تعالى )كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(([608]) فتوحي هذه الآية بأن كل آيات الله التي يظهرها أو ينزلها، هي وسيلة من وسائل تنمية العقل الإنساني، لأنها تُموِّن العقل الإنساني بالحقائق التي تنفذ إليه، فيملك من خلالها أن يدرك الحق من الباطل، فيقول الله تعالى )وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ(([609]) والألباب هي العقول، بمعنى أن الذين يتذكرون هم أو العقول، لأن الإنسان الذي يعيش عقله ويحرك عقله، هو الإنسان الذي لا يمكن أن يعيش الغفلة في حياته التي تنسيه مسئوليته، وتنسيه كل تأريخه، وكل ما قام به في حياته من أعمال وعلاقات. إنها تعطي لأهل العقل ميزة إنسانية باعتبارهم النموذج الإنساني الذي يبقى يقظاً واعياً منفتحاً ذاكراً. ويقول تعالى )قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ(([610]) فادرسوا التاريخ كله، تاريخ من قبلكم، في ما حرَّكه الله من السنن التاريخية التي تنظم حياة المجتمعات، وهي تتحدث عن الخطوات التي أدت إلى النتائج السلبية، وعن الخطوات التي آلت إلى النتائج الإيجابية )فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(([611]) من خلال التاريخ، فادرسوه دراسة فكر وبصيرة لا دراسة لهو وتقضية فراغ، بل ادرسوه من أجل أن تعرفوا كل هؤلاء الذين كذّبوا الرسل وكيف أدّى تكذيبهم إلى تدمير حياتهم الروحية والنفسية والواقعية. وهذا هو المنهج التجريبي في الحياة، وهو أن تعيش تجربة الآخرين، لتأخذ الفكرة من خلال التجربة وملاحقة حياة الناس وتجاربهم فيما نجحوا فيه أو فشلوا. ومن خلال هذا التفكير يتصاعد الوعي )وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا(([612]) إنهم يطلقون الفكر للتفكير في خلق السماوات ويبحثون عن سرّ ما في السموات، ويتفكرون في خلق الأرض، ويبحثون عن سرّ ما في الأرض، لينتهي تفكيرهم إلى نتيجة حاسمة، من خلال ما تأمّلوه ومن خلال ما بحثوه وجرّبوه، وهي أن هذا الخلق لم يأت من صدفة ضائعة في الفراغ، بل أن الكون كلّه انطلق من أسرار عميقة في عمق وجوده وفي عمق حركته، وفي كل ما يختزنه من قوانين تدل على أن الله هو الخالق، فحركة الكون تنطلق من عقل دقيق، لا يمكن أن ينحرف عن الخط المستقيم بمقدار شعرة، ولذلك ينتهي تفكيرهم إلى أن يقولوا )رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا( فلم تخلق ما خلقت بدون سرّ وبدون نظام وبدون قانون، لأن كلّ ما يدل عليه العقل والفكر هو أن الأمر عن تدبير وعن حسن صنع. ولذلك يقول )هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ(([613]) ويقصد من الأعمى الإنسان الذي لا يهتدي، ومن البصير المهتدي فأحدهما مبصر والثاني أعمى فهل يستويان )أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ(([614]) فكيف تساوون بينهما )فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(([615]) أي اقصص عليهم قصص الأمم الماضية حتى يأخذوا من خلال أحداث هذه القصص، فيما حصل لهم من إيجابيات، لأنهم ساروا في الخط المستقيم، ومن سلبيات لأنهم ساروا في الخط المنحرف )لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(([616]) لأن التاريخ أحد أهم مصادر الفكر والمعرفة.

التاريخ مصدر فكر:

وإذا كان التاريخ مصدراً للفكر والمعرفة فإننا ملزمون بدراسة التاريخ دراسة نقدية، فلا يكفي أن نأخذ التاريخ كما نقله إلينا الناقلون، بل علينا أن ندرس التاريخ، لنرى هل أن أحداثه تنسجم مع المعقول أو لا تنسجم، لأن بعض الناس قد ينقل لنا التاريخ الخرافي على أنه حقيقة، ثم هل ينسجم هذا التاريخ مع وقائع الأشياء، ومع الظروف الموضوعية التي أحاطت بالحادثة التاريخية، أو لا ينسجم، لأن الكثير مما ينقله الناس من التاريخ، ولا سيما التاريخ الذي يملك في نفوس الناس بعض القداسة العاطفية، ربما إذا درسته دراسة تحليلية نقدية رأيت أنه لا ينسجم مع طبيعة الظروف التي أحاطت به.

وعلى ضوء هذا فإنه ينبغي دراسة التاريخ دراسة توثيقية من حيث الذين رووه، لأنه قد ينقل التاريخ غير الموثقين فيصنعون لنا تاريخاً لواقع معين ينسجم مع معتقداتهم والتزاماتهم وأهوائهم، وندرسه دراسة توثيقية من حيث مضمونه وهل هو معقول أو ليس معقولاً، وهل ينسجم مع الظروف الموضوعية أو لا ينسجم؟ ثم إذا كان ما ينقل لنا تاريخاً واقعياً صادقاً خارج نطاق الخرافة واللامعقول فإننا بعد كل هذا نتعاطى معه على مستوى العبرة والعظة والاستذكار، مما يمكن أن يبقى في الحياة ليكون درساً في الحياة )فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( ويستنتجون ليأخذوا الدرس بعد ذلك )وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ(([617]) أي نشرحها ونبينها ونوضّحها لقوم يتفكرون، فلا بد للذين يقرؤون القرآن أن يقرؤوه بعد أن يحضّروا كلّ عقولهم لحركة الفكر، فالقرآن الكريم ليس للذين لا يفكرون، بل هو للذين يفكرون، لأنه يحمل عمقاً في المعنى، ويحمل رحابة في الأفق، ويحمل إيحاءات كثيرة فيما يتجاوز معنى كلماته الحرفية. قال تعالى )قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ(([618]) فانظروا نظر المفكر والباحث، لا نظر الساذج، ماذا في السماوات من مخلوقات ومن أسرار؟ وماذا في الأرض من ذلك كلّه؟ لأن بعض الناس قد تقدم لهم الآيات التي توضّح لهم الحقائق وتطلق لهم النذر التي تنذرهم بالنتائج السلبية ولا يؤمنون، لأنهم ممن ختم الله على قلوبهم )وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ(([619]) إنه يستنفر عقل الإنسان على هذا النحو، أيها الإنسان إذا كنت تعيش عقلك وتخاطبه وتستشيره، فإن العقل يوازن بين الدنيا والآخرة، ويرى أن الدنيا مهما امتدت بالإنسان ومهما انفتحت له فإنه سيفارقها، بينما الآخرة هي دار الخلود ودار النعيم، الذي يعيش فيه الإنسان رضوان الله الذي هو أكبر من الخلود والنعيم )وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ( ويقول تعالى )لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ(([620]) فيؤكّد على العبرة في القصة، لأن للقصة جانبين، جانب الحوادث المحدودة في الزمن وهو ما يموت مع الزمن، وجانب الدروس التي تبقى في الحياة وهذه تمثل العبرة )أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهمْ(([621]) أن تعيش لتدير الفكرة في نفسك وفي عقلك وفي إحساسك وفي شعورك وفي سمعك وفي بصرك وفي كل ما تتحسسه من حواسك )مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ(([622]) لأنّ كلّ ظاهرة من ظواهر السماوات والأرض فإنّها تمثّل الحقّ، وهو السرَّ الكامن فيها الذي يقول لك إنَّ الله لم يخلق شيئاً عبثاً، فلم يخلق الله السماوات والأرض عبثاً، ولم يخلق الإنسان عبثاً وغير ذلك الكثير من مخلوقاته تعالى.

أيها الأحبة، إنّ مسألة الفكر هي من المسائل التي تمثل مسؤولية الإنسان في فهم نفسه، وفي فهم التاريخ، وفي فهم الواقع من حوله، وفي فهم الظواهر الكونية، وقبل ذلك وبعد ذلك معرفة الله. ولذلك كن الإنسان الذي يحرّك فكره، وينمّيه، ويستنتج من فكره، لأن فكرك في كلّ حركته يمثل إنسانيتك، ونموها وعلوها وارتفاعها.

مع علي(ع) في رحابة علمه:

وتعالوا إلى علي(ع) في المروى عنه كما في (نهج البلاغة) أو في الغرر والدرر. وكما قلنا مراراً إن علياً(ع) هو تلميذ القرآن الأول بعد رسول الله(ص)، وقد كان يحدثنا في ما حدثنا عن طفولته، أنه كان يرى الملك الذي كان ينـزل على رسول الله(ص) ويسمعه فقال له رسول الله(ص) كما في نهج البلاغة ((إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع ولكنك لست نبي))([623]) وكان يقضي الليل والنهار مع رسول الله(ص) فإذا نزلت آية كان أول من يسمعها وأول من يفهمها من خلال رسول الله(ص)، وأول من يتعرّف آفاقها وأول من يستنتجها. وهو يقول في بعض النصوص الواردة عنه ((ما من آية إلا وأنا أعرف أنها نزلت في سهل أو جبل في ليل أو نهار))([624])، وهذا سرّ كلمته ((علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كلّ باب ألف باب))([625]). وعلم رسول الله هو علم القرآن وما ألهمه الله سبحانه وتعالى، مما يتحرك في أجواء القرآن، فكان يعلِّم علياً(ع) ذلك كله، فلم يكن علي(ع) التلميذ الذي يستظهر ويحفظ ما يتعلّم، ولكنه كان يبدع من العلم علماً وكان يستنتج من كل فكر فكراً فضلاً عن التسديد الإلهي والإلهام الذي يمده به، ولذا قال ((فتح لي من كل باب ألف باب)).

ومن كلماته(ع) إنه قال ((مَنْ تفكر أبصر)) بمعنى أنك تبقى في حالة العمى الروحي والعمى العقلي والعمى الشعوري والعمى الحركي مادمت تتحرك بغريزتك، لأنها مجرد طاقة في الجسد تتحرك من خلال الإحساس، و لا تتجاوز إحساس الإنسان بجسده، أما الفكر فهو الذي يعرّفك كلّ آفاق الحياة، وكل آفاق الكون، بل إنه يصعد بك حتى يقترب من الغيب.

وفي قوله(ع) أبصر أي في عقله، وأبصر في قلبه، وأبصر في إحساسه وشعوره، وأبصر في حركة طاقاته في الحياة، وقال(ع) ((لا علم كالتفكّر)) بمعنى أنك قد تتعلم ما أنتجه الآخرون من علم، ولكن ذلك العلم يبقى من محفوظاتك، أما العلم الذي تنتجه بتفكيرك أنت حيث تفكّر والفكرة وتنتج العبرة فهو أكثر ثراءً من العلم الذي تحفظه، وربما لذلك ورد في المثل الشعبي ((إسأل مجرباً و لا تسأل حكيماً)) ويقصد بالحكيم الذي يتعلم مما درسه الآخرون، أما المجرِّب فهو الذي ينتج الفكرة من خلال تجربته وتجربة الآخرين فيكون أكثر تعلّماً من الحكيم الذي يتعلم علم غيره. ولذلك ربما يكون بعض الفلاحين الذين مارسوا الزراعة عشرات السنين أكثر فهماً للزراعة من خريجي كليات الزراعة، وربما نجد أن هناك إنساناً يمارس مهنة البناء عشرات السنين يفهم في صناعة البناء أكثر مما يفهمه أستاذ الهندسة، ولذلك لا يكفي لك أن تقرأ الكتب بل لابدّ لك أن تفكّر فيما قرأت وتعرف خطأه وصوابه، ولتعرف عمقه ودقته وامتداده.

وفي صفة المؤمن يقول الإمام(ع) ((المؤمن مغمور بفكرته)) بمعنى أن فكرته تغمره، كما الماء يغمر الإنسان، لأنه يحيط به من كل جوانبه، وقوله(ع) المؤمن مغمور بفكرته أي تغمره فكرته فتحيط بكل حياته وبكل أوضاعه، فلا ينطلق إلا من موضع الفكرة. ويقول علي(ع) ((الفكرة مرآة صافية)) فهل تريد أن تعرف الأشياء لتعرف حسنها وقبحها، ولتعرف خطأها وصوابها، ولتعرف انحرافها واستقامتها. الفكر هو الذي يعطيك ذلك، لأن الفكر يحلل الأشياء، ويحلل الأفكار، ويحلل الوقائع، فهو المرآة التي تريك ذلك كله. ويقول علي(ع) ((الفكرة مرآة صافية والاعتبار منذر ناصح)) فينذرك عندما تأخذ الفكرة التي تحدثك عن السلبيات أو عندما تأخذ الفكرة التي تحدثك عن الإيجابيات، لتقدم لك النصيحة، ويقول في هذا المعنى أيضاً ((فكر المرء مرآة تريه حسن عمله من قبحه))([626]) لأنها تحلل له عمله وتخرج عناصر الضعف والقوة، وتكشف عناصر الخطأ والصواب.

ثم يحدّثنا عن أن من دوافع السير في طريق الخير هو التفكّر، فيقول: ((الفكر في الخير يدعو إلى العمل به))([627]) لأن التفكير في الخير يوضّح لك النتائج الطيبة من الخير، وعندما يعيش الإنسان هذه النتائج في نفسه، فإن النتائج تخلق في نفسه الرغبة، وبالتالي تحرّكه نحو العمل. ويقول(ع) : ((أصل السلامة من الزلل الفكر قبل العمل)) فهل تريد أن تسير في حياتك حتى تسلم من الزلل في العثرات أو في المهاوي؟ فكّر قبل أن تتحرك، قبل أن تبدأ في أي مشروع خاص أو عام، فكِّر وادرس حتى تستطيع أن تتعرف، هل أن هذا العمل في صالحك؟ أو ليس في صالحك؟ ويقول(ع) : ((والروية قبل الكلام)) فإذا أردت أن تتكلم فلا تستعجل، تروَّ في كلامك، لتعرف ماذا ينتج كلامك بما يتعلق بحياتك أو بحياة الآخرين، بمسؤوليتك في كل القضايا العامة والخاصة. ويقول(ع) في هذا الاتجاه نفسه ((إذا قدّمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كلّ أمر))([628]) يعني إذا فكّرت قبل أن تفعل فإن أمورك تنتهي إلى خير، لأن الإنسان الذي يفكّر قبل العمل سيسلم من كثير من النتائج السلبية لأنه يعرف خطوط العمل فيما تؤدي إلى النجاة أو إلى الهلاك، ومن الطبيعي أن العاقل إذا عرف هذا العمل يؤدي إلى الهلاك فإنه لا يبادر فيه، ولذلك قال ((إذا قدمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر)). وهو ما نستوحيه من وصية الرسول(ص) لذلك الشاب الذي طلب أن يوصيه فقال له(ص) ((إذا أنت هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن يك رشداً فأمضه وإن يك غيّاً فانته عنه))([629]) ويقول علي(ع) أيضاً: ((فضلُ فكر وتفهم أنجح من فضل تكرار ودراسة))([630]) فهناك وسيلتان لتحصيل العلم، إحداهما وسيلة التكرار للمطلب الذي تتعلمه ودراسته، وثانيهما وهي أن تتفهّم وأن تفكّر، فإن التفهّم والتفكّر يعمِّق الفكرة في كل كيانك، أما ما تحفظه وتكرره فإنه يبقى مجرد شيء في السطح لا يتعمق في وجدانك. وقال(ع) ((من أكثر الفكر فيما تعلّم أتقن عمله وفهم ما لم يكن يفهم)) فإنك قد تقرأ كتاباً هنا وتقرأ كتاباً هناك ولكن ذلك لا يكفي، لأن مجرد استظهار ما يتعلمه الإنسان أو حفظه أو قراءته لا يعبّر عن قدرة في التفكير والتأمل لأن ذلك كلّه لا يتعدى السطح، أما المطلوب فهو أن تفكر في ما حفظته وقرأته لتعرف سره وعمقه لتعرف خطأه وصوابه، لأن الآخرين قد يعلمونك شيئاً يعتقدون صوابه وهو خطأ، ولذلك فإن على الإنسان في كلّ دراسته أن يستحضر عقله وفكره، ليدرس ويفكّر فيما يدرسه، لأن التعلّم الساذج يجعلك تفهم الأمور في السطح، أما التفكير فيما تعلّمت فإنه يجعلك تفهمه بالعمق، ولذلك تفهم ما لم تكن تفهم، وتتعلم ما لم تكن أخذته في العلم.

الفكر عبادة:

ثم يقول(ع) وهو يربط بين الفكر والطاعة لله: ((الفكر في آلاء الله نِعمَ عبادة)) لأن العبادة ليست شيئاً محصوراً في حركة الجسد، بالصلاة أو الصيام أو الحج وذلك لأن للفكر عبادته، ففكّر في آلاء الله )فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(([631]) في نعم الله وفي آلاء الله، لأنك وأنت تعيش هذا الفكر في كل هذه الجولة في آلاء الله وفي الكون، فإنك تتعبّد لله، وعندما تكتشف آلاء الله، فإنك تعرفه أكثر، وإذا عرفته أكثر فإنك تعبده أكثر، وتخضع له أكثر، وتعيش عبوديتك أكثر.

ولذلك يقول علي(ع) في هذا المعنى أيضاً: ((الفكر في ملكوت السماء والأرض عبادة المخلصين)) ويقول تعالى )وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(([632]) لأن التفكير في خلق السماوات والأرض يجعلهم يشعرون في الذوبان في الله، وبالخوف منه، وبالتفكير في مسؤولياتهم، ولذلك هم يفكّرون ويفهمون ويخشعون، وتنطلق صرخات الابتهال إلى الله )فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ( ويقول(ع): ((فكر ساعة قصيرة خير من عبادة طويلة)) فإنك قد تفكّر ساعات قليلة، فتفكّر في ربك، وتفكّر في نفسك، وفي مسؤولياتك، وتفكّر فيما حمل التاريخ من قضايا الأمم، وتفكّر فتعي، وتعي لتؤمن، وتؤمن لتعمل، وتعمل لتحصل على رضا الله، لذلك فإن الفكر في ساعات قليلة، ربما يرسم لك منهج الحياة إلى نهاية عمرك، أما العبادة الفارغة من الفكر فهي التي يصفها الحديث الشريف ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً))([633])، وفي الحديث أيضاً ((ليس لك من صلاتك إلا ما أقبلت عليه بقلبك))، وقد ورد أيضاً ((تفكر ساعة خير من قيام ليلة أو خير من عبادة سنة)) لكن الفكر السليم والتفكير الصحيح، لأن هذا التفكير هو سرّ الانطلاق فيقول(ع) : ((من كثر فكره في المعاصي دعته إليه)) فهناك كثير من الناس يعيشون تحت تأثير غرائزهم، فيفكر عندما تتحرّك الغريزة في الشراب المحرّم وفي الأكل المحرّم وفي الشهوة المحرّمة وفي المال الحرّام، إنه يفكر في ذلك كلّه في الليل والنهار وإذا كان كذلك فمن الطبيعي إن الإلحاح في هذا الفكر يقوّي الرغبة إليه، والرغبة في المعاصي لا تقود الإنسان إلى ممارسة المعاصي. وفي هذا المعنى يقول(ع) أيضاً: ((من كثر فكره في اللذات غلبت عليه)) فعندما تفكّر في اللذات فإنها تغلب عليك، لأنها تأخذ كيانك كلّه، لأنّ الفكر في اللذات يجعل اللذة تسيطر على كيانك كلّه، لأن كثرة الفكر في المعصية واللذة تجعل الإنسان مستغرقاً في ذلك كلّه مما يدفعه إلى الوقوع في حبائل هذه اللذات والمعاصي. والإمام(ع) كأنه يشير هنا إلى أنه قد يبتلى الإنسان بالفكر السيئ ولذلك ليشغل فكره، بمعنى أن يتشاغل ويحاول أن يبعد فكره إلى محطات أخرى، فقد يفكّر الشباب في المعاصي، وقد يفكر هذا أو ذاك في الحصول على المال بسرعة أو الحصول على الجاه بسرعة فيستغرق في ذلك فيقع في المهالك، هنا الإمام(ع) يقول له: ابعد فكرك عن ذلك، حاول أن تشغل فكرك بما يبعدك عن ذلك حتى تضمن لنفسك العصمة. وفي نهاية المطاف في وصيته إلى الإمام الحسن(ع) يقرأ فيها الإمام(ع) التاريخ وكيف يعيشه بكلّ عمقه ويستخلص منه الفكرة، وهذا درس في طريقة دراسة التاريخ من ناحية علاقته وفيما يبقى منه لحركة الحاضر والمستقبل، يقول(ع) ((يا بني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم))([634]) كما لو كنت عشت حياتهم وتجربتهم كلّها بل كأني لما انتهى إلي من أمورهم قد عمّرت مع أولهم و آخرهم. كأني عشت الزمن كلّه لأن المسألة ليست أن تعيش الزمن كلّه بجسدك بل أن تعيش تأريخه بفكرك وتتعمّق في ذلك التاريخ، وتعيشه في وجدانك، وتعيشه كما لو كنت أنت الذي مارسته وأنت الذي عشته. التاريخ ليس مجرد موروثات فيما نستقبله مما نسمعه أو نقرأه، ولكن التاريخ في معناه الذي يبقى للحياة هو صناعة الفكر الذي يحاول أن ينفذ إلى كل أحداث التاريخ، ليأخذ منها علماً، وذكرى وعملاً. أيها الأحبة، هذه بعض كلمات علي(ع) ويبقى في تطبيق هذه الكلمات مما تحدث عنه في تفاصيل الفكر في (نهج البلاغة) مما نرجو أن نتحدث عنه في الأسبوع القادم إن شاء الله. والحمد لله رب العالمين.


 

المحاضرة الثلاثون 24 شعبان 1422ه‍ - 10/ تشرين الثاني /2001م

 

 

في مدرسة الإمام علي(ع) (18)

مصادر الفكّر والمعرفة

 

 

 

 

 

*  هناك مصدران للمعرفة: أحدهما التأمّل والثاني التجربة *

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 

جولة في مصادر الفكّر.

دور الفكّر على المستوى الروحي.

الفكّر والاعتبار.

قيمة التجربة.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.

كنا نتحدث في الأسبوع الماضي عن الخط الذي أكده الإمام علي(ع) بما أكده اللّه في كتابه الكريم من قيمة الفكّر، باعتبار أنه أساس المعرفة، سواءً كان الفكّر الذي ينطلق من التأمل أو الفكّر الذي يتحرّك في خط التجربة.

جولة في مصادر الفكّر:

وفي هذا اللقاء نحاول أن نتابع الإمام(ع) في نصوص (نهج البلاغة) حول الإشارات الفكّرية في العناوين التي أراد للإنسان أن يفكّر بها، من خلال الطاقة التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى في الإنسان.

من بين تلك النصوص يقول أمير المؤمنين(ع) في خلق الإنسان: ((ثم نفخ فيها من روحه)) يعني هذه الكتلة الطينية ((فمثلت إنساناً ذا أذهانٍ يجيلها)) بمعنى يحرّكها في جولات القضايا التي لابد للإنسان أن يتعقلّها كالمعقولات ((وفكّر يتصرّف بها وجوارح يختدمها)) يعني يستخدمها في ما يريد ((وأدواتٍٍ يقلبها)) وهي الأعضاء ((ومعرفة)) تنتج من هذا الفكّر ومن هذا الذهن ((يفرق بها بين الحق والباطل)) فيميز الحق من الباطل ((والأذواق)) في الحس الذوقي ((والمشام)) في الحاسة الشامّة ((والألوان والأجناس)) في الباصرة ((معجوناً بطينة الألوان المختلفة والأشياء المؤتلفة والأضداد المتعادية)) في ما يحيط بالإنسان من هذه العناصر، التي قد تكون عناصر الأضداد، التي ينافي بعضها الآخر، أو الألوان التي تختلف، أو الأشياء التي تأتلف، ((والأخلاط المتباينة من الحر والبرد، والبلة والجمود أو المساءة والسرور))([635]).

نلاحظ أن في هذا النص وصفاً للإنسان بكلّ العناصر التي تمثل منطقة الوعي الداخلي، أو العناصر التي تمثل الحواس الخمس، كما تمثل ما يحيط بالإنسان من الأمور التي تتنوع في مبايناتها أو في ائتلافها أو ما إلى ذلك. ولكننا نلاحظ أن الإمام(ع) ركّز في البداية على الذهن الذي يتحول من أجل أن يستكشف القضايا في العالم، والفكّر الذي يتصرّف بهذه الأشياء، والتي يقتبسها أو يكتشفها الذهن. فدور الذهن هو أن تكتشف وتجمّع، ودور الفكّر هو أن تتأمل هذه الأشياء المكتشفة، فكأن الحواس أو الأذهان تحاول أن تجمع للفكّر المفردات التي هي بمثابة المواد الخام، ثم يتصرّف الفكّر بها فيقرّب بعضها لبعض ويصنع منها المبادئ، ويقنّن فيها القوانين ويركّز فيها الأوضاع، تماماً كالمصنع في المواد الخام، وهذا هو الفكّر. فكلّمة ((ويتصرّف بها)) تعني أن دور الفكّر هو أن يتصرّف فيما يجمعه الذهن، وفيما تنتجه الحواس. وهي المسألة التي ركز عليها الإسلام، فيما يحاوله الإنسان من تعقل الأمور التي تجمعها كلّ حواسه الداخلية والخارجية، فيحاول أن يتصرّف بها من أجل صنع القضايا الفكّرية، والمبادئ والأوضاع التي يتحرّك بها الناس. فعلى الإنسان أن لا يعطل فكّره، فيحرِّض الحواس على خدمة الفكّر، وذلك بأن يدقّق في هذه الحواس، وينظّمها، ثم يحمل هذه الحواس إلى عقله، ليتصرّف الفكّر بها، فيخلق إنتاجاً جديداً يسمى بالأفكار والعلوم وغيرها. وبذلك يمكنه التفريق بين الحق والباطل وبين ما تنتجه المشام والأذواق والأبصار والأسماع.

دور الفكّر على المستوى الروحي:

وفي نصٍ ثانٍ للإمام علي(ع) يركزّ فيه على الجانب الروحي للإنسان، ودور الفكّر في تنمية هذا الجانب فيقول ((فاتقوا اللّه عباد اللّه تقية ذي لبٍ)) واللب هو العقل وقد قال تعالى )إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(([636]) ((شَغَلَ التفكّر قلبَه)) بمعنى الشخص الذي لا يجمّد عقله، ولا يعطيه إجازة، بل يظل عقله في كلّ الحالات يقظاً في حرّكية دائمة، فيحاول أن يجعل التفكّر شاغلاً للعقل، والقلب هو منطقة الوعي الداخلي التي تجمع العقل والحس والشعور. فإن الانطلاق بالتفكّر هو وحده الذي يعمّق التقوى فيما تنفتح عليه من الآفاق الواسعة، ولا يكفي في التقوى ممارسة العمل دون الوعي، بل لابدّ أن تعي القاعدة التي يرتكز عليها العمل، وأن تعي النتائج، و أن تعي العناصر التي تتجمع في داخل العمل ثم تعمل. ولذلك ورد في القول المأثور ((ركعتان يصليهما العالم - أي العارف باللّه والواعي - خير من عبادة سنة أو أقل أو أكثر يصليها العابد))([637]) لأن العابد وهو يعبد اللّه فإنه يعبده عبادة آلية، أما العالم فإنه يعبد اللّه عبادة تنطلق من العقل، ومن القلب والإخلاص والشعور. وقد قال تعالى )إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(([638]) ويقول(ع) ((وأنصب الخوف بدنه)) فقد أتعب الخوف بدنه من خشية اللّه ومن تفكّره فيه ((وأسهر التجهد غرار نومه)) فأصبح نومه قليلاً ((وأظمأ الرجاء هواجر يومه)) و الهواجر بمعنى الأجواء الحارة، ((وظلف الزهد شهواته)) بمعنى منعها ((وأوجف الذكر بلسانه)) أي أسرع، ((وقدَّم الخوف لأمانه)) فأخذ الخوف من اللّه يدفعه إلى التقوى فيما يؤدي به إلى الأمان. وقد قال اللّه تعالى )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(([639])، ((وتنكّب المخالج عن وضح السبيل)) أي تنكب الموانع التي تميل به عن الطريق ((وسلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تفتله فاتلات الغرور، ولم تعم عليه مشتبهات الأمور))([640]).

إنّ كلّ هذه الحرّكية التي يعيشها التقي في عبادته واستقامته على الطريق، تنطلق من النقطة الأولى وهي أنه ذو لب شغل التفكّر قلبه، فأدّى به التفكّر إلى سلامة العمل، في كلّ ما يقّربه إلى اللّه ويؤمّنه عنده. ثم يؤكد الإمام(ع) أن الإنسان عندما يفكّر فإنه يجب أن يفكّر في الأمور التي تنتهي به إلى نتيجة حاسمة ترتبط بسلامة المصير. وذلك في  القضايا التي يملك الوسائل إليها, فبعض الناس - مثلاً - يحاول أن يفهم ذات اللّه، فيضيع ويتيه لأن الذات الإلهية ليس تحت تجربتنا، ولا تحت سمعنا ولا بصرنا ولا حواسنا حتى نعرفه، فنحن - مثلاً- نستطيع أن نعرف الإنسان، بلحاظ أن الإنسان موجود أمامنا، ويمكن لنا أن نفحص عناصره ونعرف طبيعته وكلّ شيء مما يمكن أن نعرفه، بشكلّ سريع أو إلى مدة أو جهد، حتى نعرفه. أما ذات اللّه سبحانه وتعالى فلا طرق لنا لمعرفة ذاته. ولذلك نهي عن التفكّر في ذات اللّه، ولذلك لابد أن نفكّر في خلق اللّه، أو في صفات اللّه، ونسأل لماذا خلقنا اللّه وما هو دورنا وقد قال تعالى )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ(([641]) وقد ورد ((خلقت الخلق لكي أعرف)). فمسئوليتنا هو معرفة دورنا في هذه الحياة. أما ما هي الأمور التي دعت اللّه لأن يخلق الإنسان فإنه )لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(([642])، فاللّه هو المطلق ونحن المحدود، ولا يستطيع المحدود أن يحيط بالمطلق أو بما عند المطلق، لذلك فإن كثيراً من الأشخاص يفكّرون في لا يملكون وسائله. وهناك أشياء لا نملك وسائلها الآن وإن أمكن امتلاكها في المستقبل كما في الذين يفكّرون في الوصول إلى المريخ أو الكواكب الأخرى فهم يفكّرون في الوسائل التي توصلهم إلى هدفهم، حتى إذا وصلوا فإنهم يمكن أن يفكّروا في الأشياء التي تقع تحت تجربتهم.

وهذا المعنى يشرف بنا على معنى آخر وهو أن على الإنسان أن يفكّر فيما يملك من الوسائل والآليات ففي بعض الأحيان قد يفكّر الإنسان في أشياء تجريدية لا تتصل بالعقيدة أو بالعمل أو بأوضاعنا ككثير من الأمور التي هي محل جدل، وليس لها علاقة بكلّ مسؤولياتنا، لا العقائدية ولا العملية، وليس هناك ضرورة تدعو الإنسان أن يفكّر فيها بل الضرورة هي أن يفكّر بالأشياء التي يدركها والتي يملك وسائلها، ويملك أن يحصل منها على نتيجة. أما التي لا يملك وسائلها ولا يدركها فمثله كطواحين الهواء، فيقول(ع): ((فلا تستعملوا الرأي في ما لا يدرك قعره البصر)) مما لا يقع تحت نظرك، ((ولا يتغلغل إليه الفكّر))([643]) أي لا ينفذ إليه الفكّر لأنه ليس تحت تجربتك وليس تحت إمكاناتك.

ويقول(ع) في خطبة له في هذا المعنى: ((هو القادر إذا ارتمت الأوهام)) أي الأذهان والأفكار، ويقال:ذهب إليه وهمه يعني فكّره، ((لتدرك منقطع قدرته)) وإلى أين تصل قدرته، ((وحاول الفكّر المبَّرأُ من خطر الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته)) فحاول الفكّر أن ينفذ إلى مواقع الغيب في ملك اللّه مما لا يملك الوسائل إليه، ((وتولهت القلوب إليه)) فأقبلت وشغلت بذلك، ((لتجريَ في كيفية صفاته وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم ذاته ردعها وهي تجول مهاوي سُدُف الغيوب متخلصة إليه فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال....)) ويقول(ع) في مقطع آخر ((وإنك أنت اللّه الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكّرها مكيفاً ولا في روايات خواطرها محدوداً مصرّفاً))([644]) أي فلا يمكن ان تدخل في العقول حتى تصورك العقول وتكيفك بحسب وسائل المعرفة لك، لأن العقول محدودة ولا تستطيع أن تحيط بك لتكيفك، لأنها لا تستطيع أن تحيط بكلّ صفاتك بشكلّ دقيق، أو فيما يخطر على الأذهان ويجول في الفكّر. فالنتيجة إننا لا نستطيع أن نعرفك في سرّ ذاتك، ولكننا نعرف ما يمكن للعقول أن تدركه من خلال ما أعطيت العقول من الوسائل، فيما خلقت أو في ما أودعته في فطرة الإنسان.

الفكّر والاعتبار:

ويقول(ع) في نص آخر وهو يريد توجيه الفكّر للاعتبار ولأخذ الدرس مما عاشه الإنسان ومما يعيشه ((رحم اللّه إمرأً تفكّر فاعتبر واعتبر فابصر)) فإن الإنسان عندما يأخذ العبرة وهي الدرس، وتتضح الفكّرة عنده، عند ذلك تضيء له فيبصر. ويريد به البصر الداخلي، وليس الخارجي منه، فإنه مثلما هناك عمى يصيب العينين فهناك عمى يصيب القلوب، فقد قال اللّه تعالى )قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(([645])، ويقول(ع): ((فكأن ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن)) مما يرى زوال الدنيا، ((وكأن ما هو كائن من الآخرة عن قليل لم يزل)) لأن الآخرة دار الخلود، ((وكلّ معدود منقضٍ)) لأن الدنيا معدودة وكلّ معدود له نهاية، ((وكلّ متوقع آتٍ)) فما تتوقعه مما تملك فكّره فإنه سوف يحدث، ((وكلّ آتٍ قريب))([646]) فإنه قريب كلّما تقدم بك الزمن إليه. ويقول(ع) في هذا الصدد وهو يشير إلى الاعتبار والتعلّم من ذلك ((ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم وبين منطقه)) فاعتقل لسانه، ((وإنه لَبين أهله ينظر ببصره)) يراهم ((ويسمع بأذنه)) فيما يتحدثون من حوله ((على صحة من عقله)) فلا يزال يفكّر، فيما رأى ويفكّر فيما سمع ((وبقاءٍ من لبه)) يعني من عقله إذ تتمثل له في كلّ حياته ((يفكّر)) وهو يتحرّك نحو الموت ((فيم أفنى عمره)) من خير أو شر وفيما يبقى أو فيما يفنى، ((و فيم أذهب دهره ويتذكر أموالا جمعها)) فينظر إلى رصيده بالدنيا، ((أغمض في مطالبها)) يعني ما ركز على حلالها أو حرامها، ((وأخذها من مصَّرحاتها ومشتبهاتها)) من الأشياء الواضحة ومما اشتبه بالمال الحرام، ((قد لزمته تبعات جمعها)) لأن الإنسان إذا جمع المال من الحلال والحرام تلزمه المسؤوليات فعليه أن يرد ما أخذه من حرام إلى أصحابه أو مصادره، ((وأشرف على فراقها)) فاقترب من الموت، ((تبقى لمن وراءه)) ويبِّين(ع) هنا أن الإنسان في هذا الوقت قد فرغ من كلّ مسؤولياته وما كان منشغلاً به فأخذ يفكّر في مسؤوليات ما فعله في حياته كلّها، وأهله مشغولون بالحديث وغيره وهو يفكّر في مستقبل أمره، ((ينعمون فيها ويتمتعون بها))([647]) فقد آلت الأموال إلى أولاده فيكون الهنا لغيره والعبء على ظهره لأن في يوم القيامة سيحاسب على كلّ قرش أخذه من الحرام، وعليه أن يبين كلّ ما أخذه من الشبهات، فهذه صورة يصور علي(ع)  فيها الإنسان، وهو في حال الاحتضار، وهو يستحضر كلّ تلك الأمور، ليحرّكها في خط مسؤولياته التي سوف يتحملها سواءً في أعماله، أو في ماله الذي جمعه. وكأن الإمام(ع) يريد من خلال هذه الصورة أن يقول للإنسان، إنك عندما تفكّر في حال الاحتضار بكلّ مسؤولياتك مما لا تستطيع أن تتخلص منه، فلماذا لا تفكّر قبل ذلك لتنظم أمورك، ولتتقي اللّه في كلّ ذلك، وتتوب عن ذنوبك، فيما أسلفت منها وترجع إلى كلّ ذي حق حقه، وتخلِّص مالك من الحرام حتى تصل إلى اللّه سالماً، وقد قال تعالى )يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلا مَنْ أَتَى اللّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(([648]).

ثم يتحدث الإمام(ع) في مقام الموعظة أيضاً وفي بعض الأجواء التي تتصل بالفكّر ((فلينتفع أمراً بنفسه)) فأنت الآن تملك نفسك من خلال ما يتمثل من وجودك، الوجود الواعي من خلال العقل المتحرّك ومن خلال الحواس التي تسهل لك أمور حياتك، لأنك إن لم تراعِ نفسك لم تحاسب نفسك، ولم توجهّها في خط الاستقامة، فلا تنتفع بنفسك، لأنها عندئذٍ تتحرّك في نطاق الهلاك، ((فإنما البصير من سمع فتفكّر)) وليس الذي تدخل الكلّمة من أُذنه وتخرج من الأخرى، كما في قوله تعالى )وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(([649])، فيما قال تعالى )فَبَشِّرْ عِبَادِي*الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ(([650]) فهناك فرق بين من يسمعون ويستمعون، فقد تدخل الأصوات إلى ذهنه من دون أن يتأثر بها أو ينتبه إليها، أما من يستمع فهو يوجه أذنه وفكّره لما يسمعه )الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ(([651])، فهم يميزون بين هذا القول وقول آخر، وعندما يختارون السماع ويتوجهون إلى الاستماع فيفكّرون فيه، ويميزون بين الحسن والأحسن، والحسن والقبيح، فيتبعون أحسنه عندما يميزون بين ذلك.

((ونظر فابصر)) فقد أعطاه النظر إلى الأشياء بصراً في عقله وقلبه بمعنى أخذ العبرة مما رأى لا كما وصف اللّه أعمياء القلوب )وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا(([652]) كمن يرى وليس براءٍ، لأن قيمة البصر في ما تؤدي إليه عملية الأبصار، مما يتجاوز النظر. فقد ينظر الإنسان من دون أن يشعر بما حوله ومن حوله، فتتحول عيناك إلى مجرد مرآة وليست شيئاً تبصر بها الأشياء، ((وانتفع بالعبر)) بالدروس التي يأخذها من التفكير ومن النظر، ((ثم سلك جدداً واضحاً)) والجدد بمعنى الطريق الواضحة، ((يتجنب فيه الصرعة في المهاوي)) بحيث لا يقع فيما يهوي به إلى الأسفل، ((والضلال في المغاوي)) فيما يغويه، ((ولا يعين على نفسه الغواة)) فيكون واعياً للناس المحيطين به فلا ينجذب لهم فيتبعهم على أن يغووه وأن يضلّوه، فلربما أهلك الأهل والأصدقاء والمقربون الإنسان بفعل العاطفة، وهو يعينهم على نفسه، ((بتعسف في حق)) كما لو كان عليه حق - مثلاً - لبعض الناس أو كان هناك حق لابد أن يقف معه فيتعسف فيه، ((أو تحريف  في نطق)) مما لا يستقيم من الكلام، ((أو تخوَّف من صدق)) فلا يخاف من أن يكون الصادق وقد يخوف الشيطان الإنسان من الصدق ليختار الكذب لمصلحة هنا أو هناك.

((فأفق أيها السامع من سكرتك)) فإن هذه السكرة تمنع الإنسان من أن يفكّر، ((واستيقظ من غفلتك)) لأن الإنسان إذا لم يفتح عقله على ما يمكن أن ينفتح به على الحق يكون غافلاً. ((واختصر من عجلتك)) فلا تستعجل في الأمور، بل اجعل الأناة شعارك في سيرك أو في حياتك. لتعرف مواقع أقدامك، ولتعرف من أين تبدأ وأين تنتهي. ((وأنعِمْ الفكّر فيما جاءك على لسان النبي الأمي(ص) مما لابد منه ولا محيص عنه)) فعندما يأتيك خبر عن رسول اللّه(ص) حاول أن تفكّر فيه حتى تملأ عقلك به، ما دمت تؤمن بالنبي(ص) فهو كما قال اللّه تعالى )وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(([653])، فكلّامه كلّام اللّه، وطاعته طاعة اللّه، ثم بعد ذلك فكّر كيف تحوِّل كلام النبي(ص) إلى سلوك عملي في حياتك، ((وخالِف منْ خالف ذلك إلى غيره)) مخالف الناس الذي يعرضون عن كلّام النبي إلى غيره، ((ودعه لما رضي لنفسه)) ودع من لا ينفع الكلام معه.([654])

ثم يقول(ع) في الموعظة أيضاً وهو يتحدث في العقل باعتبار أنه السبيل إلى النجاة ((فليصدق رائد أهله وليحضر عقله)) فلا يعطي عقله إجازة لأنه لا ينبغي أن يغيب العقل وهو يريد أن يأخذ النتائج التي ينتفع بها أهله، وإنما يصدق معهم عندما يتحرى الأمور بشكلّ دقيق وموضوعي، ليميز فيه العقل بين ما ينتفعون به وبين ما لا ينتفعون به، ((وليكن من أبناء الآخرة فأنه منها قدم)) لأنك بدأت من اللّه وإليه ترجع، ((وإليها ينقلب)) أي يرجع ويعود، ((فالناظر بالقلب)) الذي يبصر بعين قلبه أي عقله، ((العامل بالبصر)) فيتحرّك بحسب بصره فيما يسير فيه من طريق، ((يكون مبتدأ عمله)) أول مرحلة في المشروع هو أن يعلم أن عمله له أو عليه فيجب على الإنسان أن يدرس كلّ مشروع يدخل فيه، وكلّ إنتماء ينتمي إليه، وفي كلّ ما يتعرض له في حياته، ويريد أن يقوم بعمله، لأنه سيحصد نتائج عمله، وذلك هو قول اللّه سبحانه وتعالى )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(([655])، وقال تعالى )وَضَرَبَ اللّه مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّه فَأَذَاقَهَا اللّه لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(([656]) فإذا كان خيراً فستحصل على خير الدنيا والآخرة، لأن العمل الجيد ينتج عاقبة جيدة، في الدنيا والآخرة. أما إذا كان سيئاً فإنه ينتج عاقبة سيئة في الدنيا والآخرة. فإن أول العمل التفكير والتخطيط، ومن دونهما فإن مآل العمل إلى الخسران في الدنيا والآخرة. ويقول(ع): ((فإن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق))([657]) فهو يمشي دونما عقل و دونما تخطيط فلا ينتهي به الطريق إلى شيء، فهو أشبه بمن يسير بغير طريق، لأنه يتخبّط. ذلك أنّ تحديد الطريق هو جزء من العمل، ولذلك يقول اللّه تعالى )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(([658])، ((فلا يزيده بعده عن الطريق إلاً بعداً عن حاجته)) لأنه سوف يبتعد بك عن هدفك، لأنك لا تعرف هل سيوصلك إلى الهدف أم لا؟! ((والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح فلينظر ناظرٌ أسائر هو أم راجع))([659]) فمن كان يسير على هدى العلم فهو يسير على الطريق الواضحة، ولكن لينظر الإنسان أهو سائر هو ويتقدم أم لا؟ فلطالما يحسب الإنسان أنه يتقدّم ويسير إلى الأمام وهو ليس كذلك.

قيمة التجربة:

وإذا كان الإمام(ع) قد كرّس الحديث عن الفكّر وتحديداً التأملي منه، فإنه يركز على التجربة أيضاً باعتبارها أحد مصادر المعرفة.

فهناك مصدران للمعرفة: أحدهما التأمل العقلي والثاني التجربة، وقد تقدم العلم الحديث من خلال التجربة، كما نلاحظه في كلّ المخترعات والمكشفات التي دأب ولا يزال يدأب عليها العلماء والمبدعون في أكثر من حقل وأكثر من ميدان في البر والبحر والفضاء، من خلال الملاحظة المستمرة والتجربة تلو التجربة، و لم يكن فشل تجربةٍ مّا سبباً للانتكاس بل كان ذلك سبباً للإصرار، ولكن للأسف نحن الشرقيين بدأنا نميل إلى الاستسلام والحكم على الأشياء بعدم الإمكان لمجرد فشل تجربة وأخرى، في الوقت الذي نلاحظ فيه فلاسفة المسلمين يؤسسون لما يتناقض مع هذا الفهم.

وهناك كلّمة لابن سينا يقول فيها: ((كلّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان)) فالشيء الذي لا تثبت عندك استحالته فهو ممكن، وحاول أن تكرر التجربة تلو التجربة حتى تقترب، ولذلك تعتبر التجربة أحد أهم المصادر المعرفية وقد- كان للتجربة حظ كبير في منهج المسلمين، في وقت كان فيه الغرب يعيش حالة الانحطاط والتخلّف المعرفي.

يقول(ع) في التأكيد على التجربة:  ((ومن التوفيق حفظ التجربة)) في إشارة إلى حفظ التجربة الخاصة وتجربة الآخرين، واستحضارهما يعد من علامات التوفيق والنجاح بلحاظ ما تؤدي إليه من خير أوشر فيما يستفيد منه الإنسان في مستقبل أمره.

بل أن هناك عدداً من المعارف مما لا يتحقق إلا بالتجربة، فقد قال علي(ع) ((في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال)) أي أن حقيقة الإنسان لا تعرف إلا بالتجربة. وهذه التجربة وإن كانت في إطارها الاجتماعي إلا أن التأكيد على التجربة هنا وهناك، يكفي للتدليل على قيمة التجربة في النهج المعرفي للإسلامي.

وقال(ع): (( أخبر تَقِله)) بمعنى أنه إذا أعجبك ظاهر شخص فاختبره، فربما وجدت فيه ما لا يسرك فتبغضه، وفي ذلك إشارة إلى أن حقائق الناس لا يمكن أن تعرف إلا بالتجربة لأنها تنزل بك إلى العمق.

بل اعتبر الإمام(ع) أن العزوف عن التجربة عجز، إذ يقول: ((والطمأنينة إلى كلّ أحد قبل الاختبار عجز))، وكما قلنا فإن كلّامه وإن كان في الإطار الاجتماعي إلاّ أن ذلك لا يختص بهذا الميدان بل يعمه إلى غيره من الحقول المعرفية والعلمية.

بل يتضح مراد الإمام(ع) بأكثر ما يكون الوضوح إذ يقول في كتاب له إلى أبى موسى الأشعري: ((فإن الشقي من حرم نفع ما أوتي من العقل والتجربة))، لأن أحدهما يكمل الآخر. وفي كلّام له(ع) يقول: ((إذا كان في رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها)) بمعنى أنه لا ينبغي الاكتفاء بنظرة واحدة فإذا أعجبتك صفة في شخص فلا تعجل بالحكم عليه بل انتظر سائر الصفات وهو ما توفره التجربة.

هذه هي كلّمات علي(ع) في العقل فيما ينفتح به على حقائق الأشياء، وعلى حرّكية الإنسان في حياته،وفي التجربة  فيما تكشف له من غوامض الأشياء في الواقع.

 أيها الأحبة، هذا هو علي(ع) وهو الذي خطط لنا كيف نفكّر، وهذا هو علي(ع) الذي أراد أن ننطلق بالعقل ننميه ولنعظّمه ولنفتحه على كلّ الأفاق، وهذا هو علي المسؤولية، لذلك اعرفوا علياً بعقله وبفكّره وبروحه، فإنه الإنسان الذي انطلق بفكّره فعرف اللّه معرفة قال فيها ((لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً))([660])، وهو الذي فكّر في مسئوليته وفي علاقته باللّه فباع نفسه للّه،فإذا كنا نحب علياً(ع) فلابد أن نعيش في عقله لأنه العقل كلّه، وأن ندرس تجربته وهي من أغنى التجارب، وندرس كيف حافظ على الوحدة الإسلامية التي تمت على حساب حقه الشرعي، وكيف حافظ على المسلمين وكان هو المظلوم فيهم فقال(ع) ((لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة))([661]) ولذا فإنّ من يحب علياً(ع) فإنه لا يسيء إلى الوحدة الإسلامية، ومن يحب علياً(ع) لا يشجع الفتنة في المجتمع، ومن يحب علياً(ع) لا بد أن يحبّ حرّكة العقل في العلم، وحرّكة التجربة في القضايا الكبيرة والأهداف الكبيرة. والحمد للّه رب العالمين.


 

الفصل الأول

 

 

المسائل القرآنية

 

 

 

 

 

 

 
 

أولاً: مسائل التفسير

ثانياً: مسائل عامة


أولاً: مسائل التفسير:

إيحاء آية التبليغ:

* ما الذي نستوحيه من الآية المباركة }يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ{([662]

- نستوحي منها أنّ الواقع الإسلامي آنذاك كان يفكّر بأنّ رسول اللّه(ص) يوشك أن يستجيب لنداء ربّه، وربما كان البعض يفكّر في كيفية ترتيب الأمر بعد رسول اللّه(ص) كما يلوح ذلك من أكثر من قضية وحادثة. ولذلك كانت المسألة حاسمة وهي أنْ يمنع النبي(ص) أيّ طموح شخصي وأيّ خلل في هذه المسألة. ولذلك جاء النداء حاسماً باعتبار أنّ الولاية كانت في نهاية المطاف كما كانت النبوة في بدايته، ولذلك نزلت الآية }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا{([663]). حتى أنّ النبي(ص) عندما رأى أنّ الخلل قد نفذ إلى بعض الذهنيات الإسلامية آنذاك، وأنّ هناك عملاً على أن ينسى الناس حديث (الغدير) قال وهو على فراش المرض ((آتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً))([664]) وخاف البعض من أن يعيد الكتاب القضية إلى نصابها الطبيعي، وقالوا ((إنّ النبي ليهجر))!! واختلف المسلمون وتنازعوا أمرهم، حيث قال بعضهم: هل نأتي لك بدواة وكتف؟ قال: أبعد الذي قلتم؟! أي أن قائلكم سيقول إن النبي(ص) قال ذلك في حالة هجر، أي لم يكن واعياً لما كتب فما قيمة كتاب مطعون فيه؟!

معنى الكوثر:

* }إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ{([665]). فماذا يعني الكوثر؟ هل هي فاطمة الزهراء(ع) أم أنّه نهر من أنهر الجنة؟


- بحسب سياق الآية فإن المراد هو النسل الكثير، ومن الطبيعي فإنّ نسله(ص) كان من الزهراء(ع) لأنه لا علاقة لنهر الكوثر في الجنّة بسياق الآية، فالآية تشير إلى )إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(([666])، ولكنك – يا رسول اللّه – لست أبتراً فاللّه أعطاك من النسل الكثير الذي هو كثير في نوعه فكلّ إمام من الذرية المعصومة هو أمّة في رجل، وأمّا المنحدر من هذه الذرية فبحسب انتمائه إلى الخط لا إلى النسب )قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(([667])، واللّه العالم.

معنى (الجعل):

* يقول تعالى }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا{([668]). فما معنى الجعل في هذه الآية؟

- في القرآن الكريم ينسب اللّه سبحانه وتعالى كلّ شيء إلى نفسه، ولكن ليس معنى نسبة الشيء إلى اللّه أنّ هذا الشيء يتمّ بشكل مباشر، بل يعني إنّ اللّه هو أساس الوجود وهو الذي خلق الأسباب، وقد جعل في كلّ قرية أكابر مجرميها من خلال الظروف التي تحيط بالقرية وطبيعة الاختلافات التي تحصل. فالفعل (جعل) يشير إلى السبب والمسبب الذي يجعل هؤلاء موجودين في القرية ضمن التعقيدات الاجتماعية والعصبيات التي يعيشونها، وإذا قيل إنّ اللّه جعل ذلك فلأنّ الأسباب والقوانين التي أودعها في الكون والسنن التاريخية تقضي ذلك.

أين النقل الجوي؟

* جاء في الآية الكريمة }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ{([669]) لقد استثنت الآية النقل في الجو على الرغم من أن ذلك هو في علم اللّه؟

- إنّ اللّه سبحانه وتعالى كان يخاطب الناس في ذلك الوقت بما هو موجود تحت أيديهم }وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ{([670]) وربما أشار إلى المستجدات في الوسائل بقوله تعالى (ويخلق) لكنّ اللّه لا يخاطب الناس فيما ينزله بما لا يتصورونه.

لها ما كسبت:

* جاء في القرآن المجيد قوله تعالى }تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ{([671]). فما هو معنى الآية؟ هل نستطيع اعتبار هذا النص إشارة إلى ضرورة صنع حاضرنا وعدم الاكتفاء بالتاريخ؟

- الآية الكريمة تتحدث عن مسؤولية كلّ جيل بمعزل عن الجيل الآخر أو الأجيال التي سبقته، فكل أمّة سابقة تتحمل مسؤوليتها، كما أنكم أنتم الذين جئتم بعدهم تتحملون مسؤوليتكم ولستم مسؤولين عمّا قام بها الآخرون من قبلكم بما كسبوه من خير أو شر فلا تشغلوا أنفسكم بالنزاع والصراع بالنسبة إلى التاريخ الذي سبقكم فلا يتخذ أحدكم موقفاً لصالح هذا الفريق وموقفاً لصالح ذاك الفريق إلاّ إذا كان ذلك الموقف يتصل بالخطّ الأصيل لما تؤمنون به، وعند ذلك ستكون المسألة مسألة الخطّ الذي تمثله الرسالة لا ما يمثله الصراع بين الناس في ذاته.

إنّ الآية تؤكد لكم – أيّها المسلمون وأيّها الناس – مسؤوليتكم في حاضركم سواء في الواقع الثقافي فيما يملأ عقولكم من أفعال، وفي الواقع الإيماني فيما تلتزمونه في خطّ الإيمان، وفي واقعكم العملي في كلّ أبعاد العمل وامتداداته وآفاقه، لأنكم سوف تحاسبون على ما كسبتم وعلى ما التزمتم وعلى ما تحركتم به }تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ{ من خير ومن شرّ ولا علاقة لكم بما كسبت هذه الأمة فلو كان خيراً فهم الذين يحصلون على نتائج هذا الخير }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه{([672]). ولو كان شراً فهم الذين يتحملون نتائج شرّهم }وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه{([673]). فأنت لا تتحمل نتائج أعمال آبائك وأجدادك لا الإيجابية منها ولا السلبية }وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ{ فانتم الآن تخوضون التجربة التي أمامكم والمسؤولية تنتظركم فحاولوا أن تكونوا في مستوى المسؤولية }وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ إنّها تريد أن تحدّد لكلّ جيل مسؤوليته عن مرحلته لتقول له لا علاقة للآخرين بمسؤوليتك بل لكلّ جيل مسؤوليته عن مرحلته، فمن الممكن أن تتخذ موقفاً إيجابياً من واقع تاريخي للتوعية، أو لتعتذر به، أو تأخذ موقفاً سلبياً، لكنه – على أية حال – ليس مسؤوليتك.

كتاباً موقوتا:

* قال اللّه تعالى }إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا{([674]) فما المقصود من قوله كتاباً موقوتا؟

- الظاهر – واللّه العالم – أنّها موقّتة بأوقاتها المعروفة، والكتاب الوجوب والفرض، ف‍(كتب عليكم) تعني فرض عليكم فرض وجوب كما في قوله تعالى )كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ(([675]) أو قوله تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ(([676]).

إلاّ وهم مشركون:

* }وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ{([677]). ما هو تفسير هذه الآية؟

- لقد فسّرت الآية، وذكرنا ذلك أكثر من مرة، بأن اللّه يريد للإنسان أن يكون مؤمناً في المضمون وليس مشركاً، أي أن يكون موحّداً للّه في المضمون وفي الشكل، وقد ورد في تفسيرها أن مظهر الشرك هو أن تقول لإنسان خدمك أو أنقذ حياتك: لولا أنت لهلكت، ولو لا فلان لتحطّمت حياتي، فأنت تنسب النتائج التي حصلت لك في إنقاذ حياتك وفي استقامة أمورك لشخص وتعزل اللّه عن الموضوع، وكأنّك جعلته شريكاً للّه ولو في الشكل، قال: إذاً كيف نقول؟ ((قال: قل: لولا أن منّ اللّه عليّ بك لكان كذا وكذا)). يعني أنه لابدّ أن تكون مؤمناً قلباً وقالباً حتى في طريقة التعبير فلا يكون تعبيرك موحياً بأنك تجعل أحداً مع اللّه في خير أصابك، فالكلّ وراء اللّه واللّه قبل وبعد كلّ شيء، ولذا فنحن نقول في التشهد ((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) واللّه تعالى يقول }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{([678]). فكلمة (منّ) في الحديث إشارة إلى أن الله هو الذي يقيّض للإنسان الهداية والنجاة والشفاء وكلّ ما يلحق به من خير أو يدفع عنه شرّا.

إنّما المؤمنون إخوة:

* هل الآية الكريمة }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{([679]). تقصد أخوّة القربى أم أخوّة الدين؟

- المقصود بالأخوّة بقرينة (المؤمنون) أخوّة الإيمان بمعنى أنّ اللّه جعل المؤمن أخ المؤمن، وفي الحديث عن علي(ع) ((ربّ أخ لك لم تلده أمّك))([680]).

* ومن هو أقرب إلى اللّه سبحانه وتعالى في الإخوة أخوّة النسب أو أخوّة الدين؟

- طبعاً أخوّة الدين، لأنّ عراها أوثق ((أوثق عرى الإيمان الحبّ في اللّه والبغض في اللّه))، ولأنها تنفع في الدارين الدنيا والآخرة، ولأنّها عماد المجتمع الإسلامي الذي يحمل الرسالة متآزراً ومتآخياً ومؤتلفاً، ولذا فقد كانت المؤاخاة في صدر الرسالة بين المهاجرين والأنصار ليست مؤاخاة بين عرب وعرب وقريش وقريش وأبناء مكة وأبناء المدينة بل هي أعمق من ذلك بكثير إنّها أخوّة في اللّه تقوم على الارتباط به والامتثال لطاعته ولا تنفصم إلاّ على الخروج من ربقة الإيمان.

سبب النصر:

* جاء في كتاب اللّه المبين }وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ{([681]). فهل أنّ معنى ذلك أنّ سبب النصر فقط هو اللّه دون أن يكون للمؤمنين والمجاهدين دور فيه؟

- إنّ معنى ذلك هو أنّ عمق النصر هو من عند اللّه مالك الملك ومسبب الأسباب، لأنّك إذا انتصرت فمن خلال الوسائل التي وضعها اللّه بين يديك، ومن خلال أسباب النصر التي هيأها لك سواء كانت أسباباً روحية أو مادية. فاللّه خالق كلّ شيء ونحن الأدوات التي تنجز وعد اللّه، وليس معنى ذلك أننا نفقد اختيارنا وصوابنا في هذا المجال، ولكنّ اللّه يريد منا أن نستحضره في كلّ نعمة ينعمها، علينا نصراً كانت أو غير نصر، كما ورد في حديث الإمام علي(ع) ((ما رأيت شيئاً الا ورأيت اللّه قبله ومعه وخلفه))([682]). بحيث إن الإنسان لا يشعر بأن هناك شيئاً مستقلاً في الوجود، حتى الرزق والعافية والتوفيق فهي من عند اللّه، بمعنى أنّ اللّه هو الأساس في ذلك، ولذلك خاطب اللّه رسوله في واقعة أحد }وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى{([683]). فليس المراد هنا أنّ اللّه يرمى بشكل مباشر، لكنّه هو الذي يهيء الوسائل ليعطيكم القوة على الرمي وليجعل رميتكم تصيب، واللّه العالم.

مفهوم الأمة:

* مفهوم الأمة في القرآن الكريم مفهوم مطّاط، فكيف تحدّدون هذا المفهوم؟

- لمفهوم الأمة بالمعنى اللغوي عدة اعتبارات أو دلالات، ولكنه دخل في النظرية الاجتماعية بمفهومه الواسع، والا فالأمة تعني الجماعة من الناس التي تلتقي على شأن واحد كما في قصة موسى }وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ{([684]). فالأمة – بحسب المعنى اللغوي - ربما تكون عشرة أشخاص يزيدون أو ينقصون.

وفي النظريات الاجتماعية فإن الأمة صارت تعني الشعب والوطن والقومية، وفي كثير من الأحاديث يكون المقصود بالأمة شموليتها، أي الأمة الإسلامية، وهذا ما يعبّر عنه الحديث الشريف ((من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم))([685]) والحديث الآخر ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر))([686]).

تفسير القرآن على عهد الرسول(ص):

* هل كان هناك تفسير للقرآن على عهد رسول اللّه(ص)؟

- كان التفسير موجوداً على عهد رسول اللّه(ص) حيث كان الناس يسألون رسول اللّه(ص) عن تفسير بعض الآيات فيفسّرها لهم، وكانوا يسألون بعض الصحابة في ذلك، وينقل أنّ عليا(ع) كان يفسّر القرآن وكان الأئمة(ع) يفسّرونه أيضاً ولكن لم يكن هناك كتاب تفسير بهذا المعنى الدارج اليوم باعتبار أنّ وجود القرآن الناطق كان يغني عن الحاجة إلى تفسير مكتوب.

يضلّ ويهدي من يشاء:

* قال اللّه تعالى }فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ{([687]) فما هو المقصود بهذه الآية؟

- ليس كلّ فعل ينسب إلى اللّه في القرآن من الضلال ومن الهدى ومن الرزق ومن الخلق هو بمعنى مباشر، فاللّه سبحانه وتعالى يخلقنا ولكن ليس على طريقة خلق آدم بشكل مباشر، وإنما بشكل غير مباشر باعتبار أنّه خلق أسباباً لوجود الإنسان وقال للإنسان إذا أخذت بهذا السبب فإنّه سيقودك إلى هذا المسبب. فليس معنى ((يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء)) أنّ اللّه يضع في قلب الإنسان الضلال، أو يودع الهدى في قلبه، بل بمعنى أنّ اللّه يهدي الإنسان بأن يهيئ له سبل الهدى، ولكن الإنسان لا يتبعها فيكله اللّه إلى نفسه، وإذا وكله إلى نفسه ضلّ.

أمّا أن يهدي من يشاء فلأنّ اللّه هو الذي أعطاه العقل الذي يهتدي به، بالإضافة إلى الحواس الخمس التي تمثل أعوان العقل في السير في طريق الهداية، وهيّأ له الوسائل أيضاً من خلال الأنبياء الذين أرسلهم هداة للبشرية، ولذلك فإنّ الهدى ينسب إلى اللّه مع انه باختيار الإنسان باعتبار أن الأسباب هي من اللّه سبحانه وتعالى.

اقترب للناس حسابهم:

* يقول كتاب اللّه العزيز }اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ{([688]). كان ذلك قبل أكثر من ألف عام من الزمن، فماذا يعني ب‍ (اقترب)؟

- ربّما يكون المراد من الاقتراب ما ورد من أنّه ((إذا مات الإنسان قامت قيامته)) باعتبار أنّ هناك حساباً في القبر، وأن هناك حساباً في عالم البرزخ. وربّما يكون المقصود بالاقتراب الإيحاء بان الحساب سوف لن يكون بعيداً عنهم )إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا(([689]). واللّه العالم.

ونفس وما سوّاها:

* قال تعالى }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{([690]) فلماذا قدّم سبحانه وتعالى القسم بالمخلوق وهو النفس (ونفس) على القسم بالخالق (وما سوّاها)؟

- ليس المقصود ب‍ (وما سوّاها) الخالق سبحانه وتعالى بل خلق النفس وتسويتها، أي أنّه سبحانه وتعالى خلق النفس وهو الذي سوّاها ف‍ (ما سوّاها) يعني عملية تسويتها لا خالقها سبحانه وتعالى وذلك قوله تعالى }سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى{([691]).

ما غرّك بربك الكريم:

* ما معنى قوله تعالى }يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ{([692]

- أي لا تغتر باللّه وبرحمته فتهجم على معصيته وما إلى ذلك من الذنوب والآثام، ذلك أن أخذ اللّه أخذ عزيز مقتدر، وإذا أملى لك فلا يدفعك ذلك إلى الاغترار برحمة اللّه بحيث تغرق في معصيته فقد يملي لك لتزداد إثماً )وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا(([693]).

يهدي للتي هي أقوم:

* جاء في القرآن المجيد في وصف القرآن نفسه }إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ{([694]) فهل أنّ صيغة التفضيل أقوم تدلّ على أنّ غير القرآن يهدي لما هو قويم وحينئذ يمكن الاكتفاء به؟

- لا، ليس المراد ذلك، بل يعني أنه يهدي للطريقة الأقوم، فالغاية التي يقود القرآن إليها هي الغاية الأقوم والأفضل والأحسن، وبمعنى آخر أن (أقوم) هي صيغة تفضيل بما ينطوي عليه القرآن من قدرة عالية على الهداية لا تضاهى فهو يهدي للأقوم بذاته لا بالمقارنة مع غيره، واللّه العالم.

فرّقوا دينهم وكانوا شيعا:

* ما الذي نستوحيه من الآية الكريمة )إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ(([695]

- إنّ اللّه سبحانه وتعالى يحدّثنا في هذه الآية عن الذين أثاروا حالة التمزّق والتفرّق في دينهم فحوّلوا الدين الواحد إلى شيع متفرّقة بفعل أهوائهم وذاتياتهم لأنّهم حتى لو اختلفوا في بعض الاجتهادات فإنّ بإمكانهم أن يتوصّلوا إلى موقع الوحدة، وهذا ما لابدّ لنا أن نواجهه في كلّ خلافاتنا سواء كانت مذهبية أو حزبية أو ما أشبه ذلك، فإنّ علينا أن نحاول الالتقاء على ما اتفقنا عليه وأن نتباحث ونتحاور فيما اختلفنا فيه فلعلّنا نصل إلى نتيجة موحّدة.


متوفيك ورافعك:

* ورد في القرآن الكريم قوله تعالى )يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا(([696]). فهل أنّ قوله تعالى )إِنِّي مُتَوَفِّيكَ( و )رَافِعُكَ( يعني أنّ اللّه أمات سيدنا عيسى(ع)؟ أو أنّها تعني فقط أنّ اللّه رفعه إلى السماء؟

- هناك رأيان في تفسير هذه الآية، فهناك رأي يقول إن اللّه قبض روحه للحظة ثم رفعه إلى السماء، وهناك قول بأنّ كلمة (متوفيك) تعني أنّ الوفاة هي بلوغ الحد، فبلوغ حدّه في الدنيا قد يكون بواسطة قبض روحه، أو بواسطة إخراجه من الدنيا وهو حي ليرتفع إلى السماء، ولكن من خلال ما عرضه القرآن من آيات الموت كقوله تعالى )كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(([697]). وقوله تعالى)إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(([698]). يمكن اعتبار الوفاة وفاة بمعناها المعروف، واللّه العالم.

التحديث بالنعمة والإسراف:

* ماذا يعني قوله تعالى )وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(([699])؟ وما هو حدّ الإسراف في الشارع المقدس؟

- التحديث بنعمة اللّه تبارك وتعالى يعني أن يُظهر الإنسان أثر النعمة عليه كما في اللباس الذي يتجمّل به، أو في التوسعة على عياله، أو في البذل في مجالات البر والخير، وأن لا يقتّر على نفسه. أمّا الإسراف فهو أن يبذّر ماله في غير فائدة، وأن يسرف به في غير حاجة وفي غير فائدة، وقد ورد في حديث الإمام جعفر الصادق(ع) بما يتصل بنصح المجتمع بأن يستفيد من كلّ طاقة وأن لا يضيّع أية طاقة في غير فائدة ((إنّ القصد أمر يحبّه اللّه وأنّ السرف أمر يبغضه اللّه حتى طرحك النواة فإنها تصلح لشيء)) وهذا يعني أن لا تضيّع حتى نواة التمر أو نواة الزيتون أو أية نواة أخرى، أي يمكن للمجتمع إذا كان يخطّط تخطيطاً اقتصادياً أن لا يجعل هذه النواة تذهب هدراً، وإنّما يزرعها حتى تصير نخلة أو شجرة زيتون أو أنّه يصنّعها بحيث يمكن ان يستنزف كلّ ما فيها من طاقة ((وحتى صبّك فضل شرابك)) فقد تحتاج عندما تشرب الماء إلى نصف الكأس، فإذا أفرغت النصف الفائض عن حاجتك فإنّك تكون قد أسرفت، خصوصاً وأنّ بعض الناس عندما يشتري المرطبات فإنّه قد لا يشرب القنينة كلّها بل يشرب ربعها ويكّب الباقي، في حين يمكن سكب الشراب في الكأس بمقدار الحاجة وإبقاء الباقي لوقت آخر أو لأشخاص آخرين.

فالإمام(ع) ينصح بانتزاع كلّ طاقة وعدم التفريط بها. وهناك مثل آخر، ففي الوضوء نرى أن البعض من المتوضئين يفتح الحنفية عن آخرها ويظل يريق الماء وهو يحتاج إلى شيء بسيط حتى يتوضأ ويمكن أن يفتحها ويغلقها مرة ثانية، فالماء هو حياة الناس وهو موجود بمقدار معين فإذا كنت تصرف في اليوم (50) ليتراً من الماء وأنت تحتاج إلى عشرة ألتار فهذا يعني أن (40) ليتراً تذهب هدراً. وقل الشيء نفسه عن الضياء أو الكهرباء وما يجري فيهما من التبذير وهي كذلك طاقة يمكن الإفادة منها في مجالات كثيرة.

وراثة الأنبياء(ع):

* قال تعالى )يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا(([700]). فإذا لم تكن وراثة النبوة وكانت وراثة المال والمتاع ألا يمكن القول إنّ هذه الآية تعني إنّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا؟

- هناك في القرآن آيتان تتحدثان عن وراثة الأنبياء(ع) في قوله تعالى)هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً(([701]) ومعناها الأولاد، وقوله تعالى )فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(([702]) فإنّ الولي قد يكون الولد وقد لا يكون الولد، ولذا قال )يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ( أي أنّه يريد أن يبيّن أن هذا الولي هو ولد،ومن خصوصيات الولد أنّه هو الذي يرث أباه،وليس معنى ذلك وراثة النبوة لأنّ النبوة من اللّه ولا تورّث.)قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(([703]).

لا إكراه في الدين:

* ما هي حدود قوله تعالى )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( هل هي خاصّة بالعقيدة؟ أم هي تشمل السلوك البشري أيضاً؟

- قوله تعالى )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( واردة في الجانب العقيدي بحسب ما جاء بعدها )قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ(([704]). فأنت قد تكره الإنسان على الشيء غير الواضح والذي قد يقتنع به من خلال إيضاحاتك والأدلة التي تسوقها إليه، ولكن إذا تبيّن الرشد من الغي فلا يوجد إكراه فالرشد بيّن والغي بيّن والعناد مغالطة وتعصّب وجهل. وأمّا بالنسبة إلى الشريعة فهي نظام وضمن هذا النظام هناك نظام عقوبات وجزاء كأي نظام في العالم يفرض على أتباعه الالتزام بالقانون.

الظاهر والباطن:

* جاء في كتاب اللّه العزيز عن اللّه سبحانه وتعالى )هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ(([705]). فما معنى (الظاهر والباطن) ؟

- هو الظاهر في كلّ مواقع عظمته، وفي كلّ مواقع رحمته، وفي كلّ مواقع نعمته. وهو الباطن في كلّ أسرار الغيب في ذاته، وفي كلّ خفايا علمه، وما إلى ذلك.

قتل الإنسان ما أكفره:

* ما معنى قوله تعالى )قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ(([706]

- يتحدّث اللّه تعالى هنا عن الإنسان كنوع فيصوّره كيف يكفر بنعمة اللّه، وليس المقصود بذلك الكفر العقيدي بل كفر النعمة، فإنّ اللّه خلقك وأعطاك وأنعم عليك ولكنّك لم تشكر نعمة اللّه عليك بل سخّرت نعمته في معصية اللّه ولم تطعه فيما وهبك وأعطاك، ولذلك فإنّ جحود النعمة كفر.

إكراه الفتيات على البغاء:

* ما معنى قوله تعالى )وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا(([707]

- هذا يعني أنّ بعض الناس ربّما يكره المرأة وهي عفيفة تريد الحفاظ على العفّة والنزاهة والشرف ولكنه يكرهها ويقهرها بما يمارسه عليها من ضغوط قاهرة من أجل أن تتاجر بجسدها. فبعض الناس مع الأسف، كما هو الحال في عصرنا، يكره زوجته على البغاء، ونقرأ أحياناً في الصحف أنّ بعضهم يكره ابنته على البغاء، أو أنّ الأم تكره ابنتها على الزنا وما إلى ذلك بغية المتاجرة بجسد الفتاة غير آبهين بما يجرّه ذلك من تحطيم لنفسيتها وحقدها على المجتمع وعلى والديها اللذين يدفعانها إلى الرذيلة دفعا.

الاعتداء بالمثل والدفع بالتي هي أحسن:

* يقول تعالى )فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ(([708]) ويقول )ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ(([709]). فكيف نوفّق بين الآيتين؟

- في الآية الأولى يقول تعالى إنّ من حقك أن تردّ على الاعتداء بمثله، ويقول في الثانية اذا رأيت مصلحة في أن تعفو فأعفو )وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(([710]) )وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(([711]). فاللّه تعالى يريد أن يؤكّد الحقّ عندما يعتدي عليك الآخرون فإنّه يعطيك الحقّ في أن تأخذ حقك من المعتدي عليك، ولكن أيضاً لك أن تعفو وتصفح عنه، فإذا عفوت في موقع العفو فإنّ اللّه يعطيك أجر الصابرين، واعتبار ذلك )أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( لأنّه يدلّ على سمو روحيتك ونفسك التي لم تقابل العدوان بالعدوان وإنّما قابلته بالإحسان.

وقود النار:

* يقول تعالى )فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(([712]). فهل للنار وقود من الناس والحجارة؟

- طبعاً، فعندما يحترق الإنسان في داخل النار يتحوّل هو أيضاً إلى وقود لتلك النار، وعندما تبلغ النار ذلك المستوى من الحرارة فمن الطبيعي أن تصبح الحجارة والإنسان أدوات حرق أي بمثابة الجمر الذي يحرق نفسه وغيره.

* ثم من هم أولئك التعساء الذين أعدّو وقوداً للنار؟

- هم كلّ الناس الذين كفروا باللّه وانحرفوا عنه. ولا دخل لنا في التفاصيل، فاللّه تعالى يعطينا الخط العام، ويقول )قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا(([713]). أي كونوا المؤمنين، وليكن أولادكم وأهلكم مؤمنين مثلكم لأنّكم إذا لم تقوا أنفسكم وأهليكم من المعاصي فسوف تدخلون النار جميعاً، واللّه هنا يريد أن يثير عاطفتنا تجاه أولادنا وأهلنا، إذ هل يقبل أحدنا أن يدخل ولده أو أمه أو أبوه أو زوجته في النار؟ أمّا من هم؟ وكم عددهم؟ فهناك لا نحتاج إلى دوائر النفوس لتبيان من يدخل ومن لا يدخل فسجّل الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها.

المخلَصوُن:

* ما معنى كلمة (المخلَصون) في قوله تعالى )إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(([714]

- المخلص هو الإنسان الخالص الذي خلص في إيمانه وخلص في عمله للّه سبحانه تعالى.

المسلم والمؤمن:

* ما الفرق بين المؤمن والمسلم؟

- في القرآن المؤمن هو عبارة عن الإنسان الذي آمن بالإسلام في لسانه وفي قلبه، والمسلم هو الذي آمن بلسانه ولم يسلم بقلبه، والدليل على ذلك هو قول اللّه سبحانه وتعالى )قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ(([715]). وفي أحاديث أهل البيت(ع) يطلق المؤمن على الإنسان التابع لأهل البيت(ع) كمصطلح، وإلاّ فالمراد في القرآن من المؤمن هو المسلم الذي آمن بالإسلام في قلبه.

عقدة من لساني:

* قال تعالى )وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(([716]). وقد قيلت هذه الآية في نبي اللّه موسى(ع)، فهل كان في لسان نبي اللّه موسى خلل؟

- هناك روايات تقول إنّ هناك حبسة في لسانه، وهناك رواية تقول إنّ هذه واردة في سبيل الكناية، وكأنّه يقول إنّ موسى(ع) ما كان ذلق اللسان، ولذا قال )وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ(([717]). فقد يكون ذلك من جهة الفصاحة )وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي(([718]). أي أنّ هارون مفوّه أكثر منه، واللّه العالم. ولكن هذا لا يمثّل نقصا في نبوّة النبي(ص)، فأن تكون عند النبيّ حالة مرضية في جسده فإنّ ذلك لا يضرّ بعصمته ولا بكمالاته ولا برسالته وقد رأينا كيف هزم موسى(ع) فرعون دون يشكّل ذلك عائقاً.

وأنفسنا وأنفسكم:

* ما حدود هذا المقطع )وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ(([719]). الوارد في آية المباهلة؟

- يرى بعض الناس أنّ )وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ( تعني أنّ النبي(ص) والإمام علي(ع) بمرتبة واحدة، في حين أنّ المقصود بأنفسنا وأنفسكم أنّ علياً(ع) هو صياغة النبي(ص) وتربيته حتى كأنه نفسه في خصائصه الروحية والأخلاقية والعلمية، فلقد ربّاه منذ طفولته الأولى وقد نقلنا تجربة الإمام في صغره الواردة في (نهج البلاغة) أكثر من مرّة. فليس المقصود أن يكون الإمام علي(ع) في نفس مرتبة النبي(ص) إذ لا إشكال أنّ رسول اللّه(ص) هو أعظم من علي(ع) وهذا هو قول الإمام الباقر(ع) مما روي في (الكافي) عندما كان يقول ((أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول أحبّ علياً وأتولاه ثم لا يكون فعّالا فرسول اللّه خير من علي، أفيكفي الرجل أن يقول أحبّ رسول اللّه ثم لا يعمل بسنّته)).

حمل الأوزار:

* كيف نوفّق بين قوله تعالى )وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(([720]). وقوله تعالى )لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(([721]

- لا يوجد تناف بين الآيتين، ففي الآية الأولى يقول تعالى بأنّ الإنسان لا يتحمّل وزر جريمة أبيه ولا الأب يتحمّل وزر جريمة ابنه أو أحد من أقربائه. أما الآية الثانية فتقول إنّ هؤلاء الذين يُضلّون الناس بغير علم يتحمّلون أوزارهم أي خطاياهم وأوزار الذين يضلّونهم لأنّهم كانوا السبب في إضلالهم، وليس معنى ذلك أن يحملوا وزر الآخر من دون أن يكون لهم دخل فيه، فلقد كانوا السبب في ما قام به الآخر من وزر، ولا إشكال بان اللّه كما يعامل الإنسان على ما يقوم به من جريمة فإنّه يعامله على ما يتسبّب به من الجريمة، والذين يضلّلون الناس يكونون قد تسببوا في جريمة إضلالهم.

الأمن الاقتصادي والسياسي:

* قال تعالى )فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(([722]) وقال )أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا(([723]). فهل أنّ توفر الأمن الاقتصادي والسياسي شرطان لتحقق العبادة، وبدونهما ليس هناك أمر بالعبادة؟

- كأن السائل يريد أن يقول: إن اللّه يقول: )فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ( أي أمّنت لكم الأمن الاقتصادي والسياسي، وكذلك قوله تعالى )أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا( فمعنى ذلك أن العبادة لا تكون إلاّ مع تحقيق الأمن السياسي والأمن الاقتصادي، ولكن القضية ليست كذلك، فاللّه يريد أن يقول لهم من خلال الآيات المذكورة أنه أنعم عليهم بهذه النعم )فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ( فالعبادة تمثل شكر المنعم، ولقد أنعمت عليكم ووفرت لكم كلّ الخير الذي تتنعمون به، فلماذا لا تذكرون ذلك بالعبادة؟ لا أن العبادة مشروطة بالأمن الاقتصادي أو الأمن السياسي وما إلى ذلك.

أمة واحدة:

* ما معنى قوله تعالى )إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً(([724]

- هذا خطاب للرسل والمراد من الأمّة هنا الخط وليس المجتمع بمعنى الناس، أي أن المراد هو الخطّ الرسالي فهو خط واحد وهو خط التوحيد.

دلالة التأمّل في الكواكب:

* ما تفسير الآية الكريمة )فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(([725]) هل لها دلالة أخرى؟

- المعروف أن إبراهيم(ع) كان مؤمنا منذ البداية ومنذ طفولته، ولكنه كما هي بعض الآراء، وهذا الذي رجّحناه في تفسيرنا (من وحي القرآن) أراد أن يقيم الحجّة على قومه بهذه الطريقة الاستعراضية. فلقد صوّر نفسه كرجل شاكّ لا يدري ما هي الحقيقة )فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(([726]). أراد أن يبطل ما يعتقدونه على أساس الحجّة لأنّ هذه الظواهر الكونية لا يمكن أن تكون أربابا لأن الربّ لا يأفل ولا يغيب عن خلقه أو عن عباده طرفة عين أبداً.

فهذا هو أسلوب من الأساليب الاقناعية ولكن من دون أن يستثيرهم ضده، فكأن القضية قضيته هو، لأنه إذا قال لهم انتم مخطئون فسوف يثير مشاعرهم وحفيظتهم كما ثارت بعد ذلك عندما كسر أصنامهم. وهذا أسلوب من أساليب الدعوة الإبراهيمية، وهذا من الأساليب التي لابدّ لنا أن نستفيد منها حتى على مستوى المسرح والقصة والرواية حيث يمكن أن نستفيد من أسلوب إقناع الآخرين بالفكرة.

يهدي من يشاء:

* قال تعالى في محكم كتابه )لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ(([727]

- معنى ذلك أن عليك – يا رسول اللّه – أن تبلّغ رسالات اللّه )إنّما أنتّ مٌذَكِّرْ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(([728]). واللّه يهدي لا بمعنى أنه يلقي الهداية بشكل جبريّ في قلب الإنسان، بل هو الذي يوفّر سبل الهداية وما على الرسول إلا البلاغ المبين. فاللّه يقول لرسوله إن عليك أن تقرّب الفكرة وتزكّيهم وتعلّمهم الكتاب والحكمة، وأمّا الهداية فتحتاج إلى ظروف وإلى مناخات وأوضاع معينة، ولهذا فهي ليست بيديك وإنّما اللّه هو الذي يعطيها من خلال ما يخلقه من وسائل وظروف تتعدّى جانب التفكير وجانب الوعظ والإرشاد.

الإكمال والتبليغ:

* كيف نفسّر نزول آية إكمال الدين )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ(([729]) قبل آية التبليغ )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك(([730]

- القرآن الكريـم لـم يرتّب على أساس النـزول، ولذلك فيمكن أن تكون هناك آية قبل آية أخرى تسبقها في المعنى أو التكليف.

ماذا شربت مريم(ع)؟

* يقول تعالى )فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا(([731]). الأكل في الآية الشريفة معلوم، وهو الرطب، ولكن ما هو الشرب الذي تشير الآية إليه؟

- هو الماء الذي في النهر الذي جرى في أسفل المغارة )قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا(([732]). أي الماء الذي يسري فيمكنك أن تشربي منه.

ويمنعون الماعون:

* ما معنى قوله تعالى )وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(([733]

- المقصود بالماعون المعونة، أي أنّهم يمنعون معونة الناس لبعضهم البعض.

فأين تذهبون؟

* ما هو تفسير قوله تعالى )فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(([734]

- هذا وارد في مقام التحذير من مغبّة الطريق الذي يسيرون فيه، أي إلى أين أنتم متجهون؟ فقد تسيرون في الطريق الذي يؤدّي بكم إلى الضياع.

هل الدعوة نخبوية:

* هل قوله تعالى )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ(([735]) يعني أن الدعوة إلى اللّه نخبوية، وإذا كانت كذلك، فما هي أهمّ مواصفات هذه النخبة؟

- قوله تعالى )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ( يعني الأمة التي تقوم بها مهمة الدعوة إلى اللّه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الكلّ، وإذا لم يقم به أثموا جميعاً، فربّما تقوم الدعوة بنصف الأمة فلا يجب على النصف الآخر. فليست الدعوة والحال هذه نخبوية بل هي الأمة التي تسدّ بها الحاجة وتتحقق بها الأهداف. ومن الطبيعي فإنّ الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لابدّ أن يكونوا بالمستوى الثقافي والروحي الذي يمكن أن يحقّق هذه النتائج.

نفخ في الصور:

* يقول تعالى )وَنُفِخَ فِي الصُّور(([736]) والحديث عن يوم القيامة وهو في زمن المستقبل، فلماذا استخدم الفعل الماضي للتعبير عن حالة في زمن المستقبل، أليس هذا هو خلاف القاعدة؟

- يذكر البلاغيون أنّ من الممكن أنْ تتحدّث عن المستقبل بالماضي إذا كان المستقبل محقّقا لأنّ الماضي يدلّ على التحقيق، فإذا كان المستقبل محقّقا بشكل قطعي فيجوز لنا أن نتحدث عنه بالماضي.

معنى التطهير:

* آية التطهير تقول )لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(([737]). فهل تدلّ على الطهارة المعنوية أي العصمة؟ أم تدلّ على تنزيههم من النجاسة؟

- الآية الكريمة تدلّ على الطهارة المعنوية، أمّا النجاسة فالأحاديث عن النبي(ص) تدل على أنّه كان يغتسل من الجنابة، وكان يطهّر يده إذا تنجست، وهكذا في سائر النجاسات. فهي إذاً الطهارة المعنوية والروحية والفكرية لأنّ هذا هو الذي يتفاضل به الناس، أمّا القذارات والنجاسات فهي أمور طبيعية وليست نقصاً في الإنسان التي تخرج منه، فالنجاسة تتعلق بالقذارات ولا تتعلق بالإنسان، ولذا فطهارتهم تعني العصمة والملكات الروحية التي كانوا يمتازون بها عن سواهم من الناس.

كلّ يوم هو في شان:

* ما معنى الآية الكريمة )كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ(([738]

- هذا وارد بلحاظ ما يحدثه الله سبحانه وتعالى في الكون من الأمور التي تتعلّق بالناس، فهو يدير الكون كلّ يوم بطريقة تمليها شؤونه المتجددة مما يجعل أفعاله تتجدّد وعطاياه تتنوّع في صنع الوجود وما يحتاجه الوجود، وفي تدبير ما يحتاج إلى التدبير.

للمطلّقات متاع:

* ما معنى الآية )وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ(([739]

- يستحب إلى جانب دفع المهر أن تعطى شيئا يمتعها، وربما ورد هذا بمثابة هدية الفراق التي يدفعها الزوج للمرأة المطلقة للتدليل على انفصالهما لا بفعل عقدة في ذاته اتجاهها ولا عداوة لها بل هو أمر فرضته ظروف معقدة.

أحسن الخالقين:

* كيف نفسّر قوله تعالى )فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(([740]) على أساس التطورات العلمية الحديثة لاسيما الاستنساخ والهندسة الوراثية؟

- كأن السائل يقول لقد صار عندنا أناس يخلقون كما يخلق اللّه ولكن اللّه أحسن منهم، والأمر ليس كذلك، فالمراد ب‍)فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ( أي لو كان هناك خالقون آخرون فاللّه هو الأحسن وهي صيغة بلاغية في التعبير عن الإبداع في خلق اللّه الذي لا يجاريه فيه أحد. وربما أريد أن الخلق هو التقدير بقياس الشيء من الشيء وهو لا يختصّ به تعالى. وقد ورد في كلامه سبحانه نسبة الخلق إلى غيره كقوله (إني أخلق من الطين كهيئة الطير) وكقوله (وتخلقون إفكا) فيكون التفضيل وارداً على حقيقته، فإن اللّه أحسن الذين يمارسون الخلق ولكن في الصورة لا في القانون الوجودي.

أما الاستنساخ والهندسة الوراثية فليس فيها خلق بمعنى خلق الإنسان كخلق اللّه له، لماذا؟ لأنّ الخلق هو خلق القانون، وأمّا الاستنساخ فهو أن الأشخاص المستنسخون يستهدون القانون الإلهي، فلو نظرنا إلى الحيوان أو الإنسان لنرى كيف يولدان؟ نرى انهما يولدان من خلية تشمل (46) من الكروموسومات (23) موجودة في النطفة و (23) في البويضة، فلّما تلقّح النطفة البويضة يصبح المجموع (46) كروموسوماً، فماذا يعمل المستنسخون؟ إنهم يأخذون خلية كاملة من الحيوان أو الإنسان تشتمل على (46) من الكروموسومات وهو نفس القانون الإلهي فيقومون بتفريغ البويضة من الكروموسومات الموجودة فيها فتصبح خالية ويضعون هذه الخلية التي تحوي (46) كروموسوما داخل البويضة فيحصل الاستنساخ. وغاية الأمر أنها كانت موزعة بين النطفة والبويضة وهنا قد جمعت. فإذاً هم لم يخلقوا إنسانا أو حيوانا إنما اخذوا القانون الإلهي في أن المولود الحي يولد من خلية إنسانية أو حيوانية تشتمل على (46) من الكروموسومات. فالخلق هو أن تخلق قانونا، والعلماء كلّهم يجمعون انه رغم كلّ الذي قام به العلماء في مختلف المجالات فإنهم لم يستطيعوا أن يخرقوا أي قانون من قوانين اللّه أو يصنعوا أي قانون من قوانين الخلق حتى بالنسبة إلى الجينات والهندسة الوراثية التي يتم التصرف من خلالها بشكل الخلقة، فإنما يتم ذلك حسب البرنامج الموجود الذي جعله اللّه في حياة الإنسان فيما يمكن تغييره، كما في عملية التجميل التي لا تغيّر الخلقة وإنما تجري عليها تعديلات خارجية.

التفسير العلمي للقرآن:

* ما هو رأيكم بالتفسير العلمي للقرآن بشقيه الظاهري والباطني، كما في قوله تعالى )وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ(([741]

- هناك اتجاهان في عالم التفسير العلمي للقرآن: اتجاه يحاول أن يحمّل القرآن ما لا يحتمله كالذين يقولون بأنّ القرآن تحدّث عن الذرة كما في قوله تعالى )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(([742]). فهم يحاولون أن يخضعوا القرآن للنظريات العلمية حتى في غير الموارد العلمية، وخطورة ذلك هو أنّ ظاهر القرآن لا يتحمّل هذا الشيء. فالذرة في اللغة العربية تمثل أصغر الحجوم وفي الآية أصغر عمل لا الذرة في العلم القائم بذاته. ثم أنّ النظريات العلمية هي نظريات متحرّكة، ولذلك فهي ظنّية أي أنها تعتمد على الاستقراء والاستقراء بطبيعته ناقص، وقد ذكرنا مراراً أنّ نظرية داروين مثلاً تعتمد على بعض الحفريات وبعض الجماجم التي اكتشفها داروين واستخلص من خلالها نظريته في تطوّر الأنواع ولكنّ العلماء اثبتوا بعد ذلك أنّ هناك حفريات وجماجم قبل الجماجم التي اكتشفها داورين تدلّ على وجود الإنسان كما هو الإنسان بهيئته التي نراها اليوم، فالنظريات متحرّكة، وعندما جاءت النظرية النسبية قلبت الكثير من النظريات التي كانت قبلها.

والقرآن هو كلام اللّه وقد نفسّر بعض آياته بنظرية معينة ثم تأتي نظرية أخرى تبيّن خطأ النظرية الأولى، فهل نقول إنّ القرآن قد أخطأ؟ وهناك اتجاه آخر يؤكد أنّ في القرآن بعض الحقائق العلمية ولكنّ القرآن أساساً ليس كتاب كيمياء ولا كتاباً فيزياء ولا كتاب يتكلّم عن العلوم الطبيعية ولكنّه قد يشير إلى بعض اللمحات في أسرار خلق اللّه سبحانه وتعالى مما يمكن أن يكتشفه الإنسان في المستقبل، كما في مسألة الظلمات الثلاث، وفي قوله تعالى )بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ(([743]). بحيث يمكن أن نستوحي منها مسألة بصمات الأصابع، أو في قوله تعالى )رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ(([744]). أو )بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ(([745]). بحيث نكتشف منها كروية الأرض، أمّا أن نقول إنّ في القرآن كيمياءً وفيزياءً وعلوماً طبيعية فهذا ليس من اختصاص القرآن، فالله سبحانه وتعالى جعل القرآن كتاب هدى وهو يحدّثنا عن أسرار خلقه كمظهر من مظاهر عظمة الله ويشير إلى بعض اللمحات العلمية.

أما التفسير الباطني فلا نفهمه. فهو تارة يراد به معنىً للفظ غير المعنى الظاهر فنفرض له معنى واحداً. ومن الممكن جداً أن نفهم بعض المعاني من اللفظ وتكون لها آفاق واسعة ولها عمق في طبيعة المعنى، وليس عندنا معان ثانية باطنية غير المعاني الظاهرية، فإذا أريد من المعاني الباطنية عمق المعنى الظاهر فكلّ مفسّر قد يفهمه حسب ثقافته، فقوله تعالى )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا(([746]). قد يفهم بطريقة وجدانية شعبية، والإنسان الذي يتميز بذهنية فلسفية قد يفهمه بطريقة فلسفية، فإذا أريد من التفسير الباطني التفسير بعمق المعنى، فهذا صحيح.

كفر الشياطين:

* ما المقصود في قوله تعالى )وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا(([747]). هل كان لسليمان شياطين؟ وكيف وصل الناس إليهم؟

- كان له شياطين من الجن، فهذا ما حدثنا القرآن عنه حيث كانوا يصنعون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، وربما كانوا يتمثلون بأشكال الأنس ويصلون إلى الناس من خلال ذلك.

معنى الأزلام:

* ما المقصود بالأزلام في القرآن الكريم؟

- كانت هناك طريقة للحسم في الجاهلية تشبه طريقة القرعة وذلك بالاستقسام بالأزلام وهي القداح. كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح وهي مكتوب على بعضها (أمرني ربي) وعلى بعضها (نهاني ربي) وبعضها (غُفل) فإن خرج الأمر مضى لنيته التي نواها، وان خرج النهي امسك، وان خرج الغُفل أجالها عوداً. وقيل هو الميسر وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة.

التفسير بالمأثور:

* ما هو منهجكم في التفسير بالمأثور؟ هل تذهبون للتساهل بأدلّة السنن أم أنكم تتشددون في التدقيق بالرواة؟


- منهجنا هو محاولة استيحاء القرآن والتدقيق في الروايات من حيث وثاقة رواتها، أو من حيث عرضها على المفاهيم العامّة الثابتة وخصوصاً في أسباب النزول التي لدينا رأي فيها، فنحن نجد أنّ أكثرها غير صحيح ولدينا مناقشة للأحاديث التي لا تثبت أمام النقد، فنحن نحاول أن نستوحي القرآن حتى يصبح كما قال الإمام الباقر(ع) ((إنّ القرآن يجري مجرى الليل والنهار ومجرى الشمس والقمر))([748]) ففي تفسيرنا (من وحي القرآن) نحاول أن نجعل الإنسان الذي يقرأ القرآن يشعر أنّ القرآن يحدّثه عن حياته من خلال الإيحاءات التي يستوحيها من آيات القرآن، ونحن لا نوافق على التسامح في أدلة السنن لأنها لا حجية لها فلا يمكن الأخذ بمضمونها في التفسير وغيره.

لا تأخذه سنة ولا نوم:

* يقول تعالى )لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ(([749]). ومعنى السنة الإغفاءة البسيطة التي تسبق النوم، فالذي لا يأخذه البسيط لا يأخذه القوي، فلماذا لم يقل سبحانه وتعالى لا يأخذه نوم ولا سنة حتى تصبح المسألة طبيعية لأنّ الذي لا ينام فهو بالتأكيد لا يغفو حتى الإغفاءة البسيطة؟

- السنة هي مقدمة للنوم لأنّ الإنسان يبدأ أولاً بإغفاءة بسيطة ثم بعد ذلك تتعمّق هذه الإغفاءة إلى نوم، فطبيعة الأمور تقتضي تقديم السنة على النوم، ثم أنّ القول إنّ الشخص الذي لا ينام لا يغفو غير دقيقة فقد يكون في وضع صحي معين بحيث تأتيه غفوة ثم ينتبه، أي أنّ عنده مناعة ضد النوم وليس لديه مناعة ضد الإغفاء. فبعض المخلوقات قد لا تنام ولكن تأخذها سنة ولأنّ اللّه سبحانه وتعالى تنزّه عن مجانسة مخلوقاته فهو ينفي عن نفسه كلّ حالة من حالاتهم سواء كانت نوماً أو سنة.

الفساد الأول والثاني:

* يقول تعالى )وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا(([750]) فهل المقصود بالفساد الأول مملكة إسرائيل التي دمّرت في عام (722) قبل الميلاد ومملكة يهودا التي دمرت في عام (586) قبل الميلاد؟ وهل الفساد الثاني هو الكيان الصهيوني الذي انشأ عام 1948؟

- المفسرون يقولون إنّ الفساد الثاني هو فساد إسرائيل الحالية، وبعضهم يتحدّث عن فسادين في السابق، واللّه العالم. المهم إنّ علينا أن نعمل مهما أمكن حتى نكون من عباد اللّه الذين هم أولو بئس شديد حتى نخرجهم من بيت المقدس ومن فلسطين كلّها ولو بعد حين.

سبع طرائق:

* ما معنى قوله تعالى )وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ(([751]

- إنّ اللّه سبحانه وتعالى يتحدّث في هذه الآية عن سبع سماوات كما أن هناك سبع ارضين وحتى الآن لم يثبت ذلك ولم يعرّفنا اللّه ذلك، لكننا نأخذ به أخذ المسلّمة لأنّه ورد في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل.

يا أيها النبي اتق الله:

* ما تفسير قوله تعالى )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ(([752]

- ليس هناك غموض في الآية، أما ما قد يتوهّمه السائل من أن قوله تعالى )اتَّقِ اللَّهَ( لا تقال إلاّ للإنسان الذي يحتاج إلى التقوى من جهة أنّ حياته في غير خط التقوى فإنّ هذا غير صحيح، فقوله تعالى )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ( يعني التزم التقوى باعتبار أنّ الله أراد أن يخاطب الأمة من خلال النبي(ص) وأراد أن يبيّن لها أنّه إذا كان أمر النبي(ص) بها فكيف يكون أمره بالنسبة إليها؟ وقد ورد في الحديث عن بعض الأئمة(ع) أنّ القرآن نزل بطريقة ((إيّاك أعني واسمعي يا جارة)) فالله كان يخاطب الأمّة من خلال النبي(ص) ليعرّفها خطورة الموضوع.

معنى (متوفيك):

* ما معنى كلمة (متوفيك) في الآية الكريمة )إِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ(([753]). وهل رفع اللّه عيسى قبل الصلب أم بعده؟ وهل أخذ أحد حواري عيسى مكانه في الصلب أم لا؟

- كلمة (التوفيّ) مأخوذة من التوفية، والتوفية هي بلوغ الشيء حدّه. فالإنسان عندما يموت يبلغ حدّه في الدنيا، وعندما يرتفع إلى اللّه يخرج من الدنيا بأن يرفعه إليه، فقد بلغ عيسى(ع) حده. فليست كلمة التوفّي تعني الموت وإنّما تعني بلوغ الإنسان أجله في الحياة، فقد يبلغ الإنسان أجله في الحياة بأن يموت وينتقل إلى الدار الآخرة، أو أن يرفعه اللّه إليه، وهذا معنى بلوغه الأجل أي انتهى دوره في الحياة. وهذا أيضاً هو التفسير المعروف للوفاة.

وهناك بعض العلماء والمفسرين يقولون إنّ اللّه سبحانه وتعالى قبض روح عيسى(ع) وهو بين السماء والأرض ثم أحياه ورفعه إليه. أمّا قضية (شبّه لهم) فيرى بعض المفسرين أن اللّه تعالى ألقى شبهه على شخص آخر، ولكنّ الظاهر أن قوله عز وجل (شبّه لهم) يعني أنّه خيل لهم أنّهم قتلوه ولكنهم لم يقتلوه ورفعه اللّه إليه بقرينة قوله تعالى )وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(([754]). فلم يكن هناك يقين يقتله بل إنّه خيّل إليهم ذلك، واللّه العالم.

ألهاكم التكاثر:

* كيف تفسّرون قوله تعالى )أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ * كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(([755]

- يذكر المفسرون إنّ مناسبة هذه السورة هي أنّ الناس كانوا في تلك المرحلة يتنازعون أيّهم أكثر عدداً؟ هذه العشيرة أم تلك؟ حتى أنّهم زاروا المقابر وراحوا يعدّون قبور موتاهم ليروا هل أمواتهم أكثر أو أموات الآخرين؟ فاللّه سبحانه وتعالى أراد أن يحطّم هذه المسألة في خطّ القيمة، وأراد أن يقول لهم إنّ القيمة ليست في التكاثر وليست في الكمّ لكنّ القيمة في النوع )كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(([756]) فالقضية الأساسية والمهمة هي أن تنظروا إلى إمكاناتكم العلمية التي تجعلكم تعيشون اليقين وحق اليقين، وأن تنفتحوا على ما أعدّ اللّه لكم من نعيم. وخلاصة المراد هنا أن يقول اللّه سبحانه وتعالى لهم إنّ الإيمان والقيمة الإيمانية والروحية هي الأساس وليس الكثرة.

رددناه أسفل سافلين:

* يقول سبحانه في (سورة التين) )لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(([757]). فهل المقصود من ردّ الإنسان الكافر أسفل سافلين أنّه كان قبل السورة في أحسن تقويم ثم رده اللّه؟

- إن الآية تتحدث عن خلقة الإنسان مقارنة بالمخلوقات الأخرى )لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ( من حيث الشكل ومن حيث العناصر التي يتمثل فيها كيانه في كلّ ما تحتاجه حياته من الأجهزة الموجودة في داخل جسمه، ثم بعد ذلك تتحدث عن أنّ الإنسان الذي خلقه اللّه في أحسن تقويم أراد منه أن يشكر اللّه على هذه النعمة، وأن يتحرك في خطّ العلوّ والسمو، فهذا حديث عن الظاهر أي عن الجانب الجسدي والجانب الجهازي.

ثم تتحدث السورة عن الجانب الأخلاقي والجانب العلمي في أنّ هؤلاء يردّون إلى أسفل سافلين إمّا من خلال العاقبة السيئة أو من خلال النار. )إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ( فإنّ هؤلاء هم الاستثناء لأنّهم ساروا وفق ما أراد اللّه لهم من أن يكونوا في أحسن تقويم من خلال الجسد، وفي أحسن تقويم من خلال الإيمان والعمل الصالح، واللّه العالم.

* وهل المقصود من )أَسْفَلَ سَافِلِينَ( أنّ الإنسان يتحول إلى مخلوقات أدنى بالتقمّص؟

- لا ليس كذلك، فالمقصود إمّا العاقبة السيئة أو دخول النار، واللّه العالم.

يصوّركم في الأرحام:

* يقول تعالى )هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ(([758]). واليوم نرى في موضوع الهندسة الوراثية كيف يمكن التحكّم في نوع الجنين وصفاته، فهل هناك شركة للإنسان مع الخالق جلّ وعلا في هذا التصوير، وقد نقل عن الرئيس الأميركي السابق عند اكتشاف الخريطة الوراثية قوله: لقد توصّلنا إلى العلم الذي به يخلق الربّ المخلوقات؟

- إنّ ما تحقق في الهندسة الجينية أو عملية الاستنساخ ليس مشاركة من المخلوق للخالق في الخلقة، فالمسألة هي اكتشاف الأسرار المودعة في خلق اللّه للأشياء ليس أكثر، أي أن هذه الهندسة الجينية وقفت على سرّ التحكّم في كلّ هذه الجينات الموجودة في الإنسان، أي اكتشفت ما وضعه اللّه في ذلك من القوانين، واللّه تعالى هو الذي ألهمنا علم التحرّك بها، ونحن عندما نتصرّف بالجينات فإنمّا نتصرف من باب ما ألهمنا اللّه بذلك )عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ(([759]). فهذا ليس شيئاً انطلقنا به من ذاتياتنا بل إنّ اللّه علّمنا ذلك من خلال ما هدانا من العلم وعلّمنا ذلك حتى نستهدي بكلّ ما نعرفه من العلم، ولذا فلا توجد مشاركة من المخلوق للخالق في الخلق بل هو اكتشاف القانون، كما أنّ بإمكان الإنسان الآن أن يصنع جسداً ولكنه لا يستطيع أن ينفخ فيه الروح )قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي(([760]). ولذلك نرى أنّ هؤلاء الذين اكتشفوا ما اكتشفوا من قوانين لا يستطيعون أن يحفظوا حياتهم فيما اكتشفوه، ولعلكم قرأتم قبل أيام كيف أن أول طبيب زرع القلب مات بذبحة قلبية.

رفع عيسى(ع):

* حدثت محاورة بيني وبين مجموعة من الأصدقاء الذين يدينون بالمسيحية، وكانت هذه الآية صلب الحديث )وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ(([761]). قالوا إنّ المسيح(ع)، وكما تقولون، رفعه اللّه إليه، وهذا دليل على أنّه ليس برسول بل إنّه ابن اللّه حسب قولهم، وقال الآخر: أنا لا أتفق مع رأي الصلب وأنّه مات هناك أو رفع إلى اللّه، كما تظنون انتم المسلمون، بل إنّ له قبراً في كشمير بعد أن خلّصه بلاطس حاكم فلسطين آنذاك وهرب إلى كشمير ومات هناك، وكذلك يوجد قبر لأمه مريم على جبل هناك، فما رأيكم في ذلك؟

- إذا فرضنا أنّ معنى رفع اللّه لعيسى(ع) أنّه ليس رسولاً كما يقول هؤلاء، فإنّ الرسول قد يموت وقد يرفعه اللّه إليه ولا علاقة بين رفع اللّه له وبين تكليفه بالرسالة، فلقد كان يحمل الرسالة عندما كان في الدنيا فكان رسوله )قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(([762]). ثم بعد ذلك رفعه اللّه إليه بحكمته التي لا نعلمها، وهناك أحاديث تقول إنّه سوف يرجع في آخر الزمان مع الإمام الحجّة(عج).

أمّا أنّه دفن في كشمير فهذا كلام لا يثبت أمام النقد، وقد رويت روايات كثيرة في التأريخ عن قبور نسبت لأصحابها في غير أماكن وفاتهم. وأمّا مريم فقد ماتت كما يموت كثير من الناس ولا مشكلة في ذلك.

مجمع الفضائل:

* في الآية الكريمة: )وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً(([763])، على مَنْ يعود الضمير في كلمة (على حُبِّهِ)، هل حبّ اللّه أم حبّ الطعام؟

- هناك تفسيران، أحدهما يرجع الضمير إلى الطعام، أي حبّ الطعام، وثانيهما يرجعه إلى اللّه ـ أي حبّ اللّه ـ. ولا يبعد أن يكون المراد حبّ الطعام، أي يُطعمون اليتيم والأسير مع حاجتهم إليه. أمّا التفسير الثاني بلحاظ إرجاعه إلى اللّه سبحانه وتعالى فهو محفوظ في قوله تعالى: )إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً(([764]). وعليه فالفضيلة والكرامة قائمة على التقديرين لجهة أنَّ الإعطاء إنَّما يكون ذا قيمة إذا كان ما تُعطيه مورد الحاجة، ويكون من باب الإيثار، والإيثار من أعظم الفضائل. وفوق ذلك فإنَّه إيثار لوجه اللّه تعالى وابتغاء مرضاته، واللّه أعلم بحقائق آياته.

معنى الظُّلمات:

* ما معنى قوله تعالى: )وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(([765]). وما معنى الظُّلمات؟

- المراد بالظُّلمات ظلمة الليل وظلمة بطن الحوت وظلمة البحر. وأمّا قوله )فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ( فيعني أن لا نضيّق عليه برحمتنا التي وسعت كلّ شيء، ف‍(قدر) يعني ضيّق كما في قوله تعالى )وأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه فقدّرَ عَلَيهِ رَزقَّهُ فيقولُ ربّي أهانن(([766]) وأمّا قوله تعالى )إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ( فليس فيه ما يتنافى مع العصمة، لأنَّ الظلم لغةً يعني كلّ ما يُتعب النفس ولا يعني المعصية، لأنَّ يونس(ع) لـم يعصِ اللّه، وللبحثِ مجالٌ آخر.

أهل الذِّكر مَنْ هم؟

* مَنْ المقصود ب‍ (أهل الذكر) في الآيـة: )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(([767]

- يعني أهل العلم، وقد فسِّرت بأهل الكتاب، بقرينة أنَّ الحديث عن القرآن ونبوّة محمَّد(ص)، وكما فسِّرت بالأئمة(ع) في بعض الرِّوايات، بلحاظ أنَّهم المصداق الأكمل، وهو ما يُعرف بالتفسير بالمصداق أو ما يُسميه السيِّد الطباطبائي بالجري. وتفسَّر أيضاً بالعلماء، ولذلك استدل الفقهاء بهذه الآية على رجوع الجاهل إلى العالـم. لكن يجب التنبيه إلى أنَّ مراتب العلم تختلف، فقد يكون العالـم في أعلى درجات العلم، كما هم الأنبياء والأئمة(ع)، وهم المختصون بالشريعة وأحكامها، وقد يكون العالـم أدنى مرتبة.

النبيّ(ص) لا يشك:

* ما هو تفسير الآية الكريمة )فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَأونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ(([768]

- النبيّ(ص) لا يشك )والذي جاء بالصدق وصدّق به( ولكن اللّه يخاطب الأمّة من خلال النبيّ، وقد ورد عن الإمام الباقر(ع) ((إنَّ القرآن نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة))، أي إن كان هناك شكٌّ في القرآن من قبل المشركين فليسألوا اليهود الذين يملكون التوراة وهم يعرفون النبيّ(ص) ويعرفون صفاته وما إلى ذلك، فالخطاب ليس موجهاً إلى النبيّ نفسه، بل إنَّ الآية الكريمة بصدد الحديث عن الإحالة إلى مَنْ له علمٌ بالرسالات والنبوّة في حالة الشك، ليتبين له أنَّ النبـيّ(ص) ليس بِدَعاً من الرُّسل، وقد بشّر به عيسى(ع)، واليهود يعرفونه بالصفات وفقاً لما أخبرت به التوراة.

معنى أحسن الخالقين:

* كيف تفسِّرون قوله تعالى: )ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامـاً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(([769]

- )خلقنا النطفة علقة( أي من خلال ما أودع اللّه في النطفة من سرِّ النمو، فهي تنتقل من حالٍ إلى حال، حتّى يكون الإنسان في صورته السوية. وقوله تعالى )فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخَالِقِين( لا يعني أنَّ هناك خالقين غيره وهو أحسن الخالقين، بل يعني أن خلقه في أحسن صورة وليس ثمة خلق أحسن منه، وإلاَّ فليس هناك خالق غيره، فهو يبتدع من لا شيء، ويخلـق من العدم. وقد ورد في القرآن الكريـم على لسان عيسى(ع): )أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ(([770]) أي أخلق مادة وصورة فيُعطيها اللّه الروح، فهو إن خلقها مادة وصورة فهو يخلقها على صورة الطير، وليس من العدم، وإلاَّ فالخلق مما اختص به اللّه تعالى.

الاستغفار للكافرين:

* ما هو الفرق بين قوله تعالى على لسان إبراهيم في قوله لأبيه: )سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً( وقوله لرسول اللّه(ص) بالنسبة للمنافقين )إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ(([771]

- ليس هناك فرق، فقول إبراهيم(ع) )سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً(([772])، أي أطلب من اللّه أن يغفر لك، بأن يبعث الهدى في نفسك فيغفر لـك )إنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً(([773])، وقد قال تعالى )وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للّه تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ(([774])، أي فلمَّا تبيَّن له خلاف ذلك تبرأ منه، وأمّا بالنسبة للمنافقين فإنَّه يعني أنَّ المغفرة لن تفيدهم، لأنَّهم كافـرون )إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ(([775])، وهؤلاء المنافقون لا يزالون مشركين وإن أظهروا الإيمان.

هل كان المؤمنون في ظلمات:

* في آية الكرسي )اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ(([776])، نفهم من هذه الآية ظاهراً أنَّ المؤمنين كانوا في بحر الظُّلمات ثُمَّ أخرجهم اللّه إلى النور والهداية، وكذلك الكفّار كانوا في النور ثُمَّ أخرجوا إلى الظُّلمات، فما هو تعليقكم؟

- المراد من ذلك أنَّ اللّه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاهم الهدى الذي أخرجهم من ظلمات الضلال، وذلك بلحاظ ما قبل الهدى الذي جاءهم أو الضلال الذي يمكن أن يقعوا فيه. وكان كثير من المؤمنين في الضلال فأخرجهم اللّه منه. أمّا الكفّار، فإنَّ الطاغوت هو الذي أوقعهم في الظُّلمات، لأنَّ الهدى من اللّه، والكفر من الطاغوت، وقد استجرَّهم الطاغوت إلى الضلال وأخرجهم من دعوة اللّه، ومن فطرته التي فطرهم عليها، وهي دين اللّه. وقد قال تعالى )فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه(([777]) غير أنَّ الطاغوت أخرجهم منها، ولذلك ورد: ((كلّ مولود يولد على الفطرة إلاَّ أنَّ أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)).

من هم الأهل؟

* ما حدود )وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ(([778]) ومن هم الأهل؟

- كلّ من يصدق عليه أنَّه من الأهل، وهم الأب والأم والأخوات والأولاد، وربَّما يُراد به الأوسع من ذلك مثل الأعمام والأخوال، أي بمعنى القريب.

وظائف الداعية:

* قال تعالى )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(([779]). هل نفهم من هذه الآية أنَّ هذه هي الوظائف المناطة بكلّ داعية؟

- من الطبيعي أنَّ مهمَّة الداعية هو أن يُبلّغ رسالات اللّه )الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ(([780]) ورسالات اللّه هي ما جمعه القرآن من الرسالات، عندما تحدّث إلينا عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد(ص)، وتحدّث لنا أنَّ الإسلام جمع كلّ العناصر الحيوية في رسالات اللّه )وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ(([781])لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه(([782]). فوظيفة الداعية هي أن يتلو على النَّاس آيات اللّه، وأن يربيهم ويزكي عقولهم، لئلا يبقى في عقولهم شيء من الباطل، ويزكّي قلوبهم، لتكون قلوب الصفاء والنقاء، ويزكي حياتهم لتكون في الخطّ المستقيم على أساس الخير والعدل، ويعلِّمهم الكتاب ليتدبروا القرآن في مفاهيمه، وفي خطوطه الفكرية، وفي عقائده، وفي شرائعه وامتداداته، بكلِّ ما ينظّم الحياة الدُّنيا ويقرّب النَّاس إلى اللّه. ومن الكتاب أن يعلِّمهم السنّة، لأنَّ اللّه يقول )وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(([783])، لأنَّ السنّة داخلة في عمق الكتاب، فمن لـم يأخذ بالسنّة فقد ترك الكتاب وراءه، ولذلك فإنَّنا نرفض كلّ الدعوات التي تقول: ((حسبنا كتاب اللّه))، لأنَّها كلمة حقٍّ يُراد بها باطل، وقد قال النبيّ(ص) آنذاك: ((آتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبدا))، لأنَّه رأى أمارات الضلال تزحف نحو الحياة الإسلامية، ليُقال تارةً ((إن النبيّ ليهجر)) وأخرى ((حسبنا كتاب اللّه)) ونحن نسمع هذه الأيام ((حسبنا كتاب اللّه)).

إن كتاب اللّه والسنَّة يتحرّكان معاً، فتنطلق السنَّة من أجل أن توضّح ما أُجمل في كتاب اللّه، وأمّا الحكمة فهي خطّ التطبيق، لأنَّ الكتاب يمثِّل النظرية، والحكمة تمثِّل التطبيق، من حيث تطبيق المفاهيم العامّة في الكتاب على مفردات حياة النَّاس، وأن نضع الشيء في موضعه، وأن نحرّك الكتاب في خطِّ الواقع، ولذلك لا يكفي أن تكون لنا ثقافة الكتاب، بل لا بُدَّ أن تكون لنا ثقافة الحياة، حتّى نعرف كيف نحرّك كتاب اللّه في حياة النَّاس، ليتحرّك النَّاس من خلال الكتاب على الصراط المستقيم.

تدبير النبيّ يوسف(ع) لأخوته:

* قال اللّه تعالى في قصة يوسف(ع) )فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه نَرْفَعُ دَرَجَات مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(([784]). من خلال سياق الآيات السابقة لهذه الآية نفهم أنَّ هناك مكيدة كادها النبيّ يوسف، حيث وضع السقاية في رحل أخيه وبعد ذلك اتهم جميع أخوته بالسرقة، فكان ذلك نوعاً من البُهتان، وهذا يتنافى مع عصمة النبيّ، وأضف إلى ذلك فإنَّ العمل لـم يحدث إلاَّ بعد مشيئة الحقّ، وهذا أيضاً خلاف العدل الإلهي، كيف يمكن حلّ هذا الإشكال؟

- ربَّما يكون ذلك على سبيل التورية، أو أنَّه مجرّد توجيهٍ للتهمة من ناحية شكلية على سبيل الاستفهام من أجل الوصول إلى ما توخاه يوسف من إبقاء أخيه عنده.

وقد لا يكون في ذلك أيّة مشكلة ما دامت الغاية نبيلة والوسيلة لا تضرّ أحداً، لأنَّ المسألة لا تعدو أن تكون مجرّد ضغطٍ نفسي على أخوة يوسف(ع) بما يتضمنه الموقف من إحراج لهم أمام أبيهم، من دون أن يؤذيهم في شيء، وفي تلك الحالة يمكن أن نستوحي فكرة أنَّ الغاية تجعل الوسيلة أنقى إذا كانت الغاية أعظم من ناحية الأهمية، لأنَّها تنقي الوسيلة وتطهِّرها، خاصَّة وأنَّ النداء )قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ(([785]) وهو نداء لـم يتضمن السرقة مباشرة، أو ربَّما استعملت كلمة السرقة بالمعنى المجازي في المال المفقود الموجود عند الآخرين، ولذلك حاولوا أن يدافعـوا عن ساحتهم وبراءتـهم، بل يمكن أن يُقال إنَّ النداء لـم يكن من النبيّ يوسف(ع).

بل إنَّ هذا التدبير هو من اللّه تعالى )كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه(([786])، وذلك ليكون مناسبة لأخيه وفقاً لقواعد العقاب التي كانت سائدة، إلى أنَّ ذلك لا يضر، لأنَّه لـم يُلحق الضرر بأخيه الشقيق، لأنَّ يوسف(ع) أعلمه بالأمر )وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(([787]) ولا بأخوته الآخرين. ولذلك فليس في هذا التدبير ما يتنافى مع عصمة يوسف(ع)، لأنَّه ليس من الظلم أو المعصية بالنسبة لأخيه، وليس فيه أيضاً ما يتنافى مع العدل الإلهي، لأنَّه لـم يُلحق الضرر بأحدٍ منهم ولـم تُصبهم العقوبة أو ينالهم العقاب.

حملة الأسفار بلا وعي:

* ما تفسير قوله تعالى )مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً(([788])، وهل يشمل الذمّ المذكور غير اليهود؟

- حُمِّلُوا التَّوراة، أي أُريد لهم أن يقوموا بمسؤوليتها ويعملوا بها وينسجموا مع خطوطها، ولكنَّهم لـم يعملوا بذلك، فصار شأنهم ومثلهم مثل الحمار الذي يحمل أسفاراً ولا ينتفع بها، لأنَّ اللّه سبحانه وتعالى حمَّلهم التَّوراة ليعملوا بها ويكيفوا حياتهم وفقاً لتعاليمها، إلاَّ أنَّهم أبوا إلاَّ تجاهلها، وبذلك استحقوا وصف الدوابّ التي تحمل الكتب القيِّمة ولا تنتفع بها، وهذا ينطبق على غير اليهود أيضاً في حالات التخلي عن المسؤولية ونبذ الكتاب وعدم العمل به.

هل الجنّة للمتّقين فقط؟

* )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(([789])، هل نفهم من الآية أنَّ الجنّة يدخلها فقط المتَّقون والذين ذكرت صفاتهم في الآيات اللاحقة؟ وأنَّ غير المتَّقي حتّى لو أعلن إسلامه فهو لا يدخل الجنَّة؟

- هذه الآية واردة في مقام بيان أنَّ من يفعل ذلك فإنَّه يستحق دخول الجنَّة، بمعنى أنَّه يستحقها بعمله، ولكن قد يشمل اللّه برحمته العاصين أيضاً. )إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً(([790])، ولكن من دون أن يكون ذلك مدعاة للمسلم لإهمال واجباته والتساهل في المعاصي، وإنَّما يلزم المسلم أن يعيش بين الخوف والرجاء، ليكون أهلاً لدخول الجنَّة التي أعدّت للمتَّقين، بما هيأ اللّه لهم من جزاء، وإن كان لغيرهم فيها موقع، إلاَّ أنَّه ليس كما هو موقع المتَّقين.

التنافي بين آية ورواية:

* كيف نفهم قوله تعالى )هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(([791]) في ظلّ فكر الإمام الصادق(ع) لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين؟

- يعني منكم من يختار الإيمان ومنكم من يختار الكفر، ولا يعني أنَّ اللّه خلق بعضكم مؤمنين وآخرين كافرين، فلا تنافي بين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة، وما ورد من أنَّه لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين.

أمر النبيّ بالتَّقوى:

* ما معنى قوله تعالى )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّه وَلا تُطِع الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيماً(([792])، ما هو تفسير الآية الكريمة هذه، خصوصاً وأنَّنا نعرف مكانة النبيّ(ص)؟

- أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يبيّن للنبيّ(ص) الخطّ الذي يُراد من كلّ عبد للّه، والنبيّ عبد اللّه، بل إنَّه في قمة العبودية له تعالى، ولذلك يُخاطبه اللّه سبحانه بذلك ليأمره بالتزام خطّ التَّقوى، ولا يعني أنَّه ليس ملتزماً بالتَّقوى. والحال نفسه في قوله تعالى )وَلا تُطِع الْكَافِرِينَ(. ويمكن أن يُقال إنَّ القرآن كان يُخاطب الأمّة من خلال خطاب النبيّ، بمعنى أنَّ هذا الخطاب موجّه للنَّاس من خلال النبيّ(ص)، وذلك لأجل بيان أهميته وقد ورد ((أنَّ القرآن نزل بإيـاك أعني واسمعي يا جارة)).

وقد تحدّث اللّه سبحانه وتعالى على لسان نبيّه(ص) )قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(([793]) فأراد النبيّ(ص) أن يبيّن أنَّه لا فرق بينه وبين غيره للتحذير من معصية اللّه، ومثل ذلك قوله تعالى )وَلَقَدْ أُوحِـيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(([794]) وكذلك قوله تعالى )وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(([795])، وقد ورد في الحديث أنَّ عائشة قالت للنبيّ(ص) لماذا تُرهق نفسك في العبادة؟ وكان يقوم الليل، فقال ((أفلا أكون عبداً شكوراً))([796]) فإذا كان اللّه قد أعطاني كلّ هذه النعم وشملني برحمته وفضله، أفلا أكون شكوراً؟

فهذا القيام والصيام والعبادات كلّها تعبّر عن شكر اللّه، ولذلك نقول عمّن لا يصلّي إنَّه كافر بنعمة اللّه، لأنَّ الصلاة تمثِّل الشكر العملي للّه سبحانه وتعالى، لأنَّ شكر اللّه هو الخضوع له، وشكر اللّه من طاعته، ومن شكر اللّه أن يرتفع الإنسان إليه في روحيته والتقرّب إليه.

من هم الصادقون؟

* قال اللّه سبحانه وتعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(([797])، الخطاب موجّه للمؤمنين، فما درجة إيمانهم؟ ومن هم الصادقون الذين أمر الله المؤمنين باتباعهم؟

- المراد بالذين آمنوا الذين أسلموا عن إيمان وانتموا إلى خطّ الإيمان وانفتحوا عليه في عقائدهم، أمّا الصادقون فهم الذين يتحرّكون بالصدق في الكلمة وفي الموقع، وفي المسؤولية في كلّ قضايا النَّاس. ولذلك فانظر من تجعله أمامك تأتمر بأمره، وتجعله مثلك الأعلى، فليكن الصادق الذي لا يخونك، والصادق الذي لا يؤدّي بك إلى الضياع. ولذلك ورد أيضاً أنَّها فسِّرت بالأئمة(ع)، وذلك من باب التفسير بالمصداق الأكمل.

من هو الهادي؟

* قال تعالى)وَلِكلّ قَوْمٍ هَادٍ(([798]) أنتم تقولون إنَّ المقصود هنا هو ولاية عليّ(ع)، فكيف يكون ذلك وعليّ(ع) ليس له قوم، فإنَّ القوم هم قوم محمَّد(ص) وليس قوم عليّ(ع) بالخصوص؟

- يقول سبحانه وتعالى في هذه الآية )إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكلّ قَوْمٍ هَادٍ(، بمعنى أنَّك يا رسول اللّه لست بِدَعاً من الرسل، لأنَّ لكلّ قومٍ هادٍ، وأنت أحد هؤلاء المنذرين الذين تحمَّلوا مسؤولية الهداية. وتفسير هذه الآية في عليّ(ع) من باب أنَّه المصداق الأكمل، لأنَّه الهادي والمنذر، بلحاظ أنَّ عناصر الهداية متوفرة في شخصيته المعصومة، ولذلك كان الخليفة لرسول اللّه(ص) .

خشية العلماء:

* قال تعالى: )إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(([799])، كيف يخشون وهم على علم أنَّه عادل لا يظلم، والخشية ليست من التَّقوى؟

- هم يخشون اللّه تعالى من أجل عدله، لأن الإنسان عندما يعرف أنَّ اللّه عادل يزداد خشية منه، ومن عدله مؤاخذة المجرم، ومن عدله إثابة المطيع، قال اللّه تعالى: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(([800])، وعليه، فإنَّ العلماء لا يخشون أن يظلمهم اللّه، ولكنَّهم يخشون من عدل اللّه بلحاظ المعصية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ الآية بصدد بيان أنَّ العلماء بلحاظ علمهم وسعة إطّلاعهم أكثر خشية من غيرهم، لأنَّهم يعرفون عظمة اللّه في مواقع قدرته، وعدله في مواقع غضبه، فيدفعهم ذلك إلى المزيد من التَّقوى في الإقبال على الطاعة والبُعد عن المعصية.

ذنب النبيّ(ص) :

* ما معنى هذه الآية الشريفة: )لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً(([801])؟

- فُسِّر قوله تعالى: )ما تقدَّم من ذنبك( أي ذنبك عند أهل مكة، لأنَّ أهل مكة يرون أنَّ النبيّ(ص) قد أربك كلّ حياتهم وأسقط امتيازاتهم، فكأنَّه عندما فتح اللّه عليه وقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) فإنَّهم لا يؤاخذونه على ما تسبب لهم بسبب الدعوة والرسالة، سواء ما تقدّم أو ما تأخر. وقد ذكرت في تفسيري للقرآن (من وحي القرآن) عدّة تفسيرات، ولكن الصحيح أنَّ الأقرب إلى جوّ الآية هو أنَّنا نستوحي من المغفرة معنى الرضوان والمحبة والرحمة، وبذلك لا يتنافى مع عصمة النبيّ(ص).

بكاء السماء والأرض:

* في سورة الدخان الآية:29 )فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ( ما هو بكاء السماء والأرض وهل تبكيان على أحد من المخلوقات؟

- هذا وارد على نحو الكناية، أي أنّه ليس لهم قيمة كما نقول (فلان يموت ولا أحد يبكي عليه).

وليس المراد أن للسماء أو للأرض بكاءها بالمعنى الحقيقي، بل المراد من بكاء السماء والأرض عدم الاعتناء بهم وانهم لا قيمة لهم، فهم مهملون.

طغيان الإنسان واستغناؤه:

* ما هو تفسير قوله تعالى في الآية )كَلا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى(([802])؟

- يعني عندما يصبح الإنسان غنياً فقد لا يشعر بنعمة الغنى فلا يشكر الله عليه، لأن بعض الناس قد يصيبه الطغيان عندما يستغني، والبعض يفسّر الغنى بالأموال، والبعض الآخر يفسّره بالقدرة، كما في قصة لقارون)قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي(([803]).

التوبة في سن الأربعين :

* ما تفسير قوله تعالى الآية )حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ(([804]) فلماذا حدّد الله سن الأربعين للتوبة؟

- لم يحدد الله التوبة في سن الأربعين، بل أراد أن يبين حالة من الحالات، باعتبار أن الأربعين هي السن التي يتوازن فيها الإنسان وتخف عنده عناصر الشهوة وتخبو غريزته وينمو عقله و يكثر توازنه وما إلى ذلك.

تبلى السرائر:

* في قوله تعالى )يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ( ([805])،هل صحيح أن الله يكشف أسرار العباد ويعاقبهم على ذلك في يوم الحساب؟

- البعض يفسّر قوله تعالى )يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ( بمعنى تتمزق وتتكشف وتهتك بحيث لا يبقى هناك سر، بحسب طبيعة الحساب في يوم القيامة، لأن الإنسان يحاسب على رؤوس الخلائق. وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع) يقول: ((ولا تكشف عنا ستراً سترته على رؤوس الإشهاد ويوم تبلو أخبار عبادك)) فهو يدعو الله أن يستره يوم الحساب حيث تعرض كل الأعمال أمام الناس، وقد ورد عن النبي(ص) أنه كان يدعو الناس ويقول ((من كان له عندي مال فليأتني أعطه إياه، ومن كان له عندي حق فليأتني أعطه إياه)) ثم قال ((ولا يقولن أحد إني أخاف البغضاء والشحناء من رسول الله فأنهما ليستا من شأني)) ثم قال: ((إن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة)) بمعنى فليطالبني الناس في الدنيا بما لهم عليّ حتى لو كان في ذلك فضيحة، وهذا صادر من النبي(ص) على نحو التعليم لأنه المعصوم من ذلك كله، وبعضهم يفسّر قوله تعالى )يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ( بمعنى تختبر ليظهر ما فيها من خير أو شر. أمّا العقاب فهو على العمل الذي تدفع إليه نية السوء لا على النية المجردة كما ورد، ((إنما الأعمال بالنيات ولكل إمرئٍ ما نوى))([806]). فالنية هي التي تعطي العمل عنوانه من خيرٍ أو شر.

معنى الظنّ بالقرآن:

* هناك آية قرآنية تقول )إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِي(([807])، هل نفهم من سياق هذه الآية أن الإنسان لا يصل إلى مرحلة اليقين بيوم الحساب؟

- أولاً: يكفي الإنسان لدرء المفاسد والمخاطر ظنه، بحيث يكون هناك ترجيح لحالة على حالة_ وهذا أمر طبيعي إذ قد يحذر الإنسان من شيء خطر ولو ظن بوجوده ويستعد لمواجهته. وثانياً: فإن الظن قد يراد به اليقين فيكون قوله إني ظننت أي اعتقدت وتيقنت ذلك.

أمنية النبي(ص):

* ورد في القرآن قوله تعالى )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ(([808])، فما هو المقصود بذلك، وكيف ينسخ الله ذلك؟

- هناك عدة تفسيرات، فقد فسّر ذلك بأن الأمنيات التي يتمناها النبي(ص) إنما يلقى الشيطان فيها بمعنى أنه يقف حائلاً دون تحقيقها وذلك عن طريق أنصاره ومحازبيه. وقد تفسّر بأن الشيطان إنما يلقى في أمنية النبي(ص) بمعنى يخطر في ذهنه بما يعيق عمله وطموحاته عبر الوسوسة ولكن هذا على مستوى الخطور فقط، وإلاّ فهو العالم الذي تتحرك معه الملكة الروحية الأخلاقية العاصمة لتطرد خطرات الشيطان. ولذلك فإنّ هذا لا يتعارض مع العصمة.

معنى شهود الشهر:

* ما معنى قوله تعالى )فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(([809])، هل يعني الحضور أو رؤية الهلال؟

- المقصود به الحضور، فقوله )فَمَنْ شَهِدَ( يراد به الحضور مقابل السفر يقال (شهد الجمعة) أي حضرها، ولذا قال )وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ(.

التعبير بالجمع :

* قوله تعالى )إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(([810]) كيف نفسّر كلمة (هم) في معنى الجمع وهي للمفرد؟

- الآية الكريمة بصدد إعطاء القاعدة الكلية_ ولكن هذه القاعدة الكلية انحصرت في فرد وهو الإمام علي(ع) ولذلك يصحّ إعطاء حكم كلّي والإخبار بمعرف جمعي في لفظ الجمع لينطبق على من يصح أن ينطبق عليه_ ثم لا يكون المصداق الذي يصح أن ينطبق عليه إلا واحداً فرداً. وهذا مما لا تأباه اللغة والأسلوب الأدبي.

ثانياً: مسائل عامة:

شبهات حول القرآن:

* تثار اليوم شبهات كثيرة حول القرآن الكريم بسبب ثغرات متجذّرة لم يلتفت إليها المفسّرون، علما أنّ أصحاب هذه الشبهات هم من أهل الشهادات والاختصاص في اللغة والألسنيات بحيث عجز مفكرونا عن الردّ عليهم مما وضعنا أمام قرآن لم نسمع به أبداً؟

- أن يثير الآخرون الشبهات في الحاضر فهذا ليس أمرا مستغرباً فلكلّ ثقافته، ولا سيما الذين يريدن أن يخضعوا القرآن للطريقة الغربية في الألسنية والتي لا نريد أن نستهلك النيل منها، ولكننا نقول إنّ طريقة فهم اللغة لابد أن تخضع لقاعدة علمية بحيث يمكن للذين يقرأون اللغة أن يفهموها من حيث طريقة التفاهم بين الناس.

أمّا الحديث عن أن مفكرينا عجزوا عن الردّ فهذا الكلام غير دقيق، فلقد التقينا ببعض هؤلاء المفكرين الذين أثاروا الشبهات ورأينا أنهم لا يملكون الكثير من قوة الحجّة فيما أثاروا من الجدل وانطلق الآخرون في ردّهم بالتكفير. ونحن نقول إنّ كلّ صاحب فكر لا سيما إذا كان يخضع للشبهة لا يجوز لنا ان نطلق كلمات التكفير ونستهلكها ضده، بل لابدّ لنا أن نناقشه. واعتقد أنّ هذه الشبهات نوقشت من قبل أكثر من مفكّر إسلامي، وأنا أدعو الاخوة الذين قرأوا هذه الشبهات أن يقدّموا أسئلتهم في هذه الندوة حتى يمكن لنا أن نناقشها ونعالجها ليستفيد منها الجميع.

علم الأولين والآخرين:

* جاء في حديث شريف عن القرآن ((من أراد علم الأولين والآخرين فليقرأ القرآن))([811]) فما هو المراد بعلم الأولين والآخرين؟

- ليس المقصود ب‍((علم الأولين والآخرين)) الكيمياء والفيزياء والاقتصاد، بل العلم الذي يعطيهم البرامج والمناهج الإيمانية والسلوكية التي تقرّبهم إلى اللّه سبحانه وتعالى، وتنظّم لهم حياتهم في القيم التي يؤمنون بها وما إلى ذلك لأنّ القرآن دعوة إيمانية شاملة )وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ(([812]). وقد جمع العناصر الأساسية الموجودة في كلّ الكتب التي أنزلها اللّه سبحانه وتعالى إلى الناس.

الاقتصار على القرآن كمرجع:

* إنّ القرآن قد بيّن أموراً كثيرة، وعلى الرغم من هذا فإننا نجد الكثير من الأمور التي بيّنها النبي(ص) وأهل بيته(ع) فهل يا ترى – كما فهمت من كلامكم – يكفينا القرآن وحده كمرجع؟

- كيف تفهم من كلامي هذا، واللّه تعالى يقول)وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(([813])؟ فالقرآن ذاته يقول خذوا ما جاء عن الرسول(ص) وأمّا ما جاء عن أهل البيت(ع) فكما ورد في حديث الإمام جعفر الصادق(ع) ((حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث رسول اللّه وحديث رسول اللّه عن اللّه))، فالأئمة(ع) إنما ينطلقون من خلال رسول اللّه، ولذا نحن نقول بأنّ الأئمة ليسوا مجتهدين، وإنّ الفرق بيننا وبين بعض الناس أنهم يقولون بان مذهب الإمام جعفر الصادق(ع) يعني اجتهاد الصادق في حين أنّ الإمام(ع) والأئمة من قبله ومن بعده عاشوا وعرفوا عمق وعلم رسول اللّه(ص) وقدّموه إلينا صافياً كما هو في نبعه، وهم المعصومون الذين لا يخطئون، لذلك كله نرجع للقرآن في كلّ ما جاء به رسول اللّه(ص) أو الأئمة من آل بيته(ع) لنعرضه عليه لاسيما وقد كثرت الكذّابة عليهم. ونحن نلتزم بما جاءت به العترة لقوله(ص) في حديث الثقلين ((وعترتي أهل بيتي)) وقوله(ص) ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى)) ونحن نستهدي القرآن عندما نأخذ بسنّة رسول اللّه(ص) ونستهدي رسول اللّه(ص) عندما نأخذ بأحاديث أهل البيت(ع).

الآيات القرآنية في غرفة النوم:

* هل وضع الآيات القرآنية في غرف النوم جائز أم غير جائز؟

- جائز، بل ضروري حتى يبقى الإنسان منتبهاً للجو الروحي حتى في غرفة النوم.

مس المجنب لقرص فيه القرآن:

* هل يجوز للمجنب مسّ قرص كمبيوتري مسجّل عليه القرآن الكريم؟

- هذا ليس فيه كتابة بمعنى الكتابة ولكن الاحتياط بعدم المسّ أفضل.

نسخ الحديث لبعض الآيات:

* هل ينسخ الحديث الشريف بعض الآيات القرآنية؟

- هناك بعض النظريات التي تقول إنّ من الممكن جداً أن ينسخ القرآن كما هو رأي بعض الأعلام، وهناك رأي يقول إنه ليس هناك نسخٌ لأيّ حكم في القرآن، أي لا ينسخ القرآن إلاّ بالقرآن، وإن خُيّل للبعض ذلك من خلال بعض التعبيرات بأنّ هناك نسخاً، ولكنّ التدقيق فيها يوحي أنّه ليس هناك نسخ. نعم قد ينسخ الحكم، والفرق كبير بين أن ينسخ القرآن وبين أن تنسخ بعض الأحكام مثل توجيه القبلة حيث كانت إلى بيت المقدس ونزلت الآية: )قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه(([814]). وهذا بحثٌ معمّق، فمن أحبَّ أن يطّلع عليه نحيله إلى كتاب (البيان في تفسير القرآن) لأستاذنا السيِّد الخوئي رحمه الله.

الوفاء بنذر قراءة القرآن للحائض:

* في ذمّتي نذرٌ بأن أقرأ ختمة قرآن فور وصولي إلى سوريا، فهل لي أن أقرأ القرآن دون لمس الكتابة وأنا حائض؟

- يجوز لك ذلك.

قراءة القرآن بدون وضوء:

p هل يجوز قراءة القرآن بدون وضوء، وإذا كان الجواب ب‍(لا) فما حكم الذين يقرأون بدون وضوء؟

- لا يجب الوضوء لقراءة القرآن بل يستحب، نعم لا تمسّ كتابة القرآن بدون وضوء احتياطا، فحتى الحائض يجوز لها أن تقرأ القرآن وكذلك الجنب.

تكرار القصة في القرآن:

* يتكرر في القرآن ذكر القصة على نحو مختلف، وقد يكون هناك شبه تعارض في الوصف، فما هي الحكمة في عرض القصة بعدة صور؟

- إنّ القرآن ليس كتاب تاريخ، وليس كتاب قصة لقضاء الوقت، ولكنّه كتاب عبرة ودرس ووعد ووعيد )لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ(([815]) وفي أقاصيص الأمم السابقة وقصص الأنبياء(ع) عدة جوانب، ولذلك قد يأخذ القرآن القصة كلّها لأنّ الفكرة لا تنضج إلاّ بكلّ عناصر القصة، وقد يأخذ بعض القصّة لأنّ الحاجة إلى فكرة أخرى يستدعي الحديث عن هذا الجانب من القصة، وربّما ينقل القرآن القصة بمفرداتها، وربّما ينقلها باحياءاتها التي يمكن أن يستوحيها الإنسان.

أسماء الأنبياء في القرآن:

* لماذا لـم يذكر اللّه أسماء الأنبياء كلّهم في القرآن الكريـم؟

- ربَّما لا ضرورة لأن يذكرهم اللّه كلّهم، فقد ذكر بعض الأنبياء مـمَّن له بعض الخصائص، التي يريد للنَّاس أن يعرفوها، أمّا الأنبياء الآخرون الذين لا يتميّزون بخصائص بحسب مجتمعهم أو التحدّيات التي واجهتهم أو ما أشبه ذلك، فربَّما لا ضرورة لذكرهم، واللّه أعلم بحقائق كتابه.

هل القرآن من وضع النبي(ص)؟

* هناك أشخاص مقربون مني يقولون بأن القرآن الكريم عبارة عن قصص أتت بما يتناسب مع الواقع آنذاك من قبل النبي(ص) بحيث أنه كان عملاقاً في عصره وهي أمور عادية؟

- ليس الأمر كذلك، ومن ادعى أنه من وضع النبي(ص) فعليه أن يقدم الدليل. فهذه القصص من الأمور التي تلتقي عليها الأديان وهي حقائق تاريخية منطلقة من الواقع بحسب العناصر المكونة وليست شيئاً إبداعياً من خلال الفن القصصي الذي يتخيّل الأحداث ولذلك فإن قيمة القصة تتحدد بقيمة الواقع في ذاته، كما أن هناك الكثير من القرائن والمعطيات التي تؤكد أن هذا القرآن مما لا يمكن أن يبتدعه النبي(ص) نفسه.

تلاوة آية السجود تكراراً:

* ما حكم تكرار آية السجدة من قبل الأستاذ، هل يسجد الطالب كلما سمعها أو إذا قرأها حينما يطلب الأستاذ منه ذلك؟

- يكفي ولو بالإيماء إذا كان هناك حرجاً في السجود على الأرض أو على الطاولة.


 

 

الفصل الثاني

 

 

المسائل العقيدية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
 

 

 

 


مسؤولية العلماء العقائدية:

* لقد بذل العلماء الشيعة الجهد الكبير في تثبيت العقيدة ما بين المنكرين، فأين مسؤوليتهم اتجاه حامل العقيدة؟ ألا يحتاج هذا الأمر إلى المزيد من البحث والعمل لتكون المسؤولية مكتملة في الجانبين؟

- أية مسؤولية إزاء حامل العقيدة؟ فقد تكون اقتصادية، فالعلماء لا يملكون تحقيق متطلبات هذا الجانب وهي كثيرة، وقد تكون سياسية وهنا يختلف العلماء فمنهم منْ يأخذون بأسباب السياسة ومنهم من عندهم مسار، معين وقد تكون رعاية عملية فإنّ العلماء بذلوا في هذا المضمار جهوداً لا تنكر وما زالوا يفعلون، وان كنا نطمع لأكثر من ذلك، والحديث الشريف يقول: ((من أصبح لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم))([816]) فلا يكلّف اللّه نفساً إلا وسعها.

معرفة اللّه والخوف منه:

* جاء في دعاء الصباح ((من ذا يعرف قدرك فلا يخافك)). فما هو المقصود من ذلك؟

- المقصود أنّه لا يخاف عقوبة اللّه بمعرفة عظمته في مقابل الذين يجهلون قدر اللّه حق قدره فلا يخافون منه بل يتمرّدون عليه ويتجرّأون على معصيته. فالإنسان عندما يتصوّر اللّه سبحانه وتعالى في مواقع عظمته وكبريائه وجبروته يخافه، ولذا جاء في الحديث ((خف اللّه خوفاً لو أتيته بحسنات الثقلين لعذّبك وارج اللّه رجاء لو أتيته بذنوب الثقلين لعفا عنك))([817]). وفي الحديث ((ما من مؤمن إلاّ وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء لو وزن هذا ما زاد عن هذا ولو وزن هذا ما زاد عن هذا))([818]). ومن هنا نعرف معنى قوله تعالى )إنما يخشى الله من عباده العلماء( فخشيتهم من خلال معرفتهم لقدره.

نسبة الأعمال:

* من المعاني الإيمانية الرفيعة أن يرجع الإنسان الفضل كلّه للّه فيقول مثلاً شكري للّه هو بذاته نعمة تستوجب الشكر، أو أنه يقول لولا توفيق اللّه لما قمت بهذا العمل، لكنّنا عندما نناقش الآخرين عن الاختيار والجبر نقول بأن للإنسان إرادة يفرّق فيها بين الخير وبين الشرّ، فإلى أي حدّ يمكن للإنسان أن يوفّق بين المعنيين؟ وهل يحقّ له أن ينسب بعض الأعمال لنفسه؟

- صحيح أنّ الأعمال كلّها للّه ولكنّ اللّه أعطانا الإرادة في خلقنا وفي وجودنا لنحقق هذا العمل أو ذاك، وهذا هو الأمر بين الأمرين أي لا جبر ولا تفويض. واللّه سبحانه وتعالى أعطانا الحرية ولم يفوّض الأمر كلّه إلينا فقد ترك الخيط بيده، وهو الذي أعطانا القوة وأعطانا الإرادة والحرية في استعمال هذه القوة. ولهذا يمكن أن ننسب العمل للّه باعتباره سبب الأسباب وواهب القوى وهو العمق في ذلك كلّه، ويمكن أن ننسبها إلى أنفسنا باعتبارها صادرة عن إرادتنا التي خلقها اللّه لنا.

العمل الصالح والشفاعة:

* إذا كان المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة هو عمله الصالح، كما هو صريح الآيات، فلماذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة؟

- في آخر حياة النبي(ص) عندما نعيت إليه نفسه خطب الناس فقال ((لا يتمنّ متمنّ ولا يدّعي مدع ألا إنه لا ينجي إلا عمل مع رحمة)). وهي رحمة اللّه التي وسعت كلّ شيء، فالعمل هو الأساس وهو الذي يؤكد استحقاقك للعذاب إن كان سيّئاً وللثواب إن كان حسناً، ولكنّ رحمة اللّه تأتي بعد ذلك إمّا بطريقة الشفاعة أو بطريقة المغفرة، ولكن }وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى{([819]). فالشفاعة بيد اللّه وهو الذي يشفّع أنبياءه وأولياءه حسب الخط الذي رسمه لهم.

الإيمان بالأنبياء(ع):

* كما هو معلوم لدى جميع المسلمين أن الأنبياء(ع) (124) ألف نبي، والمعروف منهم فقط هو 25 نبياً ذكروا في القرآن الكريم، ويشترط علينا كمسلمين أن نؤمن بهم جميعا، ونحن لا نعرف من أخبارهم إلا القليل، وأما الآخرون فلا نعرف حتى أسماءهم، فكيف يتم الإيمان بهم؟

- نحن نؤمن بأنّ اللّه سبحانه وتعالى أرسل رسلا قصّهم على رسوله ورسلا لم يقصصهم عليه، أي أننا نؤمن بهم إيماناً إجمالياً }لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ{([820]). فنحن نؤمن بالرسل كلّهم، وبالرسالات كلّها، وإن لم نكن نعرفها بالتحديد والتفصيل، فاللّه لا يكلّفنا معرفة ما لم يرد أن يعرّفنا من الرسل الذين لم يقصصهم على رسوله(ص) فَلِمَ نكلّف أنفسنا بذلك؟!

عقوبة الخلود في النار:

* كيف يعاقب الإنسان بالخلود في النار بناء على معصيته في فترة معينة محددة زمنيا، فالمنطق يقتضي أن يعاقب العاصي حسب الفترة التي عصى فيها مثلاً (50) سنة أو (60) سنة لا أن يخلد في النار أبدا؟

- هل يريد السائل أن يقول إنّه لابدّ أن نقيس زمن العقوبة بمدى الزمن الذي ارتكبت فيه المعصية؟ فإذا قتل شخص شخصا فإنّ عملية القتل قد لا تستغرق لحظة بحيث يطلق عليه الرصاص فيسقط لحينه ميتا، فلماذا يحكم على القاتل بالإعدام أو بالسجن المؤبّد؟ أليست العقوبات في الدنيا – من حيث الزمن – أطول من فترة ارتكاب الجريمة؟

صحيح أنّ الخلود في الدنيا هو أقلّ من الخلود في النار في الآخرة ولكن الجريمة في عالم العقاب لا تقاس بحجم الزمن، وإنّما تقاس بحجم النتائج السلبية التي تترتب عليها وعلى حجم التجاوز على القانون الإلهي، ولذلك يختلف العقاب باختلاف الجريمة، واللّه سبحانه وتعالى قد بيّن للناس أنّ لكلّ جريمة عقاباً، فهو سبحانه يقول }مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا{([821]). وهو قتل لنفس واحدة ولكن لفظاعة الجرم شبّه القرآن القتل من غير قصاص أو فساد بقتل الناس أجمعين، ولذا فان ما يترتب على انتهاك حرمة النفس المحترمة أن تكون العقوبة جسيمة.

وهناك نقطة أخرى يجب أن نعرفها وهي أن الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الخلود في النار إنّما تشير إلى عالم الاستحقاق، أمّا في عالم الفعلية فقد تدرك رحمة اللّه تعالى العبد في أية لحظة }إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ{([822]). وما يدري الإنسان فقد تأتيه الرحمة والمغفرة أو لا تأتيه }وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ{([823]). واللّه العالم.

في الجبر والتفويض:

* ما معنى ((لا جبر ولا تفويض بل هو أمر بين أمرين))([824]

- لا جبر لأنّ اللّه أعطى الإنسان الاختيار، ولا تفويض لأنّ اللّه سبحانه لا يزال مهيمنا على الإنسان وقادرا على أن يمنعه من الحركة، ولذلك فإنّ هناك نوعا من أنواع التفويض باعتبار أنّ اللّه ترك للإنسان حرية الاختيار، وشيئا من الجبر لأنّ قدرة الإنسان لا تزال تحت قدرة اللّه تعالى، وبهذا التوازن بين الحركتين: التفويض والجبر تستقيم حركة الحياة، وإلاّ فكيف ستكون الأمور لو رفع اللّه يد القدرة عن الكون والحياة وترك للإنسان يتصرف بهما بقدرته بشكل مطلق؟!

القسمة والنصيب في الزواج:

* هل للقسمة، كما عند العرف، دخل في التزويج؟

- القسمة هي ما قدّر اللّه تعالى للإنسان أن يحصل عليه في مستقبل حياته، ولكن قد تكون باختيار الإنسان، فقسمتك تعني أنّ اللّه قسم لك ذلك بالأسباب الموجودة بين يديك، أو الموجودة في الواقع. وقد تكون الأسباب اختيارية في بعض الحالات وقد لا تكون اختيارية، فالقسمة لا تمنع الاختيار، ولذلك فنحن نؤمن أنّ هناك رزقاً تسعى إليه وآخر يسعى إليك، وقد يكون الرزق الثاني كإثابة دنيوية على بعض الأعمال الصالحة كالبر بالوالدين أو صلة الرحم وما إلى ذلك، وقد قلنا بأنّ الزواج اختيار، وهذا ما أكّد عليه الحديث الشريف ((تخيّروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس)).

البلاء الذي يصاب به المؤمن:

* عن أبي عبد اللّه الصادق(ع) ((إن البلاء على المؤمن أسرع من المطر إلى قرار الأرض))([825]) ونحن نرى أنّ المؤمن في كلّ عصر يتعرض إلى أنواع من الابتلاء، فما هو البلاء الذي يعيشه المؤمن في هذا العصر؟

- ليس هناك بلاء محدد في هذا المجال فالمؤمن معرّض لجميع الابتلاءات ولكنّه لا يبتلى في إيمانه ولا يبتلى في عقله كما ورد في بعض الأحاديث، ولكن قد يبتلى بماله أو بأهله أو بعوارض الدنيا الكثيرة كما هو الابتلاء بالصحة كابتلاء أيوب(ع) أو الابتلاء بفقدان الأحبة كابتلاء يعقوب(ع)، أو الابتلاء بحاسد يحسده كابتلاء يوسف(ع)، فلا تجد مؤمنا خالياً من الابتلاء، بل حتى النعمة قد تكون ابتلاء بمعنى أنّ اللّه سبحانه يختبر بها من يسبغها عليه ليرى هل يشكر أم يكفر؟! وأمّا ابتلاء المؤمن في هذا العصر فبثباته على دينه، وصبره على مواجهة التحديات، وتحمّله للمسؤوليات.

وأمّا وسيلة الثبات والنجاة فهي أن يكون الإنسان على ثقة من إيمانه العميق فإن من الطبيعي أن يتجاوز الامتحان بنجاح، فاللّه أراد للمؤمن أن يصبر على البلاء حتى يواجه الحياة من خلال المسؤولية، يقول تعالى )وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(([826]).

قدسية الحجر الأسود:

* ما هو منشأ قدسية الحجر الأسود الموجود في الكعبة؟

- قدسيته ناتجة من أن اللّه جعله مقدساً، وهناك روايات تتحدث عن أنه جيء به من الجنّة، لكن قدسيته هي بأنّ اللّه تعبّدنا به )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ(([827]). سواء فهمنا ما وراء ذلك أو لم نفهم.

شدة أحكام المرتد:

p ما هو وجه الحكمة في أنّ أحكام المرتد أعظم من أحكام الكافر؟

- ذلك لأنّ المرتد يمكن أن يوجد نوعاً من أنواع الاهتزاز والإرباك للمجتمع المسلم، أي أنّه إذا كان مسلماً وارتدّ، مثلما كان اليهود يفعلون حيث يؤمنون وجه النهار ويكفرون آخره، فربما كان للارتداد هنا دور في خلخلة طبيعة النظام.. وليس له دخل في حرية الفكر، فهو يوجب إخلالاً في النظام، والإسلام لا يمانع إذا كان الإنسان مرتداً بنفسه، ولكن إذا لم يعلن ارتداده فليس عليه شيء، أما عند إعلان الارتداد فالعلماء مستعدون لأن يجلسوا معه ليحاوروه، فإذا أقنعوه فبها وإن لم يقنعوه فلا حجّة عليه.

خلق الكافر:

* لماذا يخلق اللّه الكافر وهو يعلم أنّه يذهب إلى النار؟

- لقد خلق اللّه سبحانه وتعالى الكافر كأي مخلوق آخر فالخلق لا يؤدي إلى ذهابه إلى النار، فقد جعل الله له إرادة وعقلاً وبعث له الأنبياء )إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا( فأي ظلم في هذا؟ ولتقريب الفكرة لنفرض أن تلميذا أدخل إلى المدرسة ولم يدرس جيدا فرسب في صفه، فهل نقول إن الحق على الناظر؟ فما دامت الإرادة موجودة واللّه أعطاه عقلا فلا ظلم في هذا.

الأقوام التي لا يصلها نذير:

* ما هو حكم الأقوام التي لم يصلها نذير؟

- يقول تعالى )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا(([828]). فإذا لم يصل لشخص نذير لم يكن لديه طريق للمعرفة فالله يحاسبه على ما يتوصّل إليه عقله.

التقية في زماننا:

* هل التقية واجبة في الزمان الذي نعيش فيه؟

- إنّ التقية هي الأسلوب الذي تحمي فيه نفسك أو خطّك وهذا يختلف من زمان لزمان ومن مكان لمكان، فقد تكون في أماكن واجبة وقد تنتفي في أخرى.

من وصله الإسلام بشكل خاطئ:

* هناك من وصل إليه الإسلام بصورة سيئة جداً حيث ينفر كلّ من سمع هذه الصورة، فما مصيره يوم القيامة؟

- إذا كان قادراً على أن يبحث وان يتفحص وان يتعلّم فلا عذر له ((يؤتى بالإنسان يوم القيامة فيقال له لِمَ لمْ تعمل؟ فيقول لم أعلم، فيقال ألا تعلّمت؟))([829]) فكلّ من كان قادراً على البحث والتعلّم والاستقصاء فلله الحجة عليه يوم القيامة، أمّا الشخص الذي يعيش في متاهة أو في أماكن نائية وليس عنده مجال للتعلّم كلية فالله سبحانه وتعالى يحتجّ عليه بما عرف ولا حجة له على ما لم يعرفه.

صفة العدل كاستثناء:

* لماذا صفة العدل التي هي من صفات اللّه سبحانه وتعالى استثنيت من بقية صفات اللّه كالحق والرحمن والسلام وغيرها وعدّت عند الشيعة من أصول الدين؟

- إن التركيز على العدل كصفة من صفات اللّه سبحانه وتعالى باعتبار أنّ هناك خلافاً بين الأشاعرة وبين العدلية في مسألة الحسن والقبح العقليين، أي هل للعقل أن يحكم بحسن الأشياء وقبحها؟ أو أنّ العقل ليس له دخل في ذلك؟ فالحسن ما حسّنه الشرع والقبيح ما قبّحه الشرع. وعلى هذا الأساس طرحت هذه المسالة فالأشاعرة يتساءلون: هل يقبل الحكم بالظلم على اللّه أم لا؟ والعدلية يقولون: إنّه يقبح عليه ذلك لأنّ العقل يحكم بقبح الظلم من اللّه. فالاشاعرة يستبعدون العقل عن ذلك ولا يقولون بظلم اللّه لكنهم ينفون العقل كمعيار لذلك، أي أنّ العقل لا يستقل بهذا الجدل حول الحسن والقبح العقليين. ومسألة العدل والظلم إحدى مفرداته، فسمّي هؤلاء بالعدلية لقولهم لأن العقل يحكم بالعدل والظلم. وهذه المسألة ليست من أصول الدين بالمعنى الذي يخرج الإنسان عن الدين بعدم اعتقاده بها فهي نظرية فكرية.

محاسبة اللّه الناس على قدر عقولهم:

* ما هو الدليل على أنّ اللّه عز وجل يحاسب الناس على قدر عقولهم؟ وكيف يكون ذلك ورجال العلم أنفسهم أحيانا قد يوصلهم تفكيرهم إلى الكفر باللّه؟

- أما ما هو الدليل فأولاً: هناك الدليل العقلي وهو أنّ العقل حجّة اللّه على الناس، كما ورد في الحديث ((إنّ اللّه عندما خلق العقل قال له: اقبل فاقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاّ اعزّ أو أحبّ إليّ منك إياك آمر وإياك أنهى وبك أثيب وبك أعاقب))([830]) لأنّ طبيعة العقل تفرض أنّه هو الذي يحرّك الإنسان في أفعاله كلّها، فأنت تعمل بقدر حجم عقلك، ووعيك للعمل وقيمته هو أكبر من العمل ذاته، ولذا جاء ((ركعتان يصليهما العالم أفضل من عبادة سنة يصليها العابد))([831]) أي من الذي يصليها وليس عنده معرفة باللّه.

العصمة لا تتجزأ:

* تقولون بالعصمة للنبيّ والأئمَّة(ع) قبل تسلّم منصب الإمامة وبعد ذلك، في الأحكام الشرعية والموضوعات الخارجية، باعتبار أنَّ الشخصية لا تتجزأ، ولكنَّنا نرى أنَّ الإمام تارةً يغضب للّه عند الحرب، وتارةً يتلطف إلى المؤمنين حتّى يطمع فيه الأعداء، ألا ترى أنَّ الغضب، تارةً والحلم تارةً أخرى يجزّئ الشخصية؟

- لا، لا تتجزأ الشخصية وكذلك العصمة، لأنَّ الغضب في موضع، والحلم في موضع آخر، لا يعني أنَّ العصمة تتجزأ، فالإنسان إذا غضب في مواضع الغضب فهو مما تقتضيه طبيعة الأشياء، كما في الحرب والغضب للحقّ، وإذا حلم في مواقع الحلم كما لو حلم عن المسيء، فهو أيضاً مما تقتضيه الأمور، وهذا ما نسميه بالتوازن، وهذا هو ما نعنيه بالشخصية الموحدة التي لا تتجزأ. نعم، لو غضب في غير محل الغضب وحلم في غير مواضع الحلم كان ذلك من الإخلال بالشخصية وعلامة على عدم توازنها. ولذلك كان الإمام عليّ(ع) يقول: ((الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، والقوي عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه)).

عوام الكفَّار وعلماؤهم:

* يقول الإمام الخميني q في (كتاب البيع) ((إنَّ الكفّار كجهّال المسلمين، منهم قاصر وهم الغالب، ومنهم مقصِّر، والتكاليف أصولاً وفروعاً مشتركة بين جميع المكلّفين، عالمهم وجاهلهم، قاصرهم ومقصِّرهم، والكفّار معاقبون على الأصول والفروع لكن مع قيام الحجّة عليهم مطلقاً، فكما أنَّ المسلمين معاقبون على الفروع ليس معناه أنَّهم معاقبون عليها، سواء كانوا قاصرين أو مقصِّرين فالكفّار كذلك)). وقد ذكر الإمام الخميني أنَّ الكفّار عوامهم وعلماؤهم قاصر إلاَّ ما ندر، وذلك بحكم النشأة والتربية، فما هو تعليقكم؟

- هذا صحيح، لأنَّ القاصر على قسمين، فهناك قاصر ليس له وسيلة للتعلّم، مثل النَّاس الذين يعيشون في مجاهل أستراليا وأفريقيا، بحيث لا يصل إليهم شيء من الحضارة أو العلم، ولا يعرفون أنَّ هناك اختلافاً بين النَّاس، وهناك القاصر الغافل، وهو الذي نشأ معتقداً أنَّه على حقّ مائة بالمائة، ولا يحتمل ولو بنسبة ضئيلة بأنَّه على غير الحقّ وأنَّ الحقَّ مع غيره. والغافل قاصر، لأنَّ الإنسان الذي يعتقد بصحَّة عقيدته لا يمكن أن يقول له عقله عليك أن تبحث، وعليه، فلم تقم عليه الحجّة من عقله، أمّا قضية أنَّ الكفّار مكلّفون بالأصول وبالفروع معاً، فهذا مورد خلاف بين الفقهاء، ورأينا ورأي أستاذنا السيِّد الخوئي أنَّ الكفّار ليسوا مكلّفين بالفروع وإنَّما هم مكلّفون بالأصول، وإن آمنوا فهم مكلَّفون بالفروع، وهذا بحث فقهي لا مجال لبحثه على نحوٍ مفصّل في المقام.

أهل السَّماء لا يبقون:

* وعندما ودّع الإمام الحسين(ع) زينب(ع) في يوم العاشر من محرّم قال لها ((اعلمي أنَّ أهل الأرض يموتون وأهل السَّماء لا يبقون))([832])، فلماذا قال لها إنَّ أهل السَّماء لا يبقون، ولـم يقل لا يموتون؟ وما الفرق بين أهل السَّماء وأهل الأرض؟

- ربَّما باعتبار أنَّ الموت واقعٌ حسي بالنسبة لمن في هذه الدُّنيا، أمّا أهل السَّماء فهم لا يبقون، لأنَّ البقاء للّه وحده، ولكن فناءهم وزوالهم ربَّما على غير ما هو المألوف من الموت الإنساني. واللّه العالـم بحقيقة الحال.

حضور اللّه في زحمة القوانين:

* إذا امتلأت الساحة الكونية، بما فيها ساحة المجتمعات البشرية، بالسنن والقوانين، واستطاع الإنسان أن يستجلي معالمها ومعانيها، فأين حضور اللّه في نفسه؟ وكيف ينعكس ذلك على الوظيفة الإلهية في نظره؟

- تحكّم السنن والقوانين في الحياة الكونية عموماً، والبشرية خصوصاً، لا يعني تغييب اللّه سبحانه وتعالى، كيف وهو القائل )سُنَّةَ اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تَبْدِيلاً(([833]) وكون هذا العالـم يسير وفقاً لسنن الطبيعة، والحركة البشرية تسير وفقاً لسنن تاريخية، لا يعني أنَّها تعمل بمعزلٍ عن إرادة اللّه سبحانه وتعالى، بل يعني أنَّ هذه السنن وهذه القوانين إنَّما تعمل بمشيئة اللّه، وتدبيرٍ منه تعالى، فإنَّ حكمته تعالى اقتضت أن يكون عمل جسم الإنسان كما هي خلقته التي نعرفها، واقتضت حكمته أن تكون ولادة الإنسان بهذه الطريقة، وكلّ ذلك من آيات اللّه

وفي كلّ شيء له آية          تدل على أنَّه واحد

وكلّ ذلك يدل على حضوره، وعندئذٍ فلا معنى لتساؤل من هذا القبيل، ليُقـال أين اللّه؟ لأنَّـه هل غاب حتّى يُقال ((أين اللّه؟))، وكما قال الإمام الحسين(ع) في دعائه ((عميت عين لا تراك عليها رقيباً)).

فائدة العروج إلى السَّماء:

* ما هي الفائدة من العروج بالنبيّ(ص) إلى السَّماء؟

- ليريه اللّه آياته، ولا إشكال أنَّ هناك حكمة في إطلاعه على عالـم السَّماوات والأرضين، فيُصبح أكثر معرفة، فإذا كان في إسرائه وهو من مكة إلى بيت المقدس ((لنريه من آياتنا))، فإنَّ ذلك من باب أولى في عروجه إلى السَّماء وإطلاعه على العوالـم الأخرى. هذا مع أنَّ تحديد الحكمة مما يرجع إلى اللّه تعالى )لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(([834]).

الأحاديث الضعيفة عند السُنّة والشيعة:

* السُنّة يقولون إنَّ الأحاديث الموجودة عند الشيعة كلّها ضعيفة وباطلة إلاّ القليل. ما صحة ذلك، وكيف تُخالف الشيعة كلّ شيء من مذهب أهل السُنّة، وما هي الأحاديث الضعيفة؟

- هذا مما لا يختص به فريق، فعند السُنّة أحاديث ضعيفة وأحاديث صحيحة، وعند الشيعة أحاديث ضعيفة وأحاديث صحيحة. أمّا أنَّ الشيعة يُخالفون كلّ شيء عند السُنّة، فليس صحيحاً، لأنَّ الشيعة والسُنّة متفقون بالفقه وبكثيرٍ من القضايا بنسبة كبيرة. نعم هناك خلاف في عددٍ من المسائل كما هو الخلاف بين المذاهب نفسها، ولا يصح أن يُقال إنَّ كلّ ما عند السُنّة غير صحيح أو يُقال إنَّ كلّ ما عند الشيعة غير صحيح. هذا كلامٌ غير علمي وهو كلام ناشئ من العصبية الطائفية ولا يستند إلى معايير علمية.

علل الأحكام:

* لماذا لـم يبيّن لنا الإسلام سبب حرمة بعض الأشياء؟ هل أراد لنا أن نكتشف هذه الأسباب؟

- اللّه سبحانه وتعالى بيَّن بعض الأشياء وأراد لنا أن نطيعه في ما بيَّنه وفي ما لـم يبيِّنه، قال تعالى: )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً(([835])، وربَّما أراد لنا أن نكتشف بعضها من خلال الدراسة العميقة للمصالح والمفاسد المترتبة على الأحكام، أو من خلال ما ورد من السنّة في ذلك. هذا بالإضافة إلى الفكرة الإيمانية، وهي أنَّ أحكام اللّه تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها مما يعلمه اللّه فيما يعلمه من غيب الأشياء.

سقوط الذُّنوب:

* شخص عنده ذنوب وذهب إلى الحج وقد تاب توبة نصوحاً، فإذا غفرت ذنوبه ومضت عدّة سنين ورجع إلى ذنوبه السابقة، فهل ترجع إليه الذُّنوب التي غفرت له؟

- لا، فهو عندما يتوب من ذنوبه، فإنَّ ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له))([836])، ولكنَّه عندما يذنب مرة أخرى فإنَّه يحتاج إلى توبة جديدة.

قتل النفس لا يُنافي العصمة:

* النبيّ موسى(ع) قتل نفساً وهو من الأنبياء أولي العزم، فهل ينافي هذا العدل الإلهي، حيث يقول اللّه عزَّ وجل: )مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاس جَمِيعاً(([837])؟

- ما خالف العدل الإلهي هو قتل النفس بغير حقّ، وموسى(ع) قتله في مقام الدفاع عن الشخص الذي استنجد به، وقد اعتدى عليه المقتول.

الشعور الديني:

* كيف السبيل إلى تحريك الشعور الديني وتوجيه النَّاس نحو دين اللّه في منطقة تبتعد كلّ البُعد عن اللّه عزَّ وجل، أو هي غافلة عن طريق اللّه؟

- يقول اللّه تعالى: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ(([838])، فالدعوة هي الأسلوب الذي يجتذب قلوب النَّاس وعقولهم إلى الإسلام، فلندرس عقلية النَّاس والظروف النفسية التي يعيشونها، وعلى الداعية أن يُحاول الدخول إلى النَّاس من خلال قلوبهم ليصل إلى عقولهم، وقد قال اللّه )اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(([839])، فالدعوة إنَّما تقوم على اللطف واللين في الوعظ والإرشاد، ومن ذلك أيضاً الصبر على النتائج السلبية.

العلماء و الحجود:

* يقولون أن الفكّر هو الذي يدلّنا على اللّه وعلى أمور كثيرة ولكن هناك الكثير من العلماء الذين أفنوا حياتهم في العلم والتعليم وفي النهاية نراهم يجحدون وجود اللّه، فهل يدل الفكّر دائماً على اللّه أم أن هناك نواحي أخرى للفكر؟

- الفكّر قد ينحرف، فهناك الفكّر الذي ينطلق من فطرة الإنسان )فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ(([840]) وكما في قوله(ص) ((كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه وينصرانه)) أي لو ترك الإنسان إلى فطرته لاهتدى إلى اللّه وهناك فكّر ينطلق من التعلم، وقد يشوب التعلم شائبة ما أو شبهة أو تأثيرات معينة ولذلك قد ينحرف الفكّر ويؤدي إلى الجحود.

التخلّف عن الطاعة:

* هل أنّ الإنسان الذي لا يرتكب المعاصي ويساعد الناس ويبتعد عن الشر ويحاول دائماً فعل الخير ولكنه لا يصلي ولا يصوم هو إنسان سيئ؟

- أي سوء أعظم من ذلك، وهو يكفر بنعمة اللّه؟ فهل يحسن بالإنسان أن يعمل الخير ويتنكّر لخالقه أو يتكبّر عليه، عندئذ فهو يستهين باللّه، لأن الصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات كل ذلك من ألوان الشكر والطاعة، فكيف يتخلّف عن شكر نعمة خالقه بحجة الإحسان إلى الناس. ألا يجدر به أن يحسن إلى اللّه أولاً خالقه، بل إلى نفسه هو. ولكن للأسف بعض الناس يتذرع بذلك، مع أن ((الصلاة عمود الدين فإن قبلت قبل ما سواها وإن أردت رُدَّ ما سواها))([841]) ولذلك فهي علامة المسلم وجنسيته.

الغيب والتحليل:

* هناك نظرية تقول ((إن الغيب ليست قاعدة أساسية في التحليل)) فهل ترون صحة هذه القاعدة وخصوصاً إذا علمنا أنهم يقصدون بذلك أن الإنسان لا يمكنه أن ينطلق في تحليل الظواهر والأحداث الواقعة من خلال أداة لا يمتلكها وهي الغيب التي جعلها اللّه من ملكه واختصاصه وهكذا؟

- هذا صحيح. بمعنى أن الغيب إذا كان ملحوظاً في أصل القضايا وذلك لجهة أن هذه الأشياء من إبداع وخلق اللّه سبحانه فهذا أمر يرجع إلى أصل العقيدة وكون كل ما في الكون من تدبيره سبحانه وتعالى وتحت نظره، وأما إذا كان الملحوظ هو تفسير هذه الأشياء أو المخلوقات أو الظواهر من حيث عملها وعلاقة بعضها بالبعض الآخر أو طبيعتها فإن هذا لا يفسّر غيبياً بل أن تفسير ذلك يرجع إلى قوانين أودعها سبحانه وتعالى في الكون والحياة، سواء كان ذلك في الساحة الطبيعية أو الكونية أو التاريخية والمعبّر عنها بالسنن أو القوانين التاريخية. وقد قال اللّه سبحانه وتعالى )إِنّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(([842]) وقال )قَدْ جَعَلَ اللّه لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(([843]).

التفكير في اللّه:

* عندما نبحث في العقائد صفات اللّه الذاتية ونثبت أن صفاته هي عين ذاته وأن ذاته تعالى بسيطة غير مركبة، فهل يعتبر هذا من التفكير في ذات اللّه؟

- لا يعتبر من التفكير في ذات اللّه، بل هذا من التفكير هي صفاته تعالى.

هل السوء من طبع الإنسان؟

* قال تعالى )وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(([844]) وقال )وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(([845]) وقال )إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(([846])، هذه الآيات تدل على الإنسان هو الذي يختار أي الطريقين ولكن يقول تعالى )إن النفس لأمارة بالسوء( ألا يدل هذا على أن الإنسان مطبوع على السوء؟

- لا يدل ذلك على أن الإنسان مطبوع على السوء، لأن النفس باعتبار الغرائز الموجودة فيها توحي إلى السوء، وذلك عندما تستيقظ فيه هذه الغرائز، وتحيط به عوامل الإثارة فتوحي له بالسوء، ولكن الله خلق له عقلاً بحيث أن النفس عندما تأمر بالسوء فأنها لا تشل قدرة الإنسان، وأن الله خلق له العقل الذي يستطيع أن يميز به بين الحسن والقبيح، وأنزل الوحي على الإنسان من خلال الرسول(ص)، من أجل أن يحذّر الإنسان وينذره ويبشره، وأعطاه الإرادة التي يستطيع من خلالها، أن يؤكد سيره في خط الخير بل أن الإنسان مفطور على الخير، ولذا قال النبي(ص): ((كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه أو ينصرانه)) ونحن نقول دائماً إن الظروف المحيطة بالإنسان لا تشلّ قدرته، فهناك أناس عاشوا في بيئة شديدة الفساد وصاروا خيّرين، وهناك أناس عاشوا في بيئة شديدة الصلاح وصاروا سيئين، والظروف المحيطة قد تهيئ أجواء الإنسان لما يتجمع فيها، ولكنها لا تشل قدرة الإنسان بل يبقى للإنسان الكثير من عوامل الممانعة للظروف السلبية في الإتجاه الإيجابي السليم.

أصناف الشيعة:

* ورد عن الإمام الصادق(ع) كما في كتاب كشف الغمّة ((أن شيعتنا على أصناف ثلاثة: صنف يأكلون الناس بنا، وصنف كالزجاج يتهشّم، وصنف كالذهب الأحمر كلّما تعرّضوا للنار ازدادوا جودة)) فهل بالإمكان بيان هذه الأوصاف بشكل مختصر؟

- ذلك يعني أن الناس على أصناف، فهناك أناس لا يعيشون آفاق أهل البيت(ع) وخطهم وإيمانهم، بل انهم يستغلون محبة الناس لأهل البيت(ع)، وربما يكذبون عليهم لغرض استغلال الموقع الذي للأئمة(ع) في قلوب الناس لاجتذابهم والحصول على الأموال والجاه فهم يتاجرون بالأئمة(ع)، وهو مما نشهده في الذين يأتون بالخرافات حتى يوحوا للناس، بأنهم مخلصون لأهل البيت(ع) لأن المهم عندهم هو أن يحصلوا على المال. وهناك أناس يعيشون الإيمان بشكل سطحي، ولذلك إذا داهمتهم أية فتنة فإنهم يسقطون، وهذا أمر واقع في كل العصور وفي كل المسلمين ولا يختصّ بالشيعة، وهناك كلمة للإمام الصادق(ع) مضمونها في كلام طويل له إنه قد يكون الرجل كثير العمل بلا تقوى وقد يكون الرجل قليل العمل مع التقوى، قالوا كيف ذلك؟ قال كالرجل الذي يعمل وإذا فتح له باب من الحرام دخل فيه، فهو تقي لأنه لا يجد طريقاً للشر، والذي له من العمل القليل ولديه التقوى، فإنه إذا انفتح له باب من الحرام لم يدخل فيه، كما في قوله تعالى )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ(([847])، وكما في قوله تعالى )وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(([848]). وأما الصنف الثالث فهم كالذهب الأحمر لأنهم الذين تعمّقوا في الإيمان وأخلصوا إلى الله، وأخلصوا لخط أهل البيت(ع) وهو الخط الإسلامي الأصيل. ولذلك كلما ازدادت عليهم المشاكل ازدادوا قوة، وقد قال الله تعالى )الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(([849]).


 

الفصل الثالث

 

 

 

 

 

 

 

مسائل السيرة


 

شريعة النبيّ (ص) قبل بعثته:

س: ما هي الشَّريعة التي كان يتبعها الرَّسول (ص) قبل نزول الوحي، وما هي الأفعال التي يؤديها من العبادات؟

ج: كان على الدِّين الحنيفي دين إبراهيم (ع) الذي يجمع الأديان كلّها، كما ورد في بعض الأخبار، وأمَّا نوعية العبادة فلم يرد في ذلك تفصيل.

تفضيل النبي الأمي(ص):

س: لماذا فضّل الله النبي(ص) على غيره من الأنبياء مع أنّه أمي؟

ج: هذه هي عظمته، فهو أميّ جاء بما أعجز العلماء والقرّاء والكتّاب، فأمّية النبي محمد(ص) ليست جهلاً، وإنّما هي أمية قراءة وكتابة، لأنّ النبي(ص) كان واعياً أكثر من كل الناس من حوله، إنما أراد الله له أن لا يقرأ ولا يكتب إكمالاً لرسالته{وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون}[العنكبوت:48].

فهي أميّة أراد الله من خلالها أن لا يتهم النبي(ص) بأنه جاء بالرسالة نتيجة ثقافة سابقة من خلال قراءة أو كتابة أو ما أشبه ذلك، وإلا فهو قد علّم كلّ الأميين وكلّ العلماء وعلم الإنسانية كلّها، وما زال العلماء في حديثهم وقراءتهم للسنّة النبوية الشريفة وللكتاب ينهلون من علمه الذي فاض في عهده ويفيض مع الأيام.

إنّ الحاجة إلى القراءة والكتابة تنع من الحاجة إلى العلم والثقافة والمعرفة، فإذا أوتي الإنسان ذلك من غير هذه الوسائل فتلك معجزته التي يتفرّد بها والتي يستغني بها عمّا يحتاجه الناس من تلك الوسائل، ولم يكن النبي(ص) يعيش العقدة في ذلك، فلقد طلب ـ كما في السيرة ـ أن يعلّم الأسير من أسرى بدر عشرة من المسلمين القراءة والكتابة ليطلق سراحه تقديراً منه لأهمية ذلك في تعليم المسلمين.

معنى الرسالة المحمّديّة:

س: أقبلت علينا ذكرى ميلاد الرسول (ص)، فلماذا لـم نتطرق في ندوتنا إلى مناقشة معنى الرسالة؟

ج: ترى عن ماذا كنّا نتحدّث؟ ألـم نكن نتحدّث عن عمق الإيمان وعمق الالتزام بالرسالة وما إلى ذلك؟! نحن نعتقد أنَّ ميلاده (ص) ليس يوماً من الأيام، بل هو الزمن كلّه، ونحن نعيش معه في كلّ ما جاء به مما يمتد مع الحياة في مواقعها كلّها، ونرى أنَّ حضوره (ص) هو أبلغ من أيّ حضور آخر، ولذا فإنَّ مناقشة معنى الرسالة حاضر في ندواتنا كلّها وليس في ذكرى المولد فقط.

السهو في الموضوعات الخارجية:

س: سُئِلَ بعض الأعلام حول سهو النبيّ فنفاه إلاَّ بالموضوعات الخارجية، فما المقصود بالموضوعات الخارجية؟

ج: كان بعض النّاس يقولون إنَّ النبيّ لا يسهو في التبليغ لكنَّه يسهو في الصلاة، ثُمَّ بعد ذلك يرجع عن سهوه، والمعروف عند علماء الشيعة بشكلٍ عام أنَّ النبيّ (ص) لا يسهو إطلاقاً، لأنَّ الشخصية النبوية المعصومة لا تتجزأ، لكنَّ بعض العلماء المتقدّمين مثل الشيخ الصدوق كانوا يقولون بسهو النبيّ في الموضوعات وليس بالتبليغ بالأحكام، والمراد من الموضوعات الخارجية هي الأفعال التي تتعلّق بها الأحكام أو الأمور المتنوّعة في شؤون الإنسان والحياة.

التبليغ السابق على الغدير

س: يفهم من هذه الآية الكريمة {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}[المائدة:67]، ومن سبب النزول أنّ رسول الله (ص) لم يبلَّغ أمر ولاية علي (ع) قبل نزول هذه الآية، في حين أن السنّة تؤكد على أنّ رسول الله (ص) أكد ذلك في أكثر من موقع وفي أكثر من رواية؟

ج: ربّما كان التأكيد الأول المتنوّع في مواقع خاصّة، ولكنّ لموقع الغدير خصوصية أخرى، باعتبار جمع المسلمين الغفير حيث كانوا عائدين من حجّة الوداع وقد قدموا من كلّ حدب وصوب، لذلك فإنّ من الممكن جداً أن يكون التبليغ من خلال طبيعة هذا الجمع، وباعتبار أنّ الموقع الزمني هو موقع ترقّب المسلمين لوفاة النبي(ص)، حيث كان المسلمون يعيشون في ظرف يعطي للمسألة امتداداً وحيوية أكثر، والله العالم.

صحة دعاء:

س: هل الحديث الآتي صحيح السند عندنا: «من قال حين يسمع النداء: اللّهم ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة آتِ محمَّداً الوسيلة والدرجة الرفيعة وآتِهِ المقام المحمود الذي وعدته»؟

ج: لا بأس به، سواء كان صحيح السند أو غير صحيح، فهو دعاءٌ لطيف للنبيّ (ص) بأن يصلّي اللّه عليه لأنّه كان السبب في هداية أمّته.

روايات (ميزان الحكمة):

س: الروايات التي ترد في محاضراتكم والمأخوذة من كتاب (ميزان الحكمة) هي هل صحيحة السند؟

ج: في مسألة توثيق الحديث لديّ طريقان، الطريق الأول: هو وثاقة الراوي، والطريق الثاني: هو وثاقة الرواية من حيث انسجامها مع المفاهيم القرآنية العامّة وغير ذلك، لذا فأنا أعتمد الخبر الموثوق، سواء في هذا الكتاب أو في غيره من الكتب الجامعة للحديث.

ب -علم الإمام (ع):

علم الإمام (ع):

س: هل تدخل العلوم الحديثة كالتكنولوجية مثلاً ضمن العلوم التي يحيط بها الإمام(ع)، أم أنّ علم الإمام منحصر في العلوم الإسلامية خاصّة؟

ج: الإمام (ع) يعلم كلّ ما تحتاجه رسالته من العلم، ولو كان حيّاً في هذا الوقت لأخذ بأسباب العلم الراهنة، ذلك أنّه صاحب رسالة ودعوة لتلك الرسالة، والداعية يأخذ بكلّ العلوم التي تصبّ في خدمة رسالته حتى يوصلها بأفضل وسيلة إلى الناس.

بنو هاشم والخلافة:

س: أصبحت الخلافة بعد رسول اللّه (ص) قضية عصبية، فأين كان بنو هاشم آنذاك عن نصرة علي (ع) حيث إنَّ الأنصار نصروا سعد بن عبادة؟

ج: نحن نفهم من كلام الإمام عليّ (ع) أنه لم يكن لديه مجال للنصرة «وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخيّة عمياء». كما أنَّ الإمام (ع) كان مشغولاً في الحفاظ على الإسلام وهو القائل: «حتى إذا رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمَّد (ص) فخشيت إن أنا لـم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت فيها حتى زاح الباطل وزهق واطمأنّ الدين وتنهنه» وقال: «لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين ولـم يكن بها جورٌ إلاّ عليّ خاصّة».

مقام الإمامة:

س: هناك خطيبٌ راح يثبت أنَّ مقام الإمامة أعلى وأسمى من مقام النبوّة أو الرسالة، مستدلاً على ذلك بنصوص القرآن، فما هو تعليقكم؟

ج: إنَّ عظمة الإمام عليّ (ع) أنَّه كان تلميذ رسول اللّه (ص)، وهو يتكلّم عن ذلك «كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، وكان يُلقي إليَّ في كلِّ يوم خلقاً من أخلاقه»، والإمام الباقر (ع) كما في كتاب (الكافي) يقول: «أفيكفي الرّجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولاه ثُمَّ لا يكون فعّالاً، فرسول اللّه خيرٌ من عليّ، أفحسب الرّجل أن يقول أحبّ رسول اللّه ثُمَّ لا يعمل بسنّته»، رسول اللّه (ص) هو نبيّ عليّ (ع) ونبيّ الأئمة (ع) كلّهم، وعظمة عليّ (ع) أنَّه تلميذ رسول اللّه (ص). وقول هذا كقول بعض النّاس إنَّ الزهراء (ع) أعظم من رسول اللّه (ص)، فلقد وصل الغلوّ والتخلّف بالبعض إلى هذا المنحدر، حتّى قال قائل: إنَّ رسول اللّه (ص) دعا فلم يستجب له، حتّى قالت الزهراء آمين فاستجاب اللّه دعاء رسول اللّه بتأمينها، هل يُعقل أن يصل بنا الغلو إلى هذه الدرجة؟ فيا أبناء مدرسة عليّ التوازن التوازن، فأهـل البيت (ع) يقولون: «ما خالف كتاب اللّه فهـو زخرف» وعليّ (ع) مأمور بأن يطيع رسول اللّه (ص)، وهو الذي جعله خليفته بأمر اللّه «من كنتُ مولاه فعليّ مولاه».

هدم الآبار:

س: لقد هدّم النبيّ (ص) الآبار قبل بدر الكبرى ومنع الماء عن جيش قريش، ولكن علياً سمح لجيش معاوية بذلك، فكيف نوفّق بين الموقفين؟

ج: هذا غير صحيح، لأنَّ النبيّ (ص) لا يهدم الآبار. بل كانت السيرة على العكس من ذلك كما يذكر عن الإمام علي (ع) إنه كان يحفر الآبار لينتفع بها الناس.

منازلة عمرو:

س: في (معركة الخندق) نادى رسول اللّه (ص) بالمسلمين للخروج إلى عمرو بن عبد ودّ عدّة مرات، حيث قال: من يخرج إليه وأنا أضمن له الجنّة، فلم ينهض من المسلمين إلاَّ علي (ع)، فلِمَ لـم يخرج صحابة الرسول (ص) أمثال أبي ذر وعمّار والمقداد وسلمان رغم أنَّهم كانوا من الرجال المشهود لهم بالشجاعة؟

ج: هؤلاء لا إشكال بأنَّهم من كبار الصحابة، ولكن الإنسان قد يضعف في بعض المواقف، فشخصية عمرو بن عبد ودّ من الشخصيات التي كانت تثير الرعب في النفوس، وقد يضعف حتّى أبو ذر أو عمَّار عن مواجهتها في تلك المرحلة، وإن كانوا قد ازدادوا قوّة بعد ذلك. فعمرو كان يعدّ بألف فارس، وكان يستعرض عضلاته من خلال قدرة مشهودة في جندلة الأبطال، وخصوصاً أنَّه استطاع أن يعبر الخندق في مواجهة المسلمين، ويمكن أن نفهم مستوى شجاعته من خلال كلمة الرسول (ص): «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه» فكما أنَّ عليّاّ (ع) كان يقف ممثّلاً للإيمان كلّه في بطولته وثباته وشجاعته، كذلك كان عمرو بن عبد ودّ في الطرف المقابل، ولعلّ هذا هو السبب في إحجام المقاتلين المسلمين في مبارزته، والله العالم

كيف نعيش مع عليّ (ع)؟

س: كيف نعيش هذه الأيام مع الإمام عليّ (ع) والفساد يزداد يوماً بعد آخر؟

ج: علينا أن نسمع كلام الإمام عليّ (ع) وهو يقول: «لا تستوحشوا في طريق الحقّ لقلّة سالكيه، فإنَّ النّاس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل»، فليس المهم أن تكون لوحدك أو مع أناس قلائل، فنحن قد نرى في أوروبا تظاهرة تخرج في بعض الأحيان بشخصين أو شخص واحد يحتجّ على هذا الموضوع أو ذاك. وعلينا أن نبقى مع خطّ الحقّ حتّى لو لـم يكن معنا عددٌ كبير، لأنَّ الإصرار عليه سوف يدفع الكثيرين إلى اكتشافه والالتزام به.

دورنا في غياب الإمام علي (ع):

س: إن كل الذي ذكرتموه في حق علي (ع) هو تاريخ مضى وانتهى، فما هو دورنا الآن ونحن نعيش الفرقة بين السنة والشيعة ولا نجد أي جسر يمد بيننا للتآلف؟

ج: ليس ما يذكر عن سيرة علي (ع) ومواقفه وكلماته تاريخاً مضى وانقضى، بل هو موجود بيننا، ونهج عليّ مطروح بين أيدينا، وعلينا أن نعمل كما عمل الآخرون، وإذا لم يعملوا فيجب أن نقوم بواجبنا نحن ولا نتأثر بالذين يثيرون الفرقة والفتنة، ويجب أن نتعلم الدرس من علي (ع)، وكما علمنا القرآن {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زيّنا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون}[الأنعام:108]. فالإمام الصادق (ع) رائد الوحدة الإسلامية حينما يسأله أحد أصحابه: "ما نصنع بيننا وبين خلطائنا من الناس ومن لا يرون رأينا" فإنه يدعوه إلى الاشتراك في عباداتهم وقضاياهم الاجتماعية: "صلوا جماعتهم وعودوا مرضاهم وشيّعوا جنائزهم، حتى يقولوا رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدب أصحابه، كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا". فلنلتقِ على ما اتفقنا عليه، كما قال الله لنبيه في التعامل مع أهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ـ وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى وربما المجوس ـ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}[آل عمران:64].هناك الكثير من الفواصل بيننا وبين أهل الكتاب، ولكن الفواصل بيننا وبين أهل السنة ليست بهذه الكثرة ما عدا قصة الخلافة وأمور خلافية هنا وهناك، بل إن أهل السنة يختلفون فيما بينهم في قضايا فكرية كثيرة، ومع ذلك فإن المنهج الإسلامي يبحث في مواقع اللقاء مع الآخر ويحاور من موقع اللقاء لا من موقع الخلاف، وهذا هو منهج القرآن. لقد بتنا ننتج مواقع الفراق والفتنة، فلقد شغلتنا عصبياتنا وطائفياتنا وذاتياتنا عن الجرذ الإسرائيلي ـ كما في قصة كليلة ودمنة - الذي يقرض حبل وحدتنا، وعن التنين الأميركي الفاغر فاه لابتلاعنا وابتلاع واقعنا، أليس كذلك؟ فما زلنا مشغولين في تكفير وتضليل وشتم بعضنا البعض، وما زلنا دولاً، ولكن كما يقول (علي الشرقي):

         لوجمعت لم تك أوطاننا                  دويلة فكيف صارت دول؟!

         وكما قال الشاعر:

        المستشار هو الذي شرب الطلا           فعلام يا هذا الوزير تعربد؟

فهم الواقع الحاضر لعلي(ع):

س: كان علي (ع) القمة في الفكر والقمة في الشجاعة، وكان العامل والعالم والورع والزاهد، وكان يتحرّك مع الإسلام بما يحب الله ورسوله(ص)، فلماذا لا يفهم الناس علياً في هذا الزمن مع أنّه كان الحقّ؟

ج: إن قصتنا مع علي (ع) كقصّة ذاك الذي كان يسمع الإمام علي (ع) يقول "سلوني قبل أن تفقدوني" فيقوم ويقول له: كم شعرة في رأسي؟ إنّ بعض الناس قد يطرحون أسئلة كهذه، ولو ذهبنا إلى القضايا الدينية فما هي القضايا التي تشغلهم يا ترى؟ وما هي القضايا التي يسألون عنها؟ وما هي القضايا التي يتصارعون فيها؟ وما هي القضايا التي يحارب بعضهم البعض من أجلها؟ إننا نرى أنها قضايا لا تمثل أسساً في العقيدة ولا في الشريعة، فأكثرها تجريدي يحلّق في الفضاء ولا ينزل إلى الأرض. ولذا نعتبر أنّ هناك معركة حامية كما كانت هناك معركة حامية في عصر علي (ع) بين الوعي وبين التخلّف. وإلاّ فإن الإمام (ع) هو كما قال عنه أحد المستشرقين " لو كان علي موجوداً في هذا الزمن لكان مسجد الكوفة مملوءاً بالقبعات الغربية ولن تجد فيه موطيء قدم لعربي واحد"، ذلك لأن العرب لم يستفيدوا منه سوى أنّه قتل مرحباً وقدّه نصفين، وقتل عمرو بن عبد ودّ وغيرهما من صناديد الشرك، ولكن تلك بطولة نادرة في دائرة الزمن، أمّا فكر علي (ع) وسيرته فهي بطولة في امتداد الحياة. هذا هو الفرق. ونحن غالباً ما يعجبنا التاريخ فنستغرق فيه، فلو جاء الإمام علي (ع) الآن ورشّح نفسه للانتخابات بخطّته المعروفة التي قال عنها عمر بن الخطاب "لو وليها علي لحملهم على المحجّة البيضاء"، أي أنّه يقول للأبيض أنت أبيض وللأسود أنت أسود فكم يا ترى من الأصوات سيحصّل علي؟ إنّ علياً (ع) الآن في التاريخ ولسنا مبتلين به، ولو ابتلينا به غداً فماذا تكون الصورة؟ إننا نرى الآن أنّ هناك من يمثلون عشر معاشر علي ولا يتحملهم الناس، فكيف سيتحملون الإمام علي (ع) وهو الخشن في ذات الله؟

صحة خطب نهج البلاغة:

س:يُقال إنَّ بعض كلمات وخطب (نهج البلاغة) غير مسندة أي لـم تصل بطريق صحيح، فأوضحوا لنا صحّة ذلك؟

س:النهج برواية الشريف الرضي بدون أسانيد ولذلك لا يُعتبر على هذا الأساس أحاديث مُسندة في دائرة الصحة الحديثية، وهناك من العلماء من كتبوا في مصادر (نهج البلاغة) ووثّقوا الكثير منها.

نسبة حديث إلى الإمام علي (ع):

س: ما صحة نسبة الحديث للإمام علي (ع): «ما جمع مال قط إلاَّ من شحّ أو حرام»؟

ج: هذا وارد على نحو الغلبة، بمعنى أنَّ المال إنما يجتمع في الغالب من الشحّ والبخل، كما ويجتمع من الحرام وعدم إخراج حقوق النَّاس وحقّ اللّه سبحانه وتعالى، وهو نظير قوله (ع): «ما جاع فقيرٌ إلاَّ بما مُتِّع به غني».

ج- فاطمة الزهراء (ع):

العصمة الاجتماعية:

س:ذكرتـم في إحدى كتبكم أنَّ عصمة الزهراء (ع) هي عصمة اجتماعية، فما معنى ذلك؟

ج: ليس هذا صحيحاً، فلقد قلت إنَّ عصمة الزهراء (ع) كعصمة الأئمة (ع) ولعصمة الزهراء ثلاثة أدلة، وهذا مذكور في أكثر كتبي، أولاً: إنَّها من أهل البيت (ع) الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، وهذا دليل عصمة أهل البيت (ع) جميعاً. والثاني: أنَّها سيِّدة نساء العالمين وسيِّدة نساء أهل الجنّة ولا يمكن لسيِّدة نساء العالمين إلاّ أن تكون معصومة. وثالثاً: أنَّ حياتها تدلّ على عصمتها أيضاً، إذ لـم ينقل عنها أنَّها أخطأت في قول أو فعل أو فكر، ولكن بعض النّاس وبعض المشايخ يقولون إنَّ السيِّد لا يرى عصمة الزهراء (ع).

د- الإمام الحسن (ع):

قاما أو قعدا:

س: قال رسول الله(ص): "الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا". فماذا يقصد النبي(ص) بالقيام والقعود؟ وهل أنّ المقصود بالقيام والقعود هو الثورة والهدنة؟ وهل هناك علاقة بين تلك الثورة وتلك الهدنة؟

ج: الظاهر من الرواية أنّ قضية إمامتهم(ع) لا تأخذ الشرعية من حركتهم، فهم يملكون الشرعية من الله، وبذلك فإنّهما يسيران على منهج الله، لأنّ الله عندما اختارهما للإمامة، فإنّه يعرف أنّهما يعيشان الإمامة فكراً وروحاً وحركة وجهاداً، وأنّهما ينفتحان على خط الإسلام بالقعود إن كانت مصلحة الإسلام هي في القعود، وعلى القيام إن كانت مصلحة الإسلام في القيام، وكلاهما قاما وكلاهما قعدا تبعاً للمرحلة.

فالإمام الحسين(ع) قعد طيلة تلك المدة السابقة على ثورته، وكان مع أخيه الحسن(ع) ووقّع الصلح معه، وكان يدافع عن موقف الإمام الحسن(ع)، أما والحسن(ع) فكان قبل أن تدور الدوائر ثائراً، وقد انطلق ودفع بالجيوش لمحاربة معاوية، ولكن الأمور سارت بغير الاتجاه الصحيح. ولذلك كان الحسن(ع) قائماً ثائراً وكان قاعداً مصالحاً تبعاً للمرحلة في ما هي المصلحة الإسلامية. وكان الحسين(ع) قائماً وقاعداً أيضاً تبعاً للمصلحة الإسلامية. ولذلك عاش الحسن(ع) روح الثورة مع الحسين(ع) عندما وقف في مواجهة معاوية، وعاش الحسين(ع) مع الحسن(ع) عندما وقف معه في مسألة الصلح. وخلاصة القول، أنّ الإسلام هو العنوان الكبير للقيام هنا وللقعود هناك، وهذا المعنى ينبغي أن نفهمه جيداً، وهو أنّ الثورية ليست في الاندفاع والانفعال، فقد تكون ثائراً وأنت هادئ لأنك تخطّط وتنتظر استراتيجيتك في النهايات، وقد تكون ثائراً في البداية ولكنك لست ثائراً في معنى الاستراتيجية، في حين أنّ بعض الناس ينظرون إلى التكتيك فقط فيما كان الحسن(ع) والحسين(ع) ينظران إلى الاستراتيجية ، وإذا كان بعض الناس ينظرون للحاضر فقط فقد كانا يرصدان المستقبل أيضاً. ولذا ينبغي أن نكون المستقبليين.

الفتنة التي زرعها معاوية في جيش الحسن(ع):

س: هناك نقطة تعتبر من أهم أسباب الصلح ولكن لم يركّز عليها فيما كتب من الموضوع، وهي أنّ معاوية استطاع أن يزرع الفتنة في أوساط أتباع الإمام الحسن(ع)، وإلى هذه النقطة أشار(ع) في كلمته إلى (المسيب): "إني أردت صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض"، ولذلك استعجل الحسن(ع) في الصلح لكي لا تقع حرب أهلية بين جماعته، ألا ترون أنه صالح بدافع الحفاظ على الجماعة؟

ج: إنّ أصحاب الإمام الحسن(ع) الذين هم أولياؤه لم تقع الفتنة بينهم، ولكنّ الذين وقعت الفتنة بينهم هم الذين كانوا مع الحسن(ع) على السطح ومع مصالحهم في العمق، تماماً كما هي القضية عند الحسين (ع) عندما قال له (الفرذدق): "قلوبهم معك وسيوفهم عليك" هذه هي المسألة.

أمّا قضية"كفّ بعضكم عن بعض". فكان (ع) يلاحظ فيها الواقع الإسلامي، لأنّ المسألة عندما تتحرك باتجاه استمرار الحرب من دون أن تكون هناك أية ظروف واقعية للانتصار في الحرب فقد تكون الحرب انتحاراً. ولذا فقد كانت الظروف الواقعية إبّان عهد الإمام الحسن(ع) تقتضي أن تنتهي المعارضة كلّها، وأنّ الحسن(ع) يُقتل والحسين(ع) يقتل وبنو هاشم والصحابة أيضاً يقتلون، ومن هنا فقد كانت المسألة خسارة مستقبلية فادحة، ولذلك كانت ظروف الإمام الحسن(ع) تختلف عن ظروف الإمام الحسين(ع) في مرحلته، وقد أشار الذين كتبوا في صلح الحسن إلى هذه النقطة.

هل كان الحسن مزواجاً؟

س: هناك من يقول بأن الإمام الحسن(ع) كان مزواجاً، حتى أنّه عند وفاته كان أكثر مشيعيه من نسائه، فكيف نردّ على هذه الشبهة؟

ج: نردّ عليها بالقول إنّ مسألة الزواج في ذلك الزمن لا تعتبر غريبة عن السياق الاجتماعي، فليس من الضروري دائماً أنّ الزواج والطلاق يعبّران عن حالة ذاتية، بمعنى استسلام الإنسان للذة والشهوة، بل قد تكون هناك مصالح معينة تترتب على الزيجات. وقد ورد أن الحسن(ع) كان يطلّق بعض زوجاته ـ هذا إذا صحت الرواية ـ ولما قال الإمام علي(ع) عن الإمام الحسن(ع) أنه مطلاق قالوا سنزوجه لأنّنا نتشرف به، ونريد أن نتشرف بانتسابه إلى رسول الله(ص) وما إلى ذلك.

هذه من خلال الفكرة العامة التي تريد أن تستنكر ذلك وتستغربه، وأمّا الفكرة الأساسية فهي أنّ الإمام الحسن(ع) إذا كان مثلما قيل أنّه تزوّج(100) أو (150) مرّة، فأين هم أولاده؟ فعلى الأقل يكون قد ترك عشرات الأولاد، في حين أن أولاد الإمام الحسن(ع) كما نعلم محدودون، فأين ذهب الباقون؟ والشيء الأهم من هذا وذاك أن بني أمية أثاروا هذه المسألة ضده بقولهم أنه ليس صالحاً للخلافة ولإدارة الدولة، كما تحدث معاوية في جوابه للإمام الحسن(ع) عن بعض هذه الأمور، ولذلك أثاروا ضده هذه الإشكالات، وفي الحقيقة لم يكن زواج الإمام الحسن(ع) بهذا المستوى الموصوف في بعض الروايات المغرضة، بل كان كزواج رسول الله(ص) من خلال بعض المصالح التي لا تبتعد عن المعنى الأخلاقي ولا المعنى الروحاني للإمام الحسن(ع)، ولذلك فإنّ الإشكالية كانت رشحة من رشحات الدعاية الأموية السوداء، سواء في ذلك الزمن أو في التاريخ، حتى يصوّروا أن معاوية هو المؤهل للخلافة وليس الإمام الحسن(ع).

هـ- الإمام الحسين (ع):

الانتماء العاطفي للحسين (ع):

س: يصفنا البعض بأنَّنا ننتمي إلى الحسين (ع) انتماءً عاطفياً فقط، وذلك من خلال المسيرات، في حين أنَّ الأمم تحيي ذكرى عظمائها من خلال الاحتفالات، ونحن نحيي ذكرياتهم من خلال اللطم، فما هو قولكم؟

ج: إنَّ العاطفة في الأساس إنسانية ولا ضير في أن يعبّر الإنسان عن عواطفه، نعم إذا اقتصرنا على ذلك فيصحّ الكلام المذكور، ولكن إذا عشنا الجانب العاطفي في التعبير عن تعاطفنا مع الإمام الحسين (ع) دون أن ننسى الجانب العقلي والسياسي والاجتماعي، فلا مشكلة. أمّا إذا لطمنا على الحسين (ع) وعشنا مع يزيد، كما يفعل بعض النّاس، فتلك مشكلة. فالحسين (ع) هو قضية، وذلك هو قوله: «خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر» فالشخص الذي يعمل المنكر ليس مع الحسين (ع)، والشخص الذي يترك المعروف ليس معه، والذي يشجّع الفساد ويترك الإصلاح ليس معه. ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّه أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ[ (الصف:2-3) ولذا نكرر دائماً أنَّ الانتماء لعليّ (ع) وللحسين (ع) ولأهل البيت (ع) بصفة عامّة يكلّف الكثير، وهو متعب، وقد قال عمر: «لو وليها عليّ لحملهم على المحجّة البيضاء» فعليّ (ع) ليس لديه لون رمادي، وإنَّما لديه لون أبيض، فأن تمشي على الخطّ الأبيض وهو الخطّ المستقيم أمر صعب.

فالولاية ليست نبضة قلب ولا خفقة إحساس، وإنَّما هي عمل وخطٌّ وموقف، أن تقف حيث وقفوا، وأن تتحرّك حيث تحرّكوا.

تفريغ النهضة الحسينية من محتواها:

س: نحن على أبواب شهر محرم الحرام، فما هو الموقف تجاه بعض أصحاب المنابر الحسينية الذين يفرغون النهضة الحسينية من محتواها الأساسي؟

ج: الأمر يتطلب من أصحاب المنابر أن يثقفوا أنفسهم وأن يطرحوا العناوين الحسينية للنهضة أكثر من طرحهم المأساة الحسينية، وليس معنى ذلك أنّنا نتنكر للمأساة فأنا من القائلين أنه لا بدّ أن تبقى الفكرة الحسينية مغسولة بالعاطفة، ولكن علينا أن نعرف كيف نستخدم أساليب العاطفة، لأنّ أساليب العاطفة تتطّور مع الزمن، ولذلك يمكن أن تكون بعض الأساليب متوارثة منذ مئة سنة وربما كانت مفيدة في حينها ولكنها أصبحت الآن مضّرة، فأولاً لا بدّ من أن يكون هناك تجديد في الأساليب، فأنا مثلاً أدعو إلى تغيير الشعر الحسيني إلاّ قصائد معينة، لأن هذا الشعر قد نظم من خلال بيئات سابقة كانت تحاول أن تصوّر القضية الحسينية بطريقة تتناسب مع تقاليد وذهنيات ذلك العصر، ونحن نحتاج إلى شعر حسيني، سواء كان شعبياً أو قريضاً، يتناسب مع المرحلة التي نعيشها ومع ذهنيات الشباب والجيل المعاصر في إثارة العاطفة، كما نحتاج إلى تنقية المضمون بإبعاد الخرافة عن السيرة الحسينية، فالبعض يحاول دائماً أن يقدم السيرة بشكل خرافي جداً وربما خارق للتصور أو منافٍ للعقل والمنطق لإثارة العاطفة، ولذا نحتاج إلى إن نوثق الأحاديث بنحو لا تتحدث إلى ما تتسابق العقول إلى تكذبيه، فلو لدى الخطيب ذوق أدبي وكان عنده فن أدبي وكان يستطيع أن يطرح الأشياء الصحيحة في عاشوراء ويصورها تصويراً فنياً وأدبياً مؤثراً فإنّه يمكن أن يجعل الناس يبكون من دون إضافة أشياء أخرى من غير الحق. ألم نقرأ روايات أو نشاهد أفلاماً ليس لها علاقة بعقيدتنا ولا بتاريخنا ولا بحياتنا ونبكي عند مشاهدتها؟ إن العاطفة لها أسلوب خاص، فيجب أن تعرف كيف تحرك العاطفة بحيث يستشعر الإنسان الحزن ويعيش القضية حيّة حارة، ما يخلق لديه وعياً ولا يخلق تخلفاً. ولذلك فقد أصبح المنبر الحسيني يحتاج إلى ثقافة من أعمق ومن أوسع الثقافات، فلا يكفي أن يحفظ الخطيب بعض القصائد ليرددها على مسامع الناس الذين فيهم المثقفون وفيهم أناس من مذاهب أخرى ومن أديان أخرى، فلا يجوز أن نأتي بأشخاص جهلة متخلفين لقراءة مجالس الحسين، لأننا بذلك نقوم بتشويه صورة الإسلام من حيث لا نقصد، فالكثير من الخطباء مخلصون لكنهم تعوزهم الثقافة التي تجعلهم بمستوى مهمتهم.

الاقتداء بسيرة الحسين(ع)

س: كيف يتم الاقتداء بسيرة الحسين(ع) حين قال: "لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما"، بينما نرى المسلمين اليوم يهادنون الظلم الواقع على إخوانهم في أغلب أرجاء العالم؟

ج: لا أتصور أن الواقع الإسلامي كما يصفه السؤال، وإلاّ كيف نفسّر واقع المسلمين في فلسطين؟ كيف نتصور واقع المسلمين في لبنان أيام الاحتلال وحتى الآن؟ كيف نتصور واقع المسلمين في العراق الذين يواجهون الطاغية؟ كيف نرى واقع المسلمين الآن في مقدونيا كما كان في كوسوفا وفي البوسنة والهرسك وكما هو الآن في كشمير، القضية هي أن لكل بلد إسلامي شغلاً بمشاكله عن مشاكل بلدان العالم الإسلامي الأخرى، فلقد شغل الاستكبار العالمي المسلمين عن المسلمين بما خلق في كلّ بلد إسلامي من مشاكل استهلكت كلّ نشاطه، صحيح أنه لا بد أن يقف المسلمون وقفة واحدة مع كلّ قضاياهم، لكن علينا أن ندرس القضايا حتى لا نعطي حكماً ارتجالياً غير مدروس ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها. نحن لا ننكر أن هناك تقصيراً ولكن ليس بهذا المستوى الذي يتحدّث عنه السؤال، فأنا أعتقد أنه لا تزال لدينا روح إسلامية يتحسسها المسلمون، وهذا ما نعيشه الآن مع القضية الفلسطينية وما عشناه أيام البوسنة والهرسك، ولكن بعض المسلمين لا يعرفون حقيقة بعض القضايا، فأنا أعتقد مثلاً أن القضية العراقية ومأساة الشعب العراقي، سواء من خلال مأساته في الداخل من خلال قمع النظام الذي يحكمه أو الخارج من خلال الحصار الذي يسيطر عليه، غير واضحة لدى الكثير من الناس، ذلك أن اأغلب الناس في العالم الإسلامي أو العربي لا يعرفون ما يجري في العراق على حقيقته، ولا يتصورون أن أسلوب الاستكبار العالمي الأميركي والبريطاني في قصف المواقع العراقية بين وقت وآخر تجعل من حاكم العراق البطل القومي أو الإسلامي عند كثير من الشعوب، فهناك تقصيرٌ فوق العادة في شرح القضية العراقية لأكثر من شعب إسلامي وشعب عربي، لأن هناك فريقاً من المعارضين مشغولين بأنفسهم مع كل محبتنا للمخلصين منهم.

عدم التحاق الصحابة بركب الحسين(ع):

س: كيف تفسّرون عدم التحاق عدد من الصحابة والتابعين وفيهم محمد بن الحنفية وابن عباس بركب الحسين(ع) وهو الإمام المعصوم في ضوء ما ورد من أن "من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجبنا.."؟

ج: ليس من الضروري أن كلّ من كان من أقرباء الحسين(ع) كانت له مسؤوليات في الحرب، فبالنسبة إلى محمد بن الحنفية كان الحسين(ع) يحتاج إلى شخصية في مستواه لكي تبقى في المدينة، حتى روي أن تكون تلك الشخصية عيناً له وتدرس الوضع من بعده وتحفظ التوازن عندما ينطلق بنو أمية في إشاعات كاذبة أو في تشويه صورة حركة الحسين(ع)، ولم يكن غير محمد مؤهلاً لذلك. وأما ابن عباس فربما كان في وضع صحي لم يسمح له بالالتحاق، بل حتى محمد بن الحنفية يقال أنه كان في وضع صحي صعب، وكان يمكن للحسين(ع) أن يستفيد من ابن عباس وابن الحنفية فيما لو فرضنا أنهم ذهبوا معه إلى الحرب للاشتراك فيها، لكنّه أفاد من بقائهما أكثر للإعلام والتخطيط وهكذا، فالخطاب ليس موجهاً لأمثال هؤلاء.

وصية في الأربعين:

س: بماذا توصون أولادكم في مناسبة أربعين الإمام الحسين(ع) من حيث إحيائها، ومن حيث الإفادة منها روحياً وفكرياً؟

ج: عندما نعيش أربعين الإمام الحسين(ع) كما عشنا عاشوراء الإمام الحسين(ع)، فإنّ علينا أن ننفتح على الحسين(ع) من حيث هو أولاً النموذج الأمثل الذي يمثّل أعلى القيم الإسلامية، والذي يمثّل أعلى درجات الوعي الإسلامي والمحبّة للمسلمين جميعاً والمسؤولية الكبرى في كلّ قضاياهم بالمستوى الذي اندفع فيه في ظروف معقّدة كانت لا توحي بالانتصار، بل ربّما توحي بغيره، ولكنّه كان يتحرّك لأنّه سمع صرخات المسلمين المخلصين من الواقع الذي كانوا يعيشون فيه، ولهذا انطلق (ع) ليقول "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي" وليغيّر الواقع بالرغم من كلّ النتائج السلبية التي ربما تنعكس عليه.

كان يعيش الرسالة بكلّه، كان يعيشها بعقله وبقلبه وبمشاعره وأحاسيسه، وكان ينفتح على الله بكلّ هذه الروحية الإنسانية التي بلغت أعلى درجة في الإحساس الإنساني بالناس، "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق"، فليست المسألة أنه يقبلني الناس بشخصي، لأنّ الحق الذي أتحدث به وعنه وأدعو له هو الذي يرتبط بالله {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل}[الحج:63] "ومن ردّ علي أصبر"، فأنا لا أقاتل الذين يردون عليّ "حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين"، لأن مسيرتي هي مسيرة داعية تختزن الدعوة في خطّ الثورة، أي في معنى تغير الواقع بالطريق السلمي إن أمكن للواقع أن ينفتح على السلم، أو بطريق العنف أو الحرب عندما لا يكون هناك مجال إلاّ للحرب، وذلك عندما قالوا له "إنزل على حكم بني عمك" وحينذاك قال: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد"،لأنّه هو الذي يمثّل الشرعية الإسلامية، ولذلك فإنه ليس مستعداً أن يعطي الشرعية لمن لا شرعية له، ولهذا قال: "ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلة وهيهات منا الذلة". إنّني أريد للمسلمين جميعاً أن يتّحدوا تحت راية إسلامهم، ونحن إنّما نطرح الحسين (ع) كعنوان للوحدة الإسلامية، لأنّ الحسين(ع) هو الإنسان الذي يلتقي المسلمون على محبته ومحبة أخيه الحسن(ع)، لأن رسول الله قال: "اللهم إنّي أحبّهما فأحبهما وأحب من يحبهما".

وعندما ندرس الإمام الحسين(ع)، فإننا ندرس الإسلام كله، وندرس القضية الإسلامية في حركتها في الواقع عندما ينحرف المسؤولون عن خط الإسلام، فتنبري القيادة من أجل أن تصحح الانحراف وأن تقوّمه.

لذلك خذوا من الحسين(ع) كلّ معنى الحسين مما يمثله من النموذج الإنساني الأمثل، وخذوا من الحسين بأن تكونوا أصحاب القضية.. لقد مضت كربلاء مع التاريخ وبقيت دروسها وإيحاءاتها، وبقيت خطوطها وحركيتها، ولنا ـ أيها الأحبّة ـ في هذا العصر أكثر من كربلاء في مواجهة الاستكبار العالمي والصهيوني وفي مواجهة أكثر من استكبار محلي.. لا تكتفوا بأن تعطوا الحسين(ع) دموعكم.. ولا تكونوا الحياديين الذين يلعنون يزيد في التاريخ ويخضعون لألف يزيد في الواقع، والذين يحتجون على قتل الحسين(ع) في التاريخ ولكنهم يقتلون أكثر من حسين في الواقع قتلاً مادياً أو معنوياً لمصلحة أكثر من يزيد..

إنّ الحسين (ع) قضية، فإذا أردتم أن تكونوا مع الحسين(ع) فليكن كلّ واحد منكم قضية، وبذلك يتحول إلى نشاط في عمق القضية وامتدادها ولا يسجن نفسه في داخل ذاته. إنّ مشكلتنا هي أننا نعيش الحسين(ع) دموعاً قد تكون باردة، ونعيش الحسين(ع) دماءً قد تكون ضائعة، ونعيش الحسين(ع) تقاليد قد تكون بالية ومتخلفة، لأن ذلك لا يخسرنا شيئاً، أمّا القضية فربّما تكلّفنا حياتنا، ولذا أقول لكم ـ أيّها الأحبة ـ إنّ الانتماء إلى الإسلام يمثل مسؤولية ثقيلة، والانتماء إلى أهل البيت يكلّف تعباً كثيراً، ولكن بعض الناس لا يحبّون أن يتعبوا في الحاضر ولكنهم يستغرقون في التاريخ، لأنّ التاريخ لا يخسرهم شيئاً، فلو برز الحسين الآن(ع) فكم يا ترى سيحصل من الأصحاب لدى الذين يحركون السيوف على رؤوسهم ولا يحركونها ضد أعدائهم.

هذه هي القضية، فلقد أدمنّا التخلّف وقدّسناه، ومن أصعب حالات الأمة وأزراها أن يكون الجهل عندها مقدساً، وأن يكون التخلّف مقدساً، وأن تكون الخرافة مقدسة، وأن تسقط القداسات الفعلية الحقيقية في ظل ما ابتدعته العقلية الخرافية من قداسات.

ثورة الحسين(ع) الهدف والبرنامج:

س: فيما يخص ثورة الإمام الحسين، هل يجوز أن ننسب إلى ثورة الإمام الحسين أهدافاً غير متوقعة الحدوث، أو قل غير محتملة أصلاً، كطلب الحكم والسلطة حتّى ولو لأجل بناء الإسلام، أم أنَّه شعار تعبوي كي لا تُصبح ثورة الإمام الحسين أشبه بالانتحار وإلقاء النفس بالتهلكة كما عبّر بهذا الرأي الشهيد السيِّد محمَّد باقر الصدر رضوان اللّه عليه.؟

ج: الاستغراق في المأساة أسهم في تكوين رأي لا ينسجم وثورة الحسين (ع)، ومن ذلك أنَّ خروج الحسين (ع) من المدينة إلى مكة ومن ثُمَّ إلى العراق لـم يكن إلاَّ بداعي القتل، وهذا غير صحيح، لأنَّ للحسين برنامجه السياسي، وكان يملك من خلال اللّه سبحانه وتعالـى على لسان رسول اللّـه (ص) شرعية الحكم، ولا شرعية لغيره، فالحسين (ع) إذاً انطلق من خلال إمامته، ولـم ينطلق كشخصٍ يعيش الثورة ومزاج الشهادة ليقتل وحسب.

الأمر ليس كذلك، ومن خلال قراءة نداءات الإمام الحسين نعرف أنَّ الإمام الحسين صاحب برنامج، وهو تغيير الواقع السياسي القائم يومذاك، ولعلّ أوّل بيان لثورته قوله: «من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم اللّه، ناكثاً بعهده، مُخالفاً لسنَّة رسول اللّه، يعمل في عباده بالإثـم والعدوان، فلم يغر عليه ـ أو فلم يغير عليه ـ بقول ولا بفعل كان حقّاً على اللّه أن يُدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشَّيطان وتركوا طاعة الرحمن واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام اللّه وحرموا حلاله وعطّلوا الحدود»، ولنلاحظ في فقرة أخرى «وأنا أحقّ من غيَّـر» أي جئت للتغيير، والتغيير هنا هو تغيير كلّ الواقع، ومنه الحكم ومن أعلى المستويات، وبالتحديد رأس الحكم الذي أعلن أنَّه حكمٌ غير شرعي «اتخذوا عباد اللّه خولاً ومال اللّه دولاً» يعني تقاسموا مال اللّه، واتّخذوا النّاس عبيداً، وهم عباد اللّه.

ثُمَّ في كتابه لأهل الكوفة وكتابه لأهل البصرة ينقد الواقع السياسي ويثير النّاس ضدَّ هـذا الواقع عبـر خلق وعـي سياسي ينهض بالمسلمين ويحمّلهم مسؤولياتهم، وهو القائل (ع): «إنّي لـم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مُفسداً وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فَمَنْ قَبلني بقبول الحقّ فاللّه أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ أصبر حتّى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين». وهو الذي لـم يترك فرصة إلاَّ ودعا إلى هذه المبادئ التي أعلن الثورة لأجلها، فحاجَّ الحرّ بن يزيد الرياحي وجماعته حين التقاهم في الطريق، وأخرج لهم الكتب المرسلة إليه من أهل الكوفة، وأقام عليهم الحجّة «لـم آتِ حتّى أتتني كُتُبَكم أن أَقْدِِم علينا فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار». وكم وقف خطيباً في كربلاء يستنقذ حتّى أعداءه من الانحطاط، ولـم تنتهِِ الأمور إلاَّ عندما قيل له انزل على حكم بني عمّك، فقال: «لا واللّه لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد»، «ألا وإنَّ الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلَّة والذلَّة وهيهات منَّا الذلة»، وعليه فقد خرج الحسين طالباً لحكم الإسلام، وليس في ذلك ما يتهم به، فإنَّ خروجه للحكم لا يعني أنَّه خرج تلبيةً لطموحاته الشخصية، فالحسين أعظم وأعظم من ذلك، واللّه خصّه وأهل الكساء بقوله: ] إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً[ (الأحزاب:33). وهم الطهارة كلّها والصفاء كلّه والنقاء كلّه والمثالية والسموّ الروحي كلّه.

لكنَّ الحسين مثل أبيه، فعليّ (ع) لـم يطلب الحكم لذات الحكم، وهو القائل عن الإمرة: «إنَّها أعظم من إمرتكم هذه إلاَّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً» أي لا أريد السلطة لنفسي، وقوله: «ليس أمري وأمركم واحداً، إنَّني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم». وللأسف لا زلنا لا نفهم الحسين، فيكتفى بالجانب المأساوي، حتّى وصل الأمر إلى أن يكون عندنا الحديث عن الحسين (ع) مقتصراً على النَّعي وإثارة الدموع وحسب، وهو أمرٌ حسن ومهم كما ذكرنا مراراً، لكن نحتاج إلى التفكير بمبادئ الحسين وبرنامج ثورته.

ليلة باسم زينب(ع):

س: بعض ليالي عشرة عاشوراء معنونة ببعض الرموز، فلماذا لا تعنون ليلة لزينب(ع) وهي لا تقلّ شأناً عن تلك الرموز لينطلق منها الحديث عن المرأة في كربلاء؟

ج: إن زينب (ع) كانت قد عاشت مع كلّ الرموز في كربلاء، لذلك لا نستطيع أن نذكر أي رمز في عاشوراء إلا ونجد أن زينب تمثل عمق هذا الرمز وهي رفيقته.

وعلينا دائماً أن نذكر زينب(ع) أمام قضية المرأة في العالم، وهي من القضايا التي أصبحت تشغل أذهان العالم، كما في مسألة العنف ضد المرأة، ومسألة حقوق المرأة السياسية والاجتماعية، وحقوق المرأة في الأسرة، ورفع مستوى المرأة من الناحية العلمية، سواء في (يوم الأم) أو في (يوم المرأة العالمي) أو في أي وقت آخر.

إنّ علينا كمسلمين أن ننطلق من أجل أن نتحدث عن دور المرأة، ونستطيع أن نستفيد الشيء الكثير من دور المرأة المسلمة في بداية الدعوة، ومن شخصية السيدة العظيمة فاطمة الزهراء(ع) وشخصية السيدة زينب(ع) وكثير من الشخصيات النسائية الأخرى. لكن مع الأسف فإن زينب (ع) في عاشوراء ـ وبحسب تقاليدنا ـ مجرد نائحة تنتقل من خيمة إلى خيمة ومن شهيد إلى شهيد وهي تندب عشيرتها.

إن زينب ـ أيها الأحبة ـ أعظم من ذلك، فموقفها في كربلاء هو موقف الإنسانة القائدة التي لن تذرف إلا بعض الدموع كما في السيرة الحسينية الصحيحة، فلقد كانت صامدة كصمود الحسين(ع), وعظمة زينب تتجلّى في مجلس ابن زياد، وفي خطبتها بأهل الكوفة، وعندما كانت تأخذ الخبز والطعام من فم الأطفال وترفض الصدقة من أهل الكوفة، وعظمة زينب في خطبتها في الشام في مجلس يزيد:"فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فإنك لن تمحو ذكرنا ولن تميت وحينا". هذه هي زينب وليست النادبة "إهنا يا أهل الشيم هذا محلكم"، وإلى آخر ما هناك مما يسيء إلى شخصيتها العظيمة، حتى لقد صوّرها بعض الشعراء والخطباء كامرأة من البدو، تتحدث بلغة البدو وإذا سألتهم قالوا هذا لسان الحال. إن لسان حال زينب(ع) هو القوة والبطولة والعنفوان، ولسان حالها هو لسان آل بيت محمد(ص).

و- الإمام الصادق(ع):

الصادق(ع) وإقبال الدنيا:

س: يقول الإمام الصادق(ع): "إن الدنيا إذا أقبلت فأحق الناس بها أخيارها". أرجو بيان التحليل المنطقي للإقبال والأحقية، هل هي لحملة العلم؟

ج: إنها لحملة العلم الذين يأكلون المال الحلال ولا يكون المال كلّ همهم، وللذين لا يبخلون بعلومهم على الناس فيتحركون من بيت إلى بيت ومن موقع إلى موقع ليثقفوا الناس، ولحفظة القرآن الذين يحفظون القرآن ويتلونه إذا كانوا بحاجة إليه، وللفقراء المتعفّفين. والمهم أن الإنسان إذا قام بواجبه وأدّى رسالته وكان في طاعة الله فهو أحقّ بالدنيا من الذين يعصون الله ولا يقومون بواجبهم.

ز- الإمام المهدي(ع):

عصر ظهور الإمام (عج):

س: البعض يعتقد أنَّ هذا العصر هو عصر ظهور الإمام الحجّة (عج)، فهل يمكن لنا أن نعتقد بذلك؟

ج: يقول تعالى: ] إنَّهم يرَوْنَهُ بعيداً * ونراهُ قريباً[ (المعارج:6ـ7). ولكن كما أكّدنا أكثر من مرّة أنَّ هذا ليس مسؤوليتنا، فاللّه الذي جعل حكمته في غيبته سوف تظهر حكمته أيضاً في ظهوره. أمّا مسؤوليتنا فهي كيف نحضّر الأجواء المناسبة له، ألسنا نقول: «اللّهمَّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة تعزُّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك»، فكيف ذلك دون أن ندرس ودون أن نقرأ ودون أن نتثقف؟ كيف تصبح داعية وأنت لـم تتوافر على شروط الدعوة إلى اللّه؟ كيف تنتظره وأنت لا تدعو زوجتك ولا أبناءك إلى طاعة اللّه؟ وليس لديك ثقافة الدعوة الاجتماعية والدينية والحركية؟

«والقادة إلى سبيلك» بأن تجعل نفسك مشروع قائد، بأن تنمّي عناصر القيادة في نفسك. «وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة» فعلينا أن نتحرّك بالطريق الذي يأتـي به الإمام (عج)، وهو إنَّما يأتي ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، وعلينا أن نكون مع خطّ العدل، فهو يأتي من أجل العدل العالمي، فمن منّا يفكّر بالعدل في بيته؟ ومن الذي يقوم بحقوق زوجته بالعدل؟ أو هل أنَّ الزوجة تقوم بحقوق زوجها بالعدل؟ ومن هو العادل مع أولاده ومع جيرانه؟ هل نكون كبعض من يقول: «يسقط الظلم يعيش العدل» وأهل بيته أشقى النّاس به؟ هل نعدل مع بعضنا البعض حتّى نمهد الطريق لظهور العدل المنتظر؟

علامات الظهور:

س: هل تعتبر أحداث العالـم حالياً من علامات ظهور الحجّة (سلام اللّه عليه)، وهل يمكن استعلامها لتوضيح عالمية الإسلام والعودة إلى القرآن؟

ج: نحن لا نملك معرفة العلامات القريبة وبشكل واضح، ولكن ] إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً[ (المعارج:6ـ7)، والقضية ـ كما بيَّنت لكم في هذه الندوة وفي غيرها ـ من غيب اللّه سبحانه وتعالى، هو اختار له ( سلام اللّه عليه) الغيبة وهو الذي يظهره، ولذا ينبغي أن نلتفت إلى مسؤولياتنا، وأن نكون على استعداد لاستقباله، وأن لا نكون أوّل من يتخلّف عنه، وأن ننصره ولا نخذله، ولذلك لا بُدَّ أن نبدأ بأنفسنا، فنمهِّد للعدل الذي يعمل له، لأنَّه «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً» فليس من المعقول أن نفتش في هذا الكتاب أو ذاك، ونتخلّف عن تكليفنا الحقيقي، أن نفتش في هذه الكتب ونحن نتنكر للعدل الذي يهدف الإمام (ع) إقراره في العالـم.

ويُقال: إن شخصاً كان قد التزم بعض الأوراد والأعمال التي يمكن معها أن يتشرف بلقاء المهدي (عج)، فكان أن أنهى هذه الأعمال وأخذ ينتظر لقاءه، فإذا به (عليه السَّلام) يدخل عليه داره، فرحَّب به وأخذ يظهر له الولاء، لكن فوجىء عندما قال له الإمام (ع) إنَّ البيت الذي يسكنه وقفٌ لا يجوز له سكناه، وإنَّ زوجته أخته من الرضاعة فلا بُدَّ أن ينفصل عنها، فلمَّا سمع بذلك، أخذ يفكّر في التخلّص من الإمام (ع). فهل يكون حالنا حال هذا الرّجل. وهذه القصة من باب المثال، ولكن لها واقعاً، ولذلك لا بُدَّ أن نستعدَّ لعدل الإمام (ع) ونكون من أنصاره حقيقة. فكيف نكون من أنصاره ومنَّا من يظلم زوجته ويظلم جاره وأولاده ويظلم شريكه. هل ينسجم هذا مع مشروع الإمام المهدي (عج)؟!

نحن في ظلِّ غيبة الإمام المهدي (ع):

س: أليس وضعنا اليوم كوضع بقية المذاهب في غياب إمامٍ معصوم، فيوجد الأحاديث الضَّعيفة والمتضاربة في كتبنا ويوجد الاختلاف بين فقهائنا، فما الذي يميِّزنا كإماميين، وكيف نستطيع إثبات استمرار النُّبوة بالإمامة في ظلِّ غياب المهدي (ع)؟

ج: ورد في التَّوقيع الشَّريف الصَّادر عن الإمام المهدي (ع) قوله: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» وغير ذلك ممّا ورد عن الأئمَّة (ع)، إذ بينوا أنَّ كلَّ ما يحتاجه النَّاس فهو ممّا يرجع فيه إلى الفقهاء، وفقاً لما ورد عن الأئمَّة (ع)، ما أسسوه من قواعد ومعايير وسهروا على صيانته وحفظه. أمَّا بالنِّسبة للإمامة والحاجة إليها ومسألة غيبة الإمام المهدي (ع)، فهي ممّا استُدل عليها مفصلاً مما لا مجال للحديث عنه في المقام.

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الراب

 

 

 

 

 

 

المسائل الفكرية

 

 

 

 

 

 

 
 


موقف الإسلام من الحظّ:

س: ما هو موقف الإسلام من الحظّ، وما تفسير قوله تعالى{وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}[فصلت:35]؟

ج : الحظّ هو عبارة عن النصيب، فلكلّ إنسان نصيبه، لكن من أن يأتي نصيب الإنسان؟ إنّه يأتي من الأسباب الموجودة في الكون، فالله سبحانه وتعالى جعل لكلّ شيء سبباً، فقد يعيش شخص في ظروف بلد مجدب وآخر في بلد خصيب، وقد يعيش شخص في بلد توفر فيه ظروف العمل والظروف الصحية المناسبة. فهذه قضايا تنطلق من خلال طبيعة النظام الكوني فيما يختزنه من أسباب، وطبيعة النظام العام للناس، وأمّا قوله تعالى {وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم}.فالظاهر ـ والله العالم ـ أنّه ذو حظ عظيم من الوعي ومن الإيمان، وذلك من خلال ما سبق هذه الآية {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة وكأنه ولي حميم}[فصلت:34]. فالأسلوب الذي يحوّل الأعداء إلى أصدقاء يحتاج إلى أن يصبر الإنسان على عصبياته وأن يكون عنده حظّ عظيم من الوعي ومن الإيمان.

إنتاج الحضارة:

س: متى يمكننا أن نصنع حضارة كما صنع أسلافنا؟ متى نصبح منتجين للحضارة لا مستهلكين؟ فما زلنا إلى الآن نتغنّى بالتراث والحضارة؟

ج: إن الفرق بيننا وبين الجماعة الماضين أنهم كانوا لا يسألون أنفسهم متى نصنع الحضارة، بل كانوا يبدأون بصنع الحضارة، وكانوا يجرّبون أن يصنعوا ما يمكنهم من عناصر الحضارة، وأن يأخذوا بأسبابها، بينما نحن نقضي وقتنا بالسؤال وبالتمنيات على طريقة ذلك الشاعر الذي يقول:

منى إن تكن حقاً أعذب المنى              وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

علينا أن لا نقضي الوقت بالتساؤل، بل علينا أن نقضي الوقت بالعمل، ذلك أنّ مشكلتنا هي أننا نتلهى بالهوامش ونحاول أن نسقط الذين يريدون أن يوجهونا نحو الحضارة، لأنّها تكشف تخلّفنا للآخرين، فالمتخلّفون عندنا هم الذين يقودون أكثرية الساحات، وهم الذين يعطون لأنفسهم قداسة، ومن المؤسف أن تأتيهم القداسة دون قداسة.

عدم تقبّل العنوان الإسلامي:

س: نحن أمام واقع يفرض نفسه علينا بقوة ويستحيل فيه أن نستعمل المفردات الإسلامية لأنّها لا واقع لها اليوم، فالأرضية غير مهيأة لتقبّل العنوان الإسلامي في ظلّ الغزو المعلوماتي والفضائيات وليس الدعاة والمبلّغون إلاّ كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه؟

ج: هذا أول وأخطر الهزيمة، وهو بأن ننهزم نفسياً. فالفضائيات هي أجهزة بثّ واستقبال والإنترنيت هو كذلك شبكة معلوماتية، وهي فن جديد يمكن أن نتحرك من خلاله، فلماذا لا يتعقّد الآخرون من هذه الأجهزة المتقدمة ويحاولون أن يستفيدوا منها في بثّ ما لديهم ولا نحاول نحن ذلك؟ كيف يكون دعاة التبليغ كباسط كفيه إلى الماء والإنترنيت والفضائيات بين أيدينا؟! ولكننا ـ مع كلّ الأسف ـ مستعدّون أن نبذل الملايين لبناء حسينية بين كم كبير من الحسينيات أو مسجد في كثافة من المساجد، لكن لسنا مستعدين أن نبذل الملايين لإنشاء فضائية إسلامية عالمية لأنّ الذهنية السائدة ذهنية ضيقة.

وأعتقد أن هناك تجارب إسلامية من جهات مسلمة سنيّة وشيعية بدأت تستفيد من الفضائيات ومن الإنترنيت وتتحرك في خط المعلوماتية، لكن المسألة هي أن هناك مراكز قوة لا نملكها ، ولكن ليس معنى ذلك أن ننسحب من الساحة، بل أن نحرّك قوتنا بحسب ما نستطيع، ومن الممكن جداً أن يعيد التاريخ نفسه، فالنبي(ص) كان واحداً وكانت كلّ القوة مع المشركين وأصبحت القوة معه عندما بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

المهم أن تثق بنفسك وبدينك وأن تدخل التجربة ولا تقف في أول الطريق لتندب حظك لأنّ الآخرين يسيرون وقد سبقوك فيه أشواطاً.. حاول أن تخطو الخطوة الأولى وسوف تجرّك إلى الخطوة المليون، لأنّ المهم أن تقرر الحركة، لكن المشكلة أن الكثيرين منّا يخافون أن يصيروا أقوياء لأنهم أدمنوا الضعف، ولأنّ القوة تتعب، ولهذا فهم يحبون دائماً أن يبقوا تحت ضغط الطغاة، وتحت ضغط التخلّف يرددون "اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجّنا من الشرير".

إن أمتنا يراد لها أن تعيش إرادتها في حركية القوة عندما يبدأ الناس ممارسة القوة، ولقد طرحت معادلة ما زلت أكررها في الصحافة وفي الأحاديث وهي أن في الضعف عنصر قوة وأن للقوة عنصر ضعف، فليس عندنا ضعيف بالمطلق وليس عندنا قوي بالمطلق، وعلينا أن نواجه القوي في نقاط ضعفه، لكنّ الذي نعمله الآن هو أننا نواجه نقاط قوة القوي بنقاط ضعفنا، وعلينا أن نلاحظ تجربة المجاهدين في لبنان وتجربة المجاهدين في فلسطين، فإسرائيل أقوى من الناحية المادية من المجاهدين في لبنان وفلسطين، ولكنّ المجاهدين في لبنان وفلسطين اكتشفوا عناصر ضعف العدو وعناصر قوته، فضربوه في مناطق ضعفه بعناصر قوتهم فانتصروا. ولذلك لا بدّ أن نفهم الحياة ولا نبقى مستغرقين في الأحلام والخيالات، فنحن ـ مع الأسف ـ نعيش في غيبوبة وكثير من الذين يخطبون ويوجّهون وينظّرون يعمّقون هذه الغيبوبة التي اختصرها الإسلام بكلمة {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}[ق:22].

أسلوب الحوار القديم والجديد:

 * ما الفرق بين أسلوب الحوار في الماضي وأسلوب الحوار العصري، بيّنوا لنا ذلك ببعض الأمثلة؟

- الأساليب القديمة كانت أساليب رائدة مما يحتاجه العصر، وأساليب الحوار الآن تعرف ذهنية العصر وحاجاته وتطلعاته، ثم تحاول أن تقدم الإسلام من خلال أنه الدين الذي يستجيب لمشاكل الإنسان المعاصر، وهذا الأمر يخضع للثقافة التي يملكها المحاور، لأنك لا تقدر أن تحدد مفردات الحوار إلاّ من خلال طبيعة المحاور الآخر من حيث ثقافته ومن حيث القضايا التي يثيرها وما إلى ذلك.

الافتخار بالقومية:

* هل حرام عليّ بأن أنّني من القومية العربية؟

- عليك أن تفتخر بالقيم الموجودة في الأمة العربية لا أن تحوّل قوميتك إلى صنم تعبده، وأن لا تكون قوميتك قوميةً متعصبّة تنكر على الآخرين قوميتهم. فلا مانع في الإسلام من أن يعيش كلّ واحد قوميته، فأنا عربي ولا أنكر عروبتي، وللعرب فضائل وقيم ولهم أيضاً رذائل كما لكلّ الشعوب الأخرى. ولكنّ الإمام زين العابدين(ع) حدّد حدود القومية والانتماء إليها والتعامل معها فيما روي عنه أنه قال «إنّ العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين» وهذا قول البعض يعني: الشرير فينا أحسن من الخيّر فيهم «وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه ولكن أن يعين قومه على الظلم»([850]). فعندما يدخل قومك في ظلم الآخرين عليك أن تكون مع مبادئك ضد الظلم وضد قومك إذا كانوا ظالمين. وقد ورد أنّ شخصاً سأل النبي(ص) عن هذه الكلمة وهي كلمة ليست نبوية بل كانت موجودة في الجاهلية وكانوا يتداولونها والنبي(ص) أراد أن يغيّر له معناها وهي: «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». قال يا رسول الله قد عرفت كيف أنصره مظلوماً، ولكن كيف أنصره ظالماً؟ قال «أن تمنعه عن الظلم بأن تنصره على نفسه» وعلى شيطانه وعلى عصبيته.

تمجيد ماضي العرب وحاضرهم:

* العرب دائماً يتكلمون عن كرمهم وشجاعتهم في الماضي وحتى الحاضر، فهل هذا فيه نوع من العجب أو السمعة أو الرياء؟

- لقد استهلكنا مع الأسف كلّ كتب الحماسة، فعندنا دواوين الحماسة الكثير (حماسة البحتري) و(حماسة أبو تمام) وغيرهم ممن ملئوا أشعارهم وخطبهم حماسة، في حين كان اليهود يحاولون أن يمتلكوا الشجاعة مما جعل العرب ينسحبون من الحرب لأنّهم يغطون في النوم على أمجاد ماضيهم، فمنذ البداية قالوا لنا نحن مع السلام الاستراتيجي ولا نريد أن نحارب فأسقطوا الحرب. وقالوا نريد أن نعطي (شارون) فرصة ونعطي لفلان فرصة والأعداء يحاربون ويستعدون باسم الإسلام، والعرب يقدمون كل التنازلات باسم السلام ويتغنون بأمجاد الماضي، هذه هي المسألة.

إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا                         ليس الفتى من قال كان ابي

نعم، فالمجاهدون الذين يجاهدون هم الذين يمثّلون نقطة الضوء في الواقع العربي، أمّا عالم الأنظمة ومن يتحركون في خطّ الأنظمة فإنهم يمثلون الجماعة الخاضعة للاستكبار العالمي. وإذا تحدثّنا عن الكرم العربي فإنّ علينا أن نتحدث عما يقدّمه العربيّ فرداً أو دولة للعربي الآخر لتلبية حاجاته الاقتصادية أو العسكرية أو التربوية أو الاجتماعية في حال السلم أو الحرب، فهذا هو التعبير القيمي عن الكرم في معنى أخلاقية الأمة خصوصاً أن الواقع العربي يعاني من مشاكل كثيرة في حاجاته الحيوية، بينما يعيش البعض على مستوى الدول أو الأفراد الثراء الفاحش في إمكاناته المادية التي لا يحرّكها في ضرورات الأمة بل في أوضاع الترف الفارغ، أو في حاجات المستكبرين، أو في خط توجيهاتهم السياسية حسب مصالحهم الاستكبارية.

الحوار المذهبي:

* في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها أمتنا هل علينا حفظاً لوحدة الأمة تجنّب الحوار المذهبي حتى لو كان هادئاً وهادفاً؟ أم بالعكس تكون خطورة الظروف ملزمة لنا بالمصارحة وترك المجاملة والصدق مع النفس؟

- عندما تكون الأمّة في حالة طوارئ بمعنى أنّ العدو يريد أن يسقط كلّ كيانها فمن الطبيعي أن نجمّد كلّ خلافاتنا ألاّ ما يتصل منها بالقضايا المصيرية، وليس معنى ذلك أن نستهين بالتزاماتنا الفكرية سواء كانت التزامات دينية أو مذهبية أو سياسية، فلكلّ إنسان الحق أن يلتزم فكره من خلال اقتناعه به، وله الحق أن يدافع عن فكره. لكن عندما يؤدّي هذا النوع من الحوار المذهبي إلى إثارة الحساسيات فإنّ العدو يمكن أن ينفذ من خلال ذلك.

ونحن نعلم أنّ المسلمين منذ 1400 سنة وهم يتناقشون مذهبياً ولم تحل المشكلة حتى الآن، بقطع النظر عن الأسباب الكامنة وراء ذلك، فلا بد من أن نجمّد خلافاتنا حتى نستطيع أن ننتصر على العدو. فنحن نلاحظ مثلاً أنّ الخلافات بين اليهود هي أشدّ من خلافاتنا المذهبية، والله تعالى يقول: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ}(الحشر/14). ولكنّهم اتحدوا ضد المسلمين.

لذلك علينا أن لا نستغرق في زنازيننا التي وضعنا أنفسنا فيها، وعلينا أن نجمّد هذه الخلافات حتى ننتصر في معاركنا المصيرية خصوصاً في هذه المرحلة التي هي من أصعب المراحل على الإطلاق.

وقد روي أن الإمام علي(ع) عندما كان يريد الحرب في صفين مع معاوية قيل له إن ملك الروم يمكن أن يستغل هذه الحرب بينك وبين معاوية ليهجم على المسلمين قال «إذاً أكون أنا ومعاوية عليه» ولذا علينا أن نرتفع إلى مستوى علي بن أبي طالب(ع) الذي يقول «فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه»([851]). وهو صاحب الحق، لكننا ـ في الغالب ـ معقّدون ومتخلّفون ومستعدون أن نهدم الهيكل على رؤوس الجميع بشرط أن ننفّس عن تعقيداتنا الموجودة في داخل نفوسنا، فأي إسلام إسلامنا هذا الذي يقول عنه شاعر مسيحي:

أإسلام ويحكمهم يهود                        وآساد وتحكمهم ضباع؟!

فهل يعقل أننا مليار ومئة مليون مسلم و(250) عربي واليهود لا يمثلون شيئاً في الحجم العددي، ولهم الغلبة علينا؟ ولكن المسألة هي أن أكثر حكام العرب لا يدرون ماذا يفعلون مع شارون وكانوا قبله لا يدرون ماذا يصنعون ما باراك، فنحن متخلّفون سياسياً وثقافياً وغارقون في التجريد ولا نحدق في الواقع، ولقد ذكرنا مراراً أنه عندما دق الفاتح القسطنطينية كان حكماؤها يتنازعون: هل البيضة أصل الدجاجة أم الدجاجة أصل البيضة؟ ويدور النـزاع هل الملائكة ذكور أم إناث؟ ونحن اليوم كذلك وإن اختلفت الصيغ فالروحية واحدة، ولقد فتح الغازي القسطنطينية وهم مشغولون بهذا النـزاع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ونحن الآن مشغولون أيضاً بخلافاتنا فهذا يقتل هذا وهذا يكفّر هذا وهذا يضلّل ذلك والعدو يخطّط... وحدهم مجموعة من الشباب المؤمن الذي حدّقوا في العدو ولم يحدّقوا في غيره استطاعوا أن ينتصروا مع كونهم الأقلية.

تشويه سمعة الدين:

* تدور في الساحة ـ وللأسف ـ من خلال بعض المحسوبين على الإسلام محاولات لتشويه سمعة الدين، فهل أنّ هذه الممارسات تقع ضمن فتن آخر الزمان التي وردت في أكثر من مصدر قبل ظهور الحجة(عج)؟ وكيف تتم معالجة الأمور لتوحيد كلمة الإسلام في ظل ظروف نحن بأمسّ الحاجة فيها إلى توحيد الكلمة ورص الصفوف؟

- إن المشكلة هي أنّ الإسلام لا يمثل شيئاً عندنا فنحن متعصبون ولسنا مسلمين، ولو كنّا مسلمين لحافظنا على قوّة الإسلام في نفوسنا وفي مجتمعاتنا. ومن الطبيعي أن تشويه سمعة علماء الإسلام والمجاهدين منهم، وإشغال الأمة بالهوامش حيث يتكلّم هذا ضد ذاك، وذاك يدافع عن هذا، والعدو يخطّط للإطاحة بالجميع، فأية محبّة للإسلام هذه؟

ولذلك فنحن نهدم الإسلام بأساليبنا وبتخلّفنا وبأحقادنا وعصبياتنا، ولو اطلعت على قلوب بعض المسلمين لرأيت أنهم يحملون للمسلمين الآخرين ـ حتى الذين في داخل مذهبهم ـ حقداً لا يحملونه للكافرين. فنحن للأسف عندنا روح تدميرية نتربّى ونربّي عليها أبناءنا، أمّا قوله تعالى {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات/10). فلنا عنها شأن يغنينا!!

معالجة القضايا الإسلامية:

* خلال ما نشاهده ونقرأه ونسمعه فإنّ أغلب موضوعاتكم هي لمعالجة الحالة اللبنانية مع أن وظيفة المرجعية هي أن تعالج قضايا الأمّة والشعوب، فما هو ردّكم؟

- في كلّ أحاديثي السياسية ـ لو كان السائل يتابع ذلك ـ أتحدث أن أغلب قضايا المسلمين كما في خطب الجمعة وهي ـ في غالبيتها ـ تتعلق بالقضية الفلسطينية، كما تناولت في عدة خطب ولقاءات صحفية ومتلفزة قضايا البوسنة والهرسك والمسلمين في مقدونيا وفي العراق وإيران وتركيا, وأعتقد أن السائل لم يطّلع على بعض أحاديثي المسموعة أو المكتوبة أو المرئية التي تتناول معالجات لقضايا المسلمين، فلقد تحدثت بشمولية عن ذلك كلّه وعن كلّ ما يجري في بلاد المسلمين من هموم وقضايا.

ضوابط الحوار مع المسيحيين:

* تدعون لحوار والانفتاح على المسيحيين، فهل يمكن إعطاء ضوابط وحدود لهذه العلاقة من الناحية الاجتماعية والفكرية؟

- في كتابنا «في آفاق الحوار الإسلامي ـ المسيحي» هناك تفاصيل حول هذا الموضوع لأنّ هذا الكتاب يمثل نماذج تجريبية مع المسيحيين سواء مع علمائهم أو مع صحفهم أو ما أشبه ذلك، ويمكن الرجوع إليه لمعرفة إمكانات وحدود هذا الحوار.

المشورة والمخالفة:

* إذا كانت المرأة مؤهلة للتقليد والمرجعية ألا يتعارض ذلك مع ما روي عنها في الحديث «شاورهن وخالفوهن»([852]).

أي ربط بين هذا وذاك؟

- أولاً لنفهم معنى كلمة «شاورهن وخالفوهن» على حقيقتها، فبعض الناس يفهم منها أنّك إذا أردت أن تعرف الحقّ فشاور امرأتك فإذا أشارت عليك بأمر ـ حتى لو كان حقّاً ـ فخالفها على ضوء هذا الفهم الخاطئ. فإذا لم يكن يصلّي وقالت له امرأته صلّ، أو كان يشرب الخمر ونهته عنه، فهل يخالفها؟

إن معنى الحديث هو أن تعودوا النساء على المخالفة فيما يضعف دينكم وقراراتكم المصيرية ليتخلص الإنسان من مسألة الخضوع للجانب الغريزي، وهذا مثل القول: «لا تطيعوهن في المعروف كي لا يطمعن في المنكر»([853]) أي لا تطيعوهن في بعض موارد المنكر الكبيرة، وليس معنى «شاورهن وخالفوهن» إعطاء قاعدة مطلقة في إن على الإنسان إذا كان يريد أن يعرف الحقيقة أن يشاور المرأة ثم يخالفها بعد ذلك، فقد تكون بعض النساء أعقل من الرجال وأتقى وأفضل. فالإمام علي(ع) كان يشاور السيدة الزهراء(ع) فهل كان يخالفها؟ أو أن النبي(ص) كان يشاور خديجة، فهل كان يخالفها؟

إن المرأة قد يكون لها فكر، وقد يكون عندها علم، وقد تكون ذات إبداع، وكما أن عندنا نساء عاطفيات، فإن هناك كثيراً من الرجال عاطفيون أيضاً، وكما أنّ عندنا نساء متخلّفات، فكذلك عندنا رجال متخلّفون أيضاً. فالحديث يريد أن يقول إنّ الإنسان يخضع لغريزته من خلال ما يبديه من ضعف إزاء المرأة، ولذا تستعمل النساء الحسناوات لأغراض الجاسوسية كما في بريطانيا حتى أنّ هناك رجالاً سياسيين استقالوا من الوزارة لأنّهم كانوا خاضعين لامرأة جاسوسة أو ما أشبه ذلك. فالحديث إ     ذاً يراد به أن يعصم الرجل من الخضوع للإغراء، أي عوّدوهن على المخالفة في بعض الموارد فليس كلّ ما تطلبه المرأة صحيح، ويصحّ هذا حتى على الرجال، فعندما تشاور الناس أدرس عقل الإنسان الذي تشاوره فإذا رأيت عقله راجحاً وعميقاً فخذ بمشورته وإلاّ فدعها.

أمّا فيما يخصً علم وفقاهة المرأة، فإذا كانت عالمة فالفقه علم مثله مثل الطب والهندسة والقانون، ألسنا نرجع للنساء الطبيبات اللواتي يمكن أن يكنّ في أعلى درجات الطب؟ فالتقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم، وقد يكون لدى امرأة ثقافة فقهية عالية أعلى بكثير من ثقافة بعض الرجال فيمكن حينئذ أن نأخذ بفتاواها، غاية الأمر أن العرف لا يقبل هذا الشيء وإلاّ فمن حيث الأصل تقليدها جائز، ولقد قال بذلك عدد من العلماء من بينهم السيد محسن الحكيم (رحمه الله) في (المستمسك). فالقاعدة إذاً يجوز تقليد المرأة لأن التقليد هو من باب الرجوع الجاهل إلى العالم، مع ملاحظة مهمة وهي أن الحديث الذي يذكره السؤال لم تثبت صحته.

الانفتاح الفكري:

* تتكلّمون كثيراً عن الانفتاح الفكري وغيره، فما هو الانفتاح؟

- هو أن نفتح على الأديان الأخرى وعلى الأفكار الأخرى، وأن نحاورهم ولا ننغلق بوجه الأفكار الأخرى، وذلك من أجل أن يفهموا ديننا وفكرنا ونفهم دينهم وفكرهم، وإلاّ فالإنسان المغلق لا يفيد نفسه ولا يفيد غيره.

 

 

 

تقييم الوضع الثقافي:

* ما هو تقييمكم للوضع الثقافي للساحة؟ وهل تعيش ساحتنا أزمة ثقافة أم أزمة وعي؟

- إذا أريد بالثقافة معنى الثقافة الإسلامية، فنعم نحن نعيش أزمة ثقافة إسلامية، لأننا نعيش تخلّف ذهنيات من يمثِّلون الإسلام بشكل رسمي، وكذلك هناك أزمة وعي، ولكنَّنا لا نعدم المواقع الثقافية الجيدة ولا مواقع الوعي الجيدة.

ركائز بناء الشخصية:

* ما هي أهمّ الركائز المطلوب تحصيلها لبناء شخصية إسلامية متكاملة؟

- علنيا أن نأخذ بالمناهج الإسلامية والثقافية والأخلاقية والروحية، وأن نكون كما ورد في حديث بعض زوجات النبيّ(ص) عندما سئلت عن خلقه: «فقالت: أوجز أم أطنب" فقيل لها: أوجزي: كان خلقه القرآن»([854]). فعلينا أن نعيش الخطوط العامة للقرآن التي ركّز فيها معالم الشخصية الإسلامية.

الموت والعلم:

* ألا يمكن أن يتقدّم العلم فيمحو ظاهرة الموت؟

- لا، لا يمكن ذلك، لأنّ المادّة في الدنيا ليس لها قابلية للخلود.

عنوان:

* هناك من ينظر إلى العلوم العقلية نظرة سلبية، فماذا تقولون له؟

- هناك في العلوم العقلية السلب وفيها الإيجاب أيضاً، فلا يصحّ التعميم.

موقع للوحدة الإسلامية:

* نقوم حالياً بإنشاء موقع على شبكة الانترنت والهدف هو الوحدة الإسلامية بصورة عامة والوحدة الشيعية خاصّة، فهل نستطيع الاقتباس من بعض كلماتكم؟

- أكون شاكراً لكم، فكلماتنا حينما نكتبها أو نقولها فإنّما نكتبها ونقولها لكلّ الناس. كما أنّ لنا موقعاً على الشبكة يهدف إلى التوعية والوحدة الإسلامية والوحدة الشيعية بل والوحدة الإنسانية.

تسمية الديانات:

* ما سبب تسمية كلّ من الديانات السماوية باليهودية والمسيحية والإسلامية؟

- أمّا اليهودية فلقوله تعالى {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}(الأعراف/156).. يعني أقبلنا عليك، وأمّا المسيحية فباعتبار {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ}(آل عمران/19) نسبتها إلى السيد المسيح(ع)، وأمّا الإسلام باعتبار {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}(الحج/78).

تلبية دعوات القنوات الفضائية:

* هل هناك ضرورة لتلبيتكم دعوة بعض القنوات الفضائية مع أنّها معروفة بالانحراف، ألا يؤدّي ذلك إلى الخدش في مقامكم، أم أن في ذلك مصلحة؟

- إنّ المصلحة في ذلك ليست شخصية، فما دمت تستطيع أن تتكلم في الإسلام لمدة ساعة أو ساعتين وبكلّ ما تريد فلم لا تفعل والفرصة متاحة؟! نعم، هناك سلبيات لا تنكر ولكن الإيجابيات أكثر بكثير. وقد طلبت إحدى المجلات النسوية من الشهيد المطهري أيام الشاه حديثاً إسلامياً عن المرأة، وفي المجلات النسوية ـ في العادة ـ صورة فاضحة، فقيل له: هل أنت مستعد لنشر بحث حول المرأة في الإسلام؟ فقال بعد أن فكّر بالأمر: أنا مستعد، لأنّه رأى أن المجلة إذا كانت تطبع (20) ألف نسخة أو يزيد، فإن قراء المجلة من النساء والرجال الذين ليس لديهم فرصة للإطلاع على نظرية الإسلام في المرأة سيطلعون على ذلك، ولمّا كانوا مستعدين لطرح كلّ ما تقوله أو تكتبه، فلم الإحجام؟

هل يترك هذا الأمر لأنّ هناك من يقول إنّ في ذلك عيباً، أو أنّ هناك من ينتقد أن تنشر صور الفنانات؟

إنّ هذا هو طريق من طرق الدعوة إلى الله. فحينما تأتي مجلات نسوية كمجلة (الحسناء) التي تطبع (50) ألف نسخة، وتطلب مني مقابلة حول نظرية الإسلام في تعدد الزوجات أو الحجاب أو في المتعة، قد يكون ذلك غير لائق، ولكن عدم اللياقة شيء ومسؤوليتي أمام الله شيء آخر، المهم أن أبلّغ رسالة ربي، وهذا ما يسمّى في الفقه بباب التزاحم، فإذا كان لديك 70% ومفسدة 30% فالمصلحة تغلب المفسدة.

فنحن نحتاج إلى الدعوة إلى الله والتبليغ من خلال هذه القنوات الإعلامية، فالتقاليد التي كانت للمرجعية سابقاً قد انتهت الآن، فلا بدّ من أن نطلّ اليوم على العالم ونوصل صوتنا إليه.

الإسلام ومجتمع الجزيرة العربية:

* يقول كاتب غربي إنَّ من أسباب نجاح دعوة رسول الله(ص) هو الانحطاط والتخلُّف الفكري في المجتمع الذي دعا فيه، فما هو تعليقكم على هذا القول؟

- أولاً: إنَّ المجتمع الذي انطلق فيه النبيّ كان مجتمعاً يملك ثقافة جيّدة، ولا أدل على ذلك من وجود عدد من الشعراء والأدباء والحكماء. وعندما ندرس النثر الجاهلي في ذلك الوقت، نجد أنَّ هناك انفتاحاً فكرياً قادراً على مناقشة هذه الأفكار على أقل التقادير، ثُمَّ إنَّه كيف تبنّى العرب الإسلام وحملوا رايته وفيه ما فيه من شمولية التشريع والعقيدة والأخلاق، ألا يدل ذلك على مدى فهمهم واطّلاعهم؟ ولم ينقل إلينا أنَّهم لم يكونوا يستوعبون أو يتفهمون ذلك.

ثانياً: إنَّ امتداد الإسلام في زمن النبيّ(ص) إلى أماكن فيها مظاهر الحضارة كانت قائمة، فكيف قبلت الإسلام وتبّنته.

هذا مضافاً إلى المقولات الفكرية التي طرحها النبي(ص)، وهي مقولات حضارية قائمة حتى الآن، من قبيل حوار الآخر، وتحديداً أهل الكتاب في ذلك الزمان، وكان أهل الكتاب موجودين، ولهم ثقافتهم ومعرفتهم، وكان لليهود وجود في المدينة وفي أنحاء أخرى من بلاد الجزيرة.

وثالثاً: لنفترض خلوّ المنطقة العربية ومرحلة النبي(ص) من مظاهر الحضارة والثقافة، ولكن لننظر كيف أضحى حال الإسلام بعد عشرين سنة من ظهوره، أي بعد أن انفتح على الثقافات الأخرى، وامتدَّ إلى سائر أنحاء العالم، بقدر ما اتسعت له حركته؟ كيف آمن به المثقفون والعلماء من سائر الأديان؟ كيف اتّبع هؤلاء الإسلام؟ وكيف انتشر الإسلام في أوساط المثقفين؟! فكيف يًقال إنَّ سبب نجاح الإسلام وجوده في عصر الانحطاط الثقافي، وهو الذي استطاع أن يصنع نهضة علمية ثقافية تمكَّنت من أن تكشف الكثير من أسرار الطب والكيمياء وما إلى ذلك، ونبَّهت الإنسان إلى أنَّ التجربة من مصادر المعرفة، حتّى وصل الإسلام إلى الأندلس ونقل إلى الغرب حضارته، فكيف ولقد قال رئيس وزراء الهند الأسبق (جواهر نهرو) في كتابه (لمحات في تاريخ العالم) «إنَّ الحضارة الإسلامية هي أمُّ الحضارات الحديثة»، وذلك لجهة أنَّ الأسس التي ارتكزت عليها الحضارات الحديثة، هي حركة المعرفة من خلال التأمّل العقلي ومن خلال التجربة، هي التي استطاعت أن تحرّك الحضارة، وهي أسس نبَّه عليها الإسلام وكرّسها في حياة الإنسان. ثُمَّ ما هو السرّ في هذا النـزوع نحو الإسلام، بحيث يعتنقه المثقفون والعلماء والفلاسفة من قبيل روجيه غارودي وغيره من المفكرين؟!!

أظنًّ أنّ الكاتب الغربي المشار إليه لم يقرأ الإسلام ولم يقرأ التاريخ، وإلاَّ فما هو دليله ومستنده {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة/111).

لقد عاش العالم الإسلامي في مدى أكثر من ألف ومائتي سنة لا يحكم فيه إلاَّ الإسلام، ولا تشريع إلاَّ تشريعه، ولا قيم إلاَّ قيمه، منذ ما يُعرف بالخلافة الراشدة إلى الخلافة العثمانية، بغضّ النظر عن الملاحظات والتحفظات التي نسجلها على هذه الخلافات. فكيف عاش هذا الإسلام؟ وكيف نما؟ وكيف يمكن أن يستغفل الأمّة على مدى قرون عديدة من دون أن تنتبّه إلى ذلك.

مقوِّمات الحضارة الإسلامية:

* كيف تردُّون على الذين يقولون إنَّ الإسلام متأخر حضارياً من حيثُ الصناعة والطب ولا يركّز على حاجيات النّاس مادياً؟!

- لم يقتصر الإسلام على الجانب الروحي فقط، ولذلك برز علماء الإسلام في ميادين مختلفة، فكان ابن سينا وكتابه (القانون) في الطب، وابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية، وابن حيان أستاذ الكيمياء، وما زالت كتبهم تدرَّس في الغرب، غاية الأمر أنَّ الإسلام لم يعد له سلطة سياسية، ولذلك لم يعد القرار قراره في العالم، وإذا أردنا أن نعرف أنَّه متأخّر أو متقدّم حضارياً، فيلزم أن ندرس عناصر حضارته، وما هو مركز العقل وقيمة التفكير في هذه الحضارة، وهو الذي جعل العقل العنصر الأساس، وجعل العلم أيضاً أساس القيمة، وجعل العدل كذلك، وهو أساس الديانات، وهذه هي العناصر التي يتقدّم بها المجتمع.

دور الشباب:

* نرجو منكم أن ترشدونا. نحن الشباب، إلى الطريق الصحيح، ونحن نعيش جوّاً يعصف بالمتناقضات والوشايات والألاعيب، ولا يخلو الهواء الذي نتنفسه من الآثام والضلال؟

- إذا كان هناك من الآثام والضلالات ما يملأ الدُّنيا، فإنَّ هناك ما يمكن به مقارعة هذه الآثام، ولذلك بالفزع إلى الله سبحانه، ومن خلال أوليائه والعارفين به فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل/43)، وعلى الشاب أن ينفح على مصيره وأن يفكّر فيه فلا يخضع لما حوله، بل يُحاول أن ينفتح على ما يمكن له أن يدله على الطريق، ثُمَّ يُحاول أن يصطف إلى أصحاب الدين، فينأى بنفسه عن الانحراف وأهله. يقول الله تعالى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا *  يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}(الفرقان/27-28) بمعنى يا ليتني لم أتخذ فلاناً صديقاً، {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} عن ذكر الله وهو كناية عن دينه في التزاماته العقيدية والعملية {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}(الفرقان/29)، أي أنه يورطه بالانحراف ثم يتبرأ منه {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ}(الحشر/16).

الحياة في الكواكب:

* ورد في بعض الأخبار أن هناك كائنات حية في بعض كواكب المجموعة الشمسية أو غيرها، ما مدى صحة هذه الأخبار؟

- هذه الأخبار تتحدث عن شيء ممكن، ولكنها لا تشير إلى الموقع أو إلى غير ذلك، وعلماء الطبيعة اليوم لا ينفون ذلك، بل هم الآن بصدد البحث عن وجود الحياة في عدد من الكواكب، ولذلك من الممكن أن تكون هناك كائنات حية في هذه الكواكب، ولكننا لا نجزم به.

مراتب الجهاد:

* فيما نقلتم عن الإمام أمير المؤمنين(ع) قوله: «لقد تخلى عن الهموم كلها إلا هماً واحداً» ونحن اليوم نرى الثلة المؤمنة من المقاومين الإسلاميين الذين يتنفسون عطر الشهادة في سبيل الله ويفوح منهم عبق الإيمان قد تركوا أزواجهم وأبناءهم وكل ما يملكون وخلفوا الدنيا وراء ظهورهم في سبيل الله، فهل يمكن لنا ونحن نهتز أمام أقل بلاء من الدنيا أن نصل إلى درجاتهم؟

- لكل موقع جهاده، ولا إشكال أن الجود بالنفس أعلى مراتب الجود، ولكن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فهناك إنسان يتحرك في خط الجهاد البدني، وهناك إنسان يمكن أن يتحرك في خط الجهاد الفكري، بل أن المجاهدين والمقاومين هؤلاء يحتاجون في جهادهم إلى غير حملة السلاح، فهناك الأطباء، والمهندسون وغيرهم، وهؤلاء جميعهم في رفد حركة الجهاد، ويخططون لها، ولولا هذا أو ذاك لم يكن بمقدور المقاومين الاستمرار بجهادهم. ولذلك علينا أن لا نستهين بجهاد المجاهدين من غير حملة السّلاح، وإن كان الجهاد بالنفس والجود بها أقصى غاية الجود. يقول الله تعالى {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}(التوبة/111)، ولذلك فالجميع مدعوون إلى الإسهام في حركة الجهاد والأخذ بأسباب القوّة وعدم الوقوع في الضعف {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(آل عمران/139-140).

موقع الفكر الإسلامي:

* ما هو برأيكم موقع الفكر الإسلامي بين ما هو مطروح اليوم من أفكار ونظريات في ساحة الفكر العالمي؟

- للإسلام شخصيته الفكرية التي قد يلتقي بها مع بعض الخطوط الفكرية القائمة في العالم وقد يختلف عنها، ولذلك نقول: الفكر الإسلامي فكر أصيل وفكر مستقلّ، ولهذا فإنَّنا عندما نريد أن ندرس الفكر العالمي، علينا أن ندخل في مقارنة بين الفكر الإسلامي وبين الفكر العالمي.

تمثل الإسلام:

* من يملك الحقّ في تمثيل الإسلام؟ وكثير من النَّاس يدّعون تمثيل الإسلام وتنعكس نتائج أعمالهم على الإسلام؟

- هؤلاء كما يقول الشاعر:

كلٌّ يدّعي وصلاً بليلى                                      وليلى لا تقرّ لهم بذاكا

فكلّ واحدٍ يقول أنا الإسلام، والذي يخالف الإسلام، مع أنَّ الإسلام واحد، وهناك وجهات نظر وفهم متعدِّد للإسلام، فإذا كان ثمة مخالفة فهي مخالفة لوجهة نظر إسلامية، إلاَّ أن تكون من القطعيات أو الأمور الواضحة، وكما قال الشاعر:

قل لمن يدّعي بالعلم معرفة                                حفظتَ شيئاً وغابتْ عَنْكَ أشياء

فليس هناك من يملك الحقيقة كلّها، ولكن بعض النَّاس يأخذهم الغرور بأنفسهم، فيحسب أنّ كلّ من يُخالفه الرأي ضالاً وخارجاً عن الإسلام، مع أنَّ رأيه قد يكون هو البعيد عن الإسلام، خاصة مع بعده عن روح الإسلام وحقيقة الإسلام. وهو حينما يدّعي أنَّه يملك الحقيقة، فهو إنَّما يسوق الجهل باسم العلم، ويسوق الضلال باسم الهدى، ولذلك لا يملك أحدٌ أن يدّعي تمثيل الإسلام بالمطلق، وإنَّما نحن ندرس فكر هذا الإنسان ونتعرف على دليله {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة/111) فإذا كانت البراهين والحجّة تثبت أنَّ هذا الفكر ينسجم مع مصادر الإسلام الحقيقية، فهو يمثِّل الإسلام في هذا الفكر، وقد لا يمثِّل الإسلام في جانب آخر، وإلاَّ كيف نفسِّر اختلاف المجتهدين، فهذا يفتي بكذا، وذاك يفتي بأمر آخر، فأحدهم يفتي بأنَّ اللازم عليك الصلاة قصراً، وآخر يرى التمام، وهناك من يفتي بأنَّ أهل الكتاب نجسون، وآخر يقول طاهرون، ولا إشكال أنَّ الحكم واحد، ولا بُدَّ أحدهم مخطئ والآخر مصيب. والحال كذلك في العقيدة، فهناك اختلاف في وجهات النظر، وهذا يعني أنَّه لا يملك أحد ادعاء تمثيل الإسلام بالمطلق.

ولكنّ المشكلة أنَّنا متعصّبون، فإذا أحببنا فلاناً أحببناه مائة بالمائة ورفعناه إلى السَّماء، وإذا أبغضناه أنزلناه إلى الأرض، مع أنَّ النبيّ(ص) يقول: «إنَّما المؤمن الذي إذا رضي ـ أي أحبَّ ـ لم يُدخله رضاه في إثمٍ ولا في باطل» فإذا أحببت إنساناً لا تمدحه أكثر مما يستحق ولا تُعطه ما لا ينبغي، أو لا تتعصب له على حساب الحقّ «وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن قول الحقّ» فإذا اختلف مع الآخر فإنَّ اختلافه هذا لا يدعوه إلى التنكّر لقول الحقّ، وقد قال تعالى {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة/8) والقرآن صريحٌ في لزوم العدل ولو مع العدو.

وللإمام زين العابدين(ع) ما يؤكّد هذا المعنى في دعائه إذ يقول: «اللّهمَّ ارزقني التحفّظ من الخطايا والاحتراس من الزلل في حال الرضا والغضب، حتّى أكون بما يرد عليّ منهما ـ أي الغضب والرضا ـ بمنـزلةٍ سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء، حتّى يأمن عدويّ من ظلمي وجوري». وهنا محل الشاهد ـ حتّى يقال إنَّ فلاناً عدوّي ولكنَّه مؤمن لا يظلمني «وييأس وليي ـ صديقي ـ من ميلي وانحطاط هواي» فيُقال إنَّ فلاناً صديقي ولكنَّه لا يبيع دينه من أجلي.

قيمة صندوق الاقتراع:

* ما هو رأي الإسلام في صندوق الاقتراع للاختيار بين الإسلام وغيره من الاتجاهات في الحكم واستلام السلطة؟

- صندوق الاقتراع لا قيمة له عندما يُراد للإنسان أن يقترع بين الحقِّ والباطل {وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}(الكهف/29) فليس هناك خيار بين الحقّ والباطل، فإذا كان الترجيح للحقّ صار مشروعاً وإلاَّ فليس مشروعاً، لأنَّ الاقتراع في هذه الأمور لا يقدِّم لا يؤخر، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}(آل عمران/85)، فالإسلام هو الحقّ وهو الحقيقة سواء، بصندوق الاقتراع أو بغير صندوق الاقتراع، وسواء بالحياة الديمقراطية أو بغير الحياة الديمقراطية لأنّه دين الله وليس نظاماً موضوعاً من قبل الإنسان.

مدى حرية المرأة:

* عقدت على رجل ولا زلت أسكن في بيت أهلي ولم يحصل الزواج ولم أنتقل إلى دار زوجي، وهو في هذه الحالة يمنعني من الخروج مع أهلي فهل له ذلك؟ وبعد الزواج هل يحقّ له ذلك؟ وما حدود منعه؟ وهل لي نفقة في هذه الحال؟

- ليس له المنع في وقت لم تنتقل المرأة إلى داره، وإذا انتقلت المرأة إلى دار زوجها فإنَّ الحقّ في منعها من الخروج إذا كان ذلك منافياً لحقّ الزوج الاستمتاعي. أمّا النفقة فليس لها نفقة وهي في دار أهلها، لأنَّ هناك شرطاً ضمنياً في عدم الإنفاق قبل الزفاف، لا سيّما أنَّ النفقة مشروطة بالتمكين من الاستمتاع الجنسي، وهو غير حاصل غالباً قبل الزفاف.

دور الشعب الأمريكي سياسياً:

* قلتم إنَّ مشكلتنا هي مع الإدارة الأمريكية وليست مع الشعب الأمريكي، وهنا يرد الإشكال التالي: أنَّ الشعب الأمريكي هو الذي يدفع الضرائب لتمويل الإرهاب الصهيوني والطغيان الأمريكي، لذلك يكون شريكاً في الجريمة، وعليه أن يمتنع عن دفع الضرائب لتحقيق هذا العدوان للضغط على حكومته؟

- هذا صحيح، ولكنَّنا لم نعمل من أجل تصحيح نظرة الشعب الأمريكي للأحداث في وقت يسيطر فيه الإعلام اليهودي على الذهنية الأمريكية، إلى درجة أصبح معها الشعب الأمريكي ـ في الأعم الأغلب ـ يعتبر الفلسطينيين معتدين، وأنَّ اليهود هم المظلومون. بل حاول الإعلام اليهودي أن يستغل بعض الأفكار الدينية في المحيط المسيحي، فأخذ اليهود في ترويج ما يدعى من الوعد الديني لعودة اليهود إلى فلسطين، وأنَّ ذلك تحقيق لإرادة الله وفقاً للتفسير البروتستانتي. ولذلك نلاحظ أنَّ المجتمع الأمريكي بشكل عام غير مكترث بالسياسة الخارجية، ولذلك فهو يجهل الأحداث لأنّه مشغول بحياته اليومية، ليسقط أمام الإعلام المشبوه، ولذلك فإنَّ مسؤولية تغيير الذهنية الأمريكية تقع بمقدار ما على المسلمين.

تراجع المعرفة الفكرية:

* قد يكون تراجع المعرفة الفكرية لدى الشعوب العربية بسبب اعتمادهم على الكتب التي يكتبها المفكرون العرب وأغلبهم درسوا في الغرب فتكون أفكارهم اغترابية. ما رأيكم بذلك؟

- لا أتصور أن هذا الكلام دقيق، قد يكون فيه شيء من الصحة بالنسبة للمفكرين المتغربين، والذين عاشوا ثقافة الغرب، ولكن الشعب العربي يقرأ كتب علماء آخرين فيقرأ كتب إسلامية، ويقرأ كتب التاريخ الإسلامي، ومصادر الفكر الإسلامي كلها، ولذلك لا نستطيع أن نقول إن هناك تراجعاً فكرياً، لأن التراجع من جهة عناصر التخلف التي استهلكها الإنسان العربي في القرون المظلمة، وفي حالات الجهل وما إلى ذلك، وليس من جهة أن المعرفة انطلقت في خط واحد، فالمعرفة كانت متنوعة ولا تزال، ولذلك نرى تنوع المعرفة عند الإنسان العربي، فهناك أناس يعيشون التغرّب في ثقافتهم بسبب استغراقهم في ثقافة الغرب، وهناك أناس أخذوا شيئاً من ثقافة الغرب وشيئاً من الثقافة الإسلامية، فيما يمكن أن تتفاعل فيه الثقافات، فتوازنت ثقافتهم.

مسلمات الإسلاميين:

* يقول (محمد أركون) إن هناك خطاباً عاماً مشتركاً بين جميع الحركات الإسلامية، يستند على مسلمات وهي افتراضات غير مبرهن عليها لا تقبل أية مناقشة أو أي فحص، ومن هذه المسلمات أن الله واحد وهو الحي والمتعالي والعادل، أوحى إلى البشر بوصايا وجعلهم خلفاء في الأرض؟

- أولاً: إن القول إن الحركات الإسلامية تنطلق من مسلمات غير مبرهن عليها، غير واقعي، لأن الحركات الإسلامية لا تمثل جميعها القاعدة الثقافية الإسلامية الواحدة ـ لأن هناك حركات إسلامية تستغرق في الجانب السياسي، وهناك حركات إسلامية تعيش على السطح الثقافي الإسلامي ولا تتعمق فيه، ولكن هناك حركات إسلامية تملك الثقافة بأعمق ما تكون، كما أن هناك كثيراً من العلماء المسلمين والمثقفين المسلمين الذين تستمد بعض الحركات الإسلامية الواعية الثقافة منهم، وهؤلاء عندما يؤكدون على كلمة (الله الواحد) فإنهم لا يعتبرونها مسلمات بلا برهان، بل يعتمدون على هذا البرهان، بل إن القرآن نفسه برهن على ذلك، بطريقة وجدانية ولكنها ترتكز على أسس فلسفية، كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا}(الأنبياء/22)، وقوله تعالى: {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(المؤمنون/91).

كلمة (الحي) فإن مسألة أزلية الحياة في الله أيضاً هي محل استدلال عند علماء الفلسفة الإسلامية، وهكذا كلمة (المتعالي) لأن الربّ الخالق يكون في الموقع الذي لا يدانيه فيه أحد، فكلّ شيء مخلوق له فهو مربوب له. ومن الطبيعي أن المخلوق هو أسفل من الخالق. وهكذا فكرة العدل لأن الظلم ينطلق من ضعف وعندما نرفض وجود خالق ـ بالدليل الذي نستدل عليه ـ فمن الطبيعي أن يكون عادلاً لأن الظلم عقدة ضعف والقوي لا يحتاج إلى الظلم وأما قوله أوحى للبشر بوصاياه فإن المسلمين يتحدثون عن الوحي بالدليل، ولذلك لا بد للنبي يعتبرون أن يأتي بمعجزة، وقد تناقش أنت تناقش أنت في هذه المعجزة. لكن العلماء أن قضية الوحي تنطلق من دليل يؤكده العقل.

أزمة النموذج:

* ومن مسلّمات الإسلاميين كما يقول أركون أن حياة محمد(ص) والدولة التي أسسها هي عبارة عن نموذج أعلى للوجود البشري أي أنه لا يجوز تجاوزه، وينبغي لكلّ مؤمن أن يقلده بكلّ دقة وصرامة؟

- هذا أيضاً غير صحيح على إطلاقه، وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ}(الحشر/7)، وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}(الأحزاب/21) ، فإن مضمونها هو اتباع الرسول(ص) في القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية المتمثلة في سيرته بالإضافة إلى الخط الشرعي الذي يمثله سلوكه في الأمور العامّة والخاصّة، فليست المسألة مسألة اتباع في عناصر الذات في ذاتياتها الشخصية ولكن ما نتبع به الرسول هو ما أنزله الله عليه من شريعة وما أُوكلّ إليه من تلك الشريعة التي تمثل قانوناً يجتهد فيه العلماء في فهمه. وأما طبيعة الحياة التي عاشها الرسول(ص) فليس من المفروض أن نجعل تلك الحياة بكلّ مفرداتها نموذجاً أعلى، فنركب الجمال ونقاتل بالسيف أو نلبس العمائم. فنحن نأخذ من النبي(ص) ما أمرنا به من العدل الذي قامت به الرسالات، وما ركّزه من احترام العقل، واعتبار العقل حجة على خلقه وحجة للخلق أمام ربهم، ونأخذ من النبي(ص) أنه ركز على العلم.وقد قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(الزُّمر/9)، وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه/114)، ونحن نعرف أن حركية العقل لدى المفكرين المسلمين استطاعت أن تُغني أوروبا بالمنهج الثاني للمعرفة وهو التجربة، وأن تنشىء حضارة على مدى مائة سنة، قال عنها بعض المفكرين أنها أمُّ الحضارات الحديثة. ونحن لا نريد أن ننقل نفس تلك الحياة التي تخضع لكثير من خصوصيات الزمن والمرحلة، إنما نأخذ الشريعة التي ثبتت بحجة عن النبي(ص)، وبما قرأناه في القرآن، ثم بعد ذلك يجتهد المجتهدون، ونأخذ فوق ذلك بأسباب العلم ونتفاعل مع كلّ الحضارات في العلم والتكنولوجيا وفي التجربة الإنسانية وما إلى ذلك، مما لا يصادم الحقيقة الإسلامية في هذا المجال، ولذلك فالكلام إننا نقلد تلك الحياة بتفاصيلها وجزئياتها الواقعية في خصوصيات الزمن في وسائله وأساليبه المحدودة، ليس صحيحاً.

الجيل المميز:

* ومن مسلمات الإسلاميين كما يقول أركون: إن صحابة النبي(ص) يشكّلون جيلاً مميزاً فجميعهم مزودون بذاكرة معصومة ومقدرة عقلية وفكرية مثالية يؤهلهم لأن ينقلوا الآيات القرآنية والأحاديث التي شرحتها بكلّ دقة وإخلاص وأمانة؟

- هذا أيضاً غير صحيح، إذ لا نعتبر الصحابة معصومين، بل هم يخطئون ويصيبون، وقد تحدّث القرآن الكريم عن كثير من نقاط الضعف في الصحابة، فهم ليسوا معصومين. ولا نقول بعدالة الصحابة، بل نقول إن فيهم العادل وغير العادل، وفيهم الثقة وغير الثقة، وهذا ما لاحظناه فيما كانوا يختلفون فيه مع بعضهم البعض، ويقتلون بعضهم البعض، ويقاتلون بعضهم البعض، لذلك نحن لا نؤمن بأن صورة الصحابة هي الصورة المثالية المطلقة التي لا يمكن أن تخطيء ولا يمكن أن تسقط، بل هم بشر مثل بقية البشر في نقاط قوتهم وضعفهم، نعم هناك جهات متميزة بالعصمة وهم أهل البيت(ع) لدى المسلمين الشيعة بأدلتهم الخاصة. ومنها: {}.

الموثوقية المطلقة:

* ويقول أركون: وبهذا النقل الأمين بشكّل كلّي فإن المؤمنين يملكون قرآناً صحيحاً وموثوقاً، إنّه يمثل ملاذاً مستمراً ونهائياً؟

- هذا صحيح فإن القرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، وقد أكد المسلمون ذلك وآمنوا به وفقاً لأدلة قطعية، وقد وصل القرآن إلى المسلمين بطريق التواتر الذي لا يبقى معه شك. ومن كانت له مناقشة فنقول له كما قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة/111)، فإذا كان هناك دليل على التشكيك بنص القرآن الكريم فنحن مستعدون لأن نستمع إليه ونناقشه، ومستعدون لأن ندخل في حوار. وليس كلّ إنسان يشكك في نص نرجمه بالحجارة، بل إننا نقول {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ونقول {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(آل عمران/66). بل أن القرآن نفسه أثار الشبهات التي كانت توّجه إلى القرآن. فأثارها بشجاعة تامة، بحيث نقل لنا الأشياء التي كانت توّجه إلى النبي(ص) بالمستوى الذي يسقط نبوته، أو القرآن بالمستوى الذي يسقط الوحي {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}(النحل/103) كيف تقولون إنه تعلّم من هذا الرومي الذي كان يصنع الحديد؟ وقالوا عن النبي ساحر، وقالوا كاهن، وقالوا شاعر، وقالوا عنه مجنون {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(الفرقان/5)، فالقرآن هو نفسه الذي أثار كلّ هذه الشبهات التي كان يثيرها المشركون تجاه القرآن وتجاه النبي(ص)، بما يسقط قداسة القرآن وبما يسقط نبوة النبي(ص) وأغلب الشبهات التي تثار حول النبي(ص) وحول القرآن هي من الأمور التي تحدّث عنها القرآن مما يدلّ على أنه أراد للناس أن يدرسوها ويناقشوها ويطّلعوا على الملاحظات النقدية التي وجهها للذين أطلقوها في وجه الرسالة والرسول.

الصحاح المقدسة:

* ويقول أركون أيضاً: وكذلك الأمر فيما يخصّ تعاليم النبي(ص) وأعماله، فقد تعرّضت أيضاً لعملية نقل موثوقة ومضمونة وحظيت بالتدوين في مدونات رسمية أخرى، وهي ما يدعى بكتب الحديث والصحاح كصحيح البخاري والكليني وابن بابويه؟

- ليس عندنا صحاح، عندنا القرآن فقط. أما الصحاح فإنّ فيها الحديث الموثوق وغير الموثوق، سواءً كان ذلك في كتاب البخاري أو مسلم، أو الكافي، أو من لا يحضره الفقيه. إن هذه الأحاديث رويت عن النبي(ص) عن أشخاص فيهم الثقة وفيهم غير الثقة، وفيهم من اختلف في وثاقته وعدم وثاقته، ولذلك لا بدّ لنا من أن ندرس كلّ حديث، من حيث رواته: هل هم موثقون؟ أو غير موثوقين؟ وندرسه في مضمونه: هل يوافق القرآن أو يخالف القرآن؟ وهل يوافق أو يخالف العقل؟ وقد ورد في الحديث الشريف «ما خالف كتاب الله فهو زخرف» وما خالف العقل القطعي يضرب به عرض الحائط. وعلى هذا الأساس فكيف ينسب إلى المسلمين جميعاً مثل ذلك مع ملاحظة أخرى وهي أن الحديث إذا ثبتت صحته من خلال وثاقة الرواة وسلامة المضمون واستقامته الفكرية مع الحجّة القطعية كان الأخذ به حالة إيجابية في ميزان الوعي لأن الاعتقاد برسالة النبي(ص) ورسوليته، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحي، ليفرض ذلك كله بلحاظ الدليل الذي دلّ على رسالته، فهو ليس اتباعاً أعمى بل اتباع منفتح على الحجّة والدليل.


 

الفصل الخامس

 

 

المسائل التربوية

 

 

 

 

 

 

 
 


التبرّج والتظاهر بالفسق؟

* هل يعتبر التبرّج والسفور من التجاهر بالفسق؟ وهل تجب مقاطعة السافرات المتبرّجات اجتماعياً لغرض الردع؟

- التبرّج والسفور حرام، والتجاهر به تجاهر بالفسق والإصرار عليه كبيرة، ولكنّ الردع عن الحرام قد يكون بالمقاطعة الاجتماعية، وقد يكون بمواصلة الوعظ والإرشاد، فقد تكون بعض النساء متبرّجة لأنّها عاشت في بيئة غير مؤمنة وغير متدينة، فالوسيلة الطبيعية في جعلها ترتدع هي أن نوعّيها وأن نفهّمها علّها تعود إلى الطريق الصحيح.

العاصية بعدم الالتزام بالحجاب والصلاة:

* ما حكم المرأة التي تعصي زوجها بعدم الالتزام بالحجاب وعدم الصلاة؟ وماذا يعمل زوجها إذا لم تطعه في هذين الأمرين؟ هل يجوز طلاقها إذا لم تلتزم؟

- عليه أن يحاول معها بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يحرم عليه طلاقها، ولكن يجب أن يدرس القضية من خلال طبيعة الأسرة وتماسكها ويبقى يجرّب فعسى ولعلّ.

ردّ السلام:

* بعض الأحيان يأتي شخص ويسلّم على صديقه وأنا قريب من صديقه وصديقه لم يردّ السلام عليه وأنا لم أعرفهما، فهل يجب عليّ أن أردّ السلام؟

- إذا كان السلام موجهاً لك فردّه واجب عليك، وإذا لم يكن لك فليس الردّ واجباً.

العولمة والأخلاق:

* التاريخ كسجل للأحداث نراه قد سجّل لنا تطوّراً في مختلف المجالات والعلوم الماديّة، والعالم الآن يمرّ بما يمسى بمرحلة العولمة والتي حولته إلى قرية صغيرة، فلماذا لم نشهد مواكبة لهذا التطور على الصعيد الروحي والعقائدي والأخلاقي؟

- هناك موازين قوى موجودة في العالم، فالعالم المستكبر يملك إمكانات على المستوى الاقتصادي والعسكري والاجتماعي والثقافي وما إلى ذلك مما لا يملكه الخط الإسلامي الأصيل، ولكن مع ذلك ومع كلّ هجوم النظام العالمي الجديد أو ما يسمّى بالعولمة نجد أنّ هناك في أكثر من بلد إسلامي وحتى في بلاد الغرب من يأخذ بالقيم الروحية والأخلاقية لأنّ الجانب المادي جعل الكثير من الناس وجهاً لوجه أمام الجدار، ولذلك كانوا يلجأون إلى ما يعطيهم النبض الروحي، وعلى ذلك فالمسألة ليست بهذا السوء، كما أنها ليست مقتصرة على هذه المرحلة التي تفرضها التمنيات، بل أنّ مشكلتنا هي المساحة بين ما يمكن أن يكون وبين ما ينبغي أن يكون.

هذا من الإسراف:

* بعض الشباب يشترون كلّ أسبوع ملابس وفي الأسبوع الثاني يهملونها ويشترون غيرها؟ فهل هذا من الإسراف؟

- إذا لم يكن هذا إسرافاً فما هو الإسراف؟ ففي كلمة الصادق (رحمه الله) يقول «إنّ القصد (الاقتصاد) أمر يحبّه الله وإنّ السرف أمر يبغضه الله حتى طرحك النواة فإنّها تصلح لشيء وحتى صبك فضل شرابك»([855]). يقول لك الإمام(ع) إنّك تستطيع أن تستفيد من النوى في تصنيعه بحيث تحصل منه على فغادة، أمّا إذا رميته في الشارع فأنت مسرف، والماء أيضاً، فإذا كنت تريد أن تشرب نصف كأس فاملأ نصفه ولا تملأه كلّه؟! نحن مسرفون والإمام(ع) يؤكّد واقع الاقتصاد العام، فالعالم الآن يستفيد من النفايات فيصنّع منها الورق وغيره، وأكثر من هذا فهناك نكتة متداولة في بريطانيا وهي أنّه حينما يقدّم لك كأس من الماء يقال لك هذا ماء مشروب سبع مرات فلقد تحوّل الماء إلى بول ثم تمت تنقيته وأعيد كماء صالح للشرب عدة مرات، فالعالم يحاول أن يستفيد من أي شيء يمكن أن يصنّع منه مادة لفائدة البشرية.

كما أننا نسرف في موائدنا، فقد تستضيف عشرة أشخاص وتطبخ لعشرين أو أكثر بحجة أنّ هذه كرامة لهم، فهل الكرامة هي بالأكل؟ إنّ الكثير مما يطبخ يرمى في صناديق القمامة، فلو ندرس الأشياء التي نرميها كنفايات والأشياء التي نهدرها من الماء والكهرباء لرأينا أننا ننسى أن هذا كلّها طاقة، فأنت تستهلك الكهرباء طول الليل والنهار بدون فائدة أحياناً وهذا يؤثر على حاجة الناس لذلك كلّه، وهو من الإسراف.

الإخلاف بالوعد:

* إذا واعدت شخصاً لكي أشتري منه بضاعة ما ولكن وجدت بضاعة أرخص منها عند غيره فهل يحق لي أن أخلق الوعد؟

- الإخلاف بالوعد فيما إذا كان الإنسان مصمماً أن يخلف، أما إذا كان الوعد على أساس معين فإنه يستطيع أن يعتذر منه لأنّ هناك بضاعة أرخص من بضاعته ولا ضير في ذلك.

إجزاء السلام:

* هل يجزي ردّ السلام بـ (السلام عليكم)؟

- نعم ولكنّه يخسر بعض الحسنا لأنّ الحديث الشريف يقول: «للسلام سبعون حسنة تسع وستون للمبتدأ وواحدة للراد فإن أحسن فعشر» ([856]) فمثلا إذا قال: السلام عليكم، وقلت له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلك عشر حسنات.

السكوت على الغيبة:

* لي صديق يستغيب أو يبهت صديقي الآخر وقد نصحته ولكن لا فائدة، فهل أقول لصديقي المظلوم أم أسكت لكي لا تقع الفتنة؟

- عليك أن تسكت إلاّ إذا كان في غيبة ذاك بعض ما يسيء إلى مصلحة الآخر في حياته، فهذا يكون من باب النصيحة.

الحق المقدس:

* ذكرتم أنّ بعض الناس يتحدث عن الحقد المقدس وقلتم لا ندري كيف يمكن أن يأخذ الحقد القداسة في حين أن القداسة هي المحبّة، ألا يمكن اعتبار الحقد على الأشرار والظالمين الذين يظلمون العباد كالصهاينة حقداً مقدساً؟

- نحن نقول إنّ علينا أن نحبّ هدايتهم، والحقد المقدس باب مغلق، فلو رأينا كيف كان النبي(ص) يتعامل مع أذى المشركين له حيث كان يقول «اللّهم اهد قومي إنّهم لا يعملون»([857]) لعرفنا كم هو مضرّ التعامل بالحقد، فلو حقد عليهم لما استطاع هدايتهم وفتح قلوبهم للإيمان، فالإنسانية والتعامل برفق وشفقة ولين وعطف يفتح القلوب أولاً لتنفتح العقول بعدها، فدعاء النبي(ص) كان لهم ولم يكن عليهم بأن يهتدوا وبأن يسيروا على الخط الصحيح.

واذكر أنه جاء في (كتاب الإقبال) للسيد (ابن طاووس) (رحمه الله) في أعمال ليلة (23) من شهر رمضان والتي يغلب أنها ليلة القدر قوله: رأيت أنّ أفضل الأعمال هذه الليلة الدعاء فأردت أن أدعو إلى أكثر الناس حاجة إلى الدعاء ففكرّت بأبي وأمي فقلت أنهما مؤمنان مسلمان، وقد يكون لهما بعض المعاصي ولكن الله يغفر لهما، وفكّرت في أقربائي وكلّ من حولي كذلك فرأيت الأمر نفسه، إلى أن وصل تفكيري إلى الكافرين الذين لا يتعلّقون برحمة الله {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(النساء/116). فقضيت ليلة القدر بالدعاء لهم أن يهديهم الله.

هذه هي الروحية الإيمانية وأنا أقول دائماً إذا كان قلبك غير مفتوح للناس فلن تقدر أن تهديهم، فالذين قلوبهم معتمة ومظلمة لا يمكن أن يضيئوا فلب أحد، وهذا ما نفهمه من كلمة الإمام علي(ع) «احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك» ([858]). لكن الإمام علي(ع) شيء ونحن شيء آخر.

من مقتضيات الإيمان:

* جاء في الحديث النبويّ المشهور «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه». فهل معنى ذلك أنّ المؤمن الذي لا يتصف بهذه الصفة تنتفي عنه صفة الإيمان كلياً أم المقصود انتفاء صفة الإيمان الحقيقي ويبقى المؤمن يحتفظ بالإيمان بصفته العامّة؟

- هو مؤمن بالمعنى التقليدي ولكنّه ليس مؤمناً بالمعنى العميق للإيمان، والسبب هو أنني عندما أكون مؤمناً فإن إيماني بالله وبرسوله واليوم الآخر يدفعني إلى اعتبار هذا الإيمان هو الذي يحكم علاقتي بالآخرين كما يحكم حياتي، فإذا كان هناك مؤمن مثلي يحمل نفس الإيمان فطبيعة إخلاصي للإيمان بكلّ مستلزماته تفرض عليّ أن أخلص لهذا الإنسان باعتبار أن الإيمان يقوّي العلاقة بيننا وبين الآخرين، فإذا كنت لا أحبّ له ما أحبّ لنفسي وأعيش الأنانية فلست مؤمناً، ذلك أنّ المؤمن لا يكون أنانياً أمام المؤمن الآخر، بل لا بدّ أن يخلق الإيمان عندك حالة شعورية توحّد شعورك تجاه المسلمين جميعاً «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»([859]). وهذا يعني أن يعيش الإحساس بآلام المسلمين وبمشاكلهم.

الصفاء وما يكدّره:

* كلّما استمعنا إلى المواعظ نجد أنّ قلوبنا قد مالت إلى الصفاء والروحانية فينتج لدينا من ذلك العزيمة والإقلاع عما يبعدنا عن الله والارتباط بكلّ ما يوصلنا به ولكن ما أن تعرض لنا بلية، كما يذكر ذلك الإمام زين العابدين(ع) في بعض أدعيته، حتى ترانا نسقط ويغلب علينا الهوى، فبماذا يمكن أن نعالج هذه الحالة؟

- إنّ الله سبحانه وتعالى حل لنا هذه المشكلة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}(الأعراف/201). وهذا يعني أنّه عندما يأتيك الشيطان فيطوف في عقلك ليخرّب عقلك، أو يطوف في قلبك ليخرّب قلبك، أو يطوف في حياتك ليفسدها، تذكّر الله {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (الحشر/19). وفي آية أخرى {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ}(الرعد/28). فهذا كلّه هو الذي يعيد لك هذه الروحانية والصفاء.

سبّ الآخرين:

* هناك أناس يسبّون ويشتمون الآخرين بسبب أو بغير سبب، فهل يذهب من حسناتهم شيء إلى هؤلاء المظلومين؟

- طبعاً، ففي يوم القيامة عندما يؤتى بأحدهم ـ كما في الرواية ـ وحسناته مثل الجبال، ويأتي أصحاب الحقوق يطالبون بحقوقهم من العدل الحكيم، فإنّ الله تعالى يقول لملائكته: خذوا من حسناته وأضيفوها إليهم، فيقول الملائكة بعد أن تنفد حسناته: يا ربّنا لقد فنيت حسناته وطالبوه كثير؟ يقول: أضيفوا من سيئاتهم على سيئاته.

غير المستطيع أداء صلاة الليل:

* إنني شاب في مقتبل العمر وأحاول أن أحافظ على الصلاة المفروضة كلّها وبعض السننّ، ولكنني عندما أقوم لصلاة الليل فإنني غالباً لا أستطيع أن أستيقظ عند صلاة الفجر، علماً أنني أعمل في دوامين: نهاري وليلي، فأيّهما أصلح؟

- إذا كانت صلاة الليل تؤثر على صلاة الفجر بحيث تفوتك الثانية، فالأولى أن تصلّي الفجر، وأما إذا كان المقصود عدم التمكّن من القيام في وقتها المحدد بعد نصف الليل فيمكن أن تصلّي قبل نصف الليل، إذ يمكن لمن لا يستطيع السهر باعتبار أن عنده دوامين أو ما شاكل من الأعمال التي تحتاج إلى وقت أطول من الراحة أن يصلّي قبل النوم كما هو مرخّص للشاب الذي تمنعه رطوبة رأسه من أدائها قبيل الفجر، فله أن يقدّم صلاة الليل على نصف الليل ويثاب عليها إن شاء الله.

* إذا قمت لصلاة الليل أحياناً أشعر بابتعادي عن قراءة القرآن فنصحني أحدهم بقراءة القرآن في هذه الصلاة من المصحف، فهل يجوز أن أضع المصحف على الكرسي وأقرأ منه في الصلاة؟

- يجوز ذلك بحيث تقرأ سوراً معينة من القرآن بشرط أن لا تخرج به عن صورة المصلّي.

التعهد بعدم ضرب الزوجة:

* هل يجوز للرجل أن يتعهّد لزوجته أن لا يضربها أبداً؟

- لنسأل قبل ذلك هل يجوز لها أن يضربها أصلاً؟

إنّ بعض الناس قد يتصور أنّه ما دام قد تزوّج فإنه يمكن أن يجرّب عضلاته في زوجته إذا لم تعجبه طبخة معينة، أو إذا كان الولد يبكي في الليل، أو إذا جاء ووجدها نائمة وما إلى ذلك. ولقد قلنا مراراً إنّ زوجتك هي زوجتك في الجسد وهي أختك في الإيمان فلا يجوز لك الاعتداء عليها، والعقد الزوجي لا يجوّز للزوج أن يضرب زوجته أو يشتمها أو يسيء إليها أو يسخر منها أو يطردها من بيتها إلاّ في حالة واحدة وهي فيما إذا منعته من حقّه الجنسي، وحتى في هذه الحالة هناك خطوات متدرجة {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} هذا أولاً، والوعظ ليس فقط كلمة بل عليه أن يقنعها ويعظها بالنتائج السلبية على حياتها وعند الله، أي أن يذكّرها أن ذلك معصية {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ} وهو حالة من التأديب النفسي، فإذا لم تنفع الموعظة ولا الهجران {وَاضْرِبُوهُنَّ} ضرباً غير مبرّح {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}(النساء/34). فليس هناك فرق بين أن تضرب زوجة جارك وبين أن تضرب زوجتك، فأنت تعاقب كما يُعاقب كلّ ظالم.

وهذا هو معنى عقد الزواج الذي لا يجعل لك سلطة على زوجتك إلاّ بالحقّ الزوجي، والمشهور من العلماء يقولون هو أن لا تخرج من بيتك إلاّ بإذنك، وهناك رأي يقول بأنّ حقّ الخروج إذا نافى حقّ الزوج فلا يجوز وليس كلّ خروج. وباختصار فإنّ الزواج لا يجعل زوجتك أمة عندك {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(البقرة/228). ليس درجة الضرب {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}(البقرة/229). هذه هي حجّة الله، أمّا إذا تصوّر الرجل نفسه عنترة بعد الزواج فذاك أمر آخر، ولكن عليه أن يتذكر عندما تقف الزوجة يوم القيامة وتقول يا عدل يا حكيم أحكم بيني وبين زوجي فقد ضربني وطردني وانتهك حرمتي، فهل ستنفعه عنترياته في يوم الفصل؟!.

صلاة من لم ينته عن الفحشاء:

* هل تصحّ صلاة المصلّي الذي لم ينته عن الفحشاء والمنكر أم لا حسب منطلق القرآن الذي يقول: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ}(العنكبوت/45)؟

- تصحّ جسداً ولا تصحّ روحاً لأنّ الله لا يقبل للإنسان من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه، ولا يقبل الإنسان إلاّ إذا ارتفع في صلاته إلى مواقع التقوى، وقد ورد في الحديث «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بعداً»([860]).

اغتياب المتجاهر بالسيئات:

* إذا كان أهل بيت الرجل يصفون أباهم بأنّه بخيل وأناني وكذّاب ومراء، وهو متجاهر بهذه الصفات وغيرها، فهل ذكره بهذه الصفات من وراء ظهره يعتبر غيبة؟

- ما هي الغيبة إذا لم تكن هذه غيبة؟ فإذا كانت هذه العيوب مستورة لا يعرفها إلاّ أهل بيته فمن الطبيعي أنهم إذا ذكروها أمام الآخرين فإنّ هذا يعتبر غيبة، لأنّ «الغيبة هي ذكرك أخاك بعيب مستور» فكيف إذا كان هذا الأخ أباً؟! نعم، إذا كان ذكره بهذه الصفات يردعه عنها، بمعنى أنّك تذكره بها من أجل إصلاحه والضغط عليه ضغطاً اجتماعياً لأجل أن يرتدع ولئلا تنتشر هذه الصفات بين الناس، ففي هذه الحال ليست هناك مشكلة.

صالحة ولكن لا تصلّي:

* زوجتي امرأة صالحة ولكنّها لا تصلّي، وقد نصحتها مراراً ولم تستجب، فماذا أفعل؟

-  من يقول إنّها صالحة؟ فالشخص الذي لا يصلّي شخص غير صالح لأنّ من يتمرّد على الله، ومن لا يشكر الله، ولا ينحني لله، ولا يطيع الله فيما أمره إنسان غير صالح {الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(البيِّنة/7). و«الصلاة عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها». فعليك أن تحاول هدايتها ما أمكنك ذلك.

لا يستطيع ترك التدخين:

* قد أفتيتم بحرمة التدخين، كما أفتيتم بعدم جواز التبعيض في هذه المسألة، فما هو حكم من لا يستطيع الامتثال؟

- ليس هناك إنسان لا يستطيع ترك التدخين، نعم، هناك إنسان لا يريد ترك التدخين، ألا يرى هذا أنّه يترك التدخين في شهر رمضان؟ فهو يستطيع لكنّه لا يريد والمسألة مسألة تحمّل، وفي الحديث عن علي بن الحسين(ع) «ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة»([861]). ولقد كان السيد الخوئي (رحمه الله) مدخناً من الطراز الأول وكان يرى جواز التدخين، وحينما عرف من طبيبه أنّ التدخين يضرّ به ضرراً بالغاً تركه إلى غير رجعة. وقد نقلت لكم تجربتي مع التدخين حينما كنت في أول شبابي في النجف حيث كنت أدخن في اليوم الواحد ستين سيجارة، وكنت أقول الذي ينصحني بالترك أنك بذلك تريد تعطيل دراستي، ثم رأيت ضررها فتركت التدخين في أول محرم الذي هو موسم توزّع فيه السجائر مجاناً بحيث أن الذي لا يعرف التدخين يتعلّمه في محرم، ومع ذلك تركته من دون يمين، وها قد مرّ أكثر من (45) سنة على تركي التدخين ولم أعان من أية مشكلة، ولذا فإنّني حجّة على المدخنين في ذلك.

ويذكر أنّ هناك ملكاً معتاداً منذ الطفولة على أكل التراب طلب من الطبيب دواءً يخلّصه من مرضه، فقال له: عزمة من عزمات الملوك دواؤها. ونحن نقول لكم: عزمة من عزمات الرجال دواؤها.

براءة ذمّة المستغيب:

* كثير من الناس يستغيبون إخوانهم، وإذا قلت لهم لماذا تستغيبون؟ يقولون إنهم يبرؤون لنا الذمّة، فهل صحيح أنّ براءة الذمة تكفي؟ أم أنّ في ذلك معصية؟

- لا يجوز لمؤمن أن يقول أنا أرخّصك في أن تستغيبني، لماذا؟ لأن في الغيبة هتكاً لحرمة المؤمن، فلا يجوز للمؤمن أن يهتك حرمة نفسه بشكل مباشر أو غير مباشر. ثم أنّ الغيبة فيها حقّان: حقّ عام وحقّ خاص أي حقّ الله وحقّ الناس. فإذا أنت استغبت إنساناً وسامحك بعد ذلك يبقى حقّ الله، لأنّك عصيت الله الذي يقول {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}(الحجرات/12). فأنت عصيت الله في اغتيابك وأسأت لحقّ أخيك فإذا سامحك أخوك فالله لا يسامحك لأنك عصيت الله في ذلك.

الطف كذباً:

* إذا لعبت مع أصدقائي الألعاب المسلية وهم دائماً يسبون أو يحلفون صدقاً وكذباً في أثناء اللعب، فهل يحب لي أن ألعب معهم؟

- إنّ على الإنسان عندما يكون في مجلس يعصى الله فيه أن ينكر ذلك، وأن ينسحب إذا لم يستطع أن يردع عن هذا.

حدود النقد للآخر:

* ما هي حدود النقد للآخر لكي لا أدخل في أجواء الغيبة؟

- الغيبة هي أن تذكر أخاك بعيبٍ مستور، أمّا أن تنقد بعض أفكاره بطريقة علمية موضوعية فلا مشكلة، أو تكون في مقام النصيحة، فالغيبة هي مقام النصيحة أو في مقام رفع الظلم جائزة {لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}(النساء/148). فهذه من مستثنيات الغيبة، وهناك مستثنيات أخرى مذكورة في كتب الفقه.

متى يجوز التشهير؟

* إذا لم يلتزم الذي عليه الحق بقرار أو حكم المرجع في قضية ما، فهل يجوز التشهير به في المجالس العامّة؟

- إذا كان صاحب الحقّ مظلوماً من قبل هذا الإنسان فالله سبحانه وتعالى رخّص للمظلوم أن يتحدّث بشكل سلبي عن ظالمه {لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}(النساء/148) فإذا كان الهدف من التشهير به هو ردعه عن المنكر، ودفعه إلى أن يعطي الحق لصاحبه، فيجوز.

مواضع العفو والمسامحة:

* في أي الأشياء ينبغي لنا أن نسامح ونعفو عن الناس، وفي أي الأمور يجب أن لا نعفو عن الناس ونغضب عليهم لغضب الله؟

- هناك حديث للإمام زين العابدين(ع) في رسالة الحقوق يقول فيه: «وأمّا حقّ من ساءك فإن تعفو عنه لأنّ الله يقول {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(البقرة/237). فإذا رأيت أنّ العفو عنه يضرّه» يعني إذا عفوت عنه ورأيت أنّه يتضرر بعفوك كما هو حال بعض الناس عندما يراك تعفو عنه فإنّه يتجرّأ على الناس أكثر، وربّما يؤدي إلى نتائج مدمّرة بالنسبة له فاترك العفو. وينقل في هذا الصدد أن شخصاً أتى لرئيس عشيرته ودار بينهما خلاف فقام الشخص المسيء وضربه فما كان من هذا إلاّ أن وضع عباءته على رأسه ومشى ولم يردّ الضربة بضربة مماثلة وتجرأ المسيء بعد ذلك فجرّب مع شخص ثان أيضاً ولكن المعتدى عليه أطلق عليه الرصاص فجاؤوا إلى الأول وقالوا له إن فلاناً (القاتل) عنده غيرة أكثر منك، فقال: كنت أعرف أنّني إذا سامحته فإنه سيتجرأ على غيري فيقع في حفرة إساءته، فبعض الناس كهذا إذا عفوت عنه سيزداد إضراراً بالناس على طريقة ذلك الشاعر:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته                               وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

خيانة إفشاء السر:

* لقد ذكرتم في إحدى الندوات أن من الخيانة إفشاء سرّاً أخيك المسلم وذلك عندما يكون هذا السر أو هذا السر أو هذا الأمر مفسدة للمسلمين أو لتطبيق شرع الله؟

- عندما يكون هناك ضرر أكبر فعند ذلك يعتبر إفشاء السرّ خيانة، فإذا فرضنا أنّ هذا السرّ الذي اطلعت عليه لم يعرف به الناس، وإذا طلعوا عليه فربّما يؤدّي إلى فتنة وإلى سقوط موقف الإسلام، فهذا خيانة كبيرة.

الكذب لصالح المظلوم:

* في بعض الأحيان يغتاب الناس شخصاً فأقوم بعكس العيب الذي فيه لكي لا تسقط شخصية هذا الإنسان، وأنا في الواقع أكذب لصالح هذا المظلوم، فهل هذا العمل صحيح؟

- ليس لك أن تكذب ولكن عليك أن تنكر المنكر في كلامهم عنه.

الكذب على الزوجة:

* هل يجوز الكذب على الزوجة، علماً بأنّ الكذب يبعد الشخص عن المشاكل المترتبة بقول الحقيقة؟

- لو فرضنا أن الزوجة تسأل: هل يجوز الكذب على الزوج لتتفادى مشاكله؟ فهل تقبلون أن تكذب زوجاتكم عليكم؟ «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك»([862]) فعلى الإنسان أن يكون صادقاً؟ فالمسألة ليس في الشخص الذي تصدق أو تكذب عليه، فالصدق والكذب إنّما يتصلان بصدقك وأمانتك بأن تكون من الصادقين، وفي الحديث «لا يكذب الكاذب وهو مؤمن» نعم، بإمكان الإنسان في بعض الحالات أن يتكلّم بطريقة يكون فيها كذب في الظاهر وصدق في الواقع وذلك في أسلوب التورية إذا كانت هناك حالة ضرورية.

الخطأ بعد التوبة:

* عندما يتوب الإنسان ثم يخطئ، فهل يقبل الله توبته؟

- يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}(الشُّورى/25). ويقول {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي تجاوزوا الحدّ في ارتكاب المعصية {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزُّمر/53).

تأديب الأم للطفل:

* إذا كان يحقّ لوالد الطفل تأديب طفله الصغير، فهل يحقّ لوالدته أو لأقاربه ذلك؟

- لا يجوز ذلك، فالولاية للأب، كما لا يجوز تأديب الطفل إلاّ بالتي هي أحسن، فحتى الأب لا يجوز له أن يضرب طفله ضرباً مبرّحاً، فتأديب الطفل مثل الدواء فإذا قال الطبيب أعطه ملعقة دواء فلا يصح أن تعطيه خمس ملاعق.

إنّ الله لم يسلطك على ولدك، فإذا كانت الكلمة تؤثّر فالضرب حرام، وإذا كانت الضربة الأولى تؤثّر فالضربة الثانية حرام، ولذلك نهى رسول الله(ص) عن الأدب وقت الغضب. نعم يحقّ للأب أن يأذن للأم أو للمعلم أو للأقارب في ذلك لكن ضمن الحدود الشرعية لا بحسب المزاج، ولا يجوز للأم ولا للأقرباء أن يؤدّبوا الابن إلاّ بإذن الأب، وإذا لم يكن الأب موجوداً فيرجع إلى الحاكم الشرعي.

لا حياء في الدين:

* هل القول «لا حياء في الدين» هو قول معصوم أو قول مأثور؟

- إنّه قول مأثور ومعناه أنّ الإنسان يجب أن يسأل عن كلّ شيء حتى الأشياء التي يستحي منها.

مقاطعة المنافق:

* هل يجوز مقاطعة شخص منافق مع أنه مسلم وشيعي؟

- إذا كانت مقاطعته من باب النهي عن المنكر فيجب ذلك. وإلاّ إذا كانت هناك مصالح معينة فليس واجباً.

انفعال الزوجة:

* هناك مؤمن كلّما دخل مع زوجته في نقاش لأمر عائلي تتحوّل إلى بعض المظاهر الانفعالية كالصراخ وتنتهي بشقّ جيبها، فما حكم الزوجة التي تشقّ جيبها؟

- لا يجوز لهذا ذلك وعليها أن تأخذ بأخلاق الإسلام بأن تستمع إلى زوجها وتحاوره، وإذا كان لديها وجهة نظر أخرى فعليها أن تناقشه بهدوء وبعقلانية، لأنها بهذا الأسلوب الانفعالي لن تقنع زوجها ولن تحل مشكلتها، إذا كانت هناك مشكلة.

التخلّق بأخلاق الله:

* في الحديث الشريف «تخلّقوا بأخلاق الله» فما معنى ذلك؟

- أخلاق الله ني الرحمن الرحيم الكريم العفو الغفور وغير ذلك، فهي أخلاقه التي ذكرها في صفاته، وعلينا أن نتعلم أن نكون الرحيمين الكريمين العافينّ والمتخلّقين بأخلاق الله كلّها بمقدار ما نستطيع.

عدم تطبيق التعليمات:

* كثير من الأشخاص يسمعون محاضراتك وينصتون إليها لكنّهم لا يطبّقون حرفاً منها، فهل يعتبر هذا الشيء من النفاق؟

- ليس ضرورياً أن يكون نفاقاً ولكن هؤلاء ربما لا إرادة لديهم، وعليهم إذا اقتنعوا بالشيء أن يأخذوا به في حياتهم، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(الزُّمر/18) لأنّ الله غداً يجعل هذا الكلام الذي تسمعوه حجة علينا {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا}(الملك/8-9) وعلينا غداً أن نحضّر لكلّ سؤال جواباً {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}(النحل/111).

ذكر الموتى بالخير:

* يقال «اذكروا موتاكم بالخير» ونرى الإمام علي(ع) يذكر في «نهج البلاغة» الخلفاء بالسوء، فما هو ردّكم؟

- معنى أن يذكر الموتى بالخير أن تذكر محاسنهم، ولكن عندما تكون القضية قضية حق وباطل وعدل وظلم فالله لم يذكر فرعون وغيره والظالمين بالخير، فإذا كان الميت قاتلاً ومعانداً ومجرماً فعلينا أن نذكره بسوء حتى لا يتكرر الموقف مع غيره مثله، فهل ترانا نذكر يزيد بالخير مثلاً؟

أخلاق جيلين:

* ما حدود ما قاله الإمام علي(ع) «لا تخلقوا أولادكم بأخلاقكم»؟

- المراد بذلك ليس الأخلاق الإسلامية مثل الصدق والعفّة والأمانة، بل المراد الأخلاق الاجتماعية أي الأخلاق المتحركة لا الأخلاق الثابتة الأساسية، لأنّ الأخلاق الثابتة ليس لها زمان فالصدق صدق منذ أن خلق الله الدنيا إلى آخرها، والعفة والأمانة كذلك. أمّا في وسائل الحياة العصرية وطرق التعامل التي تناسب العصر فهي تتغير من جيل إلى جيل فلا يصحّ التعصّب للوسائل القديمة.

التقصير في التربية:

* إذا ذهب شخص إلى الغرب وربى أولاده كما ينبغي أن يربيهم في الدول الإسلامية لكن الأحفاد تأثروا بالغرب، فهل يلحق بهذا الشخص حرام، أم الحرام يلحق أولاده فقط لأنّهم قصّروا في تربية أولادهم؟

- عليه أن يعمل حتى مع أحفاده {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ}(التَّحريم/6). أي بحسب طاقته وحسب قدرته.

إقبال القلوب وإدبارها:

* يقول الإمام علي(ع) «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً» فهل إقبال القلب وإدباره من صفاء القلب؟ وماذا إذا كان القلب في حالة إدبار؟

- المقصود بالإقبال التوجّه ففي بعض الأوقات يكون الإنسان مشغولاً أو متعباً فلا يتوجه قلبه للعبادة، ولذا قال: «فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض»([863]) أي أنّ هذا كقول القائل: فخادع نفسك بالعبادة وخذ عفوها ونشاطها، بمعنى أنّ الإنسان يرى حالته النفسية وعليه أن ينمّي الطاقة الروحية في نفسه مهما أمكن.

المغفرة للميت بإحسان صديق:

* إذا كان هناك شخص غير صالح ثم مات، ولديه صديق صالح حي، وكان يدعو ويستغفر له وصام وصلّى وحجّ نيابة عنه، فهل يغفر الله لهذا الميت؟

- إنّ الله سبحانه وتعالى غفور رحيم وهو القائل {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(الأعراف/156). ولكن نحن بخلاء نريد أن نتدخل في أعمال الله فنوزّع الناس على الجنة وعلى النار توزيعاً كيفياً {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي لو جعل الله مفاتيح الرحمة بأيديكم {إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ}(الإسراء/100). وهناك حديث يقول: «إنّ لله رحمة يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس». فلعلّ رحمة الله تدركه لما يرى من رحمته للناس. ألم يقل الإمام علي(ع) في الدعاء «لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من إخلاد معانديك لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً وما كانت لأحد مقراً ولا مقاماً».

الظنّ والاتهام:

* ظنّ السوء بالآخرين، قد يظهر إلى الخارج، كما لو نقل الشخص ظنّه إلى الآخرين وتكلَّم به، فهل يصبح تهمة؟

- يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(الحجرات/12)، يعني أن لا تحكم بالظنّ ولا تتهم على أساس الظنّ.

استثناء من الجهر بالسوء:

* إذا شكى لي صديق شخصاً قد ظلمه لم أستطع مساعدة صديقي، هل يحقّ لي أن أسمع كيف ظلمه؟

- نعم، لأنَّ لصاحب الحقّ مقالاً، ويقول الله سبحانه وتعالى: {لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}(النساء/148). ولكن الأحوط أن يذكر المظلوم ظالمه بالسوء الذي ظلمه به عند من يرجو قدرته على دفع ظلمه عنه.

الحشمة من شروط الحجاب:

* ألا ترون أنَّ لبس البنطلون للناس لا يُعَدُّ حجاباً معنوياً، وهل للعرب العام دخلٌ في الحكم الشرعي في تحديد الألبسة من مجتمع إلى مجتمع آخر؟

- قلنا: إنَّه لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى المجتمع المختلط بما يوجب الإثارة، وبعبارة أخرى، يلزمها أن تخرج كإنسان لا كأنثى، وهذا هو الخطّ العام. أمّا العُرف فله دخل في تحديد موضوع الحكم الشرعي، هو يختلف من محلٍّ إلى آخر، فما يعتبر تبرجاً في محل قد لا يعتبر كذلك في محل آخر. كما أنَّ البنطلون نفسه ليس واحداً، وينبغي أن يعلم أنَّ هذه القضايا تفصيلية، والفقيه يعنى بالحكم الكلي، بمعنى أنَّه يُعطي الضابط العام، وهو أن تكون المرأة في حجابها مستورة الجسم مع الاحتشام، إذ لا يكفي الستر من دون الاحتشام.

غضب والدتي:

* والدتي تُبدي معارضتها بسبب التزامي الديني، وتؤكّد أنَّها تغضب وتدعو الله عليّ إذا أنا سعيت لتوسيع ثقافتي القرآنية، أو التحدّث مع الآخرين عن أوامر الله ونواهيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهل لدعائها هذا أثر عند الله سبحانه وتعالى؟

- لا أثر لهذا الدعاء، يقول تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(العنكبوت/8)، «ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([864]) لأنَّك في هذه الحالة لم تكن عاقاً لوالدتك، ولذلك لا قيمة لدعائها، ولكن عليك أن تستعمل معها الأساليب التي يمكن أن تردّ لهفتها عليك بطريقة وبأخرى، وحاول أن تهديها توعظها وترشدها. ولعلّ الله يفتح قلبها لتعينك على التزامك الديني. وفي هذا المجال كن الحكيم مع أمّك، فحاول أن تستجلب عاطفتها، فإنَّك وإن كبرت لكنَّك لا زلت الطفل بعينها، فكن كذلك معها في إقناعها وإرشادها إلى أنَّ الإخلال بالالتزام الديني يُوجب الضياع وغضب الله وسخطه، وهو مما يعرَّض الإنسان إلى النَّار، وهل ترضى أم لابنها أن يكون في النَّار يوم القيامة؟! وفي المثل الغربي «الأسلوب هو الرّجل» بمعنى أنَّ قيمتك وقيمة فكرك وعلمك بأسلوبك. ألا يعنى النَّاس الآن في مظاهرهم والتجّار والباعة في طريقة عرضهم للبضاعة وبما يُقنع النَّاس للشراء وغير ذلك، فكن مع أمّك على هذه الحال.

  بين اعتزال المجتمع والاندماج به:

* كيف يتمّ التوفيق بين ما دعا إليه المعصومون(ع) من اعتزال النَّاس واستحباب الانعزال والبُعد عن مخالطة النَّاس كعلامة إرشادية في طريق العرفان، وبين الجهاد العملي بالقول والفعل في كافة نواحي الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وما يتطلبه ذلك من حضور شخصي ومشاركة الآخرين قولاً وعملاً، وأيهما أفضل الانعزال أم الانخراط؟

- نحن مكلّفون بالعمل ومكلّفون بالدعوة لله سبحانه وتعالى، ومكلّفون بالسعي من أجل العيش وكسب الرزق، ومكلّفون بالتواصل مع المجتمع. وليس الانعزال إلاَّ من جهة مجاهدة النفس وترويضها، وإلاَّ فلسنا مأمورين بالانعزال، ولم يكن دأب الأنبياء والأئمَّة(ع) الانعزال عن المجتمع، بل كانوا جزءاً منه، وإذا كان الانعزال لجهة الابتعاد عن الرذيلة وعن الانحراف فإنَّ ذلك لا يعدّ من البطولة، لأنَّ البطولة أن تكون في قلب المجتمع وفي خطّ المواجهة، بحيث لا تسقط ولا تنحرف، وكما قال الشاعر:

ليس البطولة أن تموت من الظما                          إن البطولة أن تعب الماء

ويقول أحد الشعراء:

وحدة الإنسان خير                                   من جليس السوء عنده

وجليس الخير خير                                         من جلوس المرء وحده

تعليم الدّين من الصغر:

* يقول أحد المفكرّين «إنَّ ترك تعاليم الديانة في المدارس يجعل الشاب يتعلّم الدِّين عندما يكبر، فيحدث لديه نضج واعتقاد بأهمية دينه، وليس مثل ما يعتقده الشباب الآن»، فما هو تعليقكم؟

- ترى ما هو رأي هذا المفكر في تعليم الوطنية والقومية وتعليم الأخلاق، بمعنى أن لا يتعلّم الإنسان إلاَّ بعد أن ينضج فكرياً؟

هذا الرأي خاطئ، فنحن عندما نعلّم الشاب الدِّين فإنَّنا نهيئ فكره، ونهيئ مشاعره وأحاسيسه للانفتاح الديني، وكلّما تقدّم في العلم أكثر، ونضج في الفكر أكثر، استطاع أن ينضجّ تصوّره وسلوكه الديني أكثر، والحضارة تقوم على هذا، فنحن نربّي الأطفال على مفردات الفكر والسلوك والحركة، ثُمَّ نحاول أن نهيئهم تدريجياً لتنمو هذه المفردات فيهم.

أمّا على هذا الرأي، فإنَّه يقتضي أن لا نعلّم الطفل القيم ولا نتصدّى لتربيته، مع أنَّ تعليم الأطفال وتربيتهم على هذه القيم من الأمور التي درج عليها النَّاس والمجتمع، لأنَّه يزرع فيهم بذور الإنسانية. وقد ورد «قلب الحدث كالأرض الخالية كلّ ما ألقي فيها قبلته» وعندما يتصدّى الإنسان لتعليم ابنه وتربيته إسلامياً، فإنًّ ذلك لا يعني أنَّه يُجبره على الإسلام، لأنَّه سيكبر ويسمع وجهات النظر الأخرى. ولكنَّه بهذه التربية سيكون قادراً على مواجهة الأفكار الأخرى، وسيدخل معها في حوار ونقد وتفكير.

ردع بصوت عالٍ:

* قلتم إنَّ الذين لا يحسنون قيادة السيارة لا يجوز شتمهم بل اللازم تنبيههم، هل إذا نبهناهم بعصبية أو بصوت عالٍ يعتبر ذلك ذنباً؟

- يقول تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53) فما دمت تنصحه وأنت بصدد تفهيمه، فلا بُدَّ من اتّباع الأسلوب الهادئ. نعم إذا توقف ردعه عمّا يؤدي إلى الإضرار بالنَّاس على هذه الطريقة المذكورة في السؤال فيجوز ذلك.

البغض والحقد القديم:

* هناك رأي يقول إن هذا الحقد وهذه البغضاء التي بدت من أفواه الناس والحكام في الغرب ضد الإسلام كان موجوداً سابقاً ولكنه الآن ظهر للعلن، فما هو تعليقكم؟

- كان موجوداً من خلال بعض الأفكار، ولكن قلما كنا نسمع أن أمريكياً أو أوروبياً اعتدى على مسلم أو على عربي بشكل سافر، لأن ما حدث شجع في أنفسهم العداوة وعمقها، وذلك لأن الأحداث الأخيرة أعذرتهم وقدمت لهم حجة، فأخرجت مخزون الأحقاد التاريخية المختزنة في النفوس.

التقاعس عن الأمر بالمعروف:

* هل أن حديث رسول الله(ص) للمؤمن عن تغيير المنكر بقلبه على أنه وهذا أضعف الإيمان، ساهم في تقاعس الأمة؟

- لا، هذا معناه أن النبي(ص) يقول إنه لا بد لك أن ترفض المنكر من خلال الظروف المتاحة لك للرفض، وإذا كنت قادراً على ما هو ممكن فليكن التغيير به «ومن رأى منكم منكراً فليغيره بيده» أي إذا استطاع، فإذا كانت الظروف المحيطة بك تسمح لك باعتماد وسائل تغييرية على المستوى الإيجابي فهو مطلوب، «فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه» وإلا فالمهم أن تكون رافضاًَ بقلبك، وهذا الرفض القلبي الذي يظهر بوجهك من خلال معاشرتك وما إلى ذلك، كاف بلحاظ عدم قدرتك على ما هو أكثر تأثيراً.

التبعيض:

* هل تجيزون التبعيض عند الضرورة فقط أو حتى في غير الضرورة؟

- نجيزه في حالة الحرج والحاجة الملحة.

الدعاء للتعبئة الروحية:

* إذا كانت نية الدعاء هي لأجل التعبئة الروحية والتقرب من الله والراحة النفسية، فهل يستجاب لي في قضاء الحوائج التي طلبتها؟ أم أنّني إذا أردت ذلك يجب أن يكون هدف دعائي لأجل هذه الحوائج؟

- كل الدعاء لله، فهو يريد منك أن تطلب منه الراحة النفسية، وقضاء الحوائج وغير ذلك، لأن الله تعبّدنا بذلك كلّه، فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر/60)، {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(البقرة/200-201) فهو تعبّدنا بأن نطلب منه الجنّة، وأن نتعوّذ به من النار وما إلى ذلك.

الإسلام والعنف:

 لدى مناقشة موضوع الإسلام والعنف من خلال مطروحات سماحتكم أشكل علينا بعض الناس في تفسير فتح الأندلس واعتبروه نشراً للدين عن طريق القوة حيث لم يكن حرباً دفاعية، فما هو تعليقكم؟

- الحرب على نوعين، فمنها ما هو دفاعي كما لو هوجمت ديار المسلمين من الغير، وهناك الحرب الوقائية التي تمنع من وقوع حرب أو فتنة أو حيل بين الإسلام والناس أو هدد مصالح المسلمين ولذلك فقد تشرّع بعض الحروب لهذه الجهة. هذا أولاً، وثانياً نتحفّظ على بعض الفتوحات من حيث الشرعية في طبيعتها ووسائلها وأحداثها لأن بعضها كان من فعل الأمويين، هذا مع أن فتح الأندلس تحديداً لم يؤدّ إلى إرغام الناس هناك إلى دخول الإسلام حيث بقي عدد كبير منهم على دينه وهذا يفسّر الموقف الإسلامي من الدعوة إلى الإسلام بالقوة.

تعدّد زوجات النبي(ص):

* تعدد زوجات النبي(ص) محط انتقاد بعض الأشخاص ولا أجد جواباً مقنعاً أدافع به، فهم يقولون إنّ تعدد الزوجات اليوم هو محطّ انتقاد بشكل عام؟

- ما هو الأساس في الانتقاد المذكور، فلربما ينتقد البعض تعدد الزوجات، لأن الغرب لا يألف تعدد الزوجات الآن، والغرب ينطلق من خلال الذهنية المسيحية، وإلاّ ففي الغرب الآن يبحثون في تعدد العشيقات، ولكل واحد منهم أكثر من عشيقة وهي في بعض القوانين الغربية كالزوجة من حيث الحقوق، فلماذا يكون هذا حلالاً وذاك حراماً مع أن الإسلام فرض أربع نساء وفرض العدل بينهن؟ {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}(النساء:/3)، {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ}(النساء/129) يعني الميل القلبي، فالتعدد أصبح واقعاً، بل أن تعدد الزوجات أكثر عفة واتزاناً في وقت يخرج فيه الغرب على كل ذلك. وقد بحثنا هذا الموضوع في أكثر من كتاب، كما في كتاب (تأملات إسلامية حول المرأة) أو (دنيا المرأة) أو في تفسيرنا (من وحي القرآن).

التقييم والغيبة:

* هل يعتبر تقييم شخص ما والحديث عنه من الغيبة؟

- إذا كان تقييماً لمصلحة إسلامية فليس من الغيبة، وإلا كما لو كان مجرد تقييم شخصي فإنه يعتبر غيبة، ويجب الحذر من ذلك لأنه قد يشوق ذلك الهوى والرأي الشخصي فيلزم التريث والاحتياط.

كفّارة الكذب:

* ما هي كفارة الكذب؟

- الاستغفار.

براءة الذمة:

* هل طلب البراءة من الآخرين يعتبر شرطاً للتوبة على التطاول عليهم والتعرف لهم؟

- إذا استطاع المكلف أن يطلب البراءة ممن تعرض لهم فبها وإلا فليستغفر لهم.

القسوة على اليتيم:

* كنت أعيل يتيماً وكنت أقسو عليه ووصل بي الأمر إلى الضرب وعندما وافاه الأجل بدأت أشعر بتأنيب الضمير، فما الكفارة في ذلك؟

- عليك أن تستغفر الله في ذلك.

الشكر العملي:

* دائماً يقال: ينبغي أن نحمد الله وأن نشكره على النعم، هل الحمد والشكر باللسان؟ أم بالعمل؟ أم بكليهما؟

- باللسان وبالعمل معاً {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(إبراهيم/7) ومن الشكر إظهار النعمة فيما أحبّه الله سبحانه وتعالى وقد ورد «أقل ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمة الله على معاصيه» وورد أيضاً: «لو لم يتوعد الله على معصية لكان يجب أن لا يعصى شكراً لنعمه» وقد قيل لرسول الله(ص) «إنك تجهد نفسك في العبادة فقال أفلا أكون عبداً شكوراً» والصلاة تعبير عن الشكر لله سبحانه وتعالى.

نيّة القربة:

* أكثر الناس لا يدرسون كما يدرس طلبة الحوزة، وهم يقومون بأعمال كثيرة مثل زيارة المرضى ومساعدة الناس ولا يعرفون أن ذلك يحتاج إلى نية القربة، فهل هم مأجورون؟

- أساساً نية القربى أمر طبيعي في الناس، فلماذا الإنسان يزور المريض، هل يأخذ منه مالاً؟ لا، بل يحب الزيارة ويعرف أن الله يحب هذا العمل ولذلك فإن نية القربة هي نية مختزنة في كلّ فاعل خير، لأنك إذا سألته، يقول أقوم بالعمل في سبيل الله، لذلك القربة لا تحتاج إلى التكلّف، ويكفي الإنسان أن يعمل الخير، لأنه يحب الخير، خصوصاً إذا كان مؤمناً، ولذلك ليحرز رضا الله عنه، فلا يحتاج إلى التكلف اللفظي في النطق بالنية، حتى في الصلاة والصوم والحج، لأن الإنسان يعرف أنه إمّا يقوم بهذه الأعمال لأن الله أمره بها أو لأنها واجب، فإن النية هي عبارة عن الدافع نحو العمل.

 

 

الفصل السادس

 

 

المسائل الفقهية

 

 

 

 

 

 

 
 
 

أولاً: المرجعية والتقليد

ثانياً: النجاسات والطهارت

ثالثاً: الوضوء والصلاة

رابعاً: الصيام والكفّارات

خامساً: الخمس والزكاة

سادساً: الحج والعمرة

سابعاً: الزواج والطلاق

ثامناً: أموال وبنوك

تاسعاً: السلوك والمعاملات


أولاً: المرجعية والتقليد؟

تحريف الفتوى:

* إنّ تحريف الكلم لا يقتصر على الطعن بل يمتد لتمرير وتبرير الأهواء كما في مسألة ارتداء البنطال عند النساء التي تفشّت بدعوى أنّكم تجيزون ذلك، فما هو ردّكم؟

- أنا لم أقل إنّ البنطلون حلال ولم أقل إنّه حرام، بل قلت إنّ الحجاب له وجهان: الوجه الأول ماديّ وهو ستر الجسد بأية كيفية بحيث يصحّ لها أن تصلّي به، لأن الصلاة لا يشترط فيها إلاّ ستر الجسد. والوجه الثاني معنوي، وهو أن لا تظهر المرأة كأنثى تثير الغرائز {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}(الأحزاب/32). والآية لا تتضمن القول فقط بل تشمل أيضاً كلّ ما يُطمع الرجل بالمرأة سواء كان بنطالاً ضيقاً أو غيره، فإذا فرضنا أنّه كان بنحو مثير فهو حرام، وإذا لم يكن مثيراً فليس حراماً، وإن كان الأفضل للمرأة الاحتشام، أمّا هل أنّه مثير أو غير مثير، فأنا لست من أهل الخبرة في ذلك، فالفقيه يعطي الخطّ العام، كما هو حال كلّ الفقهاء فهم مثلاً يقولون: يجوز لك النظر بدوم تلذّذ أو ريبة، أما كيف يكون ذلك فهذا يرجع للناس أنفسهم.

العنوان الثانوي:

* يكثر في هذه الأيام استخدام العناوين الثانوية حتى أصبح العنوان الثاني كأنّه الأصل، ألا يعني ذلك أنّ الإسلام يواجه صعوبة في سران أحكامه الأولية؟ ألا نتوقع في المستقبل أن نستغني عن القرآن والنص ونتسلّح بالعناوين الثانوية؟

- إنّ العناوين الثانوية هي من الإسلامي، فالحكم «لا ضرر ولا ضرار» ما شرّع إلاّ ليحلّ مشكلة للمسلمين، فمثلاً أنت يجب عليك أن تتوضّأ بالماء، ولكن إذا فرضنا أنّ الوضوء يضرّك فإنّه يسقط عنك في هذه الحال. كما أنّ هناك حرجاً في أشياء كثيرة، والله يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج/78). {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}(النساء/43). هذه كلّها عناوين ثانوية.

الخلاف بين المقلدين:

* من المعروف أنّ قوة المسلمين في إجماعهم وليس في تفرقّهم، لماذا نلاحظ أنّ هناك اختلافات كثيرة بين مقلّدي زيد وعمر من المراجع؟  

- لأنّ هناك تخلّفاً؟ وإلاّ فلماذا لا نختلف إذا أراد أحدنا أن يذهب إلى هذا الطبيب أو ذاك؟ لماذا لا نختلف إذا ذهب أحدنا لهذه الجامعة وذهب الآخر لتلك الجامعة؟ إن هناك عصبية وعبادة للشخصية، وإلاّ فالتقليد هو رجوع العالم للجاهل، فإذا كنتَ معتقداً بالمرجع الفلاني فما دخلك بي إذا كنتُ معتقداً بالمرجع الآخر؟ ما هذه العصبية النكراء؟ إنّ هذا ليس ديناً، فكلّ الذين يهاجمون بعضهم البعض، ويسبّون بعضهم البعض، ويقاطعون بعضهم البعض بسبب تقليد هذا  العالم أو ذاك، وكلّ الذين يغتابون هذا المرجع أو ذاك ويشهّرون بهم وليس بمتدينين بل هم متعصبّون والعصبية من الشيطان و «العصبية في النار» وكما جاء في الحديث الشريف عن رسول الله(ص) «من تعصّب أو تُعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه»([865]).

إجازة الرجوع إلى مرجع آخر:

* ما هو رأيكم بالنسبة لمقلدي الشهيد السعيد آية الله محمد صادق الصدر(رحمه الله) الذين يرجعون إليكم في المسائل، علماً أنّ العراقيين لا يمكنهم أن يعلموا حكم المسائل، فهل تجيزون الرجوع إلى مجتهد آخر؟

- أعتقد أنّ (فقه الشريعة) بالنسبة إلى العراقيين في الداخل قد انتشر، وكذلك (المسائل الفقهية) انتشرت هي الأخرى بشكل واسع، فإذا لم يمكنهم ذلك فلا مانع من ذلك.

صلاحية أهل الخبرة في الحكم:

* في شهاداتكم المتأخرة قلتم إنّ الإسلام يريد حفظ النظام للناس ولا يتوقف هذا على ولاية الفقيه في الحكم بل ربما يتولى أهل الخبرة الحكم والسياسة والاقتصاد مع وجود مستشارين فقهاء يراقبون العملية الإسلامية، فمن الذي يحدد صلاحية أحد الفريقين خصوصاً إذا رأى كلّ واحد منهم الأصلحية لنفسه؟

- أولاً: لم تثبت عندنا ولاية الفقيه العامة بالأدلة الاجتهادية، ولذا نقول إذا توقف حفظ النظام عليها فهي واجبة على قاعدة وجوب حفظ النظام العام، وهذا ما يتفق الفقهاء المسلمون جميعاً عليه وهو أن كلّ ما يؤدي إلى حفظ النظام فهو واجب، وكلّ ما يؤدي إلى اختلال النظام فهو حرام. وأمّا من الذي يحدد هذا الشيء فهم أهل الخبرة في السياسة، وإذا فرضنا وقع خلاف فله حلوله، ولكننا نتكلم من حيث المبادئ، أمّا كيف هي إدارة المسألة على أرض الواقع، فإذا اختلف الناس الذين يحكمون بطريقة وبأخرى فلا يحكمون بمزاجهم، بل حتى الولي الفقيه لا يجوز له أن يحكم بمزاجه فيما لا خبرة له فيه إذا لم يكن عنده تخصص بالاقتصاد أو شؤون الدولة الأخرى مما يجب معه الرجوع إلى أهل الاقتصاد والخبرة، فالاختلاف في القضايا التفصيلية يرجع فيه إلى هؤلاء.

لوح الواقع:

* ما معنى مصطلح (لوح الواقع)؟

- لوح الواقع هو عبارة عن ساحة الواقع وسطحه من خلال ما يحدث فيه من قضايا أو أحداث ومواقف.

حيرة في مسألة التقليد:

* أنا فتاة في السابعة عشر من العمر، وأنا محتارة في التقليد بينكم وبين مرجع آخر، علماً أنني أثق بكليكما، فماذا أفعل؟

- إذا كان لديك طمأنينة بالاثنين فيمنك أن تتخيّري بينهما، والاطمئنان حجّة، فإذا كان الاطمئنان بأحدهما أشدّ فيمكنك أن تختاريه مقلّداً، وتقليدك مبرئ للذمة إن شاء الله.

إدعاء الفقيه الأعلمية:

* هل يعتبر قول المرجع إنه أعلم حجة شرعية يمكن للمقلدين التمسّك بها؟

- إذا كان قوله يوجب الاطمئنان فالاطمئنان حجّة، وإلا فمجرد قوله ليس كافياً.

رسالة عملية باللغة الأجنبية:

* زوجتي أجنبية أسلمت حديثاً، فما هو رأيكم في تقليدها لأحد المراجع الكرام مع جهلها باللغة العربية؟

- بإمكانها أن تطمئن من خلال اطمئنانك بمرجع معين وتتعرف على الأحكام الشرعية من خلال ما تعطيها أنت من الأحكام التي يمكن أن تترجمها لها، كما أنّ لدى بعض المراجع رسائل عملية الأجنبية، فنحن مثلاً لدينا (الفتاوى الواضحة) باللغة الإنجليزية.

الطبيب وفتوى التدخين:

* أنا طبيب وأعرف عن مضار التدخين ما لا يعرفه عالم الدين حتى أنّ أضراره تتجاوز أضرار الخمر، فهل يحقّ لي إصدار فتوى بأنّها أشد حرمة من الخمر وأعدّها بمثابة إحدى الموبقات السبع؟

- لا تصدر فتوى بل قل إنّه على حسب دراستي وخبرتي إذا كانت الخمرة محرّمة لإضرارها فالتدخين هو أشد ضرراً من الخمر. وهذا هو الذي جعلنا نحكم بتحريم التدخين مطلقاً للمعتاد ولغير المعتاد {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}(البقرة/219). وليس في الدخان نفع أساساً.

فتاوى حرمة المسابقات:

* صدرت بعض الفتاوى من الأزهر الشريف بحرمة المسابقات التلفزيونية وخصوصاُ برنامج (من سيربح المليون)، فما مورد الحرمة في رأيكم؟

- لقد قرأت الفتوى والحيثيات التي ذكرها المفتي عنها فلم أر فيها أساساً للتحريم، لأنّ في المسألة جانبين: جانب المهاتفة والخسائر المترتبة عليها دونما نتيجة، وهذا ليس قماراً، فأنت قد تستعمل الهاتف الذي تنتفع به شركة الهاتف وليس الأشخاص القائمون على البرنامج، وذلك من أجل أن تحصل على فرصة معينة، وهذا أمر عقلائي، فالإنسان قد يدفع مالاً في سبيل احتمال كسب، وهذه طريقة التجّار كلّهم، فقد يدفعون أموالاً ويخسرون على احتمال أن يربحوا. وأمّا قضية (من سيربح المليون) فالمال يدفع في قبال جائزة لمن يجيب أجوبة معينة، فالربح مشروط في الأساس بأن يمتلك المشارك الإجابة فيدخل ذلك في باب الجعالة أو في باب الجائزة، أمّا القول أنه أكل مال الباطل فليس صحيحاً،  فالمشارك في البرنامج لا يدفع مالاً معيناً في سبيل أن يحصل على مال، ولذا فهذا ليس من أكل المال بالباطل، ولذلك فمن خلال دراستي لحيثيات هذه الفتوى لم أجد هناك ما يؤكّد الحرمة من الناحية الشرعية.

مصادر استنباط الحكم الشرعي:

* ما هي مصادر الاستنباط التي اعتمدتم عليها في الأحكام الشرعية؟

- نفس المصادر التي يعتمدها المجهتدون الآخرون وهما الكتاب والسنّة، أمّا العقل والإجماع فالعقل إنّما هو كاشف عن السنّة وليس دليلاً مستقلاً، والإجماع أيضاً كاشف عن السنّة لأنه قولٌ عن المعصوم. وغاية الأمر أننا نفهم بعض الآيات القرآنية بطريقة تختلف عن فهم الآخرين، كما نفهم بعض القواعد بطريقة معينة تماماً كما يختلف المجتهدون في فهم الكتاب والسنّة.

حقّ وكيل المرجع:

* هل يحقّ لوكيل المرجع أن يأخذ شيئاً من الحقوق الشرعية من خمس وما شابه، لأننا سمعنا بعضهم وخاصة الذين يعيشون في الغرب أن له حقّ الثلث؟

- هو كبقية الفقراء يأخذ إذا كان فقيراً. نعم باعتبار أنه يقوم بجهد فيأخذ من الحقّ مقابل جهده. لكنّ الحقوق الشرعية ليست وسيلة من وسائل الإثراء.

خطأ في التشخيص:

* كنت أُرجع الناس لإحدى المرجعيات وظهر أنّي على خطأ في التشخيص، فهل عليّ إثم في ذلك؟

- ليس عليك إثم ولكن عليك أن تبيّن خطأك.

تحريم العمل الاستشهادي:

* حرّم البعض العمل الاستشهادي الانتحاري، فعلى ماذا أستند في هذه الفتوى؟

- ربّما كان بعض هؤلاء المشايخ يفكّرون بأنّ هذا نوعاً من إلقاء النفس بالتهلكة، وأنّ الجهاد هو أن يقتل الإنسان بيد العدو عندما يهجم على العدو، أمّا أن يقتل الإنسان نفسه بيده فهذا مصداق قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(البقرة/195) {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}(التوبة/111). لكن الفرق بين الجهاد كإلقاء النفس في التهلكة بالحرب وإلقاء النفس في التهلكة في الحالات الفردية، هو أن الجهاد هو أن تقتل نفسك في سبيل قضية كبرى على أساس شرعي. ولذا نقول أنّ هذه العمليات التي يقوم بها هؤلاء المجاهدون سواء في لبنان أو في فلسطين استشهادية، والذين يقومون شهداء لأنهم فجّروا أنفسهم بالعدو من أجل القضية الشرعية الكبرى، إذ ما الفرق بين من يبرز للمعركة من أجل أن يقتل العدو بسيفه ليقتله العدو بسيفه وبين من يفجّر نفسه بالعدو، فهذا جهاد وهذا جهاد، والله سبحانه وتعالى لم يحدّد للمجاهدين آلية الجهاد بل إنّه رخّص لهم أن يقاتلوا العدو بكلّ الوسائل التي تحقّق الهدف، فإذا كانت العمليات الاستشهادية تحقق الهدف فإنّها عمليات استشهادية جهادية، ونحن نقرأ في واقعة كربلاء عندما صلّى الإمام الحسين(ع) الظهر أنّ هناك شخصاً وقف أمام الحسين(ع) وهو يصلّي وكانت السهام تنهال عليه من كلّ جانب والرجل ينـزف وانتهى الحسين من صلاته وسقط الرجل وهو يقول: هل وفيت يا بن رسول الله؟ قال: نعم، أنت أمامي في الجنة. أليست هذه عملية استشهادية؟ وفي حرب الجمل أعطى الإمام علي(ع) لأحد جنوده القرآن حتى يعرضه أمام الجمهور قائلاَ تعالوا نحتكم إلى كتاب الله فقتله الجمهور وهذه عملية استشهادية أيضاً.

فهؤلاء الذين يقولون بهذه الفتاوى لا يعملون معنى الجهاد لأنهم لم يعيشوا قضية الجهاد، فلا يفهم الجهاد إلا من يعانيه، وبعض هؤلاء لا يعيشون القضايا الكبرى ولا سيما إذا كانوا موظفين عند السلطان يعطونه فتوى بالسلم عندما يريد السلم وفتوى بالحرب عندما يريد الحرب، أولئك وعّاظ للسلاطين وما أكثرهم.

قياس درجة الاجتهاد:

* ما هو مقياس درجة الاجتهاد؟ ومن هو الذي يمنحها؟ وهل يشترط بالمجتهد أن يكون ممن درس في الحوزة علماً أننا نرى أنّ هناك أشخاصاً كالجابري وأركون يفهمون النص أحسن من كثير من المجتهدين، فأنا أستاذ في قسم الاستشراق وأعرف بعض المستشرقين ممن يفهمون النصوص الإسلامية فهماً جيداً، فلم يختص ذلك بالحوزات؟

- نحن لا نقول إنّ الاجتهاد مختصّ بالحوزات، بل يمكن لغير المسلم أن يتخصّص في ذلك. ولكن هناك نقطتان: الأولى فهم النصوص، والثانية معرفة القواعد. فالفقه يرتكز على قواعد في علم الأصول، وكذلك لا بدّ من معرفة الموازنة بين النصوص.

ومع أنّ بعض الأساتذة والمستشرقين لديهم ثقافة جيدة ولكن لا نستطيع القول إنّهم مجتهدون على الطريقة العلمية في الاجتهاد كما هي الطريقة العلمية في الأدب والقانون والعلوم الأخرى، فلكلّ علم أصوله، والثقافة في جانب لا تعني امتلاك الثقافة في كلّ الجوانب، فعالم الاجتهاد فن ويحتاج إلى أهل الخبرة حتى يفهموه، كما هو شأن العلوم الأخرى التي تحتاج إلى خبراء في مجالاتها.

شرط الأعلمية والحياة:

* هل ترون شرط الأعلمية وشرط الحياة في مرجع التقليد أم لا؟

- رأينا أنّه لا يشترط الأعلمية، أمّا الحياة فكنت أرى جواز تقليد الميت ابتداءً ولكنّنا سجّلنا بعد ذلك احتياطاً من جهة المصلحة العليا بالعنوان الثانوي.

الرجوع إلى الميت في العدول:

* كنت من مقلدي الشيخ (محمد أمين زين الدين) (رحمه الله) لمدة طويلة وبعد وفاته بحوالي السنة قلّدت فقهياً آخر لكنّ بعض الناس قالوا لا يجوز العدول لمقلد سواء كان حياً أو ميتاً إلاّ إذا كان يرى المقلد الأول أن لا مانع لديه من تقليد غيره، فأصبحت في حيرة، فما هو حكمي؟

- هذا الكلام غير صحيح، لأنّ البقاء على تقليد الميت لا يرجع فيه للميت بل يرجع فيه إلى الحي، ولذلك فإنّك عدولك أو بقاءك برأي الحي هو الصحيح.

إيضاح حول الاستنساخ:

* سبق أن ذكرتم أنّ الاستنساخ من خلية الأم يجعل الأم هي الأم والأب في آن واحد، ألا يخالف هذا العرف والشريعة؟

- صحيح، أنّ ذلك يخالف العرف لكنّه لا يخالف الشريعة، فالأصل الإباحة، فهذا ولد من أم دون أب ولقد أوضحنا كيفية ذلك فبعد أن أخذوا خلية من الأم وزرعوها في داخل البويضة بعد تفريغ البويضة من الكروموسومات ولد الولد من هذه الأم، وهذا مثله مثل عيسى(ع) لكن ذاك كان بالقدرة المباشرة لله وهذا بما ألهم الله الإنسان معرفته في هذه الطريقة، لذلك نحن لا نرى أنّ هناك حرمة في ذلك. نعم نحن نناقش في قضية الاستنساخ البشري من خلال إمكانية أن يسيء إلى كثير من الأوضاع الاجتماعية وأن يخلق فوضى من هذه الناحية، ولكن أصل المبدأ لا يوجد دليل على حرمته.

المنهج الأصولي الإخباري:

* ما هو الفرق بين المنهج الأصولي والمنهج الإخباري؟ وهل هناك أثر في ذلك على مستوى العقيدة؟

- ليس هناك أي أثر، فهؤلاء مسلمون مؤمنون اثنا عشريون، وأولئك مسلمون مؤمنون اثنا عشريون، هؤلاء يأخذون بكتاب الله وسنّة رسوله(ص) وكذلك أولئك، ولكن هناك مسائل علمية اختلفوا فيها حتى أنّ بعض الإخباريين يأخذ بآراء الأصوليين، ولكنّ العصبية جعلت الإخباري ينظر للأصولي وكأنه رجل خارج عن الدين، والأصولي ينظر إلى ذاك بنفس النظرة، وكل هذا من نتائج الجهل والتخلّف والعصبية.

هل الفقهاء أطباء نفسانيون:

* يصف الناس الفقهاء بأنّهم أطباء نفسانيون، فلماذا القول بوجوب التقليد إذا كان بإمكاني الذهاب إلى أي طبيب أشاء؟

- أولا: الفقهاء ليسوا أطباء نفسانيين بل أطباء فقهيين شرعيين ـ إذا جاز التعبير ـ فقد كون عند شخص ثقافة نفسية يداوي بها مرضاه، وقد يكون محتاجاً إلى مداواة نفسه، فهذا ليس له دخل في مسألة الفقاهة، وإنما هي اختصاص قائم بذاته في مجال الطب. أمّا التقليد فكما قلنا مراراً فهو كذهابك إلى الطبيب المختص، ألست تقلّد الطبيب فيما يصفه لك من دواء؟ فهو من باب رجوع العالم إلى الجاهل، فكما أنه ليس عندك معرفة في الطب فكذلك الرجوع إلى الفقيه من باب أنّك ليس عندك اختصاص بالشريعة فهو يقول لك إنّ حكمك الشرعي هو هذا، فإذا سألك الله غداً، لماذا فعلت كذا؟ تقول له لأنّك طلبت مني أن أسأل {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل/43). وأنا سألت أهل الذكر.

الأعلمية السياسية:

* من منطلق ولاية الفقيه والتقليد، هل الأعلمية السياسية شرط في التقليد؟ وإن وُجِدَ هل يجب اتباعه أو يُشترطه في التقليد الأعلمية الفقهية؟

- التقليد هو عملية ثقافية، وهو رجوع غير المختص إلى المختص والخبير، وربَّما تحتاج بعض الفتاوى إلى معرفة بالسياسة عندما تتعلّق الفتوى بالأمور السياسية، والأعلمية ليست شرطاً عندنا.

إحراز عدالة الإمام:

* هل تجوز صلاة الجماعة خلف إمام مجهول العدالة؟

- لا بُدَّ من إحراز عدالة الإمام الذي يصلّى خلفه جماعة، نعم يمكن في بعض الأحيان الاعتماد على بعض القرائن، كما لو كان المصلون كثراً وفيهم الصلحاء على نحو لا يمكن اجتماعهم من دون إحراز عدالة الإمام، فإذا حصل الاطمئنان ولو من خلال هذه الجهة يجوز.

فتوى أسيء فهمها:

* لديَّ صديق يسكن بلاد الغرب وكان قبل أن يذهب إلى هناك يفرض على زوجته حجاباً إسلامياً كاملاً وهي العباءة، لكنَّ هذه المرة خرجت معه زوجته ترتدي البنطلون الذي يظهر مفاتن المرأة ووضعت على رأسها حجاباً لا يستر إلاَّ الشعر، ويظهر فيه عنقها، ولما كانت لي معه صحبة سألته: ماذا تغيّر في الأمر؟ قال لي بأنَّ هذا حجاب شرعي حسب فتوى السيِّد فضل الله، هل صحيح هذا يا سيِّدي؟

- لا، هذا غير صحيح، ثُمَّ إنَّه لا يجوز لأحد أن ينسب لي فتوى لم يطَّلع عليها تفصيلاً. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الحجاب على قسمين حجاب مادي وهو الحجاب المطلوب في الصلاة، بمعنى أنَّ المرأة لو فرضنا أنَّها لبست ما يستر جسمها، وكان الثوب ضيقاً مظهراً لمفاتنها، فإنَّه يجوز لها أن تصلي فيه. أمّا الحجاب الذي تظهر فيه المرأة في المجتمع فهذا يشترط فيه أمران ـ كما قلنا مراراً وتكراراً ـ الستر والحشمة، بمعنى عدم التبرج، وأن لا تخرج المرأة بما يظهرها كأنثى ومما يثير الشهوة، سواء من جهة اللون أو تفصيل الثوب أو طريقة اللبس وغير ذلك.

ثبات الحدود وتغيرها:

* الحدود الشرعية، هل هي ثابتة أم متغيرة؟

- حدود الله لا تتغير وهي ثابتة، نعم التعزيرات متغيرة.

العدول في موارد الاحتياط:

* هل تجيزون العدول في المسائل التي فيها احتياط وجوبي بشكل مطلق؟

- في الموارد التي فيها احتياط وجوبي يجوز العدول.

مهام الأنبياء والعلماء:

* الأنبياء والرُّسل والأئمَّة المعصومون(ع) لهم دورٌ تاريخي في تبليغ الرسالة للعالم ودورهم في الحياة ليجسِّدوا عبودية الإنسان لخالقه، فما هو رأيكم ببعض العلماء المشغولين بالطهارة والنجاسة وهم يختصرون المشاكل بهذه المسائل؟

- هذا من اختصاصهم أيضاً، والأمّة تحتاج إلى ذلك، إلاّ أنَّ ذلك لا يعفيهم من مسؤولياتهم الأخرى.

التبعيض في التقليد:

* هل غيّرتم فتواكم بشأن التبعيض فأصبح الآن جائزاً في حالة الحرج والحاجة الملحة فقط، فنحن نرجع إليكم في كثير من الأمور، وفي أمور نرجع إلى مراجع الآخرين بسبب اقتناعنا السابق بأنكم تجيزون التبعيض بين المراجع في جميع الأقوال وهو أمر هام جداً ويتناسب مع خطك لأنه يعطي للفرد حرية في الرجوع لمن يقتنع بفتواه وبنفس الوقت لا يخرج عن القاعدة الشرعية بسؤال أهل الذكر والرجوع إليهم؟

- نحن لا نريد الفوضى في هذا المجال، فإنما نحن نجوِّز التبعيض كما لو قلّد مجتهداً واقتنع بفتاويه. ولكنه في بعض المسائل قد يحتاج إلى فتاوى الآخرين، فنحن نجيز ذلك، بشرط أن لا تصل المسألة إلى حد الفوضى والمزاجية.

تقليد الأعلم:

* قلدت أحد فقيهين بناء على شهادة أحد الأفاضل بأن فلاناً الأعلم ولكن ظهر لي أن الآخر هو الأعلم، وقد ظهر لي ذلك يوم وفاة هذا الآخر، فما هو حكم تقليدي؟

- إذا قلدت مجتهداً وأنت مقتنع به فليست هناك مشكلة، خصوصاً وأن مسألة تحديد الأعلم من الصعوبة بمكان، ونحن نرى أنه لا يجب تقليد الأعلم.

مسائل التبعيض اجتهادية:

* هل أنّ مسألة جواز التبعيض هي من المسائل التي يستطيع أن يؤمن بها المكلف بلا تقليدـ بمعنى لو اطمأن قلبي بأنه يجوز التبعيض، فهل يصحّ مني التبعيض؟

- مسألة التبعيض من المسائل الاجتهادية التي يجب أن تقوم عليها حجة شرعية وذلك لا يتاح إلا للمجتهدين.


 

ثانياً: النجاسات والطهارات:

دخول الحائض للمرقد المقدس:

* هل يجوز للمرأة الحائض أن تدخل للمراقد المقدسة لغير المعصومين كمرقد السيدة زينب(ع)؟

- يجوز ذلك إذا لم يكن مسجداً، فالاحتياط المعروف عند العلماء هو لمراقد الأئمة(ع) فيجوز الدخول إلا إذا كان المقام مسجداً فحكمه حكم المسجد، أما إذا كان المقام غير مسجد كما في مرقد السيدة زينب الذي يعدّ جانب منه مسجداً فيجوز الدخول في القسم الذي لا علاقة له بالمسجد، وإلا فبشكل عام يجوز للحائض وللجنب أن يدخلا لمراقد أبناء الأئمة(ع).

كفّارة دخول الحائض إلى المسجد:

* دخلت مسجد الكوفة عمداً وكنت في العادة الشهرية، وقد حصل ذلك حياء من أن يشاهدني الآخرون في الخارج، فما هي كفّارتي؟

- إذا كنت في حرج شديد لا يتحمّل عادة فالله سبحانه وتعالى قد يعذرك، وإذا ابتليت بذلك مستقبلاً فعليك أن تتخلّصي من الإحراج الذي لا مبرّر له، فإن تكون المرأة في العادة الشهرية ليس عيباً.

إحراق جثث الموتى:

* يعمل أخي في مستشفى بعض الجامعات؟ وبحكم عمله فإنّ عليه أن يحرق جثث الموتى لأبناء الطائفة الهندوسية، فما حكم عمله؟

- الأفضل أن لا يقوم بذلك، ولكنّه ليس محرّماً، فاحترام جثة الميت إنما هو مختصّ بالمسلمين، أمّا لغير المسلمين فلم يؤكّد الإسلام هذه الحرمة، لا سيما وأن الهندوس يرون أنّ إحراق الجثث هو إحسان إلى الموتى.

البيرة وتعليب لحم الخنـزير:

* في بعض دول اللجوء كالنرويج يخيّرون اللاجئ في العمل في مصانع البيرة أو تعليب لحوم الخنـزير، وعند رفض العمل من قبل اللاجئ يقطع عنه الراتب؟

- في حال لم يكن بإمكانه أن يختار عملاً آخر فليقدّم التعليب لأنّه يجوز عندنا تقديم لحم الخنـزير لمستحلّه.

غسل الجنابة من حرام:

* هل يجزي عن الوضوء الغسل من الجنابة من حرام؟

- كلّ غسل من الجنابة يجزي عن الوضوء سواء كان الجنابة من حرام أو حلال.

مياه المجاري في مزرعة:

* عندي مزرعة وقد فاضت عليها مياه المجاري في يوم واحد، فهل يجوز الأكل من هذه المزرعة، وكيف نطهّرها؟

- يجوز الأكل منها، ويمكن أن تجري عليها الماء الطاهر.

الأغسال والترتيب:

* هل غسل الجمعة مثل غسل الجنابة من حيث الترتيب؟ وهل يغني عن الوضوء؟

- لا فرق في كلّ الأغسال من حيث الترتيب بين الرأي والرقبة ثم الجسد كلّه، وليس هناك ترتيب بين الشق الأيمن والأيسر، وإن كان الأحوط استحباباً. فغسل الجمعة يجزي عن الوضوء وكلّ غسل ثبت استحبابه شرعاً يغني عن الوضوء وليس الجمعة فقط.

غسل دم الميت:

* هل يغسّل الميت مرة ثانية إذا خرج منه دم؟

- كلاّ، بل يطهّر محله.

دم ماذا:

* أجريت لزوجتي عملية ولادة ولهذا السبب أصحبت ترى الدم لأكثر من شهرين، فهل يعتبر من دم الحيض أم النفاس؟

- إذا جاءها الدم في أيام العادة فهو حيض والباقي استحاضة، ودم النفاس أيضاً لا يزيد عن العشرة وأمّا الزائد عن العشرة فيكون استحاضة.

الماء المضاف:

* عند غسل بعض الملابس يصطبغ الماء بلون يخرج منها، فكيف نعرف ما إذا أصبح الماء مضافاً أو غير مضاف؟

- تستطيع أن تحمل الماء بكفك فترى أنّه غير ملوّن لأنّه عندما تنتشر أجزاء الماء قد يبدو ملوناً وهذا شيء عرفي.

تطهير السجّاد:

* عند غسل السجّادة كلّها أسكب الماء عليها فيخرج منها ماء بلون بني من أثر التراب، فكيف أطهّرها؟

- التطهير يتمّ بإجراء الماء بحيث يصل إلى كلّ أجزائها وكبسها لإخراج الغُسالة منها.

حكم دم:

* ما هو حكم الدم النازل بعد العادة الأولى لأقل من عشرة أيام وله نفس مواصفات دم العادة واستمر نزوله أكثر من ثلاثة أيام؟

- إذا كان الدم بصفات دم الحيض فإنّه حتى لو تجاوز أوقات العادة بشرط أن يقف عند العشرة فهو حيض، لأنه إذا تجاوز العشرة حتى لو كان بصفات دم الحيض فإنها تستقطع مدة عادتها وتعتبر الباقي استحاضة.

تذكية غير المسلم:

* سألني أحد الكتابيين ذات مرّة: هل الذبح حلالاً إذا ذبح الذبيحة مسيحي وكان متجهاً للقبلة فأجبته بأنّه يشترط بالذابح أن يكون مسلماً، فسألني ما الحكمة من ذلك؟

- المشهور بين علماء المسلمين الشيعة أنّ ذبيحة غير المسلم لا تحلّ حتى لو سمّى، فلا بدّ أن يكون الذابح مسلماً كما أنّ اليهود لا يستحلون الذبح إلا إذا كان الذابح يهودياً، وربما كانت الحكمة في ذلك أنّ في الذبح شيئاً من الجانب الروحي بالإضافة إلى الجانب المادي، ولذلك فإنّ المسلم هو الذي يعيش التسمية لا بشكل لفظي بل بصورته الحقيقية. ولكنّ هناك رأياً آخر لبعض العلماء القدامى والمعاصرين في هذه المسألة، فهم يقولون أنّ الله لم يذكر إلا التسمية {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}(الأنعام/121). {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}(الأنعام/118). فإذا وقد ورد عن أهل البيت(ع) «إنّ الذبيحة اسم ولا يؤمن عليها إلا مسلم». فإذا أمنا غير المسلم فيجوز ذلك، وهذا الرأي نستقربه كما يستقربه الشهيد الثاني (رحمه الله) وعلماء معاصرون، ولكن الأحوط أن يكون الذابح مسلماً.

بيع المتنجس:

* بعت قبل فترة طويلة شراباً متنجساً لأحد المسلمين، ما هي الكفّارة الواجبة عليَّ؟

- لا كفّارة سوى الاستغفار.

الحشرات في أماكن النجاسة:

* ما حكم الحشرات الموجودة في بيت الخلاء، وخاصة عندما تُلامس بدن الإنسان وهو في بيت الخلاء؟

- لا تُنجسه، إلاَّ إذا فرضنا أنَّ النجاسة موجودة على جسمها بحيث تنقل له النجاسة، فبهذه الطريقة يتنجس وإلاَّ فلا. وهناك علماء يقولون إنَّ بدن الحيوان لا يُنجس، أو إنَّه يطهر بزوال النجاسة.

منشأ الاحتياط في لحم الأرنب:

* ذكرتم في رسالتكم العملية (فقه الشريعة) أنَّه يحرم الاغتذاء بالأرنب على الأحوط وجوباً، فما هو منشأ الاحتياط الوجوبي، ولو بشكل مختصر؟

- روي عن الإمام الصادق(ع) روايات صحيحة بأنَّ النبيّ(ص) كان عزوف النفس وأتي بالأرنب فكرهها ولم يحرّمها. ولكن لما كان هناك شبه إجماع يدَّعي حرمة أكل لحمه، فإنَّنا نفتي بالاحتياط الوجوبي، بمعنى أنَّه بالنتيجة يحرم أكله احتياطاً، ولذلك لا نفتي من خلال البحث العلمي بالجواز.

المتنجس الثاني:

* نرجو من سماحتكم إعطاء أمثلة على المتنجّس الثاني الذي لا ينجس فإن زوجي يتهمني بأني مصابة بالوسواس وينجّس البيت معتمّداً ويقول إنّه لم ينجس؟

- لو فرضنا خرج الدم من يده وذهب عين الدم، فيده متنجس أول فإذا كانت يده رطبة، وأصابت اليد الثانية فاليد الثانية متنجس ثاني، واليد الثانية لا تنجّس ما تلاقيه.

الدم في البيضة:

* ما حكم البيضة التي فيها نقطة دم؟ هل تترك أم يجوز أكلها بعد إزالة نقطة الدم؟

- يجتنب على نحو الاحتياط.

غسل مس الميت:

* لماذا يجب الغسل عند مس الميت، نرجو تفسيراً علمياً وفقهياً؟

- تعد المسألة من المسائل التعبدية ولا نملك تفسيراً علمياً أو فقهياً لذلك. وقد يفسّر لجهة الإحساس بزحف الموت للإنسان الملامس للميت فيزيله بالغسل.

 

ثالثاً: الوضوء والصلاة:

الإئتمام بمن لا يحسن القراءة:

* هل تصحّ الصلاة خلف الإمام الذي لا يحسن القراءة؟

- لا يجوز أن يصلي خلف من لا يحسن القراءة.

الجمعة مع غيرمذهبنا:

* إذا كنت في منطقة لا يوجد فيها جامع تقام فيه صلاة الجمعة من قبل أتباع أهل البيت(ع) فهل يكفي أن أصلّي مع المذاهب الأخرى إذا نودي للصلاة؟

- لا مانع من ذلك ولكن يأتي بصلاة الظهر بعد ذلك احتياطاً.

المنع من الصلاة معهم:

* أنا مواطن عراقي أعيش في أستراليا ولكن لدي أخوة يمنعوني من الصلاة والذهاب إلى المساجد الإسلامية فماذا أصنع؟

- لا بد أن تذهب إلى المساجد الإسلامية كما يقول الأئمة(ع) «صلّوا معهم» حيث ينبغي أن يحضر المساجد هناك حتى يقوّي إيمانه وحتى يستطيع أن يعيش جواً إيمانياً مع إخواننا من غير مذهبنا.

صلاة المتابعة:

* حبذا لو توضّح لنا صلاة المتابعة للدخول في صلاة الجماعة دون أن تصلي مع الإمام لأسباب ترجع إلى المأموم؟

- المتابعة هي أن يقرأ المأموم لنفسه خصوصاً في الصلاة الإخفاتية ويصلّي كأنّه يصلّي جماعة حتى لا يسيء إلى كرامة الإمام، أمّا الصلاة الجهرية ففيها إشكال.

سجدتا السهو قبل تسليم الإمام:

* هل يجوز للمصلي خلف الإمام أن يأتي بسجدتي السهو قبل تسليم الإمام إذا كان قد حصل عنده السهو؟

- يجوز له ذلك لأنّه بعد تسليمه هو ينفصل وينفرد ويمكن أن يأتي بسجدتي السهو قبل تسليم الإمام.

الصلاة إلى غير القبلة:

* يوجد في المكان الذي نعمل فيه مكان للصلاة، ومنذ شهرين اكتشفنا أنّنا نصلي إلى غير القبلة حيث أنّ القبلة من جهة المغرب ونحن نصلي إلى جهة الجنوب فهل تجب علينا الإعادة، علماً إننا نعلم أنّه إذا خرج الوقت فلا تجب الإعادة؟

- تارة يكون هناك استدبار للقبلة ففي هذه الحال تجب الإعادة، وكذا إذا كان إلى الشرق أو إلى الغرب، وتارة يكون المصلّي بين المشرق والمغرب، فلا مشكلة في هذه الحال، فهذه هي القاعدة العامة.

المعوذتان في الصلاة:

* يذهب بعض العلماء إلى عدم قراءة سورة المعوذتين في الصلاة لكونهما منـزلتين بصيغة الدعاء، وإنهما لا تجزيان، فما هو رأيكم؟

- يجب قراءة أية واحدة منهما بعد الفاتحة في الصلاة.

إظهار المرأة للقدمين في الصلاة:

* هل يجوز للمرأة إظهار القدمين في الصلاة للمحارم؟

- رأينا هو أنّه لا يجب ستر القدمين، فيجوز للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها وقدميها في الصلاة وفي غيرها، وهناك من العلماء من لا يجوّز ذلك في غير الصلاة ولكن لا يوجب سترهما في الصلاة إلاَّ إذا كان هناك ناظر محترم من غير المحارم.

تأخير الصلاة:

* قلتم إنّ الذي يؤخّر صلاته عمداً إلى ما بعد منتصف الليل فإنّه يصلّي لا أداء ولا قضاء، فكيف تكون نيّة صلاته؟

- تكون بداعي الأمر المتوجه إليه.

هل هذا استحاضة:

* إذا تجاوزت النفساء أكثر من عشرة أيام ولا زال السائل أصفر مائلاً إلى الاحمرار، فهل هو استحاضة؟

- نعم، هذا الدم دمُ استحاضة، وعليها أن تعمل أعمال الاستحاضة وتصلّي وتصوم، والحكم هنا أنه إذا تجاوز الدم عشرة أيام تأخذ عادتها فتجعلها نفاساً، وتحكم على الباقي من العشرة، وما زاد فتجعله استحاضة.

الصلاة في بيوت عبادة غير المسلمين:

* هل يجوز للمسلم الصلاة في بيوت عبادة غير المسلمين؟

- يجوز ذلك.

الحركة أثناء الصلاة:

* ما هو حكم من يتحرك أثناء الصلاة كأن يصلح عمامته أو عباءته؟

- لا بدّ للإنسان أن يحافظ على الطمأنينة في الصلاة، وقد ذكر أن بعضهم كان يعبث بلحيته: فقال الرسول: «لو خشع قلبه لخشعت جوارحه»([866]).

تعارض الدوام والجمعة:

* كنت موظفة ودوام وظيفتي في لبنان لم يكن لي يسمح بالذهاب إلى صلاة الجمعة مع أنني من مقلديكم، وقد توقفت عن العمل منذ شهر تقريباً وخلال هذا الشهر لم أذهب إلى صلاة الجمعة مع أنني أتابع خطبتي الصلاة في المنـزل، فهل أنا مأثومة بذلك بسبب إهمالي؟

- لا يجب على المرأة حضور الجمعة، ولذلك فلا مشكلة هناك سواء كنت في عذر من عملك أو لم تكوني في عذر، ولكنّك إذا حضرت صلاة الجمعة فتجزي عن الظهر وصلاتك صحيحة إن شاء الله، ولك الأجر في ذلك.

صلاة النساء بين الزوّار:

* كثير من النساء يصلين في الصحن الشريف لمرقد السيدة زينب(ع) وبين جموع الزوّار، فهل يجوز ذلك؟

- نعم يجوز، فهن كاللائي يصلين في المسجد الحرام مع جموع الحجّاج لا فرق في ذلك، لا سيما إذا كانت المرأة المصلية تصلّي بحجابها الشرعي وبالشكل المناسب الذي لا يسيء إلى شخصيتها الإيمانية، فلا يحرم ذلك، ولكن الأفضل للمرأة أن تصليّ في مكان منعزل أو مختصّ بالنساء تفادياً لأي إحراج.

التخليل في مسح القدم:

* هل يجب التخليل في مسح القدم كثيفة الشعر في الوضوء؟

- على الإنسان المتوضئ أن يمسح قدمه بشكل طبيعي ولا يجب التخليل إلا إذا كان الشعر كثيفاً لدرجة غريبة غير عادية بحيث لا يصدق عليه مسح القدم إلاّ بالتخليل.

بين الجهر والإخفات:

* عند قرائتي لسور قرآنية في الصلاة الجهرية انتبه في نصف السورة إلى أني قرأتها إخفاتاً وبالعكس أحياناً، وقد أخفت في سورة الحمد وقد انتبه بعدها إلى أن الصلاة جهرية، فهل عيّ إعادة القراءة أم إعادة الصلاة؟

- في الأثناء لا يبعد أن تعيد القراءة.

الغفلة عن خطبة الجمعة:

* أثناء خطبة الجمعة أسهو عن سماع مضمون الخطبة، فهل أنّ صلاتي صحيحة علماً أنّني أحاول جهد الإمكان الانتباه للخطبة ولكنّني في أكثر الأحيان أسهو وينصرف ذهني؟

- صلاتك صحيحة.

إخفاتية أم جهرية:

* كيف تؤدى صلوات النوافل جهراً أم إخفاتاً؟

- الإنسان مخير بينهما.

قضاء ما في الذمّة:

* في أثناء قضاء الصلوات عمّا في الذمة، هل يجب أن نقضي كلّ فرض في وقته؟

- يجوز لك أن تقضي كلّ فروض اليوم دفعة واحدة صباحاً أو ظهراً أو مساءً، فالوقت يراعى فقط في حالة الأداء، أما في حال القضاء فلا وقت محدّد.

الصلاة بحجاب ناقص:

* أنا شيعي وزوجتي على مذهب أهل السنّة ولكنّها تعمل أغلب تكاليفها الشرعية وفقاً لما عليه الشيعة غير أنّها تصلّي بدون حجاب كامل، فهل تصحّ صلاتها؟

- لا تصحّ صلاتها لا عند السنّة ولا عند الشيعة فحتى السنّة يوجبون تغطية الجسد في أثناء الصلاة.

سبق الإمام:

* عندما أصلّي جماعة فأحياناً أسبق الإمام بقراءة التسبيحات، فهل في ذلك إشكالش؟

- ليس فيه إشكال، فالمهم أن لا تسبقه في الركوع والسجود.

معرفة الإمام:

* صلّيت خلف إمام جماعة ولكنّني لا أعرفه ولا أعرف أحداً من المصلين، لكن بعد الصلاة حصل عندي اطمئنان بالإمام، فما هو حكم صلاتي؟

- إذا كان عادلاً واكتشفت أنه عادل وتحقّق منك قصد القربة فصلاتك صحيحة.

الفرادى والجماعة:

* أدخل المسجد فأجد مع انعقاد صلاة الجماعة كثرة المصلين فرادى وفيهم المتدينون فأشكّ في إمام الجماعة: فهل أصلّي جماعة أم فرادى؟ وهل تعتبر صلاتي صحيحة في حال انعقاد الجماعة؟

- إذا كنت لا تعتقد بعدالة الإمام سواء من خلال الناس الذين يصلون فرادى أو من غير ذلك أن تصلي منفرداً، ولكن الانفراد في حال انعقاد الجماعة إذا كان يؤدي إلى إعطاء انطباع عند الناس الذين يرونك منفرداً بأنّ الإمام ليس عادلاً فلا يجوز ذلك لأنّ فيه هتكاً لحرمة المؤمن، والصلاة في هذه الحالة باطلة.

قصراً أم تماماً:

* صلّى شخص العشاء تماماً في موضع يتوجّب عليه القصر وهو لا يعلم بذلك ثم عاد ليلاً إلى محل إقامته قبل انتهاء وقت صلاة العشاء، فهل يعيدها قصراً أم تماماً؟

- لا بدّ أن يعيدها تماماً إذا عاد إلى وطنه أو محل إقامته.

قراءة العزائم أثناء الصلاة:

* قرأت في الصلاة الواجبة سورة تشتمل على السجدة فهل أسجد خلال الصلاة أم عند نهاية الصلاة؟

- بل تومي بالسجود عندما تقرأ السجدة، وعموماً لا يجوز قراءة سور العزائم في الصلاة.

صوت الإمام عبر المكبر:

* المتعارف عندنا في النجف وغيرها أنّ قراءة الإمام وكلّ أجزاء صلاته يجب أن لا تكون بمكبّر صوت فيصل إلى الشارع وأحياناً أبعد من ذلك، أضف إلى ذلك أنّ العلماء وأئمة الصلاة لم يدرجوا على ذلك في صلاتهم، فهل يجوز ذلك؟

- ما المانع من ذلك في الصلاة الجهرية خاصّة في صلاة الجمعة؟ ألم تكن صلاة الجمعة ترفع في مسجد الكوفة رحم الله صاحبها ومؤسسها لأنه أعطى خيراً كثيراً لصلاة الجمعة؟ ولو فرضنا أنّ هناك (500) ألف مصلّ أو يزيدون فكيف نوصل الصوت إليهم وفي الصلاة قراءة القرآن {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الأعراف/204). أي يجب على المصلين أن يستمعوا لقراءة الإمام في صلاة الجماعة، فلماذا لا يجوز ذلك؟

ولقد كنّا في النجف أيام المرحوم السيد محسن الحكيم وكان صوته ضعيفاً وكان يحضر درسه تقريباً (300) أو (400) طالب في (مسجد عمران) فاقترحوا أن يجلبوا ميكرفوناً فحدثت ضجة في النجف واعتبره البعض من المزمار، وبعد ذلك سارت الأمور سيراً طبيعياً حتى شاع استخدامه في الدروس وفي الصلاة. لكن مشكلتنا هي أننا نرفض كلّ جديد إلى أن يفرض نفسه علينا، في حين أنّ علينا أن ندرس الجديد لنرى هل يتناسب مع الأحكام الشرعية أم لا؟ فإذا كان يتناسب نأخذ به، ولكننا غالباً نتعصّب لما نألف حتى لو كان ما نألف غير جيد، وهذا ما عبّر عنه المتنبي بقوله:-

خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا                           لفارقت شيبي موجع القلب باكيا

قضاء فترة الارتداد:

* كنت مسلماً وبعدها أصبحت ملحداً لأربعة أشهر لاقتناعي بنظريات الإلحاد، وبعدها عدت وعملت بالإسلام، فهل يجب عليّ قضاء الصلاة والصيام لأربعة أشهر؟ أم أنّ الإسلام يجبّ ما قبله؟

- «الإسلام يجبّ ما كان قبله»([867]) إذا كان كافراً أصلاً، أمّا المرتدّ فعليه أن يقضي ما فاته إذا عاد إلى الإسلام.

تغيّر النية:

* نويت الإقامة في السفر فصّليت تماماً، وفي اليوم التالي تغيّرت النية، فهل تكون صلاتي قصراً أما تماماً؟

- إذا كنت متأكداً 100% وبعدها عدلت في النية وصلّيت تماماً فابق على صلاة التمام ما لم تسافر.

صلاة الوتر:

* أصلّي صلاة الوتر بقراءة الفاتحة وسورة قصيرة وفي القنوت أدعو «اللّهم أجرنا من النار» وهذه الصلاة تختلف عن الصلاة المعروفة، فهل صلاتي صحيحة؟

- هذه كلّها مستحبّات فيمكن أن تصلّي بهذه الطريقة ولكن ذلك ليس من خصوصيات صلاة الوتر.

الزيادة في التشهد:

* هل يصحّ ذكر الصلاة الإبراهيمية في التشهّد بأن نقول كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين؟

- لا يجوز ذلك على الأحوط.

المعرفة المتأخرة بعدم عدالة الإمام:

* ثبت لي بالدليل أنّ أحد أئمة الجماعة الذي كنت أصلّي خلفه غير عادل، فما حكم صلاتي التي كنت أصليها؟

- صلاتك صحيحة، لأن المراد بالعدالة في صلاة الجماعة هو العلم بالعدالة لا العدالة الواقعية.

التقدّم إلى الإمام في الجماعة:

* لو نويت صلاة الجماعة وباشرت الصلاة، قد تقدّم الذي أمامي إلى الأمام وأصبح محلي شاغراً، فهل يجوز أخذ محله بالتقدم إلى الأمام؟

- إذا سكَّت ولم تقرأ أو تذكر وتقدمت من دون أن تنحرف عن القبلة وتلتحق فلا مانع من ذلك.

ماء جديد في الوضوء:

* عند الوضوء قد تسقط قطرات الماء من شخص قريب على أيدينا عند المسح فيختلط الماء عند ذلك، فما هو حكمه؟

- الماء الجديد مشكل.

في صلاة الجماعة:

* يوجد في الجامعة مصلى للمسلمين، هل تجوز الصلاة مع الجماعة من غير مذهبي؟

- يجوز أن تصلّي معهم وتقرأ لنفسك ولك ثواب الجماعة.

عدالة الإمام:

* إذا ذهبت إلى أحد المساجد ووجدت إماماً يصلّي ولا أعرف عنه شيئاً ولكن أعرف أن هذا المسجد يقع في منطقة كلّها من الشيعة، فهل صلاتي صحيحة؟

- المهم أن تحرز عدالة الإمام لكي تصلي الجماعة خلفهم.

تحديد الغروب:

* في بريطانيا حيث الجو في الغالب غائم يصعب عليّ تحديد وقت الصلاة، فهل يجوز الصلاة والإفطار على توقيت المساجد لغير مذهبي؟

- يجوز ذلك لا سيما أن هناك رأياً يقول أن وقت الغروب عندنا كما هو وقت الغروب عندهم كما عند السيد الخوئي وعندنا أيضاً أن الغروب يحصل عند سقوط القرص، وإذا أراد الإنسان أن يحتاط مثلاً فيؤخّر الوقت عشرة دقائق أو ربع ساعة عن وقت الأذان المذكور.

سبق المأموم للإمام:

* ما هو المقصود من عدم سبق المأموم للإمام؟

- السبق بمعنى أن لا تركع قبل أن يركع وأن لا تسجد قبل أن يسجد، أي لا تسبقه في الأفعال.

القيء أثناء الصلاة:

* ما هو الحكم لو تقيّاً المصلّي بشيء يسير وأرجعه إلى معدته؟

- إذا لم يخرج عن حالة الصلاة فلا مشكلة في ذلك.

الصلاة أثناء العمل:

* تفوتني صلاة المغرب عادة، فوقت عملي من الساعة الرابعة الثانية عشر ليلاً؟ وأنا مضطر للعمل، فما هو حكمي؟

- عليك أن تحاول أن تأخذ فرصة تصلّي فيها كمن يطلب فرصة ليقضي حاجة أو يرتاح لفترة معينة، ويمكنك أن تصلّي بعد نصل الليل وتأتي بالصلاة بداعي الأمر المتوجه إليه إذا لم تستطع الأداء قبل ذلك، وعلى الإنسان أن لا يعمل عملاً يضطر به إلى ترك صلاته في وقتها.

المأموم أثناء الإخفاتية:

* ما هو تكليف المكلّف المأموم في صلاة الجماعة الإخفاتية، فهل يسكت أم يسبّح في الركعتين الأوليين؟

- هو مخيّر بين أن يسكت ويفكّر، أي يتذكّر الحمد بأن يعيش في نفسه معاني سورة الحمد، أو معاني التوحيد في سورة الإخلاص، أو معاني أية سورة أخرى، أي إذا كان لا ينطق بلسانه فهو ينطق بفكره وبروحه، أو أن يسبّح. والمهم أن يعيش روحية الصلاة.

 تفوتها الصلاة في الجامعة:

* أنا طالبة جامعية وأسكن في محافظة تبعد مسافة طويلة عن مقر سكني ولا يوجد في الجامعة جامع فتفوتني الصلاة، فما هو الحكم في ذلك؟

- ليس من الضروري الصلاة في الجامع فلك أن تصلّي ولو في الجامعة، فإذا كانت ثيابك تستر جسدك فإنّك تستطيعين أن تنتحي جانباً من الجامعة وتصلين.

التبعيض في الصلاة:

* هل يجوز التبعيض في التقليد في الأبواب الفقهية في الباب الواحد مثل الصلاة بحيث أقلّد أكثر من واحد في الباب الواحد؟

- يجوز التبعيض بما لا يؤدي إلى التلاعب في الأحكام.

السجود على السجادة الصناعية:

* طبيعة دراستي تحكم عليّ الصلاة في المدرسة، فهل يجوز الصلاة على السجادة الصناعية من باب التقية؟

- إذا كانت المسألة مسألة تقية يعني أنّك تخاف الضرر إذا صليت على ما يصحّ السجود عليه فنعم يجوز، أمّا إذا لم تكن تخاف من الضرر فضع ورقة أو سجادة من القش أو ما أشبه ذلك.

في التسبيحات:

* نقول في الركعة الثالثة والرابعة في الصلاة (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) وفي تسبيح الزهراء(ع) نقول (الله أكبر ـ سبحان الله ـ الحمد لله) فهل التسبيح حكم وقفي أم مذهبي؟

- إنه إسلامي وقفي في الصلاة.

ثواب صلاة القضاء:

* هل تعتبر صلاة القضاء أقل ثواباً من الصلاة فيما إذا أدّاها المكلّف في وقتها؟

- من الثابت أن الصلاة في وقتها أكثر ثواباً، باعتبار أن المكلّف يحصل في الواجب على ثواب الصلاة وثواب الوقت معاً، لذلك يقال إن الصلاة في أول الوقت جزور وفي آخر الوقت عصفور، فكيف إذا صلّيت في خارج الوقت، إذا لم تكن معذوراً؟ لا شكّ أنّ ذلك ينقص من أجرك فهنا أنت تصلّي القضاء وتعاقب على عدم أداء الصلاة على وقتها، وإذا فرضنا أنك كنت معذوراً في ذلك، كما لو كنت قد غلبك النوم، فعند ذلك تفقد ثواب الوقت.

الصلاة بساعة مطلية بالذهب:

* هل يجوز للرجل الصلاة بساعة مطلية بالذهب؟

- يجوز ذلك لأنّ المحرّم هو لبس الذهب، أمّا الساعة المطلية بالذهب فلا تعتبر ساعة ذهبية، ولذا فلا مانع.

الصلاة على النبي(ص) أثناء الصلاة:

* قام إنسان للصلاة وسمع شخصاً ينادي بالصلاة على محمد(ص) فهل يقطع صلاته ويقول اللهم صل على محمد وآل محمد؟

- لا مانع أن يقول ذلك في الصلاة، فالدعاء جائز في الصلاة في أي موضع، فله أن يقول اللّهم صل على محمد وآل محمد لأنه يجوز له أن يذكر الله ويدعوه في كل حالات الصلاة ومن الدعاء أن يدعو الإنسان ويقول اللّهم اغفر لي ولوالدي، واللّهم ارفع درجة محمد وآل بيته، اللّهم صلّ عليه وعليهم، فلا مشكلة ولا يحتاج أن يقطع صلاته.

صلاة الخرساء:

* لدي بنت خرساء لا تؤدّي الصلاة بانتظام، فما هو حكمها؟

- واجبها أن تصلّي بحسب ما تستطيع، وعليك أن تأمرها بذلك بالتي هي أحسن.

العمل أثناء الجمعة:

* أعمل في يوم الجمعة فتفوتني صلاة الجمعة، فماذا أفعل؟

- إذا كان الإنسان غير قادر على حضور صلاة الجمعة، وإذا كان حضورها يلزم عليه الحرج فيجوز ترك ذلك.

الدم والوضوء:

* هل أنّ خروج الدم من الجسد يفسد الوضوء؟ هل أنّ خروجه يبطل الصلاة لأنّه يعتبر من النجاسات؟

- إنّ خروج الدم من الجسد لا يفسد الوضوء، فيمكن للإنسان أن يطّهر الدم وتنتهي المشكلة، أمّا إذا خرج الدم في أثناء الصلاة بأكثر من المقدار المعفو عنه في الصلاة فعليه أن يعيد صلاته لأنها باطلة.

ترك الصلاة لعدة سنين:

* تركت الصلاة لأكثر من أربع سنين، وكنت أصلّي فريضة واحدة في كلّ يوم إلى أن أصبح بذمتي سبع سنين صلاة، فما هو العمل؟

- عليك أن تقضيها «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتت».

القصر من حين السفر:

* نويت الإقامة عشرة أيام في السيدة زينب بدمشق ثم نويت الذهاب إلى بيروت، فهل النية وحدها توجب قصر الصلاة؟

- يجب القصر من حين السفر.

قضاء الغفيلة:

* هل يجوز قضاء الغفيلة في اليوم التالي في حال نسيانها؟

- يأتي بها رجاء المطلوبية.

السجود على الأحجار الكريمة:

* هل يجوز السجود على الأحجار الكريمة إذا كان من قبيل المعادن؟

- لا يجوز.

صلاة المرأة بدون حجاب:

* سمعت من بعض الأخوات أنّه يجوز للمرأة أن تصلّي بدون حجاب، فهل هذا صحيح؟

- من قال ذلك؟ لا بدّ للمرأة من الحجاب أثناء الصلاة.

الصلاة الخاطئة:

* شخص وجبت عليه الصلاة فصلّى مدة لا يعلمها بصورة خاطئة ثم اهتدى إلى الصلاة الصحيحة، فهل يجب عليه قضاء الصلاة بشكل تقديري؟

- إذا كان يعرف بشكل مؤكد أنّ صلاته باطلة فعليه الإعادة بحسب التقدير.

الصلاة في المنـزل أم في الحرم:

* في ظل الازدحام أيام الموسم والزيارة أيهما أفضل بالنسبة للمرأة الصلاة في المنـزل أم في الحرم الزينبي؟

- لا أعتقد أن المشكلة بهذا الشكل لأنّ هناك مدخلاً للرجال وآخر للنساء، وإذا كان ذلك يوجب الحرج فلا يصح للإنسان أن يأخذ بالمستحب الذي مقدمته حرام.

قضاء 20 سنة صلاة:

* أنا امرأة عليّ قضاء حوالي (20) سنة ولا أقدر أن أقضي كلّ تلك المدّة لأنّ عندي ثمانية أطفال وظهري يؤذيني كثيراً وأشكو من عدة أمراض، فماذا أفعل؟

- صلّي بمقدار ما تستطعين.

الخطأ في تعيين القبلة:

* سألت في الفندق عن القبلة فذكروا لي جهة معينة ولكن تبيّن لي أنّ القبلة مختلفة، فهل صلاتي صحيحة؟

- إذا كنت واقفاً بين المغرب والمشرق فلست ضد اتجاه القبلة وصلاتك صحيحة، أي إذا كان الانحراف طفيفاً فلا مشكلة.

الحركة أثناء الصلاة:

* نرى بعض الأخوة أثناء الصلاة يكثرون من الحركة فما هو تأثير ذلك؟

- من شروط صحة الصلاة الطمأنينة، وقد نقل أنّ شخصاً رآه رسول الله(ص) وهو يعبث بلحيته فقال «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، أما لو مات هذا الرجل على مثل هذه الصلاة ليموتنّ على غير ديني».

إظهار القدمين في الصلاة:

* هل يجوز للمرأة أن تظهر قدميها في الصلاة؟

- نعم يجوز ذلك، ورأينا الجواز حتى في غير الصلاة وهذا رأي مختلف بين العلماء.

المرور أمام المصلين:

* ما حكم من يصلّي والناس يمرون من أمامه؟

- لا مشكلة في ذلك إلاّ أنه يكره المرور أمام المصلي، ولكنّه لا يضرّ بصحة الصلاة.

دم أثناء الوضوء عنوان:

* في أثناء الوضوء يخرج دم من اللوزتين كالخيط ومن الأسنان وبالرغم من المضمضة عدة مرات يبقى شيء من الدم، فهل يبطل ذلك الوضوء؟

- لا يبطل الوضوء إذا بقيت أعضاء الوضوء طاهرة.

السرعة في الصلاة:

* إذا كانت صلاتي عادة سريعة ولا أريد من يراني أصلي كذلك فأحاول أن أصلّي وحدي، فهل ابتعادي هنا الحفاظ على سمعتي، وهل تبطل صلاتي؟

- هذا تهرّب من النقد وفي الحديث «يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة»([868]) فإنّ الله يطّلع على نيتك، إذ ما هو مقصودك من ذلك؟ هل لكي لا يراك تصلّي صلاة خفيفة؟ أم لسبب آخر؟

الكلام أثناء خطبة الجمعة:

* هل يجوز الإتيان بالصلاة أثناء خطبة الجمعة؟

- لا يجوز ذلك، بل يجب على المصلين أن يستمعوا إلى خطبة الجمعة، بل ولا يجوز حتى أن يسبّحوا أو يتحدثوا مع بعضهم البعض أو يقضوا صلاتهم أو يؤدّوا النوافل، فالخطبة جزء من الصلاة.

الإئتمام بإمام يصلّي قصراً:

* في صلاة الجماعة هل يجوز للمأمون أن يأتمّ بإمام يصلي قصراً؟

- نعم، إذا كان الإمام مسافراً والناس أحبّوا أن يصلّوا خلفه فهو يسلّم وهم يقومون لإتمام صلاتهم.

ملامسة النساء:

* هل ملامسة الرجل للمرأة أو بالعكس يبطل الوضوء؟

- لا يبطل الوضوء، فالمقصود بقوله تعالى: {لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}(النساء/43). كناية عن العملية الجنسية وليس ملامسة اليد لليد أو ملامسة الجسم للجسم. فهذا المصطلح القرآني وارد على نحو الكناية، كما في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}(البقرة/236). أي تدخلوا بهن من خلال العملية الجنسية.

الصلاة الماضية:

* كنت أتعبّد على غير فقه أهل البيت(ع) فله أقضي الصلاة الماضية؟

- إذا كنت على غير مذهب أهل البيت(ع) فلا يجب عليك قضاء الصلاة.

الجماعة بدلاً من الجمعة:

* أنا ممن تجب عليه صلاة الجمعة، فهل يمكنني أن أصلّي جماعة إذا كنت لا أستفيد من خطبتي الجمعة لكونهما لا تشتملان على الأوضاع السياسية؟

- تجب علي صلاة الجمعة، وإذا أردت أن تعرف الأوضاع السياسية فاقرأ الصحف وتابع الإذاعات، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(الجمعة/9). فأنت تسعى لذكر الله سواء كان في صلاة الجمعة خطبة سياسية أو ليس فيها خطبة سياسية لأنّك بذلك تؤدّي تكليفك الشرعي.

قطع الاتصال بالإمام:

* إذا انفصل الشخص الذي خلف الإمام كمن يصلّي قصراً في الصف الأول أو غيره من الصفوف، وكان عدد المنفصلين كثيراً بحيث يقطع الاتصال بالإمام، فهل يخلّ بالاتصال؟

- نعم، إذا كانوا كثيرين بحيث تفرقوا فعلى الباقين الانفراد.

غسل أكثر من حدّ العضو:

* قلتم في الوضوء يجب غسل أكثر من حدّ العضو أي زيادة عن الحدّ المطلوب للاطمئنان، فهل هذا وارد في الغسل أيضاً؟

- قلنا ذلك من باب الاحتياط، أمّا في الغسل فليس هناك حد لأن الجسد يجب أن يغسل.

في كيفية الغسل:

* في الغسل هل يمكن أن نغرف الماء باليد ثم نمسحها على أعضاء الجسم حتى لو لم يصل الماء مباشرة من خلال للمسح؟

- إنّ المطلوب هو الغسل وليس المسح.

البنطلون كحجاب في الصلاة:

* هل يُكتفى بالبنطلون في الحجاب أم لا بدّ من الستر؟

- في الحجاب الصلاتي أي الستر يكتفى به، وفي الحجاب الاجتماعي يجب أن لا يكون مثيراً.

قراءة السورة الكاملة:

* ما هي الحكمة من قراءة سورة كاملة في صلاة الفرض وجزء من السورة في النوافل؟

- على رأينا لا يشترط قراءة سورة كاملة في الفريضة، بل يُكتفى بقراءة بعض الآيات، وربَّما الحكمة، بناءَ على اشتراط قراءة سورة كاملة ـ هي أهمية الفريضة.

فوات صلاة الفجر بالنوم:

* إنَّني أعمل في التجارة ويستمر عملي حتّى منتصف الليل، وفي بعض الأحيان عندما أعود متعباً أنام حتّى طلوع الشمس ولا أستيقظ لصلاة الفجر، فهل أكون آثماً؟

- ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر، فبالنسبة إلى صلاة الفجر التي يسأل عنها السائل لا يأثم لو تركها لجهة غلبة نومه عليه، وأمّا صلواته التي تقع في وقت عمله، فلا يجوز له تركها بحجّة العلم، إذ لا يجوز له أن يستغرق بعمله على نحو يفرِّط بها ويتركها.

إقتداء الأولاد بالأم جماعة:

* هل يجوز إقتداء الأولاد في صلاة الجماعة بأمهم؟

- إذا لم يكونوا بالغين فيمكن، والإقتداء هنا هو من قبيل التمرين، وإلاَّ فلا تؤم النساء الرجال، نعم تأتم البنت بأمها.

التطوّع بالعبادة:

* في ذمتي قضاء صلاة وصوم، فهل أصلّي وأصوم استحباباً؟

- من كان عليه صلاة وصوم في ذمته لا يتبرع، ولكن يجوز له ذلك، لأنَّ الأولى أن يفرّغ ذمته مما اعتبر واجباً في ذمته.

ظل الوضوء وتأثيره على الصلاة:

* والدتي كبيرة السن، ولظروف معينة لم أرها منذ سنين طويلة، والآن بعد أن رأيتها اكتشفت أنَّ هناك خللاً في وضوئها وفي صلاتها، ما حكم صلواتها للسنوات الماضية؟

- إذا كان الخلل مبطلاً للوضوء فتجب إعادة الصلاة، لكن يحسن أن يُعلم أنَّ المسألة تحتاج إلى تدقيق، فربَّما ما حسبته خللاً ليس خللاً، أو يمكن تصحيحه.

العجز عن بعض التكاليف:

* ما هو حكم المسنّ إذا لم يستطع أن يصحح الأخطاء في قراءته في الصلاة، ولا يمكن تعليمه؟

- إذا كانت الأخطاء مما يمكن تجاوزها فلا ضرورة للتعليم والاجتهاد عليه، ولذلك لا بُدَّ من دراسة التفاصيل. وفي حال العجز عن التعلّم يُكتفى منه بالمقدور.

شكل صلاة الجماعة:

* ولدي وأمّه يصلون خلفي جماعة في البيت، كيف يكون وقوفهم؟ هل يقف الولد عن يميني وأمّه خلفه أو يقف خلفي وأمّه خلفه؟

- على رأينا لا مانع من وقوفهم خلفك في مستوى واحد، ولكن الأحوط أن يكون هناك فاصل ولو كان شبراً.

عدم إعادة السجدة إلى محلها:

* بسبب الزحام في بعض الصلوات كما في صلاة الجماعة، عندما نفرغ من الصلاة نضع السجدة في غير الموضع الذي خصص لها، فهل يجوز ذلك؟

- ليس هناك مشكلة، أن لا تُخرجها من المسجد.

الأمراض المعدية والصلاة جماعة:

* يتعرض الإنسان لبعض الأمراض المعدية كما في النـزلة الصدرية، هل يجوز حضور صلاة الجماعة في هذه الحال، وهل يجب حضور صلاة الجمعة؟

- إذا كان ذلك يؤدّي إلى عدوى الآخرين بشكل مباشر فيحرم الإضرار بالمصلين وغيرهم أيضاً، أمّا إذا كان يُمكن التحفّظ وتجنيب المصلّين العدوى، فإنَّ ذلك لا يُبرر ترك الصلاة جماعةً، أو التخلّف عن صلاة الجمعة.

فوات الخشوع في الصلاة:

* يطرأ على المصلِّي بعض الأفكار بما يذهب الخشوع، هل يبطل ذلك الصلاة؟

- لا يُبطل ذلك الصلاة، ولكنَّه يقلل من روحانيتها، لأنَّ الله يقبل من الصلاة ما أقبل عليها الإنسان بقلبه، وليُحاول المصلّي استحضار كلّ المعاني التي تولّد الخشوع.

غسل أعضاء الوضوء:

* كنتُ بعد غسل اليدين أضعهما تحت الماء، فهل الوضوء باطل حتّى مع الجهل بالحكم الشرعي؟

- نعم، إذا كنت تضعهما تحت الماء بعد أن تغسلهما، وتمسح بالماء الجديد، فإنَّ الوضوء باطل وصلاتك باطلة أيضاً.

قراءة الأحاديث في القنوت:

* هل يجوز قراءة الأحاديث المنقولة عن النبيّ(ص) والأئمَّة(ع) في قنوت الصلاة؟

- قنوت الصلاة بمعنى الدُّعاء، فإذا كانت هذه الأحاديث تشتمل على الدُّعاء فيجوز.

الجهر والإخفات في التكبيرة:

* ما هي صورة تكبيرة الإحرام من حيث الجهر والإخفات؟

- لا يجب الجهر وإن كان الأفضل الجهر.

صلاة الغفيلة:

* هل تجوز صلاة الغفيلة في غير السورة والقنوت المذكورين في «مفاتيح الجنان»؟

- إذا كانت الصلاة مستحبة بخصوصيتها فعلى المكلّف أن يأتي بخصوصيتها، والصلاة صحيحة حتّى لو لم يقرأ المأثور في صلاة الغفيلة، ولكن لا يصدق عليها الغفيلة بحسب خصوصيتها.

ترك صلاة الصبح:

* هناك شخص يُصلّي الأوقات الخمسة، وكذلك زوجته، ولكنَّها تصلّي الصبح قضاءً أكثر الأحيان تعمداً، حيث تتكاسل وهو يقنعها وينصحها ولا تكترث، فما هو تكليفه؟

- تكليفه أن يعضها ويرشدها على الدوام، ويبين لها أنَّها مأثومة شرعاً في ترك الصلاة في وقتها على نحو العمد.

الصلاة في غير موارد القصر:

* أخي يعمل في منطقة تبعد عن مدينتنا المسافة الشرعية وذلك من ثلاث سنوات، فهو يذهب في الصباح ويعود في المساء، ما حكم صلاته في تلك المنطقة إذا كان ذهابه لقصد الزيارة خارج العمل، فهل يقصر أو يتم؟

- في رأينا أنَّه يتم في جميع ذلك.

صلاة الجمعة:

* لو أقيمت صلاة الجمعة، هل يحسن أن تصلّى صلاة الظهر أيضاً، وإن كان ذلك من باب الاحتياط؟

- صلاة الجمعة تغني عن صلاة الظهر، والاحتياط إن كان فهو استحبابي وليس وجوبياً.

التخلف عن صلاة الجمعة:

* كنت في إحدى البلدان لمدة أربع سنوات ولم أصل صلاة الجمعة طيلة هذه المدة وكنت أصلي في البيت وذلك لعدة أسباب فما هو الحكم الشرعي؟

- إذا كانت هذه الأسباب تصلح عذراً لعدم المشاركة في صلاة الجمعة كما لو كنت لا تعتقد عدالة الإمام أو ما أشبه ذلك فأنت معذور.

إمام الجماعة يصلي بالنيابة:

* هل يصح للإمام أن يصلي جماعة بالناس وهو يصلي نيابة عن الغير؟

- إذا كان هذا الغير الذي ينوب عنه إمام الجماعة يجزم بفوات هذه الصلوات عليه، وليس من باب الاحتياط فإنه يجوز للإمام النائب عنه أن يؤم المصلين وإلا فلا يصحّ أن يصلّي جماعة بهم.

النيّة في الصلاة:

* في كثير من الحالات أشرد في الصلاة بحيث إذا سألني سائل ما هي الصلاة التي أصليها لا أستطيع الإجابة فوراً وإنما أحتاج إلى التكفير قليلاً لمعرفة ما هي الصلاة التي أُصليها، فهل يجب أن يكون اسم الصلاة حاضراً في الذهن بشكلّ فوري أم أنه يمكن استحضاره بالتفكير قليلاً لإيجاد بعض القرائن التي تساعده على معرفة أي صلاة، وما هو الحكم بالنسبة للوسواسي؟

- يكفي أنك بدأت صلاتك على أساس تحديد الفريضة التي تصليها، ولم تقطعها بنية أو فعل وإذا حصلت حالة شرود فليست هناك مشكلة، ولكن يجب أن لا تبقى إلى آخر الصلاة، بحيث تشعر كما لو أنك لم تكن تصلي. أما الوسواسي فلا أثر لوسوسته وعليه أن لا يعتني بها.

الجمع بين الصلاتين:

* هل يوجد رواية عن المعصومين بصحة الجمع بين الصلاتين؟

- هناك رواية عن رسول الله(ص) أنه كان يجمع بين الصلاتين في حال الحضر والسفر، وفي حال الرخاء والشدة، وعندنا في ذلك رواية حتى من أهل السنّة في (البخاري) وغيره كما ورد ذلك عن الأئمة المعصومين(ع) الذين تنطلق أحاديثهم من رسول الله(ص)، ومن أراد التفصيل فليقرأ كتاب (مسائل فقهية) للمرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين وهو متوفر في المكتبات.

التساهل في صلاة الجمعة:

* صاحب محل لا يغلق محله وقت صلاة الجمعة، فأرشدته إلى ما في (سورة الجمعة) من أمر بإغلاق المحل وترك البيع ولكن بلا فائدة، فلم أعد أشتري منه ولم أعد أسلّم عليه لأنني إذا سلّمت عليه فيجب أن أشتري منه؟

- لا يحرم السلام عليه، فقد يكون مقلداً لبعض الفقهاء الذين لا يرون وجوب صلاة الجمعة عيناً بل تخييراً بينها وبين الظهر، ولكنه يخسر الكثير، حتى أن بعض الناس أتى الرسول(ص) فقال له: إني أحبّ الحج، ولكني لا أستطيع، فقال عليك بصلاة الجمعة فإنها حج المساكين. وهكذا ورد عن الباقر(ع): «من ترك ثلاث جمع بلا عذر كان ممن طبع على قلبه»([869]) يعني بالنفاق.

وقت صلاة الفجر:

* وقت صلاة الصبح عندنا يبدأ مع طلوع الفجر وهكذا الصوم فهل هذا الوقت نفسه عند إخواننا أهل السنة؟

- لا فرق في الوقت بيننا وبين إخواننا من أهل السنة، نعم هناك من يحتاط لعدم إحراز طلوع الفجر ولا فرق من هذه الجهة بين المؤذّن الشيعي والسنيّ، وهكذا لا فرق بيننا لا في الفجر ولا في الظهر ولا في العصر، نعم في المغرب بلحاظ الرأي الفقهي الذي يعتبر الحمرة المشرقية لتحقق الغروب لأن السنّة يقولون بسقوط القرص فربما هذا هو الفرق في ذهاب الحمرة المشرقية لتحقق الغروب وعدمه. أما رأينا فعدم اعتبار الحمرة المشرقية وهو الرأي العلمي للسيد الخوئي وإن كان في الرسالة العملية يعتبر ذهاب الحمرة المشرقية لتحقق الغروب على سبيل الاحتياط.

 حكم دمشق وريفها:

* هل تعتبر مدينة دمشق وريفها مدينة واحدة؟ وهل يتم صلاته من يذهب إلى دمشق أو يأت منها إلى السيدة زينب وبالعكس؟

- ليست مدينة واحدة بل أن هذه الأماكن متعددة فلو أقام المسافر في دمشق فإنه يقصر لو خرج إلى الريف قبل الإقامة عشرة أيام، ولكن الذي يسكن دمشق، ويأتي للسيدة زينب لا يقصر، لأنه ليست هناك مسافة وكذلك العسك.

رابعاً: الصيام والكفّارات:

الصوم في بلد يستمر النهار في شهوراً:

* ما هو حكم الصوم في مدينة يستمر فيها النهار شهوراً من السنة وفي مدينة يستمر فيها الليل شهوراً من السنة؟

- في هذه الحال يكون الإنسان غير مكلّف بالصوم فعليه أن قضي حيث لا يوجد شهر رمضان في هذا البلد. أمّا الصلاة فيكتفي بخمس صلوات يختار وقتها كيفما شاء.

انقطاع عن الصوم بسبب الربو:

* توفي والدي بسبب مرض الربو وقد انقطع عن الصوم مدة عشرين عاماً لتحذير الأطباء له، ولكنه لم ينقطع عن الصلاة، فما هو الحكم في صيامه؟

- ليس عليه إلاّ الفدية في هذه الحال وليس عليه القضاء، فيمكن إذا لم يكن قد دفع الفدية أن تدفع عنه.

من لم يدفع زكاة الفطر:

* ما هو حكم من لم يدفع زكاة الفكر في شهر رمضان لسبب ما؟

- الأحوط أن يدفعها بعد ذلك.

التدخين والصيام

* التدخين حرام شرعاً، فكيف لا يفطّر الصائم؟

- إنّ الغيبة حرام ولكنها لا تفطّر، والنظر إلى الأجنبية حرام ولكنّه لا يفطّر، من يشرق في رمضان فإنّ السرقة لا تفطّر، فليس كلّ شيء حرام يفطّر.

اليوم الأول من الشهر القمري:

* إذا تولّد الهلال فلكياً وكان قابلاً للرؤية قبل أذان الفجر بدقائق معدودة، فهل يعتبر النهار الحاصل بعد الفجر لليوم الأول من الشهر القمري؟

- لا بُدّ أن يكون التولّد وإمكانية الرؤية عند الغروب.

صيام نذر:

* نذرت صيام ثلاثة أيام ولكنَّ الظروف أجبرتني أن أستأجر مكاناً حارّاً جداً وغير مريح، فهل أوجّل الوفاء بنذري لحين رجوعي إلى العراق، علماً أنَّ سفري يستغرق أكثر من شهر؟

- إذا كان النذر معيناً في ثلاثة أيام محدّدة فيجب وفاء النذر فيوقته، إلاَّ إذا كان الصوم في الأيام التي حدّدت فيها أداء النذر حرجياً فيجوز لك أن تقضيها في وقت آخر.

إمكان الرؤية:

* بما أنكم تعتمدون التولّد الفلكي للهلال بالنسبة لدخول الشهر القمري فتحتاطون في احتساب دخول الشهر عند الرؤية، فما معنى إمكان الرؤية؟

- المراد بإمكان الرؤية أن الفلكيين يقولون إنّ القمر بعد خروجه من المحاق إذا وصل إلى مستوى من كمية النور بحيث إذا لم تكن هناك عوارض خارجية فيمكن أن يُرى.

الاجتزاء بولادة الهلا:

* هل ترون الاجتزاء بولادة الهلال فلكياً؟

- نعم، مع إمكان الرؤية، فالهلال يولد فلكياً وتمضي على ولادته 13,5 ساعة بحيث يختزن كمية من الضوء تمكّن من رؤيته من حيث القواعد العامّة وإن كان لا يُرى من جهة العوارض.

الإفطار المعتمَّد:

* في أيام شبابي، وبسبب الامتحانات النهائي، لم أستطع الصيام، فكنتُ أفطر في بعض الأيام وأقطع المسافة الشرعية، وفي بعض الأحيان لا أستطيع الذهاب خارج البلدة فأفطر معتمداً، ولا أذكر كم تبلغ هذه الأيام، وكنت لا أستطيع صيام هذه الأيام قبل حلول شهر رمضان في العام المقبل، وبعد مدّة أصبت بقرحة الإثني عشري ونهيت عن الصوم من قبل مَنْ أثق به من الأطباء، ومرّت عليَّ سنوات وأنا لا أستطيع الصيام، وبعد ذلك جربت الصوم واستطعت، ولكن في الصيام الذي بعده أصبت بنكسة، وهكذا كلّما مرّ عليَّ شهر رمضان أكون في صراع مع نفسي؟

- لا يجوز لك الصيام في ظرف إصابتك بالمرض إذا كنت تخاف الضرر، وعليك أن تدفع كفارة إطعام ستين مسكيناً لكلّ يوم مما تعمَّدت إفطاره وفدية لعدم قضائك، والأحوط أن توصي به بعد ذلك، وبالنسبة للأيام الواجب صيامها، فيمكن أن تبني على الأقل، وإذا أحببت الزيادة فلا بأس.

أثر النسيان على الصوم:

* لقد نويت صوم القضاء، ولكنّي قبيل الغروب نسيت فشربت الماء، فهل صومي صحيح أم تجب إعادته؟

- كلّ صوم ينسى فيه الإنسان نفسه ويأكل ويشرب فصومه صحيح. فلو فرضنا أ،َّ شخصاً نوى الصوم واستيقظ صباحاً وأكل الإفطار وتغدى ظهراً، وكان ذلك نسياناً فصومه صحيح.

خروج الدم من فم الصائم:

* في أغلب الأحيان يخرج الدم من فمي وخاصّة عندما أستيقظ، وهذا ما يسبب لي مشكلة وخاصّة أثناء الصيام، ولا أستطيع القيام ببصقه لأنَّه يؤدّي إلى جفاف الحلق، فهل يؤثر ذلك على الصوم؟

- لا بُدَّ من بصقه، وجفاف الحلق غير متحقّق، لأنَّه فرض غير واقعي، لأنَّ الغدد تفرز اللعاب من جديد، وأمّا بالنسبة إلى تأثيره على الصوم فإنَّه يؤثر ويفسد الصوم في حالة بلعه.

الإمساك للصوم قبل الآذان:

* في الصيام، هل الإمساك عن الطعام والشراب قبل آذان الفجر بخمس دقائق هو من باب الاحتياط الوجوبي، أم من الممكن الأكلّ والشرب حتى سماع الآذان؟

- من الصعب تحديد الفجر بدقة، وغالب المؤذنين إنما يؤذنون بعد الفجر، ولذا كان الاحتياط على هذا الأساس.

تعطّر الصائمة:

* يجتمع عدد كبير من النساء في شهر رمضان وذلك لقراءة القرآن وقد تتصاعد روائح غير طيبة نتيجة الازدحام، فله يمكن أ، نطلب من النساء وضع عطر خفيف، وهل يؤثر على الصيام؟

- لا يؤثر على الصيام ولا مانع من ذلك.

خامساً الخمس والزكاة:

المسؤول عن إخراج الخمس:

* يعمل الأولاد مع الأب في عمل واحد، والأب هو الذي يُشرف عليهم. من المسؤول عن إخراج الخمس؟ وهل يحقّ للولد أن يكون له ماله الخاص؟

- نعم، يحقّ للولد أن يكون له ماله الخاص، يعني يقول لأبيه إنّي أعمل عندك بالأجرة، وهو مسؤول عندئذٍ عن معاشه، أمّا إذا فرضنا أنَّ الأب هو الذي يملك المال وكان الأبناء متبرعين بعملهم ويعاونون أباهم، فالخمس على الأب.

خمس الزائد عن المؤنة:

* قلتم إن الزائد عن المؤنة يجب دفع خمسه والمؤنة تختلف حسب ثروة الناس فهل يحسبون المؤنة بشكل معدل أو يجب أن يكون لكل شخص حساب لمؤنته بدون إسراف؟

- المقصود بالمؤنة ما يصرفه الإنسان في سنته وليس الذي يتركه جانباً، فما يصرفه على نفسه وحاجاته فهو من مؤنته والفاضل منه يخمّس، ولو قتّر الإنسان على نفسه ولم يصرف على احتياجاته وبقي منه بقية فيجب عليه أن يخمّسها.

صرف سهم الإمام(عج):

* هل يجوز لمقلد السيد محمد الصدر(عج) صرف سهم الإمام(عج) لمساعدة عوائل الشهداء والمعتقلين ومساعدة الفقراء؟

- بل حتى بالنسبة لمقلدي السيد الخوئي(رحمه الله) عليهم أن يستجيزوا من الحاكم الشرعي الموجود كما كانوا يستجيزون من الشهيد محمد الصدر(رحمه الله) صحيح أنّ سهم الإمام(عج) يعرف في موارد معينة لكن لا بد لتنظيم المسألة من استجازة الحاكم الشرعي.

في تخميس مبلغ:

* كان عندي خمس مقداره (100) دولار فبعثت به إلى أهلي وخاصة إلى أخي لأنّه كان بحاجة إلى (50) دولار كي يكمل دراسته، أمّا النصف الآخر فقد أعطيته إلى سيد محتاج جداً لأنّني وجدته مديناً ولا يملك المال؟

- نحن نجيز ذلك.

فائض الراتب:

* أنا موظف ولي راتب محدّد ولكن بعض الأحيان قد يفيض من راتبي بعض الشيء فأشتري به ذهباً لزوجتي أو هدايا أو أثاثاً للبيت، فهل عليّ خمس؟

- إذا اشتريت بفائض الراتب ذهباً أو هدية أو أثاثاً فلا شيء عليك، إلا إذا مرّ الحول بعد ذلك على ما اشتريته ولم تكن قد استعملته.

مصرف الخمس:

* امرأة متزوجة من أحد الهاشميين ولديها أربعة أطفال تعيلهم، فهل يجوز لها أن تصرف الخمس الذي يصل إلى أطفالها على نفسها وعلى أطفالها؟

- هي تصرف على أطفالها، باعتبارها تخدمهم فيمكنها أن تأكل معهم.

دفع الخمس للزوجة العلوية:

* لي زوجة علوية ـ أي تنتسب ـ في نسبها ـ إلى الإمام علي(ع) ـ وهي ربّة بيت أي لا تعمل فهل يجب عليها الخمس؟

- إذا كان مقصود السائل أن يدفع لها الخمس من فاضل مؤنته فلا يجوز أن يدفع لزوجته الخمس، أمّا إذا كان المراد هل يجب عليها الخمس إذا فضل شيء من مؤنتها، فنعن، يجب عليها ذلك.

كيفية احتساب الخمس:

* جعلت يوماً لإخراج الخمس، علماً أني لم أخرج الخمس لعدة سنوات، فكيف لي أن أحتسب الخمس؟

- عليك أن تدرس رأس مالك وأرباحك في اليوم الذي حددته للخمس ثم تستخرج الخمس.

نقل الأخماس:

* في بعض المناطق الشيعية يقوم بعض الوكلاء بنقل الأخماس الشرعية إلى خارج تلك المناطق، فلماذا لا تصرف الأخماس في تنمية بعض المناطق الفقيرة؟

- إذا كان هناك فقراء في أية منطقة فيجب أن تصرف الحقوق في تلك المنطقة لتلبية حاجات الفقراء. ولا بأس أن تقوم المرجعية بصرفها خارج تلك المناطق حسب تقديرها للمسؤوليات، فقد تصرف قسماً منها على المناطق الفقيرة وتخصص الباقي للمسؤوليات الأخرى.

سهم السادة:

* يوجد لدي مال خمس وزكاة، فهل يجوز إنفاقه على العراقيين المحتاجين علماً أنّه من سهم السادة؟

- إذا كان من سهم السادة فالمفروض أن يصرف على فقراء السادة، ولا يجوز صرفه على غيرهم.

المصالحة على الخمس:

* هل يجوز المصالحة على الخمس في حالة تراكمه؟

- لا تجوز المصالحة في هذه الحال، إنّما تجوز إذا شكّ الإنسان في الخمس بين الأقلّ والأكثر، أما إذا عرف أنّ عليه عشرة آلاف دولار فلا يجوز إنقاص دولار واحد منها، ومن يقولون لكم سامحناكم في الباقي فلا تصدقوهم فالخمس ليس مالهم الخاصّ، حتى أنّ السيد الخوئي(رحمه الله) عندما كان يتحدث عن بعض الناس الذين يسامحون بعض الأغنياء كان يقول إنّ في هذا تضييعاً لحقوق الفقراء، فهذا غير جائز.

شراء كتب إسلامية بأموال الخمس:

* هل يجوز لمقلديكم في العراق استخدام أموال الخمس في شراء الكتب الإسلامية والمحاضرات وتوزيعها على المؤمنين نظراً للصعوبات التي يعيشها أغلب المؤمنين هناك؟

- لا مانع في ذلك.

أخذ الخمس من الأسرى:

* هل يؤخذ الخمس من الأسرى في معتقلات الأسر مع العلم أنّهم يتقاضون رواتب؟

- كلّ ما يغني الإنسان وما يستفيده ومرّت عليه سنة وصار من فواضل المؤنة فعليه أن يدفع خمسه من دون فرق بين أن يكون الآسر مسلماً أو كافراً.

خمس ذهب مجمّد:

* تملك أمّي عدداً من القطع الذهبية وهي لا تستطيع أن تلبسها خوفاً من أن يراها أبي فيصرف ثمنها، فهل فيها خمس؟

- إذا كانت قد اشترتها لا لتلبسها ولا لحاجتها إليها فيجب الخمس فيها.

خمس المدين:

* إذا كان الشخص مديناً بمال وجاء وقت التخميس، فما هو حكمه؟

- الحكم يختلف فتارة هو مدين بمال من عدة سنسن ماضية أي أن عليه ديناً قديماً، فإذا وفّى الدين أثناء السنة فإنه يعتبر من المؤنة، ولكن إذا لم يوفّه وظل عنده مال فيجب أن يخمّسه. أمّا إذا كان الدين في نفس السنة أي أنه تداين لمصرف هذه السنة وفي آخر السنة فضل عنده مال فإنّه يستثني هذا الدين، وإذا بقي شيء من الأرباح فيخمسه.

دليل الخمس في القرآن:

* هل للخمس دليل في القرآن؟

- قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ}(الأنفال/41) فلم يقل في الحرب. ثم أنّ الأئمة(ع) يتحدثون عن رسول الله(ص) وقد حدثونا عن تشريع الخمس.

خمس الكفن المشترى:

* هل يجب الخمس من الكفن الذي يشتريه الشخص لنفسه قبل أن يموت؟

- إذا مرّت عليه سنة يخمّس لأنّه لا يدخل ضمن المؤنة.

تخميس أثاث محل تجاري:

* هل يجب تخميس ما يشترى لمحل تجاري، كالآلة الحاسبة والكومبيوتر، أي أن كلفة الشيء تصبح 20% زيادة على الثمن؟ وفي حال كان المصروف أكثر من الربح في العام الماضي، فهل يجب تخميس كل ما أشتري؟

- كل شيء يدخل في رأس المال يجب الخمس فيه.

تخميس الأرض أم البناء:

* اشترى شخص قطعة أرض للسكن وأقام عليها مسكناً ولكنّه لم يستطع إكماله إلاّ بعد خمس سنوات، فماذا يجب عليه؟ هل يخمّس الأرض وقيمة البناء إذا كان لا يستطيع السكن إلاّ بهذه الطريقة؟

- بحسب رأي السيد الخوئي(رحمه الله) عليه أن يخمّس الأرض والبناء، ولكن على رأينا وعلى رأي السيد الخميني(رحمه الله) لا يخمّس لا الأرض ولا البناء.

هل في ذلك خمس:

* هل على الأشياء التالية خمس ذهب الزوجة، وأثاث البيت؟

- ذهب الزوجة من المؤنة إن كانت تلبسه، أو كان من مهرها، فلا خمس فيه. وإذا كانت تلبسه في مناسبات اجتماعية فإنّه يصبح من المؤنة أيضاً مثل ثيابها التي ترتديها في المناسبات فلا يجب فيه الخمس. أمّا إذا كانت تلبس الذهب، وهو ليس من مهرها، وإنما تضعه في يدها لوقت الحاجة، فيجب تخميسه.

وأمّا بالنسبة إلى أثاث البيت فلا خمس فيه إذا اشتري في أثناء السنة، والملابس كذلك، إلاّ إذا اشتريت من مال مرّت عليه السنة ولم يخمس.

* وكيف تحتسب رأس السنة للخمس؟

- رأس السنة هو أول يوم يقبض فيه المال الذي من عمله. وإذا لم يستطع تحديده فليذهب إلى الحاكم الشرعي ليرتّب أمره لرأس السنة.

* وإذا كان في ذمتي دين للبنك، فهل يجب فيه الخمس؟

- إذا كان الدين من سنينك السابقة وفضل عندك مال الآن فيجب الخمس فيه، أمّا إذا كان الدين من هذه السنة فتستثنيه مما فضل عندك، وإذا فضل شيء فعليك تخميسه.

خمس المال المدخر للضرورات:

* ما رأيكم في المكلّف إذا كان والده يصرف عليه مصروفاً لا يكون إلاّ للحاجات الضرورية اليومية، فهل يجب عليه الخمس إذا امتنع المكلّف عن بعض الحاجات وادخر مصروفه لحاجات أهم ومرّ على المال سنة؟

- يجب الخمس.

حق التصرّف بالخمس:

* نحن من المغتربين العراقيين وقد سبق أن استفسرنا من أحد موكليكم الوافدين إلينا عن الخمس فأجابنا بأن لنا الحق في التصرّف بحقكم كوننا عراقيي، فهل هذا صحيح؟

- نعم، ما عملتموه في حينه كان بإذننا، ولكننا الآن نرخّص بالنصف للعراقيين في الداخل.

خمس مبلغ مودع في البنك:

* خرجت من العراق بسبب الظروف القاهرة، وقد تركت هناك في أحد البنوك مبلغاً وقدره (500) ديناراً عراقياً منذ ست سنوات، فهل على هذا المبلغ خمس؟ علماً أنني لا أستطيع الذهاب إلى العراق لسحب هذا المبلغ؟

- يجب الخمس فيه الآن بحيث يكون مخمّساً عندما تأخذه بعد ذلك، أو إذا لم تكن قادراً الآن فعندما تستلمه.

تقسيط الخمس:

* عندما يتم إخراج الخمس عند عالم من العلماء في رأس السنة الخمس ويدفع المؤمن قسماً من المبلغ ويبقى قسماً آخر على ما بعد رأس السنة الثانية، فهل يجوز ذلك؟ أم يجب دفع تمام المبلغ قبل رأس السنة الخمسية؟

- يجب عليه إذا كان قادراً قبل رأس السنة الخمسية أن يدفع كلّ ما عليه، إلا إذا كانت لديه ظروف يرى الحاكم الشرعي أو وكيله المصلحة في أن يقسّط عليه ذلك.

خمس بيت:

* كنت أعمل مدرساً في الكويت وبنيت لي داراً في البصرة إلاّ أنني بعد الغزو لم أستطع العودة إلى العراق، وتم تأجير البيت منذ عام 1992 بسعر رمزي ولم نستلم من الإيجار شيئاً لأنّ الإيجار يوضع في البنك في العراق ولا نستطيع العودة إلى العراق لاستلامه، فهل يجب علينا الخمس، علماً أنّ البيت مسجّل باسم زوجتي، وأنّي بدون عمل منذ ثلاث سنين، ونحن نعيش على مساعدات أهل الخير؟

- إذا كان هذا البيت حاجة لك في الوقت الذي ترجع فيه إلى العراق ولا تستطيع شراء بيت مماثل في ذلك الوقت فعلى رأينا أنه لا خمس فيه، ولكن على رأي السيد الخوئي يجب الخمس فيه.

مسؤولية ابن من لم يخمّس:

* شاب في العشرين من عمره وهو طالب ويعيل والده ويعلم أن والده لا يخمّس ماله، فهل عليه إثم في ذلك؟ وهل صلاته صحيحة؟

- لا إثم عليه في ذلك وإنما والده هو الذي يتحمّل الخمس.

خمس الهبات المالية:

* يعيش شخص على الهبات المالية حيث العمل غير متوفر، فهل هناك على هذه الهبات خمس، علماً أنّ للشخص قرضاً، وأنّ هذه الهبات لا تكفي لهذا القرض؟

- إذا وفّى القرض أثناء السنة فلا يحتسب، أمّا إذا كان القرض من سنين سابقة وليس من هذه السنة فيجب أن يخمّسه.

خُمسُ في الذمة:

* اقتُرِض مني مبلغ من المال وبعد أكثر من سنة أُعيد لي، فهل يترتب على هذا المبلغ الخمس، علماً بأنَّني الآن مدين أضعاف هذا المبلغ، أمّا في وقت الاقتراض فإنّي لا أتذكر هل كنت مديناً أم لا؟

- أنت مدين بديونك ومدين بالخمس، لأنَّ المال هذا لم تخمِّسه عندما أعطيته لهذا الشخص ومرّت عليه سنة، وهو على ملكك في ذمة الآخرين، فيجب عليك أن تخمّس كلّ مال تملكه مما يفضل عن مؤونة سنتك.

الخمس في المال المزكّى:

* إذا زكّى المكلّف ماله الزكاة وكان الباقي زائداً عن مؤونة السنة، فهل يكون مشمولاً بالخمس؟

- نعم يجب فيه الخُمس.

التخمين في الخمس:

* هل يجوز دفع الخمس على نحو التخمين فيخمّن الخمس على حسب ما نتذكر؟

- إذا كان لا يتذكر المكلف إلا مقداراً فإنه يجوز دفعه بهذه النية وإن كان قليلاً، لكن الأحوط أن يصالح الحاكم الشرعي أو وكيله.

خمس الزوجة:

* إذا دفع الزوج إلى زوجته مصرفاً شهرياً أو أسبوعياً وادخرت من ذلك المبلغ شيئاً، وهل يجب عليها تعيين رأس سنة مالية لغرض الخمس، وإذا لم يجب هل تحتاط؟

- إذا ادخرت من هذا المبلغ شيئاً فإنه لا بد أن تدخره بإذن زوجها، وإذا ادخرته بإذن زوجها ومضت على ما ادخرته سنة فلا بد لها من دفع الخمس.

خمس الديون:

* إذا كان لشخص دين مثلاً ألف دولار من سنوات ماضية ولم يكن له رأس سنة لأنه لا يوفّر مالاً والآن أصبح عنده مال وعيّن رأس سنة لأمواله، هل يجب عليه دفع الألف بالإضافة إلى 200 دولار، خمساً لأن الدين من سنوات ماضية؟

- نعم، عليه أن يخمّس الألف، ويخمّس المائتين إلا إذا كانت هذه الألف قد قبضها نفسها الآن ودفع منها فيجب أن يخمّسها هي فقط، ولكن إذا خمّسها من مال آخر يجب أن يخمّس الخمس.

سادساً: الحج والعمرة:

الغيبة أثناء الحج:

* في آخر يوم من أيام الحج وفي موقع رمي الجمرات دار بين حاجّ وبين صديق لي نقاش فاستفزّه الثاني فعمد الأول إلى أن يستغيب شخصين آخرين وهو في حالة غضب، فما هو حكمه؟ وهل يفسد ذلك الحجّ؟

- عليه أن يستغفر الله من ذلك وأن يطلب السماح من الشخصين بطريقة وبأخرى، وإذا لم يستطع أن يتسامح منهم فليحاول أن يستغفر لهما ويطلب من الله أن يغفر لهما وله.

غير المستطيع:

* إذا كانت مصاريف الحج أكثر من مصاريف العمرة، فهل يجوز لمن يعتمر أن يعتبرها بدلاً عن الحجّ لعدم التمكّن من توفير مصاريف الحج؟

- لا يمكن أن يعتبرها حجّة بل هي عمرة يثاب عليها.

* وهل يجوز القرض في أداء مناسك الحجّ والعمرة سواء له أو للنيابة عن الآخرين؟

- يجوز القرض لكن بشرط أن يحرز القدرة على الوفاء.

كفّارة التظليل:

* عند خروجنا من (عرفات) إلى (المزدلفة) ليلاً كان الجو مترباً مصحوباً بالرياح ونقلنا بالباصات غير المكشوفة، فهل تجب علينا الكفّارة أم لا؟

- لا يجب ذلك، لأن التظليل في الليل جائز إلاّ إذا كان هناك مطر فيجب الكفّارة عند التظليل معه على الأحوط.

مصرف كفّارة التظليل:

* عليّ كفّارة التظليل فهل يجوز الأكل منها إذا دعوت الفقراء والمساكين؟

- لا بدّ أن تعطي الكفّارة بأجمعها للفقراء وليس للشخص دافع الكفّارة أن يأكل منها.

قيمة كفّارة التظليل:

* ما قيمة كفَّارة التظليل في الحج والعمرة؟

- كفَّارة التظليل شاة، وتكفي الشاة الصغيرة، ولكن يشترط أن تذبح وتعطى للفقراء ولا يكفي دفع القيمة، نعم يمكن أن تدفع قيمتها إلى من تثق به من العلماء والمؤمنين لشراء هذه الشاه، ثُمَّ هم يتولون إطعام الفقراء.

أكل النائب من لحم الكفّارة:

* هل يجوز للنائب في الحجّ أكل لحم كفّارات المنوب عنه؟

- الكفّارات هي على النائب وليس على المنوب عنه، فهذا عندما يرتكب إحدى محرّمات الإحرام فعليه أن يدفع الكفّارة عن نفسه، ففي الأعمال كما في الطواف والسعي والوقوف في عرفة وفي الجمرات المسؤولية مسؤولية المنوب عنه، أمّا الكفّارات فهي من مسؤولية النائب.

لحم الأضحية:

* هل يجوز صرف لحم الكفّارات لفقراء عامّة المسلمين؟

- نعم يجوز ذلك، وإن كان بعض العلماء يحتاط في ملاحظة بعض الجوانب.

الطواف في الاتّجاه المعاكس:

* لماذا الطواف حول الكعبة عكس اتجاه عقرب الساعة، ولماذا لم يكن بالاتجاه الآخر؟

- لقد تعبّدنا الله بأن نطوف من اليسار إلى اليمين.

إيتاء عمرتين في شهر واحد:

* هل يجوز إيتاء عمرتين في شهر واحد؟

- المشهور إنّه لكلّ شهر عمرة، ولكننا نرى أن لا مانع من ذلك.

الظن بعدم إتيان طواف النساء:

* لقد ذهبت إلى الحج قبل ثلاث سنين وعندي ظن ضعيف بأني لم أقم بطواف النساء للعمرة المفردة، فما هو حكمي؟

- كلّ شك بعد الفراغ لا قيمة له، وعليك أن لا تعتني بشكك.

في الطواف:

* من المعروف أنّه يجب أن يكون الطواف في الحج خارج حجر إسماعيل بما لا يخرج عن مقام إبراهيم، فإذا كان الحجيج في أيامنا هذه تقريباً مليوني حاجاً، فكيف يمكن أن يطوفوا وفق مذهب أهل البيت(ع)؟

- إنّ فقه مذهب أهل البيت(ع) لا يعاني مشكلة في ذلك، فهناك علماء يرون أنّه يجب الطواف بين الكعبة وبين مقام إبراهيم، وهناك علماء آخرون يقولون باتساع المطاف ما اتسع الطواف، أن أنك تقدر أن تطوف في آخر المسجد، وهذا هو رأي السيد الخوئي ورأي السيد محسن الحكيم ورأينا أيضاً ورأي علماء كثيرين، وعلى فرض من يقول بالطواف بين مقام إبراهيم والكعبة فإن المليوني حاج لا يطوفون مرة واحدة.

مقدّمات الحج:

* يقصد بعض الرجال الحج عن طريق فيزة عمل، ولكنّهم لا يعملون بمقتضاها، وإنَّما يقومون بمراسم الحج وغايتهم الحج فقط، وذلك لعدم تمكّنهم من الحصول على فيزة حج ولقلة التكلفة؟!

- ليس هناك إشكال في ذلك.

طواف بوضوء باطل:

* ما حكم فريضة الحج إذا اكتشفت بعد فترة أنَّ وضوئي غير صحيح؟

- عليك أن تُعيد طوافك، والأحوط إعادة الحج.

وجوب الحج:

* ورثت امرأة مزرعة بحيث وجب عليها الحجّ بسبب استطاعتها ولكن عندنا (في الهند) يعتبر بيع الملك من أجل الحجّ إهانة للإنسان، فماذا يتوجّب عليها؟

- يجب الحج إذا كان المسلم قادراً على ذلك وهو المعبر عنه بالمستطيع، والمرأة مستطيعة. نعم إذا كان بيع المزرعة يوجب حرجاً شديداً فوق العادة بحيث يوجب هتك الحرمة فإنه لا يجب الحج عليها.

الحج نيابة عن الغير:

* إذا أكملت عمرة التمتع ونويت الإنابة عن والدتي، هل يجوز لي ذلك، وما هي شروطها؟

- لا، بل لا بد لك أن تنوي النيابة عن الوالدة من أول الأمر، لأن عمرة التمتع جزء من حج الذي هو مركّب من عمرة وحجّة، فهو عمل واحد وليس عمليتين كالعمرة المفردة والحج الإفراد.

سابعاً: الزواج والطلاق:

الزوجة دائمة التنفير:

* ما حكم الزوجة دائمة التنفير لزوجها إذا كانت تنفّره بحيث تمنعه من حقّه الزوجي؟

- تكون ناشزاً ولا تجب نفقتها.

الإنفاق على الزوجة:

* هل الإنفاق على الزوجة يعني أن يجعل لها مرتباً شهرياً؟

- أن ينفق عليها بأن يلّبي حاجاتها ولو بالتدريج.

حرمة غير مؤبدة:

* لو قامت علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة متزوجة ثم طلقت من زوجها، فهل يجوز للرجل الزواج منها، أو أنها تحرم عليه كما هي فتوى بعض الفقهاء؟

- المشهور عند الفقهاء أنها تحرم عليه مؤبداً، لكن رأينا ورأي السيد الخوئي (رحمه الله) أنها لا تحرم عليه مؤبداً.

تدخّل الأب في اختيار زوجة لولده:

* هل يتدخّل الأب في اختيار زوجة لولده إذا كان هو أعرف بذلك من ولده؟

- ليس للأب ولاية على ولده البالغ الرشيد، ولذلك ليس له أن يضغط على ولده لا في الزواج ولا في غيره، نعم يمكنه أن ينصح ابنه أو يتفاهم معه، فذلك لا بأس به.

قصد الظهار:

* إذا طلّق الرجل زوجته ثلاث مرات وقال لها: تحرمين عليّ كحرمة أختي، وبعد ذلك يعقّب بالقول: لا أقصد ذلك فأنت زوجتي، وذلك بحجّة أن الشيعة لا يقيمون أية أهمية لهذا الكلام، فما هو الحكم في ذلك؟

- إذا كان قاصداً ذلك فهو من الظهار، ويرى بعض العلماء أن لا فرق في أن يقول لها أنت عليّ كظهر أميّ أو أنت عليّ كأختي، فإذا كان قاصداً ذلك فعليه أن يعمل عمل الظهار.

تعارض الزوجين في الإنجاب:

* زوجة لها طفلان وترغب بالاستمرار بالإنجاب وزوجها لا يرغب بالاستمرار، فما هو الحل المناسب؟

- هي حرّة في جسدها إذا استطاعت أن تعمل بدون رضا زوجها فيجوز لها ذلك. ولكن الأفضل التفاهم مع زوجها حول الموضوع.

الزواج أم الإعالة:

* تركت أهلي في العراق ووضعي المادي لا يسمح لي بالاتصال بهم ورعايتهم وأنا أفكر بالزواج، فهل أتزوج أم يجب أن أبعث لهم ما يتوفر عندي من أموال لإعانتهم؟

- إذا كنت مضطراً إلى الزواج أو محتاجاً إليه بحيث تحمي نفسك من الحرام، أو كان في تركه حرج عليك فلك أن تتزوج، ثم إذا وفقك الله ورزقك بعد ذلك فابعث إليهم بما تستطيع.

حضانة الطفل:

* هل يحقّ لأهل الزوج (أمه وإخوانه) المطلّق لزوجته تربية ورعاية أطفاله الذين لم يبلغوا الحلم، علماً أن زوجته المطلّقة قد تزوّجت بزوج آخر، هذا مع غياب زوجها المطلّق لها بسبب سفره؟

- الحضانة هنا للأب بعد الطلاق إذا كان في مستوى الحضانة، أي في مستوى رعاية الأولاد ولو من خلال الاستعانة بأمه وإخوانه على هذا الأمر، وعليه أن يكون إنسانياً فلا يحرم زوجته من أولادها ولو بطريقة وبأخرى.

* ثم هل يخيّرون في سن الرشد؟

- طبعاً، فبمجرد أن يبلغوا سن الرشد يصبحون أحراراً فلا ولاية لأحد عليهم، فلهم حينذاك أن يختاروا أن يكونوا مع الأب أو يكونوا مع الأم.

الجمع بين المرأة وعمّتها:

* شاب تزوج فتاة وأنجب منها طفلة، وبعد فترة عقد عقداً على عمتها ثم تم الدخول بها، وعندما قيل له لا يجوز الجمع بين امرأة وعمتها ادّعى أنه لا يعرف الحكم في ذلك، فما هو العمل الآن؟

- زواجه الصحيح، بحسب المذهب الجعفري، فإذا تزوّج العمّة لا يجوز له أن يعقد على ابنة أخيها إلا برضاها، لكن إذا كان متزوجاً بنت الأخ فإنّه يجوز له أن يعقد على العمّة سواء رضيت ابنة أخيها أم لا، فإنّ زواجه صحيح ولا مشكلة في ذلك.

حضانة الأم والأب:

* قرأت لكم في حضانة الطفل بالنسبة للمشكلة من زوجها إشارتكم بأنّ الحضانة للأب بعد الطلاق، وقد أشارت معظم قوانين الأحوال الشخصية إلى أن الحضانة للأم لحين بلوغ الطفل خمسة عشر سنة ومن بعده يخيّر بالعيش مع الأم أو الأب، أليس الطفل يفتقد حنان أمه وقد لا يكون كذلك مع الأب الذي يكون مشغولاً بالعمل بعيداً عنه؟

- رأينا الجديد أنّ الحضانة للأم إلى سبع سنين لذكر والأنثى، وكان رأينا السابق أن الحضانة للأنثى سنتان، وأمّا قضية فقدان حنان الأم فالمفروض أنه {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}(البقرة/233). أي أن يكون هناك اتفاق بين الأب والأم على الرعاية المشتركة بينهما بطريقة وبأخرى، وإذا كان الأب ليس بالمستوى الذي يمكن أن يحضن ولده وربّما يهمله ولا يرعاه، فيمكن والحال هذه للحاكم الشعري أن يأخذه ويعطيه لأمّه.

تطليق الحاكم الشرعي:

* المرأة المفقود زوجها وقد كان هناك من ينفق عليها وهي بحاجة إلى الزوج ـ هل يستطيع الحاكم الشرعي تطليقها؟

- على الرأي المشهور بين الفقهاء لا يمكن تطليقها، ولكنّ رأينا ـ وهو أيضاً رأي المرحوم الشيخ حسين الحلي(رحمه الله) من علماء النجف الكبار ـ أنه يمكن للحاكم الشرعي أن يطلّقها.

الزواج الثاني:

* المرأة التي تطلّق في المحاكم بصورة غير شرعية جاهلة بالأمر، ثم تتزوج برجل آخر وتنجب منه أطفالاً، فهل زواجها الثاني صحيح؟

- الزواج الثاني باطل، لكن الأولاد شرعيون لأنّهم أولاد شبهة، وعلى الزواج الثاني أن ينفصل عنها كزوجة.

غياب الزوج لسنتين:

* فُقِدَ رجل متزوج لأكثر من سنتين ولا يعرف له أي أثر، فما حكم زوجته؟

- لا بدّ من انتظار أربع سنوات يفحص عنه خلالها، فإذا لم يعثر عليه ولم يكن هناك من ينفق عليها فللحاكم الشرعي أن يطلّقها.

خيار الطلاق:

* بما أنّ الطلاق حلال فهل يجوز للزوج أن يطلّق زوجته ما دام غير مقتنع بها، ولما كان المطلوب معاشرة الزوجة بالمعروف، فأيّما أفضل الاستمرار على هذه الحال أم الطلاق؟

- لا بد أن تدرس كلّ حالة بحسب طبيعتها وملابساتها ولا يمكن إعطاء حكم عام في ذلك، وقد تكون الوساطة الحميدة {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}(النساء/35). نافعة في تسوية المشكلة العالقة بين الطرفين، ولذا لا يمكن الحكم على هذه القضايا بشكل مطلق.

عدّة اليائسة:

* بالنسبة لليائسة من النساء هل تلتزم بالعدّة بعد انتهاء العقد؟

- لا عدّة على اليائسة.

هل العاقر يائسة:

* هل يجوز اعتبار المرأة العاقر، أو التي رفعت الرحم بعملية جراحية؟

- لا تعتبر يائسة، فاليائسة هي التي بلغت سنّ الخمسين وانقطع حيضها.

مهر غير المدخول بها:

* عقدت زواجي بواسطة والدي كوكيل عني على امرأة، ولكوني لاجئاً في دولة أوربية، فقد قدمت معاملات جمع الشمل إلا أنها رُفضت وأصبح من المستحيل دخول زوجتي البلد الذي أسكنه، وكان المهر مليون دينار مقدماً و20 مليون مؤخراً، وقد دفعت المقدم نقداً، فهل يتوجّب عليّ دفع المؤخّر بعد فسخ العقد علماً أنه لم يتحقق الدخول ولم نتلق أبداً، هذا وقد كلّفتني مصاريف سفرها مبالغ أخرى؟

- إذا طلّق قبل الدخول فإن المهر ينتصف، أي عليه أن يدفع عشرة ملايين ونصف المليون، إلا أن يكون تراض بينهما. ولكنني أحب أن أقف عند هذه النقطة لأنتقد ظاهرة في العقود والمهور وهي أنّ بعض الأسر ترى المهر الغالي نوعاً من الوجاهة، ويقولون إن هذا شيء بسيط فهو مؤخر إلى أقرب الأجلين، ولكن من يدري متى يأتي أقرب الأجلين (الطلاق أو الموت). فقد يعقد العقد ويأتي بعد عشرة أيام أو أقل من ذلك، لذلك لنكن واقعيين في مسألة المهر، فعندما يلتزم إنسان بشيء فلا بدّ من إحراز قدرته على الوفاء به، أما أن يضع في ذمته مهراً وهو لا يستطيع أن يلتزم به فهو تكليف بما هو فوق الطاقة، ولذا ورد في الحديث «شؤم المرأة غلاء مهرها» في حين أن العادة الجارية اليوم هي أن المهر خاضع للمعاملة كما هو التعامل حول سلعة معينة، في الوقت الذي عبّر الله تعالى عن المهر أروع تعبير {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}(النساء/4) والنحلة هي الهدية، فكأن المهر هو عطية بلا مقابل، فالمهور الغلاية تعقّد الحياة الزوجية والله يريد تسهيل الحياة الزوجية حتى يمنع الانحراف.

طلاق الوكيل:

* هل يجوز لوكيل الزوج أن يقوم بالطلاق عند إخبار الزوج وكيله هاتفياً بأنّ زوجنتي فلانة طالق؟

- إذا وكّله وكالة فلا فرق في الطلاق سواء كان في ورقة أو هاتف، لكن عندما يراد إصدار الطلاق فلا بدّ من أن يصدر بوثيقة يمكن أن تثبت أنّ المرأة قد طلّقت طلاقاً قانونياً أو شرعياً. ويجوز له إذا كان قد أعطى وكالة مطلقة أن يطلّق زوجته غيابياً، كما يمكن أن يطلّقها حضورياً، ولكننا لا ننصح بذلك، فحينما يتم الطلاق لا بدّ من التفاهم بكلّ الأمور والمتعلقات التي يختلف فيها {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}(البقرة/229). فالتسريح بإحسان يعني إعطاءها حقوقها كلّها حتى لا يكون هناك نزاع.

الزواج العرفي:

* يقول أحد مشايخ الإمامية في لقاء تلفازي إن زواج المتعة حلال والزواج العرفي حرام، فلماذا تحرّم الإمامية الزواج العرفي؟ وما هو اختلافه عن الزواج العادي؟

- قد يكون معنى الزواج العرفي هو التراضي بين الطرفين من دون عقد، وهذا حرام ليس عند الإمامية فقط بل عند كلّ المسلمين. أمّا إذا كان معنى الزواج العرفي الزواج غير المسجّل قانونياً فهو زواج شرعي ولكنه غير موثّق قانونياً، وهذا يتبع الزوجين في إرادتهما توثيق الزواج أو عدم توثيقه، فتسجيل الزواج ليس شرطاً في شرعية الزواج وإنّما هو شرط في توثيق الزواج تحاشياً للمشاكل التي قد تنجم في المستقبل.

زواج المسلمة بالكتابي:

* نرجو إيضاح ما جاء في جوابكم حول زواج المسلمة بالكتابي، حيث كان الجواب بعدم الزواج ثم عقّبتم بأنّ المسلمة إذا أصبحت علمانية وكذلك الكتابي فزواجهما صحيح، فما هو معنى ذلك؟

- المقصود هو أن المسلمة لو أصبحت مرتدّة، فإنّ لكلّ قوم نكاحاً يحتجزون به عن الزنا، فنكاح الهندوس صحيح بمعنى أن العلاقة ليست علاقة زنا، ونكاح البوذيين صحيح، ونكاح النصارى واليهود صحيح أيضاً. ولكن لا بدّ للمسلم أن يتقيّد بشروط الزواج في الإسلام، فالإسلام لا يجيز المسلمة بغير المسلم، وهذا مما أجمع عليه المسلمون جميعاً. فلو فرضنا أن المسلمة تزوجت من غير مسلم فهذا زواج غير شرعي والعلاقة زنا، لكن لو أصبحت المسلمة ملحدة أو ارتدّت عن الإسلام والذي يريد الزواج منها كافر، فزواج الكافر بالكافرة صحيح.

حول مسألة دفع نصف المهر:

* في السؤال حول زوج يقيم في بلاد الغرب لاجئاً وقد رفضت الدول المانحة اللجوء في قبول زوجته وسفرها إليه، وحكمتم بوجوب دفع نصف المهر لو كان ذلك قبل الدخول وهو كذلك، فما هو ذنب هذا الزوج الذي لم يكن يريد الطلاق، وإن ما حصل ليس راجعاً إليه؟

- قلت إذا أراد أن يطلّقها أن يدفع نصف المهر بحسب ما جاء في القرآن {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}(البقرة/237) فإذا لم يرد أن يطلّقها فعليه أن يوفّر لها السكن وأن ينفق عليها وأن يقوم بحقوق الزوجية فلا يتركها كالمعلّقة أو من دون نفقة ولا رعاية ولا علاقة زوجية {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}(البقرة/229).

بين نزع الحجاب والطلاب:

* إذا خيّر زوجٌ زوجته بين الطلاق وبين نزع الحجاب، فهل تستجيب له وتنـزع حجابها؟

- لا، ليس لها ذلك فـ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([870]) إلاّ إذا كان الطلاق حرجياً بحيث يؤدّي إلى حرج لا يتحمّل {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج/78). وعليها أن تقتصر على المقدار الضروري في هذا المجال بما لا يعتبر سفوراً أو تبرّجاً. وإلا فالأصل أنّها ملزمة بالحجاب بنصّ الكتاب.

الزواج من مسيحية كتابية:

* هل يجوز الزواج من كتابية مسيحية مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الإنجيل الموجود ليس الكتاب المنـزّل الحقيقي كما أكّد الكثير من علماء الإسلام، فكيف ينطبق عليها عنوان المرأة الكتابية؟

- المقصود من المرأة الكتابية هي التي تنسب إلى الكتاب والإنجيل الذي ليس كلّه محرّفاً، فالمراد بالكتابية أو الكتابيّ ذاك الذي له أحكام معينة وهو الذي ينتسب إلى الكتاب وليس بالضرورة الالتزام الحقيقي به، فالكثير من العلماء يقولون بجواز الزواج من الكتابية، ولكن هناك بعض العلماء يحتاطون في ذلك، والبعض الآخر لا يجوّز ذلك، وعلى كلّ إنسان أن يتبع مقلّده في هذا المجال.

إيقاع الطلاق:

* لو كرهت المرأة زوجها واتفقت معه على الطلاق خلعاً وبذلت له المال لكنّ زوجها حينما أوقع بلفظ (طلقتك) لا بلفظ (خلعتك) رغم أنه قاصد للخلع، فهل الطلاق صحيح؟

- إذا فرضنا أنّه أنشأ الطلاق على أساس البذل صار طلاقاً خلعياً.

منع الحمل منذ بداية الزواج:

* هل يجوز منع الحمل منذ بداية الحياة الزوجية؟

- يجوز ذلك إذا كان لضرورة، ولا مشكلة باتباع الوسائل الجائزة.

في التعقيم:

* قلتم بأنّ المرأة ليس لها الحق بأن تقطع إنجاب الأولاد بالكامل بواسطة العملية الجراحية، والسؤال هنا: لكي لا تبقى المرأة تستخدم حبوب منع الحمل طوال حياتها هل تجيزون التبعيض في مثل هذه الحالة؟

- إنّ الحياة الزوجية قائمة بين الزوجين على أن يكون ثمرتها ولد واحد أو اثنان بحسب المتعارف، فإذا أراد الرجل من المرأة أن تنجب له عشرين ولداً فليس واجباً عليها موافقته في ذلك، أمّا إذا كان لديها ثلاثة أولاد فلها أن تستعمل وسائل منع الحمل الجائزة، أمّا القيام بعمليات جراحية لإزالة الرحم أو ما أشبه ذلك فهذا لا يجوز إلاّ في حالات الضرورة القصوى وفي حالات الخطر، أمّا من أجل منع الحمل فلا يجوز، ولا أظن أن هناك عالماً يجوّز ذلك.

نعم يمكن التعقيم في ربط الأنابيب أي التعقيم المؤقت الذي يمكن إزالته في أي وقت وليس التعقيم النهائي الذي لا يمكن إرجاع الوضع فيه إلى ما كان عليه. كما يجوز تعقيم الرجل في بعض الحالات. وباختصار خذوا هذه القاعدة وهي أن الإنسان بعمومه طاقات فلا يجوز أن تقتل نفسك أو أن تقتل طاقتك، فأنت مثلاً تستطيع أن تغمض عينك ولا يجوز ذلك أن تفقأها، وتستطيع أن تجمّد لسانك ولكن لا يجوز لك قطعه، وكذلك طاقة الإنجاب فإنّك تستطيع أن تجمّدها لكنّك لا تستطيع أن تقتلها ولذا فإنّ التحفّظ الشرعي في كلّ ما يؤدي إلى قتل طاقة الإنسان هو الذي يحكم هذه المسألة من ناحية الشرعية.

إسقاط الجنين من علاقة غير شرعية:

* هل يجوز إسقاط الجنين من علاقة غير شرعية؟

- لا يجوز ذلك إلاّ في حالات الخوف على حياة الحامل حينما تتعرض حياتها للخطر كأن تقتل، ففي هذه الحالة يجوز، ولكن لا يجوز ذلك من حيث الأصل إذ يجب أن نعرف أنه منذ أول لحظة تحمل فيها المرأة حينما تتقطع عادتها الشهرية لا يجوز لها إسقاط جنينها لأنّ رحلة حياته تبدأ من حين تلقيح النطفة للبويضة، أمّا حالات الخطر أو الضرر البالغ فهي حالات مستثناة.

هل هذا من التدليس:

* عقدت على امرأة واكتشفت بعد العقد أنّ في وجهها ارتخاءً وكنت ظننت ذلك من الحياء، فهل يجوز لي فسخ العقد، وماذا يترتب عليّ؟

- إنّ مجرد هذا الظنّ لا يوجب فسخ العقد إلاّ إذا كان هناك تدليس، وعادة ليس هناك تدليس في الوجه حتى لو كنت تظن أنّه حياء ثم تبيّن غير ذلك، فالتدليس هو إخفاء عيب كان العقد مبنياً على عدم وجوده.

الرجوع في الطلاق الخلعي:

* في الطلاق الرجعي تكون المرأة بحكم الزوجة، فإذا لم ترغب المرأة بالرجل لأنّه كان يؤذيها بالضرب وكان سيء الأخلاق معها خلال العدة ثم أراد إرجاعها، فما هو الحل بالنسبة للمرأة؟

- إذا كانت تكرهه والزواج يخلق لها مشاكل ويؤدّي إلى المعصية {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ}(البقرة/229). فإن عليها الأخذ بالطلاق الخلعي بأن تبذل مهرها، فإذا جرى الطلاق الخلعي فليس له أن يرجع فيه إلاّ إذا رجعت المرأة المطلقة بالبذل.

المهر ضمان المستقبل:

* يعتقد بعض الناس إنّ المهر الذي يدفعه الزوج {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}(النساء/20-21}.

- إنّ حرمة هذا من جهة الكذب، أما التبنّي الصوري فليس محرّماً، ولكن المحرّم هو {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}(الأحزاب/4). فإذا لم يكن هناك محرّم آخر فلا مانع.

عدّة من رفعت الرحم؟

* امرأة أزالت الرحم بعملية جراحية وطلّقت طلاقاً خلعياً، فهل يتوجّب عليها العدّة؟

- نعم يتوجّب عليها العدّة وإن كان لا حمل لها، فالعدّة تثبت في صورة احتمال الحمل وفي صورة عدم احتماله لحكمة أخرى.

إطالة أمد الخطبة:

* لا أتمكن من الزواج فعلاً ولكن هل يجوز خطبة امرأة وإطالة الخطبة لمدة ثلاث سنوا حتى تتحسن أوضاعي المالية؟

- إذا وافقتك على ذلك فلا مانع.

الأذن بزواج البكر:

* امرأة بكر تزوجت بدون أن يعلم أبوها وولي أمرها، فما هو حكمها؟ وكيف تصحح زواجها؟

- على رأي من يقول أنه إذا كانت بالغة رشيدة لا يشترط أذن الأب، وإن كان يستحبّ ذلك، فالزواج صحيح، أما على رأي من يحتاط فلا بدّ من أذن الأب، ورأينا صحّة هذا الزواج.

الطلاق الوهمي:

* كثر في الآونة الأخيرة الادّعاء بالطلاق الوهمي في بلاد الغرب، والحكم الشرعي يحرّم ذلك، فما هي الطريقة الأمثل للحدّ من هذه الظاهرة؟

- عليهم الأخذ بتقوى الله، فالطلاق الوهمي أو الإيهامي الذي يُراد به خداع الدولة من أجل استلام حصتين ماليتين من حصّة واحدة حرام لجهتين: فالدولة المضيفة تدفع لكما على أساس أنكما مستقلان، فهذا نقض للعهد {أَوْفُوا بِالعُقُودِ}(المائدة/1). فلقد دخلت إلى البلاد على أساس اتفافية معنية وأنت بذلك تتجاوزها وتخالفها، وهذا لا يجوز شرعاً. يضاف إلى ذلك أنّ في هذا العمل هتكاً لحرمة المؤمنين، فإذا اكتشفوا أنّك قد طلّقت زوجتك بهذه الطريقة وأنت تعيش معها، فإنّهم سيقولون كيف يكون هؤلاء مسلمين وهم يفعلون ذلك؟

تعذّر إرسال نفقة:

* لي طفل موجود مع أمّه في الوقت الحاضر فإذا لم أتمكن من إرسال النفقة له لمدة أكثر من سنتين، فهل يجوز لي أن أرسلها عندما أتمكن من ذلك؟

- إذا كنت غير قادر في الوقت الحاضر، فبالإمكان إرسالها فيما بعد، وتطلب من الأم أن تنفق عليه لحسابك ثُمَّ المرتب بذمتك في وقت الاستطاعة.

التعرّف قبل الزفاف:

* قلتم إنّه يجوز التعرّف بين الزوجين بعد العقد وقبل الزفاف، فإذا تمّ التعرّف ورأت الزوجة أن الزوج لم يعجبها، فكيف تبتعد عند والطلاق بيده؟

- المقصود من التعرّف بعد العقد أنهما ينفتحان على بعضهما البعض من خلال الشرع فيمكن أن يجلسا ويتفاهما ويختليا لأنّهما أصبحا زوجين كأي زوجين آخرين. أمّا إذا كانت الزوجة تخاف منذ البداية أن ينقلب عليها، أو تخاف أن تكون مشتبهة في قرارها فيمكن أن تأخذ وكالة الطلاق في عقد الزواج، ذلك أنّ بعض العلماء يفتون بجواز أن تكون الزوجة وكيلة في طلاق نفسها وعند ذلك تستطيع أن تطلّق نفسها إذا أخذت الشرط بشكل مطلق فالمؤمنون عند شروطهم، وإذا كان الشرط محدوداً وحصل المحذور فإنه يحقّ لها المطالبة بالطلاق لعدم الالتزام بالشرط، وهذه وكالة غير قابلة للعزل، فيمكن أن تكون العصمة بيدها ولكن بأسلوب الوكالة.

* وما هو الحدّ الزمني للتعارف، هل هو شهر أو أقل؟

- لا يمكن للأب أن يمنع ابنته من اللقاء مع الزوج حتى يأتي وقت الزفاف لأنها بعد العقد هي زوجته والأمر بيدها وليس بيد الأب، إلاّ إذا كان هناك شرط ضمن العقد بينها وبين الزوج فلا يقدر أن يجبرها عند ذاك.

* وهل يحقّ للمرأة أن تأخذ من الزوج خلال فترة العقد بعض النفقة؟

- المتعارف بين الناس هو أن الزوج لا يتحمّل خلال الفترة الفاصلة بين العقد وبين الزفاف النفقة، باعتبار إسقاط النفقة في هذا الوقت، فإذا كان العرف يوجب أن ينفق عليها ولو نفقة ليست كاملة، فعليه أن يدفع لها ذلك.

خضوع المتعة للضوابط:

* أقررتم في مقابلة تلفزيونية بزواج المتعة من حيث المبدأ، ولكن بشرط أن يخضع لضوابط معينة، فما هي هذه الضوابط؟

- الإقرار به باعتبار أنه حلال، ولكن ربّما تخدع الفتاة، وربما يخلق لنا مشاكل اجتماعية ويؤثر على مستقبلها وهكذا.. فقد يضيّع حق المرأة والأولاد لأنه من يدري أنّ فلانة متزوجة خاصة مع عدم اشتراط الشاهدين.. ولذلك يجب أن يكون هناك ضوابط لمنع المشاكل.

تعطيل العمل بالمتعة:

* إذا كان زواج المتعة تشريعاً إلهياً في القرآن الكريم ولم يعطّل إلا بعد وفاة الرسول(ص) فلماذا لم يعد الإمام علي(ع) هذا الأمر إلى نصابه في خلافته؟

- لقد تحدث الإمام علي(ع) عن هذا الموضوع في قوله «لولا ما نهى عنه عمر من المتعة ما زنى إلا شفا» أي نفر قليل أو «إلا شقي» حسب رواية أخرى. وغاية الأمر أنّ الخلل هو في التطبيق العملي للمتعة في مجتمعاتنا الشيعية، فالمتعة حلال ولكن الظروف والأعراف الاجتماعية قد لا تسمح بها لخروجها عن الضوابط في كثير من الأحيان، ثم أنّ الحلال ليس من الواجب أن يعمل الإنسان به.

الزواج من الغريبات:

* نحن شباب نعيش في أوروبا ونواجه مسألة مهمة وهي الزواج، فما هو رأيكم في الزواج من الأوروبية غير المسلمة، علماً أنها تدخل الإسلام بعد الزواج؟

- إذا كانت كتابية (نصرانية أو يهودية) وعُقد عقد الزواج بشكل شرعي فالزواج صحيح ولا يجوز الزواج بغير الكتابية (من غير المسلمات) كالبوذية والملحدة ونحوهما.

الأم صاحبة البويضة:

* إذا كانت الزوجة لا تنجب فهل يحق لزوجها أن يتزوج زوجة أخرى بالمتعة فتؤخذ البويضة المخصبة من هذا الزواج بموافقة الزوجة وتغرس في رحم الزوجة السابقة التي لا تنجب؟؟

- قد يجوز ذلك، ولكن هناك خلافاً في الرأي حول من هي الأم في هذه الحال؟ هل هي صاحبة البويضة أم الحامل؟ إنّ رأي السيد الخوئي هي المرأة الحامل، ولكن رأينا ورأي علماء آخرين أن الأم هي صاحبة البويضة لأن نسبة تكوين الولد في البويضة مماثلة لنسبته في النطفة، فالولد كما ذكرنا يتكوّن من خلية فيها (46) من الكروموسومات (23) في النطفة و(23) في البويضة وعندما تلقّح النطفة البويضة يصبح عدد الكروموسومات (46).

فالولد يتكوّن من عملية التلقيح، والأم الحامل إنّما تقوم بعملية تنمية الولد وليست أساساً في تكوينه، ولذلك فإن رأينا أن الولد شرعي طالما أنه من نطفة الأب، ولكنّ الأم هي صاحبة البويضة التي انتقلت منها إلى رحم المرأة الثانية.

الزواج من بنت الزنا:

* عندما يتزوج شخص من بنت غير شرعية، فهل يعتبر الأولاد غير شرعيين؟

- لا، فهم شرعيون لأنّهم يأتون نتيجة العلاقة الشرعية، فحتى لو كانت الزوجة نتاج عملٍ غير شرعي، لكنّها تزوجت زواجاً شرعياً فالأولاد شرعيون، ولا مانع من أن يتزوّج الإنسان من بنت الزنا.

وراثة الولد من زواج المتعة:

* هل يرث الولد من زواج المتعة؟

- الولد من زواج المتعة كالولد من الزواج الدائم فهو ولد شرعي 100% ولا فرق بينه وبين الابن من الزواج الدائم في كلّ حقوقه وكلّ واجباته.

حكم المستنسخ من خلية الأم:

* ما هو حكم الابن الناتج من الاستنساخ البشري إذا كانت خلية التلقيح من الأم فقط وليس من الأب؟

- هنا في هذه الحالة الأم هي أمّه وأبوه في نفس الوقت باعتبار أنه نتاج خلية واحدة أخذت منها ولم تؤخذ النطفة من الأب، ولذلك فهو ابن الأم فقط وليس ابن الأم والأب.

إسقاط الجنين عمره شهر:

* امرأة أسقطت جنينها ولم يبلغ عمره شهراً، فهل عليها شيء؟

- عليها الديّة وتقدّر بأربعة دنانير في الشهر الأول.

البقاء على دين الزوجة الكتابية:

* مسلم متزوج من مسيحية وهي مصرّة على دينها، فهلا أن تبقى على دينها؟

- على رأي من يقول بجواز من الكتابية لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}(المائدة/5) فحتى لو بقيت على دينها فلا مشكلة، كما يرى المرحوم السيد محسن الحكيم والمرحوم السيد الخوئي وكما هو رأينا كذلك فلا مانع من أن تبقى على دينها. ولكنّنا لا ننصح بذلك لأنّها تؤثر في تربية الأولاد لأنهم بذلك يكونون موزّعينم بين دين أمّهم ودين أبيهم ولا يكون البيت حينئذ بيتاَ إسلامياً، وسوف يصبح الأولاد حائرين مذبذبين بين هذا وذاك.

الشاهدان في الزواج:

* في المذهب السنّي نعم، وفي المذهب الشيعي يستحبّ الشاهدان ولكنّهما ليس شرطاً في الصحة، نعم في الطلاق لا بدّ من الشاهدين؟

- في المذهب السنّي نعم، وفي المذهب الشيعي يستحبّ الشاهدان ولكنّهما ليس شرطاً في الصحة، نعم في الطلاق لا بدّ من الشاهدين.

شرعية الزواج المدني:

* هل الزواج المدني المعروف عندنا شرعي وصحيح؟

- في الزواج المدني لا يشترط الشروط الشرعية في الزواج، فيمكن للمسلمة أن تتزوج من غير المسلم أو للمسلم أن يتزوّج من غير الكتابية بوذية كانت أو هندوسية، وهذا لا يجوز شرعاً، وحتى على رأي من يقول بجواز الزواج من الكافرة الكتابية فإن الحكم يختصّ بالكتابية، فلا يجوز الزواج من الملحدة المشركة أو البوذية أو الهندوسية. أما إذا عقد الزواج مدنياً بأن يقول لها: هل تقبلين بفلان زوجاً أو هل تقبل بفلانة زوجة أو جعلتكما زوجين، فعلى رأينا يجوز ذلك، وكان المرحوم السيد محسن الحكيم يقول بجوازه. إلاّ أنّ بعض العلماء يتحفّظون في ذلك لأنّ عندهم شرطاً معيناً في صيغة الزواج ونحن لا نشترط ذلك بل كلّ ما يعبّر عن الزواج بشكل عام يجوز، ولكن نحن لا نقر الزواج المدني كقانون لأنّ هذا القانون يختلف بأحكامه عن قانون الإسلام، ومع استجماع الشروط فلا مانع من ذلك.

الزواج بكتابية غير مؤمنة:

* تزوجت من امرأة نرويجية زواجاً منقطعاً، وهي تؤمن بكتابه ونبيها إيماناً ليس قوياً، فما حكم زواجي هذا من جهة الشك في كونها كتابية؟

- إذا لم تكن تؤمن بالإنجيل كما يؤمن الكتابيون، أو كان إيمانها منحرفاً فلا يجوز الزواج بها، فالزواج إمّا بالمسلمة أو الكتابية المؤمنة.

حياة الجنين:

* كثيراً ما نقرأ ونسمع أن الجنين إذا بلغ الشهر الرابع تنفخ فيه الروح وتبدأ فيه الحركة وبذلك يعتبر ميتاً قبل الأشهر الأربعة حيث يجيزون إسقاطه عند الضرورة، فما هو الفرق بين الحياة وبين الروح؟

- المراد بالقول قبل أن تدبّ فيه الروح أنّ الحياة بمعناها الحركي ليست موجودة ولكن النمو كما هي الحال في النبات موجودة، فالنطفة تنمو وتصبح علقة والعلقة مضغة وهكذا، فهذه الحياة يطلق عليها حياة نباتية وليست حياة إنسانية، روحية، ولكن الإجهاض غير جائز حتى في هذه الحالة، نعم، هناك بعض العلماء ممن يفرّقون بين حالات الحمل، كما هو رأي السيد الخوئي ورأينا، فإذا فرضنا أنّ الحمل كان يمثل ضرراً بالغاً بحيث يصل إلى حد الخطر فيجوز لها أن تجهض قبل نفخ الروح، أمّا بعد نفخ الروح فلا يجوز لها الإجهاض إلاّ إذا أصبح الحمل خطراً على حياتها فيكون حينئذ من باب الدفاع عن النفس.

زواج في العدّة:

* إذا تزوج رجل بامرأة في عدّة الطلاق الخلعي واستمر الزواج وأنجب أطفالاً مع الجهل، فما هو الحكم؟

- عليه الانفصال عن زوجته، ولكن الأولاد شرعيون، لأنَّهم أولاد شبهة.

ولي الزوجة:

* سافرت في العطلة الصيفية إلى التبليغ وطلب مني أن أزوج إحدى البنات في المنطقة، وسألت عن وليها فقيل لي أنَّها بنت غير شرعية، وطلبت الإذن من شقيق الأم الأكبر وتمّ العقد، فهل يصح العقد أم لا؟

- إذا كانت البنت بالغة رشيدة لا مانع من ذلك.

الزواج بالإكراه:

* ما حكم الزواج الإجباري، بمعنى أنَّ أهل الزوجة يجبرونها على الزواج بفلان وغير غير راضية، فما حكم الزواج وقد أنجبت أطفالاً؟

- إذا لم يكن الزوج عالماً بالحال وكانت مع عدم رضاها تحسب جواز بقائها مع الزوج، فالأولاد أولاد شبهة، وكان الزواج باطل، ومع العلم بالبطلان، فالزواج باطل، ويعتبر هذا من الزنى.

عدّة الطلاق:

* تزوج رجلٌ من فتاة مؤمنة على أن يأخذها معه، لأنَّه يسكن في الغرب، فهجرها أكثر من سنة وقد ولدت منه، ومع ذلك فإنَّه قصّر معها في ما تقتضيه الزوجية، ثُمَّ طلّقها، فهل يجب عليها العدّة وما حكمها؟

- نعم، يجب العدّة مع الدخول حتّى لو فارقها زوجها مدّة طويلة.

الهدايا أثناء عقد الزواج:

* شخصٌ عقد على فتاة ولم يتمّ الزواج، ثُمَّ طلقها وذلك بناءً على طلبها، وفي فترة لاعقد كان يبعث لها بعض الهدايا ومصروفها الشهري، فهل يجب عليها أن تردّ كلّ ما بعثه إليها حين الطلاق؟

- لا يجب، نعم الشيء الذي أهداها إياه وبقي عندها، فإذا لم تكن من أرحامه فيجوز له الرجوع بالهدية، أمّا إذا أعطاها نقوداً وصرفتها أو اشترت به ـ مثلاً ـ ذهباً، فليس واجباً عليها أن تردّه له، إلاَّ إذا كان الطلاق بهذا الشرط وقبلت به.

الزواج بأخت الأخت من الإرضاع:

* والدة شخص أرضعت بنتاً معه وهو يريد الزواج من أحد أخواتها، هل يجوز له ذلك؟

- نعم يجوز له ذلك، فمثلاً عنده أخت من أبيه وعندها أخوات من أمّها، فإنَّه يجوز له أن يتزوّج أخت أخته، ولكن هذه البنت، كما في السؤال، لا يجوز لها الزواج لا منه ولا من إخوانه، لأنَّها صارت بنت أبيه وبنت أمّه، فهي أخت له ولإخوانه، فالفرق أنَّه لا يجوز لها الزواج من كلّ أخوته، ويجوز له أن يتزوج من أخواتها.

الطلاق بغير شهود:

* شخصٌ تزوج امرأة وطلقها بدون شهود أو بشهود غير عدول، وبعدها تزوجت المرأة من شخص آخر، هل يصح زواجها؟

- لما كانت شهادة الشاهدين العادلين شرطاً واقعياً في صحة الطلاق، فالطلاق باطل وزواجها الثاني باطل.

الطلاق بثلاث:

* طلّقت امرأة سنّية ثلاثاً حسب ضوابط المذاهب السنّية، وبعد فترة أرجعها زوجها بدعوى أنَّ هناك رأياً عند أهل السنة يجوّز ذلك وهي غير مقتنعة بذلك، فما هو حكمها؟

- بعض آراء أهل السنّة ترى أنَّ الزوج لو طلقها ثلاثاً بمجلس واحد فإنَّه يعتبر طلقة واحدة، وهذا رأي معروف عند أهل السنّة، فإذا قال لها: أنت طالب بالثلاث، ثُمَّ رجع، يكون رجوعه صحيحاً. نعم على رأي من يقول إنّ الطلاق ثلاثاً بمجلسٍ واحد يُعتبر ثلاث طلقات عندئذٍ لا يجوز الرجوع...

عدّة الطلاق:

* امرأة طلقها زوجها في الشام وتريد الرجوع إلى العراق، فهل تلزمها العدّة هنا أم في العراق؟

- تلزمها العدّة في حين الطلاق، والعدّة بمعنى أن لا تتزوج في هذه المدّة، وليس من الضروري أن تقيم في مدّة العدّة في بلد الطلاق.

مصاحبة الأجنبي أثناء العدّة:

* تتمةً للسؤال السابق، وهل هناك حرج إذا صاحبها أحد أقاربها في سفرها المشار إليه؟

- لا حرج في ذلك.

انقطاع عدة الوفاة:

* امرأة توفي زوجها وبقيت في عدة الزواج ثلاثة أيام فتزوجت من شخص ثم انفصلت عنه بعدة مدة فما هو تكليفها بالنسبة لعدة الوفاة التي قطعتها؟ وهل تستطيع إعادتها؟

- إذا كانت المدة الباقي وهي الأيام الثلاثة التي أشير إليها في السؤال قد مضت، فإنه لا يلزم المرأة الاعتداء مرة أخرى أو إكمالها وإن كانت قد صاحبت المدة المذكورة المعصية من حيث زواجها إذا كانت عالمة بذلك.

الطلاق بالثلاث:

* رجل مسلم غير إمامي، طلّق زوجته ثلاث طلقات لكنه كان في الثالثة غاضباً، ثم أنه لم يراع كون زوجته في طهر لم يواقعها فيه، فأرسله علماء مذهبه إلى علماء مذهب الإمامية، فما هو حكمه؟

- على رأينا هذا باطل، فالمفروض أن يأخذ مذهب في هذا المقام ولا خلاف عند السنّة إذا طلّق غاضباً عند السنّة، بل الخلاف عندهم في مسألة وقوع الطلاق الثلاث.

ثامناً: أموال وبنوك:

دفع الصدقة:

* هل يصح دفع صدقة لشخص بدون إعلامه قربةً إلى الله تعالى؟

- يجوز ذلك.

رهن بدل الإيجار:

* استأجرت داراً من شخص وقد دفعت له رهناً مقداره 100,000 ليرة سورية واكتفيت بذلك عن دفع الإيجار، ما هو الحكم الشرعي لمثل هذه المعاملة وصحةً وفساداً من حيث الإثم أيضاً؟

- إذا فرضنا ذلك على نحو الرهن، وسامحك بالإيجار من دون شرط، فلا مشكلة.

تسجيل الوقف:

* سوف أشتري وقفاً بدل وقف سابق، ولا أنوي تسجيله رسمياً، وإنَّما أُشهد عليه من الأبناء والإخوان ليكون أسهل في نقله فيما بعد إذا أصبح غير صالح للوقف في موقعه من حيث الفائدة، ما هو رأيكم؟

- لا بُدَّ من تسجيله من أجل حفظه في المستقبل، وإن لم يتوقف حفظه على ذلك، فلا مشكلة.

الديّة غير التبرّع:

* دهست شخصاً ونقلته إلى المستشفى في حادة سيارة وتمّ علاجه على نفقتي الخاصّة وعند تقديمي للمحكمة رفض التنازل حتى أدفع له مبلغاً من المال، فهل يجوز لي إعطاؤه المبلغ أم لا؟

- له الديّة إذا حصل لديه كسر أو أي ضرر جسماني، وهذا الذي دفعته للمشفى هو تبرّع، إلاّ إذا اتفقت معه أنّك تتحمل أجور المشفى فقط.

أخذ مال من شركة تأمين:

* توجد في أمريكا شركات تأمين أهلية وغير أهلية، فهل يجوز لي أخذ مبلغ من المال من هذه الشركة بصورة غير رسمية، علماً أن ذلك لا يؤثر على شخص ما ولا يؤثر على صورة الإسلام، ولا يسبب أي ضرر لهذه الشركة؟

- إنّه يؤثّر على صورة الإسلام في نفسك، لأنّك تكتشف في نفسك أنّك خائن لعقدك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ}(المائدة/1). فبينك وبين شركة التأمين عقد ولعلك تعرف أنّ نظام التأمين يخضع للتعاقد فعليك أن تلقي بعهدك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(الأنفال/27). وقد قالها علي بن الحسين(ع) فيما يروى عنه: «لو إئتمني ضارب علي بالسيف على السيف الذي ضرب به عليّاً وقبلت منه ذلك لأدّيت إليه أمانته»([871])، لذلا يجب أن نكون أمناء مع أنفسنا ومع غيرنا، يقول الإمام الصادق(ع): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليورا منكم الصدق والخير والورع فذلك داعية». وكلّ الفتاوى التي تحلّل لك أكل أموال الناس بغير وجه حق أرفضها، لأن الله يقول:{لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}(الممتحنة/8). والقسط هو العدل، ومن العدل أن لا تأكل مال إنسان بغير حق، وهؤلاء مسالمون وقد قاموا باستضافتكم واستقبلوكم، ولكن مع الأسف فإن هناك أناساً يعلّمون الناس الحرام بطريقة شرعية، ويعلّمون الناس الإساءة إلى الناس بعنوان شرعي.

التصرّف بالسهمين:

* إذا كان المكلّف يقلّدكم بالمسائل المستحدثة وهو يقلّد أحد الأموات من المجتهدين في بقية المسائل فهل تأذنون له بالتصرّف بالسهمين إلى أصحابها أو أحد السهمين؟

- إنّ إجازة الميت قد سقطت، ونحن نرخّص بالثلث في سهم الإمام ولكن بالنسبة إلى الإخوان في العراق وباعتبار الوضع العراقي الاستثنائي نرخّص بالنصف، فإما أن يدفع كلّ سهم الإمام، أو يدفع سهم السادة أو يدفع نصفاً من هذا ونصفاً من هذا.

الحسم في البيع الحاضر:

* أثرتم في موضوع مهنة بيع السيارات في أميركا موضوع الحسم بالنسبة إلى البيع حاضراً بسعر كذا وبسعر أقساط كذا لكي لا نقع في إشكال، فكيف يتم الحسم بهذه السهولة وأنت تعرفون أنه لا بدّ من استعراض كلّ العروض بشيء من التفصيل نظراً لمنافسة السوق؟

- المقصود بالحسم كمن يطرح في البداية أنه يبيع نقداً بسعر كذا وبالأقساط بسعر كذا، وهناك من يناقص ويقول أنا مستعد للبيع بكذا والثالث بسعر آخر، وفي النتيجة فإنّ المشتري سيشتري إمّا نقداً أو بالأقساط، فالمطلوب شرعاً هو أنّه عندما تحسم المعاملة ويراد إنفاذ عملية البيع فلا بدّ أن يكون هناك فرضية واحدة وهو إما أن يشتري نقداً فيقال بعتك بعشرة آلاف نقداً أو بالتقسيط فيقال له بعتك بالتقسيط على أن تدفع كلّ شهر مبلغ كذا، وحتى لو باعه بالتقسيط، فإذا لم يدفع في أحد الشهور فلا يجوز له أن يأخذ فائدة على التأخر.

* وإذا لم يتم موضوع الحسم كيف تكون المعاملة ربوية:

- كما بيّنا يجب أن يكون الحسم على ضوء البيع النقدي أو التقسيط وليس الحسم في حال المقاولة والمناقصة وما إلى ذلك؟

لقطة:

* وجدت مبلغاً قدره (500) ليرة سورية، فما هو حكمه؟

- إذا كنت مفلساً فتستطيع أن تتصدق به على نفسك عن صاحبه، وإذا رزقك الله مالاً فتصدّق به على أقرب فقير.

العثور على ساعة:

* إذا رأيت ساعة في سيارة وأخذتها وسألت الناس من حولها ومن في داخل السيارة: لمن هذه الساعة؟ فلم أجد، فلمن ملكيتها وهي موجودة الآن عندي؟

- إذا كان بإمكانك التعريف بها ولو في المنطقة التي كانت فيها السيارة فذلك أفضل، وإلاّ فحكمها حكم اللقطة وهي أن يتصدق بها الإنسان عن صاحبها.

معاملة ربوية:

* تجري في العراق الآن معاملة ملخصها أن يبيع شخص ما مبلغاً من الدولارات لتاجر بان يقول له: بعتك مئة دولار بمبلغ مئة دولار وعشرين ألف دينار لشهر واحد، فهل المعاملة ربوية؟

- هذه المعاملة ربوية، وهي ليست بيعاً بل هي دين ولكن بعض الناس يسمّون بيعاً و«العقود تتبع القصود» ولا إشكال أنّهما قصدا الدين.

سافر وترك ملابسه:

* كنت أعمل في كي وغسل الملابس وقد ترك عندي شخص ملابسه وبعد فترة عرفت أنه سافر إلى بلده مع العلم أنني لا أعرف عنوانه، فماذا أفعل بالملابس؟

- إذا لم يمكنك الوصول إليه أو إيصال ملابسه له، فإنّها تصبح من المال مجهول المالك فترجع فيها إلى الحاكم الشرعي ليتصدّق بها عن صاحبها.

التنازل عن حصّة الإرث:

* ورثت امرأة عن زوجها المتوفى حصتها، وقد أجبرها أهل زوجها على التنازل عن حصتها لأولادها، فهل تعتبر حصتها مغصوبة؟

- نعم، إذا تنازلت مكرهة فحصتها مغصوبة، حتى لو كان بالتنازل القسري للأبناء؟!

اشتراط عدم الاشتراك بالخسارة:

* لي صديق له محل تجاري أعطيته مبلغاً من المال لتشغيله واشترطت عليه عدم مشاركتي في الخسارة ولكنّي لم أشترط أي مقدار من الربح وتركت الأمر لتقديره فهو يعطيني ما يشاء، فهل تصحّ المعاملة؟

- لا تصحّ العاملة بهذا الشكل، فالمعاملة هي المضاربة، وفي المضاربة لا بدّ من الاتفاق على نسبة الربح ولا يجوز اشتراط عدم الخسارة لأنّ من خصائص المضاربة أنّ الربح مشترك بين رأي المال وبين العامل، والخسارة هي على رأس المال لأنّ العامل كذلك يخسر من عمله، ومن الممكن أن تصحح هذه المعاملة على أساس إعطاء صاحب المحل التجاري أجرة عمله تماماً كأي عامل يعمل لشخص بأمره من دون ذكر الأجرة فيعمل على أساس أجرة المثل.

هل هذا ربا:

* اشترى شخص داراً بمليون ليرة سورية ديناً على أن يوفّي المبلغ لمدة ثلاثة أشهر، إلاّ أن المشتري عجز عن الوفاء بدينه ففرض عليه البائع تمديد المدة ثلاثة أشهر أخرى على أنّه يدفع بدل المليون مبلغاً يزيد على المليون بمائة ألف، فهل يصحّ ذلك؟

- لا يصحّ ذلك لأنّه ربا، ولا يجوز تأخير الدين بأزيد منه.

تشغيل المال:

* لي قريب طلب مني الاشتراك معه في مخبز في أميركا بمبلغ (5000) دولار وقال لي سوف أعطيك في كلّ شهر مبلغ (300) كهدية عن هذا المبلغ علماً أنّي في بلد أوروبي وهو في أميركا ولا يمكن العمل معه فأعطيته المبلغ بصورة اشتراك، فهل هذه المعاملة صحيحة؟

- المعاملة غير صحيحة ف(300) دولار شهرياً هي ربا وليست هدية ما دامت ملزمة بينك وبينه، نعم إذا قال لك ادفع 5000 دولار على أساس ربع الأرباح أو نصفها فيصبح الأمر مضاربة والمضاربة جائزة.

بيع الخنازير:

* هناك في أفريقيا قطعان كبيرة من الخنازير تحيط ببعض المدن التي تدين بالإسلام، وقد عرضت شركات أوروبية الاستفادة من هذه القطعان مقابل مبالغ أو إنجاز مشاريع يكون الأفارقة بحاجة ماسّة إليها، فهل هذا جائز؟

- بعض الفقهاء يستشكلون في ذلك، لكن ما داموا يصطادونها في مقابل دفع مبالغ معينة فيجوز بيع الخنـزير لمن يستحلّه، وإنّما يحرّم على المسلم شراء الخنـزير ممن يملكه ليبيعه لمن يستحله لأننا لم نجوّز الشراء للمسلم ولكننا أجزنا البيع إذا حصل على الخنـزير بالحيازة والاصطياد ونحوهما.

استعمال الوقوف:

* للمسجد بعض الموقوفات مثل السلّم وبعض الكراسي، فهل يسمح للغير استعمالها؟

- «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها»([872]) فإذا كانت قد وقفت للمسجد باستعمالها لخدمات المسجد فلا يجوز استعمالها لغير ما هو مصلحة المسجد، أمّا إذا كانت قد اشتريت لكي تؤجّر لمصلحة المسجد فلا باس.

استثمار خدمة:

* تقوم الدولة بتوفير بعض الخدمات للمواطنين مثل الماء والكهرباء أو غيرها، فإذا قمت باستئجار أحد هذه الخدمات من أحد المواطنين بمبلغ هو أقلّ مما يفترض أن يدفعه للدولة، فهل أنا مأثوم بإحدى الحالتين التاليتين: في حال عملي أنّه سوف يسدّد ما بذمته للدولة آجلاً أم عاجلاً؟ وفي حال عدم علمي أنّه سيسدد؟

- لا مانع من ذلك، فهذا ليس قماراً، فأنت تشتري البضاعة بنقودك، وغاية ما هناك أنهم يضعون هدية في داخل البضاعة، فلا مشكلة في ذلك.

نسبة الربح:

* هل هناك نسبة ربح يحدّدها الشارع؟ أم هي نسبة كيفية يحدّدها صاحب البضاعة، وقد تتجاوز حداً أكثر من سعر البضاعة؟

- الناس مسلّطون على أموالهم، فليس هناك تحديد شرعي لنسبة الربح، ولكن في النظام الإسلام لا بدّ من دراسة مصلحة المسلمين في ذلك.

أسعار السوق السوداء:

* هناك مواد مدعومة من قبل الدولة تبيعها بأسعار مخفّضة ولكن الناس يبيعونها بأضعاف سعرها في السوق السوداء، فما هو حكمها؟

- إذا اشترطت الدولة على البائع أن يبيعها بسعر معين لا لجوز له أن يبيعها بأكثر من سعهراز

التراضي حول السعر:

* في معاملات البيع والشراء يحرجنا المشتري الذي تربطنا به علاقة قربى أو صداقة فهو يريد معرفة قيمة المشتريات، فهل يجوز ذكر سعر غير صحيح؟

- إذا كان يريد شراء البضاعة بغير إرباحك بنسبة معينة فلا بدّ لك من إخباره بالسعر الصحيح، أمّا إذا أراد مجرد الإطلاع فيمكنك التورية، ولكننا لا ننصح الإنسان بالكذب حتى ولو بطريقة التورية، إذ يمكن أن تقول له نحن تجّار وليس من الضروري أن أكشف لك أسعاري الحقيقية، فقد أشتري بضاعة بأقلّ من سعرها المعتاد، وربما أشتريها بسعر أغلى من السوق وهكذا فالتجارة تجارة والقرابة قرابة ولا دخل لهذا بذاك.

شرط عدم الخسارة:

* لي معاملة تجارية مع شخص حسب أصول المضاربة، وبعد إجراء عقد المضاربة اشترطت شرطاً خارجياً بعدم شمولي بالخسارة، فله يصحّ الشرط؟

- لا قيمة لهذا الشرط لأن الشروط المعتبرة إنما هي الشروط التي في أصل العقد، ولا يجوز الشرط على العامل باعتبار أنّ حكم الخسارة في المضاربة هو أن تكون على رأس المال.

جنس النقود:

* هل تعتبر جميع النقود، كالدولار والدينار والليرة، من جنس واحد، أم أنّها مختلفة الجنس؟

- هي مختلفة، لكن البعض قد يبيع عملة بأكثر من سعرها وهذا هو دين ولكنه بصورة بيع، وقد ورد في بعض الأحاديث عن النبي(ص) عن آخر الزمان أنّ أناساً يستسهلون الربا بالبيع، ونحن لا نوافق على ذلك.

الوفاء ببضاعة:

* حصلت على فرصة للسفر في الغرب وأنا بحاجة ماسّة لذلك ولكن عليّ ديون والتزامات للناس وليس لديّ المال الكافي للتسديد حالياً، ولكنّني أملك بضاعة، فهل لي أن أدفع بها للدائنين الذين سيكونون مجبرين على قبولها؟ وهل يعدّ ذلك وفاءً شرعياً لما في ذمّتي؟

- يمكن لك أن تخيّرهم بين الانتظار وبين قبول البضاعة، أي أن تقول لهم أنا الآن لا أستطيع أن أدفع لكم مالاً وإنما أدفع بضاعة وغلا تنتظرون وقتاً آخر أتمكن فيه من دفع المال، فإذا قبلوا ذلك فلا مشكلة.

*وهل أنّ إخفاء موضوع سفري عنهم حتى أسافر ثم أبعث لهم بديونهم لا إشكال فيه:

- إذا كنت قادراً على الوفاء فلا بدّ لك أن تعجّل بالوفاء ولو بالبضاعة، وأمّا إذا كنت غير قادر على الوفاء وأنت مقيم هنا ولكنك تستطيع أن تفي إذا سافرات فلا مشكلة، وليس من الضروري أن تخبرهم بذلك.

حصّة الزوجة من الأرض:

* امرأة توفي زوجها وليس له عقب ويملك أراضي زراعية ولم تكن لديه وصية، فما هي حصّتها من الأراضي التي يملكها؟

- على الرأي المشهور الذي يكاد أن يكون إجماعاً عند الفقهاء الشيعة هو أنّ المرأة لا ترث من الأراضي أي شيء، ولكننا نحتاط في ذلك احتياطاً وجوبياً بالتصالح بين المرأة وبين الورثة الآخرين. ولذا فعلى رأي المشهور من فتوى فقهاء الشيعة أن تركة الأراضي هي للأخ والأخت، وإذا كان له تركة غير الأراضي الزراعية فإن المرأة ترث الربع، وإذا كان لها مهر تأخذ مهرها من التركة.

 هل هذا من الغدر:

* استقرضت مبلغاً من المال من عدة أشخاص لغرض اللجوء ولكنني لم أنجح في الوصول إلى تلك الدولة، وعليّ أن أراد ما عليّ من دين لهم وكنت قد حدّدت لهم موعداً ولكن لم أف بذلك لأنّني لا أملك المبلغ وقد خسرت كلّ شيء ممّا استقرضته، فهل هذا يكون غدراً بهم؟

- يقول تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(البقرة/286). ويقول في معرض تعذّر الوفاء بالدين {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}(البقرة/280)، والغدر إنّما يكون إذا امتنعت عن الوفاء وأنت قادر عليه.

 المطالبة بالمال ممن يتسبب في حادث:

* تعرّضت لإصابة وأدخلت المستشفى وتحمل المتسبّب في الحادث نفقات المستشفى، فهل يجوز لي أن أطالبه بالمال في المحكمة ولا أتنازل عنه إلاّ في حالة دفع هذا المال؟

- إذا كان الرجل قد دفع المال في مقابل شفائك، لا يجب عليه شرعاً أن يدفع نفقات المستشفى، فيكون قد أحسن إليك. فأنت لك عليه الديّة بما تصاب به، وتقدّر الديّة الشرعية بحسب ذلك، أمّا أنّه قد دفع مصاريف المستشفى وأنت تطالبه بالديّة فلا يصحّ ذلك شرعاً لأنّك تستحق عليه إمّا الديّة دفع أجور المستشفى، وعلى الإنسان أن يكون في هذه القضايا إنساناً عادلاً بحيث لا يفكّر في استغلال الآخرين.

حلّية التأمين:

* ما رأيكم بالتعامل مع مؤسسات التأمين من حيث التأمين على السيارات والممتلكات من معامل وآلات ومحلات وتجارية والتأمين على الحياة؟

- كلّ أنواع التأمين حلال بما فيها التأمين على الحياة.

التصرّف بالأمانة:

* هل يجوز التصرّف بأموال الأمانة إذا أخذت أذناً من صاحبها؟

- ما دمت آخذت أذناً من صاحبها فيجوز ذلك، وإلاّ لا يجوز التصرّف بأموال المسلمين إلا بطيب نفسه.

التسويق خارج الوظيفة:

* ما هو الحكم الشرعي في إعطاء راتب شهري ثابت لموظف يستطيع من خلال منصبه أو وظيفته دعم وتسويق منتجات معينة؟

- إذا كان يخلص لوظيفته ويسوّق خارج وظيفته فلا مشكلة.

بيع وتأجير الأفلام الأجنبية:

* هل يحق لنا بيع أو تأجير أفلام أجنبية للزبائن إذا كانت فيها بعض اللقطات المثيرة؟

- إذا كانت تؤدّي إلى الضلال فلا يجوز.

أقساط التأمين على الحياة:

* هل يجب الخمس في الأقساط التي تدفع للتأمين على الحياة في حالة استرداده؟

- الأقساط تملّك لشركة التأمين، وعندما تعطيك شركة التأمين فإنّها لا تعطيك نفس الأقساط بل تعطيك ما أمّنت عليه إذا كان له وقت معين، وهذا يشبع الأرباح التي ستربحها إذا مرّت عليها سنة فيجب الخمس فيها.

نسبة على إرسال الزبائن:

* أعمل في محل تجاري وقد تمّ الاتفاق بيني وبين المحلات بأن آخذ 10% على كلّ زبون أبعثه لهم ومن بينهم شخص صاحب خلق إسلامي كريم، فهل هذه النسبة حرام أم حلال؟

- هذه جعالة وهي حلال، فإذا فرضنا أن كان هناك اتفاق مع المحل التجاري يقضي بأن تبعث لهم زبائن نسبة معينة، فهذا عمل تستحقّ عليه أجراً.

بنوك إسلامية:

* من الأولويات الاقتصادية وجود البنوك، لكن لا نرى بنوكاً تعمل تحت إدارة وإشراف الفقهاء إلاَّ الخمس، فما هو السبب؟

- نحن نعيش كجزء من نظام رأسمالي، وليس جزءاً من حياة اقتصادية تجري فيها حركة الاقتصاد على ضوء الشريعة الإسلامية، ولذا فإن النظام الإسلامي الاقتصادي لا يعتمد على طريقة البنوك، فهناك طريقة المضاربة وطرق اقتصادية أخرى غيرها.

الأكل في بيت موارده محرّمة:

* هناك بعض الممارسات التي يقوم بها بعض إخواننا في بلاد المهجر من غش وتزوير والكسب الحرام، وقد وضّحتم ذلك في وقت سابق، فهل يجوز أن يأكل الواحد منّا في بيت هؤلاء الإخوة وأنا أعرف أنّ إيرادهم لا يخلو من الحرام بالصورة التي أشرنا إليها؟

- إذا عرف أن الأكل هو من نفس هذا المال المحرّم فلا، أمّا إذا كان قد اشترى هذا الطعام بالدين أو بمال آخر فيجوز ذلك، ولا بدّ من نهيهم عن المنكر.

التلاعب على الزبون:

* أعمل في محل ونحتاج إلى جلب بعض الحاجات إلى السوق فأذهب لجلبها وصاحب المحل يقول للزبون شيئاً ويشير إلىّ إشارة لجلب غير المتفق عليه، وفي أغلب الأحيان لا يعرف الزبون ذلك وفي كلتا الحالتين فأنا أقبض نفس الأجر؟

- لا يجوز ذلك لا لك ولا لصاحب المحل لأنّه غش فهو يريد أن يشتري بضاعة معينة، ولا بد أن يعطى البضاعة التي يريدها، ولذا فإن المعاملة باطلة والمال عاطل.

التنازل عن الميراث:

* في الميراث إذا أجبر شخص تحت ظروف معنوية عن التنازل عن ميراثه، فهل يعتبر ذلك تنازلاً عن حقوقه؟ وهل يأثم للتنازل عنه؟

- تارة يتنازل بالإكراه فإنّ المال يبقى ملكه ولا يجوز أن يؤخذ منه، وإذا كان التنازل عن طيب نفس وفي ظروف معنوية ويريد أن يساعد هذا الشخص أو لأي اعتبار آخر ولم يكن هناك إكراه فلا مانع، وهذا التنازل صحيح ولا إثم عليه.

الصدقة على السادة:

* إذا كانت الزوجة لا تنتسب إلى بني هاشم والزوج من بني هاشم وله أولاد وهو غير موجود بل مسجون، فهل تحلّ الصدقة على أهل بيته علماً بأنّ الزوجة هي التي تقوم بالإنفاق؟

- يجوز ذلك والصدقة المستحبّة جائزة حتى على بني هاشم، ولكن الصدقة الواجبة هي المحرّمة عليهم.

المقايضة:

* هل تجوز المقايضة؟ أي إعطاء شيء بدل شيء عوضاً عن دفع ثمنه؟

- لا مانع من ذلك.

مال الشخص مجهول العنوان:

* في ذمّتي مبلغ من المال لشخص لا أعرف عنوانه أو عنوان أي شخص يعرفه، فماذا ينبغي علي فعله؟

- إمّا أن تحتفظ بالمال أو أنّك تتصدّق به عنه، فإذا جاء خيّره بين ثواب الصدقة وبين المال لأن هذا مثل المال مجهول المالك.

التسهيلات المصرفية:

* هل التسهيلات والقروض المصرفية جائزة أم لا؟

- إذا كانت مبنية على الربا فلا يجوز إلاّ ببعض الوسائل التي يمكن للإنسان أن يخرج بها عن الربا.

التعامل مع البضائع الأميركية:

* بالنسبة للذين يسكنون في أميركا هل يحقّ لهم شراء المأكولات غير الضرورية مثل الحلويات والكيك وغيره إذا لم يجدوا بديلها في الدول الثانية؟

- لقد أفتينا بحرمة التعامل مع البضائع الأميركية ما أمكن ذلك لأنّنا ـ كما ذكرنا مراراً ـ شعب مستهلكاً ولسنا شعباً منتجاً، وقد نحتاج إلى بضائع أمريكية ولكن لنعمل على تجنّب نتجنب الشراء ما أمكن ذلك. وقد بيّننا أنّ الغرض من هذه الفتوى أن نكون شعباً محترماً وأمة محترمة.

أسواق تخصّص ريعها لليهود:

* أسواق سبنسر في بريطانيا تخصّص ريع أيام السبت لليهود، فهل يجوز التسوّق منها في غير يوم السبت؟

- لو فرضنا أنه كانت هناك محلات تخصّص ريعها في يوم من أيام الأسبوع للمشركين ضد النبي(ص) فهل نشتري منها؟ بالطبع لا. فما دامت هذه المحلات تشارك في دعم اليهود لقتلنا فلا يجوز، فهل تعطي شخصاً مالاً من أجل أن يقتلك، أو يقتل أخاك؟! ولم الشراء من هذه المحلات تحديداً، لم لا نشتري من محلاّت أخرى؟ فحينما يعرف أصحاب هذه المحلات أنّنا نقاطعهم لأنّهم يعاونون إسرائيل فسوف يعيدون حساباتهم، ولكنّهم يعرفون أنّ العرب وبسبب اهتمامهم ببطونهم وملابسهم وزينتهم لا يتخلّون عن الشراء منهم، فإنهم يزدادون تعاوناً مع الكيان الصهيوني، وتلك هي المشكلة. ولو فرضنا أنّ اليهود في بريطانيا عرفوا أن هناك محلاً يقدم أرباحه في كلّ يوم جمعة إلى الفلسطينيين فهل يشترون منه؟ فلنتعلّم من أعدائنا.

* وماذا عن مطاعم مكدونالد الأميركية؟

- أليس عندنا مطاعم سعودية وكويتية وباكستانية وعراقية ولبنانية، فلم الأكل من هذه المطاعم التي لا يعلم لحمها، هل هو مذكّى أم لا؟ أليس لدينا لحم مذكّى؟ أليس لدينا من يعرف الطبخ ويجيده أكثر مما يجيدونه؟ فلماذا عقدة «كل شيء فرنجي برنجي». ولو تأملنا لعرفنا أن طعامنا أطيب من طعامهم وطبخنا أفضل من طبخنا.

إبقاء الأمانة مصونة:

* لي صديق أودع عندي مبلغاً من المال وكلّما أحتاج أخذ منه مقداراً وبقي عنده من المبلغ بذمتي حوالي الربع أو أكثر. أمّا الآن فقد غاب صديقي ولا أعرف مكان عائلته، فما هو العمل بهذا المبلغ؟ هل أبقيه عندي لحين العثور عليه؟

- عليك أن تبقي الأمانة حتى ترى صديقك، إمّا إذا يئست من ذلك بكلّ الوسائل فتصدّق بها عنه بعد استئذان الحاكم الشرعي.

مرور عشر سنوات على أمانة:

* وصلتني أمانة وهي خاصة لليتامى ومضى عليها أكثر من عشر سنوات وهي معي، فهل أعاقب على ذلك؟

- يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(النساء/10). وعلى كلّ حال سارع لأن تدفعها إلى الأيتام قبل أن يأتيك الموت ويطبّق عليك الحكم، وتب إلى الله من ذلك.

استحصال الدين:

* دفعت عربوناً لتاجر عن بضاعة ما، وفي اليوم الثاني اختفى وهرب وترك ديناً كبيراً للناس بذمته وقد عرفت أن أحد التجار كان عنده مبلغ من ذلك التاجر فطلبت منه تسديد ديني، فهل يجوز ذلك؟

- إذا لم يكن لك طريق لأخذ دينك إلاّ بهذه الطريقة فيجوز.

في تحصيل الرزق:

* تركت بلدي رغماً عني وعندي عائلة هناك، وأنا مسؤول عنها ولم أجد عملاً مناسباً، فهل يجوز لي أخذ مبلغ الربا والسفر إلى بعض البلدان؟ أم اتخذ طريق التهلكة في بعض الأعمال؟

- على الإنسان أن يسعى من أجل تحصيل لقمة العيش النظيفة، ولم يجعل الله رزق الإنسان في الحرام، بل إن سبل الرزق الحلال واسعة وكثيرة.

سرقة حاجيات:

* ما حكم من ارتكب جريمة السرقة لبعض الحاجيات منذ فترة عشر سنوات بعد سن البلوغ ولا يعرف أصحاب هذه الحاجيات التي لا يزال يستخدمها؟

- عليه أن يدفع ثمنها ويتصدّق بها على الفقراء بإذن الحاكم الشرعي لأنّه مال مجهول المالك، ويستغفر الله في ذلك.

الفائدة للصغار:

* رجل متوفي وله أطفال صغار وترى قامت بعض الجهات بإيداع أمواله في البنك لغرض الفائدة، فهل يجوز صرف هذه الفائدة للصغار علماً أن البنك حكومي؟

- لا مانع من ذلك باعتبار أن الأطفال ليسوا الواضعين للمال في البنك والبنك يعطي الفائدة على كل حال، نعم الشخص الذي اشترط الربا عليه إشكال.

البنك الإسلامي... مشاكل وتحدِّيات:

* التجربة الإسلامية في مجال البنوك يتعاظم شأنها وأهميتها إقليمياً وعالمياً، ولكن لا تزال هناك بعض النواقص على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق، فلماذا لا تكتبون في هذا المجال للإثراء التجربة الإسلامية؟

- مشكلة التجربة الإسلامية في البنوك أنَّها تعيش في مجتمع قائم على الربا، ولذلك أصبح كلّ النظام العالمي مرتبطاً بهذا النظام الرأسمالي، وجميع البنوك القائمة بما فيها الإسلامية ترتبط بهذا الإخطبوط الاقتصادي القائم والمهيمن على النظام الاقتصادي العالمي، ومعظم ما كتب في هذا المجال يلحظ هذا الواقع، بما في ذلك ما كتبه المرحوم السيِّد محمَّد باقر الصدر (رض)، ونعم الكتاب كتابه (البنك اللاربوي في الإسلام)، لأنَّ طبيعة حركة الاقتصاد في العالم لا تسمح بوجود نظام إسلامي مستقل تمام الاستقلال، ولذلك تعيش تجربة البنك الإسلامي تحدّيات كبيرة ومشاكل فوق العادة.

سرقة الهواتف:

* في بعض البلدان هناك محلات للهواتف العامّة للاتصال رخيصة جداً، ويُقال إنَّهم يسرقون خطوطها، هل يجوز الاتصال؟

- إذا كان يعرف بأنَّهم يسرقون الخطوط لا يجوز ذلك.

هل يجب الإقراض:

* إذا جاءنا شخص يريد ديناً وهو يحتاج إليه على نحو لو لم نعطِهِ لحقه الضرر أو يموت، هل يجب إعطاؤه دينياً؟

- إذا كنت قادراً على أن تدفع له مبلغاً على نحو الدَّين، وكان في وضع يتعرّض معه إلى الخطر في حال عدم إعطائك المبلغ الذي يطلبه، ولم يكن هناك مانع آخر، يجب عليك ذلك.

الوديعة ببنك غير إسلامي:

* يفتي بعض الفقهاء بجواز وضع الوديعة ببنك غير إسلامي مع أخذ ربح هذه الوديعة، ولكنَّه لا يجوز ذلك إذا كان البنك إسلامياً يتعامل بالربا، إلا ترون أنَّ هذه الفتوى تساعد الكفار؟

- ليس هناك فرقٌ عندنا بين البنك الإسلامي وغير الإسلامي، أو بين البنك الحكومي وغير الحكومي، فأخذ الربا في جميع هذه الحالات حرام، نعم يمكن أن لا تشترط الفائدة، بمعنى أن تضع أموالك من دون أن تشترط على البنك أخذ الفائدة، كما لو وضعت المال في البنك كوديعة لئلا يُسرق وكنت تعلم أنَّ البنك يعطيك الفائدة، ولم تلتزم التزاماً عقدياً ولم تسأل كم يدفع، عند ذلك يجوز لك أخذ هذه الفائدة.

شراء سندات الخزينة:

* ما هو قولكم في (تشغيل الأموال) واستثمارها في البنوك عن طريق شراء سندات خزينة؟

- نحن نستشكل في شراء سندات الخزينة.

زراعة (الحشيشة):

* ما هو رأيكم بزراعة الحشيشة والمخدرات عموماً، خاصّة بدعوى بيعها لأعداء فقط؟

- لا يجوز ذلك.

توزيع الأملاك قبل الموت:

* توفي والدي وترك لنا إرثاً كان قسَّمه بيننا في حياته، فهل يُلغى هذا التقسيم بعد الوفاة، ويُصار إلى التقسيم الشرعي؟

- إذا كان هذا التقسيم على نحو التمليك في الحياة فكلّ واحدٍ يملك حصته فلا يكون إرثاً، وإذا كان على نحو الوصية وقبلها الورثة فكذلك، نعم إذا كان على نحو الوصية وكانت أزيد من الثلث فتنفّذ في الثلث ولا تنفذ في الباقي.

البيع بأسعار مختلفة:

* هل يجوز للبائع أن يبيع بضاعته بأسعار مختلفة فتارة يرخصها لبعض المشترين ويرفع الأسعار لآخرين، خاصّة إذا كان مسموحاً به من الناحية القانونية؟

- النَّاس مسلَّطون على أموالهم، فيمكنك أن تُعطي سلعتك بلا مقابل، ويمكنك أن تبيعها بخسارة أو تبيعها بسعر أعلى، إلاّ أن تكون هناك حالات غير اعتيادية، فيُمكن للحاكم الشرعي تحديد الأسعار. وذلك بعنوان ثانوي.

حرمان بعض الورثة:

* رجل سجَّل داره بيعاً باسم ولدين من أولاده، وحرم باقي أولاده بحجّة أنَّهم يملكون شهادات جامعية تكون وسيلة لعيشهم في المستقبل، مع أنَّ الأولاد الباقين لم يكونوا راضين عن هذا التصرّف من والدهم، فما هو الحكم الشرعي في هذا المورد؟

- النَّاس مسلَّطون على أموالهم، ويجوز للأب فعل ذلك في حياته، وإن كنّا لا ننصح به، لأنَّ من شأن هذا العمل أن يعقّد الأولاد بعضهم من بعض، ولكنَّه جائز على كل حال. أمّا إذا كان ذلك على نحو الوصية، فإنَّ له الحقّ في أن يوصي بثلث ماله، أمّا الأكثر فلا بُدَّ من رضا الورثة الآخرين ـ والظاهر أنَّه سجّل الدار باسم ولديه على أن يملكوه في حياته، فيجوز ذلك.

وماذا عن البيع بشرط عدم التصرُّف؟

* ماذا إذا شرط الوالد عدم التصرّف في الدار حتّى يتزوج كلّ الأولاد، ولكن الولدين المشار إليهم سابقاً استغلا تسجيل البيت باسمهما بيعاً ويريدان بيع الدار، فما هو الحكم في ذلك؟

- لا حق للأولاد الآخرين في الدار، ولكن إذا كان الأب قد باع الدار لولديه مسلوبة المنفعة، فليس لهم أن يتصرّفوا بالدار قبل تحقّق شرطه.

بيع الوقف:

* هل يجوز بيع الوقف إذا أعدمت مصلحته تماماً؟

- إذا لم يبقَ للوقف أيّة فائدة ولو بنسبة ضئيلة فإنَّه يجوز بيعه، لكن يشترى بثمنه وقفٌ آخر.

رواتب التقاعد من الفوائد:

* هناك إحدى النقابات تقوم بفتح صندوق للموظفين، حيث يدفع كلّ موظف مبلغاً شهرياً تقوم النقابة بتشغيله بإيداعه بأحد البنوك، وعند انتهاء خدمة الموظف تعطي أربعة أضعاف ما أخذته منه، ويتمّ تأمين الأضعاف الثلاثة عن طريق فوائد الأقساط ومعونات تقدّمها الدولة لذلك الصندوق، فهل يجوز الاشتراك في مثل هذا الصندوق من جهة فوائد الأقساط؟

- يجوز الاشتراك من دون الاشتراط عليهم، خاصّةً وأنَّ الدولة تتحمل الجزء الآخر، وعندئذٍ يجوز الأخذ.

أرض موقوفة لمسجد:

* أرض موقوفة لمسجد، هل يجوز أن تحوّل هذه الأرض لمصلحة مسجد آخر في نفس البلدة، إذا كان المسجد الآخر محتاجاً لها من إعمار وتوسعة وغير ذلك؟

- إذا كان هذا المسجد الذي أوقفت له مما يحتاج إلى نماء هذه الأرض لا يجوز إعطاؤها لمسجد آخر.

تحديد سعر الوفاء:

* كان أحد الأشخاص يملك بعض الأموال وكان في الخارج وعندما قرر العودة للوطن كان عنده أموال كثيرة وبما أن قانون تلك الدولة لا يسمح أن تعود ومعك الكثير من الأموال قرر أن يترك الأموال في تلك الدولة مع أحد الأشخاص وقال من يريد أن يقترض من الأموال فليفعل، وإذا رجع إلى الوطن يسلّمه لي وقد قمت أنا بالاقتراض من الأموال فليفعل، وإذا رجع إلى الوطن يسلّمه لي وقد قمت أنا بالاقتراض وعندما رجعت إلى البلد لم أعرف كيف أرجعه لأنني ذهبت إلى العراق وقد أعطاني سعرين سعر الشراء وسعر البيع ولا أعرف كيف أرجعه بسعر الشراء أم بسعر البيع، أرجو منم أن تعطوني الحل؟

- يجب أن تعطيه بسعر الشراء لأنك تشتري وتعطيه.

تحديد سعر الوفاء:

* كان أحد الأشخاص يملك بعض الأموال وكان في الخارج وعندما قرر العودة للوطن كان عنده أموال كثيرة وبما أن قانون تلك الدولة لا يسمح أن تعود ومعك الكثير من الأموال قرر أن يترك الأموال في تلك الدولة مع أحد الأشخاص وقال من يريد أن يقترض من الأموال فليفعل، وإذا رجع إلى الوطن يسلّمه لي وقد قمت أنا بالاقتراض وعندما رجعت إلى البلد لم أعرف كيف أرجعه لأنني ذهبت إلى العراق وقد أعطاني سعرين سعر الشراء وسعر البيع ولا أعرف كيف أرجعه بسعر الشراء أم بسعر البيع، أرجو منكم أن تعطوني الحل؟

- يجب أن تعطيه بسعر الشراء لأنك تشتري وتعطيه.

مندوب شركة:

* طلبت الشركة التي أعمل بها أن أشتري بضاعة بسعر حددته الشركة فحصلت على البضاعة بسعر أقل، فهل يجوز أن أخذ الفرق بين السعرين؟

- لا يجوز ذلك، لأنك وكيل عن الشركة، وعلى الوكيل أن يأخذ من الشركة بمقدار ما اشترى حتى لو اشترى بأقل.

أموال الزوج من الحرام:

* إذا كانت بعض أموال الزوج من الحرام، فما هو حكم الزوجة من حيث أنها ستأخذ منه نفقتها، فهل يحرم عليها ذلك أم نفقتها تحسب عند الله من الأموال الحلال؟

- إذا كانت لا تعرف أن هذا المال تحديداً من الحرام، إذ يمكن أن تكون قد اقترضته، ويمكن أن تكون قد اكتسبه من مال حلال، فإنّه لا يحرم عليها أن تأخذه. وإذا كانت تعرف أنه حرام ولكنها لا تعرف مصدره فبإمكانها أن تستأذن من الحاكم الشرعي في إنفاقه على نفسها وأولادها بفعل الحاجة لأنه من مجهول المالك.

البيع بواسطة الماكينات:

* يوجد عندنا في الخليج محل للبيع وهو عبارة عن آلة إلكترونية بالتلفون كواسطة للبنوك بحيث يتقدم الشخص بالبطاقة وتجري له العملية فمثلاً يريد 1000 كعمولة، فهل هذا جائز؟ لا بدّ من عملية بيع وشراء مع كامل التوضيح لكي نبتعد عن الربا؟

- إذا كان يأخذها كعمولة للقرض بحيث تكون الواسطة بينه وبين البنك، فلا مانع من ذلك، أما إذا كان مقصود أن الـ 1000 ريال تصبح 1100 ريالاً فهذا من الربا.

التأمين:

* هناك معاملة في إحدى الدول أشبه بالتأمين وهي أن تضع مبلغاً شهرياً في إحدى البنوك، تصرفها عليك في حال احتياجك للعمليات الجراحية مثلاً أو لشراء البيوت، وما يزيد منها خلال السنين تصرفها عليك الدولة كراتب للتقاعد باعتبار أن الدولة قامت بتشغيل هذه المبالغ في عناوين تجارية خاصة، فما حكم ذلك؟

- مجرد هذا ليس حراماً.

تاسعاً: السلوك والمعاملات:

دليل حرمة مصافحة النساء:

* ما هو الدليل على حرمة المصافحة بين الرّجل والمرأة؟

- قامت السيرة على ذلك، وقد امتنع النبيّ(ص) عن أخذ البيعة من النساء كما هي حال البيعة من الرجال، وعلّل ذلك بعدم مصافحة النساء، ثُمَّ ورد في الحديث عن الأئمَّة من أهل البيت(ع): «هل يصافح الرّجل المرأة ليس بذات محرم؟» قال: «لا، إلاَّ من وراء الثياب ولا يغمز كفها».

مقاطعة البضائع الكندية:

* إذا علمنا أنَّ مقاطعة البضائع الأمريكية أمر مضرٍّ بالمستوى المعيشي للشعب الأمريكي، فيكف توفّقون بين دعوتكم إلى مقاطعة البضائع الأمريكية وبين ما ترونه من عدم صحة عمليات التفجير التي حدثت في أميركا؟

- نحن ندعو إلى مقاطعة البضائع الأمريكية لتجد الشركات الأمريكية نفسها أمام الخسائر الكبيرة، وعندئذٍ تضغط على الحكومة الأمريكية لتغيير سياساتها.

حمل الخمر جهلاً:

* أحد الأشخاص حمَّل بعض المؤمنين خمراً دون علمهم، فما حكم الشرع في هذه القضية؟

- إذا كان ذلك دون علمهم فليس عليهم شيء.

الهجرة وإلقاء النفس بالتهلكة:

* هل أن خروج العراقيين إلى بلدان مختلفة وبطريقة المغامرة يعتبر من باب إلقاء النفس بالتهلكة، وماذا إذا كانوا مضطرّين إلى ذلك؟

- الكلام في ذلك ليس بخصوص العراقيين فقط، بل يشمل اللبنانيين والأتراك والأكراد والمغاربة، ولقد قرأت قبل مدة بأنّ أكراداً عراقيين ذهبوا إلى تركيا ونقلوا إلى اليونان ومنها إلى إيطاليا حيث تم وضعهم في صندوق الشاحنة فاختنقوا هناك وقام صاحب الشاحنة برمي جثثهم، وهكذا حال الذين يذهبون إلى استراليا ويركبون البحر بكل المخاطر المعروفة حتى أنّه غرق الكثير منهم، ولذا نقول إنه لا يجوز للإنسان أن يلقي بنفسه في التهلكة. أمّا حكاية أنا مضطر فأنت غير مضطر أن تلقي نفسك في التهلكة، نعم إذا كنت مضطراً إلى السفر، فعليك أن تسافر بما يؤمّن لك دينك، لأنّه لا يجوز السفر إلى بلاد يضعف فيها الدين.

إبلاغ السلام:

* جئت من العراق للزيارة وقد حمّلني بعض الأصدقاء سلاماً إلى ذويهم ولا أستطيع إيصال هذه الأمانة، فماذا أعمل؟

- إذا لم تستطع أن توصلها بشكل مباشر أوصلها بشكل غير مباشر، فقل مثلاً لبعض الناس الذين يعرفون هؤلاء أن ينقلوا سلام أقربائهم إليهم.

زرق المرأة للرجل بالحقنة:

* هل يجوز للمرأة أن تزرق الرجل حقنة بالعضلة أو الوريد أو بالعكس بدون لبس قفّاز؟

- لا يجوز للمرأة أن تلمس الرجل الأجنبي، ولا يجوز للرجل أن يلمس المرأة الأجنبية إلا في حالات الضرورة ولا بأس بذلك مع لبس القفّاز.

مطعم يحمل اسم شركة أمريكية:

* أعيش في أمريكا فهل يجوز أن أشتري مطعماً يحمل اسم شركة أمريكية ويبيع لحم الخنـزير علماً أن الزبائن هم من مستحلّي هذا اللحم؟

- أن يحمل المطعم اسم شركة أمريكية في حال الضرورة جائز، أما بيع لحم الخنـزير لمستحلّيه فهذه الفتوى للعمال وليس للتجار.

استرجاع حق مغتصب بالقوة:

* اغتصب حق منّي بالقوة، فهل يجوز لي استرجاعه بالقوة حتى لو أدّى ذلك إلى القتل، علماً أن الطرق القانونية لا تردّ لي حقي؟

- يجب أن تدرس المسألة دراسة دقيقة، فمن الصعب أن نوازن بين قتل النفس وأخذ حقك، وعلى الإنسان أن يأخذ حقه بالطرق القانونية أو بالطرق التي لا تؤدي إلى هذه النتائج.

سن تحجّب الفتاة:

* في أي سن من عمر الفتاة يجب أن تتحجب؟

- الاحتياط الآن في التاسعة، ولكن هناك رأي يقول في الثالثة عشر إن لم تحض فإذا حاضت ففي سنّ الحيض.

استقلال الابن والبنت:

* في الثقافة الغربية يستقل الابن عن والديه بعد سن الـ(18) فهل يوجد مثل هذا في الإسلام؟

- بمجرد أن يبلغ الولد ويرشد ويصبح مستقلاً، وبمجرد أن تبلغ البنت وترشد تصبح مستقلة وتسقط الولاية عنهما. فولاية الأب إنما تكون عندما يكون الولد قاصراً {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} يعني النضج الجنسي وهو سن الزواج {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}(النساء/6). فالابن يستطيع أن يستقل عن أبيه وحتى البنت إذا كانت بالغة رشيدة، ولكن ثمة نقطة مهمة في التفريق بين استقلال الشباب في الثقافة الغربية وبين استقلاله في الثقافة الإسلامية فالشاب في الثقافة الإسلامية لا يستقل بمعنى أنه يعيش العزلة والانقطاع عن عائلته حتى ليبدو غريباً عنهم، بل يتواصل معهم ويتواصلون معه على البر والتقوى وتمتين أواصر الأسرة الصالحة بحيث يبقى الابن أو البنت يستشيران والديهما في القضايا الحساسة والمهمة من باب طلب النصيحة والمشورة لا من باب فرض الرأي عليهما، فهما كما قلنا شخصيتان مستقلتان قانونياً وشرعياً.

هل الدعاء للمجاهدين يكفي:

* نرى يومياً ما يجري على إخواننا في فلسطين من قتل وحرب شرسة لم يسلم منها حتى الأطفال لكنّنا بسبب ظروف عديدة نقف مكتوفي الأيدي عن نصرتهم، فهل الاكتفاء بالدعاء لهم يكون مجزياً؟ ولا نأثم على ما نحن عليه من سكوت؟

- يقول تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا}(البقرة/286). وكما يقول ذلك الشاعر:

لا خيل عندك تهديها ولا مالُ                        فليسعد النطق إن لم يسعد الحالُ

أمّا ما هو الموقف؟ فهو أن نقف معهم بكل ما نستطيع من صور الدعم والوقوف والمناصرة سواء بالمال أو بالموقف السياسي أو الإعلام أو بالدعاء أو بتوعية الأمة على ضرورة الاهتمام بقضاياهم كلٌّ بحسب إمكاناته وقدراته وظروفه، فالمهم أن لا تكون سلبياً.

موت السمك في الماء:

* عندنا في العراق سمك يدعى (الصبور) ويقال إنّه يموت في الماء إلى أن تسحب الشبكة، فهل يجوز أكله أم لا؟

- رأينا الذي يتفق مع آراء كثير من العلماء، ومنهم أستاذنا السيد الخوئي(رحمه الله) أنّ السمك الذي يجوز أكله هو الذي له فلس على الأحوط وجوباً، فإذا مات في الشبكة فإنّ أكله حلال.

حسم مسألة الأغاني:

* لماذا لم يحسم العلماء مسألة الموسيقى والغناء مع أنّها محل ابتلاء لعامّة المسلمين، فأرجو تحديد الأغاني المحلّلة بشكل واضح؟

- العلماء يختلفون في اجتهاداتهم وفي فهم النصوص الخاصّة بهذه المسألة، فبعض العلماء يرى أنّ الغناء بأجمعه محرّم حتى لو كان في مدح النبي(ص) والأئمة(ع) ومناجاة الله، فكلّ شيء فيه موسيقى _ لدى هؤلاء العلماء ـ حرام، حتى أنّ بعض العلماء يرون أنّ الخطيب عندما يكون ذا صوت شجي وصاحب طريقة في قراءة التعزية، أو الرادود الذي يمتاز بصوت جميل وطريقة إنشادية معينة فإنهم يستشكلون ويقولون بأنّ هذا من الغناء، لأنّ الغناء هو ترجيع الصوت وترديده. ولقد كان عندنا في العراق بعض قراء التعزية وقرّاء المراثي من هذا النوع بحيث أفتى العلماء بحرمة قراءاتهم، فهم يرون أنّ هؤلاء مطربون بنحو ما ولو بطريقة إثارة المشاعر الحزينة.

فبعض العلماء يصلون إلى هذا الحد إذ لا فرق لديهم بين أغاني الحزن وغناء الحنين وغناء المدائح النبوية ومدائح الأئمة(ع) وحتى الترجيع في عزاء ورثاء الحسين(ع) بل حتى في قراءة القرآن، فلقد كان بعضهم يحرّم قراءة المقرئ (عبد الباسط عبد الصمد) على أساس أنّها نوع من الغناء.

وهناك رأي آخر كرأي (الفيض الكاشاني) وهو الرأي الذي نرتأيه أيضاً وهو أن الغناء على قسمين: فتارة يكونه مضمونه من الباطل فهو محرم لأنّه يثير الغرائز والشهوات أو يتضمن تأييداً لكافر أو تأييداً لطاغية أو يشتمل على الكفر فهذا حرام. وتارة يكون الغناء مناجاة لله وفي مدح النبي(ص) والأئمة(ع) أو يكون فيه حنين للأهل والوطن، أو لإثارة الحزن في النفس أو الغناء الحماسي الذي يركّز على القضايا السياسية والجهادية التي تخدم الأمة، فهذا غناء حلال مع مراعاة أن لا تغلب الموسيقى على المضمون بحيث ينسى المستمع المضمون وينشغل بالموسيقى فهذه تسمّى لحان أهل الفسوق وهي الموسيقى التي فيها جانب لهوي شهوي فهي محرّمة، وهذا هو رأينا في الموسيقى والغناء.

استقبال أخ الزوج بغيابه:

* إذا حضر أخي إلى البيت ولم أكن موجوداً، وكانت زوجتي في البيت لوحدها، فهل يمكنها أن تستقبله علماً أنه عندما يأتي لا يجد مكاناً يقضي فيه ليلته إلا عندي؟

- إنّ خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية ـ وزوجتك أجنبية على أخيك ـ لا تجوز مع خوف الفتنة والوقوع في الحرام، فقد يكون الشيطان ثالثهما، ولكن في الحالات التي تكون فيها بعض الضوابط والتي يأمن فيها الإنسان على زوجته وعلى أخيه فيجوز.

حدود الحرج في المصافحة:

* ما هي حدود الحرج عند المصافحة بين الرجل والمرأة؟ أي متى يكون الوضع محرجاً في بيئة لا يلتزم فيها الناس بحرمة المصافحة بين الرجل والمرأة، بل ويعتبرون عدمها عيباً وقلّة أدب؟

- معنى الحرج هو المشقّة الشديدة التي لا تتحمّل عادة، وهي تختلف بحسب اختلاف الظروف والأشخاص {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}(القيامة/14-15).

لعبة البيكمون:

* ما رأيكم في جواز «لعبة البيكمون»؟

- لم يثبت عندي حرمتها، فإذا كان البعض يقول إنّ هذه تؤدي إلى أنّ الأطفال يعتقدون بنظرية داروين أو أن فيها كلمات يهودية، فلقد ناقشت هذا الموضوع مناقشة علمية بعد دراسته، ولكننا لا ننصح بها من ناحية تربوية، كما لا ننصح بكثير من الألعاب التي قد تثير العنف وتعلّمه الأطفال وما إلى ذلك.

تغسيل الميت:

* في تغسيل الميت هي يشترط وحدة المذهب بين الميت وبين من يتولّى غسله؟ أم أنّه يكفي كونه مسلماً ووفقاً للشرائط؟

- الظاهر أنه يكفي الإسلام.

الالتحاق بالحوزة بموافقة الوالدين:

* هل يجوز الالتحاق بالحوزة دون رضا الوالدين؟

- يجوز ذلك من حيث المبدأ، لكننا ننصح بالتفاهم معها بالتي هي أحسن، فهو أفضل للجميع.

صبغ اللحية:

* هل يجوز للرجل أن يصبغ لحيته وشعره ليبدو أصغر سناً من أجل الزواج؟

- إذا لم يغشّ المرأة التي يريد أن يتزوج بها فيجوز.

مسبح مختلط:

* هل يجوز للرجل المسلم السباحة في مسبح مختلط؟

- لا يجوز ذلك لأنه مظنّة الفتنة والفساد.

ما يحرم كشفه من الرجل:

* ما هي الأجزاء الواجب على الرجل سترها من بدنه أمام المرأة الأجنبية؟

- العورة وهي القبل والدبر، وينبغي للإنسان أن يتحفّظ في عرض جسده أمام المرأة مما هو عليه واقع الأدب الاجتماعي، والذي قد يريد الإسلام للإنسان أن يلتزم به بشكل وبآخر.

* هل يجب على الرجل ستر الأجزاء المذكورة أمام الرجل أيضاً؟

- ما يحرم عليه كشفه للنساء ـ وهو العورتان ـ يجب عليه ستره على الرجل والمرأة معاً.

العمل المستقل:

* يعمل والدي في مشغل وأنا أعمل معه بإخلاص، ولكنّ معاملته مع الزبائن غير صحيحة، وهذا يتنافى مع الشرع، وقد وعدني أن يفتح لي محلاً ولم يف بوعده، وأنا الآن أريد العمل في شركة بعيداً عن والدي، فبم تنصحني؟

- من حقّك أن تكون لك حياتك الخاصّة، ولكن عليك أن تضع والدك أمام الأمر الواقع، وأن تحدّثه عن ظروفك، وأنك لا تستطيع أن تكمل طريقك معه، لأنك بحاجة إلى أن تؤمّن مستقبلك، كما أمّن مستقبله مع أبيه... حدّث والدك عن ذلك واترك الآخرين يحدّثونه أيضاً، فإذا لم يستجب لك فإنّ الله لا يفرض عليك الاستجابة له فيما يفسد أمرك أو لا يصلحه.

وأماّ ما ذكرت من تعامله بخلاف الشرع وعدم وفائه بالوعد فينبغي أن تلفت نظره إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن تصاحبه في الدنيا معروفاً.

تشغيل الأطفال:

* هل يجوز تشغيل دون سن العاشرة في الأعمال المرهقة بالنسبة إليهم؟

- لا يجوز ذلك، لا إذا كانت لهم مصلحة في ذلك، وكان العمل لا يضرهم جسدياً ولا يرهقهم، لأن الأب ليس مسلّطاً على ولده إلا بما يصلح أمره، أمّا بما يضرّه فلا يجوز ذلك، وإذا رأى الحاكم الشرعي أنّ وجود الولد في عهدة والده يسيء إليه فيمكن أن يأخذه منه ويعطيه لمن يقوم على رعايته بعد أن ينذره أولاً، ولا بد من الالتفات إلى أنه لا يجوز تشغيل الأطفال مطلقاً بدون أذن أوليائهم، كما أنّه لا بدّ من ملاحظة الظروف الموضوعية التي قد تجبر الآباء على تشغيل أطفالهم لإعالتهم لأنهم لا يملكون القدرة على ذلك ولكن لا بد في هذه الصورة من مراعاة قدرتهم العادية على العمل بما لا يثقلهم.

طلب نجدة:

* قامت مجموعة من أشخاص بضرب رفيق لي، وجاء إلى بيتي بعد أن شفي واستنجد بي من منطلق عرقي للأخذ بثأره من خصومه، فهل أنجده؟ أم أمتنع عن مساعدته فأكون جباناً؟

- في أثناء الاعتداء عليه يمكن أن تنجده، ولكن إذا أراد أن يثأر بعد ذلك فلا دخل لك في ثأره، فالإمام الحسين(ع) يقول:

الموت خير من ركوب العار                  والعار أولى من دخول النار

فأن يكون عدم المساهمة في أخذ الثأر عاراً عليه أهون من أن تأثم، لنه لا يجوز لك شرعاً أن تفعل ذلك، فالعار عار الآخرة وليس عار الدنيا، ويقال إنّ النبي(ص) في آخر أيام قال «فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة».

بيع الورد للعاصين:

* نحن في بلد أوروبي ويعمل بعض إخواننا في بيع الورود في أماكن اللهو وللمخمورين من مرتادي هذه الأماكن، فهل يجوز ذلك حيث يتعرض بعض هؤلاء للاستهزاء والسخرية؟ وهي يحرم ذلك بهذا العنوان؟

- يجوز للإنسان أن يبيع ما يحلّ بيعه للعاصين وللمطيعين ولأصحاب اللّهو ولغيرهم. نعم إذا كان الاستهزاء والسخرية يؤديان إلى هتك حرمة المؤمن فلا يجوز للمؤمن أن يعرّض نفسه إلى هتك حرمته.

الفرق بين العادة والسنّة:

* كيف نميّز بين العادة وبين السنّة، فمثلاً كانت عادة العرب لبس العمامة فهل نعتبرها الآن من السنّة؟

- لا ليست سنّة، فلقد كانت عادة وما زالت عادة، فالعمامة زيّ من الأزياء لجماعة من الناس كما أنّ اللباس الآخر سواء البنطال أو غيره أو زيّ من الأزياء. فهذه عادة وليست سنّة، ذلك أنّ السنّة هي عبارة عن ما جاء الشرع باستحبابه، إمّا بالعنوان الأولي أو العنوان الثانوي.

القيود المفروضة على اللاجئ:

* تفرض الحكومات الغربية على المهاجرين إليها قوانين وتشريعات يقبل بها المهاجر حتى يحصل على الحقوق والامتيازات التي تعطى لها، فهل هذا عهد؟

- اللجوء هو عهد بينه وبين أية دولة يلتجأ إليها، ولذلك لا بدّ له أن يفي بعهده إلاّ فيما كان مخالفاً للشرع.

الوفاة أثناء عملية جراحية:

* ما هو رأي الإسلام في مريض أجريت له عملية جراحية وتوفي أثناءها، هل تقع المسؤولية على الطبيب في ذلك؟

- لا بدّ من دراسة المسألة دراسة وافية لنعرف هل أنّ الطبيب قصّر في ذلك أم لا؟ وهل كانت وفاته نتيجة خطأ الطبيب فيتحمل مسؤوليته؟ أم أنّها قضاء وقدر والطبيب قد عمل كلّ ما بوسعه إلا أن المريض توفي نتيجة أن الدواء أو أنّ العملية لم تلفح في إنقاذه؟

استنساخ الأشرطة:

* هل يجوز استنساخ الأشرطة من دون استئذان أصحابها؟ وهل هناك فرق بين أن يكون ذلك للتجارة أو للانتفاع الشخصي؟

- لا يجوز ذلك أن تتصرف بالأشرطة المستعارة حتى للاستنساخ، نعم إذا فرضنا أنك أخذتها من ميكرفون أو جهات ليست ملك أصحابها فيجوز لمجرد الانتفاع الشخصي. أمّا استنساخها لغرض المتاجرة بها فلا يجوز إذا كان لها ثمن.

هل اللولب جائز:

* لقد قلتم بعدم جواز الإجهاض منذ تلقيح البويضة، ومن وسائل منع الحمل اللولب وهو يمنع تعشيش البيضة أي بعد الإلقاح، فهل إنّ هذه الوسيلة جائزة شرعاً؟

- لا يجوز إسقاط النطفة بعد استقرارها، واللولب يمنع استقرارها، فقبل استقرارها لا مانع من ذلك، ولكن لا يجوز الإسقاط بعد استقرارها، وهذا هو رأينا الفقهي من خلال دلالة الأدلة.

الكماليات والمشروبات الغازية الأمريكية:

* لديكم فتوى بتحريم شراء البضائع الكمالية الأمريكية، فهل يحرم شراء المشروبات الغازية التي تنتجها الشركات الموجودة في الدول الإسلامية والعاملة بامتياز من الشركات الأمريكية مثل الكوكاكولا؟

- إنّ مرادي من هذه الفتوى هو أن نحترم أنفسنا ونجعل العالم يحترمنا، فأمريكا كما ترون هي إسرائيلية أكثر من إسرائيل نفسها، فانظروا مثلاً أنّه عندما جاء بوش هلل العرب وقالوا إنّه ليس لليهود عليه جميل لأن اليهود كلّهم انتخبوا (آل غور) لكنه حينما وصل إلى الحكم وقف بكل قواه مع إسرائيل وقال لشارون خذ فرصتك، وأخذ شارون فرصة 100 يوم من أجل أن يسقط الانتفاضة ولم يستطع فبعثوا مبعوثاً أقرب إلى الإسرائيليين منه إلى الفلسطينيين، وامتدت الانتفاضة وبدأ شارون يهتز في المجتمع الإسرائيلي لأن المستوطنين رأوا أنه لم يعمل لهم شيئاً ولم يوفر لهم الأمن، فبعثوا مندوباً من المخابرات المركزية الأمريكية لينقذ إسرائيل ولم ينفعهم بشيء. والآن يريدون بحسب ما نشر في الصحف إرسال وزير الخارجية (باول) من أجل أن يفرض وقف إطلاق النار على عرفات. فكلّ خطوات الإدارة الأمريكية إذاً هي لحساب إسرائيل، ومع كلّ هذا الضرب وهذا القصف يريدون الآن أن يبيعوا إسرائيل (50) طائرة فانتوم، و(الجماعة) يقفون مع إسرائيل التي تقتل كلّ الفلسطينيين وأطفالهم ونسائهم في كلّ يوم، ونحن رغم ذلك كلّه نبقى نشتهي (الكولا) و(السفن آب) وهذه البضاعة الأمريكية أو تلك، ولدينا من مشروباتنا الطبيعية ومنتوجاتنا ما يعوّض ذلك، فلنكن أمة تحترم نفسها.

فالفتوى إنما صدرت في مقاطعة البضائع الأمريكية لأننا أردنا من خلالها أن نلحق ولو خسارة جزئية بأمريكا التي تتسبب في خسائر جسيمة بالنسبة للمسلمين، فلو أنّ كلّ مسلم تسبب في خسارة أميركا ولو سنتاً واحداً لرأيتم كيف تتضرر الشركات الأمريكية، لأنّ سياسة الإدارة الأمريكية بل العالم كله اقتصادية. وانظروا إلى موقف اليهود فإذا فرضنا أنهم رأوا جريدة من جرائد أوروبا أو أمريكا اتخذت موقفاً حيادياً بينهم وبين العرب فإنهم يقطعون كلّ أعانتهم عنها إلى أن تفلس الجريدة وتغلق أبوابها.

وقد سبق أن قلت لكم أنّ البعض يخرج في مظاهرة يردّد (الموت لأمريكا) وهو يدخن (المالبورو) ويهتف (الموت لأمريكا) وهو يشرب (السفن آب) فليس الموضوع موضوع تحريم أو تحليل بل احترم أمتك واحترم قضاياك. ولكن مزاجنا للأسف أعظم من أمتنا وأعظم من حاضرنا ومستقبلنا، ثم نقول لماذا انهزمنا؟ ولماذا انتصرت إسرائيل؟!.

التسمية بصفات الله:

* هل يجوز شرعاً أن نسمّي أسماء الأفراد والأشخاص بصفات الله مثل الحق والرحمن؟

- الرحمن ليس اسماً مختصاً بل هو من صفات الله، ولكن لا يجوز التسمية بالأسماء المختصّة بالله.

العمل في معامل مكدونالد:

* هل يجوز العمل في (مطاعم مكدونالد) علماً أنّها تقدم لحم الخنـزير وهي أمريكية حيث أنّ المفروض بأنّ حكم المقاطعة يشملها؟

- لقد قلنا إنّه يجب ـ مهما أمكن ـ مقاطعة البضائع الأمريكية بالنسبة إلى من يبيع لحم الخنـزير، ولكن الفتوى هي للعمال وليست للتجار الذين يبيعون لحم الخنـزير لمن يستحلّونه. فالجواز للعمال إذا كان هناك حرج عليهم، إما إذا لم يكن هناك حرج فعلينا ـ تجاراً وعمّالاً ـ أتباع حكم المقاطعة.

في الحلف بالله:

* يعتاد الناس على الحلف بالله كثيراً وبشكل عفوي، فهل يترتب الأثر على هذا الحلف؟

- إذا كان الحلف مجرد كلمة تدور على الإنسان فهذا ليس يميناً لأنه {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(البقرة/225). ومع ذلك ينبغي على الإنسان أن يحارب هذه العادة السيئة في نفسه.

التدخين والتبعيض:

* هل صحيح أنّ هناك تغيراً في رأيكم عن التبعيض بالنسبة للمدخنين من مقلديكم؟

- ليس بهذه الدقّة ولكنّني أحببت النصيحة في ذلك، فأنا أريد أن أعُين الإنسان المدخن على نفسه وذلك من خلال دراستنا للتقارير الطبية في العالم والتي خلاصتها أنّ التدخين يعرّض الإنسان إلى التهلكة ولو في المستقبل، أن أنه قد يهيّأ الرئة والحنجرة والفم للإصابة بالسرطان، حتى أن العالم يتجه لتحريم التدخين الآن في الأماكن العامة وفي الدوائر وفي الطائرات. والعلماء الذين يفتون بحلّية التدخين لمجرد الضرّر العادي يقولون إذا فرضنا أنّ الإنسان عرف بأنّه سوف يكون معرّضاً للإصابة بالسرطان ولو بعد عشر سنين فلا يجوز له أن يدخّن {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(البقرة/195). والتقارير الطبيّة تقول إن احتمال الإصابة بالسرطان 50% فمع هذا الاحتمال يحرم التدخين ويصبح من إلقاء النفس في التهلكة، ليس أن تلقيها فعلاً بل أن تعرّضها للتهلكة، وقد طلبت مني بعض وكالات الأنباء العالمية التعليق على موضوع التدخين فقلت لهم إنّ بعض الناس يقدّم مزاجه على حياته فإذا قلت للمدخن أنّك إذا دخنت فإنّك سوف تموت فإنّه يقول لك: دعني أدمن ولأمت بعد ذلك. ومعنى ذلك هو عبودية العادة التي يقال إنّ من بين فوائد الصوم هو التحرّر منها.

اليمين غير الراجح:

* حلف رجل بالقرآن أن لا يعاشر زوجته لمدة عشرة أيام، فهل يعتبر حانثاً لو عاشرها قبل الانقضاء؟

- لو حلف بالله أنه يهمل زوجته فإنّه يجوز أن يعاشرها ولا كفّارة عليه لأنّ اليمين لا بدّ أن يكون راجحاً ويمينه أن يقاطع زوجته مع حاجتها إلى ذلك أو مع حاجته هو إلى ذلك ليس راجحاً، ولذا فلا قيمة ليمينه.

عدسات الزينة:

* هل يعتبر استعمال المرأة العدسات الطبية زينة؟ وهل يعتبر استعمالها تبديلاً لخلق الله؟

- ليس في ذلك تبديلاً لخلق الله، ولكن إذا كان يؤدي إلى عنصر الإثارة ويُطمِع الذي في قلبه مرض فلا ينبغي لها ذلك، أمّا معنى تبديل لخلق الله فالظاهر هو تبديل فطرة التوحيد {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ}(الرُّوم/30).

العمل في صناعة الكحول:

* لي صديق يعمل في معمل لصنع الكحول ويدّعي أنّ لا فرصة أخرى له للعمل، فهل يجوز مزاولة مثل هذا العمل لا سيما وأنّ الذين يعرفونه لا يتعاملون معه؟

- لا ترخيص في العمل بصناعة الخمر، ومن المستبعد أن تنعدم الفرص بحيث تنحصر في هذا العمل دون غيره، فلو بحث لوجد {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(الطَّلاق/2-3).

لبس المرأة للبنطال:

* هل صحيح أنّكم تجوزون لبس البنطال للنساء بشكل مطلق حتى لو كان مظهراً لمفاتنها؟

- من قال إني قلت بذلك؟ فلقد قلت من هذا المنبر وفي الرسالة العملية وفي أجوبة الاستفتاءات إنني لا أستطيع أن أقول للمرأة أن تلبس البنطال أو لا تلبسه، وإنما أطرح القاعدة العامّة وهي أن كلّ لباس مثير يصدق عليه {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}(الأحزاب/32). حرام ولا يجوز. وقد يكون البنطال في بعض البلدان مثيراً كما في الشرق ولكنه في الغرب قد لا يكون مثيراً، وحتى الثوب الذي يسمّى فستاناً قد تكون فيه صور وألوان زاهية وبتفصيل معين بحيث يصبح مثيراً في مكان وقد لا يكون في مكان آخر كذلك. فلا يمكن أن نضع لهذه المسألة خطوطاً تفصيلية، وإنّما يرجع فيها للعرف العام، والقاعدة هي أنّ المرأة لا تخرج إلى الشارع أو إلى المجتمع المختلط كأنثى لتبرز مفاتنها الأنثوية بل تخرج كإنسانة، كما أنّ على الرجل أن يخرج كإنسان لا يوحي إلاّ بالمعنى الإنساني فلا نريده أن يتخنّث ويخرج بطريقة مثيرة.

قطف الورد من الأشجار:

* هل يحرم عليّ قطف وردة من الأشجار العامّة الموجودة في الشوارع أو الأشجار التي يملكها الناس قرب منازلهم؟

- أن تسيء بذلك إلى الجمال، فليست المسألة مسألة حرام أو حلال فقد يكون ذلك حلالاً إذا كان من حق المارّة أن يأكلوا من ثمار الأشجار، فيمكن أن تشمّ الورد من دون أن تقطفه وأن تترك الشارع جميلاً.

الحدّ الشرعي للحية:

* ما هو الحد الشرعي لطول اللحية، لأنّنا نرى بعض المشايخ لا يحلقون اللحية أبداً؟

- ما زاد عن القبضة فهو من النار.

الزيادة في اللحية:

* قرأت في (بيّنات) إذا زاد طول اللحية عن قبضة اليد فصاحبها في النار، فهل هذا صحيح؟

- لا بل الزائد من شعر اللحية في النار وليس صاحبها.

هبة أعضاء الجسم:

* هل يجوز هبة أعضاء الجسم بعد الموت؟

- نعم يجوز بإيصاء الإنسان وذلك بأن يوصي بهبة أعضائه بعد الموت.

العمل في مستشفى مسيحي:

* ما هو حكم العمل في مستشفى أمريكي خاص في إحدى دول الخليج، حيث توجد فيه كنيسة وأناجيل للتوزيع، ونحن لا نعلم أين تذهب أرباحه، وأمّا سبب العمل فيه فهو صعوبة إيجاد العمل؟

- لا مانع من العمل فيه.

تذكية المسيحي:

* هل يجوز للمسلم تناول اللحوم المشتراة من رجل مسيحي يتولى بنفسه عملية الذبح مع تعهده بذكر التسمية؟

- المشهور بين علمائنا أنه لا بدّ من أن يكون الذابح مسلماً حتى لو سمّى، ولكنّ هناك رأياً آخر نستقربه أنه إذا ذبح على أصول الذبح وسمّى وعلمنا بالتسمية منه فذبحه صحيح، وإن كان الأحوط الترك.

لبس الرجل للقلادة:

* ما رأيكم في لبس بعض الرجال للقلادة علماً أن بعضها يحمل بعض الآيات؟

- ليس محرّماً ولكن ليس مألوفاً.

توليد الطبيب:

* هل يجوز للمرأة أن تلد عند طبيب في حالة عدم وجود طبيبة وكانت في حالة سيئة يخشى عليها؟

- يجوز ذلك إذا كان الرجل أرفق بعلاجها من النساء.

الطاعة في الحجاب:

* ماذا أفعل في امرأة لا تطيعني في الحجاب؟ هل يجوز أن أطلّقها؟ وكيف إذا كانت مسلمة أو كتابية؟

- لا يجب عليك طلاقها، ولكن عليك أن تحاول بمختلف الوسائل أن تجعلها تلتزم بالحجاب. ولكننا ننصح المؤمنين عندما يقدمون على الزواج أن يدرسوا الحالة بالطريقة الواقعية والموضوعية، فالزواج ـ كما ذكرنا أكثر من مرة ـ ثلاثة أرباعه عقل وربعه عاطفة.

مساعدة أب مدمن بشراء الدخان:

* والدي يدخّن ويأبى الترك بل ويطلب مني مبلغاً ليشتري به الدخان وإذا لم أعطه يغضب عليّ، فهل يجوز لي ذلك لكسب رضاه؟

- يجوز لك أن تعطيه المال لهذا الغرض. ويبدو أنَّ السائل يتحدّث عن ذلك باعتبار أننا نفتي بحرمة

التدخين لأنّه مضرّ وكلّ ما يضرّ الجسد فهو حرام، بل إنّ تقارير الأطباء توحي بأنَّ التدخين يعرّض الإنسان للتهلكة لأنّه يهيء الجسم للسرطان. ولقد قرأت أنَّ الأطباء اكتشفوا أنّ التدخين يعطل طاقة الإنجاب عند المرأة خاصة الحوامل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}(البقرة/219). فالتدخين ضرره أكثر من نفعه وهو حرام أمّا أن تعطي لأبيك مالاً ليشتري دخاناً فقد يكون مقلداً لمن يرى حليّة التدخين فلا إشكال في ذلك.

التدخين والتبعيض:

* هل صحيح أنّكم تجوّزون التبعيض بالنسبة لفتواكم في حرمة التدخين؟

- لا ننصح بذلك، خصوصاً أنّ العلماء المراجع لو اطّلعوا على ما يقرره الأطباء في العالم لأفتوا بحرمته لأنّه يعرّض الإنسان للتهلكة.

اليانصيب ليس قماراً:

* ما هي وجهة النظر الشرعية في بطاقات اليانصيب في الدول الغربية؟

- هناك من العلماء من يحرّمون اليانصيب ويعتبرونه نوعاً من القمار، لكنّنا وفاقاً لبعض العلماء الآخرين لا نراه من القمار وإنّما نراه نوعاً من القرعة ولا نفتي بحرمته.

هل الأوروبي كافر حربي:

* هل بالإمكان اعتبار الدول الأوروبية والإنسان الأوروبي كفّاراً حربيين؟

- يمكن اعتبارهم كفّاراً ولكن ليسوا حربيين، فلقد أعطوكم لجوءاً ومالاً وحماية، لقد احتضنوكم على أحسن ما يرام فأية دولة عربية مستعدة أن تعطيكم لجوءاً؟ بل أية دولة إسلامية مستعدّة أن تعطيكم لجوءاً، كما يفعلون؟ والله سبحانه وتعالى يقول وهو أصدق القائلين: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}(الممتحنة/8). أي يحب أن تحسن إليه وأن تعدل ومن العدل أن لا تأكل ماله، ولذا نقول كما أنّ مال المسلم حرام على المسلم فكذلك مال المسالم الكافر حرام على المسلم. وأمّا هذه الفتاوى التي تكفّر هؤلاء وتعتبر أموالهم ودمائهم حلالاً، فهذا ليس من القرآن ولا من السنّة في شيء، فهناك من يصدر الفتاوى ليجعل المهاجرين حرامية شرعيين.

نحن نرى أن الله سبحانه وتعالى قد ذمّ اليهود بخيانتهم للأمة {وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(آل عمران/75). والأمي عندهم غير اليهودي، فكلّ من ليس يهودياً فإنّ دمه وماله وعرضه حلال وكذلك الحال عند البعض من المهاجرين.

وإذا كنّا نستحل أموال غير المسلمين فما الفرق بيننا وبينهم؟!

السخرية من الحجاب:

* أعيش في دولة أجنبية وزوجتي تطلب مني العمل لمساعدة أهلها أو لمساعدة وضعنا الاقتصادي ولكنني أرفض ذلك بسبب الوضع الاجتماعي لذلك المجتمع الذي يسخر من المرأة العاملة المحجّبة، فماذا أفعل؟

- إذا لم يكن هناك ما يتنافى مع حجابها ودينها فلا مانع، وإذا وجد العمل المناسب فلا يحرم الاستجابة لها في ذلك.

التبرع بأحد الأعضاء قبل الوفاة:

* هل يجوز لشخص أن يعطي أحد أجزاء جسده قبل الوفاة بلحظات؟

- يجوز له أن يوصي بذلك قبل الوفاة، فإذا كان المراد من الوفاة توقّف نبضات القلب مع موت الدماغ فيجوز التبرّع قبل الموت، إلا إذا كان هذا العضو حيوياً بحيث يؤدي إلى الوفاة فلا يجوز.

الشك في أشرطة:

* أرجو بيان رأيكم بخصوص بعض الأشرطة التي تباع في المحلات وهي عبارة عن أناشيد ولكن طريقة تسجيلها هي نفس الطريقة المغناة؟

- الحدّ بمقدار المساحة الواجبة وعدم دخول ما زاد على ذلك من الذقن تحت الرقبة.

الحد الشرعي لستر الوجه:

* ما هو الحد الشرعي لستر الوجه بالنسبة للمرأة، هل بمقدار المساحة لغسلها بالوضوء أم مقدار أكبر وخصوصاً في منطقة الذقن؟

- الحدّ بمقدار المساحة الواجبة وعدم دخول ما زاد على ذلك من الذقن تحت الرقبة.

مسابقة المليون وإلهاء الشباب:

* بخصوص فتوى المفتي في مصر حول مسابقة (من سيربح المليون) وتحريمها، ألا يمكن التحريم من الباب الثانوي باعتبار أنّها ملهاة للشباب عن دينهم كما في لعبة كرة القدم؟

- هذه المسابقة ـ وربما لها نظائر ـ فيها فائدة للناس لمعرفة الكثير من الأشياء وليس فيها شيء مضرّ أو محرّم، وحتى كرة القدم فهي ليست لإشغال الشباب بل فيها فائدة جسدية كما في كلّ أنواع الرياضات، وقد ورد في الحديث «روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة» نعم إذا استغرقت وقت الإنسان كلّه وأنفق عليها أموال كلّها فسيكون هناك عنوان ثانوي.

الطعام المشكوك به:

* هل يجوز أكل الطعام المشكوك باحتوائه على دهن حيواني غير مذكّى، وهل يجب السؤال والتحقق من ذلك مثل البيتزا والبوظة والحلوى؟

- كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه، نعم، إذا صار عند الإنسان طمأنينة بالحرمة فلا يحوز مع الشك.

وضع الورود على القبور:

* هل وضع الورود على القبور جائز أم حرام؟

- ليس محرّماً، ولكن ليس ضرورياً، لكن إذا كان ذلك مظهر تكريم أو مظهر عاطفة فليس محرّماً ولا مانع مع الشك.

العمل مع اليهود:

* نحن المغتربون في أوروبا نجد صعوبة في العمل مما يضطر البعض منّا العمل عند أرباب العمل الذين أكثرهم من الطائفة اليهودية، فهل في هذا إشكال شرعي؟

- في حالات الضرورة القصوى يجوز ذلك {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج/78). لكنّ الأفضل للإنسان أن يطلب العمل في غير هذه الأماكن.

العمل بعكس الاستخارة:

* استخرت الله مرتين واضطررت للعمل بعكسها نزولاً عند إلحاح زوجتي، فما حكم من يعمل بعكس الاستخارة، وهل عليه كفّارة؟

- ليس في الاستخارة حلال وحرام، فليس معنى أنّ مخالفة الخيرة إذا كانت جيدة حرام، فالاستخارة نصيحة، فأنت تستنصح الله تعالى، وقد يقول لك إن فيما تريده شراً أو خيراً وذلك مثل نصيحة الطبيب، ولا كفّارة فيها.

مخالفة القوانين العامّة:

* المعروف أنّه لا يجوز مخالفة القوانين العامّة، فهل أنّ قانون المرور لا يجوز مخالفته؟ وبما أنّ قانون السرعة التابع لقوانين المرور يجوّز لي مثلاً أن أسوق في الشارع بسرعة (70-80)كم في الساعة، فهل يمكن أن أزيد من سرعتي؟

- هذه القضايا يراد تنظيمها من جهة حفظ النفوس، فإذا قنّنت السرعة بـ(70-80) كم في الساعة فربّما إذا زدت من سرعتك تصطدم بإنسان أو سيارة أخرى، ولذلك فالغاية التي تتصل بحفظ أرواح الناس وبالسلامة العامّة لا بدّ من التقيّد بها.

إنجاح الطلبة بالغش:

* أدرّس في القطاع الحكومي والقطاع الخاص الأهلي، وفي هذا القطّاع تكون نسبة النجاح 75% والمفروض أن تكون صفراَ وسبب اضطرارنا إلى إنجاح الطلبة هو أنّ إدارة المعهد تريد ذلك حتى أبقى معهم في العمل مما يضطرني إلى تنجيح كلّ الطلبة عن طريق الغش والخداع، فهل هذا جائز؟

- لا يجوز ذلك لأنك تسيء بذلك إلى الطلاب وإلى الناس وإلى حرمة مهنة التعليم.

العدول والتدخين:

* أودّ العدول وتقليدكم ولكن هناك عقبة فأنا أدخّن، فهل يجوز ذلك عندكم؟

- لا يجوز ذلك عندي، ولكن مع نصيحتي أن لا تدخن تقدر أن تبقى على تقليد من كنت مقلداً له في هذه المسألة ولا أنصح بذلك. لأنّ التدخين يدور الأمر فيه بين أن تحافظ على مزاجك أو حياتك. فبعض الناس يبلغ إدمانه للتدخين درجة غير معقولة، فقد سأل أحدهم الطبيب إذا دخّنت فكم سأعيش؟ قال له: تعيش ستة أشهر، فقال له: إذا لم أدخن؟ قال: سنة. لا أريد ستة أشهر بدون تدخين! فهل هذا معقول؟ إن هناك إجماعاً لدى أطباء العالم أنّ التدخين مسؤول عن سرطان الرئة وسرطان الفم والحنجرة، وهو نوع من إلقاء النفس بالتهلكة.

فرض الرأي على البالغة الرشيدة:

* ما هي حدود فرض الأبوين لرأيهما على الفتاة البالغة العاقلة الرشدة، وهل يجوز مخالفتهما في أي أمر يتعلّق بها؟

- قلنا دائماً إنّ الواجب هو الإحسان إلى الوالدين وليس إطاعة الوالدين، وهذا أيضاً هو رأي السيد الخوئي(رحمه الله) فالله تعالى يقول: {وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}(البقرة/83). ثم أن الوالد والوالدة ليسا مشرّعين ولكن ينبغي التعامل معهما بالحسنى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}(الإسراء/23).

تقديم البضائع الأميركية:

* حرّمتم شراء البضائع الأميركية فلو قدّم لنا صديق بعضاً من تلك البضائع، فهل يجوز الأكل أو الشرب منها؟

- هذا غير مشمول بالمقاطعة، ولكن علينا أن ننكر على هذا الصديق وذلك بأن نعمل على توعيته سياسياً واقتصادياً على طريقة {وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(العصر/3).

العمل في شركة أميركية:

* أعمل في شركة أميركية في بريطانيا في الهواتف النقالة، فهل في عملي هذا أي دعم لأمريكا؟

- إذا كنت محتاجاً لهذا العمل، وكان تركك له يؤدّي إلى حرج في حياتك فلا مانع من بقائك فيه.

القرعة والاستخارة:

* جاء في كتابكم (من وحي القرآن) أن القرعة عبادة وابتهال، فما هو الفرق بنيهما وبين الاستخارة؟

- في القرعة حينما يكون هناك أكثر من خيار يرجع الأمر إلى الله ويطلب منه سبحانه وتعالى أن يختار له ما فيه صلاحه، والاستخارة تقريباً مثل القرعة ولكن طريقتها تختلف.

الغاية من دخول الحوزة:

* أريد الدخول إلى الحوزة وفي نيتي بالدرجة الأولى الراتب الشهري وفي الدرجة الثانية دراسة علوم أهل البيت(ع) فما هو الحكم الشرعي في ذلك؟

- إنّ الحوزة ليست للعاطلين عن العمل من أجل أن يحصلوا على الراتب بل الحوزة لمن يكون همّه بالدرجة الأولى الدراسة. ثم بعد ذلك قد يحصل على المساعدات وقد لا يحصل.

حضور الأعراس التي فيها محرمات:

* في إطار العلاقات الاجتماعية الواجب علينا التأثر بها إيجاباً، هل من الأفضل حضور إخواننا وأقربائنا في الأعراس التي تُشرب فيها المسكرات ويستمعون فيها إلى الغناء، أم الأفضل الاعتذار؟

- عليكم أن تعتذروا عن الحضور، وإذا أمكن أن تأمروهم بالمعروف فهو أفضل، فالعلاقات الاجتماعية تبنى في غير معصية الله.

خادمات أجنبيات في بيوت المسلمات:

* هل يجوز لنا إدخال خادمات أجنبيات إلى بيوت المسلمين؟

- هذا يختلف بحسب اختلاف التقليد، فالخادمة إذا كانت كتابية وكنت تقلّد شخصاً يقول بطهارة الكتابي والناس الذين يدخلون إلى بيتك يأكلون من يدها وهم يقلدون من يقول بطهارة أهل الكتاب، وإذا كنت كذلك لا تخاف على أولادك وعلى بيتك من الناحية الأخلاقية، فلا مشكلة. أمّا إذا كنت تقلّد من يقول بنجاسة الكتابي فأنت تأتي بالنجاسة نجاسة العين إلى بيتك، والناس الذين يدخلون إلى بيتك يقولون أيضاً بالنجاسة نجاسة العين إلى بيتك، والناس الذين يدخلون إلى بيتك يقولون أيضاً بالنجاسة فلا يجوز أن تقدّم لهم شيئاً من يدها، فعلى الإنسان أن يدرس الموضوع جيداً قبل الإقدام عليه.

تعاطي المخدرات:

* مسلم شيعي في أوروبا ملتزم بدينه من كلّ النواحي ولكنّه يعاني من مرض تدخين نوع من أنواع المخدرات أثناء الليل ويتركها تارة ويرجع تارة، فماذا تقولون له؟

- يحرم استعمال المخدرات بكلّ أشكالها، ولذلك يجب عليه أن يتركها ويستعمل إرادته من ناحيتين: أولاً، من ناحية حرمتها في ذاتها، وثانياً، من ناحية النتائج السلبية على صحته وحياته.

استخدام العلكة التي فيها نيكوتين:

* تحرّمون التدخين ولكن ما رأيكم باستخدام اللبان أي العلكة التي تحتوي على نيكوتين سبيلاً للإقلاع عن التدخين؟

- إذا كانت هذه العلكة مضرّة كضرر التدخين فهي محرّمة، فنحن إنّما حرّمنا التدخين لضرره {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}(البقرة/219). وهذه قاعدة فقهية، فكلّ ما كان ضرر أكبر من نفعه فهو حرام. وقد لا يكون الضرر آنياً بل ربّما يتبين بعد خمس سنين، وقد يضعف مناعتك وربما تصاب بالسرطان والمضرّ مضرّ بحسب طبيعته حتى في بعض الحالات، فربّما تكون عندك مناعة في بعض الأوقات لكنّ هذه المناعة تضعف إلى أن تذوب. وهناك بيت من الشعر يقول:

لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها               إن كنت شهماً فأحلق رأسها الذنبا

فإذا كانت عنده إرادة قوية فليقلع عن ذلك.

قصة الشعر الرجالية للمرأة:

* هل يجوز للمرأة أن تقصّ شعرها مثل الرجل؟

- لا مانع من ذلك فليس محرّماً في ذاته وهذا لا يسمّى تشبهاً بالرجال، كما يجوز أن يطيل بعض الشباب شعرهم فليس محرّماً في ذاته.

التشبّه أثناء التمثيل:

* نحن مجموعة من النساء نقوم في يوم الأربعين بعمل تمثيلية في مجلس يزيد ومع وضع الماكياج نلبس لباساً نبدو فيه كالرجال وهذا للتمثيل، ولكن بعض الأخوات يقلن إنّ هذا حرام، فهل هذا صحيح؟

- ليس محرّماً فالمحرم هو التشبّه بالرجال إذا كان لباساً طبيعياً، وأمّا إذا فرضنا أن ذلك من أجل التمثيل في حالة معينة، أو كانت هناك مصلحة فلا مانع من ذلك، كذلك الأمر بالنسبة للرجل فلو فرضنا أنه يريد أن يمثل دور امرأة ولا توجد امرأة ويحتاج إلى رجل فإنه يمكن أن يلبس ثياب امرأة ويتحرك حركة المرأة.

منع الأب لابنته عن الإنجاب:

* هل من الممكن أن يمنع الأب ابنته من الإنجاب لخلاف بين الأب والزوج؟

- لا سلطة للأب على ابنته إذا كانت بالغة رشيدة لا قبل الزواج ولا بعدهم فالواجب على الابنة الإحسان للأب، أمّا طاعة الأب خصوصاً في هذه المسألة فغير واجبة بل يحرم على الأب أن يضغط على ابنته في الامتناع عن الإنجاب مهما كانت الأسباب فلقد صارت زوجة لإنسان تتشاطر معه المسؤولية في ذلك، أما مسؤولية الأب عن ابنته بحسب العلاقة الشرعية الجديدة فإنه كمن يمنع بنت الجيران من أن تنجب من زوجها، ففي هذه الحالة لا سلطة للأب على ابنته.

أمّا الخلاف بين الأب والزوج فيمكن حلّه بطرق أخرى غير هذه.

ارتداء الخمار:

* أنا أعيش في بلد يرتدي الخمار فارتديته احتراماً للعرف السائد في ذلك البلد، فهل يجوز أن أخلع الخمار عند الذهاب إلى بلد آخر؟

- إنّ أغلب فتاوى المراجع المعاصرين ـ بما فيها رأينا الفقهي ـ ترى أنّ للمرأة أن تظهر وجهها وكفيها سواء في بلدها أو غيره. فلها أن تخلع الخمار على أساس ذلك عندما تزول الموانع الاجتماعية مع الالتزام بالحدود الشرعية.

ارتكاب الحرام بعد القسم:

* شخص عمل عملاً حراماً وهو يعرف بأنّه حرام وأقسم على أن لا يعود إلى ذلك العمل ولكنه عاد له بعد القسم الشرعي، فما هو العمل؟

- عليه أن يدفع كفّارة، وأن يستغفر الله، ويتوب من ذلك.

الحكم بين متخاصمين:

* عندما يطلب من عالم أن يحكم بين اثنين، وكان أحد هذين المتخاصمين ثقة عند ذلك العالم، فهل يكفي للشخص الذي يحكم بين هذين المتخاصمين القول بأنّ فلاناً خصمك هو ثقة عندي ولا أصدّق كلامك، أم في الحكم لا بدّ من القضاء؟

- لا علاقة للثقة في ذلك فلا بدّن أن تقضي بالبينات والأيمان، أي يجب أن يسمع الحاكم البينة أو اليمين حتى لو كان الخصم من أفضل الناس والخصم الآخر من أشقى الناس، فالقضية تخضع لوسائل الإثبات في الحكم وليس للمزاج أو المحسوبيات والمنسوبيات.

تسمية مطعم باسم أميركي:

* أعيش في أميركا وأودّ أن أعرف هل يجوز شراء مطعم يحمل اسم شركة أميركية كبيرة تملك أكثر من (180) مطعماً لنفس النوع، علماً أنهم يأخذون نسبة من الأرباح حفاظاً على الاسم ومن أجل الدعاية للمطعم بشكل مستمر، كما أنّ المطعم يبيع مختلف الأغذية بما في ذلك لحم الخنـزير، فهل يجوز شراء المطعم وبعد ذلك نحذف بيع لحم الخنـزير من القائمة؟

- في أميركا تختلف الأمور، لأنّ البضائع هناك كلّها أميركية، والكلام في مقاطعة البضاعة الأميركية خارج أميركا، أمّا بالنسبة إلى لحم الخنـزير فقد قلنا إنّه يجوز بيعه لمن يستحلّه ـ على رأينا ـ لكنّ شراءه محل إشكال عندنا.

شجار حول الغناء:

* زوج يطلب من زوجته سماع الأغاني ومشاهدة التلفاز وهي تعلم أنّ هذا حرام وتريد قراءة الكتب الدينية هو دائم الشجار معها لهذا السبب، فما هو واجبها؟

- لا يجب عليها إطاعة زوجها في هذا الأمر «لا يطاع الله من حيث يعصى»([873]) لكنّ عليها أن ترى بعض الأفلام التي ليس فيها محرّمات أو ما أشبه ذلك، أو تستمع إلى بعض الموسيقى التي ليس فيها حرام، وتحاول أن تواجه ظروفها بطريقة لا تعصي الله فيها وتستطيع أن تعيش من خلالها بسلام مع زوجها.

إعالة أولاد الخال:

* أنا شاب ولي أولاد خال قصّر، هل تجب عليَّ إعالتهم إذ لا أحد لهم غيري؟

- لا يجب عليك ذلك، ولكن يستحب ذلك، لأنَّه من صلة الرحم.

قراءة الرّوايات الضعيفة:

* بعض الكتب تحتوي على روايات ضعيفة، هل يجوز تداولها؟

- نعم يجوز ذلك، إلاَّ إذا كانت تصل إلى حدّ التضليل بشكل خطر.

التبرّج حرام مطلقاً:

* سبق أن ذكرتم بأنَّ للعرف دخلاً في تحديد موضوع الحكم الشرعي، فالمرأة المتبرّجة في مكان قد لا تعتبر متبرّجة في مكان آخر نظراً لاختلاف الأعراف بين المنطقتين، فكيف ذلك؟

- لم أقل ذلك، إنَّما قلت بعض اللباس قد يُعتبر تبرجاً في مكان ولا يُعتبر تبرّجاً في مكان آخر، فالتبرج واحد في حدود ما رسمه الشارع {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}(الأحزاب/33)، فيحرم التبرج في أي مكان. نعم هناك ما ليس واجباً كما في بعض أنواع الحجاب، فقد يكون للعُرف نظر في اعتبار هذا أو ذاك حجاباً كاملاً أو لا، لكن هذا أمر آخر، وقد قلنا أنَّ كلّ ما يُعدُّ من الملابس المثيرة فهو من التبرّج، ولو كان ساتراً للبدن والجسد.

مخالطة غير المسلم:

* إلى أي حدّ يمكن مشاركة غير المسلم إذا كان من الجيران في السكن، خصوصاً إذا كان ذا عيال، هل يجوز الأكل معهم أو أكل طعامهم؟

- إذا قلنا بطهارة غير المسلم مطلقاً، فإنَّه يجوز الأكل معهم إذا لم يشتمل طعامهم على محرّم كلحم الخنـزير أو الميتة، وقد يُعدُّ من الإحسان إلى الجيران، ما لم يؤدّ إلى الضلال والانحراف.

وجوب حفظ النظام:

* تفتون كثيراً بناءً على قاعدة (وجوب حفظ النظام العام)، فهل حماية البيئة هي ما يتعلّق بوجوب حفظ النظام العام للمجتمع، فتصبح واجبة شرعاً، وألا تعتبر قاعدة (وجوب حفظ النظام العام) قاعدة مطاطة قابلة لتعدّد التفسيرات والتساؤلات، فيصعب عند ذلك التأسيس الفقهي عليها؟

- نعم، لا يجوز الإخلال بالبيئة، لأنَّ ذلك مما يوجب الإضرار بالآخرين على مستوى الصحة أو بما يلحق الإضرار بالأملاك الخاصّة، أو الأملاك العامّة كذلك. ولذلك لا يسوغ حرق الدواليب مثلاً بعنوان الاحتجاج مجرّداً، أو إلصاق الإعلانات على أملاك الغير بدون إذنه، أو إلقاء الأوساخ مما يعرّض الصحة العامّة للنَّاس إلى الخطر، أو إلقاء السموم في الأنهار أو البحار وغير ذلك، أو الصيد في أوقات تكاثر الحيوانات والأسماك.

وأمّا دعوى أنَّ قاعدة حفظ النظام مرنة تخضع لتعدّد التفسيرات، فذلك لا يمنع من الرجوع إليها، لأنَّ تحديد ذلك من الأمور التي يتوقف عليها حفظ النظام أو لا، مما يرجع إلى أهل الخبرة.

الدُّعاء لأمر دنيوي:

* نحن نعلم أنَّ المؤمن عندما يدعو ربّه في الدُّنيا إمّا أن يُستجاب له في الدُّنيا أو لا يُستجاب له في الدُّنيا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يستجيب له في الآخرة، فكيف إذا كان الدُّعاء لأمرٍ دنيوي؟

- أنت عليك أن تدعو {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر/60) ولكن بشرطها وشروطها كما يُقال. ومن شروط الدُّعاء التوفر على العناصر الروحية المطلوبة، من خلال الإخلاص والانقطاع إلى الله، فلا تكون قراءة الدُّعاء مجرّد طقس نريد الانتهاء والفراغ منه كيفما كان وبأسرع وقت ـ كما نقرأ دعاء كميل مثلاً ـ ونحن نعدُّ صفحاته لنرى متى ينتهي..!!

ومن شروط الدُّعاء أن تكون صادقاً مطيعاً لله تعالى، فليس من المعقول أن تدعو الله بلسانٍ تعصي الله فيه بفحشٍ وسبّ وشتم وتطاول على الآخرين. هذا فضلاً عن أن يكون الدُّعاء منسجماً مع القوانين والسنن الكونية، فلا يعقل أن يرزقك الله بولد في ليلة أو يوم، إلاَّ أن يكون ذلك من باب المعجزة، وهذا مما يرجع إلى الله تعالى.

جهاد المرأة:

* ما هي المواقع المشروعة للجهاد بالنسبة للمرأة جهاداً بالنفس؟

- من حيثُ المبدأ لا يجب الجهاد بالنفس على المرأة في الحالات الطبيعية، ولكن مع ذلك فقد كانت النساء يخرجن مع رسول الله(ص) ليداوين الجرحى وليسقين العطشى، ولكن قد يجب عليهن الجهاد بالنفس وحمل السّلاح في حالات النفير العام والدفاع عن الإسلام وعن الحرمات.

كشف السرّ للطبيب:

* ارتكبت ذنباً وأدّى بي في طول الوقت لأضرار جسدية ونفسية، وأنا الآن قد تبت، فهل يحقّ لي كشف ذلك السرّ للطبيب وإخباره عن سبب المرض الذي يرجع إلى الذنب؟

- إذا كانت معرفة الطبيب للمرض متوقفة على ذلك فيجوز كشفه للطبيب.

ارتداء المانتو:

* ارتداء (المانتو) مع ستر الرأس والرقبة هل يعتبر حجاباً كاملاً؟

- إذا كان بحسب لونه وتفصيله لا يخلق عنصر إثارة فهو حجاب ولا يسعنا أن نميز هذه الأمور بل يرجع فيها للعرف العام، وقلنا مراراً إن هناك حجاباً مادياً وهو ستر الجسد، وحجاباً معنوياً وهو أن لا يشتمل اللباس على عنصر الإثارة «فيطمع الذي في قلبه مرض».

الماكياج والتبرج:

* استعمال الماكياج هل يعتبر من التبرج؟ وماذا لو كان غير واضح؟

- نعم هو من التبرج إذا كان واضحاً بحيث يظهر على وجه المرأة، وأما إذا كان غير واضح للمرأة فليس من التبرج.

النظر للجنسين:

* هل يحرم مطلق النظر بالنسبة لنظر الرجل للمرأة وبالعكس؟ أو يحرم النظر بالشهوة وبالتأمل؟

- النظر إلى غير الوجه والكفين من المرأة أو غير ما اعتيد كشفه للرجال حرام، وأما الوجه والكفين من المرأة أو ما اعتاد الرجال كشفه فإنه يجوز النظر إليه بشرط عدم الشهوة.

التعرُّض لصديق:

* إذا احتجت إلى مال وطلبته من أحد الأصدقاء فلم يستجب لي، وقد دعاني ذلك إلى القول فيه بمكروه هل علي ذنب، خاصة وأنه لا يجب عليه مساعدتي؟

- نعم عليك ذنب، لأنه قد لا يملك المال، أو لأنه لا يثق بأنك تفي الدين، فعلى أي أساس تتكلم عليه.

نذر الولد:

* هل يجب على كلّ شاب أن يطلب الإذن من والده إذا أراد أن ينذر نذراً؟

- لا يجب ذلك.

الأكل من المنذور:

* نذرت نذراً وقلت في نيتي إذا تم هذا الأمر فالنذر لأهل الله هل يجوز لي أن آكل من هذا النذر؟

- جواز الأكل وعدمه يرتبط بالنية، فإذا كنت نويت جواز الأكل لنفسك جاز مثلاً ذلك، بمعنى أنك مشمول بالنذر، وإلا فلا.

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] ج1: ص491-ص492

[2] ج7: ص616-ص617

[3] الندوةج4: ص541-ص542

[4] الندوةج8: ص628-ص629

[5] نفسه: ص630

[6] ج3: ص568-ص569

[7] الأنبياء 7

[8] ج4: ص544-ص545

[9] ج2. ص580.

[10] ج3. ص580.

[11] ج4. ص546.

[12] ج8. ص620.

[13] هود: 118-119.

[14] الشورى: 38.

[15] ج2. ص578.

[16] ج1. ص492-494.

[17] ج8. ص631.

[18] ج1. ص496.

[19] ج1. ص496-498.

[20] ج1. ص527-528.

[21] ج1. ص501.

[22] ج8. ص584-585.

[23] الإسراء: 36.

[24] النجم: 28.

[25] ج1. ص520.

[26] ج2. ص581-582.

[27] ج2. ص582.

[28] ج6.ص634.

[29] ج8. ص620.

[30] ج1. ص519.

[31] ج1. ص519.

[32] ج10. ص؟

[33] الجمعة: 9.

[34] ج1. ص692.

[35] الجمعة: 9.

[36] ج1. ص692-694.

[37] ج8. ص656.

[38] ج1. ص694.

[39] ج8. ص695.

[40] ج10. ص؟

[41] ج7. ص661.

[42] ج9. ص744-745

[43] ج1. ص739.

[44] ج1. ص747.

[45] ج8. ص673.

[46] ج10. ص؟.

[47] ج8. ص685.

[48] ج8. ص674.

[49] ج5. ص680.

[50] ج6. ص693.

[51] ج7. ص674.

[52] ج3. ص666.

[53] ج8. ص701-702.

[54] ج3. ص620-621.

[55] ج5. ص653.

[56] ج1. ص790.

[57] ج1. ص790.

[58] ج1. ص783.

[59] ج10. ص؟؟

[60] ج10. ص؟؟

[61] ج3. ص549.

[62] ج4. ص574.

[63] ج5. ص650.

[64] ج4. ص575-576.

[65] ج4. ص572.

[66] ج4. ص572 - 573.

[67] ج4. ص573.

[68] ج3. ص612-613.

[69] ج6. ص684-685.

[70] ج1. ص782.

[71] ج2.ص637.

[72] ج7. ص679-680.

[73] ج6. ص719.

[74] ج3. ص653.

[75] ج10. ص؟

[76] الممتحنة: 8-9.

[77] آل عمران: 75.

[78] آل عمران: 75.

[79] ج1. ص826-827.

[80] ج10. ص؟

[81] ج3. ص660-661.

[82] ج8. ص725-726.

[83] ج4. ص606.

[84] المائدة: 1.

[85] الممتحنة: 8.

[86] ج1. ص823.

[87] ج7. ص691.

[88] ج8. ص716.

[89] ج8. ص717-718.

[90] ج3. ص653.

[91] ج8. ص710.

[92] ج3. ص656.

[93] ج8. ص707-708.

[94] ج8. ص722-723.

[95] ج3. ص651-652.

[96] لقمان: 19.

[97] ج10. ص؟

[98] ج3. ص663.

[99] ج7. ص683.

[100] ج3. ص667.

[101] ج5. ص695.

[102] ج1. ص795-796.

[103] ج7. ص681.

[104] ج5. ص690.

[105] ج3. ص726-727.

[106] ج6. ص721.

[107] ج8. ص726.

[108] النحل: 125.

[109] الإسراء: 53.

[110] فصلت: 34.

[111] ج10. ص؟.

[112] ج5. ص700-701.

[113] ج6. ص725.

[114] ج8. ص722.

[115] ج5. ص623.

[116] الممتحنة: 8.

[117] ج6. ص711.

[118] آل عمران: 64.

[119] ج8. ص551.

[120] ج5. ص571.

[121] ج4. ص716-717.

[122] القيامة: 14-15.

[123] ج7. ص686.

[124] الممتحنة: 8.

[125] التوبة: 6.

[126] ج1. ص810-811.

[127] الحج: 78.

[128] ج9. ص787.

[129] ج4. ص621.

[130] ج4. ص614.

[131] ج5. ص659.

[132] ج8. ص551.

[133] ج8. ص699.

[134] ج1. ص596-597.

[135] ج8. ص572.

[136] ج8. ص718.

[137] ج1. ص731.

[138] البقرة: 195.

[139] التوبة: 111.

[140] ج9. ص677-678.

[141] ج8. ص698-699.

(*) يذكّرنا هذا بما فعله (المهاتما غاندي) أيام مقاطعته والشعب الهندي للبضائع الإنجليزية، حيث كانوا ينسجون ملابسهم بأيديهم، وقد أدت المقاطعة – بكل أشكالها – تأثيرها في خلاص الهند من عبوديتها للإنجليز.

[142] ج6. ص717-718.

[143] ج8. ص698.

[144] ج8. ص698.

[145] ج9. ص761.

[146] ج9. ص779.

[147] التوبة:36.

[148] ج6. ص662-664.

[149] ج4. ص619-620.

[150] ج9. ص680.

[151] ج10. ص؟

[152] المجادلة: 2.

[153] ج1. ص752-753.

[154] ج5. ص688.

[155] ج9. ص737-738.

[156] ج3. ص639.

[157] ج6. ص708-709.

[158] الحشر: 9.

[159] ج3. ص656.

[160] ج6. ص680.

[161] ج5. ص688.

[162] ج5. ص690.

[163] ج5. ص698-699.

[164] ج8. ص715.

[165] ج5. ص688.

[166] ج9. ص774.

[167] ج9. ص676.

[168] ج9. ص786.

[169] ج1. ص810.

[170] الانعام: 131.

[171] ج8. ص723.

[172] ج1. ص830.

[173] ج1. ص929.

[174] ج1. ص829.

[175] الأحزاب: 33.

[176] النور: 31.

[177] ج1. ص757.

[178] ج1. ص762.

[179] ج1. ص811-812.

[180] ج2. ص596.

[181] ج7. ص690.

[182] ج8. ص708.

[183] ج1. ص835.

[184] ج2. ص650.

([185]) الأحزاب: 21.

([186]) طه: 29-34.

([187]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2. ب37. ص29.

([188]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج7. ب108. ص219.

([189]) البقرة: 207.

([190]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج9. ب136. ص31.

([191]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1. ب3. ص188.

([192]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2. ب41. ص302.

([193]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4. ب22. ص150.

([194]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2. ب34. ص203.

([195]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2. ب12. ص107.

([196]) آل عمران: 61.

([197]) المائدة: 67.

([198]) الأحزاب: 6.

([199]) الأحزاب: 45.

([200]) أصول الكافي، ج1. ص288. ح2.

([201]) أصول الكافي، ج3. ص382. ح5.

([202]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6. ب9. ص99.

([203]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج3. ب8. ص109.

([204]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج23. ب24. ص256.

([205]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2. ب12. ص8.

([206]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4. ب5. ص253.

([207]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2. ب46. ص136.

([208]) الحشر: 14.

([209]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج8. ب9. ص25.

([210]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1. ب3. ص99.

([211]) الحج: 2.

([212]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج11. ب33. ص194.

([213]) القصص: 83.

([214]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج5. ب10. ص111.

([215]) النساء: 59.

([216]) آل عمران: 103.

([217]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج18. ب143. ص346.

([218]) ص: 7.

([219]) المائدة: 104.

([220]) الزخرف: 23.

([221]) الزخرف: 24.

([222]) الزخرف: 24.

([223]) البقرة: 166.

([224]) البقرة: 167.

([225]) الإسراء: 6.

([226]) الاسراء: 36.

([227]) النجم: 28.

([228]) أصول الكافي، ج2. ص298. ح5.

([229]) التوبة: 21.

([230]) البقرة: 16.

([231]) أصول الكافي، ج8. ص54. ح16.

([232]) أصول الكافي، ج6. ص23. ح15.

([233]) أصول الكافي، ج1. ص46. ح4.

([234]) البقرة: 79.

([235]) آل عمران: 93.

([236]) البقرة: 79.

([237]) الزمر: 9.

([238]) طه: 114.

([239]) أصول الكافي. ج2. ص236. ح5.

([240]) أصول الكافي. ج2. ص132. ح9.

([241]) أصول الكافي. ج2. ص136. ح13.

([242]) البقرة: 166.

([243]) المؤمنون: 100.

([244]) الزمر: 56.

([245]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج18. ب180. ص114.

([246]) آل عمران: 159.

([247]) الأنبياء:107.

([248]) آل عمران:164.

([249]) الأعراف:158.

([250]) المائدة:8.

([251]) الصحيفة السجادية. ط المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق – ص69. د22 دعاؤه عند الشدّة، س2-7.

([252]) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد، ج6. ب67. ص95.

([253]) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد، ج16. ب38. ص34.

([254]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج15. ب28. ص278.

([255]) بحار الأنوار. ج33. ب26. ص33. ح210.

([256]) ملاحظة: نص رسالة الإمام الحسن(ع) مأخوذ عن كتاب (سيرة الأئمة الاثني عشر) لهاشم معروف الحسني / القسم الأول ط6/ دار التعارف. ص505-506.

([257]) شرح نهج البلاغة. ج12. ب. 35. ص158.

([258]) المطففين:26.

([259]) الحجرات: 14.

([260]) أصول الكافي. ج2. ص43. ح2.

([261]) أصول الكافي. ج3. ص26. ح7.

([262]) شرح نهج البلاغة. ج8. ب26. ص33.

([263]) آل عمران:134.

([264]) أصول الكافي. ج2. ص312. ح17.

([265]) أصول الكافي. ج3. ص23. ح3.

([266]) شرح نهج البلاغة. ج17. ب48. ص8.

([267]) أصول الكافي. ج2. ص367. ح2.

([268]) الحجرات:13.

([269]) شرح نهج البلاغة. ج17. ب53. ص32.

([270]) أصول الكافي. ج33. ص119. ب21. ح3.

([271]) أصول الكافي. ج2. ص164. ح5.

(1) أصول الكافي. ج2. ص14. ح12.

([272]) أصول الكافي. ج6. ص56. ح23.

([273]) بحار الأنوار. ج32. ص119. ب21. ح3.

([274])

([275])

([276])

([277])

([278]) بحار الأنوار. ج2. ح4. ب6.

([279]) أصول الكافي. ج8. ص454. ح55. ب6.

([280]) التهذيب. ج6. ص108. ح7. ب22.

([281]) الفقيه. ج3. ص483. ح7. 47. ب2.

([282]) أصول الكافي. ج4. ص12. ح9.

([283]) أصول الكافي. ج2. ص668. ح14.

([284]) الفقيه. ج3. ص283. ح 3986. ب2.

([285]) بحار الأنوار. ج73. ص 283. ح1. ب133.

([286]) الاستبصار. ج3. ص179. ح6.

([287]) التهذيب. ج5. ص206. ح3. ب25.

([288]) أصول الكافي. ج2. ص157. ح9.

([289]) بحار الأنوار: 967. ص284. ح5. ب16.

([290]) شرح نهج البلاغة. ج10. ب186. ص133.

([291]) الصحيفة السجادية: ص182. د46 دعاؤه للعيدين والجمعة. س4-5.

([292]) أصول الكافي. ج2. ص495. ح19.

([293]) التهذيب. ج2. ص237. ب12.

([294]) الصحيفة السحادية. ص167. د44. دعاؤه لدخول شهر رمضان. س14-16.

([295]) الاستبصار. ج4, ص263. ح4. ب153.

([296]) الكافي. ج8. ص138. ب3. ح100.

([297]) الصحيفة السجادية. د48 دعاؤه للأضحى والجمعة. ص 207. ص12-13.

([298]) بحار الأنوار. ج13. ص23. ب3. ح5.

([299]) بحار الأنوار. ج12. ص123. ب13. ح9.

([300]) بحار الأنوار. ج13. ص153. ب17. ح2.

([301]) نهج البلاغة. الخطبة 234 القاصعة. ص300-302 : ط المستشارية الثقافية الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق.

جاء في (مصادر نهج البلاغة وأسانيده): ((وأما أمر الشجرة التي دعاها رسول الله(ص) فالحديث الوارد فيها كثير يستفيض قد ذكره المحدثون في كتبهم، وذكره المتكلمون في معجزات الرسول(ص) والأكثرون رووا الخبر فيها على الوضع الذي جاء في خطبة أمير المؤمنين، ومنهم من يروي ذلك مختصراً، أنه دعا شجرة فأقبلت تخد إليه الأرض خدّاً، وقد ذكر البيهقي في كتاب (دلائل النبوة) حديث الشجرة، ورواه أيضاً محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب (السيرة والمغازي) على وجه آخر، وأشار إليها البوصيري في البردة بقوله:

جاءت لدعوته الأشجار ساجدة       تمشي إليه بلا ساق على قدم))(*)

(*) مصادر نهج البلاغة وأسانيده: السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب . ج3. ص47. ط دار الزهراء.

([302]) آل عمران: 164.

([303]) نهج البلاغة. الخطبة 94. ص105. المصدر السابق.

([304]) النحل: 125.

([305]) نهج البلاغة. الخطبة 108.

([306]) الجمعة: 2.

([307]) النمل. 7.

([308]) نهج البلاغة الخطبة 105. ص117.

([309]) الضحى: 6-8.

([310]) الرعد: 26.

([311]) الأحزاب: 21.

([312]) القصص: 60.

([313]) الأنفال: 63.

([314]) آل عمران: 103.

([315]) آل عمران: 123.

([316]) الفتح: 29.

([317]) الحشر: 9.

([318]) الفتح: 29.

([319]) الأنفال: 2.

([320]) نهج البلاغة: الخطبة 96.

([321]) الحج: 40.

([322]) محمد: 7.

([323]) نهج البلاغة الخطبة 192 القاصعة.

([324]) المائدة: 1.

([325]) الإسراء: 34.

([326]) البقرة: 177.

([327]) النحل: 91.

([328]) البقرة: 40.

([329]) بحار الأنوار. ج3. ص25. ب33. ح9.

([330]) في لسان العرب: أخفره نقض عهده وخاس به وغدره، وأخفر ذمّته: لم يف بها.

([331]) بحار الأنوار. ج94. ص98. ح13. ب32.

([332]) بحار الأنوار. ج77. ص402. ح23. ب15. مناجاة علي.

([333]) بحار الأنوار. ج16. ص115. ب30. ح7.

([334]) شرح نهج البلاغة. ج6. ب15. ح9.

([335]) شرح نهج البلاغة. ج7. ب15. ح3.

([336]) الأنفال: 58.

([337]) أحاديث وروايات المحاضرة عن كتاب (ميزان الحكمة) باب (الغدر).

([338]) النساء: 20-21.

([339]) محمد: 24.

([340]) الأحزاب: 36.

([341]) آل عمران: 50.

([342]) الأنعام: 92.

([343]) البقرة: 285.

([344]) الأحزاب: 62.

([345]) فاطر: 43.

([346]) الإسراء: 14.

([347]) النحل: 111.

([348]) الجمعة: 6-7.

([349]) الصحيفة السجادية. ص82. د20. دعاؤه في مكارم الأخلاق. س6-8.

([350]) آل عمران: 133.

([351]) الذاريات: 19.

([352]) النور: 33.

([353]) الحديد: 7.

([354]) الكتاب – موضوع المحاضرة - من (نهج البلاغة) إصدار (رابطة أهل البيت i الإسلامية العالمية (وابل). ص129 (من كتاب له عليه السلام إلى الحارث الهمداني).

([355]) الضحى: 11.

([356]) البقرة: 159.

([357]) بحار الأنوار. ج12. ص132. ب23. ح12.

([358]) شرح نهج البلاغة. ج6. ص23. ح13.

([359]) أصول الكافي. ج2. ص156. ب23. ح9.

([360]) التحريم: 6.

([361]) طه: 32.

([362]) الرعد: 23-24.

([363]) بحار الأنوار. ج6. ص220. ح15. ب8.

([364]) الذاريات: 19.

([365]) النور: 33.

([366]) بحار الأنوار. ج74. ص351. ح20. ب21.

([367]) بحار الأنوار. ج5. ص153. ح12. ب6.

([368]) الكهف: 46.

([369]) البقرة: 110.

([370]) الكتاب – موضوع المحاضرة – من (نهج البلاغة) إصدار (رابطة هل البيت i الإسلامية العالمية (وابل). (من كتاب له عليه السلام إلى الحارث الهمداني).

([371]) القصص: 83.

([372]) شرح نهج البلاغة. ج2. ص125. ب13.

([373]) شرح نهج البلاغة. ج3. ص154.ح9.

([374]) شرح نهج البلاغة. ج3. ص245.ح5.

([375]) شرح نهج البلاغة. ج5. ص199. ح7.

([376]) شرح نهج البلاغة. ج2. ص59. ح3.

([377]) شرح نهج البلاغة. ج4. ص78. ح12.

([378]) العنكبوت: 46.

([379]) النور: 48.

([380]) النساء: 59.

([381]) الأنعام: 164.

([382]) الأنعام: 56.

([383]) المائدة: 44.

([384]) المائدة: 45.

([385]) المائدة: 47.

([386]) بحار الأنوار. ج1. ص208. ح8. ب5.

([387]) العنكبوت: 46.

([388]) شرح نهج البلاغة. ج7. ب113. ص251.

([389]) شرح نهج البلاغة.ج4. ب198. ص302.

([390]) النصوص التي وردت في أصل المحاضرة مأخوذة عن (نهج البلاغة) الخطب (135،131،127، 58،40،35).

([391]) الأحزاب: 45-46.

([392]) الأحزاب: 6.

([393]) المائدة: 7.

([394]) المائدة: 67.

([395]) التوبة: 128.

([396]) بحار الأنوار. ج77. ص402. ح23. ب15.

([397]) شرح نهج البلاغة. ج1. ب3. ص151.

([398]) شرح نهج البلاغة. ج18. ب180. ص411.

([399]) شرح نهج البلاغة. ج11. ب219. ص245.

([400]) شرح نهج البلاغة. ج9. ب136. ص31.

([401]) الإنشقاق: 6.

([402]) الزمر: 15.

([403]) النحل: 53.

([404]) شرح نهج البلاغة. ج13. ب150. ص250.

([405]) الحديد: 23.

([406]) العلق: 6-7.

([407]) شرح نهج البلاغة. ج12. ب13. ص149.

([408]) شرح نهج البلاغة. ج18. ب12. ص176.

([409]) شرح نهج البلاغة. ج1. ب19. ص35.

([410]) البقرة: 110.

([411]) الكهف: 46.

([412]) الحاقة: 30-32.

([413]) بحار الأنوار. ج12. ب13. ص187. ح19.

([414]) البقرة: 204-206.

([415]) آل عمران: 140.

([416]) شرح نهج البلاغة. ج15. ب130. ص290.

([417]) المائدة: 15.

([418]) الأنبياء: 22.

([419]) شرح نهج البلاغة. ج2. ي13. ص134.

([420]) المائدة: 44.

([421]) سبأ: 65.

([422]) بحار الأنوار. ج19. ب12. ص244. ح11.

([423]) بحار الأنوار. ج22. ب32. ص325. ح23.

([424]) بحار الأنوار. ج12. ب13. ص132. ح3.

([425]) البقرة: 129.

([426]) بحار الأنوار. ج34. ب12. ص134. ح1.

([427]) شرح نهج البلاغة. ج5. ص142. ب36.

([428]) النساء: 58.

([429]) المائدة: 90.

([430]) الحجرات: 12.

([431]) الحجرات: 11.

([432]) هود: 113.

([433]) الإسراء: 32.

([434]) المائدة: 5.

([435]) الأعراف: 32.

([436]) النساء: 24.

([437]) بحار الأنوار. ج13. ب1. ص300. ح12.

([438]) الأنفال: 24.

([439]) بحار الأنوار. ج53. ب25. ص99. ح13.

([440]) الانشقاق: 6.

([441]) الزلزلة: 7-8.

([442]) البقرة: 197.

([443]) آل عمران: 133-135.

([444]) الشعراء: 179.

([445]) التحريم: 6.

([446]) طه: 32.

([447]) الشعراء: 214.

([448]) ق: 18.

([449]) المجادلة: 78.

([450]) النحل: 111.

([451]) الانفطار: 19.

([452]) شرح نهج البلاغة 1، ص150، ب18.

([453])  بحار الأنوار، ج12، ب139، ص122، ح76.

([454]) شرح نهج البلاغة، ج4، ب24، ص324.

([455])

([456]) بحار الأنوار، ج23، ص234، ب23، ح90.

([457]) شرح نهج البلاغة 2، ص234، ب3.

([458]) الأنبياء/89.

([459]) يوسف/111.

([460]) شرح نهج البلاغة. ج3. ص123.ب54.

([461]) شرح نهج البلاغة. ج4. ص167. ب13.

([462]) آل عمران: 37.

([463]) مريم: 30-32.

([464]) الأنبياء: 91.

([465]) التحريم: 12.

([466]) الأحزاب: 33.

([467]) آل عمران: 42.

([468]) النساء: 157.

([469]) شرح نهج البلاغة. ج6. ب73. ص166.

([470]) شرح نهج البلاغة. ج16. ب45. ص208.

([471]) بحار الأنوار. ج43. ص86. ح8. ب4.

([472]) النمل: 16.

([473]) مريم: 5-6.

([474]) بحار الأنوار. ج21. ص279. ب32. البيان.

([475]) بحار الأنوار. ج16. ص210. ب9. حديث.

([476]) أصول الكافي. ج3. ب32. ص235. ح7.

([477]) الزمر:53.

([478]) الأنبياء:26ـ27.

([479]) آل عمران:64.

([480]) يوسف:53.

([481]) العنكبوت:69.

([482]) المؤمنون:60.

([483]) النحل:111.

([484]) الأحقاف:13.

([485]) ق:37.

([486]) البقرة:197.

([487]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج11. ب34. ص324.

([488]) الزمر:55.

([489]) لقمان:17.

([490]) الحج:46.

([491]) القصص:77.

([492]) الحشر:19.

([493]) النحل:53.

([494]) النحل:18.

([495]) الخطبة الواردة في المحاضرة من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج6. ص363. ب86.

([496]) فصلت:30.

([497]) الأنبياء:30.

([498]) البقرة:110.

([499]) القصص:76.

([500]) القصص:77.

([501]) بحار الأنوار. ج45. ب34. ص345. ح7.

([502]) الحج:46.

([503]) طه:125ـ126.

([504]) لقمان:22.

([505]) الحديد:25.

([506]) النحل:118.

([507]) الزمر:12.

([508]) نقلاً عن شرح نهج البلاغة. ج6. ب86. ص363.

([509]) البقرة:115.

([510]) الفتح:10.

([511]) المائدة:64.

([512]) الشورى:11.

([513]) الأنعام:103.

([514]) الفتح:10.

([515]) الزمر:53.

([516]) النساء:116.

([517]) الفرقان:44.

([518]) الأعراف:179.

([519]) الحج:46.

([520]) المائدة:32.

([521]) بحار الأنوار. ج54. ب34. ص435.ح23.

([522]) النجم:3ـ4.

([523]) الأنبياء:34.

([524]) الزمر:30.

([525]) آل عمران:169.

([526]) المائدة:67.

([527]) بحار الأنوار. ج32. ب11. ص397. ح7.

([528]) بحار الأنوار. ج12. ب45. ص255. ح6.

([529]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج6. ب86. ص372.

([530]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج6. ب86. ص381.

([531]) البقرة:207.

([532]) المطففين: 26.

([533]) البقرة:130.

([534]) آل عمران: 134.

([535]) الرعد:15.

([536]) الأنعام: 124.

([537]) الزمر:30.

([538]) النازعات:40ـ41.

([539]) أصول الكافي. ج5. ب23. ص278.

([540]) الصحيفة السجادية. ط المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق. د20. دعاؤه في مكارم الأخلاق. ص83. س4-6.

([541]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. ج4. ص258. ب55.

([542]) بحار الأنوار. ج1. ص131. ح23.ب4.

([543]) بحار الأنوار. ج8. ص238. ب24.

([544]) بحار الأنوار. ج3. ص64. ب4. ح1.

([545]) بحار الأنوار. ج5. ص253. ب8. ح7.

([546]) البقرة:201.

([547]) القصص:77.

([548]) الشورى:52.

([549]) القلم:4.

([550]) آل عمران:159.

([551]) التوبة:128.

([552]) الأحزاب:40.

([553]) بحار الأنوار. ج44. ب34. ص234. ح7.

([554]) بحار الأنوار. ج23. ب12. ص345. ح4.

([555]) المائدة:41.

([556]) المائدة:68.

([557]) الأنعام:33.

([558]) الأنعام:34.

([559]) يونس:65.

([560]) النحل:127.

([561]) الكهف:6.

([562]) الفرقان:32.

([563]) الفرقان:32.

([564]) آل عمران:52.

([565]) الفرقان:5.

([566]) النحل:103.

([567]) المائدة:24.

([568]) الأنفال:5ـ7.

([569]) الأحزاب:10ـ11.

([570]) الأحزاب:12.

([571]) الجمعة:2.

([572]) الزمر:36.

([573]) آل عمران:173ـ175.

([574]) الأنفال:60.

([575]) آل عمران:139ـ140.

([576]) النساء:104.

([577]) البقرة:165.

([578]) الأنعام:164.

([579]) النجم:39-40.

([580]) الممتحنة:8ـ9.

([581]) آل عمران:139ـ140.

([582]) البحار. ج12. ب34. ص345. ح2.

([583]) بحار الأنوار.ج74.ص178.ب11.ح19.

([584]) بحار الأنوار.ج78.ص119.ب20.ح2.

([585]) الأنعام: 127.

([586]) إبراهيم: 23.

([587]) الحجر: 47.

([588]) بحار الأنوار. ج7. ب23. ص123. ح6.

([589]) بحار الأنوار. ج88. ب1. ص33. ح2.

([590]) شرح نهج البلاغة. ج9. ب2. ص234.

([591]) بحار الأنوار. ج23. ص234.ب4.ح1.

([592]) شرح نهج البلاغة. ج4. ب3. ص34.

([593]) شرح نهج البلاغة. ج3. ص245. ب9.

([594]) شرح نهج البلاغة. ج11.ص111. ب3.

([595]) شرح نهج البلاغة. ج7.ص299. ب2.

([596]) شرح نهج البلاغة. ج7. ص305.ب2.

([597]) شرح نهج البلاغة. ج6.ص99.ب3.

([598]) النساء: 86.

([599]) البقرة: 286.

([600]) النساء: 139.

([601]) شرح نهج  البلاغة. ج2. ص76.ب5.

([602]) الحجرات: 10.

([603]) شرح نهج البلاغة.ج20.ب487.ص249.

([604]) شرح نهج البلاغة. ج16.ب31ص110.

([605]) شرح نهج البلاغة. ج20.ب606.ص314.

([606]) شرح نهج البلاغة.ج19.ب200.ص24.

([607]) شرح نهج البلاغة.ج16.ب45.ص205.

([608]) البقرة: 242.

([609]) آل عمران: 7.

([610]) آل عمران: 137.

([611]) النحل: 36.

([612]) آل عمران: 191.

([613]) الرعد: 16.

([614]) الأنعام: 50.

([615]) الأعراف: 176.

([616]) الحشر: 21.

([617]) الأنعام: 55.

([618]) يونس: 101.

([619]) يوسف: 109.

([620]) يوسف: 111.

([621]) الروم: 8.

([622]) الأحقاف: 3.

([623]) شرح نهج البلاغة. ج19.ب234.ص290.

([624]) شرح نهج البلاغة. ج5.ب68.ص154.

([625]) شرح نهج البلاغة.ج2.ب34.ص347.

([626]) شرح نهج البلاغة. ج20.ب45.ص249.

([627]) شرح نهج البلاغة.ج15.ب584.ص311.

([628]) شرح نهج البلاغة.ج6.ب258.ص158.

([629]) شرح نهج البلاغة.ج1.ب3.ص67.

([630]) شرح نهج البلاغة.ج2.ب44.ص58.

([631]) الرحمن: 71.

([632]) آل عمران: 191.

([633]) بحار الأنوار.ج34.ص234.ح23.ب3.

([634]) شرح نهج البلاغة. ج18.ب209.ص358.

([635]) شرح نهج البلاغة. ج1.ب1.ص99.

([636]) الزمر: 9.

([637]) بحار الأنوار. ج44.ب87.ص390.ح2.

([638]) فاطر: 28.

([639]) الأحقاف: 13.

([640]) نهج البلاغة. من خطبة له  t وتسمّى بالغرّاء وهي من الخطب العجيبة – في صفة خلق الإنسان. ط:المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية. ص77-78.

([641]) الذاريات: 56.

([642]) الأنبياء: 23.

([643]) شرح نهج البلاغة. ج6.ب86.ص373.

([644]) شرح نهج البلاغة. ج4. ب57.ص311.

([645]) طه: 125-126.

([646]) شرح نهج البلاغة.ج7.ب102.ص105.

([647]) شرح نهج البلاغة. ج7.ب108.ص201.

([648]) الشعراء: 88-89.

([649]) الأعراف: 179.

([650]) الزمر: 17-18.

([651]) الزمر: 18.

([652]) الأعراف: 179.

([653]) النجم: 3-4.

([654]) شرح نهج البلاغة. ج9.ب153.ص158.

([655]) الروم: 41.

([656]) النحل: 112.

([657]) شرح نهج البلاغة. ج32.ب587.ص126.

([658]) الأنعام: 153.

([659]) شرح نهج البلاغة.ج18.ب235.ص248.

([660]) شرح نهج البلاغة. ح4.ب22.ص345.

([661]) شرح نهج البلاغة.ج6.ب73.ص166.

([662]) المائدة: 67.

([663]) المائدة: 3.

([664]) أصول الكافي. ج1. ص294. ح25.

([665]) الكوثر: 1.

([666]) الكوثر: 2.

([667]) البقرة: 124.

([668]) الأنعام: 133.

([669]) الإسراء:70.

([670]) النحل:8.

([671]) البقرة: 134.

([672]) الزلزلة: 7.

([673]) الزلزلة: 8.

([674]) النساء: 103.

([675]) البقرة: 216.

([676]) البقرة: 183.

([677]) يوسف: 106.

([678]) الجنّ: 18.

([679]) الحجرات: 10.

([680]) شرح نهج البلاغة. ج15. ب20. ح6.

([681]) آل عمران: 126.

([682]) شرح نهج البلاغة. ج2. ب35. ص255.

([683]) الأنفال: 17.

([684]) القصص: 23.

([685]) الكافي. ج2. ص164. ح4.

([686]) الكافي. ج7. ص315. ح12.

([687]) إبراهيم: 4.

([688]) الأنبياء: 1.

([689]) المعارج: 6-7.

([690]) الشمس: 7.

([691]) الأعلى: 1-2.

([692]) الانفطار: 6.

([693]) آل عمران: 178.

([694]) الإسراء: 9.

([695]) الأنعام: 159.

([696]) آل عمران: 55.

([697]) الرحمن: 26.

([698]) الزمر: 30.

([699]) الضحى: 11.

([700]) مريم: 6.

([701]) آل عمران: 38.

([702]) مريم: 5.

([703]) البقرة: 124.

([704]) البقرة: 256.

([705]) الحديد: 3.

([706]) عبس: 7.

([707]) النور: 33.

([708]) البقرة: 194.

([709]) المؤمنون: 96.

([710]) البقرة: 237.

([711]) النحل: 136.

([712]) البقرة: 24.

([713]) التحريم: 6.

([714]) الصافات: 40.

([715]) الحجرات: 14.

([716]) طه: 27.

([717]) الشعراء: 13.

([718]) القصص: 34.

([719]) آل عمران: 61.

([720]) الأنعام: 164.

([721]) النحل: 25.

([722]) قريش:3-4.

([723]) القصص: 57.

([724]) الأنبياء: 92.

([725]) الأنعام: 76.

([726]) الأنعام: 76-79.

([727]) البقرة: 272.

([728]) الغاشية: 21-22.

([729]) المائدة: 3.

([730]) المائدة: 67.

([731]) مريم: 26.

([732]) مريم: 24.

([733]) الماعون: 7.

([734]) التكوير: 26.

([735]) آل عمران: 104.

([736]) الكهف: 99.

([737]) الأحزاب: 33.

([738]) الرحمن: 29.

([739]) البقرة: 241.

([740]) المؤمنون: 14.

([741]) الذاريات: 21.

([742]) الزلزلة: 7.

([743]) القيامة: 4.

([744]) الرحمن: 17.

([745]) المعارج: 40.

([746]) الأنبياء: 22.

([747]) البقر: 102.

([748]) البحار. ج11. ص123. ب34. ح12.

([749]) البقرة: 255.

([750]) الإسراء: 4.

([751]) المؤمنون: 17.

([752]) الأحزاب: 1.

([753]) آل عمران: 55.

([754]) النساء: 157.

([755]) التكاثر: 1-4.

([756]) التكاثر: 3-5.

([757]) التين: 4-6.

([758]) آل عمران: 6.

([759]) العلق: 5.

([760]) الأسراء: 85.

([761]) آل عمران: 144.

([762]) مريم: 30.

([763]) الإنسان:8.

([764]) الإنسان:9.

([765]) الأنبياء:87.

([766]) الفجر: 16.

([767]) النحل:73.

([768]) يونس:94.

([769]) المؤمنون:14.

([770]) آل عمران:49.

([771]) التوبة:80.

([772]) مريـم:47.

([773]) النساء:116.

([774]) التوبة:114.

([775]) التوبة:80.

([776]) البقرة:257.

([777]) الروم:30.

([778]) طه:132.

([779]) الجمعة:2

([780]) الأحزاب:39.

([781]) الأنعام:92.

([782]) البقرة:285.

([783]) الحشر:7.

([784]) يوسف:76.

([785]) يوسف:72.

([786]) يوسف:76.

([787]) يوسف:69.

([788]) الجمعة:5.

([789]) آل عمران:133.

([790]) النساء:116.

([791]) التغابن:2.

([792]) الأحزاب:1.

([793]) الأنعام:15.

([794]) الزمر:65.

([795]) الحاقة:44ـ46.

([796]) بحار الأنوار. ج2. ب45. ص236. ح2.

([797]) التوبة:119.

([798]) الرعد:7.

([799]) فاطر:28.

([800]) الزلزلة:7ـ8.

([801]) الفتح:2.

([802]) العلق: 6-7.

([803]) القصص: 87.

([804]) الأحقاف: 8.

([805]) الطارق: 9.

([806]) بحار الأنوار.ج24.ص234.ب22.ح1.

([807]) الحاقة: 20.

([808]) الحج: 52.

([809]) البقرة: 185.

([810]) المائدة: 55.

([811]) بحار الأنوار. ج98. ص60. ب33. ح2.

([812]) آل عمران: 119.

([813]) الحشر: 7.

([814]) البقرة: 144.

([815]) يوسف: 111.

([816]) الكليني: الكافي. ج3. ص156. ح3.

([817]) الكليني: الكافي. ج16. ص165. ح32.

([818]) الكليني: الكافي. ج22. ص103. ح21.

([819]) الأنبياء: 28.

([820]) البقرة: 285.

([821]) المائدة: 32.

([822]) النساء: 48.

([823]) الأعراف: 156.

([824]) الكافي. ج1. ص160. ح13.

([825]) الكافي. ج2. ص92. ح20.

([826]) لقمان: 17.

([827]) الأحزاب: 36.

([828]) الإسراء: 15.

([829]) بحار الأنوار. ج23. ب21. ص347. ح99.

([830]) بحار الأنوار. ج9. ب23. ص124. ح7.

([831]) بحار الأنوار. ج3. ب12. ص234. ح12.

([832]) بحار الأنوار. ج34. ب23. ص354. ح6.

([833]) الأحزاب:62.

([834]) الأنبياء:23.

([835]) الأحزاب:36.

([836]) بحار الأنوار. ج44. ب23. ص21. ح4.

([837]) المائدة:32.

([838]) النحل:125.

([839]) طه:43ـ44.

([840]) الروم: 30.

([841]) بحار الأنوار.ج91.ب31.ص400.ح5.

([842]) القمر: 49.

([843]) الطلاق: 3.

([844]) البلد: 10.

([845]) الشمس: 7-8.

([846]) الإنسان: 3.

([847]) الأعراف: 175-176.

([848]) الحج: 11.

([849]) آل عمران: 173.

([850]) أصول الكافي. ج2. ص308. ح7.

([851]) شرح نهج البلاغة. ج17. ب62. ص151؟.

([852]) بحار الأنوار. ج77. ص167. ح2. ب7.

([853]) بحار الأنوار. ج32. ص247. ح195. ب4.

([854]) بحار الأنوار. ج12. ص153. ب33. ح12.

([855]) أصول الكافي، ج3، ص5، ح2.

([856]) بحار الأنوار، ج78، ص119، ب20، ح2.

([857]) الفقيه، ج2، ص549، ب2.

([858]) شرح نهج البلاغة، ج18، ب180، ص411.

([859]) أصول الكافي، ج2، ص164، ح4.

([860]) بحار الأنوار، ج10، ص394، ح1، ب25.

([861]) بحار الأنوار، ج70، ص205، ح14، ب53.

([862]) بحار الأنوار، ج4، ص432، ب45. 690.

([863]) بحار الأنوار، ج22، ص134، ب32، ح78.

([864]) بحار الأنوار، ج29، ب44، ص400، ح3.

([865]) أصول الكافي، ج2، ص307، ح1.

([866]) بحار الأنوار، ج84، ص228، ب16.

([867]) بحار الأنوار، ج6، ص22، ح24، ب20.

([868]) بحار الأنوار، ج13، ص234، ب34، ح3.

([869]) بحار الأنوار، ج23، ب1، ص188، ح3.

([870]) البحار: ج17، ص320، ب،21، ح33.

([871]) التهذيب، ج6، ص351، ح115، ب22.

([872]) بحار الأنوار، ج85، ص9، ب23.

([873]) البحار، ج4، ص234، ب23، ح9.