النـدوة 10
آية اللّه العظمى
السيد محمد حسين فضل الله
النـــدوة
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة
إعداد: عادل القاضي
الجزء العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الثقافة الشرعية
لا أريد أن أتطفل على اختصاص غيري، فلست من أهل الاختصاص في الشأن الفقهي الأصولي، ولذا فإنني سوف لن أخوض في هذه المقدمة في منهج آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله -دام ظله- الفقهي، الذي كتب فيه المختصون والمعنيون في الشؤون الفقهية معتبرين إن ابرز وأهم ملمح من ملامح هذا المنهج هو استناده الكبير على القرآن في الاستنباط.
لكنني أريد أن اطل – في هذه المقدمة - على القارئ من زاوية أخرى، وهي الثقافة الفقهية التي وضعها سماحته بين يدي جمهوره من أبناء الأمة من خلال هذه السلسة المباركة (الندوة): اللقاء الحي والصحيفة والكتاب المسطور، فلقد أشرت في خاتمة المجلد الأول من هذا الكتاب إلى أننا -في مثال مرجعية السيد- بتنا نعيش الفقه ثقافة جماهيرية مفتوحة.
فالسائد الدارج في عرف المرجعيات أن يلجأ المقلد إلى أحد الطرق التالية لمعرفة فتوى الفقيه:
إمّا أن يلتقيه مباشرة ليستمع منه إلى حكم الشريعة فيما يسأل، أو أن يلتقي أحد وكلائه ليتعرّف من خلاله على فتوى مرجعه. أو أن يقرأ فتواه من خلال كتبه وأبحاثه ودراساته الفقهية والأصولية أو أن يستمع إليها من مقلديه الثقاة الذين ينقلون الفتوى بأمانة شرعية دونما زيادة أو نقصان.
وفي مثال مرجعية السيد كلّ ذلك موجود ومعمول به، فتلك قنوات يمكن لأي مقلد أن ينفذ من خلالها إلى فتاوى سماحته مستفيداً أيضا من وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف والفاكس والانترنيت.
لكننا نلاحظ من كلّ هذه الوسائل التي تيسّر سبل الاتصال بالمرجع؟، انه يُقصَد إمّا في بيته أو مكتبه أو عبر هاتفه أو موقعه الإلكتروني، أمّا أن ينظّم علاقته بالجمهور في لقاءات دورية منتظمة يطلّ من خلالها عليه ليفتح له الباب على مصراعيه ويستقبل أسئلته مباشرة، فهذا ما يحصل - في حدود إطلاعي المتواضع- لأول مرة في تاريخ المرجعية.
ولقد حقق هذا التواصل والاتصال المباشر بالجمهور، الأمور التالية:
1- المباشرة في تحصيل الفتوى.
فالأسئلة التي يطرحها السائلون يجاب عليها في حينها ودونما تأخير.
2- الاستيضاح.
فقد يجد السائل أن سماحته لم يوفّ سؤاله أو مسألته حقّها، أو أنّه ربما يكون قد فهمها من زاوية غير التي يريد السائل معرفته، فيمكنه أن يردف سؤاله بسؤال لاحق يستوضح فيه عما يريد معرفته.
أو أنّه يريد المزيد من المعرفة بشأن الفتوى، كالدليل الذي بنى سماحته عليه رأيه الفقهي، أو الجوانب الأخرى المتعلقة بالمسألة، وما إلى ذلك، وكلّ ذلك مفتوح ومسموح من خلال الندوة.
3- تعميم الفائدة.
سبق أن شبّهت الندوة في قراءة لإيجابياتها وفوائدها وآثارها، بالمؤتمر الصحفيّ، الذي قد يطرح فيه الصحفيّ سؤاله أو أسئلته فيجد الإجابة، لكنّه من جانب آخر يحصل على فائدة اكبر من خلال استماعه لإجابات المسؤولين عن أسئلة زملائه الصحفيين الآخرين.
فالسائل في الندوة يحظى بالإجابة عن أسئلة غيره من روّادها وجمهورها، وبذلك تكون حصيلته الشرعية أوسع من عرفان الإجابة على مسألته وحدها.
4- المسائل الخلافية.
وقد يطرح سماحته آراء مجتهدين آخرين في خصوص المسألة الواحدة، وقد يلتقي معها أو يرى غير ما يرون، وبذلك تتسع دائرة المعرفة الفقهية لدى جمهور الندوة.
بل هناك من يطرح آراء فقهاء آخرين ويريدون معرفة رأي سماحته فيها، أو أنه يطلب من سماحته أن يجيبه وفقاً لفتوى العلماء البارزين الذين قد يكون السائل من مقلدي أحدهم، الأمر الذي يكشف رحابة الصدر الشرعي لاستقبال وجوه الآراء المتعددة حتى وإن كانت آراء مخالفة.
كما أنّ قول سماحته بالتبعيض -فتح هو الآخر- المجال للإفادة من فتاوى المراجع الآخرين.
5- تسليط الضوء على أبعاد الفتوى
فالمتابعون لإجابات سماحته على الأسئلة الشرعية في ندوة السبت، يلاحظون أن إجاباته تأخذ منحيين: الإجابات الموجزة القصيرة المقتضبة التي تدور بين الجواز وعدمه.
والإجابات التي يتوسّع سماحته في تبيان الرأي الفقهي فيها، وكأنّ المستمع يحضر درساً في البحث الخارج، ذلك أن بعض المسائل التي يكثر الجدل حولها تحتاج إلى إشباع بحث، والى معرفة طرق الاستدلال عليها، أو حتى الحكمة التي تقف وراء التشريع.
فأنت مثلاً ترى في إجابته عن الرؤية الفلكية توسعة ضافية اقرب إلى البحث منها إلى الإجابة الفتوائية المعروفة، وهكذا الحال في إجاباته على المسائل المتعلّقة بالفقه الحركي أو الفقه السياسي.
6- رفع الشبهات
ومن بين جوانب تعميق الثقافة الشرعية لدى الجمهور، هو أن فتوى المجتهد تتعرض احياناً إلى التشويه والاستغلال وسوء الفهم. وحتى لا تبقى الشبهات قائمة مستشرية، كان لابد من طرح أسئلة تتعلق بذلك كلّه، كما كان لابدّ من إيضاح الموقف الشرعي السليم من أية إشكالية فقهية أو شبهة شرعية، إذا صحّ الاصطلاح.
فإعادة الفتوى إلى نصابها الصحيح مسؤولية شرعية تقع على عاتق الفقيه المجتهد، وعلى عاتق الجمهور المقلّد، ولابدّ من تنقية ما يعلق بالفتوى من شوائب وشبهات وعلامات استفهام، فقد يلتزم بعض المقلدين بفتوى معينة ثم يتضح بعد حين انّه قد تلقّاها عن طريق الخطأ، مما تتكفل الندوة -كاتصال مباشر- بحلّه وتجليته.
7- توسيع دائرة الثقافة الشرعية
ولما كان جمهور الندوة -على سعته- محدوداً، فقد اتجه الرأي إلى توسيع دائرة الانتفاع من الثقافة الشرعية وغير الشرعية أيضا من خلال مشروعي صحفية (فكر وثقافة) وكتاب (الندوة) وأخيراً، موقع سماحته على الشبكة العنكبوتية.
من ذلك كلّه نخلص إلى أنّ حرص سماحته على أن يكون قريباً من جمهوره يسأله فيجيبه، لم يكن حدثاً جديداً أو ابن المرجعية المتأخرة، فمن حين عودته من النجف إلى لبنان وهو يلتقي الناس ويستقبل أسئلتهم المتنوّعة والشرعية منها على وجه الخصوص، وكنت تستمع إلى إجاباته وفقاً لفتاوى مراجع التقليد في حينهم.
كما نخلص أيضا إلى أن صيغة طرح الثقافة الشرعية الواسعة بين يدي الجمهور العريض، هي ثابت من ثوابت النهج الثقافي الذي يعتمده سماحته، الأمر الذي جعل فتواه متداولة على الألسن لأنها مما يستمع إليه هذا الجمهور الكريم ويتناقلها باستمرار.
ولأنّ باب المسائل الفقهية في كتاب (الندوة) هو أوسع الأبواب على الإطلاق، فقد ارتأيت أن أقف عند مسائل بعينها -مما ينتظم تحت عناوين معاصرة أو قضايا شرعية ملحّة- أو تلك التي لسماحته فيها نظر وبصمة خاصّة.
وسنتناول الشؤون التالية.
1- المرجعية الدينية
2- استنباط الأحكام
3- صلاة الجمعة
4- الزواج والطلاق -قضايا معاصرة
5- احترام ملكية الغير
6- ثقافة الإنفاق
7- حفظ النظام العام
8- من فقه القضاء
9- من فقه السياسة
10- مسائل عصرية متفرّقة
أولاً: المرجعية الدينية
1- الذهنية الاجتهادية الشيعية
ففي معرض الإجابة عن سؤال، هل إن الذهنية الاجتهادية في المدرسة الشيعية قادرة على معالجة الإشكالات التي تواجه إنسان العصر؟ يقول سماحته:
((أتصور أن الذهنية الاجتهادية الشيعية تملك طاقة علمية كبيرة، ولكنها تحتاج إلى أن تنفتح على العصر لتعيش ذهنية العصر، وتتفهم روحه، وتعرف كيف يفكر الناس؟ وما هي مشاكل الشباب؟ وما هي قضاياهم؟ وما هي التحديات التي تواجههم؟!!)).
ويضيف: ((عندما نفهم العصر بذهنيته فإننا نستطيع أن نحل مشاكل العالم، وسنجد في الإسلام حلولاً لها، ولكن عندما لا تشعر بأن هناك مرضا فهل يمكن لك أن تفكّر في معالجة المرض؟.
إنّ لدينا طاقات شيعية كبيرة جداً، ولكننا بحاجة إلى طاقة كطاقة السيد محمد باقر الصدر (رض) وكطاقة الشهيد مطهري (رض) هذه الطاقات التي واكبت عصرها وفهمته وانسجمت معه فأثرت فيه بقوة وساهمت بتطور المجتمع وتقدمه.
إننا نريد للذهنية الاجتهادية أن تنفتح على الإسلام في منهج أهل البيت بطريقة علمية منفتحة تتحرك من خلال الكتاب والسنّة، وتنطلق من العقل في مواقع حركته بطريقة عميقة تؤكّد المنهج الإسلامي الإمامي في عقلانيته الفكرية، وفي وعيه للإسلام من مصادره الأصيلة)).([1])
2- كفاءة المرجع:
وفي سؤال حول كفاءة الفقيه العادل كشرط لتصديه للمرجعية، يقول سماحته:
((عالم المرجعية على قسمين: هناك مرجعية فتيا، بحيث يرجع إلى المرجع في الفتاوى الشرعية، وهذه مسألة ثقافية يكفي فيها أن يكون المرجع مثقّفاً ثقافة اجتهادية يستطيع من خلالها أن يستنبط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية.وهناك من يشترط الأعلمية في ذلك، وهناك من لا يشترطها.
أمّا الآن، فالمرجعية أوسع إطاراً، فقد أصبح الناس يراجعون المرجع في القضايا السياسية والاجتماعية والأمنية، ومن هنا فإنّ المرجعية الفتيائية لا تستطيع أن تملأ الفراغ الذي يشتكيه المسلمون اليوم، فالمرجع ـ بهذا المعنى ـ ليس لديه إطلاع على واقع المسلمين، وربما من خلال ذلك أيضاً لا يطّلع على الموضوعات التي يريد الإفتاء بها لأنها تحتاج أيضاً إلى معرفة الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي حتى يفتي في مسألة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
لذلك فنحن نعتقد أنّ طريقة المرجعية في السابق أصبحت لا تسدّ حاجة الناس، بل أضحت خارج نطاق الزمن، في حين يحتاج المرجع اليوم، بالإضافة إلى اجتهاده في الفقه والأصول، أن يكون عارفاً بزمانه وأكثر من ذلك أن يكون عارفاً بالقرآن، فالمرجع الذي ليس لديه ثقافة القرآن لا يستطيع أن يكون مجتهداً بالمعنى الصحيح للاجتهاد، لأنّ الاجتهاد قائم على الكتاب والسنّة، فإذا كان لا يعرف من الكتاب إلاّ آيات الأحكام وبطريقة أصولية بحتة فإن من الصعب أن يفهم كلام اللّه)).([2])
3- ثقافة المرجع:
وحول ضرورة إطلاع المجتهد المرجع على الواقع الثقافي الاجتماعي، يقول سماحته:
((إن مسألة المرجعية مسألة تتصل بالإسلام كلّه، لأن معنى أن تكون مرجعاً للمسلمين هو أن تكون واعياً لكلّ قضاياهم الفقهية في الجانب العلمي ليكون رأيك معذّراً لهم أمام الله تعالى.
ولابدّ أن تكون واعياً للثقافة العقيدية في أصولها الحقيقية الخالية من كل تحريف ومن كل تشويه لتعرف كيف تعطي الناس الإسلام العقيدي في أصالته وثقافته. وان تكون ملماً بالواقع الذي يتحرك فيه المسلمون في ساحة الصراع التي يواجه فيها الكفر الإسلام لتعرف كيف تحمي الإسلام بمعرفتك وثقافتك، وتنقذ المسلمين من الضلال، من خلال ما يطرحه الكفر من شبهات وما يثيره من تعقيدات ضد العقيدة الإسلامية. وأن تكون واعياً للجانب السياسي من حياتهم، والجانبي الاجتماعي في واقعهم، حتى إذا رجع المسلمون إليك أمكنك أن تعطيهم الرأي السياسي الذي يتفق مع خطّ الإسلام ومع مصلحة المسلمين، وأن تعطيهم الرأي الاجتماعي الذي يجمعهم على أساس الوحدة والتعاون على البرّ والتقوى.
فنحن نلاحظ مثلاً أن أئمة أهل البيت(ع) الذين نقول إن المراجع نوّاب عنهم كانوا يعيشون -بما أعطاهم الله من علم- كلّ القضايا التي يواجهها المسلمون)).([3])
4- شجاعة المرجع:
وحول ما إذا كانت الشجاعة شرطا في المرجعية يقول سماحته:
((المرجعية علم، ونحن نأخذ من علم المرجع لا من بطولته وشجاعته. نعم إذا كان شجاعاً فذلك أفضل حتى يتخذ المواقف الجريئة في مواجهة التحديات الكبرى التي يعيشها المسلمون))([4]).
وعما إذا كان الافتقار للشجاعة يخلّ بعدالة الفقيه، يرد سماحته:
((لا يخل بعدالته، ولكن ربما تكون هناك عناوين أخرى))([5]).
5- المرجعية والسياسة:
وعما إذا كانت المرجعية تتكامل مع العمل الحركي، يقول سماحته:
((المرجعية تعطي النظرية والخط العملي، فيما العمل الحركي يعطي الخطة التنفيذية التفصيلية. فإذا كانت المرجعية الواعية الرائدة تمثل القيادة الفكرية للعمل الحركي فمن الطبيعي أنهما لا ينفصلان، بل يعطي كلّ واحد منهما ما يملك من قوة فكرية وحركية للآخر))([6]).
6- المرجعية والقومية:
وسئل سماحته عن تأثير القومية في تقليد الفقهاء والرجوع إليهم، فقال:
((القومية خصوصية إنسانية والعرق كذلك، وهي تغني تجربة الإنسان ولا تخلق حواجز بينه وبين الإنسان الآخر.
وأما بالنسبة للتقليد والعلم فالله سبحانه وتعالى يقول )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(.([7]) سواء كان أهل الذكر عرباً أو فرساً، فلا قومية في العلم ولا قومية في الحكم، فنحن نتعلّم من كلّ الناس ونرجع إلى أي مرجع إذا كان واجداً لشروط المرجعية سواء كان عربياً أو فارسياً أو تركياً أو من أية قومية أخرى))([8]).
7- تعدد المرجعية:
وطرح على سماحته سؤال يقول: هل أنّ الاجتهاد سبب في فرقة العلماء والفقهاء، فأجاب:
((العلماء مجتمعون على الإسلام وعلى خط أهل البيت(ع)، ولكنهم مختلفون في استنباط بعض الأحكام، وهذا ليس عند الشيعة فقط بل حتى عند السنّة أيضا.
فالسنّة مختلفون في مذاهبهم التي هي ليست أربعة فقط، فهذه هي الصيغة الرسمية للمذاهب، وإلاّ فهناك مذهب الأوزاعي وابن حزم الظاهري ومذاهب أخرى، وقد بدأ الكثير من علماء السنّة يدعون إلى فتح باب الاجتهاد، وقد فتح باب الاجتهاد عند بعضهم من خلال المسائل المستحدثة التي لم يصدر فيها حكم من أئمة المذاهب الأربعة))[9])).
وفي سؤال آخر حول تعدد المرجعية في ظلّ ولاية الفقيه التي طرحها الإمام الخميني (رض)، قال:
((المرجعية حالة ثقافية، أي أن من يلتزم برأي المرجع فانه يقلّده في الأحكام الشرعية. والولاية هي حالة تنفيذية، فلا علاقة للمرجعية بالولاية، وقد تلتقي المرجعية بالولاية فيكون المرجع ولياً، وقد لا تلتقي.
وقد أعلن الإمام الخميني (رض) في أواخر حياته عن الفصل بين المرجعية وبين القيادة، وربما لا تشترط الأعلمية فيمن له صلاحية القيادة))[10])).
8- مشاريع التوحيد:
وهناك عدد من الأسئلة التي طرحت على سماحته في شأن توحيد الجهد الفقهي، ففي سؤال عن توحيد الفقه الإسلامي، قال:
((المسألة هي مسألة الاجتهاد في فهم الإسلام، وعلينا أن نتحاور حتى نصل إلى صيغة مشتركة إذا أمكن ذلك))[11])).
وعن إمكانية إصدار رسالة علمية موحدة لعدد من الفقهاء، يقول سماحته:
((إن مجرد الاجتماع ليس معناه أن يحصل الاتفاق، فربما أنّ أحدهم يبقى مصرّاً على رأيه لأنّه لم يقتنع بكلام الآخرين، وليس معنى إصرار أحدهم على رأيه هو التعصب، بل القناعة ان ما وصل إليه بالأدلة الشرعية هو الحكم الشرعي))[12])).
وفي هذا الصدد، سئل سماحته أيضا عن إمكانية تأسيس مجلس علمائي شيعي، فقال:
((يقول تبارك وتعالى )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّك( [13]))، فهناك تعقيدات وظروف تمنع ذلك، وهو طموحنا المبنيّ على أساس قوله تعالى)وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم( [14]))، ولكن ثمة فرق بين الطموح وبين عناصر الواقع التي تقف حائلاً دونه)) [15])).
9- المؤسسة المرجعية:
وقد سئل سماحته - عدة مرات - حول رأيه في المؤسسة المرجعية ومدى إمكانية تحققها على أرض الواقع، والعقبات التي تحول دون نشوئها.
ففي جانب الرأي في هذه المؤسسة، يقول سماحته:
((نحن نطمح إلى المرجعية المؤسسة، وليس معنى أن تكون المرجعية المؤسسة أن يبقى المرجع وتبقى القيادة كما هي، بل نريدها قيادة تتحرّك من خلال المؤسسة بحيث تقدم لها الدراسات وترتب لها العلاقات، وتقدّم لها المشورة، بحيث ينطلق المرجع في تصريحاته السياسية والاجتماعية والعلمية من دراسة جاهزة تقدّمها المؤسسة، بل حتى إذا أراد أن يستنبط حكما شرعياً فإنّ المؤسسة تهيّئ له الدراسات التي قد لا يستطيع أن يحيط بها بجهده الخاص إلا بعد أن يعطّل الكثير من عمله)).
ويضرب سماحته لذلك مثلاً، فيقول:
((عندما يعيش الفقيه في مدى عشرين أو ثلاثين سنة فمن الطبيعي أن يتلقّى الكثير من الرسائل، وان يمارس الكثير من النشاطات، وأن يقوم بالكثير من العلاقات، وكل هذا يصبح في الواقع الحالي ملكاً لأبنائه. فلقد ذهب السيد أبو الحسن الأصفهاني (رض) ولم يستفد المرجع الذي جاء بعده من تراثه، بل حتى ولا من رسالة واحدة أرسلت إليه. ورحل السيد محسن الحكيم (رض) ولم يستفد أي مرجع من بعده من أية نشاطات قام بها، وهكذا فإنّ كل حياة المرجع في رسائله وعلاقاته ونشاطاته يرثها أبناؤه.
وعندما يبدأ كلّ مرجع من نقطة الصفر فهذا خلل، ولو كانت هناك مؤسسة للمرجعية لها أجهزتها فإنّها ستحتفظ بكلّ رسائل المرجع وعلاقاته في تقاريره ونشاطاته وأبحاثه وحواراته، وعندما يأتي المرجع الجديد فإنّه يبدأ من حيث انتهى المرجع السابق.
واعتقد أنّ هذه المسألة تحتاج إلى توعية شاملة في الذهنية الشيعية وعلى مستوى المثقفين والناس والعلماء، واعتقد أنّ هذا هو مشروع المستقبل، مثلما طرح المرحوم الشهيد الصدر (رض) المرجعية الرشيدة وهي مشروع المستقبل أيضا، وهذه المشاريع تحتاج إلى أرضية، والأرضية هي الوعي.
وإذا لم نحقّق ذلك فعلى الأقل أن ينفتح المرجع على العصر، ويعيش هموم الناس، وان يعرف الهموم السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وليس من الضروري أن يكون عالماً بالاقتصاد أو بالسياسة وما إلى ذلك، لكن يفترض أن تكون له إطلالة على الواقع، وإذا لم يستطع أن يحقّق النتائج الكبرى فمن الضروري أن يحقّق لنا نوافذ تطلّ على المستقبل يمكن أن تقرّب لنا النتائج الكبرى في هذا المضمار))[16])).
ويرى سماحته، في الإجابة على سؤال في السياق نفسه، أنّ المرجعية الشخصية قد تجاوزها الزمن، فيقول:
((اعني بكلمة (تجاوزها الزمن) أن التحديات الموجودة الفقهية والسياسية والاجتماعية قد تحتاج إلى أسلوب آخر، وإلى منهج آخر، وإلى مواقف أخرى. وقد حاولنا أن نطلق هذا كوسيلة من وسائل التوعية، ولكن المؤسسة المرجعية لن تجد النور إلاّ عندما تملك رأياً عاماً واسعاً في الحوزات العلمية، لأنّ المسألة لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد، بل لابدّ أن يكون هناك توافق عليها))[17])).
وأما عن العقبات التي تقف في طريق إنجاز هذا المشروع، فيرى سماحته:
((لا يزال هذا المشروع يبحث عن كثير من مجالات الحوار والنقاش حتى يتحوّل إلى مشروع واقعي عملي.. واعتقد أن كتاب (المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية) أثار الكثير من الجدل في إيران ولبنان، ولكننا نعرف أنّ التغيير في الذهنية العامّة في منهج عاش مئات السنين لا يمكن أن يختصره كتاب أو موعظة أو حوار، فالمسألة - كما في كل أمر يراد له تغيير الواقع - تحتاج إلى جهود كبيرة وإلى زمن طويل))[18])).
وسئل سماحته ذات مرّة عن مدى التقاء تجارب رائدة ثلاث في ميدان العمل المرجعي: تجربة الشهيد الصدر، وتجربة الإمام الخميني، وتجربته، فقال:
((إن الأفق الذي تحركت به هذه التجارب هو أفق واحد ينطلق من قاعدة واحدة، وهي أنّ المرجعية في معدنها المنطلق من الإسلام والمنفتح على الأمّة لا تمثّل مجرد حالة ثقافية يتمتع بها المرجع ليقدّم فتواه إلى الناس، وليس دوره الذي أريد له أن يقوم به هو دور المفتي فحسب، فالنظرية الإسلامية بشأن المرجع لدى أتباع أهل البيت(ع) هي أنّ المرجع نائب للإمام، أي أنّه يحمل في دوره وموقعه دور الإمام بشكل أو بآخر.
فالإمام الخميني (رض) انطلق من موقع أنّ على المرجع، إذا توفرت له ظروف التحضير للحركة الإسلامية والثورة الإسلامية، وممكنات تغيير الواقع، أن يعمل من موقعه القيادي باعتباره وليّاً لأمر المسلمين.. فتجربته الرائدة لم تتحرك من خلال أسلوب تنظيم العمل المرجعي، ولكنّها تحركت من خلال توسيع الساحة المرجعية والأفق المرجعي بحيث ينطلق المرجع ليكون ثورة وليصنع دولة وليحرّك العالم من خلال الإسلام كلّه.
وأما تجربة الشهيد الصدر (رض) فكانت تنطلق من خلال محاولة التنظيم للمرجعية الرشيدة في إدارة حركة المرجعية في الدعوة والتبليغ وتنظيم الأوضاع الحوزوية التي تنقل رسالة المرجع وتنجح في إبلاغ الدعوة إلى كلّ إنسان، وبلورة الأساليب التي يمكن أن تنفتح بالإسلام على عقول الناس في كلّ ما ينتجه التطوّر من أساليب.
وكان الشهيد الصدر من صنّاع الحركة الإسلامية، ومن المنظّرين الإسلاميين الذين ابدعوا في صياغة النظرية الإسلامية الفلسفية والاقتصادية والعمل الإسلامي والمفاهيم الإسلامية، وعندما أطلّ على المرجعية أطلق شروط المرجعية الرشيدة.
أمّا التجربة المتواضعة التي حاولت أن أثيرها في حوار (المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية) فهي استكمال لمشروع الشهيد الصدر بضرورة انتقال المرجعية الشخصية إلى مرجعية المؤسسة))[19])).
ولذلك يرى سماحته أن الوجه الحضاري لولاية الفقيه، التي لا يراها بشكل مطلق، بل بما يتوقف عليه حفظ النظام وعمل الدولة، يتمثل في معرفة الفقيه للإسلام كلّه، حيث يقول:
((ليس كلّ فقيه ولياً، لأنّ الولاية تتصل بحياة الناس، أما الفقيه الذي يعيش داخل زاويته يقرأ الحياة من خلال الكتب لا من خلال الحياة ذاتها، كيف يمكن أن يفهم الناس ليحكمهم؟ وكيف يمكن أن يدبّر أمورهم ليتولّى أمورهم؟ وكيف يمكن أن يواجه المشاكل وهو لم يعش وعي المشكلة ولا الإحساس بها؟
لذلك فعندما نقول إنّ الولاية من شؤون الفقيه، فإنّ فعلية الولاية لابدّ أن تكون من خلال المعرفة بأهل الزمان وحركة الزمان والمعرفة بتطلعات الزمان، وأن يعيش (الولي الفقيه) مع الناس في كلّ يوم، ويتقصّى الأحداث والمشاكل والآلام ليكون له رأي في كلّ شيء يعرض للناس.. مما يعتبر نقلة حضارية أمام حكم الحاكمين الذين لا يعرفون الكثير مما تحتاجه الأمّة في خطوطها الفكرية والعملية))[20])).
10- الفقهاء والغوغاء:
وفي الجواب عن وقوع بعض الفقهاء أسرى الرأي المألوف أو مسايرة العرف المناهض للوعي، يقول سماحته:
((المشكلة هي أن بعض الفقهاء يبتلون بالغوغاء الذين يعطلّون عليهم أمرهم، يقول الإمام علي(ع) ((الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كلّ ريح لم يستضيئوا بنور الحقّ ولم يلجأوا إلى ركن وثيق))، فهذا هو الذي منع الكثير من المفكرين أن ينطلقوا في أفكارهم بكلّ حرية، ومنع الكثير من الفقهاء أن يعلنوا عن فتاواهم لأنّهم يخافون من العامّة. فالمشكلة هي أنّ العامّة أصبحت تحكم الخاصّة))[21])).
وسئل سماحته ذات مرة عن افتراق صديقين بسبب اختلاف التقليد ونشوب مشادات كلامية حادة بينهما، فقال:
((هذا العمل تخلّف واضح، وهو يدلّ على جهل وعدم التزام بالدين، إنّي أقول لهما إنّ فراقكما لهذا السبب خطيئة ومعصية وتخلّف ودليل على عدم التديّن لأنّكما متعصبان ولستما متدينين، فالذين يختلفون ويتباغضون على أساس التقليد لا يخلصون للتشيع ولا للإسلام، وإنّما يخلصون لنزواتهم وتخلّفهم وجهلهم))[22])).
ثانياً: استنباط الأحكام
1. مقاصد الشريعة:
سئل سماحته: إلى أي مدى تؤمنون بأنّ للشريعة مقاصد عليا لابدّ من مراعاتها والاستناد إليها في استنباط الأحكام الشرعية؟، فقال:
((إننا نؤمن بأنّ أحكام الله تابعة للمصالح وللمفاسد في متعلقاتها، فما من حلال إلاّ وفيه مصلحة، وما من حرام إلاّ وفيه مفسدة، فإذا استطعنا أن نعرف المصلحة بكلّ جوانبها فيمكن لنا أن نستوحيها في أحكام أخرى بشكل قطعي.
لكن إذا لم نعرفها بشكل قطعي بحيث يمكن أن تكون المصلحة أولاً، أو أنّ تكون المفسدة أولاً ولا نستطيع أن نستوحيها على هذا الأساس، فنحن نناقش في حجيّة القياس، ذلك أنّ الشيعة يقولون إنّ علّة الحكم إذا كانت منصوصة، أو كان مقطوعاً بها فيمكن لنا أن نستخرج منها الحكم في كل مورد من الموارد التي لم يأت بها الحكم، لأنّ الحكم ينصّب على العنوان، فلو فرضنا أنّه قال لا تشربوا الخمر لأنّه مسكر فنستطيع أن نقول بأن (كلّ مسكر حرام) باعتبار أنّ العلّة منصوصة هنا، فكأنّ الله تعالى قال (لا تشربوا المسكر) والله تعالى يقول )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم( [23])) ويقول )وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا( [24])).
فعندما يكون هناك قطع فالقطع حجّة، ولذا فنحن نؤمن بمقاصد الشريعة بشرط أن تكون هذه المقاصد محلّ يقين أو مستنبطة من نصّ، أمّا إذا كانت العلّة ظنيّة فلا يمكن أن نعتمد عليها في تسوية الحكم الذي يشتمل موضوعه عليها إلى ذلك الحكم لأنّ الظنّ ليس حجّة))[25])).
2. منطقة الفراغ:
وسئل سماحته عن منطقة الفراغ في التشريع، فقال:
((إنّ منطقة الفراغ التي نظّر لها السيد الشهيد الصدر (رحمه الله) تتمثل في القضايا التفصيلية التي تتصل بالواقع التنظيمي والقضايا الإدارية التي يمكن أن يستأنفها الزمن.
فمثلاً هناك – في الوقت الحاضر – نظام بلديات، وليس في الإسلام (في عهده الأول) نظام بلديات، بل وعندنا أنظمة إدارية يحتاجها المجتمع لحفظ النظام، وقد يحتاج إلى أشياء أخرى ليست موجودة، وهنا يقوم المجتهد بالاجتهاد في هذه المسائل، وبالطبع فإنّه لا يجتهد حسب مزاجه بل من خلال القواعد الموجودة لديه.
وهذا هو رأينا في ((إنّ للّه في كلّ واقعة حكما)) لأنّ المقصود بالحكم هو الخطوط العامّة التي تبيّن الحكم بشكل مباشر، أو التي تطلّ على الحكم بطريق غير مباشر))[26])).
كما أجاب سماحته عن المعيار أو الضابط بين العناصر المرنة في الشريعة (منطقة الفراغ) وبين العناصر الثابتة، بقوله:
((العناصر الثابتة هي العناصر التي جاء فيها نص لا مجال للاجتهاد فيه، أمّا العناصر المرنة فهي العناصر التي تتصل بحياة الإنسان مما لا تشريع فيه، مما يمكن للفقيه أن يستوحيه من النصوص الإسلامية))[27])).
3. الأصالة والتجديد:
وعن التجديد الفقهي، يقول سماحته:
((البعض من الناس يقول بضرورة تجديد الفقه، في حين أنّ الفقه هو علم نحصل من خلاله على أحكام الله، وهي تنطلق من الكتاب والسنّة فلا يصحّ بأن نقول بتجديد الفقه، بل نقول إنّه لابدّ لنا من أن نقرأ الكتاب والسنّة بطريقة تختلف عمّا قرأه الآخرون، لأنّ الآخرين تركوا لنا شيئاً وحصلنا على شيء آخر، فالمسألة هي (كم ترك الأول للآخر)، فعلينا أن لا نتجمّد أمام القديم، وأن لا نقدّس المجتهدين الذين سبقونا ف (هم رجال ونحن رجال) فلقد كانوا يملكون علماً، وقد نمتلك علماً أكثر مما اختزنوه لأنّنا أخذنا علمهم وعلم ما جاء بعدهم وعلم ما نعيشه الآن.
لذلك، فنحن لا نقول بوجوب تجديد الفقه، لأنّنا عندما نعيش عقدة التجديد فربّما نحرّم الحلال ونحلّل الحرام من خلال هذه العقدة، لا من خلال أنّ الدليل يدلّ على ذلك، لكن علينا أن نفهم النصوص الإسلامية فهما جيداً بما نملك من العناصر الاجتهادية المعذّرة لنا أمام الله، وقد نلتقي بالجديد، وقد نبقي على القديم))[28])).
وسئل سماحته عمّا إذا كانت بعض الوقائع التي يطرأ عليها من الأحوال والأوصاف ما يغيّر حكمها بتغيّر طبيعتها فلا يلائمها ما حكم به الأقدمون وما افتوا به في شأنها، فقال:
((الفتوى لا تتغير من جهة تغيّر الزمن، لكن قد يكون تغير الزمن عاملاً في تغيّر الموضوع، لأنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها، فإذا تغيّر الموضوع تغير الحكم، فالخمر حرام لكن إذا استحالت الخمرة خلاًّّ صارت حلالاً. فإذا كان تغيّر الزمان أو المكان أو الحالة الطارئة تؤدي إلى تغيّر الموضوع فإن تغير الحكم يكون حسب تغيّر الموضوع، هذا أمر. وأمّا الأمر الثاني فإنَّ الثقافة قد تتغير، فقد يكون القدماء فهموا نصوص الكتاب والسنّة بحسب ما لديهم من ثقافة ما جعلهم يصدرون هذه الفتوى أو تلك، والمسألة هنا هي كم ترك الأول للآخر؟))[29])).
4. الفتاوى والعرف:
وقد طرحت عدة أسئلة تتعلق بعلاقة الشرع والعرف، فأوضح سماحته أنّ المراد بالعرف هو المفاهيم لا التقاليد التي ابتدعها الناس وساروا عليها، حيث يقول:
((ليس المرجع إلى العرف في الأحكام بل في المفاهيم، فمثلاً يقال: ما يصدق عليه أنه حلقُ اللحية، أو ما يصدق عليه أنّه غناء عرفا، فالرجوع إلى العرف إنّما هو في فهم الألفاظ، وفي بعض القضايا من أجل تحديد المصاديق حسب العرف العام، وإلاّ فالعرف ليس مرجعاً في الأحكام حتى يفرّق بين العرف الضالّ والعرف المهتدي))[30])).
وسئل عمّا إذا وقع الخلاف بين الفقهاء في الفهم العرفي، فإلى أي شيء يرجعون في استدلالهم، فقال:
((إذا اختلفوا في طبيعة الحكم، فيمكن لكلّ واحد أن يقتنع بحسب ما يراه باجتهاده في أنّه أمر عرفيّ، وإلاّ فعليهم أن يرجعوا إلى شيء آخر))[31])).
وسئل أيضاً: إلى أيّ العرفين يرجع الفقهاء في تحديد المصاديق: العرف العام (أي الناس)؟ أم العرف الخاص (أي المختصين)؟ فقال:
((إن الموضوعات الواردة في الخطابات الشرعية لابدّ من الرجوع في دلالاتها إلى العرف العام في وعيه لمفاهيمها في استعماله لها بلحاظ الجانب التصوري في وجدانه، لأن ذلك هو الذي يكشف عن المعنى المراد للشارع منها في تعلّق الحكم بها.
أما العرف الخاص فقد يعبّر عن مصطلح جديد ناشئ عن الاجتهادات، كما في مفهوم الموت الذي يخضع للنظريات الطبية، وكما في توقف الدماغ ونحوه، فلا يكون كاشفاً عن مراد الشارع في وقته، وربما ينطلق العرف الخاص، كما في الغناء، لتحديد خصوصياته لا تحديد مفهومه، فلا يختلف العرف الخاص في المفهوم حول ذلك عن العرف العام))[32])).
ثالثاً: صلاة الجمعة
ونركّز هنا على صلاة الجمعة تحديداً لأنّها الصلاة التي توصف بأنّها عبادية – سياسية، ولأنّ سماحته أقامها في بيروت ولا تزال تقام حتى اللحظة، فحديثه عنها حديث في الإطارين معاً: المبنى الفقهي، والإقامة الفعلية لهذه الصلاة.
1. المبنى الفقهي:
سئل سماحته في خصوص صلاة الجمعة: ((على ماذا استندتم في الوجوب؟ هل على قوله تعالى )إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ( [33]))؟)). فأجاب بالقول:
((لم يقيدنا الله تعالى بقيد في ذلك، فلم يقل إذا كان المعصوم حاضراً، بل أطلق الوجوب، وعندما يطلق الوجوب فعلينا أن نثبت الطاعة في هذا الوجوب))[34])).
2. أسباب وشروط إقامتها:
وسئل عن أسباب إقامتها في الضاحية الجنوبية في بيروت، وعن شروط إقامتها، ووجوب حضورها، فقال:
((هناك آراء كثيرة في أسباب الإقامة، أمّا في الوقت الحاضر فليس للوقت أية صلة، فليس – كما يقول بعض الناس إنّ سبب إقامتها سياسي بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية أبداً، فالقضية هي أنّي كنت أحبّ أن أصلّي هذه الصلاة من قبل خمسة عشر أو عشرين سنة، وعندما قمنا بتعمير المسجد الكبير (مسجد الحسنين) الذي يتسع لعشرة آلاف مصل ولعشرات الألوف حوله استخرت الله على التوفيق، بأن يكون آخر جمعة من ذي الحجة أول موعد لإقامتها، وهكذا كان.
وأمّا شروط إقامتها، فهي واجبة حسب قوله تعالى )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ([35])) حيث يحرم البيع وقت ذكر الله، وكان هناك جدل بين علماء الشيعة وحتى عند علماء السنّة، وهو هل يشترط في (صلاة الجمعة) وجود دولة إسلامية بحيث يعيّن الخليفة أو الإمام إمام الجمعة أو لا يشترط ذلك.
فعلى رأي البعض أنّها مشروطة، لأنّ الشرط هو وجود الإمام المعصوم أو نائبه الخاص، وهذا ليس موجوداً الآن بحسب الواقع الظاهري، وقد اختلفوا بين من يقول بالوجوب التعييني، وهو أقرب إلى الحق، وبين من يقول بالوجوب التخييري، والرأي الغالب في العصور المتأخرة أنّ الإنسان مخيّر بين صلاة الجمعة وبين صلاة الظهر، فهي واجب تخيّري.
وبعض الذين يقولون بالوجوب التخييري يرون أنّها إذا أقيمت وجب الحضور، وهذا هو رأي السيد الخوئي، حيث كان يقول بالأحوط به وجوباً. فشرط الجمعة أن يجتمع سبعة أحدهم الإمام، ويكون هناك من يخطب فيهم. وأن يكون الإمام عادلاً في دينه.
وحتى لو افترضنا أنّه لا يجب الحضور، لكننا يجب أن نعرف ما هي قيمتها في الحسابات العبادية من حيث الثواب، فعن رسول الله(ص) أنّ إعرابياً جاء إليه، وقال: يا رسول الله حاولت أن أحجّ عدّة مرات ولكن لم أوفّق من ناحية ماديّة، وأريد أن أحصل على ثواب الحج، قال: ((عليك بصلاة الجمعة، فإنّها حجّ المساكين)). أي أنّ الإنسان الذي يصلّيها يثاب بثواب الحجّ إذا كان لا يستطيع الحجّ.
وهناك حديث آخر يقول: ((من صلّى الجمعة إيماناً واحتساباً قيل له استأنف العمل)). أي لا يوجد عليك شيء في السجل فابدأ العمل من جديد، أي يخرج من صلاة الجمعة كيوم ولدته أمّه.
ويوجد حديث ثالث، يقول: ((من ترك ثلاث جمع من غير عذر طبع الله على قلبه، أو ختم على قلبه، أو كان من أهل النار)). فعندما نقرأ هذه الأحاديث هل نتساءل عن وجوب الحضور أو عدم وجوبه؟!))[36])).
ومن الجدير ذكره، أنّ سماحته حينما سئل عن تقييمه لإقامة صلاة الجمعة في العراق من قبل السيد الشهيد الصدر الثاني (رض)، قال: ((أعتقد أنّ إقامة صلاة الجمعة المباركة في العراق كانت من أشد البركات ومن أعظمها، لأنّها استطاعت أن تجمع الناس على هذه الفريضة التي تركها الكثير من المسلمين، والتي هي الفريضة العبادية السياسية التي يريد اللّه أن يجتمع المسلمون من خلالها كلّ أسبوع ليلتقوا على اسم اللّه ويتدارسوا أمورهم ومشكلاتهم.
واعتقد أنّ السيد الشهيد الصدر الثاني (رحمه الله) استطاع أن يثير الوعي الإسلامي الأخلاقي في العراق بما لم يستطع أحد إنجازه بهذه الطريقة الجماهيرية، ولذلك فهو يتميز بهذه الروح التي كان عليها منذ شبابه، فلقد عرفته من أطهر الناس وأكثرهم إخلاصاً للّه تعالى. وإذا كان بعض الناس يناقشوه في بعض أفكاره أو بعض آرائه فإن من الطبيعي أن يُناقَش كلُّ العلماء ولكنّ ذلك لا ينتقص من فضله شيئاً.
ومنذ بداية صلاة الجمعة أصدرت بياناً وزّع في العراق في تأييد صلاة الجمعة، لأنّي أعتقد أن صلاة الجمعة لابدّ أن تقام لأنّ اللّه سبحانه وتعالى لم يهتم في القرآن بصلاة كما اهتم بصلاة الجمعة. وفي حديث للإمام الباقر(ع) ((من ترك ثلاث جمع من غير عذر فهو ممن طبع على قلبه)) والنبي(ص) يعتبر صلاة الجمعة حجّ المساكين، فغير القادر على الحج ويريد أن يحصل على ثوابه فليحضر صلاة الجمعة))[37])).
3. الجمعة تغني عن الظهر:
وسئل عما إذا كان يقول بوجوب صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة احتياطا، فقال:
((نحن نرى أنّ صلاة الجمعة تغني عن الظهر، ولذلك إذا صلّى الإنسان الجمعة بشروطها الشرعية، لا يجب عليه أن يأتي بصلاة الظهر، وإذا أحبّ أن يحتاط بالمطلق فلا مشكلة، لكنّه ليس وجوبياً))[38])).
4. حضور خطبة الجمعة:
وسئل عن وجوب حضور خطبة الجمعة، فقال:
((بعض العلماء لا يرون وجوبها، بمعنى أنّ الصلاة تصحّ بدون حضورها، ولكنّنا نرى إننا إذا قلنا بوجوب حضور صلاة الجمعة فيجب الاستماع إلى الخطبة))[39])).
وسئل أيضاً عن جواز حضور الجمعة رغم أن الإمام لا يثير موضوعاً سياسياً، أو ما يتعلّق بواقع الأمّة والتحديات التي تحدق بها، فقال:
((الأفضل في خطبة الجمعة أن يثير الإمام قضايا الأمّة، وذلك في الخطبة السياسية، أي الخطبة الثانية، ولكن على كلّ حال صلاة الجمعة واجبة، والأفضل أن يحضرها إذا أقيمت بشروطها حتى ولو كانت بهذا الشكل))[40])).
رابعاً: الزواج والطلاق... قضايا معاصرة
ورغم أنّ الأسئلة في هذا الباب كثيرة لا يسع هذه المقدمة حصرها، لكنني سأقف عند المسائل ذات الاهتمام المعاصر.
1. أنواع الزواج:
أ) الزواج العرفي:
فلقد سئل سماحته عن سبب تحريم الإمامية الزواج العرفي، فقال:
((الزواج العرفي هو الزواج غير المسجّل رسمياً، وهو ليس حراماً، لأنّ التسجيل الرسمي هو عملية توثيق للزواج، ونحن لم نحرم الزواج العرفي ولكننا ننصح النساء أن لا يلجئن إلى هذا الزواج لأنّ حقوقهنّ قد تضيع بذلك))[41])).
ب) الزواج المدني:
وسئل عن شرعية الزواج المدني وصحّته، فقال:
((في الزواج المدني لا يشترط الشروط الشرعية في الزواج، فيمكن للمسلمة أن تتزوج من غير المسلم، أو للمسلم أن يتزوّج من غير الكتابية بوذية كانت أو هندوسية، وهذا لا يجوز شرعاً، وحتى على رأي من يقول بجواز الزواج من الكافرة الكتابية فإن الحكم يختصّ بالكتابية، فلا يجوز الزواج من الملحدة المشركة أو البوذية أو الهندوسية.
أما اذا عقد الزواج مدنياً بأن يقول لها: هل تقبلين بفلان زوجاً؟ أو هل تقبل بفلانة زوجة؟ أو جعلتكما زوجين، فعلى رأينا يجوز ذلك، وكان المرحوم السيد محسن الحكيم يقول بجوازه. إلاّ أنّ بعض العلماء يتحفّظون في ذلك لأنّ عندهم شرطا معينا في صيغة الزواج ونحن لا نشترط ذلك بل كلّ ما يعبّر عن الزواج بشكل عام يجوز، ولكن نحن لا نقر الزواج المدني كقانون لأنّ هذا القانون يختلف بأحكامه عن قانون الإسلام، ومع استجماع الشروط فلا مانع من ذلك))[42])).
ج) زواج المسيار:
وسئل عن الموقف الشرعي من زواج المسيار الذي يطرح في بعض دول الخليج، فقال:
((زواج المسيار هو زواج شرعي باعتبار أنهما يتفقان معا على عقد الزواج، وغاية الأمر أنه يشترط عليها أن لا ينفق عليها، وأن يتخفّف من بعض شروط ومسؤوليات الحياة الزوجية و((المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً)).
فإذا اشترط الزوج على زوجته في عقد الزواج أن تسقط عنه حق النفقة فلا تجب عليه النفقة، أو أن تسقط حق الحضانة لأولادها فلا تجب، أو اشترطت أن تكون وكيلة عنه في طلاق نفسها، فتقدر حينئذ أن تطلّق نفسها.
فالزواج من هذه الناحية صحيح لكنّه غير موثّق عند الدولة، وعالم الإثبات شيء وعالم الشرعية شيء، وقد يقول البعض إنّه ليس فيه مصلحة، وإنّه قد يشتمل على بعض المشاكل، لكنّ الجانب الشرعي غير الجانب التطبيقي، فقد يكون التطبيق غير صحيح، ولذا ينبغي - مثلاً - أن نحيطه ببعض الضوابط والشروط مما يجعل منه زواجاً لا يسيء للرجل أو للمرأة)).
د) زواج المحكمة:
وسئل عن زواج المحكمة، فقال:
((زواج المحكمة زواج شرعي، وذلك أن يقال لها (زوجتك فلانا) أو (أزوّجك فلاناً) فتقول: قبلت، أو ما شاكل ذلك، فإذا أدّى زواج المحكمة إلى المعنى الذي تدلّ اللفظة على الزواج بحسب العرف العام فهو زواج صحيح))[43])).
ه) الزواج بالمكالمة والمراسلة والانترنيت:
وسئل سماحته عن جواز إجراء عقد النكاح بغير المواجهة، كما في المكالمة الهاتفية أو المراسلة أو غيرها، فقال:
((لا إشكال في إجراء عقد النكاح بواسطة الهاتف إذا كانا يعرفان بعضهما ويؤكّدان صفتيهما، فيمكن للزوجة أن تنشئ عقد الزواج، ويمكن للزواج أن يقبل ذلك، وليس هناك فرق بين إجراء عقد الزواج بطريقة الهاتف أو بإجرائه بشكل مباشر.
أمّا بالنسبة للكتابة كأن تكتب رسالة قاصدة إنشاء الزواج: (زوّجتك نفسي) فيجيبها برسالة أخرى (قبلت الزواج) فالمشهور بين العلماء أنّ إنشاء الزواج بطريقة الكتابة ليس صحيحاً، ولكنّنا نرى أنّه لا مانع من إجراء عقد النكاح بواسطة الكتابة، إذا كانا قاصدين بالكتابة الإنشاء، وكان العرف العام يتقبّل ذلك))[44])).
وعن الزواج عبر الانترنيت، يقول سماحته:
((من حيث المبدأ يجوز عقد الزواج بأيّة وسيلة ممكنة، ولكن على الإنسان أن يتزوّج المرأة التي يستطيع أن يتعرّف عليها معرفة تكفي لاتخاذها شريكة لحياته، وهي لابدّ لها أن تتعرّف عليه، ولا أدري هل أنّ المراسلة أو الانترنيت يكفيان لإحراز ذلك؟ فإذا استطاع كلٌّ منهما أن يتعرّف على شخصية الآخر ويثق بأنّه قادر على أن يعيش السعادة معه فلا بأس بذلك))[45])).
ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ سماحته يرى أن المراسلة بين الجنسين عبر الانترنيت:
((إذا كانت لغرض عملي أو ديني، وكانت بعيدة عن الأجواء المثيرة فلا حرمة عندئذ، ولكننا لا ننصح بذلك، لأنّها قد تؤدّي - بفعل العلاقة الحميمة - إلى مالا تحمد عقباه، وقد تخضع بعض النساء، للإغراءات في الزواج، أو في علاقات غير شرعية من خلال بعض أساليب التخاطب))[46])).
و) عقد التراضي:
وسئل سماحته عن عقد الزواج الذي لا إيجاب فيه ولا قبول، أي مجرد الرضا والاتفاق بدون التلفّظ بالألفاظ المعهودة، فقال:
((إنّ معنى العقد هو إيجاب وقبول، أمّا الرضا وحده فلا يكفي بل تقوم الحاجة إليه في التزام العقود، أي الالتزام العقديّ بين الناس على نحو يخلق حالة عقدية قانونية بحيث يشعر كلّ واحد منهما أنّه ملتزم بعقد، والعقد كلمة، والكلمة موقف، فلابدّ في العقد من أن تلتزم بالزوجية، وأن تلتزم المرأة بموجبه بالزوجية أيضاً، وأن تعبّر عن التزامك بما يُظهر هذا الالتزام بشكل واضح في العرف العام)).
وفي خصوص الزواج المؤقت يرى سماحته أنّ مجرد الإيجاب والقبول بين الزوجين لا يكشف عن صحّة العقد، وإنّما يجب أن تكون هناك إرادة قصد جدّي من كلا الطرفين، حيث يقول في معرض الإجابة عن سؤال بهذا الصدد:
((إنّ بعض الشباب ممن يعقدون العقد المنقطع مع الأوروبيات أو الأمريكيات لا يحقّقون القصد الجدّي في العقد، خاصّة من جهة المرأة التي تريد أن تحصل على المال وأن تقضي وطرها معه، فهي ربّما تردّد كلمات أو صيغة العقد وهي لا تفهمها وليست قاصدة له، أي أنّها كلمة تقولها دون إرادة جدّية، فهذا ليس عقداً وإنّما هو زنا. فالعقد هو أن يقصد الطرفان أنّهما زوجان، أي عندما تقول المرأة: زوجتك نفسي، فيجب أن تعتقد أنها دخلت في زواج مؤقت، كما لو قالت: زوجتك نفسي الزواج الدائم. فهذا زواج وهذا زواج، فإذا لم تقصد معنى الزوجية وإنّما تلفّظت بالكلمة من دون قصد إرضاء له، فهذا ليس عقداً، فالعقد ارتباط بين إراديين للزوجية، ولكنّ الكثير من العقود المؤقتة في الغرب ليست صحيحة))[47])).
ز) زواج (الشغار):
ويرى سماحته أن الزواج بالمبادلة كأن يتزوّج إنسان فتاة فيقول أخوها لطالب يدها: زوّجني أختك في المقابل ولا تدفع لنا شيئاً ولا ندفع لك شيئا، حرام، حيث يقول:
((زواج الشغار، وهو أن يجعل مهر أخته المرأة الأخرى، غير جائز، شرعاً، ذلك أنّ كلّ واحدة من الزوجتين مستقلة في نفسها وإرادتها، وليس لأخيها أن يتبرّع بمهرها أو يجعلها مهراً لامرأة أخرى، ولابدّ أن يدفع كلّ واحد من الزوجين مهر زوجته))[48])).
وأمّا عن الطلاق عبر الأجهزة المذكورة، فيقول سماحته:
((لا فرق بين طلاق الهاتف وطلاق الحضور، فالطلاق يحتاج أن ينطق الزوج بكلمة الطلاق، وأن تكون المرأة على طهر لم يواقعها فيه، وأن يكون هناك شاهدان عدلان، ولنفرض أنّه يحمل سماعة الهاتف من طرف، وهناك شهود عدول يمسكون سماعتين، فالطلاق صحيح مع توفر الشروط الطبيعية، فالمهم أن يتكلّم بصيغة الطلاق، وأن يسمع الشاهدان العادلان طلاقه سواء كانا يسمعان ذلك بشكل مباشر أو بالهاتف لا فرق))[49])).
ح) أذن الولي بزواج البكر:
وسئل عن فرض أن فتاة بكراً اختارت الكفوء للزواج ولم يرض وليّها، فما الحكم بناء على اشتراط زواجها بإذن وليها، فقال:
((أولاً: نحن لا نشترط إذن الولي إذا كانت المرأة بالغة رشيدة تعرف مصلحتها، نعم الاحتياط يقتضي ذلك.
وثانيا: فإنّ العلماء الذين يشترطون إذن الوليّ يقولون إذا عضلها الولي، بمعنى إذا منعها من الزواج بالكفوء، سقط إذنه، وهذا ينطبق على الصورة التي يفرضها السؤال))[50])).
خامسا: احترام ملكية الغير
سيأتي أنّ سماحته لم يجز لصق الإعلانات على واجهات الدور والمحلات لأنّها ملك لأصحابها ولا يجوز التصرّف بملك امرئ مسلم إلاّ بإذنه، وأنّ ذلك خط أحمر لم يسمح سماحته بتجاوزه في كلّ الملكيات الأخرى، كما أنّه لم يجز سرقة الدولة ولا سرقة الدول المضيفة بأيّ حال من الأحوال، وثمة مجالات أخرى أكّد فيها سماحته على احترام ملكية المال العام والخاص، ومنها:
1. تهريب الآثار:
فلقد طُرح على سماحته السؤال التالي: ((يقوم البعض بتهريب الآثار من بعض البلدان ذات الوجود الحضاري، فما حكم هذا العمل؟ وما حكم المال؟ خاصّة وأنّ هذه الآثار ملك للأمة والشعوب؟)) فقال:
((لا ينبغي للمؤمن القيام بذلك))[51])).
2. المتاجرة بالمسروقات:
وسئل سماحته: ((لي صديق يتاجر بالأشياء المسروقة، فما هو حكم الهدية المقدمة منه لي؟)) فقال:
((إذا عرفت أنّها من المسروقات فلا يجوز لك أن تقبلها))[52])).
3. نسخ أقراص الليزر:
وسئل أيضا:
((ما هو الحكم الشرعي في عملية نسخ أقراص الليزر المحفوظة بحقوق طبع وعملية بيعها بأسعار رمزية تساعد على سرعة انتشار مثل هذه الوسائل الثقافية بين شرائح متعددة من المجتمع غير القادر على شرائها من مؤسسة الإنتاج نفسها نظراً لارتفاع ضئيل في أسعارها؟))، فقال:
((لا نجوّز ذلك، فهو ملك شأنه شأن أي ملك عين، فصاحب البرنامج المسجّل على القرص الليزري يملك البرنامج، كما أنّ الكاتب يملك حق كتابه، فنحن نعتقد أن حقوق الطبع والنشر والاختراع والبرمجة محفوظة، فلا يجوز الاتجار بها دون أذن أصحابها. وإنّي لأسأل السائل: لو كنت أنت صاحب البرنامج فهل كنت ترضى أن يستنسخه غيرك بدون اذنك أو دفع حقوقك؟! ((عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به)). وهناك من العلماء من لا يرى حقوق الطبع أو النسخ محفوظة لأنّهم يرون أنّ مثل هذه الأموال لا تملك))[53])).
وسئل تبعاّ لذلك عن احترامه للملكية الفكرية في برامج الحاسوب الأصلية الغالية الثمن، وقيل إن البرامج التي يتداولها الناس برامج منسوخة وغير قانونية، ولو أردنا احترام الملكية الفكرية فلن يحصل إي تطوّر في مجال الحاسوب حيث أن ثمن بعض البرامج يساوي ثمن جهاز الكمبيوتر نفسه، فالرجاء إعادة النظر في هذا الموضوع، فقال سماحته:
((نحن لا نستطيع إعادة النظر في هذا الموضوع لأنّه حكم شرعي، فهذه المسألة تتصل بالماليات، حيث كان المال سابقا عبارة عن جهاز يملكه شخص، أمّا الآن فالحال هو نوع الجهاز.. فالمتاجرة بهذا البرنامج أو ذاك غير جائزة، بل إن عدم مراعاة ضوابط الاشتراك التي طرحتها أجهزة التواصل في مجال خدمات الانترنيت يعتبر تعدياً على الملكية الفكرية))[54])).
4. التصدّق بمال الآخرين:
وطرح أحدهم السؤال التالي على سماحته:
((ذهبت إلى مدينة الألعاب للنزهة فركبت بعض الألعاب دون أن ادفع المال وهم يعلمون ذلك، وعندما خرجت أردت أن أتصدّق بها على الفقير، فهل يجوز لي ذلك؟)) فقال له:
((لا يجوز لك أن تتصدّق بمال الآخرين، بل عليك أن تدفع لهم ما يستحقونه من أجرة استعمال الألعاب))[55])).
5. التصرّف بالأموال المشكوك فيها:
وسئل عن كيفية التصرّف بالأموال المشكوك فيها، فقال:
((إذا اشترينا بضاعة من شخص وهي في تصرّفه فنستطيع أن نقول إنها ملكه ف (اليد أمارة على الملكية)، إلا إذا علمنا أنّها ليست ملكه، فإذا كنت تعلم صاحبها فلابدّ من إرجاعها إليه، وإن كنت لا تعلم صاحبها، فالمال مجهول المالك، ويجب إرجاعه إلى الحاكم الشرعي ليرى رأيه فيه))[56])).
6. إذن الفحوى:
وسئل عن تناول الحلوى في الضيافة، هل يجوز أن يضع الضيف قسماً منها في جيبه، مع علمنا بكرم المضيّف، فقال:
((لو قدّم لك خمسة قطع حلوى فلا يجوز لك أن تأخذ عشرة أو عشرين، فربّما كان يريد أن تبقى الحلوى لضيافة الناس الآخرين، فلذا لا يحرز الرضا أحرازاً حقيقياً اللهم إلا إذا عرف المضيّف بذلك فرضي به، فعندها يجوز))[57])).
7. استعمال الأوقاف لغير ما وقفت:
وسئل أيضاً: ((هل يجوز استعمال الأوقاف خارج ما وقفت عليه، كأن تستعمل في سبيل الخير))، فقال:
((الوقوف على ما يقفها أهلها، فلا يمكن تجاوز الوقف عمّا وقف عليه حتى ولو في الخير))[58])).
8. التصرّف بالمغصوبات:
وسئل سماحته: ((حصل أحدهم على قسيمة سكنية من الدولة، واتضح أن هذه الأرض مغصوبة، علماً بأن الحكومة قد استردتها ووزعتها على المواطنين، فهل يجوز امتلاكها؟))، فقال:
((لابد من إرجاعها إلى مالكها الأصلي إذا كان معلوماً، أو إلى الحاكم الشرعي إذا كان المالك مجهولاً، ولكن إذا كان صاحبها قد قبض ثمنها من الدولة ورضي بذلك أو أعرض عنها بعد استيلاء الدولة عليها جاز تملكها))[59])).
وسئل عن جواز لعب كرة القدم في أرض يشاع أنها مغصوبة، وأنّها مجهولة المالك، فقال: ((لابدّ من العلم بكونها كذلك حتى يبني على حرمة التصرّف بها بما يكون عنواناً للغصب، ولابدّ إذا كانت مجهولة المالك من الرجوع إلى الحاكم الشرعي))[60])).
وسئل - في مرة سابقة - عن جواز تنمية عضلات الجسم بأدوات رياضية مغصوبة أو مسروقة إذا لم يكن الرياضي هو الغاصب، فقال:
((لا يجوز للإنسان أن يتصرّف في المال المغصوب أو المسروق سواء كان هو الغاصب أو كان الغاصب غيره، وبذلك فإنّني أخشى على هذا الإنسان الذي ينمّي عضلات جسمه فيطلب القوة بضعف إيمانه، ذلك إنّ تقوية عضلات جسمه بالآلة التي لا يرضاها الله قد يؤدّي به إلى ضعف عضلات روحه وإيمانه، الأمر الذي يوجب سخط ربّه)).
وسئل عمّا إذا كان جسمه نما بها لمدة طويلة، فقال:
((عليه أن يستغفر الله من ذلك ويطب السماح من صاحبها، أو يدفع له عوض استعماله لهذه الأدوات، وإذا لم يعرف صاحبها فعليه أن يقيّم أجرة استعمالها في تلك المدّة ويدفعها إلى الحاكم الشرعي إذا كان صاحبها مجهولاً ليتصدّق بها عنه))[61])).
سادساً: ثقافة الإنفاق:
يردّد سماحته دائماً أنّ الإنفاق في سبيل الله ليس له حدود معينة، فهو في كلّ شيء، وكلّ أمر يخدم الدين ومعتنقي هذا الدين. ويرى أنّ المحسنين مستعدون للإنفاق في سبيل الله على المساجد والحسينيات وأمثالها، وغير مستعدين - إلا ما رحم ربي - للبذل من أجل مشروع إعلامي إسلامي، كبناء فضائية إسلامية مثلاً.
ولذلك نراه دائم الدعوة إلى ترشيد ثقافة الإنفاق واعتبار بناء الفضائية ليس موازياً للمسجد، بل لعلّه يفوقه لكثرة ما هناك من مساجد. وبناء المدرسة في المهجر أهم من بناء المسجد لأنك يمكن أن تقيم صلاتك في المدرسة، الأمر الذي يدعونا إلى أفراد المساحة التالية للمحات من هذه الثقافة:
1. الخمس والزكاة لدعم المسلمين:
سئل سماحته أثناء اندلاع المعارك العرقية في البوسنة والهرسك:
((هل يجوز دفع الخمس والزكاة لتقوية المسلمين في البوسنة مثلاً؟))، فأجاب:
((يمكن أن ندفع الحقوق الشرعية في هذا المجال بنظر الحاكم الشرعي، ولم تعد المسألة مسألة البوسنيين فحسب، بل هناك الأفغان والعراقيون وغيرهم من المسلمين في بلدان أخرى))[62])).
2. دفع الحقوق للمبرّات الخيرية:
وسئل عن الترخيص بدفع الحقوق الشرعية لـ(جمعية المبرّات الخيرية) التي ترعى الأيتام وتضمّ عدداً من المبرات، مثل مبرّة الإمام الخوئي ومبرّة خديجة الكبرى(ع) والتي ترعى الأيتام والمعوقين في لبنان، فقال:
((باعتبار انها جمعية تكفل آلاف الأيتام والمعاقين لتربيهم وتفتح عيونهم على الحياة الكريمة وخط الاستقامة، فإنّ دفع الحقوق إليها - حسب معرفتي بها - هو من أفضل مصارف الحقوق))[63])).
3. سهم الإمام(ع) للتبليغ:
وسئل عمّا إذا كان يجوّز بتخصيص سهم الإمام للتبليغ والاحتفال بمناسبات ولادات الأئمة(ع) ولبناء مدارس أهل البيت(ع)، فقال:
((كلّ عمل فيه رفعة للإسلام، وفيه هداية للناس، وفيه تعظيم لشعائر الله، يجوز أن يصرف سهم الإمام فيه))[64])).
وسئل في السياق نفسه عن جماعة من اللاجئين أحيوا ذكرى الزهراء(ع) باحتفال كلّفهم مبلغاً من المال، وطلبوا إجازتهم في صرف جانب من الحقوق الشرعية لإحياء مناسبات المعصومين(ع)، فقال:
((إنّ إحياء مناسبات العظماء، لاسيما إذا كانت عظمتهم من خلال رسالتهم، ومن خلال قربهم لربّهم والتزامهم بالإسلام، وتحرّكهم في خطّ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولاسيّما سيدتنا فاطمة الزهراء(ع) سيدة نساء العالمين التي كانت النموذج الأكمل والأعلى في حياتها دفاعاً عن الحقّ ووقوفاً معه، وعبادة لله، وقمة في الصدق، والتحرك بمسؤولية في إغناء الواقع الإسلامي كلّه ثقافة وحركة وعبادة.
إنّ إحياء هذه المناسبات، عندما تتحرك في الأسلوب الأصيل والمنهج الذي يبيّن نواحي العظمة وبرنامج الرسالة في ذلك ليعيشوا معنا ونعيش معهم، لهو من أفضل وسائل الدعوة إلى الله، وأفضل موارد صرف الحقوق ما كان في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى))[65])).
4. الخمس لنشر الفكر الإسلامي:
وسئل عن جواز إعطاء مال الخمس (سهم الإمام) لنشر الفكر الإسلامي بشراء كتب إسلامية وتوزيعها، وهل يجوز صرفه لمشاريع العمل الإسلامي؟، فقال سماحته:
((يجوز ذلك، ونحن نجيزه شريطة اختيار الكتب الإسلامية النافعة والصحيحة، ولابدّ من مراجعة الحاكم الشرعي في ذلك))[66])).
5. دعم العراقيين الواقعين تحت الحصار:
هذا وقد رخّص سماحته بدفع الحقوق (الخمس) بمقدار النصف للفقراء المستحقين من أبناء الشعب العراقي نتيجة للظروف الخاصة الضاغطة التي يمرّون بها جرّاء الحصار الداخلي والخارجي الذي يعانون منه.
فلقد سئل: ((سمعنا إنكم أجزتم للعراقيين إرسال الخمس إلى الفقراء والمحتاجين في العراق، فهل يدخل ضمنهم الأهل والأقارب؟))، فقال:
((يدخل في ذلك الأقارب، ما عدا الأب والأم والأولاد لأنّ هؤلاء واجبو النفقة، ولذلك فالأحوط أن لا يعطوا من الخمس بل يدفع لآخرين كالأخوة بشرط أن يكونوا متدينين وان يكونوا فقراء، فسهم الإمام للفقراء من غير السادة، وسهم السادة للسادة الفقراء، ولكن ذلك بمقدار النصف على أن يرجع النصف الآخر إلينا))[67])).
وسئل أيضاً عن حكم الأهل الذين هم خارج العراق، فقال:
((إذا كان الأهل خارج العراق وكانت أمورهم جيدة فلا تنطبق عليهم الحقوق الشرعية، أمّا إذا كانوا فقراء محتاجين خصوصاً إذا شرّدوا وأوذوا وأخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلاّ أن يقولوا ربّنا الله، فحال العراقيين خارج العراق ممن وصفناهم، هو مثل حال العراقيين داخل العراق))[68])).
وسئل عن حكم أموال النفط العراقي التي يذهب بعضها إلى (المفوضية العليا لشؤون اللاجئين) وتقدّمه بشكل رواتب للاجئيين العراقيين، هل هي أموال عامّة متوقفة على الإذن الشرعي، أو أنّها مغصوبة، فقال:
((الشعب العراقي أحقّ بها، وهي ليست من أملاك الحاكم الظالم، وعلى فرض احتياجها للإذن فنحن نأذن باستلامها))[69])).
سابعاً: حفظ النظام العام:
حرص سماحة السيد أيّما حرص على تقديم الشريعة الإسلامية بوجهها الأخلاقي الناصع المشرق سواء في بلاد المسلمين أو البلاد التي يهاجرون إليها، مما يحتاج إلى أفراد بحث مستقل يتناول هذا الجانب من فقاهة سماحته، ويمكن الوقوف على بعض ملامح دعوته للحفاظ على النظام العام، من خلال:
1. عدم جواز سرقة الدولة:
لقد اعتبر سماحته الدولة معلوم المالك حينما أجاب عن أسئلة كثيرة بهذا الشأن، حيث يقول:
((بعض العلماء يرى أنّ الدولة لا تملك، أي أنّ الجهة لا تملك، فلا الحزب يملك ولا الجمعية تملك ولا الدولة تملك، فهم يعتبرون الملك للشخص فقط، وباعتبار أنّ الدولة ليست شخصاً في رأي هؤلاء فهي مجهولة المالك.
وبعضهم يقول بأنّ الدولة تملك بشرط الإمضاء، أي أن تكون الدولة شرعية.
ونحن نقول بأن الدولة تملك وهي موجود اعتباري واقعي، وغاية ما هناك أنّ الدولة قد تمتلك مما تغصب به الناس، فهي لا تملك المال الذي يكون غصبا، أمّا المال الذي تأخذه من دول أخرى، أو المال الذي تستنتجه جرّاء الدخول في معاملات معينة فهي تملكه، ولذلك نعتبر الدولة معلوم المالك وليست مجهول المالك))[70])).
وسئل سماحته سائل ذات مرّة: ((أعمل في دائرة حكومية، لكنّ الحكومة ليست إسلامية والبلد إسلامي، فهل يجوز لي أخذ بعض الحاجيات أو المال من خلال عملي، وبدون علم المشرف على موقع عملي؟)) فقال:
((لا يجوز ذلك جملة وتفصيلا))[71])).
وسئل عن سرقة الكهرباء والماء، ((هل يجوز لنا التلاعب بعدّاد الكهرباء أو الماء من أجل تخفيض أجور الفاتورة؟))، فأجاب: ((لا يجوز ذلك))[72])).
وقال في إجابة عن سؤال مماثل:
((لا يجوز سرقة المياه والكهرباء سواء كانت حكومية أو أهلية، لأنّها قضايا تتصل بالنظام العام وبالصالح العام))[73])).
ثم سئل عن مؤجّر يسرق الكهرباء، فما حكم صلاة المستأجر وغسله، فقال:
((لا يجوز له أن يفتح زرّ الكهرباء، أمّا بالنسبة لصلاته وغسله فصحيحان، فلو أنّ الماء أصبح حارّاً بواسطة الكهرباء وتوضّأ فيه أو اغتسل فلا إشكال، ولكنّه مأثوم بسرقة الكهرباء ولا يقع الإثم على المؤجر وحده الذي ربط الكهرباء بالخط العام بدون صفة شرعية، بل عليه أيضاً لأنّه استعمله))[74])).
وسئل سماحته عن سرقة الهاتف:
((توجد محلات للاتصالات الهاتفية العامّة وهي رخيصة، وهي إمّا مسروقة أو لشخص يحاول أن يجمع بعض الأموال ثم يهرب، هل يجوز الاتصال منها؟))، فأجاب:
((لا يجوز سرقة الدولة ولا سرقة الناس، لأنّ كلّ أموال الدولة هي أموال الشعب، وإذا سرقت هذه الأموال فإنها ستكلّف الناس مرة أخرى من خلال الضرائب وغير ذلك))[75])).
2. عدم جواز سرقة غير المسلمين:
وكما أن سماحته يحرّم سرقة المسلمين، فكذلك يحرّم سرقة غير المسلمين، فلقد سُئل:
((هل باستطاعة المقيم في دولة أوروبية أن يتعامل مع الذين يسرقون من المحلات الأوروبية، ومن غير محلات المسلمين؟)) فقال:
((يحرم سرقة غير المسلمين كما يحرم سرقة المسلمين )لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ( [76]))، والله تعالى يقول )وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا( [77])) فليس لديهم توازن في الأمانة )ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ( [78])) فكانوا يعتقدون بأنّ كل يهودي يمكن قتله وسرقته في حين أن الله لا يريد لنا أن نتعدّى على أموال غيرنا، لذلك لا يجوز الشراء من المحلات التي تتعامل بالسرقة من الآخرين))[79])).
3. عدم جواز مخالفة القوانين:
سئل سماحته عن مدى الالتزام بالتعليمات الإدارية من الناحية الشرعية كعدم التدخين، وعدم رمي أعقاب السجائر، وعدم إحداث ضجّة، ونحو ذلك، فقال:
((لا يجوز مخالفة التعليمات المكتوبة في الدوائر والسيارات العمومية والطائرات أو المحلات العامة أو الخاصة، بترك التدخين أو بعدم رمي أعقاب السجائر، لأن جواز ذلك منوط برضا أصحابها أو القائمين عليها أو ولاة الأمر عليها، فإذا لم يوافقوا على ذلك كان التصرف حراماً))[80])).
وسئل عن احترام قانون السير وما إذا كانت فتواه تشمل تجاوز السرعة المحدّدة، فقال:
((لا يجوز مخالفة قوانين السير، وهذا هو رأي الكثير من العلماء ومنهم السيد الخوئي (رحمه الله) باعتبار أنّ الحفاظ على نظام المجتمع ضرورة، فإذا تجاوزه الناس أدّى إلى إزهاق النفوس والأموال، وهذا مما لا يجوز في بلداننا وفي خارجها، إلاّ إذا كانت هناك ضرورة فوق العادة واستطاع الإنسان أن يؤمن سيره من الحوادث الطارئة))[81])).
وسئل عن التزام مقلديه من طالبي اللجوء في الغرب بقانون الدول المضيفة ومنه قانون الأحوال الشخصية فأجاب:
((الالتزام بالقانون فيما لم يحرّم اللّه فلا يسيئون إلى أمن البلد الذي يقيمون فيه، ولا إلى أموال الناس ولا إلى إعراضهم ولا إلى قانون السير ولا أن يقترضوا فلا يوفون ولا أن يحرقوا محلاتهم ليتقاضوا عوضاً من شركات التأمين، وباختصار أن لا يسيئوا للنظام العام.
أمّا الزواج والطلاق والميراث فعلى كلّ إنسان أن يعمل بحسب تكليفه الشرعي))[82])).
وسئل عن ظاهرة تفشت في بعض البلدان الأوروبية في ذهاب الزوجين المسلمين إلى بلدية المدينة ليعلنا الطلاق بينهما ويسجّلا أنّهما منفصلان بغية الحصول على معونة مالية أكبر، ثم يعودان ليعيشا في بيت واحد كأيّ زوجين وكأنّ الطلاق لم يحصل بينهما، فأجاب سماحته:
((هذا الفعل حرام بحدّ ذاته باعتبار أنّه يشتمل على كذب وعلى هتك لحرمة المؤمنين، ذلك أنّ الناس عندما يرون أنّهما مسلمان وأنّهما مطلقان ولكنّهما يعيشان في بيت واحد، كما يعيش أي إنسان مع إنسان آخر بطريقة غير شرعية، فذلك سوف يؤدّي إلى هتك حرمتهما وهتك حرمة الإسلام، ولذلك فبعنوان ثانٍ أيضاً يعد ذلك حراماً))[83])).
وعن الذين يحصلون على مساعدات من الدولة وهم يعملون بالخفية حتى لا تقطع عنهم المساعدة، يقول سماحته:
((على المؤمن المسلم أن يكون أميناً على التزامه، وحيث أنّه أعطى التزامه للحكومة فإنّه يأخذ منها مادام عاطلاً عن العمل، يقول تعالى )أَوْفُوا بِالْعُقُودِ( [84])) وقال النبي(ص): ((المؤمنون عند شروطهم)) وجاء عن الإمام
الصادق(ع): ((كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الصدق والخير والورع فإنّ ذلك داعية)). حتى مع الحكومات الضالّة، إلا إذا كان في ذلك دفع ضرر.
وأمّا في الحالات العادية فعلينا أن نبيّن للناس بأنّ الإسلام يحمي الإنسان من نفسه ومن غيره )لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( [85])) فما بالك بالذين احتضنوكم وهيئوا لكم المسكن والمأمن، كيف لا تبرّوهم؟))[86])).
4. التهذيب الاجتماعي:
يحرّم سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله – دام ظلّه – أي إضرار بالمسلمين حتى ولو كان على نحو الإزعاج والتبرّم، ويمكن التقاط ذلك من العناوين التالية:
أ) حرمة التدخين:
يوماً بعد آخر يثبت الطب أنّ خطورة التدخين على حياة المدخن نفسه وعلى المحيطين به شديدة، ولذلك حارب سماحته هذه الآفة محاربة شديدة، كما حارب أخواتها من الآفات التي تهدد الشبان والمسلمين رجالاً ونساء، فلقد سئل مراراً عن حرمة التدخين التي يقول بها، هل هي مطلقة أم خاصّة بالمبتدئين؟ فقال:
((حرمته – في رأينا – مطلقة للمبتدئين ولغيرهم، لأنّه مضرٌ بالجسد بإجماع الأطباء، وكلّ ما يضرّ الجسد فهو حرام))[87])).
وسئل عما إذا كان التبعيض يشمل فتواه بحرمة التدخين، فقال:
((أنا أجوّز التبعيض، أي الرجوع إلى غيري في بعض المسائل إذا كانت هناك حاجة ملحّة لا من خلال هوى النفس فقط. وأنا انصح المدخنين على أن يلتزموا بعدم التدخين حفاظاً على صحتهم وإشفاقاً عليهم، لأنّ التدخين هو الصديق الذي يقتل صاحبه، والعالم اليوم كله يتجه إلى تحريم التدخين ومنعه قانونياً سواء في الطائرات أو في الأماكن العامة، ذلك لأنّ الأطباء أجمعوا على أنّ التدخين مسؤول عن تهيئة الجسم لسرطان الرئة والفم وما إلى ذلك. فالإنسان عندما يريد أن يحكّم مزاجه بما يمكن أن يقتل حياته، فأي عاقل هو؟ إنّ مثل المدخن مثل الذي يفتح فمه ليعبّ دخان المدخنة.
ثم إني أسألكم: هل في التدخين أية فوائد أو فيتامينات؟ إن المبرر الوحيد لذلك هو العادة، ولابدّ للإنسان أن لا تحكمه العادة بحيث يكون أسير عادته، وإنّما شرع اللّه الصيام من أجل أن يحرّر الإنسان من الخضوع لعبودية العادة))[88])).
وسئل عما إذا كانت الحرمة تسري إلى من يجالس المدخنين، فقال:
((إذا كان الضرر معتدّاً به، أي يؤدّي إلى ما يؤدّي إليه التدخين ولو بنسبة أقلّ من السرطان فلا يجوز، ولذلك نقول إن المدخن يرتكب جريمتين: جريمة بحقّ نفسه، وجريمة في حقّ الناس الذين يجلسون إلى جانبه خصوصاً الأطفال لأنّ مناعتهم أضعف، وكذلك المرأة الحامل، سواء تدخينها هي شخصياً أو هناك من يدخّن إلى جوارها))[89])).
وسئل مرة عن التدخين في مكان يمنع فيه التدخين، أو مكان لا يوجد فيه أحد، فقال:
((في رأينا لا يجوز للإنسان أن يدخّن حتى لو كان في الصحراء وحده، لأنّ التدخين حرام – كما أكّدنا مراراً – ذلك أن ضرره أكبر من نفعه كما هو الخمر والميسر، وكلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، كما لا يجوز للمدخن – على القول بحلّية التدخين – أن يدخّن في مكان مكتوب فيه ممنوع التدخين أو بين جماعة لا يدخنون وينزعجون من التدخين، لأنّ فيه إضراراً بالمؤمن، وهو غير جائز))[90])).
وسئل عن زراعة التبغ بجميع أنواعه والمتاجرة به، فقال: ((على فتوانا لا يجوز ذلك))[91])).
وسئل عن تدخين (الأركيلة) فقال:
((الأركيلة أخطر من السيجارة، لأنّ الأطباء – وهم أهل الخبرة في هذا المجال – يقولون بأنّ كلّ نفس أركيلة يساوي علبة دخان ذات عشرين سيجارة، على رأي بعضهم، وخمسة علب – أي مائة سيجارة – على رأي آخرين))[92])).
وسئل عما إذا كان تدخين السيجارة أو الأركيلة للتسلية خاصة عندما يقدمان للضيافة، فقال:
((هل يجوز لك أن تشرب الخمر للتسلية أو تتقبلها كضيافة، أو تلعب قماراً بعوض للتسلية؟!
إنّ الحرام حرامٌ سواء كان للتسلية أو لغير التسلية، ولا مجاملة في الحرام إطلاقاً))[93])).
ب) المفرقعات النارية:
شاعت في بعض بلداننا عادة استخدام المفرقعات في الأعياد، وقد حذّرت بعض الحكومات من استعمالها لما قد تسببه من مخاطر على الأطفال، وقد سئل سماحته عن ذلك، فقال:
((لقد حرّمت ذلك بالعنوان الثانوي، فالمفرقعات خاصة الجديدة منها توجب الرعب للأطفال، وإزعاجاً للمنطقة السكنية كلّها، فهي مظهر من مظاهر التخلّف والتربية السيئة، وهي مضرّة بالجو العام، فهي محرّمة بالعنوان الثانوي بلحاظ النتائج السلبية المترتبة عليها، ولذا فأنا أحرّم الاتجار بها وإعطاء المال للأطفال لشرائها واستعمالها))[94])).
وقيل له: ((عندما ينزل الثلج فإنّ الكثير من الشباب يرمون المارّة به من على السطح، وبعض المارّة يقبلون ويبتسمون والبعض لا يقبلون، فهل هناك حرمة على هؤلاء الشباب، علماً أنّهم يفعلون ذلك بدافع المزح والدعابة؟)) فقال:
((هو حرام في ذاته حتى لو قبله الآخر، وهو بهذه الطريقة مظهر تخلّف، نعم قد يذهب البعض إلى محلّ الثلج ليلعبوا هناك فيضرب أحدهم الآخر مزحاً ودعابة فلا إشكال، أمّا أن يصعد للسطح ويرمي به المارّة فهذا قطعاً حرام، وهو مظهر تخلّف حضاري لا نريد للمؤمنين أن يأخذوا به))[95])).
ج) إطلاق مزامير السيارات:
وسئل أيضاً: ((هل إطلاق مزامير السيارات، أو استخدام مكبرات الصوت بصوتٍ عالٍ – بسبب أو بغير سبب – جائز؟)) فقال سماحته:
((لا يجوز القيام بالأعمال التي تسيء إلى الناس وتؤدِّي إلى إزعاجهم في راحتهم ونومهم وأوضاعهم التي تتطلب الهدوء، من دون فرقٍ بين إطلاق المزامير بنحو مزعج من غير ضرورة، أو استعمال مكبَّرات الصوت، حتى في الحفلات الدينية والاجتماعية، أو رفع صوت المذياع أو التلفزيون أو آلة التسجيل، بما يؤدي إلى إيذاء الجيران وإقلاق راحتهم. حتى أن من اللازم الاكتفاء في آذان الفجر – بواسطة المكبر – بالمقدار الضروري الذي يحقق المصلحة الإسلامية العليا، لأنه لا يجوز الإضرار بالناس وبالوضع العام، فقد جاء عن النبي(ص): ((لا ضرر ولا ضرار))، وقد تحدث القرآن الكريم عن غضِّ الصوت كقيمة إيجابية من حيث هو الأسلوب الإسلامي في طريقة أداء الكلام، وعن رفعه بطريقة مزعجة كقيمة سلبية، من حيث منافاته للأخلاق الإسلامية، وذلك هو قوله تعالى )وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ( [96])).
ولعل في هذا التشبيه بعض الإيحاء بأن الذين يرفعون أصواتهم عالياً يتمتعون بذوق حماري، ما ينفر منه الإنسان بشكل طبيعي، لأنه لا يحب تشبيهه بالحمار الذي يمثل البلادة الذهنية في العرف العام))[97])).
ه) مراقبة الكاميرا الخفية:
وسئل ذات مرّة: ((انتشرت الكاميرات الخفيّة في صالات الأفراح، فهل يجوز للمحجبات الذهاب إلى هذه الصالات مع عدم العلم بوجود الكاميرات؟)) فقال:
((إذا لم يكنّ عالمات فهنّ معذورات في ذلك، إلاّ إذا كانت لديهن فكرة في هذا الموضوع من أنّ الآخرين يستغلون ذلك لأغراض غير شرعية أو لابتزازهن بطريقة وبأخرى فعليهنّ أن يحفظن أنفسهن من ذلك، وننصح المؤمنات بالحذر من التردّد على المسابح النسائية الخاصّة أو صالات الأفراح، وبالتأكّد من القائمين عليها في عدم وجود كاميرات خفيّة، أو عيون سحرية، أو متلصصين على النساء، لأنّ ذلك قد يوقعهنّ في حالات التهديد والابتزاز من قبل الأشرار لإخضاعهنّ لما يريدونه منهنّ مما لا يتناسب مع العفّة والموقع الاجتماعي))[98])).
وسئل في نفس السياق: ((بعض رؤساء العمل يقومون بمراقبة العمّال من خلال الكاميرا الخفيّة، فهل تجوز مثل هذه المراقبة، سواء كان بعلم العمّال أو بعدم علمهم، وهل هي من التجسس؟))، فقال:
((الحكم يختلف، فتارة يتجسّسون ويراقبون العمّال ليعرفوا طبيعة أداء عملهم حتى ينتبهوا إلى الأخطاء من خلال الإشراف عليهم في إخلاصهم بالعمل، فهذا من حقهم ولا مشكلة في ذلك. أمّا إذا كان التجسّس على أشياء لا ترتبط بالعمل، بل بخصوصياتهم الشخصية التي لا علاقة لها بالعمل فلا يجوز، حيث يصبح ذلك من باب التجسّس المحرّم))[99])).
و) لصق الإعلانات على الجدران:
سئل سماحته: ((هل يجوز لصق الإعلانات على جدران المنازل بدون إذن أصحابها؟)) فقال:
((لا يجوز ذلك، ولا يجوز كتابة الشعارات أيضاً على جدران المنازل إذا لم يعلم أذن أصحابها، أو علم أنّ أصحابها لا يقبلون، لأنّه لا فرق في ملكية هذا الجدار بين الداخل وبين الخارج، فلا يحلّ مال امرء مسلم إلاّ عن طيب نفسه، ولكنّ الناس اعتادوا على الحرام باسم الثورة أو باسم أي شيء من هذه الأشياء، وهذا أمر غير حضاري، فقد يكون صاحب البناية قد صبغها بشكل جيد، وجعل لها واجهة ممتازة، فتأتي أنت لتتجاوز كلّ ذلك لتكتب عليها (يسقط) أو (يعيش) أو (الموت لفلان) وما إلى ذلك.
فإذا أردتم أن تكونوا حضاريين فيجب أن تكون هناك لوحة في هذا الشارع، ولوحة في ذاك الشارع لإلصاق الإعلانات، والذي يلصق على جدران الآخرين أوراقه وصوره يكتسب إثماً لأنّه تصرّف في مال امرء مسلم بغير أذنه، وقد صرّحنا بذلك في بعض الصحف قبل ما يقارب الستة عشر سنة أيام الحرب اللبنانية))[100])).
وحينما طرح عليه سؤال آخر في أن ما وصفه سماحته بالأسلوب المتخلّف تتخذه بعض الدول وسيلة لإبراز مظلوميتها وحقوقها المشروعة، قال:
((يمكن تعليق الشعارات في لوحة على الجدران لأنّ ظاهر البيت كباطنه.. نعم، عندما تصل القضية إلى حدّ الضرورة – كما في القضايا السياسية الكبرى – أو إذا عرفنا بتعاطف أهل البيوت معنا، فلا مانع من ذلك))[101])).
ز) الغش في الامتحانات:
وسئل سماحته عن حكم الغش في الامتحانات المدرسية، فقال:
((يحرم الغش في الامتحانات وغيرها، وهذه هي فتوى السيد الخوئي (رحمه الله) ونحن نرى ذلك، لأنّه لو أبحنا لكلّ الطلاب أن يغشّوا في الامتحانات المدرسية، وابحنا للمراقبين أن يغضوا الطرف عن الغش، فسوف ينجح الطالب بدون كفاءة، وسيتصرّف في أمور المسلمين طبيباً أو مهندساً، أو في مهنة أخرى، بلا كفاءة أو جدارة، وفي ذلك مضرّة للإسلام وللمسلمين، ولذا فإنّ هذه القضايا مما يتصل بالجانب النوعي، والنظام التربوي العام الذي لا يجوز التعدّي عليه))[102])).
ح) تلويث البيئة:
وحرّم سماحته أي شكل من أشكال تلويث البيئة لأنّها ملك الجميع وعلى الجميع احترامها والمحافظة عليها نظيفة سليمة، فلقد سئل ذات مرّة أن ((هناك ظاهرة غير صحيّة، وهي أنّك ترى الناس يكثرون من البصاق في الشارع، وهناك من يرمي القمامة على الأرض، مما يؤدي إلى تفسخّها وانتشار الأمراض، فنرجو أن تبيّنوا الموقف من ذلك من الناحية الشرعية؟)) فقال:
((علينا أن نحافظ على نظافة شوارعنا كما نحافظ على نظافة بيوتنا، لاسيما إذا كان ما نلقيه في الشارع من البصاق أو المخاط أو القمامة يمكن أن يؤدّي إلى انتشار الأمراض من خلال الميكروبات. لذلك نقول إنّ علينا أن نحافظ على البيئة وعلى النظافة في الشارع كما نحافظ على ذلك في بيوتنا من موقع شرعي وأخلاقي واجتماعي فانّ كلّ ما يضر الناس مما يترك تأثيره السلبي على البيئة العامة محرّم شرعاً))[103])).
ط) أواني ضيافة الطائرات:
وسئل عن إمكانية اخذ الأواني البلاستيكية التي يوزّعها المضيفون في الطائرات لتناول الطعام، فقال:
((إذا كانوا يشترطون إرجاعها فلا يجوز ذلك))[104])).
ي) إثم المجتمع:
وقد طرح سماحته عنوان (الإثم الجماعي) في سكوت الأمة عن المنكرات التي تسيء للنظام العام أو اختراق المجتمع للشريعة الإسلامية، فعلى سبيل المثال لو أن المجتمع – كما افترض أحد الأسئلة الموجهة إليه – أجبر شخصاً على تغيير طباعه وعاداته والتزاماته الإيمانية، فقال:
((نعم، يأثم المجتمع بمقدار التزامه بالخطّ المنحرف، أو بمقدار ضغطه على الناس ليسيروا في الخط المنحرف، ومن شارك في هذا الضغط، وفي هذا الالتزام لا يكون معذوراً بل مأثوماً، كما لو أنّ المجتمع – بصفة عامّة – يحلف بالله كذباً، فعلى الإنسان أن لا يخضع للمجتمع في ذلك، فنحن نرى أن مجرد سير الوضع العام في المجتمع – على هذا المنوال – لا يمثل حالة ضغط أو إكراه))[105])).
ك) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وسئل سماحته في العمل بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشارع الإسلامي، فقال:
((للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط، فإذا تحققت هذه الشروط فلابدّ من القيام بهاتين الفريضتين اللتين هما من أعظم الفرائض وأجلّها))[106])).
وسئل عن طلبه من الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، إلا يعدّ ذلك من العمل بغير علم، فأجاب:
((ليس في كلّ شيء، فالإنسان المسلم يعرف أنّ الصلاة واجبة فيأمر بها، ويعرف أن الخمر حرام فينهي عن شربها، فعلى الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر فيما يعرفونه لا فيما يجهلونه))[107])).
وسئل سماحته عما إذا كان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زماننا هذا عينيّاً، نظراً لتكالب وسائل الكفر في إضلال مجتمعنا الإسلامي مما يدعونا إلى تعبئة جميع المسلمين للنهوض من أجل هذا الواجب، فقال:
((في هذه الأيام برز الشرك كلّه إلى الإيمان كلّه، وبرز الاستكبار كلّه إلى الاستضعاف كلّه، ولذلك نعتقد لو أنّ المسلمين بأجمعهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر لما كان ذلك كافياً، ولو أنّ المسلمين بأجمعهم دعوا إلى الله لما كان ذلك كافياً، لأنّ التحديات الآن أكبر من طاقة المسلمين.
لذلك اعتقد أنّ الراحة – في هذه الأيام – لا تجوز، فليس لأي إنسان أن يرتاح راحة استرخاء، وعلينا أن نكون جميعاً دعاة إلى الله بكلّ ما نملك من أساليب ووسائل وطاقات. وعلينا جميعاً أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لكن قبل ذلك وبعده لابدّ لنا أن نعرف أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأساليب الدعوة إلى الله )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( [108])) و)وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( [109])) و)وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( [110])))).
ثامناً: من فقه القضاء
1. ممارسة القضاء:
سئل سماحته من قبل شاب جامعي يرغب بالدخول إلى معهد القضاء لكي يصبح قاضياً في ملاك القضاء المدني، فأجابه:
((القضاء حرام إذا لم يكن بما أنزل الله، وهو عندئذ بمثابة من لا يعطي الحقّ إلى أصحابه بنحو يكون قضاؤه مساعِداً للظالم في ظلمه، أما إذا كان القاضي دقيقاً في أحكامه بنحو يكون في منصبه غير مضيِّع لحقوق الناس أو حقوق الله، وكان مراقباً لله في كل ما يصدر من أحكام، وبنحوٍ لا يستند إلى رأيه في قبال ما شرع الله، فإنه لا يكون حراماً عندئذٍ. وربما تمسّ الحاجة إلى مثل هذه الوظائف للمصلحة الإسلامية العليا بلحاظ العنوان الثانوي، مما يرجع فيه إلى أهل الخبرة الذين يدرسون طبيعة الظروف والأوضاع في موارد الحاجات الملحّة العامة))[111])).
2. عمل المحامي في مجتمع إسلامي:
وسئل عن شرعية عمل المحامي في ظلّ القوانين الوضعية في المجتمع الإسلامي، فقال:
((إذا كان المحامي يدقّق في القضايا التي يكلّف بها في موافقتها للشريعة الإسلامية فيجوز له أن يدافع عنها، أمّا إذا كانت غير موافقة للشرع الإسلامي بحيث يقول الشرع إنّ فلاناً مدان وهو يريد تبرئته، ففي هذه الحال لا يجوز ذلك))[112])).
3. التلاعب بالقانون:
وسئل ما إذا كان يجوز للمحامي أن يستلم دعوى تظهر له من خلال الأدلّة أنّ موكله على باطل ولكنّه يستطيع بالقانون أن يخرجه من هذه الورطة، فقال:
((لا يجوز له ذلك إذا كان هذا الإنسان مجرماً، وأمّا إذا كان بريئاً فلا يجوز له أن يجرّمه، إذ لابدّ للمحامي أن يدافع بالحقّ عن الحقّ))[113])).
4. اللجوء إلى القضاء غير الإسلامي:
وسئل عن جواز اللجوء إلى القضاء غير الإسلامي، كما في الدول الأوروبية للحكم بين مسلمين رغم وجود علماء دين هناك، فقال:
((لا يجوز الرجوع إلى حكّام الجور إذا كان بإمكان الإنسان أن يحصل على حقّه من خلال حكّام العدل))[114])).
تاسعاً: من فقه السياسة:
1. المراد بالفقه السياسي:
سئل سماحته عن المقصود بالفقه السياسي، فقال:
((الفقه السياسي هو الذي يعالج القاعدة السياسية، وهي قضية الحكم في شريعته وفي طبيعته وفي شكله وفي قاعدته وكلّ ما يتعلّق بحركة المنهج السياسي إنّ في إدارة الحكم، أو في حركة الصراع السياسي وصولاً إلى الأهداف الكبرى))[115])).
2. الكتابيون في هذا العصر:
وسئل سماحته عن حكم الكتابيين في هذا العصر، فقال:
((حكمهم ما قاله الله تعالى )لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( [116])) أي أن نحسن إليهم، ونتعامل معهم بالعدل، فلا نأخذ حقوقهم ولا نظلمهم في شيء في ذلك))[117])).
وسئل أيضاً: هل الإنسان الأوروبي كافر حربيّ، فقال:
((يمكن اعتبارهم كفّاراً ولكن ليسوا حربيين.. أما الفتاوى التي تكفّر هؤلاء وتعتبر أموالهم ودمائهم حلالاً فهذا ليس من القرآن ولا من السنّة في شيء، فهناك من يصدر الفتاوى ليجعل المهاجرين حرامية شرعيين)).
3. التعايش مع أهل الكتاب:
وسئل عن التعايش مع أهل الكتاب تحت إطار التعددية الحزبية والطائفية، فقال:
((يقول اللّه سبحانه وتعالى }قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ( ([118]). فالقرآن لم يحرّم علينا التعايش معهم))[119])).
4. مسايرة الاستكبار:
وسئل عن المتصدين في مواقع المسؤولية من المسلمين الذين يتماشون مع الاستكبار العالمي والصهيونية، فقال:
((لا بدّ لكلّ مسلم أن يتبع من يقوده إلى الحقّ وإلى الله وإلى سبيل رسول الله(ص) أما من لا يتبعون ذلك فلا يجوز لأي إنسان أن يتبعهم فيما هم سائرون فيه))[120])).
5. استعانة المسلمين بالمشركين:
وسئل عن مدى ما يحق للمسلمين الاستعانة بالمشركين في الحرب، فقال:
((الأصل أنّه لا يجوز ذلك إلاّ في حالة الضرورة القصوى))[121])).
6. الانتماء للأحزاب الغربية:
وسئل عن رأيه بانتماء المسلم المغترب لأحد الأحزاب السياسية الغربية من أجل خدمة المسلمين وإيصال صوتهم إلى الحكومات الغربية، فقال:
((لابدّ من دراسة الأمر على الأرض، فإذا فرضنا أنّ دخوله في هذا الحزب لا يزيد الحزب قوة إذا كان للحزب مضمون فكري، وكان يتوقف على دخوله خدمة مصالح المسلمين ورعاية أمورهم فلا بأس، وطبعاً ]بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ( [122])). فيجب عليه أن يدقّق جيداً في هذه القضايا. وليست هذه إجازة للدخول في هذه الواجهات بل يحتاج الأمر إلى دراسة ميدانية ثم تطلب الإجازة من المرجع))[123])).
7. تحريم قتل السواح:
وسئل عن فتواه بحرمة قتل السواح الأجانب، وكيف يحرّم ذلك وهم يجوّزون قتل إخواننا وأبناء ديننا وينشرون الفساد في مجتمعنا، فقال:
((في الإسلام كلّ من دخل في جوار المسلمين وذمّتهم فلا يجوز قتله، فليس من الضروري أن يكون السوّاح الأجانب الذين يأتون بلادننا محاربين أو أعداء، فهناك وفود تأتي إلى لبنان وهي ضد سياسة أميركا، أما نشرهم للفساد فهذا عنوان ثانٍ.
ولكن للننظر من أين انطلقت المسألة؟
انطلقت من خلال أنّ الذين يقتلون هؤلاء المسلمين إنّما يريدون منع السياحة والله تعالى يقول )لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( [124])).
فليس كلّ كافر محارباً، وليس من الضروري أن يكون غير المحارب مخالفاً لنا في الدين وفي الموقف، يقول تعالى )وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ( [125])).
وأمّا الفساد فليس الأجانب وحدهم الذين قاموا به بل أن حكوماتنا هي التي تشجّعه، فهم أي السيّاح – يأتون – في الغالب – لزيارة الآثار، وعندما يأتون نتحدث معهم، وربّما تتغير وجهة نظرهم عندما يحاورون الناس في البلدان الإسلامية))[126])).
كما حرّم سماحته اختطاف الطائرات وترويع المدنيين وقتل الأبرياء كما جرى في أحداث 11 أيلول بأمريكا.
8. العمل والمتاجرة مع اليهود:
وسئل سماحته عن اضطرار بعض المغتربين للعمل عند اليهود، فقال:
((في حالات الضرورة القصوى يجوز ذلك )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( [127])). لكنّ الأفضل للإنسان أن يطلب العمل في غير هذه الأماكن))[128])).
وسئل عن المتاجرة بين المسلمين واليهود، فقال:
((لا تجوز التجارة مع أي يهودي إسرائيلي، أو تقوية إسرائيل، أو التعاطف معها، وذلك لأنّ أيّ نوع من أنواع التجارة يمثل قوّة لهم، ولا يجوز للمؤمن أن يقوّي أعداء الله اقتصادياً، كما لا يجوز له أن يقوّيهم عسكرياً وسياسياً لاسيما ونحن في حالة حرب معهم.
وقد ألّف بعض اليهود عصابة لجمع المال تحت شعار (ادفع دولاراً تقتل عربياً) فمن يدفع أيّ شيء لليهود بحيث يكون ربحاً تجارياً لهم فمعنى ذلك أنّه يساهم في شراء رصاصة يقتل بها اليهودي من شاء من المسلمين أو من العرب))[129])).
9. شراء المنتوجات الصهيونية:
وسئل عن حكم من اشترى منتجات إسرائيلية من دون أن يعلم مصدرها، وهل يجوز الشراء من اليهود في الدول الغربية؟ فقال:
((إذا لم يكن يعرف ذلك فهو معذور، ويستطيع أن يستعملها من دون أن يكون شراؤه للبضاعة دعاية في استعمالها والترويج لها أمام الناس الآخرين.
أمّا الشراء من اليهود الذين يساعدون إسرائيل فحكمهم حكم إسرائيل في هذا الحكم))[130])).
10. التعامل مع الشركات المتعاونة مع الصهاينة:
وسئل عن التعامل مع الشركات التجارية التي تعطي نسباً من أرباحها للكيان الصهيوني، فقال:
((لا يجوز التعامل مع كلّ مؤسسة وشركة ومحل يتعاون مع الكيان الصهيوني ويقوّيه))[131])).
وسئل من قبل المهاجرين إلى أوروبا عن التعامل مع بعض المؤسسات اليهودية كالبنوك، فقال:
((الأصل أنّنا لا نتعامل مع كلّ إسرائيلي يحمل الجنسية الإسرائيلية، وكلّ يهودي يشجّع إسرائيل، إلاّ في حال الضرورة))[132])).
وسأله متعهد ديكور اتفق مع بعض العمال على إنجاز ديكور لفندق اتضح أن تمويله من قبل رجل إسرائيلي، فقال له:
((إذا كان الفندق للإسرائيلي، أو للمتعاطين المتعاملين مع إسرائيل والمؤيدين لها فلا يجوز))[133])).
11. استراتيجية موحّدة ضد الصهاينة:
وسئل عما إذا كانت هناك استراتيجية موحّدة بين الشيعة والسنّة في مواجهة الكيان الصهيوني، فقال:
((اعتقد أنّ المسلمين لم يتوحّدوا على شيء، كما توحّدوا في مواجهة إسرائيل، فالمسلمون الواعون الملتزمون المنفتحون على قضايا الحرية والعدالة في خط الإسلام يقفون صفاً واحداً، وعندما نتحدث عن الوحدة الإسلامية نقول لكلّ المسلمين: علينا أن نتوحّد – كما توحّدنا في التجربة في القضايا السياسية – حتى نستطيع أن نفهم أن مصير المسلمين واحد، وأنّ الاستكبار والكفر العالمي والصهيونية العالمية لا تريد رأس السنّة أو رأس الشيعة، ولكنّها تريد رأس الإسلام أيّاً كان، ولذلك حاربوا السنّة عندما وقفوا في خطّ الثورة مثلما حاربوا الشيعة عندما وقفوا في خطّ الثورة، ولذا فإنّ علينا أن نتعلّم من الجراح أن درسها أعظم من ألف محاضرة وألف كتاب))[134])).
12. رجم العدوّ بالحجارة:
وقيل لسماحته: أحدهم يقول ما فائدة رمي الحجارة على الصهاينة؟ فقال معقّباً:
((هذه الحجارة هي التي حرّكت وجدان العالم، ولو كان الفلسطينيون قد استخدموا منذ البداية السلاح لكان يقال – كما يقال هذه الأيام – إنّ قضية الصراع هي قضية عنف، لكن الحجارة أشعرت العالم بأنّ هناك شعباً يطلب حريته ويواجه المحتل بطريقة سلمية، والمحتل يواجهه بالرصاص الحيّ وبالدبابات وبالطائرات وبالمدافع.
إنّ هذا الأسلوب الذي لا يرى فيه هذا الأخ فائدة هو الذي استطاع أن يهزّ وجدان العالم ليفتح اهتمامه بالقضية الفلسطينية))[135])).
13. شهداء العمليات الاستشهادية:
وسئل عن المؤمنين المجاهدين الذين ينفّذون العمليات الاستشهادية ضد الكيان الصهيوني ويقتلون، هل هم شهداء؟ فقال:
((هم من أعظم الشهداء، فعملهم جهاد في سبيل اللّه وأيّ جهاد؟! إذ ما الفرق بين من يدخل المعركة وهو يعلم أنّه سوف يقتل برصاص العدو، وبين مجاهد آخر يدخل المعركة من جهة حاجة الخطّة الجهادية إلى من يفجّر الألغام أو يفجّر نفسه في سيارة؟ ولابدّ من أن يكون القائم بهذا العمل قد حصل على إذن من جهة شرعية تشرف على خطّ الجهاد. وبالطبع تجري عليه أحكام الشهيد إذا كان في قلب المعركة، أمّا إذا كان في مكان آخر فالحكم يختلف))[136])).
وسئل عن تلغيم المجاهد لنفسه ليقتل الأعداء، هل هو انتحار؟ فقال:
((إذا كان في حالة جهاد بحيث يفجّر نفسه ليقتل أكبر عدد من الأعداء، أو يحقّق هدفاً استراتيجياً للجهاد، فإنّه يكون مجاهداً وشهيداً، ويعتبر عمله استشهادياً وليس انتحارياً))[137])).
وكان هناك بعض المشايخ الذين حرّموا العمل الاستشهادي واعتبروه انتحاراً وإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، فسئل سماحته عن ذلك، فقال:
((هؤلاء لم يتعمّقوا في الفرق بين الانتحار وبين الاستشهاد، فالانتحار هو أن يقوم الإنسان بقتل نفسه انطلاقاً من حالة ذاتية، كمن يفشل في دراسته كالكثير من المراهقين، أو كمن يفشل في حبه العاطفي أو كمن يخسر في صفقة تجارية أو يعيش في حالة كآبة نفسية فوق العادة. فالانتحار هو أن يقتل الإنسان نفسه على أساس دوافع أو أسباب ذاتية فيمكن أن يقال )وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة( [138])).
أما الجهاد فهو إلقاء النفس بالتهلكة من اجل هدف سام )إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ( [139])). لكن الفرق بين الجهاد كإلقاء النفس في التهلكة بالحرب وإلقاء النفس في التهلكة في الحالات الفردية، هو أن الجهاد هو أن تقتل نفسك في سبيل قضية كبرى على أساس شرعي. ولذا نقول إنّ هذه العمليات التي يقوم بها هؤلاء المجاهدون سواء في لبنان أو في فلسطين استشهادية، والذين يقومون بها شهداء لأنهم فجّروا أنفسهم بالعدو من أجل القضية الشرعية الكبرى، إذ ما الفرق بين من يبرز للمعركة من أجل أن يقتل العدو بسيفه ليقتله العدو بسيفه وبين من يفجّر نفسه بالعدو، فهذا جهاد وهذا جهاد، واللّه سبحانه وتعالى لم يحدّد للمجاهدين آلية الجهاد بل إنّه رخّص لهم أن يقاتلوا العدو بكلّ الوسائل التي تحقّق الهدف، فإذا كانت العمليات الاستشهادية تحقق الهدف فإنّها عمليات استشهادية جهادية.
ونحن نقرأ في واقعة كربلاء عندما صلّى الإمام الحسين(ع) الظهر أنّ هناك شخصاً وقف أمام الحسين(ع) وهو يصلّي وكانت السهام تنهال عليه من كلّ جانب والرجل ينزف وانتهى الحسين من صلاته وسقط الرجل وهو يقول: هل وفيت يا بن رسول الله؟ قال: نعم، أنت أمامي في الجنة. أليست هذه عملية استشهادية؟ وفي حرب الجمل أعطى الإمام علي(ع) لأحد جنوده القرآن حتى يعرضه على الجمهور قائلاً تعالوا نحتكم إلى كتاب الله فقتله الجمهور وهذه عملية استشهادية أيضاً.
فهؤلاء الذين يقولون بهذه الفتاوى لا يعلمون معنى الجهاد لأنهم لم يعيشوا قضية الجهاد، فلا يفهم الجهاد إلا من يعانيه، وبعض هؤلاء لا يعيشون القضايا الكبرى ولاسيما إذا كانوا موظفين عند السلطان يعطونه فتوى بالسلم عندما يريد السلم وفتوى بالحرب عندما يريد الحرب))[140])).
14. مقاطعة البضائع الأمريكية:
ولمّا كانت الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الأكبر للكيان الصهيوني الإرهابي والتي تمدّه بالمال والسلاح والموقف المساند المؤيد لجرائمه ضد الشعب الفلسطيني، أوجب سماحته مقاطعة البضائع الأمريكية كجزء من الحملة ضد أصدقاء العدو وحلفائه، فكانت له الفتاوى التالية من خلال أسئلة طرحها جمهور الندوة عليه:
فلقد سئل سماحته: ((هل أنّ مقاطعة الشركات الصهيونية والأميركية حكم أم فتوى؟)) فأجاب:
((هي حكم، وهي فتوى قائمة على أساس شرعي ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه))[141])).
وسئل عن شركة (الكوكاكولا) و(الببسي كولا) التي يقال أنهما تدعمان الكيان الصهيوني، فقال:
((علينا أن نستغني عن ذلك كلّه، فلدينا الآن الكثير من الأمور التي لا تمثّل الضرورة، بل إنّها ليست من الكماليات، ثم أنّ العصير أفضل وعندنا فواكه طبيعية وطازجة جيدة، فلماذا لا نشجّع الزراعة والفلاحين؟ ولماذا يخلق الغرب دائماً حاجاتنا من السجائر والمرطبات وسواها، وسواء كانت تلك الحاجيات تدعم إسرائيل أو لا تدعمها، فإنّ السؤال المهم هو: لماذا لا ندعم اقتصادنا وزراعتنا وحياتنا؟
إنّ بعض الناس لا يملكون – للأسف – حسّاً إسلامياً أو وطنياً أو قومياً بل لديهم حسّ ذاتي، فالمهم أن أتلذّذ بهذا الشيء أو ذاك بقطع النظر عن كلّ النتائج السلبية المترتبة عليه.
فنحن نقول إنّ كلّ شيء نستطيع أن نستغني عنه فينبغي الاستغناء عنه، وقد كان بعض العلماء الزهاّد في النجف مثل (الشيخ القمي) لا يلبس إلا القماش الإسلامي المصنوع في البلاد الإسلامية(*).
ولقد قلنا مراراً إن أميركا تضطهد الواقع السياسي الإسلامي وهي التي صنعت الكيان الصهيوني وتدعمه وتقوّيه، والدول الآسيوية أخفّ في سياستها من أميركا، فلماذا لا نشتري إلاّ بضاعة أميركية؟! فالبضاعة الأمريكية لها بدائل أوروبية أو يابانية أو آسيوية، فكيف نردّد شعار (الموت لأميركا) ونحن ندخن (المالبورو) ونشرب (السفن آب) أو (الببسي)؟!
إنّ هذا يعني أنّك تقول بلسانك (الموت لأميركا) وتأخذ بفمك ما يعطي الحياة لأميركا، وأميركا لا تتعامل مع المعنويات فلو ردّدت من الصباح إلى المساء (الموت لأميركا) وأنت تشتري بضائع أميركية فإنّ مصانع أميركا لا تتأثر، لكننا شعب يقول كثيراً ويعمل قليلاً))[142])).
وسئل عمن يعيشون في أميركا الشمالية، كيف يقاطعون البضائع الأميركية، فقال:
((ذلك بحسب الإمكان، لكننا إذا استطعنا ونحن في أميركا أن نشتري بضاعة غير أميركية من بضائع بلد ليس له علاقة وطيدة مع الكيان الصهيوني، فلنفعل))[143])).
وسئل عن جواز بيع البضائع الإسلامية كالنفط وغيره لإسرائيل وأميركا، فقال:
((المقاطعة هي مقاطعة ذات جانبين، لا نشتري منهم ولا نبيع لهم))[144])).
وسئل عن التسوّق من أسواق (سبنسر) البريطانية التي تخصّص ريع أيام السبت لليهود في الكيان الصهيوني، هل يجوز التسوّق منها في غير أيام السبت؟ فقال:
((لو كانت هناك محلات تخصّص ريعها في يوم من أيام الأسبوع للمشركين ضد النبي(ص) فهل نشتري منها؟ بالطبع لا.
فما دامت هذه المحلات تشارك في دعم اليهود لقتلنا فلا يجوز، فهل تعطي شخصا مالاً من أجل أن يقتلك، أو يقتل أخاك؟! ولم الشراء من هذه المحلات تحديداً، لم لا نشتري من محلاّت أخرى؟
فحينما يعرف أصحاب هذه المحلات أنّنا نقاطعهم لأنّهم يعاونون إسرائيل فسوف يعيدون حساباتهم، ولكنّهم يعرفون أنّ العرب وبسبب اهتمامهم ببطونهم وملابسهم وزينتهم لا يتخلّون عن الشراء منهم، فإنهم يزدادون تعاوناً مع الكيان الصهيوني، وتلك هي المشكلة. ولو فرضنا أنّ اليهود في بريطانيا عرفوا أن هناك محلاً يقدم أرباحه في كلّ يوم جمعة إلى الفلسطينيين فهل يشترون منه؟ بالتأكيد لا، فلنتعلّم من أعدائنا))[145])).
وسئل عن مطاعم (مكدونالد) الأمريكية، فقال:
((أليس عندنا مطاعم سعودية وكويتية وباكستانية وعراقية ولبنانية، فلم الأكل من هذه المطاعم التي لا يعلم لحمها، هل هو مذكّى أم لا؟
أليس لدينا من يعرف الطبخ ويجيده؟ فلماذا عقدة ((كل شيء فرنجي برنجي)). إنّ طعامنا أطيب من طعامهم وطبخنا لأفضل))[146])).
عاشراً: مسائل عصرية متفرّقة
المتابع لندوة السبت في دمشق يرى أنّ سماحته لم يدخر وسعاً في الإجابة على مختلف الأسئلة العصرية أو تلك التي يصطلح عليها ب(المسائل المستحدثة) الأمر الذي يعني ملاحقة سماحته لآخر تطورات العلم وتقنياته الحديثة، وإعطاء الرأي الشرعي السليم في ذلك كلّه، ويمكننا هنا التقاط المسائل التالية المندرجة تحت هذا العنوان:
1. الرؤية الفلكية:
فلقد سئل سماحته مراراً عن المقياس أو المعيار الذي يمكن اعتماده لتحديد بداية الشهر، فقال:
((إنّ الهلال ظاهرة كونية مثله مثل الشمس فهما مرتبطان بالنظام الكوني، فالله جعل للشهور نظاماً )إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه( [147])) وهذا هو كتاب الكون.
فالقمر لا يغيب عن الكون غياباً تاماً، أي ليس له حالة انعدام كلّي، ولكن ما الذي يجعل هذا الشهر أو ذاك مميزاً عن شهر آخر؟
إنّه دخول القمر في المحاق، حيث يبدأ الشهر الثاني بخروجه من المحاق الذي يعني أنّه ليس للقمر كمية ضوء كافية بحيث يمكن رؤيته عندما يخرج من المحاق، وتسمّى هذه الحالة بولادة الهلال. وعندما يولد الهلال فإنّه لا يختزن كمية من الضوء إلاّ عندما يكون عمره، كما يقول علماء الفلك المختصّون بين (13-14) ساعة، وتستحيل الرؤية بأقلّ من ذلك، فكيف يمكن أن نعرف أنّ الهلال قد ولد؟
نحن نقول إنّ معرفة الهلال تحصل من خلال أهل الخبرة الموثوقين، فإذا عرفنا أنّ الهلال قد ولد، وأنّه وصل في عمره إلى مستوى يختزن كمية كافية من الضوء بحيث يمكن رؤيته، وأحرزنا إمكانية الرؤية، أمكن الاعتماد على قول أهل الخبرة والإفتاء طبقاً لشهادتهم، ولا مشكلة في الرؤية.
وهذا هو الرأي الذي يتبّناه علمياً السيد الخوئي ونحن نتبنّاه أيضاً، وعلى هذا الأساس نحكم ببداية الشهر ونعلن ذلك قبل حلول الشهر لأنّنا نطلع على ذلك من خلال مراصد العالم بحسب نشاطنا التجوالي في هذا المجال سواء في أميركا أو أوروبا أو المنطقة، لأنّنا نرى أنّ الوسائل العلمية قطعية بالمعنى العرفي حيث أنّ نسبة الخطأ في التوليد وإمكانية الرؤية هي نسبة الواحد إلى المليون، بينما ما أكثر الخطأ في الرؤية العينية.
فالفلك الحديث يختلف عن الفلك القديم، وأنّ الحسابات الفلكية الآن هي التي تخطّط لرحلات الفضاء والصعود إلى القمر، مما يعني أنّ الفلك أصبح من دقّة الحسابات بحيث تحوّل إلى ما يقرب من الحقيقة العلمية.
فإذا استطعنا من خلال بحث فقهي – أن نصل إلى نظرية فقهية تعتمد العلم فالعلم واحد، ونستطيع أن نلتقي على عيد موحّد))[148])).
2. الاستنساخ:
وسئل، حينما ضجّ العالم بآخر صيحات الطب أو الهندسة الوراثية، عن الاستنساخ وعن مدى صحّة استنساخ الموتى والمنقرضين من العلماء والعباقرة والأبطال؟ وما هي وجهة نظر الشرع في ذلك، فأجاب سماحته:
((حسب قراءتي، ولا أدّعي الشمولية في القراءة، أنّ ذلك ليس واقعياً، فالبعض قالوا بإمكانية استنساخ الديناصورات المنقرضة، في حين لابدّ من الاستنساخ أن تكون الخليّة حيّة، فعلى صعيد الصحّة يبدو أنّ ذلك غير صحيح.
أمّا الوجهة الشرعية للاستنساخ، فإذا افترضنا أنّهم تمكّنوا من استنساخ شبه الميت، فهو ليس الميت بل إنسان آخر، وغاية الأمر أنّ المخلوق الذي لا يولد من أب وأمّ ستتغير الجوانب الشرعية في النظر إليه، فيكون حاله كحال عيسى(ع) الذي ولد من أم بدون أب، فتترتب عليه آثار الأمومة لا الأبوة، إذا كان بالإمكان أن يؤخذ من خلية أنثى وليس من خلية مزدوجة من الرجل والمرأة.
ولذا فإننا لا نستطيع أن نحكم بحليّة الاستنساخ أو حرمته إلا من خلال النتائج السلبية أو الإيجابية، فإذا كانت إيجابية نحكم بحليّته، وإذا كانت سلبية نحكم بحرمته))[149])).
وسئل لاحقاً: ((ذكرتم أنّ الاستنساخ من خلية الأم يجعل من الأم هي الأم والأب في آن واحد، ألا يخالف هذا العرف والشريعة؟)) فأجاب:
((صحيح، أنّ ذلك يخالف العرف لكنّه لا يخالف الشريعة، فالأصل الإباحة، وكل ما هناك أن مولود الاستنساخ يولد من أم دون أب ولقد أوضحنا كيفية ذلك، فبعد أن اخذوا خلية من الأم وزرعوها في داخل البويضة، بعد تفريغ البويضة من الكروموسومات، ولد الولد من هذه الأم، وهذا مثله مثل عيسى(ع) لكن ذاك كان بالقدرة المباشرة لله وهذا بما ألهم الله الإنسان معرفته في هذه الطريقة.
لذلك نحن لا نرى أنّ هناك حرمة في ذلك. نعم نحن نناقش في قضية الاستنساخ البشري من خلال إمكانية أن يسيء إلى كثير من الأوضاع الاجتماعية وأن يخلق فوضى من هذه الناحية، ولكن أصل المبدأ لا يوجد دليل على حرمته))[150])).
وسئل سماحته عن جواز أخذ نطفة الرجل وفصل الخلايا الذكرية عن الأنثوية عند الطبيب المختص ليصار إلى تلقيح زوجته بأحدهما وفقاً للاختيار المطلوب ذكراً كان أو أنثى، فقال:
((يجوز ذلك، ولكن لابد من قيام الطبيبة بعملية التلقيح، لأنه لا يجوز للطبيب النظر إلى عورة المرأة إلا في حالة الضرورة، وليس هذا المورد من موارد الضرورة))[151])).
4. التلقيح ببيضة مخصّبة:
وسئل عن امرأة لا يعيش الجنين في رحمها، فقام الأطباء بأخذ بويضة منها وحويمناً من زوجها وتم التلقيح خارج رحمها، ومن ثم نقلت البيضة المخصّبة إلى رحم امرأة أخرى، فلمن يكون الولد، فأجاب:
((هناك اختلاف في الرأي – في هذه المسألة – فالسيد الخوئي يرى أنّ الأم هي الحامل احتجاجاً بقوله تعالى )إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ( [152])) فالتي تلد هي الأم وليست صاحبة البويضة.
ولكن هناك رأياً يستقربه السيد السيستاني، ونحن نرى ذلك أيضاً، وهو أنّ الأم هي صاحبة البويضة، وأنّ الحامل ليست أمّاً، فمع أنّ الولد عاش في داخل رحمها ولكنها لم تنتجه، بل الذي أنتجه في أصل وجوده هو صاحب النطفة وصاحبة البويضة، فالولد يخلق من النطفة زائداً البويضة، ونسبة الولد إلى النطفة والبويضة – على حدّ سواء – حسب قول أهل الخبرة.
ولكن يمكن أن تكون هذه المرأة الحامل محرماً، لأنّه إذا كان الرضاع بمستوى خمسة عشر رضعة، أو الذي ينبت اللحم ويشدّ العظم – أي يوجب الحرمية – فلا إشكال بأن إنبات اللحم وشد العظم بالنسبة للإنسان الذي يعيش في رحم امرأة ويتغذّى من دمها تسعة أشهر، أقوى في إنبات اللحم وشدّ العظم من الرضاع.. لكن المسألة في محلّ إشكال وليس هناك فتوى بالحرمة المطلقة في مسألة المحرمية الملحقة بالرضاع))[153])).
5. التعقيم:
وسئل سماحته عن تناول المنشّطات المقوّية للعضلات والتي ثبت طبّياً أنها تؤدّي إلى عقم مؤّقت، فقال:
((ما يؤدّي إلى عقم مؤقت ليس محرّماً، نعم ما يؤدّي إلى عقم دائم فيه إشكال))[154])).
وسئل عن ربط الأنابيب، فقال:
((يمكن التعقيم في ربط الأنابيب أي التعقيم المؤقت الذي يمكن إزالته في أي وقت وليس التعقيم النهائي الذي لا يمكن إرجاع الوضع فيه إلى ما كان عليه. كما يجوز تعقيم الرجل في بعض الحالات)).
ثم أوضح سماحته قاعدة عامّة، أي أنه يضع بين يدي الجمهور ثقافة شرعية أوسع من دائرة السؤال، حيث يقول:
((ولابدّ من اعتماد هذه القاعدة وهي أن الإنسان بعمومه طاقات، فلا يجوز أن تقتل نفسك أو أن تقتل طاقتك، فأنت مثلا تستطيع أن تغمض عينك ولكن لا يجوز لك أن تفقأها، وتستطيع أن تجمّد لسانك ولكن لا يجوز لك قطعه، وكذلك طاقة الإنجاب فإنّك تستطيع أن تجمّدها لكنّك لا تستطيع أن تقتلها. ولذا فانّ التحفّظ الشرعي في كلّ ما يؤدي إلى قتل طاقة الإنسان هو الذي يحكم هذه المسألة من ناحية الحكم الشرعي))[155])).
6. الإجهاض:
وسئل سماحته عدة مرات عن إسقاط الجنين في حال إضرار الحمل بحياة المرأة، فقال:
((هناك عدة آراء في هذا المقام، هناك رأي لفريق من العلماء ومنهم السيد الكلبايكاني، وهو أنّه لا يجوز للمرأة – في أيّ حال من الحالات – إن تسقط حملها حتى لو كان في أول أيام الحمل، وحتى لو كان الحمل يشكّل خطراً على حياتها، وإنّما عليها أن تنتظر أمر الله.
وهناك رأي السيد الخوئي ونحن نوافقه عليه وهو أنّ هذا الجنين إذا كان في الأشهر الأولى من الحمل، بمعنى أنّه لم تنفخ فيه الروح، وكان بقاء الحمل يمثل ضرراً صحيّاً، من المشقّة الصبر عليه، فإنّه يجوز لها أن تسقطه من باب الدفاع عن النفس.
ولذلك لابدّ من معرفة هل أنّ الجنين هو في مرحلة ما قبل نفخ الروح أو بعدها، ثم هل أنّ الضرر بسيط يمكن الصبر عليه، أو أنّه فوق العادة؟ ثم ترجع إلى من تقلّد لتتبع تقليدها في ذلك))[156])).
وسئل عن آلية وضع اللولب تمنع استقرار البيضة الملقّحة في الرحم بعد الألقاح لسبعة أيام، مما يسميّه بعض الأطباء بالإجهاض المبكر، فقال:
((إنّ المحرّم هو إجهاض البويضة الملقّحة بعد استقرارها في جدار الرحم، أمّا اللولب فيمنع استقرارها، وحتى لو أسميناه إجهاضاً باكراً فهو ليس محرّماً، لأنّ الإجهاض المحرّم هو إذا استقرت البويضة في الرحم وبدأت عملية الحياة))[157])).
7. إهداء الأعضاء وبيعها:
وسئل عن رأيه في إهداء أعضاء البدن للآخرين، فقال:
((إذا لم تكن موجبة للخطر على الحياة فيجوز ذلك من باب )وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ( [158])) فالله يحب المؤثرين على أنفسهم، ولا إشكال إنّ إعطاء الإنسان بعض أعضاء بدنه لمن يحتاج إليه هو من أروع أنواع الإيثار))[159])).
وسئل عن بيع الإنسان لأحد أعضائه بثمن معين، فقال:
((هذا البيع باطل، لأنّ بيع الأعضاء غير جائز، نعم في التنازل عنها أو الوصية بها في قبال أن يعطيه مالاً فليس في ذلك مشكلة))[160])).
8. التبرّع بالدم للتصدير:
وسئل عن الإجازة في التبرّع بالدم لجهة تصدّره إلى بلاد غير إسلامية ولأغراض تجارية، فقال:
((علينا أن لا نعطي دماً إلاّ لما ينفع الناس، أمّا أن تتبرّع لتاجر، فإنّ الله لن يثيبك على ذلك، إلاّ إذا فرضنا أنّ التاجر يقدّم الدم لجهات إنسانية لا يمكن أن يصلها هذا الدم إلاّ بالطريقة التجارية))[161])).
9. زرع قلب خنزير في جسم الإنسان:
وسئل عما توصّل إليه الأطباء من زرع قلب وأجزاء أخرى من الخنزير في جسم الإنسان، حيث أجاز علماء الأزهر ذلك، فقال:
((نعم، يجوز ذلك، وإذا صار عضو الخنزير عضواً من أعضاء الإنسان صار حكمه حكم أي عضو من أعضائه الأصلية.
فالحرمة في أكل لحم الخنزير لا في زرع بعض أجزائه في جسم الإنسان، لاسيما في حال الضرورة))[162])).
10. التجويف:
وسئل عن شرط استخراج أحشاء جثة الميت لنقله من بلد غير إسلامي إلى بلد إسلامي، فقال:
((لا يجوز ذلك مطلقاً، بل لابدّ أن يدفن الميت في البلد الذي توفي فيه، لأنّه لا يجوز لنا أن نمارس شيئاً مستحبّاً بآخر محرم حتى لو أوصى الميت بذلك، لأنّ التشريح بهذه الطريقة تمثيل بالميت، فلا يجوز ذلك إلاّ بلحاظ بعض الاستثناءات والعناوين الخاصّة وليس هذا منها، كما لو لم يكن هناك مكان لدفنه، أي لا توجد مقبرة للمسلمين أو ما أشبه ذلك.
وربما تبرز بعض المناقشات الفقهية في الحكم بالحرمة على أساس عنوان التمثيل، بأنّ هذا العنوان يختزن في داخله معنى التنكيل بحسب إيحاء معناه فلا يصدق في هذا المورد الذي يراد من خلاله الإحسان إلى الميت بدفنه في مقابر المسلمين.
وكذا تأتي المناقشة، إذا كان الأساس في الحرمة الحديث المتضمّن ((أنّ الله حرّم من المؤمن ميتاً ما حرّم منه حيّاً)) أي أنّ (حرمته ميتاً كحرمته حياً) فإنّ الظاهر من ذلك هو الجانب العدواني لا الجانب الذي تكون فيه مصلحة له كما في العملية الجراحية التي تشبه عملية إخراج الأمعاء.
وكذا يمكن المناقشة في الاستثناء على تقدير القول بالحرمة، كما إذا لم تكن هناك مقبرة للمسلمين، فإنّ تحريم الدفن في مقبرة الكفّار لا يخضع لإطلاق دليل لفظي، بل هو خاضع لدليل لبيّ، أو للزوم هتك حرمته، وهما لا ينطبقان على المورد المذكور، والله العالم))[163])).
11. ألعاب الكمبيوتر والأتاري:
وسئل سماحته عمّا إذا كانت ألعاب الكمبيوتر أدوات لهو محرّم، فأجاب:
((كلا، فليس كلّ أداة لهو حرام))[164])).
كما سئل عن جواز فتح محلات للألعاب الالكترونية (الأتاري) لاستحصال المال بدون مراهنة، فقال:
((يجوز ذلك، لأنّ الذي يحرّمه العلماء، إمّا اللعب بآلات القمار مطلقاً، أو اللعب مع العوض فقط، كما هو رأينا))[165])).
غير أن سماحته أكّد مراراً على ضرورة عدم الاستغراق في هذه الألعاب وإلهائها عن ذكر الله والصدّ عن الصلاة وعن الواجبات الإسلامية الأساسية.
وشاعت لعبة للأطفال تسمّى (البوكيمون) وتحدّث بعض الفقهاء عن حرمتها لأنّها تجعل الأطفال يعتقدون بنظرية داروين في النشوء وأنها تحوي كلمات يهودية، فسئل سماحته عن ذلك، فقال:
((لم يثبت عندي حرمتها، فإذا كان البعض يقول إنّ هذه تؤدي إلى أنّ الأطفال يعتقدون بنظرية داروين أو أن فيها كلمات يهودية، فلقد ناقشت هذا الموضوع مناقشة علمية بعد دراسته، ولكننا لا ننصح بها من ناحية تربوية، كما لا ننصح بكثير من الألعاب التي قد تثير العنف وتعلّمه الأطفال وما إلى ذلك))[166])).
وسئل عن تحريم مفتي مصر لمسابقة تلفازية تسمّى (من سيربح المليون) فقال:
((قرأت الفتوى والحيثيات التي ذكرها المفتي عنها فلم أر فيها أساساً للتحريم، لأنّ في المسألة جانبين: جانب المهاتفة والخسائر المترتبة عليها دونما نتيجة، وهذا ليس قماراً، فأنت قد تستعمل الهاتف الذي تنتفع منه شركة الهاتف وليس الأشخاص القائمون على البرنامج، وذلك من أجل أن تحصل على فرصة معينة، وهذا أمر عقلائي، فالإنسان قد يدفع مالاً في سبيل احتمال كسب.
وأمّا في قضية (من سيربح المليون) فالمال يدفع في قبال جائزة لمن يجيب أجوبة معينة، فالربح مشروط في الأساس بأن يمتلك المشارك الإجابة فيدخل ذلك في باب الجعالة أو في باب الجائزة، أمّا القول أنه أكل مال الباطل فليس صحيحاً، فالمشارك لا يدفع مالاً ليحصل على مال))[167])).
وسئل عن التحريم من جهة إلهاء الشباب، فقال:
((هذه المسابقة – وربما لها نظائر – فيها فائدة للناس لمعرفة الكثير من الأشياء وليس فيها شيء مضرّ أو محرّم، وحتى كرة القدم فهي ليست لإشغال الشباب بل فيها فائدة جسدية كما في كلّ أنواع الرياضات، وقد ورد في الحديث ((روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة)) نعم إذا استغرقت وقت الإنسان كلّه وانفق عليها أمواله كلّها فسيكون هناك عنوان ثانوي))[168])).
12. الصيد والذباحة:
وسئل عن اصطياد السمك بواسطة الكهرباء حيث يوضع كيبل كهربائي في الماء فيتكهرب السمك ويطفو إلى سطح الماء فيستخرج بالشباك، أمّا صغيرة فيموت أثناء وضع الكيبل في الماء، فقال:
((إذا بقي السمك على قيد حياته فلا مشكلة، أمّا إذا مات في الشبكة وكان موته بواسطة الكهرباء فلعلّه يحرم، أمّا إذا مات في الشباك وهو في الماء لا نتيجة الصدمة الكهربائية بل نتيجة الضغط، فهناك رواية صحيحة كان يفتي بها السيد الخوئي (رحمه الله) ونحن نستقربها ونقول بأنّه حلال حتى ولو مات في الشبكة))[169])).
وسئل عن الذبح بآلة مكتوب عليها التسمية (بسم الله والله أكبر) فهل يجوز لذلك والعامل مسلم، فقال:
((يقول اللّه تعالى }وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ( [170])) ولم يقل لم يكتب أو كتب، فذكر اسم اللّه إمّا يكون باللسان أو من خلال مسجّلة يضعها المشرف على الذبح كما لو كان قد نطق بها، وإذا أخبرنا المشرفون على الذبح أن اسم اللّه يذكر عند الذبح ونحن نعلم بصدقهم فذبحهم حلال))[171])).
وسئل عن ذباحة الكتابيين، إذا سمّوا، فقال:
((إذا قلنا بطهارتهم – كما نقول فعلاً – فكلّ شيء عندهم طاهر ما لم يعلم نجاسته كما هو الحال بالنسبة للمسلمين، نعم، بالنسبة للحم هناك رأي غالب لدى فقهاء الشيعة وهو أنّ ذبيحة غير المسلم لا تحلّ حتى ولو سمّى.
وهناك فقهاء مثل الشهيد الثاني والسيد الشهيد الصدر يتحفّظون في الحكم بالحرمة مع توفر كلّ شروط الذبح مع التسمية، ونحن نوافقهم على ذلك. فإذا سمّى فالحكم بالحرمة مبنيّ على الاحتياط))[172])).
وفي إجابة عن سؤال مماثل، قال:
((إن الحكم مع التسمية مبني على الاحتياط، وفي بعض الأحاديث ((إن الذبيحة أسم ولا يؤمن عليها إلاّ مسلم)). فلا نستطيع الاطمئنان لغير المسلم، ومن باب الحفاظ على التسمية لا تؤكل ذبيحة غير المسلمين، لأنّ المسلمين وحدهم يعتقدون بذلك))[173])).
وسئل عن تخدير الذبيحة قبل ذبحها من قبل قصابين مسلمين في بلدان غربية، فقال:
((لا مشكلة في ذلك، فالمهم أن تبقى حيّة حال الذبح))[174])).
13. الأزياء:
وسئل عن حدود الحجاب الإسلامي (الستر) بالنسبة للمرأة، فقال:
((حدود الحجاب الإسلامي في خطين: ستر الجسد وعدم التبرّج )وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى( [175])) )وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ( [176])). فيجب الجمع بين ستر الجسد وعدم إظهار الزينة، وتلخّصه كلمة أن تخرّج المرأة إلى المجتمع كإنسانة لا كأنثى))[177])).
وسئل عن جواز لبس البيجاما أو البنطال الفضفاض بدلاً من (المانتو) الجبّة النسوية المعروفة، أو العباءة، فقال:
((ليس هناك شيء محدّد في الحجاب، بل يجب أن يتحقّق ستر الجسد أولاً، وأن لا يكون مصداقاً للتبرّج والإثارة ثانياً، والمسألة بين حال وحال تختلف، ففي بعض الحالات هناك ساتر للجسد وفيه عنصر إثارة، ولذا فإنّ كلّ ما يرتبط بإظهار الأنوثة فالشرع يتحفّظ عليه))[178])).
وسئل عن ربطة العنق (الكرفيت) وهل أن سبب تحريمها لدى بعض العلماء كونها من علامات الصليبيين، فقال:
((ليست من علائم الصليبيين، بل هي مجرد زيّ من الأزياء الموجودة في العالم، وإذا صحّ تحريمها فهذا ناتج عن وضع محلّي وبعنوان ثانوي، وإلاّ فإنّ السترة أيضاً ليست من لباسنا وكذلك البنطلون، فهذه الملابس أصبحت من الأزياء العامّة وليست أزياء كفّار أو مشركين أو صليبيين، نعم كانت في البداية كذلك ولكنها تحوّلت إلى أزياء عامّة، فسابقاً كانت المرأة تلبس البنطلون ويقال عنها إنّها تتشبّه بالرجال، ولآن أصبح البنطلون للرجال وللنساء، أي من الأزياء المشتركة.
وقد يحتاج الإنسان في وضعه الاجتماعي إلى أن يلبس ربطة العنق لأنّها تعتبر من اللياقات الاجتماعية، فمن ناحية شرعية لا مانع من لبسها))[179])).
وسئل عن الجلد الطبيعي والصناعي محمولاً وملبوساً، فقال:
((إذا كان الجلد طبيعياً ولكنه غير معروف المصدر كأن يكون مأخوذاً من جلد مما يؤكل لحمه ومن مسلم فهو مذكّى ويجوز الصلاة فيه محمولاً وملبوساً، وإذا كان الجلد طبيعياً واشتراه من دول أوروبية ولم يكن مذكّى فهناك رأي يقول إنّ المحمول إذا كان غير مذكّى فلا يجوز الصلاة فيه، وهناك رأي يقول إنّ الملبوس لا يجوز الصلاة فيه لأنّه ميتة، ولكن المحمول يجوز.
أمّا رأينا فهو جواز حملها في الصلاة، أمّا إذا شكّ في أنّ الجلد طبيعي أو صناعي فلا إشكال في جواز الصلاة فيه محمولاً وملبوساً))[180])).
وسئل عن الملابس التي عليها كلمات أجنبية هل يجوز الصلاة فيها، فقال:
((يجوز الصلاة فيها ولكن حذار من وجود دعاية مجانية لأمريكا، أو دعاية مجانية لشركة أميركية أو لفنانة أجنبية أو لغير ذلك مما قد يدفع الناس مبالغ مالية على هذه الدعاية))[181])).
وسئل عن جواز ارتداء قميص رسم عليه الصليب أو قصّ بشكل يوحي بالصليب، فقال:
((لا يجوز ذلك إذا كان يوحي بالرمز العبادي الخاص المعبّر عن الالتزام به لأنّ فيه دعاية لشعائر غير إسلامية بل وضد الإسلام، ولأن مظهره هو الالتزام به))[182])).
وسئل عن لبس السلسلة من قبل بعض الشبان المسلمين فقال:
((هذا ليس في التقاليد المألوفة في الواقع الإسلامي، ولا نشجع إحداث تقاليد جديدة في الملبس))[183])).
وسئل عن عمليات التجميل لإزالة التجاعيد وإصلاح بعض الأعضاء، فقال:
((لا مانع من أن يزيل الإنسان تجاعيد وجهه وإصلاح بعض أعضائه كالأنف لاسيما إذا كان ذلك يسبب حرجاً له))[184])).
14. الخادمات الأجنبيات في بيوت المسلمين:
وسئل عن جواز إدخال خادمات أو مربيات أجنبيات إلى بيوت المسلمين، فقال:
((هذا يختلف بحسب اختلاف التقليد، فالخادمة إذا كانت كتابية، وكنت تقلّد شخصاً يقول بطهارة الكتابي والناس الذين يدخلون إلى بيتك يأكلون من يدها وهم يقلّدون من يقولون بطهارة أهل الكتاب فلا إشكال.
وإذا كنت لا تخاف على أولادك وعلى بيتك من الناحية الأخلاقية فلا مشكلة.
أمّا إذا كنت تقلّد من يقول بنجاسة الكتابي فأنت تأتي بالنجاسة نجاسة العين إلى بيتك، وإذا كان الذين يدخلون بيتك يقولون أيضاً بالنجاسة فلا يجوز أن تقدّم لهم شيئاً من يدها، وعلى الإنسان أن يدرس الموضوع جيداً قبل الإقدام عليه)).
هذا بعض ما التقطناه من حصاد الندوة لعشرة مجلّدات، وأقول (بعض) لأنّ الحصاد وفير لا تسعه هذه السلّة الصغيرة.
وإنّي لأتمنّى أن يفرد لهذه المسائل كتاب خاصّ بها لما فيها من بصمات فضل اللهية، ولحاجة جمهور المقلدين المعاصرين إليها، ولأنّ فيها مادة لكتاب مستقل فعلاً، أو مادة إضافية ملحقة بكتاب سماحته (فقه الحياة).
والحمد لله رب العالمين
عادل القاضي
10 جمادى الثانية 1423ه
19 / 8/ 2002 م
جدول إحصائي بمحاضرات ومسائل المجلد العاشر
المحاضرات 30محاضرة
المسائل القرآنية 89 مسألة
المسائل العقيدية 48 مسألة
مسائل السيرة 34 مسألة
المسائل الفكرية 45 مسألة
المسائل التربوية 14 مسألة
المسائل الفقهية 317 مسألة
مجموع أسئلة ج9 - 547 مسألة
المحاضرة الأولى7 شوال 1422ه - 22/كانون الأول/2001م
الهجرة في تأريخ الإسلام (1)
* إذا لم يحملك بلدك، ولم يحم إنسانيتك وعزتك وكرامتك، فانتقل إلى بلد تجد فيه ذلك كلّه أو بعض ذلك *
الهجرة .
سلبيات التشريع وإيجابياته .
تشريع الهجرة .
صفات المهاجرين .
دور الأنصار .
العلاقة مع السابقين .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الهجرة:
حديثنا اليوم حول عنوان كانت أهميته وفاعليته وحركيته في صدر الدعوة الإسلامية، وقد تحرك في واقع المسلمين في مدى المسيرة الإسلامية، واستطاع المسلمون أن يحصلوا على الامتداد في العالم الإسلامي من خلاله. وفي عصرنا هذا، أصبح في أكثر من موقع إسلامي ضرورة سياسية واقتصادية وعلمية، وهو عنوان الهجرة، في أن تهاجر من بلدك الذي ولدت وعشت فيه، وكانت لك فيه كل ملاعب الصبا وكل مواقع الحركة وكل الذكريات، فتنتقل منه إلى بلد آخر، وقد يكون غريباً عنك، لغةً وثقافةً وديناً وسياسة، وذلك لأنك لا تملك أن تجد في بلدك ما يحمي لك إنسانيتك. وقد عبَّر الإمام علي(ع) عن معنى القيمة في المكان، وأنه لا يمثل موقعاً يحتوي الإنسان ويجمّده، بل إن المكان بالنسبة إليه هو الموقع الذي يجد فيه الإنسان معنى إنسانيته، بحيث تنمو إنسانيته فيه وتتأصل، وتلك هي الكلمة الرائدة في نهج البلاغة في قوله(ع) : ((ليس بلد أولى بك من بلد، خير البلاد ما حملك))([185])، فإذا لم يحملك بلدك، ولم يحم إنسانيتك وعزتك وكرامتك، بل قد يسقطها جميعاً، فانتقل إلى بلد تجد فيه ذلك كله أو بعض ذلك.
سلبيات التشريع وإيجابياته:
ولابد لنا - أيها الأحبة - أن ندرس الجوانب الإيجابية والسلبية في الهجرة، لأننا في كل ما نعيشه في العالم مما نقوم به أو يقوم به الآخرون نعيش في نطاق المحدود، لأن المطلق هو الله وحده، وكل شيء مادي فهومحدود في طبيعته المادية، فأنت لا تربح شيئاً إلا لتخسر شيئاً في مكانه، ولذلك فليس هناك شيء إيجابي بالمطلق مائة بالمائة، وليس هناك شيء سلبي بالمطلق. فالخير قد يختزن بعض السلبيات، والشر قد يختزن بعض المنافع، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى )يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا(([186]) فكل ما يكون ضرره أكبر من نفعه فهو حرام.
ونستوحي من ذلك أنَّ كل ما كان نفعه أكبر من ضرره فهو حلال. لذلك لابد لنا عندما نبحث عن أي عنوان في الحياة، مما يتصل بسلوكياتنا، أن نبحث عن نقاط الضعف والقوة، حتى نستطيع، أن نحدد طبيعة الأشياء، لأن بعض الناس قد يُشكل على بعض الخير لجهة أن فيه بعض السلبيات وكأنه يعتبر ذلك إسقاطاً له، أو قد ينفتح على بعض الشر على أن فيه بعض الخير، من دون أن يدرس حدود النسبية في هذا وفي ذاك، وهذا ما نلاحظه في الكثيرين من الناس الذين يوجهون نقداً لبعض التشريعات الإسلامية، في الحملة على الإسلام من الغرب والشرق، حول شروط الزواج أو حول تعدد الزوجات أو حول بعض ما حرّمه الإسلام هنا وهناك، أو بعض ما أباحه الإسلام ولو من وجهة نظر خاصة، كالمتعة مثلاً، التي أكدها الإسلام، فيما يحرمها بعض المذاهب الإسلامية بدعوى أنها منسوخة. حيث يحاول هؤلاء أن يسجلوا بعض السلبيات، ولم ينتبهوا إلى أنه ما من تشريع إلا وفيه سلبيات، سواءً كان ذلك في دائرة التحريم أو في دائرة التحليل، ولكن تبقى إيجابياته أكثر، والتشريع أي تشريع دينياً أو علمانياً هو كذلك، لأنك لن تستطيع أن تجد في مدى التاريخ كله تشريعاً لا يجلب الضرر ولو بدرجة قليلة.
لهذا نحن نريد أن ندخل إلى مسألة الهجرة من خلال الجوانب الإيجابية والسلبية فيها، لنجد أن أية هجرة جائزة وأية هجرة محرمة، وأية هجرة لا رجحان فيها بحيث يتساوى فيها السلب والإيجاب.
تشريع الهجرة:
قلنا إن الهجرة بدأت منذ الإسلام الأول، فهناك هجرة المسلمين إلى الحبشة على خلفية ما تعرّض له المسلمون الأوائل في بداية الدعوة، من الاضطهاد والأذى والحصار والعذاب الذي أسقط بعضهم شهداء كياسر وسمية، وضجوا إلى النبي(ص) ـ كما تقول كتب السيرة ـ، كأنهم خافوا أن يفتنوا في دينهم، وأن يبلغ العذاب الذي تمارسه قريش ضدهم المستوى أو الدرجة التي لا يملكون فيها الثبات، لأن طاقة الإنسان محدودة، فهاجر إلى الحبشة التي أشار النبي(ص) عليهم بالهجرة إليها، وكانت كما تقول كتب السيرة أحب الأرض إليه، وأرسلت قريش خلفهم بعض الذين يكيدون لهم عند ملك الحبشة، وكان الحوار التاريخي بينهم وبين ملك الحبشة، وانتصر المسلمون هناك، لأن الرجل كان يملك روحية منفتحة على تعاليم السيد المسيح(ع)، والتي رأى أنها تلتقي مع تعاليم النبي(ص) عندما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب (رض) من القرآن حديثه عن عيسى(ع) ومريم(ع). ورجعوا من الهجرة الأولى كما تفيد بعض المصادر وأوذوا أذىً شديدا،ً وعادوا إلى الهجرة الثانية التي انتهت بهم إلى المدينة بعد غياب طويل حيث انضموا إلى المسلمين. وكانت الهجرة الثانية هجرة النبي(ص) وقد هاجر المسلمون معه إليها، بعد أن هيأها لتكون قاعدة للدعوة الإسلامية أو الحكومة الإسلامية الجديدة، فكانت ظروف الهجرة الثانية متحرّكة بين خطين، الخط الأول هو خط الضعف الذي كان يمارس على المسلمين، حتى كانوا يقولون )رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِه ِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا(([187]) وفي الخطر الذي كان يواجهه الرسول(ص) والذي تحدث عنه القرآن الكريم )وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(([188]) حيث كانوا يتآمرون عليه، وتراوحت الاقتراحات بين الحبس، والإخراج من مكة وإرساله إلى البيداء، والقتل.
وكان الخط الثاني للهجرة يتمثل في الإنتقال بالدعوة الإسلامية الوليدة من موقع الضعف إلى موقع القوة، حيث كانت القوة المضادة التي كانت تملك، من الإمكانيات المادية والعسكرية والبشرية والسياسية ـ إذا صحّ التعبير عن تلك المرحلة ما لا يملك المسلمون أن يواجهوه، ولذلك كان التفكير في إقامة دولة إسلامية في مكة تفكيراً غير واقعي، ولهذا هيّأ النبي(ص) من خلال اتصالاته بالوفود التي كانت تأتي من هنا وهناك، القاعدة الأولى لامتداد الدعوة الإسلامية في يثرب، فأخذ البيعة الأولى والثانية، وهكذا انطلق النبي(ص) في هجرته بعد أن دفع الكثير من المسلمين للهجرة إليها، ثم انطلق النبي(ص) في هجرته بعد أن نضجت كلّ الظروف لإقامة أول مركز إسلامي حركي فاعل يعمل على صناعة القوة في هذه المنطقة.
صفات المهاجرين:
وقد تحدث القرآن الكريم عن المهاجرين بإيجابية كبيرة، لأن هجرتهم في هذه الظروف كانت تمثل تضحية كبيرة، لأنهم تركوا كلّ شيء خلفهم، وانطلقوا إلى المستقبل لا يملكون معه أي شيء على المستوى المادي، و لا يعرفون كل مفرداته، سوى إيمانهم بالله، لذلك كانت مسألة الهجرة الأولى إلى المدينة عظيمة جداً في خلفياتها وفي معناها. وهناك فرق بين الهجرتين، فإن الهجرة إلى الحبشة كانت الفرار من الاضطهاد، والحصول على الجوار، وهو يعنى الحصول على الأمن، بينما كانت الهجرة من مكة إلى المدينة هجرة التحدي، لأنهم كانوا يعرفون أنهم يقبلون على مستقبل يواجهون فيه التحديات من جهة، ويطلقون التحديات من جهة أخرى، فضلاً عمّا أشرنا إليه من هذه التضحية الشخصية التي فيها تضحية عاطفية من جهة وتضحية اقتصادية من جهة أخرى. وامتد الإسلام من خلال ذلك. يقول الله سبحانه وتعالى وهو يتحدث عن المهاجرين )وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(([189]) .
وقد ضمَّ الأنصار إليهم باعتبار تداخل المواقع بينهم وبين الأنصار، وما قدمه لهم الأنصار من مساعدات وتضحيات. ونستوحي من هذه الفقرة )رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ( المستوى الإيماني العميق الرائع الذي تمثل في هؤلاء، فقد رضي الله عنهم لأنهم أعطوا الله كلهم وضحوا في سبيله، وجاهدوا أنفسهم وبيئتهم وظروفهم، وانطلقوا في هجرة الله ورسوله )رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ( لأنهم عاشوا ألطاف الله ورحمته، وعطفه وكرمه، فيما شعروا بأن الله أعطاهم كل ما يتمنونه. وهذا النوع من تبادل الحب لا نظير له، لأنه قد يكون عندنا حب من طرف واحد، وهنا حب من طرفين ورضا من طرفين، تماماً كما جاء في كلام النبي(ص) عن علي(ع): ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار))([190])، مع الفارق بين الموردين. فهنا الرضا متبادل )رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ(.
وهذا ما ينبغي لنا أن نتمثله وأن نعيشه وأن نرتفع إلى مستواه، وأن نحيا هذا المستوى من العلاقة بالله، بحيث نرضى عن الله سبحانه وتعالى كل ما يجريه علينا، وحتى في ما يبتلينا به، لأنّ الله لا يبتلينا إلاّ عن مصلحة لنا، ولذا نقول: ((الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه))، وأن يرضى عنا من خلال ما نؤمن به ومن خلال ما نتقي، ويقول تعالى )وَالَّذِين هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(([191]). هؤلاء الذين عاشوا الاضطهاد بالعذاب وبالحصار وبالضغوط التي كانت تعمل على أن تفتنهم في دينهم )لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً( فنعطيهم من الكرامة ومن النعمة )وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( لماذا ذلك؟
)الذين صبروا( لأنهم عاشوا الصبر بأقوى درجاته وبأصعب مواقعه )وعلى ربهم يتوكلون( فلم يكن صبرهم انسحاقاً وعجزاً، بل كان صبراً واعياً، ولأنهم صبروا وهم يحدِّقون بعظمة الله وبرحمته وبلطفه، وبأنه سبحانه )سَيَجْعَلُُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا(([192]). وهذا هو الفرق – أيها الأحبة – بين صبر العاجز وصبر المؤمن، لأن صبر المؤمن من خياره، صَبَرَ وهو قادر على أن ينتقل إلى الجانب الآخر ليجد كل السعة، ولكنه اختار الضيق، وصمد أمام كل تحدياته النفسية والخارجية، وصبر لأجل الله وفي سبيله، ولذلك كان صبره صبراً مثقفاً عقيدياً، ومنفتحاً ربانياً، وواعياً لسنن الله في الكون من أنّ الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من بعد العسر يسراً، وواعياً لسننه الإلهية )وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ(([193])، فليس هناك ظلم خالد وليس هناك قوة خالدة. يقول تعالى )وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا(([194]) في خط الهجرة أو في سبيل الله )أَوْ مَاتُوا( وهم مهاجرون )لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا( والمقصود من الرزق هنا رزق الآخرة )وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ( )لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ(([195])، ((وأن الله يعلم)) بما عاشوه وبما اعتقدوه وبما عملوا به ((حكيم)) فيما يعطيهم من الأجر على ذلك، ويقول تعالى )ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(([196]) بمعنى أن يكون عادلاً حتى في عقوبته وفي رد الفعل، لأن الإسلام يؤكد دائماً على أن يكون رد فعلك مساوياً لفعل الآخر فلا تكون ظالماً لمن ظلمك، بل عاقب بمثل ما عوقبت به )فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ(([197]). وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه، ونحن نعيش في عالم يضج فيه الفعل ورد الفعل، على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي وعلى المستوى السياسي.
)لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ(([198]) فهم عندما أُخرجوا لأنهم رفضوا الكفر والذل والسقوط تحت تأثير المستكبرين في كل مخططاتهم )يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ اللَّهِ( في ما يتفضل الله به عليهم )وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ( ويتحركون من خلال أنهم ينصرون الله ورسوله بالثبات على دينهم والسير مع رسول الله(ص) على خط الله سبحانه وتعالى في إقامة هذا الدين ونصرته، )أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ( لأنهم صدقوا في الكلمة وصدقوا في الموقف، والله سبحانه وتعالى يريد منا دائماً أن نكون صادقين في كلّ مواقعنا ومواقفنا وكلماتنا وعهودنا وما إلى ذلك.
دور الأنصار:
ثم يحدثنا القرآن الكريم كيف استقبل الأنصار المهاجرين الذين أقاموا في المدينة، فلقد ثقلت عليهم الأعباء فلم يعودوا يملكون أية إمكانات مالية، والكثير من الأنصار لا يملكون الغنى والثروة، )وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(([199]) والأنصار هم سكان يثرب )يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ( فهم عاشوا الإسلام بالمستوى العقيدي وبالمستوى العلمي وعاشوه - وهذه هي القمة - في المستوى الشعوري، حيث تحول الإسلام فيهم إلى حالة شعورية حميمة، عاشوا من خلالها الحب للذين يهاجرون إليهم، بالرغم مما يحملونهم في الكثير من الأعباء الثقيلة )يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا( من مسؤوليات ومن أعباء )وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ( بحيث أنهم يعطونهم ما يحتاجون إليه )وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ( ولو كانووا في حاجة إليه )وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ( بمعنى عاش روحية العطاء وروحية الكرم )فَأُوْلَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ( .
العلاقة مع السابقين:
وهكذا يتحدث الله عن الجيل المتأخر )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ(([200]) ونحن جئنا من بعدهم، وحتى لا نقرأ الآية قراءة تاريخية، من حيث أنها تتحدث عن الماضي ولا شغل لها بالحاضر )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( فبالإيمان علينا أن نعيش هذه العلاقة الحميمة مع الذين سبقونا به، وركزوا لنا القاعدة ـ وصنعوا لنا الامتداد، وهيئوا لنا الأجواء، وعمّقوا لنا المفاهيم، وخطّوا لنا الخطوط )وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا( بل اجعل قلوبنا يا رب تعيش حب الإيمان للمؤمنين، لأن الإيمان يقوّي الحب ويتجذر ويمتد به. ومشكلة المؤمنين أنهم ينتجون الحقد - أحياناً - لأنهم يختلفون في الصغائر وفي الخصوصيات الذاتية هنا وهناك، فمتى نعيش ثورة الحب؟. لأننا نعيش - مع الأسف - ثورة الحقد أو فتنة الحقد، هذا الحقد الخبيث الذي أعطيناه صفة الحقد المقدس في وقت لا يمكن فيه أن يكون الحقد مقدساً.
وهذا هو درس الهجرة التاريخي، تلك الهجرة التي استطاعت أن تفتح العالم كلّه على الإسلام كلّه، ولولا الهجرة لبقي الإسلام سجيناً مضطهداً في مكة، إلاّ أنها دفعت بالإسلام إلى العالم، وانطلق الإسلام من خلال أن الله أراد أن يظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون.
ونحتاج - أيها الأحبة - إلى أن نكمل المسيرة من أجل أن يمتدّ الإسلام في العالم. هذا حديث الهجرة في تاريخ الإسلام، ويبقى حديث الهجرة في المفهوم الإسلامي من حيث الخط الفكري، ومن حيث حركيته في الواقع. ونرجو أن نوفق له في حديث قادم إن شاء الله. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثانية 14 شوال 1422ه - 29/كانون الأول/2001م
الهجرة في مفهومها الإسلامي (2)
* الهجرة ليست شرّاً، بل قد تكون بمثابة انطلاقة جديدة يقوم بها الناس إذا فقدوا حرية الحركة في بلدانهم *
الهجرة وهمّ نشر الإسلام.
دوافع الهجرة الحديثة.
لماذا الهجرة؟
مشاكل الهجرة.
التطلع إلى الأمن.
خير البلاد ما حملك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الهجرة وهمّ نشر الإسلام:
كان حديثنا فيما سبق حول الهجرة في جانبها التاريخي، وتحديداً في بداية الدعوة الإسلامية، حيث انطلق المسلمون في الهجرة الأولى إلى الحبشة من أجل مواجهة الضغوط الصعبة التي كانوا يعيشونها في مكة، لتثبيت إيمانهم في خط الإسلام، وتلتها الهجرة الثانية إلى المدينة. وقد عاش المسلمون هاجس الهجرة هذه سواءً في الفتوحات التي انطلقوا فيها إلى أقاصي العالم، أو في أغراضهم التجارية والثقافية أو ما إلى ذلك، لينفتحوا على العالم وينشروا فيه الإسلام. وربما لم يكن الكثيرون منهم علماء دين أو من فئة الدعاة إلى الله بالمعنى الرسمي الديني، ولكنهم كانوا يملكون وعي الإسلام في الدعوة، ويتحسسون إسلامهم في الإنسان الآخر، من منطلق شعورهم بالمسؤولية في نقل هذا الإسلام إلى الآخرين بكل ما يملكونه من وسائل.
وهكذا نلاحظ أن انتشار الإسلام في العالم قد حصل من خلال هذه الهجرات، سواءً كانت هجرات عسكرية في خط الفتوحات، أو كانت هجرات اقتصادية في خط حركة التجار والعمال المسلمين، الذين قد يتحرك العلماء المسلمون معهم إلى تلك البلاد، أو من خلال أنهم كانوا يستقدمون طلاباً للعلم في حواضر الإسلام العلمية ليرجعوا إلى أهلهم، ليثقفوهم بالإسلام وليدعوهم إليه، فكان امتداد الإسلام من خلال هذه الهجرات الاقتصادية والثقافية أكثر من امتداده في الفتوحات، وهذا ما نلاحظه من خلال حركة الإسلام في البلدان الإسلامية الآسيوية التي يعيش فيها مئات الملايين من المسلمين. ولذلك فقد ربحنا شعوباً إسلامية لم يكن لها عهد بالإسلام.
دوافع الهجرة الحديثة:
أما في تاريخنا الحديث، فقد عاش المسلمون في بداية القرن الماضي خلال الحرب العالمية الأولى أزمات اقتصادية وأمنية، فتعرضوا لمجاعات قاسية في أكثر من بلد من بلدان العالم الإسلامي، ما دفع بالكثير من منهم إلى الهجرة إلى بلاد الغرب، سواءً إلى أميركا أو إلى بعض دول أوروبا. وكنتيجة للجهل الذي كان يعيشه هؤلاء وفقدان أي موقع إسلامي في البلاد التي هاجروا إليها، فقد قطع التواصل بينهم وبين البلدان الإسلامية الأخرى، وبذلك خسرنا الكثير من المسلمين المهاجرين في تلك المرحلة، وتحولت مئات من العائلات المسلمة في الأرجنتين وفي تشيلي وفي كوبا وفي غيرها من دول أمريكا اللاتينية إلى عائلات غير إسلامية، وإن كانت المشكلة بشكل أقل في أمريكا، حيث التواصل كان قائماً بين أمريكا وبين المناطق الشرقية، ولا سيما بين لبنان وسورية اللتين كثرت الهجرة منهما إلى أمريكا.
لماذا الهجرة؟
ونلاحظ اليوم أن الهجرات المتعاقبة بعد ذلك بدأت تنطلق إلى بلاد الغرب، ولكن من خلال أكثر من سبب، من خلال الظروف الأمنية تارة، أو من خلال الأزمات الاقتصادية التي تطبق على العالم الإسلامي بفعل نقاط الضعف الاقتصادي الموجودة في داخله، وبفعل الخطط السياسية التي قام بها المستعمرون الذين استعمروا العالم الإسلامي، من أجل إفقاره وتحويله إلى أسواق استهلاكية للغرب تارة أخرى، أو من خلال تحويله إلى مواقع استراتيجية لصراعاته، أو إلى هوامش سياسية لسياساته أو ما إلى ذلك، أو نتيجة للسياسات المتبقية من أجل تجهيل العالم الإسلامي وإفقاد جامعاته المستوى الذي يمكّن طلابه من الحصول على مستويات متقدمة، أو من خلال الأدمغة التي نملكها في شتى أنواع العلوم التي لم تجد أية فرصة لخدمة شعوبها بهذا العلم، وبهذا فقد وقعنا في مشكلة هجرة الأدمغة العلمية إلى بلاد الغرب، ولم يبق عندنا إلا الذين لم تسمح لهم ظروفهم في أن يهاجروا، أو لأنهم لم يدخلوا في سوق شراء الأدمغة من قبل أمريكا وأوربا، هذا إلى جانب الهزات السياسية التي فرضت نفسها على الكثيرين من بلدان العالم الإسلامي. وقد وصلنا إلى نتيجة مخيفة، وهي أنه ما من بلد من بلدان العالم الإسلامي كله، إلا وهناك مئات الألوف، بل الملايين، ممن هاجروا منه لأسباب أمنية واقتصادية وسياسية إلى سائر أنحاء العالم. فنحن عندما نراقب الإحصاءات الموجودة في دول الغرب الآن، نجد أن هناك في فرنسا وحدها ما يقارب خمسة ملايين مسلم وفي بريطانيا ما يقارب ثلاثة أو أربعة ملايين مسلم، وفي أمريكا ما يقارب عشرة ملايين مسلم، وفي أستراليا قد يبلغون أكثر من مليون، والهجرة إلى أستراليا - كما هو معلوم - هجرة جديدة، وهكذا إلى البرازيل ودول أمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى بعض المجموعات الأخرى في إيطاليا وفي بلجيكا وغيرها من الدول، بحيث أصبحت لدينا مجتمعات إسلامية من خلال كثرة عدد المسلمين في تلك البلدان.
مشاكل الهجرة:
ومن هنا برزت مشكلة الهجرة الإسلامية إلى بلاد الغرب، والتي أفرزت آلاف المشاكل، وبالأخص من الناحية الاسلامية في ما يواجهه المسلمون من تحديات على مستوى عقيدتهم. وقد انطلق الكثيرون من المبشِّرين بأديان أخرى لإخراج المسلمين وفتنتهم عن دينهم، مستغلين كلّ الإغراءات المادية وغير المادية، وهكذا واجهنا مشاكل الانحراف الأخلاقي والسياسي في توظيف جيش من المسلمين في أجهزة المخابرات الدولية، فأصبح هؤلاء بموجب ذلك عيوناً على المسلمين هناك، وعلى المسلمين في بلدانهم، في عملية استغلال للواقع الاقتصادي الذي يعيشونه، أو لبعض الأوضاع الأمنية التي تعترضهم.
وفي ضوء ذلك، أصبحت الهجرة الإسلامية مسألة تحتاج إلى دراسة متأنية ومعالجة هادئة، لأننا إذا استطعنا أن نبقي الجيل الأول على إسلامه، فإننا ربما لا نضمن بقاء الجيل الثاني أو الجيل الثالث على الإسلام، لأنهم يعيشون في مناخٍ غير إسلامي، فكيف نواجه هذه المشكلة؟!
إن علينا من حيث المبدأ دراسة الجانب الشرعي للهجر ثم نتوجّه إلى معالجة المشاكل الأخرى، وهذا الأمر لا تنحصر مسؤوليته في العلماء والمراجع فحسب، بل تتحمل مسؤوليته كلّ الفعاليات الإسلامية التي تفكر بمستقبل الإسلام وبالمصلحة الإسلامية العليا.
التطلع إلى الأمن:
ولنبدأ في دراسة الهجرة من خلال الضغوط الأمنية، وما أكثرها في بلادنا الإسلامية التي يحكمها في الأكثر طغاة وظّفتهم المخابرات الدولية ليكونوا حكّاماً على الناس، وليحرسوا المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية للمستكبرين، لأن دراستنا للخلفيات التي تحكم أكثرية هؤلاء تفيد أن معظم هؤلاء الحكام كانوا قد درسوا في مواقع المخابرات الدولية منذ نشأتهم بشكل مباشر وغير مباشر، حتى أن بعضهم وظفوا في موقع الحكم في شروط معينة. وهذا ما نلاحظه على هذه الأنظمة، التي تصادر حريات شعوبها وتمارس عليها حياة القهر والإرهاب، حتى أصبح الإنسان يخاف أن يضبط نفسه وهو يفكر بحرية، لأنه يخشى أن يملك هؤلاء أجهزة تستطيع أن تراقب فكره، لذلك فإن الكثير من المسلمين، ولاسيما من الأحرار في دينهم وفي وطنيتهم والكثير من قضايا شعوبهم، واجهوا خياراً صعباً، إما الموت صبراً وإما الهجرة.
وهنا نستطيع أن نستوحي معاني هجرة الحبشة في هذه الهجرات، فنورد بعض الآيات القرآنية، إذ يقول الله في كتابه الكريم وهو يتحدث عن هؤلاء )الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِه ِالْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا(([201]). وكلمة القرية - هنا - تعبر عن مكة في خصوصية موقع هؤلاء، ولكنها تمثل في امتدادها العلمي التعبير عن الموقع الذي يعيشه هذا الإنسان أو تلك الجماعة من الذين أطبق الظلم عليهم، وأقفلت بوجههم المخارج، ولذلك يطلبون من الله أن يجعل لهم من أمرهم مخرجاً. ويقول تعالى:)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ(([202]).
وقد أُخرجوا إما اختياراً أو اضطراراً، ونحن نعلم أن هناك كثيراً من الأنظمة في العالم الإسلامي تعمد إلى نزع جنسيات بعض مواطنيها وتتركهم في متاهات الضياع، بل أكثر من ذلك، فإنها تمنع بعض مواطنيها من الذين ينتمون إلى الوطن أن يدخلوا بلدهم أو يرجعوا إليه. هذا النموذج كان موجوداً في التاريخ، وتحديداً في عهد الدعوة، وفي نطاق مكة وما حولها،وهو موجود الآن في أكثر من بلد إسلامي )الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ(، وهكذا نقرأ في الكتاب الكريم عن نموذج آخر من هؤلاء الناس )وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا(([203])، بمعنى أنه أطبق الظلم عليهم ولم يستطيعوا البقاء ًفي بلادهم مخافة أن يظلموا، لأنهم لم يستطيعوا أن يواجهوا التحديات أو يدخلوا في عمل انتفاضي أو ثوري، لأن الظروف حاصرتهم من جميع الجهات )لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(([204]) لأنهم كانوا المظلومين، وخيّروا بأن يبقوا ليفتنهم هؤلاء عن دينهم بسبب الضغط والظلم أو يخرجوا فراراً بدينهم وبحريتهم وكرامتهم، فاختاروا الثانية. ثم نقرأ أيضاً )ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا( فعاشوا الاختبار والفتنة عن دينهم، وربما اهتزت بعض أفكارهم وضعف بعض إيمانهم بفعل الضغط القاسي )ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا( أي جاهدوا أنفسهم )إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(([205]) فيغفر لهم هذا الضعف الذي عاشوه وهذا الاهتزاز الذي وقعوا تحته.
من خلال هذه الآيات التي تعطي القيمة الإيمانية للذين انفتحوا على الهجرة فراراً من الظلم الداخلي الذي يريد أن يفرض عليهم مفاهيمه المنحرفة أو يخرجهم من دينهم أو من إنسانيتهم، ويريد أن يجعلهم جنوداً للظلم ينصرونه ضد مواقع العدل، نستوحي أن هناك الكثير من الأحرار اختاروا البقاء في بلدهم ليعملوا فيما لديهم من طاقة في سبيل تغيير الواقع الداخلي في بلادهم، فقتل من قتل منهم، وسجن من سجن، وجرح من جرح، وشرّد من شرّد، وتحوّل بلدهم إلى سجن كبير أغلقت كل أبوابه وكل نوافذه، فعاشوا الموقف الحسيني الذي نفّذوه، بطرق وأساليب تقترب من الموقف الحسيني، والذي تجلّى في قول الإمام الحسين(ع): ((ألا وأن الدعَّي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة))([206]). الموت وإما الإذلال تحت مفاهيم الطغيان، وتحت وسائل الطغاة.
وانعدمت الفرص أمام أيّ موقف ثوري، بسبب الحصار الذي أطبق على كل مواقع الثورة، سواءً كان داخلياً أو خارجياً، ولهذا انطلق هؤلاء ليفتشوا عن أرض جديدة يستطيعون من خلالها أن يرجعوا إلى بلدهم بقوة جديدة، لأنهم قرأوا قول الله سبحانه وتعالى:)إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ(([207])، وقرأوا قوله سبحانه وتعالى:)أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(([208]). وقد خاطب الله الذين سقطوا أمام ضغط المستكبرين واتبعوهم في دينهم وفي مخططاتهم وفي سياستهم، لأنهم كانوا يعيشون الضعف الداخلي فاستضعفوا أنفسهم، فكانت الآية بمثابة القاعدة الإسلامية التي تعالج مسألة الهجرة، فتفرض الهجرة على فريق وتعذر فريقاً آخر لعدم الهجرة، وتوجّه الناس إلى أن الهجرة ليست شراً، بل تكون بمثابة انطلاقة جديدة يقوم بها الناس إذا فقدوا حرية الحركة من خلال فقدانهم للقوة في بلادهم، حيث يحصلون على حرية الحركة في بلاد أخرى، وقد يحصلون على قوة جديدة يملكونها هناك ليرجعوا إلى بلادهم من موقع قوة يسقطون فيه الطغيان كله، وهذا هو سر قوله سبحانه وتعالى:)إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَة ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ( أي ظلموا أنفسهم بالانحراف عن خط الإسلام فاختاروا الكفر على الإسلام، وظلموا أنفسهم في تنفيذ خطط الظالمين ضد العادلين، وظلموا أنفسهم في الانحراف عن خطوط القيم الأخلاقية والقيم الروحية والإنسانية في المسائل السياسية والاجتماعية والأمنية وما إلى ذلك:)قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ( أي ما هي ظروفكم التي فرضت عليكم أن تظلموا أنفسكم؟ بأن توجهوها في غير ما يرضي الله وفي غير ما يكفل لكم النجاة؟ )قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ( لم نكن متمردين من خلال اختيارنا للتمرد على الدين وعلى شريعة الله ولا على القيم الإسلامية الأصيلة، ولم يكن ذلك من خلال فكر نختاره، ولكننا كنا مستضعفين في الأرض، وكان المستكبرون يملكون القوة، وكنّا في حاجة إليهم وإلى أموالهم وإلى مواقعهم، ولم نكن نملك أي موقع للقوة لنواجههم أو لنحصل على ما نريد خارج نطاق ما يملكونه من مواقع ومن فرص، وخيَّل إليهم أنّ ضعفهم يمثل عذراً قالوا )أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا( إن الله يقول لكم: يا عبادي إن أرضي واسعة، وإنكم إذا لم تستطيعوا أن تعبدوا الله في أرض أو أن تكونوا أحراراً، فإن عليكم أن تنتقلوا إلى أرض أخرى تجدون فيها الحرية في عبادة الله، وإذا لم تستطيعوا أن تجدوا الاستقامة في أرض لأن هناك من يفرض عليكم الانحراف، فإنكم تملكون أن تحصلوا على الاستقامة أو تلزموا خط الاستقامة في أرض أخرى، وهكذا في مسألة الحرية وفي مسألة الكرامة الإنسانية وفي كل ما يرتفع بمستوى الإنسان عن مواقع الانحطاط، إن هناك أرضاً أخرى لا يسيطر عليها المستكبرون بإمكانكم أن تحصلوا فيها على هذه الحرية حتى لو كانت هناك بعض السلبيات )فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا( هؤلاء الذين استراحوا للاستسلام تحت ضغط المستكبرين وانطلقوا معهم في خط الانحراف، فإن ضعفهم ليس مبرراً ما داموا يملكون الاختيار في الجانب الآخر )إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ(، هؤلاء الذين أطبق عليهم الضعف من جميع الجهات، فكانوا في أكثر من زنزانة لا يملكون فيها أن يتحركوا، لأن الطرق أمامهم مسدودة من كل جانب )لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً( حتى ينفذوا من خلالها إلى الفضاء الواسع )وَلا يَهْتَدُون َ سَبِيلا( طريقاً يستطيعون أن ينفتحوا من خلاله على أرض أخرى، أو على تجربة أخرى أو على ثورة أو على انتفاضة أو ما إلى ذلك. هؤلاء الذين أطبق السجن عليهم من كل جانب )فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا(([209]).
ونلاحظ أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن هؤلاء في أنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فيقول )عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ( حتى لا يعطيهم الضوء الأخضر في العذر كله ليبقوا في حالة استنفار للبحث عن حيلة أو البحث عن سبيل، لأن الإنسان حينما يرى نفسه معذوراً فإنه لا يبحث عن وسائل جديدة، فقد يكون اليوم محاصراً ولكنه غداً قد يجد ثغرة هنا وثغرة هناك، لذلك فإن الله جعل المسألة في دائرة اللامكان والأمل والتمني، فقال: )فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّه ُ عَفُوًّا غَفُورًا( ولم يجعلها بشكل حاسم، حتى يبقوا في حالة استنفار حركي، واستنفار نفسي في البحث عن حل.
خير البلاد ما حملك:
وقد أراد الله سبحانه أن يبين أن الهجرة ليست وسيلة يشعر فيها الإنسان بالإحباط أو بالسقوط، لأنه ترك ملاعب صباه ومنازل أهله، حيث يرتبط الإنسان عادة بالأرض التي ولد فيها وعاش أجداده عليها، لأنه يشكّل جزءاً من ترابها، وقد تنشق هواءها وماءها وأكل من غذائها، لذلك فإن علاقة الإنسان بوطنه وبأرضه هي علاقة تدخل في تكوينه الجسدي وفي كل تطلعاته الروحية والفكرية، لكن الله يقول للإنسان بأن إنسانيتك هي أفضل من مزاجك وأفضل من كل أحلامك، لأن قيمة الأحلام إنما تكون بمقدار ما تقوي إنسانيتك وتفتح لها آفاقاً واسعة، وأن قيمة المشاعر هي بمقدار ما تروي ظمأ إنسانيتك. أما إذا كانت المسألة أن تسقط إنسانيتك لتبقي مشاعرك المزاجية، فإن ذلك لا يمثل كرامة لك.
وعلى هذا الأساس نفهم كلمة الإمام علي(ع): ((ليس بلد أولى بك من بلد))، لأن البلد موقعٌ وليس قيمةً في ذاته، وقيمة البلد الذي تسكنه بمقدار ما يحفظ إنسانيتك ((خير البلاد ما حملك))([210])، فإنك إنسان لابد أن تعيش حريتك وكرامتك وعزتك، ولذلك ابحث عن كل ما يحفظ هذه الكرامة، ويقوِّي هذه الحرية وينطلق بك نحو إنسانيتك. إن الإمام علي(ع) في إيحاءات هذه الكلمة لا يريد أن يبعدنا عن الارتباط بأوطاننا، بل يريد أن لا نجعل أوطاننا أصناماً نعبدها، بل لتكون مواقع لإنسانيتنا، لأن أرض الله واسعة، ولذلك فإذا ضاقت بنا الأرض في مكان، فإن الله قد فتح لنا أرضاً أخرى في مكان آخر. وعندما ندرس كل الشعوب التي تقيم في مواطنها، فإننا نجد أن وجودها في هذا البلد لم يكن منذ الأبد ومنذ الأزل، بل كان وجوداً طارئاً، حيث أن كثيراً من الناس كانوا من بلد معيّن ثم هاجروا واستوطنوا بلاداً أخرى.
ومن خلال إيماننا بالقيم الإنسانية والأخلاقية والروحية، لابد لنا من أن ندافع عن بلدنا وأن ننقذه، لأننا نريد أن ننقذ الإنسان، حتى أنني قلت في أكثر من حديث إن علينا أن نؤنسن الأرض، بمعنى أن نعطي الأرض بعداً إنسانياً، لتكون حريتها من حريتنا، وليكون استقلالها من استقلالنا، ولكن علينا أن نكون واقعيين في ذلك كله، ولو على مستوى المرحلة، يقول الله: )وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا(، أي مذهباً وطريقاً وفرصة. وعليه، إذا ضاقت أرضك فستجد فرصاً في أرض أخرى، وكلمة ((سبيل الله)) تعني أن تهاجر لحفظ دينك وحريتك وكرامتك وأهلك وأمتك، لأن في كل ذلك رضا لله، وقال تعالى: )وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّه ِوَرَسُولِهِ( ليحقق الأهداف التي يرضاها الله ورسوله )ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(([211]) وكلمة ((وقع أجره على الله)) كلمة ليس فوقها كلمة في مستوى الأجر الذي يعطيه الله، وقوله تعالى: ((وقع أجره على الله)) أي بلا حساب لأنه خرج في سبيل الله، ومن أجل قضية يحبها الله ورسوله. ولذلك فإن الله هو الذي يتكفَّل بأجره، ولا حساب لأجره. وإيحاءات هذه الكلمة ((فقد وقع أجره على الله)) يعني لا حساب لأجره ((وكان الله غفوراً رحيماً)).
وقد يكون من المفيد البحث عما يمكن أن ينقذ هجرتنا الإسلامية إلى بلاد الكفر، ليحفظ هذه الهجرات في الأجيال، من الكفر والضلال، ولتستهدف إنشاء مجتمعات إسلامية، لأن دورنا هو أن نؤسلم العالم: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(([212]) و)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاس ِبَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(([213]). قد نكون مستضعفين الآن، ولكن ما يدرينا، ربما ننطلق فيما بعد، بعد قرن أو قرنين، فقد نستطيع أن نكون أسياد العالم أي أسياده بالإسلام وبالعدل وبالحكمة والموعظة الحسنة. ألسنا نتطلع إلى من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً؟ ويبقى الأمل كبيراً حتى لو أحاط اليأس بكل مواقعنا. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثالثة 21 شوال 1422ه - 5/كانون الثاني/2002م
الهجرة في الجانب الشرعي (3)
* الهجرة مشروعة إذا كانت في سبيل الله *
شرعية الهجرة.
سبيل الله.
ألوان الهجرة.
الهجرة الحرام.
الهجرة حفاظاً على الكرامة.
الهجرة من أجل الدعوة.
التعرّب بعد الهجرة.
نصيحة لكلّ المهاجرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونبقى مع الهجرة كعنوان يعيشه الإنسان في كل زمان ينفتح الإنسان فيه على عالم جديد لم يألفه ولم يتحرك باتجاهاته وعاداته وتقاليده، حيث يبقى في بعض الحالات ضائعاً غريباً، وكنا قد تحدثنا في ما سبق عن الهجرة تاريخياً، خاصةً على المستوى الإسلامي، وفيما عاشه المسلمون، كما تحدثنا عن الجوانب الإيجابية والسلبية للهجرة، والتحديات التي يمكن أن تواجه المهاجرين. ونواصل في هذه الندوة الحديث في الجانب الشرعي من حيث جواز الهجرة وعدم جوازها.
شرعية الهجرة:
وإنما تكون الهجرة مشروعة إذا كانت في (سبيل الله)، وإذا كان البعض يفسر كلمة (سبيل الله) بالجهاد، فإنها في الحقيقة تتسع لكل نشاطات الإنسان في خط الخير والحرية، وكل ما يرفع مستوى الإنسان، مما يحبه الله للإنسان، لأن الله يريد للإنسان أن يكون خليفته في الأرض، لا بمعنى المصطلح لكلمة الخليفة، ولكن بمعنى إناطة الدور. فقد خلق الله الأرض لا لتعيش مع نفسها، بل خلقها للإنسان، وبعبارة أخرى لتتأنسن الأرض، فيعطي الإنسان الأرض شيئاً من إنسانيته، وشيئاً من عقله بما يعقلن من طاقاتها، وشيئاً من علمه ليفجر كل ينابيعها، ويكتشف كل أسرارها، وليمنحها من تطور عقله تطوراً لخدماتها ولأوضاعها جميعاً.
سبيل الله:
فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليتطور، وأراد له أن يطوّر الأرض ويجعلها أكثر إنتاجاً وأكثر انفتاحاً على حاجاته، ولهذا فإن كلمة (سبيل الله) تمثل الطريق التي تؤدّي إلى الله. وعندما ندرس بعض التعبيرات الواردة في النصوص الإسلامية، نجد أن سبيل الله يتَّسع لكل نشاطات الإنسان الحركية، كما في تحصيل الرزق عندما تكون الأهداف أهدافاً خيرِّة ترفع مستوى الإنسان ولا تسقط قيمته، وغير ذلك.
ونقرأ في السيرة النبوية الشريفة أن النبي (ص) كان جالساً مع أصحابه وقد مرَّ بالقرب منهم شابٌ مفتول العضلات وهو يحمل فأسه من أجل أن يكسب عيشه، من تقطيع الأشجار أو حفر الأرض وما إلى ذلك، فتساءل الصحابة - كما تقول الرواية -لو أن هذا الشاب صرف جهده في سبيل الله أما كان ذلك أولى به، وكأنهم يقولون لو أنه صرف هذه الطاقة في الحرب أو في العبادة، فالتفت إليهم النبي (ص) مصححاً لهم هذا المفهوم الخاطئ، أو هذا الأفق الضيق الذي يحصرون به سبيل الله، فقال : ((إن كان هذا الشاب خرج لأبوين عنده يعولهما فقد خرج في سبيل الله، وإن كان قد خرج ليعود بالمال على نفسه وعياله فقد خرج في سبيل الله، وإن كان خرج ليكف ماء وجهه عن الناس فقد خرج في سبيل الله، وإن كان خرج ليستعلي بالمال على الناس فقد خرج في سبيل الشيطان)). وورد في الحديث أن ((الكادّ على عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله، أو كالمجاهد في سبيل الله))([214]). وهكذا نجد أن الإنسان الذي يعمل من أجل طلب العلم فإن عمله يندرج في سبيل الله، وإن كان يخرج في سبيل قضاء حاجة أخيه المؤمن فهو كذلك في سبيل الله، وإن كان الإنسان خرج ليعمر للأيتام ميتماً وللطلاب مدرسة وللمرضى مصحّاً أو ليصلح طريقاً فقد خرج في سبيل الله.
وقد ورد عندنا أن السيد المسيح(ع) مرَّ بقبرٍ يُعذَّب صاحبه - وقد كشف الله عن عينه فرأى صاحبه وهو يتعذب - ثم مرَّ في العام القابل وقد رفع العذاب عنه، فسأل ربه عن هذا الرجل، إن كان يستحق العذاب فكيف رفع عنه، وإن كان لا يستحق العذاب فكيف عُذِّب، فأوحى الله إليه لقد نشأ له ولد صالح، ومن الطبيعي أنه كان له دور في تنشئته فآوى يتيماً وأصلح طريقاً فغفرت له من أجل ولده.
ولذلك فإننا نخرج بنتيجة هي أن كل عمل اجتماعي يساهم في وحدة المجتمع ويرفع من مستواه ويحقق له الحرية والطمأنينة هو عمل يحبه الله، وكذلك النشاط السياسي الذي يمنح الأمة حريتها واستقلالها وقوتها وتوازنها في مواجهة الأمم الأخرى، )وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وللمؤمنين(([215]) وفي العمل الأمني أيضاً الذي يحفظ للأمة أمنها، وفي كل الأعمال التي يمكن أن تشارك في رفع مستوى الأمة، أو في الجانب السياسي عندما نحرّك نشاطنا ضد الفقر وضد الجهل وضد التخلف وضد سيطرة المستكبرين وضد كل العناصر الظالمة وما إلى ذلك. وعليه، فإنما تكون الهجرة في سبيل الله ضمن تلك الأهداف التي يحبها الله ويرضاها، والتي أراد للإنسان أن يقوم بها.
فإذا كانت الهجرة في هذا السياق فليهاجر الإنسان، وسيفتح الله أمامه إن عاجلاً أم آجلاً كل الفرص، وكما قال الله تعالى: )وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا(([216])، يعني مذهباً وطريقاً وفرصةً )وسعة( ينطلق نحوها من خلال الضيق الذي كان يعانيه في الدنيا. أما في الآخرة، فقد وعد الله المهاجر بما هو أرفع كما في قوله تعالى: )وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ( والهجرة إلى الله ورسوله هي هجرة في سبيل الله فيما ذكرناه )ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( وقوله "وقع أجره عليه" يختزن كل العطاء الذي لا يحده شيء. هذا هو الخط العام في الهجرة، ولذلك فإن على الإنسان المهاجر إذا أراد أن يرعاه الله في هجرته، وأن يعطيه أجرها، وأن يمنحه بركاتها، وأن يسهل له صعوباتها، فعليه أن يضفي على هجرته البعد العبادي، كما هي الصلاة والصوم والحج من حيث التقرب إلى الله، وأن يقصد بها وجه الله.
ألوان الهجرة:
ومن خلال تتبع النصوص الشرعية، فإننا نجد تعدد أبعاد الهجرة وتعدد ألوانها، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) قوله: ((إن الله تبارك وتعالى ليحب الإغتراب في طلب الرزق))([217])، يعني عندما تضيق بك أرضك ولا تمنحك العيش الكريم، فإن الله تبارك وتعالى لا يريدك أن تبقى في أرضك لتجتر آلامك ولتسقط تحت تأثير فقرك، فقد ورد في المأثور، ((كاد الفقر أن يكون كفراً)) فربما يجعلك - أي الفقر - بموضع استغلال الذين يدرسون نقاط الضعف في الآخرين ليستغلوهم ويسقطوهم. فهاجر لتطلب الرزق، ولكن من خلال الخط الذي رسمته الآية الكريمة التي تلوناها عليكم، فلابد أن تطلب من حلال، لأن الله لم يجعل رزق الإنسان من حرام، ولكن الإنسان يستعجل رزقه في الحرام فيحرمه الله من رزقه الحلال، أي اصبر على رزقك وانتظر الرزق الحلال. وقد ورد عندنا في تقويم طلب الحلال حديث نبوي شريف: ((العبادة عشرة أجزاء - وفي رواية سبعون جزءً ـ أفضلها طلب الحلال))([218]). وقد أمرنا بطلب الرزق الحلال لأنه يجمع لنا الدنيا والآخرة، على خلاف المال الحرام الذي ربما يجمع لك الدنيا ويفوّت عليك الآخرة. كما أنه قد يكون موضع بلاء الله لك، فقد يضطرك أن تصرفه في الأمراض أو في كثير مما يبتلى به الإنسان مما يستنزف المال. لذلك فإنّ الرزق الحلال هو خير في الدنيا باعتبار أنه يلبّي حاجاتك، وخير في الآخرة باعتبار أنك تحصل من خلاله على ثواب الله، لأنك عندما تسعى وراء رزقك فإنك تعبد الله في ذلك.
وقد قال الله تعالى في شأن الرزق: )هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ(([219])، فقد أعطاكم الله رزقه في مدى الأرض، بل إن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الجمعة: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ % فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون(([220])، فما إن تنتهي الصلاة حتى ينتشر الناس في طلب رزقهم.
الهجرة الحرام:
إذاً على المهاجر الذي يهاجر في طلب الرزق أن لا تغريه مغريات الكسب الحرام، لأن البعض قد يجد فرصاً للكسب الحرام، وهذا ما نلاحظه على بعض الناس حينما يذهبون إلى المناطق الأخرى غربية أو شرقية، يحملون معهم فتاوى تبيح لهم أموال غير المسلمين، فيتحَّولون إلى لصوص باسم الإسلام والإسلام بريء من ذلك كله، لأن الله أرادنا أن نحترم أموال كل الناس المسالمين، لا سيما الناس الذين يحترموننا ويقبلوننا في بلادهم، ويهيئون لنا الرزق، وللأسف فإن بعض الناس قد يستغل بعض القوانين التي فيها سعة لأكل المال الحرام، من خلال أنهم يستغلون بعض الأشياء، فيقترضون مالاً من البنوك ثم يهربون إلى بلادهم، أو يتعاملون مع شركات التأمين ويرتبون حادثاً في سياراتهم أو حريقاً في محالهم، ليأخذوا التعويض من شركة التأمين. هذا بالإضافة إلى الذين يتاجرون بالمخدرات أو الذين يتاجرون بالخمر وما إلى ذلك، أو الذين يتاجرون بأعراض الناس في تجارة البغاء، هذه كلها تجارة محرمة وكسب حرام. فلا يجوز لك أن تهاجر لتقوم بذلك، لأن الله سوف يبغضك ويبتليك، وكم ابتلي الناس الذين مارسوا هذه الأعمال فأصبحوا في أعماق السجون، وهذا يقودنا للحديث عن التحديات الأمنية، فإن أجهزة المخابرات قد تستغل حاجات المهاجرين من أجل أن توظفهم في أجهزتها، فهي إما تجذبهم بالإغراءات أو تورطهم ببيع المخدرات، ثم تحاول أن تمسك من تورطه متلبّساً بذلك لتطرح عليه هذا العرض، بأنك إذا عملت معنا وتجسست على أهل بلدك وإخوانك وما إلى ذلك، فإننا مستعدون لأن نعفو عنك. وقد سقط البعض ولا أقول الكثيرين تحت تأثير ذلك، وهذا كله من الكسب الحرام، فمن أراد أن يسافر ويهاجر ويغترب من أجل ذلك كله فليأكل الصخر في بلده أشرف له من أن يذهب ويأكل لقمة الحرام ويربي أولاده على المال الحرام، لأن للمال الحرام تأثيراً في نفس الإنسان.
الهجرة حفاظاً على الكرامة:
وربما يهاجر الإنسان كما يحدث في أيامنا هذه وكما تحدثنا عنه فيما سبق من أجل أن يحفظ كرامته وعزته أو يحفظ أمنه أو يحفظ حريته، ونحن نعرف أن كثيراً من الهجرات في العالم الثالث تحركت في هذا الاتجاه، لأن الكثير من الأنظمة تحاصر شعوبها وتظلمهم وتضيّق عليهم وتتدخل في خصوصياتهم الدينية أو في خصوصياتهم المذهبية أو في انتماءاتهم السياسية وما إلى ذلك، فلا يجد الإنسان حريته في بلده الذي قد يتحول إلى سجن كبير تصادر فيه إنسانية الإنسان، ففي هذه الحالة لا مانع من أن يهاجر الإنسان، وربما كانت بعض الآيات تشير إلى ذلك. فعن الإمام الباقر(ع) في تفسيره لقوله تعالى: )يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ(([221]) قال(ع)((لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك))([222]). وهذا من تفسير الإمام للآية، ولا يقصد الملك بالمعنى المصطلح، بل يقصد كل طاغٍ وباغٍ يتسلط على رقاب الناس ((فإن خفتوهم أن يفتنوكم عن دينكم))، ويحولونكم إلى أتباع لهم )فإن أرضي واسعة وهو يقول فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة فَتُهَاجِرُوا فِيهَا(([223]) وهذا الحوار الذي يدور بين الإنسان وبين الملائكة يلقي الضوء على حالة سقوط الإنسان تحت تأثير هؤلاء، وهو قادر على أن يتحرر منهم، ولكنه يفضل الاسترخاء والسير مع الحاكم الظالم الذي يضطهد إنسانيته ويدمرها، فيسقط في الامتحان.
وشبيه بذلك قول الإمام الصادق(ع) في قوله تعالى: )يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ( ((إذا عصي الله في أرض أنت فيها فاخرج منها إلى غيرها))([224])، أي اخرج إلى أرض أخرى تستطيع أن تطيع الله فيها، سواءً في المسائل العبادية أو الاجتماعية وغيرها، وقد ورد عن الرسول (ص) ((من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد(ص)))([225]). فمن دواعي الهجرة أن تكون إنساناً تعيش مشكلة حريتك في بلدك وحريتك في دينك وحريتك في نظرتك السياسية والاجتماعية، من خلال ضغط الحاكم الظالم، فإن استطعت أن تواجهه في بلدك وتحصل على الحرية مع كل أحرار بلدك وجب عليك ذلك، وإن لم تستطع ودار أمرك بين أن تخضع له وبين أن تخضع لربك فاخرج من أرضك، وإن كانت تمثل كل ملاعب صباك، لتعود إليها بشكل أقوى، فقد يهاجر الإنسان ويترك أرضه إلى الخارج من أجل إيجاد قوة سياسية فاعلة وواعية ومخلصة، تعرف مصادر الأمور ومواردها ومداخلها ومخارجها، لينطلق من خلال هذه القوة السياسية، لتغيير الواقع في البلد، عند ذلك يمكن للكوادر والفعاليات أن تهاجر إلى الخارج، ولكن بشرط أن يكون الإنسان في وضع خانق لا يستطيع معه تحقيق الأهداف الكبرى في قضايا الحرية والتغيير داخل البلد، لأنهم - عندئذ - يهاجرون من أجل إيجاد قوة سياسية يلتفون فيها على الواقع في بلدهم حتى يغيروا الواقع.
الهجرة من أجل الدعوة:
ويمكن أن تبرر الهجرة للدعوة إلى الله، بل قد تجب، كما في حالة الهجرات الكثيفة من البلدان الإسلامية إلى الخارج، بحيث صارت لدينا مجتمعات من المسلمين في قلب المجتمعات الكافرة أو غير الإسلامية، مما لا نملك فيه المناخ الإسلامي الذي نملكه في بلادنا الإسلامية، ولا نملك أيضاً المؤسسات على مستوى المدارس والمراكز الإسلامية الأخرى، سواءً العبادية أو غير العبادية. والسؤال الذي يطرحه كل أب وأم على نفسيهما إذا كنّا نود المحافظة على ديننا وعلى هويتنا، سواءً من حيث اللغة أو من حيث الدين أو من حيث الانتماء إلى هذه الأرض أو تلك الأرض، فهل يستطيع أولادنا ذلك والمدارس لغتها غريبة عنهم - ولا عقدة عندنا من لغة أخرى، ولكن بشرط أن لا تتم على حساب لغتنا - هل نملك أن نبقي عليهم إسلامهم بحيث يعيشون الشخصية الإسلامية، لأنه لا يكفي أن تجعل ابنك يصلي ويصوم، تحت تأثير الضغط العائلي أو البيتي أو تحت تأثير العادة، بل أن تجعل منه شخصية إسلامية يفكر إسلامياً ويتعاطف إسلامياً وينفتح إسلامياً على معنى الإسلام في شخصيته، بحيث تكون هموم المسلمين همومه، وقضايا المسلمين قضاياه، فهل تملك ذلك؟! إنك لا تملك ذلك، لهذا قد تجب هجرة العلماء المسلمين الذين يملكون مهمة توجيهية وإرشادية ويعيشون رسالية الدعوة إلى الله، ليبلغوا وليجاهدوا، لا الذين يذهبون فقط ليعيشوا، ولكن ليبلغوا وليتعبوا وليجاهدوا.
هنا يتوجب علينا أن نرسل إلى تلك المناطق العلماء والمبلغين والمثقفين الإسلاميين، بل ورجال التربية والتعليم. وعندما ننشئ مدارس هناك، يجب أن ننشئ المدارس في كل موقع يتواجد فيه مغتربون مسلمون من أية جنسية. وكنت قد أطلقت شعاراً منذ سنين للمغتربات (المدرسة قبل المسجد)، لأن المدرسة هي التي تحفظ على لأولادنا لغتهم ودينهم، فإذا أردنا الاجتماعات، الليلية اجتمعنا في ساحات المدرسة، لأن المسجد قد لا يسمح بمثل هذه الاجتماعات وإلى جانب ذلك، لابد أن نأخذ بالأسباب التي أخذ بها الآخرون، فنشتري ملاعب رياضية وما أشبه ذلك مما يلبي طموحات الشباب، أو نؤسس مؤسسات كشفية، وندرس كل الوسائل التي تعطي أولادنا نوعاً من اللهو البريء، بحيث لا يشعر الولد أنه يعيش مع أمه وأبيه بطريقة (صلِّ، صُم، لا تعمل كذا ولا تفعل كذا) لابد أن نجعله يتنفس الهواء الطلق، بمعنى أن يجد حاجات طفولته في المناخ الإسلامي، لأنه إذا لم يجد حاجاته في المناخ الإسلامي فسوف يجدها في مناخات غير إسلامية تلبّي له الحاجات بطريقة غير إسلامية، والتي قد تؤدي إلى نتائج سلبية على هذا المستوى، وإلا فنحن مسؤولون، لأن الله أرادنا أن نحمي أولادنا من الانحراف، وذلك قوله تعالى: )َأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(([226]) فيمكن أن نسأل: لماذا قال وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ؟ إنه يثير فينا العاطفة، لأنه لو قال شخص لآخر إن ابنك سيقع في النار فإننا نراه يدخل في حالة طوارئ، ولكننا غالباً ما نعيش حالة الطوارئ من نار الدنيا، أما النار الآخرة فنقول عنها كما في المثل الدارج (ليوم الله يُهوِّن الله).
التعرّب بعد الهجرة:
وننبّه إلى أن مشروعية الهجرة مشروطة بأن لا ندخل في عنوان جديد يحرِّم الهجرة، وهو عنوان التعرّب بعد الهجرة. وعندنا في بعض النصوص. )وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(([227]) وليس المقصود في هذه الآية من الأعراب العربي، بل المقصود من لم يتفقه في الدين، فالتعبير يشتمل على الاستعارة من حالة البداوة التي تخلو من العلم. فالهجرة كأنها تمثل البيئة أو المنطقة التي يتوفر فيها للإنسان وسائل العلم إسلامياً فيتعلم ويصبح متعلماً، فالإنسان عندما يكون في الهجرة - أي دار الإسلام - يعني يكون في البيئة الإسلامية التي يتعلم فيها ويلتزم بتعاليم دينه، فإذا هاجر إلى بلد يضعف فيه الدين فإن هذا من التعرب، لأنه يهاجر إلى بلد لا يملك فيه وسائل التربية الدينية والتعليم الديني، بحيث يضعف دينه، وينسى دينه، فيصير أعرابياً، بعد أن كان مهاجراً، فيصبح جاهلاً بالإسلام بعد أن كان عارفاً به، وغير ملتزم بالإسلام بعد أن كان ملتزماً به، وهذا حرام، لأنه يحرم على الإنسان أن يسافر إلى بلد يضعف فيها دينه، وقد ورد في بعض الأحاديث: ((لا تعرّب بعد الهجرة))([228]). وهذا هو الذي ينبغي على كل إخواننا الذين ضغطت عليهم الظروف أن يفهموه، وأن يعملوا على تأسيس المؤسسات الإسلامية من أجله، ولا سيما المدارس الإسلامية، ولا أعني بذلك مدرسة السبت والأحد، لأن هذه المدرسة قد تخلق ردة فعل، لأنهم يريدون في هذين اليومين الراحة والتنزه، بل أريد بذلك المدارس الأكاديمية التي تقدّمها هذه المدارس، وعلى المهاجر أن يدفع بل ويزيد الأجر لهذه المدرسة كما يدفع المال ليعالج فيه المرض الذي يصيبه ويصيب ابنه، أو ما أشبه ذلك، لتعالج هذه الأمراض الدينية التي تحوله إلى إنسان آخر لأن هذا واجب شرعي، وهذا هو الذي يجعل لوجود المغتربين شرعية في ذلك.
كما أنّنا لا نقبل من إخواننا الذين اغتربوا أن يكتفوا بهذا، لأن طموحنا الكبير هو أن يرفع إخواننا مستواهم الثقافي، وأن يذهب عدد من علمائنا ومن مثقفينا ومبلغينا ليقبلوا المجتمع هناك إلى مجتمع إسلامي. لماذا لا يكون عندنا طموح أن يتحول العالم إلى عالم إسلامي؟! آباؤنا وأجدادنا استطاعوا بجهدهم وسعيهم في الأرض أن يوصلوا عدد المسلمين إلى مليار ومئتين وخمسين مليون نسمة. والعالم – الآن – سكانه خمس مليارات أو أكثر. لماذا لا نحاول أن نربح المليارات البقية؟! فإذا كنا الآن لا نستطيع، لكن بعد مائة سنة يمكننا إذا عملنا بما جاء في الحديث عن النبي (ص): ((أيها الناس هاجروا وتمسكوا بالإسلام فإن الهجرة لا تنقطع أمام الجهاد)) الجهاد الثقافي والجهاد السياسي. وعملنا كذلك بما ورد عن الإمام علي(ع) الذي يقول: ((الهجرة قائمة على حدها الأول ما كان لله على أهل الأرض حاجة من مستسر الأمة ومعلنها))([229]). وقد جاء في حديث الإمام علي الرضا(ع): ((حرم الله التعرب بعد الهجرة)) لماذا ((للرجوع عن الدين)) لأن التعرب يوجب رجوع الإنسان عن دينه ((وترك المؤازرة للأنبياء والحجج)) ومن يقوم مقامهم من القيادات الدينية ((وما في ذلك من الفساد وإبطال حق كل ذي حق حقه))([230]). ولذلك لو عرف الرجل ديّناً كاملاً لم يجز له مساكنة أهل الجهل والخوف عليه، لأنه لا يؤمن منه ترك العلم والدخول مع أهل الجهل والتمادي في ذلك، ولكن إذا عاش الإنسان في بلد الكفر وكان يحمل رسالة الإسلام في قلبه وفي جهده والحق فإنه يبرر هجرته، لأنه لا يضعف بذلك دينه، بل يكون ناطقاً بالدين وداعية إليه.
وهناك حديث عن الإمام الصادق(ع) عن ((حماد السمدري وقد سأله: إني أدخل بلاد الشرك))، أسافر إما للرزق أو من جهة أخرى ((وإن من عندنا يقولون إن مت ثم حشرت معهم))، أي إذا مت فإنك تحشر معهم، لأن الإنسان يحشر في الأرض التي يموت فيها ((قال له: يا حماد إذا كنت ثم تذكر أمرنا وتدعو إليه)) وأمر أهل البيت هو الإسلام الأصيل الذي يمثلونه ويتمثل فيهم ((قلت نعم، قال فإذا كنت في هذه المدن - مدن الإسلام - تذكر أمرنا وتدعو إليه، قال قلت: لا، قال: فقال لي: إنك إن مت ثم حشرت أمة وحدك وسعى نورك بين يديك))([231]).
نصيحة لكلّ المهاجرين:
وفي نهاية الحديث نريد من كل إخواننا وأخواتنا من الذين هاجروا وفروا بدينهم أن لا يفرطوا به في مواقع هجرتهم، أو من الذين هاجروا وفّروا بكرامتهم وبحريتهم أن لا يفقدوا حريتهم وكرامتهم. إن الهوية الإسلامية تمثل مصير الإنسان في الدنيا والآخرة عندما يقوم الناس لرب العالمين)يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(([232])، وعلى كل إنسان أن يعدَّ لكل سؤال جواباً عندما ينطلق النداء )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(([233])، وعندما يعرض على كل إنسان كتابه ويقرأ كتابه )وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(([234]). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الرابعة 28 شوال 1422ه - 12/كانون الثاني/2002م
في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)
عظمة الرسالة الإسلامية
* تتجلّى عظمة الرسالة الإسلامية في شموليتها التي يجد فيها الإنسان جواباً على كلّ علامات الاستفهام التي تطوف بوجدانه *
عظمة الرسالة الإسلامية.
القيم الإسلامية.
المكارم الأخلاقية عند الصادق(ع).
صفات أحباب أهل البيت(ع) .
اليقين شعار المؤمن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
عظمة الرسالة الإسلامية:
تتجلَّى عظمة الرسالة الإسلامية في شموليتها التي يجد فيها الإنسان جواباً على كل علامات الاستفهام التي تطوف في وجدانه، كما أنها، ومن خلال الرسول(ص)، تخاطب الناس بكل ما يحتاجونه من شؤون العقيدة إن برزت المشاكل العقائدية، أو من شؤون الشريعة إن تساءل الناس عن أحكام الشريعة، أو عن صياغة الشخصية الإسلامية في الجانب الأخلاقي الذي يجعل من الإنسان إنساناً يعيش الإسلام في عقله وقلبه وروحه وفي حياته العامّة كلّها. وتلك كانت سيرة النبي محمد(ص) فقد كان يجيب الناس عن كلّ شيء.
وهذا ما أكَّده القرآن الكريم في آياته التي تتحدث عن كيفية تعليم الرسول(ص) الناس للأحكام، فكلّ الأسئلة كانت مباحة، وليس هناك سؤال ممنوع إلا لجهة من الجهات الأخلاقية، لأن من حق الإنسان أن يعرف كلّ شيء مما يمكن له أن يعرفه، من خلال وجود وسائل المعرفة عنده. وهذا ما لاحظناه أيضاً في سيرة الأئمة من أهل البيت(ع)، ولا سيما سيرة الإمام علي(ع) الذي عندما نقرأه ـ ولم ينقل إلينا كل تراثه، بل نقل إلينا البعض منه مما نقله الشريف الرضي أو مما رواه بعض الرواة ـ نجد أن علياً(ع) كان المتحدث دائماً، وكان المجيب دائماً، حتى أنه كان يعتبر العلم الذي يحمله مسؤوليته، وكان يحمل الناس على أن يسألوه، وكان يكرر دائماً الكلمة المعروفة عنه: ((سلوني قبل أن تفقدوني، إن ههنا علماً جماً لو وجدت له حملة))([235]). إنه كان يشكو من قلة الناس الذين يعيشون جدية المعرفة ليسألوا الأسئلة التي تتصل بالقضايا الحيوية، من حاجاتهم الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو ما إلى ذلك.
ولو درسنا علياً(ع) دراسة دقيقة في تراثه الفكري والثقافي لوجدناه يستنطق واقعنا الحالي، لأن فكر علي(ع) هو الفكر المطلق عن كل التقيدات الزمانية والمكانية، هو الفكر الذي ينطلق مع كل الحياة، لأنه فكر الحق، والحق لا ماض له ولا حاضر ولا مستقبل، الحق لله وللحياة كلها.
وعندما ندرس الأئمة من أهل البيت(ع)، فإننا نجد هذه الخصوصية فيهم أيضاً. إنهم كانوا لا يتعقَّدون من سؤال، وكانت ظروفهم تختلف بين ظروف ضاغطة في أكثر من اتجاه، إلى درجة لم تكن السلطة يومذاك لتسمح للناس أن يلتقوا بهم لقاءً ثقافياً، وهذا ما لاحظناه في قلة المرويات عن الحسن والحسين(ع). أما المروي عن علي بن الحسين(ع) فقد كان كثيراً، وما روي عن الإمامين الباقر والصادق(ع) فهو الأكثر، مما يتصل بكل جوانب المعرفة الإسلامية، ولا سيما في المرحلة التي عاشها الإمام الصادق(ع) التي اتسعت لتشمل مرحلتين من الحكم، وهما نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العباسي، حيث كانت السلطتان مشغولتين بشؤون صراعهما وتأكيد مواقعهما أو الدفاع عنها، ولذلك أخذ الإمامان الحرية في ذلك، ولا سيما الإمام الصادق(ع)، الذي إذا درسنا تراثه فإننا نجد فيه عمق الفلسفة وامتداد الحجة القاطعة في مسائل العقيدة وفي شؤون الحياة كلها، حتى في طريقة معالجته للقضايا السياسية التي تنسجم مع معطيات المرحلة، وفي حين كان يحرص على تربية أصحابه تربية إسلامية، لأن الإسلام يُمثل الصورة الثقافية فيما يقدم من أفكار، كذلك يُمثل الصورة الواقعية للمجتمع.
وهذا ما لاحظناه في قوله تعالى وهو يشير إلى النبي(ص) في موقع القدوة: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ( وإنما يكون قدوة حسنة)لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(([236]) وقد قال تعالى في سياق آخر: )أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ(([237])، ونعرف أن طاعة النبي(ص) من طاعة الله: ((من أطاع الرسول فقد أطاع الله))([238]). في ما يأمر به أو ينهى عنه، وكأنه تعالى أراد أن يقول: انظروا إلى رسول الله في سيرته فاقتدوها، في كل خُلُقه، إن في بيته أو مع أصحابه، أو في الدعوة، وخُلُقه في ساحات الصراع، وخلقه في الحرب والسلم، وخلقه فيما يعيشه في نفسه. لذلك كان الأئمة(ع) يعملون على إيجاد النموذج الإسلامي الأمثل للشخصية الإسلامية.
القيم الإسلامية:
وعلينا أن نعرف حقيقة، وهي أن الأئمة(ع) لا ينظرون إلى خط التشيع على أنّه خط زائد عن الإسلام، أو أنه شيء آخر غير الإسلام، بل التشيع هو الخطّ الذي ينطلق من فكرة أساسية، وهي أن الحجة في الإسلام فكراً وحركة وسيرة هم علي(ع) والأئمة من أهل بيته(ع). وعندما ندرس علياً(ع) نرى أنه عاش للإسلام كله، وكان يحمل مسؤولية الإسلام كله، وهو القائل: ((فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه))([239]). فلم تكن الولاية هدف علي(ع) وإن كانت حقه، لأنه(ع) يعتبر الولاية وسيلة لإقامة الحق وإزهاق الباطل. ويدلنا على ذلك قوله(ع) لابن عباس وقد رآه يخصف نعله: ((قال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت:لا قيمة لها، فقال: لهي أحب إليَّ من أمرتكم هذه إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً))([240])، وهو القائل: ((لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليًّ خاصة))([241]). والحال نفسه بالنسبة إلى أئمة أهل البيت(ع)، فإنهم لم يعتبروا التشيع شيئاً زائداً في الإسلام، لأن التشيع هو الإسلام كله الذي يمثل أهل البيت(ع) أصالته الفكرية والعلمية.
وعلى ضوء هذا، كان الأئمة(ع) يتحدثون مع شيعتهم بالقيم الإسلامية، ولا يتحدثون عن الخصوصيات الضيقة تماماً كما تتحدث التنظيمات الحزبية عن خصوصيات هذا الحزب أو ذاك الحزب، وكانوا يتحدثون مع شيعتهم أن يكونوا مسلمين، وأن يجسّدوا القيم الإسلامية في أفكارهم وفي سلوكهم. وهكذا رأينا الإمام جعفر الصادق(ع) وقد عشنا ذكرى وفاته، كيف كان يجلس مع أصحابه، وكيف كان يحدثهم - ونحن أصحابه - لأننا أصحاب الحق الذي يجسده، ولأننا نلتزم خط الإمامة الإسلامية التي تتمثل فيه وفي آبائه وفي أبنائه.
المكارم الأخلاقية عند الصادق(ع):
في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع)، علينا أن نحرص على أن لا تكون وفاته مجرد ذكرى تذرف فيها الدموع كما اعتدنا، وإن كانت دموعنا حارة لكل مآسي أهل البيت(ع)، ولكن لنؤصّل فيها خط الإسلام في الحياة. فكيف كان الإمام الصادق(ع) يتحدث مع أصحابه؟ استمعوا إليه كما لو كان يتحدث إليكم الآن. كان يحدثهم عن مكارم الأخلاق، لأن النبي(ص) بعث لذلك، وقد قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))([242]).
ويقول الصادق(ع): ((المكارم عشر فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن)) فيك أيها المؤمن (فإنها) - أي مكارم الأخلاق - ((تكون في الرجل ولا تكون في ولده))، فقد يملك الرجل هذه القيمة الأخلاقية، ولكن ابنه ليس كذلك، ((وتكون في الولد ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحر))، لأنَّ مسألة مكارم الأخلاق مسألة وعي للجانب الأخلاقي، لا علاقة لها بمسألة أب أو ابن أو حر أو عبد، لأنها تنطلق من خلال الإنسان الذي يريد أن يعيش إنسانيته بطريقة أخلاقية ((قيل: وما هنَّ؟ قال: صدق اليأس)) أي صدق اليأس عمَّا في أيدي الناس، وهذه تتبلور بتوجيه الإنسان لكل كيانه وحاجاته إلى الله، واليأس مما في أيدي الناس. وقد ورد في الحديث: ((رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطلب عما في أيدي الناس))([243]).
فلماذا يستحسن في المؤمن أن ييأس من الناس؟ لأن الإنسان قد تستعبده حاجاته، فيخضع لهذا الإنسان أو ذاك، لأنه قد يجد عنده ما يلبي به حاجاته من مال وسلطة أو جمال أو أي شيء. فالإنسان يصبح أسيراً للإنسان الآخر عندما يرى أن حاجاته موجودة عند هذا الإنسان وأنه لا يستطيع الوصول إليها إلا من خلاله.
عندها يخضع له، وقد تتحول حالة الخضوع إلى ما يشبه العبادة. وبهذا ينفصل الإنسان عن حقيقة التوحيد، ويعتبر أن هذا الإنسان هو كل شيء في حاجاته وفي حياته مما يحتاج إليه، بينما يعني التوحيد أن الأمور بيد الله كلها، كما قال الله تعالى: )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ(([244])، فهو المدبر للأمر كله، وهو الذي يرزقكم في السماء والأرض، وهو القائل: )اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ(([245])، فهو مالك الملك، بيده الملك وبيده العلم، وبيده الذل وبيده الحياة والموت. التوحيد يدفعك أن توّجِّه كل حاجاتك لله، أما الناس فقلوبهم بيد الله، فهو الذي يحوِّلها، حتى أن الله قال لرسوله(ص): )لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِم( لأن ذلك ليس بيدك )وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ(([246]) . فالرزق بيد الله وليس بيد أحد والقلوب كذلك. ((واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)).
وفي الدعاء نقول: ((يا مقلب القلوب))، فالقلوب بيد الله، وكل ما في الحياة هو صنع الله وملك الله، لذلك فإن الناس هم آلات بيد الله، وهم وسائل في تداول الحاجات والأمور وليسوا المالكين لها. وهو المالك لكل شيء. وهذا المعنى يجعل الإنسان اليائس عمَّا في أيدي الناس يتوجّه إلى الله ليجعل له من بعد العسر يسراً ويطلب منه أن يقضي له حاجاته ويسهّل عليه أموره ويفتح قلوب الناس عليه، فإن الله هو الذي يهيئ ذلك كله، حيث أباح له مسألة السعي الذي لا يسقطه أمام الآخرين. وهذا ما يعبّر عنه الإمام زين العابدين(ع) في دعائه في (الصحيفة السجادية) في الانقطاع إلى الله: ((اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلي عليك، وصرفت وجهي عمَّن يحتاج إلى رفدك، وقبلت مسألتي عمن لم يستغنِ عن فضلك، ورأيت)) ففكرت بمقتضى عقلي ((أن طلب المحتاج من المحتاج))، فهل يعقل أن يطلب مفلس من مفلس؟! ((سفه من رأيه، وضلة من عقله))، فمن يتوجه إلى المحتاج فهو ليس إلا السفيه والضالّ في العقل. ثم يبين أن القضية ليست فكرية فقط، بل هي واقعية: ((فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فصحّ بمعاينة أمثالهم حازم وفقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه…))([247]).
وعوداً إلى كلام الإمام الصادق(ع) فإنه يقول تتمة لما تقدم: ((وصدق اللسان))، لأن صدق اللسان هو الأساس في التعامل، وهو الذي يمثل الإنسان الذي لا ينطق إلا بالحقيقة، ولأن الإنسان الكاذب سوف يشوِّه الصورة لدى الآخرين، فعندما يكذب الإنسان عليك في خبر معين أو في شخص معين أو في وضع معين، فإنك سوف تتصرف من خلال خبره، فتختلط عليك الأمور، وبذلك يُسيء إلى نفسه وإلى الناس وإلى الحياة من حوله.
كما ورد في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا( أي انتبهوا حتى تتضح القضية. لماذا؟ )أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين(([248]).
ويقول الصادق(ع): ((وأداء الأمانة وصلة الرحم وإقراء الضيف))، فمن مكارم الأخلاق أن يقري الإنسان ضيفه، وكذلك من مكارم الأخلاق ((إطعام السائل والمكافأة على الصنائع))، فإذا أحسن شخص إلى آخر فيحسن أن يجازيه بإحسانه، وأن يردّ إليه معروفه. وقد ذكر الله ذلك فقال: )هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ(([249])، ويقول الصادق(ع): ((والتذمّم للجار والتذمّم للصاحب))، بمعنى أن يحفظ الإنسان ذمام كلَّ من جاوره وصاحبه، فلا يؤذيه بل يدافع عنه، ولا يعمل ما يسيء إليه في جواره وصحبته. ويقول في ختام هذا: ((ورأسهن الحياء))([250])، بمعنى أن تكون الإنسان الحيي الذي يمنعه حياؤه من أن يتصرف التصرفات التي يخجل منها ويستحي منها مما نهى الله عنها.
صفات أحباب أهل البيت(ع) :
وفي رواية عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله(ع) وقد كان الإمام جالساً بين أصحابه: ((قال: إنا لنحب)) والإمام هنا يشرع في بيان صفات أحبائهم ((من كان عاقلاً))، فهم يريدون من شيعتهم أن يكونوا العقلاء الذين يربون عقولهم أكثر مما يربون أجسادهم، ليكون لهم العقل الذي يدركون به حقائق الأشياء، ويفرقون فيه بين الحسن والقبيح ((فَهِماً)) أن يفهموا الأمور بحقائقها ((فقيهاً)) في الدين ((حليماً)) واسع الصدر، إن أساء له أحد فإنه لا يقابل السيئة بالسيئة، ولكنه يكظم غيظه، ويعفو عن الناس، ويحسن إلى من أساء ((مدارياً)) والمداراة تعني أن يتحرك مع الناس بما لا يثير حساسياتهم وتعقيداتهم في العلاقات الاجتماعية، وهذا يفترق عن النفاق، فإن بعض الناس قد يصف المداراة بالنفاق، إلا أنه غير صحيح، فقد روي عن النبي(ص) أنه يقول: ((أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض))، وفي إيحاء الله لموسى(ع) أنه قال له: ((دارِ خلقي)) فعندما تعيش مع الناس ادرس الأشياء التي تثيرهم والأشياء التي تزعجهم وتعقيداتهم وحساسياتهم، ادرس ذلك خلال معاشرتك لهم، فهذا ما تفرضه طبيعة العلاقات الاجتماعية، أما في جانب الحق والباطل، فليس من مداراة، فإن المداراة إنما تبرر في مقام تركيز الفكرة وتعميقها في نفوس الناس. فالمداراة وسيلة اجتماعية، والمقام نظير قول المثل الشعبي (فلان يداري وقته) بمعنى أنه يداري إمكانياته المالية، فهو عندما يتصرف فإنه يتصرف بوحي من إمكاناته وقدراته، وكذلك قولنا "يداري صحته"، بمعنى أن لا يجلب لصحته شيئاً يرهقها أو ما أشبه ذلك المادية والصحة. ((صبوراً))، لأن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ((صدوقاً)) أن يكون من الصادقين لأن الصدق في قمة الإيمان، ((وفياً)) في عهوده وفي وعوده.
ثم يقول الإمام(ع): ((إن الله تبارك وتعالى خصّ الأنبياء(ع) بمكارم الأخلاق))، لأنهم يمثلون القمة حيث يمثلون الرسالة، والقدوة، لأن النبي تجتمع فيه الرسالة الفكرية من خلال ما يؤدي إلى الناس من وحي الله، والرسالة العملية من خلال ما يتمثل فيه من شؤون حياته، ((فمن كانت فيه فليحمد الله على ذلك))، يعني مكارم الأخلاق ((ومن لم تكن فيه فليتضرع إلى الله عز وجل وليسأله إياها))، فكما يتضرع الإنسان إلى الله عندما يكون بحاجة مالية أو بحاجة صحية أو أمنية، كذلك فليتضرع إلى الله إذا كان في حاجة أخلاقية، كما هو الحال في الحاجة إلى مكارم الأخلاق، بحيث يهبها الله للإنسان ((قال: قلت جعلت فداك وما هي؟ قال: الورع والقناعة)) بما أعطاه إياه. والقناعة لا تعني أن يتحجّر الإنسان عندما أعطاه الله تعالى، بل تعني القناعة بما يصل إليه بواسطة الجهد، وأيضاً تعني أن لا يتطلع الإنسان إلى ما في أيدي الناس، بل عليه أن يقنع بما عنده من مال ويُنميه حسب إمكاناته، ((والصبر والشكر والحلم والحياء والسخاء)) الكرم، ((والشجاعة والغيرة)) على ما ينبغي أن يغار الإنسان عليه، ((والبر)) الخير، ((وصدق الحديث وأداء الأمانة))([251]). ثم يقول الإمام الصادق(ع) وهو يتحدث مع أصحابه يخاطبهم ((إن الله ارتضى لكم الإسلام ديناً)). فكيف تصاحبون إسلامكم، وكيف تكونون الأصحاب الطيبين للإسلام؟ عندما تسيرون معه ((فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق))([252]). يعني كن الكريم في حياتك، لتمثل الإسلام في معنى العطاء، وكن صاحب الأخلاق الحسنة، فلا يأتي منك إلى الناس إلا كل الخير. فعندما تتحرك في إسلامك مع هاتين الخصلتين، فإنك تعطي إسلامك صورة مشرقة حية تجذب الناس إلى الإسلام من خلالها.
اليقين شعار المؤمن:
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) قال: ((ليس شيء إلاّ وله حدٌّ، قال: قلت: جعلت فداك، فما حدّ التوكل؟ قال: اليقين))، يعني أن يكون عندك يقين بالله، بأن الله فوق كل شيء ووراء كل شيء والقادر على كل شيء، فتوكل عليه، لأنه إذا لم تعتقد بأن الله قادر على كل شيء وبأن الله يعلم كل شيء وبأن عنده كل شيء فكيف تتوكل عليه؟ فالتوكل لابد أن ينطلق من خلال اليقين. وفي الدعاء: ((اللهم ارزقني اليقين وحسن الظن بك، وأثبت رجاءك في قلوبنا، واقطع رجاءنا عمن سواك، حتى لا نرجو غيرك، ولا نثق إلا بك)). وتابع أبو بصير سؤاله للإمام(ع): ((قال: فما حد اليقين؟)) يعني كيف نقدر أن نتمثل اليقين في نفوسنا، ((قال(ع): ألا تخاف مع الله شيئاً))([253]). لأن الإنسان عندما يتيقن بالله، وأن الله هو خالق كل شيء فلا يخاف من أحد، لأن الله هو المهيمن على الأمر كله. وقد حدثنا الله عن النبي(ص) عندما كان في الغار كما في قوله تعالى: )إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عليه(، فلم يكن النبي خائفاً؟ لأنه يشعر أن الله معه، ولذلك كان يطمئن صاحبه ليذهب خوفه )وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا(([254]).
وعن الإمام الصادق(ع) وقد سأله أحد أصحابه، وكان ينقل له ما يلاقيه الشيعة من تعيير بسبب انتمائهم للإمام الصادق(ع)، كما هو الحال في هذه الأيام، وقد يعيّر بعضنا لانتمائه إلى هذه الجماعة أو لذاك الشخص، فكان ذلك سائداً يومذاك. ففي الرواية أنه ((قال أبو الصباح الكناني لأبي عبد الله: ما تلقى من الناس فيك))، فإن علاقتنا بك تتعبنا، والناس كأنها تحاسبنا على ذلك وتتهمنا على ذلك. ((فقال أبو عبد الله: وما الذي تلقى من الناس فيّ)) ما هو الشيء الذي تلقاه من الناس، ((فقال: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام فيقول جعفريّ خبيث)) فقال الإمام وكأن المرارة تعيش في نفسه، كما تعيش في نفوس الكثير من المجاهدين والصالحين والمصلحين عندما يتحدث الناس عنهم بهذه الطريقة، فإنهم يتألمون لأن الناس لا تفهم القضية ((فقال يعيركم الناس بي؟ فقال له أبو الصباح: نعم، قال: فما أقل والله من يتبع جعفراً منكم))، فإن الانتماء لي ليس انتماءً شخصياً، ((إنما أصحابي من اشتد ورعه وعمل لخالقه ورجا ثوابه فهؤلاء أصحابي))([255]) فأصحابي _ والكلام للإمام الصادق(ع) هم الذين يرتبطون بي من خلال الله ولا يرتبطون بي شخصياً من غير ارتباط بالله.
وهكذا يقول أحد أصحاب الإمام: ((سمعت أبا عبد الله يقول: عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد)) يعني الاجتهاد في العمل ((وصدق الحديث والأمانة وحسن الخلق والجوار، وكونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم))([256]) أي كونوا القدوة والصورة الحية. وفي حديث للإمام(ع): ((كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا، حتى يقول الناس رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدب أصحابه))([257]) ويقول: ((وعليكم بطول الركوع والسجود)) وهنا مظهر العبودية ((فإن أحدكم إذا أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه فقال: يا ويله أطاع وعصيت وسجد وأبيت))([258]). وهكذا عن علي بن زيد بن أبيه قال: ((كنت عند أبي عبد الله فدخل عيسى بن عبد الله القمي فرحّب به وقرّبه من مجلسه، ثم قال: يا عيسى بن عبد الله، ليس منا)) وهذه الكلمة كبيرة، يعني ليس من طريقتنا وليس من خطنا ((ليس منا ولا كرامة)) ولا كرامة له، ((من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر من هو أورع منه))([259])، بمعنى أن يكون أحدكم أمام مائة ألف شخص، بحيث يكون أورع هؤلاء، بل يكون أكثرهم ورعاً عن محارم الله. وعن أبي عبد الله(ع) قال: ((إنا لا نعد الرجل مؤمناً حتى يكون لجميع أمرنا متبعاً ومريداً، ألا وإن ومن إتباع أمرنا وإرادته)) فما هو مظهر اتباع خط التشيع ((الورع، فتزينوا به يرحمكم الله وكيدوا أعداءنا ينعشكم الله)) ([260]).
وأخيراً يقول(ع): ((عن أبي يعفور قال أبو عبد الله(ع): كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والصلاح والخير فإن ذلك داعية))([261]). وهكذا كان أئمة أهل البيت(ع)، وهكذا كان الإمام جعفر الصادق(ع)، وهكذا هو خط التشيع، خط الإسلام كلّه في كلّ عناصره العقيدية والشرعية والأخلاقية، فتعالوا لنجسّد خط أهل البيت(ع)، وهو خط الإسلام الأصيل في كلّ حياتنا، حتى نجذب الناس إليهم من خلال ما نعيشه من القيم التي أكدوها. والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة الخامسة(*)6 ذي القعدة 1422ه - 19/كانون الثاني/2002م
الاعتذار
* اعتذار المؤمن راجح في الميزان الأخلاقي لأنه يوحي بالرغبة في التخلّص من سلبيات عمله وإعادة الحقّ إلى نصابه والعودة عمّا فعله من خطأ أو خطيئة في المستقبل *
الاعتذار.
الاعتذار في القرآن الكريم.
الاعتذار في السنة.
رجحان قبول الاعتذار.
الرافضون قبول العذر.
الإقرار اعتذار.
ما لا ينبغي الاعتذار منه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الاعتذار:
الاعتذار هو الموقف الذي يقفه الإنسان للتعبير عن حالة الندم النفسي على كلمة سلبية قالها، أو عمل سيئٍ عمله، أو موقف خاطئ اتخذه، أو علاقة فاسدة قام بها وما إلى ذلك، أمام الله ربه الذي عصاه في ترك واجب أو ارتكاب حرام أو انحراف عن خط عقيدي أو منهجي أو حركي، أو أمام إنسان له حق عليه، فقصّر في حقه، أو ظلمه في تصرفه معه، ليحصل من اعتذاره على ذلك عفواً عن ذنب أو مسامحة في حق، ليتخفف من ثقل الإحساس بالمسؤولية مما يترتب عليه من نتائج سلبية.
وهذا أمر محبوب راجح في الميزان الأخلاقي، لأنه يوحي بالرغبة في التخلّص من سلبيات عمله وإعادة الحق إلى نصابه والعودة عما فعله من خطأ أو خطيئة في المستقبل، مما يلتقي مع معنى التوبة، وقد جاء في أكثر الأدعية المأثورة الاعتذار إلى الله من الذنب في التعبير عن التوبة إليه.
وقد أراد الله تعالى للإنسان أن يتفادى ذلك من تلقاء نفسه، بالابتعاد عمّا يؤدي به إلى مثل هذا الموقف، فيبصر العناصر الأصيلة في التزاماته النفسية، وسلوكياته الأخلاقية، وقيمه الروحية، ونقاط ضعفه وقوته، فيكون واعياً لها، معترفاً بها، لا سيما أن المسألة تتصل بموقفه أمام الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويحاسبه على ذلك كلّه مما يتمثل منه في سلوكه، وهذا هو الذي نستوحيه من قوله تعالى :)بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ*وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(([262]).
وفي ضوء ذلك، فإن الإنسان الذي يعرف نفسه لابد أن يواجه المسألة بالواقعية في واقعه، فلا يحاول أن يقدّم الأعذار المفتعلة التي تبرر فعله السيئ للناس بما لا ينسجم مع الواقع، كما عليه أن لا يُخضع نفسه للخطأ ثم يعتذر عنه أمام الناس بغير حقيقته، بل يصلح نفسه بما يجعلها أصيلة أمام الحقيقة، فلا يحتاج إلى افتعال الأعذار غير الصادقة. إن الآية الآنفة الذكر توحي للإنسان بأنه مكشوف أمام ربه، فعليه أن لا يغطي نقاط ضعفه بغطاء مزيف ليوحي بأنها نقاط قوة.
الاعتذار في القرآن الكريم:
ويمكن أن نشير إلى بعض الآيات الكريمة التي ورد فيها الحديث عن الاعتذار، كما في قوله تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(([263])، إنها تؤكد أن الموقف - في القيامة - هو موقف الجزاء على العمل الذي أكدوه في حياتهم في اختيار الكفر بكل معطياته على الإيمان من دون حجة، حتى انتهت فرصة التراجع، فلا مجال للعذر في المرحلة الجديدة.
وكما في قوله تعالى: )هَذَا يَوْمُ لاَّ يَنطِقُونَ*وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ(([264])، إنه يوم القيامة الذي لا يملكون فيه النطق بما أصابهم من الفلج، ولا يؤذن لهم فيه بالكلام لتقديم العذر، لأنه لا واقعية لأي عذر لهم. وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) تعليقاً على هذه الآية، قال: ((إن الله أجلُّ وأعدل من أن يكون لعبده عذر ولا يدعه يعتذر به، ولكنه فُلج فلم يكن له أي عذر))([265]).
ويقول تعالى: )لا تَعْتَذِرُوا(([266])، لأنكم لا تملكون القاعدة التي تجعل من هذه الأعذار شيئاً حقيقياً يبِّرر أفعالكم وأقوالكم بطريقة حقيقية، )قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ(، فقد أعلنتم الإيمان وأظهرتموه وعاملناكم بما يعامل به المسلمون إخوانهم من المسلمين، ولكنكم كشفتم ما كنتم تبطنونه من الكفر الداخلي، وبذلك كان هذا الموقف منكم كفراً بعد إيمان )إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ( ربما كانوا من التابعين المستضعفين الذين خضعوا لتأثير الكبار منهم، وقد يكون ذلك مبرراً للعفو عنهم، )نُعَذِّبْ طَائِفَةً( من هؤلاء المتمردين الذين انطلق النفاق من خلال تفكيرهم وتخطيطهم وتنفيذهم لكل الأعمال الإجرامية ضد الإسلام والمسلمين، ولذلك فإنهم يتحمَّلون مسؤولية النتائج السلبية جملة وتفصيلاً، )بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ( فيستحقون كل عقاب الجريمة في ما يؤدي إليه من دمار وتضليل وخراب. وربما فسر ذلك بالعفو عن التائبين منهم، والعذاب للمصرين على العصيان والنفاق.
وقال الله تعالى في آية أخرى: )يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(([267])، وهذه الآية من الآيات التي تتحدث عن المتخلفين الذين لم يخرجوا مع النبي(ع) في واقعة (تبوك)، متعللين بأعذار غير حقيقية ليبرروا مواقفهم، فلم يقبل المسلمون منهم ذلك، لأن الرسول(ع) اكتشف من خلال الوحي زيف أعذارهم. وتختم الآية الحديث بتهديدهم بحساب الله الذي يعلم الغيب والشهادة.
وفي هاتين الآيتين إشارة إلى أن على الإنسان أن لا يتحرك في ما لا عُذر له فيه، بل من خلال الوحي عليه أن ينطلق مع الحقيقة في تفسير أعماله وأقواله وسلوكه في الحياة.
الاعتذار في السنّة:
فإذا انتقلنا إلى الحديث النبوي الشريف، فإنه روي عن رسول الله(ع): ((إياك وما تعتذر منه فإن فيه الشرك الخفي))([268]) ، فنجد أن النبي محمد(ع) يؤكد بأن الإتيان بما يضطر الإنسان إلى الاعتذار منه لون من ألوان الشرك الخفي، وربما كان الأساس في ذلك أن الاعتذار يمثل حالة من الخضوع والانسحاق النفسي أمام الشخص الذي تقدم له الاعتذار، مما قد يكون مظهراً من مظاهر العبادة له، تماماً كما يقف الإنسان متذللاً أمام ربه ليعفو عنه، الأمر الذي يؤدي إلى سقوطه الروحي، بحيث يتنافى مع ما يريده الله للإنسان من الإخلاص في عبوديته له، ليكون عبداً لله وحده وحراً أمام العالم..وبذلك يرتبط العبد عمّا يعتذر منه الإنسان بتوحيد الله بشكل غير مباشر.
ونقرأ في كلام للإمام علي(ع) يقول فيه: ((إياك وما تعتذر منه فإنه لا يُعتذر من خير))([269]). فيلاحظ أن موارد الاعتذار هي مواقع الشر في أفعال الإنسان وأقواله، فلا تنسجم مع القاعدة الإيمانية للإنسان المؤمن، باعتبار أن الإيمان يأمر بالاجتناب عن الشر والإقبال على عمل الخير. وفي كلام آخر له(ع) يقول فيه: ((الاستغناء عن العذر أعز من الصدق به))([270])، فإنه يربط مسألة قيام الإنسان بتقديم العذر عما ارتكبه بمسألة العزّ والذل، بحيث تفرض على الإنسان أن لا يقوم بأي عمل يجعله في مقام الحاجة إلى الآخرين والخضوع لهم، في تقديم الاعتذار لهم عما فعله تجاههم، حتى لو كان صادقاً في عذره، فإن صدقه لا يرفع عنه موقف الذل أمامهم طلباً لرضاهم عنه، تكفيراً عما فعله.
وهذا ما أكده الإمام جعفر الصادق(ع) في قوله: ((لا ينبغي لمؤمن أن يذلّ نفسه، قلت: كيف يذل نفسه؟ قال(ع): يدخل فيما يعتذر منه))([271])، لأن ذلك يعرضه للوقوع تحت تأثير الحاجة إلى تبرير فعله أمامهم والتوسل إليهم أن يعذروه على فعله، وهذا هو المظهر البارز لعملية الإذلال النفسي للآخرين.
ونرى الإمام علي(ع) يعالج المسألة بأسلوب آخر في كتابه إلى الحارث الهمداني، قال: ((واحذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر منه، ولا تجعل عرضك غرضاً لنبال القول))([272]) ، فإنه يوحي بأن على الإنسان أن يقوم بالأعمال التي يملك الدفاع عنها باعتبارها صورة لما يؤمن به أو يفكّر به على أساس الحجّة التي يرتكز عليها في ذلك، ولا يقوم بالأعمال التي تثير النقد له وتدفع إلى حديث السوء عنه مما لا يملك الحجّة فيه ولا الإيمان به، الأمر الذي يعرضه إلى الكلمات اللامسؤولة التي تسقط موقعه وتهتك حرمته وتسيء إلى مقامه.
أمّا الإمام الحسين(ع)، فإنه يجعل القضية في جانبها السلبي والإيجابي خطاً فاصلاً بين المؤمن والمنافق، فقد روي عنه أنه قال: ((إياك وما تعتذر منه، فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر، والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر))([273])، لأن الإيمان الثابت في العقل وفي القلب وفي الواقع يؤكد القاعدة الثابتة في ذات المؤمن، فهي تنهى المؤمن عن الإساءة للآخرين وتدفعه إلى تقديم الخير لهم، وبالتالي فإنه يبتعد عن الاعتذار، لأن الاعتذار لا يكون عن فعل خير ..أما المنافق الذي يفقد القاعدة الأخلاقية التي ترتكز على الإيمان بالله الذي هو سرّ القيمة في الإنسان، فإنه يخضع لشهواته وأهوائه، ما يجعله يمارس السوء الذي تأمره به نفسه الأمّارة بالسوء، فإذا واجهه الآخرون بالنتائج السلبية المترتبة لجأ إلى الاعتذار إليهم لئلا يسقط مقامه عندهم. وهكذا تتوالى الأخطاء والخطايا في يومياته لتجتذب كل واحدة منها عذراً في عملية تبرير هنا أو تراجع هناك
رجحان قبول الاعتذار:
وإذا كان الإسلام يوجّه الإنسان المؤمن إلى الاجتناب عما يقوده إلى الحاجة للاعتذار، فإنه يدعوه إلى قبول اعتذار المعتذر كقيمة أخلاقية إيجابية في الواقع الإنساني، لأن الاعتذار لشخص ما مثلاً اعتذار يحمل أكثر من دلالة على تواضعه له، وتنازله لشخصه، في عملية انفتاح عليه بالرغبة في رضاه عنه وقبول عذره للانفتاح عليه بالعودة إلى العلاقة الإيمانية أو الإنسانية التي تربطهما به.. وهذا هو الذي يؤكد الخط الإسلامي البياني العريق عليه في العفو عمن أساء وفي التسامح معه، وفي إعطاء الفرصة للحب بدل البغض، والصداقة بدلاً من العداوة، كما ورد في قوله تعالى:)وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(([274])، وفي قوله تعالى:)ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(([275])، وقد جاء عن الإمام علي(ع): ((احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبد وكأنه ذو نعمة عليك))([276]). ولعل هذا الأسلوب يمثل أعلى درجات الارتفاع بالروح والسموّ بها إلى أقصى درجات السمو الإنساني قيمياً وروحياً، بحيث يجتذب الإنسان الآخر إليه بتقديمه كل المشاعر والأحاسيس الإنسانية التي تفتح له قلبه وعقله.
وقد جاء عنه(ع) في حديث آخر هو انه على الإنسان التماس العذر لأخيه في ما يصدر عنه مما يوحي بالخطأ، ليبرر ذلك بظرف ضاغط أو احتمال آخر على خلاف الظاهر، وهذا هو قوله: ((اقبل عذر أخيك، وإن لم يكن له عذر فالتمس له عذراً))([277]). وربما نستوحي هذا المعنى من قوله(ع): ((ضع أمر أخيك على أحسنه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محتملاً))[278].
ويتحدث الإمام علي بن الحسين(ع) عن الموضوع بطريقة أخلاقية أخرى في إيجاد الظروف الملائمة لاجتذاب المعتذر إليك حتى لو كان كاذباً، فيقول: ((لا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره وإن علمت أنه كاذب))([279]). ولعل السبب في ذلك هو أن اعتذاره يوحي بالتراجع عن خطيئته في الإساءة إليك، لأنه لو كان مصراً على ذلك لما اعتذر إليك وبذل ماء وجهه لك، الأمر الذي ينبغي لك أن تقدره وتحترمه في شعوره الإنساني الجديد.
وهناك حديث آخر أكثر صراحة في قبول عذره عما صدر منه حتى لو لم يبرر ذلك بتبرير آخر في الكلام بتوجيه آخر، بل كان اعتذاره يمثل حالة من التراجع عنه طالباً العفو عنه، وهذا هو قوله المرويِّ عنه: ((إن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره))([280]).
وفي حديث الإمام علي(ع) في وصيته لولده محمد بن الحنفية قال: ((لا تصرم أخاك على ارتياب ولا تقطعه دون استيعاب، لعل له عذراً وأنت تلوم به، اقبل من متنصّل عذراً، صادقاً كان أم كاذباً))([281])، فإن هذا الحديث يدل على أنّ على الإنسان أن يبحث لمن أخطأ عن عذر لما فعله، ولا يستعجل الحكم عليه لكلامه، فقد يكون له ما يبرره بالخير..مع التأكيد على ضرورة قبول العذر أياً كانت طبيعة ذلك العذر في الصدق أو الكذب، فإن ذلك يؤدي إلى أن يمنحه الله أجراً على ذلك، وهو نيل الشفاعة يوم القيامة.
وينفتح كلام الإمام علي(ع) على الجانب الاجتماعي بنتائجه الإيجابية في حياة الإنسان الذي يقبل أعذار الناس في أخطائهم فيقول: ((اقبل أعذار الناس تستمتع بإخائهم، وألقهم بالبشر تُمِتْ أضغانهم))([282]). وتتطور المسألة في توجيهات الإمام، فيرى قبول الاعتذار دليلاً على المستوى الرفيع لعقل الإنسان الذي يقبل العذر، لما يترتب على ذلك من حالة الاستقرار والتوازن الاجتماعي القائم على المحبة والتسامح والإخاء الإيماني الإنساني، وذلك قوله(ع): ((أعقل الناس أعذرهم للناس))([283])، لا سيما أن عدم قبول العذر يؤدي إلى إيجاد الحالة السلبية المؤثرة على العلاقات العامّة والخاصّة، الأمر الذي يثير الكثير من المشاكل الاجتماعية، لأن ذلك يؤدي إلى التعقيد في كلا الطرفين.
الرافضون قبول العذر:
وإذا كان الإسلام يؤكد على قبول العذر في صورته الإيجابية من خلال دلالته على المعنى الإنساني في القيمة الأخلاقية، فإنه يرفض الصورة السلبية المتمثلة بالامتناع عن قبوله بكل شدة، من خلال دلالته على الانغلاق الإنساني عن المعنى الأخلاقي القيمي، لأن الإسلام يولي الأهمية الكبرى لتأصيل القيمة الإنسانية المتسامحة المنفتحة على العفو، وإفساح المجال للمخطئ أو المعتدي بالتراجع عن خطأه أو عدوانه، ما يمنح المجتمع قاعدة للّقاء والتواصل بين الأفراد. وقد روي عن رسول الله(ع) قال: ((من أتاه أخوه متنصلاً فليقبل ذلك منه محقّاً كان أو مبطلاً، فإن لم يفعل لم يرد عليّ الحوض))([284]). وقال: ((من اعتذر إليه أخوه معذرة فلم يقبلها كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس)). وقال في وصيته للإمام علي(ع): ((من لم يقبل العذر من متنصل صادقاً كان أو كاذباً لم ينل شفاعتي))([285]). وجاء عن الإمام علي(ع): ((اعظم الوزر منع قبول العذر))([286]). وعن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في الدعاء: ((اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظُلٍم بحضرتي فلم أنصره، ومن مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره))([287])، وعن الإمام الصادق(ع): ((أنقص الناس عقلاً من ظلم دونه ولم يصفح عمن اعتذر إليه))([288]).
الإقرار اعتذار:
وللاعتذار أساليبه التي توحي بمضمونه، فقد يتحدث الإنسان عن إساءته للإنسان الآخر أو للناس أو للجهة التي أساء إليها بما يؤدي معنى الندم على ذلك من خلال الاعتراف والإقرار به، فيكون ذلك اعتذاراً في أسلوب إيحائي، وهذا ما جاء به الحديث عن الإمام علي(ع) قال: ((الإقرار اعتذار))، لأنه يشير إلى أنه قد قام بالفعل الذي يلام الإنسان عليه مما لا يجمل بالإنسان أن يفعله. وفي هذا إظهار الندم والاعتذار بشكل صامت. وعقب على ذلك بقوله في الجانب المقابل له: ((الإنكار إصرار))، فإن الإنسان إذا أنكر حدوث الخطيئة منه مع ثبوت ذلك عليه، فإن ذلك يمثل إصراراً على الذنب، لأنه لو كان في موقف التراجع عنه والتوبة منه لاعترف بذلك، وأظهر الندم عليه وقدم الاعتذار..بالرغم من أنّ إنكاره له يوحي - بعض الشيء - بأن ما قام به يشعر بأنه أمر معيب وقبيح لا يجرؤ صاحبه على الاعتراف به، لما يترتب عليه من نتائج سلبية في موقعه الاجتماعي الإنساني في ميزان القيمة أو في المسؤوليات الجزائية أو الجنائية. وفي حديث آخر - أكثر صراحةً وتعبيراً - قال: ((ربَّ جرم أغنى عن الاعتذار عنه الإقرار به))، فإن الإقرار بالجرم - بما له من صفة الجريمة التي لا تدعو إلى الاحترام الإنساني- تعبير صارخ عن الإعلان بأني أنا الذي أجرمت، فكأنه يقول إني أعترف بذلك اعتراف المذنب المعتذر.
ما لا ينبغي الاعتذار منه:
وربما يعيش الإنسان في مجتمع سيّئ معقّد يتعقّد من الطاعة وينفتح على المعصية، فيرى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، والمنكر معروفاً والمعروف منكراً، وذلك من خلال سيطرة الكفر عليه بخضوعه لنظام علماني إلحادي، وهيمنة الانحراف العملي عليه، بانحرافه عن خطوط التقوى والإيمان أو عن ميزان القيمة الروحية أو الأخلاقية. فيخضع المؤمن الذي يطيع الله في عباداته ومعاملاته والتزاماته الدينية أو الاجتماعية للملامة، أو تتعرض المؤمنة التي تلتزم بالحجاب - في البيئة التي تأخذ بالسفور - أو بالعفة في المجتمع الذي ينحرف عنها، للنقد والتجريح، فيضعف هذا أو تلك أمام الضغط الاجتماعي، ويراد له بفعل ذلك أن يعتذر عن طاعته لله والتزامه بأوامره ونواهيه وانسجامه مع الخطوط الأخلاقية الإسلامية ليحصل على رضا الناس عنه، وهذا ما يحدث للكثيرين الذين قد يؤدي بهم الأمر إلى التراجع عن الخط المستقيم الذي ساروا عليه.
وقد عالج الإمام علي(ع) هذه الحالة بقوله: ((لا تعتذر من أمر أطعت الله سبحانه فيه، فكفى بذلك منقبة))، فقد أراد الإمام علي(ع) أن يوحي للإنسان المؤمن بأن طاعته لله فضيلة تزيده شرفاً وقيمة وقرباً من الله وارتفاعاً بدرجته عنده، مما يميزه عن كثير من الناس، الأمر الذي يقتضي أن يزهو به وينفتح على سر القيمة - من خلاله - في ذاته وموقعه، فيكون في موقف القوة الذي يتحدى المجتمع المنحرف، فلا يسقط أمامه، ولا يضعف عند مؤامراته التي تقوده - في نقاط ضعفه - إلى الاعتذار عنه. لأن الإنسان الذي يحترم نفسه هو الذي لا يعتذر عن منقبة من مناقبه، بل عن منقصة من نقائصه، ليؤكد لهذا المجتمع أنه - هو - الذي لابد له من الاعتذار عن انحرافاته عن خط القيمة الأخلاقية الإنسانية، ليخرج بذلك عن حالة السقوط إلى موقع الارتفاع.
وقد أثار الإمام(ع) هذا الجانب بأسلوب آخر، فقد روي عنه(ع) أنه قال: ((من اعتذر من غير ذنب فقد أوجب على نفسه الذنب))، فقد نرى بعض الناس الذين يدمنون الاعتذار للآخرين عن بعض تصرفاتهم الطبيعية معهم مما ينسجم مع السلوك الاجتماعي العام، ولكن أولئك يرون لأنفسهم حقاً فوق ذلك، مما يتصورون أنهم يتميزون به عن الآخرين من الناس، بحيث يرون السلوك الطبيعي في علاقة الناس بهم منقصة وإهانة وذنباً، لابد للناس أن يقدموا حسابهم عليه بالاعتذار منه. إن الإمام(ع) يؤكد في هذه الكلمة أن على الإنسان أن يدرس عمله في نطاق القيمة الاجتماعية التي يأخذ بها المجتمع في علاقته ببعضه البعض. فإذا رأى سلوكاً منسجماً مع القاعدة العامة في اللياقات الإنسانية، فلا يلتفت إلى الناس الذين يعيشون انتفاخ الشخصية، فيرون سلوكه ذنباً لابد أن يعتذر منه.
إن على الإنسان أن لا يستجيب لعقدتهم الشخصية التي تطلب منه الاعتذار، لأنه لم يخضع لعقدة الغرور الذاتية عندهم، باعتبار أنه قد أخطأ معهم. لأنه إذا استجاب لذلك كان خاضعاً لتقويمهم الخاطئ للأمور، فيسجل على نفسه الذنب من خلال اللاذنب. وتلك مسألة يسيء فيها إلى نفسه في عملية الإذلال في الموقف، كما يسيء فيها إلى سرّ القيمة في تحويل القيمة الإيجابية إلى قيمة سلبية.
وهناك نموذج من الناس الذين عاشوا حالة التورم الذاتي في الشخصية والانغلاق النفسي، والجمود الشعوري، مما يؤدي بهم إلى أن يحبسوا أنفسهم في زنزانة ذاتياتهم، فيرون لأنفسهم الحق على الناس من دون أن يكون للناس الحق عليهم، والعلوّ في الدرجة مع انتقاص الآخرين في درجاتهم العلمية والاجتماعية.. ولهذا فإنهم ينظرون إلى الناس في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم وعلاقاتهم نظرة سوداء من خلال التحديق بالجانب المظلم من الصورة، من دون التطلّع إلى الجانب المشرق منها، فلا يجدون للإنسان العذر، فيما يبررون فيه أفعالهم التي تتشابك فيها الخطوط، أو تشتبه معها الأمور، أو تتنوع فيها الاحتمالات، لأن الحكم - لديهم - جاهز بالحكم على كل هؤلاء بالخطأ والخطيئة في كل سلوكياتهم المتنوعة.
إن الإمام(ع) يوجه المؤمن إلى أن لا يولي هؤلاء الاهتمام بنظرتهم إليه، وحكمهم عليه، فلا يكلف نفسه تبرير نفسه عندهم بتقديم العذر لما قام به ليواجهوه بالرفض استعلاءً عليه وإسقاطاً لمقامه، وذلك هو قوله(ع): ((لا تعتذر إلى من يحب أن لا يجد لك عذراً))([289])، لأنه لا يجوز للمؤمن أن يذل نفسه لدى الذين لا يحترمون الناس. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السادسة 13 ذي القعدة 1422ه - 26/كانون الثاني/2002م
العداوة (1)
* العداوة حالة نفسية سلبية ضد الآخر بحيث تنفيه وترفضه في نفسه أو في موقعه أو في مصالحه وتتحرك نحوه بطريقة تدميرية *
أول عداوة.
خطة إبليس.
تنفيذ الخطة.
عداوة مستمرة.
الأساليب الشيطانية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
نعالج هذه المرة مظهراً من المظاهر اللاأخلاقية التي تقتحم الحياة الإنسانية، أعني العداوة في مفهومها النفسي، وهي حالة نفسية سلبية ضد الآخر، بحيث تنفيه وترفضه في نفسه أو في موقعه أو في مصالحه، وتتحرك نحوه بطريقة تدميرية في مختلف الأعمال والأقوال والمواقف، فهي عقدة في الفكر والشعور وحركة عدوانية في الواقع والموقف. وقد تنشأ من اختلاف الفكر والعقيدة في المبدأ أو التفاصيل، وتتعاظم في المسألة الدينية والمذهبية والعرقية، وتتنوع في تأثيراتها في الأمور الشخصية أو القومية على مستوى المصالح المتضادَّة أو المشاكل المتنافرة التي لا يتسع فيها الموقع للطرفين أو لمصالحهما معاً، فتنتهي المسألة إلى المغالبة والمنازعة والمنافرة، وقد تتحول الأحاسيس والمشاعر والمشاكل المعقدة إلى حالة من الضيق النفسي أو الارتباك الواقعي أو التعقيد العملي، فيؤدي ذلك إلى الحرب وسفك الدماء وتدمير الحياة بمظاهرها العمرانية والحيوية والسياسية والاقتصادية والأمنية في عملية سقوط للإنسان وللحياة.
أو ل عداوة:
وقد كانت أول عداوة عرضت على الإنسان في بداية خلقه هي عداوة إبليس لآدم، باعتباره صورة للإنسان، هذا المخلوق الجديد الذي أكرمه الله وخلقه قبضة من الطين ونفخة من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له تحيةً له وتعظيماً لله، في إبداعه للسرّ الوجودي المميز في خلقه، وأمر إبليس - الذي كان يعيش مع الملائكةـ بالسجود) فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ* قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(([290])، فيما كان الكبر الذي قاد إبليس إلى الحسد هو العقدة التي تحركت في نفسه وتحولت إلى موقف رافض للامتثال لأمر الله الذي لا ينسجم مع نظرته العرقية إلى أصله، من دون التفات إلى أن عناصر الخلق تابعة لإرادة الله في حكمته مما منحها من الخصائص المتنوعة، بحيث يفضل أحد الأشخاص في بعض جوانبه ليتميز الآخر عنه في جوانب أخرى، بحيث لا يتحول التفضيل إلى شيء في المطلق، بل في المحدود على أساس النسبية، الأمر الذي يجعل الشخص خاضعاً لنقاط الضعف والقوة في وجوده، ولكن البعض قد يستغرق في الجانب المميز البارز في شخصيته من دون نظر إلى الجانب المماثل المميز في شخصية الآخر، لتتوازن النظرة ويعتدل الموقف وينطلق العدل في الحكم..
وهكذا بدأت العقدة في نفس إبليس تأكل قلبه وتشغل عقله. ثم تعقدت أكثر عند طرده الله من الإقامة في الجنة، )قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ(([291])، وكان ذلك جرحاً في كبريائه وسقوطاً في حسده، وغلبة لهذا المخلوق الجديد عليه، وفكر كيف يثأر لنفسه ليتغلب عليه )قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(([292])، واترك لي الفرصة - والكلام لإبليس - لأؤكد تفوقي على هذا المخلوق الجديد ولأنفّس عن عقدتي منه. وكانت حكمة الله أن يعيش الإنسان في تجربته الفكرية والعملية، حالة الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، وليحقق تجربة الانتصار على إبليس بعقله وإرادته، ليؤكد قيمته الإنسانية في عناصرها الإيجابية الفاعلة، وليكون الاختيار هو الطابع الذي يطبع شخصيته، ليكون ثباته عن إرادة، وسقوطه عن اختيار، وهكذا كانت إرادة الله )قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ(([293])، وكان له ما أراد، لا كرامة له عند الله، ولكن لحكمة دقيقة أرادها الله تعالى.
خطة إبليس:
وهنا أعلن إبليس عن خطته في الثأر لنفسه، ليخرج آدم وذريته كما خرج منها، وليغويهم فيبعدهم عن الحق كما سقط هو في الغواية في تجربته الفاشلة )قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي(، وأبعدتني عن ساحة رحمتك )لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ( لأبعدهم عنه وأوسوس لهم ليختاروا السير في خط الانحراف )ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(([294])، لأنني – والكلام لإبليس – أملك من القدرات التي منحتني إياها في عناصر ذاتي، الوسائل والأساليب التي تنفذ إليهم في أفكارهم ومشاعرهم وغرائزهم، فأوسوس لهم، وأُزين الباطل بصورة الحق والشر بصورة الخير، فيسقطون في التجربة كما سقطت، ويستكبرون كما تكبّرت، ويحيدون كما حدت، ويبتعدون بتأثير ذلك عن شكرك الفكري والعملي بابتعادهم عن مواقع طاعتك.. فيخرجون من الجنّة كما خرجت، وبذلك تشعر عقدتي بالراحة والاطمئنان...
وأراد الله أن يعلن له غضبه على هذه النفسية الخبيثة العدوانية السيئة التي تزيده بعداً عن الله )قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا(، وليبين له أنه قد يبلغ ما يريده في البعض، ولكنه لن يحقق كل ما يريد وسيلاقي الذين اتبعوه ما يلاقيه هو من العذاب والطرد من رحمة الله )لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(([295]).
وبقي آدم وزوجه في الجنة، وأصدر الله لهما النصيحة وحذّرهما من إبليس الذي أعلن لهما العداوة في استكباره وحسد ه)فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ(، وسيبدأ خطته العدوانية في إخراجكما من الجنّة بوسوسته )فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(([296]). لأن الجنة هي دار النعيم التي لا بؤس فيها )إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى(([297])، وستفقد ذلك كله إذا نجح إبليس في تجربته معكما. ولكن المشكلة أن الله خلق آدم طيباً صافياً في نفسه منفتحاً على الآخر، فلا يخطر في باله أنه يفكر بالسوء أو يضمر الشر، أو يتحرك معه بطريقة عدوانية، أو أنه يغشّه في حديثه معه. كانت التجربة تنقصه، لأنه لم يدخل فيها، وكانت نقطة الضعف كامنة في داخل نفسه )وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا(([298])، ولذلك كان معرضاً للنسيان، وكان يفتقد العزيمة الصلبة القوية )وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(([299]).
وكانت حكمة الله أن يدخل آدم وزوجه التجربة في موقعهما هذا بشكل حادّ، لتتصلب شخصيتهما بفعل تأثيرها الإيجابي في الإطلال على الواقع الجديد في الخلفيات الخفية الكامنة في شخصية الآخر، فيما يخفيه من النوايا السيئة وخططه الشريرة، ليتعلما أن يأخذا جانب الحذر، فيما يقدم إليهما من كلمات تأخذ عنوان النصيحة في الظاهر وتخفي معنى الغش في الباطن.. لقد كانا في المحضن الإلهي في عين الله الذي أراد لهما أن يعيشا التجربة الأولى في عملية تدريبية حاسمة كأسلوب إلهي من وسائل التربية والتعليم التي أراد الله لعباده وأوليائه الصالحين أن يأخذوا بها ليستعينوا بها على مهمتهم المستقبلية في حمل الرسالة وأدائها بقوة ووعي وحذر، لا سيما في مواجهة التحديات الصعبة التي تقابلهما في ساحة الصراع الصعب.. وكانت النصيحة الإلهية )ويا آدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ(([300])، وكان هذا الاستثناء في الأكل من هذه الشجرة هو مفتاح التجربة الجديدة التي يمكن لإبليس أن ينفذ منها إليهما مستغلاً طيبتهما وبساطتهما وفقدانهما للتجربة الاجتماعية.
تنفيذ الخطة:
وهكذا دخل إبليس على خط آدم وحواء، وهما في استغراقهما في حالة الصفاء النفسي الذي لا كدر فيه، والطيبة الإنسانية التي لا خبث فيها، والبساطة الروحية التي لا تعقيد فيها، والعفوية الحركية التي لا حذر فيها )فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا(([301])، ليكتشف سر هذه المنطقة الحساسة من جسديهما، وليكون ذلك وسيلة لاكتشاف الأسرار الخفية في الجسد ولتحريك بعض نقاط الضعف الإنساني الكامنة فيها )وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ( فليس هذا النهي نهياً مولوياً تعبدياً تؤدي مخالفته إلى غضب الله، ولكن المسألة هي أن في هذه الشجرة يكمن فيها سر القدرة على الانتقال من حالة البشر إلى حالة الملك، وسر الخلود الذي يمنحكم سر البقاء والتخلص من حالة الفناء في نهاية العمر، ولذلك فلا مشكلة في أكلكما من هذه الشجرة، وسوف لن يطردكما الله من رحمته إذا خالفتما هذا النهي الإرشادي - لا المولوي - لأنكما في تحولكما إلى شخصية الملك ستقومان بالاستغراق في عبادة الله كما يستغرق الملائكة في ذلك بإخلاص واستمرار، وإذا حصلتما على الخلود، فسيكون خلودكما خلوداً في طاعة الله ورضوانه.
ولما رأى منهما التردد في الاستجابة له، لأنهما كانا لا ينفتحان على حالة المخالفة لله، لا سيما بعد تحذيره لهما من إبليس الذي قد يخرجهما من الجنة، فبادر إلى القسم بالله إنه لمن الناصحين)وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ(([302])، وكان هذا القسم كافياً للاستغراق في معناه الروحي، فهل يمكن لأحد أن يكذب في الحلف بالله، ولا سيما أن العرض الذي عرضه عليهما كان يأخذ مظهر النصيحة.. وهكذا شغلهما عن التفكير في النتائج وعن الحذر من هذا المخلوق الشيطاني )فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ(([303])، وسقطا في التجربة بفعل هذه الخديعة الخبيثة )فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ( وواجها - عندئذ - الموقف الصعب أمام الله )وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ(، فكيف نسيتما هذا التحذير؟ وكيف غفلتما عن عداوته وعن الحقيقة العدوانية في علاقة العدو بعدوه؟
فإنه لا يمكن أن يكون ناصحاً له، لأنه لا يريد له الخير، بل يعمل على إيقاعه في الشر وتوريطه في أكثر من مشكلة، وأنه لا يمتنع من الحلف بالله كاذباً لإتمام خطته، لأنه لا يخاف من الله في ذلك.
ورجعا إلى الله في حالة من الندم العميق )قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا(([304])، ما ورَّطنا في هذه التجربة السلبية التي لا تلتقي بمصلحتنا في حاضرنا ومستقبلنا، وتلك هي الخطيئة التي نستغفرك منها، فقد عصيناك في نهيك الإرشادي، فلم نقبل نصيحتك فيما هو الأولى بنا أن نقبله، واستسلمنا للغش الإبليسي الذي جاء بصورة النصيحة في غفلة منا ونسيان، فاغفر لنا ذلك، فنحن نحبّك ونوحّدك ونعبدك ولا نشرك بعبادتك أحداً، فأعطنا العذر يا ربنا فيما أودعته من نقاط الضعف فينا واغفر لنا، فإن غفرانك هو سرّ السعادة والنجاح والفلاح في وجودنا ومستقبل أمرنا )وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ( الذين يرون أن خسارة محبتك ورضوانك هي الخسارة العظمى..
وخرجا من الجنّة كما خرج إبليس منها، ولكن الفرق بينهما وبينه أنه خرج منها بسبب عصيانه وتمرّده على الله وتكبره وحسده لآدم. أما هما فلم يخالفا أمر الله إلا من خلال حالة الغفلة والنسيان لنهي إرشادي في خطة عملية تدريبية في الوقت الذي كانا فيه في موقع العبودية الخالصة الصالحة المخلصة، وفي موقف التوبة الخاشعة الخاضعة المبتهلة إلى الله الراجعة إليه المنفتحة على مستقبل طاعته ورضوانه.
وهكذا أوحى الله للجميع )وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(([305]) فقد أريد لكم أن تعيشوا في الأرض، فقد خلق الله آدم ليكون خليفته في الأرض )إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً(([306])، وكانت هذه الدورة التدريبية هي الوسيلة التي يهبط فيها إلى الأرض ليمارس فيها دوره في الخلافة من بعد التجربة الصعبة التي تعلّم منها درساً نافعاً في مستقبل أمره وعلاقته بإبليس، ولتبقى الجنّة هاجسه الحبيب في كل ما يفكر به أو يقوله أو يعمله.
وبدأت العداوة بين الإنسان والشيطان، فالإنسان يعادي في الشيطان خططه العدوانية التآمرية التي يصدُّ فيها الإنسان عن الصراط المستقيم ويبعده عن الله ويمنعه من الدخول إلى الجنة من جديد، والشيطان يعادي الإنسان للتنفيس عن عقدته، لأنه خرج من الجنة وطرد من رحمة الله بسببه عندما تحركت عقدته التي عصى فيها ربه.. وكانت نهاية المطاف أن ينـزل آدم إلى الأرض في آفاق رحمة الله ورضوانه )فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ(([307])، انفتح فيها على ربه في ابتهالاته الروحية بكل إخلاص العبد لربه في مستقبل الطاعة المطلقة لله )فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(([308]).
عداوة مستمرة:
وهكذا أراد الله للإنسان أن يبدأ تجربته في الأرض في خط المسؤولية على أساس الالتزام برسالة الله التي يريد الله أن يهدي الإنسان بها ليهتدي به، ويواجه الشيطان الذي يخطط لإبعاده وإضلاله عنها.. وهنا يؤكد الله النتائج الإيجابية للآخذين بهدى الله في رسالته، فيدخلهم الجنة خالدين فيها، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وفي المقابل النتائج السلبية للكافرين بآيات الله والمكذبين بها، فيدخلهم النار خالدين فيها.. وهكذا أسدل الستار على المشهد الـغيبي الذي رافق خلق الإنسان وتجربة إبليس هذه، والدورة التدريبية التي خضع لها آدم وزوجه وسقوطهما في التجربة ونزولهما - مع إبليس - إلى الأرض ليبدأ الصراع..
ويؤكد الله للإنسان شخصية العدوّ في الشيطان الذي يتمثل إبليس عنوانه الكبير، وليمتد في ذريته وجنوده، وقد تكرر الحديث في أكثر من آية )إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ(([309])، وقوله تعالى:)إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(([310])، وقوله كذلك )أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً(([311])، وقوله تعالى:)إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(([312])، ويتأكد تحذيره لبني آدم من خلال تذكيرهم بالتاريخ الأول عندما كان أبواهم في الجنة، فأخرجهما منها، وقرر أن يمنعكم منها بإبعادكم عن سبيل الله الذي يقودكم إليها )يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(([313])، ويحذرهم من خطوات الشيطان التي تمثل وسائله وخططه وبرامجه ووساوسه وتسويلاته وتزييناته التي تثير أمام الإنسان الضباب الكثيف في تصوارته والصور الخادعة في حركاته والمشاعر القلقة المعقدة في أحاسيسه، ليكون الإنسان واعياً لذلك كله بما منحه الله من عقل وشعور، وبما أنزل عليه من وحي، وبما أكده في ذاته من إرادة، وبما خطط له من برامج ومن مناهج وشرع له من شريعة، ليصل من خلال ذلك إلى رضوانه، وليتخلص به من خطر الحركة العدوانية الشيطانية في أوضاعه الخاصّة والعامّة، وذلك في عدة آيات منها: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(([314])، وقوله تعالى:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(([315])، وكذلك)وَلا يَصُدَّنَّكُمْ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(([316]).
وقد تحدث الله عن اتباع خطوات الشيطان والاستسلام له في السير في خطها أنه نوع من العبادة التي نهى الله عباده عنها، لأنها تبتعد بهم عن الحق الذي فيه صلاحهم ونجاتهم، وتقترب بهم من الباطل الذي فيه فسادهم وهلاكهم، وتبعدهم عن عبادة الله التي هي الصراط المستقيم الذي ينفتح بهم على مواقع القرب من الله والارتفاع إلى درجة رضوانه وذلك هو قوله تعالى )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(([317])، وتتمثل عبادة الإنسان للشيطان بالخضوع المستغرق في الشيطان في سقوط الإرادة أمام وساوسه وتوجيهاته، وفي الانسحاق النفسي أمام مكائده وتأثيراته. وقد ورد في الحديث المأثور عن الإمام الباقر t: ((من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان))([318]). إن الله يحذّرهم من الخضوع له، بتحريك عقولهم في دراسة النتائج السلبية المتمثلة في الإضلال والابتعاد عن الحق والدخول في جهنم، بينما تتمثل النتائج الإيجابية في عبادة الله التي تربطهم بالهدى في الخط وفي المنهج وفي الغاية الكبرى، وهي رضوان الله والدخول في جنته.
الأساليب الشيطانية:
وتتنوع الآيات القرآنية في أكثر من حديث لتتحدث عن وسائل الشيطان وخططه وخطواته ووساوسه التي يحاول أن يضلّ بها الإنسان تنفيساً لعقدة عداوته، فنقرأ في قوله تعالى )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا* وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا(([319]). وإنها الخطة التي تخطط لتدمير عباد الله فكرياً ونفسياً وعملياً، وتدفعهم إلى الاستغراق في الأماني والوعود المعسولة التي تتمثل في الأوهام التي لا ترتكز على واقع.
وفي قوله تعالى:)الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(([320])، وفي قوله تعالى:)وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ(([321])، وقوله تعالى:)إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا(([322])، وفي قوله تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونََ(([323])، إلى غير ذلك من الآيات التي تريد للإنسان أن يكون واعياً حذراً لما يخطط له الشيطان بطريقة خفية، وذلك بالانفتاح على وحي الله الذي جاء به الرسل ، والتعرف على واقع نفسه والناس من حوله، ودراسة كل نقاط الضعف والقوة في شخصيته، وتؤكد في الوقت نفسه أن الشيطان لا يملك القوة والسلطان على عباد الله الصالحين الذين يستحضرون إيمانهم بالله والتزامهم بدينه في وجدانهم الفكري والعملي، فلا يسقطون أمامه، وذلك هو قول الله تعالى )إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ(([324])، وقوله تعالى:)إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(([325])، ويعترف الشيطان بهذه الحقيقة في قوله تعالى:)وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ(([326])، فالشيطان لا يشلّ قدرة الإنسان فيمنعه عن التفكير المتزن والرأي السديد وعن الاختيار الحرّ، بل يحاول أن يغيّر له الصورة الحقيقية بالكثير من الوسائل الخادعة التي تخدع بصره وتعمي بصيرته، مما يبعده عن التركيز بسوء اختياره.
وقد أكد الله للإنسان أن كيد الشيطان لا يلغي للإنسان إنسانيته، وذلك قوله تعالى:)إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(([327])، وبذلك فإن الإنسان يملك حماية نفسه من عدوه بالمزيد من التفكير العميق والوعي المنفتح والإيمان القوي، والبصيرة النافذة والإرادة الصلبة والانفتاح على الله في خط الثقة به والاستقامة به وتوحيده في كل شيء. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السابعة 20 ذي القعدة 1422ه - 2/شباط/2002م
العداوة (2)
* إنّ العداوة لله ليست عداوة له بذاته، بل هي عداوة لرسله وملائكته التي تتحول إلى عداوة للخط الأصيل للرسالات النازلة من الله الموجهة إلى عباده *
العداء للرسالة والرسل.
عدوّ اللّه.
المنهج الإسلامي.
أعداء الأنبياء.
المعركة المستمرة.
عداوة باختيار.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
العداء للرسالة والرسل:
كان الحديث في الأسبوع الماضي عن أول عداوة في التاريخ، وهي عداوة الشيطان للإنسان، وذيول هذه العداوة وامتداداتها على مدى الزمن، والتي تجلت في وسائل وأساليب متنوعة تحدثنا عنها. والحديث في هذا اللقاء عن جهة أخرى من العداوة، إنها العداوة لله وللرسالة وللرسل.
لقد تحدثت أكثر من آية قرآنية عن عدوَّ الله تارة وعن أعدائه تارة أخرى، ففي سورة البقرة، جاء قوله تعالى:)مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ(([328])، ونستوحي منه أن العداوة لله تندمج في موقف هؤلاء الناس من عداوتهم للملائكة، ومنهم جبريل - الذي كان يعاديه اليهود - وميكال، ولرسل الله أيضاً، فإن الملائكة والرسل لا يمثلون أنفسهم، لتكون العداوة لهم شأناً ذاتياً، بل إنهم يمثلون الموقع القريب لله مما يحملونه من رسالة ويبلغونه من أمور أو يقومون به من وظائف، الأمر الذي يجعل العداوة الموجهة إليهم عداوة لله بشكل غير مباشر، ولذلك اعتبرهم معادين لله وإن كانوا لا يعترفون بعداوته بشكل مباشر.. وفي نهاية الآية يؤكد الله سبحانه وتعالى أنه عدو لهم بلحاظ كفرهم الذي يؤدي بهم إلى هذا الموقف السلبي من الرسل في رسالاتهم ومن الملائكة..وهكذا نعرف أن العداوة لله ليست عداوة له بذاته، بل هي عداوة لرسله وملائكته التي تتحول إلى عداوة للخط الأصيل للرسالات النازلة من الله الموجهة إلى عباده، ليكون الارتباط بالرسل تابعاً للارتباط بها.
ونقرأ في سورة فصلت الآية19، المصير الذي ينتظر هؤلاء الذين يعادون الله، باختيارهم الكفر به أو الشرك بعبادته، ويعاديهم الله جزاءً لذلك، وهو قوله تعالى:)وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ( لأن النار هي جزاء الكافرين، حيث أقام الله عليهم الحجة في مسألة الإيمان، مما أدركته عقولهم وبما جاءت به الرسل.
ونقرأ في سورة فصلت/الآية 27-28، قوله تعالى: )فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ( فالكافرون الذين يجحدون بآيات الله ويعملون الأعمال السيئة المنحرفة عن مواقع رضاه، المنفتحة على مواقع غضبه، هؤلاء هم أعداء الله، لأن مواقفهم مضادة لله ولتعاليمه ومتمردة على أوامره ونواهيه، ومنحرفة عن خطه المستقيم، وصادَّة عن سبيله ومحارِبة لأوليائه، وتلك هي قمة العداوة في معناها الفكري والعملي.
عدوّ اللّه:
وقد تحدث الله عن فرعون - في وحيه لأم موسى - بأنه عدوٌّ له، لأنه تمرّد على الله في دعواه الربوبية، ودعوته الناس إلى عبادته من دونه، وإنكاره لألوهيته وتوحيده، كما هو عدو لموسى من خلال عداوته لقومه، حيث كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم - وذلك هو قوله تعالى:)أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي(([329]).
كما تحدث عن النبي إبراهيم(ع) الذي تبرأ من أبيه، عندما تبين له أنه عدو لله، لرفضه الإيمان به، والتزامه بعبادة الأصنام، وعداوته لإبراهيم وللمؤمنين معه، لأنهم دعوه إلى توحيد الله وابتعاده عن الأوثان، وذلك هو قوله سبحانه وتعالى)وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ(([330]).
وقد أكد الله للمؤمنين أن عدوهم الذي يعاديهم بسبب إيمانهم بالله ورسله ورسالاته هو في الوقت نفسه عدو الله، لأن موقف العداوة في العمق يتوجه إلى الله، لا بمعنى الذات، بل بمعنى دينه القويم وخطه المستقيم، وأراد لهم ألا يتخذوا السائرين في خط العداوة أولياء، لأن الولاية في معناها الروحي والعملي تفرض الانسجام في الخط الفكري واللقاء في الجانب الشعوري والعملي، وهذا مما لا يمكن أن يلتقي بالعداوة في موقف الناس الذين يعلنون العداوة للناس وللرسالة، وذلك قوله تعالى:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ(([331])، ثم يشرح لهم أساس هذه العداوة الذي ينبغي أن يبعدهم عن موالاتهم )وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ( وهذه هي العداوة الفكرية )يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ*إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ(([332])، وهذه هي العداوة العملية السلوكية.
المنهج الإسلامي
وهذا هو المنهج الإسلامي الذي لا يريد للمسلمين أن ينظروا إلى الآخرين الذين يختلفون معهم في الدين أو في الكفر نظرة حقد وعداوة وبغضاء لمجرد الاختلاف الفكري أو الديني، بل يريد لهم أن يأخذوا بأسباب الوعي والحذر الواقعي في علاقتهم بهؤلاء الذي يبطنون لهم العداوة في جميع الحالات ويظهرونها في بعض الحالات، حتى لا يسقطوا - في غفلتهم وبساطتهم الروحية وعفويتهم الإنسانية - تحت تأثير خططهم التآمرية التي يخططون فيها لفتنتهم عن دينهم والإجهاز على قوتهم. ولعل أوضح صورة لهذا المنهج الإسلامي في توعية المسلمين للتعامل مع هؤلاء الأعداء الذين أربكوا المسيرة الإسلامية كلها في عهد الدعوة الأول، ولا سيما من المشركين واليهود، هو ما جاء في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ*هَاأَنْتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الْأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(([333]). فهذه الآيات تمثل الصورة الإنسانية التي كان يتمتع بها المسلمون في علاقتهم بأهل الكتاب - ولا سيما اليهود - على مستوى المشاعر الشخصية أو العلاقات الاجتماعية، فهي علاقة محبة، من ناحية نفسية، وعلاقة إيمان بكتابهم لأنهم يؤمنون بالكتاب كله، بينما كان اليهود يختزنون البغضاء في نفوسهم، ويتحسسون الغيظ في صدورهم، في حقد عميق دفين، ولذلك جاءت هذه الآية لتضع المسألة في نصابها الحقيقي، ولتحذر المسلمين من الاستسلام لهؤلاء الذين يكيدون لهم ويستغلون غفلة المسلمين عن مشاعرهم العدوانية الحقيقية، كوسيلة من وسائل الحماية في حركة الوعي الإنساني للواقع.
وقد أراد الله للمسلمين بالإضافة إلى الامتناع عن اتخاذ هؤلاء أولياء، أن يعدُّوا لهم القوة، في مقابل القوة التي يملكونها للعدوان على المسيرة الإسلامية، لأن القوة لا تردُّ إلا بالقوة، وهذا ما جاء في قوله تعالى:)وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ(([334])، فإن المطلوب لأي شعب أو أية أمة أن تملك القوة الكبرى التي تمنع القوة الأخرى من العدوان عليها، من خلال ضخامة القوة الإسلامية التي يحسب الآخرون لها ألف حساب في حركة الهجوم في ساحات المعركة. إنها القوة الوقائية التي تحاول التأكيد على تهيئة الوسائل الدفاعية من الناحية النفسية والواقعية.
أعداء الأنبياء:
وللأنبياء أعداؤهم أيضاً، باعتبار أن الرسالات التي حملوها كانت تصطدم بالناس الذين يرفضون دعوة التوحيد ممن يعبدون الأصنام، أو الذين يملكون بعض الامتيازات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتيح لهم أكثر من فرصة للحصول على مواقع النفوذ في المجتمع، ما يدفعهم إلى الحؤول دون وصول أي شخص أو أية جهة أو أية دعوة فكرية دينية أو غير دينية إلى الدرجة التي يملك فيها التأثير على تلك الاتجاهات المضادة، أو القوى النافذة التي تتحرك لإعلان الحرب على الأنبياء واستخدام كل ما لديها من وسائل القوة ضدهم، وتأليب الناس عليهم بمختلف الأساليب المثيرة لمشاعرهم والمحرِّكة لعصبياتهم، لإسقاط دعوتهم وإضعاف موقعهم الأمر الذي تتحول معه هذه الأوضاع إلى حالة من العداوة الحاقدة التي تستخدم كل الوسائل ضد الرسل في رسالتهم، ومنها الإشارة إلى بعض نقاط الضعف، كما في قوله تعالى في الحديث عن منطقهم: )وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ(([335])، أو اتهام الرسول بالجنون أو بالسحر أو بالكهانة - في استغلال للسذاجة الشعبية التي لا تفكر - لإسقاط موقعه الروحي المرتبط بالله، بتحويله إلى حالة عقلية شاذة، أو إلى حالة بشرية عادية.. وهذا هو ما عبرت عنه الآية الكريمة في سورة الفرقان/الآية 31:)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ( هؤلاء الذين يخططون للجريمة في واقع الناس، لأنهم لا يفكرون في المصلحة العامة، بل ينطلقون من عقدتهم الذاتية التي تتنفس بالإجرام في حياتهم أو بالمحافظة على نفوذهم الاجتماعي الذي اكتسبوه باللعب على عواطف الناس الساذجة واستغلال نقاط الضعف عندهم.. وربما كانت كلمة (المجرمين) فيما ورد في الآية الكريمة إشارة إلى ما تمثله هذه العداوة للنبي ولرسالته من جريمة في حق الإنسانية، لأنها تبعدهم عن الله وتجعلهم في قبضة الشيطان الذي يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً..
وفي آية أخرى يتحدث القرآن الكريم عن شياطين الجن والإنس الذين يمثلون حالة العداوة للنبي بأساليبهم المتنوعة، سواء منها الخفية التي يأخذ بها شياطين الجن وبالوسائل الشيطانية، أو البارزة التي يمارسها شياطين الإنس بالوسائل البشرية، لأن مسألة النبوة تمثل خطراً على كل الشياطين الذين يضلون الناس ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، وذلك قوله تعالى: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(([336])، وجاءت هذه الآية لتتحدث عن هذه السلسلة التاريخية الطويلة من أعداء الرسل والرسالات، فقد أشارت إلى رسول الله (ص) فيما واجهه من مظاهر العداوة، من جحود وكفر ونكران، ومحاولة لإضلال المؤمنين به، وبيَّنت له أن المسألة لا تختص به بل تشمل كل الأنبياء من قبله، لأنها سنة الله التي أودعها في نظام المجتمع وحركته. فهناك الذين ينسجمون مع الخط الرسالي، وينفتحون على جميع معانيه ومفاهيمه، وهناك الذين يتنكرون له ويتمردون عليه ما يجعلهم معقَّدين أمامه، ليتحول - بعد ذلك - إلى عقدة ضد صاحب الخط ورسوله، سواء في شياطين الإنس الذين يعملون في السر والعلن من أجل التخطيط للقضاء على الرسول أو الرسالة، أو شياطين الجن الذين يتبعون سبيل الوسوسة في إبعاد الإنسان عن الحق والعدل، وتزيين الباطل له، وتشويه القيم الروحية والأخلاقية في الحياة، وإثارة الشهوات من أجل تحريك كل نقاط الضعف فيه.
ويتلاقى هؤلاء الشياطين في اجتماعات صغيرة أو كبيرة، مغلقة أو مفتوحة، ليتحدثوا فيما بينهم في أقرب الوسائل للضغط على الرسول، وفي أفضل الكلمات التي تحرك النوازع السيئة الخبيثة التي تمنع الإنسان من الانفتاح على الله. وفي أكثر الأساليب خداعاً وتغريراً، ف )يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا( في عملية إيحاء بالشر والضلال في أجواء حميمة محببة إلى النفس، في كلمات حلوة تنفذ إلى القلب في أعمق مشاعره وأدقِّ نبضاته. وهكذا يبدأ الضلال في عقول الناس كلمات حلوة، وأساليب جميلة، وأجواء حالمة، وشهوات محرمة، مما تزينه الشياطين، وتثيره وتحركه في حياة الناس البسطاء الطيبين الساذجين الذين لا يعرفون فنون الحيل، وأساليب الخداع، بل يقبلون على كل ما يسمونه بالطيبة التي توحي بالثقة، وبالطهارة التي تقود إلى الاستسلام، حتى إذا اكتشفوا وجه الحيلة عند نهاية المطاف، أصابتهم الدهشة، وأثارهم العجب، وتساءلوا كيف يمكن أن يوجد في الكون مثل هؤلاء الناس الذين يخدعون عباد الله، ولا يخافون الله في ما يقولون وفي ما يفعلون، وفي ما يدبرون من مكائد ومصائد.
وقد كان للأنبياء أعداء لا يعرفون من الحياة إلا الأساليب الخفية التي سرعان ما تنكشف للناس فيبطل مفعولها من خلال ذلك، كما تحدث لنا القرآن عن صاحب إبراهيم(ع) عندما قال على ملأ قومه جواباً لإبراهيم(ع) الذي قال:)رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ(([337])، )قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ( كأسلوب من أساليب تضليل البسطاء من الناس، الذين يرون أن أمر الحياة والموت بيد الملوك الذين يستطيعون أن يهبوا الحياة للإنسان فيرفعوا عنه القتل، وأن يسلبوا منه الحياة فيحكموا عليه بالموت )قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(. وهكذا رأينا كيف كانت أساليب فرعون الظاهرة والخفية في الكيد لموسى(ع). وتتوالى الأحداث مع الأنبياء، ويكون الحل الأخير لأعدائهم هو القوة التي قد تنجح أحياناً، وقد تفشل في كثير من الحالات عندما تتدخل القوة الغيبية لتنقذ الأنبياء من كيدهم وطغيانهم.
المعركة المستمرة:
ومرت قافلة الأنبياء... وجاء بعدها الأئمة والأولياء والعلماء الذين حملوا الرسالات بقوة وصدق.. ووقفت قافلة أعداء الله في الطريق تواصل مسيرة التصدي والتحدي والكيد والتخريب، وتنوعت وسائل ذلك، فاستخدمت كل أدوات العلم والفن والإعلام، في سبيل المزيد من التشويه والتمويه والترغيب والترهيب، والتخييل والإيهام، وتغيير الواقع بما يتناسب مع أفكار الكفر والضلال.. وما زالت المؤامرة على الإسلام والمسلمين مستمرة... وما زال الناس يتساقطون في دينهم وعقيدتهم وسلوكهم أمام عناصر المؤامرة وأساليبها بفعل القوة المدمرة، والاحتواء الشامل لكل الساحة في جميع أوضاعها ومجالاتها... وما زال المجاهدون الدعاة إلى الله في قلب المعركة، معركة الأنبياء مع شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.
وتلك هي إرادة الله في ما أقام عليه الكون من سننه الحتمية، التي تترك للناس أن يختاروا ما يحلو لهم، فلا يشل قدرتهم على الاختيار، بل يوجهها في نطاق الحرية المسؤولة، فإذا انحرفوا عن الطريق، لم يتدخل بإرادته الفاعلة ليمنعهم من الانحراف. وذلك هو مفهوم الآية الكريمة: )وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ(([338])، لأنهم لم يتمردوا على أنبياء الله ورسله من موقع قوة ذاتية يملكون - من خلالها - مجابهة الله في سلطانه، وإنما فعلوا ذلك في نطاق السنن الكونية التي أودعها الله في الكون، فهم يتصرفون في نطاق حركة القدرة الإلهية في ما أعطاهم الله من حرية الإرادة وحركة الاختيار )فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ( ودعهم ولا تلتفت إليهم، لأنهم لن يضروك شيئاً ما دمت سائراً في طريق الله بقوةٍ وعزيمةٍ وإخلاص، إنهم يعيشون مع أفكارهم الشيطانية، ويحسبون أنها تجلب لهم الفلاح والنجاح.. ولكنها لن تفيدهم شيئاً ولن تغيّر شيئاً من مصيرهم، فذرهم وما يفترون من أفكار وآراء، فإن وحي الله معك.. فهو النور وهو الحقيقة. )وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ(([339]) وهذه هي النتائج التي ينتظرها عدوُّ النبي في كل زمان ومكان.. أن يجد أذناً تصغي إليه وقلباً يرضى بزخرفه وغروره، وأناساً يسيرون على خطته، و يقترفون الجرائم التي يأمرهم بارتكابها.
إن دوره أن يحرك الساحة لمصلحة الكفر، ويحقق لها شروط نموِّها وتطورها في الاتجاه الذي يريد، فقد نجد في بعض الحالات مجموعة من الناس تعيش أجواء الكفر، ولكنها لا تجد القيادة التي تستفيد من هذه الأجواء من أجل الحصول على نتائج كبيرة، ولا تجد الظروف الموضوعية التي تنمي فيها قابلية الانطلاق.. فتقف في الظل طويلاً تتطلع إلى الفرص القادمة، فإذا جاءها ذلك كله، تحولت إلى حركة قوية متمردة في ما تسمع وفي ما تؤيد وفي ما تعمل.. وتلك هي سنة الله في الحياة.. في ما أراده الله من تنظيم للكون، في أن يمارس الإنسان عملية الإرادة من موقع الحرية.. وأن تتحرك الحرية في الأجواء التي تحمل في ساحاتها فرص الهدى وفرص الضلال.
عداوة باختيار:
ويبقى أن نشير إلى تساؤل مهم قد يطرح على هامش قوله تعالى: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ(([340]) إذ كيف يجعل الله لكل نبي عدوّاً، وكيف ينسجم ذلك مع فكرة الحرية؟! وفي جواب ذلك نقول: إن الله عندما يتحدث عن نسبة أي فعل من أفعال الخير أو الشر إلى ذاته المقدسة، فإنه لا يتحدث عن ذلك بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، يلغي فيه دور الإرادة الإنسانية في الفعل، بل يتحدث عنه في الإطار العام للخلق في ما أودعه فيه من النظم الكونية والحياتية التي تتحرك في نطاق قانون السببية، فلكل عمل سببه الذي لا يوجد إلا به، وإذا كانت الإرادة الإنسانية هي أحد أسباب وجود الفعل الإنساني، فإنها تؤكد عملية الاختيار ولا تلغيها، وبذلك كانت نسبة جعل الأعداء للنبي إلى الله، منطلقة من أن طبيعة الرسالة التي أرسلها الله إلى الناس تفرض أن يكون لها أناس يؤمنون بها وأناس يكفرون بها، وذلك بالنظر إلى اختيارهم الشخصي في قضية الإيمان والكفر، ما يجعل القضية مرتبطة بالله من جهة، من خلال خلقه للإرادة الحرة في الإنسان، وبالمكلف من جهة أخرى، من خلال مباشرته لعملية الاختيار بحريته. وهذا الأسلوب ليس ببعيد عن عالم الإسناد المجازي في اللغة العربية. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثامنة 27 ذي القعدة 1422ه - 9/شباط/2002م
مواجهة الأعداء (3)
تجربة نوح(ع)
* ليستوح الدعاة إلى الله في هذا العصر أساليب القوى المضادة كجزء من ثقافتهم الحركية *
مع النبي نوح(ع).
الردود السلبية.
رسول الحق والعقل.
تصعيد الموقف.
قمة المأساة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ما زال الحديث عن العداوة على الصعيد الاجتماعي والفكري والسياسي، واليوم نتابعه على مستوى حركة الأنبياء(ع)، وذلك لمعرفة طبيعة الصراع بين حركتهم وبين حركة أعدائهم، وكيف كانت تجربتهم مع هؤلاء الأعداء الذين تحدثنا عنهم فيما سبق؟ وما هو منطقهم الذي واجهوا به أساليبهم العدوانية، مما كان يواجه فيه بعضهم البعض من خلال زخرف القول؟ وكيف صوّر لنا القرآن ذلك كله؟
هذا الحديث يستوحيه الدعاة إلى الله في ثقافتهم الحركية من أساليب القوى المضادة، التي لا زالت تتمثل في أكثر من أسلوب مما يثيره أعداء الرسالة في هذا العصر، بالرغم من اختلاف المفردات التي تختلف باختلاف الناس والذهنيات السائدة والقضايا المثارة. فكأن التاريخ يعيد نفسه من خلال المنهج في عملية المواجهة، باعتبار أن العقدة الغرائزية في الإنسان واحدة في ردّ الفعل أمام الأفكار أو العادات غير المنسجمة مع تفكيره وعاداته.
مع النبي نوح(ع):
نلتقي بدايةً بتجربة النبي نوح(ع) الذي كان أول نبي يواجه صراعاً عنيفاً، مع قومه، الذين أعلنوا العداء لرسالته بمختلف الطروحات المثيرة والأساليب القاسية. وقد تحدث القرآن عنه في أكثر من سورة، ولكن أجمع حديث عنه كان في سورة (هود).
فقد أعلن لهم الخطَّ التوحيديَّ كمنهجٍ للرسالة، وأنذرهم بعذاب الله تأكيداً على خطورة الانحراف عن توحيده ورسالته، ليؤكد لهم أن المسألة في هذا الاتجاه الفكري والعملي ليست مسألة ترف ذاتي، بل هي مسألة تنطلق من خلال المسؤولية الإنسانية المرتبطة بعلاقة الإنسان بربه، ما يفرض عليه الالتزام بدينه وشريعته )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ(([341]) فقد اختصر المنهج كله بوحدانية العبادة التي تضم وحدانية الألوهية والطاعة، وبالإيمان باليوم الآخر بكلمة )عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ(، فماذا كان ردة فعل قومه؟
الردود السلبية:
لقد أثاروا أمامه بعض النقاط. النقطة الأولى: كما في قوله تعالى: )فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين(([342])، فقد أنكروا على أتباعه الذين يمثلون الطبقة السفلى في المجتمع أن تكون لهم المميزات الشخصية والاجتماعية والاقتصادية، التي تمكنّهم من الوصول إلى مراكز القيادة العامة في المجتمع الذي يضمُّ الوجهاء والمترفين وأرباب القوة ومراكز السلطة، وأعلنوا لهم في النهاية أنهم يرجِّحون وصفهم بالكذب في دعوتهم، كأسلوبٍ من أجل إسقاط معنوياتهم النفسية في ذلك كله، فما كان جواب نوح(ع) لهم؟ )قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ(([343]). لقد تحدث إليهم بمنطق العقل الذي يمتدُّ في خطِّ الرسالة ردّاً على حديثهم الانفعالي.
ففي مسألة الرسالة قال لهم إنها ليست مسألة ذاتية تتصل بتجربتي أو طموحاتي الشخصية، بل هي رحمة من الله يخص بها من اصطفى من عباده لرسالته، وقد مكَّنني انفتاحي على الله من إمتلاك البيّنة الواضحة التي منَّ بها عليّ، فلم أشك بها لحظة ولم أغفل عن مكنوناتها الفكرية الغنية ساعة، فهي خافيةٌ عليكم لأنكم لم تحاولوا الانفتاح عليها في حوار موضوعي معي حولها لأعطيكم ملامح البيّنة التي منحني الله إياها. لذلك لم أتحرّك بينكم من أجل إلزامكم بها مع كراهيتكم لها، بل كل ما عندي أنني دعوتكم إليها وبيّنت لكم الأخطار المترتبة على ابتعادكم عنها..
ثم ادرسوا المسألة دراسة واعية في دوافع هذه الدعوة، ترون أني لم أطلب منكم مالاً كأجر على الرسالة، لتفسّروا المسألة تفسيراً مالياً في رغبة الإنسان في التوصل إلى المال، فإن أجري على الله وما أنا إلا رسول من قبله، وهو الذي يعطي رسله أجرهم من عنده. .. أما هؤلاء المؤمنون الذين تطالبونني - بأسلوبكم الخاص - أن أطردهم، فإن علاقتهم بالله، وهو الذي يملك أمرهم، وسوف يلاقونه ليمنحهم الجزاء الحسن على التزامهم العقيدي والعملي، وليست علاقتهم بي علاقة شخصية بالدرجة التي أملك فيها أمرهم - كما تريدون - بل إنني أخاف من الله أن يعاقبني على طردهم لو استجبت لكم في ذلك، فهل تنصرونني من الله وهو الذي يملك القوة كلها؟ فالمشكلة هي أنكم مستغرقون في الجهل الذي يمنعكم من معرفة حقائق الأمور، وفي الغفلة التي تمنعكم من تذكر النتائج السلبية التي تنتظركم في سلوككم العدواني ضدَّ الرسالة.
رسول الحق والعقل:
ثم قدّم لهم نفسه كرسول لا صفة له خارج نطاق الرسالة، فهو لا يريد أن يجتذب مطامع الناس في دعوته، ليحدثهم عن ضخامة شخصيته في ذاتيته بما يخرج عن المألوف في صفة البشر، فهو لا يملك خزائن الله ليوزّعها على الناس بلا حساب، ولا يعلم الغيب ليحدثهم عن خفايا الحاضر وتطلعات المستقبل في حياتهم الخاصّة والعامّة، ولا يقول إنه ملك من الملائكة، بل هو بشر مثلهم، ولا ينظر إلى أتباعه من المؤمنين بما ينظرون به إليهم ليقول إن مستواهم الاجتماعي في الدرجة السفلى التي تجعلهم بعيدين عن لطف الله ورحمته، بحيث لا يعطيهم الخير والدرجة الرفيعة عنده. فالله هو الذي يعرف إخلاصهم وتوحيدهم له، وهو الأعلم بما في نفوسهم، فلو استجبت لكم في النظرة والعمل كنت ظالماً لهم، وهذا مما لا يمكن أن أفعله، لأنني أرفض الظلم كله، من نفسي ومن الآخرين.
إنه منطق الرسالة التي لا تتعقد من منطق العداوة، لأن المسألة ليست مسألة الشخص، بل هي مسألة الرسالة التي تخاطب الآخرين من موقع إنسانيتهم، التي يراد لها أن ترقَّ وتلين وتنفتح وتعي الخط العام للرسالة والروح الرسالية للرسول، ولهذا يبقى أسلوبها هادئاً رقيقاً، فإذا أخذ بالعنف في جانب انطلق باللّين في جانب آخر.
النقطة الثانية هي ما جاء في قوله تعالى: )قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ(([344])، إنهم لم يملكوا منطقاً يناقش منطقه الهادئ المرتكز على الحجة، ولذلك قابلوه بالأسلوب الذي يريد إنهاء الجدل، وواجهوه بأن جداله معهم لن يؤدي إلى أية نتيجة، لأنهم ليسوا مستعدين لمناقشته، وتحدّوه أن ينزل بهم العذاب إذا كان صادقاً فيما أنذرهم به إذا لم يستجيبوا له في توحيدهم لله في العبادة.
ولم يفقد نوح(ع) أسلوبه الإنساني الهادئ الذي يفيض بالمحبة )قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(([345])، فإني لا أملك إنزال العذاب، بل الله وحده هو الذي يملك ذلك كله، فإذا أراد أنزله عليكم، فهو الذي يقدِّر وقته وحجمه، عندها لن تملكوا ردَّه عنكم ولن تعجزوا الله فيما يريد، لأنّ له الحكم والأمر )وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(([346])، فقد حاولت أن أقدم لكم النصح لتختاروا خط الإيمان بالله، ولتعبدوه في موقع وحدانيته .. ولكني لا أملك فرضه عليكم، إذا ما امتنعتم من قبول النصيحة وتمردتم على الله، فسلب عنكم رحمته وهدايته، بعد أن هيّأ لكم سبل الهداية، فهو ربكم الذي بدأ الخلق، وقد خلقكم ولم تكونوا شيئاً وإليه ترجعون، لتواجهوا الموقف المسؤول في يوم الحساب أمامه.
النقطة الثالثة: الأسلوب الساخر حين أخذوا يسخرون منه عندما أراد الله له أن يصنع الفلك، ربما لأن بلادهم لم تكن واقعة على ساحل بحر أو نهر، لأنهم تصوروا أنه ربما خولط في عقله .. ولكن الله أراَد له في هذه المرحلة أن يبادلهم سخرية بسخرية كأسلوب من أساليب الإيحاء بالقوة الخفية التي يملكها في التحدي بلحاظ المستقبل، وذلك هو قوله تعالى )وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(([347]).
تصعيد الموقف:
النقطة الرابعة: الأسلوب القويّ الذي واجههم به نوح(ع) في بعض مراحل الدعوة، وذلك في قوله تعالى في سورة يونس )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ( إنه يتحداهم في مراكز قوتهم، ويعلن لهم استعداده للمواجهة بموقفه القوي الذي لا يضعف، من خلال التسليم الكلّي لله )فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ(([348])، وسأتبع أمر الله وأسلّم لله أمري، في أموري كلها.
النقطة الخامسة: وهي أنّه لم يؤمن له إلا قليل من الناس، وبقيت الأكثرية على الكفر، وأخبره الله بأن التجربة قد استكملت عندما أصرُّوا على الكفر، وأراد منه ألا يتألم وألاّ يشعر بالإحباط لأنه صبر كما لم يصبر نبي مثله في الإصرار على الدعوة كل هذه المدة الطويلة التي عاشها معهم، وأدى رسالته كاملة غير منقوصة، وذلك هو قوله تعالى: )وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(([349])، وكان نوح(ع) قد قدم تقريره النهائي إلى ربه بعد أن استنفد كل الأساليب، وخاض كل التجارب، وهذا هو ما تحدث عنه الله في سورة نوح: )قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(([350])، وهذه هي الصورة السلبية التي واجهت نوح(ع) في موقفهم منه، فقد كانوا يفرُّون من أمامه عندما يبدأ دعوته، فجعلوا أصابعهم في آذانهم كمظهر من مظاهر رفضهم لدعوته، وغطوا وجوههم بثيابهم لئلا يروه، تدليلاً على أنهم لا يرغبون في الإقبال عليه حتى بمستوى النظر إليه، وأعلنوا الإصرار على الكفر، وتصرفوا معه بمنطق الاستكبار الذي يمارس الاستعلاء على المستضعفين .. إنها العقدة المرضية في الموقف العدواني ضده، ولم ييأس نوح من قومه، وأخذ يختلق الأساليب المناسبة للدعوة.
)ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(([351])، بأعلى صوتي في الدعوة في مجتمعاتهم العامة )ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(([352])، في المجالس الخاصة، وكان أسلوبي في الدعوة تذكيرهم بمغفرة الله ورحمته إذا أنابوا إليه وتابوا، وعرفتهم عظمته في خلق السماء والأرض، ونعمته في تسخير القمر والشمس، وفي تمهيد الأرض والسير فيها، وذكرت لهم كيف خلقوا من الأرض وكيف يعودون إليها عندما يموتون، وكيف يخرجون منها عندما يبعثون، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك، عندها قال: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا * قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا(([353])، وهكذا كانت الجماعة التي تقود حركة العداوة ضد النبي نوح(ع) هي جماعة الأغنياء، الذين يملكون المال الوفير، والأقوياء الذين يملكون القوة العددية من أولادهم، لأنهم يخافون على امتيازاتهم، فتحركوا في خط المكر المتنوِّع وإثارة الناس الوثنيين لحماية أوثانهم من هذا الإنسان القادم من أجل تحطيمها وإبعاد الناس عنها.. )وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا(([354]) لأنهم اختاروا الضلال واستغرقوا فيه.
وكانت النهاية الدعاء عليهم بالهلاك: )وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(([355])، ولم تكن المسألة عنده تنطلق من عقدة ذاتية من جراء اضطهادهم له، بل من أجل حماية الأجيال الجديدة من تأثيرهم القويِّ عليهم )إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا(([356])، لإحاطتهم به وسيطرتهم عليه، ومنع الرسل من السعي إلى هدايتهم..
وفي نهاية المطاف، يبتهل إلى الله قائلاً: )رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا(([357]) هلاكاً ودماراً . واستجاب الله دعاءه وأهلكهم بالطوفان.
قمة المأساة:
وكانت مأساة نوح(ع) أن امرأته كانت في صف الأعداء، وربما كانت تساعدهم عليه، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى عنها وعن امرأة لوط )ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا (([358])، فإن الظاهر من الخيانة، أنها خيانة الرسالة في موقفهما المضادّ منها، وعدم الانسجام مع طبيعة موقعهما الزوجي الذي يفرض عليهما أن تكونا من أوائل المؤمنين بالرسالة، لأنهما تعرفان من استقامة زوجيهما وأمانتهما وصدقهما ما لا يعرفه الآخرون.
وتجلّت قمة المأساة في الابتلاء بولده، الذي كان - كما يبدو ـ خاضعاً لأمه ولأهلها الكافرين، متمرداً على أبيه .. وعندما جاء الطوفان )وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ(([359]) وحار نوح(ع) في أمره، وكان يتمنى أن يكون ولده من الناجين، وربما كان يظن أنه من المؤمنين، فناجى ربه قائلاً: )وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(([360]) فعرفني يا رب طبيعة المسألة، فقد رأيت ولدي يغرق في الطوفان )قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك إنه عمل غير صالح(، لأن أهلك هم المؤمنون، وهو ممن استثناهم الوعد، إلا من سبق عليه القول )فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ(([361]).
وهكذا تتمثل شخصية النبي نوح(ع) في حكمة أسلوبه، وقوته في موقفه وصبره في خط الدعوة في مدّة الزمن )فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عاماً(([362])، ومن خلال طريقته في مواجهته للأعداء من موقع العقل المفتوح والقلب الطيب والكلمة الواضحة والحجة القوية .. ليتمثل الرساليون هذا الأسلوب في حركتهم في الدعوة إلى الله، في كل ساحة التحديات ومواقف الأعداء. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة التاسعة 4 ذي الحجة 1422ه - 9/شباط/2002م
مواجهة الأعداء (4)
تجربة إبراهيم(ع)
* إنّه النبيّ الذي كان أمّة، وواجه أعداءه وأعداء الله بأساليب متنوّعة لابد للدعاة أن يدرسوها وينهجوا نهجها في تجاربهم الحركية *
المواجهة الهادئة.
معاناة من الداخل.
من الحوار إلى الصدمة.
التذكير بأنعم الله.
محاكمة إبراهيم(ع).
على الدعاة دراسة أسلوبه(ع).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تقدّم الحديث عن المنهج النبويّ في مواجهة أعداء الرسالة في مخططاتهم التآمرية لإسقاطها والحيلولة دون بلوغها مرحلة الاندماج في الوسط الجماهيري عبر وسائل وآليات مختلفة ومتنوعة.
المواجهة الهادئة
وقد تحدثنا عن النبي نوح(ع)، وحديثنا في هذا الأسبوع يتناول النبي إبراهيم(ع) الذي تحركت حياته في أكثر من جانب، وفي أكثر من أسلوب، حيث اعتمد في بداية دعوته طريقة المناجاة الذاتية، التي لا تستثير عواطف أعدائه ولا تولَّد أية حالة عدائية تجاههم، بل كانت تهدف إلى مواجهة الأفكار المنحرفة، ليدفعهم من خلال الاستماع إليه إلى التفكير بما يعبدونه من الكواكب والشمس والقمر وما إلى ذلك. وربما كانت حداثة سنه تشفع له في ابتعادهم عن مواجهته، لأنه لا يشكل خطراً على موروثاتهم أو معبوداتهم. وقد حدثنا الله عن هذه المرحلة في قوله تعالى:)وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْم الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون َ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(.
ولم يلتفت قومه إليه في البداية، لأنه كان - حسبما جاء في الآيات - يعبر عن حالة شخصية لا تهدد مصالحهم، ولا تؤثر على الجوّ العام للمجتمع.. ودخلوا معه في جدال حول عقيدته التوحيدية والتزامهم الوثني، كما لو كانوا يحاولون إرجاعه إلى عبادة الأوثان، )وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ(، وربما تحدثوا له عن أوثانهم وعن الذهنيات التي تنكر وجود الله أو توحيده، انطلاقاً من بعض الرواسب التاريخية المستقرة في أفكارهم من دون أيِّ أساس علمي أو أسلوب موضوعي، وربما كانوا يخوِّفونه من تأثير غضب الأصنام على حياته: )قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي( إلى الحق، من خلال العقل الذي يحدِّد لي الصواب والخطأ والهدى والإيمان، ومن خلال الرسالة التي أرسلني الله بها، فاهتديت إلى أنَ القوة لله جميعاً ولا قوة لغيره، لأن كل مخلوق يستمد القوة منه كما استمد الوجود منه )وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ(ولا من أي شيء )إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا( الذي يملك مني ما لا أملكه من نفسي، وهو وليُّ الضر والنفع والمحيط بكل شيء )وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ( وتخرجون من الغفلة التي أطبقت عليكم، فخضعتم لها في استغراقكم في عقائد آبائكم وأجدادكم التي قادتكم إلى الشرك.
)وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ(وهي أحجار لا تضر ولا تنفع )وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا( ولا تملكون عليه أي حجّة وهو المهيمن على الأمر كله )فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(، هل هو الفريق الذي يؤمن بالله ويعمل في خطِّ رضوانه، أو هو الفريق الذي يشرك به ويتمرد عليه ؟!)الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْن وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(([363]) ولم تتحدث الآيات عن ردّ فعلهم على هذه الحجّة الإبراهيمية، لأنهم كانوا لا يجدون الخطر في ذلك.
وكان يتحدث إليهم - بين وقت وآخر - بمنطق يتأرجح بين اللين والعنف )وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ([364]، وقد أبلغتكم رسالة ربي بكل صدق وأمانة ووضوح وقامت الحجّة عليكم من الله بذلك.
معاناة من الداخل:
وكانت مشكلة إبراهيم(ع) في موقف أبيه آزر منه، فقد كان كافراً يعبد الأوثان كقومه، وكان إبراهيم(ع) يريد هدايته. وكانت تجربته في هداية أبيه لا تخلو من صعوبة بالغة، لأن الآباء - عادةً - و لاسيما في ذلك المجتمع، لا يتقبلون تخطئة أولادهم لهم، بل كانوا يمارسون القوة المستحيلة ضدهم إذا خالفوهم في أمر ما، وقد نقل لنا القرآن حديثه مع أبيه وحواره معه )وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا(.
وهنا يؤكد إبراهيم(ع) لأبيه وجوب تقدم العلم على ما عداه من علاقات، حتى الأبوّة، فهو يقول له إن أبوّتك لي وتقدمك في السن لا يمنعانك من اتباعي في العلم الذي أملكه مما لا تملك منه شيئاً، لأن مسألة التقدم في العلم ترتبط بالظروف التي تمنح الإنسان الفرصة في التزوُّد به والأخذ منه دون غيره )يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا( ولكن الأب رفض هذا المنطق الهادئ الذي تمتزج فيه الموعظة بالوعي والحنان، لأن عقدة الأبوَّة، بالإضافة إلى التحجر الفكري، قد سيطرا عليه )قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ( فأنت تحدثني عن إله واحد لا شريك له، مما لا أرتضيه منك، لأنه يمثل التمرد عليّ وعلى القوم الذين أنتمي إليهم، وعلى الأصنام التي نعبدها )لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(.
وكان ردّ فعل إبراهيم(ع) نابضاً بالمنطق الهادئ والروح الرضية والأمل الكبير بهداية الله له من خلال استغفاره له، والاستجابة لمطلبه في هجرانه له حذراً من الاصطدام بأبيه، وهو ما لا يريده إبراهيم(ع) في علاقته بأبيه )قَالَ سَلامٌ عَلَيْك( فلن تجد مني إلا السلام، السلام الذي يبقى في وعي الرسول وحركته عنواناً للعلاقة مع الآخرين الذين يعمل لهداهم، ولن أدخل في جدل عقيم معك )سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي( من خلال ما يهيئ لك من سبل الهداية)إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا(([365]) بما أحصل عليه من الاستجابة لدعائي ومن الحصول على رضوانه.
وفي موقف آخر نجد إبراهيم(ع) في موقع الحوار مع أبيه وقومه )إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(، ليفتح لهم آفاق الدخول معه في الحديث )قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين(([366]) في كل طقوس العبادة المتميزة بالخضوع والخشوع وطلب الحاجات منها )قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَو يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(([367]). وأراد بهذا التساؤل أن يفتح عقولهم على التفكير في هذه الأصنام، من حيث تفاعلها معهم في الاستماع إليهم في دعواتهم، وفي النتائج الإيجابية أو السلبية مما تنفتح به عليهم في إقبالهم عليها أو إعراضهم عنها، وأن يدخلهم في تجربة الابتهال إلى الله والطلب إليه من خلال تجربته الخاصة في ذلك، وليخشعوا معه وليدخلوا في عالم جديد من خلال الإيحاء بالرجوع إلى الله، لأنه هو المرجع وإليه المصير )رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون َ* إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(([368]).
من الحوار إلى الصدمة:
ولكن إبراهيم(ع) لم يلبث في نهاية المطاف أن غيّر أسلوبه في الدعوة لقومه من اللين والهدوء إلى التحدي العنيف، حيث قام بتكسير الأصنام فيما كان يخطط له في نفسه ليقيم الحجّة عليهم بذلك بأسلوب يختزن الكثير من القوة والسخرية)وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ(، ربمّا قالها في نفسه )فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ( فيواجهون الموقف ببعض التفكير الذي يدفع إلى التساؤل )قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ([369] لما يمثله هذا العمل من عدوانٍ على المقدَّسات التي هي بمستوى الآلهة، وهو ما يمثل بدوره عدواناً على المجتمع كله، )قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ( ويتحدث عنهم بطريقة سلبية رافضة لعبادتنا إياهم ويدعو إلى عبادة الله الواحد )يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ( فلم نسمع أحداً يذكرهم بالسوء غيره، فهو المتهم الوحيد في مجتمعنا بهذه الجريمة. )قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(، إننا نلتقي معك بأن هذه الأصنام لا تسمعنا ولا تتفاعل معنا ولا تملك أية حركة للنفع والضرر، ولذلك ليست القضية عندنا هي قضية فكر يتابع الطاقات الحية الفاعلة التي تملكها الأصنام، بل القضية هي أن المنهج الذي نأخذ به هو اتباع آبائنا فيما أخذوا به وساروا عليه، فنحن نعبد ما يعبدون من دون جدال أو مناقشة أو تفكير.
التذكير بأنعم الله:
وهنا أخذ إبراهيم(ع) بزمام المبادرة ليواجههم بقوة في حديثه عن الله في مواقع نعمته ومجالات عظمته مقارنة بأصنامهم، وفي إعلانه العداوة لها، لأنها أضلت الكثير من الناس عن الله، وعن الصراط المستقيم )قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُون َ* أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي(، لا من خلال عقدة ذاتية، بل من وعي منفتح على الحق الذي يلتقي بالإيمان بالله، ومعرفة بالباطل الذي تمثله هذه الأصنام في النتائج المدمرة التي تؤدي بالإنسان إلى فقدان الهدى في خط الإيمان)إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ*وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين ِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(([370]) وكأنه أراد أن يوحي إليهم بأن الله هو الخالق والهادي والُمطعم والساقي والشافي والمميت والمحيي بعد الموت والغافر لخطايا الإنسان جميعاً، وهو واحد منهم، حيث لا خصوصية له في ذلك، لأن الله هو الذي يملك ذلك كله و لا يملكه غيره..
محاكمة إبراهيم(ع):
)قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ(، ويسمعون اعترافه على فعلته في محاكمة علنية، لأن القضية تشمل الناس كلهم، وبدأت المحاكمة ببداية التحقيق)قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا( فهو الوحيد السالم من بينهم، ما يجعله المتهم البارز الذي استغل حجمه الكبير في العدوان عليهم )فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ( لأن المعتدى عليهم هم الذين يتحدثون عن المعتدي في عدوانه عليهم )فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ( الذين يلتزمون هذه الأصنام التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً )ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ( في حالة إحباط أمام إبراهيم(ع) وقالوا له:)لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ(،فكيف تطلب منّا أن نسألهم ونستنطقهم.. وهنا جاءت الفرصة له ليبطل وثنيتهم في عبادتهم لهذه الأوثان )قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ*أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ( والله هو وحده الرب المستحق للعبادة )أَفَلا تَعْقِلُونَ(. ولم يستجيبوا لمنطقه، لأنهم لا يملكون الحجّة في مقابله ولا يريدون التراجع، واستيقظت فيهم عصبية التخلف )قَالُوا حَرِّقُوهُ(،فهذا جزاء من يعتدي على الآلهة )وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ( ليكون عبرة للآخرين، وألقوه في النار، ولكن الله أنجاه بمعجزة خارقة )قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ(([371]). وهكذا انتهت هذه المرحلة الصدامية مع قومه، لينطلق إلى عالم جديد يبني فيه بيت الله الحرام، ويمارس الدعوة في موقع جديد، ومرحلة جديدة لم يتحدث القرآن عنها تفصيلاً، وكان عنوانها قوله تعالى:)وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(([372]).
على الدعاة دراسة أسلوبه(ع):
إنه النبي الذي كان أمّة، وواجه أعداءه وأعداء الله، بأساليب متنوعة لابد للدعاة من أن يدرسوها وينهجوا نهجها في تجاربهم الحركية في طريق الدعوة إلى الله. وقد قال تعالى: )وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا(([373])، إنه الدين الحقّ الذي يريد الله للإنسان أن يتحسسه في مشاعره وأفكاره، فيستسلم له استسلاماً مطلقاً في جميع قضاياه وتصرفاته. وهذا هو ما تمثله كلمة الإسلام لله أو إسلام الوجه لله، في اتباع الرسل وأحكام الرسالات، والتي تتمثل في إبراهيم(ع) بما كان يمثله من الخط العام لكل الرسل، ولذلك كانت ملة إبراهيم(ع) حنيفاً - أي مخلصاً - وجهاً من وجوه الالتزام بالإسلام وبالله، لأنه كان المخلص الذي أسلم لله بالمطلق، ليكون خليل الله في تكريم الله له ولتضحياته وإخلاصه في ذات الله، وقد قال الإمام الرضا(ع): ((إنما اتخذ الله إبراهيم خليلاً لأنه لم يرّد أحداً ولم يسأل أحداً قط غير الله عز وجل. فكيف نتمثله، وكيف نتبعه لنكون الأولى به والأقرب إليه؟)). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة العاشرة11 ذي الحجة 1422ه - 23/شباط/2002م
مواجهة الأعداء (5)
تجربة موسى(ع)
* موسى(ع) ما لبث أن بدأ عملية الدعوة بأسلوب جديد، وهو تربية بني إسرائيل الذين عانى الكثير من تخلّفهم وتمردهم وانحرافهم، لينتقل من العداوة الخارجية إلى العداوة الداخلية *
عداوة الفراعنة مع اليهود.
النصر على المستضعف.
المسؤولية الثقيلة.
الإنذار والتبليغ.
هزيمة الاستكبار والاستعلاء.
التجربة المريرة.
مع تجربة النبي عيسى(ع).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
عداوة الفراعنة مع اليهود:
تقدَّم الكلام عن تجربة النبي إبراهيم(ع) في قومه، من خلال منهجه وكيفية معالجته لقضايا الشرك في ذلك المجتمع الوثني، واليوم نتابع الحديث مع نهج آخر من مناهج الأنبياء، ونستعرض أسلوباً آخر من أساليب تحدي الشرك، وهو أسلوب وتجربة النبي موسى(ع) الذي ولد في مجتمعٍ يعاني من العداوة القاسية، التي تتمثل في ذبح الأولاد، واستحياء النساء من قبل العدِّو المستكبر المستعلي، وهو فرعون الذي ادعى الربوبية لنفسه واستضعف قوم موسى واضطهدهم من موقع عقدة ذاتية، وهذا ما تحدث عنه القرآن فيما أوحى به إلى أم موسى )يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ(([374]).
وقد أدت هذه العداوة بين الفريقين إلى القتال في بعض الأحيان، وقد واجه موسى(ع) بعض هذه الحالات بقوله تعالى: )وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ(، عمل الشيطان الذي تمثل بإثارة الخلاف بين هذين الشخصين نتيجة اعتداء الفرعوني على الإسرائيلي الذي استنجد بموسى(ع)، فبادر موسى(ع) إلى الدفاع عنه لكونه شخصاً مستضعفاً بالإضافة إلى محاولة قتله من قبل ذلك الفرعوني، فكانت النتيجة أن سقط الفرعوني ميتاً تحت تأثير ضربات موسى(ع)، الذي سرعان ما شعر بهول النتائج الأمنية التي تترتب عليه أمام السلطات الحاكمة كقاتل، وإن كان في مقام الدفاع عن صاحبه المستضعف. ورأى موسى نفسه أمام تجربة صعبة لناحية الآثار السلبية المترتبة عليها، الأمر الذي جعله ظالماً لنفسه مما كان يشعر معه حيث كان الأولى به أن يحل المسألة بطريقة أخرى، فناجى ربه )قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(، لأن الله يعلم ما في سريرة موسى(ع)، وأنه لم يقصد قتل ذلك القبطي ولم يتعمده، بل كانت النتائج خاضعة لطبيعة الواقعة في ظروفها الخاصة. ولذلك أفاض الله عليه رضوانه.. وكانت ردّة فعله أن أعطى الله عهداً بالالتزام الحاسم بأن لا ينصر مجرماً مهما كانت درجة علاقته به )قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ(، وفي ذلك إيحاء لكلّ الناس الذين منحهم الله نعمة القوة أن لا يستخدموها إلا في مواقع الدفاع عن المظلومين..
النصر على المستضعف:
وكانت التجربة الثانية أمامه في المدينة )فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ(، بحيث أكثر من إثارة المشاكل بين الناس ومعهم، )فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا(، لينصره على المستضعف )قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ( والظاهر أن موسى(ع) امتنع عن إكمال المواجهة في استخدام قوته ضد هذا القبطي، وربما أصلح بينه وبين الإسرائيلي، وهذا مما لم يذكره القرآن )وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(([375])، فقال له كما في قوله تعالى: )قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(([376])، وتوجه تلقاء مدين والتقى بالنبي شعيب وتزوج بابنته..وانتهت هذه المرحلة المتحركة في واقع العداوة من حياة النبي موسى(ع)، حتى أصبح ملاحقاً من قبل السلطات المعادية، ولكنها لم تكن عداوة في ساحة الرسالة، بل في التعقيدات الواقعية في مجتمع المستكبرين والمستضعفين.
المسؤولية الثقيلة:
وكانت المرحلة الثانية هي مرحلة النبوة التي حملته مسؤولية كبيرة، وهي دعوة فرعون وقومه إلى الله ليعبدوه ويتركوا وثنيتهم، وكانت المهمة ثقيلة على موسى(ع)، لأن الحجم الذي يملكه فرعون في ميزان القوة قد يمنعه من الاستماع إليه )قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي(، لأني لا أزال ملاحقاً من قبلهم بسبب ذلك، ثم إني بحاجة إلى مساعد في هذه المسؤولية الثقيلة التي قد تحتاج إلى شخص أفصح مني لساناً:)وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي(، لأن كل الظروف المحيطة بالواقع الذي يتحركون فيه، تؤدي إلى تكذيبـي وإسقاط موقعي من خلال طبيعة الرسالة في مضمونها التوحيدي المضادّ لكل ما يلتزمونه من أفكار وأعمال. فكان الجواب الإلهي: )قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا(([377]). يحميكما من بطش فرعون وسطوته من خلال عناصر القوة المعنوية والمادية التي تحصلان عليها مني )فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ(. وصدر الأمر إليهما )اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(، لأن الرسالة في مضامينها تستهدف النفاذ إلى عقل الإنسان الذي تتوجه إليه، ما يفرض الكلام اللين الذي يدخل القلب ويستولي على المشاعر في احترامه الإنسان الآخر.. ولكنهما كانا في موقع الصدمة من خلال القوة الطاغية التي يملكها فرعون مقارنة بما يملكانه من قوة لا تمثل شيئاً )قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ( وليكن هذا هو المطلب الأول الذي يوحي إليه بأنكما تريدان إنقاذ المستضعفين الذين تنتمون إليهما من دون أية إثارة في القضايا الجسدية )وَلا تُعَذِّبْهُمْ( كما كنت تفعل معهم من خلال العقدة التي حملتها ضدَّهم )قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ(، وهي العصا واليد البيضاء )وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى(، فلك السلام إذا اتبعت هدى الله ، وإلاّ فإنك ستواجه العذاب الذي يستحقه من أعرض عن ذكر ربه وكذّب به )إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(.
وفوجئ فرعون بهذه الجرأة التي لم يسبق له أن واجه مثلها، وبهذا المنطق الجديد في الحديث عن ربّه الذي لم يسمع به، وبهذا العرض الذي يستهدف إضعاف سلطته بإرسال بني إسرائيل معهما وهم القوة العاملة عنده، ولكنه واجه الموقف بهدوء وحذر بعد أن رأى الآيتين (العصا) و(اليد البيضاء) اللتين اقتنع منهما أن هناك قوة خفية تختفي وراءهما )قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(، فهو الخالق للموجودات كلها، وقد أعطى كل مخلوق هداه من خلال ما ركَّب فيه من قوانين وما أودعه فيه من سنن )قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى( التي لم تهتدِ بهذا المنطق أو إلى أين ذهبت؟ )قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(. وربما كانت هذه المفاهيم واردة على نحو الجملة الاعتراضية القرآنية من خلال أسلوب القرآن في التدخل ببعض الأفكار الإيمانية في داخل الحوار، وربما كانت مما تحدث به موسى(ع) مع فرعون بطريقة خاصة، باعتبار أنه كان في موقف الدعوة التي تعمل على أن تفصل له مقام ربه في فيوضات نعمه وأسرار خلقه..
ولم يستجب لهما، فقد أخذته العزّة بالإثم في ذهنيته الاستعلائية وفي طغيانه وفي جبروته )وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى(، واعتبر موسى(ع) ساحراً يملك القوة السحرية التي تملك اقتلاعه من أرضه، أو هكذا أراد الإيحاء للناس ليبتعد بهم عن الاستجابة لدعوته )قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ(([378])، وبدأ ت العداوة الفرعونية التي تستجمع كلّ عناصر القوة ضد هذا الذي يعتبره الساحر القوي الذي ملأ قلبه خوفاً ورهبة ليخوض المعركة بكلّ أسلحته السحرية، وانطلق موسى(ع) ليجد أن الرسالة صنعت عدوّها، وأن الرسول الذي كان يواجه العداوة من موقعه الإنساني في حركة الاستكبار ضد الاستضعاف، إذا به يواجه من موقعه الرسالي في حركة القوى المضادة للرسالة وللرسول. وتحققت النبوءة القرآنية التي تحدث بها القرآن في قصة ولادة موسى )فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا(([379])، فها هو الطفل الذي احتضنه فرعون وربّاه كما خاطبه بذلك )قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(([380])، يتحوَّل إلى إنسان يتحدّى جبروته من خلال المفاهيم التوحيدية الجديدة التي لم يجرؤ أحد من قبله على أن يطلقها في ساحة ملك فرعون، وهكذا طلب موسى(ع) تحديد موعد المنازلة في موقع التحدي، وهذه نقطة ضعف فرعونية أخرى تُسجل لمصلحة موسى في احترام فرعون له )فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى(.
الإنذار والتبليغ:
وهنا وقف موسى منذراً وواعظاً للجموع المحتشدة في تلك الساحة الواسعة بأسلوب قويّ، لأن المسألة عنده هي البحث عن فرصة يبلِّغ فيها رسالته للناس الذين لم يستطع إيصال الدعوة إليهم قبل ذلك )قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى(، وربما اختار موسى(ع) هذه الطريقة التهديدية بعذاب الله للمفترين، لأن الناس في تلك المرحلة كانوا يسقطون أمام تهاويل الخوف وسطوة التهديد )فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى(، وربما شعروا بأن كلامه قد ترك أثره في الناس، فلم يطرح عليهم شيئاً يربك حياتهم أو يسيء إلى مصالحهم، ما يدفعهم إلى التفكير في كلامه، ولهذا اتفقوا على شعار يؤلّب الناس ضده، لأنه يهدّد وجودهم في أرضهم )قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا(، فلابدّ لكم من الدفاع عن استقراركم في هذه الأرض حتى لا تتيهوا في مواقع التيه، )وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى( ويغيِّرا نمط حياتكم الذي قام عليه مجتمعكم في عاداتكم وتقاليدكم ومقدساتكم، مما يربك كلّ الواقع الذي تعيشون به )فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا(، في وحدة شاملة لا يجد فيها موسى وأخوه(ع) أية ثغرة أو أية نقطة ضعف يستفيدان منها، )وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى( وحصل على الانتصار الكبير في مواقع العلوِّ في الأرض.
هزيمة الاستكبار والاستعلاء:
وكانت الجولة الأولى مع السحرة الذين سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وألقى موسى عصاه، فإذا هي تلقف ما يأفكون )فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(، وفوجئ فرعون بهذا الانهيار الكبير والهزيمة الشنيعة أمام الجماهير، فهؤلاء الذين أراد منهم أن يهزموا موسى(ع) بسحرهم قد سقطوا أمامه وأعلنوا إيمانهم بالله وكفروا بفرعون، وحاول أن يغطي فشله باتهامهم بالتنسيق مع موسى(ع)، فلم يستأذنوه في إعلانهم الإيمان، وهو وليّ نعمتهم، وأخذ يهددهم بإنزال العقاب بهم )قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى(. وكانت هذه الاندفاعة الفرعونية منطلقة من عقدة ضعف سببها الخلل الذي أصاب كبرياءه وسلطته، ما قد يفسح المجال أمام الآخرين من الناس أن يتمردوا عليه، تماماً كما هم الطغاة الذين يحرِّكون عداوتهم للمصلحين بأسلوب القوة المستعلية للمحافظة على هيبتهم..
وكان ردّ فعل السحرة الذين أراد لهم أن يسقطوا أمام تهديده ويتراجعوا عما أعلنوا في مستوى المناجاة الثانية )قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ(، التي أوضحت لنا الخط الفاصل بين الضلال الذي كنّا فيه من خلال الخضوع لك والاعتراف بربوبيتك، والهدى الذي يدعو إليه موسى(ع) من خلال الإيمان بالله الواحد، )فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ( فلا مشكلة عندنا في كل العذاب الذي تنزله بنا، فإننا في إيماننا الجديد لا تعني الدنيا شيئاً عندنا )إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا( لنقبل على الله فيجزينا الجزاء الأوفى.. وبدأوا مهمة الدعوة إلى الله ليكون إيمانهم في مستوى الدعوة إلى الرسالة، ليزداد تحديهم للضلال الفرعوني، وليثيروا أمام الناس النتائج الإيجابية للإيمان والنتائج السلبية للكفر )إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ( الذي كنت تسخرنا فيه لبسط سلطانك على الناس )وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (.
ٍواستمر موسى(ع) بعد هذا الانتصار الكبير في الصراع مع عدوّه، عدوّ الله بالضغوط المتنوعة، واستمر فرعون في طغيانه واضطهاده للمستضعفين وتخطيطه للقضاء على موسى(ع)، حتى إذا ما أوحى الله إلى موسى أن يسير بعباده ليقطع البحر لاحقهم فرعون )وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى(([381]) وغرقوا جميعاً.. وكانت نهاية فرعون )حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * أَلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ(([382])، وانتصر موسى(ع) الانتصار الأخير.
التجربة المريرة:
ولكن النبي موسى(ع) ما لبث أن بدأ عملية الدعوة بأسلوب جديد، وهو تربية بني إسرائيل الذين عانى الكثير من تخلفهم وتمردهم وانحرافهم، من خلال الرواسب الكامنة في داخلهم، لينتقل من العداوة الخارجية إلى العداوة الداخلية في الإرباكات التي واجهته في مسيرته الجديدة، وهكذا كانت مرحلة موسى الجديدة التي أنزل الله عليه فيها التوراة لتكون الشريعة التفصيلية للناس كافة، وبدأت الدعوة مرحلة منفتحة على الكثير من التفاصيل بعد أن كانت تتحرك بشيء من الإجمال.
مع تجربة النبي عيسى(ع):
أما عيسى(ع) الذي أرسله الله ليكون آيةً للناس ورحمةً منه ووجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين، ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل الذين قدم نفسه إليهم لتأكيد رسوليته وقربه من الله: )أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(، ولكنّ الأكثرية لم تستجب له، بل وقفت منه موقف العداوة، وعانى منهم ما عاناه من الاضطهاد الجسدي حتى حاولوا قتله وصلبه، وخيّل إليهم أنهم وصلوا إلى ما يريدون، ولكن الله رفعه إليه.. وقد أراد أن يقود التيار المؤمن معه ليقوم بمهمة الدعوة إلى الله في المجتمع الآخر، )فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(([383]). وهكذا كانت النتيجة للدعوة )فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ(([384]). وكان مما قاله عيسى بن مريم(ع): )يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(([385]). والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الحادية عشرة 18 ذي الحجة 1422ه - 3/آذار/2002م
مواجهة الأعداء (6)
تجربة الأنبياء:
(هود وصالح ولوط وشعيب)(ع)
* على الدعاة إلى الله الأخذ بأساليب الحكمة التي تضع الأشياء في مواضعها، وبالواقعية التي تجعلهم يدرسون العقلية المعاصرة ليعرفوا كيف ينفذون إليها *
مع النبي هود(ع).
النبي صالح(ع) يواجه ذهنية الجمود.
مع النبي لوط(ع) التجربة المريرة.
شعيب(ع) في مواجهة الأسلوب العدائي.
ردّ فعل قوم شعيب(ع).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
مع النبي هود(ع)
ونلتقي في مسيرة الأنبياء بالنبي هود(ع)، الذي أرسله الله إلى قومه (عاد)، الذين كانوا يملكون القوة المالية وينشئون الحركة العمرانية فيما يشيدون من الأبنية، إذ تحدث الله عن) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ(([386]) وكانت أراضيهم خصبة خضراء مملوءة بالينابيع )وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُون(([387]) وكانت دعوته التوحيدية في منتهى البساطة)قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (([388]). وأعلن إليهم بأنّه لا يطلب منهم أجراً )يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ(([389]) ودعاهم إلى الاستغفار من الله والتوبة إليه، ووعدهم برحمة الله التي تنزل عليهم المطر الذي هم بحاجة إليه، ويمنحهم القوة المتطوِّرة التي تزيد عن قوتهم المعهودة )وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ(([390]) وخوّفهم من عذاب يوم عظيم )إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (([391]).
فكيف واجهوا هذا الأسلوب الإنساني الذي يمتلئ بالرفق والمحبة والخوف عليهم من النتائج السيئة في المستقبل؟ أصرّوا على العناد، ورفضوا الحوار الهادف والهادئ، وبذلك حرموا فهم دعوته في مفاهيمها الرحبة التي تنقذهم من جمود الوثنية وتخلفها والانتقال إلى حركية التوحيد وتقدمه.
لقد تحدث القرآن عن ردّ فعلهم باللجوء إلى الأسلوب العنيف المغلق القائم على الكلمات السلبية المتحدية للكرامة )قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (، وكان جوابه بالأسلوب الهادئ العقلاني)قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(. إنها ليست مجرد كلمة طائرة أطلقها في مجتمعكم رداً على التهمة الظالمة التي وجهتموها إليّ، بل هي تأكيد للحقيقة التي تحدثت بها، ولذلك أحذركم من النتائج السلبية في المستقبل إذا لم تؤمنوا بالرسالة التي أحملها من ربَّ العالمين، وأقدم لكم نصيحتي بكل أمانة وإخلاص، وأدعوكم إلى التفكير في ذلك كله، لتميزوا جيداً بين السفيه والرشيد في تقويمكم للأشخاص.
وتابع كلامه في إثارة بعض التفاصيل )أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ( فلماذا العجب؟ هل المسألة تتحدى العقل، وهو لا يمنع ذلك، لأنّ الله قد يرسل بشراً برسالته، كما قد يرسل ملائكة، إنّ الخروج عن المألوف لا يبطل الحقيقة )وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(، فقد أعطاكم الله الامتداد في العمر والبسطة في الخلق، أفلا يدفعكم ذلك إلى تذكر نعم الله وآلائه مما يدفعكم إلى الفلاح. وعلى الرغم من ذلك لم يفكروا أو يدخلوا معه في حوار موضوعي، بل كانت كلمة التحدي والاستنكار هي رد فعلهم على كلامه )قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا( من هذه الأوثان التي تملك الأسرار المقدسة فنرتفع بها إلى مستوى الآلهة، ونحن مخلصون للامتداد التاريخي في مسيرة الأجيال، ليستمر الجيل اللاحق على ما جرى عليه الجيل السابق في العبادة وفي العادات والتقاليد، فلن نترك ذلك كله لمجرد دعوتك، وإذا كنت تهددنا بعذاب الله )فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ(.
وكانت خاتمة المطاف أنّه تحدث إليهم بمرارة )قال قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ( من خلال القذارة الفكرية في اعتقادكم بالأوثان وترككم عبادة الله خالق الوجود كله، وهل فكرتم بهذه الأوثان؟! فهي ليست شيئاً يبعث على الاحترام فضلاً عن العبادة. إنّها ليست في الواقع في معنى الألوهية، )أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان( من دون حجة، فإذا كنتم مصرين على عبادتها ورفض عبادة الله الواحد )فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ(([392]). فأنا لا أملك إنزال العذاب، بل الله هو الذي يقدره ويقضي به.
وفي موقف آخر أو في خطاب آخر )قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ( فكانوا يرفضون الحجّة التي قدمها لهم في الدليل على وحدانية الله الذي يملأ الكون كله، وأعلنوا إصرارهم ورفضهم الإيمان بدعوته.. وواجههم هود بالمنطق القويّ الذي يبادلهم الرفض بالرفض والبراءة من الوثنية والأوثان والتحدي أمام القوة التي يهددونه بها )قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ*مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(، فهو الذي يملك الأمر كله والمهيمن على كل الموجودات، فلا قوة لغيره فسيسقط كل كيدكم أمام توكلي على الله ربي وربكم )فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ(([393])، لأنّ مهمتي هي الإبلاغ والإنذار )وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ( على ما هي سنة الله في الخلق على ما جاء في آية أخرى )وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (([394])، )وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا( لأنّه الرب العظيم الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه.. )إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ( هذا هو الأسلوب النبوي الذي يتحرك بين اللين والشدّة من أجل أن يفتح قلوبهم على الحق في مقابل أسلوبهم القائم على أساس الإصرار على الكفر والتهديد بالعنف.
وفي منطق آخر )قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِين َ* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(([395]).
لقد عانى النبي هود(ع) الكثير من تحديات أعداء الرسالة في منطقهم المتخلف، وفي أسلوبهم العدواني، ولكنه لم يبتعد عن منطق الرسالة الإنساني وعن أسلوبها العقلاني.. وكانت النهاية هي سقوطهم وتدميرهم بعذاب الله )وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(، وتلك عاقبة أتباع الجبابرة العنيدين الذين لا يخضعون لعقل ولا يستريحون لحوار.
النبي صالح(ع) يواجه ذهنية الجمود:
ونلتقي أيضاً بالنبي صالح(ع) الذي أرسله الله إلى قومه (ثمود) ودعاهم إلى توحيد الله )قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ( وقدّم إليهم الحجة في نطاق المعجزة الخارقة للعادة، وهي الناقة التي تسقيهم جميعاً بلبنها، فهي آية من آيات الله، وطلب منهم أن يتركوها لتشرب يوماً ويشربوا هم يوماً آخر، ليتحوَّل شرابها إلى لبن يتغذون منه، وأن يدعوها تأكل من أرض الله ولا يمسّوها بسوء، لأنّ عقاب ذلك هو العذاب العظيم.. وتابع رسالته ليذكرهم بنعم الله عليهم، إذ جعلهم خُلفاء من بعد عاد، وهيّأ لهم كل وسائل الثروة، بما يجعلهم يبنون القصور في سهولها، ويشيدون البيوت في جبالها، ويزرعون الأرض من خلال ما اختزنته من ينابيع وما تمثله من خصوبة.
وكان يحدثهم عن الله الذي أنشأهم من الأرض وهيّأ لهم سُبل الحياة واستعمرهم فيها، ويدعوهم إلى أن يستغفروه من انحرافهم العقيدي والعملي ويتوبوا إليه ليتوب عليهم، لأنّه الرب القريب المجيب. كما كان(ع) يتحدث معهم بالمنطق والحجة ويذكِّرهم بالنعمة، لينطلقوا إلى الإيمان به من خلال الوعي الفكري والانفتاح الروحي.. ولكنّهم تحدثوا إليه بذهنية الجمود التي لا تنبض بالحقيقة، ولا تتحرك بالعقل، ولكنّها تتعقد بالكبرياء. ولذلك خاطبوه بمنطق عبروا فيه عن خيبة أملهم به، حيث كانوا يرجون منه أن يدعم الواقع الذي يعيشون فيه باعتباره فرداً منهم، وأن يؤكِّد خطّهم التقليدي التاريخي في التمسك بخط الآباء )قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(([396])، ولم يكونوا في مستوى الخطاب العقلائي الحواري، ولذلك كان ردّه عليهم في تأكيد دعوته إلى توحيد الله باعتباره البيّنة الواضحة التي قامت عنده وقدّمها إليهم. هذا بالإضافة إلى رحمة الله التي أفاضها عليه بإرساله لإبلاغ رسالته إلى الناس، وأعلن لهم أنّ المسألة إلى جانب ذلك تمثل الخطر الأخروي من خلال غضب الله عليهم مما يؤدي إلى الخسارة.. إنّه الخطاب الإنساني الذي يضع الأمور في مواضعها ويشير إلى مواقع الخوف من المستقبل في السير على خط الانحراف كأسلوب من أساليب تحذيرهم بإثارة الخوف في نفوسهم.
واندفعوا إلى المؤمنين برسالته لإثارة الشك في نفوسهم بالرسالة والرسول بطريقة إيحائية بالبعد عنه، مستغلِّين ضعفهم الاجتماعي، ولكنهم أصرّوا على موقفهم في الالتزام بالإيمان )قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (، ولم يحصلوا منهم على نتيجة في إخراجهم عن خطِّ الإيمان، وقد استعملوا معهم كل أساليب الحرب النفسية )قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(([397])، وفي نهاية المطاف عقروا الناقة تحدياً للنبي صالح(ع) الذي أراد لهم أن لا يمسوها بسوء ولا يطيعوا أمر المسرفين )الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ(([398]) مشيراً إليهم أن عليهم دراسة الأمور من خلال عناصر الحق فيها، من خلال نظرة موضوعية متوازنة، ورفض كل دعوات التمرد التي تنطلق من العقدة لا من الفكرة )فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(.
وانطلق النبي الإنسان في حزن عميق على هذا المصير السيئ الذي انتهوا إليه، لأنّهم لم يقبلوا نصيحته التي تأخذ بهم إلى سبيل النجاة )فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ(([399]). وهكذا يتمثل أسلوب الرسالة في مواجهة أعدائها بالمنطق والعقل والمحبة، بينما يتمثل أسلوب الأعداء بالانفعال والتخلف والبغضاء. )فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(([400]).
مع النبي لوط(ع) التجربة المريرة:
ونصل إلى النبي لوط(ع) الذي كان موقعه في منطقة محدودة امتدت إليها رسالة النبي إبراهيم(ع) الذي آمن به لوط فأرسل إلى قومه لمعالجة انحرافهم العقيدي عن الإيمان بالله وشذوذهم الجنسي المذكور في اتباع هذه العادة السلبية الخارجة عن الطبيعة في العلاقات الجنسية )وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(([401]) في تجاوزكم للحدود الإنسانية الطبيعية بعادتكم السيئة هذه، لأنّ الله لم يهيّئ تركيبة الذكر للجنس المنفعل، بل أعدّه للجنس الفاعل، وجعل الأنثى هي الإنسان الذي يتقبل العملية الجنسية من الذكر ليحوّلها إلى مخلوق حيّ من خلال سنَّة الله في عملية التناسل.
وكان الله قد أتاه حكماً وعلماً )وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا(([402]) وأرسله الله إلى هؤلاء، وبدأ دعوته العامة أولاً )إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ( وانطلق ثانياً في دعوته إلى ترك اللواط بتفصيل أكثر )إأتاتون الذكر أن من العالمين * وتذرون ما خلف لكم ربكم ما أزواجكم بل أنتم قومٌ عادون(. وردّوا عليه بأسلوب التهديد والدعوة إلى إخراجه من البلد )قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ( ورد عليهم بقوله: )قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ( ودعا ربه - بعد استنفاد كل الوسائل في هدايتهم - )رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ( واستجاب الله دعاءه )فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِين َ* وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(([403]). وقد كان ذلك بعد مجيء الملائكة الذين جاءوا لإنزال العذاب على هؤلاء، وبعد مرورهم على النبي إبراهيم(ع)، وقد عرَّفوه ظروف الأمر الإلهي، وجاءوا بصورة بشر حسان الوجوه، وحاول قوم لوط الاعتداء عليهم باللواط، وحاول لوط ردعهم، عندها أحسّ لوط بالضعف لقلة أنصاره )قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ( وأبلغه الملائكة صفتهم )قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ( لأنّها تضامنت معهم ضد زوجها الرسول )إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ(([404]) وهكذا انتهت هذه الرحلة النبوية التي انطلق فيها الأسلوب الرسالي في النصيحة الرسالية بالرغم من كل أساليبهم العدائية، بينما كان أسلوب هؤلاء أسلوب العداوة التي لا تنفتح على حوار ولا تسير إلى نقطة لقاء.
شعيب(ع) في مواجهة الأسلوب العدائي:
ونصل إلى شعيب (النبي) الذي أرسله الله إلى أهل مدين لإخراجهم من عبادة الأوثان التي ابتعدت بهم عن خطوط القيم الروحية الإنسانية، فأخذوا بأسلوب الانحراف في التعامل مع الآخرين، وكانوا يأخذون بأسباب القوة العدوانية ضد السائرين في سبيل الله والمؤمنين بالله الواحد ورسالاته. ونلاحظ الخطاب النبوي في خطابه ـ بالرغم من كل عداواتهم ـ والأسلوب الرسولي في مسيرته التي كان يعالج فيها الأمور بحكمة ويواجه التحديات بقوة لا تبتعد عن منطق العقل والاتزان، وتبقى المحبة تنبض في كل كلماته ومشاعره وأحاسيسه، ويظل عنوان مواقفه في خطابه إليهم هو عنوان النصيحة التي تنطلق من الفكر وتنساب في القلب وتتحرك في صعيد السلام الروحي في الواقع )وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ( بما أقامه من الحجة على التوحيد ضد الوثنية القائمة على الشرك الغبيّ المتخلِّف..
وعلى هذا الأساس لابد لكم أن تأخذوا بأسباب العدالة في تعاملكم مع الآخرين في نطاق القيمة القائلة: ((عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به))، )فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ( فتنقصوهم حقوقهم وتأخذوا حقكم منهم كاملاً أو بزيادة )وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا( بما أعدّه فيها من كل عناصر الصلاح وأراد للإنسان أن يحركها في طريق الإصلاح )ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(، لأنّ ذلك هو الذي يرفع مستوى الإنسان من خلال القيم الأخلاقية التي توجهه نحو الخير وتبعده عن الشر، وعلى أساس الإيمان بالله الذي يريد له أن يرتفع إلى مواقع القرب منه، حيث الروح الإلهي يفيض عليه برحمته ولطفه وغفرانه )وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا(، فهذا هو شأن المجرمين الذين يضطهدون الناس في حرياتهم العقيدية والعملية ويمنعونهم من تأصيل إنسانيتهم في إرادتهم الحرّة، ويحاولون إبعاد الحياة عن خطِّها المستقيم )وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ( بما وهبكم من البنين، وما منحكم من عناصر الكثرة في الجوانب المالية والسلطوية، وانظروا في حركة التاريخ القديم في دراسة تاريخ الأمم التي سبقتكم وكانت تمارس الفساد الأخلاقي والجنسي والاقتصادي والاجتماعي، فأذاقها الله عذاب ذلك كله )وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ( لئلا تلاقوا ما لاقوه من العذاب )وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا( ولا تتحركوا بأساليب العنف وإثارة الفتنة في الضغط على المؤمنين لفتنتهم عن دينهم بالقوة، لأنّ ذلك سوف لن يؤدي بكم إلى النتائج الإيجابية في تحقيق السلام الاجتماعي في المجتمع الذي تعيشون فيه، وواجهوا الأمور بتقبل هذا التنوع الفكري الذي ينطلق من خلال حرية الإرادة في الاختيار، وخذوا بأسباب الحوار الذي يقودكم إلى الوحدة على أساس الاقتناع، وإلى التفاهم على خط الفهم المتبادل، )حتى يحكم الله( فيسير بالأمور إلى الخير للجميع )وهو خير الحاكمين(.
ردّ فعل قوم شعيب(ع):
هذا هو بعض خطاب النبي شعيب(ع) الذي ينضح بالمحبة والسلام والمسؤولية والهدوء العقلي والنفسي، فماذا كان جوابهم؟
لقد تحدث القرآن عن عدّة أمور في ردِّ فعلهم:
1 ـ التهديد بالطرد من القرية إذا ستمر هو والمؤمنون معه على السير في الرسالة وعدم السير مع الناس الكافرين في كفرهم )قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ( وكان جوابه: هل هذا الطرح هو وسيلة ضغط للخضوع لما نكرهه من طريقتكم؟ )قال أولو كنّا كارهين(، وقالوا إننا نرفض ذلك، لأنّ المسألة ليست حالة ذاتية في الموقف، بل هي مسألة الحقيقة الإيمانية التي فرضت نفسها علينا في إيماننا بربنا ومراقبتنا له وصدقنا معه )قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا( لأنّها تمثل العودة من الحق إلى الباطل )إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا( ولن يشاء الله لنا ذلك، لأنّه هو الذي حبّب لنا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان )وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا( وعرف منا أنّنا لن نتنازل عن إيماننا به وبوحدانيته )عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ( فإننا لسنا طلاب حرب وفتنة، بل طلاب سلام وانفتاح، ولكن على أساس الحق، فإذا شئت أن تهيئ لنا وسائل الفتح، فإننا نرغب إليك في ذلك، وأنت الذي حملت الأمر كله بقدرتك وحكمتك يا ربَّ العالمين.
)وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ(([405]) قالوا ذلك في عملية ضغط نهائي على المؤمنين بالرسالة، في عملية للإيحاء بأن إصرارهم على اتباع شعيب يؤدي بهم إلى الخسارة المادية، بانفصالهم عن الكثرة الاجتماعية وتحوّلهم إلى أقليّة ضعيفة لا حول لها ولا قوة. ولكن المؤمنين يفهمون مسألة الربح والخسارة في ميزان القيمة الروحية في الارتباط بالله والحصول على رضوانه في الدنيا والآخرة، إيجاباً في الإيجاب، وسلباً في السلب.
2 ـ استخدام الأساليب العاطفية الابتزازية )قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ( إنّه خطاب يمتزج فيه الجدّ بالسخرية، فهم ينظرون إلى صلاته كما لو كانت عملاً لا يحمل الكثير من العناصر الحيوية، التي تؤدي إلى نتائج كبيرة، ولكنها كانت توحي بالكثير من التعاليم الرافضة للواقع الذي يعيشون فيه، ويتساءلون عن السر في إطلاق خطابه السلبي الموجّه إلى أوضاعهم العبادية والاقتصادية )إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ( فنحن نعرفك إنساناً يملك العقل الهادئ والأفق الرحب والرشد السلوكي، فكيف خضت في ذلك كله؟
وكان جوابه ينطلق من موقع الهدوء الحواري القائم على المنطق في جدّيته الفكرية )قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي( بما أقامه عليّ من الحجة على الإيمان بتوحيده )وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا( بما منحني من نعمه الرسولية )وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ( فإني ألتزم بترك ذلك كله، فالقضية عندي هي أن اقتناعي بالضرر الذي يترتب على ما تعبدونه وما تفعلونه هو الذي يجعلني أنهاكم عنه، فأطبق ذلك على نفسي قبل توجيهه إليكم بالخطاب، لأنّ الإنسان المؤمن يحبُّ للآخرين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها )إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ( فتلك هي رسالتي في تغيير الواقع الفاسد إلى واقع الإصلاح، )وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ(الذي يعينني على القيام بمسؤولياتي الثقيلة التي قررت تحمّلها والقيام بها )عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(، فهو الذي يكفي من كل شيء، ولا يكفي منه شيء ومن يتوكل عليه فهو حسبه )وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ(، فأنا أحذّركم بعذاب الله الذي أصاب هؤلاء عندما أخذوا بأسباب الكفر والضلال الذي تأخذون به وتمارسون الشقاق معي على أساس دعوتي إياكم إلى رفضه )وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ( من هذا الخط الكافر الضال )إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (، فهو الذي يغفر للمؤمنين ذنوبهم ويتقبل منهم توبتهم ويقبل منهم إيمانهم واستقامتهم.
3 ـ التهديد بالرجم، إذ )قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ(، لأننا غير مستعدين للتفكير في ما تعرضه علينا، لإصرارنا على البقاء في مواقعنا، فلن نسمع أيَّ كلام يخالفه أيّاً كان القائل، لأنّ القضية تتصل بقدسية عقائد الآباء وعاداتهم التي لن يتنازلوا عنها )وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا( في قوتك الذاتية )وَلَوْلا رَهْطُكَ(الذين نحترمهم ونقدر لهم موقعهم الاجتماعي بيننا، ورفضنا الدخول معهم في نزاع، لكنّا )رجمناك وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ( لنلاحظ وضعك ونحترم موقعك ونخاف من سطوتك. وكان جوابه حاسماً في خط الرسالة )قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ( الذي أتوكل عليه وأستوحي القوة منه، وهو القادر القاهر فوق عباده الذي يجب أن تراقبوه وتخافوا من سطوته )وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا( فجعلتموه في تصوراتكم المريضة المتخلفة وراء ظهوركم )إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( وهو الذي يملك الأمر كله )وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ( وقدرتكم وموقعكم ولن أسقط أمامكم )إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ( وهذا ما سوف تواجهونه في المستقبل عندما تصل الأمور إلى نهايتها الأخيرة.
)وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ(([406]). وهكذا كانت نهاية المطاف التي تؤكد لنا كيف يمارس الدعاة إلى الله والعاملون في سبيله أساليبهم التبليغية في مواجهة خطط الأعداء الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، وبالأخذ بأسباب الحكمة التي تضع الأشياء في مواضعها، والواقعية التي تجعلهم يدرسون العقلية المعاصرة لهم ليعرفوا كيف ينفذون إلى عقولهم استجابةً للحديث النبوي الشريف ((إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلَّم الناس على قدر عقولهم))([407]).
ويبقى لنا الحديث عن أسلوب النبي محمد(ص) في مواجهة أعداء الله، مما نرجو أن نتحدث عنه في العدد القادم. والحمد لله ربَّ العالمين.
المحاضرة الثانية عشرة 25 ذي الحجة 1422ه - 9/آذار/2002م
مواجهة الأعداء (7 _ أ)
تجربة النبي محمد(ص)
* مشكلة الأنبياء هي أنّ عداوة أعدائهم لم تنطلق من رواسب تاريخية كانت تجمد أفكارهم في ما توارثوه من الآباء، من عقائد وعادات وتقاليد *
مع النبي محمد(ص).
أصعب المهمات.
مرحلة التحدي الفكري.
المواجهة الشرسة.
القرآن أفضل كتاب للسيرة.
إساءات قريش للرسول(ص).
دين العقل.
منطق الرسالة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
كان حديثنا في الأسابيع الماضية حول العداوات التي قوبل بها الأنبياء(ع)، والتي حدثنا عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه :)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا(([408])، وفيما حدثنا عنهم في آية أخرى: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(([409])، وعلى هذا الأساس انطلقت النبوات، وانطلقت معها العداوات التي كانت تواجه الرسالة بالرفض، وكانت مشكلة الأنبياء فيما يواجههم من أساليب العداء، أن الأعداء لم يكونوا ينطلقون من قاعدة فكرية مضادة للقاعدة الفكرية التي ينطلق بها النبي، فهم لا يملكون علماً أو حجة، بل كانت عداوتهم تنطلق من رواسب تاريخية كانت تجمد أفكارهم في ما توارثوه من الآباء، من عقائد وعادات وتقاليد، فأخلصوا لها، وسقطوا أمام الجوانب العاطفية التي تربطهم بها، لأنه من الصعب على الإنسان أن ينفصل عن تاريخه، باعتبار أن الكثير من الشعوب المتخلّفة قد تستمرّ في تقديس رموز التاريخ من دون أن يكون هناك أي أساس لهذا التقديس. وهذا أمرٌ نعيشه الآن في الكثير من الشعوب المتخلِّفة التي أدمنت بعض العادات أو بعض التقاليد أو بعض الأفكار التي ربما كانت موضع الجدل في الأجيال التي سبقتهم، ولكنهم تركوا الجدل حولها وقلدوها. وهذا ما كانت تعاني منه النبوات، وقد تحدثنا في أحاديث سابقة عن معاناة النبي نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وشعيب، ولوط، وهود وصالح(ع)، وفي هذا اللقاء نحاول أن نطل على مرحلة نبوة النبي محمد(ص).
مع النبي محمد(ص):
ولعل نبوة النبي محمد(ص) في كل ما أحاط بها من تحديات، ومن خلال الأحداث التي عاشت في ساحاتها، والأفكار التي أثيرت حولها، والأساليب التي واجهتها، تمثل نبوة تتميز عن كل النبوات. فالفكرة واحدة )اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ(([410])، لأن التوحيد هو أساس النبوات، لكننا نلاحظ أن المجتمع الذي انطلقت فيه الدعوة الإسلامية، يختلف عن كل المجتمعات التي انطلقت فيها الدعوات الرسالية الأخرى، فنحن عندما ندرس في القرآن مجتمع نوح، ومجتمع إبراهيم، ومجتمع موسى وعيسى، فإننا نراها مجتمعات لا تملك حركية الفكر، وكما لا تملك حتى حركية التحدي، بل كانت التحديات تسير في خط واحد، بينما نجد المجتمع الذي انطلقت فيه الدعوة الإسلامية مجتمعاً متنوعاً. وهذا ما كان متوافراً في مجتمع مكة سواء في موقعه الديني الذي يحمل فيه الناس بقايا الأفكار الدينية والعبادات الدينية، إذ إن مكة هي بلد بيت الله الحرام، والذين يسيطرون على مقدرات مكة من قريش هم الذين يرجع نسبهم إلى إبراهيم(ع)، وهم يعيشون بعض أجواء الكلمات التي دعا إليها إبراهيم، وهم يمثلون سدنة البيت والقائمين على شؤونه. كما نلاحظ أيضاً أنهم كانوا يملكون بعض مفردات الثقافة التي عاشت في مراحل الأنبياء السابقين، فهم يتحدثون عن الآيات التي أنزلت على موسى وعيسى والأنبياء(ع)، ويطلبون من النبي أن يأتي بآية كما جاء بها الأوَّلون، وكانت لهم علاقات مع اليهود وكانوا يسمونهم أهل العلم الأول، كما أن مكة أيضاً كانت تمثل أيضاً العاصمة الثقافية لشبه الجزيرة العربية، حيث كان سوق عكاظ السوق الذي يأتي إليه الشعراء والخطباء ليقدموا نتاجهم الشعري والنثري ويلتقي الناس حول ذلك، بالإضافة إلى كونها عاصمة تجارية لا تقتصر تجارتها على البلد ذاته، بل كانت تمتد إلى المنطقة التي تحيط بها.
لذلك لم يكن المجتمع يومذاك مجتمعاً ساذجاً، بل كان المجتمع يعيش تعقيدات دينية وثقافية وتجارية وسياسية أيضاً، وإذا أردنا أن نطل على بعض الخطوط التي كانت تتحكم في تلك المنطقة بما تتسع له كلمة السياسة في تلك المرحلة، لرأينا فيها الكثير من التعقيد. لذلك لم يرسل النبي(ص) برسالته إلى مجتمعٍ ساذجٍ لا خبرة له ولا تجربة، بل أرسل إلى مجتمع معقَّد، ولم تكن مسألة الخالقية والربوبية في معناها الفكري العقيدي التجريدي بعيدة عنه، فقد كانوا يكتبون في كل وثائقهم (باسمك اللهم)، وكان حجهم للبيت حجاً لله، ولكنهم كانوا مشركين عبادياً، كانوا يعبدون ما اعتبروه آلهة بحسب مفهومهم الضبابي الغامض لكلمة الآلهة، وكانوا يقولون تبريراً لذلك :)مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى(([411])، أي أنهم كانوا يعبدونها لأنها كانت تمثل الآلهة الوسطاء، بما لها من القرب من الإله الواحد، فهي واسطة بينهم وبين الإله.
أصعب المهمات:
ولذلك فقد كانت مهمة الرسول(ص) من أصعب المهمات. وهناك ملاحظة يجب أن نضيفها إلى ما ذكرناه، وهي أن مجتمع قريش لم يكن مجتمعاً مضاداً بحسب طبيعته للفكر الديني، لذلك لم يحدث هناك أي تصادم بين القرشيين وبين النصارى، وقد كان هناك بعض النصارى في مجتمع الجزيرة العربية، حتى أن السيرة النبوية تتحدث عن ورقة بن نوفل وغيره، وكان القرشيون يلتقون بالنصارى عندما يذهبون في تجارتهم إلى الشام، فيلتقون بالرهبان وبغيرهم، ولم ينقل أنهم اصطدموا بالنصارى أو باليهود.
فقد كان العنوان الرئيسي الذي ينطلق فيه النصاري عنواناً توحيدياً، وإن كان يتحرك في خط التوحيد المعقَّد المنحرف عن التوحيد الحقيقي، وكان اليهود إلى جانبهم في يثرب والمناطق الأخرى، وكانت هناك علاقات فيما بينهم. إذاً لم تكن المسألة بالنسبة إلى قريش تنطلق من إخلاصهم لفكرتهم، بل كانت تنطلق من الخوف على الامتيازات، باعتبار أنها وضعت نظاماً معيناً ينفتح على الجانب الاقتصادي والجانب الديني والجانب الثقافي، وشعرت بأنها استطاعت أن تملك المنطقة من خلال الزعامة التي ترتكز على أكثر من قاعدة، لذلك فإن دعوة الرسول(ص) منذ انطلاقتها لم تكن محل معارضة، فقد كان النبي(ص) يدعو إلى الله، وكان يدخل في الإسلام الشخص والشخصان، لأن النبي لم تكن دعوته في البداية ـ حسب ما تقول السيرة ـ علنية في الجماهير، ولم تكن دعوة تحمل أسلوب التحديات المباشرة. حتى في دعوته إلى الله الواحد لم يقم بالهجوم المباشر على الأصنام، فقد كان يريد أن يربي العلاقة بالله ويعمقها، ثم بعد أن تتعمق العلاقة بالله ويعيش الناس التوحيد الخالص، فإنهم بذلك ينفتحون على التوحيد في العبادة والتوحيد في الطاعة والتوحيد في الحب لله.
مرحلة التحدي الفكري:
إلى أن انتقل النبي(ص) إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة التحدي الفكري والثقافي في تحديه لكل الآلهة المزيفة، عند ذلك بدأوا يتحسسون من هذه الدعوة، وربما بدأ زعماؤهم أو أذكياؤهم أو مثقفوهم - إن صح التعبير- يشعرون بأن النبي(ص) استطاع أن يجتذب الكثير من الناس إلى دعوته، وأن هذه الدعوة سوف تنتشر، وأنهم سوف يخسرون الكثير من زعامتهم، لذلك حاولوا احتواء الرسول(ص) أول الأمر، فجاءوا إلى عمه أبي طالب (رض)، وحاولوا أن يجتذبوا النبي(ص) بالإغراءات، لأنهم تصوروا أن النبي(ص) يطلب زعامة، لأنه كان فقيراً فهو يطلب المال، ولم يكن له موقع اجتماعي، لأن المواقع الاجتماعية كانت تنطلق من خلال الثروة وما إلى ذلك، وكان فوق ذلك يتيماً، فعرضوا تلك العروض التي ذكرتها السيرة، أنهم قالوا له: ماذا يريد ابن أخيك، إن كان يريد مالاً فهذه أموالنا بين يديه، وإن كان يريد زواجاً زوجناه من أفضل نسائنا، وإن كان يريد ملكاً سوَّدناه علينا، فهو على كل حال من قريش، وهو حفيد عبد المطلب، فمن الممكن أن نعطيه موقعاً... ولكنهم شعروا أن هذا الرجل ليس طالباًُ لكل ذلك، لأنه رفض ذلك كله، وقال لعمه: ((والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه))([412])، عندها شعروا أن هناك شخصاً يحمل رسالة ويحمل فكراً، وأنه يملك الصلابة التي لا يمكن أن تسقط أمام أيِّ إغراء أو أيِّ إرهاب.
المواجهة الشرسة:
لذلك بدأ التخطيط للمعركة، فكانت المعركة الأولى التي واجهها الرسول(ص) هي معركة الحصار في الشعب، فقاطعوه وكتبوا وثيقة أن يقاطعوا بني هاشم، إذا وقفوا إلى جانبه، ـ إلا أبا لهب- وكان ذلك إما بفعل الإيمان فآمن من آمن، أو بفعل العصبية العائلية. وشعرت قريش أن بني هاشم متضامنون مع النبي(ص)، فعقدوا العزم على أن لا يبايعوهم ولا يشاوروهم ولا يزِّوجوهم وإلخ.. ثم بعد ذلك وقد فشلت الخطة، عمدوا إلى المسلمين الذين دخلوا الإسلام فبدأوا باضطهادهم حتى استشهد ياسر وسمية، وكاد عمار أن يستشهد لولا أنه قال كلمة الكفر بعد التعذيب ونزلت فيه الآية )إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ(([413]). وواجه النبي(ص) هذه الحرب الميدانية بخطة واعية جداً، فقد كانوا يريدون منه أن يدخل في صدامٍ معهم في الوقت الذي لا يملك فيه القوة الكافية أو لأجل أن يخربوا دعوته، لأننا نعرف أن أية دعوة تنطلق في البدء للدخول في معركة من دون أن تفتح قلوب الناس وعقولهم عليها، فإنها تسقط في تفاصيل المعركة، وكذلك لم تكن المسألة مسألة الرسالة، بل مسألة صراع فلان مع فلان أو صراع هذه الجهة مع تلك الجهة، ولذلك لم يأذن الله للمسلمين في القتال وكان فيهم الأشداء في القتال. وكان الأمر بالهجرة، فانطلقت الهجرة الأولى والهجرة الثانية للحبشة.
القرآن أفضل كتاب للسيرة:
إننا عندما ندرس الأساليب التي انطلقت فيها قريش في مواجهة النبي(ص)، فإننا نجد أنها الأساليب التي تبحث فيها عن حجة أية حجة، وعن طرح أيّ طرح، وعن شعار أيّ شعار. ولم تكن المسألة، كما تذكر كتب السيرة، وكما نستوحي من القرآن الكريم - وهو أفضل كتاب للسيرة.- ومن المؤسف أن الناس اعتمدوا في التعرف على شخصية الرسول(ص) وعلى أحداث الإسلام، على كتب السيرة التي لا نجد الكثير منها موثقاً بحسب التوثيق العلمي، وتركوا استيحاء القرآن في السيرة، وهو الكتاب الأصل في تصوير الصورة الحقيقية لشخصية الرسول(ص)، ولأحداث الإسلام ولطبيعة المجتمع المسلم، من حيث طبيعة نقاط الضعف ونقاط القوة لدى المسلمين، فنجد أنهم كانوا يبحثون عن شيء، أيّ شيء، ولهذا حاولوا أن ينطلقوا ليعطوا النبي(ص) صفات تبعد ذاته وتبعد شخصه عن القداسة، لأنه كان ينطلق على أساس )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا(([414])، فهو شخص )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ(([415])، كان ينطلق من باب أنه رسول الله، وأنه يملك العلاقة بالله، بحيث يتلقى وحيه ويتلقى تعليماته ويأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه.
إساءات قريش للرسول(ص):
كانوا يفكرون في البداية، وقد رأوا أن هذه الدعوة بدأت تجتذب بعض الناس الذين يملكون الرواسب الدينية التاريخية كما ذكرنا، بشيء يسيء للرسول(ص)، لذلك حاولوا أن يبحثوا عن أيِّ صفة مسيئة يلصقونها به، بقطع النظر عن واقعية هذه الصفة في شخصية الرسول(ص) أو عدم واقعيتها، فقالوا إنه شاعر، وقال لهم بعض عقلائهم الذي يملك المعرفة بالشعر والله إني أعرف الشعر بكل أساليبه، ولكن القرآن ليس شعراً، لأن للشعر أساليبه المعينة، وهذا له أسلوب معين، وحاولوا أن يقولوا أيضاً إن القرآن كلام رسول الله، وقد قال لهم النبي(ص) في ما نزل من القرآن وهو يحدّث )وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ(([416]) وقال لهم: )فَقَد لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ(([417])، فقد عاش فيهم أربعين سنة، فلم يظهر على لسانه، ولو على سبيل الفلتة، ما يدلُّ على مشروعٍ من هذا القبيل )فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ( وبذلك كفوا عن أن يتكلموا عن أنه هو الذي أنشأ القرآن، لأنهم يعرفون ثقافته السابقة من خلال مفردات الثقافة الموجودة فيهم، فلم ينطلق النبي(ص) في هذه الأربعين سنة ليقف خطيباً، كما هو قس بن ساعدة الأيادي أو غيره، ولم ينطلق النبي(ص) في كل السنين التي تحركت فيها سوق عكاظ وغير عكاظ ليلقي قصيدة في الناس، إذ لم يصدر منه أيُّ عمل ثقافي، فكيف يمكن أن ينسب هذا القرآن الذي جاء قمة في البلاغة إليه، حتى أنهم كانوا يأتون، كما تقول كتب السيرة ـ ليستمعوا إليه من دون أن يعرف أحدهم بالآخر، وقال بعضهم إن فيه لحلاوة وإن عليه لطلاوة وما إلى ذلك.
لذلك سقطت هذه الفكرة، فجاءوا بفكرة ثانية، لأنهم أرادوا أن يسقطوا القرآن كوحيٍ من الله )وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ(([418])، أي أنه كان يجلس إلى شخص رومي يصنع الحديد، فقالوا فلان يعلمه، فردَّ القرآن عليهم )لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ(، فهذا لسان من يملك لساناً عربياً بليغاً، وهذا الرومي لا يحسن أن يتكلم العربية، فكيف يمكن أن يأتي بهذا المستوى من البلاغة.. وسقطت المحاولة، فحاولوا أن يعبثوا بالمضمون القرآني )وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا(([419])، ومن الطبيعي أن هذه التهمة لم تثبت، لأن القرآن يشتمل على الكثير من الفكر الذي ينفتح على العقيدة وعلى الشريعة وعلى كثير مما يمثل الثقافة التي لم يعرفها ذلك المجتمع بأجمعه، حتى أن القرآن كان يجمع الديانات كلها في المبادىء العامة للديانات، وكان يقول )وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ(([420])، لهذا سقطت هذه الفكرة.
وقالوا عنه بعد ذلك إنه كان ساحراً، وكان الناس يعرفون ألاعيب السحرة، ولكنهم حاولوا أن يسوِّقوا هذه المسألة على أساس أن كل من استمع إليه يجتذبه، ومن شأن السحر أن يجتذب الناس ويأخذ بألبابهم وعقولهم. ومن الطبيعي أن السحر كان يعتمد على الألاعيب، والنبي(ص) كان يعتمد على هذا القرآن الذي يجتذب الناس من خلال أسلوبه البلاغي المعجز، ومن خلال فكره ومضمونه، فسقطت هذه الدعوة. فقالوا إنه كاهن، والكاهن هو الذي يتحدث عن المستقبل ويرجع إليه الناس في المغيبات، وكان النبي لا يصدر عن ذلك، بل كان يتحدث عن الغيب في ما هي الملائكة وما هي الآخرة، بعيداً عما يمارسه الكهنة في التدخل في شؤون الناس ومستقبلهم وما إلى ذلك.
دين العقل:
ثم لجأوا إلى كلمة أخرى فقالوا إنه مجنون، ولم يصدق أحد ذلك، لأن النبي كان في مدى الأربعين سنة في مستوى العقل الذي جعل المجتمع من حوله يثق به، فقد روي أنه احتكم الناس إليه عندما اختلفوا في من يضع الحجر الأسود في موضعه بعد أن بنيت الكعبة. وكان هو الذي أعطاهم فكرة تخفف من كل عصبياتهم، لأن كل قبيلة تريد التفرد بهذا المجد بأنها هي التي وضعت الحجر الأسود في مكانه، فكانت المسألة أن النبي(ص) وضعه في قطعة قماش ثم طلب من كل هؤلاء أن يمسكوا هذه القطعة ويضعوه حتى يكون البيت لهم جميعاً.
فقد عرفوا منه العقل وعرفوا منه الصدق وعرفوا منه الأمانة، ولكن عندما تنطلق الجماهير من خلال الذين يسيطرون عليها في حمّى انفعالية، بحيث إنها تصادر العقل، عقل كل فرد في هذا الذي يسمى العقل الجمعي أو يسمى بالانفعال الجمعي وما إلى ذلك، وكانت الجماهير تفقد عقلها وتصدق أحياناً، وخصوصاً أنهم يرون عمه أبا لهب وهو يسير وراءه وهو يقول والنبي يدعو الناس ((لا تصدقوا ابن أخي فإنه مجنون))، ولم ينفعل النبي(ص) أمام هذه الدعوى، ولم يتحدث بسلبية، وإنما قال كما قال الله سبحانه وتعالى:)قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى(([421])، انفصلوا عن هذا الجو الاجتماعي المحموم الذي يفقد كل واحد منكم عقله معه، وحاولوا أن تفكروا، لأن الإنسان إذا جلس مع نفسه أو جلس مع شخص آخر وبدء التفكير بشكل هادئ، فلا بد أن يكتشف الحقيقة )قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا( وأنتم تدرسون سلوكي وكلماتي وتاريخي ودعوتي، وتدرسون هذا القرآن الذي أحدثكم به)مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ( ليس مجنوناً )إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ(.
منطق الرسالة:
فلذلك واجه النبيّ(ص) الجوَّ المعادي بعقل هادئ، وبشخصية واثقة بنفسها، وبروح تنفتح على المستقبل، وهي تعرف أن مسؤوليتها ليست أن ترد الشتيمة بشتيمة والتهمة بتهمة، لأن القصة ليست قضية ذاتية بل قضية رسالية. وعظمة الرساليين، أو مسؤولية الرساليين أنهم يقدمون للناس المنهج الذي ينتهجونه ليتخففوا من الأخطاء التي يعيشون فيها والتي قد تثير فيهم العصبيات، لذلك استطاع الرسول(ص) أن يسقط كل أساليبهم العدائية بكل بساطة ترتكز على أساس دراسة المجتمع في نقاط ضعفه وفي نقاط قوته، ومنطلقاً من روحية تعرف جيداً أن من الصعب للمجتمعات التي تحجّرت في كثير من عاداتها وعقائدها وتقاليدها أن تستجيب للرسالة الجديدة وللأفكار الجديدة بسرعة، ولهذا كان النبي(ص) فيما يروى عنه، يقول: ((اللهم أهدِ قومي، أو اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))([422]). أي لا تعذبهم يا رب، لأن هذه الحواجز النفسية والعقلية التي تحول بينهم وبين الوعي وبين الفكر تحتاج إلى وقت طويل ولذلك أُسقط في أيديهم، لأنهم لم يستطيعوا أن يسقطوا خطوط دعوته في تأثيرها على الناس، لجأوا إلى القوة )وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(([423])، وكان هناك اقتراح في أن يحبسوه أو يربطوه على بعير ويتركوه في البيداء، وكان هناك اقتراح في أن يقتلوه، لأنهم شعروا أنهم لا يستطيعون أن يواجهوه مواجهة الفكر للفكر، ومواجهة الطروحات للطروحات، وسقط اقتراح الحبس واقتراح الإخراج وثبت اقتراح القتل، فأمر الله رسوله بالهجرة، واستطاع أن يُفشِل خططهم.
ثم انطلقوا بعد ذلك ليربكوا دعوة النبي(ص) بإغراقها بالحروب التي كانت تنتقل من موقع إلى موقع ومن مرحلة إلى مرحلة، بحيث إنها أوجدت حالةً من التوتر في منطقة شبه الجزيرة العربية لم تكن تعرفها سابقاً، فقد كانت شبه الجزيرة تعرف قتال عشيرة مع عشيرة، ولكنها لم تعرف هذا النوع من الصدام الذي ينطلق فيه إنسان يدعو الناس إلى رسالته بصفة أنه رسول الله مع قومه.
وهناك أحاديث أخرى سوف نتابعها ـإن شاء الله ـ عندما نتوقف عند بعض الآيات القرآنية التي تحاول أن تضع أيدينا على بعض النقاط الحية لأسلوب الآخرين في مواجهتهم للنبي(ص) وأسلوب النبي(ص) في مواجهة العداوة. ولعل قيمة هذه الأبحاث التي أدعو إلى قراءتها بشكل متأنٍ، أنها تشير إلى المنهج القرآني في مواجهة صاحب الرسالة للعداوات التي تتحداها وتحيط بها، لأننا نستطيع أن نستفيد منها في ما يواجهنا من عداوات، على المستوى المحلي وعلى المستوى القومي وعلى المستوى العالمي، كما على المستوى الرسالي في ذلك كله.
أيها الأحبة، إن الرسالات انطلقت من خلال منهج يريد للإنسان أن يحرك عقله وأن يفتح قلبه وأن يخطط لطاقاته، المسألة كلها عندما نتطلع إلى الله الواحد ونؤمن به ونتطلع إلى النظام الكوني الذي وضعه الله )قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(([424])، وإلى النظام الذي جعله للإنسان في ما أعطاه من طاقات، عند ذلك يمكن لنا أن نعيش نظاماً في خط الرسالات يخفف عنا الكثير من المشاكل ومن التعقيدات. والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة الثالثة عشرة محرم 1422ه - 16/آذار/2002م
مواجهة الأعداء (7 _ ب)
تجربة النبي محمد(ص)
* لقد كان أسلوب النبي محمد(ص) يتجه نحو تحريك العقل لدى الناس أمام الحالة العدائية التي واجهته من خلال المشركين *
دور الرسول.
إثارة التفكير.
تثبيت الدعاة إلى الله.
المواجهة المستمرة.
عداوة اليهود.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لقد كان أسلوب النبي محمد(ص) يتجه نحو تحريك العقل لدى الناس أمام الحالة العدائية التي واجهته من خلال المشركين، لأن المجتمع العربي الذي أراد الله لهذه الرسالة أن تنطلق منه وتتجذر فيه وتمتد من خلاله إلى سائر أنحاء العالم، كان مجتمعاً بسيطاً في ثقافته، عاديَّاً في إمكاناته، لا عمق له في التفكير، فهو لا يملك أي قدرة علمية على مستوى الظاهرة العامة من خلال حاجته لهذه القدرة من أجل مواجهته بالمعجزة، التي كانت تتحدى بطبيعتها مظاهر القوة في المجتمع، كما هو الحال في تجربة النبي موسى(ع) في مواجهته للمجتمع الفرعوني الذي كان السحر فيه يمثل القوة البارزة التي تجتذب الجماهير في استغلال فرعون لها، من خلال أتباعه من السحرة، أو في تجربة النبي عيسى(ع) الذي كان يواجه ظاهرة القوة في علم الطب الذي يجمع الناس حوله، فكانت العصا واليد البيضاء تحدياً للسحر الذي فقد قوته في مواجهة موسى(ع)، وكان إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، بالإضافة إلى بعض الغيبيات، رداً للتحدي في مجتمع عيسى(ع) وإثباتاً لقوة النبوة.
ولكن قريش كانت تسمع أخبار النبوات السابقة، ما جعلها تتصور أن دور النبي(ص) أن يأتي بآية مماثلة لما جاء به الأنبياء، وأن يثبت نبوَّته بقدرته على تغيير العالم الطبيعي، أو على القيام بأعمال خارقة، تماماً كما لو كانت المعجزة مسألة مرتبطة بالاستعراض المثير، كما هو الرجل القويّ الاستعراضي الذي يريد إرهاب الآخرين من خلال استعراض قوته بأساليبها المتنوعة أمامهم ... ولاسيما أنهم يؤكدون ذلك بتصوراتهم الخاطئة، إذ النبوَّة لا تلتقي مع البشرية، بل إنها مهمة المخلوقات الخارقة في طبيعتها وقدرتها، كالملائكة، وهذا هو ما واجهه النبي(ص) من المشركين في مكة في تحدياتهم العدوانية التي أرادوا من خلالها استثارة الجماهير لإظهار عجز النبي(ص) أمامها، فيسقط دوره في قضية النبوة كنتيجة طبيعية لذلك كما كانوا يتصورون.
وتتمثل هذه الحالة في الطروحات والاقتراحات التعجيزية التي استخدمها المجتمع القرشي مع الرسول(ص) كما في قوله تعالى: )وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَأه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً( ونلاحظ أن هذه المجموعة من الاقتراحات ليست متناسقة في طبيعتها وعناصرها الذاتية، لأن المطلوب هو أن يطرحوا شيئاً أيَّ شيء خارج القدرة العادية لإظهار عجزه أمام الناس لإسقاط دعواه في النبوة.
دور الرسول:
ولكن النبي(ص) - بتوجيه من الله - أراد أن يضع أمامهم الحقيقة الرسالية، وهي أن النبي لم يرسل ليغير العالم تكوينياً، أو ليأتي بأعمال خارقة من غير ضرورة، بل جاء ليبلّغ الناس رسالة ربّه ليسمعوها ويفكّروا فيها ويؤمنوا به من خلال تأملاتهم الفكرية، أو من خلال حوارهم مع النبي، وهذا ما أجابهم به: )قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا(، فإن النبوةَّ لم تخرجني عن حدود بشريتي في القدرات الذاتية الطبيعية التي لا تملك قدرة الردّ على كل ما طرحتموه، كما أن دور الرسولية ليس هو هذا الدور، بل القيام بتبليغ الرسالة من الله وتذكيرهم بمسؤولياتهم أمام المصير الذي ينتظرهم في الدنيا والآخرة ...
ثم يدخل القرآن في الحديث عن النظرة الخاطئة في أبعادها التاريخية التي كانت تتصور المنافاة بين البشرية والرسولية، لأن للرسولية معناها في سرّ الغيب، فلا بدّ من أن يكون الرسول شخصية غيبية: )وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا(، ولكنهم لم يدركوا أن الرسول لابد أن يكون مماثلاً في قدراته وفي طبيعته للذين أرسل إليهم، لأن ذلك هو الذي يجعل مسألة التفاعل معه مسألة طبيعية، ويرتفع به إلى مستوى القدوة في سيرته، باعتبار أن التزامه بالقيم الرسالية لم يكن بعيداً عن درجة القدرة المتناسبة مع قدراتهم، ما يجعلهم قادرين على أن يقتدوه ويفعلوا فعله ويلتزموا خطه.
فلابدّ أن يكون الرسول من البشر، وإذا كان هناك ملائكة فلا بد أن يكون الرسول ملكاً مماثلاً لهم، )قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا( وهكذا رأينا أن ردَّ فعل النبي ـ وحسب الأسلوب القرآني – هو توجيه الخطاب إلى عقولهم ليفكروا في المسألة تفكيراً موضوعياً، فإذا كان الغيب بيد الله، وكانت الرسالة صادرة عن الله – وهو ما يؤمنون به حسب فرضية الطرح التعجيزي – فإن الله بحكمته قادر على أن يرسل بشراً للبشر أو ملكاً للملائكة، لأن المسألة كلها هي كيف يبلّغ الله وحيه لعباده، وهي من الأمور التي لا يملك أحدٌ غير الله أيّ خيار فيها، ولذلك أراد الله للنبي(ص) أن يؤكد لهم الثقة برسوليته من خلال التأكيد بشهادة الله له التي سوف تفرض نفسها عليهم إن عاجلاً أو أجلاً )قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(([425]).
وقد أكد القرآن في أكثر من آية أن هؤلاء لا يطلبون الآيات الإعجازية ليؤمنوا به، بل لاطلاق التحدي في وجه رسالته، لأنهم أصروا منذ البداية على الكفر، وذلك قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(([426]).
وقوله تعالى: )وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(([427])، وقوله تعالى: )وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(([428]).
وكانوا يكررون عليه طلب الآيات: )وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(([429])، وهكذا يعالج القرآن المسألة بالتأكيد على أن الآية لا دور لها في حاجات الرسالة، لأن دورها يتصل بانفتاح العقل على مسائل الهداية وأساليب الإنذار، لأن قضية ردِّ التحدي بالآية لا تخضع للاقتراح، بل تخضع لتحديات الواقع الاجتماعي في إزالة الحواجز الواقعية عن طريق الرسالة، وقد أثار القرآن أمام الناس أن هؤلاء المقترحين لا يؤمنون بالآية إذا جاءتهم من قبل الله )وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ(([430]).
وكانوا يحاولون فتنته عن وحي الله ليفتري على الله كلاماً آخر، ليقربوه إليهم، ظناً منهم أنه يخضع لأساليب الإغراء والفتنة الصادرة عنهم، ولكن الله يثبّت رسوله بالعصمة الفكرية والروحية والعملية واللطف الإلهي، فيتمرد - طبيعياً - على كل وسائل الإغراء الموجّهة إليه بالدرجة التي لو وجهت إلى غيره لركن إليها واستسلم لما يريدونه منه. وقد تحدث القرآن عن ذلك بقوله تعالى: )وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(([431]).
وكان النبي(ص) يصارحهم بأنه الأمين على وحي الله، ولديه إصرارٍ شديد على أن يتلوه عليهم كما أنزله الله، ليعرفوا أن القرآن لم يصدر عن ذاتياته الثقافية )وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(([432])، وأن الله يريد له الإيحاء لهم بثباته على الرسالة من خلال ائتمانه على الرسالة، وبأنه لا يملك لنفسه حق التصرّف بهذه الرسالة إلا من خلال قوله تعالى وأمره، بحيث لو انحرف عنه لعذبه الله.
وعندما يئسوا من استسلامه إليهم في الاستجابة لطروحاتهم، ورأوا أن الناس بدأوا ينجذبون إليه من خلال القرآن الذي أقبلوا يستمعون إليه، حاولوا أن يمنعوا الناس من الاستماع إلى القرآن )وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(([433]).
إثارة التفكير:
وهكذا كان الأسلوب النبوي يتحرك لإبعاد كل التهاويل والضغوط النفسية التي تدفعهم إلى الإيمان بفعل الصدمة الضاغطة من الخارج من دون تفكير، لأن رسالته هي أن يفكروا بالإيمان ويقتنعوا به من خلال استيعاب كل مفرداته ووسائله. ولهذا برز إليهم كرسول لا يحمل أية قدرات ذاتية خارج بشريته، ولا يقدم لهم أية أمور خارقة للعادة في الصورة المادية على الصعيد الكوني، بل يحمل إليهم وحي الله، رسالةً تثير الفكر وتفتح القلب وتلتقي بإنسانية الإنسان وترتفع به إلى آفاق الله، وتدفعه إلى المنهج العقلي في متابعة آيات الله في النفس وفي الكون كله، ليرى الله في وحدانيته متمثلاً في كل آية من آياته الكونية والإنسانية، ولا يرى غيره في مواقع قدرته، فهو الخالق ولا خالق غيره، وهو المهيمن على الأمر كله والمدبِّر للحياة كلها في كل مواقع الوجود )قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ(([434]).
وكما في قوله تعالى )قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ(([435]).
وقوله تعالى: )قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(([436]).
وقد آمن المؤمنون به لأنهم فتحوا عقولهم على مضمون الرسالة واقتنعوا بها، وعرفوا صدق الرسول وآمنوا به، وهذه هي عظمة الإسلام الذي هو دين الحياة في امتداداتها المستقبلية، وفي احترامه لعقل الإنسان والدعوة إلى تحريكه وتنميته وتطويره بالتأمل تارة، وبالتجربة أخرى، وبالحوار ثالثة، ليكون الإيمان ذاتياً للمؤمن مما يستوحيه ويتعلمه ويفكر به، وهذا هو أسلوب النبي محمد(ص) والأنبياء من قبله في مواجهتهم لأعداء الرسالة، فإنهم يصبرون عليهم ليتخلصوا من رواسب الجمود الذي جمَّد عقولهم، ولتندفع ينابيع الفطرة إلى أعماقهم، لتمنحهم خصب الإيمان ونموَّ الوعي وحركية الحقيقة، لأنهم يعرفون أن العداوة ليست موجهة إليهم بالذات ليتعقَّدوا منها، بل هي موجهة إلى الرسالة لعجزهم عن استيعاب مفاهيمها في البداية، فكانت الخطة أن يمنحوهم الفرصة للتعرف عليها والانفتاح على آفاقها الرحبة، وهذا هو الذي خاطب الله به رسوله الذي كان يعيش الحزن الشعوري لتكذيبهم له، وهو قوله تعالى: )قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ(([437]). ففي هذه الآية، يخاطب الله نبيه، وقد أراد له من خلال هذا الخطاب أن يوحي إلى أمته والدعاة فيها، أن يصبروا في خط الرسالة والدعوة، وأن لا تكون طروحات الأعداء التعجيزية لهم مدعاةً إلى ترك ما بدأوه وأن يصبروا ويثبتوا على الخط الرسالي، وذلك هو قوله تعالى: )وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ(([438]).
تثبيت الدعاة إلى الله:
وكان الله يثبِّت رسوله - كما يثبِّت الدعاة من خلاله - لئلا يهتز أمام الحالات الشعورية الحاصلة من جحود الكافرين وتمردهم، لأن النبي(ص) كان رقيق القلب، مرهف الإحساس، فيحزن عليهم، ويتألم لهم، فيوحي الله إليه ويدعوه أن يتماسك في مشاعره ولا يحزن وذلك هو قوله تعالى : )فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(([439])، وقوله تعالى: )لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(([440]).
ويتأكد هذا التثبيت للنبي محمد(ص) في تعليل نزول القرآن على دفعات نجوماً، وذلك قوله تعالى )وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا(([441]).
وينفتح هذا التثبيت من خلال النماذج التي يقدمها القرآن عن أنباء الرسل في مسيرتهم الصعبة الغارقة في التحديات الكبرى )وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(([442]). ويمتد هذا التثبيت الروحي الذي يراد له أن يتحوَّل إلى ثبات حركي للمؤمنين، وذلك قوله تعالى: )يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ(([443])، لأن المطلوب من النبي(ص) ومن المؤمنين في حركة الدعوة في حياة الناس هو أن لا يهتزوا أمام تحديات أعداء الرسالة، مهما عظمت أساليبهم الضاغطة نفسياً وعملياً، لأن خطة الأعداء هي أن يدفعوا الرساليين إلى السقوط النفسي بأسلوب الهزؤ تارة كما في قوله تعالى: )وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ(([444])، أو بالأساليب التعسفية تارة أخرى. وهذا ما ينبغي للدعاة إلى الله أن يتمثَّلوه في مسيرتهم الطويلة في خطتهم التغييرية التي تستهدف تغيير التفكير كمقدمة لتغيير الواقع الإنساني، فلا تشغلهم الوسائل الضاغطة عن الهدف الكبير الذي يسعون إليه، بالانشغال بالقضايا الجزئية والصراعات الصغيرة، ولذلك كان النداء الحاسم في مواجهة التحديات بأكثر من عنوان وأسلوب: )فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(([445])، )وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(([446])، )فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ(([447]).
وهكذا كانت حركة الدعوة في مرحلتها الأولى صموداً وثباتاً، ووعياً للواقع وانفتاحاً على الناس، بالرغم من كل حالات الانغلاق التي تحيط بهم وتتمثل فيهم، حتى ظهر أمر الله وهم كافرون.
المواجهة المستمرة:
وكانت ساحة الصراع الأخرى للنبي محمد(ص) هي صراع الرسالة الإسلامية مع أهل الكتاب، ولاسيما اليهود الذين احتضنهم الإسلام في بداية الهجرة في المجتمع الإسلامي وأدخلهم في معاهدة "مجتمع المدينة"، باعتبارهم من المواطنين فيها، وجعل لهم من الحق ما جعله - حسب المعاهدة - للمواطنين المسلمين من مهاجرين وأنصار من الحقوق والواجبات، ولكنهم ـ كعادتهم التاريخية ـ خططوا للفتنة في داخل هذا المجتمع، من خلال استعادة الأحقاد التاريخية بين الأنصار بإثارة تاريخ الحروب الماضية بين الأوس والخزرج، وكادت الفتنة أن تقع لولا مبادرة النبي(ص) في التدخل الشخصي لإطفاء النار التي كانت قريبة من الاشتعال، ما جعل الوحي يتدخل في توجيه المسلمين إلى الخطِّ الإسلامي الوحدوي الذي يلغي كل أحقاد الماضي وعداواته بفعل الأخوَّة الإيمانية المرتبطة بحبل الله الذي لابد للجميع أن يعتصموا به، وذلك هو قوله تعالى:)وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(([448])، وتابع الوحي الإلهي تحذير المسلمين من خططهم التآمرية الخفية ضدهم، مستغلين الانفتاح الروحي للمسلمين عليهم بفعل القيمة الأخلاقية التي تنفتح على الإنسان الآخر حتى لو اختلف معهم في الدين، إذا كانت هناك قاعدة مشتركة بينهم، وذلك قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الْأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(([449]).
عداوة اليهود:
وقد أكد الإسلام هذه العداوة التي يحملها اليهود ضد المسلمين تماماً كما هم المشركون في مستوى العداوة، وذلك قوله تعالى: )لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا(([450])، وجاء في آية أخرى: )لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(([451])، وقد كان اليهود يتحدثون مع المشركين عن النبيّ محمد(ص) قبل أن يبعثه الله رسولاً، ويقولون لهم إنهم سوف يحصلون على القوة من خلاله، فيكون لهم النصرة عليهم به، وذلك قوله تعالى)وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ(([452]). وهكذا جحدوا رسالة النبي محمد(ص) الذي بشّر به النبي موسى(ع) حسداً وبغياً لأنهم كانوا يفكّرون أن يكونوا - وحدهم- الذين يحملون رسالة الله )بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(([453]).
وقد بلغت عقدة اليهود من الإسلام والمسلمين، أنهم كانوا يقولون للمشركين بأنكم أهدى منهم سبيلاً، مع أن المشركين من عبدة الأوثان، وأما المسلمون فإنهم موحّدون لله مصدّقون بالتوراة، وذلك هو قوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا(([454]).
وقد كانوا يثيرون التحديات التعجيزية أمام النبي(ص) لإظهار عجزه كوسيلة من وسائل إبعاد الناس عنه من جهة كونه رسولاً من الله، بحجّة أن الرسول لابد أن يأتي بأمور خارقة إعجازية في كل ما يطلب منه: )يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا(([455]).
وقد حذّر الله المؤمنين منهم، وأخبرهم بأنهم قرّروا عدم الإيمان بالنبي وبالإسلام مهما كانت الظروف ومهما قدم النبي من البراهين والحجج، وذلك قوله تعالى: )وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ(([456])، وليست المسألة عندهم مسألة غموض في معرفة النبي محمد(ص) أو الإسلام ليكون لهم عذر في ذلك، بل هي عقدة متأصَّلة في أنفسهم تدفعهم إلى الكفر به والرفض للرسالة بغياً وعدواناً وانغلاقاً على ذاتياتهم )الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(([457])، وكانوا في أسلوبهم النفاقي، مع المؤمنين يحرِّفون كلام الله عن مواضعه، عندما كان النبي يطلب منهم أن يأتوا بالتوارة التي تؤكد الحجّة الدينية للإسلام )أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(([458])، وقد يعلنون الإيمان من دون جدية عقائدية لينفذوا إلى داخل المجتمع الإسلامي، وربما كان بعضهم يتحدث للمسلمين ببعض الأمور التي تمثّل الحجّة للإسلام، فينكرون عليه ذلك )وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون(([459])، وكانت بعض أساليبهم التي يريدون لها أن تثير الشك في نفوس المسلمين، أنهم دفعوا بعضهم إلى إعلان إسلامه في الصباح ليعود عنه في آخر النهار، ليتساءل ضعفاء المسلمين عن سبب ذلك ويتخذوه أساساً للشك في الإسلام )وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(([460]).
وهكذا كانت أساليبهم الملتوية تتحرك في اتجاه إبعاد المسلمين عن دينهم وإثارة المشاكل فيما بينهم مستغلين في ذلك حالة السلم الاجتماعي الذي يتمتعون به في المجتمع الإسلامي، وتطورت الأمور لديهم أن نفذوا إلى داخل هذا المجتمع، ليستجمعوا ظاهرة النفاق، وليحرّكوا المنافقين ضد المؤمنين لينسفوا الوحدة الإسلامية من الداخل.. ثم امتدت ألاعيبهم إلى التحالف مع المشركين في الحرب ضد الإسلام والمسلمين، الذي انتهى بالهجوم عليهم من قبل المسلمين ليخرجوهم من ديارهم حتى يستريح المجتمع منهم.. وتبقى هناك نقطة حيوية، وهي أنّ إعلان القرآن العداوة لهم لم يكن بسبب يهوديتهم، حيث أبقاهم عليها عندما أدخلهم في المعاهدة، ولكن كان ذلك بسبب سلوكهم العدواني ضد الإسلام والمسلمين. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الرابعة عشرة 9 محرم 1422ه - 23 / آذار /2002م
مواجهة الأعداء (7-ج)
تجربة النبي محمد(ص)
* إنّ النبي محمد(ص) واجه في كل حركته الرسالية التحديات الكبرى في حركة الصراع مع الكفر الإلحادي والإشراكي والديني، في جدال مرير وفي حرب عدوانية شرسة، ومع المنافقين الذين كانوا يعبثون في المجتمع الإسلامي من الداخل *
حركة النفاق.
النفاق المزدوج.
الحوار الثقافي.
الحوار مع الملحدين.
عدوانية متنوعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
وما زال الحديث مع أهل الكتاب ـ تتمة لما مضى من الحديث عن المنهج النبوي ـ في مواقفهم العدوانية ضد الرسول والرسالة... ونقف مع النصارى، حيث تحدث القرآن عن انحرافهم العقيدي من خلال اعتقادهم بألوهية السيد المسيح(ع) أو ذهابهم إلى التثليث أو أنه ابن الله، وعن قولهم بأنه لن يدخل الجنة غيرهم، وأن الانتماء إليهم هو خط الهدى وأنهم أبناء الله وأحباؤه، كما خاطبهم النبي(ص) بأنهم كاليهود، لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(البقرة/120)، وأنهم اتخذوا أحبارهم من دون الله والمسيح بن مريم، وأنهم خالفوا الميثاق الذي أخذه الله عليهم نفسوا حظاً مما ذكروا به، وقد كان الأسلوب القرآني عنيفاً في مناقشة أفكارهم، كما هو المنهج العلمي في العنف الفكري ضد الأفكار الأخرى، مقارناً بالأسلوب الإنساني المبني على الرفق واللين في العلاقات الإنسانية. وقد تحدث القرآن بإيجابية عن النصارى من خلال سلوكهم الأخلاقي، وذلك هو قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الصَّالِحِينَ}(المائدة/83-84).
ويذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في النجاشي وأصحابه الذين استقبلوا المسلمين المهاجرين إلى الحبشة فراراً بدينهم، بكل رحابة ولما استمعوا إلى الآيات القرآنية تفاعلوا معها وانفتحوا على مضمونها الروحي والفكري، وقد أكدت الآيات على الجانب الأخلاقي في شخصيتهم من خلال تواضعهم، ومن خلال القيم الروحية التي يحملها القسيسون والبرهان الذين يعيشون في آفاق الروحانية المنفتحة على الله، الأمر الذي يجعلهم في موقع الانسجام مع الوحي الإلهي الذي يفيض بالحق على عقول الناس وقلوبهم، فيدفعهم ذلك إلى الإيمان من دون تعصب.
ولم يتحدث القرآن الكريم ـ في مدى المرحلة النبوية الشريفة ـ عن أي سلوك عدواني أو أية مشكلة حادة من قبل النصارى ضد الإسلام والمسلمين في الواقع الميداني، وقد أشار القرآن إلى حادثة الحوار الاحتجاجي بين النبي محمد(ص) والنصارى الذين قدموا عليه من (نجران) حول شخصية عيسى بن مريم(ع) من خلال الاختلاف الفكري والعقيدي بين النصارى والمسلمين، الأمر الذي أدى إلى طلب المباهلة الذي هو الأسلوب الروحي في طريقة إغلاق الحوار، إذا لم يؤدّ الجدال إلى نتيجة من خلال المرتكزات الفكرية {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ}(آل عمران/59-61). وقد استقبل رسول الله(ص) الوفد ورحّب بهم، وأكرم وفادتهم، وحين حانت صلاتهم ضربوا بالناقوس وصلوا في مسجد رسول الله(ص) إلى لمشرق، وأراد الصحابة منعهم، ولكن النبي(ص) قال: دعوهم: وقيل: إن بعضهم أسلم بعد ذلك.
حركة النفاق:
وهناك فريق آخر واجه الرسالة بطريقة نفاقية، فقد أعلنوا الإسلام وأبطنوا الكفر، وأربكوا الواقع الإسلامي بوسائلهم الملتوية، وتحالفوا مع المشركين واليهود، وأثاروا الإشاعات الكاذبة في المجتمع المسلم من أجل إيجاد حالة اهتزاز نفسي وقلق أمني، وكادوا للرسول(ص) وتجرّأوا عليه بمختلف الوسائل والأساليب. وقد تحدث القرآن عنهم بأكثر منه سورة، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}(البقرة/8-14). وكانوا يواجهون المؤمنين الطيبين بالاستعلاء، باعتبارهم يملكون الثقافة التي ترتفع بإيمانهم عن إيمان الناس {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}(البقرة/15). فهم يسخرون من المؤمنين في إظهارهم الإسلام، وقبولهم لهم، ما يدل على السذاجة التي يتمتع بها المسلمون، فلا يدققون في خلفيات الأشخاص ليكتشفوا حقيقة المؤمن من غير المؤمن في عمق الانتماء. وهكذا يستخدمون أسلوب السخرية في مواجهتهم للإسلام وأهله، ولكنها ليست سخرية ظاهرة، بل هي سخرية باطنة في داخل مجتمعهم الذي يتحرك من موقع خطة خفية يتوزع فيها هؤلاء الأدوار في دخولهم إلى المجتمع الإسلامي، ليملكوا حرية العبث فيه، وتمزيق وحدته وإرباك خططه. ولكن الله يردُّ عليهم بأنهم مكشوفون أمامه وأمام المسلمين، بما يكشف الله لهم من أمرهم، وذلك هو قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(البقرة/9)، وقوله أيضاً: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}(البقرة/15).
ويصوّر لنا القرآن بعض أوضاعهم من خلال بعض النماذج في ممارساتهم الحركية في داخل المجتمع، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}(النساء60-63)، فهؤلاء يعلنون الإيمان، ولكنهم يتصرفون بعيداً عن منهجه وشريعته، لأنهم في أوضاعهم الحقيقية الخاصّة، يرجعون إلى القاعدة الفكرية التي ينتمون إليها، وهي الكفر الذي يلتزم الطاغوت ويرفض حكم الله، وربما كانوا يبررون ذلك بانتقادهم للأسس التي يرتكز عليها حكم الشريعة، ليربكوا الإيمان العملي والثقة بالإسلام حكماً وشريعةً في نفوس المسلمين.
ويحدثنا الله عن بعض منطقهم المتأرجح في مضمونه {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(النساء/141).
ويمتد الحديث إلى الاهتزاز في حركتهم التي توحي بما تختلج به نفوسهم من عدم الجديَّة في إيمانهم الظاهري {إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}(النساء/142-143)، وكانوا يقدِّمون الأعذار عن تخلفهم عن الرسول في معاركه، كما حدث معه في غزة تبوك مما تحدثت عنه سورة التوبة.. حيث كانوا يقومون بإثارة روح الهزيمة في ساحة الحرب بين المسلمين والمشركين، وكما حدثنا الله عن ذلك في معركة (الأحزاب) {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا}(الأحزاب/12-15).
وتتابع السورة الحديث عن بعض أوضاعهم التخذيلية {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ البَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا}(الأحزاب/18-19).
النفاق المزدوج:
ولم يقتصر نفاقهم على سلوكهم مع المسلمين، بل امتدّ إلى علاقتهم مع أهل الكتاب وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}(الحشر/12)، فهم لا ينفتحون إلا على مصالحهم الخاصّة، ولا يقفون عند عهودهم والتزاماتهم، سواءَ مع المسلمين أو مع غيرهم، فهم يتحركون من موقع إلى موقع، وينقضون العهد مع هذا الفريق إذا كان الوفاء به مضرّاً بأوضاعهم، كما إنهم يفعلون الشيء ذاته مع الفريق الآخر. ولذلك فقد تحوَّلوا إلى خطرٍ على المجتمع الإسلامي، الذي لم يكن كل أفراده واعين لأوضاع هؤلاء، فربّما كانت أساليبهم من الدقة بحيث يصعب اكتشافها من خلال الجماهير الواسعة الطيبة، لا سيما إذا كانت جزءاً من خطة دقيقة خفية تستخدم عناوين الإثارة ووسائل الإشاعة التي تحرك مشاعر الناس الطيبين.
وقد تحدّثت (سورة المنافقين) عنهم بإظهار ملامحهم الداخلية والخارجية، وذلك من خلال قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}(المنافقون/1) في التزامهم العقيدي بهذه الشهادة، لأنهم لا يعترفون برسالتك {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي درعاً يقون به أنفسهم وحفاظاً على مواقعهم في المجتمع الإسلامي {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} بأساليبهم الملتوية الخادعة المضللة المثيرة {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لحلاوة منطقهم باشتماله على عناصر الاجتذاب الشعوري {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} في مظهرهم الهادئ الثابت، ولكنهم يعيشون القلق النفسي بسبب الأخطار المقبلة من تحديات الواقع {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، لأنهم لا يركنون إلى قاعدة ثابتة، بل ينتقلون ـ تبعاً لشهواتهم ومصالحهم ـ من موقع إلى موقع، فيكيدون لهذا وذاك {قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ}، فهو القريب إلى الله الذي يستجيب الله دعاءه لتتخلصوا بذلك من غضب الله {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} رفضاً لهذه الدعوة {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ * هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} في عملية ضغط اقتصادي على المؤمنين، لأنهم إذا رأوا أن علاقتهم بالرسول وبالإسلام سوف تؤثر على معاشهم تفرقوا عنه، واتبعوا الذين يملكون المال من المنحرفين عن الإسلام {وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، فهو الذي يرزق عباده المؤمنين من حيث لا يحتسبون {وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ}.
ويتابع القرآن الحديث عنهم في مقولة أخرى لهم، في التحديث الصارخ للنبي(ص) في عملية عرض للقوة التي يملكونها من خلال أتباعهم، أمام القلة التي تحيط بالنبي(ص) من عشيرته: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} والمراد به النبي(ص)، لأنه لم يكن من أهل يثرب، بينما كان هذا المنافق رئيس عشيرة في المدينة {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(المنافقون/8).
وهكذا نلاحظ كيف مارس هؤلاء المنافقون أساليب العداوة الخفية المتحركة في وسائلها وأوضاعها وتحالفاتها مع أعداء الله من المشركين واليهود، ضد الإسلام وأهله، وربما كانوا من أخطر الأعداء، لأنهم من الداخل، ويرتبطون بمفاصل المجتمع، ومواقع القوة فيه... وفي هذا الجو كله المليء بالعداوة المتنوعة للرسول والرسالة وللمسلمين في اتجاهات الشرك ضد التوحيد، وأهل الكتاب ضد أهل القرآن، والمنافقين ضد المخلصين، نلاحظ أن النبي(ص) قد واجه في ساحات الصراع ما لم يواجهه نبي قبله. فقد عاش صراع الدعوة مع القوى المضادة على المستوى الفكري، حتى من الذين يؤمنون بالتوحيد، ولكن مع مزيج من الشرك، وتحمَّل في سبيل ذلك ـ مع المؤمنين به ـ المزيد من الاضطهاد، كما عاش الحرب المسلّحة في أكثر المواقع بما شغله عن تنفيذ خطته في حركة الرسالة في عقول الناس وقلوبهم وإدخالها الفعلي إلى حياتهم.
الحوار الثقافي:
ولكنه بالرغم من ذلك، واجه تنوّعات التحديات بالأسلوب الرسالي الذي كان يتحرك بالفعل النبوي، الذي يرتكز على خطة الرسالة في إعطاء الآخرين الفرصة الثقافية الروحية في الالتفات إلى إبعاد الجوانب الشخصية والمادية في موقف الرسول، واعتبار المسألة بأنها مسألة الرسالة التي تؤكّد على مواطن اللقاء في مواقعه في الاتجاهات الأخرى بينها، وعلى الحوار في مواطن الخلاف، بينما يؤكّد {قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(سبأ/24). وينطلق معهم ليطالبهم بالدليل {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الأحقاف/4)، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}(الأنعام/148). ولم يقدم هؤلاء أي دليل، فيبادر إلى إقامة الدليل على استحالة الشرك، وذلك هو قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}(الأنبياء/21-22). وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا}(الإسراء/42)، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(المؤمنون/91).
ويتابع التحدي الفكري في اعتبار الواقع دليلاً على بطلان الشرك: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ}(الأعراف/191-195).
الحوار مع الملحدين:
أما الملحدون فإن محور الجدال معهم كان يدور في فلك آيات الله الكونية وأسرار الوجود وحقائقه، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(البقرة/164)، وقوله تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل/78)، وقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}(يونس/101)، وقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}(آل عمران/191).
ويتصعّد الموقف في نهاية المطاف بعد أن ينتهي الحوار إلى نقطة اللارجوع، فيحسم القرآن الكريم الموقف بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}(الكافرون/1-6). أما أهل الكتاب فيدعوهم إلى اللقاء على الأرض الفكرية المشتركة في الخط العام ـ مع الاختلاف بالتفاصيل ـ {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(آل عمران/64)، وفي آية أخرى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت/46)، وفي حالة الإعراض ينهي الحوار: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(آل عمران/64)؟
وقد دخل القرآن مع أهل الكتاب، ولا سيما اليهود، في جدال عقائدي يتناول فيه تفاصيل مسألة التوحيد، والأمور التي أثاروها في وجه الرسول والرسالة بالأسلوب الحوار المرتكز على الحجة الداعية والحجّة المضادَّة، أما المنافقون، فلم تكن المسألة معهم مسألة فكر يصادم فكراً، بل كانت المسألة مسألة انحراف عملي، وموقف عدائي، وحركة تخريبية في داخل المجتمع الإسلامي، ولذلك كان الأسلوب القرآني يتحرك في فضح حقيقتهم وإظهار نفاقهم لتوعية المؤمنين في الحذر من خططهم العدائية ومن وسائلهم التخريبية، لأنهم لم ينطلقوا من قاعدة تنفتح على قضايا الحوار، بل من موقع ظلم للحق وأهله.
عدوانية متنوعة:
وخلاصة الكلام: أن النبي محمد(ص) واجه في كل حركته الرسالية التحديات الكبرى في حركة الصراع مع الكفر الإلحادي والإشراكي والديني، في جدال مرير وفي حرب عدوانية شرسة، ومع المنافقين الذين كانوا يعبثون في المجتمع الإسلامي من الداخل... ولم يواجه أي نبي قبله مثل هذه الأجواء العدائية المتنوعة في طبيعتها وفي نتائجها، ولكنه واجه ذلك كله بالكلمة الحرة الواعية المثقفة في الصراع، وبالموقف القوي الحاسم في صراع المواقف، وبالخطة الحكيمة الذكية في مواجهة التخريب الاجتماعي النفاقي من خلال روحية الرسالة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ}(النحل/125)، وذلك هو أسلوب الرساليين في حركة الصراع مع أعداء الرسالة.
والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الخامسة عشرة 16 محرم 1422ه - 30 / آذار /2002م
ألوان العداوة (8)
* العداوة لا تقتصر على الشخص نفسه، بل تمتد إلى علاقته بالآخرين سلبية كانت أو إيجابية من خلال تأثيرها عليه بطريقة وبأخرى *
العداوة الخفية.
الحذر الإيجابي.
عداوة الأصدقاء.
العدوُّ الداخلي.
الجهل مصدر العداوة.
الحذر والوعي.
إغلاق باب العداوة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونبقى مع العداوة في حديث الكتاب والسنّة عن بعض نماذجها، ففي الكتاب قوله تعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(([461]).
العداوة الخفية
أراد الله في هذه الآية توعية الإنسان المؤمن في أن يكون حذراً حتى من أقرب الناس إليه،كالزوجة والزوج والأولاد، ممن يرتبط بهم ارتباطاً عاطفياً، سواء من الناحية الغريزية الجامحة، أو من الناحية النسبية القريبة، بحيث تدفعه هذه العلاقة الروحية إلى الاستغراق فيها، فيستسلم لهؤلاء تحت تأثير الثقة الكبيرة بأنهم المخلصون والمحبّون له، وأنهم يتحركون للدفاع عن مصالحه، ولا يريدون له إلاّ الخير، فيمنعه ذلك عن الحذر من الخلفيات العدوانية التي قد تكون كامنة في داخل هؤلاء، إمّا بشكل متعمَّد إذا كان التصرف العدائي مقصوداً له بفعل بعض التعقيدات الطارئة التي قد تخلق حالة العداء في العائلة، وإمّا بشكل غير متعمد، كما إذا كان هذا البعض يعمل على استغلال العلاقة الزوجية أو علاقة القرابة لمطالبة الشخص ببعض الأمور الضارة بمصلحته في الدنيا والآخرة، فيورطه في النتائج السلبية الخطيرة من دون دراسة لذلك..
فكانت هذه الآية نذيراً له بأن يحذر من هؤلاء بالتدقيق في خلفياتهم، ليتعرف طبيعتها الإيجابية أو السلبية، تماماً كما يحذر في تعامله مع عدوّه، فلا يستسلم لهم استسلاماً عاطفياً ليوافق على ما يطلبونه منه في شؤون الدين والدنيا، فقد يختفي في داخل أيِّ واحد منهم عدّو خفي يريد توريطه في غير مصلحته، ويدفعه إلى البعد عن الله فيما هي المسؤولية الشرعية في الدعوة إلى دينه، أو في الالتزام به أو في الجهاد في سبيله، فيزين له المقصود وينحرف به عن الحق، ليدعوه إلى العمل في سبيل الشيطان، للحصول على متاع الدنيا من أهلها الذين يملكون الجاه والمال والسلطان، فيدخله ذلك في جهنم من خلال ما يحصل عليه من غضب الله وسخطه، وربما كانت دعوتهم إلى بعض الأوضاع والخطط المتصلة بمصالحهم الذاتية في شؤون الأوضاع الاقتصادية والسياسية أو الأمنية أو الاجتماعية، مما لا مصلحة له فيه، أو مما يقع فيه مضرة كبيرة، كما يحدث في الاقتراحات الداعية إلى إنفاق المال في غير محله، أو في الموارد المحرّمة منه أو البخل به عمَّن يستحقونه، أو عدم دفعه في موارده الواجبة أو في غير ذلك، وكمعاداة من تحسن موالاته، أو موالاة من يريد الله معاداته، وكالدخول في بعض المحاور السياسية الضالَّة أو الكافرة مما لا يجوز للمؤمن الدخول فيه، وكتأييد بعض المواقف التي يجب رفضها أو رفض المواقف التي يجب تأييدها، ونحو ذلك من الأمور التي قد يطلب الأزواج والأولاد القيام بها لقصر نظر ذاتي، أو لشهوة حسية أو لطمعٍ مادي أو نحو ذلك.
وإذا كانت الآية تتحدث عن الأولاد والأزواج، فإنها لا تتحدث عن خصوصيتهم، بل تتحدث عن النموذج الذي يرتبط بالإنسان المؤمن ارتباطاً عاطفياً فيما يمكن أن يقوده إليه من الضلال من هذا الموقع العاطفي.
الحذر الإيجابي
أما الطريقة التي أرادت الآية أن تنصح بها الإنسان المؤمن في تعامله مع هؤلاء بعد اكتشافهم في استغلالهم لعاطفته تجاههم فهي قوله تعالى: )وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(. فقد جاءت هذه الكلمات لتثير في نفس الإنسان هذه المعاني التي تلتقي بالابتعاد عن كل النوازع النفسية السلبية، أو كل الأعمال القاسية ضدهم في حال اكتشاف عداوتهم، لأن طبيعة الصلة القريبة قد تجعل من هذه المواقف الداخلية والخارجية مشكلةً صعبةً تربك حياة الإنسان وتعقِّد علاقاته، وترهق عاطفته، الأمر الذي أراد الله من خلاله أن يخفِّف على الإنسان من تأثيرات الموقف عليه في التزامه بموقف العداوة العملي الذي توحي به الآية، فيما يمكن أن يستوحيه الإنسان من مسؤولية الموقف. فكان هذا التوجيه التسامحيّ لوناً من ألوان التأكيد بأن اعتبار هؤلاء أعداءً لا يعني ضرورة مواجهتهم بالشدَّة والأخذ بالذنب، كما يواجه الإنسان عدوّه، بل كلُّ ما يعنيه هو الوقوف موقف الحذر الذي يتخذه الإنسان من عدوِّه، في عدم الاستسلام له وعدم الاسترخاء أمامه، وإذا غفر الله لقريبه أو لزوجه، فإن الله قد يغفر له إذا أصلح أمره ولم يمتدّ به الانحراف بعيداً. وربما كان الإيحاء بالمغفرة والرحمة الإلهية لمن عفا وغفر للمذنبين معه، بمعنى أن الله يجزي الذين يمارسون العفو عمّن أساء إليهم. وربما كان ذلك على أساس تخفيف وقع استحباب المغفرة والصفح والعفو عن هؤلاء الذين ظهرت عداوتهم في أكثر من موقع، وذلك بالإيحاء بأن هذه هي صفات الله، والتي تمثل القيمة العليا في أخلاق الإنسان العملية.
وقد جاء في تفسير القمّي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر محمد الباقر(ع) في قوله تعالى: )إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ(: وذلك أن الرجل إذا أراد الهجرة تعلَّق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك الله أن لا تذهب عنا فنضيع بعدك، فمنهم من يطيع أهله فيقيم، فحذَّرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول: أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبداً، فلما جمع الله بينه وبينهم أمر الله أن يتوقى بحسن وصله، فقال: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم.
وهكذا نجد في هذه الآية قاعدةً ثابتة في الحذر من سيطرة العاطفة على الإنسان في تصرفاته وعلاقاته، والتأكيد على الالتزام بالخطِّ الأصيل الذي يرتبط به السير على الصراط المستقيم بعيداً عن كل المؤثرات الشعورية والخارجية.. لأن الله يريد للإنسان أن يتحرك في علاقاته الإنسانية وغيرها بفعل عقله لا بفعل عاطفته. ومن المعلوم أن الحذر لا يعني الشلل في حركة الإنسان مع الآخرين الذين يرتبط بهم بشكل وبآخر، كما لا يعني الاندفاع مع حالة الشك في الحكم بالعداوة، بل يعني التحفّظ والاحتياط لنفسه في الدراسة والتدقيق فيما حوله ومن حوله، لئلا يسقط في الهوة العميقة المعدة له من حيث لا يشعر.
عداوة الأصدقاء
وفي جانب آخر، تورد الأحاديث المأثورة عن الأئمة من أهل البيت(ع) نماذج أخرى من الأعداء، فقد جاء عن الإمام علي(ع) أنه قال: ((من ساترك عيبك وعابك في غيبك، فهو العدوّ فاحذره))([462]). وفي حديث آخر: ((إنما سمي العدو عدواً لأنه عدو يعدو عليك، فمن داهنك في معايبك فهو العدو العادي عليك)).
وعن الإمام محمد بن علي الجواد(ع) ((قد عاداك من ستر عنك الرشد اتباعاً لما تهواه)). ففي هذه الأحاديث تركيز على أن صورة العدو هو الإنسان الذي يخطط لإبقاء عيوبك مستورة عنك وإظهارها للناس، فلا يتحدث معك بما يكشفه من نقاط الضعف فيك، بل يسترها عنك، وربما يوحي إليك بأنها لا تمثل نقصاً بل كمالاً، مداهنة لك واتباعاً لما تهواه من أساليب التزلف إليك، الأمر الذي يجعلك سادراً في غيّك، بعيداً عن إصلاح نفسك، لأن الصديق هو الذي ينبّه صديقه على عيوبه ليصلحها، لتتكامل شخصيته، ولتتحول نقاط ضعفه إلى نقاط قوة، على هدى الحديث المأثور: ((المؤمن مرآة أخيه المؤمن)).
وفي حديث آخر عن الإمام علي(ع): ((بطن المرء عدوُّه)). والمقصود به شهوة الإنسان التي تقوده إلى أن يملأ بطنه بما يضره أو بما حرمه الله عليه من الطعام، فيؤدي به ذلك إلى الهلاك في الدنيا والآخرة. وهذا هو العنصر البارز للعداوة، لأن كل ما يؤدي بك إلى الضرر الدنيوي والأخروي هو عدوّ لك.
وقد حدد الإمام علي(ع) أعداء الإنسان بقوله: ((أعداؤك ثلاثة: عدوك))، وهو الذي يبارزك بالعداوة بتصرفاته العدوانية ضدك، ((وعدو صديقك))، وهو الذي يواجه صديقك بالعداوة للإضرار به وإسقاط كل أموره. فهو عدوك، لأن الصديق لابد له أن يقف مع صديقه الذي يمنحه المودة وتلتقي إنسانيته بإنسانيتك، فيعادي من عاداه ويوالي من والاه، لأن طبيعة الصداقة تفرض ذلك، ((وصديق عدوك)) وهو الذي يلتقي مع عدوك بالمودة في صداقته له، فيكون قوة له وعوناً على أعدائه، فتتحول صداقته لعدوك إلى عداوة لك بشكل غير مباشر. وفي هذه العناوين الثلاثة إيحاء عملي بأن مسألة العداوة لا تقتصر على الشخص نفسه، بل تمتد إلى علاقته بالآخرين سلبية كانت أو إيجابية من خلال تأثيرها عليه بطريقة وبأخرى.
العدوُّ الداخلي
وهناك نوعٌ آخر من الأعداء، وهو الأهواء النفسية والأخلاق السلبية، والنفس الأمّارة بالسوء، لأنها تقود الإنسان إلى الهلاك، فتدخله فيما يفسد أمره وينحرف به عن الخير ويقترب به من الشر ويبتعد به عن رضا الله ويقوده إلى ما فيه غضبه وسخطه. فقد جاء في الحديث عن رسول الله(ص): ((أعدى عدوِّك نفسك التي بين جنبيك))، وهذا الحديث يلتقي في الإيحاء بقوله تعالى: )وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي(([463]).
وفي حديث آخر عنه(ص): ((والذي نفسي بيده، ما من عدوٍّ أعدى على الإنسان من الغضب والشهوة، فاقمعوهما واغلبوهما واكظموهما)). وفي حديث آخر عنه(ص): ((ليس عدوك الذي إن قتلته كان لك نوراً، وإن قتلك دخلت الجنة، ولكن أعدى عدوّ لك ولدُك الذي خرج من صلبك، ثم أعدى عدوٍّ لك مالك الذي ملكت يمينك..)).
وعن الإمام علي(ع): ((الهوى أعظم العدوّين))، وفي حديث آخر عنه: ((أعدى عدوٍّ للمرء غضبه وشهوته، فمن ملكهما علت درجته وبلغ غايته))، وفي حديث ثالث عنه: ((نفسك أقرب أعدائك إليك)).
وعن الإمام الصادق(ع): ((احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتِّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم)).
ففي هذه الأحاديث توجيهٌ للإنسان أن ينفذ إلى داخل نفسه في عملية مراقبة ومحاسبة ومحاكمة، ليدرس نوازعها الشريرة وغرائزها الجامحة ونقاط ضعفها، مما يمكن أن يقودها إلى الانحراف عن الخطِّ المستقيم أو التعرض لغضب الله من خلال ضغط الشهوة وثورة الغريزة واندفاع الغضب وجموح اللسان، بحيث يسقط أمام ذلك في حالة من غيبوبة العقل وغفلة الوعي، والجهل بالنتائج السلبية، الأمر الذي يمثِّل أعلى درجات العداوة الداخلية، فلابد للإنسان من الأخذ بأسباب الحذر في ذلك كله، بتعقيل الغريزة وضبط الشهوة وتقويم اللسان وتوعية النفس وتوجيهها إلى ما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة، لأن القيمة الأخلاقية لا تنطلق من خنق الغريزة وإطفاء الشهوة وحبس اللسان وقتل نوازع النفس، لأنها تمثل ضرورات الحياة للإنسان، بل القيمة الأخلاقية تكون بإعطاء كلِّ هذه النوازع الداخلية الخاضعة للعاطفة جرعةً من العقل لتتوازن في حركتها في حياة الإنسان ولا تجمح في حالة الاهتزاز إلى الهاوية. وهذا هو الذي يتمثل بالجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس في محاربتها لأهوائها الشريرة ونوازعها الهوجاء، فيتحوّل الإنسان إلى جبهتين: جبهة تهاجم وجبهة تدافع، لتكون النتيجة أن يملك الإنسان نفسه فيخضعها للضوابط المتوازنة في خطِّ مبادئه القويمة.
الجهل مصدر العداوة:
وقد تتمثل العداوة في وجه آخر، فقد يجهل بعض الناس الحق ويلتزمون الباطل، ولا يملكون المعرفة التي تقودهم إلى التمييز بينهما، فيتعصبون ضد ما جهلوه. وقد ورد في هذا المجال كلام للإمام علي(ع) بما روي عنه: ((الناس أعداء ما جهلوا))، لأن المعرفة هي التي تجعل الإنسان عالماً بالعناصر التي تنفتح به على الجوانب الإيجابية للفكرة أو للواقع أو للأشخاص، بينما الجهل يسير به إلى التصورات الخاطئة لها، فيتصور الحسن قبيحاً فيعاديه من خلال الوهم الكبير الذي يخيل إليه فيه أن مسؤوليته أن يعلن الحرب عليه.. وقد جاء عن الإمام علي بن موسى(ع) في تصوير النماذج الجاهلة المعادية للعناصر العارفة: ((ثلاثة موكل بها ثلاثة: تحامل الأيام على ذوي الآداب الكاملة، واستيلاء الحرمان على المتقدم في صنعته، ومعاداة العوام على أهل المعرفة)). إن مشكلة العوام هي أنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الآفاق الرحبة التي ينفتح عليها أهل المعرفة، لأنهم يتخبطون في أوحال الجهل ويعيشون في الزوايا الضيقة، فيرون الخرافة حقيقة والحقيقة خرافة، فيواجهون العلماء المصلحين بأساليبهم العدوانية في هتك حرماتهم والتشهير بهم، وربما تؤدي بهم الأمور إلى تكفيرهم وتضليلهم ظلماً وعدواناً..
ونحن نلاحظ في مدى التاريخ، ولا سيما في التاريخ المعاصر، كيف استغلت الأجهزة المعادية، ولا سيما المخابرات الدولية الاستكبارية والمتعاونون معها، هذا الجهل الخرافي الذي يغلب على العوام لتحقيق الخطة الخبيثة التي تهدف إلى تدمير الشخصيات الإصلاحية وإسقاط مواقعها، حذراً من نجاح مخططاتها الإصلاحية في إسقاط الاستكبار، وإبعاد الخرافة عن عقول الناس والسير بهم إلى التوازن في الحكم على الأمور، وإيجاد وسائل الوعي للانفتاح على الحقيقة من موقع متقدم.
الحذر والوعي:
وهناك نقطة مهمة في التحذير من خطط العدّو ووعي أهدافها، وذلك يكون بمراقبة ودراسةٍ لكلِّ أوضاعه وتصرفاته وعلاقاته التي يمكن أن يحركها ضد المؤمنين، أو عندما يتحرك بها في المكائد التي يثيرها، وهذا هو ما تحدث به الإمام علي(ع) في عدة كلمات مروية عنه، منها: ((من نام عن عدوّه أنبهته المكائد))، ومنها:((من نام لم ينم عنه))، ومنها: ((والله إن امرءاً يمكِّن عدّوه من نفسه يحرق لحمه ويهشّم عظمه ويفري جلده لعظيم عجزه))، ومنها: ((لا تأمن عدوّاً وإن شكر))، ومنها: ((لا تستصغرن عدواً وإن ضعف))، ومنها: ((جماع العدو في الاستنامة إلى العدو)).
ونستوحي من ذلك الدعوة إلى أن يكون الإنسان واعياً وممتلكاً للقوة لمواجهة خطط العدو، سواء كان قوياً أو ضعيفاً.. وإننا في موقعنا الإسلامي لابد أن نواجه حركة الاستكبار العالمي الذي يخطط له للاستفادة من نقاط ضعفنا، وتحريك خلافاتنا الداخلية الخاصة والعامة، الأمر الذي يدفعنا إلى ضرورة تجميد هذه الخلافات حتى لا يستغلها العدُّو المستكبر بواسطة أجهزته المخابراتية والسياسية ليجعل بأس الأمة بينها، وليهزمنا بأيدينا قبل أن ندخل المعركة معه، أو قل حتى يقصينا عنها. وقد وردت بعض الكلمات الداعية إلى استخدام الأساليب الخفية التي تفيدنا في القضايا السياسية لإخفاء ما نفكر به ضد العدو، وهذا ما ورد في وصية لقمان لابنه: ((يا بني، ليكن مما تتسلح به على عدوك فتصرعه المسامحة وإعلان الرضا عنه، ولا تزاوله بالمجانبة فيبدو له ما في نفسك فيتأهب لك)). وقد روي عن الإمام الحسن العسكري(ع) أنه قال: ((أضعف الأعداء كيداً من أظهر عداوته))، وعن الإمام علي(ع): ((من أظهر عدوّه قلّ كيده)). وهذه الطريقة الساذجة تجعل العدَّو يفضح نفسه، ويدفع خصمه إلى الحذر، وتوحي للإنسان المؤمن أن عليه أن يبتعد عن هذا الأسلوب في حركته في خط المواجهة للعدوّ...
إغلاق باب العداوة:
وقد جاءت الأحاديث لتوجِّه المؤمنين إلى الابتعاد - مهما أمكن - عن كسب الأعداء. فقد ورد عن رسول الله(ص): ((ما عهد إليّ جبريل(ع) في شيء ما عهد إليّ في معاداة الرجال)). وفي حديث آخر عنه: ((ما نهيت عن شيء بعد عبادة الأوثان ما نهيت عنه من ملاحاة الرجال)). وعن الإمام علي(ع) ((معاداة الرجال من شيم الجهّال)). وعنه(ع): ((من سوء الاختيار مغالبة الأكفاء ومعاداة الرجال))، وعن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): ((لا تعادينَّ أحداً وإن ظننت أنه لا يضرك، ولا تزهدن في صداقة أحد وإن ظننت أنه لا ينفعك، فإنك لا تدري متى ترجو صديقك ولا تدري متى تخاف عدوّك)). وعن الإمام محمد الجواد(ع): ((لا تعاد أحداً حتى تعرف الذي بينه وبين الله تعالى، فإن كان محسناً لا يسلمه إليك، وإن كان مسيئاً فإن علمك به يكفيكه فلا تعاده)). وفي حديث الإمام علي(ع): ((من زرع العداوة حصد الخسران))، وفي حديث الإمام الصادق(ع): ((من زرع العداوة حصد ما بذر)).
وقد جاء في الحديث عن رسول الله(ص) في النهي عن الأساليب السلبية التي قد تكسب العداوة:((لا تسبوا الناس فتكسبوا العداوة بينهم))، فإن السب قد يثير أكثر من عقدة ضد المسبوب، ما يدفعه إلى إعلان العداوة للسباب، لأن هذا الأسلوب يسيء إلى كرامته وإلى موقعه، بينما يؤدي السكوت عنه والبحث عن أسلوب آخر في انتصاف الإنسان لنفسه أو في تجاوز حقه إلى الصداقة أو إلى تفادي العداوة.
وقد أشار الإمام علي (ع) عندما سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام، قال: ((إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا، وبينهم واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به)).
إنه لا يريد للعداوة أن تتعاظم وتزيد في نفوس المسلمين، بل يريد في اتباع الأساليب النقدية الموضوعية من جهة، والابتهال إلى الله في إنهاء المشكلة من جهة أخرى، أن تخفف الكثير من العداوة، أو تليينها عند نجاح هذا الأسلوب.
وأخيراً، فإن قمة الإنسانية في الإيجابيات النفسية لدى المؤمن هي أن ينفتح قلبه، وأن يحسن أسلوبه ليستصلح عدوَّه، فقد ورد عن الإمام علي(ع): ((الاستصلاح للأعداء بحسن المقال وجميل الأفعال أهون من ملاقاتهم ومغالبتهم بمضيض القتال)). وقد ورد عن الإمام الحسن العسكري(ع) أنه قال: ((من كان الورع سجيته والإفضال حليته انتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه)).
وخلاصة الفكرة، هي أنّ على الإنسان المؤمن أن يدرس الواقع من حوله، فإذا استطاع تحويل عدوه إلى صديق كان ذلك خيراً، لأن مهمته هو جذب الناس إلى الحق باجتذابهم إلى المحبة والصداقة والسلام، وإذا لم يستطع ذلك وأصرَّ عدوّه على المواجهة، فعليه أن يخطط لكل الظروف والأوضاع لإسقاط عدوه ومنعه من العدوان عليه. وهذا هو المنهج الإسلامي الذي يريد للمؤمن أن يكون قوياً في الوقت الذي يريد له أن يكون قلبه مفتوحاً للسماح وللقاء عندما ينفتح الآخرون عليه. والحمد لله ربَّ العالمين.
المحاضرة السادسة عشرة 24 محرم 1422ه - 6 / نيسان /2002م
في ذكرى وفاة الإمام زين العابدين(ع)
التأسيس الثقافي والتأصيل الأخلاقي
* قيمة العظماء في التاريخ هي أن يبقى منهم ما يبقى للحياة *
الحديث عن الإمامة.
شخصية الإمام زين العابدين(ع).
التأسيس لحركة الثقافة.
تأصيل القيم الأخلاقية.
الدعاء في حيويته.
اللجوء إلى الله تعالى.
زين العابدين بعيون الصادق(ع).
الرقابة الاجتماعية.
المرحلة العصيبة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في هذه الأيام نعيش أجواء ذكرى وفاة الإمام علي بن الحسين(ع)، ولابد لنا أمام هذه الذكرى أن نعيش عمق هذه الشخصية في امتداداتها التي ترتبط بحياتنا، لأن قيمة العظماء في التاريخ هي أن يبقى منهم ما يبقى للحياة. حيث عاش كلِّ في مرحلته وأعطاها ما عليه أن يعطيه ويستمر، ومارسوا أوضاعهم الخاصة وانطلقوا في رسالتهم، وذهبوا إلى رحاب الله، وبقيت الرسالة التي تبقى للإنسان ما بقي للإنسان علاقة بالله وعلاقة بنفسه وعلاقة بالحياة.
وقد ذكرنا أكثر من مرة أننا أمام التاريخ، سواء كان التاريخ تاريخاً في مستوى القيمة الإنسانية العليا، أو كان ضد القيمة، علينا أن لا نسافر إلى التاريخ، بل أن نستقدم ما يبقى من التاريخ إلينا، ليقوم بزيارة إلينا، ليقدِّم لنا ما استطاع أن يرتفع به، ولا نسمح له أن يفرض علينا ما فشل فيه.
الحديث عن الإمامة:
في الحديث عن الإمام علي بن الحسين(ع)، لابد لنا من استعراض مفهوم الإمامة، فالإمامة في العقيدة - في عقيدة السائرين في خطِّ أهل البيت(ع) تمثل الموقع الشامل، فالإمام حسب هذه العقيدة هو وصي رسول الله(ص)، وهو حامل الرسالة كلها، ويتحمّل المسؤولية كلها، فهو إمامٌ في الدعوة وإمام في تأصيل حركة التشريع في موقع النظرية التي يحمي فيها النظرية من الانحراف، وفي موقع التطبيق الذي يلاحق فيه التطبيق لئلا يسقط أو تدخل فيه الأهواء، وهو إمام في الموقع السياسي، لأن قصة السياسة في الإسلام ترتكز على عنوان كبير واحد يشمل سياسة الإنسان في خط طاعته، بأن يؤدي حق ربه وأن يعدل مع ربه، وسياسته مع نفسه بأن لا يظلم نفسه، وسياسته مع الناس بأن لا يظلمهم، لأن الله أقام الدين في كل مراحله على قاعدة العدل، ومن هنا كانت السياسة في الإسلام حركة المسؤولية، ولم تكن لعبة يلعبها الذين يديرونها حسب ما تقتضيه مصالحهم الشخصية وقناعاتهم الذاتية، كما يتحدث الكثيرون عن لعبة السياسة. ولذلك فإن موقع الإمام في هذه النظرية الإسلامية هو موقع الحاكم، تماماً كما جعل الله النبي محمد(ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقد جعل النبي(ص) أيضاً أول إمام من أئمة أهل البيت(ع) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وذلك عندما تحدّث(ص) في موسم الحج في غدير خم، وقال في خطبته التي بدأها بقوله:((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟! قالوا: بلى. قال: اللهم اشهد، من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه..))([464]). وفسرت مسألة المولى بالمولوية الحاكمية، يعني ((من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه)). وإذا كانت الظروف لم تسمح لعليّ(ع) في مدة خاصة من أن يمارس دور الحاكم، إلا أنه بقي يمارس دور الإمام، الإمام الداعية، والإمام الحارس للمفاهيم ولحركتها في الواقع، والإمام الحارس للواقع الإسلامي، لئلا ينفذ الآخرون من أعداء الإسلام من خلال بعض الثغرات، ليثيروا في الإسلام الفتنة تارة والمشاكل الأخرى تارة أخرى. وهكذا كان إماماً يعيش المسؤولية خارج الحكم، بنفس الروحية التي تفرض عليه أن يعيشها في الحكم.
كانت مسألته تتلخص في أن يقيم حقاً أو يدفع باطلاً، وأن لا يصبر على كظة ظالم أو سغب مظلوم. وكان يعمل بثقافته التي هي ثقافة رسول الله(ص)، حيث قال(ع): ((علمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب))، إلى غير ذلك من الصفات التي كان فيها الإنسان الأول بعد رسول الله(ص) ثم انطلقت القضية مع ولديه، وكانت المأساة هنا والمأساة هناك، وكانت التجربة الصعبة هنا والتجربة الصعبة هناك.
شخصية الإمام زين العابدين(ع):
وهكذا امتدّت جذور الرسالة لتصل إلى الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) وهو الإمام الرابع من أئمة أهل البيت(ع). وعندما ندرس شخصية هذا الإمام، فإننا نرى أنه عاش مرحلة من أقسى المراحل، ولكنه كان الصلب في مراحله كلها. وعندما ندرس عاشوراء منذ أن وطأت قدما الإمام الحسين(ع) كربلاء إلى أن انتهت بالشهادة في مأساة لا مثيل لها في التاريخ الإنساني، ثم انطلقت السبايا وكان علي بن الحسين(ع) معهن، فإنه لم ينقل التاريخ أنه بكى، بل كان الصلب الذي يعيش أعمق الحزن في قلبه، لأن مسألته أنه كان يعيش أوسع المسؤولية في دوره، ومشكلة الذين يتألمون أن مسؤوليتهم لا تسمح لهم أن يعبروا عن ألمهم بما يُشمت بهم الأعداء، حتى إن بكائه - في ما تنقله الروايات الموثوقة - كان بكاءً هادفاً، ولم يكن بكاءً ذاتياً، وإن كان من حقه أن يبكي بكاءً ذاتياً. كان إماماً في الحزن، كما كان إماماً في حركة المسؤولية من خلال دوره الرسالي. لقد أراد للذين يؤمنون بالإمامة أن يتوازنوا في حبهم، لأن الأئمة لم ينطلقوا ليربطوا الناس بذواتهم بعيداً عن الرسالة ليبالغوا في حبهم وليتطرفوا ويأخذوا بأسباب الغلوّ.
بل كانت الإمامة مسؤولية الرسالة، ولذلك أُريد للوعي الإمامي في نفوس الناس أن يظل منسجماً مع الرسالة.. وهناك فرق كبير بين أن يعيش الإنسان لذاته وبين أن يعيش لرسالته. وربما كان الإنسان الذي يعيش لذاته يحب للناس أن يغلو في ذاته، وأن يتطرفوا فيه إلى أبعد حَدٍّ، لأن ذلك يربط الناس به أكثر. أما الذي يعيش لرسالته، فإنه يفكر أن يربط الناس برسالته، أن لا يرتبطوا بشخصه إلا من خلال موقعه بالرسالة. ولذلك قال(ع): ((أحبّونا حبّ الإسلام، فما زال حبكم لنا حتى صار شيناً علينا))، أي انظروا إلى الخطوط الإسلامية وأين هو موقع الإمام في هذه الخطوط وما هي قيمته، ولا تصعدوا عن مستوى هذه القيمة، كما يقول صاحب البحار ((لا تأخذوا بأسباب الغلّو))، أي لا ترفعونا عن مراتبنا التي رتبنا الله فيها، بل ارتبطوا بالإسلام في ارتباطكم بنا، لأن القضية هي أننا إذا انطلقنا فإننا ننطلق في رضا الله، وإذا ابتعدنا عن أمر ما فإننا نبتعد عما يسخط الله، كما قال الإمام الباقر(ع): ((من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ،. ومن كان عدواً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا ـ أهل البيت ـ إلا بالورع))، وهي اجتناب محارم الله.
التأسيس لحركة الثقافة:
وهكذا عاش الإمام(ع) مسؤوليته في مستوى الظروف التي كانت تحيط به، فانطلق ليكون أستاذاً للثقافة الإسلامية آنذاك، وهذا ما نقرأه من خلال الرواة الذين رووا عنه، ومن خلال تنوّع الأحاديث التي رويت عنه، بما يتصل بعلم الكلام أو علم الفقه أو الأخلاقيات أو الجوانب الاجتماعية والحركية وما إلى ذلك، بحيث إننا عندما نقرأ الإمام زين العابدين(ع)، فإننا نقرأ علماً وفكراً وحركةً، في الوقت الذي كان يعيش فيه المجتمع الإسلامي حالة من الاستغراق في اللهو، بحيث كانت مكة والمدينة تشكلان في ذلك الوقت عاصمتين لأهل الفسق والمجون، كما كانت تنتشر فيهما أيضاً مظاهر الزهد والتصوف. وفي ظل هذه الأجواء، عمل الإمام(ع) على إيجاد حالة من التوازن الروحي بين المسلمين كي لا ينجرفوا خلف التيارات المنحرفة، حيث أدخل في الجانب الروحي العناصر الإسلامية الثقافية على مستوى القيم الأخلاقية الثقافية والفكرية، فعندما تقرأ الصحيفة السجادية، تشعر أنك تدخل في مدرسة تربطك بالله وتحرك كل قيمك الروحية والأخلاقية والإنسانية وأنت بين يدي الله، وبهذه الحالة تتأصل العقيدة الإسلامية وتتأصل الخطة الإسلامية. عندها يشعر الإنسان بأنه ليس هناك فاصل بين المادة والروح، وليس هناك فاصل بين الدين والدنيا، وإنما هناك دين يحتضن الدنيا، ودنيا تتحرك في خطوط الدين، من دون أن ينفصل الإنسان عن دنياه في مسؤولياته وفي أوضاعه، ومن دون أن ينفصل الإنسان عن دينه عندما يأخذ بأسباب الحياة، لأن هناك خطاً للتوازن. وبهذا كانت أدعية الإمام زين العابدين(ع) مدرسة في خطوط العقيدة، وفي الخطوط الأخلاقية وفي المفاهيم الإسلامية في طبيعة العلاقات الاجتماعية، وفي طبيعة التقييم الإنساني هنا وهناك.
وهكذا لاحظنا أن الإمام(ع) أكد في (رسالة الحقوق) أن الإنسان في الحياة له حق وعليه أداء حق، ولذلك أراد لنا أن نتعرف على كل الحقوق التي لنا والتي علينا، حتى لا نشعر بأننا نعيش الحرية في ما نأخذ وفي ما ندع، بل إننا محاصرون بحقوق الناس من حولنا، وحقوق الحياة من حولنا، كما أن الناس محاصرون بمثل ذلك. لذلك مارس الإمام علي بن الحسين(ع) إمامته العلمية والروحية والحركية عندما لم يستطع أن يمارس إمامته السياسية على مستوى الحكم. وعلى ضوء هذا، فإن علينا أيضاً أن نراقب الكلمات التي كان يثيرها هنا وهناك، من أجل أن يُرشد الناس إلى طبيعة المسؤوليات التي تنفتح على الواقع السياسي، كما تنفتح على الواقع الاجتماعي وعلى بقية المواقع الأخرى. ولذلك فإن علينا أن نُخرج الإمام زين العابدين(ع) من الزاوية التي حبسناه فيها، عندما حوَّلناه إلى بكّاء وإلى دعّاء، وأبعدناه عن أن يكون إماماً للحياة، كما أبعدنا الكثير من أئمتنا في غمرة إثارة المأساة عن أن يدخلوا إلى حياتنا من الباب الواسع، لأننا أدخلناهم في مشاعرنا ولم ندخلهم في عقولنا، فأصبح العقل بعيداً عن كل ما أرادوا للعقل أن ينفتح عليه، وأصبحت المشاعر هي التي تعلو وتهبط وتغلو وتعتدل حيث قدّر للإنسان أن يعيش مشاعره.
تأصيل القيم الأخلاقية
وفي هذه الأجواء، أودُّ أن أتوقف عند بعض المحطات من حياة الإمام(ع)، لنستنطق طريقته في تأصيل القيم الأخلاقية من خلال موقعه، وقد تكون بعض الأمور صغيرة، ولكنها تشير إلى الأفق الواسع الذي تتحرك فيه، حيث نقرأ في سيرته عن أحد الرواة كما (في الكافي) وهو عيسى بن عبد الله، قال: ((احتُضِر عبد الله فاجتمع غرماؤه فطالبوه)) - وهو في حالة الاحتضار -((بدين لهم، فقال لا مال عندي أعطيكم)) وأنا في الطريق إلى الله ((ولكن أرضوا بمن شئتم من ابني عمي علي بن الحسين وعبد الله بن جعفر))، فأنا أطلب منهما أن يفيا ديني إذا قبلتم ((فقال الغرماء: عبد الله بن جعفر مليٌّ)) رجل غني ولكنه ((مطول)) يماطل، فلا نستطيع أن نطمئن على ديوننا ((وعلي بن الحسين رجل لا مال له، صدوق)) إذا أعطانا موعداً فإنه يصدق في ذلك ((فهو أحبّ إلينا فأرسل إليه وأخبره الخبر))، فكان جواب الإمام(ع): ((قال(ع) أضمن لكم المال إلى غلّة)) وقت موسم ((ولم تكن له غلّه)) فلم يكن عنده بساتين. (قال) الراوي ((فقال القوم: قد رضينا وضمنه)).
وعندنا في الفقه الإمامي أن الإنسان إذا ضمن الدين برئت ذمة المدين وصارت ذمة الضامن هي المشغولة، ولم يعُد في عملية الضمان شريكاً في الذمة، ولأن الضمان يمثل نقل المال من ذمة إلى ذمة أخرى: ((فلما أتت الغلة أتاح الله له المال فأوفاه)).
وهناك قصة أخرى مماثلة تتعلق بزيد بن أسامة بن زيد، عندما حضرته الوفاة، فجعل يبكي وهو قد عاش مسؤولية الدين الذي عليه، فكيف يترك دينه بعد وفاته ولم يفه، وكيف يقابل الله في ذلك. فقد روى أحدهم قال: ((حضرت زيد بن أسامة بن زيد الوفاة، فجعل يبكي، فقال له علي بن الحسين(ع): ما يبكيك؟ قال: إن عليّ خمسة عشر ألف دينار ولم أترك لها وفاءً)) ليس عندي تركة ((فقال له علي بن الحسين: لا تبك إنها عليّ وأنت منها بريء، فقضاها عنه)). هذا ما رواه المفيد في الإرشاد. والذي نستوحيه من الرواية أولاً: إن العنوان الكبير هو الكرم والعطاء الذي يمثل أخلاقية أهل البيت(ع)، والذي صوَّرته الآية الكريمة: )إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا(([465]).
والنقطة الثانية التي نستوحيها من هاتين القصتين، هي الجانب الإنساني العميق الذي كان يعيشه الإمام زين العابدين(ع)، وهو يفكر في حال هذا المؤمن الذي يعيش حالة الاحتضار، ولم يعد لديه وقت لإيفاء دينه، فهو يتألم لأجل هذا الوضع، فالإمام لم يشأ أن يترك هذا الإنسان يتألم، بل أراد له أن يعيش حقيقة ما هو ملاقيه فيستعدَّ له، بعيداً عن كل الأجواء التي تحول بين ما هو ملاقٍ وبين ما هو تارك، لذا أراد الإمام من هذا الموقف أن يرسَّخ قاعدة قيمية، وهي أنه على الإنسان أن يفكر ويعمل على أن يعطي السعادة الروحية لمن ليس هناك منفعة له منه لأنه يستقبل الموت، لأن الإنسان عندما يعطي إنساناً حباً فإنه يفكر أنه سوف يردُّ الجميل عليه وسوف يأخذ كذا وكذا. أما أن تفكر بأنك تعطي إنساناً مثل هذا المبلغ الكبير وهو يقف أمام الموت، فإن هذه إنسانية لا يرتفع إليها إلا أهل البيت(ع) أو السائرون في هذا الخط.
ونقرأ في جانب آخر، وفي صبره تحديداً، قال إبراهيم بن سعد: ((سمع علي بن الحسين واعية في بيته)) والواعية صراخ النساء، وعادة فإن صراخ النساء لا يكون إلا بحدوث حدث مثل الموت وما أشبه ذلك ((وعنده جماعة، فنهض إلى منزله ثم رجع إلى مجلسه)) بشكل طبيعي ((فقيل له: أمن حدثٍ كانت الواعية؟. قال: نعم. فعزوه وتعجبوا من صبره. فقال)): وهذه هي الكلمة المضيئة ((إنا أهل البيت نطيع الله عز وجل في ما نحب ونحمده في ما نكره)) فنحن نتلقى قدر الله في جميع الحالات، لأن القضية عندنا ليست قضية مشاعرنا الخاصة، ولكنها كما قال: ((رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين)). إن المهم عندنا أننا نطيع الله في ما نحب ونحمده في ما نكره.
الدعاء في حيويته:
وهناك جانب آخر من حياة الإمام(ع) المضيئة، هو الدعَّاء الذي أعطى حيويته وحركيته ورحابة الأفق في الإخلاص لله. والإمام(ع) يطلب من الإنسان أن يدعو في جميع حالاته، أن يكون دعاؤه في حالة الرخاء كما هو في حالة الشدّة، لأن الدعاء قد تكون له أوقات إجابة أو ظروف إجابه، فالإنسان ربما يدعو اليوم ولا يستجاب له فيترك الدعاء، والله إذا لم يستجب الدعاء فذلك لأن مصلحة الإنسان تكون في عدم الإجابة أو ليست هناك ظروف للإجابة، لذلك فالإمام(ع) يقول إن على الإنسان أن يتابع دعاءه ولا يتركه، فقد يأتي الوقت الذي يستجاب فيه الدعاء. وطبعاً الإمام يريد أن يركز أن مسألة الدعاء ليست مجرد حاجة ذاتية، بل إن الدعاء هو مخُّ العبادة، وهو أيضاً أن تعيش فقرك لله، وأن توحي إلى نفسك بالفقر لله وبالحاجة إلى رحمته ولطفه، بحيث أنك تستحضر الصفات الحسنى لله فتدعوه. لذلك كلما تدعو الله أكثر كلما تحس بحضور الله أكثر، وكلما تحس بحضور الله فإنه يتدخل في وجعك، ويتدخل في جوعك، ويتدخل في ظمأك، ويتدخل في أمنك، بحيث تشعر أن الله سبحانه وتعالى معك، فتعيش أنت حياتك معه، وهذا هو الذي انطلق الإسلام من أجله، أن تشعر بحضور لله عندما تدخل إلى بيتك، وتشعر أن الله يقضي حاجات بيتك، وعندما تعيش مع الناس تشعر أن الله يتدخل في حياتك مع الناس. إن الله سبحانه وتعالى يقول )ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ(([466])، )أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي(([467])، إلى آخر ما هناك.
فنحن ندعو الله وحده ولا ندعو غيره، وقد تنمو أفكار ليس لها موقع إسلامي صحيح، من قبيل أنه لا قدرة لنا على أن ندعو الله سبحانه، بل ندعو الأنبياء والأئمة(ع) ليتوسطوا لنا عند الله، وهذا معنى لا ينسجم مع العقيدة التوحيدية، وهو خلاف القرآن، لأن الله يقول ادعوني، والله يقول )فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي( وفي بعض الأدعية: ((فإن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهلٌ أن تبلغني))، أي إذا لم يكن في الإنسان قابلية من جهة ذنوبه أن يجعل دعاءه يصعد، فإن رحمة الله تنزل عليه، لأن رحمة الله وسعت كل شيء ودخلت في كل شيء. ولذلك فإن هذا الاتجاه الذي يؤكد حاجتنا إلى وسائط في الدعاء لله هو اتجاه غير صحيح. نعم، نحن نحتاج إلى وسائط في الهدى وفي الرسالة وفي الإعانة على طاعة الله، حيث يقول صاحب الميزان في تفسير قوله تعالى: )وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ(([468])، ليست الوسيلة الوساطة، بل الوسيلة هنا هي الهداية. قال:"وحقيقية الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحرِّي مكارم الشريعة، وهي كالقربة".
اللجوء إلى الله تعالى:
ونلاحظ أن الإمام زين العابدين(ع) في كل أدعيته كان يدعو الله وحده، يقول(ع): ((فأنت يا مولاي دون كل مسؤول موضع مسألتي، ودون كل مطلوب إليه وليُّ حاجتي، أنت المخصوص قبل كل مدعوٍّ بدعوتي))([469]). ويقول الإمام(ع): ((لم أرَ مثل التقدم في الدعاء، فإن العبد ليس يحضره الإجابة في كل وقت)).
إن الإمام(ع)، كما يذكر المفيد في (الإرشاد)، كان عندما تصادفه مشكلة يلجأ إلى الله. ومما يذكر، أنه كان(ع) يعيش في المدينة، وقد جاء مسلم بن عقبة والياً إليها، وكان يعرف بين الناس بشدّة بغضه لأهل البيت(ع)، فقالوا هذا لا يريد إلا علي بن الحسين، يعني يريد أن يقتل الإمام أو يضيق عليه. الإمام في هذا المجال، كما تقول الرواية، كان مما حُفِظَ عنه من الدعاء - كما يذكر المفيد - حين بلغه توجّه مسلم بن عقبة إلى المدينة - دعا الله بقوله: ((ربِّ كم من نعمة أنعمت بها عليّ قلَّ لك عندي شكري)) والإمام لا يتحدث بلسانه، وهو المعصوم، بل بلسان الإنسان الذي ينعم الله عليه ((وكم من بلية ابتليتني بها فقلّ لك عندها صبري، فيا من قلَّ عند نعمته شكري فلم يحرمني ولم يؤاخذني بذلك، وقلّ عند بلائه صبري فلم يخذلني، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً، ويا ذا النعماء التي لا تحصى عدداً، صلِّ على محمَّد وآل محمد، وادفع عني شرّه، فإني أدرأ بك في نحره، وأستعيذ بك من شرّه)) ، فلما قدم إلى المدينة أرسل إلى علي بن الحسين، فأتاه، فلما صار إليه قرّبه وأكرمه، فقال له أوصاني أمير المؤمنين ببّرك وتمييزك من غيرك فجزاه خيراً، قال: اسرجوا له بغلتي تكريماً، وقال له انصرف إلى أهلك، إني أرى قد أفزعناهم أتعبناك بمشيك إلينا ولو كان بأيدينا ما نقوى به على صلتك بقدر حقك لوصلناك، فقال له علي بن الحسين(ع): ما أعذرني للأمير، وركب. فقال لجلسائه: ((هذا الخير الذي لا شر فيه مع موضعه من رسول الله ومكانه)).
وهكذا كان للإمام(ع) طريقة مع خصومه، كان إذا سمع أن شخصاً منحرفاً يتحدث الناس عن انحرافه، وقد تكون الظروف لا تسمح أن يدخل معه في حوار وفي جدال، عندها ينصرف إلى الدعاء ويضمِّن الدعاء الردَّ على هذا الإنسان، وهذه من أروع الأساليب التي يمكن للإنسان أن يمارسها في حالة الدعوة وتصحيح الانحراف في الموقع الذي لا يسمح له الظرف أن يدخل في جدال مع الآخرين، حتى أنه يرفع صوته في الدعاء ليسمعه هذا ويسمعه الناس فيعيشون في هذا الجو.
يقول الراوي إن علي بن الحسين(ع) ((كان في مسجد رسول الله(ص) ذات يوم، إذ سمع قوماً يشبِّهون الله بخلقه))، يعني يقولون إن الله عنده جسد وله يدان الخ.. ((ففزع لذلك)) والفزع هنا الغضب ((وارتاع له ونهض، حتى أتى قبر رسول الله(ص)، فوقف عنده ورفع صوته يناجي ربه، فقال في مناجاته له: إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ هيئته)) يعني لم تظهر على أساس الهيئة والشكل، ((فجهلوك وقدروك بالتقدير على غير ما به أنت)) أي شبّهوك ((وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء، إلهي ولم يدركوك وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك)). لو أنهم أرادوا الدليل عليك لرأوها بالنعم ((لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة أن يتناولوك بل سووك بخلقك)) المناولة أن تناول ذاته بغير موقعها وما إلى ذلك ((فمن ثم لم يعرفوك واتخذوا بعض آياتك رباً)) اتخذوا الشمس رباً والقمر رباً ((فبذلك وصفوك، فتعاليت يا إلهي عما به المشبهون نعتوك)).
زين العابدين(ع) بعيون الصادق(ع):
ثم ننطلق إلى وصف الإمام الصادق(ع) لعلي بن الحسين(ع) من خلال وصفه للإمام علي بن أبي طالب(ع)، فقد كان الإمام الصادق(ع) يربط هذه القمة العبادية، من خلال المقارنة بين الإمام علي(ع) وبين الإمام زين العابدين(ع). والإمام هو أعرف الناس بهما. فقد روي عن سعيد بن كلثوم قال: كنت عند جعفر بن محمد الصادق(ع)، فذكر أمير المؤمنين، فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثم قال: ((والله ما أكل علي بن أبي طالب(ع) حراماً قطّ حتى مضى لسبيله)). وهذا يمثل القيمة الإسلامية لعلي(ع) بأنه لم يأكل حراماً قطّ حتى مضى لسبيله، سواء في حال خلافته أو غيرها.. ((وما عرض له أمران قطّ هما لله رضا إلا أخذ بأشدّهما عليه في دينه)). كان يريد أن يتعب نفسه في مرضاة الله، وإن كان له مندوحة في أمر آخر فيه مرضاة الله، ((وما نزلت برسول الله نازلة قط)) أي على مستوى علاقة رسول الله(ص) به وعلاقته برسول الله(ص)، واعتماد رسول الله(ص) عليه في الشدائد وكل الصحابة حوله، ولم يعتمد على غيره ((إلاّ دعاه ثقة به، وما أطاق عمل رسول الله من هذه الأمة غيره))، بحيث أنه كان يسير على خطِّ رسول الله في كل عمله، مع أن رسول الله يأخذ نفسه بأشدِّ الحالات مما يتحرك في مسؤوليته ورغبته في رضا الله سبحانه، ((وإن كان ليعمل عمل رجل كأن وجهه بين الجنة والنار))، بحيث كان يعيش الإحساس بالجنة كمن قد رآها، وكان يعيش الإحساس بالنار كمن قد رآها، ((يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه))، ((ولقد أعتق من ماله ألف مملوك)) كان محرراً للعبيد ((في طلب وجه الله والنجاة من النار، مما كدّ بيديه)) أي لا يأخذ ذلك من الحقوق الشرعية، وهي بين يديه. وكان الإمام(ع) من العمال، إذ كان يعمل بالزراعة، وكان يؤجر نفسه للناس من أجل أن يعيش مما كدّ بيده، ((ومما رشح به جبينه)) يعني أنه عاش العرق في العمل ((وإن كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة، وما كان لباسه إلا الكرابيس، إذا فضل شيء عن يده من كمه دعا بالجلم فقصَّه)) يعطيه إلى إنسان آخر ((وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحدٌ أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين(ع) ، ولقد دخل أبو جعفر)) الباقر(ع) ((فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرَّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة. فقال أبو جعفر(ع)، فلم أملك حين رأيته في تلك الحال من البكاء، فبكيت رحمةً له، وإذا هو يفكر فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي، فقال: يا بني، أعطني تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب، فأعطيته إياها. فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوى على عبادة علي(ع) ))، فعرف منها مستوى عبادة أمير المؤمنين(ع).
أيضاً نستوحي من عبادة علي(ع) في هذا المستوى من الرفعة، ومن علي بن الحسين(ع) في خط عبادته، أن العبادة لم تشغلهما عن مسؤولياتهما، فنحن نعرف علياً(ع) بطل الحروب وبطل العلم، وبطل الإدارة، وبطل السياسة، وبطل الحركة في الواقع. كان علي(ع) يعيش ذلك كله، وكان يعيش مع الله في كل حالاته التي ينقطع فيها إلى الله، ولهذا نعرف أن القيمة الإنسانية يكون الإنسان فيها قريباً من الله، وليست في أن يعزل نفسه عن واقع الحياة لينعزل في ابتهالاته ودعائه وصلاته ويكتفي بذلك. لأن ذلك لا يختزن القيمة الإسلامية، فربما عندنا بعض العقلية الموجودة في مقام تعظيم الشخص تقول إن فلاناً ليس عنده إلا سجادته ومسبحته ومصحفه، سواءً خربت الدنيا أو عمرت، فهو لا يعتني بأيِّ شيء سواهما. فالإنسان متعدَّد المسؤولية، وكل طاقاتنا هي مسؤوليتنا، العلم الذي عندنا هو مسؤوليتنا وإننا نتصدق عندما نبذله للناس من موقع المسؤولية. وقد قال رسول الله(ص): ((إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه)) فلا ينتظر أن يأتي الناس إليه ((ومن لم يفعل فعليه لعنة الله)) فطاقتنا مسؤوليتنا في كل حياة الناس. إن الله وزع الطاقات في الناس، فطاقاتك ليست ملكك، إنها ملك الأمة والمجتمع، والأمة هي أنا وأنت والآخرون ، فعلم الأمة هو عندي وعندك وعند الآخرين، وقوة الأمة عندي وعندك وعند الآخرين، وهكذا وعي الأمة وسياسة الأمة وحركية الأمة وجهاد الأمة. فعندما أحبس هذا فأنا أسرق حق الأمة، وعندما أستغلها لنفسي وأستغلّ علمي لنفسي وشجاعتي لنفسي، فمعنى ذلك أني أسرق الأمة مالها لأني جزء من الأمة، وعلى الجزء أن يعطي الكل شيئاً منه.
هكذا كان رسول الله(ص)، ولذلك كانت حياته متنوعة، وحياة النبي(ص) ليست محصورة في جانب معين، فإنها تتحرك في كل الجوانب، وكذلك الأئمة(ع)، فإنهم كانوا يتحركون في كل الجوانب بقدر ما كانت ظروفهم تسمح لهم بذلك. كانوا في قمة العبادة لله، وكانوا القمة في تعليم الناس وإرشادهم وتوجيههم وملاحقة كل الأوضاع القائمة. لم يكونوا معزولين عن المجتمع. كان علي بن الحسين(ع) إذا توضَّأ اصفرّ لونه. فيقال له ما هذا الذي يغشاك، فيقول أتدرون لمن أتأهب؟ للقيام بين يدي الله.. كان يدخل في الصلاة منذ الوضوء، يعني كان يعيش الحضور لله والاستعداد للقائه، حتى يدخل إلى الصلاة دخول واعٍ هيأ نفسه لله سبحانه وتعالى بما أثار في نفسه من عظمته.
الرقابة الاجتماعية:
وتوجد كلمة للإمام زين العابدين(ع) في طبقات ابن سعد عن علي بن الحسين(ع)، وهي مهمة جداً، وخصوصاً في هذه الأيام: ((التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ لكتاب الله وراء ظهره إلا أن يتقي تقاةً، قال - الراوي - وما تقاته؟ قال: يخاف جباراً عنيداً أن يفرط عليه أو يطغى عليه)). ماذا نفهم من هذه الكلمة؟ الجانب الأول: لماذا التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ لكتاب الله وراء ظهره؟ لأن الله يقول: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ(([470])، ويقول )لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(([471]). إذاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثل الرقابة الاجتماعية التي يراقب فيها المجتمع أفراده من أجل الالتزام بالقيم الروحية والأخلاقية والشرعية وما إلى ذلك. فهذا الإنسان الذي يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رغبة بالراحة، كما يقول البعض (لا أريد أن أوجع رأسي) خشية السب وغير ذلك، بحيث يكون المهم أن يسلم أحدنا ولو سقطت الرسالة، فيكون اتهام الرسالة أهون علينا من اتهامنا، إن هذا الإنسان هو كالنابذ كتاب الله وراء ظهره، فلماذا لا نتعلم من رسول الله(ص)، وقد عرضت عليه العروض للتخلي عن الرسالة، فكانت كلمته الخالدة: ((والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه)). والإمام علي(ع) كان يُشتم على المنابر لقرون، ومع ذلك لم يتخّل عن مسؤوليته ولا الأئمة من بعده.
لذا على صاحب القضية أن يعيش لحسابها وأن يعيش لرسالته، وعليه أن يتحمّل الأذى سبّاً وشتماً واتهاماً، إن الذين وقفوا أمام الرساليين عاشوا مدة في دائرة الضوء ثم طواهم الظلام، وبقي صاحب الرسالة. ولذلك فإن الإمام(ع) بصدد إبراز أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الإسلام ليس مجرد فكر يعيش في العقول، بل كما في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ(([472])، الإسلام حركة في الحياة، يريد لهذه الحركة أن تتحوّل إلى واقع، ويريد لفكره أن يتحوّل إلى واقع، ولعقائده أن تتحول إلى واقع في الحياة، وكذلك أخلاقه وسياسته. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثلان الرقابة الاجتماعية بعد رقابة الدولة، وهذا هو الذي يمكن أن يصلح المجتمع. لذلك يقول الإمام، ((التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره)) لأن الله يقول له: ((ولتكن منكم يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)) و((قوله إلا أن تتقوا تقاة)) يعني الجانب الفردي الشخصي الذي لا يستطيع أن يتماسك فيه الشخص من جهة ضغط الطغيان، أما عندما تكون المسألة مسألة مجتمع، فإن القضية ليست كذلك.
المرحلة العصيبة:
الآن نرى أنّ قمة المنكر تتمثل في الظلم والاستكبار، وقمة الظلم هي في الاحتلال، كأن يحتل شعب بلاد شعب آخر، وقمة المعروف هو العدل الذي أقام الله عليه الرسالات، كما وأنّ قمة العدل هو التحرر من المستكبرين ومن الظالمين ومن المحتلين. لذلك نعتقد أننا نعيش مرحلة لم يمر في التاريخ الإسلامي مثلها، ولا سيما في الصراع مع اليهود الذين هم أشد عداوة للذين آمنوا في كل تاريخ المسلمين، بالرغم من أن المسلمين احتضنوهم. لقد كان اليهود مضطهدين من الغرب وفي أكثر من موقع من مواقع العالم واحتضنهم المسلمون في كل البلاد الإسلامية، كانوا يسيطرون على أسواق المسلمين، ولعلكم تعرفون سوق "الشورجة" في بغداد الذي كان يسيطر عليه اليهود، ولم يتعرّض أحد لهم بسوء، ولكن الجماعة ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
أما الآن ربما تكون المسألة الفلسطينية في آخر مرحلة من مراحل الصراع مع اليهود. لذلك المطلوب شعوباً وقيادات وأحزاباً وحكومات أن تظلّ في حالة طوارئ، بحيث نبحث عن كل ما نستطيع أن نقدمه في سبيل دعم هذا الشعب الذي يواجه عملية الإبادة، لأن الأخبار تتحدث أنهم عندما عجزوا عن الدخول إلى المخيمات في "جنين" وغيرها، فإنهم بدأوا يقصفونها بالطائرات وبالجرافات، بحيث يهدمون البيوت على رؤوس أهلها، وسمعت اليوم ضابطاً إسرائيلياً يتحدث عندما سئل أنكم تقتلون أطفالاً، يقول هؤلاء الأطفال ينشأون ليكونوا انتحاريين، ولذلك ليست هناك مشكلة في قتلهم وأهلهم. ونحن نعتقد بأن هذا الشعب المسلم وأطفاله وشيوخه وشبابه أعطوا للإسلام تاريخاً جديداً، وهم يدافعون عن العرب والمسلمين، لأن إسرائيل تمثل خطراً كبيراً جداً على كل مستقبل العرب والمسلمين. هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ((من رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) بالدعم المادي والدعم المعنوي، ولتبق هذه التظاهرات مستمرة. هكذا يريدنا الإسلام، وهكذا يريدنا الإمام زين العابدين(ع). علينا أن نجعل أئمتنا(ع) يعيشون معنا في قضايانا السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، ليشيروا إلى كل الخطوط المضيئة التي نتحرك فيها، حتى لا نقع في الظلام. سلام الله عليه وعلى آبائه وعلى أبنائه. والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة السابعة عشرة 30 محرم 1422ه - 13 / نيسان /2002م
ظاهرة الغفلة
* الغفلة هي نوم العقل عن القضايا التي تتصل بوظيفة التخطيط للإنسان فيما يفعله ويتركه *
غفلة العقل والقلب.
الاستغراق في الألفة.
الغفلة في القرآن.
سبب الغفلة.
الغفلة في السنَّة.
وعي الموت.
طاردات الغفلة.
اليقظة الدائمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
غفلة العقل والقلب:
من أبرز الأمور التي تشكل حالةً من الاستنفار الفكري لدى الإنسان، هي تلك التي تتعلّق بمسألة المصير في الدنيا والآخرة، لأنها تنفتح على معالجة مسألة الوعي الإنساني للقضايا التي تتصل بكل حركته في الحياة، ولا سيما في علاقته بالله، ومعرفته به، ووعيه لمقام ربه، وكذلك بالنسبة للقضايا التي تتصل بأوضاعه العامة والخاصة؛ على صعيد حاضره في كل ما يتصل بالحاضر، وعلى صعيد مستقبله في كل ما يخطط له للمستقبل، وهو موضوع الغفلة، التي تقابلها كلمة اليقظة.
ونحن نعرف تماماً كم هي نسبة النوم إلى اليقظة، فالإنسان النائم هو إنسان ميت يتنفس، أما الإنسان اليقظ فهو حيّ تضج فيه الحياة، فتصنع وعياً له ولمن حوله. وكذلك الغفلة، فهي نوم العقل عن القضايا التي تتصل بوظيفة التخطيط للإنسان في ما يفعله ويتركه، وفي ما ينفتح عليه أو ينغلق عنه، لأن للعقل نوماً ويقظة، فعندما يتجمَّد العقل فمعنى هذا أنَّه قد دخل في دائرة النوم، فتصبح الغفلة هي حالة الإنسان، لأن جمود العقل يعني أن الإنسان يتحرك في الحياة كما لو أنه يتحرك في ظلام لا يدرك في أي دائرة هو ومع من يتحرك، بينما يقظة العقل تمثل حركيته ونشاطه في أن يفكر بكل ما يتصل بحياة الإنسان الخاصة والعامة، وبحاضره ومستقبله، وبعلاقاته ومواقفه وانتمائه.
وهكذا نلاحظ أن الغفلة تعني موت القلب، والقلب بحسب المصطلح في العرف العام، هو موطن العاطفة من حب وبغض. وعندما يكون العقل في غفلة عن العناصر الحيوية التي يرتكز عليها، فمعنى ذلك أن العقل يعيش في موت شعوري وموت عاطفي، لأن الحب الناتج عنه لا يكون له أساس، وكذلك البغض، فالحب يزحف إلى القلب من خلال البيئة دون أن يعرف لماذا؟ وعلى أي أساس يحب؟ والبغض يزحف إلى القلب من خلال البيئة دون أن يعرف لماذا يبغض. وربما لو رجع كل واحد منا إلى نفسه، لرأى نفسه تبغض إنساناً وتحب آخر، تبغض اتجاهاً وتحب اتجاهاً آخر، من دون أن تعرف على أي أساسٍ كان هذا؟ وعلى أي أساس كان ذاك؟ ربّما لأن أبويه أوحيا إليه ذلك، أو لأن رفاقه أو المجتمع الذي يعيش فيه خلق في نفسه هذا الشعور أو ذاك. ومعنى ذلك أن القلب لم يختر حبّه ولم يختر بغضه، بل زحف إليه الحبُّ والبغض تماماً كما تزحف الأشياء إلى النائم، فتفرض نفسها عليه دون أن يعرف كيف زحفت إليه. العاطفة هنا لم تأتِ من عمق الداخل، وإنما جاءت من الخارج، فهي ليست عاطفتك، بل عاطفة الآخرين المفروضة في حركة الحب والبغض.
وهكذا عندما يغفل الإنسان عن حياته، فإنه لن يعرف من أين يبدأ؟ وأين سينتهي؟ وكيفية معالجة قضاياه واختيار مواقفه؟ بل إن البيئة والمحيط هم من سيختارون له نقطة البداية ومحور النهاية، ويضعون له الخطط لمعالجة قضاياه، وفي هذه الحال، ما على الغافل إلا السير، وأفضل تمثيل على ذلك ما قاله الشاعر: ولقد أبصرت قدّامي طريقاً فمشيت
من دون أن يدرس هذا الطريق في بدايته ونهايته، فعندما يكون الإنسان غافلاً، فسيصنع الآخرون له فكره وعاطفته وحياته، وهو بذلك يصبح كخشبة في مجرى التيار تتقاذفها الأمواج من مكان إلى آخر.
الاستغراق في الألفة:
ولعل الكثير منَّا يعيشون هذه الغفلة، من خلال الاستغراق في الحس وفي الواقع وفي ما ألفوه. وقد يصعب على الإنسان أن يتجاوز مألوفاته، كما قال المتنبي:
خُلقتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقتُ شيبي موجع القلب باكياً
فهل يعقل أن يبكي الإنسان على رجوعه إلى الشباب؟ هذه الإلفة تجعل الإنسان يألف بيئته ويألف أصحابه والواقع الذي عاشه. وهذه الفكرة صاغها المتنبي بطريقة فلسفية:
إلف هذا الهواء أوقع في الأنفس أن الحمام مرُّ المذاق
يقول إن كل واحد عندما يفكر بالموت فإنه يعتبره مرّ المذاق وكريه المطعم. ما أدراك ذلك؟ فهل عشت الموت حتى تعرف أنه مرّ؟ إنّما هي إلفتك لهذه الحياة جعلتك تشعر بأنّ الموت مرّ، لأنك تفارق ما هو مألوف لك:
والأسى قبل فرقة الروح عجز ..
فإنك قبل أن تفارق جسدك تبكي أن سوف تموت، لماذا
والأسى لا يكون بعد الفراق
إذ بعد ذلك لا يوجد شعور حتى يكون هناك أسى. فنحن ننطلق من خلال ألفتنا للجوّ، هذه الألفة التي تحدَّث الله عنها في ما واجه الأنبياء )إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى اثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(([473]). فهم لم يدخلوا في نهج الآباء عن طريق الحوار الهادف المقنع، إنما ألفوا ما هم عليه وأخذوا به، وغفلوا عن الأمور المضادَّة أو التي قد تعرض على حركتهم فتعارض كل ما هم عليه، وهذا الواقع يحكمه عنوان الغفلة التي تنشأ من ألفة الإنسان لما يحيط به. وهناك الكثير من الناس يخاف أن يتغير ويخاف أن ينتقل من فكر إلى فكر آخر، لأنه يشعر بالغربة فيما إذا فعل ذلك، وهذا ما نلاحظه من خلال حركة المتعصبين، إذ لا تكون العصبية إلاّ شعار الغافلين، لأن الإنسان المتعصب مستغرق في هذا الجو، بحيث يغمض عينيه عن أيِّ فكر آخر وعن أيِّ اتجاه آخر، في ما يعيش الواعي الأفق، فيرى هذا الجانب ويرى الجانب الآخر، ولا ينظر إلى الأمور من زاوية واحدة، وإنما ينظر إلى جميع الزوايا.
الغفلة في القرآن:
وقد شدّد القرآن على مسألة الغفلة، وتحدَّث عنها كونها عنصراً مسؤولاً عن الكفر ومسؤولاً عن الانحراف، كما أن الأحاديث أيضاً حاولت أن تعطي نوعاً من أنواع الوعي الداخلي، لتبعد الإنسان عن الاستغراق في الزوايا الموجودة في حياته، لينطلق إلى الأفق الرحب، فيحاول أن يدرس ما في الحياة، فيدرس خلفياتها ويدرس ما يقبل عليه من خلال الاحتمالات الأخرى. فتعالوا نستهدي بالقرآن والأحاديث فهما يفتحان عقل الإنسان وقلبه على كل ما هو خير ونور، ويقظة من غفلة الجهل، ولعلّ حديث: ((إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا))([474]) يختصر القضية. وقد قال تعالى: ?وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا?، ابتهالاً وخشوعاً )وَخِيفَةً( من الوقوف بين يديه ومن الحساب الدقيق ومما ينتهي إليه من سخط ربه )وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ( فليس من الضروريِّ أن يصرخ الإنسان في الدعاء، بل يكفي الذكر في النفس والتضرع في مناخ هادئ، لأن هذا الجوَّ يفتح القلب على الله، فيدرك موقعه وقربه منه )بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ( أي بالصباح والمساء )وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ(([475]) لأن الغفلة تجعله ينسى ربه ويبتعد عن وعي مقامه وموقفه من ربه، لذلك كان الذكر هو الوسيلة التي تحرِّره من الغفلة.
ونلاحظ أنَّ الإسلام من خلال القرآن والسنّة في منهجه التربوي، جعل وسائل عديدة للخروج من الغفلة، كما هو الأذان والصلاة والذكر، فمثلاً عندما يبدأ الإنسان بأيِّ شيء من الأكل أو الشرب، فإنه يذكر الله، حتى في ممارسة الشهوة الحسية، فإنه عندما يبدأ بأي مشروع يبدأ ب(بسم الله)، لأن كل شيء هو من الله وعلى ارتباط بالله، وعندما تتجلى مواقع حمد الله في نفسه وفي الحياة يقول (الحمد لله)، وعندما يتحسس النعمة يقول (الشكر لله)، وعندما يواجه عظمة الكون يقول (سبحان الله)، وعندما يحاول مواجهة الجبابرة الذين يعطون أنفسهم صفة الآلهة يقول (لا إله إلا الله)، وعندما يشعر بالآخرين الذين يضخِّمون شخصيتهم يقول (الله أكبر) و(سبحان ربي العظيم) و(سبحان ربي الأعلى) وعندما يشعر بالضعف يقول (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وعندما تواجهه مصيبة يقول (إنّا لله وإنّا إليه راجعون)، لأن المنهج التربوي الذي سلكه وفق القرآن والسنة، جعله يذكر الله في كل حالاته. هذا ما نجده في الدعاء الذي يشتمل على ذكر الله وحمد الله وتمجيده في كل الحالات، حتى عندما يكون الإنسان في قضاء الحاجة. وعليه، فالذكر هو من أجل أن يعيش الإنسان حضور الله في نفسه ((خف الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك))([476]) أي على الإنسان أن يحيط يومه بحزام من ذكر الله، فيعيش حالة الرقابة والمحاسبة التي تبعده عن الوقوع في الخطأ.
ثم يتحدث القرآن عن حالات الانحراف العقيديّ، فيقول سبحانه وتعالى: )إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا( لا يفكرون بالآخرة ولا يستعدُّون لها )وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا( كما لو كانت نهاية المطاف )وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ( لأنهم غفلوا عن الآيات التي في أنفسهم وفي الكون، فأغمضوا عيونهم عن النظر إلى آيات الله، وأغمضوا عقولهم وقلوبهم أيضاً عن النظر لآيات الله في أنفسهم، فغفلوا عنها، فلم ينفتحوا على الآخرة، ولم ينفتحوا على لقاء الله سبحانه وتعالى )أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(([477]).
سبب الغفلة:
ويلاحظ أنَّ القرآن الكريم ركَّزَ على سبب الغفلة في قوله: )وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا( وهو الاستغراق في الحياة الدنيا، بحيث يعطي الإنسان كلَّ طموحاته وكل فكره وكل أحلامه للحياة الدنيا. وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى عن نموذج من هذا القبيل ممن يعدُّ من العلماء أو له نصيبٌ من العلم والمعرفة )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا( فتعلَّم )فَانسَلَخَ مِنْهَا( لكنه لم ينفتح على حركيتها في مسؤولياته، ولم يعتبرها الطريق الذي يحدِّد له خطَّ سيره، )فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ( فإنه عندما انسلخ عن آيات الله نسي علمه ونسي ثقافته واستسلم لشهواته وتلقَّفه الشيطان )فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ( فأضلّه )وَلَوْ شِئْنَا( بطريقة المعجزة )لَرَفَعْنَاهُ بِهَا( لأن الإنسان يرتفع عندما ينفتح على آيات الله )وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ( فكان سبب الغفلة هو الرضا بالحياة والاطمئنان لها. وكلمة )أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ( تعني استراح لها وجعل عينيه وكل أحاسيسه للأرض، فلا يرفع عينيه إلى السماء، ولم يرفع عيني وجهه ولا عيني عقله إلى السماء، فأخلد في الأرض، واستولت عليه كل شهوات الأرض )وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ(([478]) فالكلب إن تركته ينبح عليك، وإن تحمل عليه ينبح عليك. وبعض الناس من هذا القبيل، لا يفيد معه الكلام لأنه أغلق قلبه. وما أكثر الناس الذين هم من هذا القبيل، على طريقة جيش بني أمية، عندما كان الإمام الحسين(ع) يعظهم ويتكلم معهم ويقرِّب لهم ويبعد لهم ويحتج عليهم، فكانوا يقولون: ((ما ندري ما تقول يا بن فاطمة، ولكن انزل على حكم الخليفة)) فهم لا يريدون أن يفكروا ولا أن يفهموا، لأنهم أخلدوا إلى الأرض. لماذا سقط عمر بن سعد ودخل في تاريخ السقوط والانحراف؟ لأنه أخلد إلى ولاية الريّ، وغيره مثله، حيث كان همهم ينحصر في المسؤوليات المادية, وقد قال تعالى: )وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ( يوم القيامة )إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ( فلا عمل اليوم، أي يوم القيامة، لأن الدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل )وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ( عن ذلك لا يفكرون بالآخرة، ولذلك لا يفكرون بالله ولا يستعدُّون لذلك ولا يتَّقون الله )وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(([479]) وهنا يبين الله أيضاً أن نسيان الآخرة ناشئ من الغفلة.
ويقول الله تعالى: )وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ( إشارة إلى يوم القيامة )فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا( يعني كالذي يواجه خطراً مرعباً، فإن بصره يبقى شاخصاً فلا تطرف عيونه )يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ(([480]) فإننا ظلمنا أنفسنا بالغفلة، لأنها هي التي جعلتهم ينسون هذا اليوم، وقال الله تعالى: )لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا( أي عن يوم القيامة )فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(([481]) فقد كانت هناك عصبة على عيني عقلك وقلبك، فكشف هذا الغطاء واتضحت الأمور وانكشفت الحقيقة أمام هذا النور الباهر، فأصبح بصرك اليوم حاداً لا يخطئ النظر. ويقول الله تعالى أيضاً: )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ(([482])، ونسيان الله هو نوع من أنواع الغفلة، فعندما ينسى الإنسان ربه ينسى كل ما يقبل عليه في حياته، فيغفل عن النتائج المترتبة على ذلك من جهة انفتاح الشيطان على كل حركيته، وقد قال تعالى: )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ( فكانت النتيجة )فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ(، وهذا الجو الذي تحدَّث عنه القرآن الكريم يربط بين الغفلة ونتائجها وعواقبها المؤلمة.
الغفلة في السنَّة:
وأمَّا في الروايات مما ورد عن رسول الله(ص) والأئمة(ع)، وكلامهم واحد، فقد قال الإمام عليّ(ع) :((احذر منازل الغفلة والجفاء)) يعني بذلك المواقع الاجتماعية التي تمثل أجواء الغفلة، باعتبار أنَّ هذه المنازل وهذه المواقع تستغرق في اللهو والحديث والعبث والشهوات وما إلى ذلك، بحيث لا يكون لله نصيبٌ في كلِّ مواقعها ((وقلة الأعوان على طاعة الله))([483]) يعني احذر المواقع التي ليس فيها من يُعين على طاعة الله، وهذا معناه أن يختار الإنسان موطنه الذي يعيش فيه ممّا يكثر فيه الأعوان على طاعة الله، لأنه إذا قلّ الأعوان على طاعة الله، فعند ذلك قد يستولي على الإنسان الضعف والعجز والمناخ المضادّ، فيستسلم لذلك عندما لا يجد من يساعده على التمرّد عليه والابتعاد عنه ((فيا لها حسرة على كلِّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة)) وهذه الكلمة رائعة، يقول فيها الإمام ? إن الحسرة الكبيرة للإنسان الغافل أن يقف أمام الله فيقول كما في القرآن الكريم: )قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ(([484]) أي أعطيناك خمسين سنة أو ستين سنة وأعطيناك كل الأشياء وأعطيناك عمرك بكل حيوية هذا العمر، فيما أعطيناك من عقل منفتح ومن قلب نابض ومن حياة واسعة، فلماذا لم تستفد من ذلك كله. سيقول لك الله لقد أعطيتك الفرصة تلو الفرصة فلم تستفد منها، ((وأن تؤديه أيامه إلى الشقوة))([485]) يعني بذلك أنه يجعل أيامه التي تمر تؤدي به إلى الشقاء وإلى غضب الله وسخطه ومن ثمَّ إلى النار.
وقال الإمام(ع) وهو يصف المتقي ((يبيت حذراً)) لأنه يخاف أن يكون قد قصَّر في طاعة الله ((ويصبح فرحاً)) وكيف نجمع بين الحذر والفرح ؟ يبيت ((حذراً لما حُذِر من الغفلة))، بحيث يخاف أن تستولي عليه الغفلة، وأن يكون قضى عمره في الغفلة، ((وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة))([486])، لأنه أطاع الله في هذه الليلة والتي قبلها.
ويقول الإمام الصادق(ع): ((إن كان الشيطان عدواًً)) في إشارة إلى قوله تعالى: )إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(([487])، وقوله تعالى:)أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(([488])، فنعرف عداوته لنا وما ينصبه لنا من فخّ، وعندما يعرف الإنسان عدواً يلاحقه ويتابعه ويجري منه مجرى الدم في العروق، ((فالغفلة لماذا؟))([489]) كيف يكون غافلاً؟ لأنه في الحياة الطبيعية، لو يعرف الإنسان أن هناك عدواً يلاحقه في يقظته ومنامه وفي كل حالات عيشه، فهل يعقل أن يستقر؟ ألا تكون عيناه مفتوحتين، ومن تكون عيناه مفتوحتين كيف يغفل عن عدوِّه؟
ويقول الإمام علي ?: ((ضادّوا الغفلة باليقظة))([490]) يعني حاولوا أن تجعلوا للغفلة ضدّاً، وهو اليقظة، مثل ما هي المضادَّة بين النوم واليقظة، ((فأفق أيها السامع)) والإمام هنا يخاطب الناس ويخاطبنا مع الزمن كله ((من سكرتك، واستيقظ من غفلتك، واختصر من عجلتك))([491]) تروَّ وحاول أن تنفتح على أن تركِّز خطواتك ومصيرك لتصل بها إلى النهايات السعيدة. وينادي الإمام ? في ما يشبه الاستغاثة: ((ألا مستيقظ من غفلته قبل نفاد مدته))([492]) قبل أن يأتيك الموت وأنت ماشٍ كل يوم تحمل ورقة من "الروزنامة" وآخر الأمر لا تدري أين المصير. حاول أن تعي، لأنه كما قال الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كدّ الغداة ومرّ العشي
ويقول:
تنفك تسمع ما حييت لهالكٍ حتى تكونه
فالمرء قد يرجو النجاة مؤملاً والموت دونه
ويقول الرسول(ص): ((عجب لغافل وليس بمغفول عنه))([493])، فإن عيبك فيك وبك، لكنك غافل عنه ((وعجب لطالب الدنيا)) الذي يستغرق في الدنيا ((والموت يطلبه)) يركض وراءه ((عجب لضاحك ملء فيه وهو لا يدري أرضي الله عنه أم سخط له))([494]) لا تدري كيف تضحك وقد قال تعالى )فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(([495]). ويقول الإمام علي(ع): ((أوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه))، فلا تغفلوا عن الموت.
وعي الموت:
وليس المراد من هذا الكلام أن نموت قبل أن نموت، ولكن أن نعي الموت، لنعرف كيف ننظم الحياة، وكلما ذكرت الموت وما تقبل عليه بعد الموت، تجعل حياتك في خطِّ المسؤولية وتنظِّم حياتك وفقه، ((وكيف غفلتكم عما ليس يغفلكم))([496])، فالموت لا يغفلكم، فله برنامج مقرر ولابد أن يصل إلى منتهاه. ولا يزال علي(ع) يتحدث، وهو يدخل إلى عمق قلوبنا ليفتحها على خط النجاة أمام الله: ((أولستم ترون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوالٍ شتَّى)) فليستعد كل واحد منا ذكرياته ((فميتٌ يبكى وآخر يعزى وصريعٌ مبتلى)) أي مريض ((وعائد يعود)) يعود المرضى ((وآخر بنفسه يجود)) وهو في حال الاحتضار، ((وطالب للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي)) فمن يمت أبوه يجلس مجلسه ((أطول أعماراً وأبقى آثاراً، ثم ظعنوا عنها بغير زادٍ مبلغ، ولا ظهرٍ قاطع، فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم بفدية)) فقدموا فديةً للبقاء، فقالت لهم الدنيا عيشوا واخلدوا في الأرض ((وهل زوَّدتهم إلا السغب)) أي الجوع ((أفهذه تؤثرون)) على الآخرة، فماذا تأخذون منها؟ ولو فرضنا دفعتم للدنيا كل أملاككم، فهل يكتب لأحدكم الخلد والبقاء؟ ((قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال وحضرتكم كواذب الآمال)) إنها أحلامٌ طويلة سرعان ما تسقط ((فصارت الدنيا أملك لكم من الآخرة))([497]) أعطيتموها كل أنفسكم ولم تعطوا الآخرة شيئاً، والله يقول: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(([498]).
طاردات الغفلة:
ويتحدث رسول الله(ص) مع أبي ذر – كما في الرواية – ((يا أبا ذر هُمَّ بالحسنة)) يعني حاول أن تفكر بالحسنة وأن تفعلها، وإن لم تفعلها فإنَّ التفكير بها كافٍ في هذا الطريق، حتى لو أنك لم تجد الفرصة المناسبة لتحقيق كل ما تفكر به من حسنات، فإن فكرة أن تعي دائماً التوجُّه للحسنة، والتوجّه للعمل الصالح طلباً لما عند الله، يجعلك في يقظة دائمة، لأن اليقظة تنطلق من الفكر. فكِّر في الحسنة، وفكِّر في كل ما يقرّبك إلى الله وإن لم تساعدك الظروف عليه، كي لا تكتب من الغافلين، لأن الغافل أصلاً لا يفكر بالحسنة، لأنه لا يفكِّر بالله ولا يفكر بالآخرة. ويقول الإمام علي(ع) وهو يختصر هذه الفكرة: ((بدوام ذكر الله تجتنب الغفلة))([499]). ويقول الإمام الباقر(ع): ((أيّما مؤمن حافظ على الصلوات المفروضة فصلاّها لوقتها)) بشرطها وشروطها، ولا يقوم بهذه الصلاة بفعل العادة، بل أن تكون الصلاة جولة له. في آفاق الله وفي رحابه، ((فليس هذا من الغافلين))([500]). ويقول الإمام(ع): ((من غفل جهل))([501]) لأن الغفلة تجعل الإنسان لا يفكر ولا يتعلم، بحيث يبتعد عن آفاق الوحي الإلهي، فلا ينفتح عليه ولا على آياته في الكون، ومن الطبيعي أن يكون هذا الإنسان جاهلاً. ويقول(ع) :((من طالت غفلته تعجَّلت هلكته))([502])، أي استمرت غفلته، لأنه سوف يسقط تحت سخط الله، ويقول: ((ومن غلبت عليه الغفلة مات قلبه))، لأن القلب يحيى بذكر الله. ويقول(ع):((دوام الغفلة يعمي البصيرة))، لأن البصيرة هي البصر الداخلي، وقد قال تعالى: )فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(([503]) وإنما يعمى القلب عندما ينسى الإنسان ربه، ويقول الله تعالى: )قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (([504])، وتنسى أي تهمل. وقال علي(ع): ((وكفى بالرجل غفلةً)) أي ما هو مظهر الغفلة ((أن يضيع عمره في ما لا ينجيه))([505]) أي أن يضيع عمره بالأشياء التي لا تكفل له النجاة، وأن يضيع عمره في الدنيا دون أن يفكر في الآخرة. ((وأن يصرف همّه في ما لا يعنيه)) أي في القضايا التي ليست من مسؤولياته. ويقول الإمام(ع): ((وإن للذكر لأهلاً)) أي للذكر من يعرفه ((أخذوه من الدنيا بدلاً)) ذكروا الله كثيراً ((فلم تُشغلهم تجارة ولا بيع)) وقد قال تعالى: )رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ(([506]) و((يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر)) أي ما يزجرهم عن المعصية ((عن محارم الله في أسماع الغافلين))([507]).
اليقظة الدائمة:
هذه هي الصورة التي تحدث بها القرآن وتحدثت بها السنَّة الشريفة حول مسألة الغفلة. وهناك إلى جانب ذلك مما تحدثنا به عن الآخرة، وما نقبل عليه. كذلك لابد لنا أن نكون في يقظة دائمة في ما نواجهه في حياتنا من كل الأوضاع التي تحيط بنا، مما يتصل بمسؤوليتنا بالدار الآخرة، مما نعيشه من وضعٍ اجتماعيّ معين ووضعٍ اجتماعيّ في البيت، سواء العلاقة الأبوية أو العلاقة الزوجية، فإنه يجب أن لا يغفل الإنسان عمَّا يرفع به مستوى العائلة، وعما ينفتح بها على الله، وعما يطيع الله في عائلته، بأن يتحمل كل مسؤولياته لدى عائلته، وكما قال سبحانه وتعالى: )وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا( ويقول تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ(([508])، ويقول )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(([509]). ثم عندما نعيش الواقع الاجتماعي، وهو واقع يضجُّ بالسلبيات وكثير من نقاط الضعف وكثير من المشاكل والأوضاع السيئة، فإن هناك مسؤوليات جساماً )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(([510])، فلا نفرط بهذه المسؤوليات )وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ([511]، فنسقط مع التيار، كما قال ذاك الشاعر:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وكذلك في الوضع السياسي، أن ننتبه إلى أن يكون لدينا وعيٌ اجتماعي وسياسي، بحيث نفهم خلفيات كل الواقع السياسي، وأن لا ننظر إلى الواقع السياسي، سواء كان محلياً أو إقليمياً أو دولياً، من وحي الغفلة والاستغراق بما يدور حولنا. فأمّة لا تخطِّط لما يواجهها من تحديات سوف تسحقها الأقدام.
لذلك علينا أن نملك وعي عيشنا في الدنيا وعيشنا في الآخرة، لأن الله يريد للإنسان أن يكون مفتوح العقل على كل ما يتصل بمسؤوليته وبمصيره في الدنيا والآخرة، وأن يكون مفتوح القلب على كل عواطفه في ما يحب ويبغض، وأن يكون مفتوح الحياة على كل ما يرفع مستواها ويقربها إلى الله ويبتعد بها عن كل خطوات المستكبرين والظالمين. نسأل الله أن يفتح عقولنا وقلوبنا وحياتنا عليه، لنعرفه أكثر، ولنحبه أكثر، ولنخاف معاصينا أكثر، فلعل الله سبحانه وتعالى يرضى عنا )يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ(([512]). والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة الثامنة عشرة 30 محرم 1423ه - 13 / نيسان /2002م
ظاهرة البطالة
* العاطل الذي يأخذ من الحياة ولا يعطيها، ويعيش كلاً على الناس إنسان مذموم عند الله *
الفراغ في نظر الإسلام.
المنهج في معالجة ظاهرة الفراغ.
مظاهر للفراغ من الواقع.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
من الموضوعات الحية التي تتصل بحياة كلِّ واحد منا في بعض مراحل حياته، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، هي مسألة الفراغ، التي تدلّ على خلوّ الإنسان من أيِّ ارتباط عملي أو علمي، وقد تتمثل هذه الحالة في الإنسان العاطل الذي يقضي حياته من دون عمل، وفي الإنسان الذي يعيش الفراغ في بعض الفواصل بين عمل وعمل. فكيف ينظر الإسلام إلى مسالة الفراغ في حياة الإنسان؟وكيف يعالجها من خلال ما ورد من نصوص دينية في هذا المجال؟
الفراغ في نظر الإسلام:
عندما ندرس هذه النصوص، فإننا نجد أن الخطَّ العام لمسألة الفراغ في الصورة الأولى هي صورة العاطل، الذي يعيش الحياة من دون أن يقدِّم لها شيئاً من جهده، فلا يعطيها شيئاً من عقله حتى لو كان له عقل، بل يحتفظ بعقله لنفسه دون أن يحركه في إنتاج فكري ينفع الناس، وهكذا يعطّل جهده عن أن يتحرك من خلال منح الناس نتائجه؛ لأن للجهد ثمرات ومواقع يمكن أن تعطي الناس الشيء الكثير، لا سيما أن الله جعل الجهد الإنساني أمانة عنده، يأخذ منها ما يحتاجه لنفسه، ويعطي الآخرين منها ما يحتاجونه؛ لأن هناك قاعدة إسلامية، وهي أن الإنسان لا يملك الحرية في تحريك طاقاته كيفما يشاء، وليس له أن يجمد طاقاته في الفراغ أو يمنعها عن الناس، لأنَّ الله جعل طاقات الأمة موزَّعة في طاقات الأفراد، فكلُّ شخص منّا جزءٌ من الأمة، وفي طاقة كل واحد منّا جزء من طاقة الأمة، فإذا حرمنا الأمة من طاقاتنا أو أبعدنا أنفسنا عن مصير الأمة، كنّا خائنين للأمانة بكل معنى الكلمة، والله تعالى يقول: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ([513]، لأن الأمانة قد تكون أمانة مادية، وقد تكون أمانة وظيفية، وقد تكون أمانة حركية وعملانية.
فالإنسان العاطل الفارغ الذي يأخذ من الحياة ولا يعطيها، ويأخذ من الناس ولا يعطيهم، ويعيش كلّاًً على الناس، يثقلهم ولا يخفف عنهم، هو إنسان مذموم ومبغوض عند الله سبحانه وتعالى.
فلنقرأ بعض هذه النصوص في البداية عن رسول الله(ص): ((أشدُّ الناس حساباً يوم القيامة، المكفيّ الفارغ))([514])، يعني الذي يملك كفايته من الناس أو مما ورثه ولا يعمل، فهو أشدّ الناس حساباً يوم القيامة. ولماذا هذا الحساب؟؟ لأن الإنسان كما يحاسب على ماله، من أين أخذه وفي ما صرفه، فإنه يحاسب على عمره، كيف حرّكه وكيف فجّر فيه طاقاته، لأن العمر هو رأس مالك الذي يشاركك فيه أهلك ومجتمعك وأمتك، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى سوف يسألك عن عمرك؟ لقد حمّلت عمرك مسؤوليات في حياتك تجاه الناس وتجاه أهلك فكيف صرفته؟ لماذا جعلت عمرك ساكناً وهو يضجُّ بالحركة؟ وقد ورد في الحديث أن الإنسان ((يُسأل يوم القيامة عن أربع؛ عن عمره في ما أفناه، وعن شبابه في ما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه، وفي ما أنفقه..))([515])، فللعمر حساب، والله سيحاسب عليه، لا سيما إذا ترك الإنسان عمره فارغاً من العمل وجعله من دون غنى.
ومما قاله رسول الله(ص) في هذا الجوّ، حسب الرواية: ((إن يكن الشغل مجهدة فاتصال الفراغ مفسدة))([516]). ربما يحب بعض الناس الراحة ويرى أن الشغل متعب، بحيث يجهد فيه جسده إن كان الشغل جسدياً، أو يجهد فيه عقله إن كان الشغل عقلياً، أو يجهد فيه ظروفه إن كان الشغل عاماً، هنا يقول الرسول(ص) إنه إذا كان الشغل جهداً، فإن الإنسان عندما يتعب يملك الراحة، بعد ذلك، إن في الدنيا عندما يعطي جسده قسطاً من الراحة أو في الآخرة عندما يحصل على نتائج هذا الجهد. وبهذا يقول تعالى: )يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(([517])، والكدح يمثل الجهد الإنساني، أما الفراغ فهو مفسدة؛ لأنك عندما تكون بلا شغل وبلا دور وبلا وظيفة، فإن كل خطوات الشيطان تتحرك في خطواتك، لأن غرائزك تحاول أن تملأ فراغك بما لا يمثل سلامة مصيرك، ونحن نعرف أن البطّالين الذين لا تشغلهم مسؤولياتهم، سوف تشغلهم شهواتهم، وسوف يستغلهم الآخرون ممن يبحثون عن البطّالين فيستخدمونهم كأدوات للشر، وقد جاء في قول الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فإن الشباب هو مرحلة يقظة الغرائز وقوة الشهوات، والفراغ يعني أن لا قاعدة للإنسان ولا نظام له في الحياة ولا يدرك مسؤولياته، فهو يتجه إلى اللامسؤولية، والمال أيضاً عندما يلتقي مع الشباب والفراغ فإنه يسقط الإنسان.
وفي الحديث عنه(ص) يقول: ((إن الله يبغض الصحيح الفارغ)) أي الشخص الذي يملك صحة ويستطيع العمل، باعتبار أن ظروفه الصحية تساعده على العمل، ومع ذلك يبقى بطّالاً ((لا في شغل الدنيا ولا في شغل الآخرة))، لا يتحمَّل مسؤولية العمل الذي يبني له حياته في كل مسؤولياته الدنيوية عن نفسه وعن عياله، ولا في شغل الآخرة في ما حمّله الله من مسؤوليات متصلة بالدار الآخرة، حيث يقول تعالى: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا(([518]). وعنه(ص) أيضاً في حديث آخر: ((خلّتان – يعني خصلتان – كثير من الناس فيهما مفتون - يعني مبتلى - الصحة والفراغ))([519]) فالإنسان عندما يرى نفسه صحيحاً فإنه ينسى ربه، وعندما يعيش الفراغ ينسى مسؤولياته.
ويقول الإمام علي(ع) - كما يروى عنه –:((من الفراغ تكون الصبوة)) والصبوة هي تعبير عن حالة الانجذاب الشهواني التي ينطلق فيها الإنسان الفارغ، فتتحرك غرائزه لتملأ له فراغ حسّه، لأنه إذا لم يملأ الفراغ بالعمل فستأتي الغريزة المنحرفة لتملأه بالشهوات.
ويقول(ع): ((اعلم أن الدنيا دار بليّة)) يعني دار امتحان، دار اختبار، دار معاناة، وليست دار استرخاء وراحة؛ لأنه على الإنسان الذي يعيش في الدنيا أن يعي ويعيش مشاكلها وتحدياتها وتعقيداتها ((لم يفرغ صاحبها فيها قط – لا فراغ فيها بالمعنى العميق – لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة))([520])، فقد يتيسر للإنسان أن يعيش الفراغ والاسترخاء والهروب من المسؤوليات في الدنيا، إلا أنه يسقط في نتائجها يوم القيامة، فتقول النفس: )أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(، ألم تكن عندك فرصة )قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ(([521]) و)قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا (([522])، ولعل هذا ما أشار إليه الإمام(ع)، فنحن غالباً لا نفهم إلا بالمادِّيات. تصور أن عندك رأس مال وضيَّعته قبل الموسم أو أثناءه فتوقفت عن العمل والناس تشتغل وتتاجر في الموسم، عندها تأخذك الحسرة، وأي حسرة هي؟؟ إذا كانت حسرة الدنيا في ما تخسره من أرباحها أو من مكاسبها تثقل كل كيانك فكيف هي حسرة الآخرة؟ )يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ(([523]). ويقول الإمام علي(ع)، وهو الذي يغرف من قلب الحقيقة، هذا الإنسان الذي لم يعرفه عصره، ولم نعرفه حتى الآن، وربما عرفه أناس من غيرنا عندما قرأوا فكره، وقرأوا روحه وقرأوا قوة روحانيته وإنسانيته. ومشكلة علي(ع) أن الذين ينتسبون إليه لا ينتسبون إلى فكره، وإنما يعيشون العاطفة معه ولا يعيشون العقل معه، وعلي(ع) العقل وعليٌّ الأفق وعليُّ الرحابة، وكما قال الشاعر:
يا سماء اخشعي ويا أرض قري واشهدي إني ذكرت علياً
يقول(ع) في ما روي عنه: ((ما أحق الإنسان أن يكون له ساعة لا يشغله عنه شاغل)) أي حاول أن تكون لك ساعة تفرغ فيها لنفسك ولربك ولمسؤولياتك، بحيث تملأ هذه الساعة بكل عمق المسؤولية عندك، فلا يشغلك شاغل عنه. اختر كل يوم ساعة فكر، ساعة حساب، ساعة تخطيط، ساعة استشراف للمستقبل، لأن الكثير من الناس يعيشون اللحظة، عمرهم عمر اللحظة، وقد عبّر عنهم ذلك الشاعر:
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
مشكلتنا في هذا الشرق أننا نعيش اللحظة، ونفكر في اللحظة، ونخطط للحظة، وتسقطنا ألف لحظة ولحظة، والقوم يخططون ويفكرون للمستقبل ويخضعون الحاضر في كل مواقعه للمستقبل، لقد تقدموا لأنهم كانوا المستقبليين، وتأخَّرنا لأننا كنا الماضويين، حتى سقط الحاضر بين المستقبل الغبي عندنا والماضي المتخلّف من ورائنا، حتى لم نأخذ من الماضي كل إيجابياته وكل نقاط قوته.
ونقرأ بعد ذلك عن الإمام الكاظم(ع) قوله: ((إن الله يبغض العبد النوّام))([524]) الذي يحبُّ النوم، فهو ينتقل من نوم إلى نوم، لأن الذي يحب نوم الجسد فهو يحب نوم العقل، لأنه عندما ينام اثنتي عشرة ساعة في اليوم أو أكثر، وتكون الإثنتا عشرة ساعة الأخرى هي استعدادٌ لنوم آخر، فهو ينتقل من نوم الجسد إلى نوم العقل ونوم المسؤولية، وقد ورد الحديث: ((الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا))([525]).
ثم نجد كيف أن أئمتنا وفي مقدمتهم إمام الدعاء الإمام زين العابدين(ع)، هذا الإنسان الذي عاش مع الله، وعاش مع الناس من خلال الله، وخطَّط للحياة كلها في دعائه وفي علمه وفي كل حياته، ونحن لا نعرف منه إلا أنه كان بكّاءً، ولا نعرف إلا ما ينقلونه عنه من لسان الحال، ما يشعر بالإشمئزاز عندما سماع هؤلاء الذين ينقلون عن لسان حال الإمام:
أقاد ذليلاً في دمشق كأنني من الروم عبد غاب عنه نصير
فهل هذا معقول؟ إنَّ الإمام(ع) وهو في شدة الألم كان في أعلى مواقف العز، فكيف يصدر عنه هذا الكلام أو حتى يبطنه في داخله، ونحن نقرأ في خطبته التي واجه بها يزيد، وقد رفع الأذان وذكر رسول الله(ص)، قوله(ع): ((يا يزيد، محمد رسول الله جدي أم جدك)) والذل ليس حالة في تصرف الآخرين معك، بل هو أن تعيش السقوط النفسي أمام الاضطهاد، أما عندما تكون قوياً في نفسك، عزيزاً في نفسك، فإن كل ضغوط العالم لا يمكن أن تجعلك ذليلاً. وتلك كلمة الإمام جعفر الصادق(ع)، الذي أعطى نظرية في الحرية، وهي موجودة في كتاب (الكافي) ولا أحد يطَّلع عليها: ((إن الحر حرّ في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكَّت عليه المصائب لم تكسره وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسراً))([526]).
المنهج في معالجة ظاهرة الفراغ:
والإمام زين العابدين(ع)، الذي ملأ كل عصره بالعلم وبالعبادة وبالحركة والتوعية العامة، عندما ندرس أدعيته، نرى أنها تمثل منهجاً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً روحياً من جميع الجهات، ولكن كأني به يقول كما قال جدّه: ((إن ها هنا علماً جماً لو وجدت له حملهّ))([527])، وحتى الآن لم يجد إلا القليل من الحملة الذين يحاولون أن يملأوا العصر بتراث أهل البيت، لا أن يفتشوا عن خرافة هنا وخرافة هناك ليقحموا أهل البيت(ع) في داخلها على أساس أنهم يخدمون أهل البيت(ع)، والإمام زين العابدين(ع) يتحدَّث عن مسألة الفراغ في عدة أدعية، من بين أدعيته: ((واشغل قلوبنا بذكرك عن كلَّ ذكر، وألسنتنا بشكرك عن كل شكر، وجوارحنا بطاعتك عن كلَّ طاعة، فإن قدّرت فإن لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبعه..، ولا تلحقنا فيه سآمة، حتى ينصرف عنا كتّاب السيئات بصحيفة خالية من ذكر سيئاتنا، ويتولى كتّاب الحسنات عنا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا))([528]). هذا منهج في حل مشكلة الفراغ بين شغل وشغل، يقول يا ربنا عندما نعمل وتأتي ساعة الفراغ، اجعل يا رب هذا الفراغ فراغاً واعياً، فراغاً مسؤولاً، فراغاً قريباً إليك، لا نبتعد فيه عنك، لقد دعوناك يا رب، وكأني به في ما استوحيه من كلامه يقول: لقد دعوناك يا ربنا أن تشغل قلوبنا بذكرك عن كل ذكر، وألسنتنا بشكرك عن كل شكر، وجوارحنا بطاعتك عن كل طاعة، لماذا دعوناك؟ لتكون قلوبنا وألسنتنا وأعضاؤنا مشغولة بك، حاضرة لديك، منفتحة عليك، حتى تبقى حياتنا معك، قريبة من رضاك، ولكن يا رب ربما تتخفَّف النفس من العمل الداخلي والخارجي عندما يدركها التعب ويرهقها الجهد، فتعيش بعض الفراغ الذي يريح العقل والقلب والجسد، حتى تعود بعد ذلك أي مرحلة جديدة من العمل، هذا الفراغ الذي يكون راحة بين عملين في خطِّ مسؤوليتنا المادية والروحية، فهو من أجل أن نأخذ قسطاً من الراحة وبعضاً من القوة. وهذا ما قدّرته في تركيبتنا الجسدية، لأنك أردت للجسد أن يرتاح عندما ألقيت علينا النوم ليكون لنا راحة وقوة. وما أطلقته في تشريعك من ترويح القلوب والأجساد، لأن القلوب تملُّ كما تملًُّ الأبدان، ما يجعل الراحة أمراً حيوياً ضرورياً للاستمرار من أجل تجديد النشاط والقوة، ولكن هذا الفراغ طبيعي، يعني الفراغ الذي نعيشه بين شغل وشغل حتى نجدد القوة، هذا طبيعي وهذه نعمة منك علينا، حتى لا نسقط أمام ثقل الجهد، لكن لهذا الفراغ إيحاءاته، لأنه عندما يكون الإنسان بلا شغل تأتيه كل الأوهام والأحلام وكل الأخيلة وكل الوساوس، كما أن له مشاكله التي قد تجعل النفس وجهاً لوجه أمام أفكار السوء التي تقود إلى الانحراف في غياب الشغل الجدي الذي يصرف عنها تلك الأفكار، لأن الخير إذا لم يملأ هذا الفراغ، فإن الشر سوف يأخذ مكانه، فينحرف به إلى الاتجاه الخاطئ، يعني الفراغ إذا لم يملأه الخير فسوف يملأه الشر، وللفراغ ملله وسأمه عندما يتحوَّل بالنفس إلى حالة من الضجر والكسل الذي يؤدي إلى النتائج السلبية، بحيث يبعدها في المستقبل عن الرغبة في العمل، فعندما يعيش الإنسان حالة الكسل يمتدُّ الكسل فيه، كما نلاحظ ذلك في البطّالين الذين اعتادوا على الفراغ، فكانت حياتهم نوماً وكسلاً وضجراً واسترخاءً بعيداً عن روح الجدِّ والمسؤولية، وهذا ما حذّرت منه الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت(ع)، فقد روى ثقة الإسلام الكليني في الكافي بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله جعفر الصادق(ع): ((إن الله عز وجل يبغض كثرة النوَّم وكثرة الفراغ))([529])، بحيث تصير المسألة في مستوى الخطيئة، وروى بسنده عن بشير الدهان قال: سمعت أبا الحسن الكاظم(ع) يقول: ((إن الله يبغض العبد النوام الفارغ))([530])، وروي أيضاً بسنده عن سعد بن أبي خلف أبي الحسن موسى قال(ع): ((قال أبي (جعفر الصادق) لبعض ولده: إياك والضجر والكسل، فإنهما يمنعانك حظَّ الدنيا والآخرة))([531])، وقال في كلام آخر ((إيَّاك وخصلتين: الضجر والكسل، فإنك إن ضجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤدِّ حقاً))([532]).
ونستوحي من كلام الإمام زين العابدين(ع)، أننا يا ربنا لا نريد الفراغ استغراقاً في المعصية التي نتحمل مسؤوليتها غداً بين يديك، ولا سأماً ومللاً يفسد وعينا للخط المسؤول الجادّ في حياتنا، بل نريده انطلاقة تأمل وتخفف من الجهد، واسترخاءً في الراحة، وتجديداً للنشاط، وحافزاً ليوم عمل جديد، فيكون الفراغ مقدمة للعمل، ونافذة على المسؤولية لا بديلاً عنهما، إننا نفكر بذلك يا رب عندما ندعوك، لتكون حياتنا مملوءة بالحسنات خالية من السيئات، لأن ذلك هو الذي يؤكد لنا التوازن في حركة الشخصية الإسلامية في الخط الذي يحمينا من الانحراف ويؤدي بنا إلى الشعور بالأمان في حسن العاقبة. إننا نعلم - يا رب - أنك جعلت لكل واحد منا ملكين كاتبين، يكتب أحدهما حسناتنا ويكتب الآخر سيئاتنا، إننا نريد يا رب أن تكون أوقات أعمالنا في طاعتك، وأوقات فراغنا في رضاك، فلا يرى كتّاب الحسنات منا النتائج التي تملأهم بالسرور عندما يرون صحيفة الحسنات مملوءة بحسناتنا، أما كتّاب السيئات فينصرفون دون أن يكتبوا سيئة واحدة من سيئاتنا، وذلك الفوز العظيم.
ويقول الإمام زين العابدين(ع): ((اللهم صلَّ على محمَّد وآل محمد، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي في ما خلقتني له)). ويقول(ع) في نهاية دعاء (مكارم الأخلاق): ((وارزقني صحة في عبادة، وفراغاً في زهادة))([533])، أي اجعل عندي فراغاً أزهد فيه في الدنيا، ازهد في شهواتها المحرمة، وفي انحرافاتها، وأزهد في كل ما يؤدي إلى سخطك عندما يؤدي إلى معصيتك، كأن الإمام(ع) يقول: أسألك أن تجعل الفراغ العملي الذي قد تحتويه بعض مراحل حياتي، فراغاً لا تستهلكه الشهوات المحرَّمة، ولا تسيطر عليه الأجواء العابثة، ولا تحرِّكه الانحرافات الخاطئة، بل يكون فراغاً يدفع إلى التفكير في خطَّةٍ جديدة لطاعةٍ جديدة، وخطٍ عمليّ متحرك في اتجاه الأهداف الكبيرة، وحركة للراحة النفسية والجسدية التي تأخذ بأسباب اللهو البريء الذي لا يجعل الحياة لهواً كلها، أو بألوان اللذة المحللة التي لا تستغرق الإنسان في أحاسيسها الحلوة حتى يغفل عن واجباته ومسؤولياته لتمتد به الشهوة إلى ما لا يرضى به الله، اجعل فراغي يا رب فراغ زهادة تملك فيه نفسي كل القوة لضبط انفعالاتها الذاتية، وتحديد حركتها العملية، وينطلق فيه العقل ليسيطر على مواقع الإنسان في كل مفردات حياته الخاصة والعامة، وذلك من خلال مفهوم الزهد الذي يختزن في داخله كل القوة الإرادية التي تمنع من الاهتزاز في دائرة الانحراف، والوعي العملي للخطوط المستقيمة والمنحرفة في النتائج الإيجابية والسلبية على مستوى المصير. ويقول الإمام(ع) في دعائه يوم عرفة: ((وأذقني طعم الفراغ لما تحب – أن أفرغ لما تحب ولا أفرغ لما تكره – بسعة من سعتك والاجتهاد في ما يزلف لديك وعندك – بقربي إليك – وأتحفني بتحفة من تحفاتك، واجعل تجارتي رابحة وكرّتي غير خاسرة، وأخفني مقامك))([534]) اجعلني أخاف مقامك لأكون ممن قلت فيه:)وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (([535]).
هذه هي بعض الكلمات المضيئة المشرقة التي تركز الخط وتجعل الإنسان ينطلق في رحلة روحية إلى الله، وهو يحمل فراغه بين يديه، ليطلب من الله أن يوفقه أن يكون فراغ زهادة وطاعة لا تدركه فيه تبعة ولا تلحقه فيه سآمة.
مظاهر للفراغ من الواقع:
من خلال ذلك كله ننزل إلى الواقع، فلابد لنا من أن نحرك مناخ فراغنا في معنى عمرنا، بحيث لا يثقل فراغنا حساب عمرنا بين يدي الله، ويكون عمرنا كما ورد في ذلك الدعاء: ((إذا قيل للمخفّين جوزوا وللمثقلين حطّوا أمَع المخفّين أجوز أم مع المثقلين أحطّ))، فلا يثقل فراغنا عمرنا حتى نحط أمامك يوم الحساب. لذلك إذا أردنا أن نأخذ باللهو البريء أو أن نأخذ باللذة المحللة، علينا أن لا نجعل فراغنا في ساعاته مشكلة لمسؤولياتنا، فإذا استقرأنا الواقع، لوجدنا من بين المظاهر الموجودة أن كثيراً من الناس عندما ينتهي من العمل ويأتي متعباً، يجلس أمام التلفزيون، ومشكلة التلفزيون عندنا متعددة الجوانب، الأمر الأول: اختيار البرنامج الذي ينسجم مع إيمان الشخص ومع دينه وأخلاقيات عائلته على الأقلّ، لأن المشكلة أن الأب لا يستقل وحده بالتلفزيون، وإنما تجتمع إليه العائلة كلها، وربما يكون البرنامج الذي اختاره برنامجاً يفسد أولاده وعائلته، إما يفسدهم جنسياً، أو يفسدهم عندما يكون البرنامج برنامج عنف، فيؤدي بالأولاد إلى أن يكون العنف هو طابع حياتهم في ما يعيشونه في مجتمعاتهم، ونحن نعرف أن الكثيرين من علماء النفس والاجتماع يحمّلون الأفلام مسؤولية كثيرٍ من الانحرافات التي تؤدي إلى الجريمة، كما تؤدي إلى الجنس غير الأخلاقي. فإذاً هناك مسؤولية تجاه نفسه وتجاه عائلته.
والأمر الثاني هو أن بعض الناس يصرف كل وقته داخل المنزل أمام التلفزيون، فهو بذلك يشكل إساءة إلى عائلته ((إن لزوجك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً)). التلفزيون يخلق مشاكل عائلية، فالمرأة تنتظر الزوج أن يأتي من عمله ليجلس إليها، ليحدثها وتحدثه، وليعيش معها، لتشعر أنها تعيش مع زوج ولا تعيش مع مجرد جسد لا يحمل أية حميمية في العلاقة الزوجية. والأمر الثالث أن هذا النوع من الاستغراق في الأفلام والبرامج يجعله عندما يخرج إلى عمله يخرج مجهداً بسبب قلَّة نومه.
وهناك مشاكل أخرى للفراغ وظواهر أخرى له، فهناك بعض الناس ممن يحبون الرياضة ويلاحقون الفرق الرياضية، وقد يكون هؤلاء من المتحمسين، فنراه ينتقل من ملعب رياضي إلى آخر، خصوصاً في أيام العطل، فيما الأولاده ينتظرونه ويتمنون أن يخرج بهم في أيام العطل، ويجلس إليهم ويجلسون معه، وهو مستغرق إلى حد الإدمان في هذا المجال، ما يجعله معزولاً عن أولاده.
ثم توجد حالة أخرى، وهي حالة الألعاب الأخرى كالورق، وهذه مختلف فيها فقهياً، فثمة رأي بالحلية، وهو ما يراه عدد من العلماء، وقد أفتينا بحليته ولكن على طريقة ((روِّحوا القلوب ساعة بعد ساعة))، ولكن بعض الناس يقضي وقته كله باللعب، مما يضيع عليه مسؤوليته تجاه عائلته وعبادته فيصلي في آخر الوقت. وهذا مما لا يختصُّ بلعب الورق فقط، إنما هناك ألعاب كثيرة يفتي العلماء بحلِّيتها إذا لم تكن من آلات القمار. ولكن البعض يتحجَّج بأنه يقلِّد السيد فضل الله والسيد يحلل ذلك. أنا أقول لهم إن اللحم حلال، لكن هل نأكل عشرين رطلاً في اليوم؟! والماء حلال، هل نشرب منه خمسين لتراً؟! فهو حلال ولكن علينا أن نتعاطى مع ذلك بالطريقة العقلائية، وأيضاً بعض الناس يقضي وقت فراغه بالسهر مع أصدقائه طوال الليل، إذاً متى يفرغ لعائلته؟ وأنا من خلال دراستي للمشاكل العائلية – لأن الكثير من النساء يعرضن مشاكلهن عليّ، ليس فقط هنا، بل من جميع أنحاء العالم- أرى أن هذا الوضع ربما يقود المرأة إلى الانحراف، كما أنه عندما ينشغل عن الأولاد أيضاً يقودهم ذلك إلى الانحراف ((فإن قدَّرت لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة)) يسلم به ديننا وتسلم به دنيانا وتسلم به مسؤولياتنا وتسلم به عائلتنا وحياتنا وقضايانا الإسلامية ((لا تدركنا فيه تبعة)) يعني مسؤولية، ((ولا تلحقنا فيه سآمة، حتى ينصرف عنا كتّاب السيئات بصحيفة خالية من ذكر سيئاتنا، ويتولى كتّاب الحسنات عنا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا)) فراغ ليس فيه سيئة، بل في عناصره كل الحسنات.
أيها الأحبة ((اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل))، والله تعالى يقول: )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(([536])، وكذلك يقول )يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا(([537])، وكذلك: )وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(([538]). وكذلك )لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(([539])، و)يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(([540])، لذلك علينا أن يكون لنا شأن يغنينا في الدنيا حتى يغنينا في الآخرة )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(([541]). هذا هو البرنامج، فهل نسير في برنامج الله.؟!. والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة التاسعة عشرة 14 صفر 1423ه - 27 / نيسان /2002م
الرياء (1)
أثره على التوحيد
* على الإنسان في كلّ أفعاله العبادية أن يستحضر الله في عقله وقلبه ليكون هدفه وغايته *
دعوات الأنبياء.
التوحيد المطلق.
ظاهرة الرياء.
الرّياء في القرآن الكريم.
الرياء والنفاق.
الرياء في السنَّة.
انسجام الظاهر والباطن.
عمل المرائي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
دعوات الأنبياء:
انطلقت دعوات الأنبياء من قاعدة واحدة هي قاعدة التوحيد لله، وقد لخّص القرآن هذه القاعدة بقوله تعالى: )إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا(([542]) فأن يكون الله ربّ الجميع، معنى ذلك أن التوحيد هو قاعدة الأديان كافة، والاستقامة هي خط السير والسلوك، حيث أراد الله للإنسان أن يحرز مرتبة القرب منه من خلال ما فرض عليه من عبادات تجعله يعيش معنى القرب الروحي والوجودي من الله، فالإنسان عندما يصلّي أو يصوم، وعندما يحجّ، وفي كل أفعاله العبادية، عليه أن يستحضر الله في عقله وقلبه، ليكون هو الهدف والغاية. وأيضاً عندما ينطلق الإنسان ليعيش في أجواء المسجد، وتحلّق روحه في تلك الآفاق الرحمانية، فذلك يعني أن لا يسجد إلا لله ولا يقترب إلا إليه بالدعاء،، لأن )الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(([543])، إذ ليس مع الله أحد.. وعندما يؤمن برسل الله وبأوليائه، فإن ذلك من خلال أنهم عباد الله المكرمون )لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(([544]). فالإنسان يرتبط بالرسل من خلال الله، ويرتبط بالأئمة والأولياء من خلال الله، فالله هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء.
التوحيد المطلق:
وقد أراد الله للإنسان أن يوحِّده بشكل مباشر أو غير مباشر. أما بالشكل المباشر فهو أن يخلص له العبادة، فلا يعبد غيره، كالذي يعبد الأصنام كما كان يفعل أهل الجاهلية، سواء كانت جاهلية عربية أو غير عربية. أو كالتي تتمثل بعبادة الأشخاص، كما إذا كنت تستغرق في الشخص لتعبده بشكل مباشر، كما كان يفعل مع فرعون وغير فرعون، أو بشكل غير مباشر كما يفعل بعض الناس الذين يستغرقون في الشخص حتى يجدوه كل شيء، بحيث يكون أمره الأمر ونهيه النهي.
وهكذا أراد الله لنا التوحيد في الطاعة، أن نطيعه ولا نطيع غيره، لأن طاعة الرسول مرتبطة بطاعة الله )مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ(([545])، لأنه يتحدث عن الله ويأمر عن الله وينهى عن الله، فلا يأمر من خلال ذاته ولكن من خلال رسالته. فإطاعة الله تعني توحيده. وأراد الله لنا أن نوحّده في الحب، فلا نحب أحداً مع الله، وإذا أحببنا الناس فإننا نحبهم من خلال الله، فالله سبحانه يقول:)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ(([546])، يعني لا يحبون أحداً كحب الله، وإنما يحبون الآخرين بقدر ارتباطهم بالله. ولهذا فنحن نحب أنبياء الله وأولياءه، لأن الله يحبهم ولأنهم يحبون الله، كما جاء في كلمة النبي(ص) عندما أراد أن يقدِّم عليّاً في خيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله))([547]). وتلك هي عظمة علي(ع)، أنه عاش الحب لله ولرسوله بما لم يصل إليه أحد بعد رسول الله(ص)، كما أحبه الله ورسوله، لأنه الإنسان الذي كانت كل حياته لله ولرسوله.
وهكذا أراد الله لنا أن نوحِّده في الكلمة، وإن لم نقصد بالكلمة شركاً، لأن الكلمة إذا كانت توحي بالشرك ولو ظاهراً فهي مرفوضة. وقد ورد الحديث عن الإمام الصادق(ع) في تفسير قوله تعالى:)وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(([548])، حيث فسّر ذلك بعد سؤال وجواب: أن يقول أحدهم لشخص (لولا أنت لهلكت) كما لو قال المريض لطبيبه لولاك لهلكت، أو لولا فلان لتعرضت حياتي للدمار، وهذا يعني أن يجعل الشخص الآخر هو العلّة والسبب من الناحية الشكلية وليس الواقعية، أي لا يوجد أحد يقصد بقوله (لولا أنت) بمعنى أن يجعله في قبال الله، لكن الكلمة بلغت الدقة بحيث إنه لابد أن تكون الكلمة خالصة ولا توحي بالشرك. قال _ أي السائل - كيف أقول؟، قال: تقول (لولا أن منَّ الله بك عليَّ لهلكت)، بحيث تعتبر أن ما قام به هذا الإنسان إنما هو منّة من الله عليك، باعتبار أن الله ألهمه، وأن الله سخَّره، وأن الله حوّل قلبه إليك.
ظاهرة الرياء
ومن هنا ندخل في موضوعنا الذي حاولنا أن نحيط به، وهو موضوع الرياء،وهو أن يعمل الإنسان كي يراه الناس، كأن يصلي من أجل أن يقول عنه الناس بأنه مؤمن، أو يتظاهر بالخشوع في الصلاة من أجل لفت النظر إليه بينما هو لا يعيش هذا الخشوع في عمق نفسه، وكما لو تظاهر بالزهد ولبس لباس الزهاد وأكل مأكلهم، وكل هذا من أجل أن يرتفع بعمله أمام الناس، أو كمن ينفق المال الكثير من أجل أن يقال عنه المحسن الكبير: وهكذا، فالرياء يعني أن يظهر الإنسان بمظهرٍ لا ينسجم مع باطنه ومع منطلقاته، بحيث يقصد في عبادته ومواقفه وتصرفاته ما يراه الناس حسناً وجميلاً. وقد تحدث القرآن الكريم عن بعض هذه النماذج، وتحدثت السّنة في أحاديث النبي(ص) والأئمة(ع) عن ذلك. وأحاديثهم(ع) حديثه، لأنهم خلفاؤه وأوصياؤه، وهم الحاملون لكل رسالته والمعصومون في أداء هذه الرسالة. فلننطلق مع كتاب الله وسنَّة رسوله، لنجد كيف تحدث القرآن الكريم عن الرياء وعن المرائين؟ وكيف تحدثت السنة عن ذلك؟
الرّياء في القرآن الكريم
نبدأ في القرآن الكريم، حيث يقول الله سبحانه: )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ(([549])، أي كانت مسيرتهم وحركتهم ونشاطهم عملية استعراضية يتمثل فيها البطر فيما يوحي به الخيلاء، وليستعرضوا أنفسهم للناس ليكبروا في عيونهم، من دون أن يكون هناك أية قاعدة فكرية أو روحية تحكم حركتهم في الحياة، بل إنهم كانوا يصدّون عن سبيل الله ويستعملون ما هم فيه من مواقع اجتماعية وغير اجتماعية ليقفوا كحاجز بين الناس وبين الانطلاق إلى سبيل الله )وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( وسيعاملهم بما يستحقون.
ثم يحدثنا الله سبحانه عن نماذج أخرى، هي نماذج الذين ينفقون أموالهم، لا من خلال إيمانهم بقيمة الإحسان أو من خلال تفاعلهم مع حاجات الناس ومع آلام الناس، ولكن من أجل أن يمدحهم الناس من خلال ما يقدمونه وينفقونه، وليصلوا من خلال ذلك إلى أغراضهم )وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ(([550])، ولذلك فهم لا يفكرون في إنفاقهم برضا الله عنهم، وبأن الله يحب الإنفاق ويحبُّ المنفقين، ولا يفكرون باليوم الآخر الذي يعطي الله سبحانه وتعالى فيه المنفقين والمتصدقين ثواباً وأجراً عظيماً )وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا( يعني أن هؤلاء الذين لا ينطلقون من قاعدة إيمانية، ولا من قيمة روحية أو أخلاقية في إنفاقهم، وإنما يحركون الإنفاق باعتباره وسيلة من وسائل الاتّجار، فإنهم سيقترنون بالشيطان. والتجارة على قسمين: فهناك من يبذل مالاً حتى يحصل على مال في مقابله، وهناك من يبذل المال حتى يحصل على الجاه في مقابله، وفي كلتا الحالتين هناك تجارة، لأن الجاه قد ينتج مالاً أو ينتج أكثر من ذلك، فالإنسان الذي لا يعيش القيمة الروحية للإنفاق هو الذي اتبع الشيطان فأصبح الشيطان قريناً له. ومن الطبيعي أن من كان الشيطان قريناً له فإنه يُرديه ويجره إلى عذاب السعير )إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(([551]).
ثم يبين الله أنه ما كان ضرّ هؤلاء لو فتحوا عقولهم على الله وفتحوا قلوبهم على تقوى الله، وحركوا طاقاتهم في سبيل الله )وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ(([552])، لأجل الله، ومن خلال حركة الإيمان التي تقود الإنسان إلى الإحسان. )وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا( لأن الله )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(([553]).
الرياء والنفاق:
ثم يحدثنا الله سبحانه وتعالى عن الرياء في مظهر المنافقين، حيث كثُر المنافقون في زمن النبي(ص)، فعطَّلوا الكثير من خطواته، وأربكوا ساحات حربه وسلمه، كما تآمروا مع أعداء الإسلام من اليهود ومع المشركين ضد الإسلام وضد رسول الإسلام وأهل الإسلام. هؤلاء الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، كما تحدث الله عنهم )وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(([554])، يقول تعالى:)إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ(([555])، ولم يقل يخدعون الله، لأنهم يتصرفون تصرف المخادع، لأن الله لا يُخدع، فهو المطَّلع على كل ضمائرهم والمهيمن على الأمر كله )وَهُوَ خَادِعُهُمْ(، لأن الله يستدرجهم من خلال ذلك، ويملي لهم ويفسح لهم في المجال )إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا(([556]). وهكذا، فهم يتصوَّرون أن الله راضٍ عنهم، وأنهم سينطلقون إلى مواقع رضاه، وأن المسلمين يتحركون ثقةً بهم، ولكن القضية لم تكن كذلك. )وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ(. وهنا محل الشاهد، أي أنهم يصلّون لا لأنهم يؤمنون بالصلاة، ولا لأنهم يعبدون الله في الصلاة، ولكن ليراهم الناس وهم يصلّون، ويعتقدوا بأنهم مسلمون وأنهم مؤمنون )وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا( لأنهم لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى )مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ(،لأن الإنسان الذي يتحرك في ظاهره في اتجاه، ويكون باطنه في اتجاه فهو لا يستقر على قاعدة ولا يتحرك في خط مستقيم، بل يظل يعيش الازدواجية بين المؤمنين والكافرين من خلال هذه الازدواجية بين ظاهره وباطنه )وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا(([557])، ونشير هنا إلى أن الضلال لا يكون من الله، وإنما يعني أنه ابتعد عن طريق الهدى فتركه الله لنفسه فضلّ، كالذي ترشده إلى الطريق، ولا يطيعك، فإنك تقول له خذ حريتك، ولما كان لا يعرف الطريق فإنه يبقى تائهاً. وهذا هو المراد من كل آية من هذا القبيل، كقوله تعالى:)فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ(([558]) و )وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ( إذ ليس المقصود أن الله يفرض عليه الضلال، بل أن الله يتركه لنفسه بعد أن يبين له الهدى )إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(([559])، وقوله تعالى:)وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(([560])، أي أن الله هداه وأعطاه العقل، وأرسل إليه الرسل، فإذا ترك ما هداه الله إليه ضلّ فالكلام أن الله أضلّنا لأنه تركنا لأنفسنا، وعندما يترك الله الإنسان لنفسه فإنه يضيع.
ويقول تعالى في سورة التين: )فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ( يعني لا يقومون بما تفرضه الصلاة، من روحانية، وساهون عن الصلاة، أي لا يحافظون على أوقاتها. وهو يجمع كل حالات سهو الإنسان عن الصلاة، سواء كان السهو عن أوقاتها وعن شرائطها وأجزائها، أو سهواً عن روحانيتها وعما يراد لها أن تعرج بروح المؤمن إلى الله تعالى وأن تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر. )الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ( يعني يصلون وينفتحون ويتحركون في أمورهم ليراهم الناس )وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (([561]) بمعنى أنهم لا ينفقون في سبيل الله. وهذا ما تحدث به القرآن الكريم عن الرياء من خلال النماذج التي قدمها لنا، مثل نموذج الاستعراضيين، ونموذج المنفقين لأموالهم رياءً، ونموذج المنافقين، ونموذج المصلّين الذين يراءون في صلاتهم.
الرياء في السنَّة:
وقد ورد الحديث عن الرياء في السنّة في أوجه متعددة. فعن رسول الله(ص) أنه قال: ((يا أبا ذر، اتق الله ولا تُرِ الناس أنك تخشى الله فيكرموك وقلبك فاجر))([562]) يعني لا تظهر أمام الناس بمظهر الذي يخشى الله ليكرمك الناس على أساس مظهرك الذي قد يوحي بأنك تخشى الله حقيقة ولكن قلبك فاجر لا يخشى الله، بل يتحرك من أجل أن يحصل من خلال إكرام الناس له على نتائج مادية أو ما إلى ذلك.
وفي حديث الإمام علي(ع): ((ما أقبح بالإنسان)) وما أشد هذه الصفة أو الخصلة التي هي من أقبح الخصال ((باطناً عليلاً وظاهراً جميلاً)) يعني أن يكون الباطن فيما يخطط له العقل أو فيما ينبض به القلب أو فيما تتحرك به المشاعر والأحاسيس، ليكون الواقع هو القبح كله، فالباطل في العقل، والحقد في القلب، والعداوة والبغضاء وسوء النية في المشاعر، بينما الظاهر ظاهر ينطق بالحق ويتحدث عن المحبة وينفتح على الصداقة وما إلى ذلك. أي قبح بهذا المستوى، وهو أن يعيش هذه الازدواجية التي تتمثل في أن يكون الداخل وَحْلاً وأن يكون الظاهر ماءً صافياً. فالمسألة هي أن قيمة الظاهر بقدر ما ينسجم مع الداخل، لأن العمق الإنساني هو عمق الداخل، والله لا ينظر إلى وجوهكم ولكن ينظر إلى قلوبكم. وفي دعاء الإمام علي(ع)، وقد بيَّنّا قيمة الأدعية مراراً، سواء أدعية القرآن أو أدعية النبي(ص) أو أدعية الأئمة من أهل البيت(ع)، وقلنا أنها أدعية تخطط للمنهج الأخلاقي والروحي والعقيدي والحركي، وبذلك لا بد أن نخرج من الأجواء التقليدية الروتينية في قراءتنا للدعاء، لأن معظمنا وهو يقرأ الدعاء يريد أن ينتهي منه فيقرأه على سبيل الترداد، لا دعاءً يخرج من العقل والقلب ليرتفع به إلى الله. بينما تمثل الأدعية منهجاً من مناهج التربية، وأغلبها أدعية ثقافية.
انسجام الظاهر والباطن:
فالإمام(ع) يدعو الله، ولاحظوا الأفكار والقيم التي يتحدث عنها: ((اللهم إني أعوذ بك من أن تحسن في لامعة العيون علانيتي)) يعني أن يكون مظهري الخارجي وما أعلنه في كلماتي وفي أفعالي وفي معاملاتي وعلاقاتي برّاقاً، بحيث لو نظر إليها الناس التمعت عيونهم بالتقدير والاحترام. ((وتقبح فيما أبطن لك سريرتي)) أما سريرتي فتمثل القبح كله، ليس فيما يظهر من أمري شيء في الداخل ((محافظاً على رئاء الناس في نفسي)) فأحافظ على ما يراه الناس من نفسي لأقدم لهم نفسي في صورة جميلة مشرقة توحي بالتقدير، ((بجميع ما أنت مطَّلع عليه مني، فابدي للناس حسن ظاهري وأفضي إليك بسوء عملي، تقرباً إلى عبادتك، وتباعداً من مرضاتك)).
إنَّ هذه الفقرات توحي للإنسان من خلال هذا الدعاء أن على الإنسان الذي يؤمن بالله أن يكون رضا الله أقرب إليه من رضا الناس، لأن الله هو مقلِّب القلوب، وهو الذي يرفع الإنسان وهو الذي يضعه، ونحن نقرأ في الدعاء: ((إلهي إن وضعتني فمن ذا الذي يرفعني، وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني))، ونقرأ في القرآن الكريم قبل ذلك، في مخاطبة الله للنبي(ص) قوله تعالى: )لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ(([563])، و)وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ(([564]). وهكذا نقرأ في كلام رسول الله(ص) فيما يروى عنه في الرياء ((يا بن مسعود، إياك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين وأنت فيما بينك وبين ربك مصرٌ على المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى - أي أن النبي(ص) يبين الفكرة التي تحدث إليه بها أنها فكرة يوحي بها القرآن - )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ())([565]) فإذا كان الله يعلم عمق ما يخفيه صدر الإنسان ودقة ما تطرف به عيناه من خيانة، فكيف ينسى ربه وينفتح على الناس.
وفي حديث الإمام علي(ع): ((المرائي ظاهره جميل وباطنه عليل))([566]). وفي الاتجاه نفسه يقول الإمام الباقر(ع): ((من كان ظاهره أرجح من باطنه)) أي كانت درجة الظاهر ترتفع على درجة الباطن ((خفَّ ميزانه))، والمقصود ميزان الأعمال يومَ القيامة.
وهناك أيضاً أحاديث تصور طبيعة الرياء وأحاديث تحذر من الرياء، إذ يقول رسول الله(ص) مما روي عنه: ((ويلٌ للذين يجتلبون الدنيا بالدين)) يعني يريد أن يحصل على الدنيا، بأن يجعل الدين سلعة يتاجر بها للدنيا، هؤلاء الذين يشترون الحياة فإنهم يبيعون الآخرة بالدنيا. وهي من أقذر الحالات، تلك التي يصير فيها الإنسان من تجار الدين، فيحاول أن يحرك دينه باتجاه دنياه ((يلبسون للناس جلود الضأن من لِين ألسنتهم)) والضأن هي المعزى التي جلودها لينة وتمثل السلامة واللين والرقة، فهم يلبسون لباس الحملان ((كلامهم من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب)) من خلال ما يحملون من حقد وسوء نية للناس يقول الله تعالى، وذلك ربما في الحديث القدسي، أو في ما يستوحى من كلام الله: ((أبي يغترون))([567])، وقد قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(([568]) بمعنى هل تتوقع أن الله عندما يعطيك ويفيض عليك ويرزقك فإنك تمسك مفتاح الجنة بيدك؟ الأمر ليس كذلك، بل إن الله يملي لك ذلك. وهذه فتنة لك )وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(([569]). وفي حديث الإمام علي(ع): ((ومنهم – أي الناس – من يطلب الدنيا بعمل الآخرة)) يتحرك بعمله كما لو كان من أهل الآخرة، ولكنه يوظِّف ذلك للدنيا ((ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا)) كما قال قوم موسى لقارون: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(([570]).
ويتم علي(ع) كلامه فيقول: ((قد طامن من شخصه)) في حالة تواضع ((وقارب من خطوه وشمر من ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة)) ليظهر مظهر الأمين ((واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية))([571])، فهو قد اعتبر أن الله ستر عليه، فازداد في معصيته مطمئناً إلى الناس وأنهم لن يكتشفوا أمره. وفي الحديث عن رسول الله(ص) يقول: ((أبغض العباد إلى الله تعالى من كان ثوباه خيراً من عمله)) يعني مظهره، والثوب باعتبار ما يلبسه ((أن تكون ثيابه ثياب الأنبياء وعمله عمل الجبارين))، وعنه(ص) يقول: ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه))([572])، لأن هذا معناه كما هو قول الله تعالى: )قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(([573]).
عمل المرائي
وفي وصف عمل المرائي، يقول رسول الله(ص) كما روي عنه: ((إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به)) أي مرتاحاً، لأنه من ملائكة الخير وهم خيِّرون، فتنشأ عندهم صداقة وعلاقة مع الإنسان الذي يكتبون أعماله، فإذا رأوا عملاً صالحاً فرحوا به، لأن الله لا يطلعهم على ما في قلب الإنسان، ولذا ورد في دعاء كميل: ((وكنت أنت الرقيب عليَّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم))، لأن الملائكة يطَّلعون فقط على ظاهر العمل ولا يطَّلعون على النية. ونحن نعرف ((إنما الأعمال بالنيّات ولكل امرئ وما نوى))([574]) و ((يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة))([575]) ((فإذا صعد بحسناته يقول عزَّ وجلَّ اجعلوها في سجّين إنه ليس إياي أراد بها))([576]) لأن هذا العمل قصد به الناس الآخرين. وعنه(ص) ((وتصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به فيطأون الحجب كلها)) - يصعدون إلى مواقع الحجب - ((حتى يقوموا بين يدي الله سبحانه وتعالى فيشهدوا له بالعمل صالح والدعاء)) يا رب إن هذا الإنسان عمل الصالحات ونحن نشهد عليه، لأن الملائكة هم أحد الشهود يوم القيامة ((فيقول الله تعالى أنتم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إنه لم يردني بهذا العمل، عليه لعنتي))([577]) وهذه هي نتائج العمل الذي أريد به وجوه الناس.
وقد ورد في الأحاديث عن رسول الله(ص) في موقف المرائي يوم القيامة: ((إن المرائي ينادى يوم القيامة يا فاجر)) فأي فجور أكثر من أن يظُهر الإنسان أنه يعمل لله وهو يعمل لغير الله، لأنه يكذب على الله ويحاول أن يخدعه ويخدع الناس أيضاً من خلال ذلك ((يا غادر)) لأنه لابد أن يفي لله سبحانه وتعالى بوعده، وهو بعمله هذا يغدر ((يا مرائي ضل عملك وبطل أجرك، اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له))([578]) لأنه قصد به وجهاً غير الله، فليجازه هذا المقصود. وعن رسول الله(ص): ((يقول الله إني أغنى الشركاء)) بمعنى أنه لا يوجد شريك أفضل مني ((فمن عمل عملاً ثم أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك به دوني))([579]) يريد أن يقول إني أعطي شريكي كل العمل ولا حاجة لي فيه كليةً.
وفي حديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): ((إياك والرياء، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له))([580]) فيقول له اذهب إلى فلان فليس لك عندي شيء. وعن الإمام الصادق(ع) أيضاً: ((ما على عبد إذا عرفه الله أن لا يعرفه الناس))([581]) فإذا أخلص لله والله مطَّلع عليه في السر، فما ضرّه لو فرضنا أنه لم يعرف أحد من الناس، لأن الله سبحانه وتعالى إذا عرف الإنسان فتلك هي المعرفة التي تنال بها السعادة، ولا قيمة لجهل الناس عندئذ ((أنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس، ومن عمل لله كان ثوابه على الله، وإن كل رياء شرك)) لأن من عمل للناس فقد عبدهم، وهذا شرك في العبادة، وإن لم يكن شركاً في العقيدة. وعن رسول الله(ص) ((أن الله لا يقبل عملاً فيه مثقال ذرة من رياء))([582]) يعني لابد أن يكون العمل خالصاً كله لله. وعنه(ص): يا بن مسعود، إذا عملت عملاً من البر وأنت تريد بذلك غير الله فلا ترجُ بذلك منه ثواباً، فإنه يقول )فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا( إذ لا قيمة له. وعن الصادق(ع): ((قال الله عزّ وجل أنا خير شريك، فمن أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلا ما كان خالصاً لي))([583]). وعن الإمام الصادق(ع) ((قال الله عز وجل من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له))([584]). والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة العشرون 21 صفر 1423ه - 4 / أيار /2002م
الرياء (2)
أثره على السلوك الإيماني
* إذا كنت مؤمناً بالله موحداً، فعليك أن تجعل عملك كلّه لله، فلا تعيش الازدواجية بين طبيعة الانتماء وطبيعة الدوافع *
الرياء بجوانبه المتعددة.
الرياء هو الشرك.
عاقبة الرياء.
علامات المرائي.
شيوع الخير.
الرياء والوسواس.
محاربة الرياء.
السرّ والعلانية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الرياء بجوانبه المتعددة:
كان قد تقدّم الكلام أن أساس الرسالات هو التوحيد والإخلاص في العمل، بحيث يتوجّه الإنسان في أعماله إلى الله وحده، فلا ينطلق بعمله ليريد به الناس بعيداً عن اللّه. وهناك عدة عناوين للجانب السلبي في هذا الاتجاه وللجانب الإيجابي منه، مما جاءت به السُنّة في أحاديث الرسول(ص) وأحاديث الأئمة(ع). ففي حديث رسول الله(ص) عندما سأله رجل وقال: ((يا رسول اللّه فيم النجاة؟))([585]) يعني الخلاص، وهو عنوان النجاة عند الله سبحانه وتعالى، قال(ص): ((أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس)) بحيث لا يقصد الإنسان في عباداته غير الله، فلا يقوم بأيّ عمل من الأعمال من أجل أن يعظّم الناس موقعه ويرضوا عنه، لأنه – عندئذٍ – يعبد الناس بعنوان أنه يعبد الله. وعن الإمام الباقر(ع) ((أن رسول الله(ص) سئل فيم النجاة غداً؟)) وهو السؤال ذاته الذي سئل عنه رسول الله(ص)، فكان الجواب أكثر تفصيلاً ((فقال: إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم)) يعني أن لا تعملوا العمل وتحاولون من خلاله أن تخدعوا الله، والله لا يُخدع، ولكنكم تعملون مع الله عمل من يخدع الناس، فتتصرفون مع الله كما تتصرفون مع بعضكم البعض، ((فإنه من يُخادع الله يخدعه)) أي أنّ من يتصرف مع الله ويعمل عمل، المخادع فإن الله يخدعه ((ويخلع منه الإيمان ونفسه يخدع لو يشعر)) لأنه لا يخدع الله وإنما يخدع نفسه، لأنه يُخيّل إلى نفسه أنه أرضى الله بما فعله، والواقع أنه أغضب الله، ((فقيل له: وكيف يخادع الله؟ قال: يعمل بما أمره الله به ثم يريد به غيره)) يصلي، والصلاة مما أمر الله به عباده، ولكنه يصلي ليراه الناس وليعظم عندهم وليتصوروه من المصلين.
الرياء هو الشرك:
وفي الجانب الإيجابي، يؤكد القرآن الكريم أن الطريق الذي يمكن للإنسان من خلاله أن يحصل على رضا الله عندما يلتقي مع الله في يوم القيامة ويقف بين يديه، هو أن يجعل عمله خالصاً لله سبحانه وتعالى ولا يشرك به غيره، بحيث تكون غايته رضا الله ولا يشرك أحداً بعبادة الله ليجعل رضا الناس إلى جانب رضا الله. )فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(([586]). وقد علّق الإمام جعفر الصادق(ع) في تفسير الآية الكريمة فقال: ((الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله)) يفسر هذا بالشرك الذي يريد الله من الإنسان أن يتجنبه وأن يبتعد به عن عبادة ربه، ((إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس)) أنه يصلي صلاة الليل ويصلي النوافل ويخشع في صلاته إلى آخر هذه العناوين التي يعيشها الإنسان في داخل نفسه ((فهذا الذي أشرك بعبادة ربّه)).
وفي رواية أخرى ((جاء رجل إلى رسول الله(ص) فقال: إني أتصدّق وأَصِلُ الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله)) فليس لي غاية إلا رضا الله ((فيذكر ذلك مني واُحْمَدُ عليه فيسرني ذلك وأُعجب به)) يعني عندما صليت لم تكن صلاتي للناس وإنما صليت امتثالاً وتقرباً لله سبحانه وتعالى، ولكن عرف الناس مني ذلك وذكروني به وسرني أن الناس عرفوا ذلك وأُعجبت به ((فسكت رسول الله ولم يقل شيئاً، فنزلت الآية )فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا()) فكأن النبي(ص) أجابه بهذه الآية ليقول له ما دمت قد عملت لله ولم يخطر ببالك أن يذكرك الناس وعندما ذكرت إلى الناس سررت وأعجبت من دون أن يكون هذا الشي هدفاً وغاية لك فلا مشكلة في ذلك، كما عن الإمام الباقر(ع) إذ قال: ((سئل رسول الله(ص) عن قوله تعالى: )فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(، فقال: من صلّى مُراءاة الناس فهو مشرك، ومن عمل عملاً مما أمر الله به مُراءاة الناس فهو مشرك)) فالإشراك هو أن يتوّجه الإنسان إلى الناس في أعماله التي أُمر بها، ويكون رضاهم هو الهدف والغاية، بدل أن يكون الله هو الهدف. وهكذا قال الإمام الصادق(ع) في ما روي عنه في تفسير الآية ((فهذا الشرك شرك رياء)). وعنه(ع) أيضاً ((لما سأله العلاء بن فضيل عن تفسير هذه الآية: )فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّه..( قال: من صلى أو صام أو أعتق أو حجّ يريد محمدة الناس فقد أشرك في عمله، وهو شرك مغفور)) أي عندما يتوب منه.
وهكذا نجد الربط بين مسألة الرياء وبين الشرك في أكثر من حديث في هذا المجال، باعتبار ما ذكر من أن التوحيد هو أن يكون كل عمل أبن آدم لله، وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين(ع): ((اللهمّ إني أخلصت بانقطاعي إليك وأقبلت بكلّي عليك))، بحيث إن الإنسان لا يرى غير الله، فالله هو غاية الغايات في كل عمله، لأن الله سبحانه وتعالى وحده ليس معه أحد، وكل المخلوقات حتى الأنبياء هم عباده، وهم يعظمون بعبادتهم له، كما قال الله سبحانه وتعالى: )وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(([587]) فمع الله ليس هناك أحد في كل الأمور. ويقول الإمام علي(ع): ((اعلموا أن يسير الرياء شرك))، وعن الرسول(ص) ((وقد رآه شداد بن أوس يبكي فسأله عما يبكيه فقال: إني تخوفت على أمتي الشرك، أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولكنهم يراءون بأعمالهم))، وهذا هو الشرك الخفي، لأن الإنسان يرى نفسه موحِّداً في الشكل لكنه في العمق يعيش ذهنية الشرك عندما يطلب رضا الناس ولا يطلب رضا الله. وعنه(ص): ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟، قال: الرياء)). وقد قال الإمام الصادق(ع): ((كل رياء شرك، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس)) لأن الله يقول له: إنك لم تعمل لي فلماذا ترجو وتريد الثواب مني، اذهب لمن عملت له.
عاقبة الرياء:
أما سوء عاقبة أهل الرياء وكيف هي عاقبتهم؟ فقد روي عن رسول الله(ص) ((إن النار وأهلها يَعجّون من أهل الرياء، فقيل: يا رسول الله وكيف تعج النار؟قال: من حر النار التي يعذبون بها)) لأنهم مشركون في صورة موحدين، ومن الطبيعي أنهم يزيدون على المشركين، لأن المشركين يواجهون المسألة بشكل صريح، وأما هؤلاء فإنهم يواجهون المسألة بشكل ملتبس. وعنه(ص) أنه قال: ((ومن قرأ القرآن يريد به السمعة والتماس شيء لقي الله عز وجل ووجهه عظم ليس عليه لحم وزج القرآن في قفاه حتى يدخله النار ويهوي فيها مع من يهوي)). وهكذا روي في بحار الأنوار: ((يأمر الله برجال فيقول لمالك قل للنار لا تحرقي لهم أقداماً فقد كانوا يمشون إلى المساجد، ولا تحرقي لهم أيدياً فقد كانوا يرفعونها إليّ بالدعاء، فيقول مالك يا أشقياء فما كان حالكم، فيقولون كنا نعمل لغير الله فقيل لنا خذوا ثوابكم ممن عملتم له)).
وفي الحديث عن المرائي وكيف يحاسب؟ عن رسول الله(ص) قال: ((أن أول من يدعى يوم القيامة رجل جمع القرآن ورجل قُتل في سبيل الله ورجل كثير المال، فيقول الله عز وجل للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي فيقول: بلى يا ربِّ، فيقول: ما عملت فيما علمت؟ فيقول: يا ربِّ قمت به في آناء الليل وأطراف النهار، فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: إنما أردت أن يقول الناس فلان قارئ فقد قيل ذلك))، بمعنى أنك طلبت أن يتحدث الناس عنك بهذا، وقد قال الناس ذلك، فماذا تريد مني، على طريقة قول الشاعر:
وقصيدة تأتي الملوك غريبة قد قلتها ليقال من ذا قالها
وعن الإمام الصادق(ع): ((يُجاء بعبد يوم القيامة قد صلى فيقول يا ربّ صليت ابتغاء وجهك، فيقال له: بل صليت ليقال ما أحسن صلاة فلان اذهبوا به إلى النار)). وعن النبي(ص): ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد)) أي مات في القتال ((فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال عنك جريء)) يعني شجاع، أي أردت أن تستعرض عضلاتك في الحرب ولم تقاتل لأجل الأهداف الشرعية للحرب بحيث يكون قتالك في سبيل الله ((فقد قيل ذلك، ثم أمر به فأُلقي به على وجهه بالنار)).
علامات المرائي:
أما عن علامات المرائي، فقد روي عن رسول الله(ص) ((أما علامات المرائي فأربعة؛ يحرص في العمل لله إذا كان عنده أحد)) أي أنه إذا كان في مجتمع فإنه يحاول أن يعمل لله، أي عندما يكون هناك أناس يشاهدون عمله، ((ويكسل إذا كان وحده)) أما إذا كان وحده وليس هناك من ينظر إلى عمله فإنه يكسل عن العمل في سبيل الله، لأن الدافع الأول عنده هو أن يمدحه الناس على ذلك، لذا عندما يكون وحده فالدافع عنده مفقود، ((ويحرص في كل أمره على المحمده..)) أي يحرص على أن يحمده الناس ((ويُحسِّن سمته بجهده)) يريد شكله وظاهره. ويقول الإمام علي(ع) في الاتجاه نفسه: ((للمرائي أربع علامات؛ يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أُثني عليه)) يعني أنه يعمل كل ما يمكن للناس أن يمدحوه عليه، فيزيد في هذا العمل حتى يزيد مدح الناس له ((وينقص منه إذا لم يُثن عليه)) أما إذا فرضنا أنه لم يجد هناك تجاوباً وثناءً من الناس على العمل الذي يعمله، فإنه ينقص عمله ولا يتحرك بحماسة نحو زيادة العمل أو إكثاره.
شيوع الخير:
وهناك جانب قد يعتبر رياءً في الشكل ولكنه ليس رياءً، لأن الرياء ـ كما ذكرنا ـ هو أن تكون غاية العمل رضا الناس، أما إذا كانت غاية العمل مرضاة الله، وقد استحسن الناس هذا العمل وذكروه بالخير، فأعجب الإنسان بهذا الذكر والمدح فلا بأس في ذلك ما دامت الغاية هي الله ولا أحد غيره.. ففي حديث عن الإمام الباقر(ع): ((لما سأله زراره... عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك، فقال(ع): لا بأس، ما من أحد إلا ويحب أن يظهر له في الناس الخير)). بمعنى أن الله لا يريد أن يكبت هذه الحالة النفسية التي يحب فيها الإنسان أن يظهر خيره أمام الناس، من دون أن يكون الناس غاية له، ولم يكن صنع ذلك لهم لأنه لم يصنع ذلك ليحمده الناس.
وفي الحديث عن رسول الله(ص) ((وقد قيل له: أرأيت الرجل يعمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن)) يعني البشرى المعجَّلة له في الدنيا أي أن هذا الخير الذي عمله ارتفع إلى الله، والله يثيبه عليه في الدنيا ويثيبه عليه في الآخرة، أما ثوابه في الدنيا فهو أن يظهر هذا الخير للناس ليحمدوه عليه وتبقى الجنة بشراه في الآخرة، والبشرى الأخرى بقوله سبحانه: )بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ(([588]). وعن الإمام الصادق(ع) ((لما سأله عبيد عن الرجل يدخل في الصلاة فيجوِّد صلاته ويحسنها رجاء أن يستجر بعض من يراه إلى هواه؟)) يعني إنما يحسن صلاته حتى إذا رأى الناس صلاته بهذا المستوى من الخشوع والخضوع، اقتدوا به، فهو لم يعمل ليمدحه الناس، ولكن ليعطي النموذج الأكمل والأمثل للصلاة أمام الناس، فقال الإمام الصادق(ع) ((هذا ليس من الرياء))، لأن الرياء أن يكون الناس غايته.
الرياء والوسواس:
وقد ورد أيضاً أن هناك فئة من الناس عندما تقرأ أو تسمع عن الرياء تتحول هذه المسألة عندهم إلى هاجس وإلى وسواس، فيصير أحدهم شاكاً في كل عمل من أعماله هل هو رياء أم لا، فيعطله ذلك عن الانسجام والاستقامة في عمله. يقول رسول الله(ص) في هذه المسالة: ((إذا أتى الشيطان أحدكم وهو في صلاته فقال إنك مراءٍ)) فإن صلاتك كعدمها لأنك مراءٍ، وإذا كنت مرائياً فلا قيمة لصلاتك، فعليك أن لا تبذل جهداً فيما لا منفعة فيه ((فليُطل صلاته)) رغماً على الشيطان، أي يطيل صلاته ويأتي بالمستحبات فيها ((ما لم يفته وقت فريضة. وإذا كان على شيء من أمر الآخرة وجاءه الشيطان)) أي كان يقصد الآخرة ولكن جاءه الشيطان ليوسوس له أنه مراءٍ ((فليمكث ما بدا)) يعني ليطلْ ويتلبث في عمله ((وإذا كان على شيء من أمر الدنيا فليبرح)) بمعنى أنه إذا جاءه الشيطان وكان على أمر الدنيا فإن عليه أن يترك هذا الأمر، لأن الشيطان يريد منه أن يطيل أمر الدنيا، ويريد له أن يقصر أمر الآخرة، فعليه أن يحاصر الشيطان في ذلك.
وعن الإمام علي(ع): ((قلنا: يا رسول الله، الرجل منا يصوم ويصلي فيأتيه الشيطان فيقول إنك مراءٍ، فقال رسول الله(ص) : فليقل أحدكم عن ذلك أعوذ بك)) يعني أن ينفتح على الله ((أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)) يا ربِّ إني مخلص لك في عملي وأنا أصلي لك وأصوم لك، ولا أعلم في نفسي أنني أبتعد عن هذا الخط المستقيم، لذلك فأنا أعلم بأنك تعلم ما في نفسي، وأنني لست مرائياً، أما الأشياء الخفية التي لا أعلمها فأستغفرك لما لا أعلم. وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): ((الإبقاء على العمل أشدّ من العمل)) يعني إذا عملت عملاً فاستمر عليه، إذ ليست المسألة هي أن تبدأ عملك وأن تأتي بالعمل، ولكن إذا كان العمل عملاً صالحاً فعليك أن تجعله طابع حياتك، بحيث إنك تستمر فيه ما دامت الفرصة عندك أن تتحرك به ((قال الراوي: وما الإبقاء على العمل؟ قال: يصلُ الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سراً ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانية)) وربما لها معنى آخر غير ما ذكرناه، وهو أن عملك إذا كان مخلصاً فاستمر في جعله يتحرك في خط الإخلاص. فإذا عملت العمل المخلص ثم تحدثت به للناس، كصلاة الليل مثلاً، فتكتب لك علانية، بمعنى أنه يمحى هذا العمل من دائرة السر التي لها الفضل الكبير، ثم بعد ذلك تكتب علانيته. ((ثم يذكرها)) بعد ذلك أيضاً يكرر عمله ((فتُمحى وتكتب له رياءً)). فعلى الإنسان إذا انطلق بعمله من خط الإخلاص، أن يحافظ على امتداد هذا الإخلاص في نفسه، لأنه إذا ذكر ذلك ثم كرره، فإن هذا يوحي بأن هذا العمل الذي بدأه مخلصاً انتهى به رياءً. ويقول الإمام الصادق(ع): ((من عمل حسنة سراً كتبت له سراً، فإذا أقرَّ بها محيت وكتبت جهراً، فإذا أقرَّ بها ثانياً محيت وكتبت رياءً)).
محاربة الرياء:
وفي مقام محاربة الرياء، وردت الأحاديث أن على الإنسان أن يحاول إخفاء عمله إلا أن تكون هناك مصلحة لإظهاره، وهو تشجيع الناس على عمل الخير. ففي الحديث عن رسول الله(ص): ((أعظم العبادة أجراً أخفاها)) لأن العمل الخفي ليس فيه شيء من الرياء، لأن الإنسان إنما يعمله بينه وبين ربه، ولذلك يرتفع ثوابه باعتبار أنه ابتعد عن الرياء. ويقول الإمام علي(ع): ((من كنوز البر إخفاء العمل والصبر على الرزايا وكتمان المصائب)). ويقول الإمام الرضا(ع): ((المستتر بالحسنة تعدل سبعين حسنة)). وعن الصادق(ع) أنه قال: ((إذا كان يوم القيامة نظر رضوان خازن الجنة إلى قوم لم يمروا به فيقول: من أنتم؟ ومن أين دخلتم؟!)) أنا على الباب، فهل دخلتم من مكان ثانٍ! ((يقولون: إيها عنا، فإنّا قوم عبدنا الله سراً فأدخلنا الجنة سراً)) يعني من الباب الذي يعلمه الله ولا تعلمه أنت.
وفي كتاب (عدة الداعي) :((كان عيسى(ع) يقول للحواريين إذا صام صوماً أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه بالزيت لئلا يرى الناس أنه صائم))، لأن الإنسان عندما يكون شاحب الوجه فقد يغريه أن يظهر للناس ليخبرهم أنه صائم. ولذلك حتى يكبت هذه الحالة في نفسه، يدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه بالزيت حتى لا يرى الناس أنه صائم. ((وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله، وإذا صلى فَلْيُرخِ ستر بابه، فإن الله يُقسِّم الثناء كما يقسم الرزق)) فإن الله يلاحظ خصوصيات العمل.
السرّ والعلانية:
وعن رسول الله(ص) ((السرّ أفضل من العلانية، والعلانية لمن أراد الاقتداء))، يعني أن تعلن عن عملك عندما تريد أن يقتدي الناس بك، وأما إذا كان عملك لنفسك بعيداً عن موضوع الاقتداء، فإن عليك أن تخفي عملك. وقال الإمام الصادق(ع): ((ما كان من الصلاة والصدقة والصوم وأعمال البر كلها تطوعاً فأفضلها ما كان سراً)) يعني إذا كان العمل لتكاليفك ولمسؤوليتك الشخصية فالأفضل أن يكون ذلك سراً. ((وما كان من ذلك واجباً مفروضاً فأفضله أن يعلن به)) ليبين طبيعة العبادة وليقتدي الناس به في ذلك. ويقول الإمام الصادق(ع): ((الرياء مع المنافق في داره عبادة)) لأن الإنسان عندما يصلي ليرى المنافق أنه صلى لا ليتقرب به إلى الله ولكن لكبت نفاقه فهذا من العبادة. ((ومع المؤمن شرك))، أما إذا كنت مع المؤمن، فليست هناك أي حاجة لأن تظهر له عبادتك، فتكون رياءً وشركاً.
وعن الإمام علي(ع) في وصف المؤمن ((لا يعمل شيئاً من الخير رياءً ولا يتركه حياءً)) لأنه قد لا يرغب الناس في بعض أعمال الخير، فيتركه حياءً من الناس، بل إن المؤمن يصدم الواقع في هذا المجال. وعنه(ع) ((لما قيل له: أي الخلق أعمى؟، قال: الذي عمل لغير الله يطلب به الثواب من عند الله عز وجل)) فإنه أعمى، لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يعطي الثواب على عمل عمله الإنسان لغيره. وعن رسول الله(ص): ((إن الله حرَّم الجنة على كل مراءٍ)) وقال الإمام علي(ع): ((كل حسنة لا يراد بها وجه الله فعليها قبح الرياء وثمرتها قبح الجزاء)).
وهكذا أيها الأحبة، نفهم من ذلك حقيقة، وهي أن الله يريد للإنسان أن يكون واقعياً في كل دوافعه وفي كل نواياه، بحيث ينسجم عمله مع إيمانه، فإذا كنت مؤمناً بالله موحداً له، فعليك أن تجعل عملك كله لله سبحانه وتعالى، فلا تعيش الازدواجية بين طبيعة الانتماء وبين طبيعة الدوافع، وهذا منهج من مناهج التربية الإسلامية، وهو أن يكون ظاهر الإنسان وباطنه سواء، سواء كان مع الله أو مع الناس، حتى لا يعيش الإنسان الازدواجية الشخصية فيكون بوجهين وبصورتين. نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم إنه أرحم الراحمين. والحمد لله ربِّ العالمين
المحاضرة الحادية والعشرون 28 صفر 1423ه - 11 / أيار /2002م
في ذكرى وفاة النبي(ص)
الخطاب القرآني (1)
* هو في وجداننا .. لا تحدده ذكرى ولا مناسبة *
أصول الرسالة وحركيتها.
الثقة الذاتية.
اليقين النبوي.
بشرية النبي(ص).
النبي(ص) لا يتبع الأهواء.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونقف –أيها الأحبة – بين يدي رسول الله(ص) في ذكرى وفاته(ص)، وهو في وجداننا الإسلامي لا تحدده ذكرى ولا مناسبة، بل نحن معه في كل صلاة، وفي كل حكم شرعي نلتزمه، في كل موقف إسلامي نواجه فيه كل التحديات باسمه وباسم رسالته وباسم الأفق الأعلى الذي ارتفع إليه ويريدنا أن نرتفع إليه، باسمه عندما انطلق في الرسالة بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً، لنعيش رسالته على امتداد في الزمان والمكان، لأن رسالته هي خاتمة الرسالات )مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ(([589]). لذلك فإننا نحتاج دائماً أن نعيش معه، أن نستوحيه، وأن نتعرف كيف أراد الله له أن يدعو، وكيف دعا؟ وقد خاطبه الله في القرآن بأسلوبين:
الأسلوب الأول: وهو الأسلوب الذي تحدث الله إليه فيه بشكل مباشر في خصوصيته النبوية الشخصية )يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(([590]) إلى غير ذلك مما كان عنوان الخطاب فيه )يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ( أو قوله تعالى:)يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ(([591])، وهكذا في كل الخطابات التي خاطبه بها ليحدد له مسؤولية معينة أو ليحدثه عن صفته وعن موقعه وعن حركة الرسالة.
كما تحدث عنه بصفة الغائب عندما تحدث مع الناس كيف يطيعون الرسول وكيف ينفّذون أوامره وكيف يحكّمونه فيما شجر بينهم كعلامة لإيمانهم )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(([592]) وقوله تعالى: )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ(([593]).
وهناك أسلوب ثانٍ أراد الله فيه من الرسول(ص) أن يقول للناس ما يوحي به إليه، وذلك في الخطابات التي وردت بكلمة )قُلْ(، وهي كثيرة في القرآن الكريم، وكلّها تشتمل على مضامين فكرية وحركية ومنهجية في قضايا الرسالة الحيوية، إن على المستوى العقيدي، أو على مستوى المنهجية الاجتماعية، أو على مستوى الأمور المتصلة بحياة الناس.
أصول الرسالة وحركيتها
وبطريقة خطاب النبي(ص)، ما يوحي بأن الله قد جمع في ما تتضمنه الآيات التي تبدأ بكلمة )قُلْ( أصول الرسالة في حركيتها في واقع الناس. وعلينا أن نتابع هذه الآيات ونحاول أن نتفهمها، لنتعرف ما هي القضايا التي أراد الله لرسوله أن يثيرها من خلال ذلك كله، وهذه المضامين على نموذجين، ففي النموذج الأول، يعتمد فيه أسلوب الإيضاح والبيان لماهية الرسالة، فقد قال الله تعالى: )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا(([594])، وهنا أراد الله للرسول(ص) أن يبين للناس أنه ليس رسولاً محلياً، وليس رسولاً إقليمياً، وليس رسولاً قومياً، بل هو رسول إنساني، أي للإنسان كله، وهذه الآية تردُّ على ما ذكره بعض المستشرقين من أن النبي(ص) عندما بدأ دعوته بدأها محلية )لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا(([595]) ثم عندما توسعت دعوته انفتح على العالم، فلم تكن العالمية في دعوته – حسب هذا الرأي – دعوة في بداية الرسالة، بل كانت دعوة فرضتها التطورات، فعندما رأى الرسول(ص) أن دعوته تجاوزت (أم القرى) وما حولها، فكّر بأن يمدد دعوته إلى أبعد من ذلك.
ولكننا نقرأ هذه المسألة في أكثر من آية، كقوله تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا(([596]) وقوله:)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(([597]). ثم إن طبيعة المسألة تفرض ذلك، فإذا كانت نبوّته خاتمة الرسالات، فلا بد أنه تكون رسالة ربِّ العالمين للعالمين، كرسول عالمي، وإلا كيف يختص الله (أم القرى) ومن حولها، أو كيف يختص الله العرب بالرسالة، في الوقت الذي كان الناس كلهم بحاجة إلى الهداية وإلى الأخذ بالرسالة التي تهديهم. لذلك أعلن )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا( فعليكم أن تستمعوا إليّ، وعليكم أن تنفتحوا علي،ّ وعليكم أن تلتزموا هذه الرسالة، وأريد – والحديث لرسول الله(ص) - في بداية هذا الإعلان للرسالة العالمية، أن أحدثكم عن ربّ العالمين، لتلتقي عندكم عالمية الرسالة بعالمية الربّ الذي أرسل هذه الرسالة وحملها رسوله إليكم جميعاً )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( فهو يملك الكون كله )لا إِلَهَ إِلا هُوَ( لأنه )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا(([598]) وأنتم ترونها خاضعة لنظام متوازن لا أثر فيه للفساد والاختلال )قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(([599])، ويقول تعالى:)إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(([600]) ويقول تعالى:)مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ(([601]) وقوله: )الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ( ، وهو رب الحياة والموت، وهذا هو الذي تعيشونه في كل وجودكم في هذه الحياة، لقد كنتم عدماً فوجدتم وستنتقلون إلى العدم لتنفتحوا على وجود آخر )فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ( فإذا التقيتم برسالة الرسول العالمية والتقيتم بالله الذي له ملك السموات والأرض، الله الواحد الذي يملك الحياة والموت ويملك الوجود كله فإن ذلك يفرض عليكم أن تؤمنوا بذلك )فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ( ، وكلمة (الأمي) قد لا يراد بها – هنا - الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وإن كان القرآن أكد ذلك بقوله تعالى: )وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(([602]) ، ولكن كلمة (الأمي) – هنا – قد تكون بلحاظ نسبته إلى أم القرى، وقد تكون بلحاظ نسبته إلى العرب، وقد كان اليهود يطلقون عليهم كلمة (الأميين) كما في قوله تعالى: )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ(([603]) الذي يؤمن بالله وكلمته، فالنبي يدعوكم لأن تؤمنوا بالله وتؤمنوا برسالته، ليكون إيمانكم بالرسول إيماناً بالرسالة، وهو أول المؤمنين بالله، وأول المؤمنين بكلمات الله، لأنه لا يدعوكم لشيء إلا ويكون قد آمن به قبلكم )الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(([604]) لأن في ذلك الهدى كل الهدى.
الثقة الذاتية
النموذج الثاني في نداء (قُلْ) في قوله تعالى: )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ( ، وهنا الأسلوب مختلف، ويظهر فيه التصدي من الله تعالى لتعليم النبي(ص) بشكل مباشر. فللنبي(ص) شخصيته وعقله وثقافته التي يمارس فيها أساليبه في الدعوة. ولكن قيمة هذه الأساليب أن الله سبحانه وتعالى علم رسوله بشكل مباشر أن يمارسها )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي(([605]) إن لم يحصل لكم ـ كما تزعمون ـ اليقين بما بلغتكم به، فإني لست في شك من ديني وإذا كنتم ترفضون عبادة الله الواحد وتعبدون الأصنام لتقربكم إلى الله زلفى فتشركون بعبادته غيره، فإني على يقين من ديني، ولذلك فإني أرفض عبادة الذين تدعون إليهم من دون الله وأعبد الله وحده.
وقيمة هذا الأسلوب أنه يمثل الموقف القويّ الحاسم الحازم الذي يوحي إليهم بأنه لن يتنازل عن رسالته مهما كانت الضغوط الاجتماعية، ومهما بقي وحيداً من خلال جحودهم وأفكارهم، لأنه لا يستعير قوة موقفه وصلابة موقعه من الناس، وإنما ينطلق به من خلال إيمانه الذاتي. وهكذا نستوحي أن الرساليين لا يهتزون ولا يتزلزلون ولا يسقطون ولا يصابون بالإحباط عندما يتركهم الناس، بل إنهم ينطلقون من خلال هذا العمق الداخلي الذي ينفتح على الإيمان بكل قواه ليشعروا بالقوة في مواقفهم. ولذلك فإن على الإنسان أن لا يحدق بالناس كيف يصفقون له وكيف يهتفون له وكيف تتراكض الأقدام وراءه. وإنّما عليه أن يقول كما قال الإمام علي(ع): ((لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة))، وقد قال الإمام لولده الإمام الحسن(ع): ((لا يؤنسنك إلاّ الحق ولا يوحشنك إلاّ الباطل))، وقال في كلمته التي أراد أن يعظ الناس بها ليثبتوا مواقفهم بالرغم من قلة الناس الذين معهم ((لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل)). انظروا إلى عمق المسالة ولا تنظروا إلى السطح، لأن الذين ينظرون إلى السطح يهتزون، وأما الذين ينظرون إلى العمق فإنهم يرتبطون بالجذور، وعندما تكون الجذور عميقة وقوية فلا يمكن أن تهتز الشجرة التي ترتبط بهذا العمق )كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(([606]).
اليقين النبوي:
وبالعودة إلى النموذج الثاني والأسلوب الذي تحدثنا عنه، فإن قول الله تعالى )قلْ يا أيها الناس( أي قل لهم بكل قوة وحسم وصلابة )قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي( فلست على شك من ديني )فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ولكن اعبد الله( . أتعرفون من هو الله ؟ )الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ( فستموتون وستواجهون وستفقدون كل ما أنتم فيه مما يبعث فيكم الغرور ويضخّم لكم شخصياتكم ويدفعكم إلى أن تنكروا الحقائق انطلاقاً من المحافظة على امتيازاتكم التي ربما تهدمها كل الحقيقة )وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ( أُمرت من خلال ربي الذي عرفته ومن خلال عقلي الذي أضاءت الحقيقة كل فكره لكي أؤمن فآمنت. آمنت من كل كياني الذي كان يعيش الإحساس بالله كما لو كان يرى الله. )وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا( حنيفاً يعني مائلاً عن الباطل إلى الحق بمعنى مستقيماً )وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ(([607]). وهنا يبدو تصعيد الموقف في الخطاب، وهو يشير إلى الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وهذا الخطاب وإن كان موجهاً إلى النبي(ص)، ولكن الله أراد أن يؤكد للناس ذلك ليخاطبهم من خلال خطاب النبي(ص) )وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ( الذين يشركون بعبادة الله غيره ممن لا يضر ولا ينفع.
وفي آية أخرى تخاطب النبي(ص): قل يا محمد في خطابك للناس، وقل يا أيها الداعية إلى الله في خط الإسلام )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ( ، فهذا هو الحق بكلِّ مضمونه وبكل دلائله وبكل براهينه وملامحه )فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ( فأنتم عندما تهتدون فلا تمنُّوا على رسول الله أنْ اهتديتم من خلال دعوته، وقد قال تعالى:)يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(([608]) لأن القضية تتصل بما يصلح أمركم في الدنيا وما يبعدكم عن الفساد فيها، وما يهيئ لكم طريق الآخرة. فالقضية أن الله لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه، لأنه الغني )إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(([609]) و )وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ(([610]) فإن دوري هو دور المذكِّر )فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(([611]) فلم يجعلني الله وكيلاً مسيطراً عليكم، وإنما جعلني مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، لأُضيء عقولكم بفكر الحق، ولأضيء قلوبكم بالإحساس، ولأضيء حياتكم بكل مواقع الحق )وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ( ولا تسقط أمام كل حالات الجحود )واصبر( فالدعوة تحتاج إلى أن يصبر الدعاة إلى الله لأن القلوب تحجرت بالكفر في واقع الفكر، وبالضلال في مواقع الضلال والانحراف، ولذلك فإن على الداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يصبر حتى تتفتت هذه الحجارة؛ حجارة الكفر والضلال والانحراف من خلال ينابيع الحق. وأنتم تعرفون أن الصخور لن تتفتت بالوسائل الطبيعية إلا بعد حين )وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(([612]) يحكم الله بينك وبين هؤلاء، فيدخل الناس في دين الله أفواجاً.
وفي الآية الرابعة: )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ( وهنا يخاطبه ليحدد له كيف يتكلم )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ(([613]) نذير ينذركم عذاب الله، مبين يبين لكم الحقائق من وحي الله. أما النتائج فيقول سبحانه قل لهم يا رسول الله )وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(([614]) فالله يغفر لهم خطاياهم إن انطلقوا من قاعدة الإيمان في خطَّ العمل الصالح، فإذا أذنبوا ذنباً هنا وذنباً هناك فإن لهم مغفرة ورزقاً كريماً في الدنيا ورزقاً كريماً في الآخرة وهو الجنة )وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ( يحاولون أن يضعوا الحواجز أمام الداعية لله )أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(([615]).
بشرية النبي(ص):
ثم أراد الله لرسوله أن يتقدم إليهم بشخصية بشرية بعيدة عن كل التهاويل التي تجعل الناس يؤمنون بالشخص من خلالها، وإنما يقدم نفسه إليهم كنبي يوحى إليه من قبل الله، وأنه لا يتمتع بأية مواقع قوة تجعله فوق البشرية خارج نطاق الوحي. )قُلْ( لمن يأمل أنك سوف تأتيه بالمال من خزائن الله، أو أن تحدثه عن الغيبيات في المستقبل، كالذين يقصدون بعض الناس ليتعرفوا ما هو المستقبل، أو لتمثل لهم ملكاً من الملائكة كما كانوا يزعمون أن الرسول لا بد أن يكون ملكاً )قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ( فأنا إنسان فقير ولدت فقيراً وعشت فقيراً، حتى ربطت حجر المجاعة في بطني في وقعة الأحزاب، وسأموت فقيراً، وقد مات النبي(ص) فقيراً ولم يكن لديه ما يملكه الناس من عقارات وأموال، )وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ( فأنا بشر )إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ( وهذا هو ما أتميز به عنكم.
ومن الطبيعي أن الله سبحانه وتعالى عندما يوحي إلى الناس فإنه يختص بشراً يوحي إليه، فيعطيه كل الملكات الروحية التي تجعله تجسيداً للوحي في عقله وقلبه وحياته، فالنبي ليس مجرد ساعي بريد، ولكنه يختزن الوحي، حتى يكون عقله تجسيداً للوحي، وقلبه مما ينبض فيه القلب تجسيداً للوحي، وحركته فيما هي حركة إنسان تجسيداً للوحي )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ( فالأعمى هو الذي يعمى قلبه عن النور الذي يأتي من الله وهو نور القرآن )وَاتَّبَعُوا النُّورَ(([616]) فإن الله أنزل ما فيه النور )قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ(([617]) والأعمى هو الذي لا يبصر النور )فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(([618]) )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ(([619]) فلماذا جمدتم عقولكم؟! والعقل هو الذي يفتح للإنسان النافذة على الفكر الذي يهديه إلى الحقّ.
النبي(ص) لا يتبع الأهواء:
ومشكلة الناس – أيها الأحبة – فيما يحدثنا به القرآن، أنهم يجمِّدون عقولهم )قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا(([620]). ويؤكد الله على النبي(ص) أن يكرر رفضه للشرك، لأن الإسلام قام على التوحيد )قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ(([621])، فقد نهاني الله عن ذلك عندما فتح أمامي كل آفاق الحقيقة من خلال معرفته، ومن خلال هذا النور الذي أضاء به قلبي وعقلي وكل حياتي )قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ( فكل ما تأخذون به لا ينطلق من قاعدة ومفردات فكرية، ولكنه ينطلق من هوى النفس التي تقود الإنسان إلى أن يعتبر الخرافة حقيقة، وأن يعتبر الجهل علماً، وأن يتحرك من أجل أن يربط حياته بالحجر بعدما كان الحجر مجرد شيء يلعب به، ومجرد شيء يملك أن يحركه كيف شاء. فكيف يمكن أن يكون ربّاً؟! )قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ(.
وفي هذه الفقرة، يريد الله أن يقول: إن كل ما يطرحه الإنسان مما يبتعد عن الله وعن رسالته فهو من الهوى، لأنه فكرٌ لا يرتكز على حقيقة ولا على أساس )قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا( لو أني اتبعت أهواءكم فمعنى ذلك أنني أحرك خطواتي في الضلال وفي الضياع وفي المتاهات التي لا تؤدي بي إلى نتيجة )وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ(([622]) عندما أتبع أهوائكم )قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي( فليس عندي شك في ذلك، فأنا في وضوح من أمري، لأن النور أمامي وليست هناك أية ظلمات تحيط بهذا النور، فالنور ليس نقطة إشراق في إطار من الظلام كما هي النجوم في الليل، ولكنه الشمس التي لا ضباب ولا غيوم تحجب الرؤية عنها، بل هي الإشراق كله، وأنا أعيش ذلك على بيّنة من ربي، ولذلك فالنور في عقلي ولا ظلمة في عقلي ليتحرك الخطأ فيه، فالعصمة من خلال نورانية العقل ولا ظلمة في كل حياتي، لذلك أنزل الله عليّ النور وقال لي أَخْرِجْ الناس مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ومن يخرج الناس من الظلمات إلى النور لا يمكن أن يكون في داخل كيانه ظلمة.
وهذا هو دليلنا على العصمة، إن من يخرج الناس من الظلمات إلى النور لا بد أن يكون فكره نوراً كله، ولا بد أن يكون قلبه في إحساسه ومشاعره ونبضاته نوراً كله، ولابد أن تكون حياته نوراً كلها، حتى يعطي الناس نوراً من نوره، ليخرجهم من ظلمات الفكر وظلمات العاطفة وظلمات الحياة )قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ( ولم تتبعوا هذه البيّنة )مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ( تقولون أنزل علينا عذاباً، والعذاب ليس في يدي، إنه بيد الله، وأنا لا أدعي أنني أستطيع أن أنزل العذاب عليكم )إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(([623])؟ و )إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ( يقصه بكلماته وبقضائه وقدره )وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ(([624]). )قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ(([625]) لو أملك أمر العذاب )لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ( وعندئذٍ تنتهي المسألة، ولكن دوري أن أجرِّب وأعمل، حتى أستطيع أن أفتح عقولكم على الحق، وأن أفتح قلوبكم على الهدى، وأن أفتح حياتكم على الإسلام )وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ( الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والضلال.
)وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ( ، وأحب أن أقول لكم من هو الله وما هي صفاته )وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ( وفي هذا دليل على أنه لا يعلم الغيب إلا الله، والمفاتيح كلها بيده، ولن يسلم الله مفتاح الغيب لأحد، ولكنه قد يختص بعض أنبيائه وبعض أوليائه ببعض المغيبات على أساس المعلومات لا على أساس أن يخلق في داخلهم ملكة علم الغيب، وهذا ما ورد في (نهج البلاغة) عن الإمام علي(ع) عندما أخبر ببعض المغيبات ((قالوا: يا أبا الحسن، هل هذا علمُ غيب، قال: لا ولكنه علم من ذي علم، علمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب)) ورسول الله علمه الله بعض المغيبات، وإلا فسيأتيكم )قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ(([626])، و)وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ( إن الله يحكي على لسان النبي(ص) ذلك )لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ(([627]). وأنا أصاب بالمرض وغير ذلك )وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(([628]) وفي قوله تعالى: )كتاب مبين( يعني علم الله سبحانه وتعالى. )أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ( تستغربون كيف أن الله يعلم هذه الأشياء وهو الذي خلقها )وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(([629]) ثم يفيض أيضاً حتى يدخل عظمة الله في قلوبهم، ويشعرنا ويشعرهم بأن علاقتنا بالله هي علاقة تتصل بكل وجودنا وبكل حياتنا، بحيث لا يغيب عنه شيء، فهو )المهيمن على الأمر كله( و)وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ( فنحن في الليل نموت، ولكننا نموت موتاً مؤجلاً، وبعبارة أخرى، فإن الإنسان يموت في الليل، إلا أنه ميت يتنفس، ولذلك قال النبي(ص) فيما روي عنه في تصوير الموت والبعث في رده على سؤال بعضهم: ((يا رسول الله كيف هو الموت، وكيف هو البعث؟ قال: لتموتنّ كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون))، ولذلك نرى الإمام زين العابدين(ع) فيما ينسب إليه من دعاء (يوم الأربعاء) يقول: ((لك الحمد أن بعثتني من مرقدي ولو شئت لجعلته سرمداً))، فإن الإنسان حين يستيقظ من النوم كأنه بعث من الموت، ولكنه موت مع وقف التنفيذ. )وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ( وجرحتم يعني كسبتم )ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ( في النهار )لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى( حتى ينتهي الأجل الذي تنتهي فيه حياتكم )ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(([630]) لتواجهوا نتائج المسؤولية أمامه )يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(([631]). )وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ( القاهر المسلط على عباده )وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً( والحفظة هنا قد تعني الملكين اللذين يكتبان على الإنسان )عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ(([632])، ولكن الظاهر أن المراد بالحفظة – هنا – الذين يحفظون للإنسان حياته.
وقد ورد في كلمات الإمام علي(ع) ما مضمونه أن لكل إنسان ملكين يحفظانه فإذا جاء الأجل تخليا عنه، أي عندما تنتهي مهمتهم في حفظه، ولذا يقول الله سبحانه وتعالى: )وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ(([633]) أي لا يقصّرون، لأنهم يؤدون الوظيفة )ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمْ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ(([634]).
هذه ـ أيها الأحبة ـ الآيات التي أراد الله لرسوله بكلمة (قُلْ) أن يعطي للناس ثقافة الرسول والرسالة وثقافة العقيدة في صفات الله، حتى يملأ نفوسهم بالله، ويفرغها من كل الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع.. ويبقى لنا في هذا الفصل من كل كلمة جاءت في القرآن. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثانية والعشرون 27 جمادى الآخر 1423ه - 18 / أيار /2002م
الخطاب القرآني (2)
من خلال النبي(ص) إلى الناس
* كلّ خطاب قرآني يبدأ ب(قل) هو خطاب للناس *
التحريض على الإيمان.
القلوب المغلقة.
خطاب مفتوح على الأجيال.
التفكير في المألوف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال نتحدث عن الآيات القرآنية التي بدأ فيها الله خطابه لرسوله(ص) بعنوان (قُلْ)، ما قد يوحي بأن هذه المسائل التي تضمنتها هذه الآيات في موقع كبير من الأهمية، كما في التأكيد على صفات الله في موقع العقيدة، وعلى صفات الرسول(ص)، أو على بعض القضايا التي تتصل بحياة الناس، لأن الفرق بينها وبين الآيات الأخرى الموجهة إلى الرسول من دون كلمة (قُلْ)، هي في أنّ الله سبحانه وتعالى يحدد للنبي(ص) ما يجب أن يقوله للناس، ولابد أن تكون لذلك خصوصية تختلف عن الخصائص الأخرى بطريقة وبأخرى، وإن التقتا معها ببعض العناصر.
قال تعالى في هذا السياق: )قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(([635]) إن الله سبحانه يريد أن يؤكد هذه العقيدة في وجدان الناس، بحيث إنهم غالباً ما يواجهون الأخطار عندما يسيرون في البر، وهكذا في الظلمات المهيمنة على البحر التي تحمل في داخلها الكثير من الأخطار والكثير من المخاوف والأهوال، بحيث يشعر الإنسان بالقلق من خلال هذه الهواجس، التي ربما تفترس إحساسه بالأمن، فيشعر بالحاجة إلى من ينجيه من ذلك، لا سيما إذا كان وحده أو كان مع من لا يستطيع أن يدفع عنه شيئاً، وهكذا عندما يكون الإنسان في ظلمات البحر، حيث لا ضوء يشير إلى اتجاه الطريق، وحيث الأمواج متلاطمة، وحيث الأخطار تحيط به من كل جانب، كما حدث الله في بعض آياته )ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا(([636]).
التحريض على الإيمان
فهنا يريد الله سبحانه أن يعمِّق فكرة التوحيد في نفوس الناس، وأنه ليس هناك إلا اللّه، فأراد للنبي(ص) أن يسألهم، لا سؤال المستفهم، ولكن سؤال من يريد أن يقتحم أعماقهم ليخرج منها هذا الإيمان الذي تختزنه الفطرة، لأن الإنسان قد يغفل عن كثير مما يؤمن به بحسب فطرته بشكل لا شعوري، حتى إذا وُجّه إليه السؤال، أمكن للسؤال أن يُخرج ما اختزن في فطرته )قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ( إنه الله الذي قد تكونون غافلين عنه في حياتكم التي تحيط بها أشغالكم وأعمالكم وشهواتكم، فإذا صادفتم الخطر وجدتم – عندئذٍ -أنه لا ينجيكم من كنتم ترجعون إليه من الناحية المادية، فتأتي الصدمة التي تهزُّ أعماقكم، لتنفتحوا على الله وتدعوه )تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ( وهذه حالة فطرية، لأن الإنسان عندما يفقد الأمل في كل من حوله ممن اعتاد أن يرجع إليهم في عملية نجاته، فإن فطرته تقوده إلى الله، وهذا ما روي عن الإمام الصادق(ع)، إذ جاء إليه بعض الناس يسأله عن الدليل على وجود الله كما لو كانوا غافلين عن أن كل الكون هو دليل على وجود الله، قال له(ع) ما مضمونه: ((هل ركبت في البحر ونجوت على خشبة حيث لا أرض تؤويك ولا أحد ينجيك؟ هل تعلق قلبك بشيء في هذه الحالة؟ قال: بلى، قال: هذا هو الله)) لأن طبيعة الأمور تقتضي أن يشعر الإنسان باليأس في مثل هذه الحالات، ولكنه حينئذٍٍ يتحرك بشكل لا شعوري بأن هناك أملاً وإن كان بشكل ضبابي.
ولذلك ورد ((أن كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهوِّدانه وينصِّرانه))([637]) فكأن الآية هنا تريد أن تصور لنا هذه الحالة )قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ( يا ربنا نجِّنا وأنقذنا من هذه الأخطار التي تحيط بنا في هذه الظلمات، وإذا كنا قد قصّرنا فيما مضى من أمرنا، فسنطيعك وسيكون شكرنا لك أننا نستقيم على خطِّك )قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا( من هذه الظلمات ومن كل كرب، والنبي(ص) هنا يريد أن يؤكد هذه الحالة النفسية الضبابية التي حدثت في أنفسهم أو في وجدانهم، ويعرِّفهم بأن الله هو الذي ينقذ من لا منقذ له، وينجي من لا منجي له، وهو وحده الذي ينجيكم )وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ(([638]) فإذا أنقذكم الله من ذلك، فإنكم تعودون إلى ما كنتم فيه من الاستغراق في عبادة الله، بحيث تشركون بطاعتهم وعبادتهم وامتثال أمورهم حتى في معصية الله، (قُلْ) أي عرّفهم الله، لأن المشكلة أن الكثيرين من الناس لا تمتلئ نفوسهم بقدرة الله وبعظمته، فيخيل إليهم عندما يتصورون الله أنه قوي كالأقوياء، وقد يأمنون عذابه ويأمنون غضبه )قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ( من الصواعق والرياح وما إلى ذلك )أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ( من الزلازل وما إلى ذلك مما يهلككم )أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا( أي يخلق لكم ظروفاً، بحيث إنكم تعيشون حالة التمزق والتفرق. وهذا هو البلاء الذي ينطلق من القوانين الموجودة في حياة الإنسان، لتدفعه إلى أن يتمزق وإلى أن يعيش الفرقة والخلاف والحروب وما إلى ذلك )وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ(([639]).
القلوب المغلقة
)انظُرْ كَيْفَ( وهنا يرجع الله إلى مخاطبة النبي(ص) )نُصَرِّفُ الآيَاتِ( يعني كيف نقدِّم لهم الفكرة بأساليب مختلفة متنوعة )لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(([640])، لأن الله سبحانه من خلال ذلك أراد أن يبيّن للنبي(ص) ولكل الناس، بأن هذا التنوع في الأساليب القرآنية في الحديث عن جوانب العقيدة وعن جوانب الشريعة وعن حركية الحياة، إنما هو أساساً لكي يفهموا ويعقلوا، فالله يريد للإنسان أن يعيش آياته في القرآن من أجل أن يفهم الحقيقة )يَفْقَهُونَ( يعني يعقلون. فالقرآن هو وسيلة ثقافية إلهية تملأ عقلك بالثقافة التي أراد الله لك أن تحصل على الإيمان من خلالها، ويملأ قلبك بعناصر العاطفة والحالة الشعورية التي يريد الله منك أن تعيش نبضات قلبك معانيها، لأن الله يريد لحياتك وكل عاطفتك أن تعيش وعي ذلك كله )انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ( كيف ننوّعها بالأساليب المتعددة )لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ( عسى أن تنفع معهم هذه الأساليب على اختلافها، ولكن مشكلتك أنك تعيش مع هؤلاء المشركين الذين أغلقوا قلوبهم عن سماع الآية وعن تدبرها، لأنه )سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(([641])، لأنهم قرروا أن لا يسمعوا، وهذا ما ينسحب على كلِّ زمان ومكان، لأن الناس على قسمين، فهناك من يختلف معك بالفكرة ولكنه مستعد أن يسمعك وأن يستمع إليك وأن يحاورك وأن يناقشك ليؤمن بفكرتك أو يرفضها، وهناك أناس ليسوا على استعداد لأن يناقشوا الفكرة أو أن يستمعوا إليها، وهم الذين قال عنهم الله: )وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(([642]).
وكانت مشكلة الأنبياء i ومنهم رسول الله(ص)، أنهم ابتلوا بأناس ليسوا على استعداد لأن يسمعوا وأن يناقشوا الفكرة، وهو ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: )خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(([643]) فقد أغلقت مصادر السمع والنظر عندهم، وهو ما نتمثله في كربلاء عندما كان الإمام الحسين(ع) يتحدث مع محاربيه ويقيم الحجّة عليهم ويحاورهم ويطلب منهم أن يجيبوه، فكان الجواب: ((ما ندري ما تقول يا بن فاطمة ولكن انزل على حكم بني عمك)) أي أنهم غير مستعدين لأن يناقشوا أو حتى يسمعوا، وهذا أمر شاع كثيراً عندنا، سواء في الدين أو السياسة أو الاجتماع. وهذه هي القلوب المغلقة والعقول المغلقة )وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ(، ولذلك كذَّب هؤلاء الرسول(ص)، وكذّبوا القرآن مع أنه يمثل الحقيقة التي لو انفتحوا عليها ووعوها لآمنوا بها )قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ(([644]) فإن دوري هو دور الرسول المبلّغ لما أنزل الله عليّ، لأن الله قال لي )وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(([645])، وقال تعالى:)أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(([646]).
وفي اتجاه آخر، يقول الله تعالى مخاطباً نبيه(ص): )قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا(([647])، وهنا أراد النبي(ص) من خلال تعليم الله له أن يتحدث معهم كما لو كان واحداً منهم )قُلْ أَنَدْعُو( أنا وأنتم )مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا( بمعنى أن الإنسان هو الذي يتحرك في حياته للارتباط بالأشخاص أو بالمناهج أو بالمبادئ التي تجلب له نفعاً أو تدفع عنه ضراً، وهذه هي الطبيعة الإنسانية، ولذلك فإن القرآن عندما وجه الإنسان في خطه المستقيم، تحدث له عن مسألة النفع والضرر )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(([648])، فقد أراد الله أن يبين للإنسان أن السير في هذا الخط المستقيم يعطيه الخير في الدنيا والآخرة، والانحراف عنه يورثه الشر في الدنيا والآخرة، والإنسان بحسب فطرته مرتبط بما ينفعه ولا يضره. وهذا ما أُثير مع المشركين بالنسبة إلى مسألة الأصنام، لأنها لا تنفع ولا تضر فيما هي حياتهم، إلاّ أن ذلك أصبح جزءاً من تقاليدهم من عاداتهم على المستوى العقيدي الذي يؤمنون به مما ورثوه عن آبائهم.
خطاب مفتوح على الأجيال:
وهذا خطاب موجّه إلى كل جيل، بأن عليه أن ينفتح على الفكر الذي يجلب له النفع ويدفع عنه الضرر، وأن ينفتح على المنهج الذي يؤدي إلى ذلك، ولذلك خاطبهم الله تعالى بواسطة النبي(ص): )قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ(، وفي الآية إيحاء في جانب آخر، إذ يقول لهم النبي(ص): كيف أتبعكم فأدعو لما تدعون إليه، وأتحرك في الطريق الذي تريدونني أن أسير عليه، وأتراجع عما أنا فيه؟! لأن المسالة أنكم تريدونني أن أسير إلى ما لا يملك نفعاً ولا ضراً، وتريدونني أن أتراجع عمّا فيه النفع، وهذا معناه أني أرجع إلى مواقع الخسارة والهلاك )وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ( أي لعبت بعقله وشوَّشت فكره، وجعلته يعيش الحيرة والتمزق النفسي )حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى( أي بعد أن تسلط عليه الشيطان )ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى( وهنا الخطاب للنبي(ص)، بمعنى أكِّد لهم أن ما أنتم عليه ليس هو الهدى، بل الهدى ما أنا فيه وما أنا عليه، وهو هدى الله )وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(([649]).
وهنا أكد لهم أن مسألة الإسلام لرب العالمين هي أمر أو منهج ينطلق من خلال فطرة الإنسان التي خلقها الله )فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ(([650])، إذ إن الله أمرنا لنسلم لربِّ العالمين من خلال الفطرة التي أودعها في عمق وجودنا، بحيث إننا عندما نتحرك في الحياة لنسلم لأي شخص، فإننا لا نرى إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا فيه تأكيد على أن مسألة الإسلام لرب العالمين هي مسألة تنطلق من خلال أمر فوقي، لأن الله المهيمن على الأمر كله هو الذي أمرنا أن نسلم له بعد أن أودع ذلك في عمق وجودنا، وفي كلمة (لرب العالمين) إيحاء بأن ربَّ العالمين هو الذي يجب أن نسلم له، أما المربوبون والمخلوقون والذين لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، فليس هو الذي يسلم الإنسان إليه )وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ( لأن الإسلام إليه يمثل امتثال أوامره، وأول ما ينبغي للإنسان أن يعبِّر به عن إسلامه لله هو الصلاة، باعتبار أن الصلاة تمثل هذا الموقف الاستسلامي الذي يقفه الإنسان بين يدي ربّه ليؤكد عبوديته له من خلال قيامه بين يديه وركوعه وسجوده له، وما يتحدث به من التوحيد الذي يتمثل في كل آية من الآيات.
إن هذا يمثل الإسلام العملي لله سبحانه وتعالى، وقد ورد ((إن الصلاة عمود الدين، إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردَّت رد ما سواها))([651])، لأنها هي التي تربط الإنسان بالله وتجعله يعيش الحضور الإلهي في كل حياته وفي كل وجوده. ((وهي معراج روح المؤمن إلى الله)). )وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ( أي راقبوه واحسبوا حسابه واخشوه عندما تتمثلون عظمته من خلال ربوبيته للعالمين جميعاً )وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(([652])، فليست المسألة أنكم تسلمون إليه في دنياكم لتكون دنياكم نهاية المطاف، بل إنكم تحشرون إليه لتواجهوا نتائج المسؤولية بعد أن حمّلكم المسؤولية في حياتكم )وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ(([653])، والخطاب لا يزال في سياق (قُلْ)، حيث أراد الله للنبي(ص) أن يثقفهم ثقافة الإيمان بالله سبحانه وتعالى من خلال عظمته في أسرار خلقه، لأن الإنسان عادة ما يشعر بعظمة السموات بما فيها من أكوان، وعظمة الأرض بما فيها من ثروات ومواقع وموجودات، فإذا أدرك أن الله هو الذي خلق ذلك كله، أدرك عظمة الله من خلال ذلك (بِالْحَقِّ)، لأن كل شيء في السموات هو سرّ يمثل عمق الإبداع في هذا الموجود، وفي ذلك الموجود، وكذلك في الأرض، وفي ذات الإنسان، ما يوحي بأن كلَّ شيء في الوجود خاضع لقانون ثابت، يؤكد للإنسان أنه لابد أن يكون هناك إله خالق قادر حكيم عليم يملك أن ينظم كل هذا الوجود بهذا النظام الدقيق الذي لا ينحرف قيد شعرة عن مساره )وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ( يوم يقول في خلقه ويوم يقول في بعثه ويوم يقول في كل ما يتصرف فيه من وجود الإنسان في الدنيا والآخرة )قَوْلُهُ الْحَقُّ( فلا يقول باطلا،ً لأنه الحق في ذاته في خلقه، وهو الحق في ربوبيته، وهو الحق في قوله وفي فعله )وله الملك( )قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(([654]) و )يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ( عندما ينفخ في الصور فتنبعث الأجساد من قبورها )يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(([655]) )عالِم الغَيبِ والشهادة( إذ الغيب عنده كالشهادة، لأن علمه يحيط بذلك كله، )وهو الحكيم( في كل خلقه الذي يضع كل شيء في موضعه وهو )الخبير(([656]) بذلك كله.
التفكير في المألوف:
وفي السياق نفسه، يخاطب الله النبي(ص) ليحرِّض الناس على التفكير في الله عبر التفكير في آثاره )قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(([657])، إنكم ترون الكواكب والشمس والقمر، وقد تنفتحون على أكوان جديدة فيما يمكن للعلم أن يكتشفه، وهكذا تجدون في الأرض الإنسان والحيوان والنبات والجماد والبحار والأنهار والجبال وما إلى ذلك، لمن هذه؟! قوموا بجولة حول العالم، حدِّقوا بكل الكبار الذين يملأون نفوسهم بالعظمة، فهل تجدون في كل هذا الوجود مالكاً لما في السموات والأرض؟! إنكم لن تجدوا أحداً، لأن المسألة هي أن كل ما هو موجود في الأرض من هؤلاء هو جزء مما في السموات والأرض، فكيف يكونون الخالقين له؟! وهذا الأسلوب له قيمته، بأنه ينزعنا من إسار الغفلة واللامبالاة، لأن الإنسان عادة لا يشعر بعظمة المألوف، فمن منا يشعر عندما تشرق الشمس وتطرد الليل؟ ومن يشعر بقيمة الشمس أصلاً؟! إن الشمس لا تثير فينا أي شيء من العظمة لكثرة ما اعتدنا من شروقها، وهكذا القمر، وهكذا الليل والنهار. من الذي يشعر بقيمة هذه الكواكب المتناثرة في الجوّ، والتي تعبّر عن أكوان وعوالم لم يستطع الإنسان أن يبلغها، من يفكر بهذا؟! لا أحد.
وأنا أذكر – وقد نقلت لكم – أنه عندما أطلق الاتحاد السوفيتي القمر الصناعي، اهتزت عواطف الناس، خصوصاً وأن هناك دعاية للماركسية كبيرة يومذاك، وقد وظِّف كل ذلك للترويج للإلحاد، وعندما عاد (غاغارين) رجل الفضاء الروسي إلى الأرض، أجاب على سؤال: هل رأى الله؟ قال إنه لم يره، وكأن الله موجود في هذا القمر من الفضاء، كما في قوله تعالى )فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى(([658]) وقد جاء أحد المبهورين إلى أحد علمائنا قائلاً: هل سمعت شيخنا بالقمر الصناعي؟. قال: سمعت، ولكن القمر الطبيعي الذي له ملايين السنين، ويطلع بنظام دقيق ألا يشغل فكرك؟! كما في قوله تعالى: )يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ(([659]) ويقول تعالى: )لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ(([660]) هذا القمر ألم يلفت نظرك؟! ولولا إبداع الخالق لما أتيح لهم إطلاق القمر الصناعي، إن الله ألهمهم ذلك )عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(([661]) إن الناس اهتزوا لهذا القمر الصناعي، وأما القمر الطبيعي فلأنهم ألفوه فإنه لم يدخل في حسابهم، لأن كل شيء مألوف يفقد قيمته عند الإنسان. وهناك الكثير من الإنجازات التي كانت مثار حيرة، كما في التلفزيون والهاتف والطائرة. وقد قال الشاعر ليصف الطائرة:
مركب لو سلف الدهر به كان إحدى معجزات القدماء
أما الآن، فلا أحد يفكر بكيفية طيران الطائرة في هذا الفضاء ولا الهاتف أو الراديو أو التلفزيون، لأنها أصبحت من المألوف، وفي بعض الأحاديث ورد أنه ((يأتي زمان يرى فيه ويسمع فيه من في الشرق من في الغرب)) ولذلك نجد في هذه الأسئلة في القرآن الكريم منهجاً لإثارة التفكير والخروج بالإنسان من حالة اللامبالاة ومن حالة الغفلة، والاستغراق، حتى يجعله يفكر في السموات والأرض وفي هذه العوالم كلها، ليقف على الحقيقة )قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لله( إذ ليس هناك أحد )كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ(، لكن هذا الإله العظيم خالق السموات والأرض ليس كمثله شيء، ليس إلهاً منتقماً، بل إنه )كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ( وهو يقول: )وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ(([662]) )لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ( ربما تتابعتم في الدنيا جيلاً وراء جيل، ولكنكم ستجتمعون يوم القيامة عنده، لكن هناك من لم يعرفوا كيف يربحون أنفسهم بأن يستقيموا على الخط )قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(([663]) )قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(([664]) الذين خسروا أنفسهم عندما خسروا الإيمان (فَهُمْ لا يؤمِنون(([665]) )وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ( أي كل الأشياء التي يحتويها الليل والنهار )وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(([666]) يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، ويسمع السرَّ وأخفى، ويسمع وساوس الصدور، وهو العليم )وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ(([667]) )قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا( أي خاطبهم – يا رسول الله – أنا عاقل، فهل يمكن أن أتخذ فلاناً ولياً، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، إنه محدود في قدرته وفي وجوده، ومحدود في كل ما يحيط به، والله هو المطلق، فكيف أعدل عن الله الذي يمثل القوة المطلقة إلى من يمثل القوة المحدودة )قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( الذي خلق السموات والأرض )وهو يُطعِمُ ولا يُطْعِم(، وهو الذي خلق لنا ما نأكله، وخلق لنا ما نشربه. (قُلْ)، وأعلن موقفك واصدمهم في موقفهم، فإنهم إذا كانوا يتحدثون إليك بالشرك، وإذا كانوا يريدون أن يجذبوك إليهم بمختلف الأساليب، فخاطبهم )قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ( سأكون أول المسلمين الذين يسلمون لله، لأني أول من انفتح على الله في عظمته وفي كل صفاته، وبذلك انفتحت على توحيده )وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(([668]) في عملية صدمة إيحائية لهؤلاء. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الثالثة والعشرون 14 ربيع الأول 1423ه - 25 / أيار /2002م
الخطاب القرآني (3)
المحاججة في مقولات الإسلام والبرهنة عليها
* الأسلوب الإيحائي لا يتحرك في الجدل بل بالإيحاء النفسي والصدمة الفكرية *
شهادة (لا إله إلا الله) الشاهد الأكبر.
الإسلام القرآني.
سلطان الشريعة.
المسؤولية الشخصية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
شهادة (لا إله إلا الله) الشاهد الأكبر:
لا زال الحديث عن الآيات التي خاطب الله بها رسوله(ص) بقوله )قُلْ( ليبلغها للناس باعتبارها من القضايا الحيوية المتصلة بالعقيدة وبحركة الإسلام في الواقع، وقد خاطب الله سبحانه وتعالى نبيه(ص) بقوله: )قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً( ما هي الشهادة التي تعتبر أكبر شهادة بحيث لا تعلو عليها شهادة؟ من الطبيعي أن أكبر شهادة هي التي تتمثل في الشاهد الأكبر الذي يحيط بكل شيء، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة، والذي يهيمن على كل شيء، لأنه خالق كل شيء وهو الله، فشهادته أكبر الشهادة.
وفي هذا، أراد الله لنبيه(ص) أن يقول لكل هؤلاء الناس الذين طرح أمامهم رسالته، وأنه رسول من قبل الله، بأن الله هو الشهيد بيني وبينكم، كأسلوب من أساليب الإيحاء القوي الذي يصدم كل حالات الشك والريب التي يمكن أن تثور في نفوسهم )قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً( أي يا رسول الله، اطرح هذا السؤال ليثير فيهم حالة التساؤل وحالة التفكير لتعدَّهم لاستقبال الجواب الحاسم )قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ( بأني الرسول من قبله، ولو لم أكن كذلك لكانت قوة الله كفيلة بأن تعطل كل نشاطي، وأن تكبت كل دعوتي في هذا الاتجاه، وقد أوحي إليّ هذا القرآن الذي يمثل كلمة الله ورسالته بما يتصل بمسؤوليتكم في العقيدة وفي الشريعة وفي الحياة )وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ( لأوجّه إليكم ولأبيّن لكم الحقيقة السلبية التي تنتظركم في دنياكم وفي آخرتكم إذا انحرفتم عن خطه أو لم تستجيبوا له )وَمَنْ بَلَغَ( وأنذر من بلغه هذا القرآن )أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى( هل تقدمون هذه الشهادة، وهل تملكون حقيقة ذلك؟ )قُلْ لا أَشْهَدُ( فلو شهدتم فإنه لا يمكنني أن التقي معكم بهذه الشهادة، لأن شهادتي من خلال معرفتي للحقيقة وهي وحدانية الله، وأن كل من عدا الله فهو مربوب له من خلال أنه مخلوق له )قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ( أي يا رسول الله، أعلن لهم هذه الحقيقة واصدمهم بها، وهزّ أعماقهم لتفتح فطرتهم الكامنة داخلهم، التي عرض عليها الكثير من ركام الخرافات والجهالات وحالات التخلف )وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(([669]).
وهذا الأسلوب هو أسلوب إيحائي، لا يتحرك في حالات الجدل، ولكنه يتحرك في حالات الإيحاء النفسي والصدمة الفكرية للآخر وتأكيد الموقف بهذه الطريقة. إنه يريد أن يؤكد التوحيد وينفي الشرك، ويعلن براءته من الشرك، ويؤكد للناس كافة أن الله هو الشهيد على ذلك كله. ومن الممكن لنا عندما يكون موقفنا مماثلاً لهذا الموقف أن نستخدم هذا الأسلوب القرآني عندما يتحول الصراع إلى تأكيد الموقف، ليوحي بالقوة التي يملكها الإنسان الرسالي في مواجهة الآخرين.
الإسلام القرآني:
وفي آية أخرى، يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيه(ص) بقوله: )قُلْ( أي حدِّثهم عن الصراط المستقيم الذي تتحرك فيه، وعن المنهج الذي تدعو إليه، وعن الطريق الذي تسير فيه، حيث تملك البداية لتنفتح في خط الاستقامة على النهاية، لأنه ليس هناك أي عوج أو انحراف )إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي( معنى ذلك أن الله أعطاني كل وسائل الهداية فيما أملكه من عقل، وفيما ينتجه هذا العقل من علم، وفيما أعيشه من خلال فطرتي من مشاعر وأحاسيس، وفيما أوحى إليَّ ربي )إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( . ما هو الصراط المستقيم؟ هو الصراط الذي لابد للإنسان أن يتحرك في خطه بكل شمولية حياته، في العقيدة والشريعة والكلمة والعقل، وفي الموقف والهدف والعلاقات )دِينًا قِيَمًا( ديناً مستقيماً لا عوج فيه، ديناً ينطلق من قاعدة ركزها إبراهيم شيخ الأنبياء(ع)، الذي أعلن الإسلام كعنوان لحركة الفكر وحركة القلب وحركة الطاقات والمواقف، لأن الإسلام هو أول ما أمُر به إبراهيم(ع)، كما في قوله تعالى: )إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(، ولم يقتصر الأمر على إسلامه الذاتي لله، بل )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(([670]).
كان الإسلام ملّة إبراهيم، والإسلام في الملّة الإبراهيمية هو قاعدة المِلل التي جاءت بعده، كملّة موسى(ع) وعيسى(ع) والنبي(ص)، وهو إسلام العقل والقلب والوجه واليد واللسان والحياة كلها لله بحيث لا يكون هناك أي فكر غير فكر الحق الذي يرضاه الله، ولا تكون هناك أية عاطفة غير العاطفة الحقة التي يرضاها الله، ولا تكون هناك حركة إلا الحركة في الاتجاه الذي يحبه الله، وهكذا أن يكون الإنسان كله لله، فلا يكون فيه شيء لغير الله. ليكن الإنسان عبداً لله، وحراً أمام العالمين. بهذا يوحي الإسلام للإنسان بكل المعاني العميقة للحرية، ليقول إن الإنسانية تخضع لله، ولكنها تعيش العنفوان أمام العالم كله، فالعبد أمام الله لابد أن يقول (نعم)، كما في قوله تعالى:)وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ(([671]) وكما في قوله تعالى أيضاً: )مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ(([672]) لأن الرسول لا يتكلم إلا عن الله )وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(([673])، وأما أمام العالم، فإنه ليس هناك من يتسلّط على الآخر ويفرض سلطانه عليه، لذا يستطيع الإنسان أمام الآخرين أن يقول (لا) أو أن يقول (نعم). هذا هو الإسلام. ولذلك فإن الإسلام بالمعنى القرآني هو الذي ينفتح على كل الرسالات، فإسلام الناس أيام النبي إبراهيم(ع) كان بالسير على ملّة إبراهيم(ع) وفي زمن موسى(ع) كان إسلامهم على ملّة موسى(ع) وهكذا بالنسبة إلى عيسى(ع) وبالنسبة إلى النبي محمد(ص).
ومتابعة لما نحن فيه من الخطاب القرآني للنبي(ص)، يقول الله سبحانه وتعالى: )قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( لا عوج فيه ولا انحراف )دِينًا قِيَمًا( مستقيماً )مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا( وحنيفاً يعني مائلاً عن الباطل ومنفتحاً على الحق )وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(([674]) إذ كان إبراهيم(ع) موحداً لله سبحانه وتعالى، وقد أكد توحيده في نفسه، وأكده في حياته العائلية أمام أبيه، وأكده أمام قومه، بمختلف الأساليب. )قُلْ( يا رسول الله، وأنت تقدِّم إسلامك إلى الناس وتختصر دينك في كلمات )إِنَّ صَلاتِي( عندما أصلّي )وَنُسُكِي( عندما أقوم بالعبادات الأخرى من حج وغيره )وَمَحْيَاي( كل حياتي عندما أحيا حياتي )وَمَمَاتِي( عندما أُقبل على الموت وأتحرك في السبيل الذي يؤدي بي إلى الموت، لمن ذلك كله؟! )لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( فليس هناك شيء في صلاتي لغير الله، فلا أسجد للأصنام، ولا أتعبَّد لها، وليس في حياتي شيءٌ لغير الله، وإذا متُّ فإني أموت في طريق الله، فلا أموت من أجل إنسان آخر تعبداً له وخضوعاً له )لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(([675]) كأنه أراد أن يقول للناس إنني عندما أدعوكم إلى الإسلام لكل ما فيه من خطوط عامة تفصيلية، فأنا أول من يلتزم به.
سلطان الشريعة:
ومن خلال هذا نفهم حقيقة كبيرة في الاسلام، وهي أنه ليس هناك أحد فوق القانون وفوق الشريعة، بما في ذلك النبي نفسه، بل إنه أولى الناس بالالتزام بما بلّغه إلى الناس من أوامر إلهية ونواهٍ من خلال الكتب التي أنزلت، أو من خلال ما يسنّه النبي نفسه، كما في سُنة النبي محمد(ص). فالنبي لا يمكن أن يزيد كلمة أو ينقص كلمة في ذلك كله )وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(([676]) ويقول الله تعالى: )وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(([677]) أما في قوله تعالى )قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(([678]) فهذا يعني أنه ليس هناك أحد فوق القانون من نبي أو إمام أو وليّ أو كما في أيامنا هذه من ولاية الفقيه، فإن الجميع خاضعون للقانون وتحت القانون، ولذلك فإن بإمكان الأمة أن تحاسب وليّها الذي قد يكون فقيهاً.
والنبي(ص) وإن لم يكن مسؤولاً أمام الناس، إلاّ أنه وقف في آخر حياته يقدم حساباً للأمة، مع أنه لم يأت بانتخاب الأمّة، بل إنّ الله اصطفاه، وهو المصطفى من الله سبحانه وتعالى، وقال(ص) لهم: ((قال يا أيها الناس إنكم لا تمسكون عليَّ بشيْء )) فليس لأحد أن يسجل عليّ زلة. وفي رواية إنكم لا تعلّقون عليّ بشيء ((إني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن وما حرَّمت إلا ما حرم القرآن)) وفي رواية أخرى: ((ما أحللت إلا ما حلل الله وما حرّمت إلا ما حرّم الله)). يعني ادرسوا كل تاريخي معكم، فما من شيء أمرتكم به إلا وأنا أول من فعله، وما من شيء نهيتكم عنه إلا وأنا أول من تركه.
هذه هي الفكرة الإسلامية القرآنية التي لا تتحرك في خط الغلوّ الذي أخذ به الكثير من الناس. و)قُلْ( يا رسول الله، لكل هؤلاء الذين يشركون بعبادة الله غيره، هؤلاء الذين يعبدون الأصنام والأوثان، وهؤلاء الذين قد ترتفع مشاعرهم التي يمكن أن تنفتح على الأشخاص الذين يملكون شيئاً من العظمة فيعبدونهم عبادة شخصية )قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا( كما تريدون لي ذلك، وهل هناك ربٌّ غيره؟ إن إلا الرب هو الخالق، ولا يمكن أن يكون الرب مخلوقاً )وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ( فهل هناك شيء وهو مربوب له؟ وكيف يمكن أن أتخذ المربوب رباً؟ هل هذا منطق العقل ومنطق من يعقل؟ ثم ينفتح الخطاب الإلهي للنبي(ص) ليواصل كلامه في الخط العملي في هدى الخط العقيدي؛ خط التوحيد وخط الإسلام المطلق )وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا(([679]) فإن كل إنسان يتحمل مسؤولية نفسه سلباً أو إيجاباً ولا تكسب كل نفس مما تقوم به إلا عليها )وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( فإنه لا يتحمل الإنسان خطأ غيره.
المسؤولية الشخصية:
ومن هنا نستوحي أمراً مهماً، وهو أن الإسلام يؤكد على حقيقة قيمية إنسانية، وهي أن كل إنسان يحمل شرفه في ذاته، ولذلك فإن المنطق الذي يقول إن فلاناً أساء إلى شرف القبيلة أو إن المرأة إذا انحرفت فإنها تسيء إلى شرف العائلة، لتصبح عاراً على العائلة إن هذا كله منطق جاهلي، لأن كل إنسان يحمل شرفه ويحمل عاره. العار ذاتي والشرف ذاتي، لذلك فإن هؤلاء الذين يقتلون المرأة إذا انحرفت على أساس أنه كما قال الشاعر:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
مما يسمى بقضية (غسل العار) مما تتساهل به بعض المحاكم أيضاً، فإنه كله مخالف للإسلام. فليس هناك عار عائلي أو غير ذلك، بل هو عار المنحرف، إن كان المنحرف امرأة فذلك عارها، وليس عار أبيها أو أخيها. الناس المنحرفون الجاهليون هم الذين يتهمون العائلة بالعار إذا انحرف أحد أفرادها. ثم السؤال إذا كانت مسألة العار كما في الزنا مثلاً بهذا المستوى، فلماذا يدافع الأهل عن الزاني ويقتلون الزانية؟ لأن هذا مخلوق ضعيف، أو لأن شرف العائلة مرتبط بالمرأة وكأن العرض مرتبط بها وحدها. هذا مع أن القرآن يقول: )الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ(([680]) فليس هناك فرق بينهما. لكن كما قال أبو العلاء المعري، وقد كان نباتياً وجيء له بفرخ دجاج وكان مريضاً وأعمى، فقيل له وصف لك الطبيب ذلك، فأمسكه بيده وقال: ((استضعفوك فوصفوك ألا وصفوا شبل الأسد)) ذاك لا يقدرون عليه.
وقد قال النبي(ص): ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف)) وهو صاحب الموقع الاجتماعي أو صاحب الموقع السياسي ((تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)) فإن القانون عندهم لا ينطبق إلا على الضعفاء. فالذي يسرق الملايين لا يحاكمه أحد، والذي يسرق عشر ليرات كل القوانين تطبق على رأسه. وهذا هو الواقع ((وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) وفاطمة فوق العصمة، ولا يمكن أن تسرق، ولكن أراد النبي(ص) أن يبين القيمة الإسلامية وأنها بهذا المستوى. فما هي قيمة فاطمة عند رسول الله(ص) وهو القائل: ((هي بضعة مني من آذاها فقد آذاني. ومن أغضبها فقد أغضبني.. وهي سيدة نساء العالمين))([681])، ومع ذلك، فإن قيمة العدل تبقى مطلقة. وقد ضرب بذلك مثلاً لتعليمنا، ولندرك أن العدل بهذا المستوى.
وقد ورد أيضاً عن أخيه ووصيه أمير المؤمنين(ع) كما في (نهج البلاغة) عندما كان يتحدث مع بعض عمّاله الذين يتهمهم بالخيانة، يقول: ((والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة))([682])، فليس في الإسلام كبير أو صغير )وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( )ثُمَّ إلى ربكم مَرْجِعُكُمْ( ففي الدنيا لكم الحرية تعملون ما تشاءون، ولكن غداً المصير والسؤال )فَينبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ َفيه تختلفون(([683]) في موقع الحساب )وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ( وقد جعل الله في الأرض خليفة، وجعل كل جيل خليفة للجيل الذي قبله، خلائف تتبع بعضها بعضاً، لأن الله فرض على الإنسان مسؤولية عمارة الأرض وتحريك نظامها كل حسب طاقاته، وكل ميسر لما خلق له. )وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ( ولا يراد بذلك أن الله يؤكد الطبقية بحيث إنه يجعل الناس مستويات، مستوى أعلى ومستوى منخفض، وإنما المقصود من ذلك أن كل فريق من الناس يملك طاقة معينة، ويتحرك في الأرض من خلال ظروفه المعينة ومن خلال حركته المعينة، ولذلك فمن الطبيعي أن يختلف الناس، فنجد في الأرض أن إنساناً ما أكثر علماً أو أكثر مالاً بجهده أو من خلال ظروفه الطبيعية التي أحاطت به، وتجد إنساناً قوياً من خلال عناصر القوة التي أنتجتها ظروفه التي أحاطت به من خلال القوانين التي أودعها الله في الكون، فهذا الرفع للناس مما تحدثت به الآية الكريمة ليس رفع القيمة، وإنما جعل بعض الناس أفضل عنده من بعض الناس بحسب طبيعة حركة الإنسان في الحياة، وإن كان هناك أناس مفضّلون )تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ(([684]) فهم مفضلون بالعمل الصالح وتقوى الله. وعليه، فإن التفضيل المذكور في هذه الآية هو التفضيل الناشئ من طبيعة السنن التي خلقها الله في الكون وفي حركة الإنسان ما تفرض أن يكون هناك إنسان أعلى من إنسان من خلال طاقاته، فنرى شخصاً يتعلم أكثر من شخص آخر، كما لو كان عنده ذكاء أكثر وعنده إمكانات أكثر، أو من خلال طبيعة الظروف المحيطة به، ومن خلال طبيعة الخطوط التي تحركه، أو من خلال سنن الله في الكون، لأن الله جعل قانوناً لما يعطيه من الرزق )اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ(([685]) وليس معناه الرزق بشكل مباشر، لأن الله يعطينا الرزق من خلال طبيعة الوسائل التي وضعها للرزق في الحياة، كما يعطينا المطر من خلال القوانين التي أودعها في الكون لإسقاط المطر وما إلى ذلك. )وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ( حتى يختبركم، فيختبر الغني في غناه، وأنه هل يقوم بمسؤولية ما أعطاه الله من غنى، والقوي في قوته، وصاحب الخبرة في خبرته.. والفقير في فقره، وأنه هل يصبر أم يسقط وما إلى ذلك )لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ( لمن يستحق عقابه )وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(([686]) لمن يستحق رحمته. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة الرابعة والعشرون 21 ربيع الأول 1423ه - 1 / حزيران /2002م
الخطاب القرآني (4)
التأكيد على بشرية النبي(ص)
* أراد الله لنبيه أن يؤكّد بشريته للناس في قدراتها الذاتية وما يعرض للجسد من حالات، ليقدّم نفسه من خلال الرسالة لا من خلال الخصائص البشرية *
البشرية الكاملة.
دور النبي(ص).
دور الوحي في حركة الرسل.
رسول الرحمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا يزال الحديث يتمحور حول الآيات التي خاطب الله بها رسوله بعنوان )قُلْ(، مما أراد الله لرسوله أن يبلغه للناس، بشكل مباشر في أكثر من قضية تتصل بالعقيدة بالله أو بالرسول، أو بالإجابة عن سؤال، أو بمعالجة بعض المشكلات التي تتصل بعلاقات الناس فيما بينهم، فمن بين هذه الآيات قوله تعالى: )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ(([687]) لقد أراد الله لرسوله أن يؤكد للناس بشريته بكل ما للبشرية من خصائص في قدراتها الذاتية، وفي كل ما يعرض على الجسد من حياة وموت، ومن صحة ومرض، ومن خوف وأمن، وما إلى ذلك، لأن الله يريد لرسله – كل رسله – أن يقدِّموا أنفسهم إلى الناس من خلال رسالتهم، لا من خلال بعض الخصائص التي ترتفع بالإنسان عن الطبيعة البشرية، فالله يختار من رسله للناس بشراً مثلهم. وعظمة هذا البشر أنه يملك من الخصائص العقلية والروحية والعلمية مما ألهمه الله، ما يجعله جديراً بهذه الرسالة. كما أن هذه الرسالة تنطلق من خلال الوحي الذي يوحي به الله إلى رسوله من خلال الوسائل المتعددة لهذا الوحي، فقد يكون الوحي بواسطة ملك ينزل على الرسول كما كان يحدث مع الرسول(ص)، حيث ينزل عليه جبرائيل، أو من خلال إلهام الله له، أو من خلال التعلميات التي يصدرها الله إلى رسوله بواسطة المنام، كما حدث بالنسبة إلى إبراهيم(ع)، أو يكلمه الله كما حدث مع موسى(ع).
البشرية الكاملة:
وقد أراد الله للنبي(ص) أن يقدِّم نفسه إلى الناس بصفته البشرية، لئلا يطلب الناس منه شيئاً خارج القدرات البشرية، بل باعتباره مبلغاً لوحي الله وأنه يمثل التجسيد الحركي للوحي في كل خصائصه الرسالية: )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ( في كل عناصر البشرية، ولذلك أُمارس ما يمارسه البشر وأخضع لما يخضع له البشر. ولكن ما يميز الرسول(ص) عن بقية الناس هو أن الله اختصَّه بأن جعله رسوله الذي يوحى إليه، والوحي هو القاعدة التي تختصر الرسالة، وتمتد منه كلّ الأسس التي تتصل بالشرائع والقيم والمفاهيم التي تنطلق في التوحيد )أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ( وعندما نؤمن بالإله الواحد فإننا نجمع كل حياتنا له، فنأتمر بأمره، وننتهي عن نهيه، ونتحرك في منهجه، ونصنع شخصياتنا على الصورة التي يحبها ويرضاها، مما نصنعه من خلال عقولنا من ركائز يرتكز عليها تفكيرنا، ومن خلال قلوبنا في النبضات التي ينبض بها القلب، ومن خلال حياتنا في الخطوات التي تتحرك بها.
ثم يؤكد النبي(ص) فيما يريد الله له أن يقوله للناس: إنّكم أيها الناس، إذا كنتم تؤمنون بالله الواحد، فإننا سنلقى الله وسنرجع إليه، مما يلزم معه العيش في نطاق هذا الرجاء في لقائه سبحانه وتعالى، ولكنَّ لهذا اللقاء شرطين. الشرط الأول: أن تلقى الله وأنت موحِّد، والشرط الثاني: أن تكون قد عملت عملاً صالحاً في دنياك، والعمل الصالح هو أن لا يجدك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك. )فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(([688]) فالإيمان بالتوحيد والعمل الصالح هما الطريقة المثلى في الامتثال للأوامر لإلهية.
وتلتقي مع هذه الآية آية أخرى، ولكنها تعيش في نطاق التحديات التعجيزية التي كان المشركون من قريش يوجهونها إلى النبي من خلال فكرة مختزنة في داخل وجدانهم الثقافي، أو من خلال فرضية يفرضونها لإسقاط موقع الرسول الذي يدعوهم إلى السير، ليردّدوا في مواجهته المقولة التي كان يردِّدها من كان قبلهم من الأمم عندما كان الرسول يقدِّم لهم نفسه فينكرون عليه رسوليته، باعتبار أن الرسالة تمثل شأناً من شؤون الغيب، فلابد من أن يكون الرسول شخصية غيبية ملائكية أو أن يصاحبه ملك. أما أن يكون شخصية بشرية، يولد كما يولدون، ويموت كما يموتون، ويعيش كما يعيشون، ويشعر بضغط الحاجة، فهذا أمر لا يتناسب مع دعوى الرسالة.
هنا يقول الله تعالى مما جرى على ألسنة هؤلاء )وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ( بأنك رسول الله )حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا( فنحن في صحراء، فعليك أن تفجر لنا الينابيع من هذه الأرض، لأن هذا هو شأن الذي يرتبط بالله، فيملك القدرات الغيبية التي يمنحها الله لمن يرسله من الرسل بالرسالة، ليستجيب للناس في كل ما يطلبونه وما يحتاجونه )أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا( بستان فيه نخيل وعنب وأنهار تجري بداخله لتساعده على النموّ )أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا( فإن كنت تملك القدرات التي تهددنا بها فيما لو لم نؤمن لك، فاسقط السماء علينا قطعاً متناثرة )أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا( أو أن ينزل الله من عليائه ومعه ملائكته ليأتوا إلى مكة ليشهدوا أنك رسول الله )أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ( من ذهب )أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ( ونحن ننظر إليك، فلا يكفي أن تخبرنا، بل يجب أن تأتي بشاهد )وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ( لعروجك إلى السماء )حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه( .
وأمام هذه الاقتراحات التعجيزية، يأتي الخطاب لرسول الله(ص):)قل( يا محمد:)سبحان ربي( عن كل ما تنسبونه إليه )هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا(([689]) فأنا بشر وقدراتي قدرات البشر وإن كنت رسولاً، إذ ليس من مهمتي أن أغير الواقع وأن أُحوِّل الصحراء إلى جنائن وأن أفجر الينابيع من الأرض أو أن أرقى إلى السماء أو يكون لي بيت من زخرف أو ما إلى ذلك. إن دور الرسول هو المبشر والمنذر )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(([690]) وإن دوري هو أن أنقل إليكم رسالات الله، وليس من شأن الرسول أن يغير الطبيعة، وليس من قدرة البشر تغيير الصحراء وتحويلها إلى جنائن )قُلْ سُبحان رَبي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا( .
وهنا يريد القرآن الكريم الحديث عن مشكلة هؤلاء الناس في فهمهم لمسألة الرسالة وطبيعة تفكيرهم الخاطئ )وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا( في إشارة إلى عدم تعقلهم لها؟. و)قُلْ( تشير إلى أن الرسول لابد أن يكون من نوع المخلوقات التي يُرسل إليها، فإذا كان الله يرسل إلى الناس رسولاً فإنه يلزم أن يرسل بشراً، حتى تكون قدراته بمستوى قدراتهم، فيخاطبهم ويخاطبونه، ويكون القدوة لهم، لأنه إذا كان ملكاً فإنه لا يمكن أن يكون قدوة، إذ يقال – عندئذٍ – هذا ملك ونحن بشر، والبشر لا يستطيعون ما يستطيعه الملك )قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا(، إذ لابد أن يكون الرسول من فصيلة الذين يُرسل إليهم، كي ينشأ التناسب بين الذهنيات، لأن الرسول لابد أن تكون ذهنيته ذهنية المرسل إليهم، ولكن ليس بالمستوى والمرتبة، بل بحسب الطبيعة، وأن تكون لغته لغة من أُرسل إليهم، ويملك أن يعيش مع هؤلاء الذين أرسل إليهم، بحيث يكون جزءاً من حياتهم. هذه سنَّة الله، وحكمته في ذلك، لأن دور الرسول بالدرجة الأولى هو دور ثقافي – إن صحَّ التعبير – ومن خلال تنوع هذه الثقافة، فإن له دوراً تربوياً ودوراً روحياً. وهذا يحتاج إلى أن يكون هناك تفاعلٌ بين الرسول وبين مجتمعه )قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا( .
دور النبي(ص):
ثم بعد أن يركز النبي(ص) الفكرة، ويرفض الاقتراحات التعجيزية من خلال رفض الأساس الذي انطلقوا منه، يؤكد رسالته بطريقة إيحائية على مستوى الصدمة: )قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ(([691])، فإني لا أريد أن أقدم نفسي كرسول من خلال ما تطرحونه عليّ، مما لا أملك قدرته ومما لم يعطني الله قدرته، مع أن الله قادر على أن يعطي من القدرات لعباده إذا اقتضت حكمته ذلك، ولكن ليست هناك حكمة في أن يرسل الله الرسول في مهمة تغيير العالم وما أشبه ذلك.
وإذا كان بعض الناس يتحدث عن الولاية التكوينية للأنبياء وللأئمة(ع)، فإن القرآن دليل صارخ على رفض هذه الفكرة، لأننا إذا قلنا بأن الله غير قادر على أن يعطي الأنبياء والأئمة هذه القدرة، فهذا غير معقول، لأن الله قادر أن يفعل ذلك، كما هو حال المعجزة، حيث يحوّل العصا إلى ثعبان، ويحول اليد السمراء إلى يد بيضاء، ويعطي عيسى(ع) القدرة على أن يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، كمعاجز في ظروف معينة نتيجة حاجة الرسالة إليها، ولكن الله لم يعط رسله وأولياءه هذه القدرة بالمطلق، لأنهم لا يحتاجون إليها، فهي ليست مهمتهم، فالبحث ليس في القدرة إنما هو في الحاجة لذلك.
ثم نحن نقول دائماً لماذا الولاية؟! الولاية إنما تُجعل لسدّ النقص، فالشخص البالغ المستقلّ الرشيد ألا ترتفع عنه الولاية؟! وإنما يجعل شخص ولياً على شخص أو على أمر إذا كان هناك نقص فإنّ الولي يكمله. والله هو ولي الكون، وقد نظّم الكون وفق قوانين وسنن كلها برهان على هذا الكمال )قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(([692]) و)إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(([693]) و )مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(([694]) فإذا كان خلق الله لهذا الكون بهذا المستوى من الكمال، فلماذا يجعل ولياً عليه؟ فهل يأتي الولي لينقل الشمس من المشرق لتشرق من المغرب؟!، أو هل أنه قادر على أن يجفَّف البحار، وحتى يحوِّل الصحارى – بدون وسائل – جنائن وأنهاراً وغير ذلك؟! إن الله أعطى الإنسان وسائل طبيعية لعملية التغيير وضمن القوانين التي أودعها بالكون.
ولذلك نقول إن القرآن هو الدليل على نفي الولاية التكوينية )قُلْ سُبحان رَبي( وذلك في خطابه للنبي(ص)، الذي هو أعظم من الأئمة(ع)،لم يقم بتفجير الأنهار، لأن وظيفتهم هي في هداية البشرية. أما ما يمكن أن يستدل به من التدبير نظير تدبير الملائكة كما في قوله تعالى )فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا(([695]) فإن ذلك لا يعني خصوصيةً وتمييزاً للأنبياء والأئمة(ع). وإلا فهل نعتقد بالولاية للملائكة، أو هل نعتقد بالولاية للجن، حيث قال العفريت لسليمان(ع) )أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك( فقال )الَّذِيِ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ(([696]). فقد استدلَّ القائلون بالولاية التكوينية بما قاله الذي عنده علم الكتاب، بدعوى أن الذي يملك علم الكتاب كله، وهم الأئمة(ع)، أولى بذلك، فإن الفرق بين العفريت وبين الذي عنده علم الكتاب هو بالزمن. ذلك يأتي به قبل أن يقوم من مقامه وهذا قبل أن يرتد إليه الطرف. فهل نقول إن هذا دليل على الولاية للجن؟ إن هذه من القدرات المحدودة التي أعطاها الله – لحكمة – لنفر من خلقه، وهذا نظير المعاجز التي يجريها على أيدي الأنبياء أو الكرامات لبعض أوليائه وبعض خلقه لحكمة يراها هو سبحانه وتعالى. بل حتى المعجزات، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي حوَّل العصا إلى ثعبان، وهو الذي حوَّل يد موسى(ع) إلى يدٍ بيضاء، وكذلك عيسى(ع)، فالله هو الذي يحيي الموتى، ولكن الله أجرى هذه الأشياء على يده. وكما في قصة إبراهيم(ع) )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا(([697]) فإن الله هو الذي أحياها.
ولذلك يجب أن نقرأ القرآن بتدبر، وأن نأخذ عقائدنا الإسلامية الأساسية منه. وهذا لا يعني أن نلغي السنّة، بل إن ذلك هو من السنة أيضاً، إذ روي عن النبي(ص) والأئمة(ع): ((ما جاءك في رواية من برٍ فاجر يوافقه القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من برٍ أو فاجرٍ يخالف القرآن فلا تأخذ به)) ((ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه))([698]). وإذا كنا ننفي أن يكون للنبي القدرة على التصرف في الكون، فإن هذا ليس انتقاصاً من النبي(ص) أو الأئمة(ع)، لأن عظمة النبي أن الله أرسله واصطفاه، وعظمة الأئمة(ع) أنهم أوصياء رسول الله، وأنهم حملوا الرسالة وأخلصوا لها، وقد يعطي الله ما يحتاجه النبي لنبوته وما يحتاجه الإمام لإمامته.
دور الوحي في حركة الرسل:
وفي آية أخرى، يقول الله تعالى: )قُلْ( يا محمد )مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ(. أنا رسول )وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ(([699]) و)وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ(([700]) فأنا كباقي الرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله إلى أممهم من قبل، فكما أنهم بشر فأنا بشر، وكما أنهم يعيشون نقاط الضعف البشري بأجسادهم وقدراتهم فأنا أعيش ذلك )وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ( فإني لا أعرف ماذا يجري عليّ غداً وما يحدث لكم غداً، فإن الله لم يعطني من الملكات التي وهبني إياها ملكة العلم بالغيب، وإن كان قد يعطيني غيبه بحسب ما يرى من حكمة مما يطلعني عليه، كما في قوله تعالى )تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ(([701]) و )عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ(([702])، إذ هناك فرق بين أن نقول إن الله يطلع رسوله على معلومات غيبية مما يوحي إليه بهذا الغيب أو ذاك الغيب كما في قوله )ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ(([703]) كما في قضية يوسف(ع) أو في قضية مريم(ع) )إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( و)وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(([704]) وبين أن يكون النبي قادراً على الاطلاع على الغيب في أي وقت يشاء ويريد، أي عن نفس قادرة على ذلك. )قُلْ مَا كُنْتُ( ، قل للناس أن ينظروا إليك كبشر يحمل رسالته من دون أي تهاويل ومن دون أن تقدم نفسك لهم بقدرات غيبية إلا من خلال الوحي )وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ( فإني أنتظر الوحي )وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ(([705]) فإن دوري هو أن أنذركم بطريقة واضحة تعرِّفكم مسؤولياتكم أمام الله وأعرّفكم ما يريد الله لكم أن تعرفوه.
رسول الرحمة:
وفي آية أخرى، يقدِّم الله سبحانه وتعالى رسوله إلى الناس بصفاته الروحية والأخلاقية التي تصوِّر القيم الاجتماعية الإنسانية التي يتمتع بها الرسول وكيف يقدم النبي نفسه للناس: )لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ( من هذا المجتمع ومن نفس العائلة ومن نفس البيئة ومن نفس المنطقة ومن هؤلاء الناس )عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ( يحمل آلام الأمة عندما تعيش الأمة المشقات التي تجهدها، وترهقها وتورطها في مشاكل كبيرة، فإنه يعزّ عليه ذلك، مما يلاقي الناس من العنت أي المشقة )حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ( يحوطكم ويحرص عليكم أن لا تضيعوا وأن لا تعيشوا في المتاهات وأن لا تسقطوا )بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(([706]) فإن خُلُقه الرأفة بكم والعطف عليكم والرحمة )فَإِنْ تَوَلَّوْا( أي أعرضوا عنك ولم يتقبلوك ولم يتفاعلوا مع هذه الإنسانية المنفتحة على كل آلامهم وحياتهم وأوضاعهم )فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ( فأنا لا أحتاجكم، وإنما بُعثت لأجلكم، لا لأحصل على العزة أو القوة من قبلكم )لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ( فهو الذي يملك الأمر كله، إذا توكل عليه عبدٌ فهو حسبه )وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ( فإذا أراد شيئاً كان )قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(([707]) يعطي الناس بحسب حكمته وبحسب ما يحتاجونه مما يرضاه لهم )عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(([708]) وهذه الكلمة )رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ( أراد من خلالها أن يوحي بما لله من العلوّ والعظمة، ليعيش الناس في نفوسهم المسؤولية في الاستجابة للرسول من قبله.
ثم إننا نستوحي من قوله تعالى )فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ( فكرة أساسية ومهمة، وهذه الفكرة هي أن هذا المنطق ليس مختصاً بالنبي(ص) كشخص، بل إنه منطق كل داعية إلى الله يطرح الفكرة أمام الناس، فإن تقبلها الناس فإنه يحمد الله، وإن لم يتقبلها الناس أو أعرضوا عنها ورفضوه فإنه لا يشعر بالضعف وبالسقوط، لأن الداعية إلى الله لا يستمد قوته من الناس، تماماً كما كان النبي(ص) لا يستمد قوته من الناس، بل كان يستمد قوته من الله سبحانه وتعالى، ولذلك يبقى الله في نفس المؤمن مصدر القوة.
وهذا درس لكل الدعاة إلى الله وكل الساعين في طريق الرسالة أن يكونوا أقوى من الضغط الاجتماعي، وأقوى من الضغط السياسي والمالي والأمني، لأنه يرتكز على قوة الله سبحانه وتعالى. وهذا ما أكده القرآن في أكثر من آية، كما في حديثه عن المؤمنين في إحدى المعارك الإسلامية الكبرى، عندما لم يكن هناك توازن بين عدد المؤمنين وعدد الأعداء، وعندما كان الأعداء يحاولون أن يقوموا بأساليب التهويل لإسقاط معنوياتهم )الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ( كما نعيش هذه الأيام في ظل هيمنة الاستكبار العالمي من قبل أمريكا في موقفها ضد المستضعفين من المسلمين، وهي تتهم العالم الإسلامي بالإرهاب، كل ذلك لغرض أن نسقط أمامها ونستسلم، كما هو موقف المرجفين ممن يتوسلون ويبشرون بنظرية التوسل، ما يوحي به كل هذا العجز العربي والإسلامي )فَاخْشَوْهُمْ( أي خافوا منهم، والخوف أمر طبيعي إنساني )فَزَادَهُمْ إِيمَانًا( فإنهم عندما سمعوا هذا التهديد الذي جاءهم من الناس رجعوا إلى إيمانهم وقارنوا بين الناس وبين الله، وهذه مسألة أساسية، فإننا لابد أن ندخل في مقارنة من هذا القبيل، لأن مشكلتنا هي في الضعف الروحي الذي يصيبنا، وفي ضعف العلماء والدعاة إلى الله وضعف المجاهدين، لأنهم أحياناً يستغرقون في قوة القوي وفي ضعفهم وينسون قوة الله، في حين أن المؤمن الداعي المنفتح دائماً يدخل في مقارنة بين قوة الله وبين ضعف الآخرين )فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ( من الناس )وَنِعْمَ الْوَكِيلُ( فكل أمرنا إليه مما يعني الثقة به، لا التكاسل والخمول )فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم ٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(([709]) وهذا هو برنامج المؤمنين. وفي آية أخرى: )بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(([710]). من هم وما هي صفاتهم؟ )الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ( فهل يجدون عندهم العزة والقوة )فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا(([711])، وهذا منطق لابد من أن يأخذ به الدعاة إلى الله والسائرين على خط الرسالة.
ويقول الله تعالى: )قُلْ( ، وفي هذا الخطاب للنبي(ص) يشير سبحانه وتعالى إلى الطريقة التي يقدّم بها الرسول(ص) نفسه للناس داعياً إلى الله وموحداً له )قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا( أدعوه في كل ما أهمني وفي كل ما أحتاجه وفي كل مواقع الضعف التي ربما تعرض عليّ )وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا( فلا أدعو غيره )قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا( فإني لا أستطيع دفع الضرر، لأن الضرر بيد الله )وَلا رَشَدًا( كناية عن النفع و)قُلْ( يا محمد )إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ( فلو فرضنا أن الله أراد أن يهلكني فليس هناك من يملك القوة ليجيرني من الله )وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا( يعني مكاناً أهرب إليه أو أختبئ فيه )إِلا بَلاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ( فإن هذا هو الذي أملكه )وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا( ثم )حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا( هؤلاء الذين عصوا الله ورسله. و)قُلْ( يا محمد وهم ينظرون إليك كأنك تعلم الغيب كله )إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا( فمتى تأتي القيامة ومتى يأتيكم العذاب من حيث الزمان؟ كل ذلك يرجع إلى الله )عَالِمُ الْغَيْبِ( وحده )فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ( يعطيه غيبه كما بينّا )تلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهاِ إِلَيْكَ( فإنه يعطي الرسول بعض علم الغيب، لا أن يجعل نفسه وفي ذاته القدرة على الغيب، وإنما يظهره على بعض غيبه. )مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُك من قبلَ( لأن الله يبين بعض الأمور التي يحتاجها النبي في نبوته وفي رسالته ويحتاجها الإمام في إمامته )فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا( وقد يجعل الله مراقبين على الرسل ملائكة )لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ( أي يعلم من خلال ذلك، وإلا فهو يعلم كل شيء )وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(([712]).
هذه هي بعض الآيات التي أراد الله لرسوله بالتحديد أن يبلغها للناس، من خلال كلمة (قل) ومن خلال ذلك كله، نفهم أن علينا أن نأخذ عقائدنا من القرآن، لأنه هو النور، وعندما نأخذ السنة من خلال أحاديث النبي(ص) وأحاديث الأئمة(ع)، فإننا نعتمد البرنامج الذي وضعه النبي للأئمة من أهل البيت(ع) ((كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف))([713]) نعرض كل شيء على كتاب الله ((فما وافق الكتاب فخذوه وما خالف الكتاب فاضربوا به عرض الجدار))([714]). والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة الخامسة والعشرون 27 ربيع الأول 1423ه - 8 / حزيران /2002م
الخطاب القرآني (5)
التعاطي مع الأحداث والظواهر
* كان النبي(ص) فيما كلّمه الله بالخطاب (قل) يريد أن يثقف الأمة بالمنهج وليس فقط للردّ عليهم *
الحوار الجادّ.
حرية الإنسان.
منطق البرهان.
الجهل ليس عذراً.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونبقى مع القرآن الكريم، الذي أراد الله لنا أن نستضيء به ليضيء لنا عقولنا، فلا يبقى فيها أية ظلمة من ظلمات الجهل والتخلّف والخرافة، وأن يضيء قلوبنا فلا يبقى فيها حقد على أيّ إنسان، بل تكون قلوبنا كقلب رسول الله(ص) قلباً طاهراً ليِّناً ينفتح على الناس كلهم، على الذي يؤمن به ليتعاون معه على البر والتقوى، وعلى الذي لا يؤمن به ليهديه إلى الصراط المستقيم، وأن ينير حياتنا لتنطلق في طريق العدل الذي أراده الله للإنسان. وأن نعيش مع القرآن لنُعمق إنسانيتنا في كل أبعادها، لأن الله أراد أن يعطينا حياة جديدة من خلاله، حياة فكر وعاطفة وحركة ومنهج، بهذا قال سبحانه وتعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ(([715]). وفي ضوء هذا، لا نزال نتابع الحديث عما أراد الله لرسوله(ص) أن يُبلغه للناس، مما يتصل بالعقيدة وبالشريعة وبالحياة بكلمة (قُلْ)، لأن هناك خطابات قرآنية من الله للرسول لا تبدأ بهذه الكلمة، ونتابع في ندواتنا هذه ما جاء من الله لرسوله بهذا الأسلوب.
الحوار الجادّ:
قال الله تعالى: )قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ(([716]) )أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ( لتنسبوا إليه ما لم يقله، أو لتجعلوا الله مختصاً بكم. والمحاجَّة أو المُساءلة عندما لا تكون منطلقة في الخط المستقيم، فعلى الإنسان الذي ينفتح على الحقيقة أن لا يدخل في جدل لا معنى له ولا هدف له، بل أن يقول لهؤلاء: )قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ( فإذا كنتم غير مستعدين لأن تحاورونا بالحق أو أن تقتنعوا وتؤمنوا، فانطلقوا بأعمالكم وننطلق بأعمالنا، ونحن مخلصون لله في ذلك، وسنقف غداً بين يدي الله ليفصل بيننا، )قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ( فلقد كان النبي(ص) يعاني الكثير من الأساليب المعقدة التي يواجهه بها المشركون من قومه، ثم كبرت المسألة مع أهل الكتاب ومع المنافقين، وقد قال الله لهم: )اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ( أي خذوا حريتكم في ما تريدون أن تحركوا حياتكم في اتجاهه في ما تؤمنون أو في ما لا تؤمنون، وتحمَّلوا مسؤولياتكم أمام الله مما تواجهونه في مستقبلكم، )إِنِّي عَامِلٌ( وسوف لن يهتَّز موقفي، ولن تسقط رسالتي أمامكم مهما عملتم، ومهما واجهتموني بالوسائل السلبية وبالأساليب غير الإنسانية فلن أتراجع، وإني عامل بما حُمّلت من رسالة، وعامل بما أتحمَّل مسؤوليته من إصلاح الناس، ومن تزكية نفوسهم، ومن انفتاح عقولهم على الحق، وحياتهم على الخير والعدل، )فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(([717]) ربما لا تقتنعون بما أثيره أمامكم من وسائل التبشير والإنذار، وبما أحدثكم عنه من الدار الآخرة، وقد تجحدون بذلك، ولكن المسألة أن المستقبل أمامنا، فمن الذي تكون له عاقبة الدار الآخرة؟ ومن الذي ينجح في مسيرته من خلال ما يُقبل عليه من رضوان الله، ومن نعيمه في جنته؟ وسأقول لكم، كما أراد الله لرسوله(ص) أن يقول )إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ( الذين ظلموا أنفسهم فعطلوا عقولهم عن التفكير، وعطَّلوا حياتهم عن حركة التغيير.
وهذا الأسلوب هو ما ينبغي للدعاة إلى الله وإلى الإسلام أن يقتدوه في كل حياتهم، فقد نواجه في واقعنا المعاصر فريقاً من الناس ليسوا مستعدين لأن يدخلوا معنا في حوار حول الإسلام في مقابل الكفر، وحول بعض القضايا الثقافية في داخل الإسلام، من شؤون العقيدة والشريعة والمنهج في مواجهة القضايا الأخرى، أو في القضايا السياسية فما يلتزمه البعض من رأي سياسي ويلتزم الطرف الآخر رأياً آخر وهكذا، وربما نواجه الكثير من الناس الذين يعيشون عقدة الذات، فهم ليسوا مستعدين لأن يناقشوا أية فكرة تختلف عن فكرتهم، لأنهم يعيشون الجمود الفكري، أو العصبية السياسية أو الاجتماعية أو الإنمائية، هؤلاء يعيشون في زنزانة في داخل ذواتهم ولا يريدون أن يتغيروا، كما قال الله عنهم: )سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ(([718]).
فإننا عندما نقابل مثل هؤلاء، ربما يكون الجدل معهم عقيماً، لأنهم ليسوا مستعدين أن يستمعوا إلى الرأي الآخر، وقد أشرنا في ندوة سابقة إلى أسلوب جيش عمر بن سعد، عندما كان الإمام الحسين(ع) يعظهم ويرشدهم ويدعوهم إلى الحوار ويقيم عليهم الحجة، فكان ردُّ الفعل منهم: ((ما ندري ما تقول يابن فاطمة ولكن انزل على حُكم من بني عمك)) وهم سمعوا ما يقول، ووعوا ما يقول، لكنهم كما قال الإمام علي(ع): ((حليت الدنيا بأعينهم، وراقهم زبرجها))([719]) لأنهم كانوا يعيشون في دائرة أطماعهم وغرائزهم، وكانوا لا يعيشون في آفاق عقولهم، فعندما نلتقي بأمثال هؤلاء الناس، فعلينا أن نمتنع عن تضييع الوقت معهم، لنقول لهم كما علّم الله رسوله أن يقول )اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ( خذوا حريتكم في ما تتحركون فيه، وما تلتزمونه إذا كنتم لا تريدون الحوار الجدي، ولكن مهما قست مواقفكم وتصلّبت فلن تهز مواقفنا.
ولذلك فإننا يجب أن لا نسقط أمام ما نواجهه من الآخرين الذين يختلفون معنا فكراً، وأن لا نسقط أمامهم وأمام كل الأساليب اللا مسؤولة، سواء كانت ترغيباً أو ترهيباً، لأننا إذا آمنا برسالتنا فعلينا أن نأخذ القوة من داخل إيماننا، سواء رضي الآخرون أو لم يرضوا، كما قال الله تعالى: )وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(([720]) والعمل يكون في نتيجته، ومن خلال العواقب التي تحسم خلفيات العمل، ومهما استبد الخصم في رأيه وتصلّب، إلا أنّ المسألة هي في النتائج الأخيرة التي يلتقي عندها العاملون المخلصون، وهي التي تنتظر المخلصين الواعين العاملين برسالة الله سبحانه وتعالى. وقد ورد عن الرسول(ص) في حديثه مع شاب طلب منه أن يوصيه: ((فقال له: إذا أنت هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك رشداً فأمضه، وإن يك غياً فانته عنه))([721]) فلا ترتبط بالبدايات، فربما يكون السُّم في الدسم، وعند ذلك سوف يُغريك الدسم في البداية، ولكن السُّم سوف يقتل حياتك في النهاية.
وهكذا تستمر الآيات في كلمة )قُلْ(، )فَإِنْ كَذَّبُوكَ( وأنكروا رسالتك )فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ( فإن الدعوة هي إلى الرب الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وفي الوقت نفسه، فإن الله يزن الأمور بميزانها، لأنه ينطلق بحكمته التي لا حدّ لها، فتتحرك رحمته في مواضع هذه الحكمة، كما يتحرك بأسه وعقابه في مواضعها )وَلَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(([722]). وقد ورد في دعاء شهر رمضان (الافتتاح): ((وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة)) فالحكمة أن تضع الشيء في موضعه، وحكمة الله في وضعه الأشياء في مواضعها. فإن الله لا يرحم هؤلاء المجرمين، لأن الجريمة لا تضر الله شيئاً، ولكنها تضر الإنسان في نفسه وتضر الناس معه، وتضر الحياة معه.
حرية الإنسان:
على ضوء هذا، فإن المسألة تتعلق بحق الإنسان في نفسه، والله لا يريد للإنسان أن يظلم نفسه، وهذه مسألة يجب أن تُعرف في التشريع الإسلامي، فالإنسان عبد الله، هو خلقه ولذلك فهو ليس حراً في أن يتصرف بنفسه في ما يضرها، وليس حراً في أن يضرّ عقله، ولذلك حرم الله الخمر وكل المسكرات والمخدرات. وهكذا فإن الله لا يعطيك الحرية في أن تضرّ جسدك، أو أن تنهي حياتك. وهذا هو الفرق بين الحرية في الإسلام من الناحية القانونية، والحرية في القوانين الوضعية، ولا سيما الغربية، فهم لا يعتبرون إضرار الإنسان بنفسه خطيئة، ولا يعتبرون الانتحار جريمة، ولا يعتبرون المخدرات ـ مثلاً ـ جريمة شخصية، إنما يحاربونها لأنها تضر الواقع العام، لا من خلال أنها جريمة شخصية، ولهذا فإن الكلمة المعروفة عندهم في تحديد الحرية أنها تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر، بمعنى أنك حر في أن تفعل ما تشاء، ولكن عندما تصل إلى حد إسقاط حرية الآخرين عندها تنتهي حريتك.
أما في الإسلام فالأمر مختلف، فإن الله يتدخل في خصوصيات الإنسان بما يحفظ إنسانيته، فلا يجوز للإنسان أن يظلم نفسه، أو يظلم الآخرين، وعندما يتحدث الله عن الذين يشركون ويكفرون ويعصون الله يقول )وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(([723])، فأدخل المسألة في دائرة حكم السلب، ولا فرق في إنكار الإسلام للظلم، بين أن يكون الإنسان ظالماً لنفسه في الكبيرة والصغيرة، ولذلك فكل ظلم للنفس هو عمل غير جائز تماماً كما ظلم الغير غير جائز، ولذلك قلنا إنه لا يجوز للإنسان أن يجرح جسده أو أن يقتل طاقته، ونحن نفتي كما يفتي الآخرون من الفقهاء، بأنه لا يجوز للإنسان أن يجمِّد طاقته فيقتل طاقة الإنجاب عنده، فمثلاً إذا كنت لا تستطيع أن تنظر بعينك إلا مدة زمانية محددة، فإنه لا يجوز أن تنظر مدة أطول، لأنك بذلك تقتل النور في عينيك، وهذا مما لا يجوز فعله من الإنسان، ولا فرق بين قتل النفس وقتل الطاقة أو تجميدها.
ولهذا أفتينا كما أفتى الشيخ الأنصاري (رض) وعلماء آخرون بحرمة الإضرار بالنفس، ومنه جرح الرأس وما إلى ذلك، لأنه يؤدي إلى الإضرار بالنفس، سواء أدى إلى التهلكة أو لم يؤد إليها، )فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( فإن الله يتحدث عما يقوله هؤلاء الذين كان النبي(ص) يعيش في مجتمعهم ويدعوهم إلى الله، وكانوا يحرمون ما يحرمون ويحللون ما يحللون )سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا(([724]) فكانوا يقولون بأن كل شيء خاضع لمشيئة الله، فيقولون إننا عندما نشرك به فإن الله قادر على أن يمنعنا من الشرك بالقوة، ما يعني ـ حسب قولهم ـ بأن الله شاء لنا أن نشرك، وكذلك كان آباؤنا، وكذلك ما حكمنا بحرمته فإنه مما شاء الله لنا ذلك، فلو لم يشأ الله ذلك لمنعنا، وحيث إن الله لم يمنعنا فإن الله شاء لنا أن نحرم فكان التحريم، وكان الشرك ـ أيضاً ـ بإذن الله لأنها مشيئة الله كما يقولون، فإن الله سبحانه وتعالى قال عنهم: )كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا( لأن المشيئة على قسمين، فمثلاً، إن الله شاء أن يخلق الإنسان والشمس والقمر والسماء والأرض، وهذه مشيئة تكوينية )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(([725]).
أما المشيئة التشريعية فيعني أن الله حرّم أشياء وأوجب أشياء، وقد شاء للإنسان أن يترك ما حرّمه، بمعنى أن الله لا يرضى له أن يعمل بما حرمه، وشاء له أن يفعل ما أوجبه فيثاب على فعله، ولكنه ترك له الحرية في أن يفعل أو لا يفعل، أما في عالم التكوين فإنه لا يملك الاختيار )إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا( فقالت تلك الأكوان: يا رب، لا نستطيع تحمل المسؤولية )وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا(([726]) فقد اختصَّ الله الإنسان بأن جعله خليفته في الأرض وأرجع مسؤوليته إليه )إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(([727])، )وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(([728]) فإن الله عرَّف الإنسان طريق الخير والشر، وشجعه على طريق الخير، وأبعده عن طريق الشر، وقال له أنت تتحمل مسؤوليتك )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(([729])، إن المشيئة التشريعية لا تقتضي أن يرضى الله بما يفعله الإنسان تكوينياً مما أوكل إليه أمره أو تركه تكويناً، فلا يجبره على الفعل أو الترك، ولا يتدخل مباشرة في الاختيار، ولذلك فإن هؤلاء خلطوا بين المشيئة في عالم التكوين والمشيئة في عالم التشريع.
)قُلْ( )هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا(، فإن الإنسان عندما يدّعي دعوى أو يتبنى فكرة، فإنه لابد له أن يرتكز على أساس متين من علم أو حجة أو برهان، فليس له أن يكتفي بالظن، ولذلك فإن الله يقول للإنسان إن عليك أن تقيم حجة على ما أنت فيه، بحيث إنك عندما تختلف مع الآخر فعليك أن تقدم حجة علمية في مواجهته، وليقدم هو أيضاً الحجة المضادَّة، وعلى الإنسان حينما يدخل في جدل حول أي موضوع أن يملك علم ما يجادل فيه )هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ(([730])، فإن الشيء الذي تملك علمه وثقافته تستطيع أن تجادل فيه، وأما الشيء الذي لا تملك علمه وثقافته فإنك لا تستطيع أن تجادل فيه، لأن الجدل له قواعد وله أصول.
منطق البرهان:
وعلى ضوء هذا، كان النبي(ص) في ما كلمه الله بالخطاب (قُلْ) بصدد أن يعلّم الناس المنهج، فلم يكن(ص) يريد أن يردّ عليهم وحسب، بل كان(ص) يريد أن يثقفهم بالمنهج، فمن حق الإنسان أن يختلف مع الآخر إذا قاده فكره إلى ما يختلف فيه معه، لكن عندما تختلف معي وتؤمن بما تختلف فيه معي، فلابد أن تكون عندك حجة هذا الشيء وثقافته، وهذا هو ما يركز المجتمعات على الأسس العلمية في كل ما يختلفون فيه، في العقيدة والسياسة والاجتماع، وهو الذي يمنع الغوغاء أن يدخلوا الساحة ليسقطوا الساحة أو ليتركوا تأثيرهم فيها، وهو الذي يمنع العناصر العاطفية التي تتدخل لتسقط الفكرة هنا وتسقط الفكرة هناك، ولعل مشاكلنا في الشرق في كل ما نأخذ به أو ندعه، أننا عندما نتجادل فإننا نتجادل بالغريزة وليس بالعلم، وقد يبرر أحد إيمانه بفكرة، (بأن الناس كلهم يقولون كذا)، وهذه المسألة واجهت الأنبياء كلهم )إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(([731])، ولكي نستطيع أن نحفظ التوازن الفكري والحركي لمجتمعنا، لا بد أن يكون المنهج عندنا كما علَّم الله رسوله )قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا( وعندما يكون المنطق علمياً تسقط الغوغاء وتسقط جميع الكلمات اللامسؤولة.
ولقد مشكلة النبي(ص) ـ كما كانت مشكلة الأنبياء من قبل ـ أن الناس لا يريدون أن يتحدثوا معه أو عنه بالمنطق، وكانوا يريدون من الآخرين أن لا يسمعوه ولا يؤمنوا به، ولا يسمعوا كلام القرآن )وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ(([732]) فكانت المسالة عندهم عندما كان النبي(ص) يريد أن يقرأ القرآن، كانوا يلجأون إلى إثارة الضجيج حتى لا يسمع أحد القرآن. وكثير من الناس الآن بيننا، وفي مجتمعنا السياسي والديني والاجتماعي، عندما يختلف مع شخص آخر فإنه لا يسمع منه، ولا يجلس في مجلسه، ولا يقرأ كتبه، ولا يتجادل معه، لأنهم يخافون أن تُعرف الحقيقة، لأن الناس عندما تفتح عقولها، وعندما تسمع وتفكر، تستطيع أن تعرف الحق من الباطل )قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ( يعني أن ما عندكم لا يتجاوز العاطفة أو الأوهام أو الغريزة، أو أنه ينبع من خلفية ذاتية، ما يدفعكم إلى هذه الاحتمالات التي لا ترتكز على حجَّة )وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ( والخرص هو التخمين، كالذي يخرص العنب بطريقة غير صحيحة، وبدون دقة وتنظيم، وهذا الأسلوب كان يتبعه المشركون سابقاً، وهو يسود المسلمين من خلال الجو الديني والسياسي والاجتماعي، ولذلك نلاحظ أن المسلمين منذ 400 سنة لا يستمعون إلى بعضهم البعض، فالسني لا يستمع إلى الشيعي والشيعي لا يستمع إلى السني، والشيعي لا يستمع إلى الشيعي ولا السني يستمع إلى السني، لتثبت الحقيقة أو ليتفاهموا على قواسم مشتركة.
وهذا هو السائد في العالم، فمثلاً عندما نسمع (بوش) يقول إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهاب، يعني ليس لكم حرية المناقشة فيما هو الإرهاب، فيقول (كل من ليس معنا فهو ضدنا)، مع أنه يمكن أن لا أكون معك، ولكن قد لا أكون ضدك، لأن عندي حلاً وسطاً أختلف فيه عنك وعن الطرف الآخر، لكن هذا منطق المستكبرين، والمستكبر تارة يكون رئيس دولة عالمية كبرى، وتارة يكون مستكبراً صغيراً على زوجته وأولاده أو على الناس الذين يعيشون في موقعه، )قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ(([733]) لن تكون لكم حجة على الله، فلا تملكون أمام الله أية حجة، والله يحتجّ عليكم بما وضعه بين أيديكم مما خلقه لكم في داخل ذواتكم من أجهزة، أو بما قدمه إليكم من رسالات. وقد ورد عن الإمام الباقر(ع) في تفسير قوله تعالى )فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ( ـ ما مضمونه ـ أنه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له لِمَ لم تعمل؟ فيقول: لم أعلم، فيقال له: هلا تعلمت لأنك قادر على أن تتعلم فلا يجد جواباً، لأنه لم يتعلم استهانةً أو غفلةً أو عصبية أو ما أشبه ذلك من الأمور، ولذلك قال الفقهاء أو علماء الكلام إن الجاهل المقصِّر ليس معذوراً.
الجهل ليس عذراً:
وعلى ضوء هذا، نفهم أن الثقافة الإسلامية، سواء كانت ثقافة العقيدة أو الشريعة أو ثقافة المنهج أو التطبيق، في ما يأخذ به الإنسان أو يدعه، هي مسؤولية كل مؤمن ومؤمنة، لأن الجهل ليس عذراً، بل إن الجهل عذر من لا يستطيع أن يتعلم، كما في جهل القاصر أو جهل الذي لم تبلغه الدعوة، فإن الجاهل الذي لا يملك الوسائل والظروف للتعلم معذور، وأما الجاهل المقصِّر الذي يستطيع أن يتعلم ولكنه أخذ بأسباب اللعب أو اللهو أو ما أشبه ذلك من أوضاع، فإنه ليس معذوراً أمام الله، لا سيما بلحاظ مسؤولياتنا كمسلمين، فنحن مسؤولون أن نحمل رسالة الإسلام إلى العالم وإلى الأقربين )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(([734])، و)وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا(([735])، و)قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ(([736]) ومأمورون بأن نكون أمة الخير )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ(([737]) خصوصاً بعد أن انفتحت أمامنا أبواب الهجرة إلى البلدان غير الإسلامية، لذلك لابد لكل مسلم ومسلمة أن تكون له من الثقافة ما يملك أن يحفظ نفسه، ويملك ما يدعو به الآخرين إلى الإسلام.
ونحن نقرأ تاريخ الدعوة إلى الإسلام، ونقرأ أن الكثير من البلدان الإسلامية وأكبرها، مثل إندونيسيا أو ماليزيا، لم يدخلها الإسلام من خلال القوة العسكرية، بل دخلها عن طريق العمّال أو التجار المسلمين، ممن توفروا على معلومات ثقافية إسلامية، فكان يحدّث بعضهم بها من يعيش معه، وهكذا أصبح ثلاثمائة مليون مسلم هناك، فيما المناطق التي دخلها الإسلام من خلال عمليات الفتح الإسلامي محدودة جداً، لأن رسالتنا للعالم )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا(([738]).
فلابد للإنسان أن يأخذ بأسباب العلم، وأن يكون في حالة طوارئ، كما عندما يهاجمنا العدو ويزج بكل طاقاته في المعركة، علينا في هذا المجال أن نستنفر كل طاقاتنا للدفاع عن أنفسنا، فالآن عندنا حالة أمنية ثقافية ضد الإسلام من سائر العالم، حيث ((برز الكفر كله إلى الإسلام كله))([739]) ودخل التحدي للإسلام من خلال القنوات الفضائية وغيرها، لذلك يجب أن لا نكون حياديين، وقد كان الإمام الصادق(ع) يقول: ((لوددت أن السياط على رؤوس شيعتي كي يتفقهوا في الدين))([740]). ((أفِّ لمؤمن أو مسلم لا يفرغ نفسه لأمر دينه))([741]) فالإسلام مسؤولية كل العلماء، فكما لو كان هناك وباء معدٍ وانتشر بين الناس، فإن الأطباء يجبرون الناس على التلقيح ضد هذا الوباء، فكذلك العلماء ((إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه))([742]) أن يبيّنه للناس وأن يعيش المشكلة، ((ومن لم يفعل فعليه لعنة الله))([743])، )قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ( لأنه هيَّأ لكم كل الوسائل، من داخل ذاتكم، ومن خارجها، بما يمكن لكم أن تهتدوا به فيما لو حركتموه واستعملتموه في الاتجاه الصحيح )فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ( بطريقة تكوينية، ولكنه أراد للإنسان إن يهتدي إلى الإيمان من خلال ما أودعه في وجوده من حرية الإرادة، وحركية الاختيار. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السادسة والعشرون 11 ربيع الثاني 1423ه - 22 / حزيران /2002م
الخطاب القرآني (6)
الطرح العقائدي والتشريعي
* الخطاب الذي يبدأ ب(قل) له مضمون فكري وشرعي وعملي *
التشريع حق الله وحده.
من الأصول إلى الفروع.
جاهلية الماضي والحاضر.
العقوبة العادلة.
الوقوف عند حدود الله في معاركنا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ويبقى الكلام حول الآيات القرآنية التي خاطب الله بها رسوله(ص) بكلمة (قُلْ)، ما يوحي بأهمية المضمون الفكري والشرعي أو العملي لهذه الأفكار. وفي قوله تعالى: )قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا(([744])، عندما ادّعى القوم بأن الله حرم أشياء كثيرة من دون أي أساس لدعواهم هذه، فأراد الله للرسول(ص) وهو يعيش الجدل معهم، أن يقول لهم، إن أي إنسان يدعي دعوى على شخص أنه قال قولاً أو شرَّع قانوناً، إذا كان ممن يملك سلطة التشريع لابد له من شهداء على ذلك، وإلاّ كانت دعوته دعوى بلا دليل. فالله يقول لرسوله أن يقول لهم: )قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا(. فإن جاءوا بأشخاص من هنا وهناك ليقدموا شهادتهم، فلا تشهد معهم، لأن المسألة هي أنه ليس هناك من يملك أن يشهد على الله، إذ من الممكن للإنسان أن يشهد على فلان أو فلان لأنه سمع من هذا أو سمع من ذاك، أما أن يأتي إنسان ويشهد شهادة حسية أن الله حرم هذا أو حرم ذاك، فهو كاذب في شهادته، ولذلك فلا تتقبل ذلك ولا تعترف لهم )فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا( إنهم يريدون أن يفرضوا عليك فكراً معيناً أو منهجاً معيناً، وعندما تدرس ما يملك هؤلاء من فكر وما يملكون من دراسة للبرامج المتعلقة بحياة الناس أو القوانين التي تنظم للناس حياتهم، فإنك لا تجد أي أساس لكل ما يصدر عنهم سوى الهوى الذاتي، فينطلقون من خلال الأهواء التي تنسجم مع أطماعهم ومع تخلفهم، لينتجوا فكراً من خلال الهوى، ويتحركون من خلال الطمع والتخلف في ذلك. لهذا عليك يا محمد أن لا تتبع هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، والدليل على أنهم لا يملكون فكراً هو تكذيبهم بآيات الله، لأن آيات الله تملك الحجة في ذاتها، على أنها الحق الذي )لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ(([745]) ولهذا فإنهم لا يملكون أي أساس ليتبعهم أحد، باعتبارهم أصحاب هوى لا أصحاب فكر. )وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ( أي لا تتّبع الذين لا يؤمنون بالآخرة، لأن الإيمان بالآخرة هو الذي يركز في وعي الإنسان الإحساس بالمسؤولية، لأن الإنسان الذي يتكلم ببعض الكلمات، أو يطلق بعض الأفكار، أو يحرك بعض الوسائل أو بعض الأساليب، فإنه عندما يشعر بالحرية لأنه يملك مالاً أو سلطةً، فإنه لا يجد أي رقابة عليه تراقب أخطاءه وانحرافاته، أما الذي يؤمن بالآخرة، فإنه يعرف أن في الآخرة حساباً ومسؤوليةً، لأن كل ما ينتجه الإنسان في حياته، فهو مسؤول عنه أمام الله )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(([746]) وقوله تعالى: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(([747]) ولذلك فإن الآية في مقام خطاب الله للرسول(ص) بأن لا يتبع الذين لا يؤمنون بالآخرة، من خلال أن الإيمان بالآخرة وعدم الإيمان بها هو الذي يمثل مسألة أن يكون الإنسان مسؤولاً في حركته أو لا يكون مسؤولاً في حركته. )وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(([748]) يعني يساوون ربهم بالأصنام والأوثان أو بما يستحدثونه مما يزعمونه آلهة إلى جنب الله أو آلهة من دون الله.
التشريع حق الله وحده:
ومن خلال ذلك، فإننا عندما ندرس هذا الخطاب الرباني للرسول، وكيف يخاطب هؤلاء الناس من حوله، والذين أُرسِلَ إليهم، نلتفت إلى الواقع الذي نعيشه من خلال خط هذه الآيات، فنحن عندما نواجه أناساً يقدمون لنا قوانين معينة وشرائع معينة ويزعمون أنها تمثل المصلحة الإنسانية العليا، أو أنها تتفق مع ما يحبه الله ويرضاه، وهذا ما نلاحظه في كثير مما يسمى بالحركات التجديدية أو مما يتحدث عنه الناس في ما يسمى بالعولمة والحداثة وما إلى ذلك مما استحدثه الناس في مسألة الخطوط القانونية، التي تنظم للناس حياتهم الفردية أو الاجتماعية في الجانب السياسي، أو في الجانب الاقتصادي، فإنه من الممكن جداً أن نستوحي من هذه الآية مدى ضرورة أن ندرس شخصية هؤلاء، وأن ندرس خلفياتهم الفكرية والنفسية، وأن ندرس الذين يُوحون لهم بذلك من مفكرين ومثقفين وقانونيين. وقد لا نقول لهم هلمّ شهداءكم يشهدون أن الله حرم هذا، لكننا نقول لهم هلمّ شهداءكم الذي يشهدون من خلال الوعي لما يشهدون به، ومن خلال توثيق ما يشهدون به، ومن خلال التحليل لما يشهدون به، فهل يطابق الحقيقة الرسالية؟ لأن بعض الناس قد يتصورون أو يقولون بأن الله يريد ذلك، وأن الإسلام يريد ذلك، وما إلى ذلك، وأن روح الإسلام يقتضي ذلك … هذه كلمات قد تنطلق من خلال حق وقد تنطلق من خلال باطل، لأنها كلمات فضفاضة، فإنها يمكن أن تنطبق على الحق، ويمكن أن تبتعد عن الحق.
ولذلك فإن علينا أن لا نقبل أي شيء يُقدَّم إلينا في عالم الفكر أو العمل من خلال عناوين كبيرة، كالحداثة والتجديد والعولمة وغيرها، بل لابد لنا أن ندقق في كل شيء لنتعرف على جانب الحقيقة أو الباطل فيه. إنه أسلوب يقول لك أن لا تقبل شيئاً لا يملك الذين يقدمونه إليك الشهادة بأنه يمثل الحقيقة، سواء كانت شهادتهم من خلال حس في ما يرتبط بالحس، أو من خلال فكر في ما يرتبط بالفكر، ثم عليك عندما تريد أن تتحرك في الانتماء وللناس انتماءاتهم وارتباطاتهم بتجمعات حزبية، أو حركية، أو تنظيمية بشكل عام، أو أي نوع من أنواع التجمعات السياسية والاجتماعية ـ فكن على وعي بحقيقة ما تنتمي إليه، أو تنتسب إليه، فإن معنى الانتماء الذي يمثل عنوان الاتباع، هو أنك تجعل حياتك تحت رحمته، وربما يؤدي بك إلى أن تجعل موتك تحت رحمته أيضاً، لأن هناك الكثير من أنواع الانتماء قد تدفعك إلى أن تدخل ساحة الصراع هنا وساحة الصراع هناك. ومن الطبيعي أن ساحات الصراع قد تحمل الكثير من الأخطار، وقد تدفع الإنسان إلى كثير من التضحيات تحت عناوين ربما تكون في بعض الحالات مما تنطبق عليها كلمة حق يراد بها باطل، لذلك دقِّق في هؤلاء الذين تريد أن تتبعهم، ودقِّق في إخلاصهم وفي دوافعهم وفي ثقافتهم وفي خطوطهم وفي أهدافهم وفي وسائلهم، فقد تختصر كلمة الأهواء كل ما هم فيه.
)وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ( لأنهم لا يتحسسون المسؤولية، فهم يريدون أن يتزعموا وأن يحوِّلوا أنفسهم إلى أصنام يعبدها الناس باسم الحرية وباسم الدين، وما أكثر العناوين التي تجتذب الناس في طيبتهم وسذاجتهم ولكنها تختزن في داخلها غير ذلك. لهذا فإنك عندما تتبع أي شخص أو أي جهة، فكّر هل هي جهة مسؤولة تخاف الله وتخاف الحساب، أو أنها جهة لا تخاف الله ولا تخاف الحساب، بل إنها إذا دار الأمر بين الله وبين الآخرين فإنهم يقدمون الآخرين على الله )وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(. وقد تكون الآية بصدد معالجة حالة في عصر الدعوة الأولى مما كان يواجه الرسول(ص)، ولكننا نعرف أن القرآن يجري مجرى الليل والنهار ومجرى الشمس والقمر، فإنه عندما يتحدث عن موقع فهو يشمل كل المواقع التي تلتقي بهذا الموقع.
من الأصول إلى الفروع:
وعوداً على بدء، ومع الآيات التي على وزن (قُلْ)، يقول الله تعالى: )قُلْ تَعَالَوْا( ، وأنتم تتحدثون عن التحريم والتحليل من خلال هوى يحكم ما تشرعون )أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ( ، باعتبار أن الله أوصى إليّ بذلك، وهذه الأمور التي سوف أتلوها عليكم – يقول الله لرسوله – فإنها تتصل بالعناصر الإنسانية الحيوية من حياتكم، ولكل واحدة تفاصيل لابد لكم أن تأخذوها من السنَّة )وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(([749]). )قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً(([750]) فالتوحيد هو الأساس الذي فرضه الله على الناس، وجعل عقول الناس دليلاً عليه، لأن التوحيد هو الفطرة، والإسلام هو دين الفطرة، والتوحيد قاعدته التي تمتد في كل فروعه وجوانبه. )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا(([751]) هاتان الكلمتان تلَّخصان الإسلام كله: التوحيد، والاستقامة في خط التوحيد، أن لا تشركوا بالله شيئاً، لأن الشرك بالله يمثل التخلف عن حالة الوعي العقلاني والروحي، لأن )الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ(([752])، فكيف تؤلِّهونهم ولا تؤلِّهون أنفسكم، إذا كانت العناصر الموجودة في شخصياتهم موجودة عندكم أيضاً؟! لذلك قد حرَّم الله عليكم أن تشركوا به، وهو ليس تحريماً تشريعياً كحكمٍ من الأحكام، ولكنه ينطلق من عمق وجودكم الذي هتف بتوحيد الله من خلال عمق الفطرة في هذا الوجود.
ثمّ عقّب بقوله تعالى: )وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا(([753]) فالله هو سر الوجود، وهو الذي خلق للوجود الإنساني الأسس التي يتحرك من خلالها في القوانين التي أودعها في مفردات وخلفيات هذا الوجود، وهو الذي أودع في النطفة سر الحياة وسر النمو، وأودع في البويضة سر الحياة وسر النمو، في تكاملها مع النطفة، وهو الذي أعطى لهذه البداية الجنينية حركية صنع المخلوق الحي، سواء كان إنساناً أو حيواناً، وقد جعل الله الوالدين الوسيلة الطبيعية لولادة هذا الإنسان، فكيف تتعاملون مع الوالدين؟ إن التعامل مع الوالدين ينطلق من المسألة الإنسانية )هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ(([754]) وفي الحديث الشريف: ((من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق))، ولذلك فإن موقف الولد مع الوالدين هو موقف الإحسان، بالمعنى العاطفي الذي يجتذب الولد إلى أبويه )إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا(([755]) فإنه يؤكد على الجانب العاطفي في مسألة السلوك الذي ينبض بالإنسانية، فلا تتضايق منهما إذا بلغا الكبر، ولا تتكلم معهما كلمة سلبية وإن صدرت منهما الإساءة إليك، وتذكّر كيف ربياك وكيف تحمَّلا منك ما يجب عليك أن تتحمل ما يماثله ولن تتحمل ذلك. ومن هنا، فإن العنوان الإسلامي لمسألة العلاقة مع الوالدين ليس عنوان الطاعة بقدر ما هو عنوان الإحسان، ولهذا نرى ـ كما يرى بعض العلماء ـ أن ما يجب على الولد أن يطيع والديه مما يأمرانه به أو ينهيانه عنه، فإنه يختص بالأوامر الإشفاقية، أي في ما يصدر عن الوالدين من خلال عنصر الوالدية التي تنطلق منها رغبتهما في أن يفعل شيئاً أو يترك شيئاً. أما الأوامر التي تنطلق من جانب ذاتي، فليس لهما الطاعة فيه، كما في الأب الذي يحب أن يعمل ولده في تجارة الأقمشة، لأنه تاجر أقمشة، والولد قد لا يرغب أن يعمل في هذا المجال، بل يحب أن يعمل في مجال آخر، أو أن الأم تريد من البنت أن تتزوج فلاناً أو أن يتزوج الولد بفلانة، وهو لا يرى مصلحة لنفسه في ذلك، لأن للأب جوانب عاطفية، فهذه – مثلاً – بنت أخيه، أو بالنسبة للأم، فتلك بنت أختها، أو لأن الأب قد خجل من الذين جاءوا يخطبون ابنته مثلاً أو ما شابه ذلك، بينما الولد أو البنت لا يريان مصلحة لهما في ذلك، بل قد يقدّران ما ينافي المصلحة. هنا لا يجوز للأبوين أن يفرضا على أولادهم ذكوراً أو إناثاً، شيئاً يتصل بحياتهم بنحو الإجبار والقهر. نعم، للأب أن ينصح ويقنع، وللأم أن تنصح وتقنع، ولكن لا يجب على الولد الطاعة في ذلك، وإن كان يستحب له أن يضحي إن لم يكن هناك مفسدة كبيرة في ذلك. وهكذا في الأمور الأخرى، كما لو كان الأب يحب أن يتخصص ابنه في الجامعة في المجال الأدبي، وللولد ذهنية علمية، وهذا ما يؤدي إلى فشل الابن إذا تخصص في المجال الأدبي لعدم توفره على الذهنية الأدبية. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى وإن كان ركز على نقطة، إلاّ أن هذه النقطة عنوان لكل النقاط )وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا(([756]) فإنك عندما تريد أن ترفض ما يأمرانك به مما يكون فيه مفسدة لك، فلا تطعهما وليكن بالطريقة الإنسانية التي لا تسئ شيء إليهما، فلا تتصرف بما يثقل حياتهما، بل تصرف معهما بطريقة إنسانية ودبلوماسية.
جاهلية الماضي والحاضر:
)وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ(([757]). إن الآية تتعرض لما كان يحدث في الجاهلية من قتل الأولاد، ولا سيما قتل البنات المعروف ب(وأد البنات) )وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(([758])، فإن قتل البنات ربما كان ينطلق من العقلية الموجودة في الجاهلية، ومؤداها إذا كبرت فربما تُسبى فتكون عاراً على عشيرتها، ولذلك كانوا لا يرغبون بالبنات )وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم ٌ* يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(([759])، فإن الله سبحانه وتعالى ينكر عليهم ذلك، وربما نرى بعض الناس يقتل ولده لأنه يخاف الفقر، لأن إمكانياته المادية بادّعائه لا تتحمل أن يكون عنده ثلاثة أو أربعة أولاد. ونحن نواجه هذا الواقع في عملية (الإجهاض)، وقد نشهد بعض الرجال الذين يلجأ بعضهم إلى تهديد زوجته بالطلاق فيما لو حصل الحمل بالصدفة – خلافاً لحيطتهما في ذلك – وإجبارها على الإجهاض ولو بالطرق العنيفة، بحجة أنه لا يرغب بالأولاد، وأن وضعه المادي لا يسمح له بذلك. أو أن الزوجة تدعي بأنها تعبة ولا تتحمل ذلك. فإن هذا قتل كما هو الوأد الجاهلي، وينبغي أن نعرف إن الإجهاض محرم حتى في اليوم الأول من الحمل، ولا يجوز الإجهاض في جميع الحالات، وليس هناك أي لحاظ بالنسبة للرجل ولوضعه الاقتصادي أو وضعه الجسدي، فإن ذلك مما لا يحسب له الإسلام حساباً، ولكن إذا فرضنا أنه قبل أن تنفخ الروح في الولد، وصل الحمل إلى مستوى من الحرج الشديد على الأم، وإن لم يكن ضرريا،ً أو كان الضرر بالغاً، كما لو كان عندها مرض يزيده سوءاً، أو كان عندها فقر دم شديد، فإنه في هذه الحالة يجوز الإجهاض، أي قبل أربعة أشهر من عمر الجنين، أما بعد ذلك، فلا يجوز حتى لو أصيبت الحامل بمرض، إلا إذا وصل ذلك إلى حد الخطر على حياتها، أي الخطر المحقق، فيصبح الموضوع من باب الدفاع عن النفس، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: )وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ( يعني من جهة الفقر وجهة الوضع الاقتصادي، وهنا نتساءل بوحي الآية: من أين رزقت ورزق أولادك؟ من عِنْدِك أم من عند الله سبحانه وتعالى؟ )وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ(([760]) فإن الله سبحانه وتعالى كما رزقك وهيأ لك وسائل الرزق فإنه سوف يرزق ابنك.. والله سبحانه وتعالى ينزل المعونة على قدر المؤونة، والله سبحانه وتعالى قد يختبرك وإن لم يكن لك أولاد )فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي(([761]) فإن الله سبحانه وتعالى قد ينزل البلاء امتحاناً، وليس عقوبةً بالضرورة، بل إنه يبتلينا ليقوّي شخصيتنا وليقوّي التزامنا بمبادئنا، لأن التجربة هي التي تجعل منك إنساناً قوياً، والتجربة هي التي تعطيك القوة، والاختبار هو الذي يعطيك الحيوية.
وقد يعتقد بعض الناس أنه إذا ما ابتلاه الله سبحانه وتعالى بفقرٍ أو شيء آخر، فإنَّ الله سبحانه يعاقبه، ولكنه وإن كان في بعض الحالات عقاباً، إلاّ أنه لا يكون كذلك دائماً، بل إن البلاء قد يكون من نتائج النظام الكوني في قوانينه التي تنتج السلب أو الإيجاب، أو نتائج قوانين النظام الإنساني، وهنا يأتي موقف الإنسان في ذلك في طريقته في مواجهة الأمر بما لا يسيء إلى مبادئه، مما يقوي له شخصيته ويؤكد التزامه بمبادئه على أساس الصبر الواعي الذي يؤكد عنصر الإرادة القويّ عنده، لهذا يقول الله سبحانه وتعالى إن التفكير المشار إليه والفعل الذي يلجأ إليه الإنسان مخافة الفقر فإنه من عمل الشيطان )الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(([762]). نعم، ما عدا الإجهاض وما عدا التعقيم الدائم، فإنه جائز شرعاً لتنظيم الحياة، كما لو كانت الزوجة أو الزوج في وضع حرج، فيمكن اللجوء إلى تجميد الإنجاب مؤقتاً، ولكن ليس بالروحية التي تتنافى مع الثقة بالله ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يديه))، فإنه يمكن أن يكون عند الرجل أو المرأة ظروف خاصة، إلاّ أن ذلك مشروط بعدم اللجوء إلى قتل الطاقة نهائياً، بل تجميدها كما في الوسائل المعروفة لذلك.
)وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ(([763])، والفاحشة هي كلًّ ما تجاوز الحدَّ من المعصية، أو من حالات الانحراف، وقد تكون هناك فواحش ظاهرة بينة، وقد تكون باطنة، وربما فسّرت الباطنة بالحالات الموجودة في ما يضمره الإنسان، وربما تفسر الباطنة بالأشياء السرية والظاهرة بالعلنية، لأن الإنسان عليه أن يكون متوازناً، فلا يتجاوز الحدود الأخلاقية، ولا الحدود الأخرى مثل الحدود الاجتماعية أو السياسية، لأن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يكون متوازناً، بحيث يأخذ ما يبني حياته بما لا يسيء إلى حياة الناس.
)وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ( ومما حرَّمه الله هو قتل النفس، لأن الله لم يسلط أحداً على انتزاع روح أحد، أو انتزاع روحه بالذات، لذلك فإننا ككثير من العلماء أفتينا بحرمة ما يسمى ب(الموت الرحيم) مما هو محلُّ جدل – الآن – في الغرب، مما أقر به في بعض الدول مثل هولندا، وهو أن يطلب شخص من الطبيب أن ينهي حياته، باعتبار أنه يعاني آلاماً لا تطاق أو ما أشبه ذلك، فإنه فعل محرّم جزماً، لأنه لا يملك حياته، لأن الله لم يُسلطه على إنهاء حياته ولا يملك الطبيب أن يستجيب له، لأن للطبيب صلاحية في ما يملكه الإنسان، وأما في ما لا يملكه الإنسان فليس للطبيب صلاحية في ذلك، فهل يجوز لك أن توكّل شخصاً أن يقتل فلاناً؟ فهل يكون لك أو لذاك الشخص ذلك؟.
العقوبة العادلة:
)وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا(([764]) وقد شرّع قتل الإنسان للإنسان فقط في حالة الدفاع عن النفس، كما لو أن شخصاً هاجمه وأراد إنهاء حياته، فإن له أن يدافع عن نفسه، وفي مسألة الجهاد، وهي الحرب الشرعية التي يملك الإنسان فيها شرعية القتال، فيجوز للإنسان ذلك )إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ(([765]).
أما خارج هذا النطاق، عندما تختلف مع شخص في كلمة من هنا، وكلمة من هناك فتطلق عليه الرصاص، فإنه عمل لا يجوز، وهو من الكبائر، سواء أكان هذا الإنسان قريباً أم بعيداً، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: )وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ(([766]) فإنه إذا شتمك فإن لك أن تشتمه، وإذا ضربك فإن لك أن تضربه، ولكن ليس لك أن تزيد على ذلك، وربما سمعتم بالحديث عن شهادة الإمام علي(ع) أنه قال في وصيته لبني عبد المطلب في قاتله عبد الرحمن بن ملجم: ((أنظروا إذا أنا متُّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربة، بضربة ولا تمثّلوا بالرجل فإني سمعت رسول الله(ص) يقول إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور))([767])، ويقول تعالى: )وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ(([768])، إلاّ أن ذلك مما لا يتحمله البعض، فإن ذلك من حدود الله، فلو أن شخصاً قتل ابنك فإنه لا يجوز لك ضربه، ولا يجوز لك شتمه، ولا يجوز لك أي عمل من الأعمال خارج نطاق القصاص. نعم، يجوز لك قتله وبشروط.
وأما ما هو موجود في بعض العشائر من اعتداء على الشخص وأهله وعشيرته وطردهم من البلد وحرق بيوتهم فإنه حرام في حرام، لأن الإسلام دقيق في هذه المسألة، ويجب أن نفهم الأمور بشكل دقيق جداً. وقد نقلت لكم مراراً عن (نهج البلاغة) أن الإمام علياً(ع) كان جالساً وكان في مجلسه بعض الخوارج الذين كفّروه وعنده أصحابه.. وقد مرت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم، فالتفت الإمام(ع) إليهم في توعية ووعظ، وقال: ((إن أبصار هذه الفحول طوامح)) – يعني تطمح إلى ما لا تستحق – ((وإن ذلك سبب هبابها)) – ثورانها – ((فإذا نظر أحدكم إلى أمرأة تعجبه)) – أي إذا أُثيرت غريزته – ((فليلامس أهله فإنما هي امرأة)) فعلّق أحد الخوارج، فقال: قاتله الله كافراً ما أفقهه، والإمام(ع) في ذلك الوقت خليفة من الناحية الفعلية، فوثب إليه القوم ليقتلوه، فقال الإمام: ((رويداً، إنما هو سبٌ بسب أو عفو عن ذنب))([769]) )وإن تعفو أقرب للتقوى(([770]).
وهذا هو العقل الهادئ الذي لا يثور حتى لو ووجه بمثل هذا الأسلوب الذي يتحدى إيمانه، وعلي(ع) هو نموذج الإيمان الأكمل، وهو الذي أعطى للإيمان قوته وعنفوانه وحركيته. وقد قال فيه رسول الله(ص): ((ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين))([771]) وقال(ص): ((برز الإيمان كله إلى الشرك كله))([772])، فهذا هو الإمام علي بن أبي طالب(ع)، وهذا هو الإسلام، والله سبحانه وتعالى يقول: )فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ(([773]) وقوله تعالى )وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(([774]) وقد ورد ((الإسلام قيد الفتك))، وهذا ما يجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً آمناً، ومجتمع سلام، يعيش فيه الإنسان آمناً على نفسه وماله وعرضه، سواء القوي أو الضعيف، الرجل أو المرأة، الصغير أو الكبير، الشريف أو الوضيع. وهذا هو المجتمع الذي أراد الإسلام أن ينشئه، وأراد للناس أن يعيشوا في داخله، ليكون المسلم هو الذي سَلمِ الناس من يده ولسانه، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، لأن العنفوان هو عنفوان الطاعة وليس عنفوان المعصية أو الجريمة. وقد كان الإمام زين العابدين(ع) عندما ينظر إلى أصحاب الدنيا يقول ((فإن الشريف من شرَّفته طاعتك والعزيز من أعزته عبادتك))([775]). لذلك يجب أن نبيّن أن سياسة العنف القاتل ليست سياسة إسلامية، ولذلك فإن هذا الاتهام الاستكباري للمسلمين بالإرهاب بمعناه الاجتماعي والإنساني هو اتهام باطل، لأن الإسلام لا يوافق عليه فقد كرّر في أكثر من آية )وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(([776]).
الوقوف عند حدود الله في معاركنا:
ولذلك فإن علينا عندما ندخل معركة سياسية أو اقتصادية أو دينية أن نقف عند حدود الله، فلا يجوز للإنسان أن يقتل الناس في غير حالة حرب، وقد بينت مراراً أن بيننا وبين أمريكا الإدارة الآن حالة حرب سياسية واقتصادية، وهي تحاول أن تسيطر على العالم بأمنه وسياسته واقتصاده وما إلى ذلك، إلاّ أنها حرب على الإدارة الأمريكية، وإن كان الشعب الأمريكي ينتخبها أو يدفع لها الضرائب، إلا أننا لسنا في حالة حرب مع الشعب الأمريكي، الذي قد يكون شعباً مضللاً، لأننا لم نستطع أن ننفذ إلى وجدانه حتى نقنعه بعدالة قضايانا، فإن في المجتمع الأمريكي إعلاماً يهودياً يسيطر على الذهنية المسيحية، كما أن هناك بعض المسيحيين، وبالتحديد البروتستانت، يعتبرون أنه لابد من دعم دولة إسرائيل لكي يظهر السيد المسيح، فهم بهذه العقلية تجدهم أكثر تطرفاً من اليهود أنفسهم. ونحن نريد أن يكون الشعب الأمريكي معنا، وفيه حوالي عشرة ملايين مسلم، ولكنهم متفرقون، فلا يحسون بقضية إسلامية أو عربية، لذلك لم يستطيعوا أن يحققوا أية نتيجة بالطريقة التي تجتذب الشعب الأمريكي لكي يفهم قضايانا، خصوصاً وأن الشعب الأمريكي من الشعوب التي لا تهتم بالقضايا الخارجية. لذلك فإن اليهود استطاعوا النفوذ إلى داخل السياسة الأمريكية، فرأى الأمريكان أن اليهود يتبنون قضاياهم الاقتصادية والأمنية والتربوية، فاتبعوهم، بينما نحن بقينا على الهامش، لذلك فإذا صح أن الإسلاميين وراء ما حدث في 11 أيلول فإنه عمل خاطئ، لأننا يمكن أن نجنب الإسلام كل هذه الخسائر، ويمكن أن تخسر أمريكا أمامنا بأيسر الطرق، كما في مقاطعة بضائعها مثلاً. وإن كنت لا أزال أشك في مدى تورط المسلمين بهذا العمل وبهذا الشكل، لأن السلطات الأمريكية لم تسمح بتحقيق قضائي نزيه وعلني.
لذلك فإننا نقول إن على الحركات الإسلامية، سنية أو شيعية، سلفية أو عربية، عندما تريد أن تخطط للمواجهة، أن تدرس النتائج أولاً وأن تدرس الأساليب، وهل هي أساليب إسلامية أو إنسانية أو لا؟ وحتى ما يقال إنه من باب تزاحم المصالح، فإنه لا يكفي تبريراً لذلك، فعلينا أن نفكر بعقولنا، وكما قال سبحانه وتعالى في كتابه:)وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ(([777])، وكذلك يقول الإمام علي(ع) لابن عباس: ((فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك مني دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق))([778])، إذ ليس المهم تفجير غيظك، بل المهم هو أن عملك هذا هل يُطفئ الباطل. انظر حجم الباطل وحجم عملك، وانظر حجم الحق وحجم عملك، فمشكلتنا في الشرق أننا غرائزيون وعاطفيون، فلنبدأ بتربية عقولنا، فنحب بعقل ونبغض بعقل ونقاتل بعقل ونحرك سياستنا واقتصادنا بعقل، لأن العقل يعطي حسابات الأرباح والخسائر بشكل أدق. والحمد لله رب العالمين.
المحاضرة السابعة والعشرون 18 ربيع الثاني 1423ه - 29 / حزيران /2002م
الخطاب القرآني (7)
تأصيل المفاهيم الإسلامية
* علينا أن نصحّح المفاهيم المغلوطة ونؤصّل مفاهيمنا على ضوء القرآن *
الخطوط العامة للعلاقات الإنسانية.
العدل شعار المسلم.
حلاوة الحق.
عهد الله.
منهاج المسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الخطوط العامة للعلاقات الإنسانية:
لا زال الحديث يدور حول ما أراده الله سبحانه وتعالى لرسوله(ص) أن يقوله للناس وأن يتلوه عليهم مما حرّم وأوجب عليهم من تكاليف، ومما يتصل بالخطوط العامة للعلاقات الإنسانية وبالخط المستقيم. ومن بين هذه الأمور، تلك التي تتصل بحياة الناس وبالمستقبل، فيقول الله سبحانه وتعالى: )وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ(([779]). واليتيم - هنا - هو الطفل ذكراً كان أو أنثى، الذي فقد أباه وأصبح في المجتمع ـ حسب طبيعة ظروفه ـ يعاني فقد الإنسان الذي يتحمل مسؤوليته بشكل مباشر، من خلال الامتزاج بين الجانب العاطفي والعنصر المسؤول، وبذلك فإن هذا الإنسان – أي الطفل – معرَّضٌ للضياع، وللجوع عندما يطلب الغذاء، وللعطش عندما يطلب الماء، وللرعاية النفسية عندما يطلب الحنان والعطف، وللرعاية الاجتماعية والتربوية التي تتوفر في المحضن الطبيعي الذي يحضنه ويرعاه وينمِّي طاقاته، ليصبح كالأطفال الآخرين عنصراً اجتماعياً نامياً منتجاً طيباً صالحاً في المجتمع، ولذلك فقد أولى الإسلام الاهتمام الكبير باليتيم، فاعتبره جزءاً من الميثاق الذي حثَّ الناس على حمله، فإن مسؤولية رعاية اليتامى ميثاق واثق الله به عباده، وقد قرأنا في ما أوصى به أمير المؤمنين علي(ع) في آخر حياته بعد أن دخل في أجواء الشهادة قوله: ((الله الله في الأيتام)) وهي كلمة توحي بالاستغاثة، للأهمية الكبرى التي يثيرها النداء بهذا الأسلوب، ((فلا تغبوا أفواههم))، أي لا تطعموهم يوماً وتتركوهم يوماً آخر ليجوعوا فيه، بل واصلوا إطعامهم ((ولا يضيعوا بحضرتكم)) أي لا تهملوهم، ولا تهملوا كل ما يتصل بحياتهم من كسوة ومسكن وتعليم وتربية وتنمية، لئلا يشعروا بالضياع في عالم الرعاية والعناية والتربية والتنمية.
ثم يتابع الإمام علي(ع) وصيته: ((فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة)) فعندما تعول يتيماً، كما تعول ولدك، حتى يستغني ويستقّل بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، فإن الله يوجب لك بذلك الجنة، جائزة لك على عملك. ثم يقول: ((كما أوجب الله لمن يأكل مال اليتيم النار))([780]) وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة )إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا(([781]) لأنه من السهل جداً أن يأكل الإنسان مال اليتيم مستغلاً غياب الحامي له، ولا سيما إذا كان آكل مال اليتيم أخاً كبيراً، وقد يكون عماً أو خالاً وما إلى ذلك، عندما يستغلون الوصاية التي يتمثلونها على مال اليتيم فيعيشون فيه فساداً. وهذا ما نقرأه أيضاً في حديث نبوي شريف: ((يُبعث أناس من قبورهم يوم القيامة تؤجَّج أفواهم ناراً، فقيل له: يا رسول الله، من هؤلاء؟ فقال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى))([782])، وفي حديث لرسول الله(ص) يبين فيه الدرجة العليا التي يصل إليها كافل اليتيم، حيث يقول(ص): ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة))([783]) وضم سبّابته إلى الوسطى، ومن الطبيعي أنَّ كفالة اليتيم قد تتضمن الكفالة المباشرة أو رعايته داخل أسرته أو كفالة ضمن مؤسسات الأيتام الاجتماعية التي تكفل الأيتام غذاءً وكسوةً وتربية من جميع الجهات.
وبالعودة إلى الآية الكريمة التي بدأنا بها الحديث، حيث يقول الله )وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ( فإنها تضع البرنامج الإسلامي للتصرف في مال اليتيم، وهي موجهة بالدرجة الأولى إلى أولياء الأيتام، فليس لهم أن يتصرفوا في أموالهم إلا بما يصلح أمرهم وبما يحفظ وينمِّي لهم مالهم، فلابد من رعاية المصلحة في مال اليتيم، فليس لهم أن يهملوه، وليس لهم أن يتصرفوا به لحساب مصالحهم الخاصة، حتى أنه ليس لهم أن يقترضوا منه أو يقرضوه لأحد، إلا إذا كانت هناك ضمانة ومصلحة لليتيم في ذلك،)حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ( بمعنى أن يبلغ سن التكليف، وأن يكون رشيداً، وهو ما عبرت عنه الآية )وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ( يعني النضج الجنسي، وهذا كناية عن البلوغ، )فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا( أي أن يكونوا بالمستوى الذي يتمكنون فيه من رعاية أنفسهم وأموالهم وحفظها، فلا يغشّهم أحد، ولا يغلبهم أحد )فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ(([784]). ولذلك لا يصح لنا أن ندفع مال اليتيم إليه ليستقلَّ به، إلا إذا كان بالغاً رشيداً.
العدل شعار المسلم:
ثم تتابع الآية الكريمة: )وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ(([785])، وهذه الفقرة تتصل بجانب التعامل بين الناس في ما يبيعون ويشترون، فكل معاملة من المعاملات – ولا سيما البيع – فإنها تجعل ما ينتقل من طرف ملكاً للطرف الآخر بكل دقة، فعندما تبيع بطريقة الوزن أو المكيال أو المساحة، فلا يجوز لك أن تنقص مما بعته شيئاً، فلو كان المباع – مثلاً – كيلواً من مادة ما، فلا يجوز أن تنقص منها مائة غرام، كذلك إذا كان المباع بالأمتار وما إلى ذلك، أي على الإنسان أن يعطي لكل ذي حقٍ حقه، وكذلك إذا كان مشترياً، عليه أن يفي البائع الثمن. وقد قال الله تعالى في آية أخرى: )وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون َ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُون َ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(([786]) لدرجة أن الله سبحانه وتعالى بعث النبي شعيب(ع) وأرسله إلى قومه ليعالج مسألة التطفيف في المكيال والميزان، إذ كان ديدنهم أن يأخذوا وافياً ويعطوا ناقصاً، حتى أنهم استنكروا على نبيهم كما في الآية الكريمة )قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ(([787]) فمن وجهة نظرهم أنهم أحرار في أموالهم، يبيعون كيفما يشاؤون، فهم يعتبرون الإنسان حراً في أن يتصرف في ماله بالطريقة التي تعطيه الربح بأية طريقة، بينما لابد من الوفاء بالعقد والشروط التي يتفق عليها المتعاقدان في كل شيء، سواء كان ذلك في عقد الزواج أو عقد البيع أو عقد الإيجار أو عقد الصلح والمضاربة والشركة، فلابد من الالتزام بالعقود كما في الآية الكريمة: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ(([788]) وبالحديث الشريف: ((المؤمنون عند شروطهم)) فهذه هي مسؤولية الإنسان في التعامل مع الآخرين.
)لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا(([789]) وهذه الآية تمثل طبيعة التشريع الإسلامي في كل ما أمر الله به أو نهى عنه، سواء مما يتصل بحياة الإنسان الخاصة بنفسه أوعلاقته بربه وعلاقته بالناس الآخرين، فإن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا بقدر طاقتها، وبما تطيقه، وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم بالآيات، كما في قوله تعالى: )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ(([790]) ، وقوله تعالى: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ(([791]) وكما قال الرسول(ص): ((أتيتكم بالشريعة السهلة السمحة))([792]) فإن الله سبحانه وتعالى من لطفه بعباده أنه لا يكلفهم إلا بما تتحمله طاقتهم في كل ما يتصل بتكاليفهم العامة والخاصة، فإذا وصل الإنسان إلى حدّ يتجاوز طاقته، فإن التكليف يتجمد، ولذا ورد نص القرآن الكريم في قوله تعالى: )فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(([793])، فما من شيء حرّمه الله إلا وأحلَّه لمن اضطر إليه، لأن الله سبحانه وتعالى جعل التكليف لمصلحة الإنسان ولم يجعله عقوبةً وإرهاقاً له.
وعلى ضوء هذا اللطف الإلهي يأتي قوله تعالى )لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا(. ثم يقول الله سبحانه وتعالى )وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى(([794])، فإن من الأمور التي أراد الله للإنسان أن يأخذ بها العدل، فهو أساس الديانات كلها، فقد جاء في سورة الحديد: )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ(([795])، فكل الرسالات بكل ما أنزله الله من كتب، وما وضعه من موازين تزن الأشياء والأمور، ينطلق من قاعدة واحدة هي أن يقوم الناس بالقسط، ولذلك فإن من لا عدل له لا دين له، فإن العدل مطلوب مع كل الناس، والظلم مرفوض مع كل الناس. فعليك أن تكون عادلاً مع الكافر ومع المؤمن، فلا يجوز لك أن تظلم كافراً له حق عليك، كما لا يجوز لك أن تظلم مؤمناً له حق عليك، أعط كل ذي حق حقه، سواء كان كافراً أو مسلماً.
)وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى( فعندما يكون قريبك، أبوك، أمك، أخوك، ولدك، زوجك، كل قريب لك، إذا كان الحق عليه فعليك أن تقول كلمة الحق ضده وتشهد ضده، إذا كان الحق عليه لإنسان آخر. فلا تذكر قريبك بما يجانب العدل بأن ترفعه عن مستوى مرتبته التي هو فيها، أي عندما لا يكون قريبك تقياً فلا يجوز لك أن تقول عنه إنه تقي، وعندما لا يكون عالماً فلا يجوز لك أن تقول عنه إنه عالم، وما أشبه ذلك. )وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا( يعني أعط الحقيقة حقها، أعطوا الآخرين حقهم، كن عادلاً حتى ضد قريبك، كما ذكرت الآية الكريمة: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ(([796]) كن شاهداً للحق فقط، حتى إذا كان الحق عليك فاشهد على نفسك، وإذا كان الحق على الأقربين فاشهد على الأقربين، لأن قرابتك للحق أكثر من قرابتك لنفسك، ونفسك هي أقرب الأمور إليك، لأن الحياة تقوم على العدل، وإن كان الحق لعدوك، فقل كلمة الحق لمصلحة عدوك، وعليك أن لا تقنعك العداوة من أن تبخس حق عدوك )وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(([797]). ونقرأ في دعاء الإمام زين العابدين(ع): في الصحيفة السجادية يقول: ((اللهم ارزقني التحفظ من الخطايا والاحتراس من الزلل ما في الدنيا والآخرة، في حالة الرضا والغضب، حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوي من ظلمي وجوري، وييأس وليّي من ميلي وانحطاط هواي))([798])، بحيث إن عدوي إذا ذُكرت أمامه بخير يقول صحيح ذلك، إن فلاناً بيني وبينه عداوة ولكنه لا يظلمني لأنه مؤمن، وصديقي يقول صحيح ذلك، إن فلاناً بيني وبينه صداقة أو قرابة ولكنه لا يبيع دينه لحسابي.
حلاوة الحق:
هذا هو الخط الإسلامي، وهذا هو خط أهل البيت(ع)، لذلك كنا دائماً نقول إن اتِّباع أهل البيت وولايتهم يُتعٍب ويُكلِف كثيراً، لأنهم انطلقوا مع الحق والحق مُرٌّ، وكما يقول الإمام علي(ع): ((ما ترك لي الحق من صديق))، ولذلك فما يقوله بعض الناس من أن ((حبّ علي حسنة لا تضر معه سيئة)) مفهوم خاطئ، وعلينا أن نغيِّر مثل هذه المفاهيم المغلوطة التي تقول: اعمل كل شيء والإمام يخلصك يوم القيامة، لأنه مفهوم منقوص لم يلتفت إلى ما يتممه. وقد نقلت لكم حديثاً عن الإمام الصادق(ع). وهو موجود في (الكافي)، حيث جاءه أحد شيعته وقال له: ((حديث روي لنا أنك قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئت)) - وعرفت يعني واليت، إذ يسمى الشيعي يومذاك العارف بمصطلح أهل البيت(ع) - ((فقال: قد قلت ذلك، قال: قلت: وإن زنوا أو سرقوا أو شربوا الخمر، فقال لي: إنّا لله وإنا إليه راجعون، والله ما انصفونا أن نكون أخذنا بالعمل ووضع عنهم، إنما قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره، فإنه يقبل منك))([799])، يعني أن الولاية هي القاعدة، فعندما تتركز على هذه القاعدة وتنطلق بخط العمل في الخير فهذا ما ينفع، وهذا ما قلته، وليس أكثر من ذلك )قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(([800]). ففي خطبة النبي محمد(ص) أواخر أيام حياته قال: ((أيها الناس، ولا يدعي مدعٍ ولا يتمنى متمنٍ، أما إنه لا يُنجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت))([801]). فإن الله سبحانه أعطى القاعدة في القرآن الكريم )لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(([802]). نعم، ربما تأتي الشفاعة، ومن يدري أن تأتيه الشفاعة وقد لا تأتيه )وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى(([803]).
عهد الله:
ثم تتابع الآيات الكريمة )وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا(([804]) أي إذا عاهدتم الله فأوفوا بعهد الله، وعهد الله سبحان هو عهدك معه في إيمانك به، فإن الإيمان هو عهدك مع الله، وهو أن تأخذ بكل متطلبات الإيمان ومسؤولياته، فيعطيك الله في مقابل ذلك )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(([805]) ولذا خاطب الله أهل الكتاب )وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ(([806]) فعندما تفي بعهد الله وتعمل بما أمرك الله به، وتنتهي عما نهاك الله عنه، فإنك عندئذٍ تحصل على الجنة وعلى مرضاة الله، )وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا(([807])، فإن العهد بينك وبين الناس هو بينك وبين الله، لأن الله أمرك أن تفي بعهدك مع الناس، ولذلك فإن على الإنسان المسلم أن يفي بكل التزاماته التي يلتزمها مع الآخرين، سواء كان الآخرون كفاراً أو كانوا مؤمنين. والنبي(ص) تحدث عن (حلف الفضول) الذي كان بين المشركين وآخرين في الجاهلية، وقد حضره الرسول(ص) وتحدث عن الحلف بشكل إيجابي.
وعلى ضوء ذلك، فعندما تعاهد شخصاً أو دولة – مثلاً – كما في الأمور التي يبتلى بها الكثير من إخواننا وأخواتنا، من الذين يهاجرون إلى الغرب، سواء باللجوء، أو الفيزا، عندها يكون هناك عهد بينك وبين تلك الدولة بشروط معينة والتزامات معينة تتعلق بأمن البلد، أو بكيفية تطبيق قوانين ذلك البلد وفق شروطها كما في الإعانات التي يعطونها مقابل شروط، وهذا ما ينطبق عليه قوله تعالى: )وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ( لأنك وافقت على دخول البلد واللجوء أو سمة الإقامة على أساس التزامات معينة. وعليه، فإن المفروض أن تفي بها حتى لو غضوا النظر عنك، لأن هذا مما يتصل بالتكليف الشرعي وصورة المسلم، فينظر الغرب إلى الإسلام على ضوء سلوك الإنسان المسلم الذي عليه أن يعطي صورة مشرقة للإسلام في سلوكه، كما يقول الإمام الصادق(ع): ((كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم))([808]) و ((كونوا دعاة صامتين ليروا منكم الصدق والخير والورع))([809]).
منهاج المسلم:
وقال سبحانه وتعالى: )وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( ثم يضع الله سبحانه وتعالى أمامنا الخط العام بعد أن أعطانا التفاصيل، إذ أراد أن يختصر كل الخطوط بخط واحد نسير عليه في الحياة، )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا(([810]) وقال تعالى أيضاً:)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(([811])، وقوله )فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ(([812])، فإن الله وضع طريقاً وبيّن تفاصيله فيما بين البداية والنهاية، بأن نتحرك في خطه بما أمر به ونهى عنه من غير التواء ولا اعوجاج )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ( قولاً وعملاً واتبعوه منهجاً وسلوكاً )وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ( يعني لا تتبعوا السبل الملتوية المتفرعة فتفرق بكم عن سبيله، أي أن تمشوا في الطريق الذي ترون نهايته من خلال بداياته، وهذا هو الذي تعبر عنه الآية )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا(([813]) بحيث تنطلق كما تحدد لك البوصلة مسار الطريق، فإن البداية المطلة على النهاية هي التي تحدد مستوى الطريق )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ( التي يشقها الناس لكم في غير ما يريده الله منكم هنا وهناك، وهذا كناية عن السبل التي يتحرك بها أعداء الله الذين ينحرفون عن خط الله ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، وذلك ما نستفيده من سورة (الفاتحة) )اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ(([814]) و )ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( وتراقبون الله سبحانه وتعالى في كل ما تأخذون به وتتركون. والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة الثامنة والعشرون 25 ربيع الثاني 1423ه - 6 / تموز /2002م
الخطاب القرآني (8)
نماذج متقابلة
* النماذج الإنسانية المتقابلة في القرآن تؤكّد القيم الإسلامية في الخط الإنساني سلباً وإيجاباً *
الناس صنفان.
العلم هو القيمة.
الخطاب الرقيق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا يزال الكلام في الأسلوب القرآني الذي خاطب الله به رسوله(ص)، ليخاطب به الأمة من خلال الآيات القرآنية، وليؤكد فيها أكثر من قيمة إسلامية إيمانية في الخطِّ الإنساني، في حركة الإنسان في الحياة، لأن الإسلام نزل من عند الله من أجل أن يصنع إنسان القيم، بحيث يعيش الإنسان في عقله وفي قلبه وفي خطوط حياته كلها على أساس مبادئ معيّنة تحكم شخصيته، بحيث تكون عناصر شخصيته هي عناصر القيمة الروحية والأخلاقية والاجتماعية، والتي تجمعها القيمة الإنسانية، لأنَّ الله يريد أن يعيش الإنسان في إنسانيته، وأن لا تزحف إليه عناصر الوحشية، التي قد تحدث من خلال جنون الغريزة، باعتبار أن الغريزة قد تتوازن فتغني للإنسان حياته وتحفظ له هذه الحياة، وقد تنحرف فتدمر حياة الإنسان.
الناس صنفان
إن الله يحدثنا عن نموذجين من الناس في علاقتهما بالله، فهناك النموذج الإنساني الذي يرتبط بالله من خلال إحساس الحاجة إليه، لا من خلال الذوبان فيه والخضوع له واعترافه العميق بعبوديته له، فهو إنسان الحاجة، فإذا عاش في حالة ضيق، معين رفع يديه إلى السماء داعياً الله في أن يحقق له هذه الحاجة، ثم إذا عاش اليسر بعد العسر، والفرج بعد الشدة نسي ربه، وأقبل على الذين يلبون له حاجياته المتحركة من خلال عبوديته لهم وخضوعه لما يملكون من عناصر القوة.
وهناك إنسان تحكمه مبادئه في علاقته بالناس، فهو ينفتح عليهم فيلتقي معهم في المبدأ، حتى لو لم يكن له النفع الشخصي من خلالهم، لأن القضية عنده هي قضية المبدأ الذي يؤمن به، عندما يلتقي مع الناس من خلال المبدأ، فإذا كان الناس يسيرون في خط الإيمان فإنه يتحرك معهم، ويلتقي بهم، على أساس الأحاديث الواردة عن الحب في الله والبغض في الله، فأنا أحبك لأنك تنفتح على الله كما أنفتح عليه، وأبغضك لأنك تبتعد عن الله.
وهناك نموذج آخر من الناس يتحركون في علاقاتهم الاجتماعية من خلال حاجاتهم وأطماعهم، حتى أن بعض الناس إنما ينفتح على أبيه وإخوانه وأخواته من خلال حاجته إليهم، فإذا انقضت الحاجة، ترك كل هؤلاء. بل إن بعض الناس قد يرتبط بزوجته أو الزوجة ترتبط بزوجها من خلال عنصر الحاجة. فليست هناك علاقة إنسانية يشعر فيها الإنسان بإنسانيته في إنسانية الإنسان الآخر. وهكذا نجد أيضاً من خلال هذين النموذجين، الإنسان الذي يعيش المبادئ في حال الاختيار، ولكنه يرفضها في حال الشدة.
وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى عن بعض هؤلاء الناس بقوله: )وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ( وتُفسر كلمة (حرف) على أنها الحافة كما الذي يقف على حافة الجبل، أو على حرف يعني من دون ثقافة، )فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ(، لأن الواقف على حافَّة الجبل ما دام الهواء طبيعياً فهو مستقرّ اطْمَأَنَّ بِهِ لجهة استقراره )وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ( والفتنة هنا كناية عن الشدة والبلاء )انقَلَبَ عَلَى وَجْهِه( كما الواقف على حافة الجبل وتعترضه عاصفة فلا يستطيع الاستقرار )خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(([815]) وقد عالج القرآن هذه الناحية، وتحدث عن النموذج السلبي والنموذج الإيجابي، فقال تعالى: )وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ(([816]) فإنه مثلاً كان فقيراً، فأصبح غنياً، أو كان خائفاً فأصبح آمناً، أو كان مريضاً فأصبح في عافية، وانشغل بهذا الوضع الجديد، ونسي ما كان يدعو إليه من قبل، لأن علاقته كانت بتلك الحاجة، وعندما فرّج الله عنه نسي ربه، )نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا( أي ارتبط بأناس اعتبرهم في مستوى الله، مثل كثير من الناس الذين يعبدون الأغنياء ويعبدون الزعماء ويعبدون الذين يملكون القوة ويعبدون المستكبرين، لأن العبادة ليست الصلاة وحسب، بل هي الخضوع. فأن تعبد إنساناً يعني أن تخضع له وتستغرق فيه وتفقد إرادتك أمامه، وتفقد ذاتك أمامه، ولذا ورد في الحديث: ((من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان))([817]).
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ (قُلْ)، والخطاب لرسول الله(ص) ولكل من يسير في خطه، لأن الله يخاطب الأمة من خلال رسوله(ص)، ولذلك فإن كل ما يخاطب به الرسول(ص) من القضايا العامة للناس فهو خطاب للأمة وللناس. )تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا( فأنت ابتعدت عن الله، وعبدت غير الله لتحصل على ما لديهم من مال أو جاه أو شهرة فماذا كانت النتيجة )إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ(. وهذا هو النموذج السيئ.
وأما النموذج الحسن )أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا(([818]) أي الذي يعيش عمق العبودية لله، بحيث إنه عندما ينام الناس ويهدأون فهو يستيقظ ليفكّر في مقام ربه وفي موقفه من ربه، فيدفعه هذا الإحساس في عظمة الله في هدوء الليل وفي هذه النجوم المنتشرة في السماء، وفي هذا القمر الذي يعطي هذا النور الهادئ إلى أن يخشع لله ويقوم لعبادة الله ويسجد له )أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ( والقنوت يعني الخضوع )آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ( يعني في هدأة الليل فإنه يفكر بالآخرة، وفي الآخرة مغفرة ورضوان وجنات تجري من تحتها الأنهار، وفي الآخرة غضب وسخط من الله ونار تحرق الداخلين إليها فهو )يَحْذَرُ الآخِرَةَ( لأنه يفكر هل إنني استطعت الحصول على النعيم في الآخرة من خلال حصولي على رضوان الله؟ وهل كانت أعمالي أعمالاً في طاعة الله؟ وهل كنت مخلصاً في عملي؟ أو أنني حصلت على غضب الله وسخطه؟! وتحركت في الطريق إلى النار؟! فهذا هو الحذر الذي يقف الإنسان فيه ليتصور الخطر أمامه ليجتنبه. فالحذر ليس سقوطاً وليس شللاً، إنما هو عملية يدرس من خلالها الشخص الجوانب السلبية في حركته ليبتعد عنها.
وهناك حديث للإمام علي(ع) وقد يفسر تفسيراً خاطئاً يقول فيه ((اتقِ شر من أحسنت إليه))، فقد يفهمه البعض أن كل من أحسنت إليه فإنه لابد من أن يواجهك بالشر، ولكن القضية ليست كذلك. فهل نواجه من أحسنَّا إليهم بهذه الطريقة ونظن بهم سوءاً وقد يردون الجميل والإحسان، وهل نتقيهم ونتخذ منهم موقفاً سلبياً؟ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: )هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ(([819]) وإنما المقصود اتقِ شره، أي لا تستسلم لمن أحسنت إليه، فلا تقول في نفسك إن فلاناً لا يضرني أو لا يؤذيني لأني أعطيته، وأنعمت عليه وخدمته، لأنه ربما قد يكون بعض الناس الذين تحسن إليهم معقداً نفسياً ولا يعيش الاعتراف بالجميل، ويتعقد من كل من يحسن إليه في هذا المجال. لذا فاتقِ شرّه، يعني حاول أن تكون حذراً، حتى إذا فكرّ في الشر، كنت مستعداً لذلك. ولا يعني أن كل إنسان تحسن إليه فإنه سوف يقدم إليك الشر، وإنما احسب حساب الشر ولو بنسبة 10%، ولا تستسلم لمن أحسنت إليه إذا كان يتعقد من إحسانك إليه وقد يفاجئك بالشر. فكن حذراً حتى لا يقع الشر عليك. والحذر من الآخرة نظير ذلك، بمعنى أن يظل الإنسان يحسب حساب الجانب السلبي، حتى لا يقدم على السلبيات وعلى ما يجعل مصيره في الآخرة سلبياً، بل ينفتح على الإيجابيات. )وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ(([820]) أي يفكر، فهو إذا أخطأ أو أذنب فإنه يرجو أن يرحمه الله ويغفر له، لأنه هو الرحمن الرحيم، فيعيش بين الحذر والأمل، وهذا هو الخط الأخلاقي الإيماني والإسلامي الذي يريد للإنسان أن يكون على طبق ما ورد في الحديث: ((ما من مؤمن إلا وفي قلبه نور خيفة ونور رجاء))، يعني أن تخاف الله فيمنعك الخوف من أن تتجرأ على المعصية، وترجو رحمة الله حتى يمنعك رجاؤك من اليأس من روح الله، ما يخلق حالة من التوازن الإنساني..
العلم هو القيمة:
)قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( فالفرق بين النموذجين هو الفرق بالعلم والثقافة والمعرفة، لأن الإنسان عندما يرتكز في كل ما يأخذ به في حياته على أساس علمي، فإنه ينطلق من قاعدة ثابتة، وهذا هو الوعي. كيف تكون واعياً في موقعك من ربك ومقام ربك، وكيف تكون واعياً للحياة، وواعياً لمسؤوليتك؟ إنما يكون ذلك عندما تملك الثقافة والمعرفة الإلهية، فإذا كنت تملك ثقافة معرفة نفسك، وما هو حجمك، وذلك إذا كنت تملك ثقافة حدود مسؤوليتك، وثقافة واقع الناس من حولك، ثقافة الأحداث التي تواجهك في الحياة عندها تكون الإنسان الواعي، لأن الوعي لابد من أن ينطلق من موقع علم الإنسان، لأن الجاهل يعيش في الظلام. أما الإنسان الذي يملك العلم، ويملك المعرفة، فهو يتحرك في النور، لأن العلم نور يضيء للإنسان طريقه، ويوسِّع له آفاقه، بينما الجهل يمثل حالة ظلام في العقل، وظلام في القلب وظلام في دروب الإنسان في الحياة، ويضيّق للإنسان آفاقه، ولذلك تجد الجهلة يعيشون في زنزانات الذات والأوضاع الخاصة، بينما يفكر العالِم بحجم العالم، ويفكر الجاهل بحجم الزاوية التي يعيش فيها والناس الذين يتحركون معه، فلا يعيش الأفق الواسع في القضايا العامة، فهو يسقط القضايا الكبيرة أمام القضايا الصغيرة، لأن كل اهتماماته جزئية وصغيرة. ولذا فإن الله يقول: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( فهم لا يستوون، أي أن الإنسان الواسع الأفق لا يتساوى مع الإنسان الذي يمشي في الظلام.
وقد استوحى الإمام علي(ع) الفكرة، فأخذ منها أن العلم هو القيمة للإنسان ((قيمة كل امرئ ما يحسنه))، يعني قل لي: ما قدر معلوماتك؟ فأقول لك ما هي قيمتك. فبعض الناس يقيِّمون الناس على قدر ما يملكون من المال، فهو يساوي في السوق مثلاً عشرة آلاف دولار أو ستين ألف دولار. ولكن افرض أنك تملك خمسين ألف دولار فهي موجودة في البنك أو بالعقارات، فلا النقد أنت ولا العقارات أنت، فهي شيء مضاف لك. نعم، هناك وضع قانوني يسجل بمقتضاه هذا المال باسمك أو تسجل هذه العقارات باسمك، لكن هذا ليس أنت. أما العلم فهو أنت، فهو عقلك، وهو ملازم لشخصيتك. فالعلم هو جزء منك، وهو الذي يمثل عناصر الوعي في شخصيتك، فعلمك أنت، ومشاعرك أنت، وإحساسك أنت, وأما المال فليس كذلك، وغير المال بهذه المثابة أيضاً، كما لو كان عندك سلاح، فهو أيضاً مضاف إليك، وهو شيء خارج عن ذاتك منسوب إليك، وأما علمك فهو شيء يمثلك أنت، ولذا قال الإمام علي(ع) لكميل: ((العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال)) فعندما تملك علماً يحتاجه الناس فإنه يحرسك، والناس عندما يحتاجون علمك فإنهم يحرسونك لأنهم يحرسون حاجاتهم إليك ((والمال تنقصه النفقة)) فإذا أنفقت منه نقص، بينما ((والعلم يزكو على الإنفاق)) فإنه كلما أنفقت من علمك تفجر لك نبع جديد منه لأن ممارسة العلم تنمّيه وتطوّره، ((هلك خُزّان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة))([821]) لأن العلم هو الإنسان، وهو الذي يعطي الإنسان وعياً لمصيره )إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ( وهنا يشير إلى الناس الذين يعيشون بتذكر، والتذكّر كناية عن الوعي، فإنهم يملكون الوعي لمصيرهم، فيدفعهم ذلك إلى أن يخططوا لمصيرهم وذلك من العقل، فاللب هو العقل كما يُعبر عن الفاكهة باللب، لذلك فهم يحركون عقولهم في دراسة مستقبلهم ودراسة ما يحيط بهم على مستوى الدنيا والآخرة، فهم الذين يتذكرون ولا يعيشون في الغفلة. أما الذي لا يملك عقلاً فهو يعيش في غفلة، فتمنعه من أن يعرف ما حوله ومن حوله.
الخطاب الرقيق:
ثم إن الله سبحانه وتعالى ينادي المؤمنين بأسلوب فيه كثير من الحنان والعاطفة. )قُلْ يَا عِبَاد الذين آمنواِ(([822]) وكلمة (عبادي) نظير يا جماعتي، يعني أيها الذين خلقتهم وجعلتهم منتسبين إليّ، انفتحوا على الإيمان بي )اتَّقُوا رَبَّكُمْ( حاولوا أن لا تكتفوا بالإيمان ليعيش فكرة في عقولكم، ولكن حوّلوا الإيمان إلى حركة وإلى منهج في حياتكم الفردية والاجتماعية والسياسية، في بيوتكم، وفي مجتمعاتكم العامة والخاصة، وهذه هي التقوى. أي اعملوا على أساس كل ما أمرتكم به، واتركوا كل ما نهيتكم عنه. إذ إن التقوى هي أن تراقب الله في ما أمرك به وفي ما نهاك عنه، فإن تقوى الله تمثل موقف الإحسان إلى أنفسكم وإلى ربكم، وهذا ليس مجاناً )لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ( أي أن الله سبحانه وتعالى جعل لكلِّ محسن إحساناً، على أساس أن الله يجازي الإحسان بالإحسان. وهذا ما عبر عنه في سورة (الرحمن) )هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ(. و )وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ( فإذا ضاقت بكم الأرض لأنها ضغطت على أمنكم أو دينكم، فأراد الذين يهيمنون في الأرض أن ينحرفوا بكم عن خط الاستقامة في الدنيا، وأن يستغلوا ضعفكم من أجل السيطرة عليكم وعلى عقائدكم وأفكاركم، فلا تحبسوا أنفسكم وتقولوا بأنه قد ضغط علينا في هذه الأرض لذلك خضعنا للمستكبرين والكافرين الذين يملكون القوة، فيأتي الجواب كلا، فأرض الله واسعة، كما قال الإمام علي(ع): ((ليس بلدٌ أولى بك من بلد، خير البلاد ما حملك))([823])، يعني أن الأرض ليست صنماً يُعبد، فقيمة الأرض بمقدار ما تحقق لك إنسانيتك، وبمقدار ما تمنحك حريتك، وبمقدار ما تحمل حاجياتك وقضاياك. لذلك ((ليس بلد أولى من بلد)) فالإنسان هو الأصل، وليست الأرض هي الأصل. فإذا ضاقت بك أرض فانتقل إلى أخرى. وهذه المقولة، كيف نفهمها؟ نفهمها في الظروف التي لا تملك فيها أية فرصة ولو صغيرة لتغيير الواقع في أرضك، بل إن بقاءك في أرضك يسقط إنسانيتك ويضطرك إلى أن تتخلى عن قيمك، وعن مبادئك تحت ضغط الذين يسيطرون على هذه الأرض، لذلك في هذه الحالة عليك بالهجرة، فإن القرآن وسّع هذه الفكرة.
وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: )إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ( بما يعني الانحراف الفكري والعقائدي )قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ( يعني مستضعفين بسبب الضغوط الهائلة من قبل المستكبرين الذين فرضوا أفكارهم وضلالهم. )قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا( ألم تكن لكم فرصة كي تبتعدوا عن هذه الأرض التي تطبق عليكم بضغوطها، فتمنعكم من اختيار الأرض التي تملكون فيها الحرية وتحصلون فيها على القوة، لتعودوا إلى أرضكم من مواقع قوة جديدة تضعونها في الأرض الأخرى لتسقطوا المستكبرين، فأولئك الذين استضعفوا أنفسهم ولم يأخذوا بأسباب القوة ولا بموقع واحد ليصنعوا القوة من جديد. )فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا( يعني الناس الذين لا يملكون فرصة حتى أن يخرجوا من أرضهم )فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ( فإن الله قال عسى لئلا يتشجع البعض ويبرر الكثير من الحالات هذه )وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(([824]) وعليكم أن تصبروا على البلاء في خطِّ مبادئكم وعقيدتكم، وعليكم أن تصبروا على البلاء في خط الهجرة من ملاعب صباكم )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(([825]) الذين يصبرون على مبادئهم، وعلى دينهم وعلى إنسانيتهم، وعلى قضاياهم الكبرى، لأن الصبر هو الذي يؤصل الإنسانية، ولا يسقط الإنسان في إنسانيته، إلا إذا انعدم عنصر الصبر، لأن المستكبرين والظالمين يعملون على أن يضغطوا على الإنسان حتى يفقد إرادته، ويفقد تماسك شخصيته، وعند ذلك يفرضون عليه ما يشاءون، كما هي لعبة (عض الأصابع)، ونحن نعيش الآن لعبة عض الأصابع، خصوصاً الأخوة المجاهدون الفلسطينيون الذين يضغطون الآن على إسرائيل بالعمليات الاستشهادية، فيما إسرائيل وأمريكا وكل المستكبرين يضغطون على الفلسطينيين من أجل أن يستسلموا. ونحن نأمل أن لا يصرخ الفلسطينيون ولن يصرخوا إن شاء الله. والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة التاسعة والعشرون 3 جمادى الأولى 1423ه - 13 / تموز /2002م
الخطاب القرآني (9)
شخصية النبي(ص) وموقعه
* الخطاب المصدّر ب(قل) يكشف القضايا التي تمثل الاهتمام الكبير في العقيدة والشريعة والحياة*
شخصية النبي(ص).
انسجام الفكر والعمل.
الحرية المسؤولة.
خسارة المصير.
عبادة الطاغوت.
المنهج الأحسن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع الآيات القرآنية المصدّرة بكلمة (قُلْ) موجهة إلى رسول الله(ص) ومن خلاله إلى الأمة كلها، لأن الله – كما ذكرنا مراراً- كان يخاطب الأمة من خلال الرسول(ص)، وقد قلنا إن خطاب الله للرسول انطلق في أسلوبين؛ الأسلوب المباشر، والأسلوب الذي أراد الله للنبي(ص) أن يخاطب الأمة في قضاياها الحيوية، من خلال مخاطبة رسوله بكلمة (قُلْ). ونحن نلاحظ ونتابع هذه الآيات لنكتشف هذه القضايا التي تمثل الاهتمام الكبير بأن تبلّغ إلى الأمة في أكثر من جانب من جوانب العقيدة أو الشريعة أو حركة الإنسان والحياة.
شخصية النبي(ص):
فمن بين هذه الآيات، الآيات التي أراد الله فيها للنبي(ص) أن يعبر للأمة عن مسؤوليته، لأن الله أراد للنبي(ص) أن يبرز للمجتمع، بالإضافة إلى صفة الرسالة، كما في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(([826]) أراد أن يقدم نفسه للأمة كمسلم، للإيحاء بأن النبي(ص) لا يختلف عن أي مسلم أمام الله. فالنبي ليس فوق القانون الإلهي، بل هو مع القانون الذي رسمه الله في كتابه، والقانون الذي أوكله إليه للتشريع، لذلك فليس هناك في الإسلام شخص فوق القانون.
وعلى ضوء هذا، فإن بعض البلدان الإسلامية التي أثير فيها الجدل بأن الولي فوق القانون أو لا، فهذه المسألة لا مجال لها عندما يكون القانون هو الإسلام، فليس هناك أحد، حتى النبي أو الإمام، فوق القانون الذي رسمه الله بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا ما تحدثنا عنه في ما سبق من خلال الكلمة التي خاطب بها الرسول(ص) الناس في آخر أيامه عندما أراد أن يودِّع الناس، فقدم للناس حساباً وطلب منهم أن يدرسوا كل تاريخه المسؤول معهم، إذ ورد في (طبقات ابن سعد): ((أيها الناس، إنكم لا تعلقون عليّ بشيء)) أي لا تمسكون علي بشيء ((إني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن، وما حرمت إلا ما حرّم القرآن)).
على ضوء هذا، فكل الناس متساوون، من النبي(ص) إلى الإمام(ع) إلى العلماء إلى أدنى الناس، متساوون في أحكام الله سبحانه وتعالى، ومتساوون في عبوديتهم له. وهذا ما تُعبّر عنه هذه الآيات التي نحاول أن نثيرها في هذا اللقاء، إذ يقول الله سبحانه وتعالى )قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(([827])، فلقد أمرني الله كما أمر الناس كلهم أن يعبدوه بإخلاص، ونحن نعرف أن قضية العبادة في الإسلام هي أن تخضع لله خضوعاً مطلقاً في كل ما أمرك به وفي كل ما نهاك عنه، ولذلك فإن مفهوم العبادة هو مفهوم يتسع لكل حركية الإنسان في الحياة، وفي كل ما أراد الله منه وفي كل ما نهى الله عنه، ولذلك ورد أن ((العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال))([828]). فقد اعتبر طلب الحلال في كل ما يمثل من الحركة التجارية الإنمائية في حياة الناس، عبادة يتعبد الناس فيها لربهم، لأن الله يحب للناس ذلك. )فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(([829]) أي لا تجلسوا في المسجد طيلة اليوم، بل انطلقوا لأرزاقكم )فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ(([830]).
انسجام الفكر والعمل:
وعَوْداً إلى الآية الكريمة التي نحن بصددها )قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ( عبادة الإنسان الذي يشعر بعبوديته لله، بحيث يسلّم كل أمره لله ويطيعه في كل شيء، على أساس الإخلاص بمعنى العبودية في إحساس الإيمان بربه )وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(([831]) فلست الإنسان الذي يدعو الناس إلى خط فكري أو قانوني ليطلب منهم أن يتحركوا فيه ثم يكون خارج ذلك، كالكثيرين من الناس الذين عشناهم في حياتنا وعاشت البشرية معهم، الذين قد يدعون إلى فكر لا يؤمنون به، ولكن ليكون هذا الفكر الجسر الذي يعبرون به إلى عواطف الناس ومشاعرهم وإلى مواقعهم الاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك. لهذا فالنبي(ص) كان النموذج الأمثل في ذلك حيث كان منتمياً إلى الإسلام فكراً وعاطفة وحركة في الحياة، وهذا ما ينطبق على كل داعية للإسلام فلا يكون فكره إلا فكراً إسلاميا،ً ولا تكون عاطفته إلا في الخط العاطفي للإسلام، ولا تكون حركته في الحياة إلا من خلال منهج الإسلام. وفي ذلك قوله تعالى: )وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(.
هذا في الجانب الإيجابي، أما في الجانب السلبي، فإن كل إنسان ينحرف عن خط لله في ما أمره وفي ما نهاه عنه فإنه سيحاسب على عمله، وقد عبر الرسول(ص) عن هذه المسألة بقوله تعالى: )قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(([832]). وقد جاء عن النبي(ص) فيما روي عنه في آخر حياته في بعض خطابه عن ذلك عندما قال: ((أيها الناس، لا يتمنى متمنٍ ولا يدّعِ مدّعٍ، أما إنه لا ينجي إلا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت))([833]).
لذلك فإن هذه المسألة تمثل الجانب الفكري الإسلامي في المسؤولية، فلا فرق في المسؤولية بين كبير وصغير، حتى لو كان الكبير في مستوى النبي. وقد حدَّث النبي(ص) فيما روي عنه وهو يصور سقوط الحضارات وسقوط المجتمعات من خلال هذا النوع من التفاضل في المسؤولية بين شريف ووضيع ((إنما أُهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ))([834])، ثم يقول الرسول(ص) ـ حسب الرواية ـ ((وإيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). وكما يقولون، فإن فرض المستحيل ليس مستحيلاً، و(لو) أداة امتناع لامتناع، لأنها عليها السلام معصومة، لكن النبي(ص) يقول إن المسألة حتى لو وصلت إلى هذا المستوى، فلابد أن يطبق القانون الإسلامي بحقّها، لأن المسؤولية لا تختلف بين إنسان وآخر، لأنه ليس بين الله وبين أحد قرابة )قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عذاب يوم عظيم( فهذا يمثل حالة الخشوع والخضوع والخوف من الله سبحانه وتعالى الذي يعيشه الرسول(ص) في معنى سر عبوديته لله أو إحساسه بذلك، وذلك في قوله تعالى )قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(([835]) يعني أن هذا الأمر الإلهي في أن أعبد الله مخلصاً له الدين، إنما هو أمر أعيشه في نفسي، ولذلك فإني أتحرك في حياتي في هذا الخطّ.
الحرية المسؤولة:
)قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي* فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ(([836]) إني ألتزم بهذا الخط بغضِّ النظر عما تلتزمونه، ولقد دعوتكم إليه، فإذا كنتم لا تستجيبون لما دعوتكم إليه، فإن المسألة هي أن تأخذوا حريتكم، لا على أساس أنكم تملكون معنى هذه الحرية ولكنكم عندما تأخذون حريتكم فلأن الله لم يجبركم على ذلك من الناحية التكوينية، فأنتم تتحمَّلون مسؤولية ذلك، ولذلك فإن الإسلام عندما يعطي الحرية لا يعني أنه يرخِّص في ذلك، لأن الحرية في الإسلام تعني المسؤولية، أي أن الله لم يضغط عليك حيث يجعلك مهتدياً أو ضالاً، فلم يجبرك على عبادته أو عبادة غيره، )وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(([837]) يعني خذوا حريتكم، فإنكم تملكون عقلاً خلقه الله حراً، ولكن الحرية التي يتحرك فيها عقل الإنسان هي حرية مسؤولة وليست حرية تنطلق من خلال الرخصة هنا والرخصة هناك )فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ(.
خسارة المصير:
ثم أكد هذه المسؤولية في عبادة غير الله )قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(([838]) يعني أيها الإنسان، إنك تفكر في خسارة الدنيا عندما تندفع إلى هدف مالي أو اقتصادي أو هدف سياسي أو اجتماعي.. إنك تتحرك في حياتك على أساس الخسارة والربح، لأنك إن تخسر فإنك عندئذٍ تعيش مشكلة هذه الخسارة في نفسك وفي أهلك، وإن تربح فإنك تعيش مكسب هذا الربح لنفسك أو أهلك، لكن المسألة أن خسارة الدنيا يمكن أن تعوّض ويمكن أن لا تكون آخر المطاف، ولكن خسارة الآخرة، هي الخسارة الكبرى، بحيث تخسر فيها مصيرك ومصير أهلك، باعتبار أن أهلك هم مسؤوليتك العاطفية والتربوية، فإن الله سوف يسألك غداً عن أهلك وكيف تحملت مسؤوليتهم، وقد قال سبحانه وتعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(([839]) لذلك فالخسارة هي خسارة المصير، أن تخسر نفسك وأن تخسر أهلك، فلقد نبّه الناس إلى أنّ خسارة الآخرة هي الخسارة الكبرى، لذلك فعليك أن تعمل على أساس أن توفر على نفسك هذه الخسارة، )هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(([840]) فإنكم تستطيعون أن تحققوا الربح لأنفسكم في ذلك )لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ( يعني احسبوا حسابي في كل ما تعملونه أو تتركونه
عبادة الطاغوت:
)وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا(([841]) يعني الجانب الإيجابي في عبادة الله هو اجتناب الطاغوت، والجانب السلبي هو في عبادة الطاغوت، والمقصود من الطاغوت هو كل قوة وسلطة وشريعة ومنهج يختلف عن الخط الذي رضيه الله سبحانه وتعالى في هذه العناوين الكبيرة التي تتحرك في حياة الناس. لذلك فإن مسألة عبادة الله وحده تنفي عبادة الطاغوت وتنفي الخضوع له والتحاكم إليه وتنفي تنفيذ كل خططه في كل المجالات الاجتماعية والسياسية والقانونية وما إلى ذلك، فإن الله يقول هنا للنبي(ص) وفي كل ما يريد للنبي(ص) أن يقوله للناس: )وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى( البشرى لأنهم أخلصوا لله، ولأنهم استقاموا على الخط، وهذا ما حدَّث الله عنه في آية أخرى )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا( والاستقامة تعني السير على خط الله، بحيث لا ينفتح الإنسان على أي شيء غير الله سبحان، وهذا هو الذي يختصر مفهوم الإسلام كله، بالإيمان بالله وتوحيده، والاستقامة في هذا الخط، بحيث يكون ذلك بمثابة البوصلة التي تحدد مسارك في الحياة )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(([842]) فهنا يقول لهم البشرى )وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ( أي رجعوا إلى الله في كل أمورهم.
المنهج الأحسن:
ثم يركز على الجانب الثقافي المنفتح على الجانب العملي )فَبَشِّرْ عِبَادِي*الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ(([843]) فيركز الله سبحانه وتعالى على نقطة. مهمة وهي أن على الإنسان أن يحاول استماع كل قول. والاستماع غير السماع، فالسماع هو أن يدخل الصوت في أذنك باختيار أو بدون اختيار، بينما الاستماع هو أن يدخل الصوت في وعيك من خلال التأمل. استمعت بمعنى أني وجّهت كل سمعي وكل وعيي له )يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ(، فإن الله يريدنا أن نتأمل في كل ما نسمعه في أي مسألة فكرية، سواء كانت تتعلق بالجانب العقيدي أو بالجانب الشرعي أو الجانب السياسي أو الاجتماعي. أن نستمع وأن نتأمل في ما نسمع، ثم نحاول أن نحاكم الأولويات. ويمكن أن نستمع لشيئين حسن وأحسن، فالله يريدنا أن نختار الأحسن، وأن لا نقبل بالدرجة العادية، بل أن نرتفع في الجانب الثقافي والاجتماعي والعملي إلى الدرجة الأعلى. وهذا هو المنهج القرآني، وهو المنهج الأحسن: )وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(([844]) و )وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(([845]) و )ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(([846]) و)وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا(([847]) فالأحسن هو ما يريد الله للإنسان أن ينتمي إليه أو يلتزمه، في علاقات الإنسان مع الإنسان الآخر، ممّن تختلف معه أو يختلف معك أو تعيش معه أو يعيش معك أو في عالم الالتزام النفسي )فبشّر عبادي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ(.
وهذا في مقابل الذين يسمعون القول ولا يلقون بالاً ولا يتأملون فيه ولا يفكرون فيه ولا يشعرون بالمسؤولية في ما يسمعونه. وكل شيء نسمعه هو مسؤولية، لأن الله سبحانه وتعالى يقول هل سمعت أو لم تسمع؟ ولذا يقول سبحانه: )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا(([848]) فهل سمعت؟ وكيف سمعت؟ هل رأيت؟ وكيف رأيت؟ والفؤاد المقصود به العقل، فهل فكرت؟ وعلى أي أساس فكرت؟ فأنت عندما تسمع أي شيء فلابد أن تفكر فيه، هل هو حق أم باطل؟! هل هو خير أم شر؟ هل هو مما يمكن قبوله أو رفضه وما إلى ذلك ..فالله يريد للإنسان أن يستمع القول فيقتنع فيتبع )الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ( يعني الذين يكونون بهذا المستوى فهم العقلاء )أولئك الذين هداهم الله وأولئكَ هُم أُولوا الألْبابْ( لأن العاقل يتحمَّل مسؤولية ما يفكر به، بحيث لا يلتزم فكراً إلا بعد أن يتأمله ويؤمن به ويقتنع به، فإذا اقتنع به وآمن به حرّكه في حياته، ولذلك قال )أولئكَ هُم أُولوا الألْبابْ( فهم الذين يمثلون العقلاء من الناس.
ثم يتحدث عن الجزاء وعن العناصر السلبية فيقول سبحانه: )وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلى الكافِرين(([849]) لأنه لم يتحمل مسؤولية فكره وعمله، بل انحرف عن الخطِّ المستقيم، فأنت لا تملك أن تنقذ من يلقى في النار جزاء تمرده على الله. أما العناصر الإيجابية فيقول الله سبحانه: )لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ(([850]).
وفي هذا الجو نخرج بنتيجتين أساسيتين: النتيجة الأولى: وهي أن المسؤولية في الإسلام لا تفرق بين كبير وصغير، والنتيجة الثانية: أن على الإنسان أن ينفتح على كل كلمة يسمعها ليتأمل فيها وليتحمل مسؤوليتها سلباً أو إيجاباً بعد الاقتناع بسلبيتها أو إيجابيتها. والحمد لله رب العالمين.
الثلاثون 10 جمادى الأولى 1423ه - 20 / تموز /2002م
الخطاب القرآني (10)
أسلوب إثارة الأسئلة
* أساس التربية القرآنية للإنسان هو في جعله يفكّر بإثارة علامات الاستفهام ليصل منها إلى الحقيقة*
السؤال لإثارة التفكير.
الهادي هو الله.
تواصل الرسالات.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا زلنا مع الآيات القرآنية التي خاطب الله بها رسوله، ليعلمه وليوجهه كيف يخاطب الناس، من أجل أن يفتح عقولهم على أكثر من علامة استفهام حول قضية التوحيد أو أية قضية أخرى، لأن المنهج القرآني في كل أسلوبه التربوي، يجعل أساس تربية الإنسان في أن يفكر، وذلك بإثارة علامات الاستفهام أمام القضايا التي ربما يلتزم بها خطأ، ليأتي القرآني وليقول له فكر في هذا السؤال فلعلك من خلال ذلك تستطيع أن تصل إلى الحقيقة.
وهذا ـ أيها الأحبة ـ هو الأسلوب القرآني الذي يرتكز على قاعدة فكرية منهجية تربوية، وهي أن إثارة الأسئلة أمام الناس الذين نختلف معهم في الفكر، هي السبيل الفكري الذي يمكننا من خلاله أن نقيم عليهم الحجّة، أو لنستمع إلى أجوبتهم لنحاورهم. وعلى ضوء هذا، فإن الإسلام يؤكد أن على القائمين على شؤون التربية الإسلامية أن يفتحوا للناس قلوبهم ليسألوا عن كل شيء، وأن يحاولوا الإجابة عن كل سؤال بحسب ما يملكون من المعرفة، لأن علامات الاستفهام التي تثور في عقول الناس، سواء كانت مرتبطة بالعقيدة أو بالشريعة أو بالخطوط الأخلاقية أو بالجوانب السياسية والاجتماعية، إذا بقيت دون جواب، فإنها قد تخلق لدى الإنسان عقدة تترك تأثيرها على كثير من واقعه النفسي أو واقعه الثقافي. لذلك علينا أن لا نتعقد من أي سؤال، وأن لا نرفض أي سؤال وأن نحاول أن تكون لنا ثقافة الأجوبة على الأسئلة. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل/43) إذ أراد من أهل الذكر أن تكون لهم ثقافة الذكر، والذكر عبارة عن ثقافة الإسلام كله والدين كله.
السؤال لإثارة التفكير:
لنبدأ في هذه الآيات التي أراد الله سبحانه وتعالى لرسوله(ص) أن يخاطب الناس بها بطريقة إثارة علامات الاستفهام لتأكيد الجواب من قبله إن لم يجيبوا هم على ذلك، كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} والسؤال هنا موجه للمشركين الذين يشركون بعبادة الله غيره، ومن الطبيعي أنهم يعرفون مواقع الرزق من السماء في الأمطار التي تهطل عليهم، ومواطن الرزق في الأرض في كل الثروات المخزونة فيها، وفي كل ما تنتجه من نبات. إن النبي(ص) من خلال تعليم الله يسألهم من يرزقكم؟ ومن الطبيعي أن هذا السؤال يُثير فيهم التفكير. فهل يمكن لهذه الأصنام أن تكون هي التي تجعل السماء تنـزل بالمطر؟ وهل هي التي يمكن أن تعطي الأرض كل هذه الثمار والفواكه وما إلى ذلك؟ من الطبيعي أنهم لا يدّعون لها شيئاً من ذلك، لأنهم يعرفون أنهم أصنام صنعوها وأعطوها من خيالاتهم وأوهامهم ما جعلوا لها أسراراً خفية اعتبروها تقربهم إلى الله زلفى. ولذلك فإن هذا الرسول يثير أمامهم شرطاً من شروط الآلهة، وهو أن الإله بمعناه المهيمن على الكون، لا بد أن يكون هو الرزاق للناس جميعاً أو للكون، فإذا دخلوا في مقارنة بين الله وبين أصنامهم وجدوا أن أصنامهم تسقط في هذا الاختبار أمام المقارنة.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} ولا بد أن يفكروا أن الله هو الذي يرزقهم من السماء والأرض {أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ}(يونس/31)، إنكم تسمعون بآذانكم وتبصرون بأعينكم، فمن الذي أعطى البصر قوة الإبصار؟ ومن الذي أعطى السمع قوة الاستماع؟ وكيف حُرّك من أجل أن تتطور المعرفة من خلاله؟ وهكذا كيف يجعل للبصر المجال الواسع لأن يملك ثقافة المبصرات، ويملك السمع ثقافة المسموعات؟ من هو؟
{يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ}(يونس/31) وربما اختلف العلماء في تفسير هذه الآية، ولعل الأقرب هو ما يمكن أن تثيره مسألة خروج الحياة من الأرض الميتة {وَآَيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا}(يس/33)، {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(الحج/5)، وإن كان من الممكن في بعض الحالات أن يخرج الحي من الميت، كما في حالة ما إذا ماتت الأم من هذه الجملة {وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ} وهذا ما يمكن تصوره في الإنسان وفي الحيوان وفي غير ذلك، حتى في الأرض عندما ينطلق بعض النبات الميت من الأرض الميتة عندما تتحرك فيها الحياة. {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} من الذي يدير هذا النظام الكوني من خلال القوانين التي أودعها فيه، ومن الذي يدير الإنسان والحيوان من خلال ما أودعه من سنن في حركية الإنسان وفي طريقته في إدارة أموره وفي تكوين المجتمعات وفي مواجهة التحديات وترتيب القضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية {فَسَيَقُولُونَ اللهُ} ومن الطبيعي أن هذه الكلمة {فَسَيَقُولُونَ اللهُ} إما أن تكون منطلقة من التأكيد على جانب الفطرة، لأن الإسلام دين الفطرة، كما ورد في الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»، أو لأن هؤلاء الناس عندما يعطون لأصنامهم بعض أوضاع العبادة فإنهم لا يعتقدون أنها تملك القدرات الربوبية، ولذلك فإنهم سوف تنطلق فطرتهم بالصراخ {فَسَيَقُولُونَ اللهُ} لأنه لا مجال عندهم لأن يسندوا كل هذه القدرات إلى غيره، فعندئذٍ {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}(يونس/31) فإذا كان الله هو الذي خلق ذلك كله فهو الذي يرزقكم من السماء والأرض، وهو الذي يملك السمع والأبصار، وهو الذي يخرج الحي من الميت والميت من الحي، وهو الذي يدبر الأمر، ومعنى ذلك أن حياتكم مرتبطة بالله، وأنكم لا بد من أن تحسبوا حسابه في كل حياتكم وفي كل ما تفعلون، فقل {أَفَلَا تَتَّقُونَ} لأن المعرف تفرض أن تُحرِّك العمل في خطها وفي مفرداتها.
وهذا منهج يؤكده القرآن في أكثر من آية، وهو أن على الإنسان عندما يعيش وعي القضايا، أن يتحرك خطه العملي في اتجاه تأكيد هذا الوعي في عمله، ثم يؤكد {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ} هو الحق الذي لا يقترب منه {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} فهناك أمر واحد، إما الحق وإما الباطل، والباطل يمثل الضياع والضلال والسير في مواقع المتاهات التي لا يستطيع الإنسان أن يصل منها إلى أي هدف معقول، فإذا كان الله هو الحق، لأن كل عناصر الحق مجتمعة في ذاته، وكل من ينكر الله وكل من يبتعد عنه وكل من يشكك فيه فهو يتحرك في خط الضلال {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}(يونس/32) يعني أنى تعدلون عن الحق إلى الباطل. {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(يونس/33) وحقّت أي ثبتت كلمة الله للذين فسقوا، وهم الذين تجاوزوا الحدود في ما يعقلون وفي ما يفكرون وفي ما يعملون، لأن الفسق على قسمين، فهناك فسق ثقافي وهناك فسق عملي. أما الفسق الثقافي فهو أن تنحرف بأن تستعمل الأدوات التي تؤدي بك إلى الباطل وتترك الأدوات الفكرية التي تؤدي بك إلى الحق.م وهناك فسق عملي، وهو أن تتجاوز الخطوط العملية التي لا بد لك من أن تأخذ بها فعلاً أو تركاَ. ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يعيش الفسق في فكره والفسق في عمله، فإنه سوف يبتعد عن خط الإيمان، لأن الإيمان ينطلق من خلال التقوى الفكرية، والروحية والعملية التي توحي للإنسان بالمسؤولية في هذا المجال {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ} وثبتت هذه الكلمة لأنهم لا يؤمنون، ولا تعني أن الله أجبرهم على عدم الإيمان، بل لأن طبيعة ما أخذوا به من خط الانحراف يتجه بهم إلى عدم الإيمان.
الهادي هو الله:
ثم يخاطبهم الله في اتجاه آخر ليقول لهم إن دور الإله هو المربي، وهو الذي يدلّهم على ما ينفعهم ويجنبهم عما يضرهم، سواء كان ذلك من خلال ما يركِّبه في وجودهم من أجل أن يهتدوا إلى الحق بهذه الآلات والأجهزة التي ركبّها في أجسامهم، أو من خلال ما ينـزل عليهم من رسالاته التي تحدد لهم خط الصلاح والفساد وخط الحق والباطل. إنّ الإله هو الذي يهدي إلى الحق، فإذا كنتم تعتبرون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى آلهة بدرجة معينة، فاسألهم ـ يا رسول الله ـ ووجِّه السؤال إليهم: هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟! ومن يعطي الناس الطاقات في وجودهم التي إذا استخدموها دلتهم على الحق، وهل من شركائكم من يرسل الرسالات التي تفتح عقول الناس على الحق الذي لا تستطيع عقولهم أن تصل إليه بنفسها بدون الرسالات؟ وهل من شركائكم من يملك التخطيط للشريعة التي تحرك الناس في اتجاه الحق في حياتهم على مستوى الواقع الفردي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني؟ هل يلتفتون إلى الأصنام فيرونها جامدة ليس فيها نبضة حياة؟! فهي لا تتغير في وجودها ولا تُغير ما حولها ومن حولها ويصابون بجمود الفكر. والله يجيب عنهم، إذ يقول إنهم سوف لا يجيبون، لأن حيرتهم التي تمزق كل كيانهم سوف تجعلهم يسقطون أمام هذا السؤال، لأنهم يعرفون على الطبيعة، لأن شركاءهم لا يهدون إلى الحق {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}(يونس/35)، وها أنتم ترون كيف أن الله سبحانه وتعالى ركّب في الإنسان ما يهتدي به إذا استخدم الأجهزة داخل ذاته، وها أنتم ترون أن الرسل جاءت بالرسالات التي تهدي إلى الحق، فإذا كان شركاؤكم لا يهدون إلى الحق، وكان الله هو الذي يهدي إلى الحق، فالعقل يحكم بأن علينا أن نتبع الله ولا نتبع غيره {قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ} ـ وهو الله ـ {أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(يونس/35). فهل تتبعون الذي يملك الحق كله والذي يملك أن يعطي الحق بكل تنوعاته وبكل وسائله، أم تتبعون الذي لا يملك إلا أن يهدى ويحتاج إلى أن تنظم حياته من الخارج ويحتاج لأن يخطط له. فهل هذا هو الحكم الذي تُساوون فيه بين من يهدي إلى الحق وبين من لا يهتدي إلا أن يهدى؟ وهل هذا الحكم يوافق عليه العقل؟ {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، بما لا ينسجم مع قاعدة التوازن في معطيات الحكم من خلال العناصر الحية التي تجعله في نطاق الوعي العقلي للأشياء.
ثم يؤكد سبحانه في هذه الآية المنهج الذي يسيرون عليه {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}، فمشكلة هؤلاء أنهم عندما يركزون خطوطهم الفكرية أو الحياتية، فهم لا يحكِّمون عقولهم ولا يخضعون للبراهين والأدلة والحجج القاطعة التي تثبت الحقيقة، كما لو كانت نوراً يُضيء للإنسان عقله، وإنما يتبعون الحدس والتخمين والظن، وهي الأدوات التي لا ترتكز على حجة، كما يصف القرآن الظن بأنه الوسيلة التي لا يرتكز الإنسان معها على حجة أو برهان، بل ينطلق من خلال أوهامه وخيالاته وتخميناته وحدسه من دون أساس {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}. فالحقيقة هي أساس الإنسان، ولا بد أن يخضع حياته للحقيقة، سواء كانت حقيقة في العقيدة أو الشريعة أو المنهج. ولا بد له من الوصول إلى الحقيقة بطريقة الاقتناع القطعي أو الاطمئنان الوجداني أو ما يقرب من ذلك، بحيث يأخذ موقع الحجة العقلائية من استخدام الآليات التي توصله إلى الحقيقة، ولا يتبع الظنون التي تمثل الأوهام التي تبعده عن الحقيقة {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(يونس/36).
ونستوحي ـ أيها الأحبة ـ من هذه المعادلة كيفية حركة الإنسان في واقع القيادات التي يتبعها الناس، فهناك قيادات لا تملك رحابة فكر الحق في ما يحتاجه الإنسان من الحق في الجانب المعرفي في ثقافته، وفي الجانب الحركي في مسيرته بالحياة، وهناك أناس يعيشون ثقافة محدودة جداً لا تملك أن تخطط للناس حياتهم وأن تهديهم للآفاق الواسعة التي يستطيعون من خلالها أن يواجهوا كل المتغيرات والتطورات والتحديات ليضعوا لكل حالة من هذه الحالات برنامجاً، وليعرفوا في كل موقع من أين يبدأ وإلى أين ينتهي، ما يجعلهم في حاجة ملحة إلى من يدلهم على تلك المواقع أو يهديهم إلى تلك المعرفة أو يخطط لهم الحركة، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن نحركها في واقع الناس. فإن الله يقول لنا إذا أردتم أن تتبعوا قيادة في أي جانب، فيجب أن تملك هذه القيادة أن تهدي الناس إلى الحق، سواء كان فقيهاً أو قائداً اجتماعياً أو سياسياً في كل الجوانب، لأنهم هم الذين يجمعون لكل حركية خطوط حياتكم من خلال ما تنتهي بكم إلى النتائج الحاسمة في جميع جوانب الحياة، فلا تتبعوا الجاهلين ولا الذي يعيشون ضيق الأفق، ولا تتبعوا الذين يتحركون في الدوائر الضيقة التي لا يستطيعون من خلالها أن يملكوا لأنفسهم الحق، بل يحتاجون إلى من يقودهم في ذلك.
تواصل الرسالات:
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}(يونس/34)، فلا بد أن يكون الإله خالقاً يملك الخلق كله، أي يملك كل حركة الخلق في أن يخلق ويملك ويعيد الخلق من جديد بعد العدم، لأن الخالق يملك سر الخلق وسر الحياة، فهو يستطيع أن ينوِّع الحياة بكل احتمالاتها وأوضاعها، فإذا كان الله سبحانه وتعالى يملك أن يخلق الإنسان فهو يملك أن يعيده، ولقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله في سورة (ياسين): {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}(يس/78-79)، إن الذي أبدع الحياة الأولى قادر بنفس السر أن يبدع الحياة الأخرى في هذا المجال، وقد ورد عن الإمام علي(ع): «عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى([851])»، لأن الإيمان بالنشأة الأولى هو إيمان بالقدرة الإلهية للسيطرة على سر الحياة، فهو يملك أن يحركها كيف يشاء {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (يونس/34).
ثم يحدثهم عن هذا القرآن الذي حاولوا إثارة الشك والريبة فيه [وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ}(يونس/37)، إنكم تؤمنون بالله، ولا يمكن لأحد أن يفتري على القرآن وينسبه إلى الله وهو ليس من الله، لأنه ليس هناك أحد يملك هذه القدرة كما سيأتي في التحدي. كما أن الله سبحانه وتعالى عندما يفتري عليه أحد بأن ينسب إليه كتاباً كاملاً يتصل بكل حياة الناس ويغير مفاهيمهم وأوضاعهم ثم يتحرك الناس من خلاله على أنه كلام الله الذي يقدسونه ويخضعون له، فإن الله لا بد أن يفضح هذا الإنسان الذي افتري عليه
{وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}(يونس/37)، ولكنكم لو درستم هذا القرآن وقارنتم بينه وبين التوراة والإنجيل، وهي كتب سبقت القرآن، كما في صحف النبي إبراهيم(ع) فسترون أن القرآن جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب، ما يدل على أن يُجسِّد الفكر الذي أنزله الله في التوراة والإنجيل، وفي ما أنزله على إبراهيم(ع) الذي تؤمنون به، وهذا القرآن يجمع كل الأديان في الأرض، إذ يشتمل على كل ما جاء في التوراة والإنجيل مما قد يحتاجه الناس في حياتهم مما يوصلهم إلى الحق وإلى الإيمان بهذا الحق. وربما يحاول بعض المبشرين التشكيك بالقرآن بحجة أن الآية الفلانية يوجد مثلها في التوراة أو الإنجيل، ولكنه تشكيك في غير محله، لأن التواصل بين الكتب السماوية وتأكيد بعضها لبعضها الآخر وهو شعار الأنبياء. فكل نبي يصدّق النبي الذي قبله، وهذا هو منهج الأنبياء، وكل نبوة لا تلغي النبوة التي سبقتها، ولكنها تكمِّل ما نقص منها بمرور الزمن. كما في زمن النبي عيسى(ع) {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(آل عمران/50). كما أن النبيّ(ص) يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، لأن امتداد الرسالة في مدى 500 سنة ربما يحدث فيها بعض المتغيرات التي تحتاج إلى تغيير بعض الأحكام التي كانت محكومة بزمن معين، ولذلك يقال إن النسخ إنما ينطلق على أساس أن هناك أحكاماً في زمن معين، ولكن الله لم يبين حدودها فتأتي الرسالة الثانية لتنسخها، كما كان الناس يستقبلون بيت المقدس للعبادة، فتحول المسلمون بعد ذلك إلى البيت الحرام {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(البقرة/144).
وبالعودة إلى الآية التي نحن بصددها في قوله تعالى: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ}(يونس/37) وكلمة (الكتاب) تعني كل ما أنزله الله سبحانه وتعالى من الرسالات، لذا يقول: {وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ}(آل عمران/119) [قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(يونس/38) وهذا هو التحدي. ومن الملاحظ أنه لم يستطع صوت واحد أن يأتي بسورة واحدة كما في القرآن وهو تحدٍ باقٍ منذ ذلك الوقت حتى الآن، وهذا هو الدليل على صدق النبي محمد(ص). والحمد لله رب العالمين.
باب المسائل
الفصل الأول
المسائل القرآنية
أولاً: مسائل التفسير.
ثانياً: المسائل العامّة.
أولاً: مسائل التفسير
تفسير مجيء الله:
* ما هو تفسير الآية )وَجَاءَ رَبُّك َوَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(([852])؟
* ظاهر الآية أن الله سبحانه وتعالى يأتي إلى ساحة القيامة ومعه الملائكة. وقد أخذها الظاهريون الذين قالوا إن الله يُرى وأن لله جسداً بهذا المعنى، ولكن القرآن يفسّر بعضه بعضاً، وقد حدثنا الله عن المتشابهات من الآيات وعن المحكمات اللواتي هنّ أم الكتاب، وأن بعض الناس يتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولكن المحكم في القرآن هو الذي يفسّر كلّ متشابه القرآن. ففي القرآن آيات أخرى توحي بهذا الظاهر كما في قوله )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(([853]) وقوله تعالى )كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ(([854]) وقوله تعالى )يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ(([855]) وقوله تعالى )يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ(([856]) ولكن هناك آية محكمة تقول )لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ(([857]) وقوله تعالى )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ(([858]) أي لا يشابه شيئاً في أي شيء. ولأن العقل يقول لا يمكن لله أن يتجسد، لأنه إذا تجسد كان محدوداً، وإذا كان محدوداً كان محتاجاً، لأنه يفتقر إلى كل فقر المحدود، ولحاجاته.
ولذلك فالله هو المطلق للامحدود، وهذا يفسر أن هذه الآيات واردة على طريق الاستعارة، وفي اللغة العربية من الكلمات ما يراد بالمعنى الحقيقي، وهو الموضوع له لغة، وهناك كلمات تطلق على المعنى الكنائي المجازي، كما في كلمة (اليد) فإنها موضوع لليد الحقيقية التي هي آلة من أعضاء الإنسان، ولكنها تخرج إلى معنى القوة عندما تقول في التعبيرات السياسية (يد الدولة الفلانية طويلة) فذلك يعني أنّ قوتها تمتد إلى أي مكان، و تقول (أشكر لك أياديك) يعني العطاء، لأن اليد آلة العطاء. وأما (الوجه) فهو مظهر الشخصية وأنت إذا أردت أن تعرف الشخص فإنك تعرفه من وجهه، ولذلك يعبّر به عن الذات، وهذا هو المراد في قوله تعالى )كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ(([859])، فهل يعني أن وجهه يبقى ويتلاشى بقية جسده؟ وكذلك في قوله تعالى )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ(([860]) فهل يعني أن وجهه يبقى؟ بل المراد ذاته، و الوجه كناية عن الذات.
وعلى هذ الأساس (جاء ربك) يعني المقصود يأتي الله من خلال مظاهر عظمته ومظاهر قوته ومظاهر سلطته )لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(([861]) و قوله )يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ(([862]) وهكذا عندما نقرأ )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(([863]) أي إلى نعم الله وإلى آلائه الله وما إلى ذلك. فالكلمات ظاهرة في ذلك بحسب المعنى اللغوي ولكن لا يراد منها المعنى اللغوي الظاهر، بل يراد معناها المجازي أو الكنائي أو ما إلى ذلك.
النبي سليمان والإكراه في الدين:
* بعد الكلام الذي وجهه سيدنا سليمان(ع) لملكة سبأ وحسب التعبير القرآني )أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(([864])، أليس في هذا إشارة إلى الإكراه في الدين، وأي أسلوب هذا من أساليب الدعوة؟
* سليمان(ع) أراد أن يجذبهم إلى الدين من موقع القوة، لأنه إن لم يكن يملك القوة في تلك المرحلة لما كانوا مستعدين لأن يأتوا إليه، ولذلك أراد أن يأتوا إليه، من موقع القوة لأنه هو الذي يمثل إرادة الله ورسالته سبحانه وتعالى، ولكن ذلك لا يتنافى مع قوله )وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ( أي مسلمين عن اختيار. فهذا منطق القوة في اجتذابهم إليه. ولذلك عندما أحضرت بلقيس لم يجبرها سليمان(ع) على الإيمان، بل أعدّ لها من الأدلة ما يساعدها على الإيمان، ومن ذلك إحضار عرشها، كما في قوله تعالى: )قَالَ يَاأَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(([865]) فقد رأت عرشها ثم بدأ سليمان يتحدث معها بالمنطق، فكان إسلامها عن قناعة، ولذا قالت: )وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(([866]).
من هم أهل الذكر؟!
* يقول الله سبحانه وتعالى )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(([867])، من هم أهل الذكر، وما هو السبيل في حال اختلافهم؟
* أهل الذكر في هذه الآية هم الذين يملكون علم الكتاب بالبينات والزبر، ولكن المصداق الأكمل للكلمة في حياتنا هم أهل البيت(ع) والنبي(ص)، وقد فسرت بالعلماء أيضاً، لأنهم الذين يحملون علمهم. وأما كونهم قد يختلفون، فإن هناك معايير لضبط هذا الاختلاف بما لا يمنع من الرجوع إليهم.
أتى أمر الله:
* في قوله تعالى: )أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ(([868])، فإن الفعل (أتى) ماضٍ أي أنه صدر الأمر من الله، وإنما هي مسألة وقت، أرجو من سماحتكم أن تفسروا لنا هذه الآية؟
* صحيح ذلك، ولكن الفعل الماضي قد يؤتى به للحاضر عندما يكون الفعل محققاً، بأن تنزع منه صفة الزمن ويؤكد نفس الفكرة.
التنافي بين الآية والرواية:
* إن الآية الكريمة تقول: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(([869])، وفي الحديث يقول ((إن الله لا يقبل عملاً فيه مثقال ذرة من رياء))، فهل يتناقض الحديث مع الآية؟
* ما ورد في الرواية صحيح، وكذلك في الآية الكريمة ولا تنافي بينهما، لأن الثاني لم يعمل لله، فهو عمل مثقال ذرة شراً وعمل رياءً، ومن يعمل رياءً فهو يعبد غير الله، كما ورد أن الإنسان الذي يعمل ليقول الناس عنه إنه عمل كذا وكذا وهو يريد جزاءه من الله فيقول له إنك عملت هذا ليقول عنك الناس كذا، وقد قال الناس عنك ذلك، فما الذي لك عندي؟ أنت لم تعمل لي.
نجاة فرعون:
* في القرآن آية حول فرعون )فَالْيَوْم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ(([870])، ما تفسيرها، وهل جسده موجود؟ وهل آمن فرعون أو تاب؟
* أي أن الله أخرج جسده بعد إغراقه ليظهر أمام الناس ليعرفوا أن هذا الإنسان الذي يدعي الألوهية قد مات كما يموت الناس، فتبطل بذلك دعواه.
القول والرقابة الإلهية:
* يقول الله تعالى: )مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(([871])، متى يكون اللسان نعمة، ومتى يكون نقمة؟
* إن اللسان يمثل العضو الذي يتقدّم كل الأعضاء في نشاطاته، وقد يملك الإنسان في حياته اليومية أن يجمِّد حركة يده أو رجله أو يغمض عينيه، أو ما إلى ذلك، ولكن من الصعب جداً أن يجمّد حركة لسانه، لأنه لا يخلو من الحاجة إليه في كل لحظة من لحظات حياته، فالله سبحانه وتعالى أراد لهذا اللسان في حركة الإنسان لتنظيم حياته على قاعدة التوازن والاستقامة، كما لكل عضو من أعضائه أن يكون نعمة للإنسان في نفسه وفي علاقاته مع غيره ومع الحياة، ولا يريد له أن يكون نقمة، لأنَّ اللسان يمكن أن يعبّر عن علم يطلقه الإنسان، أو عن نصيحة ينشرها، أو قضاء حاجة يسعى إليها، ويمكن أيضاً ومن خلاله أن يعبر عن عاطفة تجاه الآخر ليشاركه في حالة وجدانية، أو يخطّط معه لمشروع في قضية من قضاياه الحيوية .. وهكذا يمكن أن يكون اللسان نعمة عندما يدخل الإنسان مع غيره في حوار متنوع في أبعاده لحلّ بعض المشكلات الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية التي يمكن أن يفكر بها الناس ليتعاونوا على استجلاء الحقيقة، أو على حلِّ القضايا الشائكة في المجتمع. وبهذا يكون اللسان نعمة.
ويمكن أن يكون اللسان نقمة عندما ينطلق بالكلمات التي تثير الفتنة، ككلمات النميمة، أو الكلمات التي تسيء للإنسان في كرامته وتفضح له أسراره التي يخفيها عن الناس، أو تطلق السباب والشتائم والبذاء والفحش للآخر، حيث تتحطم نفسيته وكرامته، أو توحي بالإذلال له في نفسه انطلاقاً من حالة كِبْر المتكلّم. ويمكن أيضاً لهذا اللسان أن يدعو إلى ما يرهق الحياة ويُدمِّر لها كيانها ويعطّل حركتها، أو يعمل على إثارة الحقد والعداوة والبغضاء بين الناس، أو ينفّس عن مكامن الحسد، أو يزرع المفاهيم التي تسهّل للكفر والشرك والفسق والفجور الدور في المجتمع لتحطيم الإيمان والإساءة إلى الأخلاق، وهكذا في كل الأمور التي يمكن للإنسان أن يساهم فيها من خلال لسانه لإرباك الحياة وتعقيد الواقع الإنساني وإثارة الحروب والمنازعات فيما بين الناس.
ومن هنا، فإن اللسان بهذه المعاني، يتحوّل إلى نقمة على الإنسان نفسه على مستوى الدنيا والآخرة .. وحتى يكون هذا اللسان نعمة، لابدّ من استقامته على الخط الذي يرضاه الله فيما يفكّر به الإنسان أو يتعاطف معه أو يتحرك فيه.
ولأهمية دور اللسان في الحياة، ورد في الحديث: ((الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه))([872])، وقد ورد أيضاً: ((من كثر كلامه كثُر خطأه))([873])، وقد جاء عن أمير المؤمنين علي(ع) في بعض كلماته، أنه قال لشخص يكثر الكلام من دون ضوابط: ((يا هذا، إنك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربك، فتكلَّم بما يعنيك ودعْ ما لا يعنيك))، فكأنه يقول له، اعرف ماذا تكتب، لأن هذا الكلام يمثّل تقريراً يومياً تقدمه إلى ربك من خلال الكاتبين اللذين يحصيان عليك أعمالك )مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(، وورد أيضاً في الجانب السلبي لهذه المسألة: ((وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم))([874]).
فإذاً، اللسان عندما يتحرك بالشر فإنه يؤدّي بالإنسان إلى النار، وعندما ينطلق بالخير فإنه يؤدي به إلى الجنة، وعلى الإنسان أن يعرف أن كلامه جزءٌ من عمله، فليس العمل شيئاً والكلام شيئاً آخر.
تفضيل بني إسرائيل:
* لقد ورد في القرآن الكريم، في أكثر من آية، الحديث عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين، ما يؤكد الفكرة التي يحملها اليهود عن أنفسهم من أنهم شعب الله المختار، مع أن هذه الفكرة مرفوضة إسلامياً، فكيف نفسر ذلك؟
* هناك تفضيل في القيمة والمنـزلة والمكانة، وهناك تفضيل في النعمة وتوجيه المسؤولية، أما التفضيل بالمعنى الأول فهو الذي يزعمه اليهود، فيعتبرون أنفسهم أولياء الله وأحباءه، وهو ما يرفضه الإسلام بنص القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: )َقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(([875])، وفي قوله تعالى:)قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(([876]).
أما التفضيل بالمعنى الثاني: فهو الذي تحدث القرآن عنه، وركّز عليه، فإن الله قد أنعم على بني إسرائيل في الماضي بالكتاب والحكم والنبوّة، والنعم الوافرة الكثيرة فلم يقوموا بشكرها، ولذا استحقوا لوم الله، وتأنيبه وعقوبته لهم، وهذا ما يصرِّح به القرآن في قوله تعالى :)وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(([877])، وقوله تعالى :)وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ(([878])، وقوله أيضاً :)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(([879]). فهذه الآيات بأجمعها تتحدث عن نعم الله التي أفاضها على بني إسرائيل ولم يؤدّوا شكرها، فعاقبهم الله على ذلك في الدنيا و الآخرة.
تعدد الزوجات:
* هناك من يقول، إنه ليس في القرآن حكم بإباحة تعدد الزوجات، بل القضية على العكس، فهناك تركيز على تحريمه، لأن النص الذي تحدث عن إباحة التعدد، ربط الحكم بالحِلّ بشرطٍ غير مستطاع - حسب نص القرآن - ما يجعل الحكم غير وارد، لانتفاء الحكم بانتفاء شرطه، كما يقول علماء الأصول. أما كيف ذلك؟ فنستطيع معرفته بالمقارنة بين الآيتين: )فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا(([880])، )وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(([881]). فنحن نلاحظ أن الآية أمرت بالاقتصار على واحدة في حالة عدم العدل، مما نفهم منه الإباحة بشرط العدل، وجاءت الآية الثانية، لتصرّح بأن العدل غير ممكن للزوج حتى لو بذل جهده، وإذا لم يكن العدل ممكناً، فكيف يمكننا الحكم بالإباحة مع فقد الشرط؟ وربما نلمح في بعض الكلمات، نسبة التناقض إلى القرآن في مضمون هاتين الآيتين، لأن تعليق الشرط يؤذن بإمكان الشرط، فكيف يصرح باستحالته بعد ذلك؟
* لعل هؤلاء الذي يريدون استنباط حكم تحريمي قرآني لتعدد الزوجات، لم يتأملوا في الآية الثانية، كما يجب، فالآية لم تكن في معرض التركيز على فساد العقد الزوجي ولغويّته لعدم استطاعة العدل، بل وجهت النداء إلى الأزواج، ودعت ألاّ يتحول الميل إلى ممارسةٍ عمليةٍ حادة تجعل الزوجة كالمعلقة، الأمر الذي يؤكد شرعية الزواج، بدلاً من أن يكون حجّة على عدم الشرعية.
ولعلّ السر في ذلك، أن العدل المفروض شرطاً في الآية الأولى، هو العدل في النفقة وفي سائر الحقوق الزوجية الخاصة، أما في الآية الثانية، فهو العدل في الميل القلبي الذي لا يملك الإنسان أمر التحكم فيه، لذلك ركزت الآية على عنصر بقاء هذا الميل في الداخل لكيلا يُفسد على المرأة حياتها العائلية. وقد ورد الحديث بذلك عن الإمام جعفر الصادق(ع)، فإنه روي في الكافي، ((بإسناده عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم قال له: أليس الله حكيماً؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين، قال اخبرني عن قوله تعالى :)فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً(، أليس هذا فرضاً؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله: )وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ( أي حكيم يتكلم بهذا؟! فلم يكن عنده جواب. فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله(ع) فقال: في غير وقت ولا حج ولا عمرة، قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمني، إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: وما هي؟ قال: فأخبره بالقصة، فقال له أبو عبد الله: أما قوله :) فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً( يعني في النفقة، وأما قوله )وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ( يعني المودة. فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره، قال: والله ما هذا من عندك))([882]). ولعل التدقيق في سياق الآيتين يؤكد هذا الفرق في المعنى.
نظرية الاستيحاء:
* نرجو منكم أن تشرحوا لنا باختصار نظريتكم في تفسير القرآن الكريم ((الاستيحاء))؟
* في ما أُسميه الاستيحاء، أنطلق مما روي عن أهل البيت(ع)، فقد روي عن الإمام الباقر(ع) في حديث عنه يشير فيه إلى أن القرآن إذا نزل في قوم لم يتجمد فيهم – وهذا مضمون الحديث ولا أنقله بحرفيته – لأنه إذا فرضنا أنه جُمِّد في هؤلاء القوم لمات القرآن الكريم عندما يموت القوم، ولكن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر والليل والنهار. وهذا ما نستوحيه بأن القرآن في ما تحدث عنه من حركة الأمم السابقة في كل تجاربهم الناجحة والفاشلة، وفي كل نقاط ضعفها وقوتها، وفي كل تجارب الأنبياء مع أممهم، ما يجب أن نأخذ به ونستوحيه في ما يستجدُّ في كل جيل من الأجيال، من قضايا تتعلق بالحرب والسلم، وبالفساد والإصلاح الاجتماعي، وبسنن الله في الكون.
فالقرآن إذاً لم ينزل ليكون كتاب المرحلة التي انطلق فيها الرسول(ص)، بل إنه نزل ليكون كتاب الحياة باعتبار أن النبي هو خاتم النبيين فلا نبي بعده، ولذلك يجب أن يكون كتابه هو كتاب المراحل التي تأتي بعده. فإذاً لابد لكلَّ جيلٍ أن يستوحي من القرآن للقضايا التي تعيش في داخله، فعندما ندرس نحن واقعة بدر، نستوحي المرتكزات التي كانت عند المسلمين في بدر ونستوحي الانتصارات، وعندما ندرس واقعة أُحد التي انتصر فيها المسلمون أولاً ثم انكسروا ثانياً، نستوحي منها أسباب الانتصار وأسباب الانكسار، فلماذا كان الانتصار ولماذا كان الانكسار، وهذا ما عالجه القرآن في سورة آل عمران وما إلى ذلك.
والأمر الثاني، هناك بعض الروايات الواردة عن الأئمة(ع) تمثل الاستيحاء المعنوي من المادي، فمثلاً ورد عن الإمام محمد الباقر(ع) في تفسير قوله تعالى:)وَمَنْ أحياها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا(([883])، قال ((من نقلها من ضلال إلى هدى))، فإن الظاهر من الإحياء في الآية هو الإحياء المادي، ولكن الإمام(ع) استوحى من الإحياء المادي الإحياء المعنوي وهو الهدى. فهو عندما ينقلها من الضلال إلى الهدى فهو إحياء، فالضلال موت معنوي والهدى حياة معنوية. وهناك حديث عن الإمام موسى الكاظم(ع) يقول: ((فلينظر الإنسان إلى طعامه)) والطعام معروف )ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ(([884])، ولكن الإمام(ع) يتحدث عن الطعام فيقول ((طعامه علمه)) وكلمة العلم في قول الإمام(ع) تدل على استيحائه لها من خلال القرآن فإذا كان الله سبحانه وتعالى يمنّ على الإنسان بنعمة عظيمة، وهي الطعام المادي الذي يغذي الجسد، فإن في الطعام الروحي، وهو العلم، امتناناً أكبر من الله، فنحن نعتمد هذا الجانب ونحاول في كل آية قرآنية أن ندرس الواقع الذي نعيش فيه وندرس القضايا التي تحيط بنا ونحاول أن نستفيد من القرآن من خلال المبادئ العامة، ونستفيد منه ما يكون وحياً لما نعيشه، حتى نتحرك قرآنياً في قضايا لم يتحدث فيها القرآن بالخصوص، لكن تعرض لها بالخطوط العامة. فمنهج التفسير الذي عندنا يقترب من هذا الشيء الذي ذكرناه ومثّلنا له.
معنى كلمة (أهون عليه):
* قال تعالى:)وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى(([885])، ما هو معنى (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وهل هناك شيء أهون على الله أو أصعب؟
* أي أن الإعادة أهون عليه، إذ إن هناك فرقاً بين بداية الخلق والإعادة، لأن البداية ليس لها مثال، فقد أبدع الله من غير مثال أو صورة سابقة، بينما نرى ـ مثلاً ـ النحّات والرسام يصوِّر ويرسم وينحت على صورة ومثال. أما الله فقد خلق الخلق ولم يكن له مثال قبله. فإذاً هو الذي ابتدع المثال، وليس هناك شيء هيِّن وأهون وصعب وأصعب على الله، ولكن المراد أن طبيعة الأشياء تقتضي ذلك، إذ عالم الإعادة بحسب طبيعته سيكون هيناً، وإلاّ فإن الله لا يصعب عليه شيء حتى يقال هذا أهون وهذا صعب بالنسبة إليه فإن كل شيء في الطبيعة على مستوى واحد، وهو على كل شيء قدير، ولكن الله أراد أن يبين أن طبيعة الإعادة أهون من طبيعة الخلق.
معنى التوكل:
* قال الله تعالى: )وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ(([886])، ما المقصود من الآية؟ وكيف يكون التوكل والعمل به؟
* التوكّل يعني أن تعتقد أن الله هو أساس كلِّ شيء، فالله هو الذي خلق وهو الذي دبّر وهو الذي نظم وهو الذي يهيمن، بحيث إنك تكل كلّ أمرك إليه، لأنه هو المهيمن على الأمر كله. لكن عندما ندرس التوكل فإن فيه جانبين، جانباً نفسياً وآخر عملياً، أما الجانب النفسي في التوكل، فهو أن تكل الأمر إلى الله، بأنه ليس هناك غيره ولا قادر غيره، وأما الجانب العملي فهو أن تستغلّ كل الوسائل التي مكَّنك الله منها وتستنفدها ولا تشعر بالقلق منها، ثم تترك الأمر لله في التوفيق والنجاح.
يمكن أن نستشهد على هذه الفكرة بحديثين: الحديث الأول مرويٌّ عن النبي(ص): ((قال أحدهم: تركت دابتي في البيداء وتوكلت على الله وضاعت، فقال له: اعقلها وتوكل))، أي اربطها في مكان تأمن فيه عليها، وإلا تهرب هذه الدابة بطبيعتها. اعقلها وتوكل، أي عليك أن تأخذ بسنن الله، وقد جعل للحفظ وسائل معينة ونظاماً معيَّناً، فعليك أن تأخذ بهذا النظام. والحديث الثاني مرويٌّ عن الإمام الصادق(ع) يقول: ((المتوكلون هم الزرّاعون))، يعني إذا أردتم أن تروا تجسيد الإنسان المتوكل على الله فهو الفلاح، لأنه لا يقف أمام أرضه ويقول اللهم ازرع لي فيها حنطة وشعيراً أو أخرج لي شجرة تفاح، وإنما يعمل في أرضه فيحرثها وينقّيها ويلقي البذار ويسقيها ويتعهد بكل ما يكون به الزرع، وبعد أن ينتهي من كل ذلك لا يدري ما الذي يحدث من الطوارئ، فقد تأتيه ظروف مناخية غير مناسبة، وهنا يقول يا رب هذا ما أستطيع عمله وأنا أتوكل عليك في ما لا أستطيع.
فالتوكل هو أن تأخذ بكل الأسباب التي وضعها الله بين يديك بما يتعلق بك، ثم إذا استنفدت كل ما يتعلق بك فاترك الأمر لله.
التحدي القرآني:
* لماذا التحدي في بعض الآيات بعشر سور وفي بعضها بسورة واحدة؟
* هذا تحدٍّ متدّرج، ولكنه بدأ بأعلى مرحلة، فقد تحدث عن عجزهم بالإتيان بمثل القرآن )قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(([887])، ثم أراد أن يقول لهم إنكم لا تستطيعون على هذا، فائتوا بعشر سور، ثم سورة واحدة وهذا قمة التحدي، فهو أراد أن يظهر عجزهم بهذا النوع من التدرج.
الصلاة القرآنية:
* يقول الله تعالى )إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ(([888])، ولكننا نرى بعض المصلين يرتكبون الفواحش والمنكرات بما لا يرتكبه بعض تاركي الصلاة فكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟
* الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ليس لأنها تمثل عصا سحرية تجعل الإنسان مستقيماً، فإن ذلك نظير ما نقوله إن المدرسة الفلانية تُعِدُّ طلبة على أفضل ما يكون الإعداد، فهل يعني هذا أن ذلك يقع بمجرد تسجيل اسم الطالب في المدرسة فيحصل الطالب على المستوى العلمي المذكور؟ لا بل يعني أن منهاجها كذلك، فإذا درس هذا الطالب فيها، فهي تعدّه لمستوى راقٍٍ، فأساتذتها جيدون ومناهجها جيدة ونظامها نظام جيد، فمن ينتسب إلى هذه المدرسة فمن الطبيعي أن يتخرج ناجحاً. والصلاة على هذا المستوى. وإلا فقد ورد عندنا ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً)) فالمراد من ذلك أن الصلاة مؤثرة بحسب العناصر الموجودة فيها: الروحية والثقافية والحركية، بحيث إذا أخذ الإنسان بها، ورعاها وكان جاداً بها فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
تفسير الحظ:
* قال تعالى: )وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(([889])، هل هناك ضمن التقديرات الإلهية مكان للحظ؟ ويبدو أن هناك مستويات للحظ فما هي؟
* الحظ ليس شيئاً غير اختياري للإنسان دائماً. نعم، قد يكون الحظ في بعض الحالات غير اختياري، مثل أن يولد الشخص وفي فمه ملعقة من ذهب حسب ما يقال، كما لو كان أبوه غنياً وأموره ميسرة. لكن الحظ في كثير من الحالات ينطلق من اختيار الإنسان، فعندما تريد أن تكون إنساناً مثقفاً أو واعياً، فإن ذلك لا يبتعد عن اختيارك، لأن الثقافة لا تخلق معك ولا الوعي. فهنا لابد أن تأخذ بأسباب الثقافة، فيكون لك نصيب من الثقافة. فالحظ هو النصيب، وإذا أردت أن تأخذ بأسباب الوعي فيكون لك نصيب من الوعي. وإلى ذلك تشير هذه الآية وهي رائعة جداً إذ يقول الله تعالى: )وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ(([890])، يعني الأسلوب الحسن وهو الأسلوب السلمي والأسلوب العقلاني الهادئ )وَلا السَّيِّئَةُ( أسلوب العنف أسلوب الانفعال )ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( فعندما تأتيك مشكلة اختر الأسلوب الأحسن الذي يحوّل أعداءك إلى أصدقاء )فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( ثم يقول أن هذا الخيار ليس سهلاً )وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا( لابد أن تفكر بعقلك )وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( من الوعي ومن العقل الذي يستطيع أن يزن الأمور وأن يحولها على حساب النتائج التي يريدها الله، فليس الحظ دائماً أمراً غير اختياري. قد يكون غير اختياري مثلاً فيخلق أحدهم جميلاً، وهذه تتبع حكمة الله سبحانه وتعالى، لكن الحظوظ التي تتعلق بجانب الوعي وجانب الثقافة وجانب الكثير من عالم الإنتاج الذي ينتج فيه الإنسان رزقه، وينتج فيه حركته في الحياة، فهو أمر اختياري، وهذا يحتاج إلى جهد إنساني.
معنى سبحان الله:
* قال تعالى: )فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(([891])، هل معنى (سبحان الله ربِّ العالمين) أن الله ينـزه نفسه من التشبيه بالنار ومن حولها، أم ماذا؟
* (سبحان الله) هنا المراد بها تنزيه الله عن كل ما يشين وعن كل ما يعيب.
العمل الصالح المرضي:
* قال تعالى على لسان النبي سليمان(ع):)وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(([892])، هل هناك من الأعمال الصالحة ما لا يرضى عنها الله؟
* ليس الأمر كما في السؤال، بل أراد أن يبِّين (أن أعمل صالحاً) بمعنى أني أريد أن أحرز رضاك، وهذا وصف للعمل الصالح، وليس معناه أنه قيّد هذا، بمعنى أن العمل الصالح منه ما يرضي الله ومنه ما لا يرضي الله، فهو يعني بذلك أن يا رب وفقني أن أرضيك بأن أعمل صالحاً. فهو يريد أن يقول:)وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ( وأن أرضيك بأن أعمل صالحاً.
وفاة النبي عيسى(ع):
* قال تعالى: )إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا(([893])، ما هو تفسير هذه الآية، وهل يستفاد منها وفاة عيسى(ع) وقيامه من الموت قبل رفعه إلى السماء؟
* بعضهم يقول إن الوفاة في الآية هي أن يتوفى، أي أن يحصل على ما فرضه الله له من الحياة وليس من الضروري أن يكون بالموت. وبعض العلماء يقول: )إِنِّي مُتَوَفِّيك( يعني أن الله عندما رفعه إليه بجسده صارت روحه في لحظة وفاة، ثم انطلق إلى الله في حياته. على كل حال لا يوجد اختلاف في هذا المعنى.
كيفية مخاطبة الملائكة:
* قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ(([894])، كيف تمت المخاطبة بين الخالق العظيم والملائكة، هل هو حوار كلامي أم بالإيحاء؟
* ظاهر الآية الكريمة أنه تعالى خاطبهم وكلّمهم، وليس لنا طريق لمعرفة كيفية هذا التكليم أو المخاطبة، وهذا نظير خطابه لموسى(ع) وتكليمه إياه.
آية النفر و وجوب الاجتهاد:
* هل تدل الآية المباركة: )فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ( على وجوب الاجتهاد في الفقه والتقليد؟
* يجب أن يكون في الأمة أشخاص متخصصون في الفقه والدين عموماً، وليس فقط في الفقه، على نحو لا تخلو الأمة من المجتهدين، ولا تدل على وجوب الاجتهاد على كل أحد. وربما يستدل بها على وجوب الأخذ برأي الفقيه.
مظاهر الدَّين:
* ما تفسير قوله تعالى: )فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ(([895])؟
* بمعنى الكفّار، فإنهم إذا دخلوا الإسلام والتزموا مظاهره وأحكامه فحكمهم حكم المسلمين، ومن مظاهر الإسلام وأحكامه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وعند ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
يأجوج ومأجوج:
* حدثنا القرآن الكريم عن يأجوج ومأجوج، فهل هم من البشر وإلى أي قوم ينتمون؟ وهل هم على قيد الحياة؟
* لم يتحدث القرآن بأكثر مما تحدث، وما ورد في الأحاديث فهو محل تأمل، وذلك لعدم تطرق القرآن الكريم لمثل هذه التفاصيل، خاصةً وأن هذه التفاصيل مما يصدق عليه القول المأثور: ((هذا علم لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله)) ولذلك نجمل الحديث فيما أجمل القرآن عنه.
تفسير الشُّح
* ما تفسير الآية: )وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(([896])؟
* يعني يوقى البخل )ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه(([897]) والشح هو البخل، بمعنى أن من يتحرر من البخل ويعش العطاء الذي يؤدي به إلى الله سبحانه وتعالى فإنه من المفلحين. وقد مدح الله سبحانه وتعالى أهل البيت(ع) في قوله تعالى لذلك: )إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا(([898]).
تسيير الجبال:
* ما هو تفسير قوله تعالى: )وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا(([899])؟
* الآية الكريمة تتحدث عن عناد هؤلاء، وقد بلغ عنادهم إلى الدرجة القصوى، بحيث لو قدِّم لهم القرآن الذي به تسيّر الجبال أو تكلم به الموتى، فليس لهم استعداد بإعادة النظر والتفكير.
طبيعة السماء:
* ما تفسير قوله تعالى: )وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ(([900])، وقد أثبت العلم أن السماء ما هي إلا فسحة الكون التي يمكن رؤيتها من سطح الأرض، فكيف يمكن أن تقع على الأرض؟
*السماء هي كل ما نراه فوقنا، المريخ سماء، والقمر والشمس كلها سماء، )وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ(([901]) المصابيح عبارة عن هذه الأكوان الموجودة، فالتعبير بالسماء المراد به هو هذا الفضاء الذي تسبح به هذه الأجرام، والتي لم يصل العلم الحديث لاكتشافها جميعها.
معنى (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا):
* ما معنى الآية المباركة: )وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(([902])؟
* ظاهرها أن الذي يترك ذكر الله ويعمى عن ذكر الله فإن الله يجعل له شيطاناً، يعيش معه كقرين له في الحياة ليضله، ظاهرها هذا، ولكن هل يعني أنه تعالى يجبرنا؟ كلا، بل على أساس القوانين المودعة في الكون وفي حياة الإنسان، وهذا أسلوب قرآني من خلال نسبة الأشياء كلها إلى الله.. لا على أساس أنها تصدر منه بشكل مباشر، لأن الله خلق الأسباب والمسببات، وجعل السبب بيدك، فإذا تحقق السبب فالمسبب تحقق، فهو ينسب إلى الله لأن الله خلق السببية، يعني حين تشعل النار فلابد أن تحرق، لأن الإحراق طبيعي للنار، فإن الله جعل علاقة بين النار وبين الحرارة، لكن جعل إيقاد النار بيدك، ولذلك ورد الحديث عن أئمة أهل البيت(ع): ((لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين))([903])، وذلك يعني أن الإنسان الذي ينسى ربه، ينسى مسؤوليته وينسى نفسه، فيستلمه الشيطان: )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(([904])، أي أنّ الإنسان لما يعش عن ذكر الله، وينسى الله سبحانه وتعالى، ولا يذكر الله في عقله ولا في قلبه ولا في لسانه، فعند ذلك يستلمه الشيطان ليضله. والله العالم.
جمع كلمة (سبل) في القرآن:
* جاء في قوله تعالى: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا(([905])، ويقول سبحانه أيضاً )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي(([906])، لماذا جاءت كلمة (سبيل) مفردة في الآية الأولى وفي بعض الآيات جمعاً؟
* من الممكن جداً – والله العالم – أنّ قوله تعالى )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا( باعتبار أنهم مجموعة، وكل واحد يمشي بطريق، وكل واحد يختار طريقاً، لأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فكل واحد يختار سبيلاً، فمن الطبيعي أن الله يهدي كل واحد سبيله، ولما كان سبيل الله متنوعاً، فمن الطبيعي أن يجمع السبيل، أما في مقام التحديد، فقد أراد الله سبحانه أن يبين الخط )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي( أو أن النبي بين الخط وهو خط الإسلام الذي يجمع كل السبل.
تفسير (وان المساجد لله):
* ما هو تفسير الآية الكريمة: )وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(([907])؟
* الظاهر منها أن المساجد لله خالصة، وليس لأيَّ أحد دخل فيها، فلا تدعو مع الله أحداً، فالمساجد لله فقط، ولذلك لا يدعى فيها غير الله. ولا يلتجأ فيها إلاّ إلى الله، حتى إذا أردت أن تذكر أنبياء الله وأولياء الله، فإنك تذكرهم من باب أنهم أنبياء وأولياء لله، وذلك من باب الشفاعة، لا على أساس ذكرهم بشكل مستقلّ، لكن توجد رواية، وإن كانت غير موثقة عن الإمام الجواد(ع)، فسرها بالمساجد التي يسجد عليها الإنسان، ولكن هذه رواية غير موثقة وهي خلاف ظاهر الآية.
الشكر على المصيبة:
* الآية القرآنية تقول: )لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ(([908]) ونحن نحمد الله على المصيبة، ألا يعدُّ ذلك أننا نريد ازدياد المصيبة؟
* المقصود لئن شكرتم النعمة وليس شكرتم المكروه، أي أنّ الله يريد أن يبين للإنسان قيمة النعمة التي منحه إياها ويذكره بضرورة الشكر لاستدامتها(النعمة)، أما الحمد على المكروه، فالله يعطيك ثوابه، ولكن لا يندرج تحت هذه الآية.
معنى الرهينة في القرآن الكريم:
* ما هو تفسير الآية القرآنية: )كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(([909])؟
* يعني أن الإنسان حاله حال الرهن، فكما أنه لا يستطيع إرجاع الرهن مادام مديوناً، فكذلك هنا، فالإنسان مرتهن بعمله، فإذا كان عمله غير صحيح فسوف يسقط الرهن، مثل الرهن الذي يسقط في حال عدم إيفاء الدين.
حكمة الخلق:
* ما الحكمة من خلق الله للإنسان، كما في قوله تعالى: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي(([910])، وهل يوجد تفسير آخر؟
* هنا نقطتان في الجواب. أولاً: في جواب ما الحكمة من خلق الله للإنسان؟ هذا أمر ليس لنا وسيلة للمعرفة به إلا من خلال الله، لأن ما ينطلق في عمل الله هو ملك لله، والله يقول: )لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(([911]). ثم إن هذا علم لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله، وليس ذلك من تكليفنا. نعم ما هي الفائدة التي أرادنا الله أن نستفيدها من خلقنا فذلك ما أجاب به القرآن بقوله تعالى: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي( أي لقد خلقنا الله لنعبده، وعبادة الله هي أن نخضع له، وأن نطيعه في كل ما أمر به ونهى عنه، لأن العبادة هي غاية الخضوع، والصلاة والصوم والحج هي مظهر من مظاهر العبادة، وكل طاعة لله هي عبادة. فالله يقول خلقت الجن والإنس من أجل أن يخضعوا لي فيطبقوا البرنامج الذي وضعته لهم من خلال الحكمة في تنظيم أمورهم وأمور الحياة التي تحيط بهم، فعلينا دائماً أن نسأل ما هي المسؤولية التي خلقنا لأجلها وعلينا أن نتحملها؟؟
أما لماذا خلق الكون والإنسان؟ فإن هذا أمر لم نكلف به. ومن خلال ذلك، لابد أن نتعلم أن تكون كل أسئلتنا تتصل بمسؤولياتنا.
هناك أسئلة مرتبطة بأصول العقيدة نسأل عنها (توحيد - نبوة – إمامة - معاد – الخ ..) وهناك مسائل تتعلق بعملنا، فنسأل عنها لنعرف ما يحل لنا أو يحرم علينا. وهناك ما يتعلق بحياتنا وبقضايانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. أما الجدل البيزنطي، وكما هو عند بعض الفلاسفة (هل الدجاجة أصل البيضة أم البيضة أصل الدجاجة) فإنه جدلٌ عقيم، نظير الجدل في (هل الملائكة ذكور أم إناث)، وكثير من الجدل يثير الخصام فتعادي الناس من خلاله بعضها البعض، فبعض الناس لا يعرف شكوك الصلاة ويأتي ليحدثك عن أمور تفصيلية مختلف عليها أو لم تثبت كليةً. فلا نحن مكلفون بها، ولا عقيدتنا ثبتت يقينياً بها، وفيما الجدل في هذه المسائل يجهل الناس الكثير من عقائدهم الأساسية، خاصة ونحن الآن في مقام تحدي العالم كله، وهو يتحدى عقائد الإسلام ويتحدى شريعة الإسلام، يتحدى واقع الإسلام، ونحن مشغولون بغير الأهم وغير المهمّ.
مدح أهل الكتاب:
* ورد في سورة آل عمران في الآيتين 113-114 عن أهل الكتاب أنهم )لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ(. السؤال: هل يوجد في وقتنا الحاضر مثل هؤلاء الصالحين من أهل الكتاب؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فأي الآيات يتلون؟ هل آيات القرآن الكريم؟ أم الإنجيل؟ أم التوراة؟
* المقصود بهم الذين دخلوا في الإسلام من أهل الكتاب وآمنوا بالله سبحانه وتعالى وتلوا آيات القرآن.
أتباع عيسى(ع):
* ورد في سورة آل عمران: الآية 55 )وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا( هل المقصود بعبارة (الذين اتبعوك) هم المسيحيون في وقتنا الحاضر؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فكيف يكون الانسجام مع الآية الكريمة: )وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ(([912]) ؟
* هذا ينسجم مع كون الإسلام هو الدين الذي لا يقبل سواه، لأن الآية الكريمة في مقام إعطاء فكرة عامة، وهي أن الذين يضطهدون الأنبياء(ع) وأتباعهم لا يحصلون على الامتداد في الزمن في عملية ممارسة القوة العملية، سوف تتقدم رسالات الله وتفرض نفسها، وذلك في مقابل البطش اليهودي. فالآية تشير إلى إذلال اليهود وحلول المكر بهم. وهي بالجملة تخبر عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى(ع) إلى يوم القيامة، وهذا لا يختص بالنصرانيين بل يعني به المسلمين، خاصة وأن النصارى تخلفوا عن اتّباع عيسى(ع) وقد وعد بنبوة محمد(ص) وبشّر بها.
لباس التقوى:
* ما معنى (لباس التقوى) في قوله تعالى: )وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ(([913])؟
* لباس التقوى هو اللباس المعنوي، وهو الامتثال لأوامر الله ونواهيه.
هل الهداية بعد التوبة؟
* ما معنى الآية الكريمة وسبب النزول في سورة طه: )وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى( لماذا جاءت الهداية بعد التوبة؟
* لا يبعد أن الآية واردة في مقام بيان أنه سار على خط الهدى )ثُمَّ اهْتَدَى( واهتدى يعني أبصر الطريق واستمر عليه، والله العالم.
الردّ إلى عالم الغيب والشهادة:
* نرجو إيضاح معنى الآية )ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة(([914]) في الوقت الذي نعلم فيه أننا نعيش في عالم الشهادة؟
* ربما قرأ السائل (عالَم) بالفتح فيقع في هذا الإشكال فيقال: إننا في عالم - بالفتح – الشهادة والحضور، والصحيح عالم _ بالكسر – وهو الله، وبذلك يعني تُردُّون إلى عالِم الغيب والشهادة، بمعنى تردون إلى الله الذي يعلم الظاهر والباطن، فيدفعكم ذلك إلى أن تهيئوا أنفسكم للقاء مع الله في موقع المسؤولية، لأن الله هو عالِم الغيب والشهادة، ولم يقل تردون إلى الغيب والشهادة.
ظاهر معنى الميسر والأزلام:
* ما معنى الميسر والأنصاب والأزلام؟
* الميسر هو القمار، والأنصاب ربما تفسر بالأصنام أو ما يهيأ للأصنام، وأما الأزلام فهي ما كان يستقسم بها العرب ويحاولون أن يعرفوا بها الغيب. ولذلك استشكل بعض العلماء في خيرة ذات الرقاع، وذلك لأنها تشبه الأزلام. ولكن وردت عندنا أن المقصود بالأزلام ما كانت مورداً لمعرفة الغيب.
إيذاء النبي موسى(ع):
* ما معنى قوله تعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا(([915]) ؟
* نسبوا إليه بعض الأشياء غير الحقيقية فبرأه الله منها.
الأسماء التي تعلمها آدم(ع):
* قال تعالى: )وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا(([916])، هل تشمل هذه الأسماء أسماء الإنسان والحيوان والنبات والجماد وكل شيء، وهل هي الأسماء التي كانت موجودة زمن آدم، أم تشمل كل الأسماء إلى قيام الساعة؟
* في حديث الإمام الصادق(ع) (علّمه الأسماء كلها) يعني كل شيء في الأرض مما يحتاجه، باعتبار أن الله أراد أن يثقفه ثقافة الأرض في كل ما تشتمل.
التحديث بنعم الله:
* في تفسير سورة (الضحى) )وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(([917])، ورد في بعض التفاسير أن ذلك يعني الحديث عن مقدار العبادات التي يقوم بها المرء، فما رأيكم؟ وهل يتناقض ذلك مع الواقع ومع مقولة الرياء؟
* طبعاً المقصود بالآية الكريمة ما أنعم الله به عليه من نعم ظاهرية محسوسة، والتحديث بها أي إظهارها، وإذا صحّ الخبر فإنه يعني إظهار ذلك ليعم الخير وينتشر.
تعدد الزوجات واليتامى:
* حكم القرآن في تعدد الزوجات يقضي ب: (1) وجود اليتامى )وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا(([918]). (2) وجوب توفر العدالة بين الزوجات. وبما أن القرآن ينص على )وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ(([919])، فما رأيكم بتعدد الزوجات الذي يقوم به كثير من الأغنياء الآن دون مراعاة أحكام القرآن؟
* الوجه في الحديث عن اليتامى في الآية، مع أنه لا ربط لحكم تعدد الزوجات بوجود اليتامى، إن الناس يومذاك كانوا يخافون الإثم في أموال اليتامى، ولكنهم لا يخافون الإثم في النساء، فهم يتزوجون مع عدم عدلهم، ولذلك فقد ربط الله سبحانه وتعالى بين هذين المقامين. فيكون المراد من هذا الربط أنكم كما تخافون أن لا تعدلوا في اليتامى فليكن ذلك شأنكم في النساء، أي فخافوا أن لا تعدلوا فيهن، ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع ولا تزيدوا على ذلك. ولذلك فلا ربط لحكم تعدد الزوجات باليتامى ليقال إنه موقوف على وجود اليتامى، بل إن الآية في مقام التذكير بالتقوى في أموال اليتامى، فلتكن التقوى الموقف هي مع النساء.
ثم إن الإشكال على تعدد الزوجات إن كان لجهة تسلط الزوج، فإن ذلك مما وضع له الإسلام تشريعات حدَّت من هذه السلطة، ولذلك فإن للحاكم الشرعي أن يطلِّق المرأة في كل حالة تركها زوجها معلقة دونما نفقة أو معاشرة بالمعروف.. ولكن المشكلة في هذا الزمن ـ أن بعض الحكام العرب والمسلمين – لما رأوا الغربيين انطلاقاً من التشريع المسيحي يميلون إلى تحريم تعدد الزوجات، فإنهم حاولوا بقوانينهم فرض الرؤية الغربية، وفي الوقت الذي منعوا فيه تعدد الزوجات عندهم، نجد أن تعدد العشيقات والصديقات من الأمور المباحة. وهذا هو نمط الحياة الغربية. وفي الغرب الآن المرأة العشيقة أو الصديقة أو الصاحبة لها نفس حقوق الزوجة بالتشريع الغربي. ولذلك فإن الإسلام في تشريعه تعدد الزوجات كان أكثر واقعية وأكثر تنظيماً، حيث عالج هذه المشكلة بشكل واقعي وأخلاقي وتربوي وقانوني أيضاً. وقد قال تعالى )وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا(([920])، وكذلك )وأن أردتم استبدال زوج مكان زوج وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(([921]).
فنحن نلاحظ التدابير القانونية والأخلاقية معاً لصيانة هذه العلاقة، ولكن القانون – أي قانون - لا يمكن أن يكفي لبناء حياة جيدة ما لم تكن هناك أخلاق وثقافة تحتضن هذا القانون، ولذلك فإن من يحمي القانون هو رجل القانون الذي يعيش روحية القانون، ولذلك فإن مشكلتنا ليست في التشريع الإسلامي، إنما في المسلمين الذين لا يعيشون أخلاقية الإسلام في العلاقات الزوجية، وإلا )فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ(([922]) أي واحدة من اثنتين، فإذا كنت لا تريد العيش معها طلّقها.
الإيمان بالرسل وتفضيلهم:
* قال تعالى، )لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ(([923]) وقال أيضاً: )تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ(([924]). كيف يمكن فهم الآيتين الكريمتين دون تناقض أو رغم التناقض الظاهر؟
* قوله تعالى: )لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ(، بمعنى أننا نؤمن بكل الرسل ممن أرسلهم الله تعالى إلى الناس، ولا يعني ذلك أنهم متساوون، بل بمعنى أننا نؤمن بهم أنهم رسل الله. وأما الآية الثانية، فهي بصدد بيان منازلهم، وأن البعض منهم يفضل على غيره، كما في قوله تعالى: )مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ(.
الخطاب السلبي للنبي(ص):
* قال تعالى )وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ(([925]). كيف تفسّر هذه الآية، فهل كان النبي(ص) ينهر السائلين؟
* ليس من الضروري أن يكون النهي عن شيء فعله النبي(ص)، فلو قال الله لنا لا تشربوا الخمر، فهل يعني ذلك أننا نشرب الخمر ليصحَّ أن ينهانا عنه، وإنما يقول له )وأما السائل فلا تنهر( لأن هذا دعوة للنبي(ص) باعتبار أنه الرسول الذي يخاطب الله الأمة من خلاله، ويؤسس من خلال ذلك التعليمات الإسلامية الربانية، والتي منها أن على الإنسان المؤمن أن لا ينهر السائل وأن لا يعنف معه أو يطرده.
التعامل مع الآخر:
* قال تعالى: )وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ(([926]) إذا لاحظنا هذه الآية، فإنها تشير إلى الصراع الأبدي بين المسلمين واليهود وبين المسلمين والنصارى. ما هو رأي سماحتكم في هذه الآية في ظل آية أخرى تقول ما مضمونه إن إخواننا النصارى هم سوف يساعدوننا في أمرنا وهل هناك تناقض بين الآيتين؟
* إنّ قوله تعالى: )وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ( في مقام بيان أن أي فئة تؤمن بمبدأ معين فإنها لن ترضى رضاً كاملاً عن أي شخص إلا إذا اتبع ما تؤمن به، لأن الرضا إنما ينطلق من خلال اتفاق الآخر معك في قناعاتك وفي أخلاقك وفي إيمانك. لذلك فإن الله يقول للنبي(ص) إن هذه المجاملات التي يقابلونك بها أو هذه اللياقات وما أشبه ذلك، ينبغي أن لا تجذبك ولا تخدعك، لأن هؤلاء لن يرضوا عنك حتى تتبع ملّتهم، لأنهم يخلصون لملتهم، ومن أخلص لملته فإنه لا ينفتح انفتاحاً كلياً على الآخرين، إلا الذين يتبعونه وينسجمون معه: )قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى(([927]) وليس هداهم. هذا أولاً.
وثانياً: فإنه ليست هناك آية تقول إنهم يساعدوننا أو ما أشبه ذلك لنقول إن هناك تناقضاً وقع بين الآية التي ذكرناها وما يشير إلى مضمون آية أخرى. نعم يقول الله تعالى: )لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(([928]) وهذا أمر آخر، لأن عالم التواصل الاجتماعي أمر آخر، فإنه يمكن أن نتفق نحن والنصارى في مواجهة اليهود، ويمكن نحن والنصارى واليهود أن نتفق لمواجهة الملحدين مثلاً، ولكن بعيداً عن المسألة الإسرائيلية. وهذا ليس من الرضا الذي تشير إليه الآية الأولى، فإنه يمكن أن تتفق مع آخر لك مصلحة معه في موقع معين، ولكن بنهاية المصلحة ينتهي اللقاء، لأن اللقاء يقوم على القواسم المشتركة، كما في قوله تعالى: )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ(([929]).
لعن الناس بعضهم البعض:
* جاء في سورة البقرة الآية الشريفة: )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(([930]). إطلاق الآية المتمثل في لعن الناس جميعاً للكفار يشمل الكفار أيضاً عن لعن أنفسهم لأنفسهم؟
* المقصود من ذلك الناس الذين كانوا في موقع الحكم، وهؤلاء هم الكفار الذين يعلنون الكفر ويتحركون به، فإن هؤلاء إذا واجههم الناس لعنوهم. فالمقصود بالناس أجمعين، الذين يراقبون الكفار في كفرهم وينكرون عليهم كفرهم، وليس المراد بالناس أجمعين بما يشمل الكفار، ومناسبة الحكم والموضوع كما يقولون تقتضي ذلك.
(أول المسلمين) :
* )أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ( ألا يعني أنه أول المسلمين في الأجنة كما يفسرها بعض المفسرين؟
* ليس المقصود ذلك حسب الظاهر، بل إن الآية واردة في مقام بيان أنني – والخطاب للنبي(ص) – عندما أدعوكم للإسلام وأريدكم أن تدخلوا في الإسلام وأن تلتزموا به، فإنني أول شخص أؤمن به، يعني أدعوكم لما أؤمن به وأنا أسرع منكم إلى ما أدعو إليه من الهدى والصلاح.
كيف الفرار من الموت؟
* ما المقصود من الآية الكريمة: )قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(([931]). كيف يفر الإنسان من الموت؟
* المقصود بذلك أنكم لا تستعدّون له وتتمنون أن لا يحصل، وهذه الآية مرتبطة بما قبلها، كما في قوله تعالى: )فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ( أي إذا كنتم تعتبرون أنفسكم أولياء لله وأنكم أحباؤه، فإن المحب يحب أن يلتقي حبيبه، وقد أعد الله الجنة لأحبائه، فلماذا تخافون الموت ولا تودون لقاء الله، وهذا خطاب لليهود، لأنهم كانوا يدّعون أنهم أحبّاء الله وأن ليس هناك أحد يدخل الجنة سواهم )وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ(([932]).
من الذي يشاء؟
* في الآيات التي يجئ فيها أن الله يهدي من يشاء كما في قوله تعالى: )يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ(، فمن هو الذي يشاء، هل هو الله؟
* الله هو الذي يشاء، لكن الله يشاء الهداية بأسبابها، يعني أنه خلق لك عقلاً وأعطاك وسائل للإدراك والاختيار، وأرسل لك رسلاً مبشرين ومنذرين. فالهداية منه سبحانه وتعالى، وهو يهدي من يشاء، بحيث إذا رأى الإنسان مقبلاً على الهداية زوّده بها . ويضل من يشاء بمعنى أنه يترك الإنسان إن هو أصر على الضلال بعد أن يكون قد أضاء له الطريق، فإن تنكر الطريق خلاّه وسبيله، وعندئذٍ يضل الإنسان عن الطريق، وهذا ليس معناه أن الله يهدي من يشاء بمعنى يجبره على الهدى، بل بالمعنى الذي ذكرناه من إعانته على الهداية، وقد قال الله تعالى: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(([933]). أما الشخص الذي يعرض عنه بعد أن دلّه على الطريق وبيّن له كل شيء، فإن الله يضله بمعنى أنه يتركه لنفسه، وإذا تُرك الإنسان لنفسه ضلّ. وهذا له نظير في حياتنا العملية، فأنت لو نصحت إنساناً وقدّمت له ما يمكن أن ينقذه من السقوط أو ما يعرضه إلى الخسارة وغير ذلك، ثم إنه يختار المخالفة، فإنك تتركه لشأنه، وعندئذٍ فإذا أصابه ما أصابه فإنك تقول إنك تركته لأنه أصرّ على ذلك، لأنه لم ينتفع بما نصحته به وبما قدّمت له مما يمكن أن ينقذه.
وضوح الكتاب:
* يقول تعالى: )ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ(([934]) والسؤال: هل يعني أن ما دونه في ريب وشك خاصة أن بعد القرآن الكريم تأتي السنة النبوية؟
* يعني ذلك أن الكتاب بحقائقه ومضامينه واضح بيِّن وليس فيه ما يبعث على الريب وليس له نظير مع غيره، ولا سيما للسنة التي صدرت من النبي(ص) التي أمرنا الله بالأخذ بها مما جاء في الكتاب )ما آتاكُم الرَسولُ فَخذوهْ وما نَهاكُم عنهُ فانْتهوا(([935]) فإن السنة مما لا ريب فيها، وقد يكون الريب في الطريق إليها من خلال وثاقة الرواة أو عدم وثاقتهم.
تفضيل بني إسرائيل:
* قال تعالى: )وفضّلناهُم عَلى العَالميِنْ(([936]) ما وجه تفضيل بني إسرائيل على العالمين؟
* هناك تفضيل القيمة وهناك تفضيل النعمة، فمثلاً لو أن شخصاً له أولاد وكان يهتم بأحدهم أكثر من أولاده الآخرين، ألا يقول له أنا فضلتك على أولادي كلهم؟! إن تفضيله في الاهتمام لا يعني أنه جعله أعظم وأفضل قيمة من الآخرين، بل يعني أنه فضله بالنعمة. )وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ(([937]) وعليه، فإن الله يتحدث عن تفضيل النعمة وليس تفضيل القيمة، وإلا كيف يذمهم )لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(([938]) وقد تحدث عنهم بأنهم كانوا يقتلون النبيين بغير حق )لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا(([939]) وقد تحدث الله في القرآن عن ذلك في سياق توبيخهم لأنهم كفروا بهذه النعمة، وأما لماذا أنعم عليهم فإن ذلك لحكمة يراها، نظير قوله تعالى )وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(([940]).
الترجّي في القرآن الكريم:
* يقول تعالى: )إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ(([941]) يظهر لنا من سياق الآية أن ذلك لا يكفي لحصول الهداية، بدلالة قوله (فَعَسَى)، ترى ما هي المعايير الباقية؟
* استعمل القرآن هذه التراكيب اللغوية، ليكون الإنسان في سياق الحذر على نفسه، ولئلا يطمئن إلى نفسه ويغتر بعمله، فيؤدي به ذلك إلى السقوط والضلال من حيث لا يشعر، فيكتفي ببعض الأعمال، فيقول إني عمّرت مسجداً أو فعلت كذا وكذا، ولذلك فإن الآية الكريمة وهي تستعمل (عسى)، تشير بطريقة الإيحاء إلى ضرورة تعاهد الإنسان نفسه، وأن لا يستسلم للثقة المطلقة ببعض أعماله.
صلاة الجمعة:
* قال الله تعالى: )إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ(([942]) فما هو المقصود من ذلك؟
* هذا يعني أنه إذا نودي للصلاة يوم الجمعة، فاتركوا كل عمل من أجل الصلاة. وإنما ذكر البيع مثالاً، لأن الآية نزلت حين كان النبي(ص) يصلي يوم الجمعة، وكان أحدهم ينادي على بضاعة وآخر يغني ويرقص، فيخرج الناس من المسجد كي يشاهدوا أوضاع اللهو أو لشراء البضائع، ولذا جاءت الآية )وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(([943]). والمشكلة أنّ الناس لا تعرف قيمة صلاة الجمعة. ومما يروى في فضلها فعن الإمام الباقر(ع) يقول: ((من ترك ثلاث جمع من غير عذر فهو ممن طبع الله على قلبه)) أي أنه يعتبر في عداد المنافقين، وهناك من جاء إلى الرسول(ص)، وقال له إني أحب الحج ولكني لا أستطيع ذلك، فقال له النبي(ص): ((عليك بصلاة الجمعة فإنه حجُّ المساكين)) )فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(([944]) فليس من الضروري البقاء في المسجد بعد الصلاة، والمراد في صلاة الجمعة، أن يجتمع الناس في منطقة واحدة في مدى خمسة آلاف ومائتي متر، فلا تقام جمعتان داخل هذه المسافة في كل أسبوع حتى يتعرفوا على بعضهم البعض، وهناك تفسير للصلاة الوسطى بأنها صلاة الجمعة، ولكنَّ صلاة الجمعة حتى الآن تقام بشكلٍ روتيني في كثير من الحالات، حيث يعتبرها بعض الفقهاء بأنها تخييرية، وبعضهم يقول بحرمة إقامتها، بحيث يضعف الاهتمام بها مع الأسف، إذ لا تقام بالمستوى الواعي، وإذا كانت هناك مواقع في إيران وفي أماكن أخرى تقام فيها صلاة الجمعة بشكل واعٍ، إلا أنها تقام بشكل روتيني في كثير من الحالات، وهي نعمة فقدنا الكثير من بركاتها.
طرد السائل:
* ما هو المعيار الواجب اتباعه لتطبيق الآية القرآنية: )وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ(([945])، علماً بأن السؤال أصبح ظاهرة اجتماعية شائعة، فكيف نعرف المحتاج من المدَّعي؟
* لا تنهره يعني لا تردعه بقوة، ولا تسئ إلى كرامته، فإن رددته فليكن من دون أن تعنف معه، كما لو لم نصدقه، أو لأننا لا نريد أن نشجع هذه الظاهرة.
نسخ الآيات:
* قال الله تعالى: )مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا(([946])، هل يعني ذلك أنَّ هناك آيات نزلت ولم توضع في القرآن أو أنها أزيلت بعد أن وضعت؟
* للآية تفسير آخر، وهو أن الآيات هي الآيات الكونية، يعني أن الله يظهر آية ثم ينسخها أي يزيلها من الوجود أو "ننسها" يعني نؤخرها.
اللجوء إلى الجن:
* ما معنى قوله تعالى: )وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا(([947])؟
* كان في الجاهلية بعض الناس يقدِّمون أنفسهم على أنهم كهّان وأنهم يجتمعون بالجن، كما هو بعض الناس الآن، فيقول أحدهم إنه يستخدم الجن، وأخرى تقول إن الجني دخل جسمها وتريد من يُخرج الجني منها، )فَزَادُوهُمْ رَهَقًا( يعني أن هؤلاء لا يملكون شيئاً واقعياً مثل اللقاء بالجن، فإن ذلك ليس شيئاً واقعياً، بل يزيدهم ذلك تعباً إلى ما هم فيه من تعب. وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى عن الجن في قصة موت سليمان(ع) )فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَت الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ(([948]) فكان الجن يعملون المحاريب والتماثيل وغير ذلك وسليمان(ع) ميت، وكانت دابة الأرض تأكل منسأته – أي عصاه – فلما وقع ميتاً ندم الجن على ما هم فيه )لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ(.
اتخاذ الأخدان:
* ما معنى قوله تعالى: )وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ(([949])؟
* يعني النساء اللاتي يصاحبن بعض الرجال كأصدقاء أو عشاق في علاقة محرّمة، فنهى الله عن ذلك مما نهى عنه من العلاقات غير المشروعة.
رؤية الشيطان:
* قال الله سبحانه وتعالى في الحديث عن الشيطان: )إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ(([950]) ومن المعروف أن من الجن من هو كافر ومنهم من هو مسلم، كما جاء في قوله تعالى: )وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ(([951]) فهل إبليس وأعوانه يسمعوننا، وهل نستطيع أن نسمعهم؟
* المعنى أنكم مكشوفون أمامه وهو غير مكشوف أمامكم، وليس هذا من جهة الرؤيا فقط، فهناك فاصل بين عالم الجن وعالم الإنس، ولذلك نقول إن ما يدّعيه البعض من الناس باعتقاد أن الجن قد تلبَّس به عندما سكب ماءً حاراً في بيته وقتل الجني، أو أن امرأة تقول إن الجني قد عشقها وتلبس بها وتريد التخلص من الجني وإخراجه منها فإنه غير صحيح، فإن الله لم يسلط الجن على البشر، لأنه أرحم من أن يسلط علينا من لا نستطيع مواجهته من المخلوقات الخفية ولا نستطيع الدفاع عن أنفسنا أمامه، فهذا غير ثابت.
دخول الجنة:
* )قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ(([952])، فكيف يدخل الجنة ودخول الجنة لا يكون إلا بعد قيام الساعة والبعث والنشور والحساب والجزاء؟
* إن الله يتحدث عن ذلك من باب علم الغيب في الوقت الذي يدخل فيه الجنة، وليس معناه أنه أدخله الجنة الآن. ثم لماذا نسأل عن أشياء في عالم نجهل طبيعته؟ إذ ليس شأننا أن نعرف جغرافية الجنة، فإنه بعلم الله، وعلينا أن نعدّ أنفسنا لنكون مرضيين عند الله، وأن نفكر في الليل والنهار كيف نستطيع أن نُعدَّ لكل سؤال جوابه )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(([953]) وكذلك )يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا(([954]) وكذلك )اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(([955])، فعلينا أن نعدَّ أنفسنا لذلك اليوم.
البشرى السيئة:
* من المعروف أن البشرى تطلق على ما سيلقاه الإنسان من الخير ولكني قرأت الآية )فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(؟
* تلك من قبيل السخرية بالكافرين، وهو أسلوب بلاغي أكثر تأثيراً في الإهانة.
ثني الصدور:
* قال الله تعالى: )أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ(([956]) نرجو شرح هذه الآية؟
* بمعنى أنهم كانوا يميلون بصدورهم إلى الخلف، ويطأطئون رؤوسهم ليستخفوا من الاستماع إلى النبي حين تلاوته الكتاب.
أصحاب القرية:
* قال تعالى: )وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(([957]) من هم أصحاب القرية؟
* هي قرية من القرى التي أرسل الله إليها جماعة من المرسلين، ولم يذكر القرآن الكريم شيئاً في خصوص اسم هذه القرية ولا أسماء الأنبياء أو صفاتهم، وقيل إنهم من أصحاب عيسى(ع).
ما معنى (الجودي)؟
* قال تعالى: )وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(([958]) ما معنى وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ؟
* أي وقفت على الجبل، ويقال جوّدِ هو اسم جبل، ويقال إنه موجود في الموصل.
علم النبي بالقرآن قبل نزوله:
* ما معنى الآية )وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ(([959]) وهل كان النبي(ص) يعلم بالقرآن قبل نزول الوحي عليه؟
* ليس هذا المعنى الذي تدل عليه الآية، بل إن النبي(ص) كان يستعجل متابعة جبرائيل(ع) عندما كان ينزل القرآن عليه، فكان الله يريد أن يقول له إن عليك أن تنتظر حتى يُتمّ الآية أو يتُمّ السورة ثم بعد ذلك تتابع، فإذا كنت تخاف أن يفوتك منه شيء فإن الله الذي تكفّل بإنزاله بطريقة غير عادية قادر على أن يحفظه لك بالطريقة نفسها، لذا وردت الآية الكريمة كما في قوله تعالى: )لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه ِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(([960]) ولعل الآية هذه تشير إلى تلك الآية والله العالم.
بين النبي موسى(ع) وفرعون:
* ما معنى الآية: )وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِين َ* قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ(([961]) ؟
* كان فرعون يخاطب موسى(ع) ويذكِّره بأنه قتل شخصاً من قوم فرعون، وكأنه يقول له لقد فعلت فعلتك وقمت بهذه الجريمة وأنت من الكافرين الجاحدين للنعمة، لأن فرعون هو الذي ربّاه، فعلى هذا الفرض )قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ( وليس المقصود من الضلال ما هو ضد الرشد، بل تشير هنا إلى عدم معرفته بما تنتهي إليه نتائج فعله وقتله القبطي مما أبعده عن وطنه وأهله.
إل ياسين:
* قال تعالى )سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(([962]) من هم إل ياسين؟
* الظاهر أن إل ياسين المقصود به هو إلياس )وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(([963]) لكن السين عندما تنطلق بطبيعتها نأتي بالياء والنون معها، فالمقصود هنا هو إلياس )وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(.
النسيء زيادة في الكفر:
* ما معنى قول الله تعالى )إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ(([964])؟
* كان ذلك في أيام الجاهلية، وكما نعلم، هناك أربعة أشهر حُرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، وهذه الأشهر كان يحرم فيها القتال، يعني أن يبدأ القتال فيها وليس الدفاع عن النفس. فبعض الجماعات كانوا يريدون القتال في الأشهر الحرم، فعملوا على تأخير وتقديم الأشهر، فمثلاً من يريد أن يقاتل في محرم يجعل صفر محرماً، يعني يؤخر الشهر من حرام إلى غير حرام، ويجعل ذلك بدلاً عنه! والنسيء هو التأخير )إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ( أي عليكم أن تحتفظوا بالأشهر الحرم ولا تؤخروها بأشهر غير حرم أخرى لتعودوا وتقاتلوا في الشهر الحرام.
المجيب للمضطر:
* ما المقصود بالآية الكريمة: )أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ(([965])؟
* إن الآية في مقام الاستفهام والتقرير، حيث إن الله هو الذي يجيب دعاء المضطر ويكشف السوء، ولكنها قد تستعمل في مقام الدعاء، أي يا من يجيب دعاء المضطر فيرفع اضطراره ويكشف السوء عنه ..
عالم الذر:
* بالنسبة لعالم الذر، ما معنى قوله تعالى: )وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا(([966])؟
* عالم الذر مختلف فيه، فهناك بعض العلماء من لا يثقون بعالم الذر الذي فُسِّر كما في بعض الروايات، ومنها هذه الرواية: ((أن الله أخرج من ظهر آدم أولاده كمثل الذر)) ولذلك فإن قوله تعالى: )وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ( هو كناية على أن الله سبحانه وتعالى أخرج البشر من أصلاب آبائهم وبعض علمائنا مثل الشيخ المفيد (رض) في تفسيره للآية ?وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ? يفسرها بأن ذلك يعني ركَّب فيهم من الفطرة ما لو سألهم لشهدوا بالربوبية، ونحن نتحفظ على موضوع عالم الذر بالمعنى الأول لجهة عدم ورود شيء يوثق به تفصيلاً.
الصلاة الوسطى:
* ما معنى قوله تعالى: )حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ(([967])؟
* اختلف في تحديد الصلاة الوسطى، فالبعض يقول إنها صلاة الصبح لأنها تتوسط بين الليل والنهار، والبعض يقول إنها صلاة الظهر لأنها تكون في وسط النهار، والبعض الآخر يقول إنها صلاة الجمعة، ويقال إن الله أخفاها كما أخفى ليلة القدر حتى يلتزم الناس بكل الصلوات.
المثلية في الأمم:
* يقول الله تعالى: )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ(([968]) ما المقصود بالمثلية؟
* ليس المقصود بالمثلية مثلية الشكل والأجهزة، بل مثلية المجتمعات، يعني كما أنتم تعيشون في مجتمعات يحكمها نظام واحد ولغة وعلاقات معينة، كذلك الحيوانات والطيور، فإنها لها وضع ونظام خاص وطريقة للتفاهم والتوالد والتناسل والتربية.
الرحمن الرحيم:
* ترد )الرحمن الرحيم( متلازمة في البسملة وفي آيات أخرى، فإذا كانت الكلمتان مشتقتين من الرحمة، فما الفرق بينهما؟
* كلمة (الرحمن) المراد بها وصف الله بالرحمة في ذاته، بينما الرحيم يلاحظ فيها الرحمة المتعلقة بالآخرين، ولذلك لا يجوز القول الرحمن بعباده، بل الرحيم بعباده، وذلك يعني أن الرحيم صفته المتعلقة بعباده وبخلقه، والله العالم.
خروج الحي من الميت وبالعكس:
* هل أن الآية القرآنية )يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ(([969]) خاصة بالإنسان فقط؟
* كلا إنها شاملة لكل الأحياء.
مخاطبة الناس:
* هل يعني قوله تعالى: )أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(([970]) مخاطبة المشركين؟
* كلا، بل مخاطبة كل الناس، فلننظر كم عدد الأقفال في عقولنا عندما نقرأ القرآن، وكم نتدبر آياته وكم نفكر ونفهم ونعي ونجعله برنامجاً للحياة، بل أصبح مجرد كلمات نتلوها للبركة.
الإصرار على الكفر:
* قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(([971]). هل تتوقف حركة الدعوة إلى الله عند مواجهة البعض؟
* هؤلاء الذين أغلقوا عقولهم عن الاستماع ولم يكونوا على استعداد للسماع )خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ(([972]) فتقول له فكّر واسمع، يقول لك: لست مستعداً لأن أفكر أو أسمع، إذ يقول بعض الناس إن عقلي فوق عقول الناس! ولست مستعداً لأن أفكر ولأسمع أو كذا. فإن هذا لا يفيد معه الكلام، لأن الكلام إنما يكون مع الإنسان الذي يفتح عقله ليفكر معك أو ليستمع إليك.
ثانياً: المسائل العامة
تضافر قوة المهاجرين والأنصار:
* ماذا نصنع لو وجد المهاجرون إخوانهم الأنصار على مستوى كبير من الشح والبخل، خاصة وأن القرآن يقرن المهاجرين بالأنصار ليتحقق النصر؟
- من الطبيعي أن النصر ينطلق من وحدة المجتمع، وأول شروط النصر هو وحدة المجتمع من الناحية العملية ومن الناحية الشعورية {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ})الصَّف/4)، ولذلك فإن الله أكد على المسألة الشعورية بين الأنصار والمهاجرين كما في قوله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}(الحشر/9)، حتى يبني أن النبي(ص) جاء ليضع مجتمعاً متكاملاً متعاطفاً متحاباً وهذا ما أراده النبي(ص). وأن يركز مسألة الحب على قاعدة اجتماعية وهي الموآخاة بين المهاجرين والأنصار.
اتحاد السبور:
* هل صحيح أن سورة (الضحى) و(ألم نشرح) هما من سورة واحدة، وكذلك سورة (قريش) و(الفيل)، وإذا كان الجواب نعم، فهل يصح أن نقرأ واحدة منهما فقط في الصلاة؟
- هناك بعض الآراء ترى ذلك، ونحن نتحفّظ على هذا الأمر، وعلى كل حال يجوز الاكتفاء ببعض السور ويجوز قراءة واحدة على جميع التقادير إذا قلنا بجواز الاكتفاء ببعض السورة.
تجاوز أحكام التجويد:
* هل يجوز اللحن في قراءة القرآن وتجاوز أحكام التجويد والتلاوة خصوصاً إذا قُرئ في مجلس لمن هو غير عربي؟
- إذا لم يكن مخلاً فجائز، ولا يشترط الالتزام بأحكام التجويد التي اعتاد عليها القرّاء المحترفون.
الحكم على الأمور:
* في تركيز القرآن على بناء الشخصية المتماسكة، طرح مفهوم التثّبت والحجّة في الحكم على الأمور، كيف تحددون معالم هذا الطرح؟
- في القرآن الكريم تتكرر آيات معينة، وتختلف مواقعها، حيث قد تتحرك في مواقع العقيدة، أو في مواقع الحكم على الأشخاص والأوضاع والقضايا، وقد تنطلق في حالة الشهادة في حالة الحكم أو غيرها... ومن هذه الآيات، قول الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}(الإسراء/36)، ويقول سبحانه أيضاً وهو يحدثنا عن بعض الناس: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا}(النَّجم/28).
هذه الآيات تريد أن تركز الشخصية الإسلامية عند الإنسان على أساس متين، وهو أن على الإنسان أن ينطلق في حياته من موقع العلم والحجّة، ومن موقع ثابت لا يتزلزل ولا يتزعزع. فالله يريد للإنسان أن ينطلق في حياته من موقع عقله، لتكون قناعاته كلها مرتكزة على أساس حسابات العقل، ويريد سبحانه للإنسان ـ أيضاً ـ أن ينطلق في حياته فيما يسأل ويسمع ويحكم ويشهد ويقول على أساس اليقين... ومعنى ذلك، أنَّك إذا كنت على يقين من أمر، فاشهدْ واحكمْ، وأما إذا كنت شاكاً ولست متيقّناً فوفّر على نفسك عناء الحكم بغير علم، والشهادة بغير علم، لأنك عندما تتيقّن من أي شيء، فإنك تشعر بالوثوق بالفكرة التي تقتنع بها، وتشعر بأنك تستطيع أن تدافع عن موقفك من موقع اليقين، وعن كلمتك أيضاً من موقع اليقين، وبذلك يحمي المجتمع نفسه... أما إذا كان المجتمع يتقبّل الشهادة والحكم بغير علم، فإنه سيتحوّل إلى فوضى، ويعيش تحت رحمة أولئك الذين يعيشون في حياتهم من موقع الشبهة والظن والضلال... أما إذا تعلّم الناس والمجتمع من موقع إيمانهم وتقواهم، ألاّ يقبلوا بخير إلاّ إذا تأكدوا من عدالة مُطلق الخبر، فإن المجتمع إذا تربّى على هذا الأساس، فإنه يعيش حياة مستقرة يشعر فيها كل فردٍ أنه آمن، فلا يتحوّل نتيجة الشبهة والظنّ من بريء إلى مجرم.
هذا أساس في شخصية المسلم، ينبغي للمسلمين أن يخضعوا في ذلك لتربية عميقة دقيقة، حيث يربّي كل فرد نفسه على ألاّ يتحرك إلاّ من موقع اليقين، فلا يكفي أن يصلّي ويصوم ويحجّ، بل لا بد أن يرتكز على أساس قيمي في حياته وفي علاقاته مع الناس كلهم، والقضية هي أن الحياة لا بد أن تركز على أساس قيمي وأخلاقي. فالدين إذا لم يكن مرتكزاً على أساس عقل وعلم ويقين، فإن مظاهر الدين لا يمكن أن تجعل من الإنسان متديناً، وهو إنما يكون متديناً إذا انطلق من مخافة الله في نفسه، في ما يقول ويعتقد ويفكر ويعمل... ولهذا أراد سبحانه أن يثير في وعينا المسؤولية عن كل شيء يتحرك في حياة الإنسان بغير علم: ، أي لا تتبع ما كنت في شك منه، فإذا أردت أن تلتزم العقيدة، فالله جعل لك طريقاً إلى ذلك، وهو عقلك، فإذا اعتقدت عقيدة باطلة، وإذا اقتنعت بمفهوم باطل، وإذا انتميت إلى أية فكرة باطلة، فإن الله سبحانه سيسأل عقلك عن قناعتك بهذه الفكرة أو تلك... هل بحث عنها؟ هل وصلت عندك إلى درجة اليقين، هل واجهت الفكرة المضادَّة مع الفكرة الملائمة؟... سيسأل الله عقلك عن كيفية مناقشتك للفكرة، فإذا كان عقلك قد أكمل كل عناصر اليقين، فإنك ستقف أمام الله لتدافع عن موقع تملك فيه الحجّة بما اقتنعت، وأما إذا كنت تخوض مع الخائضين وتتحرك في كل يوم بعقيدة لأن الموضة تفرض ذلك، وعقائدك تلبسها وتنـزعها حسب طبيعة الموقف، كما يفعل بعض الناس، فستُحاسب حساب المسؤولية الكبيرة أمام الله.
ونحن عندما نثير هذا الواقع، فلأنّ البعض أصبح يحمل شخصيتين، شخصية المسلم المطيع لله في صلاته وصومه وحجّه، وشخصية المسلم المطيع للشيطان في حكمه عندما يحكم، وفي أخباره عندما يخبر، وفي شهادته عندما يشهد، وفي تصرفاته عندما يتصرف... إن الله تعالى يقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ}(البقرة/85).
القيمة الحضارية للعلم في الرؤية القرآنية:
* للعلم قيمة حضارية في مسيرة الإنسان في الحياة، كيف حدّد الإسلام، ومن خلال القرآن الكريم، طبيعة هذه القيمة؟
- العلم هو الذي يجعل من الإنسان عنصراً فاعلاً لبناء الحياة وتوجيهها وتنظيمها في الاتجاه الصحيح، وإنمائها من خلال تفجير طاقاتها المودَعة فيها، واكتشاف أسرارها، ومن هنا، كان حثّ الإسلام على العلم، ليحصل الإنسان على المعرفة الواسعة للكون، ولحركة الأشياء من حوله، ليستزيد من ذلك في ما ينتج ويبدع ويحقّق، وقد قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه/114).
وقد أراد من الإنسان أن يدعوه سبحانه ليزيده من علمه، من دون أن يفرّق بين جوانب العلوم المختلفة، لأنه تعالى أراد للإنسان عندما جعله خليفته في الأرض، أن ينظّم هذه الأرض ويحكمها ويخطط لنموِّها واستقرارها وقوّتها، وهذا لا يكون إلاّ بالعلم الذي يجعل من الإنسان مخلوقاً واعياً يعي كلّ من حول وما حوله.
وقد اعتبر القرآن العلم أساس التفاضل بين الناس، لذلك جاء في النص القرآني: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(الزُّمر/9) يعني أصحاب العقول.
من هنا فإنّ الطلب من الإنسان أن يسير في طريق العلم كان من خلال إثارة تفكيره وعقله، كطاقة إبداع الفكر {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}(آل عمران/191)، بحيث يدعوهم المولى سبحانه أن ينظروا في السماوات والأرض ليكتشفوا عظمة ما أودعه الله فيهما، وهنا يبرز دور العقل الذي هو بمثابة المكتشف الذي ينطلق في آفاق الكون من خلال العلم.
وهناك علم يحصل للإنسان من خلال التجربة الحسّية في الواقع، فالله عندما يطلب من الإنسان أن يزداد علماً، فحتى لا يقبل الإنسان لنفسه الدرجة العادية من تحصيل العلم، فيعتبر نفسه مكتفياً بما تعّلمه أو وصل إليه، بل يريد له أن يزداد علماً أكثر، كلما تهيأت له فرص الاستزادة من العلم، حتى يبلغ أقصى الدرجات الممكنة من ذلك.
لذلك، ازددنا قوّة فيما مضى، وشعرنا باحترام العالم وحاجته لنا، وكلّما ازددنا جهلاً ازددنا ضعفاً في نظر العالم، وأحسسنا بالحاجة إليه. ونحن نعتبر الآن أن الصراع بيننا وبين الغرب هو صراع علم، فنحن نملك الكثير من الثروات الطبيعية الموجودة في بلاد المسلمين، ولكننا لا نملك معرفة إدارتها وتحريكها واستخراجها، وتركنا ذلك للغرب.
وهكذا أيضاً نجد أن الصراع بيننا وبين إسرائيل هو صراع علم، لأن إسرائيل وظّفت وطوَّرت قدراتها العلمية، وعملت على احتضان علمائها، فاستطاعت بذلك أن تجعل من نفسها حاجة لدول كبرى في هذا المجال، أما نحن، فإننا تركنا للغرب أن يأخذ علماءنا ويوظّف قدراتهم وطاقاتهم العلمية في ما يخدم مصالحه.
إنّ مشكلة المجتمعات العربية والإسلامية هي مشكلة الجهل والتخلّف، وحتى في معرفتنا لديننا، استطاع الكثيرون ممن يحرصون على الجهل والتخلّف أن ينفذوا إلى داخل حياتنا، ويُدخلوا إلى ديننا الخرافة والفهم المتخلّف، اعتماداً على أن الناس يجهلون ولا يميّزون بين الحق والباطل.
كتابة القرآن على الكفن:
* ما هو رأي سماحتكم في الكفن المكتوب عليه بعض سور القرآن أو دعاء جوشن، هل يخفف على المكفن به ؟
- قد يستحب ذلك، ولكن لا بد من حفظه عن وصول النجاسات إليه، والله غفور رحيم.
الإسراء والمعراج في القرآن:
* الإسراء والمعراج، هل هي عملية تمت بالروح والجسد بالنسبة لرسول الله(ص)، أم فقط بالروح؟
- ظاهر القرآن أنها تمت جسدياً {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا}(الإسراء/1)، بمعنى أنه أسري به(ص) لا بروحه، وهذا ما يظهر من قوله {لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا}، حتى يعيش(ص) التجربة البصرية، فيتسع أفقه لكل ما أراد الله له أن يعرفه من آيات.
وهكذا، عندما نقرأ السنّة النبوية التي تتحدث عن المعراج، فإنها تتحدث عن معراج مادي، وهو أمر ليس مستحيلاً، بل هو ممكن في قدرة الله تعالى. أما كيف كان ذلك، وما هي المناطق التي استطاع أن يخترق بها السماء، وأيُّ سماء هي؟ هذه أمور لا نعرفها، فالظاهر إذاً أن الإسراء والمعراج، هو مما وقع مادياً وليس روحياً، وعليه، لم يعش النبي(ص) الإسراء والمعراج في الحلم، ولم يعش ذلك في تطلعاته وتصوراته وانطلاقة روحه، وإنما عاش ذلك من خلال تجربته الإنسانية، ولا دليل لدل على خلاف ذلك.
النسخ في القرآن الكريم:
* ما رأيكم بمسألة وجود النسخ في القرآن الكريم، وعلى تقدير وجوده، فلماذا لم تلغ الآيات المنسوخة، وما الحكمة من بقائها؟
- لم يثبت ـ علمياً ـ وجود آيات منسوخة في القرآن الكريم، لأن ما ذكره المفسرون مما ظاهره النسخ محمول على بعض الوجوه التي تخرجه عن النسخ، ولعل من أفضل الأبحاث التي عالجت موضوع النسخ في القرآن بشكل تفصيلي، من حيث الموضوع وتعداد الآيات المنسوخة أو الناسخة وبيان عدم دلالتها، هو بحث آية الله السيد الخوئي(رض) في كتابه (البيان في تفسير القرآن) فليراجع، وبهذا يتبين أنه ليس في القرآن آيات منسوخة، وعلى تقدير وجودها، فإن فائدة بقائها هي معرفة طريقة القرآن في التشريع الذي قد يجري على نحو الدوام والثبات تارة، وقد يجري على نحو التحديد بزمان خاص تارة أخرى.
التحدي بآية واحدة:
* ذكرتم أن تحدي القرآن للكافرين كان تدريجياً، فتحداهم أولاً بالقرآن كله، ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة. والسؤال: لماذا لم يتحداهم القرآن بأن يأتوا بآية واحدة، وهي من اسمها تعني المعجزة التي يعجز الناس عن الإتيان بها؟
- إنما تحداهم أن يأتوا بسورة لأن السورة تمثل، ولو كانت من السور القصار مثل الكوثر، ما يتحقق به الإعجاز، ولا يكون ذلك إلاّ عندما تستكمل الفكرة، وربما لا يكون ذلك في الآية، إذ لا تستكمل الفكرة فيها، فالسورة باعتبار أنها تمثل كياناً كاملاً للفكرة صارت موضعاً للتحدي. أما قول السائل إن الآية هي المعجزة، فالمقصود بالآية هنا مما لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، فهي الآيات الموجودة في الكون مثل الشمس والقمر وما إلى ذلك، فهذه هي المعجزة بالاصطلاح، والله العالم.
خلو (التوبة) من البسملة:
* لماذا خلت سورة التوبة في القرآن الكريم من البسملة؟
- لأن التوبة سورة غضب، وقد افتتحت السورة بقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ}(التوبة/1). إن الله بريء من المشركين ورسوله؟ والبسملة آية الرحمة، ولا تتناسب الرحمة مع الغضب والبراءة.
اشتمال القرآن على كلام البشر:
* القرآن هو المعجزة الخالدة لأنه كلام الله وليس كلام البشر، ولكن القرآن حينما يقص القصص يدرج كلام البشر مثل كلام الأنبياء وكلام الكافرين، فما هو الحل لهذا الإشكال؟
- هو كلام الله وإن كان اشتمل على ما تحدث به بعض البشر، لأن الكلام الذي تحدث به هذا أو ذاك مما جاء به الوحي هو كلام الله، فهو معجز أيضاً، وهذا نظير القاص والروائي الذي يكتب رواية حقيقية، فإنه يكتب الرواية بما تعبّر عن أفعال وأقوال أناس معينين، ولكن الجمل والتراكيب الفنية هي للروائي والقاص.
تسمية سور القرآن:
* كيف تمت تسمية سور القرآن بهذه الأسماء؟
- باعتبار أن لكل واحدة لها مناسبة ما داخلها، والعنوان له قيمته، فمثلاً في سورة (البقرة) الحديث عن قضية بني إسرائيل لما قال لهم موسى(ع) {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}(البقرة/67)، وهذه الآية كانت بصدد الإشارة إلى أن الإنسان إذا أمر بشيء فإنه ينبغي أن يأخذ به ولا يسأل أسئلة كثيرة توجب تشديد الأمر عليه، فكان ذلك مناسبة لتسمية السورة بارتباطها بالبقرة، وكذلك في سورة (آل عمران)، لأن الله قال فيها {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ}(آل عمران/33) فكانت ثمة مناسبة لربطها بآل عمران.
هل هناك ستة ناسخة:
* هل هناك سنّة ناسخة، بمعنى أنها تنسخ حكماً وورد في القرآن أو بمعنى آخر: هل هناك حديث ينسخ قرآناً؟
- ليس هناك ما ينسخ القرآن من السنّة، نعم هناك بحث في تخصيص القرآن بالسنّة، والأكثر من الفقهاء على جواز التخصيص. أما النسخ فليس هناك من يقول به. بل إن القرآن هو الذي ينسخ السنة، وكان المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، ولكن الله سبحانه وتعالى نسخ بقوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(البقرة/144).
الفصل الثاني
المسائل العقيدية
الحرية والعبودية لله:
* ورد في بعض الدعاء (كفى بي فخراً أن أكون لك عبداً) ونحن نعرف أنّ الحرية والعبودية معنيان متقابلان نوعاً، فكيف تكون الحرية في الله والعبودية في الله؟
- كل عبودية تمثل سقوطاً إنسانياً لنفس الإنسان. إلا عبودية الإنسان لله فإنها تمثل أساس حريته، لأن العبودية لله تنطلق من أن الله خلقه، وأوجده فليس العبودية لله عبودية انطلقت من سقوط نفسية شخص أمام شخص آخر، بل من أن ذاته تمثل العبودية لله، لأنها تمثل معنى ملكية الله له. ومعنى أن يكون عبداً لله وحده هو أن يكون حراً أمام العالم، ولذلك كن عبداً لله وكن حراً أمام العالم. وهذا هو معنى القول (لا إله إلا الله) بمعنى أن الاعتراف بألوهية الله وإسقاط كل الذين يدعون لأنفسهم الألوهية أو يدعي الناس لهم ذلك.
لهذا كلما كان الإنسان عبداً لله أكثر، كلما كان حراً أكثر، بينما إذا لم يكن عبداً لله فإنه سوف يسقط أمام عبوديته لغرائزه، وأمام عبوديته للناس {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الأعراف/194) وبعض الناس يرفض عبوديته لله ليكون حراً أمام الله ليصبح عبداً أمام عباده.
دائرة العصمة:
* هل أن عصمة الأنبياء(ع) والأئمة(ع)، شاملة للأخطاء أم أنها مقصورة على التبليغ؟
- في تصوري أن الشخصية لا تتجزّأ فلا بدّ أن تكون شاملة للتبليغ وغير التبليغ، والمسلمون كلهم مجمعون على أن النبي(ص) معصوم في التبليغ وإذا كان معصوماً في التبليغ فلا بدّ أن تكون العصمة جزءاً من شخصيته، من خلال عناصر شخصيته، ولذلك فلا بد له أن يكون معصوماً بأكمله.
الإحياء لغير عيسى(ع):
* كان السيد المسيح(ع) يحيي الموتى بإذن الله، هل الرسل من قبله كانوا يحيون الموتى؟
- كانت التحديات التي وجهت إلى السيد المسيح(ع) في مجتمع يغلب عليه الطب ما دعاه إلى أن يطلق التحدي بهذا الأسلوب، بأن يأتي بما أعجز كل الأطباء حتى يعرفوا أنه رسول من الله، ولم ينطلق من قوة عادية، وكل نبي كان يأتي بمعجزة تتناسب مع حاجات التحدي في زمنه.
التقدير والتدبير:
* حين سئل الإمام الصادق(ع): «كيف عرفت الله؟ فأجاب: عرفت الله بالتقدير والتدبير»؟
- يعني بتقديره للأمور، كما في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر/49)، على أساس دقة الصنع، وقال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}(الملك/3)، {قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}(الطَّلاق/3)، وأما التدبير فباعتبار تدبير أمور الكون.
تأثير الشك على العمل:
* أنا إنسان ملتزم أصلّي وأصوم وأقوم بواجباتي، لكن دائماً عندي شك في أعمالي، وأقول فلان أفضل مني وفلانة عمله مقبول وأنا عملي غير مقبول، الرجاء مساعدتي؟
- من المفروض أن لا يدعو ذلك للشك، نعم عليك أن تنظر إلى من هم فوقك ممن يخلص في عمله لله أكثر وتستصغر عملك حتى لو كان عملك أكثر، وقد ورد: «لا تخرج نفسك من حد التقصير»، ولكن أن تعيش مع ذلك الشعور بالأمل بفضل الله ورضوانه وعطائه وتطلب من الله تعالى أن يعطيك أفضل ما يعطي الآخرين، وقد ورد في دعاء كميل: «واجعلني من أحسن عبادك نصيباً عندك، وأقربهم زلفة لديك»، فذاك من الاستزادة من العمل، وهذا من أجل عدم السقوط في حد اليأس عن بلوغ رضى الله.
الاعتقاد بتأثير التنجيم:
* ما هو رأيكم في علم التنجيم وقراءة الفنجان والكف، وهل يجوز الاعتقاد بذلك؟
- هذا أمر لم يثبت فيه دليل شرعي، والاعتقاد بمثل هذه الأمور قد يصل كما في التنجيم إلى حد الشرك.
الحكمة الإلهية من الابتلاء:
* أنا مواطن عراقي أقيم في الدانمارك حصل حادث أدى إلى وفاة زوجتي وأطفالي الأربعة في حادث قبل سفرهم من العراق والتحاقهم بي بأربعة أيام، إني أسأل ما هي الحكمة الإلهية بوفاة هذه العائلة كاملة، وهل الأطفال سيكونون شفعاء لي يوم القيامة؟
- قضت حكمة الله أن تجري الأمور بأسبابها، من إماتة ورزق ومرض وغير ذلك، وعليه، فإن جريان الأمور يخضع للنظام العام الذي أراده الله أن يجري، ولعلّ لله سبحانه وتعالى حكمة في هذا أو ذاك من الوقائع.
الإيمان بالرجعة:
* الشيعة الأمامية يؤمنون بالرجعة، فهل أن الرجعة هي رجوع أئمة أهل البيت(ع) واحداً بعد الآخر؟ وهل أن عودة الحق لصاحبه وإلى مكانه تكون على يد الإمام المهدي(عج)؟
- نحن نؤمن بالرجعة، أما تفاصيل الرجعة فقد اختلفت الأخبار والأحاديث فيها، ولذا يكفي الإيمان بالرجعة ولو بشكل إجمالي
تأثير المرض في الذنوب:
* كما في الحديث عن المريض تتساقط ذنوبه كأوراق الشجر. والسؤال هل يعني أن الألم الذي يتحمله الإنسان يكون كفّارة لذنوبه وتتساقط ذنوبه، أم المرض يجعله يتذكر ويتوب وبواسطة التوبة سوف تتساقط ذنوبه؟
- ورد أن المرض ليس فيه أجر، ولكنه يوجب تساقط الذنوب، وذلك لا من جهة تذكر الموت، بل رحمة من الله بالمريض.
الفقر والتحذير منه:
* هل كان الإمام علي(ع) يعاني من الفقر أم أنه كان فقيراً أسوة بالفقراء، وإن لم يكن فقيراً لماذا كان يردد دائماً «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»([973])، ألا يدل ذلك على فقره ومعاناته؟
- الإمام علي(ع) كان فقيراً بمعنى أنه كان لا يطلب الغنى، وكان يقول حين قال لأحدهم من أصحابه وقد ترك الحياة واعتزل الناس: «يا عدي نفسك استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك»، فقال أمير المؤمنين(ع): «هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال ويحك إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس لكي لا يتبيَّن بالفقير فقره»([974]). لذلك كانت المسألة بالنسبة له(ع) هي هذا المعنى. أما قوله: «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، فإنه(ع) أراد أن يبين مدى تأثير الفقر في الانحراف في المجتمع، لأن الفقير سوف يخضع للأغنياء وسوف يبيع دينه للأغنياء وهكذا.
تأثير لبس الخاتم:
* هل صحيح أن الخاتم الذي يلبسه المصلي في صلاة خير له في الثواب أو لا صحة لذلك؟ فمثلاً يقولون إن الخاتم الفلاني قد نجاني وقد سهل لي السفر، ما صحة ذلك؟
- هذا شيء تعبدي وهو مستحب، أما ما هو الأساس في هذا الأمر فهو أمر غير واضح، وقد ورد في بعض الأحاديث بأن الاعتقاد في تأثيرها هو نوع من أنواع الشرك، لأن التأثير لله وحده.
الاستغراق في الخلافيات:
* أليس الاستغراق في المسائل الخلافية بين المسلمين وبين الشيعة أنفسهم هو نتاج لما درج عليه كتابنا وحتى بعض علمائنا من التركيز على تلك المسائل، بحيث أدى إلى نسيان أو تناسي دراسة حياة الأئمة(ع) وسيرتهم كقدرة لكل عصر، وكذلك أدى ذلك إلى هجر القرآن بشكل يبعث على الأسى، فمن هو المسؤول برأيكم؟
- نحن نقول إن من بين ما أدى إلى الانحرافات هو هجر القرآن أولاً، فضلاً عن التركيز على الجوانب الأحادية من حياة النبي(ص) والأئمة(ع)، بحيث تركت مساحات كبيرة وهي أساسية من حياتهم، فأخذ الإسلام كأجزاء، وفقد بالجانب الرسالي في المنهج والتراث.
مالكيَّة الله:
* هل يصحّ أن نقول بأن الله متسلّط على المخلوقات، نرجو شرح ذلك بالدليل اللغوي والمنطقي، إذا قلتم إنه يصحّ؟
- التسلط هو تسلط المالك على ما يملك، وليس من قبيل تسلّط الظالم والضعيف الذي يخشى فوات الأشياء منه، فالله مالك كل شيء، وله أن يتصرف في كل شيء بما شاء، ومع ذلك فهو لا يتصرّف إلاّ بما يكون فيه حكمة ومصلحة لمخلوقاته ولو بلحاظ النوع، ولا يصل ذلك إلى حد الظلم أبداً، لأن الذي يحتاج إلى الظلم هو الضعيف، وقد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
الخيرية بين المساجد والجنّة:
* قال أحد الخطباء ناسباً إلى المجهول: «الجلوس في المسجد خير من الجلوس في الجنة»، لأن الجلوس في الجنّة رضى لنفسك، والجلوس في المسجد رضى لله سبحانه وتعالى، ما رأي سماحتكم في هذا الحديث؟
- لم تثبت صحة هذا الحديث عندنا، مع ملاحظة فكرية، وهي أن الجلوس في الجنّة يمثّل موقع رضوان الله والقرب منه تعالى، لا سيما أن أهل الجنة لا شغل لهم إلا رضوان الله بذكره وحبّه والعيش في رحاب ربوبيته لهم وعبوديتهم الخالصة في الفكر والقلب والشعور.
المنهج في دراسة العقيدة:
* هل يمكن بيان منهجكم في بيان العقيدة في الكبريات والتفصيلات؟
- انطلقت العقيدة من خلال العقل، ولذلك علينا أن نستنطق العقل في ما يستقل به من وجود الله ومن توحيد الله، ومن الحاجة إلى النبوة والإمامة، ومن الحاجة إلى اليوم الآخر. أما كيف هي العقيدة وكيف هي صفات الله وكيف هي صفات النبي(ص) والإمام(ع)، وهل جاء دليل على اليوم الآخر؟ وكيف هو علم النبي؟ وكيف هي قدرات النبي؟ فهذه أمور لا بد أن نرجع فيها إلى النصوص القرآنية والنصوص النبوية وما صحّ عن أهل البيت، وهذا هو الأساس بأن ندرس كل شيء، فما كان ثابتاً وحجة قطعية وحجة تبعث على الثقة والاطمئنان نقول به وما لم يثبت به ندعه.
رب الأرباب:
* قرأت في كتاب (مصباح المتجهد) للشيخ الطوسي دعاءً وصف الله فيه بأنه (ربّ الأرباب وإله الآلهة)، فما هو المقصود بذلك؟
- المقصود أنه إله الآلهة المدعاة، وليس المقصود أن هناك أكثر من إله أو أكثر من رب، وهذا مثل قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ}(المؤمنون/14)، أي يدَّعون الخلق كما في بعض التفاسير.
المعصية ظلم لله:
* ذكرتم في إحدى خطب الجمعة أن العصاة يظلمون ربهم، فهل هذا صحيح؟ ليس الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(البقرة/57)، ويقول الإمام علي(ع): «إن الله خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم فإنه، لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه»([975])؟
- لنعرف أولاً ما المقصود من الظلم؟ فالإمام علي(ع) يقول في تحديد من هو الظالم: «للظالم من الرجال» ومن النساء أيضاً، «ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، وظاهر القوم الظلمة»([976]). فنحن عندما نظلم ربنا، فإننا نظلم حقه، لأن من حق الله علينا أن نوحده ولا نشرك به شيئاً، وأن نطيعه ولا نعصيه، فعندما نعصيه أو نشرك به فقد ظلمناه، لأن الظلم هو أن تسلب المظلوم حقه عليك، وليس من الضروري أن ينال ذلك منه من حيث ميزان القوة والضعف، فقد يظلم الضعيف القوي بالتمرد على ما له من حق، كما قد يظلم القوي الضعيف بقوته الغالبة، وآية ذلك في القرآن فما قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان/13).
فالمقصود بظلم الله ليس الظلم بالغلبة، وأما قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، فالله يريد هنا بالظلم الضرر، ولكن الظلم الذي يعنيه السؤال والذي جاء في القرآن وفي كلام الإمام علي(ع) هو ظلم الحق، وهو قول الإمام(ع): «يظلم من فوقه بالمعصية»([977]).
الارتداد عقائدياً:
* صديقي تغيَّرت أفكاره... فهل يعتبر مرتداً؟ فهو يقول الآن ليس هناك يوم آخر، وأن الخالق جميل ولا يطلب منا صلاة أو ما شابه، وأن الأنبياء حسب رأيه هم أناس طيبون ابتدعوا الأديان... وإذا كان مرتداً؟ فهل يجوز أن ألتقيه أو أن أعمل معه، خصوصاً إذا عرفت فيما بعد أنه لا فائدة من نقاشه؟
- إذا كان يعتقد بهذه الأفكار نتيجة شبهة، فاللازم أولاً العمل على إزالة مثل هذه الشبهة، قد لا يحكم بالارتداد إلا مع التصريح بأنه يعتقد ذلك فعلاً ويتصرف على هذا الأساس. ولا مانع من مصاحبته ولو لغرض تقويم أفكاره، ولا مانع منا لعمل عنده لهذا الهدف.
سرُّ تدخل الوحي الغيبي:
* ما هو السرّ في تدخل الوحي الغيبي في بعض الأمور، كما في حادثة الإفك، مع أن النبي(ص) شدَّد على القضاء يتمُّ على البيّنات والشهادات بحسب الظاهر بين الناس؟
- هناك بعض الحالات التي تمثل جانباً من الخطورة في حركة الإسلام في الحياة، بحيث تكون المرحلة من المراحل التي لا تتحمل الخطأ، ولذلك فالله سبحانه وتعالى يلهم نبيّه في هذه الحالات، ويعرّفه واقع الأمور من خلال الغيب، ليكشف له وجه الحق، لأن الاعتماد على الوسائل العادية التي يتبعها القضاء الإسلامي من الأيْمَان والبيّنات، والتي تتبع ظاهر الحال، قد تخطئ السبيل إلى النتائج الحقيقية فيما يملك الناس أمر التلاعب فيه.
الحكمة من خلق المشوهين:
* إن الله رحيم بعباده، فكيف نفسر خلق المشوَّهين ـ على هذا الأساس ـ كخلق الأعمى والأصمّ ونحوهما؟
- أولاً: من قال إن العمى والصم وغيرهما عقاب للإنسان! ما دام أن الله يعوّض على الإنسان بعض القوى التي يفقدها بتقوية بعض القوى الأخرى، الأمر الذي يجعله ينطلق بعيداً في مجال الحياة في ما لو انطلق في مجال التقدم والنموّ كأي شخص طبيعي آخر، بل ربما يسبق أهل زمانه، كأبي العلاء وبشار بن برد وبيتهوفن وهيلين كلير وطه حسين وغيرهم ممن لم ينعهم التشويه الذي خلق معهم أو رافق حياتهم من أن يتفوقوا على جيلهم.
ثانياً: إن هذا التشويه الذي يحصل للإنسان لا يحدث نتيجة عمل مباشر في الخلق، بل إنما يحدث بسبب النظام الكوني الذي أودعه الله في الحياة عندما ربط النتائج بمقدماتها والمسببات بأسبابها، كنظام الوراثة، وتأثّر الإنسان بالبيئة أو الغذاء وما إلى ذلك، الأمر الذي يجعل إلغاء مظاهر التشويه في خلق الجنين أو في حياة الإنسان تماماً كإلغاء تنظيم الفصول الذي يتضرر معه بعض الناس بالحر والبرد، في حساب الربح والخسارة. فلو ألغينا هذه الأنظمة لخسر الإنسان ـ بما فيه الأعمى والأصم وغيرهما ـ أكثر مما ينتفع ببقائها مع هذه النتائج المضرّة.
وبكلمة واحدة: إن طبيعة أيَّ نظام تفرض مقداراً من الخسارة في نتائجها لحساب نظام آخر، فإذا حاولنا أن ننطلق بعيداً في فرض أيِّ نظام على مستوى التكوين أو التشريع، فإنه لا بد لنا أن نلاحظ أقلّها ضرراً أو أكثرها ربحاً تجاه جميع الناس حتى الذين يتحملون الخسائر.
الاعتقاد بالجن والعفاريت:
* ورد في القرآن الكريم الحديث حول الجن والعفاريت، فما هو موقعهما من العقيدة الإسلامية؟
- لم يرد في القرآن حول العفاريت إلا ما ذكر في قصة سليمان {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}(النمل/39)، ومعناه ـ حسب ما ذكر في التفاسير ـ المارد القوي، وهو نوع من الجن لا عنصر آخر غيره.
أما الإيمان بالجنِّ بشكل عام، فهو منطلق من الإيمان بالقرآن، وأنه كلمة الله الحقّة، فما دام القرآن يخبرنا عن وجود مخلوق عاقل واعٍ يسمى بالجن، فعلينا أن نؤمن به، تماماً كما نؤمن بأيِّ شيء آخر لا يخضع للحس ولا يقع تحت التجربة، ولذا فلا يملك العلم بوسائله المادية طريقاً إلى إثباته، كما لا يملك طريقاً إلى نفيه، لأنه لا يستطيع أن ينفي أي افتراض على سبيل الجزم إلا بعد أن يحيط بكل الموجودات الكونية الظاهرة والخفية، وهذا ما لا يدَّعيه العلم لنفسه.
إذاً! نحن نؤمن بأن القرآن كلام الله، وقد أخبرنا، في أكثر من آية، بأن هناك خلقاً غير الإنسان يعيش في عالمنا الأرض ضمن وجود خفي، يسمى الجن، وقد حدثنا عنه أنه مخلوق عاقل مسؤول، فمنه المؤمن ومنه الكافر، وكما انطلقت الرسالات لتحمّل الإنسان مسؤولية السير في الحياة وفق إرادة الله، كذلك كانت تلك الرسالات موجهة للجن للهدف نفسه، وقد خصص القرآن الكريم سورة في الجن، كما تحدث عن هذا المخلوق في بقية السور بمختلفة الأساليب.
أما شكله وأوصافه، فليس هناك صيغة دينية تحدد لنا ذلك. أما الصور الموجودة في كتب الأدب وقصص ألف ليلة وليلة، وأحاديث شعراء الجاهلية، أو في عقليات الناس وأساطيرهم الشعبية، فليس لها أساس ديني صالح، بل هي في إطار الأساطير.
والخلاصة: إن الإيمان بوجود الجنِّ نابع من الإيمان بالقرآن، أما العلم فلا يثبت ولا ينفي، ولكنه يترك القضية في إطار الاحتمال والإمكان، تماماً كما هو قول ابن سينا: «كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان»، ولذلك فإنه من الناحية العلمية ليس هناك شيء مستحيل، فهو يتقدم بالخيال والافتراض الذي يعمل من أجل أن يكتشف بالبحث المزيد من الكائنات وبدائع الخلق. وعلينا أن لا نخلط بين القول بأن العلم لم يثبت هذا الشيء وبين القول بأنه ينفي، لأن الشك حالة طبيعية تعيش مع الإنسان ما دام لم يضع يديه على الدليل، أما النفي فهو تابع للدليل تماماً كما هو الإثبات.
دور أهل البيت(ع):
* برأيكم، ما الدور الموكل إلى أهل البيت(ع) في مجالات الهداية والقيادة والإمامة الفكرية والسياسية؟
- دورهم هو تأصيل القواعد الإسلامية، وحراسة المفاهيم الإسلامية من الانحراف، وقيادة الواقع الإسلامي لتحقيق الأهداف الكبرى. وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين(ع): «اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعَطَّلة من حدودك»([978]).
ويقول إمام الحق والهدى(ع) أيضاً: «أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء إلاّ يقاروا على كظة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز»([979]).
وقال(ع) في كلمة أخرى: «أيها الناس، ليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم»([980]). وقال أيضاً: «والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة»([981]).
إنهم أئمة الإسلام وقادته، ولذلك لا يريدون للناس أن يتشيعوا لهم من خلال الحب الذاتي وحسب، فقد قال الإمام زين العابدين(ع): «أحبّونا حبّ الإسلام»([982]). وقال أبو جعفر(ع) وهو يخاطب جابر: «يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع، والتخشع والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة وللغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلا من خير، أمناء عشائرهم في الأشياء»([983]).
هذا هو خط أهل البيت(ع) «رضى الله رضانا أهل البيت» فهم(ع) يرضون بما يرضي الله ويغضبون لما يغضب الله. فليس التشيُّع خطاً مزيداً في الإسلام، بل هو طول خط الإسلام، يتحرك الأئمة فيه من خلال رسول الله(ص) في أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم... وينطلقون على أساس الإسلام كله، لا يزيدون فيه حرفاً ولا ينقصون منه حرفاً، لأنهم مؤتمنون عليه في كل مجالاته العامة والخاصة، وهم حجج الله على عباده بعد رسول الله، وخلفاؤه في أمته وأمناء الله في أرضه، وذلك لما يملكون من المعرفة والانفتاح على الله ورسوله، تماماً كما هي صفة علي(ع) في كلام رسول الله(ص) في واقعة خيبر «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله»([984])، وهي صفة كل إمام من أئمة أهل البيت(ع).
مسؤولية الكتابي يوم القيامة:
* يقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}(آل عمران/85)، ويقول في موضع آخر: {إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ}(الشُّورى/45)، فإذا فرضنا أن هناك كتابياً وجاء في الآخرة وقد خسر نفسه بسبب عدم إسلامه، فكيف يكون غير مسلم ويتحمل مسؤولية عدم إرشاد أهله إلى الإسلام؟
- هذا الكلام كل منهما في جانب، ذاك يقول: إن على الإنسان أن يختار الإسلام الحق، والإسلام الحق كان في زمن موسى وهو دين موسى، وفي زمن عيسى وهو دين عيسى، وفي زمن إبراهيم قبل ذلك {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة/131)، وفي زمن النبي(ص) أيضاً هو إسلام النبي(ص)، فالإنسان الذي يعيش بعد النبي محمد(ص)، فهو مكلف بالإسلام بالطريقة التي جاء بها النبي(ص) لأنه جمع كل الرسالات: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ}(الزُّمر/12)، في العناصر الأساسية والإيجابية. أما في هذه الحال فهو يُسأل عن مسألة أهله إذا لم يكن غافلاً، يسأل أنه كان عليه أن يتبع الحجة ويقود أهله إلى ذلك، وإلا فهو يتحمل مسؤوليتهم بقدر ما يكون واعياً. أما الآية الثانية، فالله سبحانه يتحدث عن الناس الذين انحرفوا عن الخط وكانوا قادرين على السير على الخط، فضاعوا وأضاعوا أهلهم، فيوم القيامة يرى أنه لم ينج هو ولم ينجِ أهله.
دور الناس في الظلم:
* قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}(الشُّورى/30)، وقال أيضاً: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(السجدة/21)، في ضوء هذه الآيات هل يمكن القول بأن ما يجري علينا من ظلم وغير ذلك إنما هو رسالة من الله إلى عباده كي يتوبوا أو يرجعوا إلى الصراط المستقيم؟
يريد الله أن يبين لنا أن المشاكل التي تعيشونها والآلام التي تقع فيكم فإنها نتيجة انحرافكم عن الخط، فعندما يتفرق الناس فإنهم يضعفون، وقد قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(الأنفال/46)، وعندما تعيش الأمة حالة النـزاع في أوضاع التحدي فإنها تصاب بالفشل. وقد قال تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(الرُّوم/41)، ويريد الله بذلك أن يقول إن هذا العذاب الأدنى هو مما كسبت أيديكم، وإن الله يذيقكم العذاب لعلكم ترجعون لتتوبوا إليه وتصلحوا أموركم وتستقيموا في الخط الذي أراده الله لكم من أجل أن يرفع مستواكم ومن أجل أن يسير بكم نحو الهدى.
كفر اليهود والنصارى:
* التوحيد طريق النجاة، فهل اليهود والنصارى كفّار؟
- نعم هم كفّار بتفاصيل العقيدة، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}(المائدة/73) وهم كفار بالرسول ـ أيضاً ـ ويقول الله سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ}(البيِّنة/1). هم كفّار وإن لم يكفروا بالله من حيث المبدأ بل من حيث التفاصيل، ولكنهم كفروا بالرسول والرسالة والإسلام؟
الرجعة في القرآن:
* قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}(غافر/11). هذه الآية يستدلُّ بها بعض العلماء على مسألة الرجعة، وهي رجعة بعض الرموز، سواء من الجانب الإيماني أو من الجانب المقابل مثل الأئمة(ع) وظالميهم. ما رأيكم بشأن هذه القضية، وإلى أي حد يمكن أن يكون هذا التفسير صحيحاً؟
- الظاهر أن {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} أن هناك موتتين؛ موتة تسبق وجود الإنسان كما في قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا}(يس/33)، والموتة التي تكون بعد حياة الإنسان. وهكذا بالنسبة إلى الحياة بعد العدم والحياة بعد الموت. ولذلك فليست الآية صريحة في الرجعة. نعم الرجعة بالمعنى المذكور دلّت عليها روايات كثيرة.
البحث العقيدي:
* أنا شاب في طور البحث عن العقيدة التي أعتنقها عن قناعة وأدلة، لكن لا أعرف كم سيستمر هذا البحث وربما يستمر سنوات، هل أحاسب على هذه السنوات أو أتمسك بعقيدة ما بتقليد أعمى؟ وهذه حقيقة وليس افتراضاً وأنا في حرج؟
- عليك أن تجلس إلى الناس الذين يملكون ثقافة العقيدة للتعلم منهم ولتناقشهم ويناقشوك في ذلك، لأنك ربما لا تستطيع بحسب مستواك الثقافي أن تصل إلى النتائج المتعلقة بالعقيدة، والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(الأنبياء/7)، لأن الإنسان الذي ليس له خبرة قد لا يستطيع أن يصل إلى النتائج بجهده الشخصي، لأن بعض الأمور تحتاج إلى خبير وتحتاج إلى خبرة، ولذلك لا بد للإنسان أن يرجع إلى أهل الخبرة في ذلك.
الشرك الأصغر:
* تفضَّلتم أن الرياء هو الشرك الأصغر ولكن عاقبته أكبر من الشرك الأكبر، فكيف يكون ذلك؟
- هو شرك أصغر لأنه ليس فيه عبادة مباشرة للأصنام، ولكن كما ذكرنا، فإن حالة المرائي كالمنافق، والمنافق يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وهذا يظهر الإخلاص ويبطن الشرك، وهذا من أشد الأمور خطورة على الإسلام.
حد الشرك:
* ما هو حد الشرك برأيكم، لأن كلام بعض الناس قد يعتبر من الشرك، كما لو أنه يعتقد أن غير الله نصره أو أنقذه من مشكلة مع أنه مسلم؟
- قد بينّا في حديث سابق أن هذا شرك في الشكل وليس شركاً في العمق، والله يريدنا موحدين حتى في الشكل، كما قلنا في مقولة: (لولا فلان لهلكت)، وتقول: (لولا أن منَّ الله عليّ بفلان لهلكت)، يعني تسند الأمور إلى الله وتعتبر أن ما فعله معك هذا الإنسان من عملية الإنقاذ إنما هو أن الله منَّ به عليك وأن الله ألهمه، بحيث إنك تجعل الأمور كلها بشكل مباشر وغير مباشر إليه تعالى، وتعتبر أن الخلق هم آلات بيد الله سبحانه وتعالى.
إبقاء الناس على غفلاتهم:
* إلى أي مدى يصح هذا القول (دعوا الناس على غفلاتهم) الذي هو حجة وذريعة يحتج بها من لا يريد التوجيه إلى الإصلاح في المجتمع؟
- نحن مأمورون بالعمل والدعوة والتعليم {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}(آل عمران/104)، ثم يقول تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا}(الأحزاب/39)، فإنه يجب على كل إنسان أن يدعو إلى الله وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وربما في بعض الحالات إن كانت هذه الرواية صحيحة، فهي تعيش في دائرة خاصة، أي أن الأمر يتوجه إلى الشيعة الذين كانوا يعيشون وضعاً خانقاً حيث كان الناس لا يتقبلون منهم، فإنه يقال لهم: دعوا الناس في غفلاتهم لأنهم لا يقبلون منكم أن تعظوهم وترشدوهم، فإن القضية تمثل حالة جزئية وليست خطاً عاماً.
الشفاعة:
* ما هو رأيكم في الشفاعة؟
- الشفاعة ثابتة في القرآن وقد أكدها في عدة موارد، ولكن من خلال المنهج {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}(الأنبياء/28). وقد ورد عندنا: «أنه جعلت الشفاعة لأهل الكبائر من أمتي»([985])، حتى ورد أن الأنبياء(ص) يشفعون والأئمة(ع)، وحتى أن المؤمنين يشفعون ـ أيضاً ـ ولكن حسب البرنامج الذي وضعه الله سبحانه وتعالى للشفعاء. وهذا هو نص قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} يعني على أساس البرنامج الذين يعرفون فيه من يقبل الشفاعة فيه ومن لا يقبل.
عصمة النبي محمد(ص):
* تذكرون في تفسيركم أن عصمة النبي(ص) تكون في مرحلة التبليغ، وتذكرون بعد ذلك أن النبي عندما لا يخطئ ولا يسهو ولا ينسى في مرحلة التبليغ فلا يمكن أن يخطىء أن ينسى أو يسهو في غير مرحلة التبليغ، وبذلك التبليغ فلا يمكن أن يخطئ أو ينسى أو يسهو في غير مرحلة التبليغ، وبذلك تكون عصمة النبي(ص) في كلا المرحلتين؟
- قلت إن الشخصية لا تتجزأ، وعليه، إذا كان النبي(ص) يملك هذا الوعي الكامل الذي لا يخطئ معه في مسألة التبليغ، فمعنى ذلك أنه يملك وعياً في القضايا الأخرى في الفعل والعمل مما لا يتصل بالتبليغ. ولذلك فإن الدليل عندي على عصمة الأنبياء(ع) والأئمة(ع) ـ هو باعتبار أنهم يقومون بمسؤولية الأنبياء من غير نبوة: «يا علي أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»([986]). فمهمته أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ من ظلمة الفكر الخطأ والفكر الباطل إلى الفكر الحق، ومن ظلمة الحقد والعداوة إلى المحبة، ومن ظلمة الانحراف إلى الخط المستقيم، في الجانب الفكري والجانب العملي والجانب الشعوري، وهذا معناه أنه لا بد أن يكون النبي أو الإمام نوراً كله، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وأنا أعتقد أن هذا هو أفضل دليل على العصمة، وهو شامل للتبليغ وغير التبليغ، ولذلك نحن نقول بعصمة الأنبياء وعصمة الأئمة في كل الأمور، في التبليغ وفي غيره وحتى في الفكر.
قراءة الغيب:
* هناك ظاهرة اجتماعية سلبية ومرضية أخذت تتفشى في أوساط الرجال والنساء في منطقة السيدة زينب(ع)، حيث أخذ الناس يراجعون الدجالين والمشعوذات لحل مشاكلهم ومعرفة المستقبل تحت عدة عناوين، منها الاتصال بالجن أو قراءة الفنجان أو الاتصال بأحد الأئمة في سبيل استغفال البسطاء من الناس واستدرار أموالهم. فبم تنصحون إخواننا وأخواتنا في هذا المجال خصوصاً وأن منهم من طلبة العلوم الدينية أو من عوائلهم؟
- على الإنسان احترام عقله، فهل هؤلاء يعلمون الغيب؟! وكيف يعلمون لنا بهم، بمعنى أنه لا طريق لنا للاتصال بهم، على البعض من خلال ما يدّعيه الزواج بهم، إلى غير ذلك من الأمور الغريبة العجيبة. ثم أنه لو كان ذلك، فإن الجن لا يعلمون الغيب، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم وهو يتحدث عن الجن الذين كانوا يعملون لسليمان(ع) التماثيل والمحاريب، فإنه لما مات سليمان(ع) وقد سقط أمامهم بعد أن أكلت الحشرة عصاه، وقد كان ميتاً قبل ذلك، ندموا على مواصلة العمل، وقالوا لو كنا نعلم أنه ميت ما كنا صبرنا على هذا العمل والاستمرار فيه {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ}(سبأ/14)، فكيف يمكن إدعاء معرفة الغيب عن طريق الجن؟! الظاهر أن المشكلة هي تخلف الذهنيات ورزق هؤلاء الدجالين عن طريق رزقوا على المغفلين.
المصير المكتوب:
* {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا}(التوبة/51). هل الإنسان مسيّر أم مخير في حياته؟ أم أنه مكتوب له سلفاً ما سيحصل له؟
- إن الإنسان مسيَّر ومخيَّر ومكتوب له، ولكن كيف نجمع بينهما؟ يجب أن نفهم أولاً أن الكتابة معناها أن الله يكتب المستقبل كما يكتب الماضي، وذلك لأن المستقبل مكشوف له كما أن الحاضر والماضي مكشوف له، لكن الله يكتبه بأسبابه، فإن الله ـ مثلاً ـ يكتب على أنه سوف تنفجر الينابيع مثلاً في الربيع، ومعنى ذلك بالسبب الذي يفجر الينابيع، فينـزل المطر في الشتاء بأسبابه، والله يعلم أن فلاناً يفعل الخير بإرادته واختياره، وسوف يفعل الشر بإرادته واختياره، فالله كتب هذا لأنه يعلم أننا سنفعله. والإشكال هنا أن كل شيء في الدنيا هو بيد الله سبحانه وتعالى، ولكن الله خلق السببية، وبذلك جعل للإنسان الحرية في الاختيار فالله جعل النار سبباً للإحراق، ولكنه جعل إيقاد النار بيدك، فإذا أوقدت النار أحرقتك، ومع أن الله هو الذي خلق العلاقة بين النار وبين الإحراق، إلا أنك أنت تختار الإحراق بأن توقد النار أو تقرب يدك للنار، وإلى غير ذلك من التفاصيل. فالكتابة هنا هي عبارة عن تاريخ المستقبل، لأن الله يكتب ما يعلم أنه سيحدث، لأنه لا يعزب عن علمه شيء بأسبابه. أما الإنسان مسير فهذا صحيح أيضاً، لأنه مسير بخلقه، فلكل واحد منا طوله وشكله وتأثره بالجو وتأثره بالظروف المحيطة به، فإن هذا ليس بيد الإنسان، وهو مخير ـ أيضاً ـ فيما يفعل.
إسلام إبراهيم(ع):
* أليس إسلام إبراهيم(ع) هو التسليم والمصاغرة والانصياع لله وحده، وإسلامنا هو الشهادتان وإلا كفى منا الآن من أسلم بإسلام إبراهيم موسى(ع)؟
- لكل مرحلة إسلامها، فالإسلام زمن إبراهيم(ع) هو ما أنزل الله على إبراهيم(ع) من شرائع. فالناس يومذاك مأمورون بالالتزام بشريعة إبراهيم، فقوله أسلم الله ـ يومذاك ـ يعني الإسلام وفقاً لشريعة إبراهيم(ع) ثم لما جاء موسى(ع) فإنه جاء بالتوراة وفيها شرائع تحتاجها المرحلة أكثر مما تحتاج مرحلة إبراهيم، وهنا أيضاً الإنسان الذي يأخذ بشريعة موسى(ع) هو الذي أسلم لله، لأن الله أمره أن يطبق كل التوراة، وعندما جاء عيسى(ع) هو الذي أسلم لله، لأن الله أمره أن يطبق كل التوراة، وعندما جاء عيسى(ع) وهو الذي يقول كما في قوله تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(آل عمران/50) فإن الإسلام في زمن عيسى(ع) هو الإسلام بما أتى به عيسى(ع) وبما أبقاه من شريعة التوراة. وعندما جاءت الرسالة التي جمعت خلاصة الرسالات، فالإنسان الذي يعمل برسالة إبراهيم لا يعتبر مسلماً، لأن الله يقول في هذه المرحلة إنه لا يمكن أن تكتفي برسالة إبراهيم(ع). نعم، رسالة إبراهيم كانت القاعدة، ولكن الرسالة كانت تتطور كما أرادها الله أن تتطور فإنه يزيدها وينقصها حسب حاجة الأمة، ولذلك فإذا أردت أن تكون مسلماً فعليك أن تلتزم بكل شريعة النبي(ص)، وهذه هي الشهادة لله، والوحدانية له. أما الشهادة للنبي بالرسالة فمعناها أن تلتزم بالرسالة والذي اختصرها الله بكلمتين كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}(الأنعام/162)، وأن يكون محياك لله، يعني أن تلتزم في حياتك بكل ما أمرك الله به، والآية الثانية التي تقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}(فصِّلت/30)، أن تقول ربنا الله ثم تستقيم على درب التوحيد، وذلك بأن تأتمر بكل ما أمرك الله به، وتنتهي عن كل ما نهاك عنه من خلال رسوله، وهذا معناه أن لكل مرحلة نبوية إسلاماً بحسب ما أوحى الله به في تلك المرحلة.
يوم القيامة:
* يوم الحساب واليوم الآخر ويوم القيامة إلى غير ذلك من ذكر الأيام التي جاءت في القرآن الكريم، هناك آراء تقول إن هذه الأيام ليست كلها تعني يوم القيامة، فمنها ما يعني أيام ظهور الإمام أو منها مراحل خلق السماوات والأرض، فما رأيكم بذلك؟
- الظاهر أنها المعنى واحد، وهو اليوم الآخر ويوم القيامة ويوم الحساب ويوم التغابن الذي يراد به نهاية العالم والوقوف بين يدي الله، لأنها كلها تشير إلى معنى واحد، كما قال الشاعر:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
فيوم التغابن لأنه اليوم الذي يشعر فيه الإنسان بالغبن، ويوم الحشر باعتبار أن الناس يحشرون فيه جميعاً، ويوم القيامة لأنه اليوم الذي يقوم الناس فيه لله، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(المطَّففين/6)، واليوم الآخر باعتبار الآخرة والأولى.
موسى(ع) وملك الموت:
* دائماً أسمع أن موسى(ع) عندما جاءه ملك الموت قال لا أريد الموت فمن لأمي وأبي، وكلام لا يليق بالنبي، فهل هذا صحيح؟
- هذا غير صحيح، وهو من الروايات الإسرائيلية التي تسيء إلى الأنبياء(ع)، بلحاظ الثقافة اليهودية التي تنبع من موقف سلبي اتجاه الأنبياء، ولكن للأسف تسربت إلى الثقافة الإسلامية.
الجريمة والفعل الإنساني:
* هناك نظرية لعالم إيطالي في تفسير علم الجريمة، وذلك من خلال بعض ملامح الإنسان، كما في شكل الأنف أو الأذن وغير ذلك، فما هو رأيكم، خاصة وأن الإمام علي(ع) يقول «احذروا صفر الوجوه»؟ هل هذا دليل على صحة هذه النظرية؟
- لا نعرف ما هو الدليل على هذه النظرية عنده، ثم إن هناك عدداً من النظريات تُبنى على ملاحظة عدد من الحالات المرصودة، ولذلك فهي مجرد استنتاجات، ثم إن الجريمة لا تولد مع الإنسان، وليست من ذاتيات الإنسان، ولا داخل لصفرة الوجه أو احمراره أو اسوداده بذلك.
أما هذا الذي ينسب إلى الإمام علي(ع) فإنه ليس دقيقاً، فما دخل اصفرار الوجه بذلك؟! فإن ذلك يرجع إلى حالات الطبع الإنساني وطبيعة الجسد ووظيفته، ثم كيف يعاقب الإنسان على ما لا نصيب له في نشوئه وحصوله، إذا كان الفعل الجنائي يولد مع الإنسان. ولذلك فإن مجرد نسبة قوله إلى الإمام(ع) لا يعني صحته ليؤكد نظريته، بل إن ذلك يعارض ما ورد في القرآن الكريم من اختيار الإنسان لأفعاله الحسنة والسيئة.
ضغطة القبر والحشر:
* بعض الناس يموت في البحار أو تأكله الحيوانات المفترسة أو يحترق، فكيف يتعرض لضغطة القبر،ن وكيف يحشره الله تعالى؟
- ورد في بعض الأحاديث أن الميت يتعرض لضغطة القبر، أما كيف، وما هي التفاصيل، فلم يرد شيء من ذلك. ولا ندري هل هو شامل لكل أحد أم لا؟ وربما يحسن للإنسان أن يهتم برضا الله والعمل لآخرته عوضاً عن السؤال عن هذه التفاصيل التي لا معرفة لنا بها.
أما كيف يحشر الله الناس ممن تأكلهم الحيوانات أو يغرقون في البحار، فإن الأمر لا يختلف عن تناثر أجزاء الإنسان في التراب وتحولها إلى رميم، ومن خلق الإنسان من العدم قادر على أن يعيد أجزاءه المتناثرة.
ومع احترامي لك السائلين عن هذه الأمور، فإن السؤال عن مسؤولياتنا أهم، لأن الأسئلة التي من هذا القبيل صارت هماً لنا بحيث شغلتنا عن مسؤولياتنا الأساسية وضيعتنا، خاصة في طريقة إدارة الجواب عن هذه الأسئلة، وتكفير بعضنا الآخر في مثل هذه الأمور. وقد حدثتكم مراراً عن فتح القسطنطينية، حيث دق أبوابها محمد الفاتح، وكان أهلها يتناقشون في أن الأصل البيضة أم الدجاجة، وأن الملائكة إناث أم ذكور، ونحن الآن مثلهم وحالنا حالهم، تدق إسرائيل أبوابنا، وهي تخترق أمننا وأرضنا ونحن نسأل عن مثل هذه الأمور.
عصمة النبي إبراهيم(ع):
* اعتقادنا نحن الإمامية أن الأنبياء معصومون، فما هو معنى هذه الآية عن النبي إبراهيم(ع): {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}(الصَّافات/88-89}؟
- كان النبي إبراهيم(ع) يستعمل أسلوب توعية المجتمع من حوله، فاختار طريقة التورية، ولذلك فإنه لا يريد من السقم سقم الجسد، بل لأنه كان يعيش انزعاجاً نفسياً من خلال الإرباك الموجود في المجتمع من خلال الواقع الذي يعيشه المجتمع ضد التوحيد، على أن التورية جائزة. وقد روي عن الإمام الصادق(ع) في قصة إبراهيم: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}(الأنبياء/62-63)، ولم يكذب إبراهيم، لأن فعل كبيرهم متعلق في ما إذا كانوا ينطقون، ويحسون، فإذا لم ينطقوا ويحسوا فلماذا تعبدوهم؟!
تأخر استجابة الدعاء:
* ترى المؤمن يصلي ويصوم ويتجنب الذنوب والمعاصي قدر الإمكان، ويدعو الله مراراً وتكراراً، فلا يجيبه، حتى يظن الظنون ويدخل الشيطان في تفكيره، فأين ذلك من الآية الكريمة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}(البقرة/186)؟
- أضرب لك مثلاً شعبياً، فلو أن ابنك طلب منك شيئاً يضره فهل تعطيه إياه، وإذا لم تفعل فهل يقول إن أبي يضرني؟ فإنك في بعض الحالات قد تدعو بشيء فيه ضرر لك أو شيء لم يأت وقته، فمثلاً لو دعا أحد الله أن يرزقه ولداً في شهر بينما لا يريد لامرأته أن تحمل في تسعة أشهر، فهل هذا ممكن؟ إنه ممكن وفق قانون المعجزة، وإلاّ فهو غير ممكن في الحالات الطبيعية، وفي الكافي في حديث مضمونه أن شخصاً عابداً من عُبّاد بني إسرائيل عبد الله عشرين سنة وهو يدعو الله أن يرزقه ولداً، فلم يأته الولد، فصارت عنده حالة نفسية مرضية، وجعل يقول يا رب هل أنا بعيد عنك فلا تجيبين، وأنت القريب، فأتاه آتٍ في المنام فقال له بأنك دعوت الله بقلب غير نقي، ونية غير صادقة، ولسان بذيء فأخلص النية وليتَّق الله قلبك وأقلع عن بذائك يستجيب الله لك، ففعل ذلك، فاستجاب الله له. فقد تكون هناك عدة موانع تمنع من إجابة الدعاء، وقد يكون في بعضها ما هو مصلحتك، فالله رحيم، فقد يكون من رحمته أن لا يستجيب لك.
توريث الأنبياء(ع):
* ورد في (بحار الأنوار) عن الإمام الصادق(ع): «إن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منهم أخذ بحظ وافر»([987])، فهل نستفيد من الرواية أن الأنبياء(ع) لم يتركوا شيئاً بعدهم؟
- هذا من باب المبالغة، بمعنى أن الأنبياء ليسوا ممن تحركوا في حياتهم بالثروة حتى يتركوا الدرهم أو الدينار، بل إن النبي(ص) هو صاحب رسالة، ولذا إن الأساس في حياته أن يورث العلم، وليس معناه أنه لم يورث الدرهم والدينار أو كما روي عن الخليفة الأول «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»([988]). فهذه الرواية غير صحيحة، ولم يروها غير الخليفة الأول، بينما الزهراء(ع)، وهي التي ترث النبي(ص) لم تروه عن النبي(ص)، فلو كان صحيحاً لأخبرها النبي(ص) بذلك حذراً من مطالبتها بالإرث، فالله سبحانه وتعالى جعل الإرث شاملاً لكل الناس، ولم يستثن نبياً أو وصياً من ذلك.
صعود وهبوط جبرائيل:
* ورد في بعض الأحاديث «صعد أو هبط جبرائيل»، فهل يعني أن الله له مكان معين؟
- الصعود والهبوط هنا حسب طبيعة ما يتصوره الناس في هذا المجال، ولا علاقة له بالجانب الحسي في ما يتصوره الإنسان من العلوّ، فنحن نتصوَّر أن السماء فوقنا وإذا صعدنا إلى السماء نراها تحتنا، فالكواكب كلها موجودة في الفضاء وليس هناك فوق أو تحت، فلو صعدت إلى القمر فترى الأرض تحتك مثلاً، فهذه مسألة نسبية.
ظواهر غريبة:
* هناك ظاهرة منتشرة قديماً وحتى الآن، وهي أن شخصاً يعطيك ورقة مكتوب فيها بأن شخصاً مريضاً رأى أحد الأولياء في منامه وقال له أن يكتب تلك الرؤيا ثلاثين مرة ويوزعها، فإن فعل فإن الله سيرزقه، وإن لم يفعل تصيبه مصيبة، فما مدى صحة ذلك الأمر؟
- لا تكتبوا ذلك ولا مرة واحدة ومزقوها وليس في ذلك مشكلة، لأن هؤلاء الناس يغشون الآخرين. فمن هو الذي رأى في منامه؟ ومن هو الولي الذي شاهده في المنام؟ وما هي القضية؟ بعضهم يقولون إنه منذ أكثر من خمسين سنة شاهد أحدهم في المدينة النبي(ص) وقال إنه على كل واحد أن يكتب تلك القصة ثلاثين مرة! وشغل الناس بموضوع من هذا القبيل. هذا كلام فارغ. قل اكتبوا القرآن ثلاثين مرة، لا بأس. أما أن تكتب منامه وما هو منامه؟ فذلك كلام فارغ، فلا تصدقوه.
عصمة سلمان الفارسي:
* أحد الخطباء قال في محاضرة له إن سلمان الفارسي معصوم وكان دليله قول رسول الله(ص): «سلمان منّا أهل البيت»، ثم يعقّب: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم/4)؟
- ليس هو من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس، فالنبي(ص) إنما قال ذلك كأنه من العشيرة في ولائه الصادق للإسلام وللنبي(ص)، وقد قال الشاعر «كانت مودة سلمان لهم رحماً»، كأنه نزّله منـزلة رحمة ولم يجعله من أهل البيت بمعنى الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فهذا مختص بأهل البيت(ع) محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة الباقين(ع) بالدليل الذي دل بعصمتهم، فما يذكره الخطيب ـ كما يقول السائل ـ غير دقيق.
التوبة ومحو الذنوب:
* مرة يقال إن التائب يمحو الله كل ذنوبه، ومرة أخرى يقال إنها لا تمحى، بل يجب تعويضها بالحسنات، وثالثة يقال إن كل الذنوب تتبدل حسنات؟
- يقول الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(الشُّورى/25)، ويقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزُّمر/53)، ولكن بعض الناس بخلاء حتى في رحمة الله، فيقول لماذا يدخل فلان الجنة؟ وكأن الجنة ملك لأبيه، فالله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ}(الإسراء/100)، ويقول سبحانه: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}(النساء/48)، ولذلك فإن حكمة الله بالمغفرة يجب أن لا نتدخل بها، فكيفينا مسؤولياتنا تجاه الله. وفي بعض الأحاديث أن لله رحمة يوم القيامة يتطاول إليها عنق بليس. فعندما يرى كثرة ما يرحم الله الناس فيظن أن الله سيرحمه.
خلود العاصين في النار:
* ألا يعتبر ظلماً أن يخلد الإنسان في النار بسبب ذنب ارتكبه لا يتجاوز فترة محدودة؟
- إن الجريمة لا تقاس بمدتها بل بحجمها ومدى تأثيرها على الناس والمجتمع والحياة.
كيف دلّ الله على ذاته:
* قال الإمام علي(ع): «يا من دل على ذاته بذاته»، كيف يمكن الاستدلال بهذا، والذات القدسية غيب بالنسبة إلينا؟
- المقصود أن الله سبحانه وتعالى هو الذي دلنا على ذاته بما قدم إلينا من أسرار خلقه التي هي تدل بحسب إرادته هو، وبحسب صنعه، وبحسب خلقه هو، فهو دل على ذاته بذاته، فليس هناك شيء أجنبي دل على الله سبحانه وتعالى، فإن أسرار الخلق من هذه المخلوقات، في السماء والأرض وما فيهن كلها صنعة الله، فالله سبحانه وتعالى هو علَّمنا بذاته من خلال ما خلقه وما أودعه من قدرته التي دلتنا عليه، إن ما يدلنا على الله هو خلق الله، وهو ما خلقه وأبدعه وليس المعنى أن نفس الذات هي كذات تدل على نفسها، إنما الذات من خلال ما يصدر منها من عجائب العظمة ومن أسرارها.
الفصل الثالث
المسائل السيرة
أولا: الرسول الأكرم(ص).
ثانياً: الإمام علي(ع).
ثالثاً: فاطمة الزهراء(ع).
رابعا: الإمام الحسين(ع).
خامساً: الإمام العسكري(ع).
سادساً: الأئمة(ع).
أولاً: الرسول الأكرم(ص):
وضوح الوصية:
* هل أوصى النبي(ص) بالخلافة من بعده لعلي(ع)، وما هو الدليل على ذلك، وهل كانت الوصية واضحة، أم كانت مبهمة؟
- لقد أوصى النبي(ص) بالخلافة لعلي(ع) في العديد من المناسبات، وكان ذلك واضحاً لا لبس فيه أبداً، والدليل هو ما جرى في واقعة غدير خم، حيث بلَّغ الرسول ما أمره الله به من تعيين علي(ع) وصياً من بعده، فنصبت له خيمة آنذاك وصار المسلمون يدخلون عليه ويهنئونه بذلك، حتى أن عمر وأبا بكر فعلا ذلك، وقالا له: «بخٍ بخٍ لك يا أبا الحسن، الآن أصبحت مولانا ومولى كل مسلم ومسلمة»([989])، فما فهمه المسلمون آنذاك وفهمه الخليفة الأول والثاني هو التنصيب والتعيين، وإلا فما معنى العبارة المذكورة؟! على أنه لا معنى لأن يتسوقفهم النبي(ص) في الحر الشديد ليقول لهم: أحبوا علياً(ع) دون أن يكون ذلك وصياً وخليفة.
زواج النبي(ص) بالنساء:
* يقال دائماً في الدفاع عن النبي(ص) إنه تزوج كذا من النساء، فهذه كانت تعول أيتاماً وتلك أرملة، وهذه كذا وكذا وكذا، ولهذا السبب تزوج هذا العدد، وأنا لا أصدق هذا الكلام. والسؤال: أليس هو راعي كل أيتام وأرامل أمته حتى وإن لم يتزوج بهن، ولماذا لا يكون هناك سبب آخر؟ ولذلك فسرّ زواجه بأنه زواج وراء الرغبة الشخصية، أو أن هذه خصوصية له دون الناس، فما هو رأي سماحتكم في زواج النبي بهذا العدد من النساء؟
- كان زواج النبي(ص) نتيجة ظروف تتعلق بالدعوة، ولم يكن على الإطلاق وراء الرغبة الشخصية المطلقة، وإلا فلماذا كانت عائشة الزوجة الوحيدة التي تزوجها(ع) وهي بكر، وهو يستطيع أن يتزوج غيرها من النساء. ولو كانت القضية قضية شخصية ذاتية وشهوانية وما أشبه ذلك، فهناك نساء أبكار وجميلات يمكن أن يتزوج بهن، والناس كانوا يتشرفون به. ولو درسنا المسألة، فإننا نجد أنها كانت تتصل بظروف النبي(ص) وبخط الدعوة، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أباح له ذلك، ولعل ذلك من خصائصه. ثم إنه انتهى حكم جواز زواجه هذا، إذ قال الله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}(الأحزاب/52)، ثم إنه لا بد أن نطل على المسألة لمعالجتها بما يزيل الشبهة بشكل عام، وذلك بالإشارة إلى ما هو قائم في المجتمع العربي يومذاك، إذ لم يكن تعدد الزوجات مثار استفهام فضلاً عن الاستنكار. وهذا الذي نسمعه من الاستفهام والاستنكار وليد التأثر بالرؤى الفكرية الوافدة، تلك الرؤى التي تمنع من تعدد الزوجات، ولا ترى بأساً في إقامة العلاقات غير المشروعة مع النساء على تعددها. فإذا كان تعدد العلاقات مع النساء أمراً لا تحفّظ عليه، فلماذا التحفظ على تعدد الزوجات؟!
تحريم الزواج على نساء النبي(ص):
* لماذا حرّم الزواج على زوجات النبي(ص)، فننا نعيش في مجتمع غربي، وقد يشكلون علينا بأن النساء تحتاج إلى الرجال من جميع النواحي؟
- النبي(ص) خيّرهن {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}(الأحزاب/28)، فكان لهن الخيار بين الطلاق وبين البقاء مع النبي(ص). ويمكن تحريم الزواج منهن بعده لمنع الاستغلال السيء، الذي قد يرجع بالأثر السيء على الدين والرسالة، والله أعلم بحقائق الأمور.
دس السمّ للنبي(ص):
* ما هي صحة الرواية التي تقول بأن يهودية قد دست السم للنبي(ص) فأدى إلى وفاته؟
- هناك روايات تشير إلى ذلك، إلا أنها لم ترق إلى مستوى الوثوق بها.
ماذا تعني الصلاة على النبي(ص):
* أمرنا الله عز وعلا بالصلاة على محمد وآل محمد، وأنا أكثر من الصلاة على الرسول ولا أعرف معناها أو ما المقصود بالصلاة على محمد وآل محمد؟
- الصلاة على الرسول(ص) هي الدعاء لرفع درجته عند الله، والله يصلي عليه بمعنى أنه يرفع درجته عنده بالرضوان والرحمة وتقريبه إليه، والصلاة من الملائكة هو طلب ذلك منه تعالى. وقد جاء في القرآن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}(الأحزاب/43)، أي يرحمكم ويرضى عنكم. ونحن نقرأ في القرآن قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ}(البقرة/155-157). فالله يصلي على الصابرين بمعنى أنه يرضى عنهم ويرحمهم.
عصمة النبي(ص):
* قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم/3-4). هل المقصود بهذه الآية كل ما ينطق به الرسول أم يتعلق فقط بتبليغ القرآن وأحكامه؟
- {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى} المقصود به القرآن، ولكن النبي(ص) معصوم بكله. والدليل على ذلك أولاً: لأن الشخصية لا تتجزأ، فإن المعصوم في التبليغ لا بد أن يكون معصوماً في غيره ومعناه أن المناعة الأخلاقية الموجودة في شخصيته هي مثال الطبيعة الشخصية. فمثلاً إذا كان الشخص لا يكذب في القضايا الشرعية فهل يعقل أن يكذب في القضايا الأخرى؟! إن الصادق صادق في كل شيء، والأمين أمني على كل شيء، ولذلك فإن الشخصية لا تتجزأ. وثانياً: ما هي مهمة النبي؟ النبي ليس ساعي بريد، فليس دوره أن يأتي بالرسالة ويبلغها ثم ينتهي دوره، بل هو الهادي {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ} فهو مبلَّغ {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يربيهم {وَيُعَلِّمُهُمُ} يثقّفهم {الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ}(الجمعة/2)، فإن دوره دور المبلغ للرسالة المربي للأمة والمعلم والمثقف للناس، بحيث يخلق لهم عقلاً ثقافياً على خط الرسالة. ثم من مهمة الرسول أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ظلمات الباطل إلى نور الحق، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الخطأ إلى نور الصواب، ومن ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، ولا بد أن يكون نوراً كله في عقله وقلبه وطاقاته وسلوكه، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ودور النبوة هو أنها تخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلا بد أن يكون النبي شمساً لا ظلمةُ فيها ليمكن له أن يعطي الناس النور كله. فلا بد أن يكون النبي شمساً لا ظلمةُ فيها ليمكن له أن يعطي الناس النور كله. وأنا أعتقد أن هذا الدليل الذي استدل به على العصمة هو الدليل الأقوى في مسألة العصمة. ولذلك نحن نقول: إن النبي معصوم في كلِّ الأشياء.
الاحتفال بالمولد النبوي:
* نحن الآن في شهر ولادة الرسول الأكرم(ص) والبعض يقول بحرمة شعائر الولادة بحجة أنها من البدع؟
- الاحتفال بالمولد النبوي ليس باعتباره عيداً شرعياً كما هو المعنى الشرعي للعيد كما في عيد الفطر والأضحى الذي يحرم فيه الصوم مثلاً. نعم هو عيد بمعنى أن نفرح به ونحتفل به وفقاً للبرنامج الذي وضعه لنا الإمام علي(ع)، بحيث نجعل كل أيامنا أعياداً «إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه، وقيامه وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد»([990]). وعليه، فنحن في المولد النبوي نذكر النبي(ص) ونذكر سيرته ونذكر كلماته ووصاياه في كل يوم، وليس ذلك بدعة، بل إن ذكره من صميم الدين، على أن البدعة هي نسبة شيء للدين ليس منه، ولسنا بصدد نسبة الاحتفال إلى الدين، بل نحن بصدد ذكر الرسول(ص) والتذكير بمبادئه وسجاياه وسيرته، ولذلك فلا يحرم من هذه الجهة، ولا يكفي وصف ذلك بالبدعة، لأنه لم يعرف ذلك في الأزمان الأولى، لأن البدعة لا تصدق على كل جديد، وإلا فهل يحرم ركوب السيارة وغير ذلك من المستحدثات في العصور اللاحقة.
موقع الحديث النبوي:
* قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم/4)، لماذا لا يعتبر كلام النبي(ص) آيات قرآنية في القرآن وفصل عنه باعتباره وحياً؟
- إن الله يتحدث عن القرآن، بينما أحاديث النبي(ص) ليست قرآناً. فله أسلوبه، أما الآية: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر/7)، فإنها تشير إلى شرعية السنة مما يصدر عن الرسول مما ألهمه إياه الله أو وكله إليه.
الستة والوحي:
* لماذا حُرِّف الكثير من الأحاديث النبوية مع اعتبارها وحياً من الله، والله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر/9)؟
- الذكر هو القرآن، بينما الأحاديث النبوية هي كلام النبي(ص)، فالله عصم نبيه وأوكل إليه بعض التشريع، إلا أن الذكر بالمصطلح لا يشمل غير القرآن، كما في الآية الكريمة، وقد تكفل الله بحفظ القرآن ولم يتكفل بحفظ الحديث.
الجزية من أهل الكتاب:
* لماذا كان الرسول(ص) يأخذ الجزية من أهل الكتاب؟
- تؤخذ الجزية من أجل حمايتهم ومن أجل إعطائهم الكثير من خدمات الدولة الإسلامية مع ترخيصهم في أن لا يدفعوا الحقوق الشرعية التي يجب على المسلمين دفعها مثل الزكاة والخمس وما إلى ذلك، وأما إذا فرضنا أنهم كانوا مستعدين أن يعيشوا كمواطنين، فإن عليهم ما على المسلمين، كما في (عقد الذمة) و(عقد المعاهدة)، وفقاً لهذه العقد واستثناءً لهم مما على المسلمين. والنبي(ص) عندما دخل المدينة، عمل معاهدة بين اليهود وبين المسلمين في هذا المقام، والمعاهدة يمكن أن تنص على أن لا يأخذ منهم الجزية، بل إنهم يعيشون كجزء من المجتمع الإسلامي، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ما عدا القضايا التي تختص بالمسلمين.
سيادة القانون:
* إن كل الناس هم تحت القانون بما فيهم النبي(ص) والأئمة(ع)، فالقانون الإسلامي أجاز الزواج بأربع، فكيف نجيب على من يسألنا كيف تزوج النبي الكريم(ص) بغير ذلك وما الحكمة فيها؟
- هذه من خصائص النبي(ص)، كما هي قضية وجوب صلاة الليل عليه، وقضية الزواج كذلك من خصائص النبي(ص)، فهو قانونه الخاص الذي خصه الله به، ما يعني أنه لم يتجاوز القانون الإلهي، لكن في ما لم يختص به(ص) فإنه يكون تحت القانون.
حديث الكساء:
* سمعنا أنكم تقولون عن حديث الكساء «إن صحت الرواية»، فهل تشككون في الرواية؟
- هناك حديث الكساء المتواتر أو المستفيض بين السنّة والشيعة ومفاده أن النبي(ص) جاء إلى بيت أم سلمة وضمّ إليه الحسن والحسين وفاطمة ومعهم علي(ع) ونزلت هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33) وهذا لا إشكال فيه، بل هو قطعي. ولكن هناك حديث ملحق بـ(مفاتيح الجنان) ولم يروه (الشيخ عباس القمي) ولا غيره إلا صاحب (عوالم العالم) ورواه عن علماء لم يذكرهم أحد، وفي هذه الرواية أو الحديث تفاصيل من قبيل «ما خلقت سماءً مدحية...»، فهذا المقصود من حديثي بأنه غير صحيح، لأنه غير ثابت السند، لا أصل حديث الكساء، بل ذلك ـ أي حديث الكساء ـ كما قلت متواتر أو مستفيض.
ثانياً: الإمام علي(ع):
تعيين الإمام علي(ع) للخلافة:
* نسب إليكم أن الخلافة للإمام علي(ع) ثابتة بمقتضى الشورى لا النص، فهل هذه صحيح؟
- أنا لم أسمع هذا من نفسي، وأنا قلت منذ خمسين سنة إن ولاية علي(ع) كانت بتعيين النبي(ص) وبأمر من الله، فهي إلهية ونبوية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ}(المائدة/67)، وللأسف أن يردّد البعض ما يقال عن القائل ما لا يسمع من القائل نفسه.
ثالثاً: فاطمة الزهراء(ع):
منـزلة السيدة الزهراء(ع):
* بعض الناس يقولون بأنكم قلتم إن الزهراء(ع) امرأة عادية، بحيث لو كانت إحدى نساء اليوم مكانها لكانت على ما كنت عليه الزهراء(ع)، فما مدى صحة هذا الكلام؟
- ما ورد في كتابي (تأملات إسلامية حول المرأة) هو أن السيدة الزهراء(ع) ـ وكان الحديث عن النساء الأخريات من قبيل خديجة(ع) ومريم(ع) ـ امرأة كباقي النساء وليشت ذات شخصية غيبية، كما هي شخصية الأنبياء البشرية، وهذا كما في قوله تعالى على لسان البني(ص) {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}(الكهف/110)، فإن ذلك لا يقلل من شأن النبي(ص)، بل ينفي عنه الصفة الغيبية الملائكية، فكذلك قولنا إن الزهراء(ع) ليست شخصية غيبية، وهذا لا يعني النـزول بقدرها، وهي المرأة المعصومة، التي وصلت إلى أعلى درجات الكمال. ونحن نضع الأئمة(ع) والمعصومين عموماً بما وضعهم الله في مواضعهم ومراتبهم. وكما لا يصحّ أن ننتقص من مقام السيدة الزهراء(ع) والأنبياء(ع) عموماً، فإنه لا يصح الغلوّ والادّعاء بما لم يثبت في حقهم. ولذلك فإن قولنا إن الزهراء(ع) ليست غيبية يشير إلى أنها موضع القدوة والأنموذج الذي تقتدي بها النساء، ولو كانت شخصية غيبية لقيل إن لها حكماً لا يمكن أن يتاح للنساء إتباعه بسبب هذه الخصوصية الغيبية.
رابعاً: الإمام الحسين(ع):
طبيعة الإصلاح في الثورة الحسينية:
* ينقل عن الإمام الحسين(ع) أنه قال: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»، ما مستوى الإصلاح الذي كان يطمح إليه الإمام(ع)، هل هو منحصر في إصلاح حكميّ، أم يشمل الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي، وكيف يمكننا أن نستقرئ ذلك من حركة الإمام(ع) من خلال خطاباته؟
- قبل أن ندخل في تحليل أبعاد الإصلاح الذي أطلقه الإمام الحسين(ع) كشعارٍ لحركته في الأمة، لا بد أن ندرس شخصية الإمام الحسين(ع) في نطاق موقعه، فهو إمام الإسلام الذي يمثّل الإنسان الذي لا بدّ له من أن يحرّك الإسلام في مفاهيمه الرحبة الواسعة التي تشمل الحياة كلها، لتعالج قضايا الإنسان في عقيدته، لتكون عقيدته في الخط المستقيم على أساس الحق الذي يبتعد عن الانحراف، وفي أخلاقيته لتنسجم مع المنهج الأخلاقي للإسلام، وفي حركة طاقته لتكون طاقاته منفتحة على العدل كله، وعلى الخير كله، وعلى الإنسان كلّه.
لذلك فإن مسألة الإمامة تعني أنه هو الشخصية المؤهلة لقيادة الواقع كله في كلّ قضايا الأمة كلّها، وعلى ضوء هذا، نؤكّد أنه قال بعد قوله: «خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»([991])، فإن المعروف هو كلّ ما يرفع مستوى الإنسان في كلّ القضايا الفكرية والحركية التي ترضي الله، والمنكر هو كل ما يسقط مستوى الإنسان مما لا يرضي الله.
فهاتان الكلمتان تتحركان على أساس شموليتهما للواقع كله، ولذلك جعلهما الله عنوانين للأمة في درجتهما الرفيعة، وذلك في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ}(آل عمران/110)، باعتبارهما العنوانين الاستراتيجيين للإسلام في برنامجه الواسع للإنسان.
وهكذا نلاحظ في الخطبة التي روي أن الإمام الحسين(ع) بدأ بها حركته عندما قال: «أيها الناس، إن رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في بلاده بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأحلوا حرام الله وحللوا حرامه واستأثروا بالفيء وعطّلوا الحدود وأنا أحقّ من غيرَّ»([992]). إنه يتحدث عن التغيير، تغيير القيادة الفاسدة إلى قيادة صالحة تطبق الإسلام كله، وتتحرك على أساس العدل كله، وتطرد الفساد في جميع مجالاته في الحياة. وعلى ضوء ذلك، فإن الإصلاح الذي أطلقه الإمام الحسين(ع) عنواناً لثورته هو العنوان الشامل ليكون الإمام الحسين(ع) هو القيادة الفعلية من خلال أنه القيادة الشرعية.
ثورة الحسين(ع) امتداد لرسالة جده:
* ثمة من يرى ارتباطاً بين واقعيات ثلاث، بين الدعوة المحمدية المباركة، والثورة الحسينية، والثورة المهدوية، فما هو رأيكم؟
- عندما نضع أمامنا كل هذه العناوين فيما هو الإسلام في حركته الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والحركية، فإننا نجد أن الدعوة المحمدية الأصيلة ليست قسيماً لهاتين المفردتين، بل إن الدعوة الحسينية هي دعوة محمدية تحاول أن تصحح المفاهيم الخاطئة التي دخلت على الذهنية الإسلامية للعناوين الكبرى لهذه الدعوى، كما أنها تعمل على تقويم الواقع الإسلامي الذي عرض عليه الانحراف ليستقيم على الخط الذي أراد الله له أن يستقيم عليه. وعلى هذا الأساس، فإن النهضة الحسينية تتحرك في أجواء الدعوة المحمدية لتكون امتداداً حركياً لها في تقويم الواقع الذي تعيش فيه، كما في الحركة المهدوية ـ بما يحققه الإمام المهدي(عج) ـ تمثل الحركة التي تقيم العدل كله بعد أن يسيطر الجور على الدنيا كلها، وإذا عرفنا أن الله قد أكّد في كتابه المجيد على أ، العدل يمثل القاعدة التي انطلقت منها كل الرسالات، وذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ}(الحديد/25)، فإن الإمام المهدي(عج) يتحرك في خط تحريك واقع الأرض كلها، وواقع الإنسان كله لمصلحة العدل الشامل للحياة كلها. باعتبار أن الرسالة الإسلامية انطلقت ليكون العدل للإنسان كله وللحياة كلها وهذا مما لم يتحقق في سيرة الإنسان منذ الدعوة المحمدية، لأن العدل كان يتحرك في دوائر صغيرة. وعلى ضوء هذا، فإن دعوة الإمام المهدي(عج) ستأتي لتكمل تحقيق الهدف الكبير الذي جاءت به الدعوة المحمدية من أجل أن يشمل العدل العالم كله، وينفتح على الإنسان كله.
كربلاء اليوم:
* هناك ارتباط كبير بين عاشوراء وكربلاء وبين ما يعيشه المسلمون على أرض الواقع في هذا اليوم، ومعنى ذلك أن هناك امتداداً واقعياً لعاشوراء الحسين إلى يومنا وإلى يوم القيامة إن شاء الله. وفي ضمن هذا الإطار، نجد أن مفردات الإرهاب والتطرف والأصولية قد أطلقت على الذين يقاومون إسرائيل، فهل يمكننا فهم حقيقة ذلك على ضوء العطاءات التربوية للثورة الحسينية؟
- إننا نعتقد أن الإرهاب في مفهومه السلبي ضد الإنسان يمثل الاعتداء على الإنسان جسداً أو حرية أو سياسية أو اقتصاداً وما إلى ذلك في كل أوضاعه، من خلال عناصر فردية ينطلق فيها طاغية من أجل أن يفرض نفسه على الواقع، أو ينطلق بها طامعٌ ليحاول أن يستغل قوته للحصول على مالٍ هنا أو على شهوةٍ هناك، والتي يتحرك فيها الإرهابي من أجل أن يقتل الإنسان في جسده أو حريته أو في ماله أو فر عرضه أو ما إلى ذلك.
وعلى ضوء هذا، فإنّنا نفرّق بين الإرهاب وبين المقاومة، فالمقاومة هي حركة جهادية تحريرية، تواجه المحتل وتواجه الطغيان من أجل أن ترفع الاحتلال عن كاهل الشعب المقهور، ولتطرد الطغيان من واقع الناس عندما تتوفر الظروف الموضوعية للقيام بحركة تحرير مسلحة هنا وهناك، أو عندما تتحرك الظروف من أجل إسقاط الطغيان وتحويل الواقع من واقع يحكمه الطاغية إلى واقع يحكمه العدل، ولذلك نحن نرفض كل الكلمات التي قد تصدر من محاور سياسية دولية لتساوي بين الإرهاب وبين المقاومة الإسلامية في لبنان أو الانتفاضة في فلسطين، لأن من حق الشعوب، على المستوى الديني وعلى المستوى الحضاري كله، أن تدافع عن حرياتها، وأن تجاهد من أجل إزالة الاحتلال عن أرضها، ولكن التعقيدات السياسية الدولية واحتضان بعض المحاور الدولية لبعض أوضاع الاحتلال، هي التي جعلت المسألة تتحرك في هذا المزيج الذي يحاول أن يرجم الانتفاضة والمقاومة بالإرهاب، كما سمعنا ذلك من بعض المحاور الدولية أخيراً، عندما نتحدَّث عن المجاهدين في فلسطين والمجاهدين في لبنان على أنهم يمثلون حركة إرهابية.
أما مسألة التطرف فإنه أمرٌ نسبيّ، لأننا عندما نتحدث عن التطرف، فإنه يمثل الحركة التي تبتعد عن الخط المتوازن في الفكر أو في الواقع، ولهذا فإنني أعتقد أنّ الذين يصفون الإسلام بالتطرف، أو يصفون المسلمين بالتطرف، فإنهم يفسرون الاعتدال تبعاً لمصالحهم الخاصة ولأوضاعهم المحدودة، فيعتبرون كل ثورة على واقع الظلم الذين يمارسونه وواقع الانحراف الذي يتحركون فيه تطرفاً، لذلك نحن لا نستطيع أن نحكم على حركة تطرف، إلا إذا درسنا طبيعة الظروف التي يرتكز عليها الفكر أو يرتكز عليها الواقع، لنستطيع أن نحكم على خط هنا أنه خط متطرف، وعلى خط هناك أنه خط معتدل، ونحن نعتقد أن الخطوط السياسية التي تسيطر على واقع الشعوب الإسلامية أو على واقع العالم الثالث المستضعف، تحاول أن ترجم بالتطرف كل حركة تعمل على أساس تأمين الاكتفاء الذاتي وتحقيق حماية ثروات الشعوب من الاستغلال وأمن الشعوب من السيطرة، لأنهم يريدون أن تخضع وتخنع وتعطي بيدها إعطاء الذيل وتقر إقرار العبيد. إنهم يفسّرون الاعتدال بالاستسلام للأمر الواقع، ويفسّرون التطرّف بالثورة على الواقع الفاسد، ونحن لا نوافق على ذلك.
أما بالنسبة للأصولية، فقد رجمت الحركات الإسلامية بالأصولية ظلماً وعدواناً، لأن الأصولية، بما هو مصطلح، انطلق في الغرب قبل هذه المرحلة، فقد كانت هناك أصولية لأن الأصولية تعني عنصرين: العنصر الأول هو أن العنف الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الأهداف، والعنصر الثاني هو إلغاء الآخر، ونحن نعرف أن الإسلام يعتبر الرفق أساساً، وذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}(آل عمران/64)، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت/46). لذلك نحن لسنا أصوليين بمعنى الأصولية الغربية في مصطلح الغرب، ولكننا أصوليون بمعنى أننا نرتبط بأصولنا الإسلامية التي تمحنا حرية الحركة في الامتداد مع ظروف الواقع، لنأخذ من العناوين الإسلامية الكبيرة ومن القيم الإسلامية ما يمكن أن يطوّر الحياة ويمتد ليدفع الإنسان إلى كل مواقع التطور والانفتاح والإبداع.
تجذّر ثورة الحسين(ع):
* ذكرتم بأنه لا بد لنا أن نفرق بين الحركات الإسلامية التحررية وبين الحركات التي تهدف إلى الإرهاب، هنا سؤالان بهذا الإطار: الأول: هل تفهمون الثورة الحسينية كحركة إسلامية في المصطلح القديم؟ والثاني: كيف ساعدت الثورة الحسينية في إذكاء روح الثورات التحررية في العالم من غير الثورات الإسلامية؟
- إن ثورة الإمام الحسين(ع) ثورة إسلامية، وهي ثورة تغييرية، لأنها انطلقت من أجل أن تغير الإنسان في مفاهيمه وفقاً لتعاليم الإسلام ومفاهيمه. وهذا هو الذي دعاء الإمام الحسين(ع) إلى أن يقوم خطيباً في مرحلة من مراحل رحلته إلى كربلاء، بل عندما كان في كربلاء وهو يواجه هذه الجيوش التي جاءت لمقاتلته، فإنه كان يقوم بين فترة وأخرى ليحذّرهم وليعظهم ويرشدهم، لأن المسألة أنه كان يريد أن يغيّر مفاهيمهم، وكان يريد أن يؤكّد المفاهيم الإسلامية، كمفهوم العزّة الذي انطلق من قوله تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(المنافقون/8)، فمفهوم الحرية الذي انطلق من كلام علي(ع): «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً»([993]). انطلق به الإمام الحسين(ع) من أجل تصحيح المفاهيم التي انحرفت في أذهان الناس، والتي انحرف الواقع من خلالها، باعتبار قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد/11)، ثم انطلق بعد ذلك لتكون حركته في مقام تأكيد الموقف والإرادة والصلابة في الموقف وفي المستوى الذي قال فيه الإمام الحسين(ع): «لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد»([994]). وهكذا عندما نقرأ في السيرة الحسينية أن علي الأكبر(ع) عندما قال له أبوه: «لقد عنّ ـ في الرؤيا ـ لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير خلفهم، فعلمت أنها نفوسنا نعيت إلينا» ـ فقال: «يا أبتاه ألسنا على حق» ـ قال: بلى ـ قال: «إذاً لا نبالي أن نموت محقين». هذا الموقف الحسين الذي كان يعيش في وجدان الأطفال والشباب والنساء والشيوخ بالمستوى الذي كان جمهور الحسين(ع) مع قلته يمثل قوة صلبة في مواجهة كل أولئك، ليتحداهم بكل هذه الصلابة وبكل هذا التصميم الذي ينطلق من خلال وعي الإسلام كله.
أما مسألة الإيحاءات التي انطلقت، فإن كربلاء استطاعت أن تكون رمزاً متحركاً يمد كل الذين يعيشون حركة التغيير والثورة على الواقع الفاسد والتمرد على الاستسلام للواقع. لقد استطاعت أن تدخل في عقولهم وفي قلوبهم، وأن تتحرك في حياتهم، لتتلاحق الحركات من بعد كربلاء، ولتكون ضوءاً ينير للإنسان كل الظلمات التي تعيش في حياته، وما زالت كربلاء تعطي وتعطي، حتى سمعنا الإمام الخميني(رض) يقول: كل ما عندنا من عاشوراء، ورأينا رجال المقاومة الإسلامية في لبنان وهم ينفتحون على قضية الشهادة من خلال اختزان الثورة الحسينية في وجدانهم الجهادي.
الشعائر الحسينية وروح الثورة:
* هناك من يقول إن الإصرار على إحياء الشعائر الحسينية ما هو إلا حثُّ الأجيال على المبادئ الثورية، ما تعليقكم على ذلك؟
- نحن نقول إننا نتاج التاريخ في الكثير من عناصر شخصيتنا، ونحن لا نريد أن نعيش في التاريخ، ولا نريد أن نتجمَّد في التاريخ، لأننا نريد أن نعيش التاريخ في عناصره الحية التي تبقى للحياة بعيداً عن العناصر الميتة التي تموت مع الزمن، لنأخذ من التاريخ العبرة والقدوة والحركية، لأن التاريخ ـ كما أشرنا ـ يشتمل في كل أحداثه على عنصرين، العنصر المحدود الذي يموع مع موت الزمن، والعنصر الذي يبقى للحياة، والله أرادنا أن لا نعيش التاريخ لنتحمل مسؤوليته، وذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(البقرة/134). إننا لا نريد الآن أن نستعيد الأشخاص التاريخيين بزمانهم لنتحارب باسمهم، ولكننا نريد أن نأخذ من التاريخ النموذج، لنجد في كل مرحلة من مراحل التاريخ نموذج جماهير الحسين(ع) في الخطِّ الرسالي للإنسان، وجماهير يزيد في خطِّ الطغيان والظلم والعدوان، على أساس ما قاله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ}(يوسف/111)، فنحن لا نستعيد التاريخ لنستغرق فيه ولنعيش في ذاتياته، وإنما ننفتح على التأريخ لنتحرك في كل القضايا الإنسانية الإسلامية الحركية الحيوية في عملية واحدة، في امتداد الماضي إلى الحاضر الذي ينفتح على المستقبل، من أجل أن نأخذ خلاصة الفكرة التاريخية التي تنطلق من عمق المعاناة في القيم، ثم لنصنع تاريخاً جديداً من خلال ما نستوحيه من ذلك التاريخ في جانب، ومن خلال ما نحركه ونبدعه من دراسة ظروفنا وحاجاتنا في جانب آخر. ولذلك فإننا ندعو إلى تجديد قضية الذكرى، بأن لا تكون الذكرى مجرد استحضار جامد للتاريخ، وأن لا تكون الذكرى مجرد مناسبة للبكاء كما لو كانت أمراً ذاتياً جداً، بل أن نستعيد القضايا الحيوية في التاريخ، وأن نستعيد الرموز العظيمة في التاريخ، ولا سيما الرموز التي لا تقتصر رساليتها على المرحلة التي عاشت فيها، بل إنها تمتد حيث امتدت الإمامة، تماماً كما يمتد رسول الله(ص) في حياتنا، كلما امتدت حركة النبوة في الواقع. لذلك نحن نعتقد أن الطريقة التي تدار بها قضية التاريخ التي تربط المسألة بمفرداته التاريخية، هي طريقة لا بد أن تغيِّرها لنجعل التاريخ يتحرك عندنا في مستوى الرمز وفي مستوى القيمة، لأننا مسؤولون على أن نصنع تاريخنا، لا أن نجتَّر التاريخ الذي مضى في ذاتياته.
إحياء الشعائر:
* ما دمتم تحدثتم في إحياء الشعائر، هل هناك رؤى معينة وخطوات يمكن أن تجدد هذه الشعائر من جهة الإحياء؟
- إننا نتمنى لمنبر الحسين(ع) أن يكون منبراً للإسلام كلّه، بحيث يكون الخطيب الحسيني مثقفاً ثقافة إسلامية واسعة يستطيع من خلالها أن يمنع الثقافة الإسلامية للجمهور المسلم، وأن يحدِّث أن الحسين(ع) يمثّل قيمة إسلامية ورمزاً إسلامياً بما هو الرمز الإسلامي الحيّ للإمامة، حتى نستطيع أن نحقق ما أراد الإمام الحسين(ع) أن يحققه، وهو تأكيد مسألة القيادة السياسية للأمة، لتعيش الأمة مسألة القيادة كعنوان منى عناوين حركتها في أن تختار القائد الذي ينفتح على قيم الإسلام بدلاً من القائد الذي ينحرف عن هذه القيم وأن يتفهم الناس قضايا الشهادة في حركيتها في الواقع، لتميز بين الواقع الذي يفرضها كالشهادة، وبين الموقع الذي لا يفرضها، ثم ينطلق الخطيب من خلال تصوير الواقع الذي يعيشه الناس مقارناً بالواقع الذي كان يعيشه الإمام الحسين(ع) والأئمة من أهل البيت(ع) بعده وقبله، لنتعرف الخطوط التي تجمع بين مرحلتنا هذه وبين المراحل السابقة.
ثم لا بد لنا من توثيق السيرة الحسينية لنطرد منها ما وضعه الوضَّاعون وما كذبه الكذَّابون، لأن اعتبار المأساة أساسية في إثارة العاطفة لا يبرر لنا أن نكذب ولا يبرر لنا أن نضع الأحاديث، لأن المسألة، كما قال لنا الإمام الصادق(ع): «وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل»([995]).
هذا ولا بد للمنابر الحسينية أن تكون منابر تثقيف وتوعية وتحريك للواقع كله، وأن تكون منبراً للحق لا للباطل، وأن تكون منبراً للعلم لا للجهل، وأن تكون منبراً للتقدم لا للتخلف. وإذا أردنا أن نطوّر هذه المسائل، فإننا نعتقد أنه من الممكن أن ندخل عاشوراء في الفن المسرحي، مع المحافظة على الخطوط التي تحفظ لها قداستها. وهكذا نحتاج إلى أن ندخلها في عالم الرواية التي يمكن أن تُمثَّل لتنشر في العالم كله، ليعرفها العالم كله المسلمون وغير المسلمين، ما هي عاشوراء؟ وما هي أهدافها؟ وما هي قضاياها؟
كما أن علينا أن نستبدل ما يفعله بعض الناس من ضرب الرؤوس أو الظهور بالسلاسل، بالتبرع بالدم لمساعدة الجرحى والمرضى الذين يحتاجون إلى دمائنا التي قد تشارك في إنقاذ حياتهم، وهذا أفضل من المظاهر التي قد تسيء إلى صورة الخط الإسلامي في منهج أهل البيت(ع)، والتي يمكن أن تشكِّل عنواناً حيوياً، وهو أن كل ما فعله الناس من قبلنا أو ممن يعيشون معنا، إنما هو وسيلة من وسائل التعبير عن الحزن، ونحن نعرف أن وسائل التعبير تتطور مع الزمن، ولهذا لا بدّ لنا أن ندرس في كل مرحلة من المراحل الوسائل التي يمكن أن نحركها في قضية الاحتفال بالذكرى، حتى تنسجم هذه الوسائل مع الأجيال التي ربما ترفض الوسائل القديمة لمصلحة الوسائل الجديدة، وهذا ما نلاحظه في وسائل العيش، فقد غيرنا وسائل التعبير الأدبي، فلماذا لا نغيِّر وسائل التعبير عن الحزن والتعبير عن الذكرى بما يحفظ هذه الذكرى أيضاً.
المرأة وعاشوراء:
* وماذا عن المرأة وعاشوراء؟
- إنّ المرأة هي إنسان كما أن الرجل إنسان، وقد كانت عاشوراء هي عاشوراء المرأة وعاشوراء الرجل، وكان الحسين(ع) وكانت إلى جانبه زينب(ع)، وكان علي(ع) وكانت إلى جانبه سيدتنا فاطمة الزهراء(ع)، وكان النبي(ص) وكانت سيدتنا خديجة، لقد كانت المرأة في مواقع الإسلام جنباً إلى جنب مع الرجل.
ونحن نعرف أنه في عهد الدعوة الأول كانت النساء يقمن بالدعوة، كما كان الرجال يقومون بالدعوة، حتى أن سمية استشهدت في سبيل الإسلام للتأكيد على الثبات على الإسلام والتوحيد إلى جانب زوجها ياسر الذي استشهد أيضاً في سبيل الثبات على الإسلام. وقد كان النبي(ص) يُخرج المرأة كما يخرج الرجال إلى الحرب، لتقوم النساء بسقي العطشى ومداواة الجرحى.
لذلك فإن المرأة دوراً في عاشوراء في امتدادها الزمني تماماً كما كان لها دور في عاشوراء عند انطلاقتها، فها نحن نجد السيدة زينب(ع) المرأة القائدة التي انطلقت بكل صلابة وقوة وشموخ وبكل عنفوان وصبر ومواساة للإمام الحسين(ع) في شهادته وفيما بعد من رعاية للأسرى والسبابا، وفي حماية الإمام زين العابدين(ع)، وهي التي وقفت أمام ابن زياد بكلّ العنفوان الإيماني الإسلامي العلوي لتخاطبه بكل قوة. وهكذا عندما وقفت في جموع أهل الكوفة لتخاطبهم بكل قسوة على خذلانهم أو على مواجهتهم للحسين(ع) وبلغ موقفها القمة عندما وقفت أمام الطاغية يزيد وقالت له: «فكد كيدك وناصب جهدك». وهكذا نجد أن زينب(ع) لا تمثل حالة استثنائية، بمعنى أن لها تكليفاً ودوراً استثنائياً خاصاً بها، بل إنها تمثل القاعدة في حركة المرأة عندما يفرض الإسلام على المرأة أن تواجه بحسب الظروف المحيطة بها وبحسب إمكاناتها.
لذلك نحن نريد للمرأة العاشورائية أن تعيش الوعي، ونريد للنساء اللاتي يقمن بقراءة السيرة وبرعاية المجالس الحسينية أن يكنَّ مثقفات تقيات ينشرن الوعي في النساء ويرتفعن إلى مستوى عاشوراء في كل ما يفرضه تطور الحياة من الأساليب التي يمكن أن تصنع لنا عاشوراء جديدة وحركة إسلامية جديدة تنطلق من القضايا الإسلامية، لتعيش الأجيال منفتحاً على الحياة.
إن للمرأة في عاشوراء الحاضر وعاشوراء المستقبل دوراً يتكامل مع دور الرجل، لأن الله قال عندما تحدث عن المؤمنين والمؤمنات في حركة المسؤولية: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ}(التوبة/71)، وإذا عرفنا أن المعروف يتّسع لكل قضايا الحياة التي يرضاها الله ويريد للإنسان أن يأخذ بها، وأن المنكر يتّسع لكل قضايا الحياة التي لا يرضاها الله ولا يريد للناس أن يأخذوا بها، عند ذلك نعرف أن على المؤمنين والمؤمنات أن يتكاملوا، كلٌ في دوره وكلٌ في طاقته، وإذا كان البعض يسجل بعض التحفظات على الجانب الأخلاقي في حركة المرأة، فإن الله لم يجعل الأخلاق ضريبة على المرأة وحدها، بل جعل الأخلاق فرضاً على الرجل والمرأة في كل مجال من المجالات الفردية والاجتماعية والسياسية.
فنحن عندما نؤكد على حركية المرأة في المسألة الإسلامية الإنسانية، فإننا نؤكد على الحركية التي تنسجم مع الخط الأخلاقي الإسلامي الذي وضعه المذهب الإسلامي للمرأة، كما نؤكد على المنهج الإسلامي الأخلاقي للرجل.
دور المنبر الحسيني:
* ما هو دور المنبر الحسين؟ ومدى تأثيره في مجتمعاتنا؟
- على المنبر الحسيني أن يكون منبر الإسلام الأصيل، في نشر ثقافته بالحكمة والموعظة الحسنة، وتأصيل مفاهيمه وإبعاده عن أفكار التخلّف والغلوِّ والخرافة، وإصلاح ما فسد في الواقع الإسلامي على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، وإثارة الوعي لدى المسلمين أمام التحديات الموجهّة إليهم للسيطرة على مقدراتهم ومواقعهم من قبل التحالف الاستكباري ـ الكافر، وإبراز النهضة الحسينية كحركة إنقاذ للواقع الإسلامي كله بعيداً عن النـزعات القومية والعرقية والإقليمية، وعن الطائفية المذهبية، وعن العصبيات الحزبية والمرجعية ونحوها، ما يمزق وحدة الأمة ويجعل بأسها بينها وإشغالها بالهوامش الجزئية، بدلاً من أن يكون بأسها موجهاً إلى أعدائها، وتقديم الصورة المشرقة لأبطال كربلاء، ولا سيما الإمام الحسين(ع)، والسيدة زينب(ع) بالصورة الرسالة المشرقة البعيدة عن الضعف والخذلان وروح الهزيمة، ليعرف الناس فيها روح القوة والعزيمة والتحدي في مجابهة الطغيان بكل صلابة.
لقد قال الأئمة من أهل البيت(ع) في حديثهم عن المنبر الحسيني ورسالته: «أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا»([996]). وليس لأهل البيت أمرٌ إلا الإسلام الأصيل في المنهج الذي خطّوه ونهجوه في الشكل الحضاري المنفتح على قضايا الإنسان في كل زمان ومكان. ولم يكن لأهل البيت(ع) أي اهتمام بالجانب الذاتي لشخصياتهم المقدسة، بل انصبّ اهتمامهم على الجانب الإسلامي في حركيتهم الفاعلة في خط الإمامة التي تمثل الامتداد الحركي للرسالة الذي انطلق فيه الرسول الأكرم(ص). وقد جاء عن الإمام الباقر(ع): «من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدواً لله فهو لنا عدو، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع»([997]).
مسؤوليات أصحاب الحسينيات:
* ما هي رسالتكم لأصحاب الحسينيات والمتولّين عليها؟
- إننا نوجه رسالتنا إلى إخواننا المؤمنين من أصحاب الحسينيات والممولِّين لها، أنهم يتحملون المسؤولية الإسلامية في تحريكها في خطِّ الوعي الإسلامي الرسالي الولائي الذي يجمع المسلمين المؤمنين، ولا سيما أتباع أهل البيت(ع) ولا يفرقهم، ويفتح عقولهم على الفكر الإسلامي الواعي ولا يغرقهم في أوهام التخلف، ويؤصل لهم العقيدة الإسلامية الإيمانية، ولا يدفع بها إلى الغلوِّ والخرافة وذلك باختيار الخطباء الرساليين الواعي الأتقياء الذين لا يثيرون الفتنة، ولا يستغلون غرائز العوامّ، ولا يلعبون بعواطف الناس طلباً للانجذاب إليهم بدلاً من أن يوجهّوا هذه العواطف باتجاه المفاهيم الرسالية.
إن الله يحمّلكم مسؤولية هذه المواقع، فإذا أحسنتم إدارتها واختيار الأشخاص الصالحين لها، أعطاكم الله خيراً وثواباً عظيماً، وإذا لم تحسنوا في ذلك، فإنكم تتحملون وزر كل السلبيات الناشئة من ذلك على الأمة. وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): «اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم»([998]).
رسالة لخطباء المنابر الحسينية:
* ما هي رسالتكم لخطباء المنبر الحسيني؟
- رسالتي إلى خطباء المنبر الحسيني أن يتعاملوا مع الخطابة الحسينية كرسالة إسلامية لا كمهنة للعيش فقط، ولذلك لا بد من أن تتوفر عندهم الثقافة الإسلامية بطريقة علمية واسعة عميقة منفتحة على تطورات الذهنية المعاصرة في أساليبها وقضاياها وتطلعاتها، لأن لكل عصر ذهنيته التي خاطب أهله من خلالها، ولكل جيل ثقافته، فلا بد لكم من أن تحدِّثوا الناس بقدر عقولهم، مع التدقيق في دراسة الواقع الحاضر مقارناً بالواقع الذي كان في عهد الثورة الحسينية، لأن الإمام الحسين(ع) انطلق لتكون رسالته في إصلاح أمة جده(ص) بما عرض لها من فساد في عصره، فعلينا، إذ كنا نؤكّد رسالته في امتداد الزمن، أن نقوم بإصلاح الأمة مما عرض لها من الفساد في الواقع، فإنّ التاريخ ليس مسؤوليتنا الحركية، بل هو للدرس والعبرة، ولاستيحاء القضايا التي تبقى منه للحياة، بل الحاضر هو مسؤوليتنا التي قد تأخذ من الماضي بعض العناصر الأصيلة لتخطط للمستقبل.
ادرسوا الواقع الإسلامي في تمزقاته، ولا تزيدوه تمزقاً بإثارة الخلافات، وإذا أردتم أن تتحدثوا عن قضايا الخلافات الإسلامية الكلية، فحاولوا أن تأخذوا بالمنهج القرآني في الوقوف عند الكلمة السواء، والجدال بالتي هي أحسن، والحفاظ على وحدة الأمة. إننا مسؤولون جميعاً عن الأمة كلها، لا سيما في ظروف المرحلة الخطيرة التي ينطلق فيها الاستكبار العالمي بكل قواه من أجل إضعاف الأمة الإسلامية، والإجهاز على كل مواقع القوة فيها، وعلينا أن نتحمّل مسؤولية ذلك كله.
حافظوا على التحدث إلى الناس بالصدق في الرواية، وذلك بتوثيقها، فلا يكن الهمُّ كله استنـزاف الدمعة وإثارة العواطف على حساب الحق، وقد قال الصادق(ع) لبعض أصحابه: «إنك أخذته بالحق والباطل، وقليل الحق يكفي عن كثير من الباطل». إن علينا أن نبقي العاطفة في أسلوب عرض المأساة الكربلائية، ولكن الواجب علينا أن نعمل على أن تكون العاطفة صادقة لنثقّف الناس بالحقيقة لا بغير الحقيقة.
دور الجمهور الحسيني:
* ما هي رسالتكم إلى جمهور المجالس الحسينية؟
- أما رسالتنا إلى جمهور المجالس الحسينية، فهي أن عليكم أن تكونوا جمهور الوعي الإسلامي الذي يشجّع الخطباء الرساليين الذين يحرِّكون خطابهم في توعية الناس بالحق لا بالباطل، وبالوحدة لا بالتفرقة، وبالمحبة لا بالبغضاء، وبالفكر الأصيل لا بالفكر المتخلف... لقد كان أهل البيت(ع) قمة الوعي الحضاري، فلتكن المجالس الحسينية مجالس الحضارة الإسلامية الواعية، حتى نسمح لها بالامتداد في الأجيال المعاصرة والقادمة، ولا تسمحوا بكل مظاهر التخلف التي تؤدي إلى هتك المذهب مما توارثه الناس من عادات وتقاليد متخلفة.
إن المجالس الحسينية ليست مجرد مواقع لتحصيل الثواب، بل هي مواقع لتحصيل الثقافة الإسلامية والروحية الولائية الأصيلة. كونوا جمهور الحسين(ع) الذي هو جمهور الإسلام الأصيل، الذي يحمل رسالة الإسلام لتكون قاعدةً للفكر والعاطفة والحياة، ولذلك فإن عليكم اختيار الخطيب الرسالي الواعي الوحدويّ الذي تستمعون إليه، وقد جاء في الحديث المأثور: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»([999]).
كربلاء إسلامياً:
* ما هي أهمية توضيح كربلاء بين المسلمين؟
- إن قيمة إثارة ذكرى كربلاء بين المسلمين تتحرك في أكثر من مورد:
إن الإمام الحسين(ع) هو الرمز الإسلامي الذي يلتقي المسلمون على محبته وتعظيمه، لأنه سيد شباب أهل الجنة، ولأنه سبط النبي(ص) الذي يحبه ويدعو الله أن يحبه ويحب من يحبه، وفي ضوء ذلك، فإنه يمثل الرمز للوحدة الإسلامية في الخطِّ الإسلامي الأصيل.
إن الخطاب الحسيني هو الخطاب الإسلامي الذي يحدِّد الخطوط الإسلامية الحركية في مواجهة الواقع المنحرف في داخل الأمة الإسلامية على صعيد القيادة العليا، كما أنه يمثل خطَّ المعارضة التي تواجه الحاكم المفروض على الأمة والذي لا يمثل أية قيمة إسلامية، وهذا ما ينسحب أيضاً على معاوني الحاكم الذين لا يمثلون الفريق الإسلامي الذي يعمل على تقويم المسؤول وتوجيهه إلى الصراط القويم ومنعه من إفساد البلاد والعباد، وهذا هو ما عبّر عنه الإمام الحسين(ع)، مما روي عنه: «أيها الناس، إن رسول الله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغر. أو لم يغير ما عليه بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله أنا أحقّ من غيرَّ». وهكذا طرح الإمام الحسين(ع) المنهج في ضرورة الالتزام بالقيادة الشرعية والمساعدة لها والتعاون معها، والوقوف في مواجهة القيادة المنحرفة غير الشرعية، والتأكيد على رفض السياسة البعيدة عن مصالح المسلمين ورفض السلوك الإجرامي في الاعتداء على الأموال العامة، ومواجهة الفساد القانوني والإداري والسياسي... بل والتخطيط لتغيير الواقع الفاسد كله.
إن الحسين(ع) جعل العنوان البارز لحركته هو طلب الإصلاح في الأمة الإسلامية كلها، وذلك بالأمر بالمعروف الذي يمثل العمل الذي يرفع مستوى الأمة في جميع أمورها مما يرضاه الله، والنهي عن المنكر الذي يتمثل في الخط الذي يسيء إلى واقع الأمة في جميع شؤونها مما لا يرضاه الله، طارحاً المسألة على أساس أسلوب الرفق لا على أسلوب العنف، فإن الحسين(ع) لم يخرج مقاتلاً، بل خرج مصلحاً محاوراً محاولاً تغيير الواقع على أساس تعبئة الأمة على منهج التغيير. ولم يكن العنف القتالي من الحسين وأهل بيته وأصحابه إلاّ دفاعاً عن النفس والموقف، عندما أراد الجيش المعادي أن يفرض عليه الخضوع للحكم اللاشرعي والانقياد للطغمة الفاسدة من آل أمية، فهي لم تكن فعلاً ابتدائياً للعنف بل رد للعنف الذي أراد أن يدفع به إلى ما لا يريده.
وفي ضوء ذلك، لا بد أن نهتدي بالخطاب الحسيني بأسلوبه الإصلاحي التغييري، في أوضاعنا المعاصرة في عملية الإصلاح والتغيير المرتكزة على دراسة الواقع في طبيعته، وعلى وسائل التغيير في حاجاتها الفكرية الحركية والمنهجية. لا بد من التأكيد على أن حادثة كربلاء هي مسألة إسلامية لا مذهبية، لأن الإمام الحسين(ع) هو للمسلمين جميعاً، وقد كانت كربلاء حركة إسلامية من أجل الإسلام، كما أن يزيد لا يمثِّل السنة، بل إنهم يرفضونه.
التوثيق التاريخي:
* يتناول الكثير من الخطباء والوعاظ والشعراء في محاضراتهم وأحاديثهم وقصائدهم بخصوص واقعة الطف الخالدة قصصاً وحوارات ومواقف ينسبونها إلى الإمام الحسين(ع) أو أفراد معسكره لم توثق تاريخياً، بل أثبت المحققون والعلماء عدم صحتها أساساً، فنرجو من سماحتكم بيان الموقف الشرعي من:
نقل هذه القصص والحوارات والمواقف المشار إليها في المجالس مباشرة؟
إمكانية التعرّف على حال الإمام(ع) وأصحابه(رحمهم الله) في المواقف والمواجهات المتعددة، وفي حالة عدم التمكن من إحراز وتشخيص ذلك، فهل يجوز لنا تأليف قصص ونظم الشعر، وكتابة النثر بدعوة (لسان الحال) كما هو المألوف والمشهور اليوم؟
نسبة بعض الأشعار والأقوال إلى المعصوم(ع) أو الخاصة من أصحابه(رحمهم الله) لمجرد رؤية حصلت لبعض الناس يدّعون فيها أن فاطمة الزهراء(ع) أو أبا الفضل العباس(ع) ـ مثلاً ـ طافوا عليهم في المنام وقالوا كذا وكذا...؟
- بالنسبة للسؤال الأول، لا يجوز نقل الروايات المذكورة غير الموثوق بصحتها بالطريقة التي توحي بأنها قضايا تاريخية واقعية، كما أنّ نقلها بعنوان الرواية التي لا يتحمل الناقل مسؤوليتها، يفرض عليه دراسة مضمونها الفكري، بحيث لا يؤدي إلى نتيجة سلبية في صورة الإمام الحسين(ع) أو السيدة زينب(ع) أو الإساءة إلى قيمة إسلامية أو تقديم صورة خرافية أو نحو ذلك، لأن السامعين ـ غالباً ـ لا يفرقون بين الرواية ـ في النقل ـ وبين الصورة الحقيقية.
وأما بالنسبة للسؤال الثاني، لا بد في مسألة (لسان الحال) من دراسة الواقع الداخلي للشخصية، لا سيما للإمام(ع) أو للسيدة زينب(ع)، وتأثيرات القصة المؤلفة أو الشعر المنظوم على صورتها من الناحية الإيجابية أو السلبية، ولا يكفي فيه المؤثرات التي تحكم الكاتب أو الشاعر، فنحن نلاحظ أن بعض ما يتحدث به الخطباء على لسان الحال يشده الموقف في قضية كربلاء.
أما السؤال الثالث، فلا يجوز ذلك، لأن المنام لا يمثل حجة على ذلك. وقد ترد هنا ملاحظة، وهي أن الخطيب إذا كان يملك القدرة الفنية الأدبية، فإنه يستطيع تصوير الحادثة الحقيقية بالأساليب الفنية التي تجتذب السامع وتؤدي إلى إثارة العاطفة من دون حاجة إلى تغيير الواقع، وقد جاء عن الإمام الصادق(ع): «قليل الحق يكفي عن كثير من الباطل...».
توظيف ثورة الحسين(ع):
* ماذا نعني بالحسين(ع) عقيدةً، وكيف يتمُّ توظيف الثورة الحسينية عقائدياً؟
- لا أدري ماذا يريد السائل من هذه الكلمة، فهل يريد بذلك إمامته؟! لا إشكال فهي جزء من العقيدة، وحركته جزء من العقيدة، وامتدادها هو امتداد كل حركة العقيدة في ساحة الصراع ضد الباطل وضد الانحراف. ويتم توظيف الثورة الحسينية عقائدياً من خلال كلمات الإمام الحسين(ع)، كلماته في حديث الإصلاح في أمة جده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي قضية العزة والذلة، وفي قوله(ع): «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله»([1000])، فإن الحسين(ع) كانت عقيدته تتحرك في ثورته، وثورته ليست ثورة إنسان ثائر بدون مضمون، فلقد انطلق الإمام الحسين(ع) في كل ثورته لنتعلم العقيدة في صفائها ونقائها وحركيتها وروحانيتها بالطريقة التي عاشها، حيث قال(ع): «الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار»([1001])، وعندما نقف بين العار والموت.
فإننا ننطلق لنتحدى العار ونسقطه، ولكن عندما نقف بين العار وبين النار، فإن رضا الله سبحانه أولى بالاختيار، ويكون الذل في الله أحب إلى المؤمن من العز مع عدوِّه. أن نأخذ المفاهيم الحسينية في كل خطاب الإمام الحسين(ع). ومع الأسف، وظَّفنا الثورة الحسينية في المأساة، ولم نوظّف المأساة في العقيدة. فمثلاً يتردد على ألسنة الخطباء عندما يريد من الناس القيام لتوسعة المكان عند الزحام يقول:
لقد وضعت أوزارها حرب هاشم وقالت قيام القائم الطُهر موعدي
لماذا وضعت حرب هاشم أوزارها؟ حرب هاشم هي حرب الإسلام، وحرب الإسلام لم تنته أبداً. ونحن عندما ننتظره(عج)، فنحن ننتظره لنقوم بالثورة هنا والثورة هناك، ونقيم العدل هنا والعدل هناك. ننتظره ليقيم لنا العدل الشامل، وليس انتظار الخنوع في هذا المسجد أو ذاك، أو في هذا المحفل أو ذاك، أو في هذا المحفل أو ذاك، ونحن نلهو وغير ذلك، فلا نطعن برمح ولا نضرب بسيف كما يقال. علينا أن نبقى في حرب مستمرة ضد الكفر والمعتدي الذي يحاربنا وضدّ الظلم والاستكبار. وكلمته(ع): «لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل» ليست موجهة لابن زياد، وموجهة للطغاة ممّن يسمون أنفسهم بالمسلمين، لأنهم اليوم أخطر من ابن زياد بحسب طبيعة الظروف التي نعيشها، لأنهم يرتبطون بأخطبوط الاستكبار العالمي، حتى يصادروا كل قضايا الأمة الاقتصادية والسياسية والأمنية من أجل مصالحهم الشخصية.
استحباب زيارة الأربعين:
* هل صحيح أنه لم يثبت لديكم دليل على استحباب زيارة الأربعين للإمام الحسين(ع)؟
- ثبت بالدليل استحباب زيارة الإمام الحسين(ع) في كل وقت. غاية الأمر أني ناقشت ما ورد من الخبر الذي ورد في صفات المؤمن، وأن من علامات المؤمن صلاة إحدى وخمسين والتختم باليمين وزيارة الأربعين، وقد حملت على التفسير، وقلت بأنه غير متيقن، وإلاّ فكما قلت إن زيارة الحسين(ع) مستحبة مطلقاً، وثمة أوقات الاستحباب فيها آكد، والزيارة فيها أفضل لخصوصية دلت عليها الأدلة، كما في زيارة (عرفة) وزيارة (عاشوراء) وزيارة (النصف من شعبان)، وهي أفضل الزيارات المخصوصة، ولم يقل أحد إن زيارة الأربعين أفضل الزيارات للحسين(ع).
المشي لزيارة الحسين(ع):
* السير في كربلاء لزيارة الحسين(ع) في الأربعين وغيره، هل يُعدّ راجحاً؟ وهل يصلح أن يكون متعلقاً للنذر؟
- إن زيارة الإمام الحسين(ع) لا إشكال أنها مستحبة، وهي من أفضل المستحبات، فيؤتى بها على كل حال مشروعة، والنذر الذي يكون متعلقه زيارة الحسين(ع)، فهو نذر صحيح، لأن متعلقه راجح، خاصة إذا قلنا «إن أفضل الأعمال أحمزها». فإن المشي زيارة الحسين(ع) عندئذٍ باعتبارها متعلّق النذر الراجح، وإن كان هناك تفسير آخر لما ورد من «إن أفضل الأعمال أحمزها»، لأنه قد يفسر على أن العمل إنما يكون الأفضل إذا كان بطبيعته مما يكون فيه المشقة، لا أن يكون بحسب طبعه ليس شاقاً ويؤتى بالمشقة.
فإن العمل إنما يكون الأفضل إذا كان يلازم المشقة من حيث هو كذلك، كما في الحج، وقد ورد الاستحباب في الحج ماشياً، فيكون نذره بهذه الكيفية صحيحاً لأنها مستحبة، ويكون الإتيان بهذه الكيفية أفضل لأنه أكثر مشقة.
المواكب الحسينية والسياسة:
* هل يجوز طرح القضايا السياسية في مواكب العزاء الحسينية؟
- لقد قدَّم الإمام الحسين(ع) برنامجه الثوري إذ قال: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»، والمعروف أن أول ما صدر من الإمام الحسين(ع) حسب السيرة أنه قال: «أيها الناس، إن رسول الله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحقّ من غيرَّ». فإن ثورة الحسين(ع) ـ في الأساس ـ هي ثورة في قلب السياسة وفي قلب الواقع الإسلامي الذي كان يعيش انهياراً فكرياً على خلاف الخط المستقيم في الفكر الإسلامي، وانهياراً سياسياً «اتخذوا مال الله دولاً وجعلوا عباد الله خولاً»، أي تقاسموا الأموال واستعبدوا الناس.
ولذلك فإن المواكب الحسينية ومواكب الردّات، والمجالس الحسينية، يجب أن تكون كلها مجالس وعي تعطي المجتمع الفكر الإسلامي الصحيح والمستقيم «خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»، وتعطي المجتمع الخط السياسي الصالح، لذلك نحن نعتبر أن المسألة الحسينية هي مسألة إسلامية في الجوانب الفكرية والسياسية والاجتماعية. وأما القضية العاطفية والبكاء، فإن ذلك من طبيعة الأمور، فهو مما يقتضيه البعد الإنساني وجانب المأساة لهذه الثورة، وقد قال الشاعر:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة لكنما عيني لأجلك باكية
وعندما يتابع الإنسان بعض الأفلام المأساوية في التلفزيون، أو عندما يقرأ قصة، فإنه يبكي طبيعياً، فكيف لا يبكي الإنسان على مأساة الحسين(ع). ولكن الخطابة الحسينية تحتاج إلى قرّاء تعزية أدباء، ليعرف الخطيب كيف يصور المأساة بالطريقة التي لا يملك الإنسان معها إلا أن يبكي أكثر مما نحتاج إلى الصوت الجميل والحسن، إذ إن الطابع الأدبي يوفر للخطيب القدرة على الانتقال بالمستمع إلى الأجواء التي كان يعيشها الحسين(ع) وأهله وأصحابه. ونحن عندما كنا في طفولتنا نقرأ للمنفلوطي بعض القصص مثل (العبرات) و(النظرات)، وهي غالباً ما يترجم فيها قصصاً مأساوية، كنا ونحن أطفالاً نبكي مع الشخص، والأشخاص هؤلاء لا نعرفهم في الرواية، لذلك نقول إن الأئمة أبقوا لنا المجالس لا لتكون عنصر تخلف، بل لتكون عنصر تقدم، ونحن نريد أن نقدم قضية الإمام الحسين(ع) للعالم المعاصر، وللأسف فهناك الكثير من الأساليب التي تستعمل في القضية الحسينية هي أساليب تحط من قدر القضية الحسينية وتفرض عليها التخلف بطريقة أو بأخرى.
وعندما كنا في النجف قبل التطورات التي حدثت في العراق، كانت المواكب الحسينية مواكب مثقفة، وكان الناس في زيارة الأربعين وفي وفاة النبي(ص) يأتون إلى النجف أو يذهبون إلى كربلاء، وكان بعضها يعالج القضايا السياسية التي يعيشها المجتمع آنذاك، وقصائد الرواديد كانت في أغلبها اجتماعية سياسية فكرية ومن أفضل ما يكون. ونحن نجد أن المواكب الحسينية عندما تملك حريتها، ينبغي أن يكون الشعر الذي يقال في الردات أو شعر الرواديد، شعر توعية في خط اجتماعي، حتى أنه في كثير من القصائد التي تعبر عن تاريخ المأساة التي عاشها أتباع أهل البيت(ع)، فإن هذه أيضاً تعبر عن تاريخ المأساة التي عاشها أتباع أهل البيت(ع)، فإن هذه أيضاً تعتبر سياسية، فمثلاً قصيدة (يا حسين بضمايرنا) فإنها تحكي عن التاريخ، ولكنها من أفضل القصائد التي تعبر عن كل التاريخ الدامي المأساوي الذي عاشه الشيعة في التاريخ من خلال إخلاصهم لأهل البيت(ع).
لذلك نحن نقول إن المواكب الحسينية ينبغي أن تذكر فيها الجوانب السياسية، سواء على مستوى الأمة أو على مستوى البلد الذي تتحرك فيه المواكب، على اعتبار أن عندهم مشاكل محلية بالنسبة للدولة أو مشاكلهم الاجتماعية وما إلى ذلك.
خامساً: الإمام العسكري(ع):
دعاء الإمام العسكري(ع) للمعتمد؟
* هل توجد رواية بأن الإمام العسكري(ع) دعا بطول العمر للمعتمد العباسي فبقي في الحكم عشرين سنة، هل أن الرواية هذه صحيحة؟ وماذا يريد الإمام(ع) بطول عمر المعتمد وهو يعدّ من الظلمة؟
لم تثبت صحة هذه الرواية، وأنتم تسمعون الرواية عن الإمام الكاظم(ع) إذ قال الإمام(ع) لصفوان الجمال: «كل شيء منك حسن جميل ما خلا إكراؤك جمالك هذا الفاسق. يعني هارون، قال: أنا أكريه للحج، قال: ألا تحب بقاءهم حتى يعطوك أجرك، قال: نعم، قال: من أحب بقاءهم فهو منهم أو حشر معهم». فكيف يدعو الإمام العسكري له؟!
سادساً: الأئمة(ع):
دور الأئمة في المجتمع:
* استمعت لمحاضرة لكم في إذاعة (البشائر)، وكنتم تتحدثون عن عطاء الإمام زين العابدين(ع)، ورويتم القصة الشهيرة حول تصدق الإمام على الفقراء، وعندما توفي لم تصل الصدقات إلى الفقراء، والسؤال هو أنه نحن نعيش في دول غربية، وكما تعلم أن النظام لا يتغير إذا توفي الرئيس، ونحن المسلمون الذي يفترض بنا أننا نحمل النظرية المتكاملة، فلماذا عندما نفقد أحد رموزنا ينتهي العمل الخيري؟ ولماذا تراها نتعبد الأشخاص لا بالقيم والمثل؟
- الحديث أساساً كان في مدى اهتمام الإمام(ع) بالناس على نحو ترك غيابه أثراً في المجتمع، وهذا لا يعني أن عمله لم يتم تداركه من قبل الأئمة(ع) من بعده ـ مثلاً ـ فقد يكون ذلك لجهة التشاغل بتجهيزه وغير ذلك. ثم إن ذلك على كل تقدير دعوة لنا للإفادة عن عمل الأئمة(ع) ومواصلة المسيرة بنحو لا ينقطع دورهم الإيجابي في الحياة.
فهم فكر الأئمة(ع):
* إنكم تؤكدون دائماً في أحاديثكم أن القاعدة الشيعة لم تستوعب الأئمة(ع) فكراً ومنهجاً وإنما استوعبتها عاطفة فقط، ولكن هذه المرتكزات كان لها النصيب الأوفر في تركيزها عند العوام من خلال خطباء المنبر الحسيني، فما هي الطريقة المثلى بنظركم التي من خلالها يتم نقل العوام لفهم الأئمة فكراً وسلوكاً لا عاطفة مجردة؟
- الجانب العاطفي أساسي، فإن لأهل البيت(ع) موقعاً في القلب، وعلينا أن نحبهم ونواليهم ونرتبط بهم، لأنهم حجج الله على خلقه. ولكن علينا أن نبيّن للناس علوم أهل البيت(ع)، وقد روي عنهم «أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا، قال: كيف نحيي أمركم؟ قال: بتعلم علومنا، فإن الناس إذا عرفوا محاسن كلامنا اتبعونا»، فلو فرضنا أننا نبكي صباحاً ومساءً ولكن من دون أن نفهم معنى الحسين(ع)، فماذا نعرف من أمرهم؟ وأنا أتساءل مراراً: كم هي نسبة من يفهمون فكر علي بن أبي طالب(ع)، وكم هم الذين يعرفون الحسين(ع) خارج كربلاء ويفهمون كلمات الإمام الحسين وفكره(ع)، لأن حركة الإمام الحسين(ع) تتعدى كربلاء، لأنه إمام الحياة كلها والأئمة كلهم كذلك، وهم الذين حملوا رسالة رسول الله(ص) ليصحِّحوا المفاهيم ويركزوها وليبلغوها وليعلّموا الناس الإسلام، ولكننا جعلنا الأئمة مجرد ضحايا للمآسي فقط. وحسبناهم في دائرة الدمعة وقلنا "أعيادنا مآتمنا"، إن الأئمة هم الإسلام الذي حركه رسول الله في رحاب الحياة.
الفصل الرابع
المسائل الفكرية
إحباط المسلمين:
* كيف نعالج حالة الإحباط التي أصابت كثيراً من المسلمين بعد الأحداث الأخيرة؟
- أولاً أن يثقوا بالله: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ}(يوسف/87)، ثم أن يتذكروا قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ}(آل عمران/173)، كما ينبغي لنا أن نشعر أن أية قوة في العالم لا تملك السيطرة على العالم، ولا يمكن أن تلغي أي شعب إذا لم يلغ الشعب نفسه، وعلينا دائماً أن نفكر في نقاط الضعف عند العدو إلى جانب نقاط قوته، وأن نفكر في نقاط القوة عندنا إلى جانب نقاط ضعفنا، فليس هناك دولة هي القضاء والقدر، بل أن نخطط وأن نعمل وأن نبحث عن عناصر القوة، وأن ندرس كل حركة اللعبة الدولية وكل حركة الصراع الدولي، وسنجد أن هناك أكثر من ثغرة ننفذ إليها، لكن المهم أن ندرس الواقع جيداً، لأن مشكلتنا أننا نحلق في الفضاء وننسى كل الحواجز في الواقع.
دور المسلمين في الدفاع عن الإسلام:
* بعد أحداث 11/أيلول تعرض الإسلام إلى حملة شرسة في الإعلام الغربي، ما هي الأدوار التي قام العالم الإسلامي لتحسين صورة الدين الإسلامي لدى الغرب؟
- لقد قام العلماء والمفكرون المسلمون بتقديم الصورة الصحيحة الأصيلة عن الإسلام بكل وسائل الإعلام الغربي، وبكل تواضع لقد قمت بمداخلات فكرية سياسية منذ 11أيلول ولا أزال مع أجهزة الإعلام الأمريكي والأوروبي وغيرها سواءً الصحفية أو الأجهزة التلفزيونية أو الإذاعية حيث أجرينا حتى الآن ما يقارب خمسين مداخلة وحديثاً، وكنا نحاول إيضاح مفاهيم الإسلام وأصوله للكثير من المثقفين الغربيين، وقد حاول علماء مسلمون آخرون توضيح ذلك، ولكن المشكلة هي كما في قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(البقرة/120). لأن الإعلام الغربي ليس إعلاماً محايداً بل هو خاضع في مجمله للإعلام الصهيوني فهو إعلام يدير في الغالب المعركة وفق مصالح المستكبرين من الصهاينة والأمريكيين، وإن كنا نجد بعض الحياد في بعض المواقع، ولعل ما سمعتموه من قصف تعرض له بعض رؤساء القبائل الأفغانية الذين ذهبوا لحضور احتفال تنصيب الحكومة الأفغانية الجديدة ما يؤكد ذلك. فكل وسائل الإعلام تقول إن هؤلاء من العشائر التي جاءت للتهنئة، ولكن أمريكا تقول إنهم من قيادات الطالبان مع أن الوكالة الأفغانية الإسلامية من الداخل تقول إنهم قادمين للمشاركة في الحفل بغرض التهنئة وليسوا من الطالبان، وعلى هذا فإنّه ممنوع على التلفزيون الأمريكي وعلى الصحف الأمريكية أن تنشر أي حالة من حالات القصف الأمريكي للمدنيين، وما أكثر المدنيين الذين قتلوا في الحرب على أفغانستان.
والمسألة عندنا هي أن نقتنع بأنفسنا ولا نكون مغرورين، وأن ننقد أنفسنا إذا أخطأ بعضنا، وعلينا أن نتعلم من خلال النقد الذاتي، لأننا في الشرق نصحح للقيادات أخطاءها ونقدّسها ونعتبر النقد عداوة، ثم إنّ علينا أن نكون كما قال علي(ع) وهو المبرّئ من كل عيب «رحم الله أمراً أهدى إليّ عيوبي» و«المؤمن مرآة أخيه» وقمة الأسلوب القرآني هو الذي عظم مجاهدي بدر ونقدهم ونقد المسلمين في (أحد) وفي (الأحزاب) وفي (حنين)، حتى يعلّمنا أن لا ننظر إلى الجانب المشرق من الصورة، بل يجب أن ننظر إلى الجانب المظلم مقارنة بالجانب المشرق، حتى نطرد ظلمة الصورة للتحول إلى إشراق.
إن المشكلة تكمن في تراكم الأخطاء، وفي عبادة الشخصية، وفي الصنمية التي أصبحنا نعيشها دينية وسياسية واجتماعية، فنعطي العصمة لغير المعصوم، وربما إذا انتقد أحدهم النبي(ص) يقبلون منه ذلك، ولكن إذا انتقد شخصية لها موقع قيادي أو ديني أو سياسي لا يقبلون منه ذلك، لأن مسألة عبادة الشخصية وصلت إلى هذا المستوى، لأننا تركنا النقد وانطلقنا في المديح والثناء بشكل غير متوازن.
تطوير أسلوب الدعوة:
* الإسلام يمر حالياً في ظروف صعبة في نظر الغرب إلى الإسلام والمسلمين، فهل أنتم مع تطوير النص الديني مع الحفاظ على ركائز الإسلام الجوهرية حتى يكون مقبولاً للغرب، واللباس الديني الآن يشكل حاجزاً للغربيين ولا يدعهم يسمعون فكره؟
- في تصور أن مسألة تطوير الأسلوب هي مسألة أساسية في كل حركة الدعوة الإسلامية، لأن الأسلوب يمثل نسبة كبيرة في الدعوة ربما تفوق الفكرة نفسها، فالأسلوب هو الطريقة التي تخطط فيها لهندسة الطريق إلى عقل الإنسان الذي تخاطبه، وإلى قلبه، وتدرس كل نقاط ضعفه، وتصوغ أسلوبه على هذا الأساس، وهناك مثل غربي يقول: «الأسلوب هو الرجل» أي أنّك إذا أردت أن تعرف الرجل ادرس أسلوبه حتى تعرف من هو، كأنه يقول: قل لي ما هو أسلوبك أقل لك من أنت، لأن الأسلوب يمثل طريقتك في الحياة، وفي مخاطبة الناس، وطريقتك في إدارة المعاملات وفي العلاقات العامّة وما إلى ذلك، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى لم يركّز على شيء مثلما ركّز على الأسلوب فقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53)، فعندما تتكلم لا تلقي كلمتك كيفما كان، اختر الكلمة من خلال دراستك لإيحاءاتها ولتأثيراتها على الآخر، لأنّها ربما تعطي نتائج سلبية، بل صغها بطريقة تعطي نتائج إيجابية، وفي المثل الشعبي «كلمة تحنن وكلمة تجنن»، والفرق بينهما في الكتابة نقطة، ولكن الفرق بينهما في التعامل الاجتماعي كبير.
كذلك قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل/125)، والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب، وقوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصِّلت/34)، أي حوِّل أعداءك إلى أصدقاء واتبع الأسلوب الذي يحوّل عدوك إلى صديق، ولكن للأسف تعلمنا الصلاة وشكوك الصلاة ولم نتعلم من القرآن أسلوب مخاطبة الناس.
لذلك نحن نؤمن بتطوير الأسلوب. أمّا قصة اللباس فإذا توقّفت الدعوة على أن ينـزع المعمّم لباسه حتى يذهب لدعوة الناس فليخلعه وليست هناك مشكلة، لأن اللباس من التقاليد، في أن يرتدي الهاشمي عمامة سوداء وغيره يلبس عمامة بيضاء، كل ذلك من الأمور التي جرت العادة عليها، ولذلك إذا توقفت الدعوة ونجاحها على تخطيها فلا مشكلة في ذلك. هذا من حيث المبدأ، لأننا لسنا في مقام دراسة إيجابيات هذا اللباس.
مؤسسة للهجرة:
* الهجرة ظاهرة واقعية تشمل أغلب الدول فضلاً عن أنها تملك شرعية قرآنية ودينية، ألا يمكن إنشاء مدرسة إسلامية للهجرة تحتضن من يهاجر من المسلمين مقابل المؤسسات الغربية لنتجنب التأثيرات السلبية؟
- هذا ممكن، ولكن الكلام في أن يلتقي المسلمون على ذلك، فالمشكلة هي أنّ الكثير من إخواننا ينقلون عصبياتهم معهم إلى مهاجرهم، ولا يقدّرون خصوصيات أماكن الهجرات والتحديات الخطيرة هناك، الأمر الذي يعيق أو يعرقل أمامه مشروع موحّد جامع يلتقي على المشتركات التي يعاني منها المهاجرون.
الهجرة والمخاطر:
* هل من الممكن أن توافق الهجرة الآية الكريمة {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(البقرة/195)، ومتى يكون طلب العمل والهجرة تهلكة؟
- لا تؤدي الهجرة إلى التهلكة دائماً، فما أكثر المهاجرين الذين نجوا بأنفسهم، ولكنَّ هناك نوعاً من الهجرة قد لا تكون مشروعة عندما يعرض المهاجر نفسه للمافيات التي تستغل حاجة الناس وتدفعهم إلى المتاهات. فالذي يريد أن يهاجر عليه أن يعمل للهجرة بشرطها وشروطها، ونحن نقول إن الذين ماتوا في طريقهم إلى المغتربات الجديدة أو غرقوا، هم إن ـ شاء الله ـ معذورون، لأنهم قد تكون ضاقت بهم الأرض أو أن أناساً قد زينوا لهم ذلك، ولكن حذار من هؤلاء الذين يزينون للناس الطرق الخطرة والمهلكة.
مسؤوليات المهاجرين:
* هل يضع المهاجر نصب عينيه إعمار بلده الأصلي والإنفاق مما يملك في المهجر على بلده الأصلي ويتجاهل البلد الجديد المقيم فيه؟
- كما أن عليه أن يلاحظ بلده الأصلي، عليه أن يلاحظ بلده الجديد، فمثلما توجد مدرسة في بلدنا يجب أن نبني مدرسة في بلدنا الجديد، ونستفيد من المعونات التي تدفعها سلطات هذا البلد أو ذاك.
وكنت أقول لكثير من المهاجرين إلى أفريقيا إن من الضروري أن تؤسسوا في أفريقيا ولأبنائها مدارس ومساجد ومشاريع أخرى، لأنكم استفدتم من هذا البلد ماديّاً، وحتى لا تشعروا أنكم أتيتم لتمتصوا دماءهم لا بدّ من أن تقدّموا لهم ما ينفعهم من هذه المشاريع، لأننا نحتاج إلى أن تكون هناك صداقة بيننا وبين شعوب البلدان التي نهاجر إليها.
الإسلام بين الواقع والنظرية:
* كثيراً ما يخيّم شعور بأننا نسبح في الخيال عندما نتحدث عن الإسلام، ففي القرآن والسّنة وفي محاضرتكم يبدو مشرقاً، أما في الواقع فهو أشبه بالخيال. فهل نختلف بأفكارنا هذه عن أفكار أفلاطون؟
- لماذا يعدّون ذلك من الخيار، صحيح أننا لا نملك نظاماً إسلامياً خالصاً، ولكن عندنا مسلمون، وهؤلاء يعيشون الإسلام ليس 100%، ولكن بنسب متفاوتة، وهذا يعني أن الإسلام يتحرك في العالم، ويكفي في المجتمع أن يصلي ويصوم ويدفع الحقوق ويحّج، ويكون في مظهره إسلامياً كما في مظهر الحج حيث يحجّ كلّ سنة مليوناً مسلم، وكذلك في العمرة على طول السنة، نعم يمكن أن نطوّر هذه المظاهر، وأن نؤصّل الإسلام ونجذره في حياة المسلمين.
صراع الثقافات:
* أشار الرئيس الفرنسي في مؤتمر اليونسكو الأخير إلى أن تاريخ الصراع الإنساني في القرن التاسع عشر يركّز على صراع القوميات، وفي القرن العشرين كان الصراع صراع الإيديولوجيات، أما القرن الواحد والعشرون، فهو يعتقد أنه سيكون صراع الثقافات، هل تتفقون معه؟
- قد يكون هناك جانب من صراع الثقافات في هذا القرن وما سبقه من خلال القضايا والمفاهيم المتصلة بحقوق الإنسان من قبيل قضايا الحريات والتعددية والاعتراف بالآخر والمرأة ونحو ذلك، ولكننا نعتقد أن هذه المفردات لا تمثل قوة الصراع في جانبها الحركي المسيطر على العالم، بل إننا نجد أن صراع الاستكبار مع المستضعفين من جهة، وتنافس المستكبرين في مصالحهم المتنوعة من جهة أخرى، هو الذي يمثل وحشية الصراع وحركيته التي يتمثل فيها طابع المرحلة المعاصرة وما سبقها في القرن الماضي... لا سيما في جوانبها الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية التي بدأت تفرض نفسها على العالم، بحيث بدأ الصراع حولها يتخذ أكثر من حالة نقاش وجدال ورفض... لذلك فإننا لا نتصور أن هناك عاملاً واحداً يمثل واقع الصراع، بل إنه يتداخل مع أكثر من جانب.
المفهوم الإسلامي للإنسان:
* ثمة رؤية خاصة يقدمها الإسلام عن الإنسان، حبذا لو توضحون لنا ملامح هذه الرؤية؟
- يُمثّل الإنسان في المفهوم الإسلامي، سيد الكون الذي أراد الله سبحانه وتعالى له أن يقود حركة الكون من خلال ما أودعه فيه من طاقات ومن قوى يمكن أن تتيح له القيام بهذه المهمة الكبيرة. ونستطيع أن نستوحي ذلك من خلال الحوار الذي دار بين الله تعالى وبين ملائكته في خلق آدم، حيث قال الله سبحانه وتعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(البقرة/30).
وعرّفهم بأنه قد علّمه من العالم ما لا يعملون. ثم نلاحظ تقدير الإنسان حين أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود له، ما يوحي بعظمة خلقه وبالقيمة الكبيرة التي يمثلها الإنسان فيما خَلْقُ الله سبحانه وتعالى. وهكذا نستطيع أن نتعرّف ذلك من خلال إبعاد إبليس عن مواقع رحمة الله عندما رفض السجود لهذا الإنسان، وفي الإيحاء الإلهي للإنسان بأن بقاء إبليس كعنصر لإثارة الشرّ معه في الحياة المستمرة في المدة التي يعيشها الإنسان في هذا الكوكب لا تمثل عنصر إسقاط له، ولكنها تمثل عنصر الثقة بأنه قادر على أن يخوض معركة الاختيار، وقادر على أن يخوض معركة قيادة نفسه من موقع إرادته ليستطيع أن يقود الحياة من موقع الإرادة الحرة القائمة على تأكيد الموقع القوي في قضية الصراع بين الخير والشر.
وهذا ما نستوحيه من قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ}(الحجر/42)، فالإنسان هو عنصر قادر على أن يواجه رمز الشر بكل ما عنده من وسائل ضاغطة على كل العناصر الداخلية للإنسان، بحيث يستطيع أن يهزم الشر على أساس قدرته على تحريك قوى الخير في ساحة الصراع. إننا عندما ندرس ذلك كله ندرك الاهتمام الكبير بالإنسان من خلال أن الله أرسل رُسلاً من أجل أن يخططوا له الاتجاه الذي يمكّنه من إدارة حياته وإدارة مسؤوليته بشكل كبير.
إننا نعتقد أن القيمة التي جعلها الإسلام للإنسان لا ترقى إليها قيمة في النظرة العامة لموقع الإنسان في الكون، والنظرة العامة لموقع الإنسان عند الله سبحانه وتعالى هي أن الإنسان اعتُبر مسؤولاً عن نفسه في الوقت الذي لم يعتبر الملائكة فيه مسؤولين عن أنفسهم، ولم يعتبر الكون مسؤولاً عن نفسه. وحده الإنسان هو الذي حمل مسؤولية نفسه، عندما أراد الله له أن يحمل هذه المسؤولية من خلال استنفار طاقاته، وإن لم تدر المسألة مدار حوار. هكذا نرى أنّ فكرة الجنة وفكرة النار تمثل الفكرة التي تقع في داخل مسؤولية الإنسان الذي يتحمل مسؤولية انحرافه، فيخضع للنتائج السلبية في ذلك، ويحمل النتائج الإيجابية لاستقامته، فيحصل على الثواب من خلال ذلك.
وهكذا نجد أن النظرية الإسلامية للإنسان تجعل الإنسان يمثل العنصر والمخلوق الذي جُعلت الحياة كلها تتحرك في مداره، كما جُعِلت الآخرة كلها تتحرّك في مداره. فالحياة للإنسان، والجنة للإنسان، والملائكة يحملون رسالة الله للإنسان، والملائكة يستقبلون الإنسان... والكون مسخّر للإنسان، فالشمس والقمر مسخّران للإنسان، وكل القوانين الكونية مسخرة للإنسان، معنى ذلك أن الإسلام ينظر للإنسان على أساس أنه ـ من خلال رعاية الله له ـ هو مركز الكون والعنصر الذي يدور الكون في دائرته. وعلى هذا الأساس، فإننا لا نجد في كل المواقع الحضارية أي فرضية حضارية، إذا صحّ التعبير، يمكن أن تعطي الإنسان هذا المفهوم الشامل الكامل.
الإسلام دين العدل والمساواة:
* ما رأيكم بالقول عن الإسلام بأنه ليس ديمقراطياً؟ وهل يمثل تصرف الإمام علي(ع) عندما كان يعطي الخوارج من بيت مال المسلمين ولا يحرمهم من هذا المال، مع أنهم كانوا يمثلون قطب المعارضة الرئيسي في ذلك الوقت... ألا يمثل هذا العمل قمة الديمقراطية؟
- الإسلام هو دين العدل والمساواة، ونحن لا نرغب بأن يسمى الإسلام ديمقراطياً، فعلينا أن نكون مسلمين وإسلاميين حتى في مصطلحاتنا التي نتداولها، ولذا نقول إن الإسلام كان ولا يزال يساوي بين الناس ولا يفرّق من ناحية الحقوق بين موال ومعارض، ما دام المعارض لم يتحول إلى عنصر فساد وإفساد في الأرض، كما لا يفرق في ذلك أيضاً من ناحية الواجبات، ولذلك قلنا إنه دين العدل والمساواة، سواء قال الآخرون عن ذلك إنه من الديمقراطية أو إنه ليس منها في شيء، لأن هذه الكلمة قد تستبطن في ما تحمله من الدلالات والمعاني ما لا يوافق عليه الإسلام، وهو أن أساس الشرعية هو الأكثرية، حتى لو كانت على غير حق، فلو صوتت ضد الإسلام لم يكن الإسلام شرعياً حسب الديمقراطية.
التوازن بين الفكر والعاطفة:
* ماذا نفعل من أجل خلق حالة من التوازن بين العاطفة والفكر أو بين الإيمان والعقل؟
- لا شكّ أنّ خلق حالة من التوازن بين الجانبين ضروري جداً في عملية بناء الشخصية الإسلامية، والسبيل إلى ذلك يكون بقراءة القرآن، لأن عظمة القرآن الكريم تتجلّى في أنه خاطب الإنسان في إنسانيّته التي تجمع بين قلبه وعقله، فالأسلوب القرآني، سواء ظهر في عالم الاستدلال أو في عالم التربية، يجمع بين الأسلوب العاطفي والأسلوب العقلي، باعتبار أن الإنسان ليس عاطفة كلّه، وليس عقلاً كله، بل هو هذا المزيج من العاطفة ومن العقل.
والفكر إذا بقي في دائرة المعادلات الفكرية، فإنه يرقد في العقل إلى جانب كثير من الحقائق الموضوعية، ولا يمكن مَدَّة بالحياة والحركة إلاّ عِبْرَ تغذيته بجرعات من العاطفة، كما قلنا مراراً، لأن الفكر عندما يمتد إلى دائرة الشعور والإحساس إلى القلب، يصبح جزءاً من الذات فيتحوَّل إلى إيمان.
ومن الواضح أن ثمة فارقاً بين أن تعقل العقيدة وبين أن تؤمن بها، فأنْ تعقلها يعني أن تكون في ذهنك مجرد حالة فكرية واقعية، أما أن تؤمن بها فيعني أن تكون شيئاً في عقلك وقلبك وكلّ إحساسك، أي أن تكون موجودة تلقائياً، وعندها يتحوّل الإيمان إلى حالة ذاتية راسخة تحركك تماماً كما تحركك دوافعك الذاتية المتمثلة بالغريزة.
أساليب الباطل في الصراع الفكري:
* ورد في حديث الإمام جعفر الصادق(ع) في معرض نقد بعض أصحابه على استخدامه الباطل في طريق الدفاع عن الحق وردّ الباطل، أنه قال: أما الجدال بغير التي هي أحسن، فأنْ تجحد حقاً لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق فهذا هو الحرام، لأنك مثله، جحد حقاً وجحدت مثله...!!
والسؤال: كيف نفرّق بين إباحة سلوك الباطل إذا توقف إقامة الحق عليه، وبين هذا الحديث الذي يرفض جحود الحق إذا أراد أن يستعين به في إثبات باطله؟
- إن هذا الحديث عند التأمل به يتجه إلى الدعاة الذين لا يملكون الثقافة والعلم الواسع، بحيث لا يستطيعون أن يواجهوا حجج أعداء الله بالحجّة القوية، والردود السليمة الحقّة، فيلجأون إلى سياسة الأخذ من الحقّ بطرف ومن الباطل بطرف آخر، والتهرب من مواجهة الفكرة التي يثيرها المبطلون. فقد يجحدونها بدون دليل أو يجحدون بعض وجوه الحق التي يريد المبطلون أن يستعينوا بها على إثبات باطلهم جهلاً منهم بالوجه الصحيح للردّ. وهذا ما تصرِّح به بعض فقرات الحديث: وأما الجدال الذي بغير التي هي أحسن، فأن تجادل باطلاً، فلم ترده بحجّة قد نصبها، ولكن تجحد حقاً يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجّة، لأنك لا تدري كيف تتخلص منه... فذلك حرام على شيعتنا.
أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف إذا أمكن مجادلته وضعف من في يده حجّة على الباطل، وأما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم لما يرون من ضعف الحق في يد الباطل. إن الحديث يتجه إلى هؤلاء، ليطلب منهم الانسحاب من معركة الصراع الدائر بين الحق والباطل، لأنهم لا يملكون الأسلحة التي بها يدافعون أو يهاجمون. ولذا فإنهم سيسقطون ضحايا جهلهم أمام الباطل، وينعكس ذلك على صورة الحق أمام أعدائه وأنصاره على السواء.
أما الذين استطاعوا أن يأخذوا بأسباب المعرفة الحقّة ويتعمقوا في أساليب الصراع الفكري المنطلقة من الحقيقة الإسلامية الأصيلة، فإنهم لا يحتاجون إلى أساليب الباطل في اللفِّ والدوران، ولا يشعرون بالضعف أمام حجج المبطلين، لأنهم يملكون ما يحتاجون إليه من حجج الحق، التي لا تدع مجالاً لأي غموض أو التباس في أي جانب من جوانب المعرفة الحقيقة، وسوف لن يضطر هؤلاء إلى أن يجحدوا الحق الذي يستعين بهم المبطلون للتدليل على باطلهم، لأن بإمكانهم أن يكشفوا مغالطاتهم في ذلك، إذ لا يمكن أن يقف الحق من حيث هو حق، سنداً للباطل من حيث هو باطل في أي مجال من مجالات الفكر أو العمل، لأنهما يقفان في خطين متقابلين لا يمكن أن يلتقيا أبداً، ولو في بعض مراحل الطريق. وعلى ضوء ذلك، فلا يكون لهذا الحديث أي التقاء بإباحة سلوك الباطل أحياناً، كما في جواز الكذب مثلاًَ للإصلاح ولدفع قتل البريء وغير ذلك.
إن هذا الحديث يفرض أن الحق لن يحتاج إلى أساليب الباطل في صراعه الفكري أبداً، لأن طرق الحق في الإقناع لا تقف عند حدّ، ولكن عندما تلتقي القضية بالفكر الذي يريد الإسلام أن يبنيه على أساس الحق لئلا تختلط على الإنسان الألوان في رؤيته للأشياء، فإنه لا يعود يملك القدرة على التمييز بين الحق وبين الباطل، الأمر الذي يجعله يعيش الضياع في الموقف، من خلال الضياع في الرؤية. وعليه، فإن الإسلام لن يتسامح في هذا المجال باتباع أساليب الباطل مهما اختلفت الأوضاع، إلا في الحالات الضرورية جداً التي يتوقف فيها حماية الحق على إعطائه غطاءً واقياً من الاضطهاد الذي يحاول القضاء عليه جملةً وتفصيلاً، بالأساليب الوحشية التي لا تخضع للفكر ولا تستجيب لشروط الصراع وظروفه، إنه يقول لك: إن مجال الحق واسع، وحججه واضحة وأساليبه كثيرة وكبيرة، ولن يعجز الإنسان عن إدراك موقف الباطل في هذا المجال. ولذا قال اللجوء إلى الباطل يعتبر دليلاً ضعيفاً، وحينئذٍ يكون الدخول في مجال الصراع جريمة، بالأخص إذا لم تكن المعركة ذاتية، بل كانت معركة في ما يمثلون من مبادئ وشعارات وأفكار.
التعايش السلمي في الإسلام:
* ما هي القاعدة الأساسية التي انطلق منها الإسلام لإيجاد حالة تعايش سلمي بين المجتمع المؤمن به والمجتمعات الأخرى؟
- هناك قاعدة أساسية تحكم حالة التعايش بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى، وهي قاعدة التعامل مع الواقع الحياتي الذي يفرض وجود قوى أخرى تختلف مع الإسلام في فكره وشريعته ونظام حياته، وتفرض ضرورة التعامل معها، ولو في نطاق المرحلة التي قد تطول وقد تصر تبعاً لحركة الإسلام في الحياة، ما يجعل من قضية التعايش السلمي قضية حيوية لاستقرار المجتمع الإسلامي وأمنه وواقعيته، لأن لقضايا الصراع في كل مراحل الحياة ـ للرسالة وللفكرة ـ ظروفاً موضوعية قد لا تتّسع للحرب أو للحصول على النتائج العملية الحاسمة المتمثلة بحركة العقيدة، أو بحركة الواقع في نطاق المجتمعات الأخرى التي قد نلتقي بها في بعض المبادئ العامة، وإن اختلفت التفاصيل عمقاً وامتداداً.
وربما نلتقي معها في المصالح العامة بطبيعة وحدة الأرض التي نعيش عليها أو وحدة الظروف الموضوعية التي تحكم مسيرتنا في الحياة، ولهذا وجدنا خطوات الإسلام العملية تختلف في بداية الدعوة عنها في نهايتها مع المشركين، من المهادنة إلى الحرب إلى الصلح الذي انتهى بفتح مكة الذي أنهى كل وجود للمشركين في المنطقة الإسلامية ـ وهكذا في موقفه من أهل الكتاب وتمييزه بين النصارى واليهود فيما عبّرت عنه الآية الكريمة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}(المائدة/82-83).
وقد نلتقي ببعض الآيات القرآنية التي تفرّق بين الفريقين اللذين يختلف حال كل منهما مع المسلمين من حيث الموقف العدواني أو السلمي، وذلك هو قوله تعالى: {عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة/7-9).
وبقدر ما نستطيع استيحاء هذه الآية فيما يتعلق بالموقف الإسلامي من المحايدين الكافرين الذين لا يقومون بأي عمل عدواني ضد المسلمين بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن إيحاء الآية القرآنية بتولي المسلمين لهم لا يتناسب مع اعتبار الحرب أساساً للعلاقة العامة معهم... ولا بدّ من التأكيد في هذا المجال، على أن هذا كله خاضع لاعتبارات المصلحة الإسلامية العليا في قضايا السلم والحرب، أو في الخطّة العامّة لحركة الإيمان في مواجهة الكفر.
وخلاصة الفكر التي نشير إليها في هذا الجواب، أن الإسلام يؤمن بالتعايش السلمي مع الأديان الأخرى أو العقائد الأخرى، في نطاق حاجة الواقع بالمستوى الذي لا يمس سعيه الدائب من أجل الوصول إلى سيطرته على نظام الحياة من جهة، ولا يسيء إلى مفاهيمه العامّة من جهة أخرى. وبذلك كانت أساليب التعايش السلمي في التشريع الإسلامي وفي التطبيق العملي في حياة النبي محمد(ص) الذي تعتبر سيرته العملية شريعة للمسلمين في واقعهم العملي، مثالاً للمرونة وتجسيداً للحكمة التي انطلقت الدعوة في خطها المستقيم، سواء في ذلك مجال التبليغ أو مجال الواقع المتحرك الذي جاء الإسلام من أجل أن يعلم الناس كيف يتعاملون معه بالحكمة.
العنف في مجتمعنا:
* ما موقف سماحتكم من مسألة العنف في العالم العربي الذي قد ينسب إلى بعض الحركات الإسلامية؟
- أنا أنكر أن العنف ولد أو امتدَّ مع الحركات الإسلامية، بل هو غربي المنشأ... فالغرب هو الذي خاض الحروب الصليبية ضد الشرق الإسلامي، وهو الذي استعمر البلاد الإسلامية وبلدان العالم الثالث وأفقرها.
ولذلك فإن الحركات الإسلامية كانت تتحرك دفاعياً، ولكن الغرب الذي يملك إعلاماً متقدماً في المواقع الفكرية والسياسية وغيرها، حاول أن يُسلط الأنظار على العنف، الذي هو رد فعل، ليقدمه كفعل، ولم يسلط الضوء على العنف الذي بدأ.
أما في مسألة التاريخ، فإن من الطبيعي أن العنف كان يتحرك في البلاد العربية من خلال طبيعة التقاليد العربية في العرف... ولكن الإسلام شرع الجهاد، وعندما نقرأ الجهاد في الإسلام نقرأه جهاداً في سبيل المستضفعين الذي يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}(النساء/75).
ونقرأ جهاداً ضد الذين يقاتلوننا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}(البقرة/190)، وضد الذين يفتنوننا عن ديننا {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}(البقرة/193).
إن الجهاد الإسلامي هو جهاد وقائي في بعض مواقعه، ودفاعي في مواقع أخرى، وليس عدوانياً... الإسلام هو دين الرفق الذي ينتهي عندما يفرض الآخرون عليه العنف. وهذا هو قول الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصِّلت/34).
وهكذا نقرأ في حديث رسول الله(ص) عن الرفق: «ما وُضعَ على شيء إلا زانه، وما رُفعَ عن شيء إلا شانه»([1002])، و«إن الله رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف»([1003]).
الحرية للباطل:
* لماذا لا نعطي للباطل حريته في التعبير؟
- ليس هناك موقف واحد من حركة ما نراه باطلاً، فقد نعطي الباطل قوته عندما نمنعه حريته، ولذلك قد نسمح له بالحركة، ثم نأخذ حريتنا في مناقشته بالأساليب العلمية الموضوعية، عندئذٍ سينكمش ويأخذ مكاناً صغيراً له في الساحة.
أعط الحرية للباطل تحجّمه، وأعط الحرية للضلال تحاصره، لأن الباطل عندما يتحرك في ساحة من الساحات، فإن هناك أكثر منم فكر يواجهه، ويمنعه من أن يفرض نفسه على المشاعر الحميمة للناس، فيكون مجرد فكر، قد يقبله الآخرون وقد لا يقبلونه، ولكن إذا اضطهدته، ومنعت الناس من أن يقرأوه، ولاحقت الذين يلتزمونه بشكل أو بآخر، فإن معنى ذلك أن الباطل سوف يأخذ معنى الشهادة، وسيكون (الفكر الشهيد) الذي لا يحمل أية قداسة للشهادة، لأن الناس يتعاطفون مع المُضطهدين سواء مع الفكر المضطهد، أو مع الحبّ المضطهد، أو مع العاطفة المضطهدة.
بعض الناس، سواء كانوا سياسيين أو علماء دين أو مثقفين، لا يحبّون أن يتعبوا في مواجهة الفكر الآخر، ولذلك فهم يحبون أن يقمعوا الفكر الآخر ليرتاحوا من الجدل والمجادلين، ومن الحوار والمحاورين، وبعض الناس لا يحبون أن يدخلوا في مواقع الحوار، ولذلك فإنهم يضطهدونك لأنهم لا يريدون أن يتعبوا في مناقشتك.
إنني أتصور أن الإنسان الذي يملك قوة الانتماء لفكره، هو إنسان لا يخاف من الفكر الآخر... لأن الذين يخافون من الفكر الآخر، هم الذين لا يثقون بأفكارهم، وهم الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عنها... لذلك، لينطلق كل إنسان ليدافع عن فكره في مواجهة الفكر الآخر، ولن تكون النتيجة سلبية لصاحب الفكر في هذا المجال.
الإمام زين العابدين(ع) في فقرة من بعض أدعيته يقول في دعائه لله: «ولقد علمت أنه ليس في حُكمك ظلم، ولا في نَقمتِك عجلة، وإنما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علواً كبيراً»([1004])، إنه يريد أن يقول: الأقوياء لا يَظلِمون، لأن القوي يستطيع أن يصل إلى ما يريد من خلال حركة قوته التي تمثل غناه فيما هي مسألة مشاريعه في الحياة، إن الذي يظلمك هو الذي يخاف منك، فالدولة تظلم شعبها لأنها تخاف من شعبها، والظالم يظلم الناس لأنه يخاف من ثورتهم عليه. وهذا لا يعني أن يسمح للباطل في التغلغل في حياة الناس، بل يعني العكس تماماً.
الدين والقانون:
* ما هو مفهوم الدين، وما الفرق بينه وبين القانون؟
- الدين هو عبارة عن الالتزام العقيدي والشرعي والمفاهيمي والحركي الذي ينطلق من خلال الرسالة التي يُوحى بها من قبل الله سبحانه، طبعاً، وهو حق. والدين ليس مجرد عقيدة، بل عقيدة وعبادة، والدين الإسلامي يُعتبر حالة مدنية أيضاً، باعتبار أنه يشتمل على القانون الذي يُنظم للإنسان كل شؤون حياته العامة والخاصة.
أما ما هو الفرق بين الدين والقانون؟ الواقع أن القانون هو جزء من الدين، ولكن قد يكون هناك قانون ديني كما هو القانون الإسلامي، وقد يكون هناك قانون غير إسلامي كالقانون المدني والوضعي الذي وضعه الناس ليتناسب مع حاجاتهم ورغباتهم... فالدين ليس شيئاً بعيداً عن القانون، لأنه يختزن القانون في داخله، كما يختزن العبادة، ويختزن العقيدة.
الحزبية والتعصب:
* ما هو ردُّكم على من يقول بأن الحزبية هي أسلوب يؤدي إلى تفتيت المجتمع وتقسيمه؟
- في الواقع ليست المسألة هي الحزبية بحد ذاتها، بل العصبية التي تفتت المجتمع، والذين يتحدثون بهذه اللغة يواجهون الحزبيات المتعصبة، ونحن نعتبر بأنه ليس هناك فرق بين التعصب للحزب أو التعصب للشخص، فإننا نجد بعض الناس يدعون الناس إلى التعصب لهم، ولكنهم يتحدثون بسلبية عن تعصب الناس للحزب، ومن الطبيعي أن تعصب الناس للشخص يحوِّل المسألة إلى مسألة عبادة الشخصية، ولا سيما إذا كان الشخص لا يمثل امتداداً للواقع الإسلامي العام أو الاجتماعي العام.
لذلك نحن نقول إن هناك فرقاً بين أن يتحدث المتحدث عن رفض الحزبية أو رفض العصبية، سواء كانت عصبية حزبية أو طائفية، أو شخصانية، أو ما إلى ذلك.
الأعياد في حياتنا:
* ما هو تعليقكم على من يجعلون من ذكرى الأعياد مناسبة للانطلاق بأجواء التحلل والفسوق وما إلى ذلك؟
- عندما ندرس فكرة العيد في الإسلام، الذي يتمثل في مناسبتين، فإننا نجد أن العيد في الإسلام ينطلق من قاعدة الطاعة لله والإخلاص له، والإسلام له والنصيحة في سبيله، فإذا التقينا بعيد الفطر، نجد أنه بعد قيام الإنسان بمسؤولية الصيام خلال شهر رمضان وقيامه، فالإنسان يحتفل بيوم العيد، لأنه وفِّق لطاعة الله سبحانه وتعالى في ما فرضه عليه من صيام هذا الشهر، وفيما أراد له من قيام، وهذا ما عبر عنه أمير المؤمنين(ع) وهو يتحدث عن عيد الفطر «إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد» إذا! لا بد في هذا العيد، الذي هو عيد الاحتفال بالطاعة والتوفيق لها، من أن يكون لله بكلّه في كل تقاليده وفي كل عاداته، وفي كل ممارسة الناس للفرح فيه، ولا بد أن يكون متحركاً في كل مفرداته في طاعة الله سبحانه وتعالى... فمن يعصي الله في هذا العيد فهو بعيد عن معنى العبيد وعن روحيته، وهو حربٌ على كل معاني العيد.
أما عيد الأضحى فهو عيد القربان، وهو العيد الذي يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان فيه أن يقرب قربانه إليه بذبح الكبش قربة إليه، فقد كان العيد يرمز إلى قصة إبراهيم وإسماعي(ع) التي حدثنا عنها في القرآن: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ}(الصَّافات/102-110).
فنحن إذاً نفهم هذا العيد بما يمثل الرمز القرباني للقربان الذي قدمه إبراهيم(ع) في استعداده لذبح ولده، والقربان الذي تمثل في إسماعيل(ع) عندما أبدى استعداده لتقديم نفسه للذبح قربة إلى الله تعالى، ما يعني أن عيد الأضحى هو عيد للإسلام لله. فمعنى عيد الأضحى هو معنى أن يحتفل الإنسان فيه بمناسبة إسلامه، وأن يكون عمله قريباً من الله، وأن يصعد إلى درجات القرب من الله سبحانه وتعالى، ومن الطبيعي أن مثل هذا العيد لا بد أن يكون عيداً يعبر عن حركة الإسلام في واقع الإنسان في كل كلماته وأقواله وتصرفاته.
وعليه، لا بد أن تكون الأساليب المتبعة في الأعياد متناسبة مع الأجواء الروحية والإنسانية التي لا تبتعد عن الله بل تُقرّب إليه، ليكون الفرح فرح الإنسان بنعمة الله وبعناصر السعادة التي يمنحها للإنسان.
الرمز الحرام في الأدب:
* هل في التغزل بأوصاف الخمرة في الشعر ما يبرر إسلامياًَ؟ وهل يعتبر ذلك لوناً من التجري أو الترغيب بما نهى الله عنه؟
- ليس محرماً في ذاته، لا سيما إذا كان رمزاً لبعض المعاني العرفانية ولكنه قد يحرم إذا كان في ذلك تشجيع وترغيب في الخمرة، باعتبار أنه يمثل مدحاً للمنكر وللحرام، وعلى أي حال، فإن الإسلام لا ينفتح على مثل هذا الأسلوب على مستوى الرمز، لأن الله إذا حرم شيئاً للمفاسد الكامنة فيه، فإنه يريد للناس أن يبتعدوا عنه ويبعدوا بعضهم بعضاً عنه بكل الأساليب، ما يجعل من ذكرها في الشعر والنثر كشيء محبوب للنفس، وهذا أمر مرفوض من الله الذي يريد للمؤمن أن يحب ما يحبه، ويبغض ما يبغضه من الأشخاص والأشياء الأفعال.
وهذا ما ينبغي للمؤمن الأديب أو العارف أن يلتفت إليه، فيعمل على إبعاد الخمرة عن شعره ونثره على مستوى الصراحة أو الرمز، لأن المؤمن لا بد من أن يكون أسلوبه في التعبير منسجماً مع خطه في الإيمان.
حدود الأديب في التعبير:
* هناك أوصاف ـ خصوصاً في الغزليات ـ ترقى بالمعشوق إلى درجة المعبود، ماذا تقولون بهذا اللون من الوصف؟
- لا يجوز ذلك من الناحية التعبيرية، لأن الله يريد أن يكون موحَّداً بالمضمون الفكري، كما يريد له أن يكون موحداً في الشكل التعبيري، بحيث لا يكون التعبير منافياً للتوحيد العقيدي، حتى لو لم يقصد الشرك فيه، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(يوسف/106). وعن الإمام جعفر الصادق(ع): قال: «الرجل يقول: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا ولضاع عيالي، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه، وقال الإمام(ع): عليه أن يقول لولا منّ الله عليّ بفلان لهلكت»، وورد في الحديث عن الإمام الباقر(ع) فيما رواه زرارة عنه، قال: سألت أبا جعفر محمد الباقر(ع) عن قول الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}، قال إننا نستوحي من ذلك أن التعبير الذي يوحي بالشرك مرفوض في القرآن حتى لو لم يكن المتكلم قاصداً له، وعلى ضوء ذلك، فإن توجيه العبادة لغير الله، حتى لو كان على نحو المبالغة، لا يتناسب مع صفاء التوحيد العقيدي في الإسلام، وربما يكون الأساس في ذلك أن الناس إذا اعتادوا على التعابير المنفتحة على الذهنية الوثنية، فإنهم يقد يتأثرون بذلك، بحيث يعيشون الوثنية بطريقة لا شعورية، الأمر الذي ينبغي أن يبتعد عنه الشاعر والأديب والمسلم.
دور المرأة في المهجر:
* ما هو رأي سماحتكم في دور المرأة المسلمة، وتحديداً في دول المهجر، حيث لا نشاهد هذا الدور؟
- أنا أعرف بعض النساء في المهجر يعملن عملاً إسلامياً جيداً في التوعية والإرشاد، وهن مثقفات ومتعلمات، ولا أتفق مع السائل في قوله (لا نشاهد هذا الدور)، أعرف هذا الدور في أكثر من بلد، ولكن المشكلة هي قلة النساء المتعلمات والمثقفات إسلامياً. وعلينا أن نشجع النساء كما نشجع الرجال، خصوصاً في بلاد الاغتراب، حتى نستطيع أن نحفظ أولادنا ونحفظ أنفسنا والأجيال القادمة.
دور المسلم في مواجهة الإعلام الاستكباري:
* ما هو رأي سماحتكم في دور المرأة والرجل في مواجهة الهجمة الإعلامية على الإسلام في هذه الدول؟
- قال تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ}(التوبة/71)، الدور هنا نفس الدور هناك في كل القضايا، المرأة ليست مخلوقاً ناقصاً، فكما أن الأبوّة لا تحبس الرجل في زنزانة، كذلك الأمومة لا تحبس المرأة في زنزانة. هناك مجال للمرأة أن تعمل في أوقات فراغها، كما أن هناك مجال للرجل. وعليهما أن يتعاونا في خدمة الإسلام كما يتعاونا في خدمة أولادهما.
الحريات في الإسلام:
* هل هناك حريات في الإسلام، وما مدى هذه الحرية من حيث حرية الاعتقاد والعبادة والتقليد والتعامل مع الآخرين؟
- إذا لم تكن هناك حريات فكيف أعطى الإسلام أهل الكتاب الحرية ضمن معاهدة معينة، وكان لليهود في المجتمع الإسلامي حرية. نعم، هذه الحرية ضمن القانون الإسلامي، كما المسلم مقيد به.
العاطفة الشخصية:
* ألا ترى أنكم في مناقشتكم في مسألة الحب والكراهية، قد ذهبتم إلى أكثر من المتعارف، ألا ترى أن الإسلام ترك فسحة لا بأس بها للعواطف كعواطف ذاتية؟
- إن الإنسان بلا عاطفة ليس إنساناً، ولكن الجواب عن السؤال ذو شقين، الأول: هناك معادلة أذكرها كثيراً، وهي أن علينا أن نعطي العاطفة جرعة من العقل لتتوازن، وعلينا أن نعطي العقل جرعة من العاطفة ليرقَّ ويلين. والأمر الثاني: هناك حديث للنبي(ص) يقول فيه: «إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل»، أي عندما أحب فإني لا أعطي من أحب أكثر مما هو فيه. المحبة يجب أن تقف عند الأمور الواقعية، «وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن قول الحق»([1005])، فإذا أعطيت شخصاً فلا تتكلم فيه على خلاف الواقع، فقد قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة/8)، ولكن المشكلة أننا إذا أحببنا شخصاً عبدناه وإذا أبغضنا شخصاً أنزلناه إلى الحضيض، متنكرين للقرآن وللسنة والشريعة.
مسؤوليات المرأة:
* قيل قديماً إن البيت عالم المرأة وليس على المرأة من المسؤولية إلا البيت فقط، أما الآن فإننا نرى أن المرأة قد خرجت وشاركت الرجل في جميع المجالات. ما هي حدود عمل المرأة حسب رأيكم؟ وهل لها العمل خارج البيت؟ وهل هناك جانب سلبي قد يؤدي إلى إفساد المرأة خارج المنـزل؟
- إن القرآن الكريم يقول: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ}(التوبة/71)، والمعروف يشمل كل الحياة، من النشاط السياسي والاجتماعي والثقافي والتربوي، والمنكر كذلك. وهذا يعني أن المرأة والرجل سواء في حمل المسؤولية في إقامة المعروف وفي إسقاط المنكر، وفي إقامة الحق وفي إزهاق الباطل بكلِّ مفرداته الأخلاقية والتشريعية والسياسية، هذا أولاً. وثانياً: فإننا نرى أن الله حدثنا عن ملكة سبأ وقدَّمها لنا على أنها أعقل من الرجال، فعندها جاءها كتاب سليمان جمعت قومها {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}(النمل/32)، وهذه ملكة تستطيع أن تعمل ما تشاء ولا تحتاج إلى قومها، ومع ذلك فإنها لم تصدر قراراً إلا بعد أن جمعت كل شيوخ قومها، الذين يملكون الفكر {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، وكان منطقهم منطق القوة، في وقت كانت ترجو الوقوف على عقولهم، وقد عرضوا عضلات سواعدهم {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} نحن أبطال {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} فكان لها الرأي في مقابل منطق القوة {قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ}، ثم إنها وقد وصلت إلى سليمان(ع)، وفكرت في ما عرضه عليها وقالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ}، أي أن إسلامها مع إسلامه ولم تكن تبعاً له {للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}(النمل/29/44).
وقد قدّم الله لنا نموذج المرأة هذه وهي في مستوى الحكم وقد بدت أرجح عقلاً من الرجال، وبذلك ننفي هذه النظرة الدونية للمرأة التي درجنا عليها. فصحيح أن الأمومة تعتبر مسؤولية المرأة بالحمل والإرضاع والحضانة، ولكن يبقى هناك فراغ تستطيع معه أن تعمل وتتثقف، فإنّ «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» وهل تلغي الأبوَّة للرجل مسؤولياته الأخرى خارج إطار الأبوَّة؟! ثم إن هناك نقطة قد لا يرضى عنها الرجال، وهي أن الإسلام في كل تشريعاته لم يكلف المرأة بأي شأن من شؤون البيت، حتى الإرضاع، بل يجوز لها أن تطلب من الرجل بإزائه أن يعطيها الأجرة عليه، كما في إرضاع ابنها، إلا إذا طلبت أجرة كانت أعلى مما تطلبه المرضعات {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}(الطَّلاق/6). وقد قرأت قبل أكثر من عشرين سنة أو أكثر في مجلة آخر ساعة المصرية، أنه عقد مؤتمر في الغرب حول عمل المرأة في البيت، وأنه هل يستحقُّ أجراً أو لا؟! وقد علقت في ذلك الوقت فقلت لهم: إن الإسلام لم يفرض على المرأة أن تعمل في البيت، وهي إن عملت فإنها تعمل من باب التبرع والتطوّع، وإلا فإنها غير مسؤولة شرعاً. نعم، يستحب لها ذلك، وهذا جانب أخلاقي بمعنى أن تعطي ما لا يجب عليها، وعند ذلك يفهم الرجل مقدار تضحية المرأة وهي تربي الأولاد وكل ما يتصل بإدارة المنـزل.
لكن أصبح التفكير عند الرجل ينبع من التعالي، فينظر وكأنه طاووس، وقد وصلت الأمور بمجتمعاتنا أن تغفل أسماء النساء ترفعاً، وأصبح التعرف على اسم المرأة عيباً، مع أن أشرف النساء، وهي فاطمة(ع) وقد عرف اسمها، وكانت تخاطب به، وكذلك زينب(ع) وأم كلثوم، فلو كان عيباً فكيف صحَّ ذلك، إن هذه النظرة الدونية لا تنسجم مع الإسلام، وهي ليست من الإسلام في شيء، بل هي نتاج التخلف والأفكار الجاهلية، حتى أننا نجد اليوم من يحرم النساء من الإرث بالقوة وبطرق عديدة.
وأما الأخلاق فإنها ليست ضريبة على المراة فقط، بل هي قيد على المرأة والرجل، فكما لا يجوز للمرأة أن تعمل في جوٍّ غير أخلاقي أو تعمل عملاً محرماً، كذلك الرجل لا يجوز له ذلك.
مسؤولية الآباء:
* يسهم بعض الآباء والأمهات في إضلال أبنائهم، فإذا كبر الأبناء واختاروا طريق الصلاح، فهل يتحمّل الآباء بعضاً مما كان على أبنائهم من اتّباع الهوى؟
- طبعاً، إذا قصروا أو أنهم أسهموا في ذلك فإنهم يتحملون المسؤولية.
الإنسان وسلطان البيئة:
* إذا كان الإنسان ابن بيئته وليس له إلا أن يتأثر بواقعه شاء أم أبى، أليس مخالفة واقعه تكليف بغير المقدور، وهذا ما نراه منطبقاً على أكثر البشر؟
- البيئة لا تشل حركة الإنسان، ولذلك قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ}(التَّحريم/11)، فقد عاشت زوجة فرعون في بيئة فرعون فكيف تمردت عليها؟ وهناك العديد من الناس عاشوا في بيئة سيئة ولكنهم اختاروا الصلاح، ونموذج الحر بن يزيد الرياحي نموذج قائم؛ ألم يتجمع بالحسين(ع) ويجعجع به؟ ولكنّه ذو أصالة وكان حر الإرادة، فكَّر واهتدى. وكان الناس مشركين وقد دخلوا الإسلام وكانت بيئتهم بيئة شرك فكيف دخلوا الإسلام وقد كان النبي(ص) وحده؟ ونحن نلاحظ في واقعنا الكثير من الناس الذين عاشوا في بيئة سيئة وصاروا من أفضل الصالحين، ونجد أناساً على العكس من ذلك. {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}(التَّحريم/10). ولذلك فإن البيئة لا تشلُّ حرية الإنسان. نعم، قد تؤثر وتضعف الإرادة، وهو حرّ في تجاوز هذا الضعف، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}(العنكبوت/69).
الموت قاهرين:
* ما معنى قول الإمام علي(ع): «الحياة في موتكم قاهرين»([1006])؟
- يعني إذا كنتم تواجهون التحدي بالجهاد وتقهرون الأعداء وتموتون فأنتم أحياء وإن كنتم أمواتاً، لأن هذه هي الحياة الحقيقية، أما الحياة مع الذلّ فهو الموت، ولذلك قال الإمام(ع): «والموت في حياتكم مقهورين».
حالة الفراغ والبطالة في البلدان الإسلامية:
* بعض شبابنا في مختلف البلدان الإسلامية تفرض عليهم حالة الفراغ والبطالة، وذلك من خلال الظروف الاقتصادية التي يعيشها هذا البلد أو ذاك، معنى ذلك أنهم مستبطلون. فما هو السبيل العملي للقضاء على هذه الحالة؟
- ذلك صحيح، فافرض أنه لا يحصل على عمل فليستمر بالبحث عن عمل، ثم أنّه يستطيع من خلال ذلك القراءة، ويقدر أن يتعلم، ويقدر أن يشغل نفسه بعمل اجتماعي، أو بعمل سياسي في القضايا الحيوية المصيرية، لا يعني الفراغ فراغ العمل المادي، بل يمكن أن يثقّف نفسه، ويمكن أن يحضر مجالس الموعظة، يتعبد، يقرأ القرآن، يشارك في الأعمال الاجتماعية، يجلس مع أولاده، مع عائلته، فالمهم أن لا يكون بطالاً، لأن البطالة نسبية.
الانشغال بأمور الآخرة:
* إذا كان العمل بعض الأحيان قليلاً أو غير متوفر، وكان الاهتمام بأداء الفرائض ـ مثلاً ـ أو المحافظة على أمور الآخرة أي الزهد بالدنيا لحساب الآخرة، فهل يكون صاحب الشأن مقصراً مع العلم أنه لم يكن عالة على غيره؟
- ليست المسألة أن يصلّي الإنسان ويصوم فقط، الإنسان لديه مسؤوليات في الحياة، مسؤوليات عن عائلته من ناحية مادية توجب عليه أن يعمل، وقد ورد عندنا أن ليس الزهد في الدنيا، أن لا تملك الدنيا بل أن لا تملكك الدنيا، قد يوجد غني وهو زاهد، هذا ليس لديه مشكلة حتى لو ذهبت الدنيا عنه، وآخر فقير ولكنه أكثر الناس حرصاً على الدنيا. الزهد حالة نفسية كما يقول الإمام(ع): «جمع الله الزهد في كلمتين: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ}(الحديد/23)، أي تُقبل على الحياة كما هي. وعليه، يمكن لهذا الإنسان أن يشتغل في قضايا أمته السياسية والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك. وينقل عن النبي(ص) وعن الإمام الصادق(ع) «أنه سأل: أين فلان؟ فقالوا: هو في البيت يعبد ربه. قال: من يقوته؟ أي من يصرف عليه؟ ـ قالوا فلان... قال: هو أعبد منه»([1007]). فلم يقل الإمام(ع) أفضل منه، يعني هذا الذي عمله في إعانة الآخرين، بل هو أكثر عبادة من هذا الذي يقضي وقته يحضر جماعة ويقرأ القرآن. الدنيا تريد هكذا وهكذا... {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(البقرة/201). توازن بين الدنيا والآخرة.
ميزان الخرافة والتخلف:
* تذكرون مراراً الخرافة والتخلّف وبعض الأقوال والسلوكيات، فما هو الميزان للخرافة والتخلف؟
- التخلّف هو كل شيء يرجع الناس إلى حالة الجهل والسقوط، ويمنعهم من التقدم والإبداع والانفتاح على الناس وعلى الحياة ومواجهة المتغيرات.
أما الخرافة، فهي الأشياء غير المعقولة، والذي لم تثبت بالدليل، ونحن لا ننكر الغيبيات، ولكن الغيبيات لها قاعدة، وليس كلُّ شيء غيباً، انظر إلى الأنبياء، فالنبي موسى(ع) لم يعطه الله إلا المعجزات مع فرعون، وبعد فرعون لم يعطه أية معجزة، والنبي نوح(ع) ليس عنده إلا معجزة الطوفان الذي حصل في آخر حياته. وإبراهيم(ع) كذلك عدا {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(الأنبياء/69)، فالنبي(ص) عندما قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا}(الإسراء/90)، قال: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}(الإسراء/93). الله لم يعطه كل هذه القدرات. بعض الناس يحاول أن يجعل كل شيء غيباً، وهناك أشياء لا تنسجم مع طبيعة الأمور، هناك أشياء ليست ثابتة. مشكلتنا أن الكثير من الناس الذين يصعدون المنبر، سواء كانوا خطباء أو غير خطباء، يأتون بالأحاديث التي ليس لها أساس، وليس لها سند، ولا معقولة كليةً، ومن الخطأ أن يصعد المنبر مَنْ كان غير مثقَّف ثقافة إسلامية واعية، لأن مثل هذا كمن يرشُّ مكروبات على الناس، ومشكلتنا أننا نواجه التخلف بنحوٍ يعزلنا حتى عن الإسلام.
الفهم الخاطئ للدين:
* ألا ترون أن النصوص التي تدعو إلى نبذ الحياة شكلت عقبة كبيرة في واقع المسلم وأدت إلى تأخره على أساس أننا ما خلقنا للحياة بل خلقنا للآخرة، إن هذا التخلف بسبب فهمنا الخاطئ لهذه النصوص؟
- المشكلة أن بعض الناس يفكرون بالإسلام ويقرأون نصوصه من قبيل {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}(البقرة/85)، فكما أن الله أراد لنا أن نزهد بالدنيا أراد لنا أن نأخذ بأسباب الدنيا، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ}(الأعراف/32)، وهكذا أرادنا الله أن نعمل وأن نعمّر الأرض، وقد سأل النبي(ص) فيما يروى عنه: «أين فلان؟ قالوا: في البيت يعبد ربه، قال: فمن يقوته؟ قالوا: فلان، قال: هو أعبد منه» وقد أراد الله لنا أن نعمل ولكن مع الضوابط التي رسمها لنا. وقد ورد أن «العبادة عشرة أجزاء أفضلها طلب الحلال»، وسئل الإمام الصادق(ع) «قال الراوي: ما الزهد في الدنيا؟ قال ويحك حرامها فتنكبه»([1008])، أي اجتنب الحرام تزهد في الدنيا وقد «جمع الزهد في كلمتين {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ}(الحديد/23)، لأن الزهد حالة نفسية والله يبغض العبد البطّال.
العلم ـ حجاباً:
* كيف يمكن للعلم الذي هو نور أن يكون حجاباً للنفس يمنع من الحق؟
- عندما يعيش الإنسان العلم في الجانب الأناني ولا يعيشه في الجانب الرسالي فإنه يكون حجاباً. أما إذا عاش الإنسان وانفتح على العلم فيما يؤدي إليه العلم فإنه يكون نوراً.
الهم الإسلام والهم الخاص:
* هل التنازل عن الهم الإسلامي العام للهم الإسلامي الخاص كالتفكير بالعراق فقط، يُعدّ عن القيم الإسلامية؟
- لا يستطيع الإنسان المسلم أن يفكّر بالهمّ الإسلامي الخاص من دون التفكير بالهم الإسلامي العام، فمثلاً مشكلة العراق هي كأي مشكلة في العالم الإسلامي، فهي مشكلة الاستكبار العالمي، وهي ترجع إلى التدخلات الأمريكية وغير الأمريكية، وما إلى ذلك. ولا توجد عندنا قضية في الشرق منفصلة عن قضية أخرى. لذلك لا نستطيع أن نفهم القضية العراقية إذا لم نفهم قضايا المنطقة، ولا نستطيع أن نفهم قضايا المنطقة إذا لم نفهم القضايا الدولية. إذاً يجب أن يكون فهمنا فهماً سياسياً وليس عاطفياً، وربما يقول البعض إن أمريكا سوف تخلِّصنا من صدّام، ولكن الأمر كما يقول الشاعر:
المستجير بعمر عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقد سمعتم مني في هذه الندوة وغيرها مراراً، أنه يجب أن نحمل فهماً سياسياً، وأن لا نحمل شعارات جوفاء، ويجب أن نفهم خلفيات المسألة. أمامنا الآن أمريكا وهي تعمل ما تعمل في فلسطين، هل يعقل أن تنقذنا في العراق؟ إنّما نعمل لحسابها وليس لحسابنا، ولذلك يجب أن ندرس المسألة جيداً. نعم، نستعين بقوة خارجية، بمعنى أن نستثمر بعض الأوضاع، لكن نحن الذين نعمل وليس هم الذين يعملون لنا وعنَّا. لأن أمريكا ليست جمعية خيرية ولا غيرها من الدول جمعيات خيرية، لأنه لا توجد في الدنيا دولة تلبس لبوس جمعية خيرية. فكل واحدة من هذه الدول تعمل لحسابها ولا تعمل لحسابنا.
عادات جاهلية:
* بعض القبائل لا تزوِّج بناتها إلا من رجال القبيلة ذاتها، بدعوى أن شرف القبائل الأخرى لا تضاهي شرفها، فما هو تعليقكم؟
- ورد في الحديث: «خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً»([1009])، فإن الله سبحانه وتعالى لم يجعل أحداً أشرف من أحد في هذا المجال، كل إنسان يحمل شرفه على كتفه، وهل يوجد أشرف ممن ينتمون إلى رسول الله(ص). اسمعوا كلمة إمامنا أمير المؤمنين(ع) يقول في نهج البلاغة: «إن وليّ محمد(ص) من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد(ص)من عصى الله وإن قربت لحمته»([1010])، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}(آل عمران/68). ويقول أبو فراس الحمداني
كانت مودة سلمان لهم رحماً ولم تكن بين نوح وابنه رحمُ
وقد قال(ص): «كلكم من آدم وآدم من تراب»([1011])، وقال(ص): «لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى»([1012])، فكل هذه المظاهر من الجاهلية، وبعض الناس للأسف يقول إن العلوية لا يجوز لها أن تتزوج من أحد من العوام. ونحن نعرف أن سيرة المسلمين الأوائل على خلاف ذلك، وقد تزوجت بنات الهاشميين من غير الهاشميين.
نحن وحركة الزمان:
* قال الإمام علي(ع): «الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما»([1013])، ما معنى هذا الحديث؟
- إن الليل والنهار يعملان فينا كل يوم، فيأتي النهار ثم يعقبه ليل وهكذا، وكل واحد منهما يأخذ من عمرنا، الإنسان يكون طفلاً ثم شاباً، وكما قال الشاعر:
أَشَابَ الصغيرَ وأفتى الكبيرَ كَرُّ الغداةِ ومَرُّ العشيِّ
من الذي يجعل الطفل شاباً ويجعل الشاب شيخاً ويجعل الشيخ ميتاً. وللإمام علي(ع) كلمة يقول فيها: «من كان مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفاً»([1014])، وإذا أردت أن تستوحي المسألة بشكل جيد فانظر إلى (الروزنامه)، فإنك كل يوم تقطع ورقة، وبهذا تقطع في كل يوم ورقة من عمرك، ولذا نقول إن الإنسان يموت في كل يوم موتة، لأنه يتجه إلى الموت، ولذا يقولون إن أكبر ما يكون الإنسان عمراً في يوم ولادته، ثم يسير إلى الفناء وينقص من عمره شيئاً فشيئاً، فالإمام علي(ع) حسب هذه الكلمة يقول إنهما يعملان فيك، فيعني يفنياك، فاعمل فيهما ما يجعلك حيّاً عند الله سبحانه وتعالى، أي اعمل فيهما الخير.
علم النفس الإسلامي:
* إن علم النفس يعتد على فلسفة مادية بحتة، والحاجة ماسّة إلى علم نفس يعتمد على فلسفة إلهية ونظرة قرآنية، فهل يوجد في المكتبة الإسلامية ما يسد هذه الثغرة؟
- نعم، يوجد عندنا رؤية إسلامية في مثل هذا المجال، وبعض المفكرين الإسلاميين كتبوا في علم النفس الإسلامي، وذلك في محاولة فهم النفس الإنسانية من خلال المنظور الإسلامي، والمرتكزات الفكرية الإسلامية لسبر أغوار الشخصية الإنسانية.
الجهاد في الإسلام دفاعي أم ابتدائي:
* بنظركم، هل الجهاد في الإسلام دفاعي أم ابتدائي؟
- دفاعي وابتدائي معاً، ولكنه في هذه الأيام دفاعي ووقائي، لأنه ليست هناك أية فرصة للجهاد الابتدائي. هذا على مستوى القوة المادية، أما على المستوى الفكري، فإن على المسلم أن يدعو العالم إلى الإسلام دائماً وأبداً، لأن مهمتنا أن نؤسلم العالم. وهذه هي مهمة النبي(ص): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(سبأ/28)، و{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(الأعراف/158) ، وهي مهمتنا أيضاً، وفي أن نؤسلم العالم، غاية الأمر أن يكون بذلك بالحكمة والموعظة الحسنة وبكل الوسائل التي نملكها.
الاستشهاد بأقوال غير المسلمين:
* هل يجوز الاستشهاد بكلمة أو بيت من الشعر مثلاً لشخصيات ملحدة أو كافرة أو ظالمة في مناسبات الحديث لتوضيح أمر معين أو لتقريب فكرة معينة، لا سيما وأن الرسول(ص) استشهد ببيت شعر لدريد بن الصمة، حيث قال مخاطباً دريد الذي قتل على يد المسلمين في إحدى المعارك؟
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد؟
- في المأثور: «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها»، فإذا كانت هناك حكمة لكافر أو غير مسلم، فإنها يمكن أن تكون موضع الاستشهاد أو الاستئناس وغير ذلك.
التعايش مع بقية الأديان:
* كيف يمكن التعايش مع بقية الأديان، مع العلم أن الأديان الأخرى لا تسير على ضوء قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}(آل عمران/85)؟
- لقد تعايش الإسلام مع الأديان وقبل العيش مع أهل الكتاب، واحترم اليهود منذ هجرة النبي(ص) إلى المدينة، فعقد معهم النبي(ص) معاهدة أدخلهم وفقاً لها في نسيج المجتمع الإسلامي، وحتى الآن لم نحاول إخراج اليهود عن دينهم أو النصرانيين عن نصرانيتهم، بل حددنا لهم نظاماً معيناً نحترم فيه حرياتهم في دينهم إلى جانب النظام الإسلامي، وأن نتعايش مع الآخرين فهذا لا يعني أنه من الضروري أن نتفق معهم، بل أن توضع قواعد للتعايش بين أصحاب الديانات المتعددة، وأما الآية المذكورة {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ}(آل عمران/19)، بمعنى أن الإسلام هو التسليم لله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة/131)، ففي زمن إبراهيم كان الإسلام يتمثل بشريعة إبراهيم، وفي زمن موسى أو عيسى(ع) كذلك.
وفي زمن النبي(ص) وما بعده، فالإسلام يتمثل بهذه الرسالة، فالمقصود هو مفهوم الإسلام، وإنما لم يقبل منهم لأنهم مأمورون بالإسلام في صيغته النهائية، ولكن الله سبحانه وتعالى مع ذلك قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}(آل عمران/64). فنحن الآن نتعايش مع اليهود والنصارى، حتى المجوس، من خلال المنهج الإسلامي الذي أسس للتعايش في أبهى صورة وأنقى صيغه.
معالم نظرية الحكم الإسلامي:
* ما هي معالم نظرية الحكم الإسلامي؟
- هذه المسألة تحتاج لأكثر من محاضرة للإجابة عن السؤال! فهناك نظرية ولاية الفقيه، وهو النظرية القائمة الآن في إيران، حيث أن الفقيه هو الذي يعطي للمؤسسات الشرعية، والفقيه هو الذي يملك الحكم في الناس، ولا بد لأي مؤسسة، سواء كانت مجلساً نيابياً أو مجلساً وزارياً أو قيادة جيش وكل شيء، لا بد أن يمضيه الفقيه ويقرره ليكون الحكم شرعياً، وهذه هي النظرية التي انطلق منها الإمام الخميني(رض) ومعه بعض الفقهاء من قبله ومن بعده، وهم يرون أن الأساس في هذه النظرية ما ورد من الأحاديث النبوية والأحاديث الواردة عن الأئمة(ع) التي تعطي الولي ولاية مطلقة.
ولكن هناك نظرية أخرى لولاية الفقيه، وهي أضيق من النظرية الأولى، وترى أن ولايته محدودة بحدود حفظ النظام، وإذا لم يتوقف حفظ النظام على الفقيه، كما لو أمكن أن يكون غير الفقيه هو الحاكم ضمن صيغة دستورية تسترشد بالإسلام وتطبق قوانينه ويرجع تحديد النظام المذكور إلى الفقهاء وإلى أهل الاختصاص، فإنه لا مجال للقول بولاية الفقيه، وهذا هو الرأي الذي نرتئيه. فإن ولاية الفقيه لم تثبت عندنا من خلال الأدلة الواردة في السنة النبوية الشريفة أو السنة الإمامية، وإنما وردت في باب حفظ النظام، ولعل هذا هو رأي السيد البروجردي (رحمه الله) سابقاً، وهو نعم الرأي، وعندئذ تظل ولاية الفقيه في صورة توقف حفظ النظام عليها في الموقع الذي يملك فيه الولي الفقيه القدرة، أما خارج الموقع فلا ولاية له في هذا المقام.
وهناك رأي ثالث وهو الشورى، ويرتئيها بعض العلماء، وقد كان السيد الشهيد الصدر في بداية حياته العلمية يرى نظرية الشورى ثم بعد ذلك تأمل فيها. هذا كله في زمن الغيبة، أي غيبة المعصوم. وأما مع حضوره، فالولاية له ولا ينازعه أحد في ذلك. ولذلك فليس هناك نظرية محددة بشكل نصي لنظام الحكم في الإسلام لزمن الغيبة على أساس النظرية الشيعية، ولذلك يمكن أن يدرس كل نظام يقوم به حفظ النظام الإسلامي، ويمكن أن يطبق في الدولة الإسلامية.
التوازن في الحياة:
* كيف يمكن للإنسان المؤمن أن يتوازن في عصر يستهلك كل طاقته في العمل، فلا يبقى هناك مجال للجانب الروحي، فيضعف بذلك ويهدد مستقبله الروحي؟
- عندما يشعر الإنسان أن العمل هو جزء من العمل الروحي «العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال»، فإن هذا الجزء من العبادة والتوازن الروحي. ثم إن الجانب الروحي ليس أن يصلي الإنسان فقط. الإنسان يمكنه وهو جالس أن يسبح الله ويهلل الله ويكبر الله، وهو يستطيع أن يفعل ذلك وهو في السيارة وهو في العمل بين لحظة وأخرى، ويستطيع الإنسان أيضاً وهو في قلب العمل أن يعيش المناخ الروحي، فيذكر الله ويدعوه. وهكذا فإن الجانب الروحي لا يمثل حالة روتينية كأن تمسك كتاباً وتقرأه. فإذا كنت تحفظ شيئاً من القرآن، فإنه يمكن لك أن تقرأ ما تحفظه وتكرره وأنت في عملك وأنت في سيارتك، وأنت في محلك، ثم إن الإسلام هو التفكير، وقد ورد: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة»، خصوصاً مع العمل الآلي الذي قد لا يحتاج إلى تركيز فكري، فمثلاً هناك مجال للإنسان أن يخلق هذا المناخ الروحي في نفسه، وليس من الضروري أن يفرش السجادة ويمسك بكتاب (مفاتيح الجنان) أو (الصحيفة السجادية) أو (القرآن)، ولذا فإن الله سبحانه وتعالى فتح لنا الأبواب لعبادته بأوسع مما بين السماء والأرض.
التخلف عن إطاعة القيادة:
* لو كانت جميع الشروط متوفرة في القائد وكانت الأمة لا تطيع القائد، في هذه الحالة من المسؤول؟
- إذا كانت الأمة لا تطيعه مع وعيها لقيادته وحاجتها لقيادته، فإن الأمة تكون عندئذٍ مسؤولة، لأنها عندئذٍ تتخلف عن مسؤولياتها، وتربك الواقع الإسلامي، وتعرض الإسلام للخطر وهذا ما كان يعيشه الإمام علي(ع)، وهو الذي كان في الموقع الأعلى من قيادة الأمة عندما تخلفت عنه فأربكت الواقع الإسلامي، حيث قال: «لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان»، وفي موقع آخر يقول: «ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم»، فالأمة التي لا تطيع القائد مع وعيها لقيادته مسؤولة عن ذلك، وهي فوق ذلك، تدفع ثمن تخلفها عن السير في الخط الصحيح.
التشبه بالغرب:
* ماذا تنصحون الشباب المسلم الذي يتشبه بالغرب من حيث الشكل وتسريحة الشعر؟
- نقول له إن عليك أن تملك شخصيتك، ومن يملك شخصيته يحترم تقاليده الاجتماعية التي تمثل هوية المجتمع. نحن لا نقول إن ذلك حرام، لكن لماذا لا يتشبه الغربيون بنا؟! لأنهم يعتقدون أنفسهم هم الحضارة، نحن ماذا نعتقد؟ نعم، لا بأس بتفاعل الحضارات وأن نستفيد من الغرب فتأخذ من علمهم ومن فكرهم، نتعلم من صناعتهم ومن تجاربهم، وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}(الحجرات/13)، ليأخذ كل شعب من الآخر ما يفقده وما يحتاجه منه، أما أن نأخذ من الغرب، كيف أن المرأة تخرج بخلاعة أو كيف يسرّح الواحد منا شعره أو كذا... هم يقلدون بعضهم البعض ولكنهم لا يقلدوننا، عندما تلبس ممثلة كذا أو عملت كذا أو عملت تسريحة كذا فإنهم يقلدون ذلك. ولكن علينا أن ندرس كل فعل نفعله، سواء كان ذلك مما يتعلق باللباس أو بتسريحة الشعر أو بالسلوك العملي. علينا أن ندرس مدى انسجام هذه الأمور مع هويتنا أو مع شخصيتنا ومع الأمة، والشباب الذي يخجلون من هويتهم معناه أنهم لا شخصية لهم.
الفصل الخامس
المسائل التربوية
بين منطق العصبية وإشعال الفتن:
* كلنا نعرف أن أمير المؤمنين(ع) قد تنازل عن حقّه في الخلافة ضماناً لوحدة الصف، ومن أجل مصلحة الإسلام، فيما لا نشهد اليوم على الصعيد الإسلامي إلاّ صراعاً بين المرجعيات والقيادات يزداد اشتعالاً يتمثّل في تناحر اتباعهم، وتكفير ولعن وتكذيب بعضهم البعض، الأمر الذي أخذ يفقد ثقة الناس بعلمائهم، كيف يمكن ـ من وجهة نظر سماحتكم ـ تصحيح هذا الوضع البالغ السوء؟
ـ في الواقع لم يتنازل الإمام علي(ع) عن حقه، إنما جمّد مطالبته بهذا الحق من أجل مصلحة الإسلام، وقال في هذا المجال كلمته المشهورة: «لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين»، وقد بقي الإمام علي(ع) إلى آخر حياته يؤكّد أن الحق له في الولاية ولم يتنازل عن هذا الحق.
أما على الصعيد المرجعي والقيادي فأقول: إن واقع المرجعية الشيعية تعددي، فكل شخصية علمائية إذا أحرزت الشروط العلمية والأخلاقية المعينة تأهلت لتكون مرجعاً، لذا فإنّ من الطبيعي أن تتعدد المرجعيات الشيعية، تماماً كما يتعدد أصحاب الاختصاص من أطباء ومهندسين.
ومثلما يختلف الناس في تحديد الطبيب الأكفأ والأفضل بفعل اعتمادهم على معايير محددة وغير محددة، كذلك تختلف قناعات الناس المقلِّدين بالنسبة للمرجع المفترض تقليده، لكن المشكلة على هذا الصعيد هي في التخلّف، والتعصّب الذي هو من السمات الأساسية للتخلّف الذي يتغلغل عميقاً في نفوس الكثيرين الذين يستنكرون على الناس حقهم في السير خلف قناعاتهم، معتبرين أنهم وحدهم يملكون الحقيقة، ولو تأملت واقع هؤلاء الذي يتعصبون لفلان وفلان، لرأيت تعصبهم نابعاً من جهل وعُقّد شخصية، حتى أن بعضاً من هذه النماذج كان ينتقد السيد الخوئي(قده) ويهاجمه وهو لا يفهم رسالته الفقهية وقد يعود سبب بعض التهجمات على المرجعيات إلى سعي صاحبها نحو الشهرة ونيل الموقع المتميز، ولكن على حساب مصالح الأمة ووحدتها وقوتها.
لقد فتكت بنا عصبية التخلّف والجهل، فيما الإنسان المؤمن والمتديّن لا يتعصب، ففي الحديث النبويّ الشريف: «من تعصّب أو تُعصِّب له فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه»([1015])، أي يخرج من الإيمان، لأن العصبية من النار. والعصبية غير الالتزام، فقد يلتزم الإنسان بحزب ما أو جماعة معينة أو شخص معيّن، وسيحاسبه الله على هذا الالتزام فيما إذا كان ناشئاً من قاعدة سليمة أو لا، ولكن أن يتعصب الإنسان وينغلق على ما يؤمن به، معتبراً أن الآخرين في ضلال، وأن جماعته وحزبه ومرجعه على حق، فتلك هي العصبية التي ذمها الإسلام وحاربها باعتبارها من أنجاس الجاهلية، وفي هذا المجال يقول الإمام زين العابدين(ع): «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خير قوم آخرين»([1016])، ويضيف الإمام(ع): «ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه»، فلا يمنعك الدين أن تؤكد عاطفتك ومحبتك لجماعتك وتيارك، «ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم»([1017])، فإذا وصلت بك عاطفتك إلى الحد الذي يجعل تقبل بمعونة الظالمين، فجمدها لأنها تتعارض مع مبدئك ورسالتك، فعندما يكون هناك شر وخير، فكن مع الخير حتى لو كان الخير مع أعدائك، ولكن ضد الشر حتى لو كان الشر عند أقربائك، وقد قال الشاعر:
كانت مودة سلمان لهم رحماً ولم يكن بين نوح وابنه رحم
هذا هو الدين، إن ليس الدين فقط أن نصلّي ونصوم، بل أن يقف الإنسان عند حدود الله، وحقيقة التقوى هي ألا يجدك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، لكننا مستغرقون في عصبياتنا، مطلقين العنان لألسنتنا، والله يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(ق/18)، {اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(يس/65)، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}(فصِّلت/21)، إن اعتماد هذا المنطق السلبي وسلوك هذا المسار المدمِّر في التعاطي مع المرجعيات والفئات المؤمنة يؤدي إلى إشعال الفتن في ساحتنا الإسلامية، وسوف يعاقب الله كل مشعلي الفتن ومفسدي العلاقات بين الأخوة المؤمنين، فالله يقول: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات/10)، فيما يرفعون شعار: "أفسدوا بين أخويكم"، وعلينا الاختيار بين المنطقين.
الشعور بالهزيمة:
* متى يشعر الإنسان أنه انهزم نفسياً؟
ـ عندما يفقد الأمل، ومن هنا يبرز عنصر الإيمان بالله كعامل حيوي في غرس الأمل في القلوب، وهذا ما تمثله الآية الكريمة في جواب يعقوب(ع) لأولاده، وهو يستعيد الأمل في رجوع يوسف(ع) بعد عشرين سنة من غيابه في ظروف وأمارات تتجمع لتلغي كل بارقة أمل عادية. {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ}(يوسف/87).
إن مشكلتنا هي مشكلة النفس القصير الذي يجعلنا نيأس عندما نفكر في حدود الزمان والمكان ونخنق بذلك كل بارقة للأمل. وإن القضية سوف تختلف إذا عشنا النفس الطويل الذي يعتبر أن منطلق القضية هو الحياة في امتدادها، وأن الأمل لا يمثل سذاجة في الفكر ما دامت الفرص الكثيرة تختزن في المستقبل.
ـ العجز والدين:
* هل يكرّس الدين عجز الإنسان أمام الظواهر الكونية، ليكون بمثابة شاهد على انطلاق الدين من فكرة الشعور بالعجز أمام الكون؟
ـإننا نلاحظ – عند الجواب عن هذا السؤال ـأن القرآن الكريم لم يحاول التركيز على ضعف الإنسان أمام قوى الكون، بل كان في مقام التأكيد على ضعفه أمام الله من جهة، وعلى ضعفه الذاتي من خلال تكوينه المادي من جهة أخرى، تماماً كما هو الحال في الموجودات المادية الأخرى التي تتأثر وتنفعل بما حولها من الأوضاع الكونية.
ولكنَّ التأكيد على ضعف الإنسان أمام المطلق لا يراد منه التعبير عن انسحاقه نتيجة هذا الضعف، بل يقصد منه الإيحاء بأن قوته مهما بلغت من العظمة والامتداد، لا تستغني عن قوة الله، فإنها تستمد من المطلق في كل لحظة شيئاً جديداً، تماماً كما يكون امتداد الطاقة إزاء مصادر الطاقة في الحياة... وليعرف الإنسان ـ من خلال ذلك ـ قيمة قوته، أين تبدأ، وأين تنتهي، وكيف تنطلق، ليكون أكثر واقعية، وأشد تواضعاً في ممارسته لهذه القوة.
أما تكوينه المادي الذي يجعله يضعف فينفعل بما حوله، فلا يوحي بالضعف أمام القوى المادية الأخرى التي تحيط به، بل القضية ـ على العكس من ذلك ـ تتجه إلى الإيحاء بإمكانية السيطرة عليها جميعاً، فقد قرر الإسلام ـ في أكثر من آية ـ اعتبار القوى الكونية مسخَّرة للإنسان، والتسخير هذا قد يعطي معنى أنّ بإمكانه تطويرها وإخضاعها لإرادته في نطاق القوانين الطبيعية التي تتحكم فيها، وقد نجد في بعض الآيات القرآنية الكريمة ملامح الإيحاء – ولو من بعيد – بقوة الإنسان العظيمة، وذلك لأنه يحمل ما لا تستطيع القوى الكونية أن تحمله، وإن انحرف عن الخط في النهاية، وذلك قوله تعالى: )إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا((الأحزاب/72)، فإن هذه الآية قد انطلقت في نطاق التعبير عن المسؤولية التي حملها الإنسان ولم يتلاءم مع متطلباتها، ومن خلال التأكيد على عدم حمل السماوات والأرض والجبال لها، والإيحاء بقدرة الإنسان على أنه يحمل ما لا تحمله هذه القوى الطبيعية العظيمة.
وهكذا نخلص إلى نتيجة حاسمة، وهي أننا لا نجد في الدين أي تكريس لعجز الإنسان أمام الكون، بل الآية تنطلق من التأكيد على قوته الكبيرة أمامه.
التعامل مع الأبناء:
* بلغ ابني السادسة عشرة من عمره، وفيما مضى لم أكن أقصر معه في الحث على الصلاة، وهو الآن يتقاعس عن أداء الصلاة، ما هو الأسلوب الأفضل لحضّه على المحافظة على أداء الصلاة في أوقاتها؟
ـ عليك أن تفهم ولدك وتفهم المؤثرات التي تؤثر على قلبه وعلى مزاجه، خصوصاً في هذه السن التي هي سن المراهقة. ومشكلتنا أننا نتعامل مع أولادنا من الخارج، بينما علينا أن نتعامل مع أولادنا من الداخل، وذلك بأن يقوم الوالد بدراسة متطورة لابنه، لأن الولد تراه في تطوره يتأثر بأصدقائه في المدرسة، وربما يتأثر بفيلم كما نحن نتأثر. فلذلك نحاول أن ندرس ذهنية أولادنا حتى نعرف كيف نسيطر على التطورات التي تتطور سلباً أو إيجاباً في حياتهم.
مشكلة تربية الأولاد في المهجر:
* نشأ جيل كبير في المهجر ولكن عندنا تقصير تجاه الأولاد، فما هي توجيهاتكم؟
ـ قلت للمهاجرين: جوعوا واصرفوا الأموال لتأسيس مدارس لأولادكم ولتأسيس مواقع ثقافية وغيرها، فكما نبني الحسينيات يجب أن نؤسس النوادي الرياضية والكشفية، ويجب أن نبني نوادي لأسباب اللهو البريء، إذ لا يمكن أن تحصر ابنك في قنينه لأنه سوف يكسرها عندما يصبح أكبر من القنينة. إذ نحن مسؤولون عن أولادنا شرعاً، فالهجرة إلى البلاد غير الإسلامية تحرم إذا أوجبت ضياع الدين، وهي من التعرب بعد الهجرة، لذلك فالمهاجرون إذا أرادوا أن يجعلوا مبرراً شرعياً لهجرتهم، يجب أن يؤسسوا المؤسسات التي تحمي أولادهم من الضلال.
الخلاص من وساس الشيطان:
* كيف الخلاص من وساوس الشيطان، فأنا أعاني الغربة والفقر والهموم الكثيرة ووضعي غير مستقر، وأسمع الشيطان يقول لي أين ربك، لماذا تخلى عنك، أولست مؤمناً به ومتوكلاً عليه؟
ـ الشيطان يريدك بطّالاً وعاجزاً، وتبقى كذلك تنتظر من يملأ فمك، إلا أن الله أعطاك عقلاً وإرادة وإمكانات الحركة، ونظّم الحياة ضمن قانون عام. وهناك من الناس غيرك من يعمل. ويمكن ألا تكون ظروف العمل مهيأة لك، فإن عليك أن تسعى للحصول على عمل في وقت آخر. لذلك فإن الإنسان مكلّف بالعمل ومواصلة العمل، وأن يعيش التجربة والصدمة تلو الصدمة حتى يصل إلى مبتغاه. ولذلك قل للشيطان إن الله أعطاني القوة والإرادة، ولكن الظروف المحيطة بي والواقع الذي يعيشه الناس من حولي ربما عقّد بعض الأمور، ولم يجعل الله الحياة كلها على أساس الغيب، وإنما ضمن القوانين التي أودعها في الكون، وهي في مصلحة الناس، الناس الذين يعيشون الإيجاب والذين يعيشون السلب، لأنه إذا كانت هناك مشكلة في جانب فإنه توجد مصلحة في جانب آخر.
إظهار الخير:
* هل يعتبر العمل الحسن من أجل تحسين صورة المذهب رياءً؟
ـ هذا ليس رياءً، إنك تعمل الحسنة لله وليعلم الناس عن الانتماء الذي تنتمي إليه ويشجع إلى الخير، وحتى يستحسن هذا المذهب عند الناس، والله يعطيك ثوابين، الأول لأنك عملت لله، والثاني على عملك لأجل تجميل صورة الحق أمام الناس.
فوات عمل المرائي:
* عندنا في الحديث: ((لا يقبل الله عملاً فيه مثقال ذرة من رياء)) يعني لو كانت في صلاتنا 1% رياء فإن كل الصلاة لا تقبل، وهذا الحديث مخالف للآية القرآنية التي تقول: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه((الزلزلة/7)؟
ـ ((كلّ ما خالف كتاب الله فهو زخرف))([1018])، بمعنى أن المعيار في تصحيح الحديث هو عرضه على الكتاب. أما بالنسبة للآية الكريمة فهي في مقام بيان أن الأعمال وإن كانت صغيرة فإنها لا تضيع عند الله، ولا يعني أن العمل وإن كان يقصد به غير الله فإنه لا يضيع.
نية العمل العبادي:
* أحياناً يعمل الإنسان بعض العبادات بنية أو بهدف آخر، فمثلاً أقرأ القرآن بهدف أن أجيد اللغة العربية، وأتوضأ لأن الجوَّ حار، أو أذهب إلى المسجد البعيد بهدف المشي أو الرياضة، فهل يعتبر هذا رياءً والعمل به باطل؟
ـلا يعتبر رياءً، ولكن لا تثاب على عملك المذكور إلا إذا كان في الرياضة ثواب. أما الوضوء لأجل التبريد فهو باطل، لأنك لا بد أن تتوضأ قربة إلى الله سبحانه وتعالى. وكذلك لا تثاب على قراءة القرآن، إذا لم تقصد التدبر في القرآن. نعم إذا أردت القراءة في القرآن لتتدبره وتزيد الثقافة العربية فإنه لا مشكلة.
غيبة الفاسق:
* يقال إنه (لا غيبة للفاسقين)، فهل معناه هو عدم غيبة الفاسق أم العكس، وما مدى الغيبة؟
ـ لا غيبة، أي أنه لا يلحق الإنسان إثم الغيبة لو تحدث عن الفاسق بما يكشف عن عيبه. لكن الفاسق الذي لا غيبة له هو الفاسق المتجاهر بفسقه المعلن له ((من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له))([1019])؟ لأنه يتظاهر بذلك.
الصلاة توبة:
* هل صحيح أن الصلاة تعتبر أحد الطرق لإلغاء الذنوب بغير التوبة؟
ـالصلاة تختزن التوبة، وقد قال الله تعالى: )وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ((هود/114)، وقد فسرت الحسنات بالصلوات، لأن الصلاة هي التوبة، بل هي تجسيد للتوبة، ولذا ورد أنه لما نزلت الآية التي أشرت إليها، جمع إبليس جنوده وقال لهم كيف نعمل؟ فنحن في مشكلة، لأن الإنسان إذا أوقعناه بالمعصية يصلّي والصلاة تمحو الذنوب، وهذا يؤدي إلى فشلنا تماماً، فما هي اقتراحاتكم، فقدم كل واحد اقتراحاً، فقام الوسواس الخنّاس، كما تقول الرواية، وقال: أنا لها. قال: نوقعهم بالمعصية، فإذا وقعوا بالمعصية أنسيناهم التوبة وأنسيناهم الصلاة.
التجسس للإصلاح:
* هل التجسس للإصلاح بين اثنين جائز؟
ـ التجسس محرم، ولكن إذا توقف الإصلاح على أن يتعرف الإنسان على بعض الأمور بحيث كان التعرف من أجل الإصلاح، ولو لم يصلح بينهما لوقعت مشاكل كبيرة، جاز ذلك.
تعدد النظر
* ما مدى صحة الحديث المرويّ عن النبي w: ((يا علي، لا تتبع النظرة بالنظرة، فإن النظرة الأولى لك، والثانية عليك))([1020])؟
ـ المقصود بذلك أن النظرة الأولى قد تكون عابرة، بينما النظرة الثانية عادةً ما تكون ـ وبحسب الغلبة ـ نظرة ريبة أو لذة أو ما أشبه ذلك.
مقاطعة غير الصالحين:
* لو اتخذنا أصدقاء صالحين وتركنا العاصين فمن الذي يرشد العاصين؟
ـ لم نقل بمقاطعتك العاصين، ويمكن أن نصاحب العاصين على أن نكون أقوى منهم، بحيث نرشدهم ولا يضلوننا، وقد قال الشاعر:
صاحب أخا ثقة تحظى بصحبتـه فالطبع مكتسب من كل مصحوب
كالريح آخذة مما تمر به نتناً من النتن أو طيباً من الطيب
وإلا ينبغي أن نصاحبهم إذا كنا نملك من القوة بحيث نستطيع فيها أن نرشدهم ولا نخضع لضلالهم، وقد يكون هذا من باب الواجب ومن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفصل السادس
المسائل الفقهية
أولاً: المرجعية والتقليد
ثانياً: النجاسات والطهارات
ثالثاً: الوضوء والصلاة
رابعاً: الصيام والكفارات
خامساً: الخمس والزكاة
سادساً: الحج والعمرة
سابعاً: الزواج والطلاق
ثامناً: أموال وبنوك
تاسعاً: السلوك والمعاملات
أولاً: المرجعية والتقليد
في التقليد:
* اطلعت على رسالتكم العملية وأجوبة سماحتكم على السائلين هنا وهناك وقد أعجبني بعض الفتاوى وأنا لست من مقلديكم فكيف لي التوفيق في حالة التقاطع بين فتاواكم وفتاوى المرجع الذي أقلده؟
ـ المرجع الذي تقلده إذا كان يجيز التبعيض فإنه يجوز لك ذلك، وإذا كان لا يجيز ذلك فإن كانت عنده فتوى احتياطية فإنه يجوز لك أن ترجع لغيره، وإذا لم تكن فتواه احتياطية فإنه على حسب تقليدك لا يجوز لك الرجوع لا لي ولا لغيري.
نقل رواية:
* هل يجوز نقل الرواية - أية رواية - مع عدم العلم بصحتها أو مع عدم العلم باستنادها إلى راوٍ أو كتاب؟
- يجوز نقل الرواية، بلحاظ كوننا لم نعلم بصحتها، أو لا نعلم استنادها إلى الراوي، لكن لا يجوز نقلها لجمهور الناس حتى بعنوان كونها رواية، لأن هذا إيهام بكون الرواية صحيحة حتى لو نسبت إلى راوٍ أو كتاب.
جواب المستفتى:
* إذا سئل أحد وكلائكم والسائل من غير مقلديكم، فهل يلزم إجابته على رأي سماحتكم أو رأي مرجعه؟
- لابد من إجابة المستفتي على أساس فتوى مقلده بمقتضى القرينة العرفية الدالة على إرادته ذلك.
الرجوع إلى العرف:
* هل هناك قاعدة أصولية مفادها بأن المفاهيم التي ترد في الخطابات الشرعية يُرجع في تحديد معناها إلى العرف العام وليس إلى العرف الخاص، بمعنى عندما نريد تحديد مفهوم الغناء أو مفهوم الموت أو مفهوم الدم مثلاً، فإننا نرجع في ذلك إلى العرف العام وليس إلى المختصين في الغناء أو الطب، وإنما يتم الرجوع إلى العرف الخاص في تحديد المصاديق وليس المفاهيم؟
- إن الموضوعات الواردة في الخطابات الشرعية لابد من الرجوع في دلالاتها إلى العرف العام في وعيه لمفاهيمها في استعماله لها بلحاظ الجانب التصوري في وجدانه، لأن ذلك هو الذي يكشف عن المعنى المراد للشارع منها في تعلّق الحكم بها، أما العرف الخاص فقد يعبّر عن مصطلح جديد ناشئ عن الاجتهادات، كما في مفهوم الموت الذي يخضع للنظريات الطبية، كما في توقف الدماغ ونحوه، فلا يكون كاشفاً عن مراد الشارع في وقته، وربما ينطلق العرف الخاص، كما في الغناء، لتحديد خصوصياته لا تحديد مفهومه، فلا يختلف العرف الخاص في المفهوم عن العرف العام.
تحكيم العقل:
* بعض الأخوة المحدِّثين يحتجون علينا بأننا نحكِّم العقل البشري الناقص المحدود في دين الله، وقد قال الإمام علي(ع): «لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أحق بالمسح من ظاهرها»([1021])، ويقولون إن المجتهد يحاول أن يمارس جميع صلاحيات الإمام المعصوم، فمن أعطاه هذا الحق؟ وأنا لا أجد ما أردُّ به عليهم؟
- لا يخلو هذا الكلام من التباس، فهو عندما يقول كيف تحركون العقل الناقص في دين الله، ثم المجتهد يعطي نفسه صفة المعصوم، فإنه لم يلتفت إلى ما يعنيه المجتهدون.نحن نقول إن العقل لا يستطيع أن يدرك بعض الأمور مثل العبادات مثلاً، فإن الصلاة أعظم من الصوم، ولكن الحائض لا تقضي الصلاة ولكنها تقضي الصوم.إذ إن عالم العبادات أمر توقيفي لا يمكن للإنسان أن يحرك عقله فيه، لأن العقل لا يملك الإحاطة بأسرار العبادات.
أما غير العبادات فالله أعطانا العقل وجعله الحجة علينا.وبالعقل نعرف الله. ومما يروى بأنه جاء رجل إلى الإمام الهادي(ع، وكان موالياً وهو ابن السكيت، فسأل الإمام عن الأنبياء(ع، فبيّن له الإمام(ع) أن الله بعث موسى(ع) بالعصا لأن الغالب على مجتمعه السحر، وبعث عيسى(ع) بإبراء الأكمه والأبرص والأعمى لأن المجتمع كان يغلب عليه الطب، وبعث النبي(ص) بالفصاحة والبلاغة لأن الغالب على المجتمع الفصاحة والبلاغة.فقال ابن السكيت: فما الحجة على الناس؟ قال العقل يعرّف الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه.
والقرآن يردد كثيراً {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(البقرة/73) و {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَاب}(الرعد/19)، ونجد العلماء عندما يعملون بالعقل كحجة فإنما يعتمدون العقل القطعي، أي العقل الذي يدرك الأشياء 100% بما لا يشوبه احتمال أو شك، وهذا بلا إشكال ليس عقلاً ناقصاً بل عقل تام.أما الأشياء التي من قبيل العبادات فالعقل يقف عندها، لأنه لا يملك وسيلة للمعرفة في عالم الغيبيات مثلاً.أما قوله المجتهدون يعتبرون أنفسهم معصومين، فليس هناك مجتهد يعتبر نفسه معصوماً، بل يعمل المجتهد حسب القواعد العلمية، وهو مأجور على كل حال في اجتهاده.
متعلق الأعلمية:
* (يجب على المكلف تقليد الأعلم، والسؤال: ما الرأي المشهور عند المجتهدين، وبعبارة أخرى الأعلم بماذا؟ بالفقه، بالأصول، بالعقائد، بالتفسير وما هو متعلق الأعلم بكل هذه الأمور؟
- هم يقولون الأعلم بالاستنباط، يعني باستخراج الحكم الشرعي من دليله.فهو الأقرب إلى معرفة الأحكام الشرعية من خلال ثقافته الأصولية والشرعية.وليس الأعلم بالتفسير أو الأعلم بالعقائد، فهذه لا يعتبرونها أساسية.
ونحن نرى أنه من الصعب أن يكون عندنا أعلم، بل لكل ورد رائحة.فليس هناك أعلم بالمطلق، لا في الطب ولا في الهندسة، إذ لا نستطيع أن نقول عن أحد بأنه أعلم بالمطلق حتى في دائرة اختصاصه، نعم توجد نسبية بالموضوع.وقد ذكرت أمامكم مراراً أنه ليس هناك من يستطيع أن يشهد بالأعلمية، ومن شهد بها فهو يشهد بأعلمية على الآخرين بمعطيات ناقصة، فهو درس عند شخص وقرأ لشخص فكيف يشهد بالأعلمية على الآخرين..
الرجوع إلى الغير بالاحتياط:
* أنا من مقلديكم، وأنتم لا تشترطون تقليد الأعلم، هل يصحّ في المسائل التي فيها احتياط وجوبي أن أقلّد مرجعاً يشترط تقليد الأعلم وهو ليس بأعلم؟
- يجوز ذلك.
الفرق بين الفتوى والحكم:
* ما هو الفرق بين الفتوى والحكم، وماذا لو أفتى فقيهٌ بمسألة حكم فيها فقيه آخر بخلاف ذلك، كما لو أفتى فقيه بالتخيير في صلاة الجمعة وحكم آخر بوجوب حضورها؟
- الفتوى مثل القول يحرم شرب الخمر.أما الحكم فهو القول إن هذا خمر.مثلاً من اشترى داراً من شخص ما ملكها، هذه فتوى، لكن إذا تنازعوا يقول هذا هو المالك، وهذا حكم، فالحكم يتعلق بالموضوع الخارجي، والفتوى تتعلق بالعنوان الكبير.ومسألة صلاة الجمعة هذه فتوى وليست حكماً.
فقدان بعض شرائط المرجع:
* إذا أصيب المرجع الديني بأحد الأمور التالية، كما لو بلغ أرذل العمر ولم يعلم بعد علم شيئاً، أو أصيب بمرض يقعده عن القيام بمهام المرجعية، أو السجن؟
- أما بالنسبة إلى الفرض الأول، فإنه لا يجوز الرجوع إليه لأنه يشترط فيه الضبط وعدم النسيان.وأما بالنسبة للفرض الثاني، فإنه إذا كان المرض لا يمنع من القيام بمهام المرجعية وكان يستطيع الفتيا فإن ذلك لا يمنع من الرجوع إليه بمعنى المرجعية العامة، وإن كان ربما يخلق إرباكاً في إدارة مرجعيته.
تقليد الميت:
* إذا كنا نريد تقليد العالم الميت، وكان في رسالته لا يجيز ذلك، فكيف يتم تقليده، هل الواجب علينا تقليدكم أولاً ثم العدول بعد ذلك إلى الميت؟
- لابد للإنسان في مسألة تقليد الميت، سواء في البقاء أو الابتداء، أن يرجع إلى الحي في ذلك، فإذا جوّز الحي ذلك فإنه يجوز، ولكننا في الميت ابتداءً سجلنا في (فقه الشريعة) الاحتياط الوجوبي بالترك من أجل النظام العام للمرجعية.
تقبيل يد العالِم:
* هل هناك مستند شرعي لتقبيل أيدي العلماء، ولماذا تنفرد به الشيعة؟
- قضية تقبيل اليد لون من ألوان الاحترام الاجتماعي، والمسألة ليست عند الشيعة فقط، بل عند السنة والمسيحيين واليهود، وهذا شيء موجود في العالم لأنه شيء إنساني.ولا فرق بين تقبيل اليد وتقبيل الكتف أو الأنف. وأما بالنسبة للعالم، فإن الملحوظ فيه هو العنوان لا الشخص.
الأحكام الظنية:
* في زمن الغيبة للإمام(عج)، لجأ العلماء إلى الإفتاء بالأحكام الظنية، وبعض هذه الأحكام قد تكون في علم الله خاطئة وبالتالي فهي ضلال، فهل أن هذه النسبة من الضلال مسموح بها من قبل الله تعالى؟
- الأحكام الفقهية في عصر غيبة الإمام(عج) منها ما هو مقطوع وليست جميعها ظنية.ثم إن الظن على قسمين؛ فهناك ظن معتبر وهو حجة وآخر ليس حجة، فالفقهاء لما كانوا لا يعرفون الغيب ولا يعرفون الواقع 100%، فإن عليهم أن يجتهدوا فيحاولوا أن يستنبطوا الحكم الشرعي مما ثبت فيه الحجة عندهم، وقد ورد: «للمجتهد أجران إن أصاب وأجر واحد إن أخطأ» لأنه أخطأ من موقع إرادته الصواب.
لماذا الاحتياط
* إن المرجع الديني حجّة فلماذا الاحتياط في الواقع؟
- اعتبار فتوى المرجع الديني حجّة، بمعنى أنها فتوى معذِّرة للإنسان، بحيث لو كانت مخالفة للواقع فإن الله يعذره لأنه أخذ بالحجة، وأما الاحتياط فهو لطلب إدراك الواقع على كل حال.فصحيح أنا معذور إذا أخذت برأي المرجع مثلاً، ولكنني إذا أردت أن أحصل على مصلحة الواقع فيمكن أن أحتاط، فهناك فرق بين من يطلب العذر وبين من يطلب الوصول إلى الواقع، فالاحتياط هو من أجل الوصول إلى الواقع.
الشك في الرشد:
* لو شككنا بالبنت هل هي رشيدة أم لا فما هو رأيكم؟
- لا يجوز أن نتعامل معها تعامل البالغة الرشيدة، بل لابد من إحراز الرشد كما لابد من إحراز البلوغ {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}(النساء/6)، وابتلوهم اختبروهم في هذا الموضوع، ولذا إذا شككنا أن البنت رشيدة أو لا؟ والولد رشيد أو لا، حتى ندفع له ماله باعتبار أنه ترتفع عنه الولاية – عندئذٍ - فلابد من إحراز الرشد كما لابد من إحراز البلوغ.
ثانياً: النجاسات والطهارات
تكرر المياه:
* في بعض بلدان الغرب تستخدم المياه الثقيلة وإعادة استخدامها مرة أخرى مياهاً للشرب، حيث تعرض للحرارة وتتبخر المياه ويتم تكثيفها مرة أخرى، وهذا الماء المتكثف يستخدم كمياه للشرب، فهل هذا الماء طاهر؟
- إذا وصلت إلى حد التبخير وتحولت إلى ماء جديد غير ما كان سابقاً فهو طاهر، لكن الأحوط تطهيره مع ذلك.
منازل غير المسلمين:
* المسلم يستلم البيت من غير المسلم، فهل يعتبر هذا البيت طاهراً، أم يلزم تطهيره إذا أراد السكن فيه، علماً أنه كان يشرب الخمر ويعيش فيه مع كلبه؟
- مع عدم العلم بانتقال النجاسة إلى البيت أو أثاثه فإنه يعتبر طاهراً.
العاجز عن تطهير نفسه:
* بالنسبة لكبار السن العجزة الذين لا يستطيعون أن يطهروا أنفسهم، فهل يطهرهم التيمم للقيام بالصلاة؟
- وظيفته ليس التيمم، فإذا كانت أعضاء الوضوء طاهرة فإنه يتوضأ، وإذا كان الجسد نجساً وهو غير قادر على تطهيره كله فيكفيه أن يطهر أعضاء الوضوء فقط وصلاته صحيحة.لأن طهارة البدن من النجاسة شرط، وطهارة الإنسان من الحدث شرط آخر، فإذا استطاع أن يطهر من الحدث حتى لو كان جسمه نجساً فليصلِّ.مثلاً لو أن إنساناً عاجزاً ليس عنده من يطهِّر له جسده، ولكن أعضاء الوضوء طاهرة، فإذا كانت أعضاء الوضوء طاهرة عند ذلك يتوضأ وصلاته صحيحة.
الغسل بالدهن فقط:
* في هذا الزمان يوجد نقص في الماء، هل يحق لنا أن نغتسل الغسل الشرعي بإيصال الماء ولو بمساعدة اليد كما في الوضوء؟
- إذا كان الماء يجري ولم يكن مجرد دهن فإن الغسل مجزٍ ويكفي عندئذٍ.
مسّ الميت:
* نتعرض أحياناً للمس الميت ونحن نرتدي قفازات، فما هو حكم المماسة بين الميت وأطراف ثيابنا، وهل يجب الاغتسال؟
- لا يجب الغسل في الفرض المذكور، لأن المس بالبشرة هو الذي يوجب غسل الميت لو كان ذلك بعد برد الميت، ولا يوجب النجاسة بالنسبة للثوب.
إجزاء الغسل المستحب عن الوضوء:
* الغسل المستحب هل يجزي عن الوضوء؟
- كل غسل ثبت استحبابه بالدليل فإنه يجزي عن الوضوء، كما في غسل الجمعة مثلاً، وللتفصيل يرجع إلى (فقه الشريعة).
الصلاة في الوقت المشكوك فيه:
* استيقظت ولم أعرف هل أشرقت الشمس أم لا، فما هي النية التي أنوي بها إذا قمت للصلاة؟ سوزي
- تنوي الصلاة امتثالاً للأمر المتوجه إليك.
محتويات العظام:
* المادة الموجودة داخل العظام، هل يحرم أكلها؟
- إذا فرضنا أنها مما يجوز أكله، فالمادة المذكورة ليست محرمة، أما إذا كانت من نجس العين، كما في الكلب والخنـزير، فإنها نجسة ويحرم تناولها.
الغسل بدون المسح:
* هل يكفي صبُّ الماء في غسل الجنابة أم لابد من المسح؟
- يكفي صب الماء على نحوٍ يصل الماء إلى جميع البدن، ولا يجب المسح.
طهارة البلل المشتبه به:
* كيف تَّحولت قطرات الماء بعد ما يسمى الخرطات التسعة نظيفة وطاهرة، هل أجري لها تحليل مخبري؟
- الشريعة اعتبرت أن هذا البلل الخارج بعد الاستبراء طاهراً، لأن الخرطات تفرِّغ المجرى من البول تماماً بحسب طبيعة الأمر، فيكون الحكم بكونه ماءً كذلك منسجماً مع الظاهر.
ثالثاً: الوضوء والصلاة
السجود على ما لا يصح السجود عليه:
* إذا اضطررت للسجود على سجادة من صوف في صلاة الجماعة في مسجد للأخوة السنّة، فهل تعتبر صلاتي باطلة؟
- إذا اضطررت لذلك بحيث كنت تخاف الضرر أو كنت في حرج شديد لا يتحمّل فليس هناك مانع، وإلا فلا.
صلاة الجماعة:
* ذهبت لأداء العمرة خلال شهر رمضان، وأقمت في المدينة المنورة أكثر من عشرة أيام، فكلّفني بعض الأخوة أن أصلي بهم جماعة، وكذلك صلاة العيد، فهل أحتاج إلى إجازة في ذلك، أم صحت الصلوات؟
- إذا كنت تثق بعدالتك ويثقون بك فلا حاجة إلى ذلك، ويكفي أن يقدمك الناس للصلاة إذا كانوا يثقون بك، ولكن لا تنوي أن تكون إماماً إذا كنت لا تثق بنفسك.
نية القربة:
* أيهما أفضل أن تكون نيتنا في الصلاة قربة إلى الله، أم لشكر النعم، أم لحالة العبودية والتذلل، أم تكون النية لأجل الطاعة؟
- القربة إلى الله تجمع كل ذلك.
التحميد بعد الفاتحة:
* بعد الانتهاء من قراءة الفاتحة يردد المأمومون «الحمد لله رب العالمين)، ما حكم ذلك؟
- يستحب ذلك.
الصلاة في البحر:
* مجموعة من الأشخاص يعملون في البحر لصيد السمك، وأحياناً تكون الأمواج عالية، فيكون المركب غير مستقر، وقد يبقى الحال كذلك حتى يخرج الوقت، فكيف تكون صلاتهم، وما وظيفتهم فيها؟ وأيضاً في عملهم هذا يخرجون عن المسافة الشرعية، ولكن في بعض الأحيان ينقطعون عن العمل لمدة قد تطول وقد تقصر بسبب الأحوال الجوية، فما حكم صلاتهم مع تعدد أسفارهم، أهي قصر أم تمام، نرجو الإيضاح؟
- يصلّون بحسب الحالة التي كانت عليهم ولا يتركون الصلاة، وأما قضية القصر فإذا كانت أسفارهم كثيرة فإنهم يصلّون تماماً.
خطبة الجمعة:
* هل يجوز حضور صلاة الجمعة رغم أن الخطيب لا يثير موضوعاً سياسياً أو ما يتعلق بواقع الأمة والتحديات التي تحيط بنا؟
- الأفضل في خطبة الجمعة أن يثير الخطيب قضايا الأمة، وذلك في الخطبة السياسية وهي الخطبة الثانية، ولكن على كل حال صلاة الجمعة واجبة، والأفضل أن يحضرها إذا أقيمت بشروطها حتى لو كانت بهذا الشكل.
تحديد القبلة:
* شخص متواجد في مكان يجهل فيه اتجاه القبلة، وليس لديه وسيلة لمعرفة ذلك، فإلى أي جهة يصلّي؟
- يصلي إلى ما يغلب عليه ظنّه، إذا كانت هناك جهة معينة يظنّ أنّها القبلة، وإلا صلّى إلى أية جهة كانت.
الصلاة في حالة فقدان الاستقرار:
* هل تصح الصلاة في الباص على المقعد إذا لم يتوقف الباص على الطريق أوقات الصلاة؟
- مع عدم التمكن من الصلاة وقوفاً في الباص ولو لفترة يمكن الصلاة من جلوس، ولابد من إحراز التوجه إلى القبلة حينها.
إيقاظ الأولاد للصلاة:
* هل يجوز التهاون في إيقاظ حديثي البلوغ للصلاة أو بقية الالتزامات في بادئ الأمر، وذلك تحاشياً لنفورهم منها كلياً؟
- لابد من دراسة النتائج السلبية على إيقاظهم، ويمكن باللباقة وبحسن الأسلوب ترغيبهم بصلاة الفجر وثوابها الكبير.
نية المصلي خارج الوقت:
* بأي نية يصلي المغرب والعشاء من تأخرت صلاته إلى ما بعد منتصف الليل؟
- بالنسبة إلى العامد في تأخير الصلاة إلى ما بعد منتصف الليل فإن عليه أن يصليها بنية الأمر المتوجه إليه من دون نية الأداء والقضاء، أما المعذور لنسيان أو نوم أو حيض أو نحو ذلك من الأعذار فإنه ينويها أداءً، لأن وقت المغرب والعشاء حينها يمتد إلى الفجر.
قضاء ما فات من الواجبات:
* بدأت الصلاة وواجباتي الدينية بعد سنتين من البلوغ، هل يجب قضاء صلاة السنتين السابقتين؟
- نعم يجب.«من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته».
الصلاة بغير صفاء:
* إذا كنت في الركعة الأولى أو الثانية من الصلاة الواجبة، وكان ذهني مشغولاً بشيء آخر، هل يجوز أن أعدل عن هذه الصلاة الواجبة إلى مستحبة؟ ثم آتي بالصلاة الواجبة بعد ذلك؟
- أكمل الصلاة المذكورة، وإذا أحببت أن تحتاط في إعادتها فلا بأس.
المباشرة في الإجارة للعبادة:
* أنا رجل أجرت نفسي للعبادة، غير أنه بعد مدة جاءني عرض للعمل خارج وطني، فرأيت أن أستأجر شخصاً ليؤدي عني المقدار الباقي من العبادة التي استؤجرت عليها، فهل يصح ذلك، وهل له شروط؟
- لا يجوز لك استئجار غيرك للعبادة - في الفرض المذكور - إلا مع إذن المستأجر، أو كانت الإجارة واقعة على تحصيل العمل مطلقاً، بالمباشرة أو بالتسبيب، وفي حال الجواز، فإنه لا يجوز أن تستأجر الأجير الجديد بأقل من الأجرة المجعولة، ولابد أن يكون الأجير موضع ثقة من حيث الأداء ومصدَّقاً عند الإخبار بذلك، حرصاً على فراغ ذمة الميت.
قضاء الصلاة مع المرض:
* امرأة عليها الصلاة، فلما أرادت أن تقضي ما عليها مرضت ب(الديسك، وهي لا تستطيع الصلاة إلا مومية للركوع والسجود، فهل يجوز لها القضاء في هذه الحالة، أم يجب عليها الانتظار إلى حين الشفاء، وما الحكم لو كان المرض مزمناً؟
- يجب تأخير القضاء بالإتيان بالصلاة التامة عند ارتفاع العذر إذا كان ارتفاعه منتظراً، وأما إذا علمت أو غلب عليها الاطمئنان بعدم ارتفاعه، كما في موارد المرض المزمن الذي تعذر أو يتعسر شفاؤه، فيجوز لها الصلاة بالطريقة الممكنة مما هو من تكليف ذوي الأعذار.
صلاة التابع:
* ترافق الزوجة زوجها أو الخادم مخدومه، ولكنهما قد لا يعلمان أنه نوى الإقامة، ثم بعد عدة أيام من مقامهما يعرفان أنه قد نوى الإقامة، فهل تصح الصلاة قصراً في الأيام الأولى، وماذا يصليان في الأيام الأخرى التي بقيت من العشرة؟
- الظاهر صحة القصر منهما لعدم تحقق نية الإقامة عشرة أيام لجهلهما بنية المتبوع، أما بعد العلم، فإن كان الباقي من الأيام بمقدار العشرة صلّيا تماماً وإلا بقيا على القصر.
تقديم العصر على الظهر:
* حدث معي في يومٍ من أيام العمل أني صليت صلاة العصر قبل الظهر، ولم أنتبه إلا بعد الفراغ من الصلاة، فكيف أتصرف في مثل هذه الحالة، وما أفعل لو انتبهت أثناء الصلاة؟
- الظاهر صحة الصلاة، إذا كان الانتباه للخلل في التقديم والتأخير بعد الصلاة، سواء كان ذلك في الوقت المختص بالظهر - الذي لا يجوز إيقاع العصر فيه عمداً - أو في الوقت المشترك بين الظهر والعصر، وأما إذا كان في الأثناء، فالحكم هو العدول إلى السابقة إذا كان محل العدول باقياً، كما في الظهرين، أما إذا تجاوز محل العدول، كما إذا دخل في ركوع الركعة الرابعة للعشاء، ثم تذكر أنه لم يصلِّ المغرب، فلابد من الحكم ببطلان الصلاة وإعادتها، وإذا لم يدخل في ركوع الركعة الرابعة - في الفرض المذكور- فيجوز له العدول.
الصلاة على جزء من الميت:
* في حالة وجود أجزاء من جسد الميت..متى يجب الصلاة عليها؟
- الظاهر وجوب الصلاة على الميت إذا كان الباقي مما يصدق عليه الجسد ولو كانت الأجزاء منفصلة عن بعضها البعض حتى لو كانت عظاماً مجردة، أما الصلاة على العضو المشتمل على العظم أو العظم المجرد أو الصدر - وحده - أو عظمه وإن لم يكن فيه لحم فإنه مبني على الاحتياط، ولا تجب الصلاة على ما ليس فيه عظم.
صلاة الظهر مع الجمعة:
* ما حكم صلاة الظهر بعد ركعتي الجمعة؟ فهل صلاة الظهر جهراً أم إخفاتاً؟ وما حكمها لمن صلى فرادى يوم الجمعة؟
- إذا صلى الجمعة بشروطها فالجمعة تغني عن صلاة الظهر.أما بالنسبة لصلاة الظهر من حيث الجهر والإخفات، فإنه يمكن أن يجهر بالقراءة في يوم الجمعة.
وقت صلاة المغرب:
* ما هو وقت صلاة المغرب؟ هل هو مغيب قرص الشمس؟ وهل يجزي الوقت الموجود في أغلب المفكرات المتوفرة في الأسواق؟
- رأينا، كما هو رأي السيد الخوئي العلمي، وكذلك السيد الحكيم، هو كفاية سقوط قرص الشمس مع الاحتياط الاستحبابي بانتظار الحمرة المشرقية، لكن يجب التأكد من سقوط قرص الشمس.ولا نستطيع أن نقول إن كل المفكرات توقيتها صحيح، ولكن إذا وجد الاطمئنان فلا بأس.
السجود على غير الأرض:
* كثيراً ما نتعرض إلى إحراج وأحياناً إلى مضايقات من جرّاء السجود على التربة في مساجد إخواننا السنة، فهل من بديل شرعي مقبول مثل السجود على فراش المسجد؟
- إذا كان بالإمكان إفهامهم بأننا لا نسجد على ما يؤكل وما يلبس فإن الحكم هو السجود على ما يصح السجود عليه، وأما إذا لم يمكن ذلك وكان هناك ضرر أو حرج فخاف المكلف على نفسه من الضرر أو الحرج الشديد فإنه يجوز أن يسجد على السجادة.
تقديم صلاة العصر:
* صلى رجل العصر ظاناً أن الوقت ضيِّق لصلاة الظهر، وبعد ذلك ظهر له أن الوقت ما زال فيه مجال لصلاة الظهر، فهل يقضيها أو يصليها أداءً؟
- يصلي الظهر أداءً، وإذا اتسع الوقت فإن الأحوط أن يصلّي العصر بعدها.
اللحن في قراءة إمام الجماعة:
* بالنسبة لإمام الجماعة، هناك فتوى لكم تقول ببطلان الصلاة خلف إمام يخطئ في القراءة، ولكن أنا مبتلى دائماً في مكان تواجدي وإقامتي بأئمة جماعة يلحنون في القراءة، فما هو الحكم برأيكم؟
- إذا كان الإمام عادلاً فأنت تستطيع أن تأتم به في الركعة الثانية أثناء الركوع، باعتبار أن إمام الجماعة ينوب عن المأموم بقراءة الفاتحة والسورة، فإذا كانت قراءته غير صحيحة فمعنى ذلك أن نيابته غير صحيحة في القراءة، فإذا لم يمكن الائتمام بإمام فصيح، فيمكن الالتحاق بالإمام العادل بعد الركعتين الأولى والثانية، وعندئذ لا ينوب الإمام عن المأموم في ذلك، لأنه سيقرأ لنفسه وهو يتم الصلاة.
الجفاف في الوضوء:
* هل يجوز الوضوء بعد الغسل مباشرة مع وجود بلل بكامل الجسم؟
- لا يشترط في غسل الوجه أو غسل اليدين جفاف الجسم.نعم، يشترط ذلك في مسح الرأس والرجلين.
حكم الصلاة في قطع المسافة:
* نسكن في الشام، وقد ذهبنا لزيارة حجر (رض) في عذرا ومنها إلى داريا، وفي داريا حان أذان الظهر وصلينا تماماً باعتبار أن داريا تبعد حوالي عشرة كم عن سكننا، فهل صلاتنا صحيحة أم الصحيح القصر؟
- إذا ذهبتم إلى زيارة حجر، ولزيارته يلزم قطع المسافة الشرعية، ثم ذهبتم إلى داريا بعد ذلك، فإنه لا بد من الصلاة قصراً، إلا إذا رجعتم إلى محل إقامتكم ثم إلى داريا.
الشهادة الثالثة:
* إني من مقلديكم، وأنا لا أستطيع إلا أن أذكر الشهادة الثالثة في الإقامة، فهل تجيزون ذلك لنا؟
- نحن قلنا بأن عدم ذكرها في الإقامة من باب الاحتياط، وذلك لاحتمال كونها من الصلاة، وقد ورد في الرواية «عن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد الله(ع): «يا أبا هارون الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلم ولا توم بيدك»([1022]).
، ولذلك يشترط في الإقامة الوضوء، كما في رواية الحلبي عن أبي عبد الله(ع) قال: «لا بأس أن يؤذّن الرجل من غير وضوء، ولا يقيم إلاّ وهو على وضوء»([1023])، وألاّ يتكلم المكلف ولا يتلفت. ولكن مع ذلك، فإن الإتيان بالشهادة الثالثة في الإقامة لا يبطل الصلاة.هذا في الإقامة، أما في الأذان فلا يرد ما ذكرناه إذا لم يكن بقصد التشريع.
الصلاة في المسجد:
* أكون في المسجد الحرام ويحين أذان المغرب مثلاً، فأصلّي بصلاتهم، فهل تجزي هذه الصلاة أم أعيدها؟
- يصلّي المكلف معهم وبصلاتهم وهي تجزي عن صلاته ولا يعيد.ويحصل على ثواب الجماعة، وبذلك روايات، شرط أن يقرأ لنفسه، والقراءة المقصود بها سورة الفاتحة والسورة ويأتي بالأمور الأخرى كغيره من المأمومين.
القراءة في الصلاة:
* في سورة التوحيد، هل يصح أن نقرأ كلمة (كفواً) ساكنة الفاء ومضمومة الفاء؟
- يجوز الوجهان، بضم الفاء وسكون الفاء.
الصلاة إلى الكعبة:
* إذا صليت بدون تحقيق عن جهة القبلة أو وقت الصلاة وبعد الصلاة تبين صحة الوقت والجهة، هل تصح الصلاة مني، وهل ارتكبت ذنباً لعدم السعي لذلك؟
- إذا فرضنا أنه تحقق منك قصد القربة فالصلاة صحيحة إذا تبين أنها موافقة لشروطها ومن ذلك الصلاة إلى القبلة.
الصلاة إجارة:
* كيف يكون أداء الصلاة إجارة مجزياً لشخص متوفى مقابل ثمن ولمدة سنوات، والآيات كثيرة في أداء الإنسان بنفسه، ومن ذلك الصلاة والشيء نفسه بالنسبة للصوم؟
- توجد نقطتان في ذلك، أولاً: عندما يترك المكلف الصلاة عمداً فإنه سوف يعاقب عليها إذا لم تنله مغفرة الله على كل حال وثانياً: تبقى ديناً وعندئذٍ فصلاة آخر عنه، سواء تبرعاً أو بإجارة يصبح من قبيل وفاء الدين، كما لو كان شخص مديناً فتبرع آخر بوفاء دينه، وأما العقوبة فإنها تبقى لترك الواجب في وقته.وقد جاء رجل إلى النبي(ص) وقال أريد أن أحج عن أبي فهل يفيده ذلك؟ قال: «أترى لو كان على أبيك دين فقضيته عنه ألا ينفعه ذلك، قال: بلى، قال: فدين الله أحق أن يقضى».فالصلاة دين الله سبحانه وتعالى، ويوجد فرق بين الجانب الجزائي على ترك الواجب، وبين الجانب القانوني في كون هذا في ذمته، وإنما صحت العبادة إجارة فذلك للدليل الخاص تفضلاً من الله سبحانه وتعالى، كما في هذه الرواية التي ذكرناها، ولكن البحث واسع وعلمي.
الاستقرار بالصلاة:
* في الصلاة المستحبة، هل يجوز لنا عدم الاستقرار في الركوع والقيام؟
- لابد من الاطمئنان في كل صلاة.
صلاة المرأة والرجل:
* هل يجوز أن يصلي الرجل في البيت وزوجته أمامه أو على يمينه أو على يساره بمسافة أقل من 18 ذراعاً؟
- نعم يجوز ذلك.
إمامة الزوج للزوجة:
* هل تتحقق الجماعة في الصلاة الواجبة بالزوج والزوجة؟
- نعم، إذا كانت تثق الزوجة بعدالة زوجها فلها أن تصلي جماعة معه.
'لصلاة
الصلاة خارج الجماعة:
* في يوم الجمعة، وبعد صلاة الجمعة، صليت منفرداً في مقدمة المسجد لأقضي بعض ما عليّ من الفروض، وإذا بالناس على يميني ويساري يصطفون لصلاة الظهر جماعةً، وما إن انتهيت من الصلاة، فإذا بشخص يقول لي بأنك قد ارتكبت إثماً بتخريبك الصف وعدم تقيّدك بالجماعة بصلاتك منفرداً، فكان يجب أن تكمل الصلاة مع الجماعة، لذلك يجب أن تعيد صلاتك لأنها باطلة، ما هو رأيكم؟
- صلاتك صحيحة، وكون الناس يصلُّون وراءك في صلاة الجماعة لا يلزمك بالالتحاق في الجماعة وقطع صلاتك التي أنت فيها، فلا يجب عليك أن تكمل صلاتك جماعةً، رغم المحذور في هتك حرمة الإمام والصلاة منفرداً لهذا الفرض، وهو غير حاصل في الفرض المذكور.
الأمر بالمعروف:
* ما هو تكليفنا تجاه امرأة تصلي مكشوفة الشعر وكنا في حالة صلاة هل نقطع الصلاة؟
- يمكن إكمال الصلاة وبعد ذلك يمكن تنبيه هذه المرأة وإرشادها إلى وجوب ستر شعرها، فإذا كانت عالمة أعادت الصلاة، وإذا كان ذلك سهواً صحت صلاتها.
القضاء قصراً:
* فاتتني صلاة الظهر في السفر وأنا الآن ناوٍ الإقامة، فهل أقضيها قصراً أم تماماً؟
- عليك أن تقضيها قصراً، لأنه «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته.
مثبِّت الشعر:
* مثبت الشعر إذا وضع على الشعر هل يمنع الوضوء؟
* إذا لم يكن حاجزاً بحيث يمنع وصول الماء إلى الشعر فليس هناك بأس به، أما إذا كان يمنع مادياً وصول الماء إلى الشعر فهذا يمنع الوضوء والوضوء باطل عندئذٍ.
الصلاة بدم الجروح:
* هل تجوز الصلاة بدم القروح والجروح، علماً بأن هذا الدم لا يمكن توقيفه؟
- يجوز ذلك.
العدالة في إمام الجماعة:
* هل تشترط العدالة في إمام الجماعة، وما هي حدودها؟
- نعم، يشترط ذلك، وقد ورد في تحديد العدالة في الرواية: «من عامل الناس ولم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته ووجبت عدالته»([1024]) مع الالتزام بالأحكام الشرعية الأخرى.
ترديد الدعاء مع الإمام:
* هل يجوز ترديد الدعاء مع إمام الجماعة بصوت عالٍ؟
- يكره رفع الصوت للمأموم في صلاة الجماعة، عدا حالة القنوت فإنه لا بأس به.
السفر قبل الصلاة:
* أسكن في دمشق وحان وقت صلاة الظهر ولم أصل فذهبت إلى الزبداني وصليت قصراً، فهل صلاتي صحيحة؟
- نعم صحيحة.
خروج الدم من الجبهة:
* إذا كان الشخص يصلي وخرج من جبهته دم بقدر بسيط أثناء السجود، فهل هذا يفسد الصلاة؟
- إذا كان الدم أقل من مقدار درهم فلا بأس بذلك مع أخذ العلم بأن لا ينجس موضع السجود.
تعقيد صلاة الجماعة:
* صلاة الجماعة، هل هي بهذا التعقيد، حتى أنه ترى المصلين كلٌ يصلي لوحده، ولا نرى هذه الجماعة التي تمثل جزءاً بسيطاً على الوحدة؟
- المشكلة أن وضعنا الاجتماعي غالباً قائم على عدم الثقة، فهذا يقول لك بأنني لا أعتقد بهذا الإمام أو بذاك الإمام، وذاك يقول في الاتجاه الآخر، وإلاّ فإنه إذا كانت هناك جماعة فإنه لا يجوز للإنسان أن ينفرد بصلاته، لأن ذلك يؤدي إلى هتك إمام الجماعة، وهذا أمر غير جائز.أما العدالة فإنها تثبت بشهادة عدلين أو لكل ما يؤدي إلى الاطمئنان بالعدالة بحسن الظاهر ونحوه.
السجود على الورق:
* إن هناك دعوى أن الورق المتداول في الأسواق قد يكون بعضه مما يؤكل ويُلبس، فكيف يتم السجود عليه؟
- قد يكون الورق في الأساس مما يؤكل أو يلبس ولكنه استحال إلى عنوان آخر، والاستحالة تخرج الشيء عما كان عليه وتحوله إلى عنوان مختلف.
اضطراب صفوف الجماعة:
* ما هو تعليقكم بالنسبة لصفوف المصلين التي غالباً ما تكون غير مرتبة وإن أئمة الجماعة لا ينبّهون لذلك؟
- علينا أن نتعلم النظام، ولكن ـ مع الأسف ـ إننا لا زلنا في حالة فوضى، خصوصاً إذا اصطف المصلون دفعة واحدة لصلاة الجماعة، حيث تسمع أحياناً الأخير يُكبّر قبل أن يُكبر الأول، فتسمع التكبير من أول الصلاة، فهذا يكبر وذاك يكبر وكل يرفع صوته، فعلينا أن نتعلم النظام، ومع الأسف حتى الآن نعيش الفوضى حتى في الصلاة.
شعر القطة على لباس المصلي:
* بعد أن أكملت صلاتي وجدت على ثوبي شعرة من شعر القطة، فهل تبطل صلاتي؟
- لا تبطل في هذه الحالة، ولكن لا يجوز لك الصلاة بكل ما لا يؤكل لحمه مع الالتفات إلى ذلك قبل الصلاة..
رابعاً: الصيام والكفّارات
مسائل من الاعتكاف:
* نحن مجموعة من المعتكفين المقلدين لسماحتكم، ولدينا بعض الأسئلة تتعلق بالاعتكاف:
هل يجوز الخروج لأجل الغسل المستحب المخصص لليوم الخامس عشر من شهر رجب، وذلك لأن هناك غسلاً مستحباً كأحد أعمال أم داود في هذا اليوم؟
وإذا فرض عدم جواز الخروج لذلك، فهل يمكننا نذر ذلك الغسل كي يصبح واجباً فيجوز الخروج لأجله؟
ج1- لا يجوز ذلك.
ج2- الاحتياط اللزومي يقتضي الترك حتى في هذه الحالة، لا سيما أن صحة النذر في الغسل المتوقف على الخروج المحرم محل إشكال.
التعبد
التعبد برأي الطبيب:
* هل أن رأي الطبيب ملزم في تشخيص حالة المريض في حال الصوم أو غيره؟ وماذا لو شك المريض بتدين الطبيب والتزامه؟
- لا إشكال في قول الطبيب إذا كان موثوقاً وكان من أهل الخبرة، فإنه يمكن الاعتماد على تشخيصه، بحيث يكون حجة شرعية حال الضرر أو غيره.ولكن لو فرضنا أن الطبيب لم يكن ثقة، وشك المريض في أن تحذيره من الصوم أو من بعض الضرر، فإنه يجب على المريض أن يفطر، لأن موضوع الإفطار وجوازه هو خوف الضرر والأمن منه، وليس الضرر الواقعي، وأما إذا لم يوجب قول الطبيب عند المريض خوف الضرر، فلا يجوز له الإفطار على حسب القاعدة السابقة الذكر.
الوفاء بنذر الصوم مع العجز:
* لقد نذرت أن أصوم شهراً كاملاً، ومن ثم أصبت بمرض في معدتي جعل الصوم معه صعباً حتى في أيام رمضان، فما حكم هذا النذر، والأيام التي لا أستطيع أن أصومها في رمضان، مع العلم أنها تتجاوز العشرين يوماً؟
(إذا نذر الإنسان في وقت معين وكان غير قادر على الصوم في ذلك لا يجب عليه الوفاء بهذا النذر.
التبرع عن الغير بالكفارات:
* على والدي بعض الكفارات وهو قادر على دفعها، فهل يجوز لي التبرع عنه في حال حياته، وما الحكم لو كان فقيراً عاجزاً عن الدفع، وما حكم التبرع بعد الوفاة؟
- لا مانع من دفعها عنه في حال حياته بنحو التوكيل أو التبرع، بالنسبة إلى الإطعام أو العتق، أما بالنسبة إلى الصوم فلا يشرع فيه ذلك، أما إذا كان عاجزاً عن الدفع في الواجب الأصلي أو البدل عنه فلا يجب عليه ذلك، فلا معنى للتبرع أو الوكالة، إلا إذا كانت المسألة هي الهبة له ليكون قادراً فيدفعها بنفسه أو بوكيله، أما بعد الوفاة فيجوز التبرع عنه بلا إشكال صوماً كان أو غيره.
الإفطار بغياب قرص الشمس:
* أفطرت في شهر رمضان الكريم مع غياب قرص الشمس، هل في ذلك إشكال؟
- ليس في ذلك إشكال.
دفع كفارة عن الأب:
* قضيت عن والدي أربعة أشهر من صيام في ذمته، ولا أعلم هل هو مطلوب بها أم لا؟ فهل يجب دفع كفارة؟
- المهم أنك تبرعت بها وسيتقبل الله عملك إن شاء الله، وأما بالنسبة للكفارة فإنه لا يجب دفع الكفارة عن أبيك إذا كنت لا تعرف بأن أباك قد أفطر عمداً.
خامساً: الخمس والزكاة
احتساب الضرائب من الخمس:
* أنا شاب بدأت العمل في التجارة جديداً، علماً أني أملك محلاً أبيع فيه وتؤخذ مني ضرائب مباشرة من قبل الدولة مقدرة عليها بقيمة 30% من الربح كسائر المحلات التي إلى جانب محلي، وأصبحت أتعبد بمذهب أهل البيت(ع، فهل يمكن احتسابها من المدفوع خمساً أو زكاةً، مع العلم أني لا أملك في شبابي غير هذا المحل، فكيف تفتوننا حول هذه النسبة الإسلامية المدفوعة، وحول النسبة الضرائبية المفروضة؟
- لا يحتسب الخمس مما دفع من الضرائب، لأن مصارف الخمس إنما هي للفقراء وليست للدولة.
تخميس مال توفيراً للخمس:
* أنا أعيش في السويد ووالديَّ في العراق لا يستطيعان حج بيت الله الحرام للصعوبة المادية، في حال تمكني من إرسال مبلغ لهذا الغرض، هل على هذا المبلغ الخمس من قبلي؟
- عليك أن تخمّس المال، سواءً كنت تريد إرساله إلى والديك للحج أو غير ذلك، إذا حلَّ رأس السنة وهو عندك.
حساب الخمس:
* والدي لم يخمِّس أمواله طيلة حياته، وهو يريد أن يخمّسها أمواله الآن قبل أن يذهب إلى حج بيت الله الحرام، ونعلم أنه لكي يخرج الخمس يجب أن يحسب ما يملك الآن ويخرج خمس القيمة، ولكن لديه سيارة اشتراها من الشركة بالأقساط، ولم يسدّد جميع الأقساط بعد، فكيف يتم حساب خمسها، هل يحسب قيمتها الكلية في السوق رغم أنه لم يكمل سداد الأقساط بعد؟
- لابد من إخراج خمس كل ما لا يكون من المؤونة، أو كان منها ولكن أشتري بمال قد تعلّق به الخمس فعلاً لمرور الحول عليه مثلاً، والسيارة إذا كانت من المؤونة فلا خمس فيها.
الفوائد على الأخماس:
* هل يجوز لمن يجمع الأخماس الاستفادة من فوائد هذه الأموال لصرفها في بعض الأمور؟
- الفوائد الربوية حرام، لا يجوز أخذها بهذا العنوان، وهي إنما تكون كذلك إذا كان الإيداع مشروطاً بأخذ الزيادة الربوية، ومن دون ذلك لا مانع من تملّكها إذا دفعها المصرف على كلّ حال، ولا يجوز التصرّف بالأخماس والأموال الشرعية إلا من قبل الحاكم الشرعي أو وكيله، وعندئذ فلا مانع من الاستفادة بذلك فيما يكون ذا مصلحة عامّة، شرط أن لا تؤدّي إلى عدم الانتفاع بالخمس عند وجود المستحق.
تخميس الدار:
* رجل يملك بيتاً للسكنى، وآخر مؤجراً، هل يجب إخراج خمس البيتين، أو لأحدهما، وإذا لم يملك الخمس، هل بإمكانه تقسيط ذلك كل شهر؟
- لا يجب إخراج خمس بيت السكنى، ولكن يجب إخراج خمس البيت المؤجر..
تخميس مال الولد:
* المال الذي يقدمه الوالد لولده، هل عليه خمس؟
- نعم، يجب الخمس في الهدية، وفي الهبة كما يجب في الكسب.
تخميس الدين:
* بعث لي أحد أصدقائي مبلغاً قسم منه وفاء لدين لي عليه، والباقي مساعدة لي، وسيأتي بعد أيام رأس السنة، فهل يجب تخميس هذا المبلغ أم لا، علماً أني مدين حالياً ولو سددت الديون لم يبق لي شيء؟
- بالنسبة للمال المخصص للمساعدة إذا صرف قبل مرور السنة فلا يجب الخمس فيه.أما الدين الذي لك على الشخص إذا مرّ عليه سنة في ذمة الشخص فإنه يجب تخميسه.
تخميس أموال الديكور:
* أصحاب المحلات التجارية في هذا الزمان يدفعون جزءاً من رأسمالهم من أجل ما يسمى بالديكور، والذي هو عبارة عن الواجهات الزجاجية والرفوف والأسقف المستعارة ومصابيح الإنارة والزخرفة المناسبة..ونحو ذلك، فهل يجب تخميس هذه الأموال، وهل تعتبر جزءاً من رأس مال التجارة العام، وهل يجب تخميس ما يزيد عن ثمنها الأصلي إذا ارتفعت قيمتها بالاستعمال؟
- الظاهر أن الأمور التي تقابل العوض فعلاً هي رأس المال التجاري العام، دون المعدودة بمنزلة التالف عرفاً، كالزخارف والصباغة ونحوها، فيجب إخراج خمسها، ولا يجب إخراج الخمس في الزيادة إذا ارتفعت قيمتها إذا كانت قد خمّست قبل ذلك، ولكن لا يكون حكمها حكم مال التجارة الذي يحسم ما يقابل نقصان قيمتها إذا نقصت قيمتها بالاستعمال، لأنها من المقتنيات التي لا يجب ملاحظة حسابها وقيمتها في كل سنة كجزء من المال التجاري.
المقتنيات البيتية:
* في القرى عادةً تقتنى في البيوت بعض الدواجن أو المواشي للانتفاع البيتي بإنتاجها، وربما يبيع صاحبها ما يزيد عنه من إنتاجها، فلو كان قد اشتراها من أرباح السنة، هل يجب تخميسها آخر السنة، وما حكم نمائها المتصل أو المنفصل؟
- الظاهر عدّ هذه المقتنيات من المؤونة عرفاً إذا كان قد أعدّها للانتفاع البيتي بإنتاجها، أما إذا كان قد أعدّها للارتزاق بها ببيع نتاجها من البيض أو الحليب ونحوهما، كانت من رأس المال الذي يجب تخميسه بالإضافة إلى ما يبقى من نمائه.
ضمان الزكاة:
* ماذا يفعل من عليه حق الزكاة، إذا دفعها إلى فقير فظهر كونه غنياً فيما بعد؟
- إذا كان المالك قد عزل هذه الزكاة ثم دفعها إلى غير المستحق، وجب عليه استرجاعها من القابض إذا كانت عينها باقية موجودة، أما إذا تصرف بها القابض فأتلفها، أو لم تكن هذه الزكاة متعينة بالعزل، فإن كان قد تحرى عن هذا القابض واعتمد على حجة في اعتباره فقيراً، فليس عليه ضمان، وإن دفع من دون اعتماد حجة فعليه ضمان الزكاة ودفعها ثانية، وحيث يضمن الزكاة يجوز له الرجوع والمطالبة بمثل أو قيمة الزكاة التي دفعها إليه في صورة ما لو علم القابض أنه زكاة، حتى لو أنه كان يعلم بحرمتها على الغني، ومع عدم علمه بكونه زكاة فليس للمالك الرجوع إليه ولا مطالبته بالمثل أو القيمة.
دفع الخمس للزوج:
* هل يجوز للزوجة أن تعطي زوجها خمساً من مالها، إذا لم يكن الزوج قادراً على قضاء حاجاته وهو فقير؟
- نعم يجوز ذلك، لكن لا يجوز للزوج إعطاء زوجته، لأنه يجب الإنفاق عليها.
تخميس الأمتعة المستعملة:
* قلتم إن الأشياء المستعملة يجب تخميسها، هل ذلك بعد مرور سنة أو في نفس الوقت؟ ولو اعتقدنا أننا في المستقبل سوف نستعملها، لكن بعد عدة سنوات لم نستعملها وأعطيناها لشخص أو بعناها، هل يجب دفع خمسها؟
- طبعاً بعد توفر شرائط وجوب الخمس، وهي مرور السنة.أما بالنسبة لجواب الشق الثاني فإنه لو فرضنا أننا كنا لا نستغني عنها لكن استغنينا عنها واقعاً، إذاً نتبع الواقع.
تخميس بناء بيت على دفعات:
* بنيت منزلاً مكوَّناً من أربعة طوابق على طريقة كلما توفر لديَّ مبلغ و لو ضئيل وضعته على البناء، والآن تمَّ المنزل وبقي على دين وأريد تخميس البيت، فمن أين أبدأ، علماً بأنني قبل ذلك كنت أخمسِّ ما لديَّ، أما في فترة بناء المنزل فإني أساعد المحتاجين فقط؟
- المقدار الذي تحتاجه للسكن ولا تستطيع بناءه وقت الحاجة هذا لا يجب تخميسه، أما إذا كنت تملك غيره وعمّرت طوابق أخرى للاستثمار فيجب أن تخمِّسه كله.أما المبلغ الذي صرفته في البناء إذا كان مخمساً تحذفه والباقي تخمسه.
تخميس مال من الخمس:
* أنا من مقلِّديكم، وقد استلمت مبلغاً من المال كحق شرعي (خمس، فإذا بقي سنة ولم أستعمله أو بقي شيء منه، فهل يجب فيه الخمس؟
- إذا فرضنا أنه بقي إلى السنة الأخرى، يجب فيه الخمس.
تعلق الواجب في المدَّخرات:
* أنا موظف حكومي وأنا معيل، وبالكاد راتبي يكفي لذلك، حاولت وما أزال جمع مبلغ لأجل نفقات ما بعد الوفاة، وذلك على مدار سنوات سابقة، فهل عليّ الخمس بهذا المبلغ، وبحال طال بي العمر وأصبح المبلغ يكفي نفقات الحج، فهل أخِّمسه أيضاً؟
- يجب التخميس في هذا المال، وعليه إذا مرت سنة على المبلغ فإنه يجب فيه الخمس.ثم إنه لماذا تهتم بما بعد الوفاة؟! اهتم بالحياة.وللإمام علي(ع) كلمة: «كن وصيَّ نفسك في مالك واعمل فيه ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك)، فالمهم أن تعمل لنفسك، لا أن يترك الإنسان وصية ليعمل له وفقاً لها.وكذلك الحكم بالنسبة للحج، فإن المال المدّخر إذا تحققت به الاستطاعة المالية فإنه يجب الحج.
تخميس المال المُودع في البنك:
* يوجد عندي مبلغ من المال كان مودعاً في البنك ومضى عليه أكثر من سنة وقمت بسحبه وتسديده، لأن في ذمتي ديناً لأحد الأشخاص، هل يجب فيه الخمس قبل دفعه للشخص؟
- تعلّق به الخمس حسب الفرض، وذلك لأنه مرت عليه سنة فيجب دفع خمسه.
الحقوق
الحقوق الشرعية في العراق:
* بعض مقلديكم في العراق يسألون: (1) كيف يتم التصرف بالحقوق التي لديهم؟ (2) هل تأذنون لهم بصرفها على الفقراء في العراق؟
- بالنسبة إلى المؤمنين الذين يرجعون إلينا في التقليد في العراق، فإني أرخصهم بأن يعطوا كل الحقوق التي لديهم للفقراء، سهم السادة للفقراء السادة، وسهم الإمام للفقراء غير السادة، بشرط أن يحتاطوا في معرفة موارد الحق الشرعي.
توزيع الحقوق الشرعية:
* كلفني بعض الأخوة المؤمنين بتوزيع بعض الحقوق الشرعية على بعض الأخوة المؤمنين في العراق، هل يجوز ذلك بدون الرجوع إلى الفقيه في أخذ الإذن منه؟
- إذا فرضنا أن صاحب الحق الشرعي قد أخذ إذناً فإنه لا مانع من توزيعها نيابة عنه، وإلا فالاحتياط يقتضي أخذ الإذن.
زكاة النقد:
* ما هو رأيكم بزكاة المال، أعني العملات النقدية، هل فيها زكاة وإذا لا فلماذا؟
- رأينا وجوب دفع زكاة العملات النقدية من باب الاحتياط الوجوبي، ولا يسع المجال للاستدلال.
دفع الخمس على أقساط:
* تاجر عليه خمس، وهو يقدر أن يحجز جزءاً من أرباحه شهرياً أو أسبوعياً، فهل يجوز تسديد الخمس بنفس الفترات بأقساط ميسرة؟
- عليه أن يأخذ رخصة من الحاكم الشرعي في ذلك.
دفع الخمس إلى الأبناء:
* أب لديه أبناء وبنات متزوجون ومستقلون في حياتهم، ويمرون حالياً بأزمة مالية، هل يجوز للأب أن يدفع لهم من الخمس أو الزكاة؟
- الواجب عليه أن يدفع لهم من ماله الخاص، والأحوط أن لا يدفع الإنسان الخمس لأولاده.
دفع الخمس لمن يملك العقار:
* رجل يملك أرضاً ويحاول بيعها ولكنه لا يحصل على مشترٍ، وهو محتاج جداً للنقود، هل يجوز دفع الخمس له؟
- إذا كان بحيث لا يستطيع أن يستدين على أرضه، وليس لديه أية طريقة أخرى يؤمّن بها المال اللازم، ولا يمكن أن يبيع الأرض بأقل من سعرها أيضاً، وليس لديه فرصة أخرى ومن جميع الجهات، فإنه يجوز أن يدفع الخمس له.
سادساً: الحجّ والعمرة
الإحرام من التنعيم:
* هل يجزي للعمرة الإحرام من التنعيم؟
- إذا كان يريد الدخول إلى مكة لعمرة، فلا بد أن يحرم من أحد المواقيت إذا كان طريقه يمر بها، وعندئذ فإن لم يكن الأمر كذلك فيمكن له الإحرام من المكان المذكور.
نفقة الحج للزوجة:
* هل يجب على الزوج نفقة الحج لزوجته، بحيث إذا توفرت الاستطاعة لديه وجب عليها الحج، وإذا كان كذلك ما الحكم إذا توفرت تكاليف الحج لدى الزوجة دون الزوج؟
- لا يجب على الزوج أن يؤمن مصاريف الحج لزوجته.
الاستطاعة في الحج:
* نعرف أن من شروط وجوب الحج الاستطاعة، فما هي الاستطاعة؟
- الاستطاعة: هي التمكّن بحسب المتعارف من إتيان الحج من حيث القدرة المالية والبدنية وسعة الوقت، وعدم المنع في الطريق، والتمكّن من الرجوع إلى مقره، والعودة إلى عمل يتعيش منه، إضافة إلى الاستطاعة الشرعية من توفّر الزاد والراحلة.والمراد بالزاد: المأكول والمشروب وسائر ما يحتاج إليه المسافر بحسب وضعه الخاص، والمراد بالراحلة: وسيلة النقل المناسبة، براً، وبحراً، وجواً بحسب حاله.
الحج بمال لم يُخمّس:
* هل أن الذي يذهب إلى الحج بمال لم يُخمّسه، يكون حجه باطلاً؟
- إذا اشترى ثوب الإحرام بمال لم يخمّسه يكون إحرامه باطلاً، وهذا يؤدي إلى بطلان الحج، وذلك إذا اشترى ثياب الإحرام بعين المال، أما إذا اشتراها في الذمة ودفع الثمن من المال غير المخمّس، فإنه يملكه ويكون الإثم في دفع ذلك المال بدلاً عن الثمن، ولا يحكم ببطلان حجه في هذه الصورة.
الحج مع الحرج:
* إذا وجب عليّ الحج وصادف وقت الحج مع وقت امتحان الجامعة، وذهابي يؤدي إلى ضياع عام دراسي، ما يسبّب لي حرجاً مادياً ومعنوياً، فما هو الحكم الشرع في ذلك؟
- لا يجب الحج مع لزوم الحرج كما في الفرض المذكور.
حفظ الاستطاعة:
* إذا استطاع المؤمن في السنة توفير المال للذهاب إلى الحج ولكنه لم يُعط التأشيرة، هل يجب عليه أن يحتفظ بهذا المال إلى العام المقبل؟
- إذا كان المال لا يحتاجه إلى العام المقبل ليصرفه على نفسه في حاجاته، وعلم بأنه يحصل على التأشيرة في العام المقبل، فعليه أن يحتفظ به على الأحوط، أما إذا احتاج إلى صرف هذا المال خلال العام في حاجاته بشكل طبيعي فيجوز له أن يصرفه.
عمل النائب في الحج:
* هل يجب مطابقة عمل النائب في الحج لفتاوى من يقلّده هو أم لفتاوى من يقلّده المنوب عنه؟
- لابد من مراعاة تقليد المنوب عنه.
الإحرام من مطار جدة:
* هل يجوز الإحرام من مطار جدة؟
- المشهور بين الفقهاء أنه لا يجوز الإحرام منه لأنه ليس ميقاتاً، ولم تثبت محاذاته للميقات، ولكن للجواز وجهاً، وذلك إلحاقاً له بمن كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات، حيث يكون ميقاته منزله، أو لإطلاق أدلة الإحرام مع عدم شمول أدلة المواقيت المعروفة له وهو قريب، والأحوط الأولى الإحرام - في هذه الصورة - من المواقيت المعروفة كالجحفة مع الإمكان.
تغطية الرأس بحمل شيء:
* هل يجوز حمل شيء على الرأس للمحرم؟
- الأحوط وجوباً ترك ذلك، بل إنه لا يجوز تغطية الرأس بأي ساتر كان بالنسبة للرجل ولو بمثل الغطاء عند النوم، ولا بأس بوضع اليد على الرأس.
الطواف بثوب نجس:
* إذا طاف بثوب نجس وكان يعلم بنجاسته من قبل إلا أنه نسي ولم يتذكر إلا بعد الفراغ، فهل يعيد طوافه كما يعيد الصلاة التي صلاّها بثوب منسيّ النجاسة؟
- لا يعيد الطواف، نعم صلاة الطواف لا تصح حينئذ، بل لابد من إعادتها بثوب طاهر.
الاختلاف بهلال ذي الحجة:
* لو اختلف المسلمون في هلال ذي الحجة، فما هو حكم الوقوف في عرفه؟
- حيث لا نتمكّن من الوقوف الاختياري ولا الاضطراري في اليوم المرجح عندنا، فما دمنا لا نجزم بمخالفتهم للواقع كفى الوقوف في اليوم الموافق لهم، وأما مع الجزم بالمخالفة، فإن أمكن المكلف الوقوف بالمزدلفة كفاه ذلك وأغناه عن الوقوف في عرفه، وإلا بدّل حجه بالعمرة المفردة..ولا حج له، و لا يجب عليه الحج في العام القادم إلا إذا استطاع..أو كان قد استطاع قبل عامه هذا وترك الحج عمداً.
الإتيان بعمرتين في شهر:
* هل لي أن أعتمر في شهر واحد عمرتين؟
- لا مانع من الاعتمار مرتين في شهر واحد، ولكن الاحتياط بالاكتفاء بعمرة واحدة في كل شهر قمري لا بأس به، إلاّ أنّ الاحتياط المذكور استحبابي وليس وجوبياً.
النية في الحج:
* إن جميع أعمال الحج تتم بالنية، ولكل عمل من أعمال الحج نية خاصة به، فهل يمكن أن ينوي الحاج القيام بأعمال الحج في جميع المناسك بنية واحدة لكي لا يكون في حرج من نسيان وغيره وتجعل الشك يتسرب إلى قلب الحاج؟
- طبعاً، عندما يريد المكلف الحج فلا بد أن يكون ناوياً لكل أعمال الحج، والنية أمر عفوي لا يخلو منه أحد إلاّ الغافل أو النائم، وأنا أسألكم: هل من الممكن أن يأكل الإنسان بدون نية، فالبحث في النية بهذا الشكل أمر يعقّد الناس، ما هي النية؟ عندما يكون الإنسان ملتفتاً إلى عمل فهو يريده وهذه هي النية.فعندما يريد أن يطوف، هل يعقل أن يطوف بلا نية، إلا إذا كان غافلاً تماماً لا يدري بنفسه.وإذا ذهب إلى عرفة فهل يذهب بلا نية؟! القدماء سابقاً، كما يقول الشهيد الثاني، لا يعتنون بهذه الأبحاث، ولم يذكروا النية لأنها طبيعية.فكل عاقل مختار عندما ينطلق بأي عمل محلل أو محرم فهو عاقد النية، أما هذا الكلام بأنه لا بد أن ينوي ولا بد كذا..فهو تعقيد، ما جعل بعض الناس يقول لا بد أن ينطق بالنية مثل (أصلي صلاة الظهر..).
استطاعة الحج:
* بنت ورثت من أبيها أملاكاً، فهل يجب عليها أداء مناسك الحج بفرض أنها حصلت على الاستطاعة المطلوبة؟ وهل يجوز لزوجها الإنفاق من هذا المال لعياله؟
- نعم، يجب عليها الحج من هذا المال حتى لو لم يقبل زوجها، وهو ملكها وليس لزوجها التصرف به بغير إذنها.
سابعاً: الزواج والطلاق
قصد الزواج:
* أنتم لا تجيزون الزواج المؤقت بالمسيحية إلا أن تكون معتقدة بهذا الزواج حقيقةً، فكيف تريدون منها الاعتقاد بإحدى المسائل الفرعية مع أنها لا تعتقد بأصول الدين؟
- العقد لابد أن يقصده الطرفان، لأن معنى العقد أن تقصد الالتزام بكونها زوجة في هذه المدة ولا تكون مجرد كلمة باللسان، وإذا لم تقصد ذلك لا يتم العقد، لأن العقد شريعة المتعاقدين، والعقود تابعة للقصود.فلابد أن تعتبر المرأة نفسها زوجة لك، وأنت تعتبرها زوجة وتعتبرك زوجها، والعقد كلمة يجب أن يقصد العاقد معناها بشكل جدي.
التبعيض في عقد الزواج:
* كما تقولون فإن العقد على غير المسلمة يجب أن تقصد به الزواج، وهذا صعب، وأكثر الناس يقعون في الحرام لتفادي هذا الأمر، هل تجيزون التبعيض لمن يجيز العقد حتى لو كان باللسان والقصد القلبي فقط؟
- ليس هناك عالم يجيز العقد باللسان، لأن العقود تتبع القصود.ولذلك فإنّ كلّ علاقة لا تقصد فيها المرأة معنى الزواج فيما تتكلم به من صيغة الزواج فهي علاقة غير مشروعة وتعتبر زنا.
انفصال غير المسلمة:
* لا يوجد طلاق عند المسيحيين، فإذا انفصلت المرأة عن زوجها، هل يحقّ للمسلم الزواج منها؟
- لا يجوز ذلك، لأنها ما دامت منفصلة عن زوجها ولم تطلّق فهي في ذمّة زوجها، مثل المرأة المسلمة التي يهجرها زوجها، فإنه لا يجوز الزواج منها إذ لا يكفي الانفصال الجسدي..
العدة للمسلمة وغيرها:
* هل العدة خاصة فقط بالمسلمات، أو أنها تعم نساء أهل الكتاب أيضاً؟
- العدة عامّة، وعندئذ فإنه لا يجوز للرجل أن يتزوج من امرأة في عدتها، حتى لو كانت غير مسلمة.
إسقاط الجنين:
* هل يجوز للمرأة أن تسقط الجنين دون إخبار زوجها، إذا كانت حالتها المادية لا تسمح بتربيته؟
- لا يجوز لها إسقاط الجنين، سواء أخبرت زوجها أولم نخبره.
الزواج المؤقت من كتابية تعاقر الخمرة:
* هل يجوز الزواج المؤقت من الكتابية في حالة معاقرتها الخمرة، ألا يخرجها ذلك من عنوان الكتابية؟ وهل يجزي العقد بغير العربية في حال عدم معرفتها العربية، وهل يجزي بلغة عربية لا تجيدها ولكن تعرف ترجمتها؟
- معاقرة الكتابية للخمر لا يخرجها عن عنوان الكتابية، ولذلك فيجوز الزواج منها، ولكننا مع ذلك لا نرجح الزواج منها.أما بالنسبة للعقد فقد ذكرت مراراً أن العقد لابد أن يقصده الزوجان جدياً ولا يكفي أن يكون باللسان.نعم يكفي أن يكون بغير العربية إذا كانت لا تجيدها مع قصدها الزواج.
الإجبار على الطلاق:
* هل يحق لأهلي إجباري أنا وزوجي على الطلاق؟ ونحن متزوجان من دون أن يعيش بعضنا مع البعض؟
- لا يحقّ لأحد إلزامكما بالطلاق.
اختيار الولد:
* هل يجوز أخذ نطفة الرجل وفصل الخلايا الذكرية عن الأنثوية عند الطبيب المختص ليصار إلى تلقيح زوجته بإحداهما وفقاً للاختيار المطلوب (ذكراً كان أو أنثى)؟
- يجوز ذلك، ولكن لابد من قيام الطبيبة بعملية التلقيح، لأنه لا يجوز للطبيب النظر إلى عورة المرأة إلا في حالة الضرورة، وليس هذا المورد من موارد الضرورة.
حدود النظر للمرأة بنية الزواج:
* أردت الارتباط بامرأة، وقد اتفقنا على متطلبات الزواج وكانت نيتي خالصة بالزواج منها، ولكن أردت أن أنظر إليها بثياب مرققة، وأعني بذلك سائر الجسم، وذلك من دون ريبة؟
- الأحوط النظر إلى ما تعارف الناس النظر إليه عند إرادة الزواج، وهو النظر إلى الوجه والكفين، قائمة وقاعدة، بما يمكن للزوج التعرف معه إلى المرأة التي يراد الزواج منها، لمعرفة ما يستقبح، أو إذا كان ثمة نقص خلقي.
الرضاع المحرِّم:
* ولدي رضع من زوجة والدي ولم يكن لديها رضيع حينذاك، علماً أن الرضاعة استمرت بحدود نصف شهر وكان عمره بحدود سنة، علماً أنه كان في هذه الفترة لا يأكل ولا يشرب ويقتصر غذاؤه على الرضاعة، وقد زوجته من ابنة عمه (أخي الشقيق لأمي، فهل يجوز ذلك؟
- إذا لم يكن الرضاع باللبن، بل كان بمجرد وضع حلمة الثدي في فم الرضيع، فلا حكم له ولا أثر له شرعاً.
الطلاق الخلعي:
* طلاق الخلع، هل يتم بموافقة الزوج أم هو بيد الزوجة؟ وهل هناك طريقة شرعية للزوجة إذا أرادت أن تفك رباط الزوجية، أم تبقى كارهة لزوجها مدى الحياة؟
- يتم الطلاق الخلعي بموافقة الزوج بناءً على كراهية الزوجة له، وبما قد يؤدي إلى الخروج عن طاعة الله في علاقتها به، ورغبتها بالطلاق منه وبذلها المال لذلك، وليست هناك طريقة أخرى إلا إذا امتنع من القيام بحقوقها الشرعية، فترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي ليخيّره بين العودة إلى أداء حقوقها وبين الطلاق، فإذا امتنع من ذلك طلقها الحاكم الشرعي.
الزواج من الصغيرة:
* تلجأ بعض الأسر إلى التقرّب من بعضها البعض، وذلك بأن يعقد الرجل الكبير على الفتاة الصغيرة غير المميزة، حتى يحل رؤية أمها بلا حجاب، أو يدخل إلى بيتهم من دون حرج، هل هذا العقد برأيكم صحيح؟
- من حيث المبدأ، فإن عقد الزواج عندنا يصحُّ بالنسبة للكبير والصغير على حدٍّ سواء، ولكن لابد حين إجراء عقد الزواج – سواء في الصغير أو في الكبير – من أن يقصد كلٌّ من "المتعاقدين" مضمون العقد قصداً جدياً، بمعنى أن يقصد كلّ منهما أن يصير زوجاً للآخر، بما للزوجية من معنى يفهمه ويعرفه العرف العام، وعلى هذا الأساس، فإن العقد الذي لا يُقصد فيه ذلك يكون عقداً باطلاً، سواء كان المتعاقدان كبيرين أو صغيرين بواسطة الوليّيْن عليهما، أو كان أحدهما كبيراً والآخر صغيراً.ولذا، لا نرى شرعية عقود التحريم التي تجري من أجل نشر الحرمة بين العاقد وأم المعقود عليها، أو بين المعقود عليها وأب العاقد، وغير ذلك، لا لأنه بأساسه غير ممكن، بل لأن الشرط الذي ذكرناه غير متحقق واقعاً، خصوصاً عندما يشترط أولياء العقد ومن يُشرف على إجرائه هبة المدة إذا كان العقد منقطعاً أو الطلاق في العقد الدائم.
ولاية الأخوة:
* هل يجوز لأخوة الزوجة التي طلّقها زوجها أن يمنعوا أختهم من الرجوع إلى زوجها إذا أرادت ذلك؟
- لا ولاية لأحد على هذه المرأة المطلقة، والتي تريد هي وزوجها العودة إلى البيت الزوجي، لأن الأخوة لا يملكون أية سلطة على أختهم تخوّلهم منعها من الزواج ممن تحب وترضى، سواء كانت مطلَّقة أو غير ذلك حتى لو كانت بكراً، فإن الولاية بناءً على من يقول بالولاية في عقد الزواج إنما هي للأب أو الجد للأب فقط دون غيرهما.وعلى هؤلاء الأخوة أن يتقوا الله في ذلك، ويعرفوا أن في منعهم أختهم من ذلك، تجاوزاً لحدودهم وظلماً لها، وهذا ما لا يرضاه الله لهم ولها.
زواج الرشيدة:
* هل يجوز للفتاة الرشيدة أن تتزوج من دون إذن أهلها؟
- يجوز للفتاة البالغة الرشيدة أن تستقلَّ بتزويج نفسها من دون إذن الوليّ، ولكن الأفضل الاستئذان مراعاةً للناحية الأخلاقية، هذا إذا لم يكن في ذلك ضرر أو حرج ولو بلحاظ الظروف الاجتماعية التي يمكن أن تنتج عن ذلك.
ولاية الأب على ابنته:
* هل يجوز لفتاة أن تزوج نفسها رغم ممانعة أبيها، وهي لم تبلغ سن الرشد؟
- لا يصح لها ذلك ما دامت غير رشيدة، والعقد باطل.
نظر ابن الزوج:
* أنا امرأة متزوجة، ولزوجي ولد من زوجة أخرى، هل يستطيع أن يراني من دون حجاب؟
- هو بمثابة الابن لك، فلا يجوز لك الزواج منه مطلقاً، ولذا فيمكنه النظر إليك من دون حجاب.
الزواج من أخت الزوجة:
* هل يجوز لي أن أتزوج من أخت زوجتي إذا طلقت زوجتي ولم تنقض عدّتها؟
- إذا كان الطلاق بائناً، جاز الزواج من أخت الزوجة ولو كانت الأخيرة أثناء عدتها، وأما إذا كان الطلاق رجعياً، فلا بد من الانتظار حتى انقضاء العدة.
زواج الصبي بلا قصد:
* تشترطون في صحة الزواج وجود القصد، ومن ناحية ثانية تجيزون الزواج من شخص غير بالغ ولا يفهم القصد، هل يوجد تناقض؟
- ربما السائل لا يعرف الفرق بين الموردين.أما القصد فإنه يشترط في كل العقود لأن العقود تابعة للقصود، فالعقد التزام من الطرفين، بمعنى أن يقصد كل من الزوجين معنى الزواج، وذلك عندما تقول الزوجة أو وكيلها زوجتك نفسي أو موكلتي، فيقول الزوج أو وكيله قبلت.أما بالنسبة إلى الصبي فإن زواجه باطل لأنه لا عبرة بقصده، وإنما يصح تزويجه من قبل الولي وذلك بمقتضى الولاية، ويصح من الولي بشرط المصلحة.فهناك فرق بين الموردين، واشتراط القصد حاصل في الموردين، غاية الأمر أن القصد في الكبير صادر عنه، وفي الصغير صادر عن وليّه.
الزواج الدائم من المسيحية:
* أريد الزواج من امرأة مسيحية، وهي لا تعتقد بالزواج المؤقت، هل يحق لي أن أتزوجها بالعقد الدائم، وفي نيتي الطلاق في المستقبل، وهي تعلم بذلك وراضية به؟
- إذا كانت مقتنعة بالزواج الدائم وتعرف أنك سوف تطلقها ولا يكون هناك غش لها ولا تعطي صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين فليست هناك مشكلة.
غياب الزوج:
* زوجي سافر إلى بلد عربي وتركني أنا وأولادي منذ ثمان سنوات، ومنذ ثلاث سنوات لم يبعث لي نفقتي، هل يجوز الطلاق منه غيابياً؟
- هذه المرأة ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي فينذره، وهو بالخيار، إما أن ينفق أو يطلق، فإذا امتنع طلقها الحاكم الشرعي.
نشوز الزوجة:
* زوجتي ناشز ولا تسمح ظروفي بطلاقها وأنا أكره مساكنتها، فهل يجوز تركها، وما هي نصيحتكم مع العلم أنه لم تنفع معها جميع الحلول؟
- إذا كانت ناشزاً وأمكنك أن تعيدها إلى الطاعة بطريقة أو بأخرى فذلك حسن، وإذا كنت لا تريد طلاقها فإن عليك أن لا تتركها معلقة، فلتسرحها بالمعروف وتختار طريقاً آخر وتختار هي طريقاً آخر لها أيضاً، بمعنى كن إنساناً.ولا ينبغي أن يكون الإنسان أنانياً في الزواج ويستغل قضية الطلاق التي في يده ليعذِّب زوجته.
الزواج بالخامسة:
* ما هو الأثر المترتب على الزوجة الخامسة وما بعدها وما يترتب على الأولاد من الناحية الشرعية وعدمها عند علم الجميع وعدمه؟
- الزواج بالخامسة باطل، وكل ما ترتب على هذا الزواج باطل.
العدل بين الزوجات:
* يقول أحد الباحثين إن الله لم يقصد من العدل الاستطاعة في التسوية بين الزوجات، إنما قصد الإنصاف وعدم الجور في حكم السماح بتعدد الزوجات، ما هو تعليقكم على هذا التفسير؟
- ورد عندنا الحديث عن أحدهم – أي الإمام الصادق أو الباقر(ع) – وكان أحد الزنادقة يقول إن الله ناقض نفسه، فكيف يقول {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}(النساء/3)، ويقول {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا}، فنقل أحد أصحاب الإمام ذلك إليه، فقال الإمام(ع) أما قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فإن المقصود به العدل في النفقة، وأما قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} فإن المراد بالعدل هنا الميل القلبي، ولذا يقول {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} يعني في المحبة {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}(النساء/129).
) أي أنه يتحدث عن الميل القلبي، وفي الآية السابقة يتحدث عن المعاملة في أداء حقوقها، ولذا أقر هذا الزواج في حال استطاع الزوج العدل في النفقة، على أن العدل بمعنى الميل غير ممكن ولذا فإنه يلزم أن لا يؤدي إلى تعليق الزوجة والإضرار بها.
تحديد الأم:
* رجل له زوجتان، الأولى أخذت منها بيضة ولقحت خارج الرحم من زوجها وزرعت في رحم الثانية، فمن هي والدة الطفل؟
- في رأينا أن والدة الطفل هي صاحبة البيضة، أما على رأي السيد الخوئي (رحمه الله) فإنّ والدة الطفل هي الحامل.
حكم الزواج:
* وإذا تكررت العملية مع صاحبة البيضة مع زوج آخر بعد انفصالها عن زوجها الأول، فهل يجوز زواج المولود الثاني في الحالة الثانية من المولود الأول إذا كان الأول ولداً والثاني بنتاً؟
- حكمه تابع للتقليد.فإذا فرضنا إن رأي الفقيه أن الوليد ابن صاحبة البويضة، فمعنى ذلك أن هذه أخته، عندما تتزوج زوجاً آخر فهذه أخته من أمه لا يجوز أن يتزوجها إذا كان هذا ولداً وهذه بنتاً، وأما على رأي السيد الخوئي إذا كانت الحامل هي الأم، فليس هناك مشكلة لو أن صاحبة البويضة تزوجت آخر وأنجبت بنتاً يجوز الزواج حسب التقليد.
استئذان الوالدين في الزواج:
* هل يجب على الولد أن يأخذ بالاعتبار رضا والديه في الزواج، أم أن ذلك من باب الإحسان والعشرة الحسنة؟
- هو من باب الإحسان والعشرة، وإلا فإنه لا تجب طاعة الوالد في مثل هذه الأمور، بل يجب الإحسان إليه.
تزويج الصغار:
* عقد أحد الأشخاص لابنه الصغير وكان لا يتجاوز عشرة أعوام على فتاة عمرها ثمان عشرة سنة لأجل تحليل النظر إليها وغير ذلك، فهل يصح الزواج المذكور؟ وهل يجوز النظر إليها فعلاً؟
- لا يصحّ الزواج المذكور، لأن عقد الزواج يحتاج إلى الجدية، بمعنى أن يقصد عقد الزواج، وأن هذه زوجة لهذا وهذا زوج لهذه.فإذا حصل هذا من الولي جداً وحقيقة فهو زواج صحيح، ولكن الكلام هو في حصول هذه الإرادة، لأن الملحوظ – غالباً – في هذه الحالات من الزواج هو مجرد تحليل النظر للأب وغير ذلك، وهذا مؤشر على عدم الإرادة الكاملة الجدية، ولذلك نستشكل في مثل هذه الحالات المشار إليها.
رضاع الجدة:
* ما علة تحريم الجدة لأبناء بنتها؟
- المشهور بين علمائنا أنه (لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن، وقد استدلوا على ذلك برواية على هذا الحكم الخاص خروجاً عن القاعدة، ولكننا وفاقاً للشيخ الطوسي نرى أن لا تحريم في مثل هذا الفرض، فلو أن جدة أرضعت ابن بنتها فإن ابنتها لا تحرم على زوجها، لأننا نناقش في استدلال المشهور، ويمكن مراجعة أبحاثنا الفقهية على مستوى الاستدلال وتحديداً كتاب (رسالة في الرضاع).
دية الجنين:
* إذا أجهضت الزوجة وأسقطت حملها من دون عذر عند طبيب غير شرعي ولا قانوني، وكانت مدة الحمل شهرين وذلك بدون علم زوجها بل وبمعارضته، فما هو الحكم الشرعي؟
- الدية على المرأة إن أسقطت هي، وعلى الطبيب إذا كان هو المباشر وتدفع الدية للزوج.
توكيل المرأة لعقد الزواج:
* هل يجوز توكيل المرأة عن الرجل في عقد الزواج الدائم؟
- يجوز أن يوكِّل الرجل امرأةً في أن تعقد لنفسها أو تعقد لغيرها، كما يجوز توكيلها في الطلاق، سواء طلاق نفسها أو طلاق غيرها.
فرض قانون بالزواج من الثانية:
* هل يستطيع الحاكم الشرعي في حال وجود دولة إسلامية فرض قانون يلزم الراغب بالزواج للمرة الثانية إثبات قدرته على الإنفاق على الزوجة الثانية؟
- نعم، لأن الزواج بالثانية مشروط بالعدل في الإنفاق، فإذا كان غير مستطيع، فيجوز للحاكم الشرعي أن يطلِّق زوجته إذا لم ينفق عليها من باب المصلحة العامة.
حق الخلع للزوجة:
* ما رأيكم بحكم الخلع الذي أعطي في المحاكم المصرية؟
- هناك خلاف في المحاكم المصرية حول ذلك، فيما إذا كرهت الزوجة زوجها، فهل يجبر على الطلاق؟ وهو رأي لا يزال خاضعاً للدراسة والتمحيص.
الجلوس مع الخطيبة:
* هل يجوز أن أجلس مع خطيبتي لوحدنا في المنزل الذي يوجد فيه أهلها وذلك بقصد الدعوة والتعليم والتربية؟
- لا مانع من ذلك إذا كان قد تم عقد الزواج.أما إذا كان لا يوجد عقد، فمع الاحتفاظ بالجوانب والقيود الشرعية ومع وجود الأهل فيجوز ذلك.
عقد رحم المرأة:
* ما هو رأيكم بعقد الرحم، مع العلم أن حالتي الصحية عند الحمل تكون مزرية، وأنا أم لأربعة أطفال، فهل يحق لي عقد الرحم؟
- إذا فرضنا أن عقد الرحم مما يمكن رفعه بعد ذلك فلا مانع منه شرعاً، وكما قلنا إن تجميد طاقة الإنجاب مؤقتاً جائز، وذلك من حق الرجل والمرأة، وأما قتل الطاقة فإنه عمل غير جائز.ولابد من ملاحظة نقطة مهمة، وهي أن الأم والأب قد يحتاجان في المستقبل إلى الإنجاب بسبب بعض العوارض التي تصيب الأولاد، أو بفعل أوضاع أخرى، فلابد من مراعاة ذلك باللجوء إلى تجميد الطاقة دون القتل لها.
شروط الطلاق:
* حصلت حالة شجار مع زوجتي وقد طلبت مني الطلاق وبإصرار، فطلقتها ثلاثاً، فهل هي طالقة مع حضور شاهد وشاهدة، فهل هذا طلاق شرعي؟وهل أستطيع إرجاعها؟
- بالنسبة إلى إخواننا السنّة، فإن الطلاق المذكور صحيح، ويعطي أثره وتنتهي العلاقة الزوجية، وأما بالنسبة للفقه الإمامي، فإن الطلاق المذكور باطل، لأنه لابد من شاهدين عدلين أولاً، ثم إذا قال أحدهم طالق ثلاثاً أو ألف مرة ومع وجود الشروط فهي تُطلق طلقة واحدة عندنا.إذ التطليق مراراً في مجلس واحد هو طلاق واحد، ثم إذا كان شاهد وشاهدة فإن هذا الطلاق باطل أيضاً، لأنه لابد من شهادة رجلين، إذ قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}(البقرة/282)، {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}(الطلاق/2).
) فلابد أن يكون الشاهدان شاهدين عدلين. فإذا لم يكن هناك شاهدان عدلان، فالطلاق باطل.
حق طلاق الزوجة:
* امرأة متزوجة منذ ثلاثين عاماً، زوجها لا يقاربها منذ ثمانية أعوام، وهي معه في نفس المنزل، حيث يأتي للمنزل ليلاً ويخرج صباحاً، لا ينفق عليها وأولاده متزوجون والذي ينفق عليها (المجتمع، ولو طلبت الطلاق فإنه لا مأوى لها، هل يحق لها ذلك؟
- يحق لها طلب الطلاق، وهناك قاعدة عامة مفادها أنه إذا كان الرجل لا ينفق على زوجته ولا يقوم بحقها من الناحية الزوجية أيضاً، فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي فينذره، فإذا لم يرتدع يطلقها الحاكم الشرعي. ولكن الأخت تذكر أنه ليس لها مأوى، فهي على الأقل تحصل على المأوى في البيت، والمجتمع قد لا يحقق لها هذا المأوى، وإذا كان عندها فرصة المأوى فالحاكم الشرعي يمكن له أن يطلقها في هذه الحالة.
الاستعانة بالآخرين في الزواج:
* إني شاب في الثلاثين من عمري، وأريد الزواج، ولكن لا أقدر على تكاليفه، هل يجوز لي أن أطلب من إخواني المؤمنين المساعدة أم لا؟ لأني أتمتع بصحة جيدة، وإني أعمل ولكن المردود لا يكفي؟
- على الإنسان أن لا يتعوَّد على الاتكالية، بل عليه أن يصبر حتى يستطيع أن يؤمن ما يحتاجه.لكن لو أراد الإخوان أن يساعدوك فلا بأس في ذلك، ولكن أخشى أن تتعود على سؤال الناس في حاجاتك فتكسل عن تحصيل رزقك بالعمل، وتتحول إلى شخص اتكالي بطّال، وهذا ليس فيه مصلحة لك.
معاملة الزوج:
* زوجي إنسان مؤمن يساعد الناس، وهو حسينيّ يقيم في بيته العزاءات الحسينية، ولكنَّ فيه عيباً، أنه في داخل بيته يتغير إلى إنسان آخر، يستعمل مع عائلته ألفاظاً نابية، وقد حاولت أن أغيّره لكن عبثاً، حيث إنه يجلسني ويقعدني بألفاظ نابية، وبدأ يؤثر ذلك على ألفاظ أولادي، رغم أني أريد أن أربيهم تربية إسلامية حقيقية، وهو يهينني، فماذا تنصحون؟
- نقول لهذه الأخت إنّ عليها أن تصبر على زوجها وتحاول ذلك إذا أمكن، وبما لا يسيء إلى علاقتها الزوجية، وأن تطلب من بعض الناس الذين يؤثِّرون عليه نصحه ووعظه في هذا المجال، لأن، كما قالت، يؤثر على تربية الأولاد، بالإضافة إلى أنه لا يجوز ذلك في نفسه، وعندنا حديث عن رسول الله(ص) في حق هذا الزوج وغيره من أضرابه أنه قال: «إن الله حرّم الجنة على كل فحاش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال وما قيل».وعندنا قصة في كتاب (الكافي) في موضوع بذاءة اللسان، أن شخصاً عابداً في بني إسرائيل، وهو متزوج، بقي عشرين سنة ولم يرزق بولد، إلى أن تولَّدت عنده مرارة في نفسه، ودعا ربه: هل أنا بعيد عنك يا رب فلا تقبلني ولا تستجيب لي..فأتاه آتٍ في المنام فقال له: إنك دعوت الله بلسان بذيء وقلب غير نقي ونية غير صادقة، فأقلع عن بذاءتك، وليتق الله قلبك، واخلص نيتك، يُستجب دعاؤك.ففعل ذلك ورزق بولد بعد عشرين سنة.ومع الأسف، هناك جماعة مؤمنة، وبعضهم يصلي صلاة الليل، ويحج ويذهب إلى العمرة والزيارة، وهو بذيء اللسان، وهذا ما لا ينسجم مع الإيمان والدين، ولو فرضنا عندك صديق وهو يعرف أنك تحب أكلة معينة ويريد أن يسرَّك فبعث لك هذه الأكلة بأحسن ما يكون، ولكن وضعها في صحن مملوء بالوساخة والحشرات وقدمها لك، هل تتقبل ذلك؟! تقول الأكلة طيبة لكن كيف آكل والصحن كله وسخ؟ وحالنا كذلك، فإننا عندما ندعو الله فهل ندعوه بلسان بمثل هذا اللسان، كما هو حال الصحن الذي يوضع فيه الطعام.فإذا كان اللسان وسخاً وبذيئاً فكيف تصل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؟! هكذا يجب أن نفهم القضايا.
الطلاق المدني:
* ثار خلاف عائلي مع زوجتي نتيجة عقدي على امرأة أخرى، وقد ذهبت في هذا الخلاف بعيداً، حتى لجأت إلى المحاكم المدنية في بلدي العراق، ونتيجة القوانين الوضعية السائدة فقد حصلت من المحاكم المدنية على حكم طلاقها مني، فهل هي طالق مني شرعاً؟ علماً أن لي منها أبناءً وأن هذا الخلاف له ظروفه ويمكن حلّه؟
- هذا الطلاق لا قيمة له، وإن كان للحاكم الشرعي أن يطلق، وذلك إذا كان الزوج لا ينفق على زوجته فترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، فيخيره بين الطلاق والإنفاق، فإذا امتنع منهما، طلقها الحاكم الشرعي، بل حتى إذا كان الزوج غير موجود لكن علم بواسطة الشهود بأنه لا ينفق على زوجته ولا يتحمل المسؤولية، وكذلك إذا امتنع الزوج من إعطاء الزوجة حقوقها الشرعية في الجنس، بحيث جعلها كالمعلقة، فإنها كذلك ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، فإذا امتنع الزوج من ذلك وظل مصراً فللحاكم الشرعي أن يطلقها.ومن تلك الحالات أيضاً إذا حصل ضرر من العلاقة الزوجية، كأن يضربها مثلاً بشكل من الأشكال الذي تشعر أن بقاء زوجيتها معه يشكل ضرراً بكل ما للكلمة من معنى، فإنه يمكن للحاكم الشرعي أن يطلقها عندما يدرس القضية بكل ظروفها، ولكن كل هذه السلطات هي من صلاحيات الحاكم الشرعي، وهو الفقيه، وليس ذلك من صلاحيات المحاكم المدنية، خاصة وأن الزواج الثاني ليس مبرراً لطلب الطلاق.نعم، للزوجة الأولى المطالبة بحقوقها كاملة غير منقوصة.
الزواج في العدة:
* امرأة تزوجت من قبل شخص قبل إكمالها عدتها الشرعية، وكان ذلك قبل 12 سنة، والآن لديها أربعة أطفال من الثاني، ما هو الحكم بالنسبة لزواجها الأول، وكذلك بالنسبة للأطفال من الثاني؟
- إذا فرضنا أنها تزوجت من شخص قبل إكمال عدتها الشرعية فالعقد باطل.نعم، إذا كانت هي جاهلة فهذا يسمى وطء شبهة والأولاد شرعيون، لكن عليها أن تنفصل عن زوجها الذي تزوجته أثناء عدتها وبدون طلاق.هذا بالنسبة لمن تزوج امرأة في عدتها، أما إذا فرضنا أنها تزوجت شخصاً ثالثاً بعد أن انفصلت عن هذا الزوج الذي تزوجته في العدة، فيكون الزواج الثالث صحيحاً.
إسقاط الجنين المشوَّه:
* أنجبت زوجتي طفلاً مشوهاً، والآن هي حامل بشهرها الرابع ويقول لها الطبيب إن الجنين سيكون أيضاً مشوهاً، فهل يجوز الإجهاض؟
- لا يجوز لها ذلك، لأن التشويه لا يبرر قتل المشوّه حتى لو كان جنيناً، وإلاّ لو جاز ذلك لجاز لنا قتل المشوهين الكبار.
ثامناً: أموال وبنوك
الاتصالات الهاتفية:
* توجد محلات للاتصالات الهاتفية العامّة وهي رخيصة، وهي إمّا مسروقة أو لشخص يحاول أن يجمع بعض الأموال ثم يهرب، هل يجوز الاتصال منها؟
- لا يجوز سرقة الدولة ولا سرقة الناس، لأنّ كلّ أموال الدولة هي أموال الشعب، وإذا سرقت هذه الأموال فإنها ستكلّف الناس مرة أخرى من خلال الضرائب وغير ذلك.
التصرف بأموال الناس:
* كنت خياطاً وجاءني صاحب قماش لأخيط له ثوباً فاستعمل ما بقي من قماشه للآخر بدون علم صاحبه وبدون أخذ الثمن مقابله، ماذا أفعل الآن؟
- إذا لم يكن راضياً بذلك فعليك أن تتسامح منه، وترجعه له إذا كانت العين باقية، وإذا كنت لا تعرفه أو لا طريق إليك لإيصاله تصدّق بثمن ما أخذته منه.
البيع الخياري:
* هناك في القانون العقاري مبادلة البيوت مقابل مبلغ من المال إلى فترة محددة، بعد هذه الفترة يستطيع صاحب المنزل إرجاع منزله مقابل إعادة النقود إلى صاحبها، فهل هذا الشيء شرعي؟
- هذا بيع خياري، بمعنى أن يبيع البيت ويشترط عليه إن أعاد له الثمن فإنه يرجع له البيت، فإذا كان على هذا النحو فيجوز.
الكشف الناقص عن الضرائب:
* أسكن في إحدى الدول الأوروبية، وأنا أملك محلاً لبيع البضائع، ولكني لا أخبر الدولة بكل الصادرات والواردات، بل أخبرهم بالقسط الكبير، وأما الباقي فيكون بدون علمهم، لأنهم يأخذون على كل بضاعة ربحاً معيناً، بحيث لا يتركون مجالاً للربح، فليس هناك حل إلا إذا علمناً بأن معظم الباعة، سواءً كانوا عرباً أو أوروبيين يقومون بمثل هذا، فما هو رأيكم؟
- ليس محرماً، ولكن لا نرجو للناس ذلك.
حدود الربح:
* إذا اشتريت مادة بسعر معين، ثم بعتها بسعر مضاعف مرة أو مرتين، ما هو حكم ذلك؟
- يجوز ذلك، لأن الناس مسلطون على أموالهم.
المقاصة بالحقوق:
* لأحدهم صديق اقترض منه مبلغاً من المال، ولكنه لم يرجعه له، وكان لهذا الصديق ملابس عند الدائن على سبيل الأمانة لأنه في فترة معينة لم يكن لديه مكان، وذهب صاحب الملابس دون أن يسدد الدين، هل يجوز استخدام هذه الملابس؟ وتحت أي عنوان؟
- إذا كان الرجل ممتنعاً عن الوفاء فإن للدائن أن يأخذ ملابسه بقدر ما له عليه من مال.
هدايا الطفل:
* في أثناء قدوم مولود جديد للأب والأم تقدم هدايا بعضها تدل القرائن على أنها للطفل والآخر مثل النقود لا نعرف هل هي راجعة للطفل أم للأم؟
- الأحوط صرفها على الطفل في نفقاته الخاصة.
فائدة البنوك غير الإسلامية:
* هل يجوز أخذ الفائدة من البنوك غير الإسلامية مثل بنوك الهند؟
- لا يجوز الربا من المسلم وغير المسلم، ومن البنوك الإسلامية وغير الإسلامية، ولكن يجوز للمودع أن لا يقصد الفائدة في التزامه العقدي، وعند ذلك يجوز له أخذ الفائدة التي تكون حينئذ بمثابة الهبة، ويجوز تملكها والتصرف بها.
شراء أرض مغصوبة:
* حصلت على قسيمة سكنية من الدولة، واتضح أن هذه الأرض مغصوبة، علماً بأن الحكومة قد استردتها ووزعتها على المواطنين (أصحاب الدخل المحدود)؟
- لابدّ من إرجاعها إلى مالكها الأصلي إذا كان معلوماً، أو إلى الحاكم الشرعي إذا كان المالك مجهولاً، ولكن إذا كان صاحبها قد قبض ثمنها من الدولة ورضي بذلك أو أعرض عنها بعد استيلاء الدولة عليها جاز تملكها من قبلك.
هل يجب الاقراض:
* إذا جاءنا شخص يريد دينا" وهو يحتاج إليه على نحو لو لم نعطه إياه لحقه الضرر أو يموت، هل يجب إعطاؤه دينا"؟
- إذا كنت قادرا" على أن تدفع له مبلغا" على نحو الدين و كان في وضع يتعرض معه إلى الخطر في حال عدم إعطائك المبلغ الذي يطلبه ولم يكن هناك مانع آخر يجب عليك ذلك.
البيع بأسعار مختلفة:
* هل يجوز للبائع أن يبيع بضاعته بأسعار مختلفة فتارة" يرخصها لبعض المشترين و يرفع السعر لآخرين خاصة" إذا كان ذلك مسموحا" به من الناحية القانونية؟
- الناس مسلطون على أموالهم فيمكنك أن تعطي سلعتك بلا مقابل، و يمكنك أن تبيعها بخسارة أو تبيعها بسعر أعلى، إلا أن تكون هناك حالات غير إعتيادية فيمكن للحاكم الشرعي تحديد الأسعار و ذلك بالعنوان الثانوي.
تحديد الموت:
* بالنسبة إلى فتواكم بجواز نقل الكلية من الميت إلى الحي، فإنه من الناحية الطبية لا يمكن الاستفادة من نقل الكلية وسائر الأعضاء من الميت إلا في الفترة الفاصلة بين موت الدماغ وتوقف القلب، فهل يصح اعتباره ميتاً عند موت دماغه وقبل توقف قلبه، وبالتالي تؤخذ منه الكلية أو الأعضاء المطلوب زراعتها في غيره من المرضى؟
- إذا توفرت المبررات الشرعية المعتبرة في جواز أخذ الكلية أو الأعضاء المطلوب زراعتها - ما عدا القلب ونحوه مما يؤدي إلى توقف النبض كلياً - فلا مانع من أخذ ذلك في الفرض المذكور.ولم نستطع - حتى الآن - تأكيد انطباق عنوان الميت - شرعاً - على الميت طبياً لتوقف الدماغ، من الناحية المفهومية، ولكننا لا نوجب وضع الجهاز الذي يطيل أمد التنفس، ولا نحرّم رفعه عن المريض.
وقف بعد الموت:
* امرأة أوصت بقطعة أرض وقفاً بعد وفاتها، ما حكم الوصية؟ وعلى فرض صحة الوقف، هل يجوز للورثة تعديل هذه القطعة الموقوفة بنصيبهم الباقي من الإرث أم لا؟
- لا يصح الوقف المعلَّق على الموت، ولكن الوصية بالإيقاف بعد الموت جائزة ويجب على الوصي تنفيذها، ولا يجوز تبديل الوقف بعد ذلك، ولا تبديل الوصية، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة/181).
خيار البائع:
* إذا كنت أعلم أن أرضاً أو عقاراً سوف تعمل فيه الدولة مشروعاً مثلاً، أو سوف يرتفع ثمنه بسبب أحداث يعلمها المشتري ولا يعملها البائع، فهل يجوز الإسراع إلى شرائها دون أن يكون ذلك تغريراً للبائع؟
- يجوز الإسراع إلى شرائها ولا يعتبر ذلك تغريراً بالبائع ما دام الشراء تم بالسعر الطبيعي في وقته، ولكن للبائع الخيار إذا اكتشف الغبن في الثمن الذي باعه به بحسب القيمة وقت البيع.
الاستئجار مرتين:
* استقدمت مؤسسة عمالاً، فهل يجوز لصاحبها أن يؤجرهم لمؤسسة أخرى بأجرة أكثر ويكون الفرق بين الأجرين لصالح صاحب المؤسسة الأولى الذي يتكفل بإدخال العمال إلى البلاد وإدارة شؤونهم الادارية والقانونية؟
- يجوز له ذلك بلحاظ ما صرفه عليهم من المال في إدخالهم إلى البلاد وإدارة شؤونهم.
الرجوع عن قرار بناء مسجد:
* إذا قرر بعض المؤمنين أن يبنوا مسجداً في منطقة معينة وجمعوا لذلك أموالاً كثيرة ثم ألغي القرار، ما هي الوظيفة اتجاه الأموال التي جمعت مع الجهل بأكثر المتبرعين؟
- لابدّ من مراجعة الحاكم الشرعي مع عدم إمكان استئذانهم أو استئذان بعضهم وليس لهم إلغاء القرار إلاّ إذا كان هناك مانع من التنفيذ.
استعمال لوازم المسجد لأغراض شخصية:
* رجل نذر مليون ليرة لتوسيع مسجد واشترى المستلزمات لذلك، وعندما أكمل توسيع المسجد بقي بعض القضبان من الحديد، فأخذها ولده ولإكمال المنزل الذي يشيده، فهل يحقّ له شرعاً أن يستعملها لغرضه الخاص مع العلم أنها اشتريت لتوسيع المسجد؟
- إذا كان ذلك زائداً عن المليون فيجوز ذلك، وإلاّ فلابد من دفع ما يقابل ذلك لصرفه على المسجد.
هل يرث الكافر المسلم:
* رجل اعتنق الإسلام وله ولد بالغ غير مسلم، ففي حال وفاة الأب، هل يرث الولد أباه؟
- لا يرث الكافر المسلم أبداً، ولو لم يكن للمسلم إلا هذا الولد الكافر.
التأمين على الحياة:
* هل التأمين على الحياة جائز، خصوصاً إذا كان عن طريق استثمار المبلغ، أي في حالة انقضاء المدة من دون الوفاة فإنه يرجع المبلغ كله مع فائدة السوق؟
- لا مانع من التأمين على الحياة، لأنه عقدٌ مستقلّ، ويجب الوفاء به، لكن بشرط ألا يكون مشتملاً على ما يحرم الوفاء به.
الاقتراض من الوديعة:
* هل يجوز لي الاقتراض من الأموال التي وهبتها إلى أهلي وبقيت في حوزتي كأمانة؟
- إذا علمت بالفحوى أن أهلك يرضون بذلك فيجوز.
حرمان البنات من الإرث:
* هناك عادة شائعة في القرى، وهي حرمان البنات من الميراث، حيث تلزم المرأة بعد موت أبيها بأن تتنازل عن نصيبها لأخوتها الذكور تحت الضغط الاجتماعي.فما هو رأي سماحتكم بهذه العادة؟ وما هو حكم المال المأخوذ منها حياءً؟
- رأي الإسلام في أخوتها الذكور أنهم غاصبون وسارقون بكل ما للكلمة من معنى.وهذا المال حرام، لأنه لم يؤخذ حياءً فقط بل بالقوة.ثم المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصباً.لذلك فإن ما يأخذه الذكور من أخواتهم تحت الضغط والعادة فإنه حرام بكل ما للكلمة من معنى، وسيحاسبون عليه يوم القيامة، خصوصاً إذا كانت البنات يتامى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(النساء/10).
التصرف في أموال الغير:
* أعمل في مطعم وصاحبه خوّلني في كل شيء حتى دخل المطعم اليومي، وفي يوم كنت فيه بحاجة إلى مبلغ قدره دولار واحد، فأخذته من دخل المحل، علماً بأن صاحبه لم يكن معنا في العمل، ثم أعدته إلى دخل المحل دون علمه وبزيادة، فهل أكون مأثوماً في عملي، وهل يجب إعلامه بذلك؟
- إذا فوّضك حتى بهذه الطريقة، فإنه لا مشكلة في مثل هذا التصرف، وما دام أنك أرجعته فاستغفر الله إذا كان عندك شبهة في الموضوع.
اللقطة المحرمة:
* وما حكم اللقطة من هذا النوع، أي مما كان محرماً عندكم استهلاكاً كان أو تعاملاً؟
- إذا كان محرماً فهو مثل ملتقط الخمر لا يحل التصدق بها.
العثور على (علبة سجائر):
* عثرت على علبة سجائر وقمت بإتلافها، ماذا أفعل في حال ظهور صاحبها، وهل أعتبر ضامناً لها وأدفع له قيمتها؟
- إذا كان صاحب العلبة مقلداً لمن يجيز التدخين تكون ضامناً.
حرمان البنات في الحياة:
* رجل سجَّل أملاكه بأنها بيع قطعي لأبنائه وحرم بناته وهو يقصد حرمان البنات من الإرث، هل أنصحه أم أتركه؟
- عليك أن تنصحه وتقول له إن الله نظَّم الإرث حسب العدالة الإلهية، ثم إنك سوف تعقِّد البنات وسوف تشعرهن بالغبن، ولأن فرص الأولاد في الرزق والعيش أكثر من فرص البنات.وهذه العقلية لا تخلو من الجاهلية.
العثور على لقطة:
* وجدت مبلغاً زهيداً من المال في الشارع هل آخذه وأنا فقير؟
- إذا كان ليس فيه علامة، فليس هناك مشكلة في أن تتصدق به على نفسك.
بيع ألعاب الأطفال:
* لعب الأطفال التي على شكل إنسان أو حيوان هل يحرم بيعها؟
- بيعها ليس حراماً، بل إن بيع المنحوتات والتماثيل ليس حراماً – أيضاً – ومن يفتي بحرمة الصنع فإنه لا يفتي بحرمة البيع.
الإنفاق المستحب مع الدَّين:
* رجل مدين بدين مؤجل، فهل يحق له أن يساعد أهله في الإنفاق ويتصدق على الفقراء، وخاصة وأن هذا الشيء يحبه ويؤمن به؟
- إذا المكلّف مطالباً بالدين فعليه أن يفي دينه في أقرب وقت ولا يجوز له أن يصرف ماله في غير الدين، أما إذا كان موسّع الدين وغير مضيّق كما هو مفروض السؤال فإنه يجوز له الإنفاق المستحب.
التوبة من التعامل بالربا:
* شخص كان يأخذ من البنك أو من شخص ما ربا، والآن تاب، هل تكفي منه التوبة أم يجب عليه إرجاع الفائدة إلى البنك أو الشخص؟
- بالنسبة إلى البنك فالظاهر أن البنك مستعد أن يعطي الفائدة للشخص، سواء كان مستحقاً للفائدة أو غير مستحق لها، ولذا ليس هناك إشكال من جهة البنك، أما بالنسبة للأشخاص فإنه يجب تحصيل الرضا من الآخرين.
الاقتراض من البنك:
* بلغت من العمر العقد الخامس ولا أملك منزلاً مستقلاً، وحتى الآن لم أستطع أن أوفّر ثمن منزل، هل يجوز استقراض مبلغ من البنك وأنتم تعلمون أن ذلك يترتب عليه فائدة مركبة؟
- قلت مراراً إن الإنسان في هذه الحالة عندما يريد أن يقترض لابد أن يقصد القرض، فإذا تحقق هذا منه - وقليلاً ما يتحقق بقصد القرض – دون أن يلتزم بالالتزام العقدي بدفع الفائدة، بحيث يفكر بإعطاء الفائدة رغماً عنه، وبحيث لو قدر فإنه لا يعطيها.إذا تحقق هذا الشيء كان جائزاً، بحيث يلتزم بالقرض ولا يلتزم بالالتزام العقدي بدفع الفائدة.
تزاحم نفقة الزوجة والأبوين:
* إذا تزاحمت نفقة الزوجة مع نفقة الأبوين ما هو التكليف؟
- تقدم نفقة الزوجة، لأن نفقة الزوجة دين، بمعنى إذا لم ينفق الزوج على الزوجة يوماً ما فإنها تصبح ديناً في ذمته، وأما إذا لم ينفق على أبيه أو على أمه وهو قادر فإنه مأثوم ولا تكون نفقتهما ديناً عليه، وهذا يعني أن نفقة الزوجة حق، أي دين، بينما نفقة الأبوين حكم.
الإسراف مع الأولاد:
* لو طلب منا أبناؤنا الصغار مالاً أو ملابساً أو أكلاً يصل إلى حدِّ الإسراف، هل يحق لنا إعطاؤهم لأنهم ليسوا مكلفين؟
- ليس لك الإسراف في مثل هذا الفرض، لأن مقتضى ولايتك وأبوتك أن تجنبهم الإسراف، لأن هذا يضرهم بقطع النظر عن قضية الحلال والحرام، كما لا يجوز لك أن تسرف، لأنك عندما تعطي أولادك مالاً لا يحتاجونه في حياتهم الخاصة فإنك تصبح مسرفاً، لأن الإنسان لابد أن يصرف ماله بالطريقة العقلائية، فأنت عندما تعطي أولادك مالاً لا يحتاجونه فإن ذلك يمثل إسرافاً، فالإسراف يكون فعل الأب لا فعل الأبناء، فيحرم من هذه الجهة أيضاً.
إرث المرأة:
* أمي طلبت من أخوتها الحصول على حصتها من تركة أبيها، فقالوا إن حكمنا عشائري ولا نعترف بحقوق المرأة، ووبخوا أمي وطردوها من بيتهم، ما الذي يترتب عليّ اتجاه ذلك؟
- أولاً: هؤلاء لصوص، لأن الأم ورثت من أبيها ما هو مقرر شرعاً وبمقتضى حكم الله تعالى: {للذكر مثل حظ الأنثيين}(النساء/11)، فلا يجوز لهم أن يعتمدوا على الحكم العشائري.فهل يقدِّم الحكم العشائري على حكم الله؟! {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}(المائدة/44)، فإن ذلك سرقة، وثانياً فيه عقوق للوالدين، فعلى الساعي أن يسعى بكل ما لديه من طاقة لإعطاء أمه من التركة وأن يوبخهم على ما قاموا به تجاهها.
جهة صرف نفقة الزوجة:
* يبعث لي زوجي مصروفاً شهرياً، فهل يجوز لي أن أرسله إلى أخي في بلد آخر كي لا تنقطع أخباره؟
- إذا كان ذلك المصروف الذي يبعثه زوجك لتصرفيه على شؤونك الحياتية كزوجة وشؤون البيت فإنه لا يجوز لك أن تبعثيه لأخيك، إلا إذا كان الزوج يبعثه إليك على نحو يملِّكك فيه المال شخصياً.
ضمان الضائع:
* أخذت إحدى الأخوات مني خاتماً وضاع عندها، فهل يجب أن تضمنه لي؟
- إن كانت أخذته على نحو الأمانة وضاع بدون تفريط فلا تضمنه، أما إذا سرقته أو لم تحفظه فتضمنه.
ردّ المسروق:
* شخص سافر إلى أحد الأقطار العربية قبل حوالي عشرين سنة، وهناك تعرف على شخص عربي وتكونت بين الاثنين صداقة، ولكن الشيطان قد وسوس للشخص الأول وقد سرق من صديقه مبلغاً من المال، والآن يريد هذا أن يبرئ ذمته وهو لا يعرف اسم الشخص المسروق، ولا عنوانه، فما هو الحكم الشرعي بالنسبة للسارق؟
- عليه في هذه الحالة إذا لم يكن له أية وسيلة لمعرفة الشخص أن يأتي بالمال إلى الحاكم الشرعي ليتصدق به عن صاحبه.
القروض التجارية:
* تاجر يستعين بالبنوك التجارية للدخول في فرص تجارية رابحة عن طريق الاستقراض على أنها فرص نادرة وتضطره للاستقراض؟
- هذا من الربا الذي لا يجوز، ولكن لو فرضنا أنه يستطيع عدم الالتزام بالفائدة فإنه يجوز.
ربح المال عن طريق اليانصيب:
* لي صديق وعن طريق الصدفة اشترى (بطاقة يانصيب) ولأول مرة في حياته، وقد ربحت مبلغاً لا بأس به، فما هو موقفه من هذا المبلغ؟
- في رأينا أن (اليانصيب) ليس محرماً، ولذلك فهو يملك هذا المبلغ..
فوائد البنوك:
* إني مقيم في ألمانيا وراتبي الشهري لا يكفي لمساعدة عائلتي وهي مقيمة في بلد آخر، فأخذت قرضاً من البنك من أجل مصرف عائلتي من الأكل والشرب والإيجار وغيرها، مع العلم أن القرض عليه فوائد ولا يوجد عندنا أي حل غير هذا؟
- الظاهر من هذه الطريقة أن الإنسان يقصد القرض فقط، وعندما لا يريد الإنسان أن يدخل في معاملة الربا، فيمكنه أن يلتزم المعاملة الأساسية، وهو هنا في المقام القرض وحده دون أن يلتزم دفع الفائدة، فافرض أن البنك يشترط عليك دفع الفائدة، ولكنك كنت تقصد القرض وحده وتلتزم في نفسك أنك تدفع الفائدة، لا على أساس التزامك العقدي، بل على أساس الضغط القانوني، فهذا هو الذي يخرج المعاملة عن حيّز الحرام، لكن مع توفر هذا الشرط النفسي الذي أشرنا إليه.
تخليص الحقوق:
* أخذ أخوة أمي إرثها بالقوة والإكراه، فهل يجوز لأمي أن تأخذ حقها بالقوة واللجوء إلى القاضي؟
- يجوز لها أن تتحاكم إلى القاضي.
تاسعاً: السلوك والمعاملات
الخمر القليل والكثير سواء:
* كان لي حديث مع صديق يشرب الخمر، وعندما نهيته عن ذلك قال لي إني أشرب القليل ومع الأكل وليس لحد الإسكار، فلماذا تحرّمونه؟
- كلّ ما أسكر كثيره فقليله حرام، ثم أن الخمر فيه أشياء بحسب اكتشافات الأطباء تتعلّق بالصحة والعقل.
العمليات الاستشهادية:
* هناك تحرك واسع لتفسير العمليات الإستشهادية في فلسطين بالإنتحار، فما هي وجهة نظركم؟
- نحن أطلقنا عشرات الأحاديث المؤكّده بأن هذه عمليات إستشهادية وليست انتحارية، وكلّ عمل يقوم به الإنسان في سبيل الله في الحرب المشروعة فهو عمل استشهادي.
الموسيقى الحلال:
* مسألة الموسيقى والغناء عندكم تخضع حرمتها لمدى إثارة المادة أو الكيفية لدى السامع، فلو كانت الموسيقى غير مثيرة ولكنها أخذت من أغنية لمغنٍ، تارة موسيقاه تناسب مجالس اللهو والطرب، وأخرى لا تناسب، فما حكم سماع هذه الموسيقى؟
- إذا كانت الموسيقى غير مثيرة للغرائز أو الشهوات فهي حلال سواءً أخذت ممن يغني أو غيره، لأن الأساس إنما هي الموسيقى التي تثير الغرائز، وهذا رأي السيد الخوئي أيضاً.
الانتصار للمظلوم:
* صديقي ظُلم فسواءً سامح أم لم يسامح الظالم، هل يحقّ لي أن أتكلّم عن مظلوميته، وأنا أعلم أنني لا أستطيع استرجاع الحق، مع العلم أنه لم يطلب مني الدفاع عنه؟
- الحق محصور بالمظلوم في الحديث عن ظلامته، وفي قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ}(النساء/148)، يعني نفس المظلوم لا غير.
الوصية لأجنبي:
* والدي أوصى قبل وفاته لشخص ليس أخاً لنا كان يخدمه في حياته بأن يرث معنا، وكانت الوصية في محضر من الناس، وأنا ابنه الأكبر كنت حاضراً في أثناء الوصية، فما رأيكم في المسألة؟
- إذا كان المقدار الذي أوصى به بحدود الثلث فيجب أن تعطوه ذلك، وما زاد عن الثلث فلكم أن تعطوه إياه أو تمنعوه، لأنه موقوف على إجازتكم.
الوصية بالدفن:
* لي صديق مهاجر معي في هولندا وتوفي هناك وأوصى بأن يدفن في العراق وكان ذلك صعباً،فهل يجوز أن أنقله الآن وقد دفن على سبيل الأمانة؟
- يجوز ذلك إذا دفن على سبيل الأمانة.
التعامل مع الشكوك:
* أقيم في هولندا حيث المخدرات الخفيفة مباحة، ومنطقتي قريبة من الحدود الألمانية، إحدى أهم مراكز ترويج المخدرات، وهناك محلات شرعية في منطقتنا لبيع اللحوم الحلال، وبعد سنوات عرفت أنها تروّج المخدرات وتبيّض أموالها، فهل يجوز شراء اللحوم وغيرها من هذه المحلات، وما هو البديل، علماً بأن أقرب بديل هو على بعد حوالي 50 كم، والحالة اكتشفتها مع المحل البديل، وهذه التجارة تكاد تكون حصراً على الجاليات الشرقية ومحلاتها؟
- إذا كان اللحم حلالاً وكان هناك حرج في الذهاب إلى غير هذه المحلات، فلا مانع من الشراء منها.
المطالبة بالوصية:
* توفي والدي قبل جدي، وبذلك لا أرث شيئاً من جدي على مذهبنا الشيعي، ولكن جدي أوصى قبل وفاته أحد عمومتي بأن لي حصة من إرثه كحصتهم، ولكن لم يعمل أحد بهذه الوصية، وعلمت بعد ذلك بأن القانون يحكم بأن الابن يرث أباه وإن مات قبل أبيه فيرث الأحفاد حصة أبيهم، أيجوز أن أرفع دعوى لأقتصّ حقي من عمومتي؟
- إذا لم يكن له طريقة إلاّ هذه فإنه يجوز المطالبة، ولكن لا تأخذ أكثر مما أوصى به لك جدك، طبعاً إذا لم يكن أزيد من الثلث.
استماع الأولاد للأناشيد:
* نحن في بلاد الغرب، وتأثيراتها كبيرة.سؤالي: هل يجوز أن يستمع أطفالي الأناشيد الإسلامية، وخصوصاً اللبنانية، وهي تتغنى بحب أهل البيت(ع) مع وجود أجهزة موسيقية؟
- يجوز استماع الموسيقى المشار إليها في السؤال بلحاظ كونها ذات مضمون إسلامي، ولم تكن من الموسيقى التي تناسب أهل الفسق والفجور.
حكم الجلاتين:
* ما حكم الجلاتين البقري المستورد من البلدان الكافرة؟
- مع العلم بكونه مأخوذاً من حيوان غير مذكى وتحققت الاستحالة فلا بأس بذلك، وقد أخبرنا بعض أهل الخبرة من الثقاة أن الاستحالة متحققة عادة في مثل ذلك.
اللعب بالشطرنج:
* ما هو حكم اللعب بالشطرنج؟
- يجوز اللعب إذا لم يكن مع الرهان، لأن الحرام هو ما يكون اللعب فيه مصداقاً للقمار ويتم مع رهان، وبدونه فلا حرمة عندئذ، ولكن بالنحو الذي لا يستغرق المرء فيه أوقاته بحيث يمنعه عن القيام بالكثير من واجباته الدينية أو الاجتماعية ونحو ذلك، والاحتياط في الترك لا بأس به.
الأفلام على الإنترنت:
* ما هو حكم مشاهدة الأفلام الخلاعية على الإنترنت؟
- لا يجوز مشاهدة ما يؤدي غالباً إلى الوقوع في الحرام، وما يوجب ضعف المناعة الدينية والأخلاقية، لا سيما إذا كان خليعاً، من دون فرق بين كون ذلك بواسطة الإنترنت أو الفيديو أو غير ذلك.
تغيير النذر:
* شخص نذر ذبيحة، ولكنه غيّر رأيه وساعد محتاجاً بمبلغ نقدي يزيد عن قيمة الذبيحة، فهل هذا يؤدي غرض نية النذر؟
- لابد من وفاء النذر بالإتيان بمتعلقه، ولا يجوز استبداله بشيء آخر.
موسيقى التحية:
* من قديم الزمان كان يوجد في حرم الإمام الرضا(ع) فرقة موسيقية تقوم بالعزف عند الشروق والغروب، فما رأيكم بها وعلى ماذا تدلّ؟
- لا حرمة فيها، وربما كانت موضوعة لتحية الإمام الرضا(ع) في بداية اليوم ونهايته.
تربية الأسماك غير المحلّلة:
* هل يجوز تربية أسماك غير محللة الأكل وبيعها لمن يستحلونها؟
- يجوز ذلك لغرض بيعها لمستحليها.
الأكل مع الأطفال:
* في مدارس رياض الأطفال معلمات يزاولن التدريس، وفي وقت الفطور للأطفال الذين لم يتجاوزوا السن الخامسة، يقدمون بعض مأكولاتهم إلى المعلمات، وفي بعض الأحيان يصر الأطفال على الأكل من عندهم، فهل هذا جائز أم لا؟ وفي بعض الأحيان يعرض الطفل عن طعامه الخاص، فهل يجوز الأكل منه؟
- إذا كان المتعارف هو إطعام الأطفال بمقدار حاجتهم مع السماح للمعلمات بذلك، فيجوز لهن الأكل منه.
بيع الخنـزير لمستحليه:
* هل يجوز شراء الخنـزير لبيع لحمه لمستحليه؟
- إن شراء لحم الخنـزير محل إشكال عندنا حتى لو كان ذلك لبيعه لمستحليه، ولذلك فإننا لا نفتي بجواز وضعه في المحل من جهة الشراء، وفتوانا بجواز بيع أو تقديم لحم الخنزير لمستحليه تنفع العمال لا التجار.
إنكار الحجاب:
* هل وجوب الحجاب من الضروريات الإسلامية، وما حكم من ينكرون الحجاب والذين لا يعتنون بلبسه؟
- الحجاب يعتبر من الأمور الثابتة في الشريعة الإسلامية، ويعتبر الذين يخالفونه، من العاصين لله في حكم شرعي..والإصرار على عدم الحجاب من الكبائر.
حق المارة:
(ما هو حق المارة؟ وما هي شروطه؟
* يجوز للمار على الأشجار المثمرة أن يأكل منها بشرط أن لا يحمل معه شيئاً منها.على أن لا يكون دخوله إليها بقصد الأكل منها، وأن لا يكون مروره على أرض لا يجوز له الدخول إليها.
التقاط الحاجيات من الشارع:
* تقوم البلدية بمصادرة الآليات القديمة المهجورة في الشوارع بعد إنذار أصحابها وإعطائهم مهلة لرفعها من مكانها، ثم تجعلها في مستودعاتها لاستعمال قطع غيار السيارات، فهل يجوز لعمال البلدية الأخذ من هذه القطع لإصلاح سياراتهم الخاصة؟
* يجوز لهم ذلك إذا كان تركها في الشوارع إعراضاً عنها ورغبة في تركها لمن يأخذها.
الأحذية المزينة:
* هل يجوز للمرأة لبس الأحذية المزينة باللؤلؤ الاصطناعي البراق أو ارتداء العباءة البراقة الجذابة؟
- لا يجوز لبس أدوات الزينة إذا كانت سبباً للإثارة.
تنفيذ وصية:
* أوصت امرأة في حال صحتها ثم مرضت حتى اختل شعورها، فأوصت في هذه الحالة بوصية أخرى، فبأيهما يعمل؟
- لابد من الأخذ بالوصية الأولى إذا علم أن الثانية تمت من دون وعي و لا شعور.
الجيلاتين والغليسيرين:
* ما هو نظر سماحتكم حول الجيلاتين(Gela(ع)(ع)n) الغليسيرينو (Glyce(عج) (ع)n)وغيره من المواد مما يستعمل في الكثير من المنتوجات الغذائية ولا يدري المشتري هل أخذ من حيوان مذكى أو لا؟ وما هو الحكم في صورة الظن القوي أو العلم بأنه مأخوذ من حيوان غير مذكى حتى الخنزير؟ وهل يوجد اختلاف في هذه المسألة بين سماحتكم وبين الفتوى المشهورة للفقهاء الشيعة؟
- الظاهر أن الجيلاتين حلال لحصول الاستحالة بالعملية الكيمائية من الغضروف المستخرج، ولكن الاحتياط لا بأس به.
المراسلة عبر الإنترنت:
* أود أن أسأل سماحتكم فيما إذا كانت المراسلة بين الرجل والمرأة عن طريق الإنترنت حلالاً أم حراماً؟
- إذا كانت لغرض عملي أو ديني، وكانت بعيدة عن الأجواء المثيرة فلا حرمة عندئذ، ولكننا لا ننصح بذلك، لأنها قد تؤدي - بفعل العلاقة الحميمة - إلى ما لا تحمد عقباه، وقد تخضع بعض النساء للإغراءات في الزواج أو في علاقات غير شرعية من خلال بعض أساليب التخاطب.
هل الوصف من الغيبة:
* لديَّ ولدان صُمّ، وأحياناً يسألان عن بعض الأشخاص، فأضطر إلى وصفهم ببعض الصفات المميزة لهم: طويل، قصير، أسمر أو بعض الحركات الصادرة منهم، وكل ذلك ليس للانتقاص أو التحقير أو الإهانة، بل لتقريب الفهم إلى أولادي، هل يجوز ذلك؟ وإذا كان لا يجوز، فما هو برأيكم حدود الجائز في ذلك؟
- ليس ذلك من مصاديق الغيبة ما دام يُعتبر شكلاً من أشكال التعبير، ولا يُقصد من ذلك الإساءة إلى صاحبه.
اللعب في أرض مغصوبة:
* هل يجوز لعب كرة القدم في أرض يُشاع أنها مغصوبة، وهذه الأرض مجهولة المالك؟
- لابد من العلم بكونها كذلك حتى يُبنى على حرمة التصرّف بها بما يكون عنواناً للغصب، ولابد عندئذ إذا كانت مجهولة المالك من الرجوع إلى الحاكم الشرعي.
حكم السمك المستورد:
* ما حكم سمك (الطون) المستورد من دول غير إسلامية مع القطع يقيناً بأن اصطياده لا يتم إلاّ عن طرق الشباك؟
- لا مانع من أكله شرط أن يكون من السمك الذي له قشر (فلس) على الأحوط، والظاهر أنه كذلك حسب شهادة أهل الخبرة.
هل يجوز أكل المحترق:
* تتكون بعض الحبيبات السوداء المحروقة على الخبز، فهل تعتبر تلك الحبيبات خَبَثاً لا يجوز أكل الخبز لأجله؟
- لا يلزم من ذلك صدق العنوان المذكور على الخبز، ولذا فلا مانع من أكله.
الشك في نوع السمك الحلال:
* إذا شك المكلف في كون بعض الكائنات البحرية ذات فلس، فما هو حكم أكله؟
- إذا كانت هذه الكائنات البحرية من السمك، ولكن شك في أنه ذو فلس، فالأحوط الامتناع عن أكله، كما يجب الامتناع إذا شك في كونه سمكاً.
ممارسة القضاء:
* أنا شاب جامعي أرغب بالدخول إلى معهد القضاء لكي أصبح قاضياً في ملاك القضاء المدني، هل بإمكاني ذلك؟
- القضاء حرام إذا لم يكن بما أنزل الله، وهو عندئذِ بمثابة من لا يعطي الحق إلى أصحابه، بنحوٍ يكون قضاؤه مساعِداً للظالم في ظلمه، أما إذا كان القاضي دقيقاً في أحكامه بنحو يكون في منصبه غير مضيِّع لحقوق الناس أو حقوق الله، وكان مراقباً لله في كل ما يصدر من أحكام، وبنحوٍ لا يستند إلى رأيه في قبال ما شرّع الله، فإنه لا يكون حراماً عندئذٍ.وربما تمسّ الحاجة إلى مثل هذه الوظائف اللمصلحة الإسلامية العليا بلحاظ العنوان الثانوي، مما يرجع فيه إلى أهل الخبرة الذين يدرسون طبيعة الظروف والأوضاع في موارد الحاجات الملحّة العامة.
قضاء المرأة:
* هل يحرِّم الشرع على المرأة أن تكون قاضياً في المحكمة المدنية؟
- هناك رأي فقهي مشهور بأن منصب القضاء من خصوصيات الرجل، فلا يُشرع للمرأة ممارسته، ولكن هناك تحفّظات فقهية معاصرة على هذا الرأي، بحيث تميل إلى جواز تولّي المرأة لهذا المنصب، ولكنها لم تصل إلى نتيجة حاسمة.أما مفروض السؤال، فإن الأمر يختلف حسب اختلاف طبيعة هذه المحكمة في كونها إدارية أو جزائية، وحكمها حكم الرجل من هذه الناحية.
تحديد المسؤولية في حادث:
* كنت أقود السيارة وكان معي ثلاثة ركاب، وقع لنا حادث سير، جُرح ثلاثة، وتوفي الرابع، هل يترتب عليّ دفع الدية إلى أهل المتوفى؟
- إذا كان الحادث الذي وقع لكم نتيجة خطأ منك في القيادة، أو كان ناتجاً عن سرعة مفرطة منك، فالظاهر لزوم دفع الدية إلى أهل المتوفى، وأما إذا كان الحادث قضاءً وقدراً فلا دية عليك، بحيث لا يُنسب القتل إليك، والله تعالى العالم.
الرسم على وجوه الأطفال:
* هل يجوز أن نرسم على وجوه أطفالنا رسوماً للتمويه، كوجوه الحيوانات أو أي شيء آخر لمناسبة العيد أو لأي مناسبة أخرى، كما يفعل الكثيرون في الغرب لأطفالهم؟
(لا مانع من ذلك بالنسبة للأطفال غير البالغين، ولكننا لا نشجع على ذلك، لأن علينا تربية أطفالنا على العادات الحسنة المتناسبة مع أوضاعنا الاجتماعية الإسلامية.
الموضات المستحدثة:
* هل تفتون بحرمة قصَّات الشعر المُستحدَثَة؟
- لا حرمة في ذلك، ولكن لا ينبغي للمؤمن متابعة العادات والتقاليد الغربية في كل مجالاتها، ولا سيما ما لا فائدة منه.
التبرع بأعضاء الجسد:
* ما هو رأيكم بالتبرع بأعضاء الجسد لحاجة أحد المسلمين لها؟
- المشهور أن الإضرار بالبدن في مثل هذه الموارد حرام، ولكن الظاهر صحة ذلك فيما إذا لم يستلزم قتل طاقة معينة عند المتبرع، كما إذا تبرّع بإحدى كليتيه، دون كليهما.
ارتياد السينما:
* في بعض الأحيان يُعرض في دور السينما بعض الأفلام العلمية، فهل يجوز للمتدين الذهاب إلى السينما لمشاهدة هذه الأفلام؟
- لا مانع من ذلك، إذا لم تترتّب على ذلك مفسدة، كالهتك مثلاً.
حلاقة الرجل عند المرأة:
* هل يجوز للرجل أن يقصَّ شعره عند الحلاق (الأنثى)؟
- لا يجوز ذلك.
لبس الساعة الذهبية:
* هل يجوز لبس الساعة المطلية بالذهب؟
- لا مانع من لبس الساعة المذكورة، لأنه لا حرمة في لبس المعدن المطلي بالذهب، إذا لم يكن الذهب هو الغالب.
ممانعة الأهل في ارتداء الحجاب:
* ما هو حكم عدم ارتداء الحجاب إذا كان الأهل لا يريدون لابنتهم أن ترتديه؟
- لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا تجب طاعة الوالدين في خلع الحجاب، وهنا ينبغي الدخول مع الأهل في حوار من أجل إقناعهم بهذه المسألة، ولا يجوز مخالفة الأوامر الإلهية.
صيغة العهد:
* هل توجد صيغة معينة بأن أعاهد الله على أمر معين؟
- الصيغة هي أن تقول: أعاهد الله أو لله عليَّ عهد، أو نحو ذلك مما يدل عرفاً على هذا المعنى، شرط أن ينسب ذلك إلى الله تعالى.
الطبيب والتعامل مع المرضى:
* هل يجوز لي كطبيب أن أخفي عن المريض حالته الصحية إذا كان في ذلك إضرار له من الناحية النفسية؟ وهل يجوز لي إعطاؤه أملاً كاذباً من أجل رفع معنوياته؟
- إذا كان إخباره بمرضه يعجّل بوفاته، فلا يجوز ذلك، إلا إذا كانت هناك ضرورة لذلك، من جهة قيامه ببعض الأشياء المهمة جداً، والتي يترتب عليها مفسدة في حال عدم إعلامه بها.أما إعطاؤه الأمل الكاذب من خلال التورية في ذلك، من أجل إنعاش روحه وإعطائه الشعور بالحياة، فإن فيه أجراً وثواباً.
التماثيل والصور:
* ما هو رأيكم بالنسبة لصناعة المجسَّمات؟ وما هو حكم اقتنائها؟
- بالنسبة إلى قضية صنع المجسمات، فإني أحتاط فيها احتياطاً وجوبياً بالترك ولا أفتي بالحرمة، إنما الحرمة مبنية على الاحتياط الوجوبي، أما اقتناؤها واللعب بها للكبار والصغار والاستفادة منها في أي شيء، فلا مانع منه، لأننا نفهم من النصوص التي استدل بها على المنع من هذه التماثيل، أن المسألة متعلقة بموضوع الصنع، وليست بطبيعة التمثال، فقد ورد في بعض الأحاديث: «بأن من صور صورة أو مثل مثالاً كُلف أن ينفخ فيه يوم القيامة وليس بنافخ»([1025])، وما نستوحيه من هذه الأحاديث، فإن المسألة تتصل بشخصية النحَّات وشخصية صانع المجسمات باعتبار ذلك تشبّهاً بالخالق، وأنه قد يختزن في ذاته شخصية الخالق، عندما يبدو بجانب صنع التمثال، وليست من خلال نفس التمثال، فلذلك يُفتي الفقهاء كما نفتي بجواز اقتنائه وبيعه وشرائه واستعماله بكل أنواع الاستعمالات غير المحرمة.
الرياضات العنيفة:
* الرياضات العنيفة كالمصارعة والملاكمة أو ما شابهها تفتح غرائز الإنسان الوحشية، إذا صح التعبير، ما هو حكم الإسلام فيها؟
- النقطة الأولى: والتي تتصل بحاجة الإنسان للدفاع عن نفسه، فيتعلم الملاكمة ليستطيع – من خلال هذا الفن – أن يقوم بالدفاع عن نفسه في المجالات التي يتعرض فيها لعدوان معين، ونحن نعرف كثيراً من النساء اللاتي كن يتعرضن لحالات اغتصاب أو ما شابه ذلك، تملك من النجاة من خلال ما تعلمته من فنون الكاراتيه أو ما إلى ذلك، ومن هنا فإن مثل هذه الرياضات العنيفة تدخل في نطاق الوسائل والأساليب التي يمكن للإنسان أن يدافع فيها عن نفسه، ولهذا فليست هناك أية مشكلة في أن يتعلمها الإنسان، وأن يراقبها ليتعلم، وأن يمارسها ضد الآخر الذي يريد أن يعتدي عليه.
النقطة الأخرى: هي النتائج التي قد تلحق بالطرف الآخر في هذه الرياضات، وهي أنه قد يفقأ عين الشخص الثاني، وقد يكسر عظماً له أو ما إلى ذلك، فإن هناك تحفظات شرعية في هذا المجال، لا سيما إذا اتخذت مهنة، ولم تتخذ وسيلة من وسائل التدريب للدفاع أو ما إلى ذلك، لأنه لا يجوز للإنسان أن يتعدى على الآخر حتى لو رضي الآخر إذا كان الضرر بالغاً، لأنه ليس للآخر أن يمكّن إنساناً من أن يفقأ عينه أو يكسر عظمه أو يسيء إليه بشكل عنيف، إلا إذا كانت هناك مصلحة عليا تتعلق بالمصلحة الكبرى، كما لو توقفت حياته على استئصال عضو من أعضائه.
المزامير والأصوات العالية:
* هل إطلاق مزامير السيارات أو استخدام مكبرات الصوت بصوتٍ عال - بسبب أو غير سبب - جائز؟
- لا يجوز القيام بالأعمال التي تسيء إلى الناس وتؤدِّي إلى إزعاجهم في راحتهم ونومهم وأوضاعهم التي تتطلب الهدوء، من دون فرقٍ بين إطلاق المزامير بنحو مزعج من غير ضرورة، أو استعمال مكبَّرات الصوت، حتى في الحفلات الدينية والاجتماعية، أو رفع صوت المذياع أو التلفزيون أو آلة التسجيل، بما يؤدي إلى إيذاء الجيران وإقلاق راحتهم.حتى أن من اللازم الاكتفاء في آذان الفجر – بواسطة المكبر – بالمقدار الضروري الذي يحقق المصلحة الإسلامية العليا، لأنه لا يجوز الإضرار بالناس وبالوضع العام، فقد جاء عن النبي(ص): «لا ضرر ولا ضرار»
، وقد تحدث القرآن الكريم عن غضِّ الصوت كقيمة إيجابية من حيث هو الأسلوب الإسلامي في طريقة أداء الكلام، وعن رفعه بطريقة مزعجة كقيمة سلبية، من حيث منافاته للأخلاق الإسلامية، وذلك هو قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}(لقمان/19).
ولعل في هذا التشبيه بعض الإيحاء بأن الذين يرفعون أصواتهم عالياً يتمتعون بذوق حماري، ما ينفر منه الإنسان بشكل طبيعي، لأنه لا يحب تشبيهه بالحمار الذي يمثل البلادة الذهنية في العرف العام.
الوفاء بالنذر:
* عندما كنت في العراق، نذرت نذراً، وهو المشي سيراً على الأقدام في حال تخرجي من الجامعة من البيت إلى الجامعة، وبعدها سافرت من العراق، فما هو الحل؟
- النذر المذكور باطل، فالنذر إنما يكون صحيحاً إذا كان راجحاً، كما لو قال: إذا نجحت فإني نذرت أن أمشي على الأقدام من النجف إلى كربلاء لزيارة الحسين(ع، أما أن أمشي من البيت إلى الجامعة فهو أمر غير راجح، فهل الجامعة مكان مقدس؟ ولذلك لا يجب الوفاء بمثل هذا النذر لأنه لا ينعقد أصلاً.
الإيمان بالأرقام:
* هل علم الأرقام وارتباطه بحركة الكواكب، موجود؟ وهل ممارسته والأخذ به جائز؟
- أظن أن العلم تجاوز ذلك، والاكتشافات الحديثة والتطور العلمي تجاوز علم الأرقام وما إلى ذلك، وأما الأخذ به فهو لا يجوز إذا نسب إليه التدبير والتأثير.
ادعاء النسب الهاشمي:
* أحد الأشخاص يدعي أنه هاشمي، وأنا أعرف أن دعواه غير صحيحة، هل يجوز لي تكذيبه، إذا كان هناك أثر على ذلك وأنا أعرفه جيداً؟
- إذا كان هناك مفسدة فيجوز تكذيبه، وإذا لم تكن هناك مفسدة لا يجب عليك ذلك.وقد لا يجوز إذا كان هناك تشهير.نعم إذا سألك أحدهم بصدد إعطائه الخمس من سهم السادة مثلاً يمكن أن يقال إنه ليس هاشمياً.
الكحول في الأغذية:
* نحن نقيم في أوروبا، وبعض المواد تحتوي على الكحول مثل الخل والصاص، فهل يجوز تناولها؟
- إذا كانت نسبة الكحول نسبة مستهلكة فلا مانع من تناولها.
اقتباس خطب الجمعة:
* حاولت أن آخذ إحدى خطب الجمعة من صحيفة (بينات) حتى أخطب بها على منبر يوم الجمعة، هل يجوز ذلك بغير إذن شرعي من سماحتكم أو من غيركم؟
- كل ما عندي من إصدارات ومؤلفات فإنه يجوز لكل الناس أن يقتبسوا منها أحاديثهم وخطبهم، وإن شاء الله يزيد في ثوابي من ذلك ويزيد في التوعية.
الالتزام بالتعليمات الإدارية:
* في بعض الأماكن العامة توضع تعليمات، مثل عدم التدخين، وعدم رمي أعقاب السجائر، وعدم إحداث ضجة، ونحو ذلك، فهل يجب الالتزام بهذه التعليمات؟
- لا يجوز مخالفة التعليمات المكتوبة في الدوائر والسيارات العمومية والطائرات أو المحلات العامة أو الخاصة، بترك التدخين أو بعدم رمي أعقاب السجائر، لأن جواز ذلك منوط برضا أصحابها أو القائمين عليها أو ولاة الأمر عليها، فإذا لم يوافقوا على ذلك كان التصرف حراماً.
طفل الأنبوب:
* يبقى طفل الأنبوب المحتوي على البويضة الملقحة لفترة شهر في المختبر.فهنا - خلال هذا الشهر- هل يحق للطبيب مثلاً التخلص من الأنبوب، أو هل يحق للأم مثلاً أن تطلب ذلك باعتبار عدم استمرار رغبتها باعتماد هذا الأسلوب أو لأي اعتبار آخر؟ وفي حال التخلص المذكور، هل يعتبر ذلك قتلاً للنفس المحترمة، وهل تترتب على الفاعل أية مسؤولية؟ وهل يعد هذا نوعاً من الإجهاض في الحمل الطبيعي؟
- يجوز للطبيب التخلص من البويضة الملقحة في الفرض المذكور، ويمكن للأم أن تطلب ذلك لأي اعتبار، لأن المحرم هو إتلاف البويضة في داخل الرحم لا في خارجه، حسب الأدلة الشرعية المعتبرة، ولا يعتبر ذلك قتلاً للحياة أو النفس، ولا تترتب على الفاعل أية مسؤولية، وبذلك يعرف الفرق بين الإجهاض وطفل الأنبوب.
الطفل في مدرسة غير إسلامية:
* لا يخفى الأثر السيئ الذي تخلفه المدارس العلمانية أو غير الإسلامية في أطفال المسلمين، فمتى يجوز وضع الأطفال في مثل هذه المدارس، خاصةً مع وجود مدارس إسلامية يضمن فيها دين الولد، وحيث لا يجوز، ألا يعتبر ذلك منكراً تجب مواجهته؟
- لا يجوز ذلك إذا خيف عليهم الضلال، ولو في المستقبل، كما هو الغالب، ما يجعله من المنكرات الاجتماعية التربوية، أما إذا لم تكن المدرسة موجبة لذلك فيجوز، ولكننا لا نشجع إدخال الأولاد في المدارس غير الإسلامية مع وجود مدارس إسلامية في المستوى التربوي النموذجي.
مراتب الأمر بالمعروف:
* يذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الكفائية التي إذا قام بها البعض سقطت عن سائر المكلفين، فهل ترون هذا الرأي، خاصةً وأن بعض الفقهاء المعاصرين يفصل بين الأمر بإظهار الكراهة قولاً أو فعلاً فيراه واجباً عينياً، وبين الأمر بإعمال القدرة كالضرب فيراه واجباً كفائياً؟
- لما كان الهدف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة المعروف وإزهاق المنكر، فإذا حصل ذلك بقيام جماعة قادرة على تحقيق ذلك، فلا يجب على الآخرين، من دون فرق في موارده بين إظهار الكراهة قولاً أو فعلاً أو إعمال القدرة بالضرب، إلا إذا كان إظهار الكراهة من الجميع عاملاً مساعداً، بحيث يؤدي إلى تهيئة الأجواء لارتداعه عما هو فيه بأمر الآمرين ونهي الناهين.
شرط احتمال التأثير:
* ماذا يريد الفقهاء بشرط (احتمال التأثير) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل هو التأثير الفوري، لا سيما ونحن نعلم أن معظم المأمورين سوف يتأثرون بدرجة ما ولو فيما بعد، خاصة إذا صدر الأمر من عدة أشخاص وفي أزمنة مختلفة، وما رأيكم بهذا الشرط؟
- الظاهر أن المراد ب(احتمال الـتأثير) هو التأثير من حيث المبدأ، ولو كان ذلك في المستقبل، أو بانضمامه إلى الأوامر أو النواهي الصادرة من الآخرين، أو بكونه سبباً في إثارة التفكير لديه مما قد يؤدي إلى تأثره العملي به أو نحو ذلك، وليس المراد التأثير الفوري، بل هو في مقابل القطع بأن الشخص الفاعل لا يبالي بالأمر والنهي ولا يتأثر بهما، ولابد من التدقيق في ذلك، لأن بعض الناس ربما يستعجلون القطع بالسلب انطلاقاً من حالة نفسية لا شعورية من حب الراحة والبعد عن المسؤولية.
تطوع الولد للجهاد:
* هل يحق للولد البالغ الوحيد لأهله أن يتطوَّع للجهاد ضد أعداء الإسلام، ومنهم الصهاينة، رغم عدم موافقة والديه؟
- تارة يكون الواجب عليه عينياً، فإنه واجب نظير الصلاة ولا يحتاج إلى الإذن من أحد، وتارة يكون واجباً كفائياً فعليه أن يطلب من والديه الإذن.
النذر لله والنذر لغيره:
* ما الفرق بين النذر لله والنذر لأحد الأنبياء، وهل النية هي التي تنأى بالثاني عن الشرك؟
- النذر لله دائماً وإلا فلا يصح.نعم، تنذر له أن تدفع عن روح النبي.أما أن تنذر للنبي فلا ينعقد النذر، لأن النذر لله فقط والعهد لله فقط.
حدود الارتداد:
* كيف يكون الإنسان مرتداً؟ وما حدود الارتداد؟ وما هي أصول العقيدة التي في حال نقص أحدها يعتبر مرتداً؟
- الارتداد يتحقق أن ينكر الإنسان وجود الله أو توحيده أو ينكر نبوَّة النبي(ص) أو ينكر اليوم الآخر أو ينكر ضروريات الدين، مع التفاته إلى أن إنكار الضروري يؤدي إلى تكذيب الرسول.
دفن المصحف مع الميت:
* والدتي تكثر قراءة القرآن وتقول هل يجوز لي أن أدفن القرآن بجواري حين أموت وأدفن في القبر؟
- لا يجوز ذلك، لأن القرآن ليس للدفن، بل يحمل المسلم القرآن في قلبه وسيشفع له القرآن يوم القيامة إن شاء الله.
نسيان النية:
* بعض الأعمال من الواجبات والمستحبات وغيرها بعد الإتمام ننسى أن ننويها قربة إلى الله تعالى، هل يصح منا بدءاً من الآن أن ننوي كل الأعمال المستقبلية حتى المباحات قربةً إلى الله ويعطينا الله أجر المنسية منها؟
- أنت لست ناسياً، فأنت لماذا تعمل هذا وذاك العمل؟ لأنه بذهنك أنه واجب أو أنه مستحب وهو قربة إلى الله تعالى.وهذا كافٍ لأن النية هي القصد إلى الفعل.
شراء السجائر:
* ما رأيكم في التعامل بالسجائر كتجارة بيعاً وشراءً؟
- أنا أقول بحرمة التدخين، ولكنَّ بعض العلماء لا يرون ذلك، فبالإمكان الرجوع إليهم لأني أجوّز التبعيض، وإن كنت لا أحب بيع السجائر، لأنه السمّ الذي يوزع على الناس، خصوصاً السجائر الأمريكية، فبعض الناس يقول (الموت لأمريكا) وهو يدخن "مارلبورو".مع ملاحظة أن شراء السجائر الأمريكية مشمول بفتوى تحريم شراء البضائع الأمريكية ووجوب مقاطعتها، حتى مع القول بعدم حرمة التدخين.
العمل في مجال الإعلام المضادّ:
* هل يجوز للمؤمن أن يعمل في مجال الإعلام المضادّ للأمة الإسلامية من أجل الخبرة والتعرف على أسرار العمل الإعلامي كمقدم نشرات إخبارية وغير ذلك؟
- إذا كان الإسلام بحاجة إلى خبرته من أجل تحريكها مستقبلاً في خدمة الإسلام ولم يستطع أن يحصل على هذه الخبرة إلا بهذه الطريقة، فيجوز ذلك.
مقاطعة بضائع الامتياز الأمريكية:
* ما حكم البضائع المصنَّعة محلياً أو عربياً ولكن بترخيص من شركة أمريكية، فهل يجب مقاطعتها؟
- نعم تجب مقاطعتها، باعتبار أنَّ الشركات الأمريكية تأخذ حصة من عائداتها.أنا أصدرت الفتوى في المقاطعة منذ أكثر من سنتين، ووافقني عليها من علماء السنّة الشيخ يوسف القرضاوي.والغرض منها أن نثقف العالم الإسلامي بأن يحترم نفسه، ويحترم أمته، ويحترم أرضه، ويحترم كرامته.وأمريكا تعطي لإسرائيل كلَّ شيء، وهذه الأموال التي تدفعها تذهب بشكل غير مباشر إليهم ليشتروا بها رصاصاً يقتلون به الأبرياء المسلمين، والأعظم من هذا أن أغلب الدول العربية أرصدتها التي تبلغ 800 مليار دولار كلها موجودة في خزانة الولايات المتحدة، وكل فوائدها تذهب مساعدات لإسرائيل، ثلاثة مليارات دولار كل سنة.
وهنا أسأل: إذا كان شخص قد قتل أخاك أو أباك وكان عنده دكَّان فهل تشتري منه؟ وهذا يقتل الآن أبناءنا وإخواننا ويقتل سياستنا.بالأمس سألتني إذاعة "مونت كارلو" عن فائدة الفتوى وأجبت بأنها تفيد، وقد أفادت فعلاً، فلقد رأينا مطاعم "كنتاكي" ومطاعم "ماكدونالد" يأتون ويقولون إن رؤوس أموالهم وطنية، فقد بدأ التأثير، لأن الأمَّة بدأت تتقدَّم «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان»([1026]). ولكن مزاجنا عندنا أهم من عرضنا، أهم من كرامتنا، أهم من استقلالنا، أهم من مستقبلنا.إسرائيل تقاطع كل جريدة، كل جهة تقف مع العرب.أما نحن العرب فنقول: (الموت لأمريكا الموت لإسرائيل) فقط، وهم لا يهمهم السباب والشتائم، يهمهم الموقف، ولذلك أمريكا تعطي لإسرائيل الموقف وتعطينا الكلمات.
حضور أعراس فيها غناء:
* إذا دعينا إلى الأعراس وفيها غناء، هل نعتذر عن الذهاب أم نذهب ولكن لا نصغي إلى الغناء؟
- إذا كان وجود الإنسان تشجيعاً للمنكر يجب عليه النهي عن المنكر وعدم الذهاب، أما إذا كان عليه حرج فوق العادة فذلك حساب آخر {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج/78)، والإنسان عليه أن يعرف موقفه ليعرف تكليفه.
مقاطعة البضائع الأمريكية:
* لقد أفتيتم بمقاطعة البضائع الأمريكية، ما هو الحلّ بالنسبة لمن يعيش في أمريكا؟
- نحن قلنا إن المقاطعة مع الإمكان بنحو لا يضرّ ذلك بالمؤمنين.نعم، إذا وجد في أمريكا بضائع أوروبية أو إذا تعارفنا على الشركات التي تعين اليهود والشركات التي لا تعين اليهود، فإننا نشتري من الشركات التي لا تعين اليهود ونقاطع تلك التي تؤيد اليهود، بمعنى آخر أي البس لكل حالة لبوساً.
ردّ التحية مطلقاً:
* هل يعتبر (إلى اللقاء) و (مع السلامة) و(صباح الخير) كلها من التحية التي يجب الرد عليها؟
- الأحوط أن يرد عليها الإنسان {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(النساء/86).
حكم الوسواسي:
* أنا مبتلى بالوسواس القسري وما زلت في مقتبل العمر، ماذا تنصحونني، وما هو رأي الشارع المقدس بتلك المسألة بعد أن وجدت نتيجة التعقيدات الفقيهة ومسائله الدقيقة حسب رأيي ونتيجة تجربتي؟
- الواقع أن المسألة لا تحتاج إلى كل هذا التعقيد.إن عالم الخروج من الوسوسة يحتاج إلى الإرادة القوية، وإلا فإن الفقهاء يقولون إن الإنسان الوسواسي لا يعتنى بوسوسته وإن تكليفه ووظيفته هي عدم الاعتناء بكل هذا التعقيد، فإذا كان شكه هو الشك في الطهارة والنجاسة فإنه يبني على الطهارة، وإذا كان يشك بصحة صلاته فإن صلاته صحيحة، وكذلك فإن كل غسله صحيح.ولكن المشكلة أن بعض الناس يريد أن يكون أكثر غيرة على الشريعة، فإذا كان توسوسك هو الخوف من بطلان الصلاة أو الوضوء فإن الله يقول لك إنه يقبل هذه الصلاة وغيرها، وقد ورد في الحديث «لا شك لكثير الشك» ولذلك فإن الوسوسة مرض، ولكن بعض الناس يشعر بالغربة إذا لم يعتن بالوسوسة.قال أحدهم للإمام الصادق(ع) «إن فلاناً مبتلى بالوضوء والصلاة» فهو يكرر الوضوء والصلاة «قال: هو يعبد الشيطان، قال: كيف؟ قال: اسأله هذا الذي يأتيه من أين فسيقول لك من الشيطان»([1027]) إذاً فهو يطيع الشيطان.
مقاطعة البضائع الأمريكية:
* اشترى أحدنا سلعة أمريكية دون أن يدري أنها أمريكية، وبعد أن استعمل منها قليلاً علم أنها أمريكية، فلم يكن باستطاعته إرجاعها، فقال بعضهم برميها وقال آخر باستعمالها، ما رأيكم؟
- نحن قيدنا مسألة المقاطعة بعدم الضرر، ولما لم يكن الإنسان متعمداً فليست هناك مشكلة باستعمالها، ولا يعود مرة ثانية، ويجب أن يفتش عن طبيعة البضائع والمنتج.
الرؤيا هل هي حجّة؟
* هل تكليف الأئمة(ع) للإنسان في المنام بأمر معين يجب تنفيذه والعمل به؟
- المنام ليس حجّة ولا يجب على الإنسان أن يفعل ما رآه في منامه.
استعمال ممتلكات المسجد:
* نعمل في أحد المساجد، فهل يجوز لنا أن نستعمل إبريق شاي أو ما شابه ذلك من المواد الغذائية التي تكون وقفاً للمسجد، وهل يجوز ذلك أثناء العمل وبدون العمل؟
- إذا كان وقفاً للمسجد وكان الاستعمال في الموارد التي يصدق عليها أنها من موارد المسجد فيجوز وإلا فلا يجوز.
حجاب الزوجة:
* امرأة لا ترغب في الحجاب وزوجها يصرُّ عليها بارتدائه، فما هو الحكم؟
- الحجاب أمر شرعي يفترض طاعته، بغضِّ النظر عن إرادة الزوج، وعلى الزوج أن يقنعها بالحكمة والموعظة الحسنة.
آداب زيارة المشاهد المشرفة:
* بعض النساء اللائي يحضرن لزيارة السيدة زينبu وغيرها من المشاهد المشرفة متبرجات بما هو بعيد عن الإسلام، فماذا تقولون لهن؟
- نقول لهن إن الله يقول: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}(النور/31)، خصوصاً في أماكن العبادة والزيارة، ونقول إذا كن جئن احتراماً للسيدة زينبu فإنها uكانت النموذج الأكمل للمرأة المسلمة في حجابها والتزامها الديني.إن الزيارة لا تعني أن نأتي للسياحة أو أن نقبّل الضريح، بل تعني أن نعيش روحية السيدة زينب u وأخلاقية زينب u وبطولة زينب u ورسالية زينب u.هذا هو معنى الزيارة، أن نعيش هذه الشخصيات في كل فضائلها.
تناول الأغذية على الخطوط الجوية:
* إذا اشترط أحد المسافرين على إحدى الخطوط الأجنبية أن تكون الوجبة المقدمة له إسلامية، فهل يصح أن يأكل ما يقدمونه، علماً بأن الوجبة عندما تقدم له يكتب عليها بأنها وجبة إسلامية؟
- إذا حصل الاطمئنان لقولهم فيمكن له تناول هذه الوجبة.
شروط الحجاب:
* هل يشترط في الحجاب أن يكون ذا لون أسود؟ وهل يشترط لبس العباءة لأنها الحجاب الأكمل؟ وهل يعد لباس (المانتو) مثلاً حجاباً ناقصاًً؟
- نحن نقول إن الحجاب على قسمين، حجاب مادي وحجاب معنوي.أما الحجاب المادي فهو ستر البشرة بمعنى ستر الجسد.وأما الحجاب المعنوي أن تلبس المرأة، سواء بالتفصيل أو باللون لباساً غير مثير فيطمع الذي في قلبه مرض، وهذه قضايا تختلف حسب اختلاف الأزياء وحسب اختلاف الأماكن وما إلى ذلك.
مقاطعة البضائع الأمريكية:
* شخص يعيش في أحد البلاد الغربية شارك أحد الأشخاص في استيراد وتصدير البضائع الأمريكية وهو من مقلّديكم، هل يجوز له الاستمرار وهو في بداية العمل التجاري؟ وهل هناك فرق بين أن يكون ميدان عمله في البلدان الأوروبية وبين البلاد العربية والإسلامية، وهل يمكن الرجوع إلى غيركم من الفقهاء ممن لم يفت بذلك؟
- القضية ليست فتوى إنما هو حكم، والمطلوب بذلك هو تربية الأمة الإسلامية على أساس أن تعاقب من يعاقبها، لأن أمريكا التي تؤيد إسرائيل تأييداً مطلقاً وتضغط على الفلسطينيين وتضغط على العالم الإسلامي وتحاول أن تهدد هذا البلد أو ذاك البلد، لابد أن نؤذيها، فكيف نشجعها في شراء بضائعها.نعم البضاعة التي ليس لها بديل أو نتضرر إذا فرضنا عدم استعمالها فإنه يجوز شراؤها أو تداولها.
بيع المجلات:
* بعض الأخوة المؤمنين يملك مكتبة لبيع الكتب ويعرض في واجهة المكتبة عدداً من المجلات التي تكون صورة الغلاف فيها لنساء شبه عاريات؟
- إذا لم تكن هذه المجلات مخصصة لأمور غير أخلاقية وكانت الصور على الغلاف من قبيل الوضع الطارئ للمجلة، كما لو كانت المجلة اجتماعية أو طبية فإنه يجوز بيعها، وأما إذا كانت مجلات مخصصة لذلك فلا يجوز بيعها والترويج لها.وعلى كل حال، إذا أمكن عدم وضعها على واجهات المحل فإنه أمر حسن.
التعامل مع غير الملتزم:
* لي جار يبيع بضاعة بأسعار رخيصة، ما يؤدي إلى جلب الزبائن إليه بشكل كبير، ولكني علمت بأنه لا يصلي ولا يصوم، هل يجوز التعامل معه؟
- يجوز التعامل معه، ولكن لو فرضنا أن هناك شخصاً مؤمناً بائعاً فإنه ينبغي أن نشجع المؤمن على إيمانه بأن نتعامل مع المؤمن.
تحريم تناول القات:
* إذا كانت حرمة التدخين للضرر الذي يلحق بالمدخنين، فما هو القات المعروف والمتداول في اليمن وشمال أفريقيا؟
- إنما حرّمنا التحريم بناءً على الضرر الذي أجمع على حصوله الأطباء، وأما بالنسبة إلى (القات، فإننا لا نعرف عنه الكثير الذي يمكن أن نحرّمه كما هو التدخين، لكن لو فرض كونه مثل السجائر فإنه يحرم لنفس الجهة.
العمل الإعلامي:
* اختصاصي في البث الإذاعي والتلفزيوني، هل يجوز لي العمل في هذا المجال وهو لا يخلو من البث المحرم؟
- العمل في البث الإذاعي من حيث هو لا إشكال فيه، كما لو كان العمل في المجال التقني.
عمل المحامي:
* إذا كان المحامي يترافع عن مجرم ويعلم أنه مجرم وفق قانون وضعي يحرِّم الفعل تارة ويحلل الفعل تارة أخرى.هل يحل العمل المذكور وأخذ الأجرة عليه؟
- يرجع إلى الحكم الشرعي لتحديد ما كان فعلاً محرَّماً أو لا، وعندئذٍ إذا لم يكن الفعل حراماً جاز الدفاع عنه وأخذ الأجرة مقابل ذلك.
طاعة الوالدين:
* قلتم إن طاعة الوالدين تختص بالأوامر الإشفاقية، فلو أنني عملت عملاً نسبة الخطورة فيه بسيطة، ولكن حسب تقييم الأهل هو عملٌ فيه خطر كبير، فإذا أقدمت على هذا العمل دون إخبارهم، فهل بذلك أرتكب إثماً؟
- إذا لم يعلموا بذلك، فإنك لا ترتكب إثماً، ولكن الكلام إذا علموا ذلك وكان ذلك يهز عاطفتهم بصفة أنهما والدان، فهذا لا يجوز.
تسمية الأبناء:
* انتخاب أسماء الأبناء، هل هو حقُّ للأب أم للأم؟
- هو عادةً للأب، ولكنه يجب أن لا يغمط الأب حق زوجته في هذا الأمر، لأن علاقتها بإبنها أكثر من علاقته به، لأن الأمومة في جسد الأم، بينما الأب قد لا يشعر بالأبوة إلا بعد أن يأتي الولد، ثم إن الإسم هو في الأصل حق للولد، وليس للأب أو الأم على نحو يكون لأحدهما أن يعطي الإسم على مزاجه، ولدينا بعض الأحاديث أن من حق الولد على الوالد أن يُحسن اسمه، حسب المجتمع الذي يعيش فيه الولد، أي أن يختار له اسماً يتناسب مع ما عليه المجتمع وقيم الإسلام، ولذلك يجب أن نختار للولد اسماً لا يعقِّده ولا يعقِّد حياته، فهو من حق الولد.
متابعة كأس العالم:
* ما هو رأيكم في متابعة بطولة كأس العالم لكرة القدم عبر التلفزيون؟
- لا ينبغي للطلاب الانصراف الكلي في متابعة كأس العالم إذا كانوا في ظرف أداء الامتحانات، لأنهم سينشغلون عن دراستهم وامتحاناتهم، ولا فرق في ذلك بين طلاب العلم وطلاب المدارس الأخرى، كما أنه يحرم إذا كان ذلك مؤدياً إلى فوات واجب أو حق أو غير ذلك، ثم إنه لماذا نجعل كل توجهاتنا وعقلنا مشدودة إلى ضربة قدم، فنحن نحتاج إلى الاهتمام بالأمور التي تعطينا نتائج لثقافتنا ولحياتنا ولأمورنا، فلا نقول إنها حرام، ولكن علينا أن نختار هواياتنا وبطريقة عقلائية ولا نبالغ في ذلك.
الغش في الامتحان:
* ورد في الحديث أنه «من غشَّنا فليس منا»([1028]) وأنا طالب في الجامعة، فهل يعني ذلك تحريم الغش؟
- نعم، يحرم الغش في الامتحان، ويحرم على المعلم أن يعين على الغش، ويحرم على الطالب أن يغشّ، وهذه الفتوى أتفق فيها مع السيد الخوئي (ره).
تناول الحرام بغير علم:
* إذا سافر أحدهم إلى بلاد الغرب وأكل من لحم الخنزير دون أن يدري، فهل هذا حرام؟
- لم يرتكب حراماً، لأنه ورد في الحديث أنه «رفع الله عن أمتي ما لا يعلمون»([1029])، ولكن يحسن بالمسلم في تلك البلاد أن يتحقق من الأكل الحلال من غيره، لغلبة الأكل الحرام في تلك البلاد بما يكشف عن اهتمامه بالدين.
تناول المنشطات:
* ما هو رأي الإسلام في تناول المنشطات؟
- إن لم يكن فيها ضرر للجسم ولم يصدق عليها عنوان أي محرم آخر فإنه لا مانع من تناولها.
تغطية ذقن المرأة:
* هل يجب تغطية الذقن في حجاب المرأة البالغة العاقلة الرشيدة؟
- يجب على نحو الاحتياط.
ارتداء الأسود:
* تقول إحدى الأخوات: لقد مات زوجي وأنا أرتدي الأسود منذ خمس سنوات ويطلب مني بعض المقربين نزع الأسود والقسم الآخر يقول لي إنه حرام، فما هو رأي الشريعة؟
- إن الكثير من لبس الأسود يمثل حالة الجزع، فقد تلبس المرأة الأسود إلى يوم الأربعين، وليس على المرأة أن تظل حزينة أبداً، بل عليها أن تعيش حياتها الطبيعية، ويبقى الحزن بالمعنى الإنساني في القلب وفي منطقة الشعور بالشكل الهادئ الذي لا يربك حياة الإنسان، ولماذا نفرض الحزن على المرأة ولا نفرض الحزن على الرجل، فهذه تقاليد عنصرية جاهلية، تلك التي تبيح للرجل الذي توفيت زوجته أن يتزوج بعد الأربعين بينما لا تبيح ذلك للمرأة التي توفي زوجها، وتعتبر أنها بدون وفاء وبدون خجل، فالوفاء للميت هو الدعاء له أو قراءة القرآن أو الفاتحة أو قضاء الصلاة عنه.وأما غير ذلك فهو ليس شرعياً.وربما يحصل عند بعض سكان (الهندوس) أنهم يدفنون الزوجة مع زوجها عندما يموت وهي لا تزال حية، أما نحن فندفنها اجتماعياً بحسب هذه العقلية المتوحشة، فتلك وحشية وهنا وحشية لبعض العقليات المتحجرة.
مرق اللحم المشكوك التذكية:
* هل يمكن الاستفادة من المرق الذي طُبخ على لحم مشتبه فيه بين الحلية والحرمة، وإذا كان ذلك ممكناً فهل هناك شرط للاستفادة؟
- هناك رأيان في اللحم المشكوك من حيث إنه مذكى أم لا.فهناك رأي للسيد الخوئي وهو أن اللحم المشكوك في تذكيته يُعتبر طاهراً، فإذا رفعنا اللحم عن المرق فإنه طاهر، أما على رأي بعض العلماء الذين يفتون بنجاسة المشكوك تذكيته، فإنه لا يجوز تناوله لأنه نجس كما الميتة.
مشاهدة البرامج التلفزيونية:
* أرجو بيان رأيكم بالنسبة للنظر إلى البرامج التلفزيونية والرياضية أو الأفلام والمسلسلات العربية أو الأجنبية، علماً أنها لا تخلو من القصص غير المناسبة أخلاقياً، وكذلك برامج الأبراج التي أصبحت كأنها تكشف الغيب؟
- يجب دراسة البرنامج، فإذا كان يغلب عليه جانب الخلاعة وتمييع الجانب الأخلاقي فذلك لا يجوز مشاهدته، أما بالنسبة إلى الأبراج فهي خرافة، وإذا كانت للتسلية فلا بأس بذلك.
الردّ على الظلم الشخصي:
* لي صديق من المقربين لي، وأثق به ثقة عالية، وقد استأمنته على مبلغ قدره (6000) دولار أمريكيّ، وعندما طالبته بالمبلغ هرب ولم أعثر عليه، ووصل خبر أنه مسافر إلى أوروبا، والسؤال هو أنني لا أعرف كيف أتصرف، وكيف أطالب بحقي، مع العلم أن هناك أناساً يعرفون بخطة هروبه ولم يساعدوني في العثور عليه قبل هربه، فهل يحق لي أن أتخذ أي إجراء يضر بمصلحتهم؟
- أولاً: إننا نقول لك كما قيل «ما خانك الأمين ولكن ائتمنت الخائن)، فكان يفترض بك أن تكون حذراً في ذلك، لأنك لم تحاول أن تتوثق لنفسك، لأن الإنسان عندما يعطي (6000) دولار فإنه يُشهد على ذلك بعض الناس ويوثّق هذا الإشهاد، ويحاول أن يأخذ رهناً أو ما أشبه ذلك.ولذلك ورد أنه «ما ترك إنسان حرفاً من الشرع إلا أحوجه الله إلى ذلك».
وثانياً من جهة الناس الذين عرفوا بسفره، فلماذا تحاول أن تثأر منهم؟ فهم يعرفون أنك استأمنته، فيرون العلاقة بينك وبينه طيبة فلا دخل لهم بالموضوع.ويمكن أنهم لا يدرون أنه سافر هرباً حتى لا يعطيك مالك، ولذلك ليس لك الحق عليهم.نعم، إذا فرضنا أنه سافر وهم يعرفون ذلك كان من واجبهم أن يقولوا ذلك، ولكن هذا خطأ منهم لا يُحمّلهم أي مسؤولية مادية.
الكتابة للصغار:
* أطمح ان أكون كاتباً روائياً لقصص الرسوم المتحركة للأطفال وفيها طابع العنف، ولكن الخير ينتصر على الشر دائماً أو بعد المغامرة، حيث يصل الإنسان إلى هدفه، هل تجيزون ذلك؟
- إذا كانت القصص للأطفال فلابد أن يكون الكاتب أو الروائي دقيقاً جداً، حتى لا يستغرق الأطفال في العنف فيأخذون به ولا يتأثرون بالنهايات.لأنه إذا أراد أن يربط البداية بالنهاية فإنه يحتاج أن يكون عنده وعي بالموضوع.لهذا يجب أن يكون هناك دقة في هذا المقام، وإلاّ فمن حيث المبدأ ليس هناك مشكلة، ولكن يجب أن يكون الأسلوب دقيقاً.
المجاملات بين الناس:
* هل ما يجري من مجاملات بين الناس وربما اشتمل على شيء من المبالغة هو مجافاة للعدل والحق؟
- إذا كان ذلك في مقام المجاملة وليس في مقام إعطاء الرأي بالشخص فلا بأس به.فتارة تكون في مقام تقييم الشخص، وفي مقام إعطاء الرأي في الشخص للناس الآخرين، فإنه ربما يكون تغريراً، وقد قال النبي(ص): «إنما المؤمن إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل» فإذا أحببت شخصاً واحترمته فلا تعطه أكثر من حقه «وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن قول الحق» ([1030])، أي إذا أنت أبغضت شخصاً فلا تغمطه حقه، هذا في مقام التقييم.أما في مقام المجاملة فليس هناك مشكلة.
تسميات المحال التجارية:
* ما رأيكم بالإعلانات أو التسميات الموجودة على واجهة المحلات في منطقة السيدة زينب u، فهناك صالون نسائي يحمل اسم أحد المعصومين(ع، وهو إعلان ضوئي ويتضمن الإعلان صورة لفتاة متبرجة ملاصقة للتسمية.
- هذا غير جائز بما يصفه السائل، لأن في هذا هتكاً لحرمة المعصوم(ع) بهذا الشكل الذي يذكره السائل.
حكم الاستخارة:
* ما هو حكم الخيرة عندكم؟
- الخيرة هي بحسب طبيعتها دعاء، يعني أن يقول الشخص «اللهم إني استخيرك برحمتك خيرة في عافية، يا من يعلم أهد من لا يعلم» هذا معناه أنه يدعو الله سبحانه وتعالى، ولكن قضية الخيرة لدى بعض الناس تحولت إلى مرض، لأن الخيرة إنما تشرع عندما يفكر الإنسان ويستشير إخوانه فلا يصل إلى نتيجة، فيرجع عندها إلى الخيرة، ولكن بعض الناس بمجرد أن تأتيه الفكرة يستخير، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن الله سبحانه وتعالى أعطانا عقلاً، والخيرة ليست بديلاً عن التفكير، وليست بديلاً عن الاستشارة.ففكِّر، وإذا لم تصل إلى نتيجة استشر بعد ذلك، فإذا كنت في حالة حرجة واستنفدت كل الوسائل لمعرفة ما هو الحسن وما هو القبيح عند ذلك استخر، والله يرحم عبده عندما يراه مقبلاً عليه بكل إخلاص، وأنه متحير ومنزعج ومحتاج إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الله لابد أن يعطيه الخيرة الصالحة.والتجارب بالنسبة للخيرة تجارب ناجحة غالباً.
الرأي في طاعة الوالدين:
* ما هو الضابط في طاعة الوالدين؟ إنكم تقولون بعدم الوجوب والسيد الخوئي (ره) يقول بالوجوب في كل شيء؟
- السيد الخوئي (رحمه الله، وهو أستاذنا وأستاذ الفقهاء، يقول :لا يجب طاعة الوالدين إلا في الأمور الإشفاقية، وهي التي تنطلق من خلال العاطفة الأبوية، في ما يخافه الأبوان من خطر على الولد، لأن الأب أو الأم ليسا مشرّعين، والله لم يجعل لهما حق الطاعة، بل أوصى بهما وجعل لهما الإحسان، كما في قوله تعالى: وبالوالدين إحساناً.وقد بيّنت لكم فيما سبق لو أن أباً يرغب أن يكون لابنه الاختصاص نفسه الذي عليه هو، فإنه لا يجب على الولد إطاعته في ذلك.نعم، في الأمور التي تهز عاطفتهما فيما هو الخوف على الأولاد وتعرضهم للمخاطر، فإنه يجب طاعتهما لأنها من الأوامر الإشفاقية.
توقيع الطبيب على حرق الجثث:
* أنا طبيبٌ أعمل في مستشفى في لندن، أحياناً يطلب المرضى منا بعد موتهم حرق جثثهم، فهل هذا يجوز، ودوري أن أوقع على ورقة حرق الجثة، وأحياناً يموت المريض دماغياً لكن القلب يعمل ويبقى المريض على الأجهزة، فهل يجوز لنا رفع الأجهزة عن المريض لغرض راحته لأن موته محتم؟
- بالنسبة للأول فإن الوصية باطلة، لأن المريض إنما يجوز أن يوصي بما هو مشروع، وبما هو حلال، أما الحرام فلا يجوز، والوصية به ليست ذات أثر كما هو الحال في حرق الجثة، وإنما يجوز للإنسان أن يوصي فيما هو الدفن الطبيعي، فوصيته بأن تحرق جثته هذه وصية محرمة، ولذا لا يجوز تنفيذها، ولا يجوز للطبيب أن يوقع على هذه المسألة.
أما الثاني: فإن شخصاً لو مات موتاً دماغياً 100% فيجوز رفع الأجهزة عنه، لأن الحياة التي يجب حفظها هي الحياة المستقرة، أما نبضات القلب فهي حياة الخلية، الحياة النباتية وليست الحياة الإنسانية.
التصدق على الأولاد:
* امرأة في الخارج تريد أن تتصدق، هل يجوز أن تعطي الصدقة إلى ابنتها، مع العلم أن ابنتها في العراق متزوجة ولديها دار وسيارة؟
- الصدقة للمحتاج، وابنتها حسب الفرض ليست محتاجة، فلا تعطى الصدقة.نعم، إذا كانت الأم تريد أن تهب ابنتها هبة فإن ذلك شيئاً آخر، أما عنوان الصدقة، فإن الصدقة للرحم أفضل «لا صدقة وذو رحم محتاج)، ولكن هذا إنما يصدق إذا كان هذا الإنسان فقيراً.وفي ضوء هذا، فإن البنت إذا كانت غير محتاجة فقد لا تنطبق عليها الصدقة ولكن تنطبق عليها صلة الرحم.
لبس البنطلون:
* هل يجوز لبس البنطلون والاستغناء عن لبس الجوارب؟
- لبس البنطلون يختلف حكمه باختلاف الموارد، فتارة تلبس المرأة البنطلون تحت العباءة فلا إشكال في ذلك، أما لبس البنطلون فإنه يختلف حسب اختلاف العرف الاجتماعي.فبعض المجتمعات ترى لبس البنطلون عنصر إثارة، وبعض المجتمعات لا تراه كذلك، ولكن مع الالتفات إلى أن البنطلون إنما يجوز لبسه كحجاب إذا كان شرعياً، كما لو كان عريضاً مثلاً لا يحكي عن الجسم وغير ذلك.وأما قضية لبس الجورب إنما هو لستر ما يجب ستره.
الحجاب الشرعي:
* هل يعتبر لبس القميص والتنورة حجاباً شرعياً كاملاً، وما هو الحجاب الشرعي الكامل؟
- الحجاب الشرعيّ على قسمين: فعندنا حجاب مادي، وعندنا حجاب معنوي.والحجاب المادي هو ستر الجسد هذا الذي تجوز الصلاة معه.كما لو فرضنا أن المرأة لبست أحدث صرعات الموضة وكان اللباس ضيِّقاً جداً وصلّت به، فالصلاة صحيحة، لأن المطلوب في الصلاة إنما هو أن يكون اللباس ساتراً للجسد، حتى لو كان اللباس مثيراً في نفسه مع عدم وجود الأجنبي.وعندنا حجاب معنوي، وهو أن تخرج المرأة كإنسانة لا كأنثى، بحيث تخرج المرأة من حيث كونها لا تثير الغرائز أو الشهوات..وهذا قد يتدخل اللون فيه وقد يتدخل فيه التفصيل وهكذا..
أخذ المال بدون علم صاحبه:
* عندما كنت صغيراً أخذت من والدي مبلغاً وبدون علمه، فما هو حكم المبالغ التي أخذتها من والدي؟
- عليك أن تتسامح منه أو تدفعها له.
الطفل المميز:
* من هو الطفل المميز الذي يجب التستر عنه، وما هي حدود التستر عنه؟
- يقول الله تعالى: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}(النور/31)، يعني الشخص الذي لا يمتلك وعياً جنسياً وليس له تهيؤ جسدي، والطفل المميِّز وإن لم يكن بالغاً ولكن له استعداد جنسي، لأن بعض الأطفال لهم تهيؤ جسدي ولو بطريقة أو بأخرى، ولذلك فإذا بلغوا هذه المرحلة فإن الأحوط التستر عنهم، كما يتستر عن البالغ.
نقل الحرام:
* إني سائق تكسي في أوروبا، أنفذ طلبات المطاعم إلى البيوت، وبعض المطاعم تبيع لحم الخنزير، وأنا لا أعلم فيما إذا كان الطعام بعض الأحيان يحتوي على لحم الخنزير أم لا، هل هذا العمل محرم أم لا؟ وهل هو مخلوط بالحرام؟
- العمل المذكور ليس محرماً في رأينا، ويمكن للعامل تقديم لحم الخنزير لمستحله وبيعه أيضاً، خصوصاً وأن السائل لا يعلم محتويات هذه البضاعة.نعم، لا يجوز الاتجار بلحم الخنزير، أي شراؤه ثم بيعه، أما تقديمه وبيعه كما لو لم تشتره فإنه جائز.
الاتجار بالإنتاج الفضائي:
* هل يجوز تسجيل برامج علمية وثقافية وأفلام وغيرها من الصحن الفضائي وبيعها بعنوان التجارة؟
- إذا لم تكن الحقوق محفوظة لهذه الجهات فإنه يجوز، وأما إذا كانت الحقوق محفوظة، فنحن نرى أن الملكية الفكرية هي مثل الملكيات الأخرى، وعندئذٍ فلا يجوز التعدي عليها.هذا مع ملاحظة طبيعة البرامج وألا تكون من البرامج المحرّمة.
حلق اللحية والعدالة:
* هل حلق اللحية مفسد للعدالة؟
- رأينا هو حلية حلق اللحية، بينما رأي السيد الخوئي (رحمه الله) في حرمة حلق اللحية من باب الاحتياط الوجوبي.فإذا كان اعتماد المقلد على فتوى من يقول بالحلية فلا بأس بذلك، أما إذا اعتقد بحرمة حلق اللحية حسب تقليده، فتعتبر مفسدة للعدالة إذا حلق اللحية.
الجلوس في الشوارع:
* ما رأيكم بظاهرة الجلوس في الشوارع، وخاصة المطاعم، حيث تترك الكراسي والطاولات وسط الشارع ويأكلون أمام الفقراء؟
- إن المشكلة هي ليست في الأكل أمام الفقراء، ولكن لا يجوز الجلوس في الشارع (على الأرصفة) بما يعرقل حركة المرور، لأنه غصب وافتئات على حق المارة في الطريق.
تقطيع السمك وهو حي:
* ما سبب حلية تقطيع رأس السمك وأكله وهو حي؟
- الإشكال يحصل في حالة تعذيب الحيوان وهو حي، ونحن نتحفظ على ذلك.
المقاصة:
* تعقيباً على السؤال المتقدم بفرض أنهم ارتكبوا ذنباً في أخذهم المال أي الإرث، فهل يجوز للآخرين أن يأكلوا في موائدهم؟
- إذا كان من نفس المال فلا يجوز، ولكن ليس من المعلوم أنه من نفس المال.
حق المربية:
* أمي ولدتني ولم تربني وقد ربتني عمتي، فهل أطيع أمر عمتي أم أمر أمي، خصوصاً إذا كان هناك اختلاف في رأيهما؟
- إن الله سبحانه وتعالى أوصى بالوالدين فقال {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحساناً( وقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}(الأحقاف/15)، ما يوحي بأن تربيتها لك وأنت في رحمها وفي حضانتها وإرضاعها لك كمثل أقسى أنواع التربية التي لابد لك أن تبرها بسببها، أما بالنسبة لعمتك فإنّ لها عليك حق الإحسان و {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ}(الرحمن/60) من باب آخر.
الفقاهة هل هي وراثة:
* يسأل البعض عن الفقاهة (علم الفقه) هل هي وراثية؟
- المرجعية هي علم وفقاهة وتدريس وإجابة عن الاستفتاءات من موقع المستوى العلمي، ولا معنى للوراثة التي هي حالة نسبية لا حالة علمية، ومع الأسف تدخلت في المرجعية الحساسيات والعاطفة والتعقيدات التي تجعل الناس يخططون لبقائها في داخل العائلة من دون دراسة للكفاءة والمؤهلات العلمية.
مقاطعة أمريكا:
* هل تشمل مقاطعة البضائع الأمريكية مشاهدة الأفلام والمسلسلات مشاهدة بحتة، وما الحكمة من مقاطعتها؟
- نحن أفتينا مراراً بوجوب مقاطعة البضائع الأمريكية مع الإمكان، ووجوب مقاطعة البضائع الإسرائيلية مطلقاً، لأننا أردنا أن تتربى الأمة على معاقبة من يعاقبها، فأمريكا الآن تريد أن تعاقب الأمة الإسلامية تماماً، سواء في تأييدها المطلق ودعمها لإسرائيل أو في ظلمها للعالم العربي والإسلامي وتهديدها بالإرهاب، وسيطرتها على اقتصادنا وأمننا، والمهم أن يكون عندنا احترام لأنفسنا، وأن تكون أمتنا وإسلامنا وقضايانا وعروبتنا أهم عندنا من مزاجنا، لذلك فليخسر أحدنا باليوم عشرة سنتات ويحترم نفسه.الناس الآخرون أن يكونوا معك أو لا يكونوا معك غير مهم، وقد بينت لكم أن جريدة في لوس أنجلس نشرت صورة لمصلحة الفسلطينيين أو تحليلاً سياسياً فيه نوع من الحياد أو أنه يثير العطف، فإذا بألف يهودي يقاطع اشتراكه مع هذه الجريدة، والكثير من اليهود قاطعوا القنوات التلفزيونية، لأنها تحدثت عن صورة لطفل فلسطيني بما يوحي كأن الفلسطينيين مظلومون مثل اليهود، وقد استطاع اليهود أن يكوّنوا قوة في العالم لأنهم احترموا يهوديتهم، بينما نحن نرى من يقوم بالمظاهرة ضد أمريكا وهو يدخن المارلبورو.أما موضوع البرامج والمسلسلات، فما كان منه بلا معنى، سواءً كانت أمريكية أو غيرها إذا كانت تضر العقل والقلب والأخلاق فهي حرام، أما إذا كانت برامج علمية أو تاريخية نافعة فلا توجد مشكلة.نحن نقول إن علينا أن نقاطع بما لا يضرنا مقاطعته، فنحن شعوب مستهلكة ولا نستطيع أن نقاطع أمريكا في كل شيء.
الرسم والخط لمصلحة الآخرين:
* أنا خطاط ورسام، وأحياناً يأتيني أشخاص يريدون أن أكتب لهم لافتات لحفلات محرمة، مثل لافتات الراقصين والمغنين، فهل يجوز لي أن أكتب لهم؟
- لا يجوز لك ذلك.
([1031])
(*) يذكّرنا هذا بما فعله (المهاتما غاندي) أيام مقاطعته والشعب الهندي للبضائع الإنجليزية، حيث كانوا ينسجون ملابسهم بأيديهم، وقد أدت المقاطعة – بكل أشكالها – تأثيرها في خلاص الهند من عبوديتها للإنجليز.
([185]) شرح نهج البلاغة. ج20. ب451. ص90. (نهج البلاغة).
([186]) البقرة: 219.
([187]) النساء : 75.
([188]) الأنفال : 30.
([189]) التوبة : 100.
([190]) الكليني: أصول الكافي. ج8. ص351. ح548. ب8.
([191]) النحل : 41.
([192]) الطلاق : 7.
([193]) آل عمران : 140.
([194]) الحج : 58.
([195]) الحج : 59.
([196]) الحج : 60.
([197]) البقرة : 194.
([198]) الحشر : 8.
([199]) الحشر : 9.
([200]) الحشر : 10.
([201]) النساء: 75.
([202]) الحج: 40.
([203]) النحل: 41.
([204]) النحل:41.
([205]) النحل:10.
([206]) المجلسي: بحار الأنوار. ج45. ص83. ح10. ب37.
([207]) العنكبوت: 56.
([208]) النساء: 97.
([209]) النساء: 97-99.
([210]) شرح نهج البلاغة. ج20. ب451. ص90. (نهج البلاغة).
([211]) النساء:100.
([212]) الأنبياء: 107.
([213]) سبأ: 28.
([214]) الكليني: أصول الكافي. ج5. ص88. ح2.
([215]) المنافقون: 8.
([216]) النساء: 100.
([217]) الصدوق: من لا يحضره الفقيه. ج3. ص156. ح3571. ح2.
([218]) الكليني: أصول الكافي. ج5. ص78. ح6.
([219]) الملك: 15.
([220]) الجمعة : 9-10.
([221]) العنكبوت: 56.
([222]) المجلسي: بحار الأنوار. ج19. ص38. ح4. ب6.
([223]) النساء: 97.
([224]) المجلسي: بحار الأنوار. ج19. ب6.ص36. البيان.
([225]) نفسه. ص31. ح15.
([226]) التحريم: 6.
([227]) التوبة: 99.
([228]) الكليني: أصول الكافي. ج5. ص433. ح5.
([229]) المجلسي: بحار الأنوار: ج69. ص229. ح19. ب34.
([230]) نفسه. ج6. ص98. ح2. ب23.
([231]) نفسه. ج68. ص129. ح60. ب18.
([232]) النحل: 111.
([233]) الصافات: 24.
([234]) الكهف: 49.
([235]) شرح نهج البلاغة. ج2. ب37. ص286.
([236]) الأحزاب: 21.
([237]) النساء: 59.
([238]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص143. ح2.
([239]) شرح نهج البلاغة. ج6. ب67. ص95.
([240]) نفسه. ج2. ب33. ص185.
([241]) شرح نهج البلاغة. ج6. ب73. ص136.
([242]) الكليني. أصول الكافي. ج5. ص315. ح47.
([243]) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص148. ح3.
([244]) النحل: 53.
([245]) الرعد: 26.
([246]) الأنفال: 63.
([247]) الصحيفة السجادية الكاملة. ص117. د28. س1-8. دعاؤه في التفزعٍ.
([248]) الحجرات: 6.
([249]) الرحمن: 60.
([250]) الكليني: أصول الكافي. ج3. ص146. ح12.
([251]) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص56. ح3.
([252]) نفسه. ص121. ح8.
([253]) نفسه. ص56. ح1.
([254]) التوبة: 40.
([255]) الكليني: أصول الكافي. ج2. ص77. ح6.
([256]) نفسه. ص78. ح14.
([257]) الكليني: أصول الكافي. ج1. ص41. ح7.
([258]) نفسه. ج3. ص23. ح3.
([259]) نفسه. ج2. ص294. ح19.
([260]) نفسه. ج5. ص49. ح12.
([261]) نفسه. ج3. ص25. ح5.
(*) هذه المحاضرة والمحاضرتان اللتان تعقبانها كتبت بقلم سماحة السيد ليقدمها لقراء صحيفة (فكر وثقافة) أثناء مرض ألمّ به، ولكنّه آثر التواصل مع جمهوره الحبيب الذي يؤثر لقاءه. (المعد).
([265]) تفسير نور الثقلين ج5-ص490.
([268]) مصباح الشريعة: 403.
([269]) بحار الأنوار. ج71. ص369 ح19.
([270]) نهج البلاغة: الحكمة 329.
([271]) مشكاة الأنوار: 50.
([272]) نهج البلاغة : الكتاب69و33.
([276]) نهج البلاغة: الكتاب 31.
([277]) بحار الأنوار: ج47. ص165. ح29.
([278]) بحار الأنوار: ج53. ص29. ح2.
([279]) الدرة الباهرة: 26.
([280]) بحار الأنوار. ج78. ص141. ح34.
([281]) وسائل الشيعة. 8. ص553. حديث 2.
([284]) كنز العمال: 7029.
([285]) بحار الأنوار . ج77. ص47. ح3.
([287]) الصحيفة السجادية الكاملة: دعاء 38. ص147. دعاؤه في الاعتذار.
([288]) الدرة الباهرة: 31.
([289]) بحار الأنوار. ج99. ص101. ب32. ح3.
([318]) بحار الأنوار. ج73. ص94.
([328]) البقرة: 98.
([329]) طه: 39.
([330]) التوبة: 114.
([331]) الممتحنة: 1.
([332]) الممتحنة: 1-2.
([333]) آل عمران: 118-120.
([334]) الأنفال: 60.
([335]) هود: 27.
([336]) الأنعام: 112.
([337]) البقرة: 258.
([338]) الأنعام: 137.
([339]) الأنعام: ٍ113.
([340]) الفرقان: 31.
([341]) هود: 25-26.
([342]) هود: 27.
([343]) هود: 28-31.
([344]) هود: 32.
([345]) هود: 33.
([346]) هود34.
([347]) هود: 37-38.
([348]) يونس: 72.
([349]) هود: 36.
([350]) نوح: 5-7.
([351]) نوح: 8.
([352]) نوح: 9.
([353]) نوح:10-23.
([354]) نوح: 24.
([355]) نوح: 26.
([356]) نوح: 27.
([357]) نوح: 28.
([358]) التحريم: 10.
([359]) هود: 42-43.
([360]) هود: 45.
([361]) 46-47.
([362]) لعنكبوت: 14.
([363]) الأنعام75-83.
([364]) العنكبوت: 16- 18.
([365]) مريم: 41-48.
([366]) الشعراء: 70-71.
([367]) مريم: 72-73.
([368]) الشعراء 83-89.
([369]) الأنبياء: 57-59.
([370]) الشعراء: 74-82.
([371]) الأنبياء: 61-70.
([372]) العنكبوت: 26.
([373]) النساء: 125.
([374]) طه: 39.
([375]) القصص: 15-21.
([376]) القصص: 25.
([377]) القصص: 33-35.
([378]) طه: 42-57.
([379]) القصص: 8.
([380]) الشعراء: 18.
([381]) طه: 58-79.
([382]) يونس: 90-92.
([383]) آل عمران: 49-54.
([384]) الصف: 14.
([385]) الصف: 6.
([386]) الفجر: 7-8.
([387]) الشعراء:132ـ134.
([388]) الأعراف:65.
([389]) هود:51.
([390]) هود:52.
([391]) الشعراء:135.
([392]) الأعراف: 66-71.
([393]) هود: 53-57.
([394]) محمد:38.
([395]) الشعراء: 136 - 138.
([396]) هود: 58-62.
([397]) الأعراف: 75-76.
([398]) الشعراء: 152.
([399]) الأعراف: 77-79.
([400]) النحل:52 ـ 53.
([401]) الأعراف:80-81.
([402]) الأنبياء:74.
([403]) الشعراء:161 – 174.
([404]) هود:80-81.
([405]) الأعراف: 85-90.
([406]) هود: 86-94.
([407]) بحار الأنوار. ج15. ص236. ب3. ح16.
([408]) الفرقان:31.
([409]) الأنعام:112.
([410]) المؤمنون:32.
([411]) الزمر:3.
([412]) بحار الأنوار. ج2. ص42. ب2. ح5.
([413]) النحل:106.
([414]) الأعراف:158.
([415]) فصلت:6.
([416]) الشورى:52.
([417]) يونس:16.
([418]) النحل:103.
([419]) الفرقان:5.
([420]) الأنعام:92.
([421]) سبأ:46.
([422]) بحار الأنوار. ج12. ص98. ب3. ح3.
([423]) الأنفال:30.
([424]) الطلاق:3.
)[425]) الإسراء:90-96.
)[426]) البقرة:7.
)[427]) الأنعام:7.
)[428]) الأنعام:25.
)[429]) الرعد:7.
)[430]) الأنعام: 109.
)[431]) الإسراء: 73-75.
)[432]) يونس:15.
)[433]) فصلت: 28.
)[434]) الأحقاف:9.
)[435]) الأنعام:50.
)[436]) الأعراف:188.
)[437]) الأنعام:34.
)[438]) الأنعام: 35.
)[439]) فاطر:8.
)[440]) الشعراء:3.
)[441]) الفرقان: 32.
)[442]) هود:120.
)[443]) إبراهيم:27.
)[444]) الأنبياء:36.
)[445]) الشورى:15.
)[446]) الكهف:29.
)[447]) الأحقاف:35.
)[448]) آل عمران:103.
)[449]) آل عمران: 118-120.
)[450]) المائدة:82.
)[451]) آل عمران:186.
)[452]) البقرة:89.
)[453]) البقرة": 91-91.
)[454]) النساء:51.
)[455]) النساء:153.
)[456]) البقرة:145.
)[457]) البقرة:146.
)[458]) البقرة:75.
)[459]) البقرة: 76-77.
)[460]) آل عمران:72.
([461]) التغابن: 14.
([462]) الأحاديث مأخوذة من كتاب ميزان الحكمة، ج6، الطبعة الجديدة - دار إحياء التراث العربي.
([463]) يوسف: 53.
([464]) الأحاديث مأخوذة من : كتاب أصول الكافي ل(الكليني) الأجزاء 1،2 و3.
وكتاب الإرشاد ل(المفيد).
([465]) الإنسان: 9.
([466]) غافر:60.
([467]) البقرة: 186.
([468]) المائدة: 35.
([469]) الصحيفة السجادية الكاملة. د28. ص117-118. س9-10. دعاؤه في التفرغ.
([470]) آل عمران: 104.
([471]) المائدة: 78-79.
([472]) الأنفال: 24.
([473]) الزخرف:23.
([474]) بحار الأنوار، ج:4؛ ص:43.
([475]) الأعراف:205.
([476]) بحار الأنوار، ج5، ص:324.
([477]) يونس:87.
([478]) الأعراف:175.
([479]) مريم:39.
([480]) الأنبياء:97.
([481]) ق:22.
([482]) الحشر:19.
([483]) البحار، ج: 33، ص:508، رواية:707، باب:29.
([484]) المؤمنون:99-100.
([485]) علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص:359.
([486]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج2، ص:163.
([487]) فاطر:6.
([488]) يس:60.
([489]) بحار الأنوار، ج:70، ص:157.
([490]) عيون الحكم والمواعظ، ص:310.
([491]) عيون الحكم والمواعظ، ص:359.
([492]) الشيخ المفيد، الأمالي، ص:75.
([493]) محمد الريشهري، ميزان الحكمة، ج:3، ص2283.
([494]) بحار الأنوار، ج:74، ص:130.
([495]) التوبة:82.
([496]) ميزان الحكمة، ج:4، ص:2965.
([497]) نهج البلاغة، ج1، ص:222.
([498]) القصص:77.
([499]) عيون الحكم والمواعظ، ص:188.
([500]) الشيخ الحويزي، تفسير نور الثقلين، ص:115.
([501]) ميزان الحكمة، ج:3، ص:2287.
([502]) ميزان الحكمة، ج:3، ص:2287.
([503]) الحج:46.
([504]) طه:125-126.
([505]) عيون الحكم والمواعظ، ص:386.
([506]) النور:37.
([507]) شرح نهج البلاغة، ج:1، ص:176.
([508]) التحريم:6.
([509]) الشعراء:214.
([510]) آل عمران:104.
([511]) المدثر:45.
([512]) الانفطار:19.
([513]) الأنفال:27.
([514]) أصول الكافي. ج5. ص169. ح2. ب3.
([515]) بحار الأنوار. ج7. ص258. ح1. ب11.
([516]) نفسه. ج77. ص421. ح40. ب15.
([517]) الانشقاق:6.
([518]) القصص:77.
([519]) بحار الأنوار. ج77. ص142. ح1. ب7.
([520]) نفسه. ص269. ح3. ب9.
([521]) الزمر: 56-59.
([522]) المؤمنون:99-100.
([523]) الانفطار:19.
([524]) من لا يحضره الفقيه. ج3. ص169. ح3635. ب2.
([525]) بحار الأنوار. ج4. ص42. ح18. ب5.
([526]) أصول الكافي. ج2. ص89. ح6.
([527]) شرح نهج البلاغة. ج4. ص159.
([528]) الصحيفة السجادية الكاملة. ص51. د11. س3-8. دعاؤه بخواتم الخير.
([529]) أصول الكافي. ج5. ص84. ح3.
([530]) نفسه. ح2.
([531]) نفسه. ص85. ح2.
([532]) من لا يحضره الفقيه. ج4. ص355. ح5762. ب2.
([533]) الصحيفة السجادية الكاملة. ص81. د20. س5-7 . دعاؤه في مكارم الأخلاق.
([534]) الصحيفة السجادية الكاملة. ص200. د47. س9-12. دعاؤه لعرفة.
([535]) النازعات:40 ـ41.
([536]) الصافات:24.
([537]) النحل:111.
([538]) مريم:95.
([539]) عبس: 37-41.
([540]) عبس: 34-37.
([541]) القصص:77.
([542]) فصِّلت:30.
([543]) الجن:18.
([544]) الأنبياء:27.
([545]) النساء:80.
([546]) البقرة:165.
([547]) بحار الأنوار. ج5. ص69. ب1. ح2.
([548]) يوسف:106.
([549]) الأنفال:47.
([550]) النساء:38.
([551]) فاطر:6.
([552]) النساء:39.
([553]) غافر:19.
([554]) البقرة:14.
([555]) النساء:142.
([556]) آل عمران:178.
([557]) النساء:143.
([558]) الروم:29.
([559]) الإنسان:3.
([560]) البلد:10.
([561]) التين:4-7.
([562]) بحار الأنوار. ج77. ص83. ح3. ب4.
([563]) الأنفال:63.
([564]) الأنفال:24.
([565]) بحار الأنوار. ج84. ص126. ب1.
([566]) نفسه. ج72. ص272. ب1. ح115.
([567]) بحار الأنوار. ج77. ص175. ح8. ب7.
([568]) الإنفطار:6.
([569]) العنكبوت:3.
([570]) القصص:77.
([571]) بحار الأنوار. ج78. ص4. ح58. ب15.
([572]) نفسه. ج7. ص214. ح116. ب8.
([573]) الكهف:103ـ 104.
([574]) بحار الأنوار. ج67. ص111. ح21. ب3.
([575]) نفسه. ج70. ص209. ح29. ب53.
([576]) نفسه. ج68. ص136. ح30. ب40.
([577]) نفسه. ج20. ص333. ح1. ب12.
([578]) بحار الأنوار. ج72. ص303. ح50. ب116.
([579]) نفسه. ج55. ص39. ح7. ب17.
([580]) نفسه. ج32. ص356. ح336. ب10.
([581]) نفسه. ج33. ص301. ح99. ب6.
([582]) نفسه. ج89. ص111. ح12. ب2.
([583]) بحار الأنوار. ج72. ص239. ح32. ب116.
([584]) نفسه. ص241. ح33. ب116.
([585]) الأحاديث مأخوذة من كتابي (بحار الأنوار) ج 72. باب 116. و(عدة الداعي).
([586]) الكهف:110.
([587]) الجن: 18.
([588]) الحديد: 12.
([589]) الأحزاب:40.
([590]) الأحزاب:45-46.
([591]) المائدة:67.
([592]) النساء:65.
([593]) الأحزاب:36.
([594]) الأعراف:158.
([595]) الشورى:7.
([596]) سبأ:28.
([597]) الأنبياء:107.
([598]) الأنبياء:22.
([599]) الطلاق:3.
([600]) القمر:49.
([601]) المُلك:3.
([602]) العنكبوت:48.
([603]) الجمعة:2.
([604]) الأعراف:58.
([605]) يونس:104.
([606]) إبراهيم:24.
([607]) يونس:105-106.
([608]) الحجرات:17.
([609]) إبراهيم:19.
([610]) يونس:108.
([611]) الغاشية:21-22.
([612]) يونس:109.
([613]) الحج:49.
([614]) فاطر:7.
([615]) الحج:51.
([616]) الأعراف:157.
([617]) المائدة:15.
([618]) الحج:46.
([619]) الأنعام:50.
([620]) الأعراف:179.
([621]) الأنعام:56.
([622]) الأنعام:56.
([623]) الغاشية:21-22.
([624]) الأنعام:57.
([625]) الأنعام:58.
([626]) الأحقاف:9.
([627]) الأعراف:158.
([628]) الأنعام:59.
([629]) الملك:14.
([630]) الأنعام:60.
([631]) الشعراء:88-89.
([632]) ق:17.
([633]) الأنعام:61.
([634]) الأنعام:62.
([635]) الأنعام:63.
([636]) النور:40.
([637]) أصول الكافي. ج2. ص13. ح4.
([638]) الأنعام:64.
([639]) الأنعام:65.
([640]) الأنعام:65.
([641]) البقرة:6.
([642]) الأعراف:179.
([643]) البقرة:7.
([644]) الأنعام:66.
([645]) الكهف:29.
([646]) يونس:99.
([647]) الأنعام:71.
([648]) الزلزلة:7-8.
([649]) الأنعام:71.
([650]) الروم:30.
([651]) بحار الأنوار. ج7. ص267. ح33. ب11.
([652]) الأنعام:72.
([653]) الأنعام:73.
([654]) آل عمران:26.
([655]) المطففين:6.
([656]) الأنعام:73.
([657]) الأنعام:12.
([658]) القصص:38.
([659]) البقرة:189.
([660]) يس:40.
([661]) العلق:5.
([662]) الأعراف:156.
([663]) الكهف:103-104.
([664]) الزمر:15.
([665]) الأنعام:12.
([666]) الأنعام:13.
([667]) الأنعام:59.
([668]) الأنعام:14.
([669]) الأنعام:19.
([670]) البقرة:131-133.
([671]) الأحزاب:36.
([672]) النساء:80.
([673]) النجم:3-4.
([674]) الأنعام:16.
([675]) الأنعام:163.
([676]) الحاقة:44-47.
([677]) الزمر:65.
([678]) الأنعام:15.
([679]) الأنعام:164.
([680]) النور:2.
([681]) من لا يحضره الفقيه. ج4. ص124. ح5258. ب2.
([682]) شرح نهج البلاغة. ج5. ص294.
([683]) الأنعام:164.
([684]) البقرة:253.
([685]) القصص:82.
([686]) الأنعام:165.
([687]) فصلت:6.
([688]) الكهف:110.
([689]) الإسراء:90-93.
([690]) الفرقان:56.
([691]) الإسراء:94-96.
([692]) الطلاق:3.
([693]) القمر:49.
([694]) الملك:3-4.
([695]) النازعات:5.
([696]) النمل:39-40.
([697]) البقرة:260.
([698]) التهذيب. ج7. ص274. ح5. ب21.
([699]) آل عمران:144.
([700]) الزمر:65ٍ.
([701]) هود:49.
([702]) الجن:26-27.
([703]) يوسف:102.
([704]) آل عمران:44.
([705]) الأحقاف:9.
([706]) التوبة:128.
([707]) الطلاق:3.
([708]) التوبة:129.
([709]) التوبة: 174-175.
([710]) النساء:138.
([711]) النساء:139.
([712]) الجن:20-28.
([713]) أصول الكافي. ج1. ص69. ح3.
([714]) بحار الأنوار. ج2. ص165. ح25. ب21.
([715]) الأنفال:24.
([716]) البقرة:139.
([717]) الأنعام:135.
([718]) البقرة:6-7.
([719]) بحار الأنوار. ج73. ص104. ح2. ب123.
([720]) الكهف:29.
([721]) من لا يحضره الفقيه. ج4. ص410. ح5894. ب2.
([722]) الأنعام:147.
([723]) النحل:118.
([724]) الأنعام:147-148.
([725]) يس:82.
([726]) الأحزاب:72.
([727]) الإنسان:3.
([728]) البلد:10.
([729]) الزلزلة:7-8.
([730]) آل عمران:66.
([731]) الزخرف:23.
([732]) فصلت:26.
([733]) الأنعام:149.
([734]) الشعراء:214.
([735]) طه:132.
([736]) التحريم:6.
([737]) آل عمران:104.
([738]) سبأ:28.
([739]) بحار الأنوار. ج39. ص1. ح1. ب70.
([740]) نفسه. ج1. ص213. ح12. ب6.
([741]) أصول الكافي. ج1. ص40. ح5.
([742]) بحار الأنوار. ج48. ص252. ح1. ب10.
([743]) نفسه. ج108. ص15.
([744]) الأنعام:105.
([745]) فصلت:42.
([746]) الصافات:24.
([747]) الزلزلة:7-8.
([748]) الأنعام:150.
([749]) الحشر:7.
([750]) الأنعام:151.
([751]) فصلت:30.
([752]) الأعراف:194.
([753]) الأنعام:151.
([754]) الرحمن:60.
([755]) الإسراء:23-24.
([756]) لقمان:15.
([757]) الأنعام:151.
([758]) التكوير:8-9.
([759]) النحل:58-59.
([760]) الأنعام:151.
([761]) الفجر:15-16.
([762]) البقرة:268.
([763]) الأنعام:151.
([764]) الإسراء:33.
([765]) التوبة:111.
([766]) النحل:126.
([767]) شرح نهج البلاغة. ج17. ب47. ص6.
([768]) البقرة:179.
([769]) شرح نهج البلاغة. ج20. ب428. ص63.
([770]) البقرة:237.
([771]) بحار الأنوار. ج20. ص100. ح36. ب98.
([772]) نفسه. ج39. ص1. ح1. ب70.
([773]) البقرة:194.
([774]) البقرة:237.
([775]) بحار الأنوار. ج11. ص39. 6. ب4.
([776]) البقرة:190.
([777]) الأنفال:60.
([778]) شرح نهج البلاغة. ج18. ب66. ص28.
([779]) الأنعام:152.
([780]) من لا يحضره الفقيه. ج4. ص195. ح5433. ب2.
([781]) النساء:10.
([782]) من لا يحضره الفقيه. ج3. ص563. ح 4932. ب2.
([783]) بحار الأنوار. ج35. ص116. ح58. ب3.
([784]) النساء:6.
([785]) الأنعام:152.
([786]) المطففين:1-6.
([787]) هود:87.
([788]) المائدة:1.
([789]) الإنعام:152.
([790]) الحج:78.
([791]) البقرة:185.
([792]) من لا يحضره الفقيه. ج1. ص12. ح16.
([793]) البقرة:173.
([794]) الأنعام:152.
([795]) الحديد:25.
([796]) النساء:135.
([797]) المائدة:8.
([798]) الصحيفة السجادية الكاملة. ص96. د22. س2-7. دعاؤه عند الشدّة.
([799]) أصول الكافي. ج2. ص464. ح5.
([800]) الأنعام:15.
([801]) بحار الأنوار. ج22. ص467. ح19. ب1.
([802]) النساء:123.
([803]) الأنبياء:28.
([804]) الأنعام:152.
([805]) الزلزلة:7.
([806]) البقرة:40.
([807]) الإسراء:34.
([808]) أصول الكافي. ج2. ص66. ح9.
([809]) نفسه. ص105. ح10.
([810]) الأنعام:152-153.
([811]) الفاتحة:6.
([812]) الشورى:15.
([813]) فصلت:30.
([814]) الفاتحة:6-7 .
([815]) الحج:11.
([816]) الزمر:8.
([817]) أصول الكافي. ج6. ص434. ج24.
([818]) الزمر:9.
([819]) الرحمن:60.
([820]) الزمر:9.
([821]) بحار الأنوار. ج6. ص203. ب8.
([822]) الزمر:10.
([823]) شرح نهج البلاغة. ج20. ب451. ص90. (نهج البلاغة).
([824]) النساء:97-100.
([825]) الرمز:10.
([826]) الأحزاب:45-46,
([827]) الزمر:11.
([828]) بحار الأنوار. ج103. ص7. ح25. ب1.
([829]) الجمعة:10.
([830]) الملك:15.
([831]) الزمر:12.
([832]) الأنعام:15.
([833]) بحار الأنوار. ج22. ص467. ح19. ب1.
([834]) بحار الأنوار. ج3. ص25. ح2. ب1.
([835]) الأنعام:15.
([836]) الزمر:14-15.
([837]) الكهف:29.
([838]) الزمر:15.
([839]) التحريم:6.
([840]) الصف:10.
([841]) الزمر:16-17.
([842]) فصلت:30-32.
([843]) الزمر:17-18.
([844]) الإسراء:53.
([845]) النحل:125.
([846]) المؤمنون:96.
([847]) النساء:86.
([848]) الإسراء:36.
([849]) الزمر:71.
([850]) الزمر:20.
([851]) قصار الحكم 126 – 1و2و3.
([874]) بحار الأنوار. ج1. ص150. ح30. ب4.
([882]) أصول الكافي. ج5. ص362. ح1.
([903]) أصول الكافي. ج1. ص160. ح13.
([973]) شرح نهج البلاغة. ج11. ب202. ص40.
([975]) شرح نهج البلاغة. ج10.ب186. ص132.
([976]) أصول الكافي. ج1. ص37. ح7.
([977]) شرح نهج البلاغة. ج19. ب. 35. ص266.
([978]) نهج البلاغة: ج8 ص263.
([979]) شرح نهج البلاغة. ج1. ص202.
([982]) بحار الأنوار. ج40. ص61. ح95. ب91.
([983]) نفسه. ج70. ص97. ح4. ب47.
([984]) بحار الأنوار. ج5. ص69. ب2.
([986]) بحار الأنوار. ج5، ص69، ح1، ب2.
([987]) بحار الأنوار، ج2، ص18، ح8.
([988]) نفسه. ج28، ص104، ح3، ب3.
([989]) بحار الأنوار، ج21، ص388، ح10، ب36.
([990]) بحار الأنوار، ج91، ص136، ح5، ب5.
([991]) بحار الأنوار، ج44، ص329، ح2، ب37.
([993]) شرح نهج البلاغة، ج9، ص175.
([994]) بحار الأنوار، ج44، ص300، ح1، ب37.
([995]) بحار الأنوار، ج88، ص119، ح2، ب3.
([996]) بحار الأنوار، ج2، ص30، ح13، ب9.
([997]) نفسه، ص297، ح2، ب17.
([998]) بحار الأنوار، ج23، ص9، ح2، ب1.
([999]) أصول الكافي، ج6، ص434، ح2.
([1000]) بحار الأنوار، ج45، ص46، ب37.
([1001]) بحار الأنوار، ج44، ص192، ح4، ب26.
([1002]) بحار الأنوار، ج5، ص256، ح3، ب4.
([1003]) نفسه، ص241، ح1، ب4.
([1004]) الصحيفة السجادية الكاملة، ص207، د.48، س11-14. دعاؤه للأضحى والجمعة.
([1005]) أصول الكافي، ج2، ص233، ح2.
([1006]) نهج البلاغة، ج9، ص354.
([1007]) التهذيب، ج6، ص342، ب22.
([1008]) أصول الكافي، ج5، ص65، ب1.
([1009]) بحار الأنوار، ج46، ص82، ح75، ب5.
([1010]) نفسه، ج67، ص25، ب1.
([1011]) أصول الكافي، ج9، ص33، ب3.
([1012]) بحار الأنوار، ج22، ص90، ح9، ب1.
([1013]) شرح نهج البلاغة، ج4، ص310.
([1015]) أصول الكافي، ج2، ص307، ح1.
([1018]) أصول الكافي. ج1. ص69. ح3و4.
([1019]) بحار الأنوار. ج75. ص233. ح1. ب66.
([1020]) بحار الأنوار. ج86. ص16. ج2. ب1.
([1021]) شرح نهج البلاغة، ج3، ص199.
([1022]) وسائل الشيعة، ج5، ص396.
([1024]) بحار الأنوار، ج78، ص11، ح2، ب1.
([1025]) بحار الأنوار، ج89، ص366.
([1026]) بحار الأنوار، ج16، ص239، ح5.
([1027]) بجار الأنوار، ج55، ص29، ب2، ح31.
([1028]) بحار الأنوار، ج77، ص369.
([1029]) نفسه، ج58، ص26، ح1.
([1030]) بحار الأنوار، ج20، ص12، ب1.