النـدوة
آية اللّه العظمى
السيد محمد حسين فضل الله
النـــدوة
سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق
محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة
إعداد: عادل القاضي
الجزء الثاني عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
آفاق الخطاب الإسلامي المعاصر
في 11 حزيران 2001م وفي ذكرى المولد النبويّ الشريف قدّم سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله – دام ظلّه – محاضرة قيمة عن (الخطاب الإسلامي) في (مجمع السيدة زينب للبحوث والدراسات) بدمشق.
في تلك المحاضرة القيّمة سلّط سماحته الضوء على أهم المعالم التي يجدر بخطابنا الإسلاميّ أن يترسّمها، مشيراً بالضمن إلى العديد من الثغرات التي يعاني منها هذا الخطاب الذي بات مرصوداً ومدروساً ومحسوباً أكثر من أي وقت مضى.
لقد راجعه مراجعة نقديّة تخرجه من شرنقة الركود أو وهدة التخلّف التي وقع فيها بعيداً عن مرجعية القرآن وهداية العقل، مشخّصاً أزمة الخطاب الإسلاميّ في أنها أزمة الإنسان المسلم في تمثّله للإسلام عقلاً وقلباً ومنهجاً وحركة.
ولفت سماحته إلى ما أسماه ب(الفوضى الثقافية) في الخطاب الإسلامي، حتى أنّ الخرافة قد دخلت في عمقه لدرجة أنّ التفريق بين خطّ الغيب وبين منحى الخرافة بات صعباً أو متعذّراً على البعض.
وأوضح أنّ النبرة الحماسية والانفعالية قد طغت على خطابنا ظنّا من المتعاملين بها أنّ العقلانية تجمّد ولا تخطّط، وهو خطأ استراتيجي وقع فيه الكثيرون. وافاد أيضاً أن مراجعة هذا الخطاب تشي بأن (العنف) هو الطابع الذي يطبعه تكفيراً وتفسيقاً ومصادرة وتضليلاً وتسقيطاً، حتى لا مجال – في أجواء التشنّج - للتفكير بعقلانية، وحتى راح الآخر يقتنص ذلك الواقع الانفعاليّ ليثير ضدنا مالا مصلحة من إثارته.
وضرب لذلك أمثلة، فقال: إننا حينما نخاطب دولة صغرى أو كبرى فإننا نوجّه خطابنا لكلّ كيان الدولة، مع أنّ الشعب قد لا يكون منسجماً في سياسته مع إدارته، أي أنّ هناك فرقاً بين مواقف بعض الشعوب ومواقف إداراتها، ولذا ينبغي أن يتوجّه النقد إلى تلك الإدارات لا إلى الكيان كلّه لنستعديه فنخسر بعض المواقع التي يمكن أن يصلها خطابنا الإسلامي. وما هذه الحرب الإعلامية الضارية ضد الإسلام إلاّ لايحاء تلك الإدارات الناقمة أننا العدو الجديد والخطر الذي يتهدد الجميع.
وشدّد على أنّنا نقدّس نقاط ضعفنا، وأننا أمّة تؤلّه القادة، فنحن نعيش (عبادة الشخصية) دينيةً كانت أو اجتماعيةً أو سياسية، فلا يملك الكثيرون أن ينقدوا أخطاء الشخصيات الدينية الكبيرة، أوانحرافات القادة السياسيين والاجتماعيين، ولذا فإننا نعتقد بأن (الصنمية) لا تزال تسيطر على واقع الشرق، ولا حلّ لتلك المشكلة دون الحديث عن نقاط ضعفنا في الهواء الطلق.
وعن الخطاب الإسلامي في الواقع السياسي، لفت سماحته الانتباه إلى أن الحديث يكثر عن الحرية هنا وهناك، ولكن أي حزب إسلامي أو قومي أو وطني في هذا الشرق يعطي الحرية للرأي المخالف؟! الأمر الذي يجعل خطابنا في دائرة الاتهام بمحاصرة الفكر الآخر ومناهضته.
وأكّد على أن الخطاب الإسلامي الصحيح هو الذي يريد للإنسان المسلم أن يتعقلن ويفكّر بهدوء بحيث يجرّ الآخرين الذين يواجهونه إلى التفكير معه بهدوء، ذلك لأنّ الكلمات الحادّة لا تساعد على حوار هادئ بل تتحدى الغريزة وتقود إلى التشاتم.
وألمح إلى الأسلوب القرآني التصالحي في الخطاب وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ( ) وهذا الأسلوب لم تستطع كلّ حضارية الأسلوب المعاصر أن تقترب منه فضلاً عن أن تتقدمه، فغاية ما وصلت إليه قولها ((رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ ورأيُ غيري خطأ يحتمل الصواب)). فالذات هنا تبقى حائلاً بينك وبين الآخر، وأما الأمر في الأسلوب الإسلامي فمختلف لأنّ هناك حقيقة ضائعة تخاطب الآخر ليرافقك في رحلة البحث عنها، وبذلك يتحوّل حوار المختلفين إلى صداقة حميمة يتعاون فيها فريقان من أجل بلوغ الحقيقة، ذلك أنّ أحداً لا يملك الحقيقة المطلقة، ولذا ينبغي أن تعطي الآخر فرصة التعبير عمّا يتصوّر أنّه الحقيقة، فلعلّكما تستطيعان اكتشاف القيمة المنفتحة على وجهتي النظر.
فالإسلام – كما يؤكّد سماحته - يريد للخطاب الإسلامي أن يتحرك بطريقة عقلانية، في إطار الحجّة والبرهان والعلم قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ( ) ، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا( )، هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ( ).
وأكّد سماحته على أن السيرة النبويّة تقدّم لنا الخطاب الإسلامي على أنّه خطاب إنسانيّ يختزن الحبّ للآخر حتى لو اختلفنا معه وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( ) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( ) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( ).
وانتقد خطابنا المعاصر من حيث بحثه عن الفواصل بيننا وبين الآخر وما تلخصه عبارة (أنا.. لا الآخر) في حين يتعيّن التفكير بطريقة مغايرة تعتمد المشاركة (أنا.. والآخر) .. ودعا إلى دعوة القرآن في البحث عن المشتركات ونقاط الالتقاء قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ( ) رغم ما هناك من فروق بيننا وبين أهل الكتاب نصارى ويهوداً في وحدانية الله، ونبّه إلى الدعوة الأخرى للمجادلة بالحسنى وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ) فالقرآن أعطانا العناوين البارزة للخطاب المتوازن، ومنها هذه الأساليب الراقية.
وتحدث – في محاضرته تلك - عن الخطاب المذهبي مفرّقاً بين المذهبية (الطائفية) والأخرى (الفكرية) وقال: نحن مع المذهبية الفكرية لأنّنا مع الاجتهاد في فهم الإسلام كلّه كتاباً وسنّة، ومع الفكر الذي يقارع الفكر حجّة بحجّة. أما المذهبية الطائفية فهي غرائزية عشائرية. والحلّ هو أن يفكّر الشيعي على أنّه مسلم شيعيّ، والسنّي على أنّه مسلم سنّي، لأنهما إذا استحضرا الإسلام في تفكيرهما فإنهما يفهمان مذهبهما من خلال إسلامهما، ويعرضان شيعيّتهما وسنيتهما على الإسلام ليعرفا مدى الاقتراب والابتعاد عنه.
وأشار إلى تركيز الإسلام على العالمية إلى جانب تركيزه على الخصوصيات القومية والوطنية والقبلية يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا( ) وهذا اعتراف صريح بخصوصيات كلّ شعب سواء كانت ثقافية أو علمية أو واقعية، لحاجة كلّ شعب إلى الشعب الآخر في حضارته، وهذا هو التفاعل الحضاري.
ودعا سماحته إلى أن نعيش الخطاب الإسلامي – وهو الخطابُ القرآني – النبويّ بكل شموليته وواقعيته وإنسانيته من خلال دراستنا للقرآن الذي رأى أن ثمّة (ردّة) عنه، فالقرآن يؤوّل أحياناً لمصلحة الحديث وذلك لإخراج القرآن عن ظاهره بدلاً من ان نرفض الأحاديث المخالفة للقرآن ((ما جاءكم من حديث عن برّ أو فاجر فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار)).
وعن قداسة التراث أو الماضي أو الرموز التأريخية، قال سماحته: لا قداسة إلاّ لمن له القداسة وهم المعصومون، وكلّ ما هو ليس بمعصوم ففكره قابل للمناقشة، والمجتهد يخطئ ويصيب، وعلينا أن نقرأ نتاج المجتهدين ونحترمه وندقّق فيه لا أنّ نخضع له أو نعتبره فوق النقد.
فالخطاب الإسلامي في الخلاصة كما يرى سماحته: عقلانيّ موضوعي، مهذّب، منفتحٌ، عالميّ، يرتكز على نقاط اللقاء من أجل أن يعالج من خلالها نقاط الخلاف، ولا ينفتح على نقاط الخلاف ليسقط فيها نقاط اللقاء.
ولعلنا ونحن نعدّ هذه السلسلة المباركة من كتاب (الندوة) نقف على هذه الخصائص التي تعرّضت لها محاضرته في (مجمع السيدة زينب) وفي العديد من اللقاءات الصحفية والاعلامية التي استنارت برأيه في تقييم وتقويم خطابنا المعاصر، وسنعرض لها من خلال المحاور التالية:
أولاً: طبيعة الخطاب الإسلامي
ثانياً: الخطاب الإسلاميّ المعاصر
ثالثاً: قضايا الفكر المعاصر
رابعاً: العمل الإسلامي في الخطاب الإسلامي
أولا:طبيعة الخطاب الإسلامي:
1. مرتكزات الخطاب الإسلامي(*):
((يركّز الإسلام على القيم الواقعية الحركية، فعندما يتحدث عن الصدق يتحدث عنه في السياسة، وفي معاملات الناس، وفي ساحات الصراع. وعندما نتحدث عن القيمة وعن ضدها بحسب طبيعة حركية الواقع الذي نعيش، فإننا نجد أن القيمة ليست شيئاً تجريدياً، بل هي تتحرك في عمق الواقع، مما يجعل القيمة قيمة واقعية. إن الغالب في الخطاب الإسلامي – ويمكنكم ملاحظة ذلك – كونه خطاباً واقعياً، غير أن أسلوب الخطاب الإسلامي لدى الكثير من الذين يمارسونه على مستوى الوعاظ والمرشدين والعلماء غالباً ما يصاغ بطريقة فوقية وبطريقة كلية لا بطريقة حركة الجزئيات.
لكنني أتصور أن هناك عدة تجارب تتحدث عن طبيعة حركة هذه القيم في الواقع، ولعل المشكلة التي يواجهها المفكرون والعلماء في خطابهم الذي يعمل على ربط القيمة بالواقع، انهم قد يواجهون الكثير من حالات الرفض الغوغائي، أو الكثير من المناقشات الانفعالية، ذلك لأن الناس غالباً ما يحبّون البقاء في الخطوط الكلية التي لا تلامس نقاط ضعفهم ولا تلامس ضعف تصوراتهم.
انني أتصور أن هناك تجارب حديثة تتحرك في الخطاب الإسلامي على أساس رصد الواقع، ورصد حركة القيمة في الواقع، ومحاولة تقريب القيمة أو المصالحة بين القيمة وبين الواقع، بحيث يمكن للقيمة أن تتجسد واقعاً ويمكن للواقع أن لا يبتعد عن القيمة)) ( ).
2. مستوى الخطاب الإسلامي
((نحن نعتقد بأنّ الخطاب الإسلامي خطاب في مستوى الرشد السياسي، ولا نعتقد بأن الخطاب الآخر أكثر وعياً منه أو أكثر انفتاحاً على واقع الإنسان. ولكن المشكلة هي أن الخطاب الآخر يملك مواقع متقدمة في العالم، والخطاب الإسلامي لا يملك سوى واقع متخلف من جهة، وواقع مضغوط تحت هيمنة الإستكبار العالمي من جهة. ولذلك فلكي ينطلق خطابك الواعي فلابد لك من ظروف تحمي حركة الوعي في خطابك، أما إذا كانت الظروف تحاصر خطابك وتضغط على خطابك، وتشوه خطابك، وتعزل خطابك عن المجتمع ولا تعطيك حرية الخطاب، فمن الطبيعي أن ينكمش خطابك لا لأنه يعيش هذا الإنكماش بل لأنه يواجه تحديات كبرى تفرض عليه ذلك))( ).
3. التحديات التي تواجه الخطاب الإسلامي:
((لقد صمد الفكر الإسلامي على مدى التاريخ، وهذه التحديات ليست جديدة، فالتحدي ونقد المفاهيم ونقد آلية المفاهيم ونقد ركائز العقل الإسلامي كل ذلك كان موجوداً في أيّام الإمام الصادق(ع) فلقد كان يجلس مع الزنادقة في المسجد الحرام وكان يحاورهم في كل ذلك، وانطلقت هذه النقود من خلال كل الفلسفات المضادّة التي كانت توجّه للإسلام كلّ اتهاماتها وشبهاتها وانتصر الإسلام عليها في جميع المعارك الفكرية، واليوم هناك نقد للعقل الإسلامي ونقد للعقل العربي ونقد للكثير من المفاهيم الإسلامية. واعتقد بأنّ هناك من المفكرين المسلمين من يقف متصدياً لذلك.
نعم نحن نعاني ضعفاً في نموّ المفكرين المسلمين، ولذلك نقول لكل الذين يسيرون في خط دراسة الفكر الإسلامي أن يعملوا على تنمية ثقافتهم حتى يكونوا في مستوى الوقوف في ساحة الصراع من موقع قوة. كما نعتقد بأنّ الإسلام في قواعده الفكرية وفي طبيعة مفاهيمه وفي آلياته يملك ما يستطيع من خلاله أن يصمد في المستقبل كما صمد في الماضي، ولكنّ القضيّة هي أنه لابد أن ينشأ هناك مفكرون يعيشون في المستوى الذي يمكن أن يقف بقوة في ساحة الصراع، فليس الضعف ناشئاً من الفكر الإسلامي ذاته ولكن قد يكون الضعف ناتجاً منّا – نحن المسلمين - في كثير من الحالات))( ).
4. الارتقاء بالخطاب الإسلامي:
((الخطاب الإسلامي - في طبيعته - هو الذي يحمل الإسلام، والإسلام قد يبدأ شعاراً وينتهي إلى فكر وإلى حركة في مضمون الحياة، ليواكب من خلال المفاهيم الإسلامية كل متغيرات الحياة وكل تطوّراتها بحيث يكون حاضراً في كلّ اهتمامات الإنسان وكل قضاياه ومشاكله وتحدياته، حتى يعيش الناس الإسلام في كلّ حياتهم.
ولذلك فليس من الطبيعي أن يبقى الخطاب الإسلامي شعاراتياإنفعالياً لأن الشعار إذا لم يكن فيه عمق كان مجرد طبل أجوف، ولأن الانفعال لا يمثل فكراً ولا ديناً ولكنه يمثل مشاعر وأحاسيس طارئة قد ينطلق الإنسان نحوها من خلال بعض المؤثرات السطحية في داخل شخصيته أو فيما يحيطه من أوضاع. لذلك لابدّ لهذا الخطاب من أن يجمع بين الفكر الذي يتعمّق وبين العاطفة التي تمهد له السبيل لأن يدخل في عقل الإنسان الآخر.
ولابد للخطاب الإسلامي من أن يعيش عصره، فليس من الطبيعي أن نتحدث في خطابنا من خلال مشاكل عصر سابق علينا لا أثر لها في حياتنا، ذلك لأنها أصبحت مشاكل بائدة حلّها التأريخ أو ماتت في التأريخ مع حلولها آنذاك.
إنّ مشكلة الكثيرين من الذين يدرسون الإسلام أنهم يدرسونه جسداً ولا يدرسونه روحاً. إنهم يدرسون قطعاً متناثرة ولا يدرسونه كلاً مترابطاً، إنهم يدرسونه من خلال مفردات عاشت قبل ألف سنة من دون أن يطلّوا على المفردات المتطورة المتجددة التي أصبح الإنسان يعيش مشاكلها وتحدياتها وأوضاعها.
ولا يصح بأي حال أن يكون الخطاب الإسلاميّ متخلفاً عن العصر، لأن الذين يحرّكونه لا يعيشون ذهنية هذا العصر، ولا يعيشون أسلوبه، ولا يشعرون بالقضايا التي راحت تهزّه، فهناك مصطلحات جديدة تطلع علينا في كل يوم. فالعالم اليوم يتحدث عن (العولمة) الاقتصادية والثقافية والسياسية والكل مشغول بهذا، وكل قطر وجماعة تحاول أن تدرس تأثيرات هذه العولمة على واقعها القطري أو القومي من خلال تأثيراتها السلبية على الثقافة أو الاقتصاد أو السياسة. فكم لدينا من بحث إسلاميّ الآن في الحوزات العلمية وفي النوادي الإسلامية عن العولمة؟ وهي من الأمور التي تتصل بالجانب الثقافي والاقتصادي والسياسي؟ بل إننا عندما نحرّك السياسة فإننا نحركها في السطح ولا نحركها في العمق، وكم لدينا الآن من الإسلاميين، بما فيهم الحركيون الذين يملكون – بحق – الثقافة السياسية التي تجعلهم يفهمون الأحداث من خلال ترابطها في كلّ ما تتحرك به السياسة في العالم؟!
لذلك لابدّ لنا من ثقافة إسلامية تنطلق من أصالة الإسلام في مفاهيمه وعقائده وشرائعه ومناهجه وأساليبه، ولابدّ لنا من أن نطلّ على حركة العصر في كل تطوراته وكل متغيراته وكل مشاكله حتى يمكننا أن نعيش عصرنا وأن نفهم لغته وذهنيته، ولقد قلناها مئة مرة ليس معنى أن تعيش ذهنية العصر أن تسقط تحت تأثيره وتتبنى طروحاته، ولكن أن تفهم حركته وتفهم لغته وروحيته وتطلّعاته حتى تستطيع أن تواكبه وأن تحمي نفسك منه، وأن تحمي الإسلام منه وحتى تستطيع أن تهديه وترفعه في نهاية المطاف.
هناك حديث نتناقله دائماً ((إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم))( ) والكثير من الناس لا يحترمون عقول الناس ولعلهم يعيشون الكبرياء الكاذبة التي تجعلهم ينظرون إلى الناس على أنهم عوام، ويملكون الناس من خلال عقولهم وربما كانت عقولهم في إجازة من الواقع.
إنّها مشكلة، وعلى الواعين من شباب الإسلام المثقف الذي يعيش الأزمة في كل الواقع، والذي يشعر بالاهتزاز، على هؤلاء الشباب في الحوزات أو في غيرها أن يبدأوا العمل من أجل خطاب إسلامي يملك صاحبه ثقافته ووعيه وعمقه وحلوله لمشاكل الحياة، لابد من ذلك وإلاّ بقي الإسلام في داخل الزنزانة التي حبسناه فيها من خلال كل هذا التخلّف والجهل الذي حسبناه علماً))( ).
5: التعددية في الخطاب الإسلامي:
((من الطبيعي أن لا نخاطب الجميع بخطاب واحد فلكل عقله، ولكل عقل الأسلوب الذي يمكن أن نستعمله للدخول إليه. ولقد قلت إنّ علينا أن نقدّم كلّ الحقيقة للناس، إذ ليست هناك ثقافة خاصة لأنّه لا كهنوت في الإسلام ولا أسرار مقدسة للأشخاص ما عدا الأسرار التي أفاضها الله تعالى على أنبيائه وأوليائه، إذ ليس عندنا شيء سريّ وثقافة خاصة، ذلك أنّ الثقافة الإسلامية للناس – كلّ الناس – وعلينا أن نعطي كل إنسان ثقافة الإسلام بالطريقة التي يفهمها وبالأسلوب الذي يمكن أن يقتنع به، فإذا أردت أن تهدي إنساناً فارفعه إليك برفق ولا تكسره، تحدّث معه بمستوى عقله وبمستوى ثقافته، فإنك بذلك تستطيع أن تهديه))( ).
6. الإجمالية في الخطاب الإسلامي:
((لا أعتقد أنّ الخطاب الإسلامي – كما يتهمه البعض - يتحدث دائماً بشكل مجمل، فثمة فرق في ذلك، فتارة يكون الخطاب الإسلامي جواباً عن سؤال فمن البديهي أن يتم الحديث بشكل يتلائم مع طبيعة السؤال والجواب، أمّا في البحث والدراسة فلا نستطيع أن نقول بأن كتاب (إقتصادنا) يتحدث عن الإقتصاد الإسلامي بشكل مجمل.
ولقد فصّل الباحثون المسلمون في الاقتصاد وفي غيره تفصيلاً جيداً بقطع النظر عما إذا كان التفصيل مما نوافق عليه أو لا))( ).
7. الالتزام والتعصّب:
((إنّ معنى أن تتعصب هو أن تغلق عقلك وقلبك عما لدى الآخر الذي تتعصب ضده، ومعنى أن تتعصب هو أن لا تعتبر للآخر أي حق في أن يفهم القضايا بغير طريقتك، وأن تعتبر أنك وحدك الذي تملك الحقيقة المطلقة، وأن تعتبر الآخر الذي تختلف معه شيطاناً مبطلاً ضالاً وكافراً وما إلى ذلك.
وهذا يمثّل ضيق الأفق، لأنك عندما تنظر في قضايا الفكر التي يختلف فيها المفكرون ويجتهد فيها المجتهدون، لابدّ أن تضع في فكرك أن من الممكن للآخرين أن يختلفوا معك كما أن من الممكن أن تختلف معهم، فالنص أو الفكر أمامك، وقد ترفض ما لدى الآخرين، فلماذا لا تعتبر أن من الطبيعي أن يكون للآخرين رفض ما تقتنع به!
ومن الممكن أن تتهمهم بأنهم لم يفهموا القضية وأنهم أخطأوا في فهمها، ولكن أن تقول لهم لماذا لا تفكرون بغير هذه الطريقة، فمعنى ذلك أن تختصر الإنسانية في شخصك! قل له – للآخر – لقد أخطأت وأن هناك وجهة نظر أخرى قد تكون أفضل من وجهة نظرك.
وإذاً فهناك فرق بين الالتزام وبين التعصب، التزم بفكرك ولا تتنازل عنه قيد شعرة، ولكن اترك الآخر يقدم فكره، وادخل معه في حوار علميّ موضوعي حول ما هو الحق في فكرتك وفكرته، وهذا هو الذي انطلق به الإسلام الذي لم يقل لماذا فكرتم، بل قال قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ( ) والقرآن قال لبعض الناس الذين لم يأخذوا بأسباب العلم ورفضوها هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ( ).
قل له – للآخر – إنك لا تملك ثقافة ما تختلف معي فيه، أو أنك تنكر من غير قاعدة ثقافية.. قل له إنك أخطأت .. وقل له هات برهانك.. وهات حجّتك.. أمّا أن تصادره تماماً بشكل متعصّب فإنّ التعصّب حالة في الحقد لا حالة في الفكر، والتعصب قد يكون ناشئاً من ضعف، وذلك بأن تتعصب فتشتم وتعتدي لأنك لا تملك الحجة.
وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع) في ليلتي عرفة والجمعة: ((وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة وإنما يعجل من يخاف الفوت ويحتاج إلى الظلم الضعيف وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علواً كبيراً)). فالظلم هو مظهر عقدة ضعف في النفس، أمّا عندما تكون قوياً في فكرك فإنك لا تمنع الآخر من أن يقدّم فكره لك))( ).
8- الاجتهاد في فهم النص:
((إننا نعتبر العقل حجة الله وأننا نؤول النص لمصلحة الحق والعقل القطعي، ولعلكم سمعتم أنني انقل دائماً بعض الأحاديث التي تقول ((إن العقل رسول من داخل وأن الرسول عقل من خارج)). لكنني أناقش النظرية العقلية المنطلقة من الفلسفة اليونانية ذلك أن الفلسفة الإسلامية ليست فلسفة (الأسفار) التي هي نتاج الفلسفة اليونانية، التي دخلت في الفلسفة الإسلامية من خلال الترجمات التي شاعت في العصر العباسي.
ولذلك أقول إنّ الفلسفة العقلية المنطلقة غالباً من الفلسفة اليونانية لا تمثل القاعدة التي يمكن أن ترتكز عليها العقيدة الإسلامية، فإذا أردنا أن نأخذ عقائدنا الإسلامية فعلينا أن نأخذها من القرآن لا من (إفلاطون) أو (أرسطو) أو ممن تتلمذوا على إفلاطون وأرسطو. نعم، إذا كان لدينا ظاهر قراني يقول العقل القطعي بأنه مستحيل، فلابد أن نؤوّل ظاهر القرآن كما في اللغة العربية التي لا تتمرد على التأويل، فإذا قامت قرينة على خلاف الظاهر من بعض النصوص فيمكن أن يكون المراد هو خلاف ظاهر القرآن، لكن إذا كان هناك دليل على ذلك يظهر من بعض الآيات التي قد نفهم منها (الجبر) فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ( ). فإنّ الدليل العقلي القطعي يقوم على استحالة الجبر، لذلك أوّلنا هذه الآيات كما في قوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ( )بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( )يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ( )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ( ). فعندما قام الدليل العقلي القطعي على أن الله ليس بجسم وأنه لا يمكن أن يرى، أوّلنا الآيات فيما لا يبتعد عن البلاغة لأن المراد بها المجاز مرّة والاستعارة مرّة وما أشبه ذلك.
كما أنني لا أنكر العرفان، فالعرفان يستهدف تربية النفس من خلال
معرفة الله في مقام ربوبيته للخلق كله مقارنة بمعرفة الإنسان في مقام
عبوديته لله وهو الأسلوب الذي تطهرُّ فيه نفسك من كل الرذائل الأخلاقية
لتكون إنساناً روحانياً منفتحاً على الله، قريباً منه. ولكنني أقول إنّ النبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع) أرادوا لنا أن نعرف الله وأن نهذّب نفوسنا بالأسلوب
القرآني الذي يفهمه الناس كلّهم. ونحن عندما نقرأ أحاديث النبي(ص)
وأحاديث أئمة أهل البيت(ع) فإنا لا نجد فيها هذا النوع من الاستغراق الفلسفي في المسائل والمصطلحات المعقدة التي قد توحي بأفكار غير مقصودة.
ولذلك فنحن في الوقت الذي نقدّر فيه الجهد العقلي الذي انطلق به
العرفانيون نقول إنهم أوّلوا الآيات تأويلاً صرفها عن بلاغتها وأخرجها
عن ظواهرها بدون دليل، وأنّهم جعلوا القرآن كتاباً رمزياً وفي النتيجة فنحن لا ندعو إلى ظاهرة جديدة تعمل بالظاهر كيفما كان ولكنها تعمل بالظاهر مادام لم يقم هناك دليل قطعي على خلافها، ومشكلة الظاهريين الذين أخذوا بظواهر القرآن إنهم اعتمدوا طريقة ساذجة فقالوا بالتجسّم لأن القرآن ظاهر بالتجسيم، وقالوا بالجبر لأن القرآن ظاهر بالجبر ولم ينظروا إلى العقل القطعي في هذا المجال))( ).
((إنّ فهم القرآن ليس مختصّاً بعلماء الدين، فلربما يفهمه بعض الناس الذين يفهمون ثقافة اللغة، والذين يملكون ثقافة الحياة، فهماً جيداً، فنحن لا نقول بأن فهم القرآن مختصّ بعلماء الدين، فلقد خوطب بالقرآن كل الناس، ولم يكن هناك علماء دين(*) يوم نزل القرآن، ولكن الناس كانوا يفهمون اللغة العربية بكل أسرارها بفطرتهم.
لكننا نقول لابد لمن يتعرض لفهم القرآن وتحليله أن يكون مثقفاً بالعناصر التي يحتاجها، فهل يمكن للإنسان الذي لا علاقة له بالثقافة الأدبية أن يفهم النصّ الأدبي وأن ينقده بطريقة سليمة؟
إن التخصّص لا يعني أن تحجب المعرفة عن الناس الآخرين، ولكننا نقول بأنّ لكل علم عناصر وآليات لابد للإنسان أن يفهمها، فإذا كان غيرُ عالم الدين مثقفاً بالعناصر الحيّة التي يتوقف عليها فهم القرآن فمرحباً به))( ).
9- الصورة الصحيحة للإسلام:
((لقد قام العلماء والمفكرون المسلمون بتقديم الصورة الصحيحة الأصيلة عن الإسلام بعد أحداث 11/أيلول بكل وسائل الإعلام الغربي. وبكل تواضع لقد قمت بمداخلات فكرية سياسية منذ 11أيلول ولحد الآن مع أجهزة الإعلام الأمريكي والأوروبي وغيرها سواءً الصحفية أو الأجهزة التلفزيونية أو الإذاعية حيث أجرينا حتى الآن(*) ما يقارب الخمسين مداخلة وحديثا، وكنا نحاول إيضاح مفاهيم الإسلام وأصوله للكثير من المثقفين الغربيين، وقد حاول علماء مسلمون آخرون توضيح ذلك، ولكن المشكلة هي كما في قوله تعالى وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ( ) لأن الإعلام الغربي ليس إعلاماً محايداً بل هو خاضع في مجمله للإعلام الصهيوني فهو اعلام يدير في الغالب المعركة وفق مصالح المستكبرين من الصهاينة والامريكيين، وإن كنا نجد بعض الحياد في بعض المواقع، ولعل ما سمعتموه من قصف تعرض له بعض رؤساء القبائل الأفغانية الذين ذهبوا لحضور احتفال تنصيب الحكومة الأفغانية الجديدة ما يؤكد ذلك. فكل وسائل الإعلام تقول إن هؤلاء من العشائر التي جاءت للتهنئة، ولكن أمريكا تقول إنهم من قيادات الطالبان مع أن الوكالة الأفغانية الإسلامية من الداخل تقول إنهم كانوا قادمين للمشاركة في الحفل بغرض التهنئة وليسوا من الطالبان، وعلى هذا فإنّه ممنوع على التلفزيون الأمريكي وعلى الصحف الأمريكية أن تنشر أي حالة من حالات القصف الأمريكي للمدنيين، وما أكثر المدنيين الذين قتلوا في الحرب على أفغانستان.
والمسألة عندنا هي أن نقتنع بأنفسنا ولا نكون مغرورين، وأن ننقد أنفسنا إذا أخطأ بعضنا، وعلينا أن نتعلم من خلال النقد الذاتي، لأننا في الشرق نصحّح للقيادات أخطاءها ونقدّسها ونعتبر النقد عداوة، ثم إنّ علينا أن نكون كما قال علي(ع) وهو المبرّئ من كل عيب ((رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي)) و((المؤمن مرآة أخيه)) وقمة الأسلوب القرآني هو الذي عظّم مجاهدي بدر ونقدهم، ونقد المسلمين في (أحد) وفي (الأحزاب) وفي (حنين)، حتى يعلّمنا أن لا ننظر إلى الجانب المشرق من الصورة، بل يجب أن ننظر إلى الجانب المظلم مقارناً بالجانب المشرق، حتى نطرد ظلمة الصورة لتتحول إلى إشراق.
إن المشكلة تكمن في تراكم الأخطاء، وفي عبادة الشخصية، وفي الصنمية التي أصبحنا نعيشها دينية وسياسية واجتماعية، فنعطي العصمة لغير المعصوم، وربما إذا انتقد أحدهم النبي(ص) يقبلون منه ذلك، ولكن إذا انتقد شخصية لها موقع قيادي أو ديني أو سياسي لا يقبلون منه ذلك، لأن مسألة عبادة الشخصية وصلت إلى هذا المستوى، لأننا تركنا النقد وانطلقنا في المديح والثناء بشكل غير متوازن))( ).
10- خطاب الألفية الثالثة:
((ولقد ذكرت أكثر من مرّة أنني لا أشعر بميزة في حجم الزمن لأية بداية زمنية يصطلح عليها الناس، إذ ما الفرق بين الألف الثاني والألف الثالث؟ لقد ولد السيد المسيح(ع) وأرّخنا الزمن بولادته، وهو أمر ننفتح عليه كمسلمين، ولكنّنا لا نحوّل الزمن إلى وثن نتعبّد ونخضع له. وقد كان قبل السيد المسيح(ع) زمان لا ندري كيف انطلقت سنواته وما هو عددها؟!
لذلك فأن نقف أمام بداية قرن، أو عند نهايته، أو بداية ألفية أو نهايتها، فهذا لا يعني لنا شيئاً. فما يعنينا هو أن نتحسّس مسؤوليتنا بالنسبة إلى الزمن في الثانية واللحظة، وكيف نملأ الزمن عقلاً من عقولنا؟ وكيف نملأه محبة من محبتنا؟ وكيف نملأه حركة من حركاتنا؟ وكيف نحوّل الزمن؟ وكيف نؤنسنه؟ فالزمن هو الإنسان من حيث أنه عمر الإنسان وعمر الكون الذي يحيط بنا أو يطلّ علينا.
فالمسألة المهمّة هي كيف نرتفع بإنسانيتنا لنفكّر أكثر ونبدع أكثر ونكتشف أكثر ونسهّل الحياة أكثر ونقوّي المواقع أكثر ونحدد الواقع أكثر؟ سواء في كلّ يوم أو في كلّ شهر أو في كلّ سنة أو في كلّ قرن أو في كلّ ألفية. وعلينا أن لا نتوقّف والزمان يسير، وأن لا نجعل اللحظة تذهب منّا دون أن نملأها بما يغنينا من خلال هذا العصر الذي أعطانا فرصة جديدة.
لكنّ مشكلتنا في هذا الشرق هي أنّنا نعادي الزمن. وقد ذكرت لكم أكثر من مرة أن بعض التعابير التي يتداولها الناس تدلّ على حجم التخلّف في ذهنيتهم. فنحن نتحدّث مع بعضنا بالقول تعالوا نقطّع الوقت، وتعالوا نضيّع الوقت، وتعالوا نقتل الوقت، ناسين أن الوقت هو عمرنا، فإذا أردنا أن نضيّعه، فمعنى ذلك أننا نضيّع عمرنا، ومعنى أن نقتله أننا نقتل عمرنا. إنّ اللّه سيحاسبنا غدا على أعمارنا، فمن وجهة النظر الإسلامية يسئل الإنسان يوم القيامة عن أربع: ((عن عمره فيم أفناه)) فأنت تسئل عن لحظات عمرك وعن شبابك، وهو قوة العمر، فيم أبليته، وعن مالك مم اكتسبته وفيم انفقته. فالعمر إذن مسؤولية وكلّ لحظة تمرّ من حياتك أنت مسؤول عنها. لذلك علينا أن نحترم عمرنا، وعندما نحترم عمرنا فلا يبقى هناك وقت فراغ إلاّ الوقت الذي نتجدّد فيه. وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع) ((فإن قدّرت لنا فراغاً من شغل، فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبعة، ولا تلحقنا فيه سآمة))( ). وقد ورد عن علي(ع) أن يكون زمان العاقل أربع ساعات ومنها ((ساعة يخلّي بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلّ ويجمل فإنها عون على تينك الساعتين)).
فلا مجال في الإسلام لفراغ، بل حتى الفراغ لابدّ أن تملأه بما يقوّي مسؤوليتك في عبادتك وفي عملك وفي نشاطك. لذلك ترانا كيف استطعنا في الماضي أن نستفيد من الزمن، وقد انشأنا الحضارة التي ملأت سمع الدنيا وبصرها، واستطاع الآخرون أن يستفيدوا من الزمن في الوقت الذي كان الزمن نائماً عندنا، وأن يغتنموا الزمن حينما كان مضيّعاً عندنا، وذلك عندما كنّا نحلّ الألغاز وننشغل بما لا ينفع من العلم، فيما القوم ينطلقون من أجل أن يكتشفوا العالم. فلقد كنّا نتحدّث في التجريديات، فيما كان الآخرون يتحدثون في الواقع، وكنا نعمل على أساس ما تعارفنا عليه دون تطوير أو تغيير ما تعارفنا عليه، وقد كنّا نقول لكثير من أساتذتنا، عندما يقدّمون لنا فرضيات أخرى في المنطق وفرضيات في الفلسفة وفي الفقه، كنّا نقول لهم أنْ لا ثمرة لكلّ هذه الفرضيات في الواقع، وكانوا يقولون لنا: شرّحوا الذهن، ولكن لماذا لا نشرّح أذهاننا فيما ينفعنا وفيما يملأ هذا الذهن؟ لماذا نكون كطاحونة الهواء؟
لذلك ففي الألفية الثالثة يطرح السؤال الكبير التالي على المسلمين: كيف يمكن لكم أن تفهموا الحياة؟ وكيف يمكن أن تتحسّسوا مسؤوليتكم في الحياة؟ وكيف لكم أن تدخلوا ساحة الصراع؟ فالآخرون لا يملكون عقلاً من ذهب ونحن نملك عقلاً من تراب. ولو نظرت إلى المسلمين الذين اتيحت لهم الفرصة ليبدعوا لرأيت انهم يعملون في الدوائر العملية الأميركية والأوروبية وفي أجهزة الفضاء، حيث يكتشفون ويخترعون ويبدعون، ولكن تحت العنوان الأميركي وتحت العنوان الأوروبي.
إنهم في العالم الغربي اشتروا أدمغتنا ووظّفوها في حضارتهم. أمّا العالم المسلم، في أي جانب من جوانب العلم، فلا يرى فرصة لحركة عملية في بلاد المسلمين، لأننا مشغولون بالتفاهات. لذلك عندما تكون الحياة جدّاً لا هزلاً، وعندما تكون مسؤولية لا لعبا،ً فسوف نضع أقدامنا على الطريق لنستعيد حضارة سلفت، أو نضع حضارة جديدة من خلال مفاهيم الحضارة عندنا.
لذلك ـ أيّها الأحبة ـ كفّوا عن اللامبالاة، وكفّوا عن اللاّمسؤولية، واعتبروا أنّ كلّ لحظة كما قال الإمام زين العابدين(ع) شاهدٌ علينا. ومشكلتنا أنّنا نفهم زين العابدين(ع) بكاءً ودموعاً ولا نفهمه إبداعاً في حقائق الكون كلّها. ولذلك فقد ارتفع أئمتنا(ع) إلى الأعالي وحاولنا أن ننزلهم بتخلّفنا إلى الأسفل. يقول(ع) ((اللّهم وهذا يوم حادث جديد وهو علينا شاهد عتيد)). فاليوم عينٌ تحدّق بك ((إنْ أحسنّا ودّعنا بحمد وإن أسانا فارقنا بذمّ))( ). فهل نفكّر أنّ اليوم هو عقل وهو عين وهو شاهد علينا بين يديّ اللّه؟!))( ).
ثانياً: الخطاب الإسلاميّ المعاصر:
1. تقادم الفكر:
((الفكر على قسمين: هناك فكر الحقيقة والحقيقة لا زمنَ لها، إنه الفكر الذي يفرض نفسه على الزمن كلّه وعلى الإنسان كلّه لأنه لم ينطلق من ظروف بيئية، أو من حالة خاصة أو من عناصر جزئية هنا وهناك، فإنه يتحرك بحركة الحياة، وهكذا استطاع فكرُ الرسالات أن يقتحم الحياة كلّها.
وهناك فكرٌ بشريّ انطلق من خلال واقع معين لبيئة معينة أو نتيجة وضع ثقافي، فقد يجيء زمن آخر ليثبت خطأه، أو من خلال مؤثرات عاطفية، أو ما إلى ذلك.
إنّ الفكر الذي يخضع لعناصر الزمن التي تموت يموت، أمّا الفكر الذي ينطلق من قلب الحقيقة بعيداً عن خصوصيات البيئة، وبعيداً عن جزئيات الثقافة، وبعيداً عن الجوانب العاطفية، فهو فكر الحياة لأنه انطلق من قلب الحياة، ولذلك فنحن نقول إن التقادم لا يسقط الفكر بل يسقط ما يموت منه عندما يتقدّم الزمن، تماماً كما هو الإنسان، أمّا الفكر الذي لا عمر له فالزمن لا يؤثر فيه))( ).
2. ملفات الماضي:
((وأنا لست مع الذين يقولون بإغلاق ملف التاريخ، ذلك لأننا صناعة التاريخ، فنحن صنعنا من التاريخ مفاهيمنا، وما نرثه من عادات وتقاليد هي من خلال التاريخ، فنحن نتحرك فيه من خلال مواقفه وعلاقاته، لذلك فالتاريخ يعيش في ذاتنا، لكننا مع الذين يقولون إنه يجب أن نعيد كتابة التاريخ، ولابد أن نوثق التاريخ لأن الكثيرين عبثوا بالتاريخ وأدخلوا الكثير من الأكاذيب والخرافات في التاريخ؟ لذلك لابد أن نعرف ماذا في التاريخ؟ وأين هو التاريخ؟ لأن التاريخ ليس مجرد أننا نقرأه في الكتب، وبل لابد لنا أن نوثقه، هل حدث هذا أو لا؟ كيف كانت حادثة (كربلاء)؟ كيف كانت واقعة (الجمل) و(صفين) وغيرها؟
إنّ علينا أن ندرس تاريخنا لنوثق الصحيح من الفاسد، ونفرز الحقيقة من الخرافة، وإذا أردنا أن نعيد كتابة التاريخ فيجب أن لا نعيده من موقع العصبية بل من موقع المسؤولية، فنحن نعرف في تاريخنا أن علياً(ع) سكت عن أشياء كثيرة وابتعد عن صراعات كثيرة لأنه كان يقول ((لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاً عليّ خاصة)) وتحدث عن ما مرّ به في خطبة (الشقشقية) وتحدث عن تجربته بمرارة ليعبّر بالسلبية عن طبيعة موقفه مما حدث وأنه لم يكن ليوافق عليه، ولكن عندما رأى الأخطار تواجه الإسلام تحرك إيجابياً حتى مع خصومه...
.. علينا أن نقرأ في التاريخ الحقيقة ونستعيده لكن بشرط ألا نستعيده عصبية وبغضاً وحقداً، فنقول (عليّ وعلى أعدائي يا رب) وذلك بأن نفسح المجال للعالم المستكبر والعالم الكافر بأن يعملا معاً على بعث هذه الاختلافات الإسلامية من أجل أن يثيرا أُناساً هنا ليكفّروا جماعة هناك ولتكون النتيجة أنّ المسلمين يقتلون بعضهم بعضاً ويكفّرون بعضهم بعضاً باسم التاريخ، ويبقى المستكبر يقهقه ويضحك ويعتبر أنه انتصر من خلال أننا هزمنا أنفسنا بأيدينا، فكيف يمكن لنا أن نفكر في ديننا؟!
إن علينا أن لا نخاف من حقائق التاريخ بل نواجهها بصراحة ومسؤولية ليكون لنا مصدر غنى في تصحيح الكثير من الانحرافات والأخطاء ومصدر وعي في الانفتاح على النتائج السلبية أو الإيجابية التي نحن جزء منها بقدر علاقة التاريخ بمفاهيمنا التي نعيشها وبعاداتنا التي ورثناها وبأوضاعها التي درجنا عليها.
إن التاريخ ليس شيئاً حيوياً في مضمون وجودنا، وليس حركة في مسؤوليتنا، بل هو شيء صنعه الآخرون في نطاق مسؤولياتهم سواء كانوا ممّن نحبّ أو لا نحب فقد حدّد الله لنا التاريخ كمنطلق للعبرة لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ( ) وكذكرى ودراسة لما قاموا به تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ) إنه مسؤوليتهم لا مسؤوليتنا فلماذا نتقاتل باسمه؟))( ).
3. المقدّس وغير المقدس:
((إنّ الدين هو ما أنزله اللّه سبحانه وتعالى على رسوله(ص) وهو الحق الذي لا يقترب الباطل منه، ولكن التراث هو ما رواه الرواة واجتهد فيه المجتهدون والمثقفون وسار عليه الناس في حركة التاريخ، وقد نجد في الروايات الصحيح وغير الصحيح، والموثوق وغير الموثوق، والاجتهادات – على أية حال – ليست معصومة، فليس هناك مجتهد يقول عن نفسه أنّه يملك العصمة في فكره، بل قد يخطأ المجتهد وقد يصيب، وله أجران إن أصاب وواحد إن اخطأ، والتاريخ يصنعه الناس وقد يكون تاريخاً مزيفاً وقد لا يكون كذلك.
فالقرآن كتاب اللّه، لكنّ فهم القرآن هو أمر البشر إلاّ ما صدر بشكل قطعي عن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع) وما عدا ذلك فإن العلماء يختلفون في تفسير القرآن نتيجة اختلافهم في فهم القرآن.
ولذلك فإننا لا نعتبر تفاسير القرآن مقدسة بل هي خاضعة لكتاب اللّه الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ( ). ففهم القرآن يمكن أن يكون خطأ ويمكن أن يكون صواباً، ولذلك نجد أن المفسرين يختلفون، فقد يفسّر أحدهم آية بطريقة ويفسّر الآخر الآية بطريقة أخرى، راجعوا (مجمع البيان) وراجعوا كلّ التفاسير، فليس كلّ ما فيها صحيح والروايات المروية عن النبي(ص) وعن الأئمة(ع) منها الصحيح ومنها غير الصحيح، والتاريخ أيضاً هو تاريخ دخلت فيه السياسة والمذهبية والتعقيدات النفسية فهو ركام من الحقائق ومن الدسائس والمزوّرات.
كذلك نقول إنّ علينا أن ندرس تراثنا بطريقة غير مقدسة، بمعنى أن ننظر إليه كتراث قد يكون موثوقاً وقد لا يكون، فنأخذ الموثوق ونترك غير الموثوق، وقد يكون صائباً وقد يكون خاطئاً فنأخذ الصائب ونترك الخاطئ.
وهكذا أيضاً دخلت الخرافة من خلال الكثير من الأحاديث، ومن خلال التاريخ المزيّف وما إلى ذلك، وجاء التخلّف ليقدّس الخرافة التي أصبحت تمثل عند الكثير من الناس ديناً. ولذلك لابدّ أن نميّز بين ما هو خرافة وبين ما هو حقيقة، وأن تكون لنا أصالة البحث حتى لا نفرض على الدين بعض الاجتهادات الخاطئة وبعض الروايات المكذوبة وبعض الفهم الخاطئ. ولذلك أقول لكم لا تقبلوا إلاّ من يملك علم الإسلام وأقصد أن لا تستمعوا له، فهناك الكثير من الجهلة الذين قد يصورون أنفسهم بأنّهم في مواقع العلم، أو الذين يملكون بعض جوانب العلم لكنهم يعطون آرائهم في غير علم على طريقة ذلك الشاعر:
فقل لمن يدّعي في العلم معرفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
كما أنّ التعبّد في فكر معيّن لا معنى له، فنحن إذا لم تكن لدينا خبرة نرجع إلى أهل الخبرة، لكن علينا أن نعرف من هم أهل الخبرة، وإنّ من كان خبيراً بالطب لا يجوز أن نرجع إليه في قضايا الهندسة، ولذلك ترى أنّ بعض الناس ربما كانت عنده بعض الخبرة في الفقه ولكن يرجع إليه في الفقه كلّه، وربما ليس لديه خبرة وافية بالعقائد لأنه يدرس العقائد فقط ولم يدرس الفلسفة وعلم الكلام، ولكنك تراه يعطي آراءه بشكل مطلق فيكفّر هذا ويضلّل ذاك، وهو لم يدرس حقيقة التكفير والتضليل، واللّه تعالى يقولوَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا( ).
فعلينا أن ندرس كلّ شيء وأن نعيد دراسة التاريخ ودراسة الفقه، وأن نعيد دراسة علم الكلام حتى نستطيع أن نعرف أين الحقيقة وأين الباطل أمام كلّ هذا الركام التاريخي. والدراسة المعمّقة العلمية لا تمنع من الوصول إلى الحقيقة بل تؤكدها، لكنّ بعض الناس يخافون من أن تدرس الأمور ويخافون من أن تناقش المسائل لأنهم لا يملكون العلم الذي يستطيعون أن يؤكدوا ما يتلزمون به، ولذلك تراهم يخافون من أي علم آخر ولا يستطيعون الوقوف أمامه لأنهم لا يملكونه))( ).
4. بين الأصالة والمعاصرة:
((ولهذا علينا أن نحتفظ بأصالتنا الفكرية التي نؤصلها ببعض ما نقتنع فيه من قيام برهان عليه، كأصالة العقيدة التي نؤصلها من خلال الحجة القائمة عليها لتكون هي الحقيقة في وعينا المرتكز على الحجة. ثم علينا أن نعيش عصرنا في طريقة العرض وفي طريقة الاخراج وفي إدارة الحوار مع الذهنية المعاصرة، لأن أي إنسان لا يعيش ذهنية عصره، لا يمكن أن يفهم لغة عصره تماماً كما أنك لا تستطيع أن تفهم إنساناً يتحدث بلغة لا تفهمها وأن تفهم إنساناً يتحدث عن ذهنية لا تعيها، لذلك لابد لنا أن نعطي فكرنا المتأصل وعقائدنا المتأصلة أسلوب العصر وذهنية العصر وحركة العصر، وأن نواجه التيارات المعاصرة من موقع ما تتحرك به لنردّها لنفس الذهنية ولكن من موقع أصالتها))( ).
((وأرى أن من الضروري جداً أن يكون لنا (حسّ المعاصرة) بأن نعيش معنى العصر لا أن نسقط أمام العصر بل أن نفهم عصرنا وأن نتحدث بلغة العصر. إنّ بعض الناس يتحدث بلغة ما قبل (200) سنة وقد يتكلم بذهنية لا تفهم منها شيئاً وكأنه يتحدث بلغة أخرى، لذلك فأنا أدعو كل العاملين في سبيل الإسلام أن يدخلوا في روح العصر ليفهموه حتى نخاطب الناس من موقع ذهنياتنا. والحديث الشريف يقول ((إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم)). وبوسائلهم أيضاً. وفي الحديث الوارد عن الإمام علي(ع) أنه قال: ((لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم)) فليس المراد الأخلاق الأصيلة كالصدق أو الأمانة أو العفة بل المراد هو الأخلاق المتحركة من حاجات ووسائل يتعامل فيها الناس والتي تختلف من زمن إلى زمن، ففي الماضي كنا نذهب إلى (الكتاتيب) والآن صارت هناك مدارس وجامعات ووسائل إيضاح تختلف عن وسائل الإيضاح السابقة، وهذه هي الأخلاق التربوية، والأخلاق التعليمية، والأخلاق الثقافية، والعادات الجديدة التي يمكن أن توظّف في تطوير المادة الثقافية الإسلامية))( ).
5. التجديد الديني:
((أنا لا أفهم كلمة التجديد الديني، فالدين في عمقه لابد أن يبقى كما أرسله الله في صفائه، وربما كان علينا أن ندرس الدين باستمرار ولا نكتفي بدراسة الأقدمين فلقد كانت لهم ذهنياتهم الثقافية، وكانت لهم تأثيراتهم الفكرية، وكانت لهم رواسبهم، وكانت لهم نقاط ضعفهم. ونحن نحترم الأقدمين ولكنهم ليسوا معصومين، ذلك أن كل العلماء يخطئون ويصيبون فالعلماء السابقون أنفسهم كانوا ينقدون من كان قبلهم، فلماذا لا يجوز لنا أن ننقدهم؟
علينا عندما نريد أن نفسّر القرآن أن ندرسه دراسة جادّة وأن نفهمه فهماً عميقاً، وندرس ما استعان به الآخرون من أدوات التفسير، وليكن لنا فهمنا للقرآن، فقد نكتشف خطأ في ذلك، وقد نكتشف انحرافاً في فهمهم، وقد نكتشف تخلّفاً. فقد يملك بعض الناس العلم الكبير ولكنهم يملكون ذهنية تقليدية، إنّ علينا أن نفهم القرآن فهماً عميقاً لا أن نعيش عقدة الجدّة، أي أنّ علينا أن نعيش استقلالية الفهم، وعلينا أن نفهم السنّة النبوية الشريفة فهماً جديداً ونفهم ما يأتينا من أحاديث أئمة أهل البيت(ع)، وأن ننقي الأحاديث لأن هناك ركاماً من الأكاذيب ومن المواضيع التي دخلت إلى واقع الناس وأصبحت حقائق.
لذلك فنحن نؤمن بالتجديد بهذا المعنى ولا نريد أن نجدّد الدين لمجرد أن الآخرين قالوا لنا: جدّدوا فليست لدينا نقطة ضعف أمام الآخرين فليقولوا ما يقولون وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( ) فلو ثبت لدينا حقيقة قرآنية وقال الناس كلّهم إنها خرافة فإننا نقف لنقول إنها حقيقة، ولكن علينا أن نوثق النصوص الدينية ونسأل: هل صدرت؟ وكيف صدرت؟ وما هو مفهومها؟))( ).
6. الحداثة:
((أمّا الحداثة فهي حركة ثقافية تحاول أن تنفتح على الجديد في الفن، أو الجديد في الذهنية، أو الجديد في الحركة، ونحن لسنا ضد الحداثة ولكن بشرط أن لا تكون الحداثة عقدة نسقط تحت تأثيرها، ولا يصحّ أن نأخذ بالحداثة كيفما كان، ذلك أن قضية الحداثة وقضية التراث في البعد الفكري، هي قضية (المضمون) فمن الضروري أن تتطور الأساليب ووسائل الحياة، فلربما نسير في خط اجتهادي بحيث نكتشف فيه شيئاً لم يكتشفه الأولون لكن على أساس أن نتبع الأصول التي تركز الفكرة على أسس سليمة.
أما أن نطلب الحداثة للحداثة فهذا غير صحيح، نعم، علينا أن ننفتح على العصر ولكن علينا أن نبقى على الالتزام بالمضمون الفكري الإسلاميّ الذي نرى أنه الحق. إننا مع الحداثة التي لا تمس الجوهر، ولا تمس المضمون. فلابد للذي يعيش العصر أن يعيش روحية العصر وأن يعيش ذهنية العصر بشرط أن لا يستلبه الحاضر، وقد يكون في الحاضر شيء أكثر رجعية مما في الماضي، ذلك أن قصة التقدمية والرجعية هي قصة الحداثة وعدم الحداثة وليست المسألة مربوطة بالزمن ولكنها ذات علاقة بالإنسان كيف ينفتح، وكيف يبدع، وكيف ينطلق، وكيف يحافظ على المواقع الفكرية؟!))( ).
7. المثاقفة:
((غير أنّ هناك فرقاً في الأدوات المادية التي يملك فيها الآخرون الأجهزة الإعلامية والقوة المادية والقوة السياسية والاقتصادية التي تتيح لهم أن ينفّذوا مآربهم في كلّ مكان في العالم. ولكنّنا نملك أصالة الفكر الإسلامي، وإنسانية الفكر الإٍسلامي، وعقلانية الفكر الإسلامي. ومن الطبيعي أنّ الإنسان الذي أحاطت به التكنولوجيا من جميع الجهات لا يزال يبحث عن الروح وعن العقلانية الصافية، وعندما نلتقي بمفكرين كبار من الغربيين ممن دخلوا في الإسلام بعد أن كانوا مسيحيين أو ماركسيين، نعرف أن الإسلام يخترق فكر هؤلاء المثقفين الذين عاشوا الثقافة الغربية بكلّ عناصرها، ولكنهم رأو في الإسلام الأصالة، ورأوا فيه الدين الذي يحترم الإنسان كلّه.
فعندما نرى ذلك فإننا نشعر بواقعية أن الإسلام دين عالمي ، ولكن المشكلة هي أن المسلمين لم يتحوّلوا إلى دعاة، بل إنهم يعيشون في داخل ذواتهم أشكال التخلّف. ومشكلتنا هي قيادات الجهل والتخلّف والخرافة التي أساءت إلى الإسلام، وإلاّ فلو عرف الناس الإسلام الأصيل، الإسلام القرآني، والإسلام المحمّدي، والإسلام الذي انطلق في خط الأئمة(ع)، لرأوا ما يجعلهم يؤمنون به ويشعرون بأنه هو الذي يجلب لهم السعادة في الدنيا والآخرة))( ).
8. النظرية الاجتماعية:
((أمّا ما يتحدّث به البعض عن أنّ الإسلام لم يستطع أن يصل إلى نظرية في الجانب الاجتماعي فإنني أتصوّر أنه كلام لا يحمل الكثير من الدقّة، لأن الإسلام يقدّم في تشريعاته ومفاهيمه العامة في علاقات الناس ببعضهم البعض وفي حركة المجتمع في مجالات النمو والإبداع والتغيير منظومة فكرية متكاملة. ولذا فإنّني أعتقد أن هناك ثروة تشريعية ومفاهيمية واسعة فيما لدينا من تراث إسلامي في الجانب الاجتماعي في علاقات الناس ببعضهم البعض، وفي الأسس التي تقوم عليها المجتمعات وتنهض أو تنهار بموجبها الحضارات))( ).
9. نظرية الأدب الإسلامي:
((وعندما ننطلق في إيجاد إية قاعدة فنية لأي أدب إذا أردنا أن ننسبه إلى خط أو فكر فإن من المفروض أن نستوحي هذا الأدب من المفاهيم التي تتمثل في هذا الفكر. فمثلاً عندما نقرأ عن النبي(ص) أنّه كان ((يحبُّ الفأل الحسن، ويكره الطيرة)) أي أنه كان يحب التفاؤل ويكره التشاؤم فقد نفهم من ذلك إن الأدب التشاؤمي ليس إسلامياً، لأنّ الخط الإسلامي في النظرة إلى الحياة هو خط التفاؤل والخط الذي يبقي الأمل منفتحاً في عقلك وفي شعورك بكل الحياة. وإذن فالأدب التشاؤمي ليس أدباً إسلامياً أي لا يحمل ملامح الأدب الإسلامي ولكن التفاؤل يملك الملامح الإسلامية.
وكذلك الأدب اليائس فالشاعر أو الكاتب الذي يحاول أن يصور أو يكتب قصة يائسة مفعمة بالإحباط، أو شعراً ينطلق ليواجه قضايا الحياة بنظرة يائسة فهذا ليس أدباً إسلامياً لأن الله تعالى، يقول: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ( ) فهذه الآية تؤكد على أن الإنسان يجب أن ينطلق في حياته على أساس أن لا يركز اليأس في أية تجربة من تجارب حياته، لأنك مادمت منفتحاً على الله فلا معنى لليأس لأن الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ) وهو بَالِغُ أَمْرِهِ( ) وهكذا عندما ننطلق في الخطوط الأخلاقية للإسلام إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ( ) فهذا عنصر من عناصر حركة الأدب الإسلامي، فلا يمكن أن يكتب الأديب المسلم قصة أو شعراً أو أية محاولة كتابية أخرى تشجع الظالم مثلاً وتعطي الظلم عنواناً يبعث على الاحترام. أو أن يكتب الأديب قصة أو رواية أو مسرحية أو قصيدة تحاول أن تجعل الظلم ينتصر على العدل أو الشر على الخير، فهذا أدب غير إسلامي.
وإذن فكل أدب منتمٍ لابد أن يأخذ ملامحه من الخط الذي ينتمي إليه. أنا لا أقول بأن على الأديب أن يكون مصلحاً اجتماعياً على حساب التصوير الفنيّ، بل لابد للأديب أن يعيش الإبداع الفني في طريقة التعبير وفي الأخيلة وفي الصور. ولكن على الأديب أن يكون ملتزماً بالإسلام وملتزماً بالحياة وقبل ذلك أن يكون ملتزماً بالله خالق الإنسان وخالق الحياة. لذلك فإن ملامح الأدب الإسلامي تنطلق من خلال ملامح الخط الإسلامي في المسألة القيمية والإنسانية وفي نظرة الإنسان إلى الحياة في كل جوانبها))( ).
10. نحن والفكر الآخر:
((إنّ التهمة الموجهة لعلمائنا من أنهم لا يقرأون فكر الغرب تدلّ على أن الذي يدعونا لأن نقرأ الغرب لم يقرأ هو أبحاث العلماء المسلمين، فماذا يقول عن السيد الشهيد الصدر رحمه الله الذي قرأ فكر الغرب بكل عمق وبكل دقة، فكتب (فلسفتنا) الذي ردّ فيه على الفلسفة الماركسية وغيرها، كما أنّه كتب (اقتصادنا) وردّ فيه على الاقتصادين الرأسمالي والماركسي، وكذلك (الأسس المنطقية للاستقراء).
وماذا يقول عن الشهيد المطهري رحمه الله وغيره كثيرون ممن قرأوا الفكر الغربي بشكل جيد وناقشوه من موقع دراستهم العميقة التي قد تكون أعمق من دراسة الكثير من الاكاديميين الذين قد يقرأون الفكر ولكنهم لا يتعمقون فيه وفي مناقشته.
لكننا لا ننكر أنّ هناك من الأشخاص من يرفضون الغرب دون أن يقرأوه، كما أننا نجد في الغرب من يرفضون الإسلام دون أن يقرأوه، وهذا هو الغالب في الغربيين الذين يهاجون الإسلام في الإعلام الغربي، فهم يرون الإسلام في بعض تجارب المسلمين))( ).
((إلاّ أنّه ينبغي للإنسان المسلم أن لا يتصور نفسه أنه معصوم في فكره وأنه يملك الحقيقة وحده، فأنت إذ تعتبر أنك تفهم الإسلام من خلال المعطيات التي بين يديك، فكّر أن من الممكن جداً أن تكون للأشخاص الآخرين الذين يختلفون معك معطيات أخرى قد تبدّل معطياتك. وليس معنى ذلك أنك تعيش الاهتزاز في اقتناعك، ولكن معناه أن عليك أن تعرف أنك لست معصوماً، فإمكانات الخطأ واردة وإن لم تكتشفها. واسمع جيداً فلعلك تسمع شيئاً يكشف خطأك، ونحن نقرأ في القرآن أن الله تعالى لا يريد لنا أذناً متعصّبة تنغلق عما لا يعجبها وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ( ) بحيث أنها تعي الكلمة وتفكر بها، فالأذن هي نافذة على العقل، والأذن الواعية هي التي تتداخل مع العقل في وعي الكلمة، ولذلك فإننا نستطيع بالوعي والعقل أن نتفاهم حول ما هو الإسلام وفيم أخطأنا وفيم أصبنا فيه.
لكن المشكلة عندنا هي أننا نعيش شخصانية الفكر بالطريقة التي يعبد فيه الإنسان نفسه فيتصور أنه وحده الذي يملك الفكر وأن غيره لا يملك ذلك. وهذه هي مشكلتنا بالنسبة لمن يتصور نفسه عالماً ولكنه يجهل جهلاً مركباً))( ).
((وعندما نصادم الفكر الآخر فإننا نصادمه على أساس مقابلة الحجّة بالحجّة والفكر بالفكر، لا أن نصادمه بأن نحاصره فينظر الناس إليه كما ينظرون إلى الفكر المضطهد الذي يتحوّل إلى فكر شهيد. نحن ندعو إلى أن نقابل الفكر لا أن نحاصره،وأن نقابله يعني بان نفرغه من كلّ عناصر القوة التي تجعل الناس تنجذب إليه، وذلك عملاً بشعار قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ( ). أمّا الذين يجدون فكرهم قويا لأنّه محاصر فهذا أيضاً غير صحيح، فإن فكرك يكون قويا بقدر ما يملك من عناصر القوة في القاعدة التي يرتكز عليها. إذ ليس دائما يكون الفكر المحاصر فكرا قويا.إن قوة الفكر الحقّة هي أن تكون قوة الفكر في داخله، لا أن تكون قوته من خلال العناصر الخارجية التي قد تلتقي بالفكر الخاطئ ليجتمع حوله الأنصار فيعطونه قوة. فإذا أردت أن تكون قوي الفكر فابحث عن عناصر القوة في طبيعة الفكر وفي القاعدة التي يرتكز عليها))( ).
11. الحوار وحدوده:
((إنّ الإسلام دين حواري حتى مع الذين كفروا من أجل أن يجرّهم إلى قاعدته الفكرية، وإذا كان بعض الناس يقولون إن الإسلام دين تكفير ليقولوا إن العلمانية هي خط حوار، فنحن نرى أن العلمانيين ينطلقون في التكفير بأسلوب آخر، فهذا رجعي وهذا ظلامي وهذا متأخر وهذا متخلّف وما إلى ذلك، فكما أن المتدينين يقولون إن هذا زنديق وهذا كافر وهذا ظال وهذا فاسق، فالعلمانيون كذلك لديهم ألفاظهم المماثلة في هذا المقام.
ولكن هناك نقطة حيوية، وهي أن الإسلام لا يطلق كلمة الكفر بوحي الانفعال أو الاسقاط الذاتي بل يطلقها من واقع موضوعي يتصل بالفكر الذي يلتزمه الكافرون في عقيدتهم المضادة لعقيدة الإيمان التي يتمثلها الإسلام في قاعدته في برامج هذا الشخص أو ذاك الفكرية مما يجعل المسألة مرتبطة بالانتماء الفكري للكافر بعيداً عن عملية السباب والتشهير. بينما ينطلق الآخرون في كلماتهم من موقع عنف كلامي في حالة إسقاط وتشهير وإننا – في هذا المجال – نؤكد على القائمين على الشؤون الإسلامية في موقع القاعدة والقيادة أن لا يستعجلوا التكفير على أساس انفعال لا يتعمق في فهم فكر الإنسان الآخر من دون تدقيق لئلا يظلموه أو يظلموا الحقيقة))( ).
((ولذا فإن الغاية من الحوار هي الوصول إلى الحقيقة، فأنا أحاورك وأنت تحاورني على أساس أن تقدّم وجهة نظرك وأقدّم وجهة نظري، ويدور الحوار حول ما هو الأصوب من وجهتي النظر، ليقدّم كلّ إنسان حجّته حتى نصل إلى الحقيقة. أمّا إذا كان الحوار حواراً جدلياً بحيث أنّه ياتي من أجل أن يضيّع وقتك ولا يتحرّك على أساس أن يصل إلى الحقيقة، فإن عليك أن تتجاوز ذلك وأن تعمل على الابتعاد عنه.
كما أنّ هناك حواراً يستهدف الإثارة لا الوصول إلى الحقيقة. فعلى الإنسان أن يكون ذكيّاً لبقاً في الحوار، لأنه ربما يأتيك إنسان ليثير قضية ليست أساسية لكنّها ترتبط بالعاطفة الشعبية أو بالعاطفة الغوغائية وما إلى ذلك، حتى إذا أجبت بالحقيقة التي تؤمن بها أثار الناس حولك. وهذا ما نراه في الأساليب الصحفية عندما يحتاج بعض الصحفيين إلى عنصر للاثارة، فإنهم يطلبون تصريحاً من هذا أو يحاورون ذاك بشيء يثير الجدل حتى يخوض الخائضون في موضوع لا يخلو من عناصر الاثارة .
وفي القرآن نلاحظ أسلوب موسى(ع) في الحوار عندما جاء إلى فرعون ووقف أمامه وبدأ يحدّثه عن اللّه وعن ربوبيّة اللّه وما إلى ذلك. فلقد أراد فرعون أن يثير الناس من حوله ضد موسى(ع) فقال قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى( ). أي ما بال الأولين؟ هل كلّهم في النار باعتبار أنهم ضالون بحسب عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى(ع)؟ الا أن موسى التفت إلى السؤال المأزق فلم يقل إنهم كفرة أو زنادقة أو ملحدون أو مشركون حتى لا يحرّض الناس ويؤلّبهم ضدّه، بل قال عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي( ). فأنا لا أملك علم هذا وإنّما أحدّثكم عن الحقيقة
وعن الرسالة. لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى( ). فهو قد ابتعد عن موضوع الاثارة ولم يسمح لفرعون أن يبعد القضية الحقيقية عن الواقع.
ونحن نرى الآن كثيراً من الأمور والقضايا التي يثيرها الناس مما لا يتصل بالعقيدة أو الشريعة بل لغرض الإثارة . ولذا فعلى الإنسان أن يبتعد عن الدخول في مثل هذا الحوار، لأنّ المحاور لم يأت لأجل أن يقتنع، ولأنّ القضية ليس لها اتصال بالجوانب العقيدية أو العملية. وما أكثر ما يثار في هذه الأيام من عناوين ليست لها أية علاقة لا بالعقيدة ولا بالشريعة وإنّما هي مجرد إثارات))( ).
12. غربلة الشعارات:
((ومن هنا فإنّ علينا أن ندرس الشعار في مضمونه الفكري والسياسي لنرى هل أنّه ينسجم مع الخطوط الفكرية التي نؤمن بها؟ وهل أنّه شعار ينفتح على القضايا السياسية الحية التي نعمل من أجلها؟
ثم ندرس خلفية الذي يطلقون الشعارات لنرى هل أنّهم يطلقون كلمة حق يراد بها باطل؟ أم يطلقون كلمة حقّ يراد بها حقّ، ورحم اللّه الشاعر السيد أحمد الصافي النجفي، حيث يقول:
كثر الخداع اليوم في أقوالنا فانظر الى من قال لا ما قيلا
فقد تكون الكلمة التي يطلقها صاحب الشعار حقّة لكن يا ترى هل أنّ مطلقها محقّ؟ أي هل أنّه من أهل الحقّ فعلا أم أنّ لديه أغراضاً وحسابات أخرى، فلقد بتنا لا نصدق الكلمات الطنّانة والفضفاضة لأنّها اصبحت استهلاكية، حتى صرنا نستهلك الكلمة مثلما نستهلك الطعام والشراب، ولذا لابدّ من أنّ نتحرّى عن القائل ومطلق الشعار لنرى هل أنه أمين على ما قاله أو ليس بأمين))( ).
ثالثاً: قضايا الفكر المعاصر:
1. الحرية:
((الحرية في الإسلام مسئولة، وعندما تكون كذلك فمن الطبيعي أن نتقيد بحرية الآخرين وحرية القيم الإسلامية الأخلاقية التي وضعها الله، فالإنسان ليس له أية حرية بعيدة عن البرنامج الأخلاقي، وليست له أية حرية في الإضرار بالآخرين وليست له أية حرية في الإساءة إلى النظام العام، وما إلى ذلك( ).
وليس هناك موقف واحد من حركة ما نراه باطلاً، فقد نعطي الباطل قوته عندما نمنعه حريته، ولذلك قد نسمح له بالحركة، ثم نأخذ حريتنا في مناقشته بالأساليب العلمية الموضوعية، عندئذٍ سينكمش ويأخذ مكاناً صغيراً له في الساحة.
أعط الحرية للباطل تحجّمه، وأعط الحرية للضلال تحاصره، لأن الباطل عندما يتحرك في ساحة من الساحات، فإن هناك أكثر من فكر يواجهه، ويمنعه من أن يفرض نفسه على المشاعر الحميمة للناس، فيكون مجرد فكر ، قد يقبله الآخرون وقد لا يقبلونه، ولكن إذا اضطهدته ، ومنعت الناس من أن يقرأوه، ولاحقت الذين يلتزمونه بشكل أو بآخر، فإن معنى ذلك أن الباطل سوف يأخذ معنى الشهادة ، وسيكون (الفكر الشهيد) الذي لا يحمل أية قداسة للشهادة، لأن الناس يتعاطفون مع المُضطهدين سواء مع الفكر المضطهد، أو مع الحبّ المضطهد، أو مع العاطفة المضطهدة.
بعض الناس، سواء كانوا سياسيين أو علماء دين أو مثقفين، لا يحبّون أن يتعبوا في مواجهة الفكر الآخر، ولذلك فهم يحبون أن يقمعوا الفكر الآخر ليرتاحوا من الجدل والمجادلين، ومن الحوار والمحاورين، وبعض الناس لا يحبون أن يدخلوا في مواقع الحوار، ولذلك فإنهم يضطهدونك لأنهم لا يريدون أن يتعبوا في مناقشتك.
إنني أتصور أن الإنسان الذي يملك قوة الانتماء لفكره، هو إنسان لا يخاف من الفكر الآخر.. لأن الذين يخافون من الفكر الآخر، هم الذين لا يثقون بأفكارهم، وهم الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عنها .. لذلك، لينطلق كل إنسان ليدافع عن فكره في مواجهة الفكر الآخر، ولن تكون النتيجة سلبية لصاحب الفكر في هذا المجال.
الإمام زين العابدين(ع) في فقرة من بعض أدعيته يقول في دعائه لله: ((وقد علمت أنه ليس في حُكمك ظلم، ولا في نَقمتِك عجلة، وإنما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علواً كبيرا))( )، إنه يريد أن يقول: الأقوياء لا يَظلِمون، لأن القوي يستطيع أن يصل إلى ما يريد من خلال حركة قوته التي تمثل غناه فيما هي مسألة مشاريعه في الحياة، وإن الذي يظلمك هو الذي يخاف منك، فالدولة تظلم شعبها لأنها تخاف من شعبها، والظالم يظلم الناس لأنه يخاف من ثورتهم عليه. وهذا لا يعني أن نسمح للباطل في التغلغل في حياة الناس، بل يعني العكس تماماً))( ).
2. الديمقراطية:
((وأمّا الديمقراطية من خلال مفهومها الفكري فهي شيء والدين شيء آخر، فهما لا يلتقيان، وأؤكد هنا على المسألة الفكرية لأن الديمقراطية هي أن يحكم الشعب نفسه من خلال ممثليه على أساس أن يكون رأي الأكثرية هو أساس الشرعية، ذلك لأن الأكثرية قد تبنّته من خلال ممثليه، فلو أن الأكثرية تبنّت الإسلام من وجهة نظر الديمقراطية وصوتت له فسيكون الإسلام شرعياً، ولو أن الأكثرية انقلبت فصوتت ضد الإسلام فلا يكون الإسلام شرعياً على أساس الديمقراطية. فالديمقراطية، على ضوء ذلك، تقول لك لست أيها المسلم شرعياً في خط إسلامك لأن الشعب لم ينتخبك، وهو بالتالي لم ينتخب الإسلام، وإذا لم ينتخب الشعب الإسلام فإن الإسلام يفقد الشرعية.
أما الدين فيقول بأن الإسلام هو الشرعية حتى لو كفر كل الناس به ذلك أن شرعيته مستمدة من الله تعالى، هذا في الخلفيّة الفكرية وإلاّ فنحن إلى جانب الديمقراطية كوسيلة من وسائل الواقع السياسي والعمل السياسي.
أمّا الجانب التشريعي فلا مجال للديمقراطية فيه، فهل يمكن أن تستفتي الناس بالصلاة وعدم الصلاة؟! ولو فرضنا أن الناس قالوا لك: لا تصلّ فإنك حينئذ ستقول لهم: لا دخل لكم بذلك فالله، قال وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ( ).
ولكن هناك نقطة ثانية ينبغي الالتفات إليها وهي عندما تتحول الديمقراطية إلى وسيلة من وسائل الشورى وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( )، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ( )، بحيث تجتمع فيها عناصر الشورى، فيمكن عند ذلك أن لا نطلق عليها ديمقراطية بل (شورى) وفي هذه الحال فلا ضرورة لأن نستعير لخطوطنا الفكرية كلمات أخرى، فبدلاً من أن نقول ديمقراطية نقول أكثرية وقد يقول قائل: ما لفرق بينهما؟ وفي الجواب على ذلك نقول بأن كلمة الديمقراطية لها مضمون فكري معين.
وأتذكر أيام (منظمة أنصار السلام) التي كانت تمثل إحدى واجهات الحزب الشيوعي في العراق قيل لأحد السياسيين في لبنان ألا تحبّ السلم؟ فكتب أنا أكره الحرب، فقال أنصار السلام وما هو الفرق؟ قال إن قضية السلام صارت (كليشة) تعطي مدلولاً معيناً وانتماءً معيناً.
فالكلمة لا تحمل المعنى اللغوي فحسب بل هي في مداها التاريخي تحمل إيحاءات وأحاسيس عديدة بحيث أن معناها اللغوي شيء وما تحمله من معان شيء آخر. لذلك يمكن أن نستفيد من لعبة الديمقراطية، ولكننا لن نعطيها شرعية فكرية، لأن الشرعية الفكرية تقوم على أساس أن الحق ينطلق من الله سبحانه وتعالى، وأن حركة الناس في الحق وحتى في اجتهاد المجتهدين لابد أن تنطلق من الأصول التي تربط القضايا بالله سبحانه وتعالى. وكمثل على ذلك تجربة الجمهورية الإسلامية أي تجربة المزاوجة بين (ولاية الفقيه) وبين (الشورى) فيمكن أن تدرس هذه التجربة، وتجارب المفكرين الذين يحاولون أن يزاوجوا بين الشورى وبين ولاية الفقيه أو بين الشورى وبين الخط الإسلامي في العمل وما إلى ذلك))( ).
3. العولمة:
((في كلّ مرحلة من المراحل ينطلق الاستكبار ليقدم لنا عنواناً نحاول أن نلهث في تحليله ومواكبته، فلقد قدم لنا قبل سنين (النظام العالمي الجديد) وبدانا ندرس ما هو النظام العالمي الجديد؟ وتبين أنه ليس هناك نظام عالمي جديد، إنما هناك واقع عالمي جديد يرتكز على أن تكون أميركا هي القوة المادية الكبرى في العالم، وأن يخضع مجلس الأمن لها ليحاصر هذا البلد أو ذلك وليعلن الحرب على هذا البلد أو ذاك.
فلقد كان هناك واقع عالمي جديد من خلال طبيعة اختلال توازن القوة في العالم بسقوط الاتحاد السوفيتي، ولكنهم أرادوا أن يقولوا إنّه نظام عالمي جديد وعليكم أن تخضعوا له وأن تسقطوا أمامه.
وجاءتنا الآن عن بعض المفكرين الأميركيين – مسألة العولمة وبدأت في طرح الحل الاقتصادي، وذلك بأن يكون لكل بلد اقتصاده وخصوصياته في الاقتصاد، ولكن التطورات الحاضرة جعلت الاقتصاد يبتعد عن الدوائر المحدودة، لأن الاقتصاد في أي بلد من البلدان هو مرتبط بالاقتصاد العالمي، فالدولار هو الذي يحكم الحركة النقدية في العالم حتى أنّ شركات عالمية راحت تتجاوز المحدود.
فالعولمة تعبّر في بعض تعريفاتها عن الحركة من المحدود، وهي في المواقع الوطنية والقومية، إلى اللامحدود وهي في المواقع العالمية، ويمثلون لذلك بحركة الشركات، فعندما ندرس الشركات الموجودة في العالم فإننا نجد بأنها تتجاوز حدود الدول مثل شركة (شل) وغيرها من الشركات الفرنسية والبريطانة أو الأميركية التي تتحرك في الاقتصاد العالمي في أكثر البلدان في العالم مما يعني أن اقتصاد أي بلد أصبح مربوطاً بالاقتصاد العالمي، وحاولوا أن يقولوا أن المسألة لا تقتصر على العولمة الاقتصادية بل حتى السياسية باعتبار أن السياسة فرع من الاقتصاد لدرجة أنّ السياسة العالمية باتت تتحرك في خدمة الاقتصاد العالمي، ولذلك قالوا: لا يمكن لأي بلد أن ينكمش سياسياً وأن يعيش في داخل حدوده أو أن يعيش في داخل أوضاعه الإقليمية بل لابد ان ترتبط السياسة المحلية بالسياسة العالمية.
وتطورت العولمة إلى العولمة الثقافية، فقالوا: ليست هناك ثقافة خاصة يمكن أن تحمي نفسها، فليست هناك ثقافة قومية أو ثقافة إسلامية أو ما أشبه ذلك، بل لابد لهذه الثقافة أن تندمج وأن تعيش في أجواء الثقافة العالمية، فكأنهم يقولون أن لا هوية قومية ولا دينية ولا وطنية بل أصبح العالم اللامحدود هو الذي يتحكم في اقتصاد كل بلد وسياسته وثقافته.
وعندما ندرس ذلك في الواقع نجد أن العولمة محاولة لاحتواء العالم كلّه تحت هذا العنوان لتسقط الممانعة للاستكبار العالمي الذي يقود اقتصاد العالم وسياسته وثقافته بحسب ما يملك من الامكانات، وليس معنى أن نحتفظ بثقافتنا وسياستنا واقتصادنا أن ننعزل عن العالم فهذا غير ممكن، فالعالم من الناحية الإعلامية أصبح قرية كونية، ومن الناحية الاقتصادية والسياسية أصبح مدينة كونية، لكن علينا عندما نركز اقتصادنا أن نراقب حركة هذا الاقتصاد في علاقته بالاقتصاد العالمي بالطريقة التي لا تسقط اقتصادنا أمام خطوط اقتصاد الدول الكبرى بحيث تكون لدينا حالة من الممانعة أزاء ما يعرضونه علينا.
وهكذا بالنسبة إلى السياسة والثقافة، فإن وجود ثقافة عالمية لا يعني أن تفقد هويتك الثقافية، بل انك في الوقت الذي يمكن أن تركز هويتك الثقافية تفتح ثقافتك على ثقافة الآخرين، ونحن كمسلمين ندعو إلى أسلمة العالم اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وقد لا نملك ذلك ولكن علينا أن نجربه، وأول التجربة أن لا نسقط أمام كل هذا الواقع العالمي الذي هو واقع حركة الاستكبار في احتواء كل المواقع الصغيرة))( ).
4. التنمية:
((من الطبيعي أن تكون للتنمية عدة خطوط، أو عدة مواقع: فهناك التنمية الثقافية وهناك التنمية الاقتصادية بفروعها المتعددة، وهناك التنمية الصناعية والزراعية وغيرها، وهناك التنمية الروحية والنفسية وحتى السياسية والاجتماعية لأن كل شيء يمثل حركية الإنسان في بناء الحياة من حوله يعدُّ تنميةً من وجهة النظر الإسلامية فلا يقف عند حد معين بل يحاول أن يطوّر هذه الطاقات ويطوّر هذه الموارد، لأن الله أراد للإنسان أن يظل في خط تصاعدي في كل جوانب حياته وربما نقرأ بعض الأدعية بطريقة مغلقة لا تتسع للساحة الواسعة في الحياة ((اللهم أجعل مستقبل عمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها وخير أيامي يوم ألقاك فيه)) ما معنى هذا؟ إن معناه أن الإنسان يطلب من ربه أن يوفقه ليبقى في خط تصاعدي وأن يتحرك من الماضي لينطلق في المستقبل، لذلك عليك أن تنطلق كإنسان ينمّي طاقاته الثقافية والإنسانية من أجل أن تظل في خط التقدم.
وهكذا فإن الإنسان لا يستطيع أن يتقدم إلاّ بتقدم موارده، ولا يستطيع أن يحل ّمشاكله الاجتماعية إلاّ من خلال تنمية طاقات المجتمع وتطوير وعيه وقضاياه على ضوء الإسلام، فطاقتك مثلاً مسؤوليتك وليست امتيازاً تزهو به، إنها مسؤولية عليك أن تقدم حسابها.
وهناك حديث رائع للإمام الصادق(ع) وقلّ منا من يعيش فكر الإمام الصادق(ع) وفكر أئمة أهل البيت(ع)، يقول ((إن الله لم ينعم على عبده بنعمة إلاّ وقد ألزمه فيها الحجة من قبله فمن منّ الله عليه فجعله موسعاً في ماله فحجته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بفرائضه ونوافله، ومن منّ الله عليه فجعله قوياً في بدنه فحجته عليه القيام بما كلفه واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن منَّ الله عليه فجعله شريفاً في قومه جميلاً في صورته فحجته عليه أن لا يغمط حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله)).
إن طاقتك – أيها المؤمن – هي مسؤوليتك ولتعرف أن الإسلام يحرم عليك الإسراف حتى في أن تسكب الماء الفاضل في الكأس بعد أن تشرب نصفه لتسكب نصفه الآخر على الأرض، ففي الحديث عن الإمام الصادق(ع) ((إنً القصد أمر يحبّه الله عزّ وجل وإن السرف يبغضه حتى طرحك النواة، فإنها تصلح لشيء وحتى صبّك فضل شرابك)). فأنت تأكل التمرة وتطرح النواة في الأرض وتأكل حبة الزيتون فتطرح النواة في الأرض، والإمام يقول لك فكّر في ذلك فقد تصلح لشيء فإن بإمكانك أن تصنّع النواة وأن تنتج منها شيئاً نافعاً.
وهكذا في الاقتصاد، حتى جاء في الأدعية ((ومتّعني بالاقتصاد واجعلني من أهل السداد)) والاقتصاد هو تحريك الثروة بما يخدم حاجة المجتمع من دون أي تضييع بقليل أو كثير، والتبذير هو أن تصرف المال في غير موضعه إنّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ( )،إن ثروة الأمة هي مسؤوليتها، ولذلك عليها أن تنمي ثرواتها من أجل حاجاتها، فالتنمية قد تكون فريضة إسلامية بالمعنى العام للفريضة.
أمّا تفاصيل التنمية، كيف ننمّي الزراعة وكيف ننمّي الصناعة، وكيف ننمّي الثقافة، وكيف ننميّ الواقع الاجتماعي والسياسي فهذه قضية تدخل في حركة التجربة في الواقع ولا يتحدث عنها في النظرية بل يتحدث عنها عندما تمسك مقاليد المجتمع بيدك ويومها عليك أن تعرف كيف تنظم للمجتمع طاقاته. إننا نتحدث عن المفهوم في الخط العام كمنطلق للبحث والتفكير في انفتاح الإسلام على مسألة التنمية بطريقة شمولية واسعة، وكلّها تحتاج – - في تفاصيلها النوعية – إلى الدراسات العلمية التحليلية على مستوى النظرية والتطبيق معاً)).( )
5. الحيادية:
((قد تكون الحيادية بين باطل وباطل، وقد تكون بين الحق والباطل، فالحيادية بين الباطل والباطل هي أمرٌ يوافق عليه الإسلام لأن المسألة تتحرك من جهتين، إذ لا شأن لك بهذا الباطل لتقوّيه بموقفك بل دع الباطلين يتصارعان وانظر إليهما واستفد من تجربة هذا الصراع فيما تتعرف عليه من خلال خصوصية قوة هذا الباطل أو ذاك من أجل مواجهة الباطل الآخر في صراع جديد.
وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) ((كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرعٌ فيحب)) وهذا يفسّر الموقف من الفتنة فيما إذا كانت بين باطلين أو في موقف لا يعرف فيه الحق من الباطل فعند ذلك لا تدع أحداً يركبك إلى هدفه ولا تدع أحداً يحلب طاقاتك لصالح مواقعه.
وربما نحتاج في بعض الحالات أن نغلّب باطلاً على باطل عندما يكون هناك باطلان أحدهما أقوى والآخر أضعف وربما تجعلك غلبة الأضعف على الأقوى أقدر على مواجهة الباطل في المستقبل، وهنا يكون الخيار لك بعد دراسة دقيقة جداً على المستوى الواقعي بأن تعطي الباطل الضعيف شيئاً من القوة ولو سلبية من أجل أن يتغلب على القوة الأخرى الأقوى حتى تتفرغ في مرحلة لاحقة لباطل ضعيف لتقضي عليه في نهاية المطاف وذلك بأن تتعاون مع هذا الباطل الضعيف على الباطل القوي ثم لتجهز على الباطل الضعيف وهذا يدخل فيما يسمى في هذه الأيام بالتكتيك.
غير أنّ هذه المسألة تحتاج إلى دراسة دقيقة فيما يسمى بالاستراتيجية والتكتيك وما يصطلح عليه بالغاية وبالهدف وبالوسائل التي تحركها نحو الهدف، فإذا كانت المسألة مسألة حق وباطل فيحرم عليك الحياد، لأن الحياد هنا يضعف الحق من خلال أنك تأخذ منه جزءاً من القوي الذي هو الحق والذي يفترض أنك من أهله، فإذا كنت من أهل الحق ودخل الحق ساحة صراع فإن الحق يحتاج إلى كل طاقة من طاقاته ليواجه الصراع من خلال ذلك، ولذلك فإنك إذا حجبت قوتك عن الحق فإنك تكون قد نصرت الباطل ولكن بطريقة سلبية لأنك اضعفت الحق، ولهذا قال علي(ع) عن بعض الناس الذين وقفوا في الحياد بينه وبين معاوية: ((خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل))( ) وإن خذلان الحق من ناحية عملية قد يكون نصرة للباطل ولكن بطريقة سلبية، وقد ورد في حديث الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) ((أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمعة، قلت: وما الأمعة؟ قال: لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إن رسول الله(ص) قال يا أيها الناس إنما هما نجدان نجد خير ونجد شر فلا يكن نجد الشر أحبّ إليكم من نجد الخير))( ) وإذا فلابد أن تعطي موقفك، وهذه هي وصية علي(ع) في آخر حياته ((كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً))( ))).( )
6. المرأة:
((إن القرآن الكريم يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ( ) والمعروف يشمل كل الحياة، من النشاط السياسي والاجتماعي والثقافي والتربوي، والمنكر كذلك. وهذا يعني أن المرأة والرجل سواء في حمل المسؤولية في إقامة المعروف وفي إسقاط المنكر، وفي إقامة الحق وفي إزهاق الباطل بكلِّ مفرداته الأخلاقية والتشريعية والسياسية، هذا أولاً.
وثانياً: فإننا نرى أن الله حدثنا عن ملكة سبأ وقدَّمها لنا على أنها أعقل من الرجال، فعندما جاءها كتاب سليمان جمعت قومها قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي( )، وهذه ملكة تستطيع أن تعمل ما تشاء ولا تحتاج إلى قومها، ومع ذلك فإنها لم تصدر قراراً إلا بعد أن جمعت كل شيوخ قومها، الذين يملكون الفكر إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِين، وكان منطقهم منطق القوة، في وقت كانت ترجو الوقوف على عقولهم، وقد عرضوا عضلات سواعدهم قَالُوا نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ نحن أبطال وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ فكان لها الرأي في مقابل منطق القوة قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُون ثم إنها وقد وصلت إلى سليمان(ع)، فكرت في ما عرضه عليها، وقالت: وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ، أي أن إسلامها مع إسلامه ولم تكن تبعاً له لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( ).
وقد قدّم الله لنا نموذج المرأة هذه وهي في مستوى الحكم وقد بدت أرجح عقلاً من الرجال، وبذلك ننفي هذه النظرة الدونية للمرأة التي درجنا عليها. فصحيح أن الأمومة تعتبر مسؤولية المرأة بالحمل والإرضاع والحضانة، ولكن يبقى هناك فراغ تستطيع معه أن تعمل وتتثقف، فإنّ ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) وهل تلغي الأبوَّة للرجل مسؤولياته الأخرى خارج إطار الأبوَّة؟!
ثم إن هناك نقطة قد لا يرضى عنها الرجال، وهي أن الإسلام في كل تشريعاته لم يكلف المرأة بأي شأن من شؤون البيت، حتى الإرضاع، بل يجوز لها أن تطلب من الرجل بإزائه أن يعطيها الأجرة عليه، كما في إرضاع ابنها، إلا إذا طلبت أجرة كانت أعلى مما تطلبه المرضعات وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى( ). وقد قرأت قبل أكثر من عشرين سنة في مجلة (آخر ساعة) المصرية، أنه عقد مؤتمر في الغرب حول عمل المرأة في البيت، وأنه هل يستحقُّ أجراً أو لا؟! وقد علقت في ذلك الوقت فقلت لهم: إن الإسلام لم يفرض على المرأة أن تعمل في البيت، وهي إن عملت فإنها تعمل من باب التبرع والتطوّع، وإلا فإنها غير مسؤولة شرعاً. نعم، يستحب لها ذلك، وهذا جانب أخلاقي بمعنى أن تعطي ما لا يجب عليها، وعند ذلك يفهم الرجل مقدار تضحية المرأة وهي تربي الأولاد وكل ما يتصل بإدارة المنزل.
لكن أصبح التفكير عند الرجل ينبع من التعالي، فيتعامل وكأنه طاووس، وقد وصلت الأمور بمجتمعاتنا أن تغفل أسماء النساء ترفعاً، وأصبح التعرف على اسم المرأة عيباً، مع أن أشرف النساء، وهي فاطمة(ع) قد عرف اسمها، وكانت تخاطب به، وكذلك زينب(ع) وأم كلثوم، فلو كان عيباً فكيف صحَّ ذلك، إن هذه النظرة الدونية لا تنسجم مع الإسلام، وهي ليست من الإسلام في شيء، بل هي نتاج التخلف والأفكار الجاهلية، حتى أننا نجد اليوم من يحرم النساء من الإرث بالقوة وبطرق عديدة.
وأما الأخلاق فإنها ليست ضريبة على المرأة فقط، بل هي قيد على المرأة والرجل، فكما لا يجوز للمرأة أن تعمل في جوٍّ غير أخلاقي أو تعمل عملاً محرماً، كذلك الرجل لا يجوز له ذلك))( ).
7. القومية والوطنية:
((ليس هناك تعارض بين المفاهيم الثلاثة (الوطنية والقومية والإسلام)، فأنا مثلاً لبناني وأنا في نفس الوقت عربي وأنا مسلم أيضاً، فهذه حالات إنسانية واللّه تعالى يقول قُرْآنًا عَرَبِيًّا( ). ويقول حُكْمًا عَرَبِيًّا( ). ويقول يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا( ). فهناك شعوب وقبائل، وإلا فمتى صارت القومية تعارض الإسلام؟ عندما أدخلنا الماركسية في القومية فصرنا نناقش الماركسية، أو عندما أدخلنا الوجودية في القومية، فصرنا نناقش الوجودية.
فلم يعش المسلمون التناقض بين مكّيتهم أو مدنيتهم وبين عروبتهم وبين إسلامهم، لكننا عندما أدخلنا الماركسية فقد علّقناها في رقبة العروبة، فاصبح حالنا حال بائع الجمل والقطة معاً على أن يكون سعر الجمل عشرة دراهم وفاءً بنذره وسعر القطة بالف درهم رعاية لسعر الجمل، والا فالعروبة حالة إنسانية والعرب يحتاجون إلى مبدأ ومبدأهم الإسلام. واللّه سبحانه وتعالى اعترف بخصوصيات الناس القومية، ولكن غاية الأمر هي إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ( ))).( )
8. الاقليات:
((الإسلام لا يحكم على أساس قومي ولا عرقي فالناس عنده سواء. هذا إذا كانت الدولة الإسلامية تتحرك بمنطق الإسلام، وبمفهوم الإسلام، وبقيم الإسلام، وبأحكام الإسلام، فلو كان فيها اختلاف قومي وعرقي أو لونيّ أو لغوي وجب على هذه الدولة أن تساوي بين الجميع في كل الحقوق كما تساوي في كل الواجبات فإن الدولة الإسلامية تعترف لهذه الأقليات العرقية بثقافتها التي لا تتنافى مع الثقافة الإسلامية.
كما أن الإسلام يعترف بالثقافة القومية أي إذا كانت هناك أكثرية عربية في دولة ما كالعراق أو أكثرية فارسية مثلاً كما في إيران فلو طلب الأكراد أن يكون هناك برنامج لثقافتهم ولغتهم لتبقى لهم ثقافتهم، فعلى الدولة أن تكفل لهم ذلك. ولو فرضنا أنهم طلبوا بعض الحقوق التي تتصل بوجودهم كشعب معين له خصائصه دون أن تتنافى مع المصالح العليا للشعب ولا مع كيان الدولة ووحدتها فعلى الدولة الإسلامية أن تكفل لهم ذلك، أما بالنسبة إلى الأقليات الدينية فالإسلام اعترف بالأديان الأخرى كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ( ).
إن الإنسان المسلم يعترف بالتوراة والإنجيل والقرآن كما يعترف بكل الكتب الأخرى كزبور داود وصحف إبراهيم وما إلى ذلك، فعندما يعترف الإسلام بالديانات فإنه يحتضنها وإن اختلف معها، فإننا عندما ندرس وضع المسيحيين في العالم الإسلامي، ووضع اليهود في العالم الإسلامي. فإننا نجد أن الإسلام لم يلغ اليهود، بل استمروا حتى الآن، وعاشوا مع المسلمين أكثر مما عاشوا مع الغربيين بعكس ما هو الحال في الغرب. حيث كان يمنع دخول الكلاب واليهود إلى أماكن معينة. وهكذا نجد أن المسيحيين موجودون في العالم العربي وإن كانت قد حدثت مشاكل بين المسلمين والمسيحيين فهي كالمشاكل التي تحدث بين المسلمين أنفسهم والمسيحيين أنفسهم كأي مجتمع متنوع يعيش مشاكل يومية أو غير يومية.
أمّا العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب فهي قائمة على عنوانين: عنوان (الذمّة) الذي يجعل الأقلية الدينية في ذمة الأكثرية الإسلامية الممثلة بالدولة بمعنى حمايتها لهم والدفاع عنهم والعدل فيهم ومنحهم الحريات العامة والحقوق الإنسانية بما يتناسب مع النظام العام وعدم فرض المشاركة في الحروب الإسلامية مع الآخرين ولاسيما إذا كانوا من أتباع دينهم إلا إذا اختاروا المشاركة بالتوافق مع الدولة.
والثاني: عنوان (المعاهدة) التي تنظم العلاقات بين المسلمين وغيرهم فهل أساس الدراسة المشتركة لكل القضايا الحيوية المتصلة بالخط الفكري والعملي مما يقبله هذا أو ذاك ويرفضه في خط التعايش القائم على الاحترام المتبادل في نطاق الوضع العام وقد انطلقت التجربتان في الواقع الإسلامي التاريخي وتعرضت كلّ واحدة منهما لنكسات واقعية وتعقيدات تطبيقية ولكنهما بقيتا في بعدهما الفكري الإنساني تشيران إلى ضرورة الوقوف على الكلمة السواء بينهم))( ).
9. المستبد العادل:
((لقد جاء في كلمات البعض (لا يُصلح الشرق إلاّ مستبدّ عادل) ولكننا نعتقد بأنّ كلمة (المستبد) لا تصلح أن تكون عنواناً للحاكم الإسلامي، لأنها تعني الإنسان الذي يستبدّ بذاته، أي الذي ينطلق في حكمه من موقع المستبد الذي لا يشاور أحداً، ولا يخضع للقانون، وعندما يفقد الحاكم الشورى والارتباط بالقانون، فكيف يكون عادلاً؟!
ذلك لأن العدالة تعني أنك تتحرك في خطّ الاستقامة في حكمك وفي تعاملك مع الآخرين، وإذا كنت لا تشاور الآخرين، فكيف يمكن أن تكتشف العدل؟! وإذا كنت لا ترتبط بقانون يحكمك ويحكم الناس فكيف يمكن لك أن تعرف معنى العدل؟!
إنّ العدل هو الأساس الذي تحكم به، والواقع الذي تفهمه وتتعرف على كل عوامله، وهذا لا يكون إلاّ بالشورى والالتزام بخطّ واضح.
نعم، نقول لابدّ أن يكون حاكماً قوياً لا تأخذه في الله لومة لائم فهذه هي العبارة المستخدمة في الإسلام بدلاً من عبارة (المستبد) أي أن يكون الحاكم الإنسان الذي يتمثّل في كلمة رسول الله(ص) ((إنّما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ))، وكلمة الإمام علي(ع) ((القوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ منه الحق، والضعيف الذليل عندي قوي عزيز حتى آخذ له بحقّه)) وفي المحصلة، أن يكون حاكماً عادلاً قوياً لا تأخذه في الله لومة لائم)).( )
10. العنف والإرهاب:
((أنا أنكر أن العنف ولد أو امتدَّ مع الحركات الإسلامية، بل هو غربي المنشأ.. فالغرب هو الذي خاض الحروب الصليبية ضد الشرق الإسلامي، وهو الذي استعمر البلاد الإسلامية وبلدان العالم الثالث وأفقرها.
ولذلك فإن الحركات الإسلامية كانت تتحرك دفاعياً، ولكن الغرب الذي يملك إعلاماً متقدماً في المواقع الفكرية والسياسية وغيرها، حاول أن يُسلط الأنظار على العنف، الذي هو رد فعل، ليقدمه كفعل، ولم يسلط الضوء على العنف الابتدائي.
أما في مسألة التاريخ، فإن من الطبيعي أن العنف كان يتحرك في البلاد العربية من خلال طبيعة التقاليد العربية في العرف .. ولكن الإسلام شرع الجهاد، وعندما نقرأ الجهاد في الإسلام نقرأه جهاداً في سبيل المستضعفين الذي يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا( ).
ونقرأ جهاداً ضد الذين يقاتلوننا وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ( )، وضد الذين يفتنوننا عن ديننا وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ( ).
إن الجهاد الإسلامي هو جهاد وقائي في بعض مواقعه، ودفاعي في مواقع أخرى، وليس عدوانياً .. الإسلام هو دين الرفق الذي ينتهي أو يتوقف عندما يفرض الآخرون عليه العنف. وهذا هو قول الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( ).
وهكذا نقرأ في حديث رسول الله(ص) عن الرفق: ((ما وُضِعَ على شيء إلا زانه، وما رُفِعَ عن شيء إلاّ شانه))( )، و ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف))( ))).( )
((ففي الواقع ليس هناك إسلام إرهابي، فالإسلام يرفض إرهاب المدنيين، ويرفض قتل الأبرياء ويرفض الاعتداء على الناس وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( ) ولكن المشكلة مع الغرب هي في ادارته السياسية حيث أنهم يعتبرون طالب الحرية إرهابياً، فيعتبرون مثلاً المجاهدين اللبنانيين ضد الاحتلال الصهيوني إرهابيين، ويعتبرون المجاهدين في فلسطين ضد الصهاينة الذين شرّدوا الفلسطينيين واحتلوا أرضهم إرهابيين، ويعتبرون الذين يدافعون عن أنفسهم ضد عنف الظالمين والمستكبرين إرهابيين.
إن القضية هي أن نحدد مفهوم الإرهاب: ما هو الإرهاب، هل يشمل حركة الإنسان في المطالبة بحريته، وفي الدفاع عن حريته؟ أو أن الإرهاب يختصُّ بالاعتداء على المدنيين وعلى الأبرياء بغير حق؟
نحن ضد الإرهاب بمعنى الاعتداء على المدنيين والاعتداء على الناس بغير حق في انفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكننا مع حرية الحركة في مواجهة العنف الذي يفرض علينا، وفي مواجهة الاستكبار الذي يُطبق علينا وفي مواجهة الاعتداء الذي يوجه إلينا. نحن أحرار نطلب الحرية ولسنا إرهابيين، قال الله في كتابه وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ( ) فليس معنى ترهبونهم أي تتعاملون معهم بطريقة الإرهاب، ولكن أن تكون لكم القوة الكبيرة المسلّحة التي إذا عرف العدو بها كفّ عن الاعتداء عليكم وعن مواجهتكم بالعنف الذي يتحرك فيه)).( )
رابعاً: العمل الإسلامي في الخطاب الإسلامي:
1. الصحوة الإسلامية:
((بدأت الصحوة الإسلامية بشكل وبآخر بعد سقوط الخلافة العثمانية، التي كانت تمثل حركة التخلف في الواقع الإسلامي على مستوى أسلوب الحكم وعلى مستوى المفاهيم، وعلى مستوى الواقع السياسي الذي كانت تتحرك فيه الخلافة العثمانية وتعمل على تتريك العالم بدلاً من أن تعمل على أسلمته.
وعندما انطلق الإستعمار في المنطقة بدأ المفكرون يفكرون في صياغة الأفكار من جديد، وبدأت المدنيّة الغربية تجتاح مواقفنا، عندها بدأ المفكرون الإسلاميون يشمّرون عن سواعدهم وفي طليعتهم (جمال الدين الأفغاني) و(محمد عبده) وغيرهم ممن عملوا على أن يفتحوا الأفق الجديد من خلال المفاهيم الإسلامية. وقد اختلفت مدارسهم فكان بعضهم يحاول التوفيق بين الإسلام وبين الغرب، وكان بعضهم يتحرك بطريقة أخرى.
من هنا بدأت الصحوة الإسلامية التي حاولت إيقاظ المسلمين ليواجهوا مسؤولياتهم أمام تحديات الاستعمار الغربي وأمام تحديات الحضارة الغربية لواقع إسلاميّ تتحرك فيه الحضارة الغربية. وعاش المسلمون في حركة هذه الصحوة بين مدّ وجزر، حتى جاءت الثورة الإسلامية في ايران فاستطاعت أن تحول هذه السواقي إلى نهر كبير، كما استطاعت أن تحول هذه المواقع الصغيرة هنا وهناك إلى ساحة مفتوحة فضلاً عن تحويلها التوترات النفسية إلى ما يشبه الزلزال. وبذلك استطاعت الصحوّة الإسلامية ان تنطلق لتواجه الكثير من ساحات الصراع في مختلف الأساليب سواء أكانت هذه الأساليب فكرية أو اجتماعية أو سياسية أو ما إلى ذلك.
ولا تزال الصحوة الإسلامية تنطلق في كل زمان وفي كل مكان من مرحلتنا الحاضرة وقد تقع ببعض الأخطاء، وقد تنطلق من الخطأ نحو الصواب، ولكننا نعتقد بأن الصحوة الإسلامية انطلقت ولن نعود إلى الغفوة من جديد( ).
أما أهم العراقيل التي تقف في طريق الصحوة فهي: الجهل والتخلف والذهنية المقفلة التي ليست مستعدة لأن تنفتح على مواقع التحدي التي يوجهها أعداء الإسلام للإسلام في المسألة الثقافية والفكرية. إن الفكرة التي ما نزال نعيشها كما عاشها الجاهليون إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ( ) فنحن لا نزال في الكثير من مواقعنا الفكرية والثقافية غير مستعدين أن نغير ما ورثناه ولسنا مستعدين أن نناقش ما ورثناه، لأن الإرث يمثل قداسة عاطفية عندنا، وكأن بعض الناس يتصورون إن بعض القضايا إذا ناقشناها فسوف تهدم الهيكل على الرؤوس، بل وسوف تنسف الإسلام من الأساس.
أيّها الأحبّة، إن الإسلام لا ينمو في التخلف، ولا ينمو في الجهل، إنه يملك قوة الحق بحيث يمكن لك أن تنقد كل تراثه ويبقى الإسلام أصيلاً.
ثمة كلمة للإمام الصادق(ع) وقد كان يجلس وأصحابه حوله، فجاءه شخص يريد أن يناقشه في مسألة (الإمامة) وعهد الإمام الصادق(ع) إلى تلامذته أن يناقشوه وجلس يستمع إلى تلامذته يدفع بهذا ليناقش من جانب ويدفع بذلك ليناقش من جانب وانتهت المناقشة وبدأ الإمام ينقد تلاميذه، وقال لبعضهم ((إنك أخذته بالحق والباطل وقليل الحق يكفي عن كثير من الباطل، ثم قال له ما الفرق بينك وبينه إنه جحد حقاً وجحدت حقاً مثله)) فعندما تناقشه بالباطل لتدافع عن حقك فإن الحق لا يثبت بالباطل إنما يثبت بأسلوب الحق، والفرق بينكما هو أنه جحد الحق في النتائج وأنت جحدت الحق في المقدمات. لذلك فإن بعض الناس يخافون على الإسلام إذا ناقش بعض العادات أو بعض الأوضاع أو بعض المفاهيم التي لم تكن مدروسة أو التي لم تثبت أمام النقد، إن هذا الإسلام الذي دخل القرن الخامس عشر، وراحت كل التحديات الكافرة والمستكبرة، سواء كانت ثقافية أو سياسية أو أمنية تحاول أن تسقطه، بقي قوياً في فكره وقوياً بمواقفه وقوياً بتحدياته.. هذا الإسلام يكبر وينمو ويقوى ويتصلب كلما أزلنا النتوءات والهوامش عنه لتبقى له اصالته وقواعده الثابتة ثبات الحقيقة الصامدة أمام التحديات.
أما وسائل المحافظة على الصحوة، فهي إننا مسؤولون عن الإسلام وإذا سدّت علينا الأبواب فعلينا أن نفتح ثغرة وإذا كانت هناك ثغرة فعلينا أن نوسّعها، وإذا لم نستطع أن نحرك أسلوباً معيناً فعلينا أن نلجأ إلى أسلوب آخر، المهم أن لا نيأس يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ.
و(يوسف وأخيه) قد يكونان شخصاً، و(يوسف وأخيه) قد يكونان قصة و(يوسف وأخيه) قد يكونان ديناً أو فكراً، لذلك قال يعقوب(ع) يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ( ) لماذا كان اليأس يؤدي إلى الكفر؟ لأن معنى اليأس هو أن تقول لا فائدة ولا جدوى، إن الناس أصبحوا ضالّين كافرين فلا فائدة من الوعظ والإرشاد ولا يمكن أن يهتدي الناس في حين أن الله يقول لك إن الله على كل شيء قدير( ). وعندما تنتهي إلى هذه النتيجة فأي إيمان هو إيمانك؟ لذلك فاليأس كفر والأمل هو حركة الإيمان، فكن الإنسان الذي يعيش الأمل في أن يفتح أفكار الناس على الواقع، وقلوب الناس على الإسلام، وحياة الإسلام على خط الإصلاح، وإذا لم تستطع أن تصل إلى النتائج في حياتك فإنك قد تكون مهدّت الطريق إلى الجيل الآخر. ((غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون)) غرس آباؤنا وأجدادنا الإسلام في دروبنا فالتقينا بالإسلام، والطريق ما يزال مستمراً فلا تترك الطريق للكفر من خلال يأسك.
أيّها الأحبة، أقولها لنفسي وأقولها لكم لا مجال للإسترخاء أبداً في مرحلتنا هذه التي برز فيها الكفر كلّه إلى الإسلام كلّه، إنّ الراحة حرام. وهي أن نرتاح في وقت نستطيع أن نتعب فيه من أجل الإسلام إذ ليس من حقنا أن نرتاح إلا الراحة التي تهيء لنا فرصة المواصلة وتعدُّ قوتنا للتعب الجديد، لذلك فإن الذين يجلسون باسترخاء، أو الذين ينتظرون الإمام علي(ع) وهم يشربون الشاي ويلقون الشعر ويلعبون هنا وهناك، لن يلتقوا بالإمام(ع) في الطريق، لأن الطريق الذي يمرُّ عليها هي طريق الناس الذين يتحركون في ساحات الصراع وفي ساحات المسؤولية وهي الطريق التي خاطب الله فيها الناس وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ( ) إنها طريق ذات الشوكة التي لا يريد الكثيرون أن تكون لهم لأنها الطريق الممزوجة بالآلام والتضحيات والدموع، وربما الدماء))( ).
2. الوحدة الإسلامية:
((ليست الوحدة أن يقدّم هذا الفريق الإسلامي تنازلاً من عقيدته للفريق الثاني أو بالعكس، بل أن يلتقي المسلمون على ما اتفقوا عليه وأن يرجعوا إلى الله وإلى الرسول فيما تنازعوا فيه، أي أنّ نتفق على التوحيد وعلى النبوة وعلى المعاد وعلى الصلاة وعلى الصوم والحج والزكاة والجهاد ثم نتفق على رعاية مصالحنا الإسلامية ونتفق على الاهتمام بأمور المسلمين بعد ذلك.
أمّا أن يسبل أحدنا في صلاته والآخر يتكتف وهذا يمسح رجليه وذاك يغسلها، فيمكن الرجوع في ذلك إلى الكتاب والسنّة، لذلك قد يقف البعض ضد الوحدة الإسلامية لأنهم يريدون تحويل السنّة إلى شيعة، والشيعة إلى سنّة، ولكن الوحدة هي أن نتعاون على ما اتفقنا عليه وأن يحاور بعضنا البعض الآخر بالطرق الإسلامية فيما اختلفنا فيه، وهذا هو الذي يعطي القضايا الإسلامية الحيوية الأساسية قوة في مقابل الكافرين، كما يعطي المسلمين قوة في مقابل المستكبرين، هذا هو المراد من الوحدة الإسلامية))( ).
3. الحركة الإسلامية:
((الحديث عن أن نهاية القرن سوف تشهد نهاية عصر الحركة الإسلامية حديث ليس دقيقاً، لأن الحركة الإسلامية بقطع النظر عن السلبيات الموجودة في مواقعها وأوضاعها، بلغت من القوة في العالم مستوى لا يملك أيّ نظام أن يسقطها.
ولا أقصد بالحركة الإسلامية الأحزاب الإسلامية فقط، بل هذه الصحوة الإسلامية التي يفكّر فيها المسلمون بطريقة حركية حتى لو لم ينضمّوا إلى حركة إسلامية بشكل أو بآخر، ونحن نرى أنّ الإسلام قد انطلق من القمقم ولن يستطيع أحد أن يعيده إلى القمقم ثانية.
وثمة نقطة أخرى الفت النظر إليها وهي أنّ هناك فرقاً بين الحركة الإسلامية أو ما يصطلحون عليه ب(الإسلام السياسي) وبين كل الحركات الأخرى، فالحركة الإسلامية تتغذى حتى من الإسلام التقليدي في بقاء الإسلام، فما دام الإسلام باقياً كصلاة وكصيام وكحج وكترك للمحرمات، ومادام يعيش في حياة الناس ولو بطريقة تقليدية، ومادام القرآن يقرأ وترتفع كلمة (الله أكبر ولا إله الا الله) على المآذن، ومادام هناك حركة تنفتح على أفق وحدة إسلامية بين وقت وآخر، فلن يضعف الواقع الإسلامي الحركي في جهة إلا ويقوى في أكثر من جهة))( ).
((إن مسألة الدعوة هي مسألة تتصل بثقافة الداعية إذ لابد أن يملك العناصر التي يحتاجها الآخرون في إمكانات اقتناعهم بالفكرة، أي أن تكون ممن يهضم الفكرة ويتفهمها في العمق والامتداد، لأن مشكلة بعض الذين يقومون بالدعوة إلى الله أنهم لا يملكون ثقافة ما يدعون له بل يأخذون القضايا من الجانب السطحي، وربما يتصور بعضهم أن الآخرين بسطاء سذّج يمكن أن تنطلي عليهم أية كلمة سطحية ساذجة هنا وهناك.
لذلك لابد أن يكون الداعية إلى الله مسلّحاً سلاحاً ثقافياً، ثم عليه أن يمتلك روحية الدعوة إلى الله، بحيث يكون رسالياً يعيش همّ الناس الذين يبتعدون عن الرسالة كما حدّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه عن رسوله(ص) عندما كان يقول فَلا تَذْهب نفسُكَ عَلَيهمْ حسَراتٍ( )فلعلَّكَ بَاخعٌ نَفْسَكَ على آثارِهِمْ( )فإنِهمْ لا يُكِّذبُونَك وَلَكنَّ الظَّالمِينَ بآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ( ). كان النبي يتألم وكان قبله يبكي وكان عقله يبكي عندما يرى الناس يبتعدون عن الخط الصحيح، وكان يحب الناس الذين يختلفون معه كما يحب الذين يتفقون معه. فإذا لم يكن الداعية إلى الله يحب الناس الذين يدعوهم ويحبّ هدايتهم بحيث يكونوا هماً عنده فمن الصعب أن ينجح.
وثالثاً: أن تراعي الظروف المحيطة بمن تدعوه، وكذلك العناصر الذاتية. فلا تتألم عندما تعطي كلّ ما عندك ولا ترى نتيجته، فالله يقول لنبيه(ص) فإنما عليك البلاغ( )إنما أنت مُذكِّر( )ليس عليك هُداهم( ). لأن عناصر الاهتداء لا تنحصر بأسلوب الداعية بل ترتبط بشخصية المدعو وبالعناصر التي يمكن أن تجذبه إلى الأسفل أو ترفعه إلى الأعلى، لذلك لا تتعقّد من ذلك إذا أحسنت أسلوبك وثقافتك ودراستك للواقع في عملية الدعوة)).( )
4. العمل المؤسّسي:
((أنا لا أفرّق بين كلمة تجديد وتطوير، ففي التجديد نعمل على إبعاد الأساليب البالية التي لا تثبت أمام حاجات الحياة، لذلك نعتقد بضرورة إخراج المؤسسات من الروتين ومن التقاليد التي ربما استهلكها الزمن، بأن نتجاوز هذا الوضع الركيك أو الجامد في المؤسسات وذلك بأن يحمل المشرفون على المؤسسات عقلية المؤسسة. ويجب أن نلتفت إلى أن المؤسسات يديرها – في العادة – أشخاص يحملون فكراً ذاتياً ولا يحملون فكراً مؤسسياً، فالإنسان الذي يحمل فكراً مؤسسياً لا يمكن أن يكون أنانياً في حركته في المؤسسة بل لابد أن يفسح المجال للآخرين لكي يتكاملوا معه ولابدّ أن يتقبّل النقد الذي يوجه إليه ممن يعيش معه في المؤسسة.
إنّ مشكلة المؤسسات هي أن الذين يشرفون عليها ذاتيون ولذلك فإنهم لا يحبّون تغيير ما يملكون السيطرة عليه وما يتناسب مع إمكاناتهم أو مع مجهوداتهم لأن تجديد المؤسسة أو تغييرها يفرض على أحدهم أن يتخلى عن المؤسسة. فقد يؤسس البعض مؤسسة ولا يكون صالحاً لإدارتها، أي أن لديه قدرة على التأسيس ولكن ليس عنده قدرة على الإدارة، وربما تكون لديه قدرة على الإدارة في وقت معين ولا يمتلك القدرة في أوقات أخرى. ويقال أن (تشرشل) الذي ربح الحرب العالمية الثانية لصالح بريطانيا، قيل له عندما انتهت الحرب عليك أن تعتزل لأنك لا تصلح كرئيس وزارة من نوع آخر، فليس معنى كونه رئيس وزارة في جانب أنه قادر على النجاح في كل الجوانب.
إنّ إخلاصك للمؤسسة يفرض عليك أن تعتزل وأن تعطي المؤسسة لاشخاص يحملون دماً جديداً. وغالباً ما تموت المؤسسات سواء الحزبية أو الثقافية أو الخيرية أو الاجتماعية لأن الأشخاص الذين يديرونها يشيخون ولا يملكون القدرة على فهم المتغيرات وعلى وعي المتغيرات وعند ذلك يجمّدون المؤسسة من حيث أنهم يجمدون.
إنّ عالم المؤسسات يفرض أن تعطيها على الدوام دماً جديداً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً فهذا الدم الجديد هو الذي يعطيها حياة جديدة، وحركية جديدة ومع الأسف فإن المؤسسات الإسلامية هي غالباً مؤسسات الأشخاص وليست بمؤسسات الأمة))( ).
5. نظرية الحكم الإسلامي:
((في الحكم الإسلامي هناك نظرية ولاية الفقيه، وهي النظرية القائمة الآن في إيران، حيث إن الفقيه هو الذي يعطي للمؤسسات الشرعية، وهو الذي يملك الحكم في الناس، ولابد لأي مؤسسة، سواءً كانت مجلساً نيابياً أو مجلساً وزارياً أو قيادة جيش أو أي شيء، لابد أن يمضيه الفقيه ويقرره ليكون الحكم شرعياً، وهذه هي النظرية التي انطلق منها الإمام الخميني(رض) ومعه بعض الفقهاء من قبله ومن بعده، وهم يرون أن الأساس في هذه النظرية هي ما ورد من الأحاديث النبوية والأحاديث الواردة عن الأئمة(ع) التي تعطي الولي ولاية مطلقة.
ولكن هناك نظرية أخرى لولاية الفقيه، وهي أضيق من النظرية الأولى، وترى أن ولايته محدودة بحدود حفظ النظام، وإذا لم يتوقف حفظ النظام على الفقيه، كما لو أمكن أن يكون غير الفقيه هو الحاكم ضمن صيغة دستورية تسترشد بالإسلام وتطبق قوانينه. ويرجع تحديد النظام المذكور إلى الفقهاء وإلى أهل الاختصاص، فإنه لا مجال للقول بولاية الفقيه، وهذا هو الرأي الذي نرتئيه. فإن ولاية الفقيه لم تثبت عندنا من خلال الأدلة الواردة في السنة النبوية الشريفة أو السنة الإمامية، وإنما وردت من باب حفظ النظام، ولعل هذا هو رأي السيد البروجردي (رحمه الله) سابقاً، وهو نعم الرأي، وعندئذٍ تظل ولاية الفقيه في صورة توقف حفظ النظام عليها في الموقع الذي يملك فيه الوليّ الفقيه القدرة، أما خارج الموقع فلا ولاية له في هذا المقام.
وهناك رأي ثالث، وهو الشورى، ويرتئيها بعض العلماء، وقد كان السيد الشهيد الصدر في بداية حياته العلمية يرى نظرية الشورى ثم بعد ذلك تأمل فيها. هذا كله في زمن الغيبة، أي غيبة المعصوم. وأما مع حضوره، فالولاية له ولا ينازعه أحد في ذلك. ولذلك فليس هناك نظرية محددة بشكل نصيٍّ لنظام الحكم في الإسلام لزمن الغيبة على أساس النظرية الشيعية، ولذلك يمكن أن يدرس كل نظام يقوم به حفظ النظام الإسلامي، ويمكن أن يطبّق في الدولة الإسلامية))( ).
6. المشروع الحضاري الإسلامي:
((إنّ المشروع الحضاري هو خلاصة الإسلام، وهو عبارة عن الخط الفكري والمنهج العلمي والمفردات القانونية والحلول العلمية لمشاكل الإنسان الاقتصادية أو السياسية أو التربوية أو الاجتماعية.
لذا فإننا نعتبر الإسلام هو المشروع الحضاري الذي استطاع – وإن لم يطبّق بأجمعه – أن ينشئ الحضارة الإسلامية عندما اعتبر العلم قيمة أساسية وكذلك العمل، وحمّل الإنسان المسؤولية عن كلّ مجالات الحياة، وعندما ربط المجتمعات بشبكة من العلاقات التي تبدأ من علاقة الرحم إلى أن تنتهي إلى كل العلاقات الموجودة في الحياة.
لهذا، نقول أن النبي(ص) طرح من خلال القرآن والسنّة والأئمة من بعده والعلماء من بعدهم المشروع الحضاري الإسلامي، ولكن اللغة اختلفت، ففي السابق لم يكونوا يتحدثون عن الحضارة والمشروع الحضاري لكنهم كانوا يتحدثون عن واقع المشروع الحضاري الإسلامي، كما اختلفت المناهج والمفردات والمشاكل، فلابدّ لنا أن نصوغ المفردات الإسلامية بأساليب حديثة تلتقي مع لغة العصر ومع ذهنيته))( ).
7. التعايش السلمي:
((هناك قاعدة أساسية تحكم حالة التعايش بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى، وهي قاعدة التعامل مع الواقع الحياتي الذي يفرض وجود قوى أخرى تختلف مع الإسلام في فكره وشريعته ونظام حياته، وتفرض ضرورة التعامل معها، ولو في نطاق المرحلة التي قد تطول وقد تقصر تبعاً لحركة الإسلام في الحياة، ما يجعل من قضية التعايش السلمي قضية حيوية لاستقرار المجتمع الإسلامي وأمنه وواقعيته، لأن لقضايا الصراع في كل مراحل الحياة ـ للرسالة وللفكرة ـ ظروفاً موضوعية قد لا تتّسع للحرب أو للحصول على النتائج العملية الحاسمة المتصلة بحركة العقيدة، أو بحركة الواقع في نطاق المجتمعات الأخرى التي قد نلتقي بها في بعض المبادئ العامة، وإن اختلفت التفاصيل عمقاً وامتداداً.
وربما نلتقي معها في المصالح العامة بطبيعة وحدة الأرض التي نعيش عليها أو وحدة الظروف الموضوعية التي تحكم مسيرتنا في الحياة، ولهذا وجدنا خطوات الإسلام العملية تختلف في بداية الدعوة عنها في نهايتها مع المشركين، من المهادنة إلى الحرب إلى الصلح الذي انتهى بفتح مكة الذي أنهى كل وجود للمشركين في المنطقة الإسلامية. وهكذا في موقفه من أهل الكتاب وتمييزه بين النصارى واليهود فيما عبّرت عنه الآية الكريمة: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ( ).
وقد نلتقي ببعض الآيات القرآنية التي تفرّق بين الفريقين اللذين يختلف حال كل منهما مع المسلمين من حيث الموقف العدواني أو السلمي، وذلك هو قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ( ).
وبقدر ما نستطيع استيحاء هذه الآية فيما يتعلق بالموقف الإسلامي من المحايدين الكافرين الذين لا يقومون بأي عمل عدواني ضد المسلمين بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن إيحاء الآية القرآنية بتولي المسلمين لهم لا يتناسب مع اعتبار الحرب أساساً للعلاقة العامّة معهم .. ولابدّ لنا من التأكيد في هذا المجال، على أن هذا كله خاضع لاعتبارات المصلحة الإسلامية العليا في قضايا السلم والحرب، أو في الخطّة العامّة لحركة الإيمان في مواجهة الكفر.
وخلاصة الفكرة التي نشير إليها هنا أن الإسلام يؤمن بالتعايش السلمي مع الأديان الأخرى أو العقائد الأخرى، في نطاق حاجة الواقع بالمستوى الذي لا يمس سعيه الدائب من أجل الوصول إلى سيطرته على نظام الحياة من جهة، ولا يسيء إلى مفاهيمه العامّة من جهة أخرى. وبذلك كانت أساليب التعايش السلمي في التشريع الإسلامي وفي التطبيق العملي في حياة النبي محمد(ص) الذي تعتبر سيرته العملية شريعة للمسلمين في واقعهم العملي، مثالاً للمرونة وتجسيداً للحكمة التي انطلقت الدعوة في خطها المستقيم، سواء في ذلك مجال التبليغ أو مجال الواقع المتحرك الذي جاء الإسلام من أجل أن يعلم الناس كيف يتعاملون معه بالحكمة)).( )
8. التعايش الديني:
((لقد تعايش الإسلام مع الأديان وقَبِلَ العيش مع أهل الكتاب، واحترم اليهود منذ هجرة النبي(ص) إلى المدينة، فعقد معهم النبي(ص) معاهدة أدخلهم وفقاً لها في نسيج المجتمع الإسلامي، وحتى الآن لم نحاول إخراج اليهود عن دينهم أو النصرانيين عن نصرانيتهم، بل حددنا لهم نظاماً معيناً نحترم فيه حرياتهم في دينهم إلى جانب النظام الإسلامي، وأن نتعايش مع الآخرين، فهذا لا يعني أنه من الضروري أن نتفق معهم، بل أن توضع قواعد للتعايش بين أصحاب الديانات المتعددة، وأما الآية المذكورة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ( ) بمعنى أن الإسلام هو التسليم لله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( ) ففي زمن إبراهيم(ع) كان الإسلام يتمثل بشريعة إبراهيم، وفي زمن موسى أو عيسى(ع) كذلك.
وفي زمن النبي(ص) وما بعده فالإسلام يتمثل في هذه الرسالة، فالمقصود هو مفهوم الإسلام، وإنما لم يقبل منهم لأنهم مأمورون بالإسلام في صيغته النهائية، ولكن الله سبحانه وتعالى مع ذلك، قال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا( ) فنحن الآن نتعايش مع اليهود والنصارى، حتى المجوس، من خلال المنهج الإسلامي الذي أسس للتعايش في أبهى صوره وأنقى صيغه))( ).
9. تمثيل الإسلام:
((كثير من النَّاس يدّعون تمثيل الإسلام وتنعكس نتائج أعمالهم على الإسلام، وهؤلاء كما يقول الشاعر:
كلٌّ يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرّ لهم بذاكا
فكلّ واحدٍ يقول أنا الإسلام، والذي يخالفني يخالف الإسلام، مع أنَّ الإسلام واحد، وهناك وجهات نظر وفهم متعدِّد للإسلام، فإذا كان ثمة مخالفة فهي مخالفة لوجهة نظر إسلامية، إلاَّ أن تكون من القطعيات أو الأمور الواضحة، وكما قال الشاعر:
قل لمن يدّعي بالعلم معرفة حفظتَ شيئاً وغابتْ عَنْكَ أشياء
فليس هناك من يملك الحقيقة كلّها، ولكن بعض النَّاس يأخذه الغرور بنفسه، فيحسب أنّ كلّ من يُخالفه الرأي ضالاً وخارجاً عن الإسلام، مع أنَّ رأيه قد يكون هو البعيد عن الإسلام، خاصة عن روح الإسلام وحقيقة الإسلام. وهو حينما يدّعي أنَّه يملك الحقيقة، فهو إنَّما يسوق الجهل باسم العلم، ويسوق الضلال باسم الهدى، ولذلك لا يملك أحدٌ أن يدّعي تمثيل الإسلام بالمطلق، وإنَّما نحن ندرس فكر هذا الإنسان ونتعرف على دليله قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ( ) فإذا كانت البراهين والحجّة تثبت أنَّ هذا الفكر ينسجم مع مصادر الإسلام الحقيقية، فهو يمثِّل الإسلام في هذا الفكر، وقد لا يمثِّل الإسلام في جانب آخر، وإلاَّ كيف نفسِّر اختلاف المجتهدين، فهذا يفتي بكذا، وذاك يفتي بأمر آخر، فأحدهم يفتي بأنَّ اللازم عليك الصلاة قصراً، وآخر يرى التمام، وهناك من يفتي بأنَّ أهل الكتاب نجسون، وآخر يقول طاهرون، ولا إشكال أنَّ الحكم واحد، ولا بُدَّ أنَّ أحدهم مخطئ والآخر مصيب. والحال كذلك في العقيدة، فهناك اختلاف في وجهات النظر، وهذا يعني أنّ أحداً لا يملك أحد ادعاء تمثيل الإسلام بالمطلق.
ولكنّ المشكلة أنَّنا متعصّبون، فإذا أحببنا فلاناً أحببناه مائة بالمائة ورفعناه إلى السَّماء، وإذا أبغضناه أنزلناه إلى الأرض، مع أنَّ النبيّ(ص) يقول: ((إنَّما المؤمن الذي إذا رضي - أي أحبَّ - لـم يُدخله رضاه في إثـمٍ ولا في باطل)) فإذا أحببت إنسانا لا تمدحه أكثر مما يستحق ولا تُعطه ما لا ينبغي، أو لا تتعصب له على حساب الحقّ ((وإذا غضب لـم يخرجه غضبه عن قول الحقّ)) فإذا اختلف مع الآخر فإنَّ اختلافه هذا لا يدعوه إلى التنكّر لقول الحقّ، وقد قال تعالى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( ) والقرآن صريحٌ في لزوم العدل ولو مع العدوّ.
وللإمام زين العابدين(ع) ما يؤكّد هذا المعنى في دعائه، إذ يقول: ((اللّهمَّ ارزقني التحفّظ من الخطايا والاحتراس من الزلل في حال الرضا والغضب، حتّى أكون بما يرد عليّ منهما ـ أي الغضب والرضا ـ بمنـزلةٍ سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء، حتّى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري)) ـ وهنا محل الشاهد ـ حتّى ليقال إنَّ فلاناً عدوّي ولكنَّه مؤمن لا يظلمني ((وييأس وليي (صديقي) من ميلي وانحطاط هواي)) فيُقال إنَّ فلاناً صديقي ولكنَّه لا يبيع دينه من أجلي)).( )
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفاتح من شهر الله الأكبر
شهر (رمضان) المبارك
1424 ه
26/10/2003م
تنويه
نودّ أن نسترعي انتباه القارئ الكريم إلى أننا قد نورد أسئلة سبق أن طرحت في ندوات سابقة، لكن ما يدفعنا إلى ذلك أمران:
الأول: إنّ إجابات سماحة السيد - وإن كانت من حيث المضمون – واحدة، لكنها تتعدّد وتتسع في المصاديق والتفاصيل.
الثاني: نحن نفترض أنّ بعض القراء لا يقتني إلاّ مجلداً واحداً، ولأجل أن لا نضيّع عليه فرصة الافادة من الأسئلة المكرّرة أبقينا عليها كما هي.
(المعدّ)
جدول إحصائي بمسائل الندوة
المحاضرات 30 محاضرة
المسائل القرآنية 118
المسائل العقيدية 70
المسائل الفكرية 35
المسائل التربوية 15
المسائل الفقهية 423
مجموع أسئلة ج12 661
باب المحاضرات
المحاضرة الأولى3 صفر 124 ه5/4/2002م
من مخططات الشيطان
التعدّي على الله
علينا إبعاد الناس عن الخطط التي تؤكد ولاية الشيطان
التعدّي على الله.
أوهام جاهلية.
أفق المسلم.
الابتعاد عن خط الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تحدثنا في الندوة السابقة(*) عن مخططات الشيطان للذين عمل على أن يكونوا من نصيبه، ليبعث فيهم ما يشاء، وليبعدهم عن اللّه، وليمنعهم من الطريق الذي يؤدي بهم إلى الجنة، وتتمثل الخطة الأولى في إضلالهم، والخطة الثانية في إغراقهم بالأماني، وهو ما تحدّثنا به سابقاً.
التعدي على اللّه:
والخطة الثالثة: هي ما سنتحدث بها اليوم، المتمثلة في ظاهرة التعدي على الله، كما يظهر من بعض الآيات، كقوله تعالى في الحديث عن أقاويل إبليس:وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ( ) وتشير إلى ما كان يفعله أهل الجاهلية، فإنه عندما كانت تحمل الناقة خمسة بطون، وكان البطن الأخير ذكراً، فإنهم يحرِّمون حملها أو ركوب أي شيء عليها، ويجعلونها للأصنام خالصة ويعتبرونها حراماً، حتى لو انقطع الطريق بالإنسان، فإنه لا يستطيع أن يركب تلك الناقة، لأنه بركوبها إنما يرتكب شيئاً حراماً، وعلامة ذلك التبتّك، أي (شق الآذان)، وهذا النموذج يُمثِّل تحريم ما أحلّه اللّه، ليؤكد أنه سوف يدفع بالناس للشروع في التحليل بخلاف تشريع اللّه، ليكون هذا النموذج مثلاً كغيره.
وقد حدّثنا سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ( )، فلقد قدّم اللّه لكم الرزق لتأخذوا منه ما يحقِّق لكم حاجاتكم الغذائية وغيرها، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً، فتدخلتم في ذلك الرزق وحرّمتم بعضاً مما لم يحرّمه اللّه وحلّلتم البعض الآخر، ثم يقول سبحانه وتعالى في مقام التنديد بهم، بأن التحليل والتحريم ليس من حقّهم، لأن مسألة التشريع مختصة باللّه سبحانه وتعالى، فاللّه سبحانه هو الذي يُشرِّع للإنسان ليحرّم عليه ما يُفسد أمره، وليحلِّل له ما يصلح له أمره، لأنه هو الذي خلق الخلق أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( )، وهو يعرف ما يصلحهم وما يُفسدهم، لذلك فإنه سبحانه وتعالى لم يكتفِ في الحجة على الإنسان وفي النور الذي يضيء له دربه بالعقل الذي أعطاه إيّاه، وإن كان كما في الحديث ((العقل رسول من الداخل))، ولكن العقل لا يُدرك الكثير من واقع المفاسد والمصالح، ولذلك كان الشرع مكملاً للعقل وموجهاً له بما لم يستقلّ به أو بما لا يملك أن يهتدي به إلى معرفة الواقع.
وعلى ضوء هذا، فإن اللّه سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء الناس: أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ( )، فهل أخذتم إذناً من اللّه في أن تحرّموا تلك الأشياء أو تحلّلوها، فإن اللّه إنما أذن لرسوله وأعطاه السلطة التشريعية في ما أوكل إليه بعض التشريعات وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا( )، وقوله تعالى: أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ يعني تنسبون للّه حكماً لم يُشرّعه على أساس الافتراء عليه سبحانه وتعالى.
أوهام جاهلية:
فالمسألة ـ إذاً ـ هي تأكيد القاعدة التشريعية التي تؤكد أن اللّه هو المشرّع، وهو الذي يعطي الإذن بالتشريع. وهناك آية أخرى تتحدث عن بعض تلك الأشياء التي كانوا يحرّمونها في الجاهلية بقوله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ( )، والبحيرة هي الناقة التي تشق أذنها ثم تترك للطواغيت بما يُعرف بتبتيك آذان الأنعام، وقد أشرنا إلى أن العرب في الجاهلية كانوا إذا أنجبت الناقة خمسة بطون وكان آخرها ذكراً، فإنهم يشقون أذنها ويعفون ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ويكون لها الحرية في الماء والمرعى، بحيث تحرّم، وإن صادفها الشخص المنقطع السبيل فلا يركبها وإنْ كان متعباً، أما (السائبة) فهي الناقة التي تجعل نذراً للأصنام في حالة المرض أو النجاة من الحرب، إذ تبقى تلك الناقة وقفاً للأصنام، و(الوصيلة) هي الناقة التي تترك للطواغيت إذا أنجبت ولداً ثم ثنّت بأنثى، أما (الحام) فهو الفحل الذي لا يُركب ولا يُحمل عليه إذا أولد من الناقة عشرة أبطن، وهذه التحريمات لم يأذن اللّه لهم بتحريمها فكيف يحرّمونها ؟!
وهذا خط لا يقتصر على هذه الموارد، بل يمتدُّ إلى كلِّ حالة تشريعية تشرِّع ما لم يُشرع له اللّه سبحانه وتعالى، فإننا كمسلمين يفرض علينا أن نلتزم بما شرّعه اللّه من حلال أو حرام وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( )، فليس لنا أن نأخذ بالتشريعات التي أحدثها الناس في حركة القوانين التي أخذ بها الغرب أو التي يأخذ بها بعض الناس الذين يرفضون اعتبار الدين أساساً للحياة أو القانون أو السياسة، لأنهم يرون أن الدين يمثل علاقة خاصة بين العبد وربّه، دون أن تمتدَّ إلى جوانب أخرى. وقد أخذ بذلك الكثير من الناس الذين رأوا الكافرين والمستكبرين يؤكدون أن مسألة المطالبة بتطبيق الشريعة يمثل التخلف والرجعية والقسوة، في وقت لم يدرسوا فيه الشريعة الإسلامية دراسةً موضوعية قانونية، وقد استطاعوا - للأسف - أن يجذِّروا هذه الفكرة في عقول الأجيال التي تعلمت في جامعات الغرب وما إلى ذلك، فأصبح الإسلام كشريعة من المسائل التي تمثِّل تهمةً يمكن أن تخضع الملتزم بها أو الداعي إليها لكثير من التعقيدات هنا وهناك. ولذلك فإن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن يركِّز هذه المسألة، وهي أن تكون شريعتك شريعة الإسلام، ومفاهيمك مفاهيم الإسلام، وأهدافك أهداف الإسلام ووسائلك، وأن تنظر إلى الإسلام في كلِّ جوانبه السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية وما إلى ذلك في الأفق الواسع، بحيث تعتبر نفسك بالإضافة إلى أنك جزء من عائلة وجزء من مدينة وجزء من وطن، فأنت جزء من الأمة الإسلامية، بحيث تفكِّر في مصير الأمة في كلِّ قضية تتحرك في ساحة الصراع بالقوة نفسها التي تهتم فيها بحالتك الخاصة.
أفق المسلم:
وهذا الأفق الواسع هو ما تجلَّى في كلمات الرسول محمد (ص) بقوله: ((من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم))، فليس للمسلم أن يكون حيادياً أمام أية قضية إسلامية، بل لابدَّ له من أن يتخذ موقفاً بحسب إمكانيته وبحسب ظروفه، من دعم القضية الإسلامية في هذا البلد أو ذاك البلد، وإيجاد حالة من التوازن بين القضايا الخاصة والقضايا العامة، وأن لا يسقط القضايا العامة لمصلحة القضايا الخاصة، وأن لا يهمل القضايا الخاصة في دائرة القضايا العامة، إذ نقرأ في مسألة الدفاع: ((من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه)) مع قدرته على إغاثته ((فليس بمسلم))، وكذلك ما ورد في الحديث النبوي الشريف: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى)). وخلاصة الفكرة، أن المسألة التي تريد الآية بيانها في قوله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ هي مسألة الانحراف عن خط اللّه في التشريع، بما يمثله خطّ التشريع من عمق المفهوم الإسلامي، ليصل بهم الشيطان إلى الانحراف عن المفاهيم الإسلامية، فيما يربط المسلمين بعضهم ببعض، وفيما يحفظ قضاياهم.
الابتعاد عن خط اللّه:
والخطة الرابعة للشيطان، وهي ما يمكن أن نستوحيه من قوله تعالى في ما نقله من أقاويل إبليس: وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ( )، وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية من حيث المراد من تغيير خلق اللّه، فقد يُفهم التغيير على قسمين: التغيير المادي، حيث يكون الشيء على صورة ما فتغيّره إلى صورة أخرى، والتغيير المعنوي، وذلك بأن يكون هناك خط فكري أو روحي، فتغيّره إلى ما يخالفه. وقد فهم بعض المفسرين من الآية التغيير المادي، ولهذا استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على حرمة حلق اللحية، وذلك بدعوى أن حلق اللحية من تغيير خلق اللّه، وأن تغيير خلق اللّه مما أمر به الشيطان، فيكون محرّماً، ولكن الفقهاء، ومنهم الذين التزموا بتحريم حلق اللحية، قالوا إن هذا لا يصلح أن يكون دليلاً على التحريم، والسبب هو أن الآية تحدثت عن تغيير خلق اللّه بصورة عامة وليس عن خلق الإنسان، ولا يمكن الالتزام بالتحريم على إطلاقه، بمعنى أنه لا يجوز تغيير الأرض الخالية من الشجر ليجعل فيها شجراً أو إزالة الجبال من مواقعها وهكذا..
واعتبر البعض هذه الآية دليلاً على حرمة الاستنساخ، باعتبار أنه تغيير لخلق اللّه، وهو ما استدل به بعض فقهاء المسلمين السُنّة والشيعة في تحريم الاستنساخ، بدعوى أن الاستنساخ تغييرٌ لخلق اللّه، لأن اللّه سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان (الكائن الحي) بالوسائل الطبيعية في العلاقة بين الذكر والأنثى، فيكون عمل القائمين - وفقاً لوجهة النظر هذه - على الاستنساخ تدخلاً في خلق اللّه، على أساس أنهم يأخذون خلية ناضجة من أنثى أو غير أنثى ويفرغون بويضة الأنثى مما في داخلها من الكروموسومات ليزرعوا فيها تلك الخلية التي تصبح خلية متكاملة ب 46 كروموسوماً، لأن النطفة تحتوي 23 كرموسوماً والبويضة تحتوي 23 كروموسوماً، فتعتبر تلك الطريقة من الإخصاب تغييراً لخلق اللّه.
ولكننا تحدّثنا عن أن تلك الطريقة لا تجعل الإنسان خالقاً، لأن الخلق هو أن تخلق قانوناً لم يقنّنه اللّه في الكون، والقانون الإلهي هو أن الكائن الحي يولد من خلية منقسمة بين النطفة والبويضة تشتمل على 46 كروموسوماً، وفي الاستنساخ أيضاً 46 كروموسوماً، فالقانون هو نفسه، ولكن الشكل تغيّر، كما هو شأن طفل الأنبوب وما أشبه ذلك. فالمراد من تغيير خلق اللّه ليس التغيير المادي بل المعنوي، بدليل قوله تعالى في الآية الكريمة: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ( )، فإن اللّه خلق الإنسان مفطوراً على التوحيد، فالتوحيد هو الفطرة والإسلام هو الفطرة. وفي الحديث النبوي الشريف: ((كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهوّدانه أو ينصِّرناه)). وقد روي في ما ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال في تفسيره لهذه الآية: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ( ) أنه هو دين الله. فليست مهمة الشيطان تغيير الشكل، بل إنّ مهمته هي أن يمنع الناس من الدخول إلى الجنة لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ( )، ولكنّ اللّه قال لبني آدم: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ( ). فالمسألة التي تخرج الناس من الجنة أو تمنعهم من الوصول إليها هي مسألة ابتعادهم عن دين اللّه وعن التوحيد وعن القيم الروحيَّة التي جاء بها الإسلام، ولعل هذا هو المعنى الأقرب، وقد ذهب إليه الكثير من مفسري الشيعة والسُنّة.
وهذه هي الخطط الأربع، وعلينا أن نحدق فيها، وأن نخطِّط لإبعاد الإنسان عن الأخذ بمثل هذه الأمور التي تؤكد ولاية الشيطان، واللّه يقول في نهاية الآية: وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا( )، ثم يشدِّد على عواقب ولاية الشيطان: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا( ). هذه الآية التي يمكن أن نأخذ منها المنهج لمعرفة العناوين الرئيسة التي تخضع لها خطط الشيطان في إبعاد الناس عن اللّه سبحانه وتعالى...
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثانية10 صفر 1424 ه12/4/2002م
علي(ع): حذار من ألاعيب الشيطان
الكبرياء يُسقط الإنسان من رحمة الله.. فإبليس سقط من عليائه في لحظة كِبر
لحظة السقوط.
الاحتراز من وعود الشيطان.
الابتعاد عن الشيطان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
مواصلةً للحديث السابق عن حبائل الشيطان وخدعه، لابد لنا أن نُطلَّ على ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) في الحديث عن الشيطان، وهو الحديث الذي يُركِّز فيه على طبيعة الشيطان الشرير، ويُناشد فيه الأمّة للتعامل مع كلِّ خطواته بوعيٍ وحذر، انطلاقاً من التجارب التي عاشها الأوَّلون أو ما يتحرّك به الناس في كلِّ زمان ومكان.
لحظة السقوط:
يصوّر الإمام علي(ع) كيف نزل إبليس من عليائه، وهو الذي كان يُحسب من الملائكة، في عبادته للّه التي استمرت ستة آلاف سنة، ولكن اللّه أسقطه في لحظة كبرياء، عندما رفض أمر اللّه بالسجود لآدم(ع)، فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ( )، بحجّة أن النار تفني الطين، فهي أقوى منه في الوجود، ما يجعل عنصر إبليس خيراً من عنصر آدم، فلابد أن تكون الميّزة في تعظيم خلقه وفق هذا المنطق لإبليس وليس لآدم(ع).
فالإمام(ع) أراد الانطلاق من هذا الجو، في الحديث عن مسألة الكبرياء في تأثيرها السلبي على كل إنسان يأخذ بها، بحيث يسقط من رحمة اللّه سبحانه وتعالى، فيقول الإمام(ع) في الخطبة المسمَّاة (القاصعة) كما ورد في (نهج البلاغة): ((فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس))، يعني اعتبروا في سلوككم وفي إدارة العلاقات بينكم، وبين الغني والفقير، وبين القوي والضعيف، وبين الشريف والوضيع، إلى غير ذلك من أوضاع الناس، حيث نجد أنّ الغني يتكبر على الفقير، وأن القوي يتكبّر على الضعيف، وهكذا يتكبّر الشريف بنسبه أو سلطته على الوضيع، ((إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد اللّه ستة آلاف سنة)) تصوّروا شخصاً عبد اللّه ستة آلاف سنة ثم تصادر منه عبادة هذه المدة كلها حتى كأنه لم يكن له عمل، فيُحبط عمله لتكبّره، فكيف يقبل اللّه عبادة ذلك الشخص،؟ وهو لم يقبل ذلك من إبليس؟ ((فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته؟)) يعني أنّ من يتكبّر ويرجو أن يسلم بهذا الكبرياء من اللّه في وقتٍ لم يسلم فيه إبليس من عقاب اللّه بالرغم من عبادته، ((كلا، ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر قد أخرج منها ملكاً))، وإبليس لم يكن ملكاً، ولكنه ملحق بالملائكة، كما ورد في القرآن الكريم: إلاّ إبليس كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ( )، حتى إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم لشدة عبادته.
فالإمام علي(ع) يقول كيف أن اللّه سبحانه وتعالى لم يُسلم من كانوا في عداد الملائكة ليُسلم منه البشر، إنّ حكم اللّه في أهل السموات والأرض واحد، والإمام(ع) يركِّز قاعدة أساسية، وهي أنه ليس بين اللّه وبين أحد من خلقه علاقة خاصة من خلال ذاته، فاللّه قد خلق الجميع، وقد روي عن النبي(ص) قوله: ((أيها الناس، لا يتمنَّ متمنٍ ولا يدَّعي مدَّعٍ، أما إنه ليس بين اللّه وبين أحد من خلقه شيء يدفع عنه شرّاً أو يجلب به خيراً إلاّ العمل، ولو عصيت لهويت))، فالنبي(ص)، كما تقول الآية الكريمة: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( )، يعتبر أن القيمة هي قيمة العمل بعيداً عن أية قيمة أخرى في التقرّب من اللّه سبحانه وتعالى.
لذلك، فإنّ الإمام علي(ع) أراد أن يؤكد أن علاقة اللّه سبحانه وتعالى بكل المخلوقات هي علاقة العمل، كما جاء في قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا( )، وَقُل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ( ). وعليه ((إنّ حكمه واحد في أهل السموات وأهل الأرض، وما بين اللّه وبين أحد من خلقه هوادة)) أي رخصة ((في إباحة ما حرّمه على العالمين))، والمقصود هنا بالحرمة المكان الذي يمنع الآخرين من الدخول إليه، وهو ساحة الحرمات التي حرّمها اللّه على الناس كلهم، لأن الخلق كلهم متساوون أمام اللّه، فليس هناك نسب بينهم وبين اللّه، وقد وضع المسألة في إطارها الطبيعي، وهي أن إبليس سقط من عليائه في لحظة كِبَر، فلا يمكن أن يبقى كل واحد في موقعه عندما تأخذه الكبرياء في نظرته للناس أو من خلال علاقته مع الناس.
الاحتراز من وعود الشيطان:
ثم يقول الإمام(ع): ((فاحذروا عباد اللّه أن يُعديكم إبليس بدائه)) أي يقترب منكم كما يقترب الأجرب من السليم، فيقول لهم إنه إذا اقترب إبليس من حياتهم ومن أفكارهم، فإنه سوف يعديهم بدائه، ((وأن يستفزكم بندائه))، يعني يستنهضهم لما يناديهم به، وقد حدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن قول إبليس يوم القيامة وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ( )، ((وأن يجلب عليكم بخيله ورجله)). والمقصود بكلمة (خيله) ركبانه، بينما تعني كلمة (رجله) أي مشاته، والمراد أعوان السوء، ومعنى ذلك أن الشيطان يدفع أعوانه من أهل السوء بجميع أوضاعهم.
((فلعمري لقد فوَّق عليكم سهم الوعيد))، يعني وضع الوتر في القوس ليضربكم به، ((وأغرق إليكم بالترع الشديد))، يعني مدَّ أو صوّب قوسه إليكم ليصيبكم به، ((ورماكم من مكان قريب))، يعني بدأ بتسديد الرماية إليكم من مكان قريب لهدف بعيد، فقال قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ( ) فمن شدَّة حقده على آدم انتقل به هذا الحقد ليحقد على أبناء آدم، فأراد أن يمنع أولاد آدم من العودة إلى الجنة، ولذا يقول: ((قذفاً بغيب بعيد))، لأنه ينطلق إلى المدى الواسع الذي يعيش فيه كل بني آدم، ((ورجماً بغير ظن مصيب)) أي إنَّ توعده يقوم على ظنه الذي لا يركن إلى معطيات، ولكنه يقدّم هذه الأفكار والاحتمالات لينطلق الناس، بها من دون أن يوصلهم إلى الخط الصحيح.
((صدّقه أبناء الحمية)) فاتبعوه على أساس الظن، والحميّة هي الحالة التي تصيب الإنسان، فيغضب على أساسها وتلتهب مشاعره، فيتصرف على أساس الانفعال لا العقل.
((وإخوان العصبية)) والعصبية التي يعيشها بعض الناس، هي عصبية العرق والدم والذات والفئوية، إلى آخر ما هنالك من العصبيات المنتشرة بين الناس الذين يعيشون العصبية ولا يتوازنون في دراسة الأمور من خلال طبيعتها الموضوعية، بل يعيشون انتفاخ الشخصية في كلِّ الأسس والموارد الذاتية الضيِّقة والواسعة، بعيداً عن الدراسة الواعية للعناصر الواقعية ودراسة حجمها الحقيقي، ((وفرسان الكبر والجاهلية))، يعني يركبون فرس الكبر والجاهلية ويسيرون حسب خطوط الجاهلية، ((حتى إذا انقادت له الجامحة منكم)) ويريد بالجامحة منكم أي الناس الذين لم يطيعوه مسبقاً، ولكنه سيطر عليهم بأساليبه، ((واستحكمت الطماعية منه فيكم)) فحينما أقبلتم عليه أصبح يطمع فيكم ليستولي عليكم جملةً وتفصيلاً.
((فنجمت الحال من السر الخفي إلى الأمر الجلي)) فبعدما كانت الوساوس في الصدور خفيةً، وكانت همساً في القول، ظهرت بتأثير الشيطان عليهم المجاهرة بالنداء، ورفع الأيدي بالسلاح، وأثار الحرب والفتن، فقد كان الإنسان يفكِّر بالحقد والضغينة ثم تتفاعل تلك الأفكار العدوانية في حياة الإنسان إلى المستوى الذي يسيطر فيه الشيطان، فيحوّلها من أشياء خفيّة في النفس إلى أشياء عملية من خلال السلوك الذي ينفعل بهذه الوساوس فيتحوَّل إلى فتنة وحرب، ((استفحل سلطانه عليكم ودلف بجنوده نحوكم))، ودلف بمعنى تقدّم في الحرب على الإنسان وهو يهيّئ الظرف الذي يجتذب فيه الناس لحربه، فيدفع بجنوده ليحتويهم من جميع الجهات، ((فأقحموكم ولجات الذل)) بمعنى أدخلوكم بغتةً في الكهوف، أي الزوايا الضيقة التي تعيشون فيها الذل، لأنكم ألقيتم بقيادتكم إليه، ((وأحلّوكم ورطات القتل)) فدخلتم بكل خدعهم وأمانيهم ووساوسهم بورطات القتل، ((وأوطأكم إثخان الجراحة)) فجعلوكم تركبون الجراحات، ووصف الجراحات هذه بالإثخان للمبالغة فيها، أي الجراحات البالغة، كنايةً عن إشعال الفتنة التي بين الناس حتى يتقاتلوا، ((طعناً في عيونكم)) في إشارة إلى الأساليب التي يستخدمها جنود الشيطان، فإن الإنسان إذا طعنته في عينه فسوف لا يرى ما أمامه، ((وحزاً في حلوقكم)) كناية عن القتل، ((ودقاً في مناخركم))، باعتبار أن الأنف هو مظهر العنفوان، ((وقصداً في مقاتلكم)) لما يصيبكم من القتل من هذه الأوضاع التي يثيرها حولكم، ((وسوقاً بخزائم القهر إلى النار المعدّة لكم)) والخزائم هي حلقة توضع في وترة أنف البعير ليقاد بها البير، فالإمام علي(ع) يقول إن هؤلاء الشياطين يعملون على أن يسوقوكم إلى النار المعدّة لكم في معصية اللّه، ((فأصبح أعظم في دينكم حرجاً، وأورى في دنياكم قدحاً من الذين أصبحتم لهم مناصبين وعليهم متألّبين))، لأن خطرهم أصبح أكثر من هؤلاء الذين تقاتلونهم أو تعادونهم، لأن الشيطان يجتاح عقولكم وكلَّ شيء فيكم.
((فاجعلوا عليه حدّكم)) يعني واجهوا هذا الشيطان مواجهة المقاتل بالغضب ولا تواجهوه بالرضا، ((وله جَدَّكم)) يعني حاولوا قطع الصلة بينكم وبين الشيطان بإرادتكم الجدّية، ((فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم)) إذ قال كما في قوله تعالى: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ( ) ((ووقع في حسبكم)) يعني أراد الشيطان أن يحتقركم ويواجه حسبكم الذي يتمثل فيه شخصيتكم، ((ودفع في نسبكم، وأجلب بخيله عليكم، وقصد برجله سبيلكم)) يعني استعدَّ عليكم من جميع الجهات، ((يقتنصونكم من كل مكان)) كما هو القنّاص اليوم عندما يسدِّد بندقيته للناس ليصيبهم في مقاتلهم، ((ويضربون منكم كل بنان)) كنايةً عن الأيدي التي هي وسيلة القوة ضد الأعداء، ((لا تمتنعون بحيلة)) لأنكم سلَّمتم القيادة للشيطان، ((ولا تدفعون بعزيمة، في حومة ذل وحلقة ضيق)) فلا تواجهون القضية بعزيمة وإرادة في جوِّ الذل الذي وضعتم فيه أنفسكم، والحلقة الضيقة التي دفنتم فيها ((وعرصة موت وجولة بلاء)).
الابتعاد عن الشيطان:
ثم يبيّن الإمام(ع) الأخطار التي تصيب الناس فيما يخطط له الشيطان: ((فأطفئوا في قلوبكم نيران العصبية وأحقاد الجاهلية)) بالطريقة التي تستطيعون بها أن تتخلصوا من الشيطان، وذلك بأن تتخلصوا من العصبية التي تمثل حالة متجذرة في النفس، بحيث يلتزم الإنسان بقبيلة أو طائفة معيّنة، فيرى أن ذلك هو القيمة، ولا يرى القيمة في مكارم الأخلاق وفي القيم الروحية وما إلى ذلك.. ((وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان)) بحيث يتعصب لشخص أو جماعة أو حزب معيّن، أو يتعصب لعرق أو وطن وما أشبه ذلك، بحيث يرى أن ذلك هو كل شيء، بعيداً عن الارتباط بالجانب الأخلاقي والروحي في ذلك، فإن هذا التعصب من نزوات الشيطان ونزعاته ونفثاته.
((واعتمدوا وضع التذلّل على رؤوسكم)) يعني استشعروا الذلّ، والمقصود بالتذلل هنا هو التواضع للّه، كما ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع): ((اللهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها))( )، يعني هذا التذلّل أمام نقاط الضعف، ليحوّلها الإنسان إلى نقاط قوة، حتى لا تكبر نفسه عنده بطريقة غير واقعية، ولا ينخدع بمظاهر العز ولا بمظاهر التقدير التي تأتيه من الناس، ليتوازن في نظرته إلى نفسه من الداخل، فلا يفقد وضوح الرؤية لها من مؤثرات الخارج، ((وإلقاء التعزز تحت أقدامكم وخلع التكبر من أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة)) يعني اجعلوا التواضع هو ما تنتصرون به، والمسلحة في اللغة هي عبارة عن الثغرة التي يواجه العدو عندها بالسلاح، ((بينكم وبين إبليس)) الذي يريد أن يهجم عليكم من خلال عصبياتكم والكبر الذي يزرعه في قلوبكم. لذلك يجب أن تجعلوا التواضع هو السلاح الذي تحاربون به إبليس، حتى لا يجد في عقولكم وقلوبكم شيئاً يمكن أن يستغله ليجذبكم إليه، ((فإن له من كل أمة جنوداً وأعواناً ورجالاً وفرساناً)) فلإبليس جنود من الجِنّة والناس، فاحذروا كل من ينفذ خطط الشيطان وأفكاره، ((ولا تكونوا من المتكبرِّ على ابن أمه من غير فضل)) يعني هؤلاء المتكبرين على إخوانهم وأهليهم، ((من غير فضل جعلهم اللّه فيه، سوى ما ألحقت به العظمة بنفسه من عداوة الحسد)) تجعله يشعر بأنه أعظم من فلان، ((وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب))، لأن الغضب هو الذي يجعلك تندفع بانفعالاته من دون عقل ومن دون وعي، ((ونفخ الشيطان في أنفه))، لأن الأنف هو رمز العنفوان ((من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة))( ).
وخلاصة الفكرة مع كلِّ هذه التفاصيل، أنَّ على الإنسان أن يكون واعياً وعياً عقلياً وشعورياً، ووعياً واقعياً لكل نزوات الشيطان ونزعاته التي بيّنها اللّه سبحانه وتعالى في كتابه، حتى يتحرر الإنسان من سيطرة الشيطان، ولينتقل من طاعة الشيطان إلى طاعة اللّه سبحانه وتعالى. وللحديث بقية فيما نتحدّث به عن الموضوع إن شاء اللّه في الأسبوع القادم.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثالثة17 صفر 1424 ه19/4/2002م
أساليب مواجهة الشيطان
على الإنسان أن يكون في حالة يقظة عقلية دائمة
مراقبة الإنسان نفسه.
العدوانية الشيطانية.
أسس البرنامج الاجتماعي.
موقف العصبية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لقد تحدَّثنا في الأسبوع الماضي في إطار الخطبة التي تناول فيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الشيطان، ليفتح لنا أبواب الوعي في القاعدة التي يرتكز عليها، وفي الوسائل والأهداف التي يتحرك فيها، لأن مسألة وجود الشيطان ليست مسألة مخلوق تواجهه وجهاً لوجه ليُمكنك التعرّف عليه بشكل مباشر، ولكنه ينفذ في عروق الإنسان ومشاعره وأحاسيسه، وربما يوظف غرائز الإنسان ليحوّلها من جانب الخير إلى جانب الشر.
مراقبة الإنسان نفسه:
ولذلك نلاحظ أن القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة وما جاء عن الأئمة (ع)، حاولوا أن يثيروا في وجدان الإنسان حالة الوعي بخصوص الشيطان، حتى يراقب الإنسان نفسه في أحاسيسها ومشاعرها التي يُمكن أن تتأثر بالظروف الموضوعية المحيطة به، وأن يدرس نقاط ضعفه ونقاط قوته مما قد يعمل الشيطان على استغلاله في تحويل نقاط القوة إلى نقاط الضعف وفي الاستزادة من نقاط الضعف. أن يكون الإنسان في حالة يقظة عقلية دائمة،
لكل فكر يحاول أن ينفذ إليه في حياته الثقافية، ولكلّ ما يمكن ان يصل إليه بشكل تلقائي من دون أن يختار، وذلك من خلال قراءة لفكر معين أو سماعه له، أو من خلال مشاهدته لصورة ما توحي إليه بفكر، وربما يعيش الإنسان بعض المشاعر والأحاسيس والانطباعات انطلاقاً من بعض الأوضاع التي تحيط به. لذلك، فإنَّ اللّه سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يختار فكره، وأن لا يسمح لأي فكر أن ينفذ إليه من دون تدقيق ومن دون اختيار، ويريد للإنسان أن يختار مشاعره وأحاسيسه وانطباعاته، كما يريد له أن يختار أساليبه وأهدافه،
لأن الكثير منّا قد يسقط أمام الإشاعات والدعايات، ولا سيما في هذا العصر الذي يسيطر فيه الإعلام المرتكز على قاعدة تختزن في داخلها أكثر الوسائل العلمية والفنية، فلم يعد الإعلام مجرد خبر تنقله، ولكن الإعلام تحوّل إلى علم يُراد منه تغيير الإنسان أو تغيير الواقع، مستغلاً كل العناصر الخفية في الإنسان.
ومن هنا، نجد أن، القرآن الكريم والسُنّة أرادا لنا دائماً أن نستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم، لأنه يمثِّل مشكلة للإنسان. وربما لا يستطيع الإنسان مواجهة هذه المشكلة وجهاً لوجه، لذلك فإنه يتعوَّذ باللّه سبحانه وتعالى من ذلك كله. ولعل التأكيد على مسألة جهاد النفس التي ركَّزت على محاسبة الإنسان لنفسه ومحاكمتها ومجاهدتها إنما يمثل مشروعاً حيوياً لمراقبة الإنسان لنفسه خشية إيحاءات الشيطان، وأن لا يعيش الغفلة، كما نقرأ في القرآن الكريم، حيث إن مشكلة الكثير من الناس يوم القيامة أنهم كانوا يعيشون الغفلة لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ( ).
العدوانية الشيطانية:
لذلك، فإننا نحاول أن نتابع كلام الإمام علي (ع) في هذه القضية المهمة في حياتنا، فيخاطب (ع) الناس: ((ألا وقد أمعنتم في البغي)) والبغي هو حالة العدوان المتمثل في الحروب والفتن وفي الإضرار بالناس، كما أنّه قد يتمثل في البغي على اللّه سبحانه وتعالى وعلى الحق والتمرد عليه، فيقول الإمام (ع): ((وأفسدتم في الأرض)) في كل هذه الأوضاع التي تتحرك فيها خطوات الإنسان في خطِّ الفساد، سواء كان الفساد ثقافياً يرتبط بمسألة إفساد العقيدة والتصوّر، أو فساداً في الاجتماع والأخلاق، أو فساداً روحياً أو أمنياً أو اقتصادياً، لأننا نجد أن الناس في كلِّ تنوّعاتهم عندما ينحرفون عن الحق، فإن كل واحد منهم يختار خطاً للفساد ليحض على ما يريد من النتائج التي ترضي غروره أو تحقق أطماعه وما إلى ذلك.
((مصارحة له بالمناصبة)) يعني أن تقفوا في مواجهة الله ومعاداته، ((ومبارزةً للمؤمنين بالمحاربة)) فأنتم تنطلقون لحرب المؤمنين، لأنكم لا تريدون لهم أن يثبتوا على الإيمان أو أن يأخذوا بأسبابه. ((فاللّه اللّه في كِبر الحميّة)) إنه يحاول أن ينبّه إلى هذه الحمية، وهي حالة الانفعال الناشئ من الشعور بالاستعلاء على الآخرين والإحساس بضخامة الشخصية بحيث لا يرى أحداً غيره، ((وفخر الجاهلية)) بحيث ينطلق الإنسان في الفخر المتخلّف، ليفخر بآبائه وأجداده. والفخر بالآباء والأجداد لا يمثِّل أي معنى.
فهب أن أباك كان عالماً كبيراً، أو قائداً كبيراً، أو كان شخصاً مصلحاً في الواقع الاجتماعي أو السياسي، ولكن هذا ليس أنت، فأنت تنتسب إلى أبيك من خلال اللحم والدم، ولكن عظمة فكر أبيك ليست عظمة فكرك، ولا دخل لك بصفة القائد. لذلك، فإن الإنسان الذي يفتخر بالآباء هو إنسان يعيش الجاهلية، تلك الجاهلية التي تختزن في كثير من أوضاعها التخلّف، وفي الوقت نفسه يورث التخلّف. وقد وصلت المسألة إلى أن الإنسان إذا كان عالماً – مثلاً – فإن ولده سيكون هو خليفة أبيه في العلم. وهكذا نحن في الشرق، نقدِّم الكثير من الفاشلين لمجرد أنّ آباءهم كانوا ناجحين. فنحن نعيش هذا التخلّف في أنفسنا، ونحن نعرف أن مجتمعاً يحكمه الفاشلون كيف سيكون مستقبله؟! وهذه هي القيمة التي تحكمنا في هذا المجال، فمثلاً بعض الناس يقول إن بيت فلان كان مفتوحاً، فيجب أن يبقى مفتوحاً. في الوقت الذي نرى فيه أن البيت الفلاني إنما كان مفتوحاً حينما كان فيه شخص ما عالماً أو قيادياً أو لوجود شخصية اجتماعية قامت بخدمة الناس. ولكنها – للأسف – القيمة المتخلفة، وهي السبب في الكثير من التخلف وتجميد حركة التطوّر في المجتمع، فليس شرطاً أن يكون ابن العالم عالماً، وهكذا بالنسبة للقياديين الآخرين. وهذه مسألة خطيرة جداً، فقد ساهمت في الكثير من الجهل والتخلف والفشل في امتداد الزمن، ولذلك لا بد من دراسة هذه المسألة دراسةً دقيقةً في هذا المجال.
ويقول الإمام عليّ (ع): ((اللّه اللّه في كِبر الحمية))، لأن الإنسان الذي يعيش الكبر، فإنه سوف يتحول إلى حالة عدوانية عند الآخرين بمختلف وسائل العدوان، ((وفخر الجاهلية)) لأنه فخر لا يرتكز على قاعدة القيم الروحية والأخلاقية، ((فإنه ملاقح الشنآن ومنافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية)) أي أن هذا الذي تنطلقون به، وهو كبر الحمية وكبر الجاهلية، هو الذي أوجب أن تلقح عقول الناس بالبغضاء، والملاقح هي علوق الأنثى بالذكر، بحيث ينفخ الشيطان في ذات الإنسان الجاهل ليصنع منها الكثير مما يضره كما أضر الناس الذين خدعوا به في القرون الماضية، ((ولقد أضلَّ منكم جبلاً كثيراً أفلا تعقلون، حتى أعنقوا في حنادس جهالتهم)) و(أعنقوا) يعني غابوا، و(حنادس جهالتهم) يعني الضياع في الظلام الشديد، وتاهوا في ظلمات الجهل، لأن العلم نور والجهالة ظلمة، فكل إنسان يأخذ بأسباب الجهالة، فإنه يبقى يتحرك في المتاهات التي لا يمكنه معرفة إلى أين ستنتهي به، وتدخله جهالته في أكثر من كهف ومغارة مملوءة بما قد يقتل فيه الحياة والوعي، ((ذللاً في حنادس جهالته ومهاوي ضلالته)) وهي الظلمات التي يضعها الشيطان حينما يحرك الجهل الإنسان، والمهاوي، وهي ما تهوي بالإنسان إلى الأسفل حينما يكون الإنسان ضالاً يغرق في التيه، فمن الطبيعي أن تهوي به الضلالة إلى موقع سحيق. ((ذللاً على سياقه)) يعني أنهم يعيشون الذل في حركة الشيطان، كما هو شأن الماشية حينما يسوقها الراعي من دون أن تعترض عليه، فكذلك حينما يخضع بعض الناس الجهلة للشيطان، فهم يسيرون معه كما تسير الماشية مع الراعي، ((سلسة في قياده)) بمعنى أنهم يسلسون له في أمرهم وانقيادهم للشيطان ((أمراً تشابهت القلوب فيه)) لأنها لم تبصر وجه الحق في ذلك ((وتتابعت القرون عليه)) باعتبار أنه كان يسير في ضلاله مع الزمن، ((وكبراً تضايقت الصدور به))، لأن الإنسان المتكبر يعيش في سجن ذاته وضيق نفسه، لأن المتكبر يعتبر نفسه هو العالم، ولذلك فليس له صديق وليس له رفيق، وليس له من يعتمد عليه أو يستشيره. وهذا ما نجده في كثير من الناس صغاراً أو كباراً، فإنه يجد نفسه هو العالم ويتعامل مع الناس على أساس نظرته إليهم في انتفاخ شخصيته.
أسس البرنامج الاجتماعي:
ثم يصوِّر الإمام علي (ع) هذا الواقع: ((ألا فالحذر كل الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم)) الذين تكبَّروا بسبب حسبهم وترفّعوا بسبب نسبهم، بمعنى ادرسوا الناس من حولكم، وبخاصة هؤلاء الذين يملكون السيطرة عليكم، ولا تستغرقوا فيهم من جهة الموضع الذي هم فيه على أساس الظروف التي
جعلتهم في هذا الموضع، وادرسوا كل مسؤول في أيِّ موقع كانت المسؤولية، وأي شخص يُعتبر من الكبار في أي حجم كان كبره... ، فهل هم متواضعون أم متكبرون على الناس، وهل هم في حركتهم مع الواقع يتحركون على أساس واقعي في نظرتهم إلى أنفسهم؟ وهل هم من الذي تتضخم عندهم شخصيتهم على أساس نسبهم؟ ((هؤلاء الذين ألقوا الهجينة على ربهم)) يعني كل ما هو سلبي وقبيح فهم يلقونه على اللّه سبحانه وتعالى، ((وجاحدوا اللّه ما صنع بهم)) فلم يعرفوا ما صنع اللّه بهم، وإنما اعتبروا أنفسهم على طريقة (قارون).
وما أكثر القارونيين عندنا في المال أو السياسة أو الاجتماع، وحتى الدين في بعض المجالات إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( )، فكان جواب قارون قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي( ) وبذلك تكبّر على اللّه، حيث إدّعى أنه بشطارته قد حصل له ذلك المال والجاه.
وهكذا تجد بعض الناس حينما تذّكره باللّه، فإنه تأخذه العزة بالإثم، تلك الأنانية التي قتلت الكثير من الناس من الذين يقولون بها، وقتلت الكثير من الناس الذين يسيرون في خطها. ((وجاحدوا اللّه ما صنع بهم)) لم يلتفتوا إلى نعم اللّه سبحانه وتعالى عليهم، وأنه لا يمكنهم الاستغناء عن اللّه لحظةً واحدة إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى( )، فلولا فكَّر الإنسان بهذا الشهيق والزفير الذي يتنفسه، بحيث لو حبسه اللّه عنه فمن ذا الذي يعطيه مثله؟! وهكذا يتطلع الإنسان إلى ما في السموات والأرض وإلى أي جهاز من أجهزة الجسم، فعندما يدرس الإنسان الأجهزة التي رُكِّبت في جسمه ويدرس كلَّ المظاهر الكونية، يعترف أن اللّه هو الغني المطلق، وأن الإنسان هو الفقير المطلق، وليتصوّر الإنسان أنه لا يستطيع في أيِّ حالة أن يستغني عن اللّه، خاصةً ونحن نعيش في السنن الكونية التي أعطاها اللّه لنا فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً( ) ونعمه التي أفاضها علينا في كل وجودنا وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا( )، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ( ).
موقف العصبيّة:
وبعض الناس، انطلاقاً من غفلته، يجحد ما صنعه اللّه له مكابرةً لقضاء اللّه، فهو عندما يواجه قضاء اللّه سبحانه وتعالى، يتخذ موقف المكابر لآلاء اللّه ونعمه، ((فإنهم قواعد أساس العصبية ودعائم أركان الفتنة))( )، فعندما تدرسون هؤلاء الناس، فإنكم ترونهم يثيرون العصبيات التي تفصل الإنسان عن الإنسان، وتصنع السلبية في نظرة الإنسان للإنسان، سواء كانت العصبية للذات أو العشيرة أو القومية أو عصبية الدين، لأن الإنسان لا يُراد له أن يكون متعصباً في الدين، لأن العصبية تعني أنك تلغي الآخر، فعصبية الإنسان لعشيرته تجعله يسير مع عشيرته مسيرة الأعمى، مثلما قال ذلك الشاعر الجاهلي:
وما أنا إلاّ من غزيَّة إن غوت غويت وإن تُرشد غزية أرشد
ومعناه إنه إذا مشت عشيرته في طريق الغي أو الرشاد فإنه يتبعها بدون وعي، وكما كان يقول بعض شعراء القومية من دون أن يدرس الحقيقة:
سلام على كفر يوحّد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
فالوحدة المراد منها توحيد المجتمع، وحدة ذات مضمون داخلي تنطلق من القاعدة الروحية والاجتماعية والسياسية، وإن لم تكن كذلك فإنها لا تستطيع أن تحمي نفسها من دون هذه المجالات، لأن الوحدة لا يمكنها أن تعيش من دون أن تحمل قيم الشعب الذي يحملها، فالوحدة الحقيقية ليست تلك التي تتوحَّد بالنسب، بل بالقيم الأخلاقية والاجتماعية وما إلى ذلك، بعكس العصبية التي تمنع تلك القيم . .
وهكذا، كالعصبيات الدينية والمذهبية والعصبيات الإقليمية والقومية، فالعصبي يكون مثل الأعمى المستغرق في الظلام لا يفكر، في حين ترى الملتزم يفكِّر، والإنسان المتعصب ليس لديه أيّ أساس للقيمة، بينما الملتزم لديه أساس للقيم.
وروي عن الإمام زين العابدين (ع) في كلمته المشهورة في مسألة العصبية وهو يشير إلى هذه المسألة: ((إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين)) يعني أن الشرير فيهم يعتبرونه أفضل من خيار قوم آخرين، ((وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه)) فمثلاً لو كنت مغترباً ورأيت عربياً فإن قلبك يهفو إليه عفوياً إذا كنت عربياً رغم أنه قد يحمل فكراً غير فكرك، فتلك العاطفة ليست من العصبية، ((ولكن العصبية أن يعينهم على الظلم)) وهذا هو الذي كان في المثل الجاهلي (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) على قاعدة النصرة العمياء من خلال الانتماء المذهبي وغيره من دون نظر إلى مضمون القضية التي يناصر صاحبها، وكان بعض الناس يتصور أنه حديث نبوي شريف، ولكنه ليس كذلك، فعندما ذكر هذا المثل أمام الرسول(ص) كما يروى، أجاب بقوله(ص): أن تنصر أخاك ظالماً يعني أن تمنعه من الظلم وتنصره على غريزة العدوان في داخله.
لذلك، فإن مشكلتنا في الشرق هي مشكلة العصبيات، ولعلَّ الأجنبي دخل فينا من خلال العصبية، مثل الفتنة العشائرية، أو بين السُنّة والشيعة، أو بين العرب أو الأكراد، كما هو حال العراق الجريح المظلوم الذي قد يزيده المحتل من جراحات المسألة الاجتماعية والسياسية. فعندما تكون متعصباً، فإن الشيطان يتدخل فيك لأنه يثير العداوة ضد الآخرين، وكما قلت دائماً هناك معادلتان هما (أنا والآخر)، أو (أنا لا الآخر)، فمادمنا نعيش مع بعضنا البعض فعلى أي أساس يلغي بعضنا البعض الآخر وكلانا موجود، فهل من حقك أن تختلف معي بينما ليس من حقي أن أختلف معك، فلست أنت وحدك، لذلك فإن مسألة العصبيات تؤدي إلى حالة عدوانية ضد الآخرين، والمتعصِّب مثل الأعمى، فإذا كنت ملتزماً فإن ذلك يعني أنك تلتزم فكراً معيناً ولك أن ترى أنه الحق وتدافع عنه، ولكن في الوقت نفسه هناك فكر لآخرين ملتزمين، فاسمعهم لعلك تجد ما يجعلك تتنازل عن بعض وجهات نظرك، ولذلك فقد حارب الإسلام بقوّة العصبية، وقد ورد في الحديث الشريف: ((من تعصَّب أو تُعصِّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه))، ((والعصبية في النار))( ). تلك العصبية التي ساهمت في تخلفنا وفي إثارة الفتن فينا، وساهمت في إسقاط الكثير من قضايانا، ولذلك ينبه الإمام (ع) في كل موقع، من هؤلاء الذين يحاولون أن يبقوا في موقع المسؤولية في محاولتهم إثارة العصبيات وإثارة الفتنة، حتى ينشغل الناس ببعضهم البعض ليتمكنوا من السيطرة عليهم بكل وسائل السيطرة. ولكلام الإمام علي (ع) الذي عاش في القمة بقية في الأسبوع القادم إن شاء اللّه تعالى..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الرابعة24 صفر 1424 ه26/4/2002م
علي(ع): التحذير من الأدعياء (1)
عندما تريدون التعامل مع أية قيادة، فعليكم أن تدرسوا واقعها... هل هي بمستوى العنوان الذي تحمله أم لا؟
آفاق أمير المؤمنين(ع).
منهاج علي(ع).
تشويه الفطرة.
منهاج معرفة الحق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لعلَّ قيمة التراث الذي تركه لنا الإمام علي بن أبي طالب(ع) في كل خطبه وكتبه وكلماته، أنه كان يستهدف علاج الحياة في كلِّ مفاصلها المتعلِّقة بالخالق وبالإنسان، وبالدنيا والآخرة، ولذلك فلم يكن(ع) يطلق الفكرة بشكل تجريديّ، وإنما يحرِّكها في عقل الإنسان، ليفتح له الآفاق الواسعة التي تنمِّي الفكرة، ثم يدفع بالفكرة إلى مشاعره، لتكون شعوراً يتحسّسه، ثم ينطلق إلى واقع الحياة ليوجهه إلى تطبيق هذه الفكرة عملياً وفي تطلعاته الروحية. ونحن نلاحظ في كلمات الخطبة المسمّاة ب(القاصعة)، والتي سبق شرح بعض فقراتها، أنها تمثِّل الفكر والوعي والإرشاد والتطلعات الروحية واستيحاء الواقع الذي عاشه الأنبياء(ع) لحياة الناس، حتى لا يكون تاريخ الأنبياء(ع) مجرد شخصيات نتبرك بها، بل ليكونوا(ع) في سيرتهم التي تجسِّد رسالتهم في وجدان الإنسان فكراً وموعظةً وقدوةً وحياةً.
آفاق أمير المؤمنين(ع):
ولعل المشكلة التي عاشها الإمام(ع)، هي أنه عاش في مرحلة لم تميِّز بين الذهب والحجر، فأدخلوه في عصبياتهم وخلافاتهم، وعطَّلوا مشروعه، وانطلق الناس من بعده بين محبٍّ غالٍ ومبغضٍ قالٍ، حتى إن كثيراً من الذين يوالونه ويرون أحقيته في الخلافة لم يأخذوا بمشروعه الحضاري الذي يمثّل الفكر والروح والموعظة والحياة المثلى. ولو أردنا القيام بعملية إحصائية في الواقع الإسلامي، وفي الواقع الشيعي بالذات، فإننا لا نجد أثراً كبيراً لمشروع الإمام علي(ع) في حركة الإنسان في الحياة، حتى إننا لا نجد كتاب (نهج البلاغة) ولو على مستوى دراسته كقيمة أدبية وبلاغيّة، وإذا كان هناك تناول لتراثه، فلا يتجاوز بعض الآثار الصغيرة التي قام بها بعض الباحثين الذي يحلّلون بعض خطبه وكلماته، بل قد يُقدّم تراثه(ع) إلى جانب تراث من لا يقاس به، كمعاوية أو غيره. ونحن -كحوزة علمية- نتحمل مسؤولية المشروع، لأننا في كثير من تجاربنا لم نأخذ بنهج البلاغة كفكرة ودراسة، حتى بما يتعلق بمسألة الخلافة ومفرداتها، ما جعل خط أهل البيت(ع) الذي انطلق من أصالة الإسلام على المستوى الفكري والروحي والحضاري، يتحوّل إلى خط يعيش الجانب الذاتي لأهل البيت(ع) أكثر مما يعيش الجانب الفكري.
وربما نلاحظ أن هذه العاطفة الولائية الرائعة لا تحمل فكراً حضارياً، ولذلك فإن الكثير من الناس يخترعون أساليب التعبير عن العاطفة أكثر مما يخترعون أساليب التعبير عن الفكرة والخط. ونحن نعرف أن أهل البيت(ع) عملوا لمنهج الحياة وليس لمرحلة معيّنة، وعملوا للرسالة وليس لشخصياتهم، وإنْ كانت شخصياتهم تجسِّد الرسالة، وقد قالها علي(ع) مخاطباً الناس: ((ليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم))، فإذا أردنا للخط الإسلامي الأصيل لأهل البيت(ع) أن يمتد في هذا العصر، فعلينا أن لا ندخل فيه ذهنية التخلف والخرافات، وأن لا نسمح للجهلة والمتخلفين بأن يستغلوا مشاعر الناس وعواطفهم. نحن لا ننكر أهمّية الحماس والمشاعر الملتهبة، ولكن لا بدّ للعقل أن يضبط هذه المشاعر ويستثمرها، لأنّ العقل هو الذي يمنح الإنسان التوازن في حركة شعوره وحماسه وعاطفته.
منهاج علي(ع)
((اتقوا اللّه ولا تكونوا لنعمه عليكم أضداداً)). يتحدّث الإمام عليّ(ع) في هذه الفقرة، بأنه علينا أن لا نتعامل مع ما أفاضه اللّه علينا من النعم معاملة المضاد لها والكافر بها، لأنّ النعمة تستوجب الشكر، والكفران ضد الشكر، وشكرُ النعمة يكون بأن يوجّه الإنسان ما أنعم اللّه به عليه في طاعة الله ورضاه، والتعامل معها بغير ذلك كفرانٌ بها.
ولعلَّ ذلك التعبير يعالج مسألة النتائج، لأنه ليس هناك إنسان يعتبر النعم التي أفاضها اللّه سبحانه وتعالى عليه شيئاً سلبياً، بل يقبل بها لأنها تسدُّ حاجته وتحقق طموحاته، ولكنّ طريقة حركة الإنسان في جحود نعم اللّه عليه ونسيانها، هي تماماً كطريقة الإنسان مع عدوه في جحوده للنعمة عملياً وإنْ كان يعترف بها واقعياً. وقد ورد في كلمات الإمام علي(ع) قوله: ((لو لم يتوعد اللّه على معصيته لكان يجب أن لا يُعصى شكراً لنعمه))، فكيف بالإنسان الذي توعّده اللّه بالعقاب على المعصية وهو يرى نعم اللّه تفيض عليه صباحاً ومساءً، كما أشار إليه الإمام زين العابدين(ع) في الدعاء الذي رواه عنه أبو حمزة الثمالي: ((تتحبب إلينا بالنِعم ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل وشرّنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا كل يوم بعمل قبيح، فلا يمنعك ذلك من أن تحيطنا بنعمك وتتفضل علينا بآلائك، فسبحانك ما أعظمك وأكرمك مبدئاً ومعيداً))( ).
ويكمل(ع) بقوله: ((ولا لفضله عندكم حساداً))، أي انظروا إلى ما تفضَّل اللّه به عليكم وعلى الناس، ولا تحاولوا أن تحركوا الحسد الذي يعبِّر عن الرغبة في زوال النعمة عن المحسود. وقد يوحي ذلك بأن الإنسان عندما يتعامل مع النعمة من منطلق الجحود والمعصية، فكأنّه يتعامل معها تعامل الحاسد مع المحسود، فإن المعصية قد تزيل النعم، وقد ورد من الشعر:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النِعم
وخلاصة ما يقوله الإمام(ع) هنا: لا تكونوا حسّاداً لنعمكم بحيث تعملون على زوالها كما تعملون على زوال النعمة من المحسود وإن كنتم لا تعترفون بذلك عملياً.
ثم يقول(ع): ((ولا تطيعوا الأدعياء))، والأدعياء جمع الدعي، وهو الذي يدّعي نسباً لا يملكه، وقد ورد ذلك في قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءَكُمْ( )، أي لم يجعل الله الذين يتبناهم الناس أبناءً بالنسب، والمقصود بالدعي – هنا - هو الذي يدّعي لنفسه موقع المسؤولية أو الإصلاح، وهو لا يملك الكفاءة والخبرة، أو يدّعي أنه يعمل للخير بينما هو يعمل للشر، فالإمام(ع) يقول: عندما تريدون التعامل مع أية قيادة، سواء كانت سياسية أو دينية، فعليكم أن تدرسوا واقع هذه القيادة، هل هي بالمستوى الذي تحمل عنوانه أم لا؟! لأن هؤلاء القادة إذا كانوا لا يملكون مستوى العنوان الذي يحملونه لحسابهم، فمن الطبيعي أن يضلّوكم باسم الهدى، وأن يمرضوكم باسم الصحة، وأن يهزموكم باسم الانتصار، لأن أية قيادة لا تملك عناصر القيادة أو الكفاءة والمسؤولية، فإنها ستقود الناس إلى الهاوية وتدخلهم في المتاهات.
تشويه الفطرة:
ويذكر الإمام(ع) بعض النتائج المترتبة على مثل هذا الإتباع والطاعة، فيقول: ((ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كَدَرَهم)) أي أنكم أيها الناس طيبون تشربون من الفطرة الصافية ومن الينابيع العذبة، ولكنكم عندما تخضعون للأدعياء الذين لا يملكون أصالة حركة الفطرة في الواقع، فإنكم عند ذلك ستأخذون من كَدَرهم -وهو الماء الموحل، وذلك كناية عن سوء الأخلاق- من خلال وسائل الضلال، أو مما يعيشونه من الفتن ومن العصبيات وما إلى ذلك.
((وخلطتم بصّحتكم مرضهم)) أي كنتم أصحّاء العقول والقلوب الصحيحة، وأصحاب السلوك المستقيم، فعندما خضعتم لهم أدخلتم المرض إلى دائرة الصحة التي أنتم عليها، فتحوّلت عقولكم إلى عقول مريضة، وقلوبكم إلى قلوب مريضة، وسلوككم إلى سلوك منحرف، ونحن نعرف أن الشخص إذا كان صحيحاً وتكاثرت عليه الأمراض والميكروبات، فإنه حتى وإن تعافى، فإن صحته سوف تبقى مختلطة بالمرض بحيث لا يقوى معها على الحياة بشكل سليم.
((وأدخلتم في حقكم الباطل))( ) لأنهم قدموا لكم الباطل بصورة الحق، حتى خُيِّل إليكم أنه الحق، فأدخلتموه في داخل حقكم، وبذلك تكونون قد مزجتم الحق بالباطل، وعندما يمزج الحق بالباطل تأتي الشبهات وتكثر المتاهات.
منهاج معرفة الحق:
وقد حدّد لنا الإمام علي(ع) البرنامج والمنهج الذي نعرف من خلاله الحق من الباطل، وذلك في نصّين:
الأول هو قوله: ((لا يعرف الحق بالرجال، ولكن يعرف الرجال بالحق))، فإذا لم يكن الشخص معصوماً، سواء كان عالماً أو قائداً أو شخصية اجتماعية تملك المسؤولية، فعليك أن لا تعتبر كل أفعاله وقراراته وخطواته هي الحق، بل إن عليك أوّلاً أن تدرس عناصر الحق ومفاصله وقاعدته، ثم تدرس الشخص على أساس ما أصّلته من الحق عندك ومدى انسجام حركته مع ذلك.
والنص الثاني قاله بعد انتهاء معركة (الجمل) بالبصرة، ومن المعلوم أن الجيش الذي حارب الإمام تجاوز عدده الألوف، فجاء أحد الأشخاص ممن لا يملك قاعدة فكرية، ولا ينظر إلى الأشياء من خلال العمق، فقال له أحدهم: ((أتراني أظن أن أصحاب الجمل على ضلالة وأنا على حق))، فكأن هذا الرجل يشكك في شرعية الحرب على أساس مبدأ الكثرة هناك والقلّة في جانب الإمام(ع)، فأجابه الإمام بقوله: ((يا حارث، إنك نظرت إلى تحتك ولم تنظر إلى فوقك فحرت)) أي أنك لم تنظر إلى القضية من خلال القاعدة الإسلامية، ولم تنظر إلى العناوين الكبرى التي على أساسها تمَّ خوض الحرب، بل نظرت إلى المسألة من خلال الكثرة لا من خلال الفكرة والنوعية، وعند ذلك حرتَ واختلطت عليك الأمور، ف((لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه))، فهل الميزان هوكثرة الناس؟ فالله تعالى يقول: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كَارِهُونَ( )، فالكثرة ليست ميزاناً للحق، فقد يكون الحق مع القلة والباطل مع الكثرة. نعم، لا نقول إن الحق لابد أن يكون مع القلة، بل نقول إن الإسلام لا يعتبر الكثرة ولا القلة ميزاناً للحق أو الباطل، بل إن للحق واقعاً معيّناً ولا بدّ للإنسان أن يدرس ماهية الأسس التي تحركت عليها الكثرة، فربما تتحرك الكثرة من خلال بعض الأطماع أو الغرائز أو العواطف أو الضغوط المختلفة، وما أكثر ما تحركت الكثرة في العالم الإسلامي على أساس الرهبة والرغبة، حتى لتجد الناس في بعض الحالات ينتقلون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس، فلا تجد فاصلاً كبيراً بين الهتافات وبين اللعنات في هذا المجال. ثم يقول علي(ع): ((اعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله)).
هذه هي كلمات الإمام علي(ع) التي تُمثِّل لنا برنامج الحياة. فلابد لنا، ونحن نعيش في عالم تتحرك فيه كل الأجهزة الإعلامية والسياسية والثقافية لتخلط على الناس الأمور وتدخلهم في المتاهات، أن ندرس كل ما ينتجه العالم، سواء على المستوى العلمي أو الثقافي أو التكنولوجي أو السياسي، وأنْ لا نسقط أمام مظاهر القوة، لأن القوة لا تعني أن الحقّ في جانب القويّ، وأن نقيس الأشياء بالعقل، ونتخذ المواقف على أساس الإيمان، ويبقى مستقبلنا في تطلعاتنا، حتى لا تزحف الحشرات والأفاعي السياسية والأمنية والاجتماعية والمتاجرة بالدين إليه، وما أكثرها! فإن المستقبل هو المصير، ولا مزاح بالمصير.
إن اللّه أعطانا عقولاً وأراد لنا أن نستعملها، وأن نبتعد بها عن كل تخلّف وخرافة، وأعطانا قلوباً وأرادها أن تنبض بالمحبة والخير، وأعطانا طاقةً وأراد لنا سلوكاً يتحرك مع العدل. وللحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء اللّه، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الخامسة2 ربيع الأول 1424 ه3 /5/2002م
علي(ع): التحذير من الأدعياء (2)
الأدعياء لا ينطلقون من قاعدة للقيم الروحية الإنسانية وإنما من قاعدة الفسق في حياتهم
إمام الحياة.
أساس الفسق.
من النظرية إلى التجربة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي(ع) في متابعاته للتحذير من الرموز الشرّيرة التي تستغل قدراتها السلطوية والمالية لإرباك المجتمع وتوجهه في الاتجاهات التي تثير الفتنة، والتي قد تنتهي به إلى الهلاك.
إمام الحياة
ونحن نقرأ كلمات الإمام علي(ع) في تصويره للنماذج التي عاشت في عصره، فإن الإمام علي(ع) هو إمام الحياة، ولذلك فإن علياً(ع) لا يُمثِّل مجرد شخصية في الماضي، وإنما يمثِّل الشخصية التي تتجاوز الماضي إلى الحاضر وتنفتح من خلاله على المستقبل. وهذا ما ينبغي للرساليين الذين يحملون رسالة الإسلام ويتحمَّلون مسؤولية الأمة في القضايا العامة، أن لا يستغرقوا في زوايا الحاضر ولا يعيشوا في كهوف الماضي، فالماضي هو بالنسبة للرساليين درسٌ وعبرة، والحاضر هو حركةٌ وحياة، والمستقبل هو تخطيط من أجل الأجيال القادمة المقبلة.
إنَّ الإمام علي(ع) كان متحركاً في أكثر من موقع، فلم يقتصر حديثه - في خطبه وكتبه وكلماته القصار وفي كلِّ مواقفه - على جانب واحد في الإسلام، بل كان يتطرق إلى كل جوانب الإسلام، الاجتماعي منها والثقافي وما إلى ذلك. فكان(ع) يدخل إلى عمق الإنسان لمعالجته، حتى لا تسيطر عليه الطحالب المتخلِّفة التي تحاول أن تزحف إلى العمق.
ولذلك علينا أن نفهم علياً(ع)، لأننا إذا فهمناه، فهمنا الإسلام وفهمنا الحياة، وفهمنا أنفسنا، ولكن مشكلتنا هي أننا لم نفهم علياً، سواءً في (نهج بلاغته) أو في كل امتداد سيرته وفي كل الآفاق التي كان يحلِّق فيها من خلال اللّه سبحانه وتعالى على الإنسان، فإن علياً(ع) لا يزال يُظلَم فينا كما ظُلِم في الناس الذين عاشوا معه ولم يستفيدوا منه.
وهذا ما يدعونا إلى أن نكمل ما بدأه الإمام علي(ع) في وصفه للأدعياء وللنتائج التي يحرِّكونها في واقع الناس فيتبعونهم.
أساس الفسق
يقول الإمام(ع) واصفاً الأدعياء: ((وهم أساس الفسوق)) الذين لا يملكون قاعدة للقيم الروحية الإنسانية، فلم ينفتحوا على آفاق معرفة اللّه سبحانه وتعالى، ولم يخشعوا له ويخافوا منه، ولم يرغبوا إليه، بل استسلموا لشهواتهم وأطماعهم وانحرافاتهم الفكرية والعملية، ولذلك فقد أسسوا للفسق قاعدةً في حياتهم، وقادوا الناس إلى الفسق، سواء كان ذلك الفسق متلبساً بمسميات ثقافية أو اجتماعية وما إلى ذلك. وهذا ما نلاحظه مع كل الأدعياء في العالم، سواء كانوا ممن ينتسبون إلى الإسلام أو إلى غيره من التيارات الأخرى التي تريد أن تُبعِد الناس عن الإسلام. فهؤلاء هم أساس الفسوق، ولذلك علينا أن نحذر منهم، لأن هناك من يأخذ بالفسوق كحالة طارئةٍ، ولكن هناك – أيضاً - من يتبنى الفسوق كقاعدة يرتكز عليها في كلِّ كلماته وأوضاعه وأفعاله ومواقفه. ونحن نعرف أن من يتخذ الفسوق أساساً لحياته وكل نشاطاته، فإنه صاحب مشروع يعمل على هدم أساس الحق والخير في جميع مواقعه.
((وأحلاس العقوق)) والأحلاس هي جمع حلس، وهو عبارة عن كساء رقيق يوضع على ظهر البعير أو تحت سرج الفرس ليكون ملازماً له. ولذلك استعيرت كلمة (الحلس) لكل شيء ملازم لشيء آخر. ولذلك يقولون فلان يجلس حلس بيته، ويعني أنه ملازم لبيته. فأحلاس العقوق يعني الملازمون للعقوق، لأنهم لا يأخذون لمعنى الوفاء أو الرحمة. فهم يسيئون لمن أحسن إليهم، ويحاربون من كان سلماً لهم، ويكفرون بنعم الله عليهم في كل وجودهم فيعصونه ويتمردون على الله في جميع مفرداته، ما يجعل من ذلك عقوقاً لله في إحسانه إليهم. لذلك فهم العاقّون الذين التزموا العقوق خطاً لهم في حياتهم. ولكن كيف للإنسان أن يثق بالشخص العاقّ الذي لا يعرف إلاّ الانحراف والحقد والبغضاء ولا يعترف بالجميل؟!
((اتخذهم إبليس مطايا ضلال)) ويرجع الإمام علي(ع) هنا للحديث عن جنود الشيطان، فيقول إن إبليس جعلهم آلةً تدفع بالناس إلى الضلال مثلهم مثل المطايا التي تتحرك نحو الهاوية وتتجه بالناس نحو الضلال، وذلك من باب الكناية، لأن الإنسان لا يسير وراء المطايا التي تؤدي به إلى الضياع والهلاك أو المتاهات.
((وجُنداً بهم يصول على الناس)) يعني بذلك استغلال إبليس لقوّتهم المالية والسلطوية والعددية، بحيث يوظّفها ليجعل منهم قادةً يعملون على أساس أن يعتدوا على الناس ويُخضعونهم مثلما يريدون. ((وتراجمةً ينطق على ألسنتهم)) أي أن إبليس جعل الناس جنوده، وذلك بأن يوسوس إليهم ويزيِّن إليهم القبيح ويوحي لهم من خلال هواجسهم إلى الضلال، لأنه من المخلوقات الخفيّة التي لا نواجهها، ولكنه وجد أناساً يترجمون أفكاره وخططه مّما يريد للناس أن يتحركوا فيه بخدعه وأمانيه وحبائله وما إلى ذلك. فهؤلاء تراجمة إبليس، بحيث إنهم يتحدثون بمنطق إبليس ويترجمون ما يريده من إضلال الناس. ((استراقاً لعقولكم ودُخُولاً في عيونكم)) يعني أن دور هؤلاء الناس الذين ينطقون بلسان إبليس يتعلق بعدة جوانب، فهم ينفذون إلى عقول الناس ويخترقونها نيابةً عن إبليس، حتى تكون عقولهم خاضعةً للخطوط الشيطانية، ويحاولون تغيير طبيعة الصورة، حتى تكون نظرة الناس للأشياء ببصر إبليس الذي يضيف للصورة ضباباً وظلاماً حتى لا يرى الناس صورة الأشياء على حقيقتها. ((ونفثاً في أسماعكم)) ليدخل في أسماعكم، لتتحرك من بعد استقرارها فيها لتنقلها إلى العقول ليحدث الضلال البعيد. ((فجعلكم مرمى نبله)) بمعنى أنه جعلكم هدفاً له. فإن إبليس جعل من بعض الناس مرمى لهدفه لا ليقتلهم جسدياً، بل روحياً وأخلاقياً، وليبعدهم عن اللّه سبحانه وتعالى. ((وموطئ قدمه)) لتسيروا حيث سار إبليس. ((ومقبض يده)) كنايةً عن سيطرته عليهم.
من النظرية إلى التجربة:
((فاعتبروا)) فالإمام علي(ع) يضع أمام الناس صورة إبليس التي يطلبها الأدعياء منهم، وكأنه يقول لهم إني كما أحدثكم عن الفكرة، فإني أحدثكم عن التجربة أيضاً، لأن الإنسان كما يحتاج إلى أن يستوحي الفكرةً، فإنه يحتاج إلى أن يستوحي التجربة أيضاً من خلال الواقع. وقد ذكرنا أكثر من مرة في ندوات سابقة، أن قيمة الإسلام تكمن في إشارته إلى أن للمعرفة مصدرين ينطلق منهما، أولهما: التأمّل الذي ينطلق من خلال العقل والتجربة. وثانيهما: التجربة التي تنطلق من خلال رفض الواقع. ((ما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم)) ادرسوا الواقع وخطوات الاستكبار في التاريخ، ادرسوا تاريخ الأمم والشعوب التي سيطر الشيطان على مقدّراتها وأخضع الناس فيها لأضاليله.
ومن خلال دراسة التاريخ، علينا أن لا نستغرق في الماضي لننفصل عن الحاضر، بل علينا أن نأخذ الدروس والعبر لنبني الحاضر. وهذا ما نفهمه من الآية الكريمة في سورة (يوسف): لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ( )، وهو أن نأخذ من التاريخ درساً للمستقبل في حياتنا، ثم نترك التاريخ لمن عاش فيه بعد ذلك، ولكن مع الأسف، فإننا كشعوب شرقية نستغرق في التاريخ وننسى المستقبل، ولذلك لا نستطيع أن نتعامل معّ قضايانا الحيوية المصيرية بطريقة موضوعية حضارية مسؤولة من أجل حل المشاكل الصعبة والتخطيط لبناء تاريخ جديد في حركة الإنسان في المستقبل.. وهكذا يخطط لنا الله سبحانه في القرآن الكريم القاعدة العامة للمسار الإنساني في علاقته بالماضي والحاضر والمستقبل، كما قال اللّه سبحانه وتعالى في محكم كتابه: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ). نعم، عليكم أن تأخذوا العبر من أولئك الناس الذين عاشوا في التاريخ واستمروا في حياتكم ومستقبلكم، لأنكم مسؤولون عن الحاضر والمستقبل وليس عن الماضي، ولكن نرى أن خلافاتنا في هذا المذهب الإسلامي أو ذاك المذهب كلها لجهة خلافات التاريخ، فليكن التاريخ لنا درساً وليس حياةً، كما أراد اللّه سبحانه وتعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. إنّهم صنعوا تاريخهم وهم يتحملون مسؤوليته، وعليكم أن تتجنبوا ما صنعه الآخرون، وحاولوا أن تصنعوا تاريخاً ناجحاً. وقد نحتاج إلى أجيال لنتخلص من هذه الذهنية المتخلِّفة التي سيطرت على حياتنا.
((من بأس اللّه وصولاته)) فقد عاقب اللّه المستكبرين، وقد ورد في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ( ). فعندما نقرأ في القرآن الكريم قصة (فرعون)، فإن ذلك يعني أن نجعل من فرعون نموذجاً لكل الفراعنة، وعندما نقرأ عن (عاد) و(ثمود)، فيعني أنهما نموذجان لكل من يشابههم في الحاضر، فإن فرعون انتهى وغرق بعد أن كان يقول أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى وكذلك لم يبقَ من قلاع عاد وحصن ثمود شيء، فقد انتهت كلها، فعلينا أن لا نخضع لأكثر من فرعون سياسي وأمني واقتصادي. ففرعون نموذج، ولذلك أشار إليه القرآن: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ( ). أن نتذكر فرعون كنموذج لكل حاكم ظالم يجسده، باعتبار أن اللّه سبحانه وتعالى مثلاً قد جعل هؤلاء مثلاً للآخرين من الأمم اللاحقة.
((واتعظوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم)) أي اعتبروا وانظروا إلى قبور أولئك الذين مضوا، وقد قيل (من كان لا يطأ التراب بنعله وطأ التراب بصفحة الخدّ). ((واستعيذوا باللّه من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر)) لأن الكِبر والاستكبار يدمر كيان الإنسان الروحي والفكري، ويدفع به للتعرض لغضب اللّه سبحانه وتعالى.
((فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده)) وهنا يركز الإمام علي(ع) على إدانة الكبر، وهو مرفوض جملةً وتفصيلاً، ولو قبل سبحانه الكبر لأحد ((لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه))( ). وهذا حديث آخر سنعرض له إن شاء اللّه في الندوة اللاحقة، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السادسة9 ربيع الأول 1424 ه10 /5/2003م
التكبّر . خلقٌ شيطانيّ
لو كان للكبر قيمة أخلاقية يرضاها الله ويرتفع بها الإنسان لفرضها الله للأنبياء(ع)
الكبر والتواضع.
تأصيل المفاهيم الإسلامية.
بين موسى(ع) وفرعون.
الأولوية للرسالة لا للقوة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع أمير المؤمنين علي(ع) في الحديث عمّا أسقط الشيطان ووصل من خلاله إلى الدرك الأسفل. وللإمام علي(ع) عدّة أساليب يحاول فيها أن يعطينا الفكرة والمنهج الذي نسير عليه.
الكِبر والتواضع
من بين الأمور التي عالجها الإمام(ع) في هذه الخطبة موضوع الكِبر، وأنّه لو كان للكبر قيمة أخلاقية يرضاها اللّه ويرتفع بها الإنسان لفرضها اللّه للأنبياء(ع)، لأنَّ الأنبياء(ع) هم القمّة في واقع الإنسان، وهم وحدهم الذين اصطفاهم اللّه سبحانه وتعالى ليحملوا الرسالة ويبلّغوها للناس. وبتعبير آخر: إن للأنبياء دورين في مواقعهم: أحدهما دور الدعوة والتبليغ، وثانيهما: دور القدوة، فمن الطبيعي عندئذٍ أن يأخذ الأنبياء(ع) بكل صفات الكمال، فقال(ع): ((فلو رَخّص اللّه في الكِبَر لأحد من عباده لرخَّص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه)) لأنهم المقرَّبون إليه، ولأنهم حاملو القيم التي أراد اللّه للناس أن يأخذوا بها، فلو كان في ذلك رخصة، لكانت رخصته سبحانه وتعالى لهذا النموذج ولهؤلاء الذين ارتضاهم لرسالته، ((ولكنه سبحانه وتعالى كرَّه إليهم التكابر ورضي لهم التواضع)) فلم يرضَ لأنبيائه أن يتكبروا على الناس، بل أمرهم بالتواضع وخفض الجناح، وأن يكونوا مع الناس كما لو كانوا أحدهم، وأن لا يعتبروا موقع النبوة المميز وسيلةً من وسائل تضخّم الشخصية والاستعلاء على الناس، بل أراد اللّه سبحانه وتعالى منهم أن يؤكدوا موقعهم في تواضعهم، حتى ينفتحوا من خلال إنسانيتهم على إنسانية الناس، لأن الإنسان عندما يعيش مع الإنسان الآخر من موقع إنسانيته يمكنه أن يجذبه إلى عقله وقلبه وإلى حياته ((فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفَّروا في التراب وجوههم)) تعبيراً عن تواضعهم للّه في حالة السجود، وأعطوا للناس مثال التواضع، حيث يلصقون خدودهم بالأرض أمام الله، وإعلاناً بأنهم يعيشون هذا المستوى من الإحساس بتواضعهم عند أنفسهم، ((وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين)) وخفض الجناح كناية عن التواضع، وقد خاطب تعالى رسوله الكريم للتأكيد على القيمة الكبرى في هذه الآية: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ( )، وفي آية أخرى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ( )، والمعنى أن يتواضع المؤمنون لبعضهم البعض. وهذا ما كان قد عاشه المؤمنون مع النبي(ص) أو الولي، حيث إنهم عاشوا معه بشكل طبيعي، يتكلمون معه كما يتكلمون مع بعضهم البعض، ويسألونه عن أي شيء فيجيبهم، وقد يناقشونه في بعض الأشياء فلا ينهرهم لما يناقشونه. وهذا ما وجدناه في سيرة الأئمة(ع) التي انطلقت من سيرة النبي(ص)، حيث كانوا يستقبلون الناس من كلِّ حدب وصوب، يجيبونهم على أسئلتهم مهما كانت محرجة أو تافهة، ولم يعتبروا أنفسهم أكبر من أن يناقَشوا - وإن كانوا يمثلون الحقيقة كل الحقيقة - لأن الأنبياء(ع) والأولياء يرون أنفسهم معنيّين من خلال رسالتهم بأن يجيبوا عن كلِّ علامات الاستفهام التي ترتسم في عقول الناس. ولذلك نقول: لستَ حراً في أن لا تجيب على سؤال تملك جوابه، ولستَ حراً في أن تمتنع عن تعليم أحد ما يجهله، وتلك هي مسؤولية الأئمة(ع)، وهي مسؤولية الفقيه والعالم والمؤلف وما إلى ذلك، وقد ورد ((ما أخذ اللّه على الجهّال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلِّموا))( ).
ويتابع علي(ع): ((وكانوا أقواماً مستضعفين))، فعندما ندرس تاريخ الأنبياء(ع)، منذ آدم(ع) حتى نبينا محمد(ص)، فإننا نجد أنهم كانوا في أدنى درجة من الفقر، حتى نقل أن النبي(ص) ـ وهو يشارك المسلمين في حفر الخندق في واقعة (الأحزاب) ـ كان يربط حجر المجاعة على بطنه ليمنع الجوع، ((قد اختبرهم اللّه بالمخمصة)) أي بالمجاعة كما يجوع الناس من حولهم، ((وابتلاهم بالمجهدة)) أي بالمشقة، فكان الأنبياء(ع) يتحمَّلون المشقة في دعوتهم وفي مواجهتهم للاضطهاد، حتى قال النبي(ص): ((ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت))( )، ونحن نقرأ في مناجاته للّه سبحانه وتعالى بعد أن أدمى أهل الطائف رجليه: ((أعوذ بنور وجهك أن تنـزل بي غضبك أو تحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي))( ).
((وامتحنهم بالمخاوف)) فكانوا يعيشون الكثير من حالات الخوف نتيجة كل ما قام به الكافرون والمشركون في محاصرتهم وتهديدهم والضغط عليهم. ((ومخضهم بالمكاره)) ليظهر أصالتهم وصفاء شخصيتهم.
تأصيل المفاهيم الإسلامية:
ثم يعالج الإمام علي(ع) مفهوماً خاطئاً، وذلك أن كثيراً من الناس قد يرون الإنسان الذي رزقه اللّه مالاً أو أولاداً أو موقعاً من مواقع القوة أو الخير، ويعتبرون ذلك دليلاً على رضا اللّه، أو كما يُقال في المثل الشعبي (أن فلاناً أمه دعت له في ليلة القدر). يقول(ع): ((فلا تعتبروا الرضا والسخط)) بما يعطيه الله تعالى أو يمنعه ((بالمال والولد جهلاً بمواقع الفتنة والاختبار في موضع الغنى والاقتدار))، يعني أن اللّه سبحانه وتعالى جعل الغِنى ـ لمن يملك الغنى ـ والفقر ـ لمن يقع تحت مشكلة الفقر ـ اختباراً للإنسان، هل يشكر أم يكفر؟ لقوله تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ( )، كلا فليس هذا إهانة، وليس ذاك كرامة، ولكنه اختبار للإنسان، فهل يكون موقفه الشكر للّه فيما هو عليه من حالته بقضاء اللّه فيصبر على بلاء اللّه، أم لا؟
وعلي(ع) تلميذ القرآن، لأنه عاش القرآن كله مع الرسول(ص)، فكان الشخص الوحيد الذي ناجاه الرسول(ص) بالقرآن، فتحدث له عن آفاق آياته وامتداداتها وحركيتها وما إلى ذلك.
ولذلك فعندما نقرأ (نهج البلاغة)، فإننا نرى فيه تفسيراً للقرآن من خلال تأصيل المفاهيم الإسلامية، وإن لم يكن ذلك بعنوان الشرح والتفسير، فترى أن القرآن ينفتح في كل كلمة من كلمات عليّ(ع)، وتشعر أنه يتحدث عن القرآن حتى لو لم يذكر آية من آياته تحديداً، وقد ذكّر(ع) - هنا - بقوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ( )، فيعتقدون أن ما أنعم الله عليهم من الخيرات هو رضا منه عليهم، ولكنّ ذلك العطاء هو امتحان واختبار، وربما يسقطون فيه، وقد قال اللّه تعالى:أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ( )؛ ((فإن اللّه سبحانه وتعالى يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم)) عندما يملكون بعض مواقع الاستكبار في أنفسهم، ((بأوليائه المستضعفين في أعينهم)) أي عندما يكون المجتمع فيه مستكبرون ومستضعفون، فإن اللّه يختبر المستكبرين بالمستضعفين: هل يحترمون هؤلاء الناس الفقراء في قوتهم وفي مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية، أم أنهم يحتقرونهم ويضطهدونهم؟ هل يعتبرون ما يملكونه من مواقع القوة يؤهلهم لأن يكونوا فوق الناس، وهل يعتبرون أن المال يرفع من مكانة الشخص أم لا؟ فالمال لا يعطي الإنسانية في داخل الإنسان أيّ بُعد، كما أن عدم وجوده لا يسقط شخصاً، لأن قضية الإنسانية تنطلق من عمق أصالة الإنسان ولا تأتي من الأمور الطارئة هنا وهناك.
بين موسى(ع) وفرعون:
وبعد أن أثار الإمام الفكرة في الخط العام، أراد أن يعطينا مثلاً تاريخياً في نموذج بعض الأنبياء(ع) الذين كانوا في موقع الاستضعاف مقارنةً بفرعون الذي هو في موقع الاستكبار، فيقول(ع): ((ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون -عليهما السلام -على فرعون وعليهما مدارع الصوف)) صوف الأغنام، مثلَ كثير من الفقراء الذين لا يملكون الثياب المزيّنة والمزركشة، ((وبأيديهما العصيّ، فشرطا له إن أسلم بقاء مُلكه ودوام عزه))، أي إن أسلم فسيبقى ملكه ويدوم عزّه، وإلا فإن ملكه إلى زوال.
تصوّر شخصين مستضعفين - مثل الدراويش كما نعبّر في زماننا - يأتيان إلى فرعون الذي كان يقول (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) فيقولان له أسلم تسلم، ((فقال: ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز ودوام المُلك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلاّ ألقي عليهما أساورة من ذهب))، لأن الذهب بنظر المستكبرين يمثِّل قيمة كبيرة بينما لا يمثِّل الصوف بنظرهم شيئاً.
إن اللّه سبحانه وتعالى يقدّم لنا ذلك النموذج ليكون منطق موسى وهارون المستضعفين هو الذي يسقط كبرياء فرعون، لأنهما عندما يقولان لفرعون أسلم تسلم، فيعني أنهما جاءا من منطق القوة ووثوق بالنفس والموقع، وكأنهما يحتقران كبرياء فرعون ويقولان له إن مُلكك إلى زوال.
الأولوية للرسالة لا للقوة:
ثم يستوحي الإمام(ع) من هذه الفكرة، أن اللّه سبحانه وتعالى عندما أرسل الأنبياء(ع) بالرسالة،لم يرسلهم ومعهم كل ما يرغب الناس فيه، فلم يأتِ الأنبياء(ع) للناس مستعرضين لعضلات القوة، أو حاملين للسلاح الفتّاك، أو جاءوا ومعهم الأموال والسلطة، بل أتوا بالرسالة وحدها، مثلما جاء بها موسى وهارون o، والسبب في ذلك أنّه لو أرسل اللّه سبحانه وتعالى الأنبياء(ع) بمواقع القوة، فإن الناس سوف تتبع القوة ولا تتبع الرسالة، في وقت يجب فيه أن تُقدّم الرسالة من خلال عناصرها الداخلية التي ترتبط بإنسانية الإنسان ومستقبله من دون أية مرغبات ومشوِّقات مادية، حتى يتميز الإنسان المؤمن من غير المؤمن.
ويؤخذ من هذه الفكرة أن الناس يعتبرون المعيار في الاتِّباع هو المال والسلطة، فمن لا يملك المال ـ وإن كان يملك الثقافة والحركية والانفتاح على قضايا المصير ـ لا يرون له أهلية القيادة والاتباع، وهذه ظاهرة عامة ـ وإن لم تكن شاملة ـ، وعلى هذا الأساس، فلا يكون ارتباط الناس بالرسالة من خلال الاقتناع والإيمان، بل من جهة أن الرسالة تجرّهم إلى أقراصهم، أي بما تحقق لهم من مكاسب.
يقول علي(ع): ((ولو أراد اللّه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان)) جمع الذهب، ((ومعادن العقيان)) الذهب الخالص، ((ومغارس الجنان)) أي البساتين، ((وأن يحشر معهم طيور السماء)) تسير معهم، ((ووحوش الأرضين لفعل))، لأن الذي خلق الكون قادر أن يمنحه لأيٍ من الناس، ((ولو فعل لسقط البلاء))، أي لا يوجد حينئذٍ داعٍ للاختبار، ((وبطل الجزاء)) فالجزاء إنما هو على العمل الذي يعمله الإنسان بقناعته وجهده وإيمانه، ((واضمحلَّت الأنباء)) أي تلاشت الأخبار، وهو كناية عن الوعد والوعيد.
((ولما وجب للقابلين أجور المبتلين)) يعني أن الناس الذين يقبلون الأنبياء نتيجة مواقع القوّة عندهم، سواءً القوة المالية أو العسكرية، لا أجر لهم على اختبارهم وابتلائهم، لأنهم انطلقوا من خلال رغباتهم وحالات الإغراء، بينما انطلق الآخرون من موقع الإيمان والإقناع، ((ولا استحقَّ المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها)) فلا تعبر كلمة المؤمن عن الواقع، لأن كلمة المؤمن تنطلق من خلال ما يعيشه الإنسان من الإيمان في عقله وقلبه وفي كل حياته، ((ولكنَّ اللّه سبحانه جعل رسله أُولي قوة في عزائمهم))، العزيمة القوية التي تجعل الرسول يعيش الصلابة في موقعه، والشجاعة في موقفه، وتجعله ينفتح على مسؤولياته بكل قوة، ((وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم)) يعني الضعف الجسدي والمال والسلطة ((مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً))، لأن هذه القناعة الروحية والفكرية هي التي تعطي لطاقة الإنسان قوة إضافية، ((وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى)) من خلال الفقر الذي كانوا يعيشونه ويعيشون الأذى فيه. ((ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا تُرام، وعزة لا تُضام)) لا يعتدي عليها أحد، ((وملك تُمَدُّ نحوه أعناق الرجال وتُشدُّ إليها عُقَدُ الرحال)) فيقصده الناس للحصول على الغنائم، ((لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم في الاستكبار)) فعندها لن يكون عندهم مشكلة في السير إلى الذين يملكون تلبية هذه الحاجات، وفي عناصر ضعفهم أيضاً التي تشدهم إلى القوة في ذلك.
((ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّات مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكنَّ اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يكون الاتباع لرسله، والتصديق بكتبه، والخشوع لوجهه، والاستكانة لأمره، والاستسلام لطاعته أموراً له خاصة))، فاللّه سبحانه يريد أن لا يكون سواه في ما يؤمن به العقل وينبض به القلب، وفي ما تتحرك فيه الأعمال والأقوال، وأن لا يكون هناك أي شيء خارج عن الانفتاح لله والإخلاص له، ((وكلما كانت البلوى و الاختبار أعظم)) والتجربة أقسى ((كانت المثوبة والجزاء أجزل))( )، لأن أفضل الأعمال أكثرها جهداً ومشقةً.
ويبقى لحديث الإمام علي(ع) الكثير فما يفتح العقل والقلب والحياة.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السابعة15 ربيع الأول 1424 ه17 /5/2003م
علي(ع): الإيمانُ عملٌ
على الإنسان أن يواجه التزاماته الفكرية والعقائدية من موقع مسؤوليته العملية
لذة العمل.
واد غير ذي زرع.
المثوبة والعمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في معالجته للفكرة التي أشرنا إليها في ما تقدَّم من حديث، وهي أن اللّه سبحانه وتعالى قد ابتلى عباده في مسألة الإيمان والطاعة، بأن جعلهما في دائرة الجُهد لا الراحة، فأراد للأنبياء(ع) أن يبرزوا للناس دونما مظهر من مظاهر القوة، إلا قوَّة العقل والروح والاستقامة في خط الإيمان.
لذّة العمل
وفي الفقرات التالية، يتطرّق الإمام علي(ع) للحديث عن البيت الحرام ، وكيف أن اللّه سبحانه وتعالى جعله في أكثر الأماكن صعوبةً على حدِّ تعبير سيدنا إبراهيم(ع)، عندما دعا ربّه ـ كما ورد في القرآن الكريم ـ: إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ( )، بمعنى أنه لم تتوفر في ذلك الوادي أية شروط للحياة، ولذا دعا إبراهيم(ع) ربّه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ لكي يكملوا مسيرة الحياة ويبنوا مجتمعاً، فكأن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يختبر عباده بطاعته من موقع الجُهد والمشقَّة.
ولعل الجانب الإيجابي في ذلك هو أنَّ الإنسان عندما ينطلق نحو القيام بالمسؤولية من موقع الجُهد الذي يتحمّله، فإنه يرتبط بهذه المسؤولية ويخرج بنتائج روحية إيمانية أكثر مما لو كانت المسؤولية تتمثّل في مواقع الاسترخاء والراحة. ولعلَّ الإنسان يعرف ذلك من نفسه، فعندما يقوم بعمل يفرض عليه الكثير من الجهد، فإن النتائج التي يحصل عليها من خلال كل مفاعيل هذا العمل في نفسه أكثر مما لو اختصر العمل بوسائل تتّصف بالسهولة. وهذا ما يوحي بأن على الإنسان أن يواجه التزاماته الفكرية والعقائدية من موقع الإنسان الذي يؤكّد مسؤوليته في ذلك بكل جهده وطاقته، لتتعمق المسؤولية بمفرداتها في عقله وقلبه ووجدانه، وكأن المسؤولية تتحوّل إلى تجسيد في وجوده، وبذلك يمثِّل الجهد الذي يبذله الإنسان عملية تدريبية يواجه من خلالها المصاعب ليكون في مستوى المسؤولية، وليحقِّق من خلالها كلَّ عناصر القوة في إنسانيته.
يقول أمير المؤمنين علي(ع) وهو يصوّر هذه اللفتة الإسلامية:
((ألا ترون أن اللّه سبحانه اختبر الأوَّلين من لدن آدم صلوات اللّه عليه إلى الآخرين من هذا العالم أحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع)) وليس فيها أية نبضة من الحياة، ((فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً)) أي عماداً للناس، يُقال مثلاً: (فلان قيام أهله) أي أنه عماد أهله لاعتمادهم عليه. فاللّه سبحانه وتعالى قدَّم بيته على أساس أنه مؤلف من أحجار صماء لا تختلف عن بقية الأحجار الأخرى من قريب أو بعيد، ولكنها اعتبرت رمزاً للإيمان ودليلاً عليه، وموضع اختبار الناس على ذلك، فجعله عماداً للناس يستوحون إيمانهم منه، كما في حالة الطواف حوله، وينفتحون على كل مسؤولياتهم التي يفرضها عليهم هذا الإيمان.
واد غير ذي زرع:
ثم يتابع الإمام علي(ع) فيقول: ((ثم وضعه في أوعر بقاع الأرض حجراً)) يعني أصعب بقاع الأرض في المسلك والمقام، والذاهب إلى الحج يعرف مدلول هذه المعاني، ((وأقلّ نتائق الدنيا مدراً)) وكلمة (نتائق) ربما تعدُّ غريبة على السمع الآن ولم نعد نستعملها، وهي مأخوذة من قولهم (امرأة منتاق) وهي المرأة كثيرة الحمل والولادة، يعني كثيرة الإنتاج، ويُقال ضيعة منتاق يعني كثيرة الريع. وقد أراد الإمام علي(ع) أن يبيِّن أن مكان البيت، وهو مكة، أقل بقاع الأرض صلاحاً للزراعة والإنتاج، فأرضها حجرية ولا يمكن أن تعطي للحياة شيئاً من الزرع وما إلى ذلك، ((وأضيق بطون الأودية قُطراً)) أي ضيقة الجوانب، ((بين جبالٍ خشنة ورمال دمثة)) يعني بين خشونة الجبال والرمال السهلة، والرمال قد تكون على قسمين، فمنها اللينة بحيث إذا وضعت القدم فيها فإنها تغرس في الأرض، ورمال فيها شيء من الخشونة والصلابة. أما الرمال السهلة فهي التي لا يستقرُّ فيها الزرع، ((وعيون وشلة)) والوشل هو الماء القليل، فالعيون الموجودة في مكة ليس فيها الماء الكثير، ((وقرى منقطعة)) يعني لا رابط بينها، ((ولا يزكو بها خف)) بمعنى لا ينمو ويكثر، والخف كناية عن الإبل، ((ولا حافر)) يعني الخيل والحمير، ((ولا ظلف)) والظلف هو الشاة؛ لأن الثروة الحيوانية تعتمد على العشب وتنمو من خلال المراعي، فإذا لم يكن في الأرض مرعى، فكيف يتسنى لها النمو؟!.
((ثم أمر آدم(ع) وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه)) يعني أن يقصدوه، وهذا الكلام من أمير المؤمنين(ع) فيه إشارة إلى أن الناس منذ آدم(ع) حتى يومنا هذا عرفوا البيت الحرام، وقد ذكرت أحاديث لدى السُنَّة والشيعة تدلُّ على أن اللّه عرَّف آدم من خلال جبرائيل بالبيت الحرام وقيل إنه كان يحجَّ إليه. نعم أخذ البيتُ صورته وموقعه وبنيانه منذ زمن إبراهيم الخليل(ع)، وربما نستفيد من بعض الآيات القرآنية أن إبراهيم(ع) لم يؤسس هذا البيت من فراغ، كما في الآية السابقة: ربّنا إنّي أسكنتُ من ذرّيّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم. وعلى كل حال، فهو بيت اللّه الحرام الذي أراد لإبراهيم(ع) أن يؤذن في الناس بالحج إليه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ( )، ((فصار)) البيت الحرام ((مثابةً لمنتجع أسفارهم)) والنجع هو طلب الكلأ، وصار كناية عن كل من قصد أمراً يروم النفع منه، فيقال المنتجع لكل أمر يقصد منه تحصيل المنفعة.
((وغاية لملقى رحالهم)) هو الغاية والهدف الذي يُلقون عنده رحالهم، ((تهوى إليه ثمار الأفئدة)) وثمرة الفؤاد تعني السويداء، وهي متشوّقة إليه، ((من مفاوز قفار سحيقة)) والمقصود بالمفاوز الفلوات السحيقة التي لا ماء فيها والبعيدة، حيث إن الناس عندما تأتي إلى مكة تقطع الصحارى والقفار، ((ومهاوي فجاجٍ عميقة)) والفجّ هو الطريق بين جبلين، وفي طريق الناس إلى مكة تحجزهم الجبال فيسيرون على الطريق بين جبلين، ((وجزائر بحارٍ منقطعة)) وربما يأتي بعض الناس مكة من طريق البحر، ((حتى يهزوا مناكبهم ذُلُلاً)) بمعنى أن الشوق يحركهم للوصول إلى الهدف، فيكونون ذللاً، أي في حالة خضوع، ((يهللون للّه حوله)) أي يرفعون أصواتهم بالتهليل، وهو قول (لا إله إلا اللّه)، ((ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً)) أيْ يمشون مسرعين قليلاً، حيث إن الرَمَل هو ضربٌ من السير فوق المشي ودون الجري، وباعتبار أنهم لم ينظّموا شعورهم أو يغتسلوا، فيبدون مغبّرين بسبب غبار الصحراء والمشقّة، ((قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم)) وهو كناية عن نزع الثياب والاقتصار على ملابس الإحرام، ((وشوهَّوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم)) حيث يظهر الإنسان في صورة غير جميلة حينما يترك شعره دون تسريح، ((ابتلاءً عظيماً وامتحاناً شديداً واختباراً مبينًاً))، حيث يشير الإمام إلى الأخطار والمشقة التي يسبّبها المسير إلى بيت الله الحرام، وذلك من أجل النتيجة التي أشار إليها(ع) بقوله: ((وتمحيصاً بليغاً جعله اللّه سبباً لرحمته ووصلةً إلى جنته))، إذ قال اللّه للناس إنكم إذا أردتم الحصول على الرحمة والوصول إلى الجنة، فإن عليكم تحمّل كل هذه المشاق التي يفرضها المسير إلى بيت اللّه الحرام.
المثوبة والعمل:
ثم أراد الإمام علي(ع) أن يُبيِّن الجانب الثاني لتلك المشاق في الحج، فقال:
((ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام)) والمشاعر هي المناسك، ((بين جنّات وأنهار وسهل وقرار جم الأشجار داني الثمار)) حيث يستطيع الإنسان أن يقطف الثمار دون جهد من الأشجار، ((وأرياف محدقة)) والريف هو ما يشتمل على مجال واسع من الأرض الخصبة، والمحدقة يعني المحيطة، ((وعراصٍ مغدقة)) أيْ ساحات غزيرة الينابيع وفيض الماء، ((ورياض ناضرة وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء)). فالتجربة التي يمارسها الإنسان بغير مشقة لا يستحق عليها ثواباً كبيراً، لأنّ بإمكان إيّ إنسان أن يمارسها، ولا شك - عند العقلاء - أن الإنسان الذي يقوم بتضحية وجهد أكبر يكون ثوابه أكبر.
وربما يقول بعض المعلقين على (نهج البلاغة) إن ذلك كان قديماً حيث الذهاب إلى الحج على الإبل وحيث صعوبة التنقل، أما الآن فتوجد الطائرات والسيارات، فلا صعوبة، ولكن القضية أنه إذا كان الطريق للوصول إلى مكة سهلاً الآن، فإن ظروف الحج لا تخلو من صعوبة كبيرة من حيث الطواف والسعي وفي عرفات ومنى، فهناك المشقة البالغة من نواحٍ عديدة. فقد تخف المشقة في جانب، ولكنها تبقى في جوانب أخرى.
((ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها)) إشارةً إلى أسس الكعبة ((بين زمّردة خضراء وياقوتة حمراء ونور وضياء، لخفَّف ذلك مُصارعة الشك في الصدور))، فيندفع الإنسان في تلك الحالة دونما عناء، ولا يعيش وساوس الشيطان التي تأتيه، فلا يكون لديه حالة صراع مع النفس، ((ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب)) لأنه لا يوجد هناك أي جهد يستغله الشيطان في إبعاد الإنسان عن القيام بمسؤوليته، ((ولنفى معتلج الريب من الناس)) فلا يجد إبليس أية فرصة هناك لإدخال الشكّ في نفس الإنسان، ((ولكن اللّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم)) وهذا هو الموضع الأساسي، فإن اللّه سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يعيش المشقَّة والجهد وحالات التعب، حتى تضعف عنده حالات العنفوان والتكبر؛ لأن الإنسان يعيش حالة التكبر على الآخرين عندما يشعر بالاسترخاء والراحة والغنى، ولكن عندما يكون هو والفقير على حالة سواء في الحج، فقد تختلف المسألة ((وإسكاناً للتذلل في نفوسهم)) فإن الإنسان كلما تعب أكثر كلما عاش التذلل في نفسه أكثر، ((وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله)) من خلال ما يقومون به من جهد قربةً إلى اللّه وامتثالاً لأمره، ((وأسباباً ذللاً لعفوه))( ) يعني بالأسلوب الذي يعيش فيه الإنسان تذللاً للّه سبحانه وتعالى.
هذه إحدى الجوانب التي أثارها الإمام علي(ع)، وهناك تتمة لهذا الموضوع في الأسبوع القادم إن شاء اللّه..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثامنة22 ربيع الأول 1424 ه24 /5/2003م
علاج التكبّر العبادة
العبادات وسائل تربوية لإزالة التكبّر وبناء الإنسان الصالح
آفاق علي(ع).
المنهج التربوي لبناء الإنسان.
مراقبة النفس.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونبقى مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في خطبته (القاصعة)، لنستوحي منها أكثر من جانب من الجوانب التي تتصل بالعناصر الإيجابية والسلبية للشخصية الإنسانية، ولا سيما الشخصية الإسلامية التي خطّط لأن تكون تجسيداً للقيم الإسلامية الإيجابية بمنأى عن القيم السلبية التي يعيشها الإنسان.
بعدما تحدَّث الإمام(ع) عن الحج، انطلق للحديث عن علاقة سائر العبادات،كالصلاة والصوم والزكاة، بحياة الإنسان، ليلخص بعض أهدافها، من حيث إنها تُمثِّل وسيلة تربوية تزيل عن الإنسان كل نفسيّة التكبّر، وتجعله إنساناً صالحاً في تقواه بما ينعكس إيجاباً على علاقته بالآخرين.
آفاق علي(ع):
يقول(ع): ((اللّه اللّه في عاجل البغي)). غالباً ما تُستَخدَم كلمة (اللّه اللّه) في اللغة العربية في المواقع التي يراد فيها التعبير عن أهمية الموضوع، بحيث يطلق ذلك التعبير بما يُشبه الاستغاثة لمواجهة كل مفاعيل الموضوع إن كان سلباً أو إيجاباً، وهذا ما لاحظناه في آخر وصية للإمام علي(ع) حينما قال: ((اللّه اللّه في الأيتام.. واللّه اللّه في جيرانكم... واللّه اللّه في الصلاة...واللّه اللّه في القرآن...))، وغير ذلك.
وحتى نفهم قول أمير المؤمنين هنا، لا بدّ من التعريف بالبغي وما يخلِّفه من نتائج، حيث يمثّل البغي حالة عدوان على الناس بغير حق، ما يؤدي إلى نتائج سيئة من خلال ابتعاد الإنسان عن مسؤوليته التي حمّله اللّه إياها، وما يخلّفه ذلك من أثار سلبية على المستوى الاجتماعي، فكأنه(ع) يقول إن البغي الصادر من أي شخص أو من أية جماعة، يستعجل نتائجه السلبية ضد الذين يمارسونه، ولذلك فإن على الإنسان أن يحذر حينما يمارس البغي على الناس أن تصيبه نتائجه السلبية عاجلاً، ((وآجِلِ وخامة الظلم)) لأن الظلم إنْ لم يؤد إلى نتائج سيئة ووخيمة في القريب العاجل، فسوف يؤدي في نهاية المطاف إلى عاقبة وخيمة.
((وسوء عاقبة الكبر)) لأن الإنسان المتكبِّر قد يتصوَّر أنه في المستوى الأعلى بالنسبة للآخرين، فيستعلي على الناس، ويستعرض عضلاته أمامهم، ويعمل للسيطرة عليهم، ولكن نتائج أعماله ستؤدّي به إلى الانكشاف أمام الناس، وسيعرفون عندئذٍ أن هذا التكبر لم يكن منطلقاً من حالة غِنىً في الشخصية، وإنما من حالة انتفاخ فيها، كما قال الشاعر المتنبي أمام سيف الدولة الحمداني وهو يعرِّض ببعض خصومه من الشعراء:
أعيذها نظرات منك صادقـة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
قد تتصور أنّ الإنسان يمتلئ شحماً، وهو في حقيقته يمتلئ ورماً لا شحماً، ولذلك فإن كثيراً من المتكبرين يملكون ورم الشخصية ولا يملكون الشحم واللحم الذي يعطي الضخامة الحقيقية للجسم، ((فإنها)) أي هذه الأمور ((مصيدة إبليس العظمى)) حيث يتصيَّد الناس بالبغي والظلم والكبر ويوقعهم في حبائله وخدعه وأمانيه، ((ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة)) تلك السموم التي تواكب قلوب الرجال وتسيطر عليها وتترك تأثيراتها السلبية، فكما تدخل السموم القاتلة إلى جسده فتفتك به، كذلك الأمر في النساء؛ لأنّه لا يُقصد بالتعبير إلا الإشارة إلى الغالب في مقام التخاطب، ((فما تكدي أبداً)) في اللّغة أكدى الحافر إذا عجز عن التأثير في الأرض، والمعنى أنّ تلك الآفات ليست عديمة التأثير، بل إنّها تسيطر على الإنسان وتدخل حياته، ((ولا تشوي أحداً)). يقال أشوت الضربة أي أخطأت المقتل، وقد ورد قوله تعالى: نَزَّاعَةً لِلشَّوَى( ) أي نزّاعة الأطراف. ومعنى قوله ((لا تشوي أحداً)) أنها لا تنال الأطراف من الأيدي والأرجل، بل تصيب المقتل، ((لا عالماً لعلمه ولا مقلاً في طمره)). الطمر هو الثوب، ومقصوده(ع) أنه لا يحقق النتائج لأحد من الذين يمارسونه بطريقة وبأخرى.
المنهج التربوي لبناء الإنسان:
بعد هذا العرض من سلبيات البغي والظلم ومن الكبر، يدخل الإمام علي(ع) في العلاج الروحي الذي عالج اللّه سبحانه وتعالى به هذه الأمراض الكامنة في الإنسان نتيجة الأوضاع المحيطة به: ((وعن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكيناً لأطرافهم)) يعني حتى تخشع أطرافهم ((وتخشيعاً لأبصارهم)) لأن الإنسان عندما يتعبّد للّه ويتقرَّب إليه، وعندما يعيش عظمة اللّه في نفسه وحاجته له في كل أموره، أي عندما ينطلق في هذا الجو المنفتح على اللّه سبحانه وتعالى، فإنه يعيش حالة الخشوع من خلال الرهبة أمام الله والشعور بالحقارة أمام عظمته سبحانه، الأمر الذي يجعله يواجه الناس بالتواضع ويعيش معهم بالذلّة، ولكنّها الذلة التي تنسجم مع عبوديته للّه وليست الذلّة التي يسقط معها أمام الناس.
ولذلك ورد في بعض الأدعية المأثورة: ((اللَّهم ذللني في نفسي وعظمني عندك))، أو كما ورد عن الإمام الرضا(ع) في وصف بعض الأشخاص الذين يمثِّلون القيمة الروحية: ((الذل في اللّه أحب إليه من العزّ مع عدوّه))( )، لأن الإنسان عندما يذل أمام اللّه الذي خلقه ورزقه، فإن العزة في ذلك؛ لأنّ الذلّ أمام الله يدفعه ليطيع اللّه، وهذا ما عبَّر عنه الإمام زين العابدين(ع) حينما قال: ((الحمد للّه رضاً بحكم الرضا، شهدت أن اللّه قسم معايش عباده بالعدل، وأخذ على جميع خلقه بالفضل، اللهم صل على محمد وآله، اللهمَّ لا تفتنّي بما أعطيتهم، ولا تفتنهم بما منعتني، فأحسد خلقك وأغمط حكمك …وأعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلاً، فإن الشريف من شرَّفته طاعتك والعزيز من أعزته عبادتك))( ).
وكذلك ما ورد: ((من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذل معصية اللّه إلى عزّ طاعته))( ). فالعبودية لغير اللّه ذل.
أما العبودية للّه فهي العزّ، لأنك عندما تعبد اللّه وحده، فإنك تشعر بالحرية أمام الكون كله، ولذلك فإنَّ العبودية للّه لا تمسُّ حرية الإنسان، بل تؤصّلها وتؤكّدها؛ لأنّ ارتباطك الوجودي بالله هو سرّ وجودك، فهو الخالق والمهيمن على الأمر كلّه في كلّ أمورك، ما يجعل من عبوديّتك له وافتقارك المطلق إليه مسألة تتّصل بذاتك في معناك كلّه، فلا تنقص منك شيئاً، بل تزيد من إحساسك بالقوة من خلال هذا الارتباط.
((وتذليلاً لنفوسهم وتخفيضاً لقلوبهم))، لأن القلب يخشع أمام عظمة اللّه، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ( ) يعني أنهم يعيشون الخوف منه، ومن الطبيعي أن يخفض هذا الخوف القلبَ ويجعله لا ينبض بالعنفوان الذاتي الذي يكرِّس الكبر عند الإنسان. ((وإذهاباً للخيلاء عنهم))، لأن الشخص الذي يعيش الخيلاء وهو يستعرض عضلاته وأمواله ووجاهته أمام الناس، فإنه يعيش حالةً معاكسةً لذلك، حيث يسجد للّه على جبهته ((يعفّر جبهته)) الجبهة التي تُمثِّل العنفوان، فيعفّر الإنسان وجهه وجبهته بالتراب ويركع للّه، ((ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه)) التي تعيش العظمة والوجاهة، ((بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً)) وذلك عندما تمد يدك في الصلاة ورجليك تصاغراً للّه سبحانه وتعالى، فتقف وقفة المستسلم، فإن ذلك يعطيك معنى التواضع.
أما في الصيام، فيقول(ع): ((ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللاً)) حيث تضمر بطنه فلا تنتفخ. وكذا حال الزكاة، حيث نلمس فيها من التصاغر والتذلل للّه سبحانه وتعالى، لأن الإنسان عندما يُخرج من ماله الذي حصَّله بعرق جبينه، فإنه يتصاغر للّه سبحانه، حيث يجعل الفقراء وأهل المسكنة شركاء في أمواله، وهذا لا يتناسب مع شعوره بالغنى والرفعة التي قد يورثها المال في نفسه، فيقول(ع): ((مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض إلى أهل المسكنة والفقر)).
والإمام علي(ع) يرى هذه العبادات وسائل للتربية الإسلامية، من أجل أن يتعمق التواضع والتذلّل والتصاغر والانفتاح على أهل المسكنة والفقر، فقال(ع): ((انظروا إلى ما في هذه الأفعال)) العبادية ((من قمع نواجم الفخر)) يعني ما يبرز منها، ((وقدع طوالع الكبر))( ) أي منع، والمقصود أنها تمنع مظاهر الكبر وبداياته.
ويقترب من ذلك المنهج ما ورد عن الإمام زين العابدين(ع) في دعاء (مكارم الأخلاق)، حيث يبيّن الأسلوب التربوي الذي بواسطته يسيطر الإنسان على نوازعه الشخصية، فكلُّ إنسان عندما يعيش الوجاهة الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية أو الدينية، فيعظّمه الناس أو يهتفون باسمه، فعادة ما يشعر بالخيلاء فتنتفخ شخصيته .. فيقول زين العابدين(ع): ((اللهمَّ لا ترفعني في الناس درجةً إلا حططتني عند نفسي مثلها))( ) أي أنني عندما أرتفع في الوسط الاجتماعي، فإني أدعوك أن لا أُشغل بهذه الأبهة والعظمة، وأن تجعلني أنزل إلى نفسي لأكتشف ضعفي، حتى أدخل في موازنة بين ما في الخارج عندما تكبر نفسي عند نفسي، وبين ما في الداخل عندما تصغر نفسي عند نفسي. . ((ولا تُحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذِلّة باطنة عند نفسي بقدرها)) ، بحيث إنني عندما أنطلق مع مظاهر العز، فإني أنزل إلى نفسي لأكتشف فيها ما يشعرني بالذل حتى لا يطغيها هذا العز.
ونُقِل لنا عندما كنّا في (النجف الأشرف) عن أحد العلماء أنه كان من العارفين ومشهوراً في المجتمع بذلك، وكان عندما يدخل المجلس يعظّمه الناس، وعندما يرجع إلى البيت يكتب في دفتر مذكراته: يا فلان إنك عندما دخلت المجلس، فإن الناس قاموا لك وجعلوك في صدر المجلس وعظّموك وأكرموك، وتصورت كأنك أصبحت شيئاً كبيراً، ألا تعرف ماذا عملت؟! ألا تتذكر القضية الفلانية التي أخفيتها عن الناس، ألا تعرف النقص الموجود لديك في الجانب الفلاني والعبادي وفي حياتك كذا وكذا بما تختزنه حياتك من بعض نقاط الضعف؟! وكان يفعل ذلك ليزيل الإحساس بانتفاخ الشخصية من خلال تعظيم الناس له.
مراقبة النفس:
وهذا هو ما أكد عليه الإسلام في أخلاقياته، وخصوصاً في قضية محاسبة النفس، حيث لابد للإنسان أن يحاسب نفسه دائماً، لأن الناس قد تُشغل الإنسان عن نفسه، خصوصاً إذا كان للشخص موقع اجتماعي متميز، فيضخمونه ويعظمونه ليستغلوه في جوانب أخرى بقولهم: أنت الشخص المجدِّد، وأنت الشخص الذي يملك الثقافة وما أشبه ذلك. والإنسان عادةً وبشكل لا شعوري يؤخذ بتلك الواجهات، ولذا لا بد للإنسان أن يوازن بين نقاط الضعف ونقاط القوة في نفسه. ولذلك جانب عملي أيضاً، لأنك عندما تطّلع على نقاط القوة في نفسك، فإنك تحاول أن تنمّيها، وعندما تطَّلع على نقاط الضعف فتحاول أن تزيلها. ولكن المشكلة أنّنا شُغِلنا عن أنفسنا بما حولنا وبمن حولنا.
ومن باب (الكلام يجر الكلام)، فإننا لو أجرينا إحصائية لمعرفة مدى محاسبة الإنسان نفسه، فمن منا يجلس مع نفسه ساعة ليدرس نفسه؟ إذ نحن لا نفرغ لأنفسنا من الصباح وحتى الليل، ولذلك نستطيع أن نعطي تقريراً عن كل الناس، ولكننا لا نستطيع أن نعطي تقريراً عن أنفسنا، وذلك لو أن شخصاً فاجأك وقال لك: كيف نظرتك إلى فلان، فربّما تتكلم عنه ساعتين. ولكن إذا فاجأك وقال لك من أنت؟ وما هي خطوطك السياسية والاجتماعية؟ فإنّك تقول له اسمح لي بالتفكير لمدة ما، إذا كان أحدنا لا يفهم نفسه، فكيف يفهم الآخرين ؟!. ولذلك يقول الإمام علي(ع) في بعض كلماته في (نهج البلاغة): ((لا يشغلنّك سواد الناس عن نفسك، فإن الأمر يصدر إليك دونهم))( )، فقد يأتي البعض ويشغلك بكلام ما ويذهب، ولكن ذلك الكلام يبقى يتفاعل في نفسك، وقد يسبب الكثير من السلبيات في حياتك. ولا بدّ أن نعيش ذلك في أنفسنا أولاً، لأن قضية تربية النفس هي قضيتك أنت؛ لأنك عندما تربي نفسك على القيم والأصول فإنك تكبر بذلك، وثانياً عندما تقف بين يدي اللّه سبحانه وتعالى فأنت تبرز بنفسك في هذا المقام بما تفكر وبما تحب وبما تغضب وبما تتحرك أمام اللّه سبحانه وتعالى، وقد ورد في مضمون الحديث: ((إن اللّه لا ينظر إلى وجوهكم ولكن إلى قلوبكم)) فإن اللّه ينظر إلى المنطقة الداخلية للإنسان، للعقل والقلب والشعور والإحساس.
ومن خلال ما قدّمناه من كلام أمير المؤمنين علي(ع)، علينا أن نحاول أن نجعل من صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وسيلة تربوية، بحيث لا تكون مجرد حركات لا معنى لها. ويبقى الكلام مع الإمام علي(ع) في ما ينتجه الكِبر من العصبية، كما يحدثنا الإمام(ع) عن العصبية المذمومة وعن العصبية الممدوحة، ونحن نعرف أنّ الشرق هو مجتمع العصبيات، والعصبية مرض يقود الإنسان والمجتمع إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، ونرجو أن نوفق لتحليل كلمات الإمام علي(ع) في الأسبوع القادم إن شاء اللّه..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة التاسعة28 ربيع الأول 1424 ه30 /5/2003م
مساوئ التعصّب ومظاهره
إن العصبية تجعل الإنسان يعيش حالة من حالات الاستهلاك الداخلي، بحيث لا يملك الهدوء العقلي الذي يناقش به الأمور أو الهدوء النفسي الذي يتحسسها به
تأصيل القيم.
أسباب فشل الأحزاب الشرقية.
التعصّب تخلّف.
مظاهر التعصب.
العصبية الوطنية.
التعصّب لمكارم الأخلاق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
في هذا اللقاء، نواصل ما تحدّث به الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) عن العصبية، إذ كان يخاطب المجتمع الذي كان يعيش فيه، وهو المجتمع العربي الذي كان يأخذ بالعصبية القبلية العشائرية التي تشكل رباط الإنسان بعشيرته إلى حد تجعله يعيش ذاته في معنى عشيرته، من دون أن يحمل في نفسه أي عنصر من عناصر القيمة في العشيرة، ولذلك نراه ينتمي إلى ذلك المجتمع الصغير ويرتبط بتاريخه، ولا يرتبط به من خلال أية قيمة روحية أو أخلاقية أو اجتماعية، ما يحوِّل مسألة العصبية إلى حالة استغراق في العشيرة تجعل الإنسان الذي يعيش في إطار هذا الانتماء وهذه العلاقة، إلى إنسان يعبد اللحم والدم، لأن علاقته بعشيرته هي علاقة اللحم والدم، وهذا هو نوع من العبادة اللاشعورية لهذا النوع من السلوك.
تأصيل القيم:
وقبل أن نقرأ خطبة الإمام(ع) الطويلة هذه التي حشد فها الكثير من الجوانب السلبية والإيجابية لعلاقات الناس، يحسن أن نشير إلى ظروف هذه الخطبة، حيث إن الناس كانوا يعيشون آنذاك في منطقة تجمع الكثير من القبائل، وربما كان فتيان إحدى القبائل يأتون إلى محل قبيلة أخرى، فيستثيرون بحماستهم العصبية تلك القبيلة، فيردّ أفراد تلك القبيلة عليهم، ليضربوا أولئك الشباب المنادين عليهم، فيذهب هؤلاء إلى عشيرتهم، فتنطلق العشيرة ثأراً لأبنائها وتنشأ الحروب والفتن بين القبيلتين. فأراد الإمام(ع) أن يؤصل لهؤلاء قاعدة للانطلاق بالمبادئ والقيم تنفتح على مختلف شؤون الحياة، لا أن يتعصب الإنسان للانطلاق لعشيرته من دون أن تملك عشيرته أية معاني تتصل بالحياة وبالأخلاق وما إلى ذلك، بحيث تتحول العشيرة عندها إلى صنم، فكما أن الصنم لا مضمون له، فالعشيرة أيضاً بتلك العصبية لا مضمون لها.
وينطلق الإمام(ع) في الفقرات الآتية من خلال دراسته لأوضاع المجتمع، الذي كان يتابعه(ع) متابعة دقيقة، ويدرس كل اتجاهاته، ويعمل على انتقاد الأوضاع السلبية وتوجيه الناس لنقدها أيضاً. وفي دراستنا للإمام علي(ع)، نجد أنه كان يؤكد على أن يكون الإنسان مع الحق حتى لو عاداه الناس، ولذلك نجد أنه لم يكن حيادياً في عملية الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وإن لم يستطع أن يدخل التجربة بشكل مباشر، فقد دخلها بشكل غير مباشر من خلال التوجيه الثقافي والروحي والسياسي والاجتماعي. وتلك هي خطة الإمام(ع)، والتي تميّز بها عن كل الذين تولوا الحكم في التاريخ الإسلامي كله، بحيث كان يلاحق الناس حتى يرفع مستواهم، ليكونوا النموذج الإسلامي الذي يشكل قدوةً للناس الآخرين.
يقول الإمام(ع): ((ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء)) يعني أنه ينظر إلى المسيرة الإنسانية وإلى ماهية الدوافع التي تدفع الجماعات لأن تتعصب لشيء، والعصبية حالة إنسانية موجودة في كل المجتمعات، ولدى كل الشعوب، لكنه(ع) ـ من خلال حديثه هذا ـ يلاحظ أن هؤلاء الناس يتعصبون لأشياء قد يكون لها معنى أو يمكن مناقشتها، ولكن التعصب في أحيان كثيرة يكون على أساس أمر غير مفهوم.. ((إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم)) أي أن أولئك يتعصّبون لأمر معيّن يتحرّكون من خلاله من أجل تزوير بعض الحقائق للناس ، فيقدّمون للجهلاء والبسطاء منهم بعض الأفكار أو الحجج التي تخدعهم بسطحيّتها.. ((فإنكم تتعصّبون لأمر لا يعرف له سبب ولا علّة)) فإنكم مثلاً تتعصبون للعشيرة أو لشخص أو لغير ذلك من العناوين التي لا ترتكز على أساس.
أسباب فشل الأحزاب الشرقية:
وهنا نستوحي من كلامه(ع)، أنه عندما يريد الإنسان أن يتعصب أو يلتزم بعنوان، قد يكون عشيرةً أو حزباً أو عنوان طائفة أو وطناً، فإن هذه العناوين ينبغي أن تشتمل على عناصر ترتبط بالجانب الروحي أو الفكري للإنسان أو الجانب الاجتماعي أو السياسي، ولذلك ينبغي له عندما يحرك التزامه من خلال هذا العنوان الذي ينتمي إليه، أن يثير هذه المبادئ والقيم في أجواء هذه العلاقات، حتى يكون الارتباط بمبادئ وقضايا الوطن أو الأمة وما إلى ذلك من الأمور؛ لأن حالة العصبية التي نعيشها ـ ونحن في الشرق منطقة العصبيات ـ تنطلق في البداية كفكرة، ثم تنسى الفكرة بعد ذلك. وقد يلتزم الإنسان الحزب أو يرتبط بالوطن لأجل القضايا التي يعيشها الوطن في عالم العزة والاستقلال والكرامة، ثم يصير الوطن مجرد صنم يُعبد، بحيث تُنسى القضايا، ويُتعصّب للأرض وليس للقيمة التي تحملها هذه الأرض.
ونحن نرى أن فشل الأحزاب، وخصوصاً في الشرق، إنما هو بسبب أنها تنطلق في البداية من فكرة، ثم ترتبط بشخص أو تجمّع أو إطار. فأولاً كان المضمون ثم الإطار، فيذهب المضمون ويبقى الإطار، ونبقى نرتبط بالإطار بعيداً عن الصورة الحقيقية. ومشكلة العصبية هي الاستغراق بإطار معيّن يُحاط بهالةٍ من العصمة وليس له أي أساس من العصمة. وهذا ما نتلمسه في الطائفية، فمثلاً يتعصب الشيعي للشيعة، ولكنه لا يؤمن بها، أو يتعصب السُنّي للسُنّة وهو لا يؤمن بالسُنّة، أو في بعض المناطق الطائفية الأخرى يتعصب المسيحي واليهودي للمسيحية أو اليهودية وهو لا يؤمن بأيٍّ منهما. ونحن نعرف كم هو مدى ارتباط الكثيرين ممن ينتسبون إلى هذه الطوائف، سواء كانوا سُنّة أو شيعة أو مسيحيين أو يهوداً.. وعندما ندرس ذهنيتهم فقد نجدهم ملحدين. لذلك فإن المحللين يقولون إن أغلب رؤساء الكيان الصهيوني ملحدون علمانيون؛ لأن المسألة تبدأ فكرة ثم تتحول إلى عصبية، ومع ذلك فهم يستغلون الدين..
التعصّب تخلّف:
ولذلك فإن الإمام علي(ع) يقول إن التعصب لشيء ليس في داخله أي مضمون يتصل بقضايا الحياة والإنسان والرسالة، يمثل حالةً من التخلف. والواقع أن الإسلام رفض العصبية للأشخاص والاستغراق فيهم. وفي الحديث الشريف: ((من تعصّب أو تُعصِّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه))( ) لأن الإيمان يرتبط بالقيمة، والعصبية ترتبط بالصنمية الشخصية. وقد ورد على لسان النبي(ص) ((العصبية من النار))، لأن العصبية تقود الإنسان إلى الحقد ضد الآخر وإلى العمل على إلغائه، ويعتبر الإنسان نفسه من خلالها هو الرمز الذي يتعصب له وأنه الحياة والعالم. ولعل أروع كلمة في الحديث عن العصبية، والتي تفصل بين الجانب الإنساني العاطفي وبين الجانب الانحرافي السلبي للعصبية، ما روي عن الإمام السجاد(ع): ((العصبية التي يأثم عليها صاحبها هي أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبَّ الرجل قومه ولكن أن يعين قومه على الظلم))( ) فإن الإسلام لا يمنع الإنسان أن يتعاطف شعورياً مع قومه أو أهله، ولكن من دون أن يُعين قومه على الظلم، فعندما تقترب العصبية من المبادئ فلابد أن تتأخر العصبية وتتقدّم المبادئ، ونستوحي من قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا( ).
إن العصبية تجعل الإنسان يعيش حالة من حالات الاستهلاك الداخلي، بحيث لا يملك الهدوء العقلي الذي يناقش به الأمور أو الهدوء النفسي الذي يتحسسها به، ولذا يندفع الإنسان بحالة الانفعال التي تدفع إليها العصبية. أما الرسول(ص) والمؤمنون معه، فقد أنزل اللّه سكينته عليهم، والسكينة هي الهدوء النفسي والهدوء الحركي وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى يعني لم يتحركوا إلاّ من خلال مراقبة اللّه لهم قولاً وفعلاً وما إلى ذلك وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا من خلال إيمانهم و التزامهم به.
مظاهر التعصب:
ويتابع الإمام علي(ع) ليبيّن بعض العصبيات المرفوضة التي يرتكز عليها الناس كدوافع، وهي دوافع ليست صحيحة.. ((أما إبليس، فتعصب على آدم لأصله وطعن عليه في خلقته، فقال أنا ناريّ وأنت طيني)) يعني أن إبليس اعتبر قضية الأفضلية من خلال مادة الخلق، ولم يعتبرها من خلال مضمونه، فلو فرضنا أن النار أقوى من الطين فهذا يعني أن الجنّ أفضل من الإنس. ولكن اللّه سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان فقط على أنه من مادة الطين، بل كما قال اللّه تعالى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( ) فهو قبضة من الطين ونفخة من روح اللّه سبحانه وتعالى، وعندما تدخل روح اللّه وقدرته في إعطاء هذا الطين العقل والشعور والروح والإحساس والحركة، فهذا شيء آخر. لذلك فإن الطينية هي ليست كل شيء في خلق الإنسان حتى تكون النار أقوى من الطين ، ولكن إبليس كبرت نفسه عنده فغفل عن طبيعة الأمور...
((وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النعم)) التي حصلوا عليها ((فقالوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)) فقد تعصب هؤلاء لجهات شتى، كما هو تعصب إبليس أو الأغنياء، وكانوا مخطئين في عصبيتهم، لأن تعصبهم لا معنى له، وربما يتعصب البعض لجهة قومية، كما يتعصب الفارسي ضد العربي والتركي ضد الكردي أو العكس، وهكذا في بقية الأعراق المختلفة... فالانتماء إلى بلد معين أو عرق معين لا قيمة له، وإنما تكون القيمة للمبادئ التي يمثلها الانتماء في هذا المجال.
العصبية الوطنية:
وعلى هذا الأساس ـ وعلى سبيل النكتة ـ يقول البعض إن الإمام علي(ع) ليس وطنياً، حيث إنه لا يستغرق في وطنه، بحيث يتعبَّد للّه به، فبقوله(ع) ((ليس بلد أولى بك من بلد، وخير البلاد ما حملك)) يعني أن قيمة الأرض بمقدار ما تخدم حرية الإنسان وتحفظ كرامته وإنسانيته، فإذا لم تحفظ له تلك المعاني الإنسانية، فعليه الانتقال إلى بلد آخر، ولكن الحقيقة أن الإمام(ع) لا يلغي الانتماء الوطني، ولكن لا يتعبد له، وقد أتت تلك المفاهيم الوطنية والقومية منذ عهد الاستعمار بهذه الصيغ المعروفة، فأصبحنا نستغرق في مسألة الوطن، بحيث فقدنا أيَّ إحساس بالوحدة الإنسانية. مثلاً كانت المنطقة العربية أو الإسلامية منطقةً واحدة، ولكن الاستعمار الذي قسَّم بلادنا إلى عدّة بلدان حسب مصالحه ووضع حدوداً فاصلة بينها كما في العراق ولبنان وفلسطين وإيران وباكستان، وهكذا أصبحنا نخلص لتلك الحدود التي صنعها الاستعمار أكثر مما نخلص للإسلامية أو العربية، فاستغرقنا في حدود ذلك الإطار، وتحوَّل لدينا إلى عقيدة، فأصبح الشخص الذي ليس من بلدنا مثل الأجنبي حتى لو كان مسلماً أو كان يشترك معنا في العروبة، وبذلك أراد الاستعمار أن يعزلنا عن الأفق العالمي، والله يقول لنبيّه(ص): وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( ). وقد أوجد هذا العزل عندنا عصبيات جديدة، بحيث انطلق الغرب منذ القرن الماضي في تحريك مسألة القومية بمعناها الإيديولوجي، بهدف إسقاط الدولة العثمانية، فعملوا على الفصل بين العرب والأتراك، ووعدوا العرب بالحصول على الاستقلال في حال وقوفهم مع الغرب ضد الدولة العثمانية، وقد تبعها تقسيم البلاد العربية، فكانت البداية في الجامعة العربية، ثم أصبح لدنيا مجلس التعاون الخليجي، ثم مجلس الاتحاد المغاربي، واللّه العالم ماذا بعد ذلك.
وفي مسألة العراق، كان الحديث - حتى قبل الحرب - عن تقسيمه، دولة كردية في الشمال ودولة شيعية في الجنوب، وأخرى في الوسط للسُنّة. كما قاموا بوضع إدارات مختلفة، فمثلاً البصرة يحكمها الإنكليز، والوسط يحكمه الأمريكان... هذا الوضع المأساوي ما هو إلاَّ نتيجة للعصبيات التي تسود أوساطنا، فلو كانت لدينا ذهنية المبادئ والقيم الإسلامية، وذهنية القضايا المصيرية والحيوية لأمّتنا، لما عشنا هذه الأوضاع المأساوية.
التعصب لمكارم الأخلاق:
ويتابع الإمام علي(ع): ((فإن كان لا بد من العصبية)) والإمام لا يشجع على العصبية، ونحن دائماً في أحاديثنا نفرّق بين التعصب والالتزام، فالتعصب هو أن تعيش في سجن الذات والخصوصية وأن تنكر الآخر، وأما الالتزام فلا يعني ذلك، وكما قلنا هناك معادلتان:
الأولى: (أنا والآخر)، فعندما تلتزم بقيم ومبادئ معيّنة فاعتبر أن هناك من يلتزم التزاماً آخر، فليس المفروض أن تسقط أمامه أو أن يسقط هو أمامك، ولكن الحوار هو الذي يمكن أن يحلّ الخلاف بينك وبينه، فأن تكون ملتزماً فهذا هو الخط الإنساني الذي جعل من حقِّ كل إنسان أن تكون له الحرية في أن يلتزم بما يؤمن به، ويكون الحوار في لغة التخاطب، كما يقول تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، أما أن تلغي الآخر فهذا هو التعصب بعينه.
وهناك معادلة (أنا لا الآخر)، والإسلام يركِّز على المعادلة الأولى ويرفض الثانية، كما قال اللّه تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ( )... ((فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور)) وهي الأمور الحسنة التي تتحرك في المجتمع بلحاظ ما يترتب عليها من إسعاد الناس.. ((التي تفاضلت فيها المجداء)) الأشراف ((والنجداء)) الشجعان ((من بيوتات العرب)). كأن الإمام(ع) لا يريد إلغاء المجتمع العربي كما يفعل بعض الناس بشكل مطلق، بل يرى(ع) أن العرب كانوا يتميزون بالكثير من محاسن الأمور والكثير من مكارم الخصال الحميدة، فهذه الأمور كان يتفاخر فيها الناس، إن كان من ناحية الكرم أو الشجاعة أو الضيافة، فليكن التعصب ـ إن كان ـ لها، كما يقول المقنع الكندي في شعر:
يعاتبـني فـي الدَّين قومي وإنَما
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
ولا أحمل الحقد القديـم عليهم
لهم جُلّ مالي إن تـتابع لي غنّى
وإني لعبد الضيف ما دام نازلا
ديوني في أشـياء تكسبهم حـمدا
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مـجدا
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وإن قـلّ مـالي لم أكلـفهم رفدا
وما شيمةٌ لي غيرها تشـبه العبـدا
فيشير الإمام إلى هذه القيم التي كانت تبني المجتمعات وتقيّدها، بحيث لا يشعر الإنسان معها أنه حر في داخل العشيرة، بل يحاسب وفقاً لهذه القيم. ونعرف أن الكثير من تلك القيم كانت مستفادة من الرسالات السابقة، مثل رسالة النبي إبراهيم(ع)، التي كان قد طرأ عليها بعض الانحرافات فيما بعد، والإمام هنا يركِّز على النواحي الإنسانية. وبعض الناس، عندما يشاهد بعض السلبيات في المجتمع، يحكم على كل المجتمع بأنه سلبي، وإذا تعقد من مجتمع فإنه لا يرى له خيراً أو أي شيء إيجابي، وفي هذا يقول الإمام(ع)، إن من العدل أن تعطي كل إنسان حقه كما هي القيمة التي يعيشها في الخطوط التي يتحرك فيها، كما في قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ والشنآن البغضاء عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( )، ومن العدل أن تذكر الإنسان بقيمته وأخلاقه إلى جانب ما تذكره فيه من جوانب سلبية حسبما تستدعي الحاجة.
...((ويعاسيب القبائل)) إذ كان يطلق على كل رئيس عشيرة يعسوب - ويعني في اللغة ذَكَر النحل وأميرها - ((بالأخلاق الحميدة)) التي تفاضلوا فيها ((والأحلام)) العقول ((العظيمة)) أي الراجحة..((والأخطار الجليلة)) الأشياء الخطرة التي لها قدر معين.. ((والآثار المحمودة، فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام)) فكان إذا أخذ عهد على أحد، فإنه يفي له به حتى لو كلفه ذلك حياته.. ((والطاعة للبر ـ للخير ـ والمعصية للكِبَر)) أي رفض الكِبَر، باعتبار أن الله لا يرضى للناس التكبّر.. ((والأخذ بالفضل)) يعني الأمور التي تجعل الإنسان في موقع متميز.. ((والكف عن البغي)) يعني الظلم والعدوان.. ((والإعظام للقتل)) أن يشعر الإنسان أن القتل خطير فلا يقدم عليه.. ((والإنصاف للخلق)) أن يُنصف الناس في نفسك فتعطيهم قبل أن يطالبوك بما عليك من حق لهم، وقد ورد أن من أشد ما فرض اللّه على الإنسان هو إنصاف الناس من نفسه.. ((والكظم للغيظ)) يعني أن تحبس غيظك ولا تفجّره أمام أي سوء يحصل لك.. ((واجتناب الفساد في الأرض)) أن تتجنَّب كل ما يُفسد حياة الناس، سواء الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية.. ((واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات)) يعني من العقوبات ((لسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم)) فخذوا ما أخذوا من الخير واجتنبوا ما اجتنبوه من الشر.. ((واحذروا أن تكونوا أمثالهم))( ) عندما يأخذون بالشر والفساد..
ويبقى للكلام بقية، ويبقى علي(ع) الإمام الذي يضيء للإنسانية دربها في كل زمان ومكان.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة العاشرة 7 ربيع الثاني 1424 ه7 /6/2003م
علي(ع): دراسة الأمم السابقة
التاريخ يذهب بموت أصحابه كأحداث زمانية أو مكانية أو حالات إنسانية، ويبقى منه الفكرة والدروس التي يمكن أن نستنتجها من التجارب التي عاشها الماضون وأدّت إلى نتائج إيجابية أو سلبية، أو من خلال الفكر الذي صنعه المفكرون والرساليون في التاريخ، والذي يستمر في الحياة.
دراسة التاريخ.
شخصيات تاريخية.
الانفتاح على الآخرين.
الحاضر صورة للماضي.
رابطة الائتلاف.
التدبّر التأريخي.
فتح مكة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لقد تحدَّثنا في الخطوط العامة التي ركَّز عليها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) في خطبته المسمَّاة (القاصعة)، وهي خطَّ الالتزام بالمبادئ، والابتعاد عن العصبية لكلِّ القيم السلبية التي يتداولها الناس في الحياة، والانفتاح على القيم الإيجابية التي ترفع من شأن الإنسان ليجعل الحياة أفضل، وأن يركزها في خط الاستقامة من أجل الإنسانية التي تنفتح على المسؤولية من خلال اللّه سبحانه وتعالى.
دراسة التاريخ:
يحاول الإمام علي(ع)، في ما نستقبل من حديث، أن يدخلنا في المسير التاريخي، لندرس حركة الأمم التي سبقتنا وعاشت النصر والهزيمة وحالة التماسك والانحلال، وأسباب هذه الحالة أو تلك، وهذا ما يمثِّل المنهج الإسلامي في دراسة التاريخ، لأنه - أي التاريخ - لا يُدرس من حيث كونه مادةً للتسلية أو للاستهلاك أو للاستغراق في أحداث الماضي، لأن التاريخ يذهب بموت أصحابه كأحداث زمانية أو مكانية أو حالات إنسانية، ويبقى منه الفكرة والدروس
التي يمكن أن نستنتجها من التجارب التي عاشها الماضون وأدّت إلى نتائج إيجابية أو سلبية، أو من خلال الفكر الذي صنعه المفكرون والرساليون في التاريخ، والذي يستمر في الحياة، لأنه الفكر الإنساني الذي ينطلق من عمق العبقرية الإنسانية، ولا ينطلق من الحالة الشخصية المحدودة، وهذا ما ذكره القرآن الكريم مختصراً في آية واحدة بقوله تعالى لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ( )، والعبرة هي الدرس.
وهذا ما ينبغي لنا أن ننتهجه من التجربة الإنسانية التي يبقى منها الجوهر للمستقبل، فلا نعيش الغيبوبة في التاريخ، بحيث نكون أمة الماضي وننسى الحاضر ولا نهتم بالمستقبل، وهو ما تعيشه الكثير من الشعوب الشرقية، حيث إنها تستغرق في التاريخ لتدرس خلافاته وأحقاده لتنقلها إلى الحاضر، فكأنها تستحضر في الحروب التاريخية ما قد يبقي الحرب ساخنةً وحيّةً للدخول من حالة الحرب مع هذا الفريق ضد ذاك الفريق، معتبرين أن المعركة مع أولاد ذلك الفريق ممن غاب آباؤهم في القبور، وهكذا تمَّ نقل معارك التاريخ إلى الحاضر، بل وإلى المستقبل أيضاً.
قد يقول قائل بأن التاريخ في بعض صراعاته مسألة تتصل ببعض جوانب العقيدة، لأن بعض الشخصيات التاريخية قد تكون شخصيات مقدّسة في مقابل شخصيات مستعلية لا تملك من القداسة شيئاً، فكيف نكون مع هذا الفريق ضد ذاك الفريق؟ ولكننا نقول إن الشخصيات المقدّسة ليست شخصيات تاريخية، وإنما هي شخصيات رسالية إنسانية تمتد في امتداد الحياة.
شخصيات تأريخية:
ونحن لا نستطيع أن نعتبر شخصية الرسول(ص) شخصية تاريخية، بل هو، كما في قوله تعالى:مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ( ). ولذلك فهو يمتدُّ ما امتدت الرسالة، وكذلك الإمام علي(ع) ليس شخصية تاريخية تتأطَّر بالزمن الذي عاش فيه، بل هو إنسان الرسالة، وهكذا بالنسبة للأئمة(ع). ونحن نأخذ هذا الوهج وهذا الضوء من شخصيات الرسالة، ولكن علينا أن لا ننقل معارك الماضي إلى الواقع، حيث كانت هناك خلافات وحروب فيها ظالم ومظلوم، فحاربوا الحق واتبعوا الشيطان من أجل أطماعهم ومصالحهم الخاصة، فركبوا رؤوسهم ولم يأخذوا بالحوار، ولكن أبناء هؤلاء لا دخل لهم بهذه الحروب، وربما ورثوا من آبائهم الموقف، ودورنا أن لا نحاربهم لمجرد أنهم أبناء أولئك، بل أن نحاورهم ونرشدهم وننقذهم مما هم فيه من ضلال ورثوه من خلال الآباء والأجداد وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، فإذا كان آباؤهم قد ظلموا وطغوا، فليس ذلك سبباً لنجعل أبناءهم في نفس الاتجاه، لأن لكل جيل مهمة رسالية، ومن خلال ذلك يبدأ في الواقع الإسلامي الحوار بين الاتجاهين المختلفين، فلا ينظر السُني إلى الشيعي من خلال التعقيدات التاريخية ليُحمِّل شيعة اليوم بعض سلبيات الماضي أو بالعكس، ولا ينظر الشيعي إلى السُنّي ليحمله كل ما حدث في الماضي ضد الشيعة، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ). فلقد كان المسلمون الأوائل أبناء المشركين، ولكنهم دخلوا الإسلام وأصبحوا أكثر الناس إخلاصاً للإسلام.
الانفتاح على الآخرين:
ومن جهة أخرى، فإنّ علينا أن لا نتعقَّد من الاتجاهات الإسلامية الأخرى التي تختلف معنا، فهناك فَرْقٌ بين أن نتعقَّد منهم وبين أن نختلف معهم. وليس معنى أن ننفتح على الآخرين أن نسقط ما يفكرون به ونترك ما نفكِّر به، ولكن علينا أن نفتح قلوبنا لهم فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( ) ننظر إلى الأمور نظرة صاحب رسالة، كما هو حال التاجر في السوق، بحيث يوسِّع صدره لزبائنه وهو يعرض عليهم البضائع ليرغّبهم بالشراء، فيجلب أكبر قدر ممكن من الزبائن.
أما في مجال الدعوة إلى الإسلام، فقد نلاحظ أنه قد يهرب الزبائن من بيننا بالأساليب العنيفة، والتي يحاول البعض أن يسقط منها مواقع البعض الآخر، سواء من السُنّة أو الشيعة. فهذا يكفِّر ذاك، وذاك يضلل هذا، وآخر يفسق، وذاك يحرِّم كتب هذا، وذاك يحرِّم الاستماع لذاك، وما إلى ذلك، بينما كان النبي محمد(ص) يقبل من الناس أن يسلموا بدون إيمان، فالواحد قد يسلم رهبةً أو رغبة، لأن الإسلام أصبح قوةً وله مكاسب، حتى إن الإسلام جعل في الزكاة سهماً للمؤلفة قلوبهم، وهم الذين دخلوا الإسلام ولم يرتكز الإسلام في قلوبهم، كما نقرأ في قوله تعالى حول مسألة الإيمان: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُل الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ( ). فالنبي(ص) كان يريد أن يدخل أكبر عدد من الناس في دين الإسلام، ولو بهدف تحييدهم عن الشرك، في بداية الأمر، إذ كان(ص) يريدهم أن يعيشوا أولاً في مناخ إسلامي ثم يدخلوا في الإسلام عن قناعة من خلال الدراسة والموعظة. أما نحن، فإننا نريد من الإنسان إما أن يكون مسلماً 100% أو لا يكون.
الحاضر صورة للماضي:
لذلك علينا أن نعيد النظر في قضية تعاملنا مع التاريخ، فنحن مسؤولون عن المستقبل وعن الحاضر، ولسنا مسؤولين عن الماضي والتاريخ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ. فعليكم أن تأخذوا الفكرة وتقارنوا بين نموذج الماضي ونموذج الحاضر. وللأسف، فإننا عندما نلعن الآن الكثير من أمور الماضي، فإننا نقدّس الكثير من أمثالها في الحاضر، فكم يزيد الآن نتبعه، وكم من حسين الرسالة والإصلاح نتنكر له ونقاتله. والإمام علي(ع) يريدنا أن ندرس التاريخ، لنتعلّم من دروسه ما يفيد في الحياة. وها هي بعض نصوصه قائلاً:
((فإذا تفكّرتم في تفاوت حالَيْهم)) يعني أن تلك الأمم قد مرت بحالتين - حالة إيجابية وأخرى سلبية - فدوركم هو أن تتفكروا في الحالة الإيجابية التي مرّت عليهم وأسبابها، وكذلك في الحالة السلبية التي مرّت عليهم، وما هي أسبابها، فإذا تفكّرتم في تفاوت تلك الحالتين، فخذوا من ذلك الدرس والعبرة..
((فالزموا كل أمرٍ لزمت العزة به شأنهم)) يعني الزموا ما ترون أنهم حصلوا عليه من مواقع العزة في تاريخهم، وما حقّقوه في حالات الصراع التي واجهوها.. ((وزاحت الأعداء له عنهم)) حيث استطاعوا أن ينتصروا على الأعداء، فابتعد الأعداء عن مواقع العزة والقوة والكرامة التي اتّصفوا بها..
((ومدَّت العافية فيه عليهم)) يعني أنهم استطاعوا أن يحصلوا على العافية، سواءً كانت صحّية أو اجتماعية أو أمنية وما إلى ذلك، والعافية هنا كناية عن الحالة التي يشعر الإنسان فيها بالطمأنينة والاستقرار، وبقدرته على الحركة والإنتاج وما إلى ذلك.. ((وانقادت النعمة له معهم)) فعندما عاشوا مناخ العافية والعزَّة والانتصار، استطاعوا أن يجعلوا من مجتمعهم مجتمعاً مُنتجاً، لأنَّ المجتمع المستقرّ، والذي لا يسقط أمام كلِّ عناصر الذلّ، ولا يعيش روح الهزيمة، هو مجتمع منتج، لأنه سوف يتفرَّغ لتأكيد هذه القوة في عملية الإنتاج الذي تنقاد فيه معهم..
رابطة الائتلاف:
((ووصلت الكرامة عليه حبلهم)) أي استطاعت الكرامة أن تربط بينهم كما يربط الحبل بين موقع وموقع. فما هي هذه الأمور؟ فإنَّ الإمام(ع) أعطى في البداية المفاهيم العامة، ثم أراد أن يُبيِّن العناصر المنتجة للعزة والكرامة، والتي تفتح أبواب النعمة وتؤكد مسألة العافية.. ((من الاجتناب للفرقة)) فكانوا متوحدين، وكانوا لا يتفرقون إذا اختلفت وجهات نظرهم، بل كانوا يأخذون بأسباب الالتقاء ويتحاورون في أسباب الاختلاف.. ((واللزوم للألفة))، حيث يلتزمون الألفة فيما بينهم، فيألف بعضهم بعض، من خلال العناصر الإنسانية التي تقرب بعضهم إلى بعضهم باعتبار ما يجمعهم وما يوحّدهم.. ((والتحاضّ عليها والتواصي بها)) كما هو قوله تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ( ).. ((واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم)) والفقرة هي التي يـتألف منها العمود الفقري للظهر، باعتبار أنها هي التي تعطي القوَّة والصلابة للإنسان، ولذا فإنه عندما يصاب شخص بمرض في العمود الفقري، فإنه يفقد القدرة على القيام، فاجتنبوا كل أمر يحطم قوتهم وصلابتهم، فهو كناية عن توازن حياة الإنسان.. ((وأوهن مُنَّتهم)) يعني أنهم يجتنبون كل ما يوهن قوتهم، والمُنَّة أي القوة.. ((من تضاغن القلوب)) والحقد والعداوة ((وتشاحن الصدور)) بحيث تحمل الصدور الشحناء ضد بعضها البعض.. ((وتدابر النفوس)) كناية عن التقاطع وعدم الإقبال بالوجه بما يوحي بالتواصل.. ((وتخاذل الأيدي)) بحيث إن كل يد لا تمتد لليد الأخرى عندما تصطدم بأي موقع من مواقع الصراع..
التدبّر التأريخي:
ثمَ يتوجه الإمام(ع) بالخطاب قائلاً: ((وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم)) هؤلاء الذين ساروا على ما أنتم عليه من الالتزام بالإسلام والسير في خط الإيمان.. ((كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء)) يعني أن هؤلاء المؤمنين قد دخلوا عندما أخذوا بأسباب الإيمان في تجربة البلاء والتمحيص، لأن اللّه يمحِّص المؤمن ليظهر جوهره، ويبتليه ليختبره، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ( ) فإن الذين أطلقوا كلمات الإيمان ولم يتحملوا مشاق التجربة الصعبة، سقطوا وسقط إيمانهم عند ذاك.
ولذا يقول اللّه سبحانه وتعالى في آية أخرى: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ( )، لأن الإنسان أحياناً عندما يُبتلى فهو بين شكرٍ للنعمة وبين كفر لها، بحسب ما يواجهه من حالة التجربة الصعبة.. ((ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً)) حيث عاشوا صعوبة الحياة كأشد ما تكون، فعندما ندرس كيف كانت المسيرة الأولى في حياة النبي(ص) في مكّة، وكيف تحمّل المسلمون الاضطهاد والعذاب حتى الشهادة، حيث استشهد ياسر وسميّة والدا عمّار عندما رفضا أن يقولا كلمة الكفر، ثم اضطر المسلمون من خلال ذلك لمواجهة الحصار الشديد، ومن ثم اضطروا للهجرة إلى الحبشة ليتخففوا من أثقال ذلك البلاء الذي ابتلوا به من خلال دخولهم في خط الإسلام والإيمان، حتى قال الرسول(ص): ((ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت))، لأن بقية الأنبياء أُوذوا في جانب واحد، ولكن النبي محمد(ص) قد أُوذي منٍ عدّة جوانب، باعتبار أن حياته(ص) كانت متحركة في السلم والحرب والدعوة مع المجتمع المعقَّد الذي كان يواجهه بما لم يعيشه أي نبي مثله، حتى النبي موسى(ع) الذي عاش ظرفاً صعباً مع بني إسرائيل، فإنه لم يعش تنوعات الحرب مثلما عاشها النبي محمد(ص)، خصوصاً تنوّعات الحرب والسلم. فالنبي موسى(ع) واجه في موقع الدعوة، وقد سلّحه الله بالآيات التي أسقط بها السحرة وأسقط بها فرعون من خلال ذلك..
((وأضيق أهل الدنيا حالاً)) فيما كانوا ((اتخذتهم الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار)) كما في حالة قوم موسى، كما أشار إلى ذلك القرآن بقوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ( )..((فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة)) يعني استمروا في ما يفرض عليهم وفي ما يقهرون به من غلبة الآخرين عليهم.. ((لا يجدون حيلةً في امتناع)) فلا يملكون الوسائل التي يستطيعون من خلالها الامتناع من ضغط الفراعنة.. ((ولا سبيلاً إلى دفاع)) فلا يملكون السلاح أو أي عنصر من عناصر القوة.
((حتى إذا رأى اللّه سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته)) فلم يتنازلوا ولم يخضعوا لكل ضغوط الكفر والاستكبار.. ((والاحتمال للمكروه من خوفه)) إذ كانوا يخافون الله، فيتحملون المكروه خوفاً من السقوط والابتعاد عن اللّه.. ((جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً)) فأفاض اللّه عليهم من لطفه ما نقلهم من الضعف إلى القوة كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ( )..((فأبدلهم العز مكان الذلّ، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً، وأئمةً أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه ما لم تبلغ بهم إليه بهم)) وهذا هو الذي حدث في زمن موسى(ع) لقومه وأتباعه عندما أغرق اللّه فرعون وهزمه وقومه، وانتصر المؤمنون بموسى(ع) وأصبحت مصر تحت سلطتهم.
فتح مكة:
وهكذا بالنسبة للمسلمين عندما انتصروا على المشركين بزعامة قريش، وفتحوا مكة، فسقطت قريش بتأثير القوة وانتصار السلاح، فدخل الناس في دين اللّه أفواجاً.. إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا( )، لأن الناس في الجزيرة العربية كانوا يخافون من قريش، فلم يدخلوا الإسلام، حتى أولئك الذين كانوا يقتربون من مفاهيمه، ولكن عندما سقطت قريش وأصبح الإسلام هو القوة الأولى، اندفعوا ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً..
((وبلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تبلغ الآمال بهم)) بمعنى أن اللّه أعطاهم ما كانوا يأملون.. ((فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة)) والأملاء جمع ملأ أي الجماعة والقوم.. ((والأهواء مؤتلفة)) يعني متفقة.. ((والقلوب معتدلة)) ليس فيها انحراف أو تطرّف أو ابتعاد عن الخط المستقيم.. ((والأيدي مترادفة)) مع بعضها البعض ويساعد بعضها البعض.. ((والسيوف متناصرة)) فالسيف ينتصر للسيف والسلاح ينصر السلاح.. ((والبصائر نافذة)) إذ كانوا يعيشون الوعي لكلِّ التحديات التي تحيط بهم، وكانوا يملكون البصيرة النافذة التي تستطيع أن تنظر إلى الأمور بكلِّ عمق وتنفتح على المستقبل بكل انفتاح.. ((والعزائم واحدة))، فكانوا يمثِّلون العزيمة القوية التي تجتمع فيها كل العزائم والإرادات، لتتحوَّل إلى قوة في مواجهة عزائم الكفر والاستكبار..
((ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين)) يعني أصحاب القوَّة والقرار.. ((وملوكاً على رقاب العالمين)) ثم دارت الأمور ((فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم))، فكان الإمام علي(ع) يتحدّث عن المسلمين في مثل هذه المراحل وما قبلها، حيث سيطر المستكبرون والكافرون على مقدرات المسلمين، فما هي الظروف التي قلبت الأمور رأساً على عقب. ((حين وقعت الفرقة)) فصاروا كما في قوله تعالى فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا( ) وقوله تعالى مما أشار إليه في آية أخرى وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ( )، فالريح عندما تكون مندفعة بقوة من جانب واحد فإنها تقلع الأشجار وتهدم البيوت وما إلى ذلك.. ((وتشتّت الألفة)) فصار كل واحد يعادي الآخر.. ((واختلفت الكلمة والأفئدة)) فأصبح لكٍل شعاره وعناوينه وما إلى ذلك، واختلفت القلوب، فأصبح كل قلب يتجه في اتجاه مختلف عن الآخر.. ((وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين)) كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ( )، فكل جماعة لا تندمج مع جماعة أخرى، فالكل يريد الزعامة، ولذلك تعددت الأحزاب.. ((قد خلع اللّه عنهم لباس كرامته)) عندما ابتعدوا عن حس الكرامة والمسؤولية في الأمة.. ((وسلبهم غضارة نعمته)) والغضارة هي السعة.. ((وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين منكم))( ) لتأخذوا منهم الدروس والعِبَر. وهو ما يشير إليه الإمام علي(ع) في الحديث عن التاريخ، حيث يرسم المنهج الإسلامي للتعاطي معه. وللحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء اللّه..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الحادية عشرة14ربيع الثاني 1424 ه14/6/2003م
من التجارب السلبية للأمم
عليكم أن تدرسوا التجربة لتتفادوا نتائجها السلبية فيما تستقبلونه من أموركم
من تاريخ الأمم.
كثرة مشتتة.
من التوحيد إلى الصنمية.
أفياء الرسالة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
يتابع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في خطبته (القاصعة) تذكير الأمّة بالتاريخ السلبي الذي عاشت تحت تأثيره وفقدت معه مواقع القوة، فتحدّث عن المسألة السياسية في قضية حرّية المجتمع في تقرير مصيره أو سقوطه تحت تأثير القوى الظالمة والطاغية، ليحلّل أسباب ذلك؛ فالأمّة قد تقع تحت تأثير سيطرة الطغاة، لأن طبيعة السلوك الذي يطبع علاقاتها وتطلّعاتها يترك تأثيرات سلبية على ما تواجهه من مشاكل. ولعلَّ النقطة الحيوية في هذا المجال هي مسألة التمزّق الذي تعيشه الأمّة في داخلها والتخلّف الذي يطبع ذهنيتها، فلا تملك معهما تحقيق التوازن في أمورها، سواء على مستوى تقاليدها أو عاداتها أو ما أشبه ذلك..
من تاريخ الأمم:
يذكّرنا الإمام علي (ع) في عملية توجيه لدراسة تاريخ ولد إسماعيل ـ وهم العرب ـ وولد إسحاق ـ وهو تعبير عن اليهود أو (بني إسرائيل) ـ؛ حيث وقع العرب تحت سيطرة الأكاسرة، بينما وقع اليهود تحت سيطرة القياصرة، ومن خلال ذلك، عاشوا الاضطهاد والاستعباد، فلم يملكوا أمرهم ولا مستقبلهم.
وما يريد الإمام علي (ع) بيانه في هذا المجال، أنكم ربما تسيرون في هذا الاتجاه وتعيشون تلك التجربة، فعليكم أن تدرسوا التجربة لتتفادوا نتائجها السلبية فيما تستقبلونه من أموركم، حتى لا تقعوا في ما وقعوا فيه.. وفيما يلي، نتابع نص حديث الإمام (ع) في هذا الجانب، ونتابع استيحاء كلماته في كل أوضاعنا السياسية والاجتماعية، حيث يقول (ع):
((واعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهم السلام، فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال))، يعني خذوا العبرة والدرس في أحوال بني إسماعيل وبني إسحاق، فقارنوا بين أوضاعهم وأوضاعكم، وبين سلوكياتهم وسلوكياتكم، لتعرفوا أن حالكم الآن هو مثل حالهم سابقاً، وأن مثلكم الآن هو مثلهم في السابق، ولذلك فإن الحديث عنهم يعني الحديث عنكم، باعتبار أن وضعكم يشبه وضعهم وحالكم عدل لحالهم ـ وهو المقصود باعتدال الأحوال ـ وإن مثلكم يشابه مثلهم، وهو قوله: "وأقرب اشتباه الأمثال".
((تأمَّلوا أمرهم في حال تشتّتهم وتفرّقهم)) حيث كانوا عشائر متناحرة، وقبائل متنازعة، ومجتمعات لا تأخذ بأسباب القضايا المشتركة ومواطن اللقاء فيما بينها، بل تعيش الفواصل، وتسقط تحت تأثير العصبيات التي لا معنى لها، ((ليالي كانت الأكاسرة)) وهم ملوك فارس، ((والقياصرة)) وهم ملوك الروم الذين كانوا مقيمين في نواحي الشام، ((أرباباً لهم)) أي كانوا يسيطرون عليهم ويملكون أمرهم ويهيمنون على كلِّ مقدّراتهم.. ((يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا)) يعني أنهم كانوا يعيشون في بلاد خضراء وأنهار تتفجر وتفيض، وأرياف تعطي الكثير من المزروعات التي تغذيهم وتغذي أنعامهم، فكانوا يحتازونهم عن كلِّ ذلك ((إلى منابت الشيح)) الأشواك ((ومهافي الريح)) أي الأماكن التي تهبُّ فيها الرياح وهي الصحارى؛ فبينما يكونون في مواقع الحضارة والرخاء، وإذا بهم ينقلونهم إلى الصحراء ليعيشوا حياتها ((ونكد المعاش)) أي شدة العيش وعسرته.. ((فتركوهم عالةً مساكين)) أي لا يملكون اقتصاداً مستقلاً، فهم يعيشون الفقر ويطلبون حاجاتهم من الآخرين.. ((إخوان دَبَرٍ ووبر)) فكانوا يأكلون الحيوانات بدمائها ـ حسب بعض التفاسير ـ أو كناية عن الجِمال، وفي ذلك إشارة إلى فقرهم وضيق معيشتهم..
((أذل الأمم داراً)) فلا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم وعن دورهم حين يهاجمهم أحد، ((وأجدبهم قراراً)) إشارة إلى عدم وجود خصب في المكان الذي يستقرون فيه، إذ ليس فيه رخاء، بل كانت أرضهم مجدبة غير مزروعة.. ((لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها)) فلا يملكون قاعدة تظلّلهم كما يظلل الجناح ما تحته بحيث يعتصمون كما يعتصم الإنسان من حرارة الشمس.. ((ولا إلى ظل أُلفة يعتمدون على عزّها)) إذ لا يملكون نوعاً من الألفة الاجتماعية التي يألف فيها أحدهم الآخر، فيتساندون ويتواصلون ويقوّي بعضهم بعضاً ليأخذوا العزة من خلال ذلك.. وهنا يشير الإمام (ع) إلى أن تآلف المجتمع في علاقاته ينتج التراحم والتواصل والتعاون، وهذا ما يُكسب المجتمع العزّة.
ويتابع الإمام (ع) وصف مآلهم بقوله: ((فالأحوال مضطربة)) فليس هناك استقرار في كلِّ نواحيهم الاجتماعية والاقتصادية والأمنية وما إلى ذلك.. ((والأيدي مختلفة)) فكلُّ يدٍ تتحرَّك في اتجاهٍ يختلف عن حركة اليد الأخرى، وإن الأيدي لا تتوافق ولا تتواصل لكي يشدَّ بعضها بعضاً، وهو كناية عن أن المجتمع يتحرك أفراده كل منهم في اتجاه يختلف عن الاتجاه الآخر، ولا يتحرّك الجميع باتجاه هدف مشترك.. ((والكثرة متفرقة)) فإننا عندما ندرس الأرقام العددية التي يتمثلونها في تعدادهم، فنجد في ذلك الكثرة التي لم تجتمع لتمثِّل القوة، لأن الكثرة إنما تشكل قوةً عندما تنضم جهود الأفراد إلى بعضها البعض، أما إذا كان كل عدد يتحرك وحده، فإنه لا يمثِّل قوةً تذكر. وكمثال على ذلك، لو أنّ إنساناً يملك مليون دينار، ولكن كلّ دينار من هذه المليون موجودة في منطقة، فإنه لا يستطيع أن يحركها إلى جانب الدنانير الأخرى، لأن قوة المليون المتفرقة قوة الدينار.
وهكذا بالنسبة إلى المجتمع، فهو إنما يكون قوةً بالملايين حينما يكون الأشخاص الذين يؤلفون الملايين موحّدين ومتعاونين ومتواصلين، وإلا فكما يقول المثل: (كلٌ يغني على ليلاه). ويشير القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ( )، أو كما في حديثه عن اليهود: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى( ) بمعنى أنه لم يكن هناك مجتمع يهودي في صدر الإسلام، وإنما كانوا أفراداً، ولذلك فقد انتصر الإسلام عليهم آنذاك، حيث كان المسلمون كما في الآية الكريمة: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ( ).
كثرةٌ مشتتة:
فالإمام (ع) يريد أن يقول بأنّ ولد إسماعيل وولد إسحاق كانوا يمثّلون الكثرة العددية، ولكنها كانت كثرةً متفرّقةً لا تعطي قوة.. ((في بلاء أَزْل)) يعني بلاء شديد .. ((وإطباق جهل)) إذ كان الجهل مسيطراً عليهم، لأنهم لم يأخذوا بأسباب العلم الذي ينير الطريق إلى القوة والانتصار والإبداع والإنتاج، وهو ما ترتفع الأمّة من خلاله ..((من بنات موؤدة))، فكان وأد البنات يمثِّل تقليداً من تقاليد عرب الجاهلية قبل الإسلام، حيث سادت هذه العادة على إثر مهاجمة الفرس على بعض المناطق العربية وأخذوا أموالهم وسبوا ذراريهم ثم حصلت الهدنة وطلب العرب منهم أن يرجعوا ذراريهم ونساءهم، فقال كسرى إنه يعطي الحرية لكل أسيرة تريد اللحاق بأبيها أو زوجها، فكل بنت لحقت بأبيها إلا بنت واحدة، وهي بنت عاصم بن قيس الذي يعتبر شريف قومه، فاختارت البقاء مع الفاتحين أو مع من سباها، فأخذ عاصم عهداً على نفسه أنه كلما يأتيه مولود بنت، فإنه سيدفنها وهي حيّة حتى لا يصاب بالعار كما أصيب به حينما لم تلحق به ابنته الأسيرة، فأصبحت تلك عادةً في المجتمع الجاهلي، وقد ذكرها القرآن الكريم بقوله: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ( )، وفي آية أخرى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا( ).. فالإمام (ع) يشير إلى تلك العادة الجاهلية التي لا تحمل أيَّ نبض إنساني تجاه هذه الوليدة البريئة في دفنها حيّةً أو عندما تكبر ..
ونودُّ في هامش هذه القصة التنبيه إلى أننا عندما ندرس منشأ كثير من العادات والتقاليد المتخلّفة، سواء التي تفرض نفسها في الوسط الديني أو الاجتماعي، نجد أنها بدأت من خلال شخص قام بعمل فاستهواه الآخرون، فقلّدوه في ذلك العمل، وتتابعت مسألة التقليد لذلك العمل، حتى أصبح من المقدّسات أو من الضروريّات وما إلى ذلك .. ولعل بعض الأمثلة التي تعيش في مجتمعنا خير شاهد على ذلك؛ إذ أن بعض مراسم عاشوراء ـ كالتطبير مثلاً ـ أصبحت من المقدّسات مع أنها لم ترد في نص شرعي، بل قام بها شخص أخذته العاطفة، فاتّبعه الناس بعد ذلك. ونحن نقول: إن قضية الإمام الحسين (ع) من أمثال هذه الممارسات، وقد عاشت الذكرى مئات السنين من دون عدد من هذه المراسم، بل من خلال إحياء المجالس المليئة بالوعي والعاطفة، على أساس قول الإمام الصادق (ع): ((أحيوا أمرنا رحم اللّه من أحيا أمرنا)) فإحياء أمرهم هو أن يأخذوهم بكلّهم، بعلمهم وسلوكهم ومنهجهم في الحياة، لا أن يقتصروا على جانب المأساة ويغفلوا الجوانب الأخرى، ((فإن الناس إذا عرفوا محاسن كلامنا أحبّونا))( ).
من التوحيد إلى الصنمية:
ثمّ يتعرّض الإمام بعد ذلك لقضيّة تحوّل الدين لدى تلك الأمم من التوحيد إلى الصنمية، فيقول: ((وأصنام معبودة)) فقد بدأ ولد إسماعيل وولد إسحاق من مواقع الرسالة، وهي رسالة النبي إبراهيم (ع)، وانتهوا إلى عبادة الأصنام نتيجة الجهل الذي يجعل الإنسان ينفتح على الخرافات، وأي خرافة أعظم من عبادة أحجار على أساس أن فيها أسراراً تتصل باللّه وما إلى ذلك؟! إن الذهنية الخرافية التي تسيطر على المجتمع تجعله يعيش مثل هذه الذهنية الصنمية، سواء كانت صنمية الحجر أو صنميّة البشر، كالذين كانوا يعبدون فرعون أو النمرود أو غيرهما.
ونحن نستوحي من هذه المسألة أن علينا أن ندرس كل ما يأخذه المجتمع من العادات والتقاليد، حتى في بعض مفردات العبادة التي يتحرك البعض فيها دونما وعي، وهي في الحقيقة تبتعد عن التوحيد. ودراسة عادات وتقاليد المجتمع لا تُسقط المجتمع ـ كما قد يتوهّم البعض ـ، بل تؤصله؛ لأنّك عندما تسلط الفكر على عادة معيّنة أو تقليد معيّن، فتدرس امتداداته وسلبياته وإيجابياته والظروف التي أوجدته، فإنّك بذلك تأخذ منه الخلاصة التي تخدم حياتنا، والتي تنسجم مع القواعد الفكرية الأساسية، ونحن نقول: إن النقد لا يخذل المفكِّر ولا يسقط الحقيقة، بل عندما نطلقه من خلال قواعده الأصيلة وندير الحوار حوله، فإنه يكشف لنا الحقيقة، وفي الوقت نفسه يؤكد لنا الصواب. والإمام (ع) عندما يشير إلى السلبيات التي عاشها المجتمع العربي أو اليهودي، فإنّه يريدنا أن ندرسها لاستخلاص العبر والدروس، لكي نتلافى السلبيّات التي عاشوها على أساس الوعي.
((وأرحام مقطوعة)) وقد قال تعالى: فَهَل عَسَيْتُم إنْ تَوَلَّيْتُم أَن تُفسِدوا في الأَرْضِ وتُقَطِّعوا أَرْحامَكُم( )؛ فعندما تسود الذهنية المادية أو العصبية وما أشبه، فإنها تبعد العلاقات الإنسانية عن حيويتها، وتجعل الإنسان ينظر للعلاقات من خلال المنفعة والمصلحة، لا من خلال القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية.. ((وغارات مشنونة)) فكان هذا الواقع العشائري والقبلي هو السائد، فكل منهم يشنُّ الغارة على الآخر من أجل السلب والنهب أو الثارات وما أشبه.. فواقع هؤلاء من خلال مناخ عاداتهم وأوضاعهم وتقاليدهم هو الذي جعلهم يسيرون في هذا المنحدر ويقعون في هذه الهاوية .. فكأنَّ الإمام (ع) يقول لنا: انظروا إلى مجتمعكم أنتم، فقد لا تكونون مثلهم في المفردات، ولكن قد تكونون مثلهم بلحاظ الذهنية وأسلوب العمل وفي طريقة نظرتكم إلى الواقع.
أفياء الرسالة:
هذا ما كان من أمرهم قبل بعثة النبي محمد(ص)، ولكن بعد أن بعث اللّه رسوله، فكيف تبدلت الحال؟ يقول عليّ (ع): ((فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولاً فعقد بملتهم طاعتهم)) حيث ركَّز المجتمع على أساس القانون الرسالي والمفاهيم الروحية؛ فدعا هؤلاء الناس إلى الطاعة فيما جاءهم عن اللّه ورسوله.. ((وجمع على دعوته أُلفتهم)) فحقق الألفة بينهم على أساس قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ). وقضية ألفة القلوب لم تنطلق على أساس الشخص، ولا من خلال المال، والجهد الشخصي لا يملك أن يسيطر على العقول والقلوب، والمال قد يطوِّع من تعطيه ولكنه لا يفتح قلبه، فقال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( )، والله تعالى ألّف بين المسلمين من خلال المنهج الإلهي لدعوة النبي محمد(ص)، حيث أدخله إلى وجدانهم وعقولهم، فأصبح مجتمعهم مجتمعاً واحداً يألف بعضهم بعضاً ويتحرك بعضه مع بعض في الخط الواحد الذي رسمه اللّه ورسوله(ص)، فبعد أن كان المسلمون تحت سيطرة كسرى وقيصر يعيشون العبودية، استطاعوا ـ بعد ذلك ـ أن يسيطروا على كسرى وقيصر من خلال الوحدة الروحية والخط الواضح من خلال اللّه ورسوله(ص)..
((كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها)) فأصبحوا يعيشون الكرامة في أنفسهم، ورجعت إنسانيتهم، فتحركوا من موقعها في علاقاتهم ببعضهم البعض.. ((وأسالت لهم جداول نعيمها)) واستطاع المسلمون بفضل الإسلام خلال سنين قليلة، أن يعيشوا الرخاء والنعمة فيما أفاض اللّه عليهم من خلال حركة الإسلام في الواقع.
((والتفَّت الملّة بهم في عوائد بركتها)) يعني أن ملّة الإسلام أعطتهم البركة فيما أعطتهم من العوائد والنتائج.. ((فأصبحوا في نعمتها غرقين وعن خضرة عيشها فكهين)) بعد أن كانوا يعيشون الجدب في الصحراء .. ((قد تربعت الأمور بهم)) أي أخذت مواقعها ((في ظل سلطان قاهر)) بعد ضعفهم.. ((وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب)) حيث أصبحت السلطة لهم بعد أن كانت السلطة القاهرة للآخرين من الطغاة، ((وتعطّفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت)) يعني انطلقت الأمور التي فتحت لهم الكثير من مواقع القوة في قمة الملك الثابت الذي لا يتزلزل.. ((فهم حكام على العالمين، وملوك في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم)) فبعد أن كان يملكها الأكاسرة والقياصرة، ويخضعون لحكمهم، انقلبت الأمور وأصبح أولئك تحت حكمهم. ((لا تُغْمَز لهم قناة)) أي رمحهم متّحد وثابت ولا يمكن أن يلتوي، ((ولا تقرع لهم صفاة))( ) فتبقى في موقع القوة، حيث كان الإسلام عامراً في القلوب والصدور، ثم ماذا حدث للمسلمين بعد ذلك، وهل استمروا على هذه النعمة أم أنهم حوَّلوا تلك النعمة إلى نقمة؟! وهذا ما نرجو الحديث عنه في الأسبوع القادم إن شاء اللّه..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثانية عشرة21ربيع الثاني 1424 ه21/6/2003م
علي(ع): خطاب المبادئ العامّة
عندما نقرأ علياً(ع)، فنحن لا نقرأ التاريخ لنتحدّث عن الجمهور الذي كان في عصره، بل نقرأ الواقع، لأن التعقيدات التي كانت في عصره والتي واجهته هي نفسها التعقيدات التي نواجهها في عصرنا الآن
علي(ع) الحاضر أبداً.
الحديث عن واقع الأمة.
الأخذ بأسباب العلم.
التأريخ يعيد نفسه.
من الوحدة إلى التمزق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وهو يخاطب أصحابه ليضيء لهم الطريق. وهو إذ يخاطب أصحابه في عصره، فإنه يخاطبهم بالمبادئ العامّة التي تتحرّك من خلال القاعدة الإسلامية مع الأجيال، لأن عليّاً هو إمام المسلمين، لذلك فإنه لا يُختصر بجيل دون جيل. كما إنه حين ينقد مجتمعه، فإنه ينقده من خلال الخطوط الإسلامية العامّة التي يمكن أن تتحرّك بالنقد المنطلق منها في كلِّ جيل من الأجيال.
علي(ع) الحاضر أبداً:
وعندما نقرأ علياً(ع)، فنحن لا نقرأ التاريخ لنتحدّث عن الجمهور الذي كان في عصره، بل نقرأ الواقع، لأن التعقيدات التي كانت في عصره والتي واجهته هي نفسها التعقيدات التي نواجهها في عصرنا الآن، ولذلك فعلينا أن نقرأ نص الإمام علي(ع) كما لو أنه كان حاضراً بيننا ويخاطبنا كما كان يخاطب أولئك.
يقول الإمام علي(ع): ((ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة)) وهو يشير إلى الانحراف والتمرّد الذي كان المسلمون في عهده يأخذون به، فلا يلتزمون الإسلام في صفائه ونقائه، بل يتحركون انطلاقاً من الأوضاع المعقَّدة التي كانت تحكم ذلك المجتمع وتسيطر على علاقاته وانتماءاته.. ((ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة)) فتركتموه.. ((وثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهلية)) ويقصد من كلمة (حصن اللّه) هو الإسلام، فإن اللّه سبحانه وتعالى جعل الإسلام حصناً للناس يتحركون بداخله ليحميهم من كل التيارات المضادَّة التي يمكن أن تنفذ إلى المجتمع لتمزّق وحدته وتُسقِط قيمه ومواقعها، لأن قيمة الحصن هو هذا التماسك بين أجزائه، بحيث لا يكون فيه أية ثغرة، ولا يكون فيه أي خلل يمكن أن ينفذ منه الأعداء، ولكن عندما أخذ القوم بأحكام الجاهلية في عصبياتهم وفي تحركاتهم على أساس أهوائهم، أو نتيجة لإيقاع المستكبرين بهم، وابتعادهم عن خط الاعتصام بحبل اللّه، فإنهم ثلموا هذا الحصن وأحدثوا فيه ثغرة دخلت إليه بعض الجاهلية على مستوى المجتمع، حيث يشير الإمام(ع) كما سيأتي إلى حالة التمزّق والتمرد وعدم التوازن والاستقامة في خط الإسلام بدل أن يجعله المسلمون القاعدة التي ينطلقون منها ويرتكزون عليها.
((فإن اللّه سبحانه قد امتن على جماعة هذه الأمّة فيما عقد بينهم من حبل الألفة التي ينتقلون في ظلها ويأوون إلى كنفها بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنها أرجح من كل ثمن)) يدفع ((وأجلّ من كل خطر)) كبير.. وفي هذا إشارة إلى هذه النعمة الإلهية في تحوّل تلك المجتمعات التي كانت تتحرك في خط العداوة والبغضاء، إلى التحرك في خط المحبة والصداقة والألفة. وهذا ما عبّر عنه سبحانه وتعالى بقوله وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( )، وقد حدّث اللّه سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله(ص): لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( ) يعني أنه منحهم هذه النعمة بلطفه ورحمته.
الحديث عن واقع الأمة:
ثمَّ بدأ الإمام(ع) يتحدّث عن واقع الأمة التي وصلت إليه بقوله(ع): ((واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً)). وهنا لابد أن نتوقف عند هذه الكلمة، وهي علاقة الهجرة بواقع الأعراب. فهذه المسألة، وبحسب ما يُستفاد من الآيات الكريمة، هي أن النبي(ص) بعد الهجرة إلى المدينة دعا كل من آمن به إلى أن يهاجروا معه وأن يخرجوا من مجتمع الكفر والشرك إلى مجتمع الإسلام، معتبراً أن لا ولاية بين الذين آمنوا ولم يهاجروا وبين المسلمين، وذلك لأن النبي(ص) كان يريد إنشاء المجتمع الرسالي المثقَّف بثقافة الإسلام، لأن ظروفه(ص) في مكّة كانت قاسية بحيث لم يستطع معها أن يقوم بتنفيذ خطته بتثقيف المسلمين المؤمنين الذين دخلوا الإسلام، لأن قريشاً لم تترك للنبي(ص) الفرصة الواسعة للتبليغ ولتلاوة القرآن، فقد كانوا يمنعون الناس من الاجتماع إليه ليستمعوا إليه ويتثقفوا، وكانوا إذا رأوا أناساً يجتمعون حول النبي(ص) وهو يقرأ عليهم القرآن، يقولون وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ( ) يعني أثيروا الضجيج والضوضاء حتى لا يسمع أحد النبي(ص)..
وهكذا عرفنا كيف اضطهد المسلمون في مكّة، ولماذا هاجروا إلى الحبشة، لأنه لم يكن هناك أيَّة فرصة للنبي(ص) ليصنع مجتمعاً مثقفاً بالفكر الإسلامي وبأحكام القرآن وما إلى ذلك.. فالنبي(ص) كان يريد تأسيس المجتمع الرسالي المسلم الذي يحمل الرسالة من موقع علمٍ وعقلٍ وفكر، فلا يكتفي بأن يدخل الإنسان في الإسلام ويمارس بعض عباداته، بل كان(ص) يريد أن يصنع دعاةً للإسلام، وأن يصنع قيادات رسالية إسلامية، ولذلك لم يرد للمسلمين الذين آمنوا به في مكّة أن يبقوا هناك، لأنهم - عندئذٍ - ينفصلون عن قاعدة الرسالة، ولا يملكون أية فرصة لزيادة إيمانهم وتثبيت إسلامهم ومعرفتهم بالإسلام، بل يبقون تحت رحمة المشركين، وربما يتراجع إسلامهم بفعل انقطاع المدد الثقافي عنهم، وبفعل ابتعادهم عن الأجواء الروحية التي يمكن أن يعيشوها لو كانوا في المدينة مع النبي(ص). ولذلك فقد حذر النبي(ص) الذين آمنوا ولم يهاجروا بأن ليس هناك من ولاية بينهم وبين المسلمين الذين هاجروا. لذلك فإن الهجرة لا تُمثِّل مجرَّد انتقال من مكّة إلى المدينة، بل كانت تُمثِّل رحلةً إلى الموقع الإسلامي، تمنح المسلم نمّواً في عقليته، وحركةً في عقله، وانفتاحاً في سلوكه وعلاقاته، ليكون الإنسان الذي يمكن أن يحمل الدعوة الإسلامية.
الأخذ بأسباب العلم:
وقد أكد الإسلام بعد ذلك أن على المسلمين الأخذ بأسباب العلم قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( )، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا( ) حتى إنه عندما تحدّث عن المشركين، فقد تحدّث عنهم بصفة كونهم لا يعلمون وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ( ).. لذلك فإن الهجرة تتحرَّك في إطار اجتماع المسلمين حول الرسول(ص) ليستمعوا إليه في خطابه ومواعظه وهو يتلو عليهم القرآن يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ( ) وكانوا يلتفون حوله ليسألوه عن كل ما يسمعونه هنا وهناك من شبهات، وعن كل ما يدور في أذهانهم من علامات الاستفهام حول أية قضية. ولذلك نشأ في المسلمين من أصحاب النبي(ص) مَنْ أخذ بأسباب علم القرآن والإسلام، وأصبح هناك حفظة للقرآن قرّاء له، حتى قيل إنه في حرب (اليمامة) قتل 70 من هؤلاء القرّاء، وقد اختص النبي(ص) بتهيئة الإمام علي(ع) للقيادة المميزة بما لم يختص به أحداً من المسلمين، ولذلك قال(ع) يصف هذا الاختصاص: ((علّمني رسول اللّه(ص) ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب)). وقد روي عن النبي(ص) قوله: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))، لأنه هيّأ علياً(ع) للقيادة الثقافية والسياسية والروحية والإدارية، باعتبار أن دوره يفرض ذلك كله.
إذاً فكلمة الأعرابي بحسب المصطلح هو ذاك الذي لم يتفقه في الدين، وهو الذي لم يتعلم أحكام الإسلام، بل بقي على معلومات بسيطة سطحية لا تغني الإنسان أو تدفعه لكي يفكر ويدعو وما إلى ذلك.. وقد ورد الحديث عن الأعراب في القرآن الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( )، باعتبار أن هذه الفئة لا تعرف حدوده، لأنها لم تتعلم ولم تهاجر لتعرف حدود اللّه، لذلك دخلت في خط النفاق، وربما اقتربت من خط الكفر، وقد تحدّث القرآن الكريم في موضع آخر عن الأعراب الذين كانوا يتحركون في الجانب السلبي حول المدينة وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ( ). وقد نزلت الآية في قبائل أسلم وأشجع وجهينة، ولكن القرآن الكريم لا يتحدّث عن الأعراب بشكل مطلق في الجانب السلبي هذا، لأنه يتحدّث عن مجموعة أخرى من الأعراب أخذوا بطريقتهم الخاصة وبوسائلهم الخاصة، الأسباب التي تعطيهم عمق الإيمان وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ).
وفي هذه المسألة يشير الإمام علي(ع) بقوله مخاطباً المسلمين: ((أصبحتم بعد الهجرة أعراباً)) كأنه يقول لهم إنكم كنتم في عهد الرسول(ص) بمثابة المهاجرين، لأنكم تفقّهتم بالقرآن فيما جاء عن النبي(ص) وعشتم تلك الأجواء، ولكنكم انفصلتم - بعد ذلك - عنها عندما ابتعد الزمن بينكم وبين النبي(ص)، وبدأتم تتركون الأخذ بأسباب الروحانية، وتحوّلتم إلى جماعة من الناس لا تفقه في دينها شيئاً، لأنها انفصلت عن أسباب العلم ولا تلتزم الخطوط المستقيمة في الدين وما إلى ذلك، وخصوصاً من خلال هذه التعقيدات والمنازعات والخلافات والمؤامرات التي كانت تحدث بين المسلمين نتيجة المتغيّرات التي حصلت في مجتمعهم حينذاك.
التأريخ يعيد نفسه:
ونحن عندما ندرس واقع المسلمين الآن، فإننا نجد أن الخطاب الذي وجَّهه الإمام علي(ع) لمن كان في عهده يمكن أن يُوجه لكثير من المسلمين اليوم، لأنهم لم يأخذوا بأسباب الثقافة الإسلامية، فنجد أن الثقافة الإسلامية مقتصرة على فريق من الناس، وهذا الفريق نفسه ربما يختلف بمستواه الثقافي، بين من يأخذ من الثقافة ما يقوم على أساس التراث من دون الانفتاح على التطوّرات المعاصرة في أساليبها وفي وسائلها، وبين من يأخذ بالتراث وبما استجدّ. ولعل معظم المسلمين في شغل عن إسلامهم، ولهذا رأيناهم يتبعون خطوات الكفر ويأخذون بعناوينه وينتمون إلى مواقفه، باعتبار أنهم لا يفهمون حدود المفاهيم الإسلامية بالدقة المطلوبة.
وعلى ضوء هذا، فقد يأخذون بعض مفاهيم الكفر بما يُخيَّل إليهم فيه أنها من الإسلام. بهذا نجد كيف نفذ الكثير من المفاهيم الغربية إلى وجدان المسلمين، باعتبار أنهم لم يعرفوا الفواصل بين ما هو إسلامي بقواعده ومفاهيمه وبين ما هو الكفر بقواعده ومفاهيمه. وهكذا رأينا أن جهل المسلمين بإسلامهم تطوّر إلى ابتعاد المسلمين عن الإسلام، فلا نجد هناك ثقافة إسلامية واسعة عند أكثرية المسلمين في العالم.
ولذا، فإن ما تحدّث عنه الإمام علي(ع) في عصره، لعله ينطبق على كثير من المسلمين في هذا العصر.. وأودُّ أن أنبه إلى نقطة أُخذت عنواناً في الأحكام الشرعية الإسلامية، وهي مسألة التعرّب بعد الهجرة، وهي من الأمور المحرّمة شرعاً. والمقصود من التعرّب بعد الهجرة هو أن يسافر الإنسان المسلم من غير حاجة ومن غير ضرورة من بلاد الإسلام، حيث يعيش أجواء الإسلام ومناخه وأهدافه ووسائله، إلى بلاد الكفر حيث لا تتوفر لديه الأجواء الإسلامية ولا تتوفر لديه أسباب الثقافة الإسلامية وما إلى ذلك، فيفقد الإنسان إيمانه تدريجياً بنسبة معينة وحسب اختلاف ظروفه، وهو إنْ ملك نفسه فإنه سيفقد أولاده الذين يدرسون في مدارس الكفر وأجوائه، بل إنه لا يملك أن يربح أولاده أو يؤثر عليهم. ففي هذه الحالة، فإن الهجرة إلى بلاد الغرب قد تعتبر في كثير من الحالات من التعرّب بعد الهجرة، ولكن يمكن، كما كنا نقول للمغتربين عن بلادهم، خصوصاً الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ( ) أو الذين اضطهدوا هنا وهناك، إن من الواجب أن تفتحوا مدارس إسلامية وتعملوا على إيجاد المراكز الإسلامية الثقافية والعبادية وما إلى ذلك، لأن هذا هو الشرط الموضوعي لأجل حلّية بقائكم هناك بالنسبة إليكم وبالنسبة إلى أولادكم، فنحن نطمع الآن أن نحوِّل بلاد الغرب إلى بلاد إسلامية، ولا يكفي أن يتواجد فيها المسلمون من دون الإسلام لمجرد انتمائهم إلى الإسلام، بل أن يكوِّنوا مجتمعاً إسلامياً، وأن يعملوا على أساس تقوية المواقع الإسلامية ودعوة الآخرين إلى الإسلام.
من الوحدة إلى التمزق:
((وبعد الموالاة أحزاباً)) والنقطة الثانية التي يركِّز عليها الإمام علي(ع) هي التحزّب بعد الوحدة، فالموالاة كناية عن المجتمع الذي يوالي بعضه بعضاً، كما في قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ( ). فالعلاقة الإسلامية هي علاقة ولاية بين المسلمين، إذ كلُّ مؤمن أو مؤمنة، ومسلم أو مسلمة، يعملون على أساس الموالاة للمسلمين الآخرين، لأنَّهم يشعرون بأنهم أمة واحدة، وأنهم يمثلون خطاً واحداً، ويتحركون نحو هدف واحد، ويعيشون مسؤولية واحدة، وهو أن تكون كلمة اللّه هي العليا وأن تكون كلمة الشيطان هي السُفلى. فهذا هو الذي أراده اللّه سبحانه وتعالى بقوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا( ) وهذه هي المسألة الإسلامية التي أكدَّ عليها النبي(ص) بقوله: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى))( ) وهكذا بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( ).
فالموالاة تمثِّل حالة الوحدة بين المسلمين، والمودة والرحمة التي تقتضي التعاون وتفرض الإحساس الواحد، لأنهم أمّة واحدة وليسوا فِرَقاً متناثرة، وحتى لو اختلفوا في بعض الأمور والاجتهادات، فإن ذلك لا يمنع وحدتهم على الأسس التي يلتقون عليها، ولكنهم تحوّلوا إلى أحزاب وفرق متباعدة ومتناثرة، وكل منهم يفكّر بدائرته الخاصة بعيداً عن الدائرة الأخرى، وربما يكفِّر بعض المسلمين بعضاً، وربما يحارب بعضهم بعضاً على أساس العصبيات المذهبية والطائفية السياسية وما إلى ذلك، ما جعل المسلمين يتوزَّعون فرقاً فرقاً، بحيث لا تجمع بينهم كلمة اللّه لتتحول بهم إلى عمق في الواقع وفي العلاقات. ولذلك فقد ركّز الإسلام على سلبية هذه الحزبية التي كانت موجودة في الجاهلية بقوله تعالى: من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ( ) يعني بها الحزبية القائمة على العصبية التي تتحرك من خلال انفصال المجتمع عن بعضه البعض، بحيث يتحول المجتمع الواحد الذي يملك انتماءً واحداً وعنواناً واحداً إلى مجتمعات متعددة، كل منها يستغرق بذاته، وكما قال الشاعر:
وتفرقوا شيعاً، فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبر
بحيث أصبحت القيادات متعدّدة بدلاً من القيادة الواحدة الموحدة، مع أنه لا مانع في الإسلام من أن تكون هناك عدة تنظيمات قد تختلف في بعض الوسائل والأساليب، ولكن لابد أن يكون هناك اتفاق على القاعدة التي ينطلقون منها، بحيث لا يختلفون على الإسلام، بل يتحاورون فيما بينهم، وإذا تنازعوا في شيء فإنهم يردونه إلى اللّه والرسول. ولذلك فالحزبية هنا تعني العصبية والاستغراق في الذات أو العشيرة أو الطائفة ما إلى ذلك، مما يفصل المسلمين عن بعضهم البعض ويعتبر كلاً منهم غريباً عن الآخر، وهذا ما لاحظناه عند تقسيم البلاد الإسلامية إلى أقطار متعدّدة من قبل الاستعمار، فقد جعل لكل قطر من هذه الأقطار كياناً منفصلاً عن الأقطار الإسلامية الأخرى، بحيث إنه يعتبر المسلم في هذا البلد الذي لا يحمل جنسية هذا البلد غريباً عنه، لأنه من جنسية أخرى وإن كانوا يلتقون في الإسلام، وهذا ما أوجب تحوّل المسلمين إلى مجتمعات متعددة متناحرة متشتتة تتحرك على أساس ذاتيتها ولا تتحرك على أساس إسلاميتها.
فلذلك، لابد لنا - أيها الأحبة - عندما نرى ظاهرة الحزبية في بلادنا، ولا سيما الأحزاب الإسلامية التي تتعدد في مواقعها، كل واحد منها عنوانه الإسلام، ومع ذلك فإنهم لا يلتقون على أساس الوحدة الإسلامية، بل كل واحد منهم يعتبر نفسه أنه يمثل الإسلام دون الآخرين، لذلك لو اطَّلع كل واحد منهم على عمق ذاته، لرأى أنَّ القضية هي ليست في الإسلام هنا والإسلام هناك، ولكن الغالب أن تكون القضية هي زعامة هنا وزعامة هناك، وخلفيات هنا وهناك، لذلك نريد للأحزاب الإسلامية في العالم الإسلامي كله أن تلتقي على الإسلام، وإنْ اختلفت في بعض الخطوط أو التشريعات الإسلامية، فإن عليها التحاور فيما بينها كما أراد اللّه فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ( ).
ويمضي الإمام علي(ع) في حديثه فيقول: ((ما تَتَعَلّقُون من الإسلام إلا باسمه))( ) يعني تحملون الانتماء الإسلامي مجرَّد عنوان ومجرَّد شيء له عنوان، ولكنه ليس شيئاً في العمق، فتعرفون الصلاة كباقي الطقوس، أما الإيمان في عمقه العقائدي والشرعي والمفاهيمي وما إلى ذلك، فإنكم لا تعرفونه. وهذا هو الواقع الذي صوَّره الإمام علي(ع) في عصره، وكما قلنا، فإننا نستطيع القول إن عصرنا الحالي يعاني ذلك المرض... ويبقى للكلام بقية في هذا الاتجاه في الأسبوع القادم...
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثالثة عشرة28ربيع الثاني 1424 ه28/6/2003م
علي(ع): نقد الارتداد إلى الذهنية الجاهلية
على الإنسان المسلم أن لا يسقط تحت تأثير المجتمع، وإنّما عليه أن ينطلق وفق ما يؤمن به، لأن رضا الله فوق كلّ رضا
الحميّة الجاهلية.
حق الشريعة.
عاداتنا وتقاليدنا.
سنن الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
.. ونبقى مع أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في خطابه لأصحابه بعد انحراف المسيرة عن الخطِّ الإسلامي الأصيل، حيث رجعت الأمة في كثير من تفاصيلها إلى ذهنية الجاهلية، من خلال أخذها ببعض عادات وتقاليد ومنطق العصبية والعشائرية والقبلية.
الحمّية الجاهلية:
إن الإمام علي (ع) ينتقد في كلماته هذه ما كانوا يتداولونه كما في الجاهلية، فيقول (ع): ((تقولون: النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تُكفئوا الإسلام على وجهه))؛ فبحسب المنطق الجاهلي، إذا دار الأمر بين نارٍ يحترقون بها وبين العار الذي يتحمّلون نتائجه السلبية باعتباره يمثِّل العيب الاجتماعي مما ينكر المجتمع على من يمارسه، فإنهم يتحمَّلون النار ولا يتحمَّلون العار، وهذه الكلمة كانت متداولة في الجاهلية من قِبَل أهل الحميّة والكبرياء الذين يعتزّون بالعادات والتقاليد الاجتماعية، والتي تجعلهم يواجهون كل الأوضاع الاجتماعية من خلال انعكاسها سلباً أو إيجاباً على أنفسهم. فلدى كل شعب من الشعوب وأي مجتمع من المجتمعات عادات وتقاليد يتوارثها الناس قد تتصل بما يشكّله العُرف الاجتماعي من قيم، قد تتصل بجوانب الحرب والسلم، وقد تتصل ببعض العلاقات الاجتماعية، وما إلى ذلك.. ويرى المجتمع أن على كل فرد من أفراده الالتزام بها، بحيث يعتبر عدم الالتزام بها عاراً وسقوطاً اجتماعياً. ولهذا فقد كانوا إذا خُيِّر أحدهم بين أن يأخذ بالعار انطلاقاً من ظرف من الظروف، أو أن يقع في النار، فإنه قد يتحمَّل لذعات النار ولا يتحمل لذعات العار الاجتماعية؛ فالكلمات السلبية في المجتمع تسقطهم، ولذلك فهم مستعدُّون للتضحية حتى لا يصيبهم الاحتقار الاجتماعي.
وقد يصبح أحياناً التزام إنسان ما بالحق لمجرد أن المجتمع يرفضه، فإن ذلك يمثِّل عاراً عليه، لأن من المفترض على من يعيش في مجتمع عشائري قبلي الالتزام بكلِّ عادات هذا المجتمع وقيمه وأوضاعه، في الوقت الذي تنحرف فيه هذه العادات القبلية عن المبادئ والقيم، فإذا خالف القبيلة والتزم الحق، فإن ذلك يُعتبر عاراً عليه، وسيرفضه الناس، لأنه قد خرج على عادات القبيلة وتقاليدها وما إلى ذلك. فكأنه يريد بقوله (النار ولا العار) أن يقدِّم الجانب الانحرافي على جانب الحق. وقد تكون القضية بالعكس، بمعنى أن الإنسان يتحمَّل العار ويلتزم بالحق على أساس أن يتحمل ما يتطلبه الالتزام من تضحيات في هذا المجال، كما في الموقف الذي وقفه الإمام الحسين (ع)، حيث روي عنه أنّه قال:
الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار
حق الشريعة:
فالإمام (ع) يريد أن يقول لهؤلاء إنكم الآن تنتمون إلى الإسلام لا إلى الجاهلية، فإذا كانت النار ـ في قولكم ـ تمثِّل ناراً عاديّة، فإنها بالمنطق الإسلامي تمثِّل عذاب اللّه، وعلى الإنسان المسلم أن لا يسقط تحت تأثير المجتمع ولا ينظر إلى إقبال المجتمع عليه وعدم إقباله، وهل يرحمه المجتمع أم لا، وهل يضطهده أم لا، وإنما عليه أن ينطلق وفق ما يؤمن به، لأن رضا اللّه سبحانه وتعالى فوق كل رضا، وهذا ما عبّر عنه النبي(ص) بقوله: ((إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي))( )، فليست المسألة عند الإنسان المسلم هو ما يُرضي الناس، بل ما يُرضي اللّه سبحانه وتعالى. ولذلك يقول لهم (ع) إن قولكم (النار ولا العار) يعني أن يدخل أحدكم النار أفضل من أن يتحمل العار، وأن يلتزم ما يخالف مبادئه، لأن الالتزام بالمبادئ يصبح عاراً عليه حسب التقاليد الجاهلية، وكأنّكم بقولكم هذا تريدون أن تقلبوا الإسلام على وجهه ليفرغ من كل شيء مثلما ينكفئ القِدر الذي يحمل الطعام فيصبح فارغاً؛ لأنّ الالتزام بقيم المجتمع بما لا يُرضي الله سبحانه يعني ترك الإسلام والتحرّك وفق القيم الجاهليّة.
عاداتنا وتقاليدنا:
ونحن لو درسنا العادات والتقاليد التي تأخذ بها بعض مجتمعاتنا اليوم، فإننا نلاحظ أنها لا تزال تعتبر الكثير من الأمور التي تخالفها عاراً، مع أن الإسلام لا يوافق على السير فيها والأخذ بها. فمن الأمور الموجودة في المجتمع العشائري أو المتخلّف هو أن على الإنسان أن ينسجم مع فريقه، سواء كان فريقاً حزبياً أو عشائرياً، فلو لم يلتزم بتعليمات ذلك الحزب أو العشيرة، فإنّ موقفه يُعتبر معيباً وعاراً عليه، لأنه ينفصل بذلك عن الجماعة، ويكون عندئذٍ كما قال الشاعر الجاهلي:
وما أنا إلاّ من غُزَيَّةَ إنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وإنْ تُرْشَدْ غُزَيَّة أُرْشَدِ
فإذا مشت عشيرته في طريق الرشد فهو يسير فيه، وإنْ مشت في طريق الغيّ فهو أيضاً يسير فيه، ويعتبر الانحراف عن خط العشيرة عاراً عليه. وللشاعر القروي رشيد سليم الخوري قول يشابهه إذ يقول فيه:
سلام على كفر يوحِّد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
لأن المهم عنده الحصول على الامتيازات بأية صورة كانت، وهذا ليس من الإسلام في شيء.
وفي العرف مثلاً هناك مسألة (غسل العار) أو قتل الشرف؛ فقد تنحرف المرأة، فنلاحظ أن العشيرة تتنادى كما يقول الشاعر المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
ومن دون أن يتفحّصوا الموضوع، فربما لم تنحرف المرأة، إذ قد تكون قد اغتصبت في ظروف معيّنة، أو لمجرد إشاعة، حيث يكون أحد الأشخاص قد نقل شيئاً عن زوجة فلان أو عن ابنته فيتصرف بموجب هذه الإشاعة. وهذا ما يمارسه الكثير من الناس، حتى من بعض الذين يصومون ويصلّون، مع أن هذا الموقف ليس صحيحاً من الناحية الشرعية؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يسلِّط أحداً على أحد في المجتمع لكي يطبق القانون بنفسه، فجعل السلطة بيد القضاء، وضمن موازين وقواعد شرّعها الإسلام، فلو كان هناك شخص ما منحرفاً أو خائناً ـ سواء كان رجلاً أو امرأة ـ، فلا يحق لأحد قتله، بل السلطة بيد القضاء، وإلا فسيحصل اختلال في نظام المجتمع.
يُقال إن رجلاً في زمن الرسول(ص) وجد عند زوجته رجلاً، فبادر إلى سؤال النبي(ص) هل يقدم على قتل ذلك الرجل؟ فقال له(ص) ـ ما مضمونه ـ: هل لديك أربعة شهداء لتقدمهم للقضاء الذي يقرِّر ـ حسب الشرع ـ ما إذا كانت التهمة صحيحة أم لا؟ فحتى لو أن المرأة اتّهمت بالزنا فلا يجوز القول عنها بأنها زانية إلا بتوفر أربعة شهود على الزنا بتفاصيله. ولكن - للأسف - لا يزال يتّم في المجتمعات العربية تخفيف العقوبة عن الشخص الذي يقتل أخته أو زوجته أو ابنته بحجة غسل العار، مع أن ذلك مما لا ينسجم مع حكم الشرع، وحتى إذا لم تكن بريئة في الواقع، فإن الله لا يبرر لأحد قتل زوجته بالتهمة، وليس في الإسلام سلطة الحكم لأحد على أحد إلا في إطار القضاء، فلو أن ابنك كان هو المعتدي أو أخوك، فهل تدافع عن هذا الشرف؟! بل ربما تتدخل لصالحه وتستأجر له عدّة محامين للدفاع عنه أمام المحكمة. وقد ورد في بعض الأقوال المأثورة: (من طرق باب الناس طُرِقَ بابه)، والحياة والموت بأمر اللّه، فقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ( ) والحق ما جاءت به الشريعة، فهل تضمن أنّ ما تقوم به أنت هو الحق؟
لذلك يقول الإمام علي (ع): إذا كنتَ جادّاً في الانتماء للإسلام والإيمان فعليك أن تُخضِع كلَّ حياتك للإسلام، سواءً رضي منك المجتمع أو لم يرضَ، وكل الذين واجهوا الكفر والشرك إنما انطلقوا من مقدار إيمانهم بالإسلام. فالإمام(ع) يركِّز على النقطة بقوله: (تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه)، تقلبونه وتنـزعون ما في داخله، ((انتهاكاً لحريمه)) لأنك عندما تنحرف عن الإسلام وتتمرَّد على أحكامه بمداراة المجتمع، فإنك بذلك تنتهك حرمة الإسلام وأحكامه الشرعية ومفاهيمه.. ((ونقضاً لميثاقه الذي وضعه اللّه لكم حَرَماً في أرضه، وأمناً بين خلقه))، هذا الميثاق الذي هو ميثاق القوانين التي جعلها اللّه في العلاقات بين الناس، في السير على الخطوط المستقيمة التي تشكل انطلاقة الخير في حياتهم، ((وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر))، لأنكم تفرغون القوة التي ترتكزون عليها بالإسلام، فتصبحون بلا قوة، من قبيل قوله تعالى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ( )، فكأنكم تُقبلون إلى معركة من دون سلاح، وتطلبون من اللّه أن يبعث لكم ملائكةً أو أُناساً لنصرتكم.. ((ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم)) لأنكم انفصلتم عن الخط المستقيم، لأن نصْرَكُم هو بمدى التزامكم باللّه وبميثاقه وبما جعله قاعدةً لطاعته وللعبودية له، ((إلاّ المقارعة بالسيف)) بما يمثله السيف من قوة ((حتى يحكم اللّه بينكم)).
سنن اللّه:
ثم يقول الإمام علي (ع) مخاطباً مجتمعه: إني أتحدّث معكم من خلال السنن التاريخية التي وضعها اللّه لحركة الإنسان، فكما أن له سنناً في الكون بنظام الشمس والقمر ونظام البحار والأنهار والمطر، فله سنن في حركة الإنسان في تتابع الأمم ومتغيراتها وما إلى ذلك.. إني أتحدّث إليكم بهذه النتائج السلبية من خلال ما تأخذون به من هذه الوسائل، وأطلب منكم إن شككتم في ذلك أن تدرسوا التاريخ، لتعرفوا أن ما أصاب الأمم السابقة إنما هو من خلال أنهم أخذوا بما أخذتم به، وانحرفوا كما انحرفتم به، فإن ما حدث لهم سيحدث لكم، لأن القانون واحد.
يقول (ع): ((وإنَّ عندكم الأمثال من بأس اللّه وقوارعه)) يعني من تهديدات اللّه وأيام اللّه ووقائعه، وهو كناية عن سنن اللّه في الكون، وعمّا خطَّط اللّه له في الكون مما أراد سبحانه وتعالى للإنسان أن يأخذ به إيجاباً وأن يتجنبه سلباً، ولكم أن تعرفوا ذلك.. ((فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه)) يعني أن لا تقوموا بالعمل الذي يغضب اللّه سبحانه وتعالى، على أساس أن اللّه لا يعاقبكم بحجة أنه غفور رحيم، لأن اللّه يمهل ولا يهمل، وهو يقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( )، ونقرأ في دعاء الإمام زين العابدين (ع): ((وقد علمت أن ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإنما يعجل من يخاف الفوت))( ).
((وتهاوناً ببطشه، ويأساً من بأسه)) فعليكم أن لا تأمنوا مكر اللّه، فللّه وسائله وبأسه، ولن يفلت أحد من بأسه ووعيده.. ثم يقول (ع): ((فإن اللّه سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) فاقرأوا القرآن، ولاحظوا هل أن اللّه لعن الأقوام من قبلكم لذاتهم أم لعنهم بسبب أعمالهم، فإذا كانت أعمالكم كأعمالهم، فإن اللعنة التي أصابتهم سوف تصيبكم، لأن القاعدة واحدة، وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ( )، فأساس اللعن هو أنهم يعصون اللّه ولا ينهي بعضهم بعضاً عن المعصية، فإذا كنتم تعصون فإن اللّعنة التي كانت في الماضي سوف تمتدّ إليكم، لأن اللعنة ليست للذات ولكنّها للعمل. ثم يقول (ع): ((فلعن اللّه السفهاء لركوب المعاصي)) لأنهم عصوا اللّه سبحانه، ((والحلماء لتركهم التناهي)) الذين لا يريدون الدخول في المشاكل ولم ينهوا المنحرفين والعصاة والخونة عن أعمالهم ((ألا وقد قطعتم قيد الإسلام، وعطّلتم حدوده، وأمتُّم أحكامه))( ) لأن الإنسان حينما يتمرَّد على ذلك كله فكأنه قطع الصلة بالإسلام، كما هو شأن بعض الناس حينما تقول له: لماذا تفعل ذلك؟ فيقول إنه حر.
ومما ورد في سيرة الإمام موسى بن جعفر (ع)، أنه حينما مرّ على دار شخص معروف بالخلاعة وقرر الإمام هدايته، رأى الجارية ترمي النفايات خارج البيت، فقال لها الإمام (ع): لمن هذا البيت؟ فقالت: لسيدي بشر، فقال الإمام (ع): سيدك حرّ أم عبد؟ فقالت: إنه حر، فقال: صدقت إنه لو كان عبداً لله لخاف منه، لأن الذي يشعر بالعبودية للّه لا يقوم بمثل تلك الأعمال، ويُقال في تلك السيرة إن تلك الجارية دخلت البيت وكان سيدها قد استبطأها، فلما سألها عن السبب قالت له: مرّ عليّ شخص صفته كذا وقال كذا، فكان أن دخلت تلك الكلمة إلى عمق أعماقه، فذهب بشر للإمام الكاظم تائباً، فأصبح بشر الحافي من الشخصيات الزاهدة العابدة المعروفة بالمجتمع.
وهذا يعطينا فكرة أن الإنسان يمكن أن ينفصل عن واقعه وقد تؤثر به الكلمة، فالإنسان الذي يقول إنه حر في تصرفاته إنما هو عبد لشهواته، فالحرّ هو الذي يستطيع أن يقول (لا) و(بلى) لنفسه وللآخرين، وليس الذي يخضع لشهواته ولذاته ولشيطانه ويتمرد على اللّه سبحانه وتعالى، وقد قال اللّه تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( )، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( ).
ثم يتابع الإمام (ع) حديثه لنا عن معاناته وعمَّا وضع في طريقه من الحواجز والأشواك، وبما حاول بعض الناس تعطيل خطته بما فرضوه من القتال عليه. ثم يتحدَّث(ع) عن تاريخه وطفولته وعن تربية الرسول(ص) له، وأنه عاش الإسلام منذ طفولته قبل بعثة النبي(ص)، ولذلك كان علي (ع) نفس الرسول(ص) في القيمة والروح والأخلاق. وذلك حديث نرجو أن نوفق له في الأسبوع القادم إن شاء اللّه..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الرابعة عشرة6 جمادى الأولى 1424 ه5/7/2003م
الانحراف عن المسيرة
لم يكن علي(ع) يحمل مزاج القتل، بل كان رسالياً يتحرك في الخط الذي تحرك فيه رسول الله(ص)
التاريخ الجهادي.
الناكثون.
القاسطون والمارقون.
جوهر الموقف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
يتابع الإمام أمير المؤمنين علي(ع) حديثه عن معاناته حينما تسلَّم الخلافة، بعد أن تحدّث مع أصحابه عن السلبيّات التي حدثت في واقعهم ومجتمعهم، والتي انحرفوا فيها عن خط الإسلام ونقضوا فيها عهده.
التاريخ الجهادي
أراد الإمام علي(ع) أن يتحدث عن تجربة الحروب التي فُرضَت عليه منذ تسلّمه الخلافة، ثم عن تاريخ جهاده للكفّار والمشركين، وعن علاقته الحميمة مع الرسول(ص)، فيقول:
((ألا وقد أمرني اللّه بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض))، وهو عندما يتحدث عن أمر اللّه بذلك، فإنه يستنطق القرآن بقوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ( )، وقد حدّثنا القرآن عن النكث بقوله تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ( )، وهم الذين يعملون على نقض العهد، سواء كان عهداً يتصل بالجوانب الشخصية أو الاجتماعية أو السياسية وما إلى ذلك مما أمر اللّه الإنسان أن يفي به بقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا( )، وكذلك بالنسبة للمفسدين في الأرض الذين يعيثون في الأرض فساداً، فقال تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض( )، وقد أراد الله للأمة بقيادة الذين يملكون ولاية أمرها أن يحاربوا المفسدين. وقد ورد عن النبي(ص) ـ من طريق السُنّة والشيعة أن علياً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وقد روى الحديث لدى أهل السنّة أكثر من مُحدِّث راوٍ، منهم الحافظ النيسابوري في (مستدرك الصحيحين) و (أسد الغابة) و(كنـز العمال) للمتقي الهندي.
ثمّ يفصّل الإمام الحديث في ذلك فيقول: ((أما الناكثون فقد قاتلت)) وهم الذين نكثوا بيعة الإمام علي(ع)، فاضطرّ الإمام إلى قتالهم في البصرة في معركة (الجمل)، وكانت بقيادة طلحة والزبير اللذين أقنعا عائشة بأن تسير معهما لقتال الإمام علي(ع) تحت عنوان الثأر لعثمان، في وقت كانوا فيه بعيدين عن عثمان على المستوى السياسي، كما إن علياً بريء من دم عثمان، ولكن هكذا جرت الأمور والأحداث.
((وأما القاسطون فقد جاهدت))، والمراد من القسط الجور، لقوله تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا( )، وهم معاوية وأصحابه، باعتبار أنهم جاروا على الواقع الإسلامي كله بإيقاع الفتنة بين المسلمين، وحمل قميص عثمان والمطالبة بدمه لأجل الوصول إلى الخلافة.
((وأما المارقة فقد دوَّخت))( ) وهم الخوارج الذين كانوا مع الإمام علي(ع) وانفصلوا عنه عندما فرض عليه التحكيم في معركة صفّين، وقالوا (لا حكم إلاّ للّه) وكفّروا علياً واتهموه بالشرك.
ولابد لنا ـ أيها الأحبة ـ من أن نتوقف عند هذه الأحداث، لكي نتعرّف على الظروف التي جعلت الناكثين والقاسطين والمارقين تتضافر جهودهم ضدّ أمير المؤمنين(ع).
الناكثون:
أما الناكثون فيمثّلهم طلحة والزبير ومن سار معهما، وكانا قد بايعا علياً(ع) بالخلافة، ولكنهما أرادا من علي(ع) أن يشاركهما فيها بكل مسؤوليّاتها، انطلاقاً من كونهما صحابيين لرسول الله(ص)، ولكن الإمام(ع) قال لهما إن لكما علي أن أستشيركما، أما مسألة المشاركة في الحكم لمجرّد الصحبة فليس لها أي قاعدة إسلامية أو قانونية، والمسؤول الأول في أية دولة لا مجال أن يشاركه في الحكم غيره، ولكن يمكنه أن يستعين بأهل الخبرة والتقدم والسبق وما إلى ذلك.. على أن طلحة والزبير كانا قد بايعا الإمام(ع) إلى جانب المسلمين على الخلافة، ولذا لم يكن لهما إلا إطاعة أمره والنـزول عند حكمه. ولكن الأمور سارت باتجاه آخر، فكان أن أقنع طلحة والزبير "أمَّ المؤمنين" عائشة بأن تسير معهما وتؤلِّب الناس على الإمام علي(ع)، مستغلّين الجانب العاطفي باعتبارها زوج الرسول(ص)، وهي ـ بحسب القرآن ـ أمُّ المؤمنين، وربما شعرا أنهما عندما يخرجان بأنفسهما فقد لا يجدان أحداً يستجيب لهما، ولذلك قد يكون لخروج عائشة معهما إيحاء لدى الناس بأن نقضهما لعهدهما مع الإمام علي(ع) إنما لأنه لم يسر على الخط المستقيم، بدليل أن زوج النبي(ص) معهما، ولكن الإمام حاول ثنيهما عن ذلك بأكثر من حوار ـ وهو رجل الحوار الأول ـ وبمختلف الوسائل، وحتى عندما دعا(ع) الناس إلى نصرته لم يدعهم إلى القتال، بل قال لهم إني أريدكم أن تسيروا معي من أجل إصلاح الأمر، وقد كانت عظمته(ع) في تواضعه مع الشعب أنه قال لهم ـ كما في نهج البلاغة ـ: تعالوا إليّ فإن رأيتموني على حق فكونوا معي وإن رأيتموني على باطل فحاسبوني وإستعتبوني، بمعنى قوِّموني. فمن الذي يقول مثل ذلك غير الإمام علي(ع) الذي يعطي القيمة للناس ويحترمهم ولا يريد أن يفرض عليهم شيئاً في الوقت الذي يملك فيه الولاية عليهم؟!
واضطر الإمام(ع) في النهاية إلى دخول الحرب بعد أن استنفد الحوار والجدال، حتى إنه أمر أحد أصحابه أن يحمل القرآن ويدعوهم إلى كتاب اللّه، ولكنهم قتلوا ذلك الفدائي عندما وقف بين الصفّين. وانتصر الإمام علي(ع) في حرب البصرة، وكانت قمة إنسانيته في ما يتعلق بزوج النبي(ص)، أنه أرسل معها جمهوراً من النساء، ولكن ـ كما تقول أخبار السيرة ـ إنهن كُنّ على هيئة الرجال، وأمرهن برعايتها حتى يوصلنَها إلى مأمنها، وعائشة ـ بحسب الرواية ـ لم تكتشف ذلك، وقالت إن علياً أرسل معها رجالاً لهذا الغرض، ولكنهن كشفن عن أنفسهن فأسقط في يد عائشة، ولذلك فإن علياً(ع) لم يختر الحرب ولم يخرج ليحارب، بل خرج حتى يستقيم الأمر.
القاسطون والمارقون:
أما القاسطون، فهم معاوية وأهل الشام معه في ذلك التاريخ؛ فإن معاوية عندما وُلِّي الشام، فكّر منذ البداية بأن تنطلق مملكته منها، لأنه كان يدرك أنه لا يستطيع أن يركِّز حكمه في مكّة والمدينة، لأنها موقع قوة المهاجرين والأنصار، ولكنه استغل موقعه في الشام منذ زمن عثمان، والشام بلد الخيرات، واستطاع من خلال ذلك أن يحصل على مال كثير. وكان مقتل عثمان فرصة ذهبية له، لأن عثمان من بني أمية ومعاوية هو المطالب بدم عثمان، فاتهم علياً(ع) بأنه يحمي قاتلي عثمان، وأخذ يطلب تسليمه قتلة عثمان، وربما كان يتّهمه بأنه كان يشجع على قتل عثمان. وهنا دخل الإمام علي(ع) في حوار مرير متنوع الأغراض مع معاوية؛ فعندما نقرأ الكتب المتبادلة بين معاوية والإمام(ع)، فإننا نجد أن معاوية كان يحاول دائماً أن يُسيء إلى الإمام(ع) بالكلمات المهينة، ولكن الإمام(ع) كان فوق ذلك كله، وكان فيما قاله الإمام(ع) لمعاوية: إذا كنت تطالب بدم عثمان فلماذا لم تنصره حينما هجم القوم عليه وتأخرت عن نصرته؟ ثم أنْ تطالب بقاتل عثمان يعني أن تقدِّم دعواك لننظر فيها، وعند ذلك يأخذ الحكم الشرعي مجراه، ولكن معاوية كان يعمل على استغلال هذا الشعار ـ وهو المطالبة بقميص عثمان ـ والذي أصبح مثلاً في التاريخ.
ثم أعلن معاوية انفصاله عن الخلافة الإسلامية للإمام علي(ع)، والتي أجمع عليها المسلمون، وبدأ يتحرك كشخصية مستقلة عنها، ويدعو الناس إلى الحرب، ما جعله يشكِّل خطراً على النظام الإسلامي العام، لأنه ـ بذلك ـ أدخل الواقع الإسلامي في فتنة عمياء كما تكشّفت عنه الأحداث فيما بعد. وقد حاول الإمام علي(ع) بمختلف الوسائل أن يرشد معاوية ويبيّن له خطورة تحركه، ولكن معاوية كان صاحب مشروع ولم يكن يملك معطيات القضية بالمعنى القانوني، وقد اضطر الإمام علي(ع) في نهاية المطاف لأن يدفع بجيشه لقتال معاوية لفرض النظام، لأنه لو تركه وترك غيره لاختلّ كل واقع النظام الإسلامي في ذلك الوقت. وقد دفع الإمام(ع) بكل أخلاقياته ليضغط على هذه الحركة، ولذلك لاحظنا في مسيرته نحو (صفين) أنه كان يربّي أتباعه على الأخلاق الإسلامية في طريقة ردِّ الفعل مع الناس الذين يختلفون معهم، وهذا ما ذكر في (نهج البلاغة) عندما سمع(ع) قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام نتيجةً للحالة النفسية، والسبّ يعتبر ـ عادةً ـ وسيلةً من وسائل التنفيس عن العقدة ومن وسائل شفاء الغيظ، فوقف(ع) فيهم خطيباً قائلاً لهم: ((إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين)). فليس من خلق الإسلام أن يأخذ المسلم بأسباب السُباب حتى عند الاختلاف، لأن السُباب بالإضافة إلى كونه خلقاً سيّئاً، لا يؤدي إلى نتيجة إيجابية على مستوى الرسالة، بل يؤدي إلى نتائج سلبية ويزيدها تعقيداً كما لا يمكن أن يهدي السابّ خصمه بذلك. نعم، لكم أن تبيّنوا حقكم وتشرحوا باطلهم بطريقة موضوعية ترتكز على أساس منطق الحق .. ((ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر)) .. ثم أراد(ع) أن يفرغ من داخلهم الحقد على المسلمين، وأن لا تكون النفسية التي يحملونها ضد المسلمين الذين يختلفون معهم ذهنية الحقد والتدمير، بل تبقى العلاقة الإسلامية لتكون الروحية روحية الانفتاح الذي يتطلب الصلح وحقن الدماء .. ((وقلتم مكان سبّكم إياهم اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به))( ).. فأيُّ منهج إنساني عقلاني كمنهج الإمام علي(ع)!! وأي روح رحبة لا تحمل أي حقد ولا تحمل أية عقدة تجاه الإنسان الآخر حتى للذين يسيئون إليها مثل هذه الروح العلوية!! ولكن القوم لم يفهموا علياً(ع)، لأنهم لم يكونوا بمستوى أفق علي(ع).
ويحدّثنا التاريخ عن المسألة الأخلاقية الثانية في حربه ضدّ معاوية، إذ حدث أن أصحاب معاوية سيطروا على الماء ومنعوا جيش علي(ع) من الماء حتى يموت عطشاً، وحينها أذن علي(ع) لأصحابه أن يقاتلوهم ويستولوا على الماء، وعند ذلك طلب أصحابه مقابلة جيش معاوية بالمثل، على أساس قوله تعالى: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ( )، ولكن علياً(ع) رفض ذلك، وقال إن الله خلق الماء للناس كافة، فلا يجوز لنا أن نمنع أحداً من شرب الماء.
وهكذا دارت الحرب وانطلقت لتسجِّل انتصاراً لعلي(ع) بإنهاء التمرّد على الحكومة الشرعية، وكاد أن يصل مالك الأشتر إلى سرادق معاوية ـ كما تذكر الرواية ـ، فما كان إلا أن أشار عمرو بن العاص على معاوية بأن يقوم بخديعة رفع المصاحف والاحتكام إلى كتاب اللّه، وانطلق شعار. "من لثغور العراق غير أهل الشام، ومن لثغور الشام غير أهل العراق؟"، وفي وسط هذه الكلمات العاطفية، قال لهم الإمام علي(ع) إن القوم ليسوا من الملتزمين بالقرآن وإنها خدعة، ولكن أصحاب الثفنات السود من العُبّاد الذين كانوا يعيشون العبادة ولا يملكون الوعي، خدعوا نتيجةً لهيمنة روح السذاجة والبساطة، وذلك انطلاقاً من سذاجة فكرية لا تدرس خلفيّات الأمور. وهكذا اختلف جيش الإمام مع بعضه البعض، حتى إن الأشتر قال لعلي(ع) اتركني مدة بسيطة ليحقّق النصر على جيش معاوية، ولكن القوم هدّدوا بقتل علي(ع) إذا لم يأمر الأشتر بالتوقف عن القتال، في قضية مأساوية من أكثر ما عاشه علي(ع) من المأساة.. وكانت قصة التحكيم التي فُرض فيها على علي(ع) الشخص الذي خذل الناس عنه، وهو أبو موسى الأشعري، ليكون في مقابل الداهية عمرو بن العاص، بينما كان الإمام علي(ع) يريد ترشيح ابن عباس في التحكيم. وهكذا انقلب أولئك الذين تفاعلوا مع رفع المصاحف ورفعوا شعار (لا حكم إلاّ للّه)، فخرجوا وانفصلوا عن علي(ع) وكفّروه وحدثت الفتنة وانتهت الحرب على هذا الأساس .. وبدأ الإمام علي(ع) يعاني من أولئك المارقين الذين ورد فيهم الحديث عن النبي(ص) أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ولكن علياً(ع) لم يقاتل الخوارج عندما قالوا (لا حكم إلا للّه)، مع أنها كانت كلمة حق يراد بها باطل، فاللّه سبحانه وتعالى لا يحكم بشكل مباشر، بل من خلال المؤتمنين على الحكم، ومن خلال البرنامج الذي وضعه للناس في قضايا العدل.. وحاورهم الإمام(ع) وجادلهم بمختلف الوسائل، فقال لهم إذا اتهمتموني بالضلال فلم تضلّلون أمة محمد(ص) وتحاربون المسلمين، واستعمل أروع الأساليب معهم ولم يمنع العطاء عنهم ، وكان(ع) لا يقبل أن يعرض أحد عليهم بسوء، ولكنه قاتلهم بعد أن تطوَّر أمرهم وقطعوا طريق المسلمين وقتلوا خباب وزوجته، وقال بعد ذلك: ((لا تقتلوا الخوارج من بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه))( ).
جوهر الموقف:
حاولنا أن نفصِّل هذه المسألة عن قتال علي(ع) للفاسقين والقاسطين والمارقين لنجيب على سؤال، وهو أن بعض الناس يقولون إنَّ مَنْ تقدَّم علياً(ع) في الخلافة فتحوا العالم على الإسلام، وكانت الفتوحات في عهد الخلفاء السابقين على أشدها، في وقت لم يكن لعلي(ع) أي دور في فتح أي بلد على الإسلام، بل خاض حروباً داخلية ؟ وبعض الناس لا يزالون يتحدثون بهذه الطريقة، لأنهم ينظرون إلى الظاهر من الصورة ولا ينظرون إلى الجانب العميق والخفي منها، وهو أن علياً(ع) لم يختر الحرب، لأنه كان يملك البرنامج الدقيق في قضية تنظيم كلِّ الواقع الإسلامي سياسياً وإدارياً وما إلى ذلك .. وكان يريد للمسلمين أن يعيشوا السلام، وهذا هو (نهج البلاغة) يدلُّنا كيف كان الإمام علي(ع) يهتمُّ بأن يصنع الإنسان المسلم من الداخل بالطريقة التي يجسِّد فيها الإسلام عملياً، فكان(ع) يريد أن يرفع من مستوى المسلمين علمياً، فكان يقول: ((إن ها هنا لعلماً جمّاً لو وجدت له حملة))( ). ولكن ليس هناك من يحمل العلم، فكان(ع) يؤكد على أن قيمة الإنسان هو ما يملكه من العلم .. ((قيمة كل امرئ ما يحسنه))( )، ولكن الحرب فرضت عليه، حتى إنه ـ كما أشرنا ـ عندما تمرّد القوم عليه لم يبدأهم بقتال ولم يذهب ليحاربهم، ولكنَّ الحرب كانت عنصر ضغط ليستجيبوا إلى الخطِّ المستقيم، وإن كان علي(ع) قد خاض الحروب بأقسى ما يكون منذ صدر الإسلام، واستطاع في حربه ضد المشركين أن يحمي الإسلام كله من كلِّ عدوان المشركين وكان الفارس الأول، في بدر، وأحد، والأحزاب وغير ذلك .. إلا أنّ مسألة الحرب لم تكن عنده مسألة مزاج، ولكنها كانت رسالةً يتحمَّل فيها المسؤولية في الدفاع عن الإسلام، وهذا ما اعترف به المؤالف والمخالف..
لذلك صرّح الإمام علي(ع) في برنامجه، خصوصاً بالحرب الداخلية، أنه عندما استبطأ أصحابه إذنه لهم بالقتال لعدة أيام، حيث بدأ الجيش يتهامسون فيما بينهم: لماذا لم يسارع علي(ع) في البدء بقتال القوم، هل كان ذلك كراهيةً لموت أو حباً بالحياة؟ حينما قارب الإمام علي(ع) الخمسين من عمره، فسمع الإمام(ع) هذا الهمس، وكان يترك للناس الحرية في أن يعلِّقوا على أعماله وأوضاعه ولم يكن يتعقّد، ولكننا نرى أن الكثير من الرؤساء والملوك، وحتى من هم بالمراكز الدينية والسياسية وغيرها، لا يقبلون أن ينتقدهم أحد، فأجابهم الإمام علي(ع): ((أما قولكم: أكُلَّ ذلك كراهية الموت؟ فواللّه ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ)). إذ لا يزال هو علي(ع) الذي يهجم على الموت..((وأما قولكم: شكاً في أهل الشام، فواللّه ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها))( ). فالحرب عنده وسيلة ضغط حتى يرجعوا عن غيِّهم عندما يعيشون تحت الضغط الذي يدفعهم إلى أن يفكروا بطريقة أخرى. فالحرب إذاً هي في خط الدعوة والهداية، فلم يكن علي(ع) يحمل مزاج القتل، بل كان رسالياً يتحرك في الخط الذي تحرَّك فيه رسول اللّه(ص) الذي قال له: ((يا علي أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))( ).
وللكلام بقية في الأسبوع القادم إن شاء اللّه.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الخامسة عشرة13 جمادى الأولى 1424ه12/7/2003م
النبي محمد(ص)
في عيون الإمام علي(ع)
عاش علي(ع) عقل الرسول(ص) وقلبه وعاطفته وأخلاقه، وكان معه في الليل والنهار قبل البعثة وبعدها
إنسان الرسالة القائد.
بواكير العلاقة مع النبي(ص).
من سيرة المصطفى(ص).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
نبقى مع أمير المؤمنين علي(ع) في نهاية هذه الخطبة، وهو يحدّثنا عن بعض مواقفه في نصرة الإسلام، والتي كان يتصدّى فيها لكلِّ الزعامات التي كانت تقف ضد الإسلام.
ثم يحدّثنا عن علاقته بالرسول(ص)، التي كانت علاقةً أبويةً بكلِّ ما للكلمة من معنى الرعاية والحماية والتوجيه والاندماج، وكيف كان الإمام علي(ع) هو الأول في الإسلام، وكيف أن اللّه سبحانه وتعالى وكَّل بالنبي(ص) ملكاً عظيماً من الملائكة وهو (جبرائيل) يُلقي إليه كل يوم خُلقاً من أخلاقه.
إنسان الرسالة القائد:
وعلي(ع) عندما يحدّثنا عن مواقفه وعن جذوره التربوية مع رسول اللّه(ص)، فإنه يتحدّث حديث الإنسان الذي لا يفاخر بذلك، فعلي(ع) هو المتواضع لله، وهو المتواضع للناس من خلال اللّه، ولكن علياً(ع) أراد أن يقول للناس إنه الإنسان الذي عاش مع الرسول(ص) منذ أوحى اللّه إليه، ليقول لهم بأن عليكم أن تدرسوا الشخصيات التي تقتدون بها وتمنحونها الشرعية، لأنّ هناك فرقاً بين الإنسان الذي عاش عقل الرسول(ص) وقلبه وعاطفته وأخلاقه وكان معه في الليل والنهار قبل أن يبعثه اللّه بالرسالة وبعده، وكان من خواصّه ولم يسجد لصنم قط، ولهذا قيل عنه: (كرَّم اللّه وجهه).. وبين إنسان أسهمت فيه قيم الجاهلية، وأثّرت في عناصر شخصيّته، والتي وإن كانت لا تمنعه من الإخلاص للإسلام، إلا أنّها تمنعه من أن يكون ممثّلاً للإسلام بكلّه في صفائه.
وقد أراد الإمام عليّ(ع) ـ من خلال حديثه ذاك ـ أن يؤكِّد الموقع القيادي الذي يتميّز به في كلِّ الأمور التي لابد للقائد أن يتصف بها؛ في علمه، وعقله، وروحه، وشجاعته، وفي صلابته وخبرته، وفي رعايته للناس، وما إلى ذلك.. فأراد أن يقول لهم: اختاروا القيادة من خلال العناصر الأساسية في تاريخ القائد وعقله وثقافته، ولا تندفعوا في اختيار القيادة بفعل بعض العناوين والأوضاع والمجاملات وما أشبه ذلك، لأنَّ القيادة تمثِّل الموقع الذي يقود الناس إلى ما فيه صلاح الدين والدنيا والآخرة..
بواكير العلاقة مع النبي(ص):
وفي الحديث عن هذا التاريخ الرسالي يقول علي(ع): ((أنا وَضعت في الصغر بكلاكل العرب))، وكلمة (كلاكل) تعني الصدور، والمقصود وجهاء العرب ورؤساؤهم، بمعنى أنه أخضعهم وأذلّهم إلى الأرض عندما واجههم في الحروب التي خاضها مع الرسول(ص).. ((وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر))، وهما من العشائر الكبيرة القوية من العرب آنذاك، ونواجم القرون هو ما يرتفع منها، وهو كناية عن الأشخاص الذي يمثّلون الرفعة والرئاسة وما إلى ذلك.. كأنه يقول لهم: إنني انطلقت مع الرسول(ص) الذي كان لا يخوض الحروب من أجل السيطرة الذاتية، ولكن لتكون كلمة اللّه هي العليا وتكون كلمة الشيطان هي السُفلى، حتى ينطلق الناس مع ما ينفعهم كما يريده اللّه في رسالته، ومع الموقع الذي يرفع مستواهم في الدنيا والآخرة؛ لأنَّ الرسول(ص) جاء إلى الناس للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، ولكن المسألة هي أنَّ القوم وقفوا في طريقه وحجزوا حريته وعذَّبوا أصحابه في مكة وشنّوا الحروب عليه لتعطيل حركته في إيصال الدعوة الإسلامية إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ولذلك كانت حروب النبي(ص) حروباً وقائية، ولم تكن حروباً عدوانية، ولم يكن الهدف منها إخضاع الناس للإسلام من دون حوار ومن دون تعليم ونصح وما إلى ذلك..
((وقد علمتم موضعي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالقرابة القريبة والمنـزلة الخصيصة))، باعتبار أنه ابن عمّه وزوج ابنته فاطمة الزهراء(ع) سيدة نساء العالمين، حيث لم يوافق النبي(ص) لأحد أن يخطبها غير عليّ(ع)، لأنه كان ينتظر أمر اللّه في ذلك.. ((وضعني في حجره وأنا وليد)). وكانت قصة وضعه في حجر النبي(ص)، أن العباس - عمّ النبي(ص) - قال للنبي(ص) إن أبا طالب كثير العيال، وإن وضعه الاقتصادي والمالي لا يساعده على القيام بمسؤولية رعاية عياله، فأراد أن يأخذ من أبنائه ليخفِّف عنه، فجاء إلى أبي طالب ليطلب منه رعاية بعض أولاده، فقال له أبو طالب اتركوا لي عقيلاً وخذوا علياً وجعفراً، فأخذ النبي(ص) علياً، وأخذ العباس جعفراً ليربياهما، وهذا مما رواه بعض المؤرخين، وأنه مما أراد اللّه سبحانه وتعالى من الخير لعلي(ع)، فيقول محمد بن إسحاق صاحب كتاب (السيرة): ((قال: حدّثني عبد الله بن نزيه عن مجاهد، قال: كان من نعمة اللّه عز وجلّ لعلي(ع) وما صنع اللّه له وأراده به من الخير، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال الرسول(ص) لعمّه العباس، وكان من أيسر بني هاشم، وكان يقرض الناس في ذلك الوقت، فقال له النبي(ص): يا عم، إن أخاك كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفِّف عنه من عياله، فآخذ منه واحداً وتأخذ أنت واحداً، فنكفيهما عنه، فقال العباس: نعم. حتى أتيا أبا طالب، فقالا له إنا نريد أن نخفِّف عنك عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ الرسول(ص) علياً، فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمَّه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب مع الرسول حتى بعثه اللّه نبياً، فاتبعه علياً فأقرَّ به وصدقه)).
هذه هي قصة حضانة الرسول(ص) لعلي(ع)، ويبدو من كلام علي(ع) ـ الآتي ـ أن حضانة الرسول(ص) له كانت في السنين الأولى من طفولته.. ثمّ يصوّر(ع) تفاصيل هذه الرعاية التي لقيها من رسول الله(ص) بقوله: ((يضّمني إلى صدره))، ليمنحه كل ما لديه من عاطفة وحنان، لأن الطفل في مثل هذه السن بحاجة إلى أن يتغذى بالعاطفة والحنان كما يتغذى بالطعام.. ((ويكنُفُني في فراشه)) يعني كان النبي(ص) ينيمه ويرقده معه في الفراش.. ((ويُمِسني جسده))، إذ كان يحتضنه بحيث يمسّه جسده، تدليلاً على العلاقة بينهما، وأن لا حاجز بينه وبين الرسول(ص)، ليشعر الطفل بالأمان عندما يلامس جسده جسد أبيه أو أمه أو الذي يرعاه.. ((ويشمّني عرفه)) والعرف هو الرائحة، فكان يشم رائحة الرسول(ص) الطيّبة التي تفوح بالعطر.. ((وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه))، وذلك قبل نبات أسنانه، فكان الرسول(ص) يمضغ اللقمة ليلقمها لعلي(ع).. ((وما وجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل)) فكان الإمام علي(ع) معصوماً منذ طفولته، بحيث لم يجد الرسول(ص) له ـ في تلك السن ـ كذبة في قول، فكان الصدق هو خُلق علي(ع)، وكان في كل أفعاله الصواب والحق، ولم يكن فيها أيُّ خطأ في أيِّ جانب من جوانبها، حتى قبل أن ينطلق بالإمامة، وقبل أن يبعث اللّه محمداً(ص) نبيّاً.
من سيرة المصطفى(ص):
ثم يحدّثنا أمير المؤمنين علي(ع) عن الرسول(ص) وكيف تربى(ص)؟وأن الله كان يتعهده، فيوكل به عظيماً من ملائكته، فيقول(ع): ((ولقد قرن اللّه به(ص) من لدن كان فطيماً أعظم ملكٍ من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره))، حيث كان يرضع عند حليمة السعدية، فكان الملك هو المربي للرسول(ص) نحو مكارم الأخلاق ليله ونهاره، على الأسس التي أراد الله سبحانه أن يركّزها في شخصيّته.
وينقل بعض المؤرّخين (الطبري) عن الإمام الباقر(ع) ـ وهو يشير إلى هذه المسألة التي أثارها الإمام علي(ع) ـ فيقول: ((روي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد الباقر(ع) سأله عن قول اللّه عز وجل عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا( )، فقال(ع): يعني يوكِّل اللّه سبحانه وتعالى بأنبيائه ملائكةً يحصون أعمالهم ويؤدُّون إليه تبليغهم الرسالة، ووكّل بمحمد(ص) ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع، يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصدّه عن الشر ومساوئ الأخلاق، وهو الذي كان يناديه (السلام عليك يا محمد)، وهو بعدُ شاب لم يبلغ درجة الرسالة، فيظن أن ذلك السلام من الحجر أو الأرض، فيتأمل فلا يرى شيئاً)). وعلى ضوء ذلك، لا بد أن تُدرس مسألة تربية الأنبياء والرسل i دراسة علميّة عميقة، في تنوّع الأساليب التي يعلّمهم الله من خلالها، سواء بالإلهام أو الملك أو ما إلى ذلك، بالدرجة التي يمنحهم الله فيها سعة العلم وسموّ الروح واستقامة الخط وسلامة الموقف وصواب الرأي.
ثم يقول(ع): ((ولقد كنت أتَّبعه اتِّباع الفصيل أثَر أمّه)) مثلما يسير فصيل الناقة إثر أمّه، فكأن الإمام(ع) يقول: إني كنتُ أراقب الرسول(ص) في كل ما يفعل، وكنت أتبعه في ذلك كلّه.. ((يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً))، كان دور النبي(ص) دور التربية لعلي(ع)، فكان يعطيه العلم منذ تلك المرحلة التي كان فيها معه في غار حراء.. ((ويأمرني بالاقتداء به)) فكان النبي(ص) يوجّه الإمام(ع) ويأمره بالقول: افعل ذلك واقتد به، لأن الرسول(ص) كان يريد أن يجعل عقل علي عقله، وقلب علي قلبه، وسلوك علي سلوكه(ص)، كان يريد لعلي(ع) أن يتقمَّص كل شخصيته بشكل يعي فيه تلك الشخصية، لا كمن يقلّد إنساناً دون وعي، ولكنه تقمُّص الإنسان الذي يعيش عقله وقلبه وروحه. ولذلك كان علي(ع) ـ في كلِّ حياته ـ هو نفس الرسول(ص)، وكان عقله عقل الرسول(ص)، وقلبه قلب الرسول(ص)، وكانت سيرته سيرة الرسول(ص).. وربّما نستوحي من اختيار النبيّ(ص) لعليّ في تربيته له، أنّه كان من خلال لطف الله به يعدّه إعداداً روحياً وثقافياً وأخلاقياً بالإضافة إلى تنميته جسدياً، وبذلك كان في ملكاته المتنوّعة صناعة رسول الله(ص) في البُعد الإنساني لصناعة الرجال.
((ولقد كان يجاور في كلِّ سنةٍ بحراء)).. وكما ورد في كتب السيرة، أن النبي(ص) كان يقضي في كلِّ سنة شهراً في غار حراء للعبادة والتأمل.. ((فأراه ولا يراه غيري)) حيث كان النبي(ص) يأخذ معه علياً للتأمل والعبادة، وكان يريد له أن يعيش هذه العزلة الروحية التي أراد له أن يرتفع إلى مستواها. ((فأراه ولا يراه غيري)) يعني كان(ص) لا يستقبل أحداً وهو في عزلته في حراء، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير الرسول(ص) وخديجة وعلي ثالثهما، وهم يمثّلون بذلك المجتمع الإسلامي الأول في التجربة العائلية والعبادية والروحية. وقد قال علي(ع) في بعض كلماته في (نهج البلاغة) وهو يدعو اللّه سبحانه وتعالى: ((اللهم اني أول من أناب، وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله(ص) بالصلاة))( )، وقد نقل بعض المؤرّخين عن عليّ(ع) قوله: ((أنا الفاروق الأوَّل، سبقت المسلمين بالصلاة منذ عمر سبع سنين))، فقد كان سبق المسلمين بالصلاة في بدايات الدعوة عندما كانت الدعوة سرية، وكانت شهادة من أبي طالب عندما رأى النبي(ص) يصلي ومعه خديجة وعلي، فقال أبو طالب لعفيف الكندي: ((أتدري من هذا؟ وهو يشير إلى النبي(ص)، فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد اللّه، وهذا علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خلفهما تصلي خديجة زوج محمد ابن أخي، وأيم اللّه، ما أعلم على وجه الأرض أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة)).
وينقل بعض المؤرخين ـ وهو الطبري ـ روايةً نذكرها على تحفّظ لما فيها، قال: ((حدّثنا محمد بن إسحاق قال: كان الرسول(ص) إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة بين الوديان وكان معه علي بن أبي طالب مستخفياً من عمه أبي طالب ومن سائر قومه)) وربّما كان حذره من عمّه أبي طالب لأنّه كان قد أعلن عن رسالته للناس ولم يكن قد بلّغه الرسالة، ما قد يدفع إلى الحذر من إطلاعه على هذا الدين الجديد دون إعداد سابق ((فيصليان في شعاب مكة، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا ما أمكنا: لأن الطبري روى أنَّ أبا طالب قال لعليّ(ع): يا بني، ما هذا الذي أنت عليه، فقال علي(ع): يا أبت آمنت باللّه وبرسوله وصدقت ما جاء به وصليت للّه معه، فقال له: إنه لا يدعو إلاّ إلى خير)).
وروي أيضاً عن أبي طالب أنه رأى الرسول(ص) يصلي في المسجد الحرام وعلي إلى جانبه وخديجة خلفهما، فقال لولده جعفر: صل جناح ابن عمّك - يعني لا تترك جناحه الثاني فارغاً -. ثم يقول(ع): ((ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول اللّه(ص) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشمُّ ريح النبوَّة)) فكان يعيش في رسالته النبوَّة.. ((ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل عليه الوحي فقلت : يا رسول اللّه ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزير وإنك لعلى خير))( ). وهذه الكلمة قالها الرسول(ص) مع بداية الرسالة.
ويحدّثنا التاريخ أنّه عندما نزلت الآية الكريمة وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ( )، جمع(ص) أقرباءه، وأراد أن يبلغهم الرسالة وطلب منهم أن يؤمنوا به، ((عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب(ع): قال(ع) لما نزلت الآية وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ على رسول الله(ص) دعاني فقال لي: يا علي إن اللّه تعالى دعاني لأنذر عشيرتي الأقربين - وهذه مهمة ثقيلة جداً - فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت حتى جاءني جبرائيل(ع) فقال: يا محمد، إنك إن لم تفعل ما أُمرت به عذبك ربك)) وذلك من باب بيان خطورة المسألة، وليس من باب التهديد للنبي(ص)، وذلك ليقيم الحجة على أقربائه، حتى لا يقول الناس الآخرون بأنه لماذا لا ينذر أقرباءه قبل الآخرين - فقال النبي(ص) لعلي(ع): ((فاصنع لنا شيئاً من الطعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عسّا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أُمرت به، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم وهم يومئذٍ أربعون رجلاً يزيدون أو ينقصون رجلاً، فيهم أعمامه حمزة وأبو طالب والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به، فلما وضعته تناول(ص) جذمة من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحن، فقال: كلوا باسم اللّه، فأكلوا حتى ما لهم إلى شيء منه - بمعنى جعل اللّه البركة في الطعام - وأيم اللّه الذي نفس علي بيده، إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم، ثم قال: اسقِ القوم يا علي، فجئتهم بذلك العس من اللبن، فشربوا منه حتى رووا جيمعاً، وأيم اللّه إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد الرسول(ص) أن يكلمهم، أبعدهم أبو لهب إلى الكلام، فقال لشد ما سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم، ولم يكلمهم الرسول(ص)، فقال: يا علي، إن هذا الرجل قد سمعت ما قاله فتفرّق القوم، فعد لنا غداً كما صنعته بالأمس، ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني على الطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا، ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه جميعاً حتى رووا، ثم قال(ص): والله يا بني عبد المطلب إني لا أعلم أن شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني - يساعدني - على هذا الأمر يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فأحجم القوم جميعاً، وقلت: أنا، وأني لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً - يعني مثل القذى بالعين - وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً - يعني رفيع الساقين - فقلت أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك على هذا الأمر، فأعاد على القوم، فأمسكوا وعدت إليه، فأخذ برقبتي، فقال لهم: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقاموا يضحكون، وقالوا لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع))( ).
وهذا مما استدلَّ به البعض من أن علياً وزير رسول اللّه(ص)، واستدلوا برواية السيوطي في كتابه (الدر المنثور)، حيث ذكر أن النبي(ص) دعا ربّه قائلاً: ((اللهمَّ إني أسألك ما سألك به موسى: واجعل لي وزيراً من أهلي علي أخي أشركه في أمري كي نسبِّحك كثيراً..)) فضلاً عن الكلمة النبوية المشهورة، حيث قال النبي(ص) لعلي: ((أنت منّي بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي)) فإذا كان علي(ع) لرسول اللّه(ص) بمنـزلة هارون من موسى، فإن هارون كان وزيراً لموسى(ع) بالإضافة إلى النبوَّة، ولكن النبوَّة لم تجعل لعلي(ع)، ولذلك فمسألة الإعلان عن أن علياً خليفة النبي(ص) لم تكن مسألة طارئة أو مستحدثة في أواخر عهد الرسول(ص)، بل كانت في بدايات الرسالة، ولذلك فإن الإمام علي(ع) يريد أن يؤكد بهذه الكلمات للناس كافّةً أنه وحده من بين كل الصحابة هو الشخص الذي يقوم مقام رسول اللّه(ص)، لأنه ليس هناك أحد من المسلمين غيره أخذ علم رسول اللّه(ص) وأخلاقه كلها، وخاض حروب النبي(ص) ونصر الإسلام كما لم ينصره أحد، إلى ما كان يملكه من الخبرة في إدارة الناس، وهو ما ندرسه في (نهج البلاغة) في عهده لمالك الأشتر، وفي كل تعاليمه(ع)التي برز لنا فيها كشخصية تملك أعلى مواقع الثقافة الإدارية والاجتماعية والسياسية وغير ذلك.. لذلك فهو أعلم الناس بالإسلام، وأكثرهم خبرةً بالإدارة، وخلافة النبي(ص) تحتاج إلى شخص يجمع كلا العنصرين: عنصر الدعوة إلى الإسلام، وعنصر إدارة شؤون المسلمين، ولم يتوفَّر ذلك إلا عند علي(ع) لمن يريد أن يدرس علياً(ع) دراسةً لا عصبية فيها، بل دراسةً موضوعية متّزنة..
.. ويبقى للكلام بقية في الأسبوع القادم إن شاء اللّه، والحمد للّه ربّ العالمين.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السادسة عشرة20 جمادى الأولى 1424ه19/7/2003م
حديث علي(ع) في الخطبة القاصعة
عن معجزة الشجرة
إنّ المعجزة أمر ممكن وليست خارقة للقانون، بل هي خرق للعادة
العمل النبوي.
معجزة العصر.
معجزة الشجرة.
الطليعة المؤمنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
نحن في ختام الخطبة (القاصعة) المتنوّعة في أبعادها وفي مواعظها، وفي المفاهيم العامّة التي كان الإمام(ع) يريدها أن تتركز في وعي الأمة الإسلامية، وفي حديثه عن الرسول(ص) وعن ألطاف اللّه به، وعن حضانة الرسول(ص) له فيما مرّ من حديث سابق.
العمل النبوي
في الفقرات الآتية، يحدّثنا الإمام(ع) عن معجزةٍ شاهدها بنفسه من الرسول(ص) أمام التحدّيات التي كان يطلقها المشركون ضدَّ الرسالة الإسلامية، وهذه المعجزة ليست بدعاً مما أكرم اللّه به أنبياءه، لأنه سبحانه وتعالى عندما أرسل الأنبياء(ع) للناس كافّةً، لم يرد لهم أن يقدِّموا المعجزة أمامهم للإيمان، ولكنه أراد لهم ـ من خلالها ـ أن يفجروا عقول الناس بالفكر، فيكون الإيمان فكراً يصلون إليه من خلال ما يقدّمه الأنبياء(ع) من الأدلّة والبراهين، والله سبحانه أراد للأنبياء فيما أنزل عليهم من رسالاته وكتبه، أن يُخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وأن يفتحوا عقولهم حتى يفكّروا، وليحركوا حياتهم حتى يستقيموا.
فلم تكن المعجزة هي القاعدة في الرسالات، بل كانت استثناءً من خلال ظروف بعض الأنبياء، وذلك كما لاحظناه في حياة النبي نوح(ع)، إذ لم يذكر القرآن أنّه قدّم نفسه إلى الناس بالمعجزة، وإن كان الطوفان معجزةً، ولكنه كان كذلك بمستوى العقوبة لقومه، فقد بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى اللّه بكل الأساليب، ومع ذلك لم يؤمن به إلا قليل.. وهكذا نجد أن الله سبحانه لم يرسل نبيّه إبراهيم(ع) بمعجزة ابتداءً، بل بدأ بدعوة أبيه وقومه والناس وتحرك بأساليب تربوية متعدّدة فيما أثاره من علامات استفهام حول ما كانوا يعبدونه من الكواكب والشمس والقمر، حتى إنهم عندما أجمعوا على إلقائه في النار، كانت - عندئذٍ - المعجزة التي تحدَّاهم اللّه بها رداً عليهم وإسقاطاً لهم.. قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ( )، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ( )..
وقد برزت المعجزة بشكلها الصارخ المتحدي في قصة النبي موسى(ع)، حيث أنها كانت هي الوسيلة التي يمكن أن يدخل بها النبي موسى(ع) على فرعون، لأن موسى(ع) كان من المستضعفين الذين كان فرعون يذبِّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ولذلك فإنه لم يكن يملك أيَّ موقع يسمح له بالدخول إلى فرعون من موقع القوة، فضلاً عن تحديه له، فكانت معجزة موسى(ع) والآيات التي أعقبتها بعد ذلك تتناسب مع جبروت فرعون ومع طغيانه وادّعائه الربوبية وسيطرته على الناس. وقد أراد اللّه لموسى(ع) أن يفتح هذا الحاجز بقوة يصعق لها الذين يشاهدون هذه المعجزة.. وقد انطلق موسى(ع) من خلال ما منحه الله من الطمأنينة والسكينة والقوّة ليدعو فرعون إلى اللّه على أساس التوحيد، ثم طلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل، فلمّا استهان به فرعون وقومه، أطلق موسى(ع) العصا لتتحوّل إلى ثعبان، وأظهر اليد البيضاء بعد أن كانت سمراء، وهنا شعر فرعون وقومه بالخطر.. وكان ما كان من جمع السحرة ليتحدّوه، لأنه اعتبره ساحراً خطيراً يمكن أن يخرجهم من أرضهم ويمكن أن يبدِّل طريقتهم المُثلى.. وكان ما كان في أن موسى(ع) عندما ألقى عصاه فأكلت كل تلك الحبال، وخرّ السحرة ساجدين، لأنهم عرفوا أن ما أتى به موسى(ع) ليس سحراً، ولكنه يمثل قوة غيبية ليس للبشر أي دخل فيها وأية قدرة عليها، وكان سجودهم إيماناً واعتقاداً بتلك القوة وتحدّياً لفرعون ومواجهةً للخطر بكلِّ قوّة، رافضين أن يدعموه على حساب مصيرهم.
وكانت هناك بعض المعاجز، كما في ناقة صالح(ع). ولكن المعجزة التي كانت مميزة هي ما جاء به السيد المسيح(ع) عيسى بن مريم(ع)، وكان عصره عصر الطب، فجاء بما أسقط كل عنفوان الأطباء، حيث أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه، وحدّثهم عمّا يدَّخرون في بيوتهم، وكانت معجزته(ع) في دائرة زمنية محدودة لأجل مواجهة التحدي، ولكنه(ع) عندما انطلق لم يجعل معجزته هي المواجهة التي يدعو الناس إلى الإيمان من خلالها، ولكنه جاء بالإنجيل واعترف بالتوراة، لأجل أن يفتح قلوب الناس وعقولهم على ذلك.
معجزة العصر:
وكانت المعجزة - التي تعتبر معجزة العصر - هي معجزة نبينا محمد(ص)، وهي القرآن، لأن الإسلام خاتم الرسالات، وقد أراد اللّه سبحانه له أن يكون ديناً للحياة يستمرُّ معها، وأن يدخل إلى عقول الناس من باب العقل، فركّز على العقل وجعله حجةً على الإنسان أمام اللّه، واعتبر العقل رسولاً من الداخل كما إن النبي رسول من خارج ـ كما ورد في بعض الأحاديث ـ. ولذلك فإن النبي(ص) لم يطرح المسألة في القضايا العامَّة على أساس المعجزة الكبرى كما حدث لموسى(ع)، لأنّه أراد أن ينـزع الشرك من قلوب المشركين بالحجَّة وبالبرهان، وكان(ص) يقول لهم: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ( )، هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( )..
فكان(ص) يريد للناس أن يفكّروا ويحاوروا ويجادلوا، حتى أنه أراد للمسلمين أن يجادلوا أهل الكتاب (اليهود والنصارى) بالتي هي أحسن، وأن يجادلوا كل الذين يختلفون معه بالرسالات بالتي هي أحسن.. وما زال القرآن الكريم يحدثنا عن العلم والعقل اللذين يمثّلان النافذتين اللتين يمكن أن تصنعا الحضارة وترفعا مستوى المجتمع وبهما تتقدّم الحياة، سواء كان العقل عقلاً تأملياً أو عقلاً تجريبياً ينفتح على كل مواقع العلم، وقد قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( ). وقال أمير المؤمنين علي(ع): ((قيمة كل امرئ ما يحسنه))( )، فقل لي ما هي معلوماتك أقلْ لك ما هي قيمتك. إن قيمة الإنسان ليست في ما يملك من مال أو جمال أو قوة، بل قيمته أن يملك عقلاً يملأ به حياة الناس من خلال ذلك…
ولكن مع ذلك فإنَّ النبي(ص) كان يواجه بعض التحديات في دائرة خاصة، فكان يردّ التحدي بمثله لإسقاط المشركين والكافرين، كما نلاحظ في هذا الحديث الذي تحدّث به أمير المؤمنين من خلال تجربته، ومنه نعرف أن القوم قرروا أن لا يقتنعوا وأن لا يؤمنوا، وقرروا أن يجادلوا وأن يغلقوا عقولهم وقلوبهم عن كل ما يقدَّم لهم من براهين.. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ( ).
معجزة الشجرة:
يقول(ع) وهو يحدثنا عن تجربته تلك مع الرسول(ص)، وهو الذي كان يرافقه في كل حياته ومواقفه: ((ولقد كنت معه(ص) لما أتاه الملأ من قريش، فقالوا له يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدّعه آباؤك ولا أحد من أهل بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبيٌّ ورسول)) يعني قدِّم لنا برهاناً حسياً، ((وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذَّاب، فقال(ص): وما تسألون؟ قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك، فقال(ص): إن اللّه على كل شيء قدير))، والله يقول: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ( )، وهو تعالى يسمع ما تقولون ويعلم حجم التحدي الذي تواجهون به الرسالة..
ونلاحظ هنا عظمة الرّسل(ع)، أنهم لا ينسبون أي شيء إلى أنفسهم وإنما يردّونه كله إلى الله.. ((فإن فعل اللّه لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا: نعم، قال: فإنّي سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تسيرون إلى خير))، لأنكم تأتون بموقف المتحدّي وليس بموقف طالب الحقيقة، ((وإن فيكم من يطرح في القليب)) إشارة إلى معركة بدر حينما طرحوا في البئر آنذاك ((ومن يحزِّب الأحزاب)) الذين قادوا الأحزاب ضد الإسلام وأهله ((ثم قال(ص): يا أيتها الشجرة، إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديَّ بإذن اللّه، فوالذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دويٌّ شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللّه(ص) مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه(ص) وببعض أغصانها على منكبي وكنت عن يمينه، فلما نظر القوم إلى ذلك، قالوا عُلُوَّاً واستكباراً: فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها، فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دويّاً، فكادت تلتف برسول اللّه(ص)، فقالوا كفراً وعتواً: فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره فرجع فقلت أنا: لا إله إلا اللّه)). وقد كررها علي(ع) في أكثر من موقف، لأن الإيمان كان يعيش في قلبه وعقله وحياته،
لأن قلبه كان من قلب الرسول(ص)، وعقله من عقله، وكانت كل شخصيته ـ
في عناصرها العلمية والعقلية والحركية ـ من رسول اللّه(ص).. ((إني أول مؤمن بك يا رسول اللّه وأول من أقرّ بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك، فقال القوم كلهم: بل ساحر كذّاب عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا، يعنوني..)) استهزاءً بالإمام علي(ع).
وهنا نشير إلى أن المعجزة ـ حتى في المناهج المادية ـ هي أمر ممكن وليست خرقاً للقانون، بل هي خرق للعادة؛ لأن اللّه سبحانه خلق هذا الكون على أساس القوانين التي أودعها في حركته ونظامه، وهو سبحانه يملك أسباباً أخرى وقوانين أخرى قد تكون استثنائيةً من خلال دعم نبوة أو من خلال حاجة أو ما إلى ذلك، فالكون كله بيد اللّه.. بل إننا نقول إن الكون كله معجزة، ولكن بعض الناس قد لا يؤمن بتفسير بعض القضايا بطريق الغيب، مع أن تفسير هذه القضايا لا ينحصر بالطريق الغيبـيّ، فالكون نفسه حينما ندرسه الآن فإنه معجزة، فالشمس التي تبقى ملايين السنين وهي تلتهب ضياءً، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً( )، فكيف صارت كذلك؟ وخلق اللّه هو معجزة، سواء كان في خلق آدم(ع) وعيسى(ع) أو من خلال الخلق الطبيعي، إذ من الذي جعل في النطفة النمو والحياة وأودع فيها خصائص ومورثات الآباء والأجداد؟ فلو درس الإنسان كل ظاهرة كونية، لوجد أن كل ظاهرة هي معجزة بحدّ ذاتها، لأنّ كلاً منها ـ بعيداً عن القوانين التي أودعها اللّه فيها ـ ليس فيها أي سببية ذاتية، فالله خلق المسبب والسبب معاً، فهي ممكنة عقلاً وعلماً.. وقد عرضنا أن هذا الممكن قد حدث، لأن الصادق المصدِّق قد حدّثنا عن ذلك في القرآن وفي السُنّة..
الطليعة المؤمنة:
ثمّ يتابع عليّ(ع) فيقول: ((وإني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم))، هذا الفريق إذا وقف من أجل أية توصية تتصل باللّه سبحانه وتعالى في أوامره ونواهيه، فإنهم يثبتون أمام ما يريده اللّه حتى لو كثر عليهم اللّوم هنا وهناك. فالإنسان المؤمن هو الإنسان الذي يؤكِّد إيمانه في عقله وقلبه من خلال كل اقتناعاته على أساس الحجَّة والبرهان، وعند ذلك لا يزلزله أيُّ لوم هنا وأي اتّهام هناك، كما كان يفعل الأنبياء(ع)، ((سيماهم سيماء الصدّيقين)) الذين يعيشون الصدق في إيمانهم وكلماتهم ومواقفهم، ((وكلامهم كلام الأبرار))، فلا يتكلمون إلا بالخير والتقوى والورع.. ((عُمّار اللّيل)) بالعبادة، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( )، ((ومنار النهار))، فكما أنّ للنهار ضوءاً تعطيه الشمس للكون كله، فهناك شمس أخرى، وهي شمس الطليعة المؤمنة الواعية التي تتحمل المسؤولية، فتملأ النهار ضياءً في الفكر والعلم والروح وضياءً في الاستقامة.. ((متمسّكون بحبل القرآن))، لأن اللّه سبحانه وتعالى اعتبر القرآن حبله، ولهذا فُسّر قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا( ) أن الحبل هو القرآن الكريم، وجاء في حديث الرسول(ص) الذي يرويه المسلمون من كلا الفريقين: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).. ((يحيون سُنن اللّه وسنن رسوله(ص)))، في كلّ ما أراد للناس أن يفعلوه، ((لا يستكبرون)) فهم المتواضعون للّه والمتواضعون في أنفسهم ((ولا يعلون)) لا يشعرون بالعلوّ على بقية الناس.. ((ولا يُغُلُّون)) فلا يعيشون الغُلّ في صدورهم للمؤمنين، سواء كان الغُلّ متمثلاً بالغشّ أو الخيانة أو بأيِّ شيء آخر.. ((ولا يفسدون)) لأنهم يعملون على أساس الإصلاح، وهو رسالة اللّه ورسوله.. ((قلوبهم في الجنان)) أي أنهم يعيشون في قلوبهم الشوق إلى الجنة، فهم يعملون للحصول عليها، ((وأجسادهم في العمل))( ). فهم يعملون على أساس أن يقوموا بمسؤوليتهم. هذا هو فريق علي(ع) وهو عنوان علي(ع)..
ولذلك - أيها الأحبة - لا يزال علي(ع) بالرغم من كل هذه القرون المتقادمة، يعطينا فكراً من فكره، وموعظة من مواعظه، وخُلُقاً من خلقه وحضارة، فعلينا أن نعرف كيف نرتبط بعلي(ع) بعقله وعلمه وكلِّ فكره، لأن علياً(ع) وإن مات جسداً، لكنه بقي رسالةً وروحاً، وبقي لنا في كلِّ زمان ومكان ما نأخذه من علي(ع)..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السابعة عشرة27 جمادى الأولى 1424ه26/7/2003م
العقل في القرآن (1)
التدبّر في آيات الكون
أراد الله للإنسان أن يكون عقلاً يفكّر ويبدع ويخطط وينمو ويتطوّر ليطوّر الحياة
العقل ودوره في الحياة.
في آفاق القرآن.
كتاب الكون.
وعي الأمثال.
التجربة كمصدر للمعرفة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
العقل ودوره في الحياة:
لقد أراد اللّه للإنسان أن يكون عقلاً يفكِّر ويبدع ويخطّط، ومن العقل يتحرك العلم وينمو ويتطوّر ليطوِّر الحياة، ومن العقل يُنتَج معنى الروح في شخصية الإنسان؛ لأن العقل يفتح آفاق الإنسان نحو اللّه سبحانه وتعالى، لينفتح بذلك كلُّ النور على كيان الإنسان كله، لأن الانفتاح في معنى العقيدة وفي معنى الروح يجعل الإنسان ينفتح نحو المطلق، فتقترب محدوديته كبشرٍ من بعض ملامح المطلق ليحلِّق في الأعالي. وقد ورد في الحديث الشريف عن أئمة أهل البيت(ع): ((إن اللّه سبحانه لمّا خلق العقل قال له أقبل، فأقبل، ثم قال له أدبر، فأدبر)) والعقل ليس جسماً مادياً، ولكن ذلك الخطاب واردٌ على نحو الكناية، حيث أراد اللّه سبحانه وتعالى للعقل أن يَبرز بكل عمقه وامتداده وخصائصه التي تعطي الحياة نموّها وتطوّرها، وتعطي للإنسان سموّه وانفتاحه، ((ثمّ قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أعز عليَّ منك، إيّاك آمُر وإيّاك أنهى..)) فالله عندما يأمر الإنسان أو ينهاه فإنما يأمر عقله؛ لأن العقل هو الذي يعي معنى الأمر والنهي، ((وبك أعاقب وبك أُثيب))( ). وقد ورد أن اللّه سبحانه وتعالى يثيب الإنسان بمقدار عقله ويعاقبه بمقدار عقله، يعني أن الظروف العقلية في وعيها للطاعة وفي وعيها للمعصية هي التي تحدد حجم الثواب وحجم العقاب.
في آفاق القرآن:
ونحن عندما ندخل إلى آفاق القرآن الكريم، نجد أن القرآن يتحدث عن كل آيات اللّه في الكون، ليقول للإنسان: اقرأ كتاب الكون، وانطلق بعقلك لتدرس كل آيات اللّه في الكون وكل ما فيه من السنن والظواهر، لتطّلع على أسرارها، فتنفتح من خلال العقل على اللّه سبحانه وتعالى.
ومن هنا، فإنّ الإنسان المؤمن ـ من خلال ما نستوحيه من القرآن الكريم ـ لا ينعزل عن الكون، ولا يمر به مروراً عابراً، ولا يعيش أمام ظواهره بروح اللامبالاة، وإنما يفكر في كل ظاهرة كونيّة في كل ما أودعه اللّه سبحانه وتعالى في النظام الكوني، أو سنة تاريخية فيما ركّزه الله سبحانه في النظام الإنساني من قوانين وأنظمة، فقال للإنسان اقرأ كتاب ربك في سر عظمة الخلق، ولْتُحقِّق الامتداد للعلم وللإبداع. ولذلك فنحن نختلف مع الذين يقولون إن العلم ينفتح على الإلحاد، إلاّ إذا كان العلم سطحياً، فإنه عندها يمكن أن لا ينفتح على الإيمان، لأنه كلما فهم الإنسان أسرار الكون أكثر، كلما عرف اللّه أكثر، ونحن نقرأ الحديث المأثور ((من عرف نفسه فقد عرف اللّه))( ).
لقد كانت مهمّة الإسلام أن ينطلق عقل الإنسان نحو اللّه ليقترب منه من خلال اقترابه في كل الحياة، وأنزل الله سبحانه القرآن من أجل تنمية العقل، فكل ما في القرآن الكريم هو حركة ومفاهيم قيّمة لا بد للإنسان أن يتدبرها من أجل أن ينمو عقله ويكبر.
وعلى هذا، فإنّنا نؤكِّد ـ كما أكّدنا في بعض حواراتنا مع المسيحيين الذين كانوا يقولون إن الإيمان فوق العقل، والإيمان عادةً ينطلق من خلال الشعور والإحساس من المنطقة الخفية ـ نؤكّد أن الإسلام يعتقد أن العقل هو الذي يؤكّد الإيمان، وأن الإيمان يمر بطريق العلم، وكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد إيماناً..
كتاب الكون:
ولابد لنا هنا من أن نتابع بعض الآيات القرآنية التي توحي بما ذكرناه، لنعرف كيف يجعل القرآن للعقل قيمة في أعلى مواقعها، وكيف يريدنا أن نتدبر القرآن ونفهمه من أجل إغناء العقل والروح والانفتاح على منهج العلم.
الآية الأولى: ما جاء في سورة البقرة، وهو قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ في كل ما يمثله هذا الخلق من أسرار وامتداد، ومن غنى في الثروات الموجودة في السماء بكل رحابتها، وفي الأرض بكل تشعّباتها، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، هذا الاختلاف الذي جعله الله سبحانه لتنظيم حركة الزمن لتنتظم من خلاله حياة الإنسان، فبينما ينقص الليل ليزداد النهار ويزيد الليل لينقص النهار، أو يتوازنا، نجد أن هذا النظام الزمني الكوني لم يختلف مع مرور ملايين السنين، ولم يتخلّف بمقدار ثانية واحدة.. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ.. وسقوط المطر هو نظام طبيعي أودعه اللّه في أجواء السماء، بحيث إذا تجمعت أنتجت المطر.. فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فهذا التنوّع من الحيوانات التي لا عدَّ لها ولا حصر في خصائصها وأوضاعها.. وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ في وظيفة السحاب في الحياة، خلال الحرّ والبرد وما إلى ذلك.. لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ).. فعليك أن تحرّك عقلك وتطلقه باتجاهٍ منطقي سليم، من أجل أن تغنيه ومن أجل أن توسع علمك، وأن تبدع في ما تستمده من حركتك الإنتاجية والعلمية من خلال فهم أسرار الخلق وأسرار الطبيعة. وكلُّ ما جاء به الإنسان من اكتشافات لم تكن اختراعاً لقانون، وإنما كانت استهداءً للقوانين الموجودة في الكون وحاول أن يستنتجها بطريقة وبأخرى. ولذلك فإن كل الاكتشافات ـ بما في ذلك الاستنساخ أو أطفال الأنابيب ـ ليست خلقاً كما يعتبره بعض الناس، فالخلق في حقيقته هو خلق القانون، أما أن تصنع شكلاً من خلال ما أودعه اللّه سبحانه وتعالى من قوانين وسنن، فهذا ليس خلقاً وإنما استهداء للخلق.
الآية الثانية التي تؤكد على دور العقل في محاولة استنطاق ظواهر الكون، قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ تأكلون منه.. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( ).. والفكر نتيجة العقل، وهو حركة العقل في إنتاج الفكر، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لا تنظروا إلى هذه الظواهر نظرة سطحية، بل يجب أن تكون النظرة إليها النظرة العميقة المفكرة، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم مصطلح "التدبُّر"..
والآية الثالثة قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ( ) فيتحدث عن عظمة الخلق والنعمة، فالليل والنهار مسخّران للإنسان لتنظيم حياته، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وتأثيرهما على حياة الإنسان والحيوان والنبات، وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فالعاقلون هم الذين يمكن لهم أن يفهموا ظواهر الكون.
وعي الأمثال:
ثم يتحدث القرآن عن الأمثال، والقرآن مليءٌ بالأمثال، ولكنه يقول إن فهم المثل في امتداداته خارج الدائرة الضيّقة التي تحرّك في داخلها يحتاج إلى علم وعقل، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ( )، يعني الناس الذين يملكون العمق العلمي هم الذين يملكون امتداد هذا المثل وكيف يطبقونه وكيف يفهمون ما يماثله في كل شؤون الحياة.
وهكذا يتحدَّث القرآن عن التجربة الحياتية، فالإنسان عندما يتحرك في الأرض، وفي الأرض الكثير من التاريخ والكثير من الثروات ومن الأوضاع، فهنا يقول القرآن: عندما تتحرك في آفاق الأرض عليك أن تعقل كل ذلك، حتى وأنت تتحرك سياحياً، لا تشغل نفسك بمظاهر الجمال الطبيعي بطريقة بلهاء، ولكن ادرس سحر هذا الجمال وخصائصه حتى تكون سياحتك سياحة مثقّفة، لأنك عندما تمر بآثار عاش فيها الكثيرون من قبل في التاريخ، أو عندما تمرّ بالقلاع والحصون، أو بما امتلأت به المتاحف من آثار السلف، والتي تعبر عن الإبداع والفن الإنساني وما إلى ذلك، فإنك تستطيع أن تثقّف نفسك بذلك.
التجربة كمصدر للمعرفة:
وهذا هو الذي ينطلق بنا إلى مسألة التجربة بكونها مصدراً من مصادر المعرفة. ففي الفلسفة اليونانية، وهي مدينة لأرسطو وأفلاطون وغيرهما، كان مصدر المعرفة الوحيد التأمل ، ولكن الثقافة الإسلامية التي استفاد منها الكثيرون ونقلوها إلى الغرب، اعتبرت التجربة مصدراً ثانياً من مصادر المعرفة، وقد تقدم الغرب هذا التقدم الهائل من خلال ما أخذه من المفكرين المسلمين، مثل ابن رشد في الأندلس، فاستنطقوا التجربة في إبداع المعرفة، ولكننا - مع الأسف - لا نزال نعيش في التجريد الذي يجعل الإنسان يفكر في الفضاء من دون أن يحقق التجربة الإنسانية.. والله تعالى يقول: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا( ) وكلمة (القلب) في القرآن غالباً ما تعني العقل.. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ( )، فالقلب يستحضر العقل ليفهم كل شيء يمر به ولا ينظر إلى الأشياء نظرة سطحية وغير عميقة الفهم.. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( ).. ونقرأ في آية أخرى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( )، فهذه الآية صريحة القول بأن اللّه أنزل القرآن من أجل أن يصنع للإنسان عقله وأن ينميه ويطوّره في حركة حياته في كلِّ مجالاتها.
لذلك نجد أن القرآن الكريم يركّز على مسألة التدبر وعلى مسألة القلوب المفتوحة، ويتحدث عن كثير من الناس الذين يقرأون القرآن ولا يتدبّرونه، لأن عقلهم مقفل.. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( ) فبدلاً من أن يشارك القرآن بصناعة عقله، فإنه من خلال طريقة القراءة يقفل على نفسه، لأنها هي التي تجعله يغلق عقله عن فهم آيات اللّه والأسرار التي يريد اللّه للإنسان أن ينطلق بها. وللكلام بقية قد تأخذ أكثر من موقع.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثامنة عشرة4 جمادى الآخرة 1424 ه2/8/2003م
العقل في القرآن (2)
دعوة الأنبياء(ع) رائدها العقل
العقل هو حجّة على الإنسان في كلّ مجالات الإنسان
تحريض العقل.
حديث العقل.
الاستقلال الفكري.
أسلوب الحق.
حوار النبي(ص) مع المشركين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع القرآن الكريم في حديثه عن العقل، وعن الذين يعقلون والذين لا يعقلون، وعن أولي الألباب، وعن الذين يفكرون، والذين لا يفكرون وما إلى ذلك، باعتبار أن الفكر هو حركة العقل، ما يجعلنا نخرج بقاعدة إسلامية وفق مفهوم القرآن، بأن العقل هو الأساس في كلِّ ما يريده اللّه سبحانه للإنسان أن يتحرك به في جانب العقيدة والعمل ومختلف جوانب الحياة، ونحن استتماماً لما بدأناه، نحاول أن نتوقف عند كل آية، لنستوحيها في مسألة العقل؛ لأنّ القرآن ـ على حدّ تعبير الإمام الباقر(ع) ـ ((لو نزل في قوم وبقي فيهم لمات، ولكنه يجري مجرى الليل والنهار ومجرى الشمس والقمر))، فالأسماء التي ذكرت في القرآن، سواء كانت أسماء الأنبياء أو خصومهم، كانت نماذج عالية من السموّ أو نماذج للانحطاط، ولذلك فعلينا أن نتخذ القرآن إماماً لنا في كلِّ مجالات الحياة.
ونحن نرى في بعض حوارات الأنبياء مع قومهم، أنهم حينما يطلقون الفكر ضد ما يعتقده قومهم، فإنهم يركِّزون في نقدهم لقومهم على نقطة أساسية، وهي أنهم يتحرّكون بمنطق غير عقلي، ولو أنهم عقلوا القضايا المطروحة عليهم، لما وقفوا ضد دعوة الأنبياء(ع).
تحريض العقل:
وهذا ما نلاحظه في دعوة النبي إبراهيم(ع) عندما كان يتحدّث مع قومه بعد أن قام بتكسير أصنامهم، فلما سألوه عن سبب تكسير الأصنام، اتّهم النبي إبراهيم(ع) الصنم الكبير بأنه هو الذي قام بعملية تكسيرها، وتحدّث إلى قومه بمنطق وعقلانية، كما حدّثنا القرآن الكريم.. قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ، فعندما واجههم بهذا صُعِقوا، فكان جوابهم، وحسب سياق الآيات لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ معترضين على النبي إبراهيم طلبه لهم بأن يستنطقوا الأصنام وهم يعلمون بأنها صمّاء لا تنطق ولا تتحرك ولا تسمع. فبادر النبي إبراهيم(ع) مستنكراً لهم بقوله: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
وهذه هي القاعدة التي أراد لهم أن يرجعوا إليها، لأن الإنسان ـ ولا سيّما الكبار منهم ـ يعتزّ بعقله، وبما يملكه العقل من إنتاج الفكر الذي يلتقي بالحقيقة، ولهذا فإن إبراهيم ـ وكما يقال في التعبير العصري ـ قد وضع الكرة في ملعبهم، بقوله لهم إن عبادتهم للأصنام التي لا تنفعهم شيئاً ولا تضرّهم هي عبادة غير عقلانية، وإن عليهم أن يرجعوا إلى عقولهم ليعرفوا معنى الألوهية وبأن الذي يستحقّ الألوهية، لابدّ أن يكون كلّي القدرة والمهيمن على الكون كله، كما في قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ( ) .. وهكذا أراد النبي إبراهيم(ع) أن يوقظ في قومه طاقة العقل، وإن كانت التعقيدات الخرافية المتخلفة التي درجوا عليها لا تجعلهم يطمئنّون إلى منطق النبي(ع)، أو يناقشونه فضلاً عن أن يقتنعوا بكلامه، ولذلك كان ردّهم ـ على لسان القرآن ـ حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ( )، أي استعملوا القوة ردّاً على منطق العقل الذي جابههم به النبي(ع)، والذي يحاكم الأشياء على أساس الحسابات الفكرية الدقيقة..
وإذا كنّا قد قرأنا تلك التجربة للنبي إبراهيم(ع) مع قومه في مسألة عبادة الأصنام، فإننا نرى أن أهل الحق عندما يقدّمون الفكرة بطريقة موضوعية، ويناقشون الفكر الآخر بمنطق علمي، فإنهم يُواجَهون بأسلوب القوة الضاغطة التي تحاصر الداعية في جسده، فتقوم بقتله أو سجنه، أو تحاصره في سمعته، وذلك بإثارة الأساليب التي يُستغلُّ فيها جهل الناس، وعدم وعيهم للقضايا الفكرية الحقيقية.
حديث العقل:
وفي صورة أخرى، نجد حوار النبي موسى(ع) عندما دعا فرعون إلى عبادة ربّ العالمين، ويبدو أن فرعون لم يسمع بكلمة (رب العالمين)، إما لأن المجتمع الذي كان يعيش فيه فرعون لم ينفتح على معنى التوحيد بالمعنى الذي انطلقت فيه الرسالات، وإما لأنه كان مستغرقاً في ادّعائه للربوبية بالطريقة التي كان لا يريد معها أن يتصوّر وجود إله غيره، فقال فرعون لموسى: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ.. ما هذا المصطلح الجديد الذي لا نعرفه؟ فقال موسى(ع): قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ ليتطلّع إلى السماء من فوقه، وإلى الأرض التي يعيش فيها، ويتطلّع إلى ما بين السماوات والأرض، وفي كلِّ هذه المخلوقات التي تطير في الفضاء، ليفكِّر من الذي خلقها وأبدعها وخلق قوانينها، وبذلك سيعرف أن ربّ العالمين هو ربّ كل هذا الكون، ربّ السماوات والأرض وما بينهما.. فقال فرعون لمن حوله من قومه ليثيرهم ضد موسى(ع)، وهم القوم الذين خضعوا لفرعون بطريقة عمياء، كما يخضع بعض الناس للطغاة في أفكارهم وأوضاعهم، فقال فرعون لقومه: أَلا تَسْتَمِعُونَ، أن لكم رباً ولآبائكم، فما هذه البدعة الجديدة؟ ثمّ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ.
وهذه بداية تشكيك من فرعون بدعوة موسى، فلم يناقشه في من خلق السماوات والأرض وما بينهما، ولم يدخل في أي جدل علمي عقلاني مع موسى(ع) كأيّ محاوِر، كالكثيرين من الناس الذين عندما يريدون إثارة الجماهير حول بعض الأفكار المضيئة والمشرقة، فإنهم يأتون ببعض الجهّال الغوغاء، ليقولوا لهم تعالوا انظروا ماذا يقول فلان في القضية الفلانية، وكأنه ينكر الحقيقة! من دون أن يفسح المجال للناس لأنْ يناقشوا القضية موضوعياً وعلمياً.. فذلك هو شأن الطغاة في كلِّ زمان ومكان، سواء كانوا طغاةً سياسيين أو دينيين وما إلى ذلك، لأن لكل موقع طغاته في الحياة. وعلى كل حال، فلم يردّ النبي موسى(ع) على فرعون شتيمته، وإنما خاطبه بالعقل قائلاً مكمِّلاً عن صفة رب العالمين: قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ( )، فأراد موسى(ع) أن يبلّغهم أن ما يتحدّث به هو حديث العقل للعقل، محاولاً بذلك تحريك عقولهم لكي لا يستعبدوا عقولهم للآخرين، ولا يستسلموا لمنطق العصبية، ولا يأخذوا بعناصر الإثارة، ولا ينطلقوا بما يسمعونه، بل بما يعقلونه، وأن يفكِّروا بعقولهم وليس بغرائزهم؛ لأن العقل هو سرّ كرامة الإنسان، وهو الطاقة التي تبصِّر الإنسان كلّ ما يتعلق بحياته في الدنيا والآخرة.
الاستقلال الفكري:
من هذه الدعوة النبوية نستفيد أنّنا عندما نواجه مثل تلك الأساليب التي قد يتحرّك أصحابُها بطريقة سلبية وبأساليب التكفير والتضليل والسُباب والشتائم، وبأسلوب إثارة الجماهير انفعالياً وعاطفياً، فإنّ علينا أن نذّكر الناس بالعقل، وهذا ما حدّثنا عنه اللّه سبحانه وتعالى في بيانه للنبي محمد(ص)، عندما كان قومه في مكّة يثيرون الغوغاء حوله، فينطلق أحدهم في مكّة ليقول عنه إنه مجنون، فتنطلق بذلك الهتافات. فاللّه سبحانه وتعالى علّم النبي محمد(ص)الأسلوب العقلائي الذي يحاول به إثارة التفكير بعقل هادئ.. فهناك قضيّة واحدة تُمثِّل المنهج في فهم الأشياء، المنهج الذي يستطيعون من خلاله أن يفكِّروا باستقلالية وموضوعية وبطريقة علمية، فقال لهم ـ على لسان القرآن ـ: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يديْ عذاب شديد( )، فأراد لهم أن ينفصلوا ويتفرَّقوا فرداً، فرداً واثنين اثنين، عن ذلك التجمّع المحموم الذي ينطلق بوحي العصبية العمياء، والذي يتحرّك فيه الأفراد من خلال الحُمّى التي تسود كل مشاعر المجتمع وأحاسيسه، ليتفكّروا ما بصاحبهم من جُنّة، ولكنّه النبيّ الذي يريد لهم الهداية لطريق الخير في الدنيا والآخرة.
وهذا المنهج هو ما نحتاج إليه في كلِّ واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ إذ هناك ما يسمى في علم النفس بمصطلح (العقل الجمعي)، ويقولون إن الفرد عندما يكون ضمن الجماعة، فإنّه يتحرّك بشكل يختلف عمّا لو كان فرداً، بحيث يتأثر الفرد بالجماعة، لأن الجماعة عندما تُسيطر على الساحة، فإنها تجعل الإنسان ينجذب غريزياً إلى ما تطرحه، فيفقد بذلك استقلاله الفكري، ويصبح جزءاً من الحمى الجماهيرية.. وعلى هذا، فإننا قد نلاحظ أنّه إذا ما هتف شخص في مظاهرة ـ مثلاً ـ فإن الآخرين يهتفون معه من دون أن يعرفوا مغزى الهتاف، وعندما تكون في مجتمع تلقى فيه قصيدة أو يطرح فيه شعار ما، ترى أن الناس تصفق ربما تجاوباً، ولكن كثيراً من الناس يصفّقون لأن الآخرين يصفقون، وقد تجد نفسك ـ في بعض الحالات ـ تبْكي في مجتمع بكّاء من دون أن تعرف السبب.. وإذا كان البعض يناقش ـ علمياً ـ في العقل الجمعي أو تأثيراته، فإنّ هذا التأثير أمر نعيشه في الواقع المحيط بنا.
وعلى كل حال، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى علّم رسوله أن يقول لهم: إنكم لا تستطيعون التفكير باستقلال، سواء قلتم إني مجنون أو عاقل، ما دمتم تعيشون الحُمّى العصبية والعدوانية التي تسيطر عليكم من خلال بعض الأشخاص، فتنطقون كما ينطقون، وتهتفون كما يهتفون، فارجعوا إلى عقولكم.. أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ يعني أن تنفتحوا على الحقيقة أمام اللّه سبحانه وتعالى بعيداً عن أي مؤثرات عاطفية أو انفعالية وما إلى ذلك، مَثْنَى اثنين اثنين، وَفُرَادَى واحداً واحداً، ثمّ تتفكّروا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ لأن الفرق بين العاقل والمجنون، هو أن العاقل يتكلم بطريقة عقلانية منطلقة من قاعدة فكرية وخط توازن، ويتحدّث بحسب دراسة الظروف المحيطة والقضايا التي تثار في المجتمع، فيختار ما ينفع المجتمع.. والنبيّ(ص) يقول ـ بحسب القرآن ـ ادرسوا كلماتي وطريقتي في التعامل والدعوة دراسةً موضوعيةً هادئة، لتعرفوا أن مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ؛ فكل ما فعلته هو أنّي أنذرتُكم في شرككم وكفركم وفي تمرّدكم على اللّه وفي عبادتكم للأصنام إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ..
أسلوب الحق:
وهذا الأسلوب هو من أروع الأساليب القرآنية في الدعوة الإسلامية، وهو الأسلوب الذي ينطلق من خلال الفكر الهادئ في سبيل الدعوة إلى اللّه؛ لأنّه لا يكفي أن تكون لدينا فكرة الحق، بل لابد أن يرافقها الأسلوب الذي تتحرّك معه الفكرة على أساس الحكمة، لكي تدخل إلى عقول الناس من أقرب طريق. ولذلك نلاحظ أن اللّه سبحانه وتعالى تحدّث عن أسلوب الحوار مع الآخرين في أكثر من آية قرآنية: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ). فلا يكفي أن تعطي الفكرة، ولكن لابد أن تعطي المناخ والأسلوب والكلمات التي يمكن من خلالها أن تخاطب قلب الإنسان لتحرك فيه عقله. وعلينا أن نأخذ بهذا الأسلوب في كل ما نواجهه، لأننا نواجه الكثير مما حصل للرسول(ص)، ولكن بطريقة أخرى وبوجه آخر..
حوار النبي(ص) مع المشركين:
وهذا ما نلاحظه في حوار النبي(ص) مع المشركين الذين كانوا يتحرّكون بأسلوب تسجيل النقاط على النبي(ص) من دون أن يرتكزوا على أية قاعدة من تلك النقاط أو من الفكر ومما يحترم الإنسان به نفسه.. وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ( ) فعندما يتلو عليهم النبي(ص) الآيات البينات التي تعبّر عن الحقيقة، فإن هؤلاء المشركين الذين لا يعتقدون بالآخرة يجابهون النبي(ص) بقولهم ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ من باب التحدي للنبي(ص)، وهو طلبٌ غير عقلائي، فهل تأملوا في آيات القرآن؟ وهل درسوها؟ فلو كانوا يرون نقاط ضعف في القرآن، لكان عليهم أن يدخلوا في حوارٍ مع النبي(ص) حول هذه المسألة أو تلك، ولكنهم يطلقون بغباء كلماتٍ ليس لها أي معنى وليس لها أية حجة.
وهنا يرعى اللّه سبحانه وتعالى نبيَّه ويوجّهه بالكلمات التي يردّهم بها بقوله: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، فلم يدّع الرسول(ص) أن القرآن هو جهده الشخصي كما شأن المؤلف الذي يؤلف كتاباً فيقال له بدّل أو ألّف غير هذا الكتاب. إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ فالرسول هو عبد مأمور أكرمه اللّه بأن جعله موضع وحيه، فهو يتبع وحيَه، وكل ما جاء به هو من اللّه، وهم يطلبون منه شيئاً لم يدّعِه. وهنا نجد أن النبي(ص)، وهو سيد الكائنات، عندما يقف بين يدي اللّه، فهو يقف في موقع الخوف من عصيان اللّه ـ وهو المعصوم في أعلى درجات العصمة ـ تواضعاً للّه، وإعلاناً بأن أي إنسان في مستوى النبوَّة لا يمكن أن يجامله اللّه في معصية، فاللّه يعاقب كل من عصاه - وإن كان النبي لا يعصي - وفرض المحال ليس بمحال، أو كما أراد اللّه أن يبيّن للنبي أنه يعذبه إذا عصى، فكيف ببقية الخلق؟! ولذا ورد في بعض الآيات القرآنية لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ( ). فأي مسلم أو نصراني أو يهودي إذا عصى ربه فإنه يعذبه.
والنبي(ص) أراد أن يؤكد هذا المعنى، لئلا يعيش الناس بالأماني إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم( )، فأراد النبي(ص) أن يقدّم خطورة الفكرة من دون أن يكون لها مدخلية في شخصه وممارساته، ولذا يقول سبحانه وتعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل ِ* لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ( ) فأراد اللّه سبحانه وتعالى أن يبين للآخرين أنه حتى لو أن النبي أراد أن يحرّف القرآن - وحاشاه - أو أن يشرِّع بغير ما شرّع به اللّه لعذبه اللّه، فكيف بكم أنتم؟.. ويتابع قوله تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ( )، فلولا أنّ اللّه قد نزّله على النبي لما تلاه على الناس، لأنه(ص) لا يملك القدرة على مثل هذا القرآن المعجز وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ أي لا تستطيعون أن تعرفوا ذلك، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا من قبله فلم يصدر من النبي(ص) أي آية أو أي شيء خلال أربعين سنة، فلو كان لديه شيء شخصي لظهر منه ذلك، وهو يعيش داخل المجتمع ولم ينعزل عنه، وهو، وإن كان يجاور غار (حراء) للتعبد في كل سنة، إلاّ أنه كان يعيش في المجتمع كما يعيش الناس وله زوجه، فلو كان ذلك ينطلق من الحالة الشخصية لكان غير ذلك. أَفَلا تَعْقِلُونَ، فقد أراد النبي(ص) لهم أن يستخدموا عقولهم من أجل أن يواجهوا الحقيقة في خطابهم له أو في حوارهم معه، وهو الأسلوب الهادئ العقلاني الذي لا ينفعل، ولكن يوجّه الناس إلى أن يتعقلوا حتى يدركوا الحقيقة..
ونبقى مع كلمات اللّه سبحانه حول العقل في القرآن الكريم، لنخرج بنظرية واسعة منها نعرف أن العقل هو حجة اللّه على الإنسان في كل مجالات الإنسان. وللحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء اللّه.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة التاسعة عشرة11 جمادى الآخرة 1424 ه9/8/2003م
العقل في القرآن (3)
أعداء العقل
لقد تعبّدنا الله بالعقل في حركة الحياة، وفي إنتاج العلم بالتأمّل والتجربة
الكفر يعني اللاعقل.
الإخلاص لا يعني الصواب.
التعقّل وحسابات النتائج.
بين استعمال العقل واتباع الهوى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا نزال مع الآيات التي تحدّثت عن العقل في القرآن الكريم، وقد أكّدنا في الأحاديث السابقة أنّ على القائمين على شؤون الثقافة الإسلامية، أن يؤكدوا على دور العقل في الإسلام، لأن هناك الكثيرين من أعداء الإسلام، أو ممن لا يفهمون القاعدة التي يرتكز عليها، يتصوَّرون أن الإسلام لا ينطلق من حالة عقلية، وأن كل ما فيه يتحرك من خلال التعبّد. ونحن لا ننفي أنّ الإسلام يؤكد عبودية الإنسان للّه سبحانه وتعالى، لأنّه تعالى يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( )، ولكن اللّه تعبّدنا بالعقل في حركة الإنسان في الحياة، وفي إنتاج العلم من خلال التأمل والتجربة؛ باعتبار أنّ دور العقل أن يتحرّك في وجدان الإنسان، لينطلق في خط الإبداع في سبيل أن تكون الحياة أغنى وأفضل.
الكفر يعني اللاعقل:
وفي بعض الآيات التي تتناول موضوع العقل، يؤكِّد القرآن الكريم أن الكفر هو حالة اللاعقل، وأنّ الذي يكفر هو الذي لا يستنطق عقله، وإنما يعتمد على ما ورثه عن مجتمعه، أو على بعض الحالات التي تنطلق من أهوائه الشخصية.
فالآية التي يؤكّدها القرآن الكريم في مواجهته لكلِّ المواقف المضادّة الغبيَّة التي تواجه الأنبياء(ع) عندما يأتون للناس بشيء جديد، لأنّ هؤلاء الناس عاشوا على أساس أن يبقى القديم على ما هو عليه، وعلاوةً على ذلك، فإنهم ليسوا مستعدين أنْ يدافعوا عن القديم الذي يلتزمون به على أساس العقل، أو أن يحاوروا الذين يأتون بجديد على أساس العقل، والكلمة التي يبررون بها رفضهم للجديد الذي تأتي به النبوّات قولهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ( )؛ فالقضية لديهم ترتبط بالامتداد الاجتماعي للتاريخ في حركة الزمن، وكأنَّ الزمن يتجمّد ـ في حركة الفكر ـ عند ذلك التاريخ الذي قد يمتدُّ إلى آلاف السنين، وذلك عندما ينطلق فكرهم من خلال التخلف أو من خلال ذهنية خرافية أو ما إلى ذلك..
وفي الوقت نفسه، نجد أن القرآن الكريم يثير تلك القضيّة معهم بأسلوب عقلاني، فيقول تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا.. إنكم تقولون إننا نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا، ولذلك ترفضون كلّ ما لا يتّفق مع ما ورثتموه، والسؤال: ما هو المستوى العقلائي والثقافي لآبائكم، فهل كانوا يملكون العقل الذي يكتشف الحقيقة؟ وهل كانوا يملكون الثقافة التي تنضج الفكر؟ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ( )، وفي آية أخرى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ( )؛ فإن آباءكم الذين تلتزمون خطّهم وفكرهم كانوا لا يعقلون، ولذلك فإنهم لم ينطلقوا من خلال مجتمع يرتكز على العقل كعنوان كبير لكل ما يأخذ به وما يدعه، وهؤلاء أيضاً لا يهتدون، لأنهم لم ينفتحوا على خط الهدى، وهل يتّبع الإنسان العاقل غير العاقل؟ وهل يتّبع الإنسان الذي يريد الهداية شخصاً لا يملك الهداية؟
فلا تبقوا في امتداد التاريخ تابعين لآبائكم على أساس العاطفة التي تربطكم بهم، لأن قضية الفكر شيء وقضية العاطفة شيء آخر.. فالعاطفة تتصل بالإحساس والشعور، ولكن الفكر يتصل بالعقل والفكر.
إن المسألة ـ في عمقها ـ تتصل باللاعقل، بحيث ينطلق الإنسان ليتحرك في تاريخ اللاعقل، وهذا هو الذي يجمّد المجتمعات ويُسقط الحضارات، وإذا كان القرآن الكريم يتحدّث عن هؤلاء الذين يجمدون على تراث آبائهم لأنهم يريدون بقاء القديم كما هو من دون أن يحركوه بفكر أو في حوار، وإذا كان القرآن يتحدّث عن هذا الفريق الذي كان يقف بوجه دعوة الأنبياء(ع)، فإننا نستطيع أن نستوحيه في كل الواقع الذي ينطلق فيه المصلحون ليواجهوا الكثير من عناصر التخلّف أو من أوضاع الخرافات أو الجهل، فيقف أمامهم المتخلِّفون، فيقولون هذه تقاليدنا وعاداتنا، وإننا نريد البقاء على تراث آبائنا؛ فإن المنهج القرآني يقول إن اللّه سبحانه وتعالى خلق العقل وجعله حجّةً على الإنسان وسيحاكم على أساس ما ينتجه العقل، ولذلك فعليك ـ أيّها الإنسان ـ أن لا ترفض الجديد لمجرّد أنه يختلف عن القديم، كما إن عليك أن لا تقبل الجديد إلاّ بعد أن تستنفر عقلك وثقافتك لتواجهه بالحوار والنقاش، لتصل إلى النتائج الإيجابية إنْ كان الفكر يتجه إلى الإيجاب، ولتصل إلى النتائج السلبية إذا كان الفكر يتجه إلى السلب.
الإخلاص لا يعني الصواب:
وهذا هو الذي يُغني المجتمعات، وهو الذي يرفع مستواها الثقافي، سواءٌ في ثقافة العقيدة أو ثقافة الشريعة؛ لأن المسألة هي أن المُنتجين للفكر في الماضي قد يكونون مخلصين لفكرهم، ولكنّ الإخلاص لا يعني الصواب، فربما يخلص الإنسان لفكره ولكنه لا يملك الوسائل التي تصل به إلى مستوى الصواب، وقد يخطئ المخلصون لا من موقع تعمّد الخطأ، ولكن من خلال عدم وجود الوسائل التي تصل بهم إلى ذلك.. ولذلك فإنّ علينا أن لا نبادر إلى رجم كلِّ فكر جديد، بل أن نفكّر فيه ونحاكمه ونناقشه، وبذلك يمكن أن نغني الإسلام بالفكر الذي يصنع الحضارات التي تنطلق لأجل أن تنتج علماً وفكراً هنا وهناك وتصل إلى مستوى الإبداع. فالمهم أن لا يتجمّد الفكر ولا يتحجّر، بل عليك أن تدعه ينطلق في الهواء الطلق لينفتح على الحقيقة.
وفي الاتّجاه نفسه، نقرأ في آية أخرى قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ( )، وفيها يبيّن اللّه سبحانه وتعالى أنَّ مشكلة الكافرين هي أنهم يجمدون على ما يلتزمون به، كما هو حال الشخص الذي يصيح عندما تنطلق الأصوات من حوله، لا لشيء إلا لأن هناك صوتاً، من دون أن يفهم طبيعة هذا الصوت ومضمونه من الفكر، ولذلك فهم صُمٌّ لا يحاولون الاستماع إلى ما يطلقه الآخرون من كلمات ومن أفكار، وهم عُمْيٌ لا ينفتحون على الحقيقة بأبصار عقولهم، بل يعيشون كالأعمى، والله يقول: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ( )، كما إنّهم لا ينتفعون بأعينهم مما يرونه من دلائل العظمة في أسرار الله مما ينفتح بهم على توحيده وربوبيّته.. وهم بُكْمٌ لا ينطقون، لأنهم يتحركون على أساس ما اختزنوه من الفكر الذي ورثوه أو توهّموه من دون أن يدخلوا في حوار أو جدال أو مناقشة حوله مقارناً بما لدى الآخرين من فكر،فهم لا يَعْقِلُونَ كنتيجة لكل ذلك.. باعتبار أنهم فقدوا العقل الذي يعطي السمع والبصر حركةً وإدراكاً، تماماً كالذي يصاب بالسكتة الدماغية ولكن عينيه تبقيان سليمتين في الشكل، فيما صورة الناس تنطبع في عينيه، إلا أنه لا يعرفهم؛ لأن البصر إنما يكون وسيلةً للمعرفة عندما يتكامل البصر المادي مع البصر الروحي والعقلي.. وهكذا بالنسبة للسمع وللنطق، لأن حركة الإنسان المادية في جسده مرتبطة بحركته الداخلية المعنوية من خلال السمع أو البصر أو النطق.
وفي آية أخرى، يعبّر القرآن الكريم عن الذين لا يسمعون بما يمكن أن يرفع مستواهم، ولا يتكلمون بما يعطيهم الثقافة، باعتبار أنهم لا يسألون ولا يحاورون أو يناقشون، يعبّر عنهم بقوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ( ).
التعقّل وحسابات النتائج:
ويحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن الحالة النفسية التي كان يعيشها اليهود الذين كانوا في المدينة، وقد خانوا العهد مع النبي(ص) والمسلمين، وتحالفوا مع المشركين ضد الرسول محمد(ص) الذي انتصر عليهم، بقوله سبحانه وتعالى للمؤمنين:لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ( ) ولو أن اليهود يؤمنون باللّه على طريقتهم الخاصة، ولكنهم يفقدون هذا العمق الإيماني الذي يجعلهم يعيشون الإحساس والثقة بأن الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا( ) وأن الإنسان يستمدُّ القوَّة من اللّه سبحانه وتعالى.. ولذلك فهم يخافون منكم بما تملكون من قوة ويَرهَبونكم أكثر مما يرهبون اللّه، لأن إيمانهم لم يرتكز على الفهم الواعي للعقيدة، ولم يتحرّك ليدخل في مقارنةٍ بين قوة اللّه وقوة عباده، وأنه لا يمكن للإنسان أن يخشى العباد؛ لأنّ الإنسان المؤمن الذي يعرف عظمة اللّه سبحانه وتعالى وهيمنته على الكون، وذلك هو قوله تعالى: أنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا( ) وأنه مَالِكَ الْمُلْكِ( ) إلى غير ذلك من الصفات، لا يمكن أن يعيش الرهبة إلا من اللّه عندما يقف بين يديه في العبادة أو يتحرّك في الحياة، كما يعبّر عنه قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ( ).
وهذا خطُّ إيماني لا بدَّ للمؤمن أن يعيشه أمام التحدّيات الكبرى التي تواجه المؤمنين من خلال القوى المستكبرة أو من خلال الطغاة أو الظالمين وما إلى ذلك؛ حيث نجد أن بعض الناس ضعيفي الإيمان يشعرون بالهزيمة والزلزال أماهم ولا يخافون من اللّه مثلما يخافون من الناس. وقد حدّثنا القرآن الكريم عن هذا النموذج من المؤمنين في معركة (الأحزاب) بقوله تعالى: وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( )، أما المؤمنون فعبّر عنهم بقوله: هذا ما وعَدَنَا اللهُ ورَسُولُه وصدَقَ اللهُ ورَسُولُه وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا( )؛ لأن الإيمان كان عميقاً في وجدانهم بالمستوى الذي يشعرون فيه بأن هذا البلاء لا يعني الهزيمة، بل إن عليهم أن يثبتوا ويثقوا بنصر الله، حتى يستطيعوا مواصلة المواجهة ضد تحالف اليهود مع المشركين.
ونعود إلى حديث الله عن اليهود في قوله تعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ( )، حيث يبيّن اللّه أن هذه الرهبة التي يعيشونها تجاه المسلمين، تجعلهم لا يقاتلونكم وجهاً لوجه كما هو الحال في تلك العصور، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ فلو نظرت في داخلهم لرأيت بعضهم يعادي بعضاً، ولرأيت الفتنة تتحرك في كلِّ أوضاعهم وانقساماتهم.. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، يعني أنَّ هذه الوحدة الشكلية الظاهرية لهم لا تنطلق من وحدة عقلية باطنية، ولذا يصفهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ؛ لأن المجتمع العقلائي هو المجتمع الذي يعتقد أن الوحدة هي مركز القوة، وأن اختلاف وجهات النظر لا يعني التشتت، بل يعني الحوار والمناقشة للوصول إلى نتائج إيجابية.
فاللّه سبحانه وتعالى يصف اليهود في ذلك العصر بأن سلوكهم يمثل سلوك الذين لا يملكون فهم الأشياء في عمقها، ولا يملكون العقل الذي يستطيعون من خلاله أن ينظموا واقعهم ومجتمعهم بالطريقة التي يمكن أن تمنحهم القوة والنصر.
بين استعمال العقل واتّباع الهوى:
ومن ناحية أخرى، نقرأ في القرآن الكريم عن هؤلاء الذين ينطلقون في الحياة من خلال أهوائهم وغرائزهم، فلا يستنطقون عقولهم، ويجعلون أهواءهم هي البوصلة التي يستهدون بها في حركتهم في الحياة على المستوى الفردي أو الاجتماعي. يقول تعالى:أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً، وليس معناه أن يقول أحدهم إن إلهه هو هوى نفسه، ولكنه يتعامل مع هواه كما يتعامل العبد مع إلهه في الطاعة والتسليم المطلق، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَمما تلقيه عليهم من وحي اللّه، أَوْ يَعْقِلُونَ فقد صادروا عقولهم وصادروا كل حالة التوازن في شخصيتهم.. إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً( )؛ لأن الأنعام لا تملك العقل الذي تستطيع من خلاله أن تحرّك حياتها في اتجاه التغيير أو مواجهة كل تنوّع الأحداث. إنَّ هؤلاء الذين لا يعقلون رغم أن اللّه أعطاهم عقلاً فهم يستعملونه في غير الاتجاه الصحيح، هم أضل من الأنعام، لأن اللّه وهبهم طاقةً يمكنهم أن يجدوا فيها السعادة والخير، فلم يستخدموها بل أهملوها.. وللحديث بقيةٌ إن شاء اللّه.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة العشرون18 جمادى الآخرة 1424 ه16/8/2003م
العقل في القرآن (4)
المناقشة العقلية للقيادات
علينا أن ندرس إمكانات وعقلية الشخصيات القيادية لأن القيادة هي أخطر المواقع في حركة المجتمع والأمة
العقل في القرآن الكريم.
الأسلوب القرآني في الجدل.
دراسة الشخصيات القيادية.
الحق المطلق.
بين الشفاعة والتوحيد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
العقل في القرآن الكريم:
لا يزال الحديث عن مفردات كلمة (العقل) في القرآن الكريم، لأن مسألة العقل هي الأساس في حركة الإنسان كلها. فالعقل هو الذي يؤكد للإنسان وجود اللّه وتوحيده ، ويؤكِّد له النبوّة من خلال الأسس التي ترتكز عليها فيما يقدِّمه النبيّ للناس من دلائل، وهو الذي يفتح للإنسان نافذةً على الإيمان باليوم الآخر، ويجعله في حالة طوارئ فكرية يستحضر فيها عقلَه في كلِّ ما يريد أن يفعل ليسأل لماذا يفعله؟ وفي كل ما يتركه، لماذا يتركه؟ وفي كل موقف يفعله سلباً أو إيجاباً، في أية مسألة ثقافية أو أمنية أو سياسية أو اقتصادية وما إلى ذلك، بحيث يستنطق عقله في ما يمكن أن يدركه، ويستنطق عقول الآخرين ليتكامل عقلُه مع عقول الآخرين.
وقد أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان في علاقاته مع الآخرين الذين يستسلم إليهم، سواء كان ذلك الاستسلام في الخطوط الثقافية التي يتحركون من خلالها، أو دينياً في التعبّد بكل ما يقولون، أو في اعتبارهم الواسطة بينه وبين اللّه في إبلاغ الرسالة، أراد للإنسان أن يدرس عقل هؤلاء عندما يريد أن يلتزم بفكرهم أو سياستهم أو عندما يأخذ منهم المشورة والنصيحة.. هل يملكون الأساس الذي يمكن أن يعطوك من خلاله الخط الصحيح والرأي الصحيح أم لا؟ وهل يملكون العقل الذي ينفتحون فيه على الفكر الصائب أو الموقف الصائب؟. فالمسألة هي أن تُحرِّك عقلك في ما تنتجه من خلاله، وأن تنفتح به على الآخرين في مستواهم العقلي ومستوى القدرة عندهم.
الأسلوب القرآني في الجدل:
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المسألة في حديثه عن الذين يتَّبعون بعض الناس الذين ربما يعبدونهم كي يقربوهم "إلى اللّه زلفى" ـ كما كان يقول بعض المشركين ـ، فيعبدونهم كشفعاء إلى اللّه، أو يخضعون لهم لأنهم يعتقدون أن لديهم أسراراً مقدَّسة تفرض عليهم هذا الخضوع، ونجد القرآن يناقش هذه المسألة بطريقة عقلانية، وهو الأسلوب الذي اتبعه القرآن دائماً، في الانفتاح على الإنسان بالفكرة ليقتنع بها، ولا يعمل على إسقاط الإنسان بطريقة السُباب والشتائم وما إلى ذلك؛ لأن دور الرسالات السماوية هي أنْ تطوّر شخصية الإنسان.
وهذا ما أكّد عليه القرآن الكريم في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكان هذا دور النبي(ص) في أن يُخرجهم من ظلمات الجهل والتخلّف إلى نور العلم والتقدّم والاستقامة وما إلى ذلك.. لذلك نجد أن القرآن يناقش هذه المسألة مع الذين يتّبعون الأصنام، سواء كانوا أصناماً من الحجر أو أصناماً من البشر، بقوله تعالى: أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ( )، فلا يتوجهون إلى اللّه.. قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ فالقرآن يأمر النبّي أنْ يخاطبهم ويدخل معهم في حوار عقلائي، وهو أن الإنسان عندما يجعل شخصاً شفيعاً له، فإن الشفاعة تُمثِّل الوسيلة التي يمكن أن يصل الإنسان من خلالها إلى غايته. فلابد أن يملك هذا الشفيع الأمر الذي يُستشفع فيه، والعقلَ الذي يجعله بالمستوى الذي يرتفع به إلى الدرجات العليا التي تؤهله لأنْ يحصل على ما يريد الحصول عليه.. وإذا أردنا هنا أنْ نستوحي القرآن، فإنّ الآية تتحدث عن أولئك الذين يجعلون البعض شفعاء، ويردّ القرآن هذه الفكرة باعتبار أن المستشفع بهم لا يملكون القدرة ولا العقل، لأنهم لا يملكون شيئاً من الحياة والوعي والإدراك الذي ينفتحون من خلاله على أسرارالأشياء، ليتعاملوا معها ويستفيدوا منها بحسب خصائصها لتحقيق ما يراد منهم، ولا يملكون القدرة التي يحركون بها الأمور بالسيطرة عليها وتوجيهها إلى الوجهة التي تقصدها ،إنهم مجرد آلات صمّاء لا تمثّل شيئاً، أو موجودات عاجزة لا تملك شيئاً، ما يجعل الارتباط بها ارتباطاً بالفراغ الذي لا معنى له.
دراسة الشخصيات القيادية:
ونحن نستوحي من ذلك أنه عندما نريد الانفتاح على الناس من حولنا ممن يملكون تأييداً جماهيرياً، أو الذين يحصلون على بعض التقدّم في الموقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي وما إلى ذلك.. فالناسُ عادةً ترتبط بهؤلاء وتخضع لهم وتطيعهم وتندفع معهم في ما يخطّطون له من دون دراسةٍ لمستواهم الفكري أو للقدرات القيادية التي يملكونها، بل ربما يندفع الناس من خلال شعارات فضفاضة هنا وهناك، ومن خلال بعض الأساليب العاطفية، التي ربما يحتاج فيها الناس إلى حالة من الانفعال والعاطفة، كما تفعله بعض الشعوب في تعيين ابن القائد قائداً جرياَ على قاعدة الوراثة في مواقع القيادة.
ونستوحي من القرآن الكريم، أنَّ علينا أن ندرس في أية شخصية قيادية، أو أية شخصية تطرح نفسها للقيادة، أن ندرس ما هي الإمكانيات القيادية لهذا الشخص؟ هل يملك العقل المسؤول؟ وهل يملك عمق التفكير العقلي؟ لأن القيادة، سواءً كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو أمنية وما إلى ذلك، هي من أخطر المواقع في حركة المجتمع أو الأمّة، لأن الإنسان الذي يجلس في موقع القيادة يحاول أن يدفع بالناس إلى ما يخطِّط له، فإذا لم يكن في مستوى القيادة، فقد يؤدي بالناس إلى الإرباك أو الهلاك أو إلى الفوضى وما إلى ذلك.
كما إنّ علينا أن ندرس فيه تجربته الواقعية في ما يعيشه الناس من قضاياهم وأوضاعهم المحلّية، وفي ما ينفتحون فيه على المواقع الدولية والإقليمية؛ لأن العالم الآن أصبح بمثابة قريةٍ واحدةٍ، ومن الصعب جداً أنْ تدرس مسألةً محليّة سياسية بعيداً عن دراسة الظروف الإقليمية التي تترك تأثيرها على الواقع المحلّي، كما لا نستطيع أن نتفهّم علاقة الظروف الإقليمية بالجانب المحلّي إلاّ إذا عرفنا الأوضاع الدولية التي تملك الكثير من المؤثرات تجاه القضايا الإقليمية والمحليّة.
ربما كانت مسألة القيادة في الماضي تعيش في الدائرة الضيّقة من حركة الإنسان، وكانت تحتاج إلى ثقافة محدودة، ولكن القيادة في الحاضر تشترط أن يكون القائد إنساناً منفتحاً على العالم كله، من خلال القاعدة الفكرية التي يؤمن بها والهدف الذي يتحرك نحوه، لأن مشكلة الوضع القيادي في المجتمع اليوم، أنّ القائد لا يستطيع أن يقود المجتمع بطريقة فردية، بل لابد له من وجود شورى من أهل الخبرة من حوله، ونحن نعرف أن الرسول(ص) لم يكن يحتاج إلى المشورة، لأن اللّه عصمه، فلا يقول إلاّ حقاً ولا يتحرك إلاّ بالحق، ومع ذلك خاطبه تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( )، وقال عن المجتمع المسلم: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ( )، لذلك ليست هناك قيادة في العالم تستطيع أن تستبد بالرأي، بل لابد لها من أخذ الخبرة من خبير هنا وهناك، ليجتمع الناس على أكثر من رأيٍ واقتراح وأكثر من خطّ، ليصل المجتمع من خلال المشيرين إلى القرار الحاسم في ذلك.
ولذلك فإن الاعتماد على أشخاصٍ شفعاء لا يملكون من أمرهم شيئاً ولا يعقلون، إنما يجعل الأمة أزمة، ولعل الكثير من مشاكلنا، هو أن الفوضى السياسية والاجتماعية والدينية ربما صنعت لنا قيادات ليست في المستوى المطلوب، ما يجعلنا نعاني من كلِّ الأوضاع السلبية والإرباك من خلال ذلك.
الحق المطلق:
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا( )، فليس هناك في العالم أحد، سواءً من الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم، من يملك الشفاعة ذاتياً، لأنه ليس له أن يملك أي شيء في الكون، بل اللّه وحده الذي يملك الأمر كلّه في السموات والأرض، له ملك السموات والأرض وهو يملك الإنسان، لأنه سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان، وهو وحده سبحانه المالك لكلّ شيء، فهو يملك ما يملكه الإنسان وما يحيط به، وهو القادر من خلال ملكه على الكون كلّه، وهو الشفيع الذي يعطي ويرحم ويلطف وبقدرته ويحرِّك كل ما يريد للحياة أن تتحرك فيه. ثم يقول تعالى:ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.. ليكن توجهكم للّه سبحانه الذي يملك الشفاعة جميعاً، ويملك السموات والأرض جميعاً، وإنَّ مرجعكم إليه سبحانه وتعالى، فعليكم - أيضاً – أن تتحركوا في موقع العبودية للّه من موقع أنه الغني المطلق أمام الحاجة المطلقة والفقر المطلق الذي يعيشه الناس، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ( ). وعلى هذا نفهم مسألة الشفاعة، من حيث أن اللّه وحده يستقلُّ بها، فهو الذي يغفر ويرحم والجنّة بيده، وهو الذي برضاه يعطي كل شيء للإنسان، وهو الذي يعطي الشفاعة ليعفي من يرى فيهم الإخلاص له من خلال التزامهم في كل ما يُرضيه وما يحبّه وما يريده، وقد ورد ذلك في أكثر من آية كريمة: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ( )، وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارتضى( )، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( ).
كما نفهم أنّ الإذن بالشفاعة لا يعني الإذن الشخصي، بأن يعطي اللّه لكل نبي أو إمام أو مؤمن يملك الشفاعة إذناً بالشفاعة لهذا وذاك، ولكن اللّه أعطاهم برنامجاً للشفاعة، فهم يعرفون فيمن يشفعون له ويعرفون رضا اللّه فيه، وكذلك يعرفون مواقع الشفاعة فيمن لا يشفعون له في مواقع سخط اللّه. فهم يتحركون ضمن البرنامج الإلهي للشفاعة، وعلى الناس أن يطلبوا من اللّه الشفاعة، ولعل أفضل تعبير ما جاء في دعاء يوم (الخميس) المنسوب للإمام زين العابدين(ع) بقوله: ((واجعل توسلي به شافعاً يوم القيامة نافعاً)) يعني يا ربِّ اجعل توسلي لك بنبيّك شافعاً لي، أي أعطه الشفاعة واجعله شافعاً لي واجعل شفاعته نافعةً لي، بحيث يكون الخطاب كله للّه، ولا يتنافى في ذلك مع كونهم شفعاء.
بين الشفاعة والتوحيد:
هناك بعض الاتجاهات الإسلامية حاولت أن تُنكر الشفاعة، وأن تعتبر التوسل بالأنبياء(ع) والأولياء شركاً، ولكن مشكلة هؤلاء أنهم لا يفهموا الفرق بين التوحيد والشرك؛ لأن معنى التوحيد هو أن يؤمن الإنسان بأنه ليس في الوجود إلا اللّه كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ( )، وأن كل ما عدا اللّه فهو مخلوق لله وأن كل من عدا اللّه فهو مملوك للّه، وكل ما عدا اللّه سبحانه فهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.. والذين يقولون بالشفاعة للأنبياء والأولياء لا يعتبرون أنهم يملكون ذلك ذاتياً، أي كما أن اللّه شفيع فإن الأولياء شفعاء، بل يعتبرون أن الله أكرمهم، لأنهم أطاعوه وجاهدوا في سبيله، فأكرمهم بالشفاعة للخاطئين، فالأولياء يعيشون في خصوصيّاتهم عناصر البرنامج الذي وضعه الله للشفيع لكي يشفع على أساسه؛ فهم يتحركون في شفاعتهم من خلال رضا اللّه وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى .. ثم نلاحظ أنهم عندما يشفعون، فإنهم لا يشفعون من خلال الحالة النفسية التي تجعلهم يشعرون بالعلوّ وما إلى ذلك، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، فهم يشفعون ويطلبون من الله أن يغفر لهذا أو يعطي هذا أو ذاك، ولكنهم مع ذلك يعيشون في طلبهم هذا عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، وخضوعهم أمام الربوبية المطلقة والألوهية الشامخة والخالقية المالكة والقاهرية المهيمنة، فيتضاءلون أمامه ويخشعون له في كل حالة يخاطبونه بها أو يطلبون منه شيئاً لهم أو للآخرين، لأن الأمر أمره والإرادة إرادته ، ولا يعرفون ماذا يفعل في ذلك كله، فهم يعرفون أنهم لا يملكون من الأمر شيئاً من الناحية الذاتية، ولكن اللّه سبحانه ملّكهم ذلك من أجل الكرامة التي يستحقونها، كما وصفهم سبحانه بقوله: عِبَادٌ مُكْرَمُونَ*لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ( )، لذلك فإن التوسل بالأنبياء(ع) أو الأولياء أو الأئمة من أهل البيت(ع) لا يُعتبر شركاً..
ونحن ندعو الكثير من المسلمين الذين يتحركون من موقع العقدة ضد المسلمين الآخرين، فيتهمون هذا بالشرك أو ذاك بالكفر، إلى أن يأخذوا بأسباب العلم والتحقيق، وأنْ يدرسوا ما عند الآخرين، كما إن على الآخرين أن يدرسوا ما عندهم، ولكن المشكلة في العالم الإسلامي أن المسلمين يعيشون على أساس العقد التاريخية التي أخذ بها المسلمون من خلال الاختلاف في الرأي أو المذهب، فأصبحوا يتحركون بالحقد لا بالمحبّة، وبالعداوة لا بالأخوّة، وهذا هو الذي جعل العالم الإسلامي يواجه الكثير من المشاكل في كل حياته، لأن المسلمين لم يعتصموا بحبل اللّه جميعاً، ولم ينطلقوا من موقع وحدة الأمّة في هذا وذاك، وللكلام بقية في الأسبوع القادم إن شاء اللّه تعالى..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الحادية والعشرون25 جمادى الآخرة 1424 ه23/8/2003م
العقل في القرآن (5)
من هم أولو الألباب؟
يُراد من التعبير القرآني (أولو الألباب) أنَّ العقل يُمثّل خلاصة العناصر الإنسانية لديهم
أولو الألباب وقراءة كتاب الكون.
الليل والنهار والتنوّع الزمني.
العلم لا يصادم الإيمان.
من هم أولو الألباب؟
من التفكّر إلى المسؤولية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تحدثنا في وقت سابق عن المنهج القرآني الذي يعتبر العقل هو الحجّة بين الناس وبين اللّه، وهو الذي يُعرف به اللّه وحقائق العقيدة، وتُعرف به الحياة. ونتناول في حديثنا الآن من يعبّر عنهم القرآن ب(أُوْلُو الأَلْبَابِ). و(الأَلْبَابِ) جمعُ لُبّ، واللُبّ هو العقل، أو ما زكي من العقل، باعتبار أنه يشبه اللُبّ من الأشياء في مقابل القشر، واللبّ يُمثِّل خلاصة الأشياء وجوهرها، باعتبار أنّ كل عناصر ذلك الشيء تتجمّع فيه.. فقد يُراد من التعبير القرآني (أُوْلُو الأَلْبَابِ) أنَّ العقل يُمثِّل خلاصة العناصر الإنسانية لديهم، بحيث تتحدّد مسألة امتلاك الإنسان للعقل؛ لأنَّ الإنسان في عمق إنسانيّته وامتدادها إنّما يتطوّر ويكبر من خلال تحريك عقله في كل ما يتوجه إليه وفي كل ما يعيشه في الحياة.
أولو الألباب وقراءة كتاب الكون:
وفي القرآن الكريم، يحدّثنا اللّه سبحانه وتعالى عن (أُوْلُو الأَلْبَابِ) من خلال حركتهم الفكرية والعملية التي تُمثِّل التزامهم الفكري باللّه سبحانه وانفتاحهم على الكون كلّه من أجل أن يستكشفوا أسراره وعناصره ليعرفوا اللّه من خلاله، ثم ينفتحون على الله بعد أن تتجمع في عقولهم معرفته، ويبتهلون إليه أنْ يقبَلهم ويقرِّبهم إليه، وما إلى ذلك.. وهذا ما تحدَّثت عنه سورة (آل عمران) في فصلها الأخير، وهو قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ( )، حيث يريد الله سبحانه أنْ يقول إنه ينبغي على الإنسان أن ينفتح من خلال عقله على المعرفة، فلا يواجه نظام الكون باللامبالاة أو بشكل سطحي، بل يدرس القوانين التي تحكم هذا الكون، لأنه سبحانه وتعالى عندما خلق الكون، جعل فيه نظاماً دقيقاً لا يمكن أن يخترقه أي انحراف، وقد قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ( )، وقال: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا( )، وقال: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ( )، فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى النظام الكوني على أساس قوانين دقيقة لا يمكن أن تنفصم أو أن تختلف حتى لو مرَّت عليها ملايين السنين، كما أنه سبحانه وتعالى خلق في حياة الإنسان سُنناً تاريخيّة، بحيث تحكم حركة الإنسان على مستوى المنهج العام لكل تطوراته وانحداره، وانتصاراته أو هزائمه، وما إلى ذلك، بحيث يختلف الناس في المفردات، ولكن لا يختلفون في المنهج، قال تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً( ).
لذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يُحرِّك عقله ليقرأ في كتاب الكون ويلاحظ كل أنظمته وأسراره، وقد أكَّد سبحانه على هذه المسألة فيما يمكن أن يدركه الناس من الظواهر الكونية في ما يعيشونه في حياتهم، بما يتطلعون إليه أو بما يتقلّبون فيه، وذلك بقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. فعلى الإنسان، عندما يدرس السماوات، أن يبقى في عملية بحث دائم عن طبيعة هذه السموات من خلال تطوّره الثقافي، وعندما أخذ الإنسان بأسباب ذلك، لاحظنا أنّ النظريّات قد تنوعت في تفسير الظواهر واكتشافها، حتى وصلت إلى الإنسان المعاصر الذي بدأ يكتشف بعض الكواكب ويحاول أنْ يستكمل اكتشافه للأرض في كل جوانبها وكل مواقعها وما تختزنه من قوانين قد تنتج الزلازل والبراكين والفيضانات والعواصف وما إلى ذلك، وقد تنتج البحار والأنهار والجبال وما إلى ذلك..
ولذلك استطاع الإنسان بعقله المتحرِّك الذي يبدأ بالخيال العلمي على أساس احتمال وجود شيء ما من خلال ما تطلّع إليه، ثم بالبحث عنه، فإنه يلتقي بشيء جديد وقد لا يلتقي، ولكن العقل يبقى في حالة مستنفرة تدفع الإنسان إلى البحث، وإذا لم يصل إلى نتيجة، فإنه يدفعه إلى تطوير الوسائل وتطوير حركة العلم من خلال دراسة العلم الذي وصل إليه من سبقه..
الليل والنهار والتنوّع الزمني:
ثمّ يتعرّض الله سبحانه لمفردة ثانية يوجّه العقل للتفكّر في مظاهرها وأسرارها، وهي اختلاف الليل والنهار، وذلك قوله: ... وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ فنحن نعيش الليل لنسكن فيه، ونعيش النهار لنعمل فيه، ولكننا نلاحظ عند تنوِّع الفصول أن الليل ينقص تارة ليزيد النهار، وأنه يزيد تارة أخرى لينقص النهار، ويتساويان في بعض الأوقات، فكيف ذلك؟ ولماذا هذا التنوّع؟وكيف بقي هذا النظام يحكم الكون كله مع اختلاف الأوضاع المناخية؟ فهل يكون ذلك صدفة؟ وهل كان هذا ـ كما يقول البعض ـ كإنسان يأخذ محبرة ويلقيها على الحائط، فتخرج لوحة مبدعةٌ؟.. والفارق أن هذه اللوحة لا تتكرر، في الوقت الذي يمثّل فيه الليل والنهار اللوحة الزمنية التي تظل تنتج الزمن، ولكنها تبقى في خط واحد. والقرآن الكريم عندما يركّز على هذه المفردات، فإنّما يركّز على النموذج، في حين أنّ كل ما في الكون هو آية تدل على اللّه، وعلى الإنسان أن يكتشفها بالدرس والتأمّل والتجربة.
العلم لا يصادم الإيمان:
ولابد هنا أن نشير إلى حقيقة، وهي أن بعض الناس يتوهّمون أنّ العلم ضدُّ الإيمان، وأنَّ الإنسان كلما ازداد علماً كلما قلَّ إيمانه، وكلما كان جاهلاً كلما زاد إيمانه. ولكن اللّه سبحانه وتعالى يُعرَف من خلال عظمة الأسرار الكامنة في خلقه، والتي تقول ـ بمنطق العلم ـ أنه لابد لهذا الكون من إله حكيم قادر عليم مهيمن على الأمر كله، وكما قال الشاعر:
فوا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كل شيء له آية تدل على أنّه واحدُ
من هم أولو الألباب؟
إنّ أولي الألباب هم الذين تشرق قلوبهم وعقولهم بنور اللّه في حقيقة المحبّة للّه وللناس، وتتحرّك الحياة وتُشرق من خلال الخط المستقيم الذي يبدأ من اللّه وينتهي إليه، ولذلك فعندما يأخذون علم الكون وينفتحون على بعض أسراره، فإنهم يخضعون ويخشعون لخالق الكون، وبأنه وحده هو الوجود الأصل، وأنَّ كل ما عدا الّله بمثابة الصدى أو الظلّ لوجوده، ولذلك فإنهم ـ أُوْلي الأَلْبَابِ ـ ينطلقون في عبادة اللّه سبحانه في ابتهال وذكر، لأنَّ قلوبهم امتلأت عقلاً وعاطفةً بحبّ اللّه.
كما حدّثنا سبحانه عن علاقة المحبة لدى المؤمنين في الفرق بين الناس وبين اللّه، فقال في كتابه: وَمِن النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ( )، فالمؤمنون لا يحبّون أحداً كما يحبون اللّه، ولا يقتربون من حبّ أحد كما يقتربون من حبّ اللّه، بل إنّ حبهم للناس يكون من خلال حبّهم لله، كما قال الإمام محمد الباقر(ع): ((من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدّواً للّه فهو لنا عدو))، حتى إنّ الله سبحانه وتعالى أراد للنبي(ص) أن يخاطب المؤمنين: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ). فعندما تريدون أن يكون الحبّ بينكم وبين الله من جانبين، فإنّ حبكم لله الذي ينطلق من الإحساس بعظمته، يتمثّل في الخط الذي يريد سبحانه وتعالى لكم أن تتّبعوه، وهو خط الرسالة، وهو الذي نستحق حب اللّه من خلاله. إذاً أُوْلُو الأَلْبَابِ هم الذين استطاعوا أنْ يكتشفوا عظمة اللّه سبحانه من خلال خلقه، هم الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، وهم الذين يعيشون الحضور للّه بحيث لا يرون شيئاً إلاّ ويرون اللّه معه، كما ورد عن أمير المؤمنين علي(ع) قوله: ((ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت اللّه خلفه))، يعني أنه عندما يتطلَّع إلى الناس وإلى ما حوله، فإنه يرى أنَّ كل هذا الوجود من اللّه سبحانه وتعالى ومن مظاهر عظمة اللّه، لأنه هو الذي خلق وسوّى.
من التفكّر إلى المسؤولية:
في هذه الفقرات من سورة آل عمران، يبيّن القرآن الكريم النتائج التي حصلت لأولي الألباب من خلال حركة التفكّر في كتاب الكون وانعكاساتها على علاقتهم مع الله سبحانه. قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ( )، فهم يتفكّرون في خلق السموات والأرض، فيرون الجدّية والعمق والحكمة والهدف الذي لا بدّ أن ينتهي إليه الإنسان في الحياة: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا( )، لأنَّ هناك حكمة في خلق ذلك كلّه.. فبعد أنْ تأمَّلوا وفكروا، أدركوا عظمة اللّه سبحانه فخضعوا له، وتحدثوا معه حديث الفكر رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ، فكلمة (سُبْحَانَكَ) تعبِّر عن التعظيم والتنزيه للّه سبحانه، فكلما قرُبنا إليك ـ يا ربّ ـ وآمنا بك ـ يا ربّ ـ وعظّمناك ـ يا ربّ ـ وعبدناك ـ يا ربّ ـ.. فإن كلُّ ما نريده.. فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. ومن هنا نعرف أنّ المسألة العقلية التي تنفتح على الجانب العقائدي ترتبط بقضية المسؤولية في إظهار العبودية للّه سبحانه والالتزام بأوامره ونواهيه، حتى يقينا اللّه النار ويدخلنا الجنّة.
وهكذا يبدأ (أُوْلُو الأَلْبَابِ) بالحديث ـ وهم يناجون اللّه سبحانه ـ عن أولئك الذين أنكروا الله وجحدوه، فاستحقّوا الخزي، فأدخلهم اللّه النار، وفي ذلك قمة الخزي للإنسان، وفوق ذلك، فإنه يعيش تحت تأثير سخط اللّه عليه، وهو ما عبَّر عنه الإمام علي(ع) كما ورد في دعاء (كميل): ((وهذا لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض. يا سيدي، فكيف بي وأنا عبدك الذليل الحقير المسكين المستكين ..)).. ويصوّر القرآن الكريم تلك الحالة بقوله: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِل النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وكيف يكون للذين ظلموا أنفسهم بالشرك والكفر والبغي، فأوقعوها في الخزي والعذاب السقوط الروحي وهلاك المصير.. كيف يكون لهم أنصار؟ واللّه هو الذي يعذّبهم وهو الذي يطردهم من رحمته.. فإذا كان الإنسان مطروداً من رحمة اللّه، فمن ذا الذي يؤمنه من اللّه؟.. ((يا من يكفي من كل شيء، ولا يكفي منه شيء)).
ثم يحاول أولو الألباب التعبير عن مسألة الالتزام بخط الإيمان، وما هي الظروف، ومن هم الذين دفعوا بهم إلى الإيمان في كل تفاصيله.. رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا وذلك كناية عن النبي(ص) ومن سار في خط رسالته، ومن دعا إليها، ومن استجاب لها وآمن بالرسول والرسالة من خلال إيمانه بالله، لأنّ هؤلاء فكّروا بعقولهم ولم يحرّكوا غرائزهم التي تقودهم إلى الجمود على ما ورثوه من الأجداد، أو ما تأثّروا به من العادات والتقاليد، ويتعاظم إيمانهم في توسّل المؤمن إلى ربّه في عودته إليه بعد أن أبعدته الذنوب عنه، فيبدأ بالاستغفار والتوبة..
ولذا نحن نقف بين يدي اللّه سبحانه وتعالى كمؤمنين، يلتزمون الإيمان ويتحرّكون في خطه، فإذا كنّا قد أخطأنا يا ربّ، لأنّ النفس أمَّارة بالسوء، فإنك يا ربّ وعدتنا بالمغفرة.. رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ، اجعلنا خالصين لك، وفي خط الأبرار الذين عبدوك وأخلصوا لك ، وأن ننال ما وعدتَ به عبادك الصالحين عندما تأتي آجالنا ونرجع إليك.. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ من رضوانك، ومن الجنة التي وعدت بها المؤمنين، وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وقد وعدت الذين آمنوا وتابوا وعملوا الصالحات أن تقرّبهم إليك وتظللهم برحمتك ولطفك.. وكانت النتيجة أن شعروا بالسعادة عندما استجاب اللّه لهم ـ كما ذكرت الآية الكريمة ـ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى( )، فكل من عمل خالصاً للّه، سواء كان ذكراً أو أنثى، مهما كانت نوعية العمل وطبيعته، فإنّ اللّه يعطي لكل ثوابه، (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ( في كل هذا الوجود وما يرتبط به الناس بعضهم ببعض.
ويختم الله سبحانه وتعالى هذا الفصل بالحديث عن الذين تحمّلوا المعاناة والمأساة في إيمانهم وفي جهادهم، فقال: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ، وهم الّذين هاجروا من ديارهم تحت ضغط الكفر، لأنّهم قالوا ربّنا الله وتحمّلوا الأذى في سبيل الله وجاهدوا في حرب الحقّ ضدّ الباطل وقاتلوا واستشهدوا.. لا قيمة للعلم بلا عمل:
ومن خلال ذلك كله نخرج بنتيجة، وهي أن معنى أن يكون الإنسان عاقلاً، أنْ يندفع ليأخذ العلم لينفتح على معرفة اللّه وعلى المسؤولية، وليقود العلم إلى العمل، لأنه لا قيمة للعلم بدون عمل، لأن العمل هو الثمرة للعلم، ولذلك عندما انطلق (أُوْلُو الأَلْبَابِ) في تفكيرهم وفي بحثهم، فقد انفتحوا على اللّه وخضعوا له وناجوه سبحانه، فأعطاهم في ذلك كلّه وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافِسُونَ( ). وللحديث بقية في الأسبوع القادم، إنْ شاء اللّه.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثانية والعشرون3 رجب 1424 ه30 /8/2003م
العقل في القرآن (6)
الارتكاز على قواعد التخطيط
معنى أن تكون عاقلاً هو أن تحمي الحياة من نفسك وهواك
التحريض على التفكير.
الوفاء خُلُق إنساني.
من الضمير إلى الرقابة الخارجية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
ونبقى مع كتاب اللّه في ما ذكره الله في (سورة الرعد) من حديثه عن "أُوْلي الأَلْبَاب"، أي أولي العقول، ليؤكِّد أنَّ مسألة العقل ليست مجرَّد تحليق الفكر في التجريد، ولكن مسألة العقل هي كيف يتوازن الإنسان في الحياة، لأنَّ لها نظاماً وتوازناً وامتداداً. والعقل عندما ينفتح على الحياة من خلال مسؤوليته، فإنه يحاول أن يدرس كلَّ ظاهرة من الظواهر الإنسانية في دائرة السلب وفي دائرة الإيجاب، ولا سيما في ما يعيشه الإنسان في توازنه النفسي أمام المشاكل والتحديّات، أو في ما يعيشه الإنسان في التواصل والتفاعل والتعاون من أجل إقامة الحياة على قاعدة رصينة.
والمشكلة لدى الكثير من الناس أنهم يتحركون في الحياة عشوائياً، فلا يرتكزون على قاعدة تخطّط للتفاصيل، ولذلك نجد أنّ القرآن الكريم ـ في ما يأتي من آيات ـ يؤكِّد العنوان الكبير الذي ينفتح على أولي الألباب في حياتهم الحركية والاجتماعية، ما يوحي بأنَّ الأساس ليكون الإنسان عاقلاً، ليس أنْ ينطلق فكره في المتاهات ليُحرِّك دقّة الفكر أمام الأمور المعقّدة، ولكن معنى أن يكون عاقلاً هو أنْ يحمي الحياة من النفس، فلا تسقط الحياة أمام عدوان النفس الناتج عن الهوى وعن الخصوصيات الشخصية، وأنْ يحمي الحياة من الانحراف الذي يتحرَّك به المجتمع هنا وهناك.. ونحن نتحمَّل مسؤولية سلامة الحياة من حولنا من خلال ما حمّلنا اللّه من مسؤولية خلافة الإنسان على الأرض، وقد أعطانا اللّه أرضاً سليمة لا عداوة فيها ولا حرب ولا بغضاء ولا عنف، وأراد لنا أن نُسلِّم الأرض له ـ حين نفارقها ـ كما سلَّمنا إيّاها، وأنْ نعطي الأرض من طاقاتنا وعقولنا وجهودنا عناوين أهمّ وجمالاً أكثر، وما إلى ذلك…
التحريض على التفكير:
ونحن في محاولتنا لفهم هذه المبادئ، نستنطق القرآن الذي هو إمامنا وهدانا، وهو الأساس في كلِّ خطوط العقيدة والقواعد العامّة لخطوط الشريعة، وكذلك السُنّة النبويّة التي تنفتح على القرآن لتتكامل معه في كلّ ذلك.
يقول تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى( )، وهذه الفقرة من الآية تسبق الحديث عن أولي الألباب، لتكون إطلالة على الأفق الذي يُساق الكلام للتأكيد عليه؛ فإنَّ هذه الفقرة تؤكِّد مسألة الحق في وجدان الإنسان، وهي مسألة الوعي الذي يُشرِق في فكره، والبصيرة التي تنفتح على الحقائق في وجدانه. فهناك الإنسان الذي يقرأ ما أنزل اللّه إلى رسوله (ص) من الحق والوحي المنـزل، ليدرسه ويتعمَّق فيه ويتابع خصائصه وعناصر الإعجاز فيه، وبذلك يخرج بالنتيجة الحاسمة، وهي أنَّ هذا هو الحق الذي لا شك فيه، ولا يقترب منه الباطل من قريب أو بعيد.. وهناك الإنسان الذي أغلق عقله وقلبه وعاش في عمىً فكري وثقافي، لأنّه أغلق كل عيون المنطقة الداخلية في وجدانه التي تُحدِّق في حقائق الأشياء، فهو أعمى البصيرة وإن لم يكن أعمى البصر، والله تعالى يقول: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ( ).
ثمّ يؤكّد القرآن على دور العقل في عمليّة المقارنة بين هذين الصنفين من الناس، فيقول تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ( )، ونحن نعرف أنَّ دور العقل هو أن يتذكّر، وليس المراد من التذكُّر – هنا – تذكّر ما ينساه الإنسان من معلومات، ولكن المراد منه هو أنْ يُحرِّك العقل في كل تأملاته وكل تجاربه الإنسانية، من أجل أن لا يغفل الحقيقة ولا ينساها، ولا ينحرف بها عن المسار الطبيعي، فالذي يعيش في وعيٍ لما حوله ولمن حوله، فإنّه بذلك يستطيع أن يبقى متذكراً للحقائق كلّها.
الوفاء خُلُق إنساني:
من هم أولو الألباب في الواقع؟ في حركتهم في الحياة؟ في علاقاتهم وتماسكهم أمام التحدّيات؟ .. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ( )، وهذا هو الخط الأول الذي تتوقف عليه حركية الحياة في خط الاستقامة، لأنَّ مسألة العهد تُمثِّل مسألة الالتزام الداخلي للإنسان، الذي يتحوّل من منطق الوفاء إلى التزام خارجي أو حركة واقعيّة، سواءً كان التزاماً بعهد اللّه في ما أراد اللّه للإنسان من التزام دينه وشريعته ووحيه، أو كان التزاماً بعهده مع الناس؛ لأنَّ العهد مع الناس هو عهدٌ مع اللّه أيضاً، ولذلك فإنَّ صيغة العهد هي أن يقول الإنسان: (للّه عليَّ عهدٌ أن أفعل كذا)، (للّه عليَّ عهد أن أدخل معك في هذه الشركة أو في هذا العمل)، فإنّ ذلك يمثّل تعاهداً مع الله، من حيث كونه التزاماً بهذه الخطوط التي تربط أوضاعك مع الناس وتربط أوضاع الناس معك.
وربما كان العهد عهداً واقعياً، حيث لا ينطلق من كلمة، وذلك في ما يتبانى عليه المجتمع أو العقلاء من منظومات اجتماعية أو سياسيّة، يشعر من خلالها كلّ فرد بأنه مرتبط بكلّ ما يترتّب عليها ارتباطاً عقدياً وإنْ لم يتلفَّظ بذلك؛ لأنَّ ما يختزنه الجميع في هذا التوافق على هذا السلوك، هو نوعٌ من العهد الذي يلتزم فيه بعضنا تجاه بعض. ومن هنا نلاحظ أن العقلاء يطالبون الإنسان بالسير وفق الأعراف العقلائية التي تتحرَّك في تنظيم حياتهم، ويعيبون على من يشذّ عن ذلك، وربّما يعاقبونه.. فالمسألة هي أن يكون الإنسان وفيّاً لعهده مع الآخرين، لأنَّ ذلك دليل على احترامه لنفسه ولالتزاماته تجاه الناس الذين يعيشون معهم.
وربما يطل على هذا المناخ العهدي الوفائي – إذا صحَّ التعبير – الحكمة النبويّة: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها))، فكما تحب أن يفي الآخرون لك بعهودهم معك، فإنَّ عليك ـ من خلال هذه القاعدة ـ أن تفي بعهودك التي تلتزمها تجاه الناس. والمقصود بالميثاق في قوله تعالى: ولا ينقضون الميثاق هو العهد؛ فاللّه سبحانه وتعالى أخذ ميثاقاً بطريقة وبأخرى، وأراد لنا أن نتحرك في خط السير لتنفيذ هذا الميثاق وهذا العهد. وهذا ما يقودنا لنتحدث عن بعض مفردات هذا العهد الميثاقي في مسألة عقد العلاقة الزوجية كمَثَل. فنحن نلاحظ أنه سبحانه وتعالى حينما تحدَّث عن وفاء الزوج لزوجته بالتزاماته تجاهها، عبَّر عن الزواج ب(الميثاق الغليظ)، ولم يكتف بكلمة الميثاق، بل هو الميثاق المؤكَّد، وذلك في معرض حديثه عن الأزواج الذين يأخذون مهور زوجاتهم: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا( )، فعقد الزواج لا يجعل العلاقة الزوجية علاقة عبودية يفرضها الزوج على الزوجة، فيلغي شخصيتها ويمنعها من التصرّف بأموالها وحياتها في غير ما التزمته من حق زوجي، أو يأخذ الزوج مهر زوجته تحت الضغط والإكراه وما إلى ذلك.
والقرآن الكريم عندما أكَّد أنَّ (أُوْلي الأَلْبَاب) هم الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ، أراد بذلك أن يؤكِّد على هذه المسألة، لأنها تخص كل نظام الحياة، في أنْ يعيش الناس على أساس احترام الإنسان لأخيه الإنسان من خلال الوفاء بالالتزامات، سواء كانت على المستوى الاجتماعي أو الفردي أو على مستوى الدولة، أو كانت على مستوى العلاقات الدولية في العالم التي تتحرك على أساس المعاهدات، من خلال القاعدة التي تقول إنَّ لكل إنسان أو مجتمع أو دولة حقاً وعليه مسؤولية، وكما أنَّ له أنْ يطالب بحقِّه، فعليه أن يتحمّل المسؤولية تجاه الآخرين. ولو أن الإنسان في كل مواقعه وصفاته ابتعد عن خط الوفاء بالعهد والميثاق، لتحوّلَت الحياة إلى فوضى، وذلك ما نلاحظه في بعض المواقع الدولية التي يأكل فيها القوي الضعيف، ويُسقط فيها المستكبر المستضعف.
الصفة الثانية لأولي الألباب هي ما عبّر الله عنها بقوله: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ( )، حيث تؤكِّد الآية على الصلة الحقوقية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وتجعل كل فريق منفتحاً على الفريق الآخر لأجل رعايته في آلامه ومشاكله وأفراحه.
وقد تحدَّث اللّه سبحانه وتعالى عن صلة الأرحام حتى لو كان الرحم قاطعاً، كما تحدَّث في خصوصية الوالدين، لأنَّ لهما خصوصية بالنسبة إلى البقية من أولي الأرحام، فأوصى بالوالدين حتى لو كانا مشركين، فقال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا( )، ونقرأ في أكثر من حديث عن صلة المؤمنين بعضهم ببعض؛ لأنَّ الأخوّة التي عَقَدَها اللّه بين المؤمنين تجعل لكل مؤمن ـ من خلال هذه الأخوّة ـ حقّاً على المؤمن الآخر، في أنْ يعينه ويساعده ولا يغشّه ولا يظلمه ولا يتّهمه، إلى غير ذلك من حقوق المؤمن على المؤمن.
وهكذا القضية إذا أردنا أن نأخذ بالمعنى العام للتواصل أيضاً، حيث تمتدّ الصلة إلى الفئات المحرومة في المجتمع، كالأيتام والفقراء والمساكين والمعوقين، وما إلى ذلك ممن لا يملكون العيش الكريم، فإنَّ اللّه سبحانه وتعالى يريد لنا أن نصل هؤلاء، إما بشكل فردي من خلال المبادرات الفردية، أو بشكل جماعي من خلال المؤسسات والجمعيات الخيرية التي ترعاهم وتهيّئ لهم الظروف الطبيعيّة للعيش الكريم.
من الضمير إلى الرقابة الخارجية:
ثمّ تتابع الآيات في صفات أولي الألباب.. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ( )، إذ الخوف من سوء الحساب هو الذي يعطي للإنسان إحساساً بالحاجة العميقة للالتزام بهذين المبدأين التزاماً دقيقاً، لأنَّ الإنسان يعرف بأنَّ اللّه سبحانه وتعالى سوف يحاسبه يوم القيامة يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا( ) ليقدِّم حسابه عنده سبحانه وتعالى، وليس معنى قوله {سوء الحساب} أن اللّه سبحانه يُسيء حسابه، بل بمعنى أنه لا يجد هناك أية فرصة لإغفال أي عمل من أعماله أو أي قول من أقواله.
فالمسألة هي في خط الأعمال السلبية الصادرة عنه مقارنةً بالمسؤولية الحسابية بين يدي الله، ما يجعله في حالة من الخوف من النتائج من خلال ذلك. إن الإنسان الذي يضع اللّه أمام عينيه في كل كلمة يقولها، أو فعل يفعله، وفي كل علاقة ينطلق بها، عندما يضع اللّه في قلبه وعقله وأمام عينيه، فإنَّ ذلك سوف يجعل الإنسان يتحرَّك في خطَّ الاستقامة، ويبتعد عن خط الانحراف، ولكن المشكلة ـ كما نراها في الكثير منّا ـ هي أن علاقتنا باللّه أصبحت علاقة جامدة تقليدية لا نبض فيها في القلب، ولا حركة لها في العقل، كما في كلّ ما اعتدناه من عادات، فنحن نتحرك مع اللّه بوحي العادة، ونحسب أن العادة إيمان، ولكننا عندما ندخل في التجربة، نشعر بأنَّ الإيمان بعيد عنّا.. ويعبّر المتنبّي عن هذه الفكرة عندما يقارن بين الممثّل وبين الذي يعيش الواقع بقوة، عندما يقول:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبيّن من بكى ممن تباكى
فعندما يعيش الإنسان التجربة في القضايا التي تخاطب أهواءه، فإنّه يعرف نفسه في حال الانضباط أنه يسير في خطِّ الإيمان، وأما في حالة عدم الانضباط، فإنّه يشعر بأنه بعيد عن الإيمان.
نسأل الله أنْ يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم، إنه أرحم الراحمين وللكلام بقية إن شاء اللّه في الأسبوع القادم..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثالثة والعشرون9 رجب 1424 ه6 /8/2003م
العقل في القرآن (7)
الصبر لدى أولي الألباب
الصبر هو القيمة التي تُمثّل خطَّ التوازن أمام التحديات
الصبر كقيمة عليا.
الصبر على المعاصي.
الصبر على البلاء.
الصبر على النعمة.
الصبر على الفكر.
الصبر والحرية.
الصبر والعقل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
من الصفات التي ذكرها اللّه لأولي الألباب الصبر، وهو ما ورد في قوله تعالى وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ( ). والصبر قد ينطلق في موقف الإنسان من حالة خارجية لكي يمدحه الناس على صبره، أو من حالة ذاتية يعيش فيها حالة العجز، ولكنه في كلتا الحالتين هو الصبر الذي لا ينطلق من خلال وعي الإنسان لموقفه أمام اللّه سبحانه وتعالى في مسؤوليته عن الحياة كلّها، من خلال ما يتحمّله في أوضاعه الفردية، أو في ما يواجهه من حالات خارجية مع الآخرين.
الصبر كقيمة عليا:
والصبر هو القيمة التي تُمثِّل خطَّ التوازن أمام التحديات. فهناك ـ كما ورد في الكتاب والسُنّة ـ صبرٌ على الطاعة؛ لأنَّ الطاعة ـ في تنوّعاتها ـ تكلِّف الإنسان جهداً، وربما تصطدم ببعض أوضاعه وحاجاته الذاتية، فتضغط عليه حتى يرتدع عن خطِّ الطاعة لئلا يُسيء إلى تلك الحاجات أو الأوضاع.. وهذا ما نراه في كثير من الناس الذين يمتنعون عن أداء الفرائض، كالصلاة والصيام والحج، أو مقاومة ظالم أو ما إلى ذلك، فإنَّ الإنسان قد يهمل ذلك بحجة أنَّ وقته لا يتسع لأداء الصوم، ولأنَّ مصالحه الذاتية لا تبيح له أن يقف بوجه الظالم أو يقف مع العادل. ولذلك، فإنَّ الطاعة قد تُمثِّل حالة الإحساس بالحرمان لمن يمارسها؛ الحرمان من الراحة أو المكاسب التي قد يفقدها إذا التزم بالطاعة. وربّما يعيش البعض في مجتمعات تُنكر على المؤمن أخذه بأسباب الطاعة، فيحاول أن يتكاسل عن أداء الفرائض وطاعة اللّه، حتى لا يسخر منه أحد أو ينتقده وما إلى ذلك.. ولهذا كان لابد من التزام الصبر على الطاعة، لكي يستطيع المسلم التماسك أمام الإغراءات وعناصر الضغط، فيحافظ ـ بالتالي ـ على مسؤوليته في الامتثال لأوامر اللّه سبحانه وتعالى.
الصبر على المعاصي:
وهكذا الصبر عن المعاصي التي هي في مضمونها الحسي أو النفعي تثير الإنسان وتحرّك أطماعه وشهواته حسب تنوّع المعاصي، فيشعر الإنسان ـ في كثير من الحالات ـ بالحرمان من عدم ممارسته عادات الآخرين، فيرى بعض الناس – مثلاً – يشربون الخمر وهو لا يشرب، يراهم يمارسون الزنى وهو لا يفعل ذلك، أو يرتشون بينما هو مخلص في عمله، أو يرى من يسيرون مع الظالم وهو لا يسير مثلهم، أو من يأخذون بأسباب الفتنة التي تحرق الأخضر واليابس وهو يقف ضد الفتنة، وهكذا.. فإنَّ اجتناب المعصية يُشعِر الإنسان بإحساس عميق بالحرمان في كل الأمور التي نهى اللّه عنها، سواء في اللذّات، أو الشهوات، أو المكاسب، أو الأطماع الإنسانية، ولذلك فإنّه يحتاج إلى الصبر حتى يسيطر على كلِّ مشاعر الحرمان التي تفترس توازنه.
الصبر على البلاء:
أمّا القسم الثالث من الصبر فهو الصبر على البلاء؛ فإنّ الحياة – كما نعرف – ليست مفروشةً بالورد، وليست نزهةً يرتاح فيها الإنسان، لأنّ الإنسان لو أراد الحصول على الورد فلابد أن يجرح يده الشوك الذي يحمي الورد، ولن يستطيع أن يجني العسل إلاّ إذا ذاق لسعات النحل، ولا يستطيع أن يبلغ طموحاته العلمية والسياسية والاجتماعية إلاّ إذا بذل جهداً يجعله يسهر الليل ويقطع المسافات ويتحمَّل الصدمات، كما قال الشاعر:
إنّ الحياة لشوكٌ بينه زَهَرٌ فحَطِّم الشوكَ حتى تَبْلُغَ الزَّهرا
ومن الطبيعي أنّ تحطيم الشوك يجرح هنا وهناك. ويقول شاعر آخر في هذا المجال أيضاً:
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل
وقولُ الله تعالى قبلَ ذلك: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ( )، وكذلك قوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ( ). ولذلك لا بد من الصبر على البلاء، حتى لا يسقط الإنسان تحت الضغط، فيتنازل هنا أو ينحرف هناك. ونحن نعلم أنّ الإنسان حينما يقوم بالدعوة إلى اللّه وإلى الخير ويتحرّك من أجل أن يرفع مستوى شعبه ويعمل من أجل تحرير أمّته ووطنه، فلابد له من أن يقاسي السجن والتشريد والكثير من الخسائر التي تصيبه في أهله وفي أمواله وفي كل أوضاعه، فلا بد من الصبر على البلاء.
الصبر على النعمة:
ويذكر العلماء من أنواع الصبر: الصبر على النعم، فاللّه يريد من الإنسان أن يشكره عندما ينعم عليه، وأنْ يتعامل مع النعمة على أساس أنها لطف من اللّه، وليست في معناها إكراماً للإنسان لتنتفخ فيه شخصيته، لأنَّ النعمة قد تصيب الإنسان بالغرور أو التكبّر، وهذا ما نراه في سلوك الأغنياء تجاه الفقراء، أو في سلوك الكبار بالنسبة للصغار. ولذلك لا بد أن يصبر على النعمة على أساس أنّها لطف وهبةٌ من اللّه ليبتليَه أيشكر أم يكفر، كما في قوله تعالى: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ( )، ولأنّ هذه النعمة تحتاج لأنْ يقوم الإنسان بالمبادئ التي تُمثِّل الشكر العملي، وهذا ما عبَّر عنه النبي موسى(ع) حينما أنقذه اللّه من (فرعون) في رحلته الأولى التي فرَّ فيها من قوم فرعون، حينما جاءه من يقول له: إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ( )، فعندما وصل إلى ماء (مدين) استند إلى شجرة وقال: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ( )، فحوّل شكر النعمة إلى شكر للّه في ساحة الصراع، بأن لا يكون ناصراً للمجرمين، وإن كلّفه ذلك الابتعاد عن الوطن، وذلك ما يوحي بأنَّ الإنسان الذي يمتحنه اللّه ويناصر المجرمين هو إنسان كافر بنعمة اللّه سبحانه..
الصبر على الفكر:
وهناك الصبر على الفكر الأصيل في التزامه العقيدي في مقابل الموروثات التاريخية التي درج عليها الآباء، مما قد يلتقي بالخرافة ويبتعد عن الأصالة ويتحرّك من خلال ذهنية التخلّف، مما لا بدّ من مواجهته بالفكر الحقّ المرتكز على أساس علمي عقلاني خاضع للقاعدة الفكرية المنهجية الإسلامية، والتزام النتائج الصحيحة من خلال ذلك، والصبر على مهاجمة المتخلّفين والجاهلين الذين يثيرون الغوغاء في انفعالاتهم العاطفيّة المتخلّفة ضدّ أصحاب الفكر الأصيل بأساليب التكفير والتضليل مما لا يملكون فيها أيّة حجّة وأيّ برهان سوى الإرث التاريخي.
هذه هي الأمور التي لا يخلو منها إنسان في مسؤولياته، وهو في حياته بحاجة إلى الصبر من أجل أن يستقيم على المبدأ، ولا يسقط في توازناته العقلية والعملية أمام الحرمان هنا والتحديات هناك، وأنْ يجعل عقله في نطاق التفكير في النتائج السلبية، التي ربما يواجهها إن لم يصبر، وفي النتائج الإيجابية التي يحصل عليها فيما لو صبر. والمسألة الأساس هي مسألة إنسانية الإنسان في المحافظة على كل عناصرها من الداخل وفي ما يُعرض عليه من الخارج.
الصبر والحرية:
ومن ناحية أخرى، نجد أنّ الإمام جعفر الصادق (ع) يربط بين الصبر والحرية، حيث يقول(ع): ((إنَّ الحر حرٌّ في جميع أحواله، إنْ نابته نائبة صبر لها، وإنْ تداكّت - أي أطبقت - عليه المصائب لم تكسره ولم تقهره وإنْ استعبد وأُسِر)) ، فإنك بقدر ما تكون صابراً تكون حرّاً، فالحريّة لا تأتي من الخارج، بل تنبع من الداخل عندما تكون في نفسك إرادة الحرية، وإرادة الرفض للطاغية والطاغوت.. ولذلك فإن الإنسان قد يكون داخل الزنزانة حرّاً، في الوقت الذي قد يكون فيه عبداً وهو طليق في الصحراء؛ لأنَّ العبودية تأتي من داخل النفس عندما تفقد الإحساس بالإنسانية تجاه من يريد أن يسقط إنسانيتك، كما أنك تشعر بالحرية عندما تتمرد على كل من يريد إسقاط حريتك.. ثم يتابع الإمام الصادق(ع) لإعطاء النموذج، وهو نموذج نبي عاش تحت تأثير الإغراء بما لا قِبَلَ له به، فتمرّد على ذلك الإغراء وصبر، وهو النبي يوسف(ع)، حيث قال ـ كما ورد في كتاب الله ـ : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ( )، فالتجأ إلى اللّه سبحانه ليعطيه قوة مضاعفة. يقول الإمام الصادق(ع): ((كما كان من يوسف الصدّيق(ع)، لم يضر حريته ما ناله من ظلمة الجب ووحشته أنْ استعبد، فصيّر اللّه الجبّار العاتي له عبداً بعد أنْ كان مالكاً له))..
ثم يقدِّم الإمام الصادق(ع) في آخر كلماته: ((فوطّنوا أنفسكم بالصبر تؤجروا))( ).. فالإمام يربط بين الصبر والحرية. ولذلك، فإنَّ الكثير من المؤمنين الذين تحمَّلوا السجن والتشريد والتعذيب والتجويع، لم يخضعوا للطغاة أينما كانوا، كما في العراق، أو في فلسطين، أو في أكثر من بلد يسيطر عليه الطغاة. وفي هذا المجال، أذكر أنَّ بعض الناس كانوا يتحدثون عن نظرية (جان بول سارتر)، وهو المفكر الفرنسي الذي يقول إنَّ الحرية تأتي من الداخل وليس من الخارج، يعني أن تكون حراً، هو أنْ تمتلك إرادة الحرية، فقلنا لهم إنَّ الإمام حينما تحدّث عن أن الإنسان قد يكون حراً وهو في الزنزانة عندما جعفر الصادق(ع) تحدّث عن هذا الأمر بتفصيل أكبر تكون له إرادة الحرية، وأنَّ الحرية لا تأتي بمرسوم، أو منحة هنا وهناك. وتكمن المشكلة في أنَّ الكثيرين منّا ـ حتى من بعض مثقفينا ـ لا يقرأون التراث ، في الوقت الذي لا نمانع فيه من الاطّلاع على ثقافة الآخرين، ولكن بشرط أنْ لا نهمل ثقافتنا الإسلامية أمام ما يأتينا من ثقافة الآخرين.
وفي السياق نفسه، فإنَّ الإمام علي بن أبي طالب(ع) يقول: ((لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرّاً))( ). حيث يريد الإمام(ع) أنْ يستثير حريتك من داخل ذاتك، يعني أن تكون حراً في نفسك، ولتكن لك إرادة الحرية أمام الآخرين الذين يريدون أن يفرضوا عليك الخضوع ويستعبدوك لتنفِّذ قراراتهم وتترك مبادئك. ونحن نعتبر أنّ كلمة أمير المؤمنين(ع) أكثر دلالةً في التعبير عن الحرية من الكلمة التي قالها عمر بن الخطاب عندما خاطب بعض ولاته قائلاً: ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً))، لأنَّ هذه الكلمة تتوجه إلى الولاة بأنْ لا يستعبدوا الناس، وكلمة علي(ع) تتوجه إلى الإنسان بأنْ لا يستعبد نفسه حتى لو أراد الآخرون أن يستعبدوه.. فكنْ حراً في نفسك، لأنَّ هذه الحرية هي سرّ وجودك في الحياة، فاللّه سبحانه وتعالى كما خلقك جسداً وعقلاً خلقك حرّاً، وليس لك أن تنحرف عن هذه الحرية.
لذلك فالصبر هو سر الحياة، فالإنسان في أول حياته حين ينمو ويكبر ويتزوّج، ثم يريد أنْ يواجه الواقع في بيته ومحلته وكل ما يعرض في حياته، فهو لا يملك أن يصل إلى النتائج إلاّ بالصبر، ولذلك قال علي(ع): ((وعليكم بالصبر، فإنَّ الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، لا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه))( )، لأن الإيمان ليس مجرّد حالة في الفكر، ولكنه ـ مع ذلك ـ حركةً في الواقع، وهو أنْ يتجسّد كلُّ ما تفكّر فيه في سلوكك في الحياة.. ومن هنا كانت مسألة الإيمان ـ في كل امتداداتها وحركتها ـ تُمثِّل العنوان المرتكز على قاعدة الصبر في الحياة.. وقد نجد ذلك في كلمةٍ للإمام الجواد(ع) في جوابٍ لبعض أصحابه يسأله فيها عن بعض المسائل التي قد تكلّف الإنسان جهداً وقد تحرمه من بعض الأمور، فقال(ع): ((كل أعمال البر بالصبر يرحمك الله))( )، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى في محكم كتابه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ( ) أي من غير تحديد، كما يقول بعض الناس اليوم: (أعطيك شيكاً على بياض).
الصبر والعقل:
وهكذا يشير قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ( ) إلى أن صبرَ أولي الألباب هو صبر واعٍ يرتبط باللّه، ويرتبط بإيمانهم، وبمسؤولياتهم، وبعلاقاتهم بربهم، فهم يصبرون ليحصلوا على رضا اللّه سبحانه، وعلى ثوابه في القيام بما كلّفهم سبحانه به من المسؤولية، ولا يصبرون لكي يمدحهم الناس على الصبر، أو من خلال حالات مزاجية طارئة، لأنَّ المؤمن يتطلَّع إلى اللّه في كلِّ أموره، فهو صاحب إيمان ومبادئ. ومن الطبيعيّ أن يبني العاقل حياته ومواقفه على ما يحقّق له النتائج الإيجابيّة والحصول على رضا الله سبحانه الذي هو أساس النجاة في الدار الآخرة.
وحيث اعتبر الله سبحانه هذه الصفة من صفات أولي الألباب ـ أي العقول ـ فهذا يعني أنّ من لا صبر له لا عقل له، لأنَّ العقل يقود الإنسان إلى أن يواجه حياته بما يكسبه النتائج الإيجابية والجيدة، وفي مقدمتها الحصول على السعادة في الدنيا والآخرة معاً، وذلك من خلال القيم التي نتمسّك بها ونحرّكها في حياتنا، كما نتقرّب إليه بالأعمال التي كلّفنا بها، حيث تنطلق القيمة من العبودية للّه عز وجلّ.
فالإنسان العاقل هو الذي يفكر بأن اللّه سبحانه وتعالى هو سرّ الوجود، وسرّ امتداد الحياة، فهو سبحانه الوجود كله، وكل ما عداه يمثل شبحاً من وجوده، فاللّه سبحانه هو ولي الخلق، وهو ولي الرزق، وولي الحياة، وولي الموت، ووعي ذلك يقود الإنسان إلى أنْ يعيش الصلة بربّه والإحساس بحضوره في عقله وفي كل حياته.
والصلاة في كل معناها ـ حيث قرنها الله سبحانه بالصبر في قوله تعالى والذين صبروا ابتغاء وجه ربّهم وأقاموا الصلاة ـ تمثل روح كل الأعمال التي كلفنا اللّه بها في الإسلام كله، فيما بعض الناس يستهينون بالصلاة، وهو سوء فهم في معناها في امتداداتها في المفهوم الإسلامي، ولذلك جاء في الحديث النبوي الشريف: ((الصلاة عمود الدين إنْ قُبِلت قُبِلَ ما سواها، وإنْ رُدّت رُدَّ ما سواها))( ). فكيف نفهم ذلك؟ نفهم ذلك إذا فهمنا أنّ جوهر الدين هو العلاقة باللّه والإحساس بحضوره في وجدان الإنسان وحياته، وقيمة الصلاة أنها تجعلك في تنوّعاتها الزمنية والعبادية، تقف بين يدي اللّه سبحانه لتخاطبه ولتناجيه ولتشكو إليه آلامك ومشاكلك وحاجاتك، تماماً كما نقرأ في الأدعية عن أهل البيت(ع)، حيث يركّزون فيها إحساس الإنسان بأنه يتكلم مع اللّه من دون واسطة، ومن دون "رسميات"، كما لو كان اللّه متغلغلاً في كيانه؛ ولذلك كلما ازداد الإنسان خشوعاً للّه أكثر ، كلما انعدمت الحواجز بينه وبين اللّه أكثر.
وفي ضوء ذلك، فإنّ من لا يصلي لا يعيش معنى الإسلام، خصوصاً أن المعنى العميق للإسلام يتحرك من خلال إيحاءات الصلاة، كما في حديث الله عن النبي إبراهيم(ع)، حيث يقول: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( )، فيجب على الإنسان أن يعيش مع ربّ العالمين، بحيث إنه لا يشعر بذاته أو وجوده أمام اللّه، وإنما يندمج في مواقع قربه ورضاه. وهكذا نقرأ في القرآن الكريم قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ( )، فكل شيء للّه، وعندما يختزن الإنسان ذلك في عقله من خلال حساباته السلبية والإيجابية، ويعيش ذلك، فإنه يعيش القرب من اللّه سبحانه.. ولذلك تمتد حركته في كل ما أوجبه اللّه وما أحبّه، باعتبار أنَّ الإسلام للّه يعني ذلك. ولهذا فإنَّ الصلاة هي جوهر الإسلام، وليست شيئاً هامشياً، وإنْ كان البعض حوّلها إلى هامش، وحوّلها البعض إلى رياضة، فهي ليست رياضة بدنية، وقد لا تنسجم مع قواعد الرياضة، لأنها رياضة روحية، لترتفع بالإنسان إلى اللّه سبحانه وتعالى. ويبقى للكلام بقية في الأسبوع القادم إنْ شاء اللّه.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الرابعة والعشرون16 رجب 1424 ه13 /8/2003م
العقل في القرآن (8)
الإنفاق لدى أولي الألباب
قاعدة الإنفاق الشرعية تقوم على كفالة المجتمع بعضه لبعض فيما يسمّى ب(التكافل الاجتماعي)
منطلقات الإنفاق.
الإنفاق وتحرير الذات.
الإنفاق والانتماء الاجتماعي.
الإنفاق في إطاره التشريعي.
إشاعة الإحسان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
منطلقات الإنفاق:
الإنفاق من الصفات التي يتمتّع بها أولو الألباب – أولو العقول – الذين يفكّرون في حياتهم العملية من خلال منطلق العقل الذي يدفع الإنسان إلى أنْ يتحرّك في كل ما ينفعه، ويبتعد عن كل ما يضرّه، وهو ما ذكره سبحانه وتعالى في قوله: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً( ). فمن خصائص هؤلاء أنهم ينفقون مما رزقه اللّه في السرّ تارةً، وفي العلانية تارةً أخرى.
وفي هذه الفقرة من الآية، نبحث عدّة نقاط:
النقطة الأولى: لو أراد الإنسان أن ينفق على أصحاب الحاجات، أو على أعمال الخير، فهناك أسلوبان:
الأول: أسلوب الإنفاق في السرّ، وهو يُمثِّل الحالة التي يُراد بها سدّ حاجة الإنسان المستور، والذين وصفهم سبحانه وتعالى في كتابه يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا( )، هؤلاء الذين ربما يشعرون بالوهن والضعف بحسب أوضاعهم النفسية، أو ظروفهم الاجتماعية، حينما يُقدَّم لهم الإنفاق بطريقة علنية، ففي مثل هذه الحالة، يريد اللّه لمن يُنفق في سبيله أنْ يحفظ كرامة المُنفَق عليه، كما يسدّ حاجته في الجانب المالي.
الثاني: أسلوب الإنفاق في العلانية. والإنفاق ضمن هذا الأسلوب يتحرّك في الحالات التي يراد بها تشجيع الناس على الإنفاق. فهناك البعض من الناس يتشجع على العطاء عندما يجد غيره يبادر إلى ذلك، ففي مثل هذه الحالات، يُستحبّ الإعلان من أجل تشجيع الناس على الإنفاق في هذا الاتجاه، كما نلاحظ ذلك في الأعمال الخيرية التي يُراد حشد تبرعات الناس وصدقاتهم عليها، أو عندما يقوم الإنسان بالدعوة إلى مساعدة الأيتام والفقراء وما إلى ذلك..
فالإنفاق في السرّ خيرٌ حين يكون السرّ هو حفظ كرامة صاحب الحاجة، والإنفاق العلني خيرٌ عندما تكون المصلحة في تشجيع الناس على الإنفاق و التبرّع والتصدّق.
الإنفاق وتحرير الذات:
والنقطة الثانية: كيف ربط اللّه سبحانه وتعالى مسألة الإنفاق بمسألة العقل، وذلك في معرض حديثه عن أولي الألباب بأنّهم الذين ينفقون؟
هناك علاقة بين العقل كموجّه للإنسان في ما يفعل ويتحرّك وبين الإنفاق. فللإنفاق عدّة خصائص، منها ما يتصل بالذات في ما يتصل بتأصيل الإنسان لإنسانيته وتربيته لذاته، ومنها ما يتصل بالواقع الاجتماعي، حيث يعتبر الفرد جزءاً من المجتمع، ومنها ما يتصل بمواقع رضا اللّه في تشريعه للإنفاق كوسيلة من وسائل تخفيف المشاكل الاجتماعية، وتحقيق التكامل والتضامن الاجتماعي.
أما مسألة علاقة الإنفاق بالجانب التربوي للذات، فإنَّ حالة العطاء لدى الإنسان تحطّم كلَّ الجليد الذي يغمر ذاته، بحيث إنّ بعض الناس المبتلين بالبخل يؤكّدون ويكرّسون بذلك انفصالهم عن المجتمع، فيستغرقون في الجانب الذاتي من حياتهم وشخصيتهم، وهذا ما أشار إليه اللّه في محكم كتابه الكريم: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ( ). فالإنسان الذي يقيه اللّه البخل بحسب ما يعيشه في أحاسيسه الإنسانية أو في تربيته الروحية، هو الإنسان الذي يتحرّك في خطّ الفلاح.
وقد تحدّث اللّه عن البخلاء بقوله: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ( )، فعندما تبخل ولا تساعدُ المحتاج فهناك الكثير ممن يساعده، ممن يوقفه اللّه للعطاء وبذل الخير، وبذلك، فإنّك تبخل على نفسك، وتحرمها من كل هذه الإضاءة الروحية التي تجعلها تشرق على الآخر، ولا تنكمش في داخل الذات. لهذا فإنَّ مسألة الإنفاق هي مسألة تحرّك الدوافع الإنسانية، لتجعل الإنسان ينفتح على الإنسان الآخر، لأنَّ معنى إنسانيتك هو أنْ تعيش الإنسانية في إنسانية الآخر كما تعيشها في إنسانيّتك، وهو ما تحدّث عنه الحديث الشريف: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها))، ما يعني أنَّ على الإنسان أن يتفاعل شعورياً مع الآخر بنفس الروح التي يريد فيها من الآخر أنْ يتفاعل شعورياً معه.
الإنفاق والانتماء الاجتماعي:
والنقطة الثالثة: هي مسألة إحساس الإنسان بانتمائه إلى المجتمع في حالة الإنفاق، لأنَّ في كل واحد منّا شخصيتين: الشخصية الفردية التي يمارس فيها الإنسان حاجاته الذاتية من لذّة وشهوة ولعب ولهو، وهذا أمر يخصّ الإنسان وحده في سلبياته أو إيجابياته.. وهناك الشخصية الاجتماعيّة، باعتبار الإنسان جزءاً من عائلة وجزءاً من بلد ومجتمع، وجزءاً من الإنسانية كلها. فإذا كانت للإنسان شخصيتان، فلابد أنْ يعطي لكل منهما حقّها في حركته، من أجل تأصيل هذه الصفة في ذاته من حيث المسؤوليات المترتّبة على هذه الشخصية أو تلك.
وعلى ضوء هذا، فإنَّ الإنفاق ـ في روحيّته ـ يعزل الإنسان عن الاستغراق في الشخصية الفردية على حساب الشخصية الاجتماعية، ويدفعه لتجسيد احترامه لشخصيّته الاجتماعية كما هو احترامه لشخصيّته الفردية؛ لأنَّ الإحساس بالشخصية الاجتماعية يجعله يدرك ويتحسَّس عطش الناس من حوله وجوعهم، في كلّ العناوين التي تحدّث اللّه سبحانه وتعالى عنها في كتابه الكريم، كالفقراء والمساكين والغارمين وأبناء السبيل وما إلى ذلك، حيث أشار اللّه سبحانه وتعالى في هذه الموارد إلى الإنفاق على الفئات الأكثر حرماناً في المجتمع.. كلّ ذلك باعتبار أن الإنسان جزءٌ من كلّ، وعلى الجزء أن يتفاعل مع الكلّ في حاجاته، وهذا ما عبّر عنه الحديث الشريف: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالحُمّى والسهر))( ).. وهكذا يريد الإسلام من المجتمع بكل أفراده أنْ يتفاعل مع كل حاجات الفرد هنا وهناك، ويتفاعل مع المجتمع كلّه.
ومن هنا ننطلق إلى ما يتجاوز الإنفاق إلى الاهتمام بنصرة المسلمين، كما في الحديث القائل: ((ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم))( )، فأولو الألباب هم الذين يعيشون مسؤولياتهم في المجتمع، كما يعيشون شخصيتهم الفردية.
ولعلّ مشكلة الكثير من المجتمعات، هي أنّ المألوف عند الناس عموماً هو ارتباط الإنسان بشخصيته الفردية أكثر من ارتباطه بالشخصية الاجتماعية، في الوقت الذي ركّز فيه الإسلام في تشريعه على خطِّ التوازن بين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية؛ لأنَّ الأفراد إذا أهملوا شخصيتهم الفردية لم يستطيعوا أن ينفعوا المجتمع، كما أنهم إذا أهملوا شخصيتهم الاجتماعية، فإنّ المجتمع سوف ينهار، باعتبار أنّ حاجات المجتمع منبثقة من حاجات الأفراد، كما أنّ طاقة المجتمع موجودة لدى الأفراد.
الإنفاق في إطاره التشريعي:
النقطة الرابعة: وهي في مسألة علاقة الإنفاق بالعقل، من جهة التشريع الإسلامي الذي جعل قاعدة الإنفاق التشريعية تقوم على كفالة المجتمع بعضه لبعض، فيما يُسمى ب(التكافل الاجتماعي)، وجعل المبدأ كما ورد عن بعض الأئمة(ع): ((أنَّ اللّه فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم))( )، ونقرأ في الحديث عن الإمام علي بن أبي طالب(ع): ((ما جاع فقير إلاّ بما مُتّع به غني))( ).
وعلى ضوء هذا، فإنّ مسألة التكافل الاجتماعي التي تنوّعت في التشريعات الواجبة، كالزكاة والخُمس، أو في المُستحبّات، كالتبرّعات والصدقات وما إلى ذلك.. أراد الإسلام أنْ يوفّر للمجتمع من خلالها رصيداً احتياطياً بحيث يتحرّك المجتمع من خلاله في حالاته الضرورية، ليجد حاجته من ذلك الرصيد هنا وهناك بحسب إمكانات المجتمع.
فالإنفاق الذي يقوم به المسلم بدافعٍ من عقيدته وعقله الذي يؤكد إسلامه في الجانب الفكري والعملي، يجعل الإنسان ينطلق من قاعدة التكافل الاجتماعي والضمان الاجتماعي الذي يمكن أن ينمو بازدياد المشاعر التكافلية في أكثر من مجال، كما نقرأ في الآية الكريمة التي نزلت في أهل البيت(ع): وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا( ) حيث تؤكد هاتان الآيتان أنّ مسألة الإطعام ـ كوجهٍ من وجوه الإنفاق ـ تتّصل بمسألة الحبّ للّه سبحانه وتعالى، باعتبار أنّ الإنسان المؤمن يشعر أنّ ما أعطاه اللّه هو نعمة منه عليه، فعليه أن يشكر هذه النعمة، ويؤكد حبّه للّه بأنْ يشاركه غيره في هذه النعمة، لأنّ اللّه ينعم عليك بما تنفقه على نفسك، أو تنفقه على الآخرين.
ومن هنا نفهم أنّ مسألة الإنفاق التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى من صفات أولي الألباب، هي مسألة يدعو إليها العقل العملي في تربية الإنسان لنفسه على الصفات الحميدة، ومنها صفة العطاء بلا مقابل، أو من خلال مشاركته للمجتمع على أساس جزئيته للكل الاجتماعي، وعلى أساس تحصيل رضا اللّه تعالى بما أراده من قاعدة التكافل الاجتماعي، وهذا هو الذي يعمِّق القيمة العملية والاجتماعية للإنسان في حياته العامّة والخاصة.
إشاعة الإحسان:
وهناك صفة أخرى لأولي الألباب، وهي ما ورد في قوله تعالى: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ( )، بمعنى أنه إذا واجهتهم العدوانية، سواء كانت كلامية أو اقتصادية أو جسديّة، فإنهم حينما يقومون بردّ الفعل، فإنهم لا يقومون بذلك من حالة انفعالية عصبية، فلا يبادرون إلى الانفعال الذي يعقّد المشكلة بدلاً من أن يحلّها؛ لأنّ الانفعال لا يرصد العواقب والنتائج، بل ينطلقون في ردّ الفعل من موقع العقل الذي يرصد نتائج أفعاله وعواقبها، فإذا صادفت أحدهم السيئة من إنسان آخر، فإنه يفكّر، فإذا أمكنه أن يحلّ المشكلة بطريقة يجذب إليه فيها ذلك الإنسان ويكسب صداقته، فيكون بذلك حسناً، كما في قوله عزّ وجلّ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( )، لأنّ قضية الانتصار على الخصم لا يكون بالطريقة الانفعالية العدوانية، بل على أساس جعله يشعر بخطئه بأسلوب لبيب، فبذلك يكون الانتصار فكرياً وليس جسدياً، وبذلك يستبدل الإنسان فكر العداوة بالصداقة، ويحوّل الحقد إلى محبّة، وما إلى ذلك من الأمور.. فبهذه الطريقة يكون الانتصار على السلبيات في ذات الخصم ومنعه من الاعتداء عليك، وهذا هو الأسلوب الإسلامي، كما في قوله تعالى وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وربّما توحي بذلك، الحكمة المأثورة عن الإمام علي(ع): ((عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شرّه بالإنعام عليه))( ).
ولكن درء السيئة بالحسنة يتمُّ غالباً في العلاقات بين الناس في أوضاعهم ومعاملاتهم. وأما في القضايا الكبرى، أو في الحالات التي يُمثِّل فيها الدرء بالحسنة تشجيعاً للمسيء على الاستمرار بنهج السيئة، فتختلف المسألة، فعندما يعتدي ظالم على شعب، أو حينما تعتدي مجموعة إرهابية على سلامة المجتمع في داخله، أو عندما يعتدي إنسان عليك ويَعتبر أنّ عفوك عنه ناشئ من حالة ضعف، ويدفعه لأنْ يعتدي عليك أكثر، أو على الناس، فلا بدّ لك من أن تواجه المسيء بدراسة دقيقة تحدد فيها طبيعة سلوكك وأسلوبك في التعامل مع هذا الإنسان، فإذا كانت القضية كبرى، سواء كانت إسلامية أو وطنية وما أشبه ذلك، والتي تتصل بالسلامة العامة للمجتمع كلّه، فإن عليك أنْ تعمل على قمع أولئك الذين يرهبون المجتمع ويربكونه اقتصادياً واجتماعياً وما إلى ذلك.. وهكذا بالنسبة إلى الأشخاص، فإذا كان العفو عن الشخص يشجّعه للاعتداء أكثر لأنّه يتخيل أنَّ العفو عنه ناشئ من نقطة ضعف، فهنا يعتبر منهج التعامل هو ما ورد في حديث الإمام زين العابدين(ع) في رسالته المعروفة ب(رسالة الحقوق): ((وأما حقّ من ساءك فأن تعفو عنه، فإذا رأيت أنّ العفو عنه يضره انتصرت)) ما يعني أنّك إذا رأيت أنّ العفو عن المسيء يزيده عدواناً وطغياناً، فعليك أن تنتصر لنفسك منه، لأنك بذلك تمنعه من أن يكرر الاعتداء مرة أخرى.
هؤلاء هم أولو الألباب الذين يدرؤون بالحسنة السيئة أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار( )، وهي العاقبة الطيبة. والعقل هو الذي يدفع الإنسان لأنْ يمارس الأعمال والأفعال بما يحقّق للإنسان العاقبة الطيبة؛ لأنّ العاقل هو الذي يفكر بالنتائج الإيجابية لكل مساعيه في الدنيا، وبما يرفع درجته في الآخرة، ليحصل على رضا اللّه سبحانه وتعالى، وهذا ما قصدته الآية الكريمة جَنَّات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ( ). فإنّ العاقبة الحسنة التي يحصل عليها العقلاء ليست لأنفسهم فحسب، وإنما لأهليهم أيضاً إذا أحسنوا تربيتهم استجابةً لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ( )، وقوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا( )، فإذا أحسن الإنسان العاقل تربية أهله وجعلهم من عباد اللّه الصالحين، فإنَّ اللّه سبحانه وتعالى سيجمع بينه وبينهم يوم القيامة.
ونستطيع أن نفهم من تلك الآية، أن الإنسان إذ ابتلي بأبوين ضالّين، أو كان أحدهما ضالاًّ، فإذا كان يحبهما، فإنّ عليه أن يعمل بوسائله المباشرة وغير المباشرة أن يصلح أمر أبيه وأمه في السير على الخط المستقيم. وكذلك فإنّ على الإنسان أن يصلح أمر زوجه وأولاده، فإنّ اللّه سيجمع بينهما يوم القيامة، حيث يتمّ الاحتفال الملائكي، كما يوحي به قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ما يدل على وجود حشود من الملائكة، بحيث لا يسعهم باب واحد سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ( )، ونجده سبحانه اكتفى بكلمة (الصبر)، لأنها تتحرك مع كل مسؤولية، لأنّ كل مسؤولية، سواء كانت وجوبية أو تحريمية، فإنها تختزن متاعبها وتحدياتها، ولذلك لا يمكن للإنسان أن يقوم بمسؤوليته إلاّ بالصبر.
كما نستوحي من تحية الملائكة بالسلام، أنّ علينا أن لا نستبدل تحية الإسلام (السلام)، التي هي تحية أهل الجنة، بالتحيات البديلة التي درج عليها البعض (أهلاً، مرحباً)، لأنّ علينا أن نتدرب على تحية أهل الجنة، ونتدرب على أخلاق أهل الجنة، فليس من أخلاق الجنة (السلام) بكلمات أجنبية أخرى (بونجور)، أو (صباح الخير) أو (مساء الخير) وما إلى ذلك.. أما الذين لا عقل لهم ولا يفكرون بالعواقب ولا النتائج، وإنما يخضعون لأهوائهم وأطماعهم ومزاجهم، وما إلى ذلك.. فقد وصفهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ( ).
وهذا ما ينبغي أن نواجهه في تلك النماذج التي تعطي العهد لله وللناس، ثم ينقضون العهد، ويقطعون كلَّ ما أمر به أن يوصل، فيقطعون الصلة بالمؤمنين، ويقطعون الصلة بالأرحام، وبكلِّ الذين أراد اللّه لهم أنْ يصلوه، ويفسدون في الأرض، سواء كان فساداً ثقافياً أو اجتماعياً أو سياسياً وما إلى ذلك.. فأولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاعنون من الناس، ولهم سوء الدار، وسوء الدار هي جنهم التي يصلونها وبئس القرار. وللحديث بقية في الأسبوع القادم، إن شاء اللّه..
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الخامسة والعشرون24 رجب 1424 ه20/8/2003م
العقل في القرآن (9)
تشريع القصاص (أ)
الأصل في الالتزام الإسلامي هو الخضوع لله ورسوله لكن ذلك لا يمنع من التفكير في العبادات وعلل الحكام
الانتماء إلى الإسلام ووعي الرسالة.
أسئلة الجيل المعاصر.
إعدام القاتل.
تكامل الأديان في قيادة المجتمع.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
الانتماء إلى الإسلام ووعي الرسالة:
يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ). تؤكّد هذه الآية على مسألة العقل من خلال بيانها لحكمة تشريع القصاص، حيث يريد الله سبحانه وتعالى للناس أن يفكّروا ـ بقدر ما يملكون من وعي علمي ـ في الأسس التي ارتكز عليها هذا التشريع أو ذاك، والنتائج التي يمكن أن تتحقق للإنسان وللحياة من خلاله، فلا تكون مواجهتنا للتشريعات مواجهة تعبديّة محضة بدون تفكير، وإنْ كان الأصل في التزام الإنسان الإسلامي هو الخضوع للّه ورسوله في كلّ ما شرّعه الله، كما في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( )، فعلى المؤمنين والمؤمنات أن ينفذوا ما أمر الله به إذا ثبت لديهم أن الله أمرهم بذلك، ولكن هذا النوع من الاستسلام والخضوع للّه سبحانه وتعالى في التنفيذ، لا يمنع من أنه سبحانه يريد للإنسان أن يفكِّر في الجانب التشريعي النظري.
إن مسألة انتماء الإنسان المسلم إلى الإسلام، هي أنْ يكون له وعي الإسلام، بحيث يعيش في داخل وجدانه خطوط الفكرة في هذا التشريع أو هذا المفهوم، كما يملك أنْ يواجه الشُبهات التي قد تُثار ضد هذا الحكم الشرعي أو ذاك. ومن الطبيعي أنَّ ما أشرنا إليه من خلال ما استوحيناه من الآية، لا يمنع أنّنا قد لا نعرف خصوصيّات وعلل بعض التشريعات؛ فنحن ـ مثلاً ـ لا نملك المعرفة، من خلال ثقافتنا، أو من خلال ما عرَّفنا الله ورسوله إيّاه، أي تعليل لاختلاف الصلوات، أو ركعاتها، أو في مسألة بعض خصوصيات أحكام الصلاة – مثلاً – في الجهر والإخفات. نعم، قد عرّفنا الله سبحانه النتائج الروحية والعملية للصلاة في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ( )، فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن لا نصلي الصلاة العمياء التي لا تتمثل في أفعالها وكلماتها وآفاقها، بل لتكون لنا البصيرة في أنْ نخرج من الصلاة كما يخرج الطالب من المدرسة، بحيث يملك ثقافة هذه المدرسة. وهكذا نلاحظ ـ مثلاً ـ في تشريع الصيام، حيث أخبرنا الله عن الحكمة من تشريعه بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( )، فدور الصيام هو أنْ يصنع مناعة روحية وعملية تتجسّد في حركة التقوى في العقل والجسد.
وعلى ضوء هذا، لا بد لنا أنْ نحرِّك أفكارنا في مسألة التشريع، وهذا ليس بدعاً من التراث، حيث نجد في ذلك الشواهد الكثيرة في أحاديث النبي(ص) والأئمة(ع)، حيث كان الكثير من الرواة يسألون الأئمة(ع) عن علل الأحكام، ولم يجدوا عندهم أي موقف سلبي كما يجدونه الآن لدى كثير من العلماء، إذ عندما يسألنا السائل عن علَّة هذا الحكم أو ذاك، فالكلمة التي نواجهه بها أن عليك أن تتعبّد ولا تسأل. ولعلّنا عندما نقرأ (علل الشرائع) الذي جمع فيه الشيخ الصدوق رحمه الله أحاديث الأئمّة(ع) في علل الأحكام، ولاسيّما تراث الإمام علي موسى الرضا(ع) في هذه المسألة، ندرك أنَّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أنْ يبلغ من علم الاجتهاد والشريعة الدرجة العالية، بحيث يستطيع أن يُقدِّم الإسلام إلى العالم على مستوى الأحكام التي تختزن المفاهيم، وعلى مستوى المفاهيم العامّة والنهج الإسلامي في طريقة التفكير.
أسئلة الجيل المعاصر:
وهذا هو الذي يمكننا من خلاله أن نوصل الإسلام إلى الأجيال الجديدة، ولا سيما أن كثيراً من جيل الجامعات اليوم يرسمون الكثير من علامات الاستفهام في كل ما يطرح إليهم، وعلينا أن نعمل بكل قوة في سبيل أن نجيب على علامات الاستفهام؛ لأنها إذا بقيت تعيش في وجدان أيِّ إنسان، فإنها قد تولِّد في داخله أكثر من سؤال، وقد ترسم الشك في حكم شرعي، أو مفهوم إسلامي، أو في منهج إسلامي هنا وهناك. كما أن التراكمات الثقافية الموجودة في العالم وحركتها، تصنع لنا في كل يوم الكثير من علامات الاستفهام، ولاسيما عندما تلتقي هذه الحملة الثقافية بحملة سياسية، يحاول من خلالها أصحاب هذه المحاور السياسية العدائية للإسلام والمسلمين أنْ يستخدموا المسألة الثقافية لإضعاف المسألة السياسية، والإيحاء بأنَّ الإسلام دينٌ لا يمكن أن يصنع الحضارة أو أنْ يرفع مستوى الإنسان. لذلك فالمعركة واسعةٌ، وعلى الذين يحملون رسالة الإسلام أن يعيشوا حالة طوارئ ثقافيّة، فيقرؤون دائماً، ويفكّرون باستمرار، ويسألون في كلّ شيء، لكي يستطيعوا أن يبلّغوا رسالة الإسلام للناس.. ولا يكفي أن يدرس الإنسان شيئاً من العلم ليعتبر نفسه في الدرجة العالية في قيادة العالم الإسلامي. هناك حاجة إلى قيادة ثقافية وسياسية واجتماعية حقيقية بحجم التحديات، وذلك بأنْ تفهم ما يحمله العصر من ذهنيّة وما يعيشه من تطلّعات، وما يركّزه من أساليب وأنماط للحياة والسلوك. وقد ورد في بعض صفات المؤمن، أو الذي يملك القيادة، أنْ يكون ((عارفاً لزمانه))، ومعرفة الزمان ليست معرفة سياسية فحسب، بل هي معرفة كلِّ التطورات التي تتحرك في حركة الإنسان في الزمان.
إعدام القاتل:
ونعود إلى الآية التي صدّرنا بها الحديث، وهي تتضمَّن الحديث عن مسألة القصاص، وبالتحديد مسألة إعدام القاتل، وهي من المسائل التي لا تزال موضع جدل كبير، حتى إن كثيراً من المحاور الدولية، ومنها الاتحاد الأوروبي، تعتبر أنّ إعدام القاتل يُمثِّل انتهاكاً لحقوق الإنسان، ولهذا فإنهم يسجّلون كثيراً من النقاط على هذه الدولة أو تلك لأنها تعدم القاتل، ولهذا رأينا أن الاتحاد الأوروبي اشترط على تركيا التي تلهث لانضمامها إليه شروطاً منها إلغاء تشريع إعدام القاتل، كما أنّ بعض الولايات في الولايات المتحدة الأمريكية تجيز حكم الإعدام وبعض الولايات لا تحكم بالإعدام.
لذلك نحن نجد أنَّ هناك نوعاً من الهجوم على الإسلام، باعتبار أنه يشرع إعدام القاتل، وربما يعتبر البعض أنَّ الإسلام فريد في هذا التشريع بين بقيّة الديانات، ولكن المسألة ليست كذلك، لأننا عندما نقرأ الآيات القرآنية حول هذا الموضوع، نجد أن تشريع الله واحد كما يذكر القرآن الكريم عن التوراة: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ( )، كما نقرأ في آية أخرى وهي تتحدث عن قتل (قابيل) (هابيل)، أن الله سبحانه وتعالى أراد أنْ يجعل من هذه الحادثة تشريعاً على مدى الزمان، باعتبار أنَّ المسألة ليست خصوصية (قابيل) و (هابيل)، ولكنها مسألة الإساءة إلى مبدأ الحياة، فقال تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا( ).
فالقضيَّة ليست بالعدد أو بالكميّة، لأنَّ الذي يتجرّأ على قتل إنسان بريء هو إنسان لا يحترم الحياة، ولذلك فهو يتحمَّل في وجدانه إرادة إنهاء حياة الآخرين، فكان أول تشريع بالمعنى الواسع لذلك في التوراة، وهي رسالة النبي موسى(ع)، حيث لم يكن كذلك من قبل؛ فإننا عندما ندرس رسالة النبي نوح(ع)، أو رسالة النبي إبراهيم(ع)، نلاحظ أنّه لم يكن فيها تشريع شامل، ولذلك فكلمة (الكتاب) غالباً ما تعني كتب التشريع الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن. فالمسألة هي مبدأ احترام الحياة التي تدفع الإنسان لأنْ يعمل على حفظها في نفسه وفي الآخرين.
وعندما نأتي إلى النصارى في نظرتهم لمسألة الإعدام، ربما لا نجد عندهم تصريحاً واضحاً، ولكن التواصل بين شريعة عيسى(ع) وموسى(ع)، يؤكد أنَّ لا فرق بينهما وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ( )، فالتوراة هو الكتاب الذي يصدِّق بكل ما فيه ويعمل بكل ما فيه، وإنْ كانت بعض الأمور قد غيّرها، كما قال تعالى عن لسان عيسى(ع): وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ( )، وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ( )، فإنّ هاتين الآيتين تُمثلان الشاهد من القرآن، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا بتحريف، ولا نقصان، أو زيادة.
تكامل الأديان في قيادة المجتمع:
وعلى ضوء ذلك، نستطيع أن نردّ على بعض الكتّاب الإسلاميين الذين يفرّقون بين دين موسى ودين عيسى(ع)، بأن دين موسى هو أقرب إلى المادية، وأنّ دين عيسى هو أقرب إلى الروحانية، بأنّ هذا القول لا أساس له وغير ذي معنىً، وذلك لأنّ الخط العام للرسالات، يقضي بأن يرسل الله رُسله من أجل أن يوجِّهوا الناس إلى حالة العدل والتوازن وحفظ النظام العام للناس، وإلى تركيز العلاقات فيما بينهم على قاعدة إنسانية، بالإضافة إلى القيم الروحية التي تربط الإنسان بالله، وتفتح عقله وروحه وشعوره عليه، وتحرك كلَّ أوضاعه في مواقفه واختياراته من أجل الحصول على رضاه والقرب منه، على أساس التوحيد الذي هو سر الديانات كلها في القاعدة الإيمانية، ولذلك فإنّ مسألة التشريع تلاحظ تطوّر المجتمع في تنوّع حاجاته وقضاياه وأوضاعه، ما يمثِّل ضرورةً للرسالة: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ( )، فالرسالات والرُسل بأجمعهم إنما بعثهم الله من أجل أن يقوم الناس بالعدل.
والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح هنا: كيف يمكن أنْ يقوم الناس بالعدل وألاّ تكون هناك فوضى؟ ولهذا كنّا نقول في بعض الحوارات والمداخلات للذين يقولون بأن الدين لا علاقة له بالحياة: إنَّ الدين الذي يصوّره الله سبحانه في القرآن الكريم، يؤكِّد أن الدين يعيش في قلب الحياة، وأنه ما من موقع في الحياة إلاّ وللدّين دور فيه؛ لأنَّ أي شيء في الدنيا، سواء في العلاقة مع الله أو العلاقة مع النفس أو الأهل، أو مع الناس، أو مع الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في كل تلك العلاقات يحصل ظلم أو عدل، ورسالة الدين هي رفع هذا الظلم أيّاً كان نوعه.
فهناك أوّلاً ظلم النفس، والذي قد يتمثّل في الشرك بالله والانحراف عنه سبحانه، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله عن لسان لقمان لولده: يا بنيّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( )، وقد قال عليّ(ع): ((للظالم ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظالمين))( ). حيث يؤكّد على مسألة ظلم الإنسان لربّه في معصيته له وعدم التزامه بطاعته، في الوقت الذي يعتبر ذلك ظلماً لنفسه أيضاً. وهكذا عندما يعيش الإنسان في بيته، فقد يظلم الإنسان أبويه، أو أبناءه، وقد تظلم الأمّ أبناءها، وقد يحصل الظلم بين الزوجين، وهكذا على مستوى واقع المعاملات الفردية والاجتماعية والسياسية، فإذا قلنا بأنّ الرسالات تقوم على أساس العدل ورفض الظلم، فمن الطبيعي أن يتحرّك الدين ليأخذ موقعه في توجيه تلك العلاقات وقيادتها.
ولعلّه يحسُن هنا أن نلفت إلى أنّ الله لم يُشرِّع الدين للسماء، وإنما شرَّع الدين للأرض والإنسان، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ( )، وأراد للإنسان أن يقوم بدور الخلافة لأجل أن يعمر الحياة في كلِّ ما يصدق عليه العمران، سواء العمران المادي، أو الروحي، أو الثقافي، وهكذا فالحديث عن أنَّ الدين لا علاقة له بالحياة أو القانون أو السياسة، يمثّل نكتةً وقولاً لا يرتكز على قاعدة علمية.
لذلك، إن مسألة إعدام القاتل الذي يقتل البريء عمداً، هي مسألةٌ دينيةٌ تلتزمها كلُّ الأديان، وليست فقط مسألة إسلامية خاصة، وقد كان الحديث السابق مقدّمةً حول قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ. على أنّ نُوفّق للحديث عن النتائج الإيجابية للقصاص، ثم نعرض للشبهات التي أثيرت ضد تشريع إعدام القاتل وحُرِّكت وقُنّنت لمصلحة البدائل عن الإعدام.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السادسة والعشرون1 شعبان 1424 ه28/8/2003م
العقل في القرآن (10)
تشريع القصاص (ب)
التشريع وضع للتطبيق، وكلما كان التشريع يتحرك مع العناصر الشخصية التي تدفعه إلى التطبيق كان واقعياً
تساؤلات وأجوبة.
صيانة المجتمع.
التربية الفكرية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ). من خلال هذا الحديث، يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نُفكِّر، هل أنَّ القصاص يُمثِّل قانوناً تحتاجه الحياة، ويكون في مصلحة الإنسان؟ وهل ينسجم مع التطوّرات الإنسانية في مسألة معالجة الجريمة بعدما تطوّرت قوانين العقوبات في العالم؟ كيف يتحدّث القرآن الكريم عن القصاص بأنه حياة مع أن القصاص يعدمها؟
تساؤلات وأجوبة:
لا بد قبل الإجابة عن هذا السؤال من الإشارة إلى نقطة، وهي أنَّ التشريع الإسلامي لم يوضع للملائكة، وإنما وُضِع للبشر بكلِّ عناصر شخصيتهم، في نقاط الضعف ونقاط القوة منهم، في المؤثرات الداخلية والخارجية، وقد وُضع التشريع ليُطبّق، وكلما كان التشريع يتحرّك مع العناصر الشخصية للإنسان التي تدفعه إلى الطاعة وإلى التطبيق، كلما كان التشريع واقعياً أكثر، أما إذا كان التشريع يتحرّك بطريقة مثالية محلّقة في الفضاء لا مجال لها للتطبيق الواقعي، فإنه يبقى – أي التشريع – في دائرته النظريّة دون أنْ ينطلق في حركة الإنسان في الحياة.
وإذا كان بعض الناس يقولون إنَّ الاتجاه الإسلامي هو الاتجاه المثالي، وليس الاتجاه المادي، فإنَّ علينا أوّلاً أن نحدّد المراد من الاتجاه المثالي. فتارةً يكون المراد من الاتجاه المثالي هو أنْ يتطلَّع الإنسان إلى القمة تماماً كما يتطلع إلى لوحة فنيّة رائعة ليحدِّق فيها من دون أنْ يحصل على شيء منها سوى هذا الإحساس بالروعة والفنّ والجمال، وهذا يبقى في دائرة التصوّر الشعوري، ولا ينـزل إلى الواقع. ولكن مسألة المثالية التي يُوصف بها الإسلام هي مسألة القيم؛ القيم الروحية وقيم الاستقامة والعفّة، وقيم حفظ حياة الإنسان.. وهذه القيم يمكن لها أن تتحرّك في الواقع لتصبح ظاهرة من ظواهر حركة الإنسان، أو طابعاً لحياته، وذلك بأنْ تحرّك هذه القيم بآلية واقعية تنطلق من داخل قدرة الإنسان وإرادته وإمكاناته، والمؤثرات الداخلية أو الخارجية التي تحكم شخصيته في كلِّ تطوّراتها، وفي كل حركاتها.
إنَّ الله سبحانه وتعالى في تشريعاته كلّها، يريد أنْ يقرِّب الإنسان من شخصية الملاك، لا أنْ يحوّله إلى ملاك، ولذلك أكَّد في القرآن الكريم على صفة البشرية حتى بالنسبة للأنبياء(ع) الذين هم القمّة في العصمة والقيمة وفي كل ما يتصف به الكمال الإنساني.. كما أكّد القرآن رفض المنطق الذي كان يتحدّث به المعارضون للأنبياء، في كلِّ تنوّعات الأمم التي عاش الأنبياء(ع) معها، عندما كانوا يتحدّثون عن رفض الصفة البشرية للرسول، وأنَّ الرسول لابد أن يكون من الملائكة، لأنَّ قضية الاتصال بالله معنى غيبـي، بدعوى أنه لا بدَّ أنْ يكون الشخص الذي يحمل هذه المهمة غيبياً. فكيف يمكن لله أن يصطفي بشراً لهذه المهمة؟ وكيف يمكن أن يرتفعوا إلى ذلك المستوى؟
ولكن الله أراد للأنبياء أنْ يكونوا بشراً، وأنْ يؤكدوا بشريتهم، مع التأكيد على جانب الكمال الإنساني في مستوى القمة في هذه البشرية، حتى ينطلق الأنبياء في إنسانيتهم البشرية الواقعية مع الناس، فيكونون القدوة للناس في التزاماتهم الفكرية والتزاماتهم العملية، ولو كانوا فوق البشر لامتنع ـ بحسب طبيعتهم وموقعهم ـ أنْ يكونوا في موقع القدوة، والله سبحانه يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا( )، فنحن نقتدي بالأنبياء(ع)، لأنهم عندما جسّدوا القيمة الأخلاقية والروحية، فإنهم جسّدوها في مستوى بشريتهم، لأنَّ البشرية بحسب طبيعتها في النموّ والارتفاع، قد تسمو وقد تنكفئ، وهم عندما سموا لم يخرجوا عن البشرية.
وعلى ضوء هذا، لابد لنا من أنْ نفهم التشريع على أساس أنه تشريع الأرض، بمعنى أنّ الله سبحانه جعله من أجل حركة الناس في الأرض، ولم يجعله للسماء، وإنْ كان قد نزل منها، فمثله كمثل المطر الذي ينـزل من السماء إلى الأرض ومن أجلها، وكمثل الضوء الذي ينبعث من الشمس ليتحرّك في الأرض، وإنْ كان الكوكب الذي يمنح هذا النور في السماء، لكن يبقى النور أرضياً، كما يبقى المطر أرضياً. والتشريع وإن كان مصدره الله سبحانه وتعالى، فإنه يتحرّك من خلال العناصر الأرضية الموجودة في الإنسان.
على هذا الأساس، كيف نستطيع أن نقدِّم تشريع القصاص على أساس أنه التشريع الذي ينفتح على مصلحة الإنسان؟
صيانة المجتمع:
في البداية، لنتصوّر أنّ مجتمعاً لا قصاص فيه أبداً، ينطلق فيه الناس على مزاجهم وعلى هواهم، وما إلى ذلك من عناصر سلبية وتعقيدات في شخصية الإنسان.. كيف تكون صورة هذا المجتمع؟ إنَّه مجتمعٌ يعيش الفوضى، ويأخذ فيه المجرم حريته في القتل من دون أن يردعه رادع. والمسألة هي ليست قتل الفرد للفرد فقط، بل هي تتعدَّاه إلى قتلٍ للمجتمع أو لكثيرٍ من أفراده، وهذا ما نلاحظه في الذين يقومون بالجرائم الجماعية من خلال الوسائل التي استحدثها الإنسان، كالقنابل الذرّية أو الصواريخ أو المتفجّرات وما إلى ذلك من الوسائل المدمّرة والمبيدة هنا وهناك.. لو تصوّرنا مجتمعاً كهذا، فيكف تكون حياة الناس فيه؟ إنَّ مجتمعاً كهذا لا يؤمّن للفرد الحياة المستقرّة المطمئنّة، لأنه يعيش في قلق دائم على حياته، سواء في بيته أو في محل عمله أو في كل مسيرته، إذ ليس هناك أيّ رادع يردع المجرم أو المنحرف عن أن يقوم بأيّ عمل يكون هذا الفرد أو ذاك ضحيّة له بشكل وبآخر.
ولعلنا نعرف من خلال بعض التجارب في بعض بلادنا الإسلامية والعربية، أنّ بعض الناس يخشون على أنفسهم من الخروج في اللّيل، أو السير في الطرق الطويلة، لأنهم سوف يصادفون قطَّاع الطرق الذين يقتلون الناس ويسلبونهم أموالهم، لأنه ليس هناك رادع من قانون أو قضاء. وهذا أمر يعيشه الكثيرون في الواقع الذي يعيشه العراق اليوم وهو يرزح تحت الاحتلال، وهو ما يحدّثك به كل من ذهب وعايش الواقع هناك.
لذلك نقول إنّ مسألة إعدام القاتل هي مسألة تتصل بالجانب الردعي للقتل من أن يتحرّك في المجتمع، وتخفّف الدافع عند الذي ينوي القتل من ارتكاب جريمته، وذلك من أجل المحافظة على حياته في نهاية المطاف.. نعم، لا يعني ذلك أنّ عقوبة الإعدام ستلغي الجريمة بنسبة 100%، ولكنها قد تخفف من حصول الجريمة بنسبة كبيرة، وهذا ما نلاحظه في المقارنة بين الدول التي تقنِّن إعدام القاتل والدول التي تمنعُه، مع أنّ بعض الدول التي تقرر إعدام القاتل متخلفةٌ وبدائيةٌ، بينما تُعتبر الدول التي ألغت إعدام القاتل من الدول المتحضّرة..
عندما ندرس اليومَ دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي ألغت حكم الإعدام واستبدلته بعقوبة السجن المؤبد، والتي يعتبرها الناس ـ خطأً أو صواباً ـ في قمّة الدول المتقدمة المتحضرة والمتطوّرة وما إلى ذلك من أوصاف، نجد أن بعض الشوارع فيها لا يستطيع حتّى رجال الأمن أنْ يدخلوها في الليل لسيطرة المجرمين عليها، ولذا يكبر فيها حجم الجريمة، ولعلّ الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية تتقدّم على كثير من الإحصاءات في ما يسمّى بـ (دول العالم الثالث)، لأنّ إعدام المجرم يشكل حالةً قانونيّة رادعة وإنْ كانت قد تطبق بطريقة خاطئة، فيما لا تملك الدول الأخرى وسائل كافية للردع، ولو كان الأمر من قبيل السجن المؤبّد مما سنتحدّث عنه فيما بعد. هذا من الناحية الاستقرائية الواقعيّة.
التربية الفكرية:
أمّا من الناحية النظريّة الفكرية، فربّما يعتقد بعض الناس أنَّ التربية والتوجيه والموعظة يمكن أن تكون البديل عن هذه العقوبة القاسية، لأنَّ الإنسان إذا أخذ بأسباب الحضارة وانفتح على قيم المدنية، فإنه يمتنع عن الإساءة أو عن الجريمة، لأنه سوف يصبح إنساناً قيمياً قانونياً لا يخالف القانون. ولذلك فيمكن لنا ـ باعتقادهم ـ بالنسبة إلى مثل هؤلاء المنحرفين، أو في كل ظاهرة للجريمة في المجتمع، ولاسيما جريمة القتل، يمكن لنا أن نتفادى انحرافهم بالوسائل الثقافية. ولكننا نلاحظ على هذا الرأي، ومن خلال دراسة الإنسان في عناصر ضعفه وقوته، في كل ما ينطلق فيه مما يفعله أو يتركُه، سواءٌ في حياته العائلية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو في حالة الحرب أو السلم.. إن الإنسان بحاجة إلى وجود عنصرين في شخصيّته من أجل أن تستقيم حركته في تنفيذ الأهداف التي يحاول أن يصل إليها:
العنصر الأول: العقل الذي يخطط للفكرة، فيدرس تفاصيلها بسلبياتها وإيجابياتها حتى يحكم في النهاية على هذه الفكرة بالسلبية التي لابد من إبعاد الحياة عنها، أو بالإيجابيّة التي تحتاج إليها الحياة. وفي كلّ الواقع البشري، منذ أنْ كانت البشرية وحتى الآن، يبدأ المشروع ـ خاصاً أو عاماً ـ فكرةً، ثم تتحرّك الفكرة على الأرض لكي يكون المشروع واقعياً. ولكنّ الفكرة لا تكفي وحدَها لتحقيق المشروع ما لم يتوفّر العنصر الثاني.
العنصر الثَّاني: عنصر الإرادة؛ لأنّ تحويل الفكرة إلى واقع يحتاج إلى إرادة تتحمّل كلَّ النتائج السلبية لحركة الفكرة في الواقع، فقد يدخلك المشروع في حرمان نفسيّ، أو حرمان مادي، أو حرمان اجتماعي، أو ما أشبه ذلك، وقد يؤثّر الإحساس بالحرمان على الإنسان، فيضعف إرادته أمام كثير من العوامل الخارجيّة المؤثّرة والتي تدفعه إلى ارتكاب ما ليس له بحقّ، فيظلم الآخرين ويعتدي عليهم أو على حقوقهم.. أو ربّما تنطلق المسألة من بعض العقد النفسية والعوامل الداخلية التي قد تجعله يعيش في مزاجه الرغبة في الجريمة، والرغبة في القتل، بحيث تدفعه وتدفع إرادته نحو الفعل الإجرامي، فيقف من دون حواجز أمام الجريمة، لأنه يعيش غيبوبة عن مراقبة الله له، وغيبوبة عن مراقبة من حوله، وهنا يأتي دور تشريع العقوبات الجزائيّة والحدود، من أجل أن يكون العنصر الخارجي الذي يضغط على الإنسان ليقوّي إرادته في الامتناع، فيعرف أنه إذا قام بهذا العمل، فإنه سوف يُحبس أو يُبعَد أو يُقتل. لذلك عندما انطلق الإنسان في اتجاه الجريمة شُرِّعت العقوبات مع تنوّعاتها واختلافاتها، وذلك من أجل تقوية حوافز الخير في نفس الإنسان وإضعاف حوافز الشرّ فيها، لتتحرَّك إرادته في طريق الخير بعيداً عن طريق الشر.
ولذلك، فإننا نجد نظام العقوبات لدى الشعوب البدائية التي لم تلتق بالحضارة، كما نجدها لدى الشعوب المتقدمة في السُلَّم الرفيع من التقدّم؛ لأنَّ الإنسان يدرك أنه إذا لم يكن هناك قانون للعقوبات، فإنَّ ذلك سوف يفقد الحياة استقرارها ونظامها، كما يُفقد الإنسان الشعور بالاستقرار والأمن والطمأنينة في حياته. وعلى ضوء هذا، يأتي تشريع إعدام القاتل من أجل أنْ يكون العنصر القانوني الخارجيّ الذي يضغط على إرادة الإنسان من أجل أن يتفادى الوقوع في الجريمة.
إلى هنا نكون قد عرفنا الإطار أو القاعدة التي انطلق منها الإسلام في هذا التشريع. وهنا تطرح مسألة إعدام القاتل التي لا تزال محلَّ جدل قانوني وأخلاقي حضاري في كل العالم، وقد أثار الكثيرون عدّة شبهات حول هذا الموضوع، ولا بد لنا أنْ نُفهرس هذه الشبهات، ونجيب عنها من خلال فهمنا لوجهة النظر الإسلامية في هذا التشريع، ولننتهي إلى النتيجة التي أكَّدها الله سبحانه وتعالى في القرآن: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة السابعة والعشرون8 شعبان 1424 ه5/9/2003م
العقل في القرآن (11)
تشريع القصاص (ج)
إن الإسلام ينطلق من خلال النظرة الواقعية لحياة الإنسان، والتي تعمل على حماية الفرد نفسه فضلاً عن حماية الآخرين
شبهات حول إلغاء القصاص.
تفكيك الشبهات.
عقوبة باتجاهين.
الاتجاه الردعيّ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
لا يزال العنوان الذي نبحث فيه، ما ورد في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ). وقد أُثير حول هذا التشريع الكثير من الجدل، سواء في الدائرة الإسلامية أو في الدوائر الأخرى، لأنَّ العالم ـ كما أسلفنا في أحاديثنا السابقة ـ لا يزال منقسماً بين فريق يؤكِّد الحاجة إلى إبقاء تشريع إعدامه، وفريق آخر يعتبر أنَّ هذا التشريع غير إنساني، حتى أنَّ الدولة الواحدة يختلف فيها الحال بين ولاية وولاية أخرى، كما نلاحظ ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نجد أنّ هناك ولايات تُشرِّع إعدام القاتل، وأخرى لا تُشرِّع إعدامه. وقد تمثّل الجدل في شبهات تُثار في مستويات مختلفة؛ فتارة يقدِّم الرافضون للإعدام - كعقاب على جريمة القتل – شُبهاتهم في الدائرة العامّة، وأخرى في الدائرة الإسلامية أو الدينية.
شبهات حول إلغاء القصاص:
وفي هذا المجال، نجد أنّ هناك ثلاث شبهات تُثار حول عقوبة إعدام القاتل، اثنتان منها في الدائرة العامة، وواحدة تتوجّه نحو التشريع الإسلامي وأبعاده على وجه الخصوص.
الشبهة الأولى: أنَّ تشريع إعدام القاتل كعلاج لمسألة القتل كجريمة، يُمثِّل معالجة جريمة بجريمة مماثلة، لأنَّ المسألة في سلوك القاتل هو أنه قام بإعدام حياة المقتول، فإذا كانت فضاعة الجريمة تنشأ من فضاعة إعدام الحياة، فإعدام الحياة موجود في إعدام القاتل. وبتعبير آخر: إذا كان للحياة قدسية، فلا بد من المحافظة عليها أينما وجدت، وأي فرق بين قدسية الحياة هنا وقدسية الحياة هناك؟ وهذا منطق لا يزال يستخدمه الكثيرون في هذا الجدل في العالم.
الشبهة الثانية: عندما ندرس شخصية المجرم في دوافعه للجريمة، فإننا نرى أنَّ هذه الدوافع ليست ذاتية تنطلق من فطرته المجبول عليها، بل هي تنطلق من خلال العوامل العارضة المؤثِّرة فيه، سواءٌ كانت من العوامل الداخلية أو من العوامل الخارجية؛ فهو أشبه بالإنسان الذي تفرض عليه الأوضاع المحيطة به والعناصر البيئية المؤثرة، ذهنية الإقبال على الجريمة. فالجريمة تنطلق من عقدة تفرض نفسها عليه، تماماً كما هو المرض النفسي الذي يخضع له المريض من خلال بعض العوامل الأُسرية، أو بعض العوامل البيئية خارج نطاق الأسرة، أو بعض الصدمات التي تواجهه في حياته، فتهتز شخصيته من الداخل بفعل هذه الصدمة.
وينتهي أصحاب هذا الرأي، إلى أنَّ علينا أنْ نعالج المجرم القاتل؛ أنْ نعالجه بالطرق النفسية، بمعنى أن ندخله المستشفيات النفسية، وأنْ ندرس العناصر المؤثرة في سلوكه، من أجل إبعاد تأثيرها في شخصيته وفي المجتمع، ولا نعلِّقهم على خشبة الإعدام، أو نخضعهم للكرسي الكهربائي، أو ما أشبه ذلك من الأساليب التي يأخذ بها الناس في الإعدام. هذه وجهة نظر تفيد بمجملها أنَّ المجرم مريض نفسياً، تماماً كما هو المريض النفسي، أو كما هو المريض الجسدي، في دراسة أسباب المرض والعمل على أساس معالجتها بما يتناسب مع حاجته لعناصر الشفاء.
أما الشُبهة الثالثة، فهي تتعلق بالجانب الإنساني في الإسلام، أو في الأديان التي تُشرِّع الرحمة. فالإسلام انطلق لتكون الرحمة كل عنوانه، وهو ما أكّده القرآن الكريم في جُملة من الآيات، كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( )، وقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( )، وقوله: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ( )، وقوله عزّ وجل: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ( ). فالإسلام انطلق في كل عمقه وامتداده التشريعي والقيمي من موقع الرحمة، وكانت الرسالة هي الباب الذي ينفتح على الرحمة كلّها.
هذه الرحمة التي تتصف بها كل جوانب التشريع، لا تتناسب مع عقوبة الإعدام للقاتل، بل المناسب أنْ يفتح أمامه باب العفو والتسامح والتراجع عن الخطأ.
هذه الشُبهات الثلاث هي التي يتحدّث بها الكثيرون في الدائرة الإنسانية العامّة وفي الدائرة الإسلامية.
تفكيك الشبهات:
ونحن عندما ندرس جذور هذه الشبهات، فإننا نجد أنَّ المسألة في تفكير هؤلاء، تنطلق من خلال النظرة الفردية التي تعتبر أنّ الفرد هو كل شيء، وأنَّ علينا أنْ نعطي الفرد كل القيمة، وأنْ نحيطه بكل الرعاية والحماية، بكل ما يحقق له السلام؛ فالفرد هو الذي تُوجّه إليه الرحمة، والفرد هو الذي يُتَحَدّث عنه في الجريمة بأنها تسيء إليه وإلى حياته، وعلى هذا الأساس، لابد أنْ نحمي حياة القاتل أيضاً، أو نتعامل معه كمريض، ولابد لنا أنْ نعالجه من أجل مداواته. أما مسألة المجتمع، فلا يلاحظ سلامته، على الأقل بهذا المستوى.
ولكن عندما ندرس الخط الإسلامي في معالجة قضايا الإنسان، على مستوى مفاهيمه وقيمه وتشريعاته، فماذا نلاحظ؟ إننا نلاحظ أنّ الإسلام ينطلق من خلال النظرة الواقعيّة لحياة الإنسان، والتي تعمل على حماية الفرد نفسه فضلاً عن حماية الآخرين، ولذلك حرَّم عليه كل ما يضرّ جسده، وكل ما يضرّ عقله، فلم يعط اللهُ الإنسان الحرية في أنْ يضرّ حياته، كما أراد لهذا الإنسان أنْ يجلب الحماية لنفسه من الآخر الذي يريد أنْ يعتدي عليه، هذا في الجانب الفردي للمسألة.
ولكن في الجانب الآخر، فإنَّ الله كما أراد حماية الفرد، فإنه تعالى أراد حماية المجتمع؛ لأنَّ الإسلام يمثِّل دين التوازن، فقد وازن بين مسؤوليات الإنسان في الدنيا ومسؤولياته في الآخرة، فأراد أنْ لا تؤثر الدنيا على الآخرة، ولا تؤثر الآخرة في تطلّعاتها على الدنيا، وهكذا وازن الإسلام بين الفرد والمجتمع، فجعل حرية الفرد تتوقف عندما تبدأ حرية المجتمع، وأراد أن يخلق حالة التوازن بين سلامة الفرد وسلامة المجتمع، فليس للمجتمع أنْ يضطهد الفرد من خلال مؤسساته، وليس للفرد أيضاً أنْ يسيء للمجتمع. وعلى ضوء ذلك، كان احترام الإسلام للفرد في المجالات التي لا تهدد المجتمع في سلامته، لأنَّ سلامة المجتمع أكثر أهميةً من سلامة الفرد.
عقوبة باتجاهين:
وعلى هذا الأساس، نصل إلى مسألة إعدام القاتل، حيث نجد أنّ هذه العقوبة تتحرك باتجاهين: فهي من جهة ترتبط بحصر المشكلة في إطارها الخاص، أيْ أنّها تريد أن تعالج المشكلة في دائرتها الخاصة، دائرة ما يحيط بالقاتل والمقتول، حتى لا تتخذ شكلاً أوسع من ذلك، بحيث تخلق للمجتمع مشكلة كبرى أكبر من المشكلة التي حدثت، وذلك عندما يقتل شخص شخصاً، فإنّ المسألة لا تنحصر في ما وقع على المقتول من جريمة، ولكنها تتصل بكل ما يرتبط بالمقتول من قرابة أو صداقة أو ما إلى ذلك مما يرتبط الناس فيه ببعضهم البعض في العلاقات. وهذا ما نلاحظه في أنّه إذا قُتل شخص، فإنك تجد العصبيات والانفعالات تبلغ أوجها بحيث قد تخلق فتنة في المجتمع، وتجعل حالة من التوتر تسود في كل أوساط المرتبطين بالقاتل من قبل كل المرتبطين بالشخص المقتول. فإعدام القاتل بنفسه قد ينفِّس كل هذه الحالة النفسية التي تتوتر للتحرك بطريقة انفعالية مجنونة لتقتل بشكل فوضوي. وهذا ما عالجه القرآن الكريم في قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا( ). إنَّ السلطة التي أعطاها الله لوليّ الدم هو أنْ يقتل القاتل، ولا يجوز له أنْ يقتل أي شخص يتصل به.
وعلى الهامش، في ما يتعلّق بهذا الجانب نقول: عندما تريد أن تقيم الحدّ على القاتل بالقصاص، فإنه لا يجوز أن تضربه، ولا يجوز لك أن تعذبه، ولا يجوز لك أنْ تشتمه، أو تهتك عرضه، ولا يجوز لك أن تحرق بيته، ولا يجوز لك أن تعتدي على أي شخص قريب منه، لأنه لا يجوز لك أن تُمثِّل فيه، وكلنا نعرف كيف عالج الإمام أمير المؤمنين (ع) مسألة الجريمة التي وقعت عليه في مسجد (الكوفة) بالنسبة إلى قاتله، حيث جمع كل أقربائه من بني عبد المطلب، وخاطبهم وهو في حالة الاحتضار: ((يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين)).
كما يحدث عند كثير من الناس، حيث يقولون: لا نرضى إلا بأكبر رأس في عائلتهم، ونريد أنْ نجعل الدماء تسيل أنهاراً، لأنّ فلاناً لا يساوى به أحد، مما هو موجود في الجو العشائري وجو العصبيات، بينما نجد عليّاً (ع) يقول: ((ألا لا يقتلنَّ بي إلا قاتلي))، لابد أن تطبق الشريعة حتى بالنسبة لي؛ لأنه لا طبقية في القصاص، يعني أن يقتل أحقر الناس أعظم الناس، ومع ذلك، فإنَّ القصاص يقتضي أن تقتل القاتل بالمقتول، حتى لو كان المقتول في أعلى درجة دينية واجتماعية كما يمثلّه الإمام علي (ع)، ثم عقَّب الإمام علي (ع): ((انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة)) لأنه ضربني ضربة واحدة، فلا تثَنوا ((ولا يُمثَّل بالرجل)) أن تقطعوا يديه أو رجليه، ((فإني سمعت رسول الله w يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور)) ( )..
إذاً هذه العقوبة؛ عقوبة إعدام القاتل، يُراد بها معالجة الحالة النفسية لعصبية الانفعالية التي يمكن أنْ تحدث لدى أقرباء المقتول ضد أقرباء القاتل، وقد تحدث من ذلك فتنة تحرق الأخضر واليابس. وبذلك أراد الإسلام أن يضع المسألة في هذه الدائرة الخاصة حتى يحصرها.
الاتجاه الردعيّ:
أمّا الاتجاه الثاني في قضية إعدام القاتل فهو الاتجاه الردعي، لأنه إذا عرف القاتل أو المقدم على القتل بأنه سوف يُقتل عندما تقبض عليه السلطة الشرعية أو أولياء الدم، فإنه سوف يعيد حساباته، وإذا كان ذلك لا يلغي المسألة من الأساس، فلا إشكال في أنه يخفف الكثير من نسبة وقوعها، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، نستطيع أنْ نركِّز المسألة في الناحية المبدئية، وهي أنّ الله سبحانه وتعالى أرادنا أنْ نقف الموقف المبدئي الحاسم ضد الظلم، ولا إشكال أن الإنسان الذي يقتل إنساناً عمداً من دون أية شرعية للقتل، كما في حالة الدفاع عن النفس، أو عن الوطن أو ما أشبه ذلك.. لا إشكال في أنَّ هذا ظلم للمقتول، ولذلك، فإنّ المسألة تتصل بمواجهة الظلم، لأنك عندما تعمل على أساس أنْ يجد الظالم عقابه على ظلمه، فإنّ ذلك قد يمنعه من الظلم، وهذا هو الذي جاءت به الشرائع الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، فإنها تريد أنْ تقوم بعملية إزالة المنكر بعد وجوده، أو وقاية الإنسان من أن يفعل المنكر، هذا ما يتصل بهذه المسألة.
وعلى هذا الأساس، شرّع الإسلام القصاص، وإنّما شرّع هذه العقوبة ـ والله العالم بأسرار تشريعه ـ من أجل سلامة المجتمع ممن يسيء إليه، وممن يعمل على أساس إيجاد الفتنة في داخله وإسقاط حرمة الحياة العامة له.
تبقى مسألة، وهي هل الجريمة مرض نفسي؟ وإذا كان مرضاً نفسياً، فهل يعني ذلك أن تلغى العقوبة؟ أو أنَّ العقوبة تبقى حتى في هذه الحالة، لأننا إذا أردنا أنْ ندرس كل المجرمين في العالم لنحلّل شخصياتهم، ولنرجع الأمر إلى علماء النفس أو الأطباء النفسيين، فإنهم يعتبرون كل مجرم مريضاً نفسياً، وعندئذٍ علينا أن نغلق كل السجون، وأنْ نلغي كلَّ العقوبات ونملأ العالم بالمستشفيات النفسية، وهذا ما سنتحدّث عنه إنْ شاء الله تعالى في الأسبوع القادم.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثامنة والعشرون15 شعبان 1424 ه11/9/2003م
العقل في القرآن (12)
تشريع القصاص (د)
في مبادئ كل الحضارات في العالم، تُقدم سلامة المجتمع على سلامة الأفراد
جريمة بجريمة.
الجريمة والمرض النفسي.
شمولية التشريع.
دراسة واقع السجون.
بدائل متعددة.
ثقافة السجون.
خطأ القاضي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
هناك عدد من الشبهات التي تثار حول مبدأ الحكم بالإعدام، حيث تعقد هذه الأيام مؤتمرات في أكثر من بلد غربي وعربي لبحث مسألة إعدام القاتل، أو من أجل التأكيد على أنَّ إعدام القاتل لا يحلُّ مشكلة الجريمة في الواقع. وربما تزعم بعض الباحثات أنه ليس هناك إحصائية تقول بأن الجريمة في المناطق التي تعدم القاتل أقل منها في المناطق التي لا يُعدَم فيها القاتل.
جريمة بجريمة:
وقد ذكرنا في ما سبق وجهة النظر التي تُثار في هذا المجال، والتي تركّز على أنّ إعدام القاتل يضيف جريمةً إلى جريمة، لأنَّ القاتل أعدم حياة المقتول، فعندما نعدم حياة القاتل، فكأننا قمنا أيضاً بإعدام حياته، فضممنا جريمةً إلى الجريمة، والجريمة لا تبرر الجريمة.. وقلنا إنّ المسألة ليست كذلك؛ لأنَّ هناك فرقاً بين مسألة حماية حياة الفرد وحماية حياة المجتمع، وقضية الإعدام تأخذ بالاعتبار قضية حماية المجتمع من جريمة الفرد، وعندما يدور الأمر بين سلامة المجتمع وسلامة الفرد، ففي مبادئ كل الحضارات في العالم، تُقدم سلامة المجتمع على سلامة الأفراد، وهذا أمر حضاري عاش مع الإنسان في مدى التاريخ. هذا، مع أنّ هناك فرقاً بين حياة القاتل وحياة المقتول؛ لأنّ القاتل عندما قام بجريمته، فإنه قام بها ضد إنسان بريء، فيقتل زوجته أو أخاه أو جاره أو يقتل شخصاً ضعيفاً، فهو بذلك يقوم بجريمة بحقّ الإنسانية، لأنّ المقتول ليس له أي ذنب يستحقُّ به هذا القتل، بينما القاتل عندما يُعدَم ويُقتَل، فإنه يُعدم على أساس أنه أعدم حياة إنسان لا شرعية في إعدامه، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: أنّه من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً( ).
وأذكر في هذا المجال حواراً بين شخصين حول مسألة قطع يد الإنسان إذا سرق، فإنّه لو اعتدي على الإنسان فقطعت يدُه ثبتت لها الدية، وهي خمسمائة دينار ذهب، ولكن إذا سرق الإنسان بمقدار ربع دينار ذهب، فقد تقطع يده، فكيف تقطع بهذا المبلغ، واليد لا تقاس قيمتها بربع دينار! ولذا نظم أحدهم بيتين من الشعر يقول:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
فأجابه بعض العلماء في هذا المجال، لبيان الفرق بين اليد التي سرقت واليد التي اعتدي عليها، فأجابه:
عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة، فانظر حكمة الباري
وذلك أن هذه اليد المقطوعة والتي تفدى بخمس مائة دينار من الذهب، هي يد أمينة لم تعتد على أحد، فلزم دفع ديتها بهذا المبلغ الضخم؛ لأنها يد أمانة، وأما اليد التي سرقت واعتدت على أموال الناس، فهي يد خائنة، ومن الطبيعي أنْ تختلف حالة الأمانة عن حالة الخيانة.
الجريمة والمرض النفسي:
بالرجوع إلى الفكرة التي لا تزال قيد التداول، وهي أننا عندما ندرس القاتل، فإننا نلاحظ أنَّ الجريمة التي دفعته إلى القتل تمثل مرضاً نفسياً يشبه الأمراض النفسية التي تصيب كثيراً من الناس، ومن الطبيعي أنَّ الأمراض النفسية لابد من أنْ نعالجها بالمصحّات النفسية، ولا نعالجها من خلال إعدام المريض نفسياً، كما لو فرضنا أنّ شخصاً يعاني انفصاماً في الشخصية، أو كان مجنوناً، وأقدم على القتل، فإنّ مثل هذا الشخص لا نقتله، فعلينا أنْ نعالج هذا المرض بأنْ نعالج القاتل بطريقة أخرى غير طريقة الإعدام، لأنَّ المريض لا يُعدَم، بل لا بدَّ من إخضاعه للعلاج. هذا ما يحتجون به لإلغاء عقوبة الإعدام. ونحن نعلّق على هذه الفكرة التي كثر تداولها من جهتين:
الجهة الأولى: إنّ هذه الفكرة غير دقيقة؛ لأنّ مسألة اعتبار الجريمة مرضاً نفسياً ليس أمراً شمولياً؛ إذ ليس كل شخص يقوم بجريمة مريضاً نفسياً، بل قد يكون كذلك في بعض الحالات، ونحن نلتقي بكثير من الناس ممن يمكن أن يقتل نتيجة حالة انفعالية أو حالة طارئة، مع أنه في حياته الطبيعية لا يعيش عقلية الجريمة، فتراه يقتل ويندم بعد ذلك على ما قام به. فكثير من الجرائم تنطلق من أوضاع ـ مثلاً ـ انفعالية طارئة، أو من وضع معيّن كما في التقاليد العشائرية، فإذا قُتل شخص ـ مثلاً ـ من عشيرة معيّنة، فإنّ كل أفراد عشيرة القاتل يكونون مستهدفين من قبل عشيرة المقتول، خصوصاً إذا كان المقتول شخصية لها موقع اجتماعي متقدِّم، وهذا القتل لا يحصل من جهة أنّ القاتل مريض نفسياً، بل ربّما تكون الدوافع من جهة الضغط العشائري، لأنّه لا يريد أن يقف في مواجهة عشيرته، أو ربّما ينطلق في ذلك من أجل حماية عشيرته. فليست مسألة الجريمة تنشأ دائماً من مرض نفسي، بل هناك عوامل خارجية، إما طارئة، أو متجذرة في العادات والتقاليد التي لا تنحصر في دائرته الشخصية، بل في الدائرة الاجتماعية. ولا نلاحظ ذلك في المسألة العشائرية فحسب، بل نلاحظه في كثير من الحالات الحزبية، حيث تنطلق حتى لدى بعض المحاور السياسية المحلّية والدولية، أنه عندما يقتل شخص مثلاً من محور سياسي معيّن، فإنّ هذا المحور السياسي يحاول أن يقتل أشخاصاً آخرين إذا لم يعثر على القاتل.
شمولية التشريع:
فإذاً نحن نريد أنْ نخلص إلى فكرة، وهي مسألة ما يقال إنَّ الجريمة نطلق من مرض نفسي، هذا الأمر قد يكون موجوداً في بعض الحالات، وهذا ما لا نمانع فيه، ولكن على مستوى الحالات الجزئية، وليس على مستوى القاعدة أو الحالة الكلية الشاملة شمولية لكل المواقع في هذا المجال. ونحن نقول إنَّ الإسلام في أصل التشريع، يلاحظ الأمور بشكل عام وشامل، أمّا في عالم التطبيق، فتتم دراسة كل حالة على حدة، لأنّ بعض الجزئيّات التي قد تحمل خصوصيّات معيّنة تمنع من تنفيذ هذا الحكم أو ذاك، ولهذا يتم النظر في حالة المعتدي، فإذا اكتشفنا عنده عقدة نفسية تمنعه من الاختيار بحيث يندفع إلى العمل أو إلى الجريمة من خلال حالة غياب عن الوعي وحالة فقدان الإرادة، أو شخص ـ مثلاً ـ يعاني من انفصام شخصية مثلاً، أو شخص يعاني من خلل عقلي في هذا المجال، أو كان في وضع لم يقصد القتل وإن هدّد به، ولكن حصل منه بسبب كل الأجواء المحيطة به، فإنه لا يعدم.
إنما يُعدم القاتل إذا كان متعمداً مختاراً، بمعنى أنه يملك اختيار أنْ يفعل أو لا يفعل، ولذلك نقول إنّ الإسلام يرى إن كان الجاني مريضاً نفسياً بحيث يشلّه عن الاختيار بنحو يقوم بالعمل في حالة غياب عن الوعي وفي حالة غياب عن الإرادة، فلا مسؤولية عليه في هذا المجال. أما إذا لم يصل الأمر بالجاني إلى هذه الحالة، بل انطلق ـ كما ذكرنا ـ من أوضاعٍ خارجية، فهذا يعتبر مجرماً، لأنه كان يملك ألاّ يفعل أو يفعل، والمفروض في هذه الحالة النفسية أنها لم تصل به إلى حدّ تشلُّ إرادته وتفقده حرية الاختيار. هذا تمام الكلام حول الجهة الأولى.
دراسة واقع السجون:
الجهة الثانية: أنها لا تمنع من إبقاء عقوبة الإعدام في نطاق هذا التشريع للعلاج الحاسم لمسألة الجرائم، خصوصاً تلك التي تستهدف حياة الناس؛ لأنّنا لو فرضنا أنَّ المسألة كانت على ذلك النحو، فكيف نحل مشكلة هذا المرض النفسي الذي دفع إلى الجريمة؟
هناك طرح فردي، وطرح اجتماعي. أما الطرح الفردي، فينظر إلى الفرد كحالة تستوجب العلاج من أجل الحصول على الصحة النفسية التي تبقيه في المستقبل كعنصر حيّ فاعل في الحياة، وأما الطرح الاجتماعي، فيلحظ المسألة الاجتماعية وما يتصل بنظام المجتمع وسلامة أمنه واستقراره، وما إلى ذلك .. نحن ـ هنا ـ علينا أنْ ندرس أنّ هناك حالات لابد أن تخضع للعلاج النفسي في المصحات النفسية، ولكن من الملاحظ أنَّ الإحصاءات الموجودة، لا تتوصل إلى نتيجة، في أنَّ هذا العلاج يحلّ المشكلة، فدعونا ندرس السجون الآن الموجودة، ليس في عالمنا الذي يُسمى عالماً متخلّفاً وعالماً نامياً أو عالماً ثالثاً، بل السجون، في أمريكا، وسجون أوروبا التي قد يقدّم فيها للسجين حسب اختلاف السجون أفضل الوسائل والأساليب في مسألة علم النفس بإشراف علماء نفس وعلماء اجتماع، فإننا نلاحظ أنّ السجناء عندما يخرجون من السجن يعاودون الجريمة، بل ربما تتغلب ثقافة السجناء المجرمين على ثقافة علماء النفس وعلماء الاجتماع، وهذه إحصائية موجودة في هذا المجال. فإذا قلنا بأنّ تلك النظرية استطاعت أن تحلّ المشكلة في الجانب النظري، فإنّ ذلك لا يكفي في علاج المشكلة إذا لم تنضم إليه جوانب تمنع الجريمة أو تمنع المشكلة من الامتداد، بل يمكن أنْ تغذي ثقافة السجن ـ في نفسية هذا السجين ـ ثقافة ضد الناس وضد أمنهم. إذاً، نحن نلاحظ كيف أنَّ السجون لم تستطع أنْ تحلّ المشكلة، لأنَّ هناك أكثر من عامل خارجي وداخلي يعتبر نقطة ضعف في حياة هذا الشخص أو ذاك، ويمكن أنْ يكون ذلك لجهة طبيعة التعقيد الاجتماعي في العلاقات التي تفرض كثيراً من التأثيرات، الأمر الذي يجعل عملية التوجيه بعيدة عن هذه الأجواء، ولذلك لم تمنع البدائل المفترضة لعقوبة الإعدام من بقاء الجريمة.
بدائل متعددة:
ثم علينا أنْ نعرف حقيقة تنضمُّ إلى تشريع إعدام القاتل، لأنَّ مسألة إعدام القاتل ليست شيئاً حاسماً في التشريع، بل جعل الله سبحانه وتعالى قضية إعدام القاتل في دائرة أولياء القتيل وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا( )، وهذا تشريع إسلامي يقول بأنَّ هذا الولي، كما أنَّ له حق القصاص، فإنَّ له حق العفو بالدية أو بدونها، فلم يترك المسألة محصورة في زاوية ـ كما يقولون ـ، بل قال لولي الدم بأنَّ المسألة حقك، فكما أنَّ بإمكانك أن تقتصّ، فإنَّ بإمكانك أن تعفو وَأَنْ تَعْفُو أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( )، أو أنْ تأخذ الدية التي تُمثِّل تعويضاً مادياً عن القتيل في هذا المجال، ومعنى ذلك أنَّ الإسلام لم يغلق الأبواب عن البدائل الأخرى.
ولكن قد يُقال إن البديل عن الإعدام هو السجن المؤبد، كما هو المتعارف الآن في بعض البلاد، خصوصاً الأوروبية وبعض الولايات الأمريكية، على أساس أنَّ السجن المؤبد يبقي على القاتل حياته ويسلط عليه العقوبة بالشكل الطبيعي، فيجمع بين بقاء الحياة وبين مسألة ملاحظة الردع عن الجريمة، لكن إذا أردنا أن نقارن بين إعدام شخص مجرم وبين أن تسجنه مدى عمره، وقد يكون ذلك لمدّة 30 سنة، أو 40 سنة، أو 50سنة حسب سنّه إلى أنْ يموت، فلا يكون الفارق كبيراً، بل ربما يكون أكثر سوءاً، لأنَّ هذا الذي يسجن سجناً مؤبداً، فإنه يموت عشرين مرة كل يوم، لأنه لا أمل له في الحياة، لأنَّ الحياة التي يعيشها هي حياة لا تتضمن العناصر الحيوية والإنسانية التي يحتاجها الحيّ في الإحساس بإنسانيته، ولذلك فإنّ مسألة السجن المؤبد تجعل الإنسان يعيش في حالة موت معنوي وروحي وشعوري دائم، كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت مـن يعيش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء
فالشخص الذي يعيش بلا أمل وبلا قضية، هو الشخص الذي يعيش ككمية مهملة موجودة، إما في زنزانة إذا كان يستحق أن يحبس في الزنزانة، أو مع السجناء الآخرين الذين ربما يسيئون إليه. لهذا عندما نريد أن نقارن الجانب المأساوي بالنسبة إلى السجن المؤبد، فيمكن أن نجد فيه الجانب المأساوي أكثر مما هو في الإعدام.
ثقافة السجون:
ثم هناك نقطة في هذا الاتجاه، وهي أنَّ مسألة السجن المؤبَّد وما أشبه ذلك، ربما – كما قلت – تؤدي إلى أنه عندما يعيش الإنسان في أجواء السجن، فإنه بدل أنْ يكون عنده جريمة واحدة، فإنه يثقف من خلال السجناء المتنوعين بطريقة وبأخرى، بحيث تتنوَّع عنده الجرائم. والنقطة المهمة في هذا المجال، هي أنه لو أخذنا بفكرة أن القاتل مريض نفسياً، فإنَّ هذه القاعدة لا يمكن أن تحصر بالقتل وحده، بل كل الجرائم تقتضي أن تكون كذلك، باعتبار أنَّ الجريمة مرض نفسي،وعندئذٍ يكون السارق ـ مثلاً ـ مريضاً نفسياً أيضاً، وهو الذي يخلُّ بنظام الأمة عندما يقوم بارتكاب الجرائم، كما في الاعتداء على الأعراض وعلى الأموال وغير ذلك .. فعلينا في هذه الحالة أن نفتح مصحات نفسية ونغلق كل السجون، ونلغي كل العقوبات، فإذا كان من غير الممكن أن تشرع العقوبات للأشخاص الذين هم مرضى، كما في الحالات التي ذكرت، فلذلك فإن الذين يتحدثون بهذه الطريقة، في الغرب أو في غيره، هؤلاء ينبغي بحسب نتائج هذه الفكرة، أن يلغوا كلَّ قوانين العقوبات مهما فعل المجرم، حتى لو فرضنا أنه خان وطنه وخان بلده وخان أمته، أو أنه ظلم الناس مثلاً، لأنَّ هذا مريض نفسياً، وهذا ما لا يلتزمون به، ولذلك نرى قانون العقوبات لا يزال موجوداً على جميع المستويات في هذا الموضوع.
خطأ القاضي:
قد يقول البعض إنَّ هناك فرقاً بين الإعدام وبين العقوبات الأخرى، لأنّنا نلاحظ أنَّ القاضي الذي يصدر حكم الإعدام ليس معصوماً، فقد يخطئ في قضائه، وقد يحكم على شخص بالإعدام في الوقت الذي قد يكون هذا الشخص بريئاً، فإذا أعدمناه، فلا مجال لتصحيح الخطأ، ولكن إذا فرضنا أننا قمنا بسجنه ـ ولو مؤبّداً ـ فإنه يمكن تصحيح الخطأ عندما ينكشف خطأ القاضي. ولكن الردّ على هذه الفكرة، هي أنَّ قضية خطأ القاضي قد يمتدُّ امتداداً بحيث لا مجال لتصحيح أخطائه في هذا المجال، ونحن نعرف الآن أن شخصاً يمكن أن يموت في السجن، وبعد 20 أو 30 سنة يتبين أنّ هذا الرجل كان بريئاً. ونقرأ الآن في بعض الحالات يقال بعد 100 سنة عندما يبحث المحققون عن هذا الشخص ويعيدون النظر في محاكمته، سيجدون أنه قد أخطأ القضاة بالحكم عليه، وأنه بريء.
من الطبيعي أن يخطئ القضاة، سواء في الأشياء الصغيرة أو الكبيرة، لأنّ القضاة ليسوا معصومين، ولأن القضاة يتحركون ويحكمون من خلال المعطيات الموجودة بين أيديهم، حتى في الإسلام. وقد ورد حديث نبوي شريف يقول: ((إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، فربما يكون أحدكم ألحن بحجته))( ) يعني عنده إمكانية الدفاع أكثر من الآخر، بحيث اقتنع به، لأني ـ والحديث لرسول الله(ص) من حيث المضمون ـ لا أحكم بعلم الغيب، ولا أحكم بالوحي، وإنما أحكم بحسب المعطيات، لأنّ هذا هو النظام الذي لابد أن تسير البشرية عليه، فربما يقدِّم لي أحدكم معطيات أجد معها أنه هو صاحب حق، في وقت لا تكون فيه هذه المعطيات صحيحة، لا لأني ـ بحسب حديث رسول الله(ص) ـ أخطأت بصفة نبوية، ولكن لأنّ المعطيات غير صحيحة، ولذا يقول الرسول(ص): ((فمن اقتطعت له من أخيه شيئاً فإنما أقتطع له جذوة من النار))( ) فلا يقول أحد إن النبي حكم لي، لأنه إذا كان يعرف أنه ليس صاحب حق، فإن حكمي ليس كوني نبياً، وإنما بصفتي قاضٍ يخضع للمعطيات القضائية بالأيمان والبينات. إذاً مسألة خطأ القضاة هذه مسألة يفرضها طبيعة اعتماد القاضي على المعطيات الموجودة بين يديه، لأنَّ القاضي ليس معصوماً. وعلى هذا الأساس، يدور الأمر بين أن نلغي القضاء كلياً، لأنه قد يقع الخطأ فيه من القاضي، وبين أن نتقبل ذلك ونعتبر أنَّ الأخطاء تمثل السلبيات، ولكن إيجابياته أكثر. هذه وجهة النظر في هذا الموضوع، ربما يبقى للكلام بقية.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة التاسعة والعشرون22 شعبان 1424 ه18/9/2003م
العقل في القرآن (13)
شبهة تنافي (الإعدام) و(الرحمة)
الرحمة في الإسلام ليست الشفقة، بل المصلحة، ولذلك كانت عقوبات التشريع الإسلامي رحمة للعالمين
شبهة الرحمة والإعدام.
الرحمة في إطارها الصحيح.
نسبيّة الرحمة.
الخبيث والطيب.
القيمة الأخلاقية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين.والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
شبهة الرحمة والإعدام:
لقد أثيرت الشُبهات حول عقوبة الإعدام في الإسلام، واعتبروا أن ذلك منافٍ للرحمة التي أتصف بها الإسلام، وقد عبَّر اللّه سبحانه وتعالى في الحديث عن رسوله أنه رحمة للعالمين، فقال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( )، وقال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( )، وقد كان الرسول رحمةً في عناصر شخصيّته، ورحمةً في عناصر رسالته، ورحمة في أسلوبه في الدعوة ، وذلك قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ( )، كما أنّ طابع المجتمع الإسلامي هو طابع الرحمة، فالرحمة والتراحم والتعاطف هي عناوين المجتمع الإسلامي، كما أنّنا نلاحظ أنّ الله سبحانه اعتبر رحمة المؤمنين بعضهم ببعض وصيّةً لهم في كل مواقعهم، فقال عزّ وجل: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ( )، فإذا كان الإسلام دين الرحمة، فليس من الرحمة –كما يقولون –أنْ تقتل إنساناً حتى لو كان قاتلاً، لأنّ الرحمة تقتضي التسامح والعفو.
وعلى ضوء هذا، فإن ّ المفروض في التشريع الإسلامي، بحسب زعمهم، هو أنْ يتمَّ العفو عن المجرم، وذلك أن يعفو ولي الأمر أو أن يتحرك التشريع لإيجاد تشريعات تنطلق من الرحمة، لا تشريعات تنطلق من القسوة، وهذا هو برأيهم ما ينسجم مع الطابع العام للإسلام، وهو طابع الرحمة.
الرحمة في إطارها الصحيح:
ولكننا عندما ندرس مسألة الرحمة بحسب امتداداتها الواقعية في حياة الإنسان على المستويين الفردي والاجتماعي، فإننا نجد أنّ الرحمة تُمثِّل حالةً إنسانية يريد الإسلام للإنسان أنْ يعيش من خلالها السمّو في روحيته، بحيث يعفو المعتدى عليه عن حقّه من موقع قدرته على أخذ الحق، فهذا يُمثِّل القمة كلَّ القمة.ولكن هذه الدرجة من السموّ الأخلاقي التي تجعل الإنسان يتنازل من خلالها عن كلّ حقوقه لمن يضطهد حقوقه، ليست واقعية دائماً، وهي وإنْ كانت تُمثِّل عنواناً أخلاقياً في درجة السموّ الروحي، فهو مما لا يمكن أن يتطلع الناس إليه ليأخذوا به في ما يعيشونه في أوضاعهم النفسية؛ لأنَّ الحياة لا تقوم على ذلك؛ إذ لا يمكن أن نقول إنّ على الناس كلهم، وبنحو الإلزام، أنْ يسامحوا القتلة والمجرمين، بحيث لا يجوز لهم أن يعاقبوهم، ولا يجوز لهم أن يقتصّوا منهم.
إنّ سيادة مثل هذا التشريع الذي يجعل التسامح مبدأ التعامل مع القتلة والمجرمين والمفسدين في الأرض، سببٌ في خراب الحياة، فهو يجعل الإنسان يعيش في مناخٍ من الفوضى الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ لأننا إذا سلَّطنا المجرمين والقتلة والمفسدين في الأرض على الناس، ولم نعط للناس أية فرصة في التشريع ليمنعوا أنفسهم منهم أو ليعاقبوهم، فإنّ الحياة تكون ساحة للمجرمين، وهذا ما لا يمكن أنْ يقوم عليه نظام متوازن في مصلحة الإنسان.
لذلك عندما تُدرس مسألة الرحمة، فإن علينا أن لا ندرسها على الأساس الفردي في الاستغراق في طبيعة هذا الفرد المجرم أو ذاك، بل علينا أنْ ندخل في مقارنة بين أنْ نحفظ حياة المجرم القاتل أو أنْ نحفظ حياة الأمة والمجتمع والنظام العام للناس، لنحدّد أيُّهما أهم.ومن الطبيعي أنّ العقل يؤكِّد على أهمية المجتمع في هذا المجال، وهذا ما يذكره علماء الأصول في باب التزاحم، حيث يقولون: إذا تزاحم الأهم والمهم، فإن العقل يقول بتقديم الأهم على المهم.وقد قال اللّه تعالى في كتابه العزيز: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( )، بمعنى: فكِّروا بعقولكم واستنطقوها، هل أنّ في القصاص حياةً للناس جميعاً، وهي أهمُّ من حياة القاتل، أو أنّ القضية بالعكس؟ إن الإتيان بقوله {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)} فيه نوع من الإشارة إلى التفكّر في مسألة التشريع وفي مسألة النظام العام، وفي مسألة كل أنماط السلوك في المجتمع، فالرحمة في الإسلام ليست نبضة قلب، وليست خفقة شعور، بل هي حركة من أجل أن يعيش الإنسان في حياته على طبق ما يصلح أمره، ويبتعد عمّا يفسد أمره، ولا بأس أن نقول إنها منهج ونظام وليست مجرد حالة عاطفية.ولا بأس أنْ نضرب هنا مثالاً لمسألة التزاحم في الرحمة بين الجزئي والكلي، إذ من الطبيعي أنك عندما تقطع رجل إنسان، أو تقطع أحد أعضائه، فهذا يعتبر قسوة، ولكن إذا كان ثمة مرض في رجل الإنسان، أو في يده، أو في أحد أعضائه بحيث لو بقي هذا العضو لقتل الإنسان، فإننا نلاحظ أنّ قطع هذا العضو من هذه الحالة لا يعتبر قسوة، بل رحمة، والقسوة أنْ نُبقي هذا العضو، وعليه فلا يُقال إنّ من الرحمة إبقاء هذا العضو، لأنه عندما يحدث تزاحم بين عضو في الجسد وبين الجسد كلّه، فإن العقل يحكم أن رحمتك بهذا الإنسان أنْ تقطع رجله أو أن تقطع يده..
ولذلك نجد أن العمليات الجراحية التي تقطع فيها الأيدي والأرجل وما إلى ذلك مما يشكل خطراً على الحياة كلها، نجد أن كلّ العالم الحضاري يوافق عليها، ويعتبر الإنسان الذي يرفض قطع عضو خطِرٍ عليه أنّه يلقي بنفسه إلى التهلكة.
نسبيّة الرحمة:
إذاً مسألة الرحمة مسألة نسبية، فعندما تكون المسألة مسألة الحق العام الكلي للأمة، عند ذلك تتقدم هذه المصلحة على الرحمة في الجزئي وفي الخاص وفي الفرد.وهذا أمر إنساني نلاحظه لدى كلِّ الحضارات في مسألة الحروب، حيث يرى العقلاء أن الحرب إذا كانت أهدافها تتّصل وترتبط بمستقبل الأمة، فإنها تعتبر مشروعةً، مع أنها قد تنتج بعض المآسي، وقد يسقط فيها الأبرياء خطأً، ويمكن أن يسقط فيها أطفال، ويمكن أن تدمر المساكن وغير ذلك، ومن الملاحظ أن الناس في كل الحضارات على مستوى القيم الإنسانية، لا على مستوى القسوة الذاتية النفسيّة، تشجع على خوض الحروب، بغضِّ النظر عمّا إذا كانت أهدافها أهدافاً سليمة أو غير سليمة عندنا، ولذلك نجد أن الإسلام قد شنَّ حروباً كثيرة، وكان يعرف أنّ هذه الحروب تنتج نتائج مأساوية في هذا الجانب المحدود أو ذاك.
وعلى ضوء هذا نقول: إنّ الفكرة التي تنتقد مسألة القصاص بأنها خلاف الرحمة، يطلقها من لا يعرفون معنى الرحمة في الإسلام؛ لأنها ليست الشفقة، بل المصلحة.ولذلك كان كل التشريع الإسلامي مع ما فيه من عقوبات ومع ما فيه من مشاق ومتاعب، كان رحمة للعالمين.
على ضوء ما تقدم، نجد أنّ تشريع القصاص هو تشريع في مصلحة الإنسانية كلها، وهو الذي يحفظ حياة المجتمع من خلال عدوان الفرد، وأنّ الرحمة إنما جعلها اللّه لمن يرحم الناس، وأما من لا يرحم الناس، من المفسدين في الأرض، أو من القتلة والمجرمين، فهؤلاء لا يستحقون الرحمة إلا بشروط خاصّة تتناسب مع حركة المصلحة في الواقع من خلال بعض الظروف، وهم تماماً كالعضو الذي يُمثِّل بقاؤه خطراً على الحياة كلها.
الخبيث والطيب:
وفي مجال آخر، وتتمّةً للآيات التي خاطب الله من خلالها الإنسان من حيث عقله ولبّه، نجد قوله تعالىقُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( )، فإن هذه الآية تطرح موضوع الخبيث والطيب في الحياة، وتحاول إيجاد القاعدة في التفاضل بينهما، وأنهما لا يتساويان، وكلمة (الخبيث) كلمة تعبّر عمَّا يستقذره الإنسان، سواء كان من المأكل أو المشرب أو ما لا يتناسب أو لا ينسجم مع العناصر التي تعتبر أساسية في حياة الإنسان وفي كلِّ أوضاعه: وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا( ).
وعلى ضوء هذا، فإنّ مفردة (الخبيث)هي من الكلمات التي تشمل ما تتمثل فيه العناصر التي تفسد حياة الإنسان في جميع مجالاته، ومقابله "الطيب" الذي يستطيبه الإنسان ذوقاً وعقلاً، ومعاشرةً ومصلحةً، وهو بعبارة أخرى، كل ما يصلح هذه الحياة، فهناك فكر طيب، وهو الذي ينفتح بالإنسان على حركته في التقدم والنمّو والحصول على الدرجات العالية، ويخطط لما يصلح نظام حياته، بالإضافة إلى ما يقبل عليه من أمر الآخرة في ما يستقبله من طيب الآخرة، بينما الفكر الخبيث هو الفكر الذي يسقط الكثير من العناصر الحية في حياة الإنسان، ويسيء إلى مصيره في الدنيا وفي الآخرة.
وهناك الشخص الخبيث والشخص الطيب، وهذا ما ذكر في عالم الزواج، كما جاء في قوله تعالى: الخبيثاتُ للخَبيثِنَ والخَبيثُونَ للخَبِيثَاتِ والطَّيِباتُ لِلطَّيِّبين والطَّيِّبونَ للطَيِّبات( )، فهناك الخبيث الذي يعيش العقدة تجاه الناس وتجاه الحياة، ولا ينفتح بالخير في كل سلوكه وفي كل تصرفاته وأوضاعه، وهناك إنسان طيب، وهو الإنسان الذي يحمل في قلبه المحبة للناس من خلال المحبة للّه والمحبة للخير والعدل والحق، والتحرك في هذا الاتجاه ليملأ الحياة حقاً وخيراً وعدلاً، وليعمل على رفع مستوى الناس في كل أمورهم.وتمتد المسألة ليكون هناك اقتصاد طيّب وخبيث، وسياسة طيبة وخبيثة، واجتماع طيب وخبيث؛ لأن المفهومين يمثلان مفهوماً واسعاً يتحرّك في أكثر مفردات الحياة سلباً أو إيجاباً.
وعندما خاطب اللّه سبحانه وتعالى أولي الألباب بقوله: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، فلأنه يريد أن يركز على نقطة لعلها شائعة عند الناس، وهي أنّ الناس قد يتّبعون الأكثرية بحسب الطبيعة النفسية التي تحاول أنْ تجد الأمن مع الأكثرية، لأنّ السير مع الأقلية يشعرها بالعزلة وعدم الطمأنينة والخوف، من دون دراسة لعناصر مضمون هذا ومضمون ذاك.
ولذلك نرى الكثيرين من الناس عندما يأخذون بأسباب الفساد ويعصون الله، يتذرعون بأن المجتمع هو هكذا، فالناس يتقاضون فيه الرشوة فيه وتنتشر فيه الخيانة والكذب وعدم الإخلاص وعدم الصدق، فيقول: "أنا لا أستطيع أنْ أعيش وحدي فكل الناس هكذا، فهل أكون وحدي؟ هذا المنطق موجود لدى الكثيرين..فالآية تؤكد أن كثرة الخبيث لا تجعل هنا أي إمكانية في صلاح المجتمع، لأن عناصر الخبث هي عناصر الفساد، فكلما كثر الآخذون بالخبث، كلما اتَّسعت دائرة الفساد، فلو فرضنا أنّ مليون شخص يمارسون الأعمال الفاحشة، مثل اللصوصية أو الخيانة أو التجسس على أمتهم أو ما إلى ذلك، فمن الطبيعي أن ذلك ينعكس على الإنسان الذي يقلّدهم ويتّبعهم في ذلك.
القيمة الأخلاقية:
فالمسألة هي أنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول أنت عندما تريد أن تأخذ بأيِّ موقف وتنفتح على أي عنوان من العناوين الإنسانية أو القيمية، ادرس طبيعة العنوان، هل في هذا خير لك أم لا؟ أمّا أن الناس تعمل بهذا أو لا تعمل ؟ فهذا لا يمثل القيمة الأخلاقية؛ لأنّ المهم قضيّة النوع، وعلى الإنسان أنْ يدرس النوعية ولا يدرس الكمية؛ لأن القضية تتّصل بالنتائج الإيجابية أو السلبية المرتبطة بحياته الفردية أو حياة المجتمع من حوله من خلال مؤثّراته على أفراده، وهذا هو الذي عبّر عنه الإمام أمير المؤمنين(ع)في أن على الإنسان أنْ يعيش الحقَّ ليكون الحق أنيسه، وذلك أنْ تشعر أنّ فكرك هو فكر الحق، وأنّ سلوكك هو سلوك الحق، حتى لو لم يأخذ الناس به، لأنّ الغنى إنما هو في هذه القيمة التي تختزنها في كيانك ووجودك، أما أنْ تقلّد الناس في ما يضادّ القيمة، فهو أمر مرفوض، فهل أن الناس يدركون الحقيقة أكثر منك؟ والمفروض أنك أدركت الحقيقة، وهل أنّ هؤلاء الناس يمثلون العصمة؟
ولذلك كانت المسؤولية مسؤوليةً فردية في الإسلام، فأنت المسؤول، وعليك أن تحرز عناصر مسؤولياتك، وهذا ما قاله الإمام(ع) في (نهج البلاغة): ((لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة سالكيه، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل))( )، وكلمته أيضاً في بعض وصاياه: ((لا يؤنسنّك إلا الحق ولا يوحشنّك إلاّ الباطل))( )، وكانت كلمته التي يعبر فيها عن نفسه بأنه الإنسان الذي اغتنى باللّه واغتنى بالحق في كل كيانه: ((لا تزيدني كثرة الناس حولي عزةً ولا تفرِّقهم عني وحشة))( )، أي أنا أشعر بالعزة حتى لو كنت وحدي، لأني أثق بأنّ عناصر العزة هذه تجتمع في شخصيتي من خلال اقتناعي وعلاقتي بالله سبحانه وتعالى، ولو فرض أن الناس كانوا يجتمعون عليّ، فإن ذلك لا يزيدني ثقةً بنفسي، لأن الناس هم أناس آخرون لا يملكون العصمة ولا يملكون ما أعيشه من معنى القيم في قناعاتي.
لذلك، فإنَّ الإسلام يؤكِّد أنّ الأكثرية ليست دائمة مع الحق، كما أنّ الأقلية ليست دائماً مع الباطل، ولكن على الإنسان عندما يقف بين الأكثرية والأقلية، أن يدرس الأمور في نصابها الطبيعي، وأنْ يدرس عناصرها في هذا المجال، ولذا يقول اللّه سبحانه وتعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ فانظر إلى الأمور بحسب طبيعتها الفكرية والواقعية، ولا تنظر إلى الصورة فحسب، بل انظر إلى ما تختزنه الصورة من عناصر، قد تكون خيراً أو قد تكون شراً.
والحمد للّه ربّ العالمين.
المحاضرة الثلاثون29 شعبان 1424 ه2/10/2003م
العقل في القرآن (14)
امتدادات الخبيث والطيّب
المقياس في التزام الإنسان هو أن يدرس العناصر الكامنة في الأشياء لمعرفة خبيثها من طيبها
تمييز الخبيث والطيّب.
استيحاء الآية في مسألة الديمقراطية.
القيادة في الإسلام تحت القانون.
امتدادات الطيِّب والخبيث.
العقل هو الحجّة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين.والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء اللّه المرسلين.
تمييز الخبيث والطيّب:
كنّا نتكلَّم حول الآية الكريمة في قوله تعالى:قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( )، وتطرقنا إلى هذين المفهومين، أعني (الخبيث والطيّب)، وأكّدنا أنهما مفهومان ينطبقان على كل شيء متحرّك في حياة الإنسان، سواء كانت المسألة تتصل بالشخص، أو تتصل بالفعل، أو تتصل بحركة الناس في الحياة ممّا يزرعونه، أو مما يصنعونه، أو مما يتحركون به في خطوط الحكم.
والفكرة التي أرادت هذه الآية الكريمة للإنسان أنْ يعيشها في داخل عقله، هي أنّ المقياس في التزام الإنسان ـ في أيِّ شيء ـ هو أنْ يدرس العناصر الكامنة في هذا الشيء أو ذاك، هل هي عناصر تغني الحياة أو تفقرها؟ تحل المشكلة أو تنتجها؟ هل تشارك في رفع مستوى الإنسان أو تعمل على خفض مستواه؟ وهكذا في كل امتداداتها في الحاضر والمستقبل؛ لأنّ اللّه عندما خلق هذا الكون، فإنه خلق بحكمته في كل ظاهرةً من ظواهره عناصر إيجابية وعناصر سلبية، حسب ما اقتضته حكمته في ذلك، فعالمنا هو العالم المحدود.وربما يخيل للبعض أن هناك شيئاً هو سلب مطلق، ولكنه عندما يدرسه في آثاره وفي امتداده، فإنه يشعر بوجود إيجابيات فيه إلى جانب عناصره السلبية وهذا ما نلاحظه في انطباع الناس ـ بشكل عام ـ عن الزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات وما إلى ذلك، مما يخلّف نتائج سلبية على مستوى الإنسان وعلى مستوى العمران وعلى مستويات أخرى.
ولكننا عندما ندرسها، نجد أنّ هذه الظواهر السلبية في بعض عناصرها قد يحتاجها الإنسان وتحتاجهاالحياة في اتجاه آخر، لأنها قد تنضج بعض الأوضاع أو بعض المناخات، أو تُهيئ الأرض إلى مواسم جديدة، فكل ظاهرة تختزن في داخلها عناصر تتصل بالخطوط العامة للإنسان في نظامه، وللكون في نظامه.وبما أن كل إنسان يختزن في شخصيّته وسلوكه عناصر إيجابية وأخرى سلبية، فلا بد له أنْ يدرس هذه الظواهر وغيرها في خصائصها الذاتية، ليحكم عليها بأنها خبيثة أو طيّبة، بعيداً عمّا يراه الناس في ذلك؛ لأنّ الناس ـ في التزامهم بهذا الخطّ أو ذاك الشخص، أو بهذا العمل أو ذاك ـ ينطلقون في كثير من الحالات من أوضاع ذاتية، أو من موقع ذهنية سطحية، أو من موقع حالات شعورية معيّنة أو انفعالية تتحرك في مناخ الانفعال، أو في مناخ الحساسيات، أو ما أشبه ذلك، ولا ينطلقون من خلال دراسات دقيقة وعميقة لطبيعة العناصر في هذا الاتّجاه أو ذاك.
وفي قوله تعالى:قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، فإن في كلمة ولو أعجبكإيحاء بأنه عليك أن لا تلتزم بكل ما يعجبك؛ لأنّ الإعجاب قد يكون حالة في السطح ينجذب إليها الإنسان بمشاعره وأحاسيسه، ولابد للإنسان من أنْ يكون إعجابه حركة في الفكر، فيما هو حركة في الواقع، ليتعقلن شعور الإنسان في إعجابه بالشيء وعدم إعجابه به؛ إذ المطلوب من الإنسان أن يخلق في نفسه التزاوج بين العقل والعاطفة، بحيث ينفتح العقل على العاطفة لتعطيه العاطفة ليونتها ورقّتها، وتزيل كل هذا الجمود المتحجر في الأسلوب، ولابد للعقل أيضاً أن يعطي للعاطفة شيئاً منه من أجل أنْ تتوازن العاطفة وتتحرك في العمق، لا أن تطفو على السطح.
استيحاء الآية في مسألة الديمقراطية:
وهذا ما قد يطّل بنا على ما تعارف عليه الناس في مسألة الديمقراطية، وهي الخط السياسي الخاضع لمبدأ الأكثرية، والذي يأخذ به في كثير من الأوضاع السياسية والاجتماعية والحزبية والاقتصادية وما إلى ذلك، حيث إن قانون الأخذ بالأكثرية هو القانون الذي يجري عليه الناس اليوم، حتى أصبح الحديث عن الديمقراطية حديثاً عن مسلَّمة فكرية إنسانية، كما لو كان الإنسان يتحرك بين خطين:إما الدكتاتورية أو الديمقراطية.ومن الطبيعي أن لا يختار الإنسان الدكتاتورية، لكن هل المسألة كذلك؟ لابد لنا أنْ نناقش هذه المسألة إسلامياً بعيداً عن كلِّ حالات الانفعال والحماس من خلال المنهج الذي حصلنا عليه استيحاءً من هذه الآية الكريمة، وذلك في عدة نقاط:
أولاً:إننا عندما ندرس الديمقراطية في قاعدتها الفكرية، فإننا نرى أنّ النظام الديمقراطي يؤكِّد أنّ الشرعية في كل شيء تتحرك من خلال الأكثرية، أو أنها تتركز على أصواتهم، فكل شيء تعطي الأكثرية أصواتها لحسابه يمثّل الشرعية، وكل شيء لا توافق عليه الأكثرية هو غير شرعي.وهذه القاعدة الفلسفية للنظام الديمقراطي تنسحب إلى التشريع والسياسة والاقتصاد والحرب والسلم وما إلى ذلك..هنا نأتي إلى الجانب الفكري الإسلامي ـ ومن خلال وجهة النظر الديمقراطية ـ لو أنّ الأكثرية لم تصوِّت للإسلام، فإنّ الإسلام في هذه الحالة يفقد شرعيته القانونية والسياسية، وإنما تكون له الشرعية لو صوَّتت الأكثرية لصالحه، بمعنى أنّ الإسلام لا يؤخذ كحقيقة تعيش عناصرها في داخل الإنسان من خلال ما ينتج عنه في علاقته باللّه وعلاقته بالإنسان وعلاقته بالحياة وامتداده في حفظ النظام الكوني وحفظ النظام الإنساني وما إلى ذلك..وهذا أمر لا يوافق عليه الإسلام كدين؛ لأنّ الإسلام يرى بأنّ ما جاء من اللّه سبحانه وتعالى ومن رسوله هو الحق، بقطع النظر عن اختلاف الاجتهادات وآراء الناس، لأنّ الأساس هو ما جاء من اللّه ورسوله، لأنه يمثِّل الحقيقة المعصومة.
أما الاجتهاد فإنه ليس معصوماً، ولذلك لو فسَّر غير المعصوم القرآن، فإننا نناقش تفسيره، كما لو أنّ مجتهداً أو عالماً ناقش في سند رواية عن الرسول(ص) مثلاً، ولكن للإسلام حقيقة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ( )، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ( )؛ لأنّ الإسلام بمعناه العام يتسع للرسالات كلّها.فلكل رسالة إسلامها، حتى ينتهي الأمر إلى الرسالة الخاتمة التي جمعت كل إسلام الرسالات.
ثانياً:إن في تفاصيل النظام الديمقراطي أن الأكثرية لو صوَّتت على إباحة المحرَّمات، أو على تحريم المباحات أو الواجبات، كما هو الآن في بعض الدول الإسلامية وبعض الدول الغربية من منع الحجاب وما إلى ذلك ..فإن ذلك كافٍ للتحليل أو التحريم.أما الإسلام، فإنه يرفض هذا المبدأ المفضي إلى تحليل الحرام كإباحة الخمور، أو إباحة دور الزنى وما أشبه ذلك، رضي الناس أو لم يرضوا، وهذا مائز كبير بين الديمقراطية والرؤية الإسلامية على مستوى التفاصيل.
ثالثاً:في المسألة السياسية؛ إذ يمكن أن نطبّق مبدأ الأكثرية في نطاق الشورى، خصوصاً عندما يدور الأمر بين الديكتاتورية والشورى، حيث إن الديكتاتورية مرفوضة إسلامياً، إلا أنّ ذلك لا بدّ أن يتمّ ضمن ضوابط الثوابت، حيث إن هناك ثوابت إسلامية مُسلَّم بها عند المسلمين جميعاً، ولذلك، فإن الأكثرية عندما تقبل بوضع الأوراق في صندوق الاقتراع، لابد أن يكون العنوان الكبير لما يراد للناس أنْ يصوِّتوا عليه هو احترام الإسلام، سواء كان عند انتخاب قيادة إسلامية أو انتخاب ممثلين للناس في بعض القضايا التي تتصل بالتشريع أو تتصل بالمصالح العامّة أو بمعرفة المصلحة أو المفسدة أو ما إلى ذلك..ولذلك لابد أن تُذكر الشروط الشرعية للأشخاص الذين يشرفون على تنفيذ ذلك، ولا يُترك الإنسان ليصوّت لصالح الكفر والكافرين.
القيادة في الإسلام تحت القانون:
ونحن عندما ندرس كلَّ الخطوط الإسلامية، فإننا لا نجد في القيادة ـ إسلامياً ـ ما يشير إلى أنّ القيادة في المجتمع الإسلامي فوق القانون.وفي الوقت الذي نعتقد فيه أن النبي(ص) هو سيِّد الخلق، فإنه وقف أمام الناس في آخر حياته وهو في مرضه الذي توفي فيه ليقول للناس:((إنكم لا تعلّقون عليّ بشيء أو لا تمسكون عليّ بشيء ـ إني ما أحللت إلا ما أحلَّ القرآن وما حرّمت إلا ما حرَّم القرآن))، فكأنّه يقول لهم:لقد دعوتكم إلى الإسلام في حلاله وحرامه، وكنت في مسيرتي معكم أُحلُّ ما أحلَّ اللّه وأُحرِّم ما حرَّم اللّه.نعم، هناك ولاية في الأمور التنفيذية والتفصيلية تخضع لحساب المصلحة العامّة للمسلمين، وهكذا في سيرة الإمام علي(ع) وغيره.
لذلك ونحن نعيش في هذه الفترة، وخصوصاً في زمن الغيبة الكبرى، حيث يوجد فراغ سياسي في مسألة الحكم، وحيث يدور خلاف بين من يقول بولاية الفقيه ومن لا يقول بها ويأخذ بنظرية الشورى، نقول:إنّ علينا احترام الآخر والأخذ برأيه من خلال الاقتناع به، لأنّه حتى الذين يقولون بولاية الفقيه، فإنهم يزاوجون بين الولاية وبين الشورى، فهم يدعون الشعب إلى الانتخاب ثم يمضون ذلك بطريقة وأخرى.والفكرة التي نريد قولها:إنّ من الممكن جداً، سواءً على المستوى السياسي، أو على المستوى الاجتماعي في الجمعيات، أو على المستوى الاقتصادي في الشركات، أو في كل المجالات، إذا لم يمكن تحقيق الإجماع، فالأكثرية قد تكون الفصل أو الحكم في هذا المجال الذي يتصل بالقضايا التفصيلية والتنفيذية للأمة، وربما تكون المسألة ـ كما يقول أنصار الديمقراطية ـ:"إن الديمقراطية ليست أحسن الأنظمة ولكنها أقلها سوءاً".
فاللّه سبحانه وتعالى يؤكِّد أن الأكثرية ليست دائماً مع الباطل، وليست دائماً مع الحق، كما أن الأقلية ليست مع الحق دائماً، وليست مع الباطل دائماً، ولكن ابحثوا عن العناصر الأساسية للشيء لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.هذا ما يريدنا الله عز وجلّ أنْ نفكِّر فيه، وأن نفكِّر في كلِّ ما يمرُّ علينا من أحداث لنعرف أين الطيب وأين الخبيث.
امتدادات الطيِّب والخبيث:
تحدّث القرآن الكريم عن التشريع الإسلامي من حيث إنه يحلُّ لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائث، فعندما أراد للناس أن يتصدَّقوا، فإنه أراد لهم أن لا يتصدَّقوا بالخبيث وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ( )، أي أنفقوا من الطيبات.ويتحدّث اللّه سبحانه وتعالى في مجال آخر عن الكلم الطيب والكلم الخبيث، لأنّ للكلمة الطيبة امتداداً في كلِّ ما يصلح أمر الناس، وكل ما يرفع مستواهم، والكلمة الخبيثة هي التي لا تتحرك على السطح، ولا تمتدُّ إلى حاجة الناس في حاضرهم ومستقبلهم، فقال تعالى:أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ِتُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ( ).
العقل هو الحجّة:
ومن خلال ذلك كلّه، نؤكّد أنّ العقل في الإسلام هو الحجة التي يحتج بها اللّه سبحانه وتعالى على الناس، وبه يقدم الناس الحجة إلى اللّه سبحانه وتعالى في كل ما يفعلونه وما يتركونه، وحجتهم التي يقدمونها في جدالهم عن أنفسهم، وقد أشرنا إلى أنه ورد في الأثر أنَّ الرسول عقلٌ من خارج وأن العقل رسول الداخل.
وفي هذا السياق يأتي قوله تعالى:وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى( )، حيث نهاية المطاف للإنسان التي يشرف فيها على الآخرة من خلال نشاطه وعمله في الدنيا، ولأنّ التقوى تمثل السير على خط اللّه في كل ما يأمر به وينهى عنه، وقد ورد في الحديث في تفسير التقوى أنْ لا يجدك اللّه حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى:وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( )، وقال تعالى:الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا( )، فهي التي تمثل خط التقوى، لأنّ المال يذهب، والبنين يفارقونك، وستحشر وحدك وتحاسب وحدك، فإذا كان لك رصيد من الباقيات الصالحات فهو الأمل حيث لا أمل، وهو الدليل على الثواب حيث لا تملك أن تنتج شيئاً هناك.وقد ورد في الأثر:((اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل))، والتقوى هي العمل الذي تلتقي فيه الدنيا والآخرة معاً، في التقاء العمل الصالح بعواقبه الطيبة، والمسؤولية بنتائجها الأخيرة في الدنيا والآخرة.
ثم أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يربطهم به ليبيّن لهم ارتباط هذه التقوى بالعقل، حيث يقول سبحانه وتعالى:وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ فأنا الذي أحبكم، وأنا الذي أريد صلاحكم، وأنا الذي أُبعدكم عن ما يفسد أمركم، وأنا الذي أريد أن أحقِّق لكم الجنة وما إلى ذلك..أريدكم أنْ تعيشوا الجو الحميم، والحاجة والإحساس بوجود اللّه وحضوره في وعيكم (وَاتَّقُونِ) بمعنى تحسسوا حضوري في حياتكم، لأني مطّلع على ما تفكرون فيه، كما أنني مطّلع على ما تعملونه في السر والعلانية، وكونوا الواعين لوجودي ولربوبيتي.وفي هذا النداء انطلاق رائع يوحي للإنسان بأنَّ كلَّ هذه القضايا هي من وحي العقل وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ بمعنى أنني عندما أدعوكم إلى التقوى، فإني أدعوكم إلى استنطاق عقولكم ودراسة مسألة الحسن والقبح في التقوى وفي مضادَّاتها، وفي المصلحة والمفسدة، لأنّ اللّه يريد للإنسان أن يستنطق عقله في كل ما يريد أن يأخذ به أو يدعه، لأنّ العقل لا يدعو إلاّ إلى الخير في الدنيا والآخرة، فليستنفر كل واحد منا عقله في كلِّ وقت، فلا يغيب عنه في أي مجال من مجالاته، حتى لا تنهار حياته في لحظات الجنون.إنّ علينا أن ننمِّي عقولنا وأن نفتحها على الحياة ونفتحها على كل ما يؤدي بنا إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
والحمد للّه ربّ العالمين.
باب المسائل
الفصل الأول
المسائل القرآنية
أضحك وأبكى:
* نرجو تفسير الآية الكريمة وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى( )؟
ـ هي تعني أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذه الحالات الشعورية في الحياة لدى الإنسان، فهو الذي خلق حالة الضحك عندما يلتقي بالفرح والسرور، والبكاء عندما يلتقي بالألم والحزن.
وهج المظاهر:
* ما هو تفسير قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ( )؟
ـ يتحدّث اللّه سبحانه وتعالى عن المنافقين، ويصفهم كأنهم الخشب المسنّدة على الحائط، فهي لا تحس ولا تشعر ولا هم يملكون عقلاً ولا وعياً و لا حركة، بل إنهم يعيشون في فراغ وخوف وقلق أمام التحديات، فعندما يسمعون أحداً يصيح فإنهم يحسبون ذلك صيحة عليهم، ولذلك فهم لا يعيشون الصلابة والثبات لأنهم لا يعيشون الإيمان.
تحكيم النبي(ص):
* قال اللّه سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ( )؟
ـ تبيِّن هذه الآية أن الإيمان ليس مجرد قضية تعيش في العقل والقلب، بل تتعدى إلى الممارسة، فلن يكون الإنسان مؤمناً إذا لم يحكِّم اللّه سبحانه وتعالى ورسوله في ما يختلف فيه الناس، ليأخذ حكم اللّه ورسوله، ويسلِّم به حتى لو كان ذلك الحكم مخالفاً لما يحب ويريد. وبذلك نعرف أن مسألة الإيمان هي حركة في الواقع كما يقول سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( )، بمعنى أن المؤمن لا يرى أمام أمر اللّه وحكمه أنه حر كما هو دأب بعض الناس حينما تقول له (صلِّ أو لا تشرب الخمر)، فيقول أنا حرّ، إذ لا حرية تجاه أوامر اللّه سبحانه وتعالى، باعتبار أن الإيمان هو حركة في الواقع إلى جانب أنه عقيدة في القلب. فمن يقول عن نفسه إنه مؤمن ولا يلتزم بحكم اللّه في الوقت نفسه، فهو ليس بمؤمن وإن صام وصلّى.
تعدد الزوجات في القرآن:
* في تفسيركم (من وحي القرآن) للآية الكريمة: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا( )، ما هو المتعلق بالشرط والجزاء فيها؟
ـ هناك بحث أثير في كتب التفسير حول طبيعة الارتباط بين أوَّل الآية وآخرها، فإن شرط وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى يتحدث عن حالة خوف الناس من عدم العدل في اليتامى، بينما الجزاء فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يتحدث عن جواز الزواج بأكثر من واحدة، ولا ارتباط بين هذا وذاك، مع أنه يفترض أن يكون الجزاء مترتباً على الشروط، وهناك عدة تفاسير لهذه الآية، وهي خاضعة للاجتهاد القائم على الاستظهار من الآية ومناسباتها. ولعل أولى الوجوه هو أن القوم كانوا يتخوفون من أن لا يعدلوا في أموال اليتامى ولا يتخوَّفون الإثم في النساء ألا يعدلوا فيهن، فقيل لهم: كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فكذلك خافوا عدم العدل في النساء ولا تنكحوا إلا من واحدة إلى الأربع، ولا تزيدوا على ذلك، وإن خفتم ذلك في الزيادة على الواحدة فلا تنكحوا إلاّ واحدة تملكون العدل معها.
تلاوة القرآن:
* هل تكفي تلاوة القرآن الكريم لاستمرار الانشداد الروحي لتفسيركم للقرآن؟
ـ أقول ومن باب التواضع، إني عشت مع القرآن تفسيراً وخطاباً وتدريساً منذ نصف قرن، منذ كنت في (النجف الأشرف)، فكنت أضع القرآن الكريم أمامي عند كل موضوع سياسي أو اجتماعي أو فكري، لذلك فقد عشت مع القرآن الروح والمضمون والفلسفة والفكرة والشريعة، ولا أزال إلى الآن، وأذكر أني في سنة 1380 هجرية في النجف الأشرف ألّفت كتاب (أسلوب الدعوة في القرآن) وهو من بواكير اهتمامي بالقرآن، ثم ألّفت كتاب (الحوار في القرآن)، و صدر لي لاحقاً (عرفان القرآن) والتفسير الكبير (من وحي القرآن) في 25 مجلداً، فالإنسان عليه أن يعيش مع القرآن من خلال الممارسة ثقافياً وبالقراءة والتدبّر.
الارتداد في القرآن:
* كيف يمكن التوفيق بين حكم الإسلام في قتل المرتّد عن الإسلام، وبين مضمون الآية الكريمة: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( ) و وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ( )؟
ـ لا تنافي في ذلك، ففي مجال الدعوة لا يوجد إكراه في الدين، ولذلك لا يمكن إكراه الإنسان على أن يعتقد بما لا يؤمن به، لأن الإكراه لا يتحقق ولا يمكن أن ينفذ إلى الفكر، فالسجن والضرب والتعذيب لا يغيّر لك فكرك، بل كل ما هناك أنه قد يضغط على موقفك أو كلمتك ويبقى فكرك حراً يحلّق في آفاق اقتناعك بما تراه صورة الحق عندك، لأن مسألة الإيمان هي مسألة توضح الرشد من الغيّ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ( ).
أما مسألة قتل المرتد فإنه يدخل في التنظيم الداخلي في واقع المسلمين، ولذلك يُقتل المرتد، لأنه إن كان ارتداده لشبهة فإن علماء الإسلام مستعدون لأن يستمعوا إلى كل الشبهات ويجيبوا عليها، وأما إذا كان شخص ما مرتداً ويجاهر بذلك، فإنه – عندئذٍ – يُسيء إلى الإسلام ولبقية المسلمين، ولذلك لا يُسمح بالارتداد بمعنى إعلانه وإشهاره، لأنه سيحصل التشكيك بالإسلام عند الناس، مثلما كان بعض اليهود يقولون لجماعتهم آمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ( ) حتى يرجعوا عن الدين، فإذا كان المرتدَّ غير مستعدٍّ للمناقشة، فهذا ليس من الجانب الفكري السليم، وإلاّ فإنه لا يجوز معاقبة أي إنسان إلا بعد إقامة الحجة عليه، حتى إنه في الإسلام من خلال منهج أهل البيت(ع) لا يعتبر الشك ارتداداً. فقد جاء أحدهم للإمام الصادق (ع) قائلاً إن رجلاً شك في اللّه أو شك في رسول اللّه(ص)، فأجابه الإمام (ع) أنه إذا بقي في حالة الشك فلا يُعتبر كافراً، فالكافر هو الجاحد. وفي حديث آخر للإمام الصادق (ع): ((لو أن الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا))( )، لكن بعض الناس يأخذ القضية بشكل سطحي وليس في العمق.
أوزار الآخرين:
* ما هو الرابط الحقيقي للآية الكريمة: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( )، وبين الآية الكريمة الأخرى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( )؟
ـ نُسِب لليهود نقض الميثاق والعهود، بلحاظ أنهم رضوا بما قام به من كان قبلهم ورضوا بما اقترفوه، وجحدوا ما جحدوه، وأنكروا ما أنكر من كان قبلهم، وحاولوا التآمر على الإسلام والمسلمين، كما جحد أولئك بالنسبة للأنبياء السابقين، ونحن نعرف أن الاتفاق في الخط والفكر والممارسة يلتقي فيما بين السابقين واللاحقين، فالجيل اللاحق من اليهود ولو أنهم لم يقتلوا الأنبياء مثلما فعل الجيل السابق، فإنهم قد رضوا بفعلهم وتحمّسوا لهم. وفي كلام الإمام علي(ع) بقوله: ((الرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْم كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ، وَعَلَى كُلِّ دَاخِل فِي بَاطِل إِثْمَانِ: إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِثْمُ الرِّضَى بِهِ))( ).
توعد المصلين الساهين:
* قال اللّه تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُون( )، نرجو من سماحتكم تقديم التوجيهات لمعالجة هذه المشكلة المستعصية؟
ـ أولاً: تتحدث الآية الكريمة عن الذين يهملون صلاتهم ويؤخرونها عن وقتها.
وثانياً: يمكن أن تكون بصدد إدانة حالة عدم اللامبالاة بالصلاة وآثارها، ولذلك يرى بعض المفسرين أن كلمة (السهو) هنا هو السهو عن روحية الصلاة وعن إيحاءاتها، لأن اللّه سبحانه وتعالى قد عقّب على تلك الآية بقوله الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ( ) يعني الذين يصلّون لكي يراهم الناس، ويجعلون الصلاة وسيلة للحصول على أطماعهم، فيقدمون أنفسهم على أنهم متقون. ولعلّ هذا المعنى هو ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ( ). ومن الطبيعي أن الرياء من المنكر، وكذلك منع الماعون (العطاء). وقد ورد في الحديث أنه ((من لم تنهه صلاته عن المنكر لم يزدد من اللّه إلا بعداً)).
أما شرود الذهن من حيث هو، فالإنسان عادة لا يملك التدريب الروحي الذي يجعله يركّز فكره ليس في الصلاة وحسب، بل في غيرها أيضاً، فالبعض قد تراوده عدة أفكار في آن واحد، ومن الصعب جداً السيطرة على الأفكار في هذا المجال، لأن اللّه خلق العقل حراً ولا يستطيع أحد أن يحاصره، ولكن يمكن توجيهه.
ولذا فالمسألة تحتاج إلى التدريب بنحو من التركيز، كما هي مثلاً طريقة رياضة اليوغا التي يتعوّد فيها الإنسان التركيز على فكرة واحدة ويدرب نفسه ليستغرق فكره في أمر واحد دون غيره. فهنا في مسألة الصلاة، لابد للإنسان أن يعيش في ذهنه مع اللّه في الصلاة وفي تفكيره بعظمة اللّه وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ( )، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا( ) ونربي حاجتنا للّه، ولذلك ورد في الحديث الشريف ((تفكّر ساعة خير من عبادة سنة))، وأن نعدّ النفس للقاء اللّه، وذلك يحتاج إلى جهد كبير، ولكن المهم أن نحاول ما أمكن التركيز في الصلاة فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ( ). وقد يساعد على الحصول على الخشوع الإتيان ببعض المستحبّات في مقدمات الصلاة، كالأذان والإقامة، وما إلى ذلك.
إكراه الفتيات:
* ما هو المقصود بقوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ) ؟
ـ يعني أن المسؤولية في دفع الفتيات إلى البغاء تقع على أولياء أمورهن وليس فقط على الفتيات، إلا إذا تابوا فإن اللّه غفور رحيم.
نفي الإيمان عن الكافرين:
* ما معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ( )؟
ـ يعني أن البعض أغلقوا عقولهم كما أشير إلى ذلك في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ( ) ولم يجعل اللّه عقولهم مغلقة، بل هم بقرارهم أغلقوا عقولهم ولم يستعدوا للاستماع للموعظة قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ( )، فتلك كانت مشكلة الأنبياء(ع) مع الذين أغلقوا عقولهم عن تقبل الرسالات.
بعث الحياة بعد الموت:
* ما معنى قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( )؟
ـ الموت هو فقدان الحياة، كما في قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ( )، وقوله تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ( )، إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى( )، فالموت الأول ليس موتاً بعد حياة، بل هو موت بمعنى العدم، حيث لم يكن الإنسان موجوداً قبل أن يخلقه اللّه، ثم أحياكم بعد العدم، ثم يميتكم بعد الحياة، ثم يحييكم يوم البعث والحساب في اليوم الآخر بعد الموت.
صبغة اللّه:
* نرجو شرح الآية الكريمة صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً( )؟
ـ إنها كناية عن فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، وهي تعني الصبغة التي صاغ اللّه بها الإنسان، وهي التي تشتمل على الجوانب والعناصر التي تجعل الإنسان ينطلق بها للحصول على سعادة الدنيا والآخرة وتدفعه إلى عبادة اللّه سبحانه وتعالى. وتشير الآية إلى الإيمان الذي يمنح صاحبه اللون المميز الذي يطبع الذات بطابعه في جميع خصائصها، تماماً كما هو الصبغ عندما يطبع الثوب أو الجسد فيلوّن كل جزئياته.
وقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً لأنه الخالق الذي يعطي الإنسان وجوده ويمنحه أفضل الامتيازات المعنوية والروحية التي تمنحه حسناً وإشراقاً.
تنوّع العذاب:
* قال اللّه سبحانه وتعالى: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ). ما هي الصور البلاغية في الآية الكريمة؟
ـ إن هذه الآية تعطي العنوان الكبير بأن اللّه سبحانه وتعالى عندما يريد أن يعاقب عباده في الدنيا، فإن عقابه يتنوّع، وهو يأخذ الجميع بذنوبهم ويعاقبهم بذنوبهم، سواء كان العقاب في الدنيا أو في الآخرة، وهو سبحانه وتعالى يحدّثنا عن الشعوب أو الأشخاص الذين يتنوَّع نزول العذاب عليهم، كقوم (لوط) أو (أبرهة)، الذين أرسل إليهم حاصباً، أو قوم (شُعيب) الذين أخذتهم الصيحة، ومنهم من خسف اللّه بهم مثل (قارون)، ومنهم من غرق وهو (فرعون).
ويبين اللّه في الآية الكريمة أنه سبحانه عندما يعاقب الناس على ظلمهم، فإنه يحذّرهم ويتوعّدهم بالعذاب قبل نزوله عليهم، فيكون ذلك عقاباً يستحقونه بعد إقامة الحجة عليهم مع قدرتهم على تفاديه بالطاعة لله والسير على هداه، ولذلك فإن الله لم يظلمهم بذلك، بل هم الذين ظلموا أنفسهم بسوء اختيارهم. فالآية في مقام الحديث عن تنوع العذاب، وإن كان في بعضها بعض الإشارات البلاغية، كما في قوله تعالى فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ) كناية عن الموت، أي قاعدين دون حراك، أو لأن الرجفة المذكورة لما كانت ناشئة من الصيحة التي زلزلت كيانهم، فإنها أسكنت قلوبهم عن الحركة.
الأحرف المقطّعة في القرآن:
* ما هي الحكمة الإلهية من وجود الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن الكريم؟
ـ كما ذكرنا في ندوات سابقة، أن هناك عدة وجوه للتفسير بصدد الحروف المقطعة. ومنها ما هو منسوب للإمام الحسن العسكري (ع)، وهي أن تلك الحروف نوع من أنواع التعجيز للآخرين في أن يصنعوا مثل القرآن، وهو مؤلف من تلك الحروف مثل: ه، ي، ع، ص، وغيرها مثل البناء الهندسي. فالبعض – مثلاً – يقول إن مهنة البناء سهلة، فيقول له المهندس: تفضل وخذ هذا الحديد والإسمنت وقالب الخشب، فهل تستطيع عمل بناء هندسي كيفما اتفق؟! طبعاً، كلا.
منهج للدعاة إلى اللّه:
* ماذا يستوحي العاملون في سبيل اللّه من هذه الآية: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّ( )؟
ـ ويبقى للقرآن دوره الخالد في حركة الدعوة إلى اللّه، في ما يتحدث به الرسل، وفي ما يثيره الدعاة في بلاغهم وفي حديثهم للناس . .
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ أي سهّلنا لك السبيل إلى فهمه ووعيه وتلاوته، تماماً كما لو كان حديثاً تهمس به في ذاتك أو يتحرك في وجدانك، لتستوعب معانيه في خط التبشير والإنذار، لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ في ما ينتظرهم من الجنة ومن رضوان اللّه، جزاءً لطاعتهم وتقواهم وعبادتهم، وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا والمراد باللُّدّ، جمع ألَدّ، وهو الشديد الخصومة، أي لتحذر الذين يحترفون الجدل والنـزاع والخصومة كأسلوب عملي في حياتهم، ولذلك فإنهم لا يفتحون قلوبهم لوحي اللّه، بعفوية الحقيقة وبساطتها، بل يتعقّدون منه، ويعملون على إثارة الضوضاء من حوله في عملية هروب وإضلال. ولذلك فإن مهمة الرسول ومن جاء بعده من الدعاة، هو إحداث الصدمة القوية التي تهز القلب والروح والوجدان، لتثير فيها الخوف والقلق في مستوى قضية المصير.
وهذا ما ينبغي أن يعيشه الحاملون للقرآن، الحافظون له، الذين يتحملون مسؤولية إبلاغه للناس، وذلك بأن يتحركوا في المجتمع مبشّرين ومنذرين، لا أن ينعزلوا به في دائرة ذواتهم وأشخاصهم بما لا يتعدَّى محيطهم، لأنهم لا يريدون أن يتحملوا مشاكل الدعوة، ونتائج المواجهة أو المجابهة، إذ لو وقف الناس جميعاً هذا الموقف، ينتظرون من يتسلم زمام المبادرة في ذلك، لمات القرآن في عقول الناس، وانكمش في دائرة ضيّقة من دوائر الواقع في الحياة العامة.
إنَّ الإنذار لأمثال الناس المعقّدين المجادلين قد يفتح لهم أكثر من باب للتفكير وللتأمل وللسؤال وللانقياد في نهاية المطاف، ليدرسوا التاريخ، وليتعرفوا حركة المستقبل الذي يتصل بحياتهم، في ما يأتي، ليعرفوا كيف يمكن لهم أن يضبطوا خطواتهم على الصراط المستقيم.
شكوى الرسول(ص):
* يطلق رسول اللّه(ص) من خلال القرآن شكوى إلى اللّه بسبب إعراض قومه عن رسالته، حيث يقول تبارك وتعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا( )، كيف لنا أن نستلهم معاني هذه الشكوى؟
ـوَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا من دون أن أقصِّر في ما كلفتني وأمرتني بالقيام به من إبلاغ وإنذار، وابتعدوا عني إلاّ قليلاً منهم، ولكن اللّه سبحانه وتعالى يوحي إليه بأن الدعوة تصنع أعداءها كما تصنع أصدقاءها، فإن أفكارها تستثير الناس الذين يفكرون بطريقة مغايرة، ويتحركون من الموقع المضادّ، فيقفون ضدها لحماية أفكارهم ومصالحهم وأوضاعهم التي يخافون عليها من حركة الدعوة الجديدة. وهكذا يتجمّع الأعداء في روحية الإجرام ليعملوا بكل وسائلهم في إسقاط الرسالة والرسول.
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ الذين يعيشون الجريمة في مستوى الفكر، فيعملون على قتل الحق بأضاليلهم الفكرية، كما يعيشونها في مستوى الحركة ليُسقطوا الذكر الإلهي في مشاريعه التغييرية، بكل وسائلهم الإجرامية . ولكنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، فلن يستطيعوا إضلال الرسول عمّا يدعو إليه من الهدى، ولن يتمكنوا من إسقاط الرسالة في تأكيد وجودها على الأرض، لأن اللّه سبحانه سينصر نبيّه ويهديه، وإذا أراد اللّه أن يهدي أحداً فلن يضلّه أحد، وإذا أراد أن ينصره فلن يهزمه أحد، لأنه يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا في خط الهداية، وفي حركة الصراع من أجل النصر.
وهكذا ينبغي للدعاة في خط الرسالات أن يعيشوا هذه الحقيقة الرسالية في ساحة الصراع، لئلا يتعقَّدوا من ذلك، فيسقطوا أمام التحديّات، ويخافوا من النتائج السلبية على مستوى الدعوة، لأن المسألة تدخل في نطاق الواقع الطبيعي للأشياء، من خلال ما تواجهه كلُّ فكرة جديدة تتحرك ضد التيار، ما يجعل من مواجهة الفكر المضاد سبيلاً إلى القوة بدلاً من أن تكون سبيلاً إلى الضعف، على أساس ما تمنحه من قوة جديدة للرساليين الذين يستنفرون كل طاقاتهم من أجل المعركة، وما يثيرونه من عوامل التحدي ويمارسونه من خبرة متحركة على أكثر من صعيد، ويعيشونه من ثقة كبيرة بالنجاح في شعورهم القوي بأن الله معهم، فلا يستطيع المجرمون من أعداء الرسالة إسقاطها بوسائلهم المتعددة، لأنهم لا يملكون كل مواقع القوة في الساحة، فللّه القوة جميعاً، وعلى الرساليين أن يأخذوا بأسباب النصر، لينتصروا، وينتهزوا الفرص المعدة لديهم للنجاح لينجحوا، لأن اللّه يريد للناس أن يأخذوا بسننه في حركة الدعوة والحياة، فلا يغفلوها في حركتهم أو عملهم.
وكفى اللّه المؤمنين القتال:
*وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا( )، بماذا؟
ـ يقول تبارك وتعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرً( ) فلم يحصل المشركون وحلفاؤهم على أي خير يزعمونه في انتصارهم على النبي(ص)، بل انهزموا شر هزيمة، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال بما هيأه لهم من الأسباب في موقف الإمام علي (ع) في مواجهة بطل المشركين عمرو بن عبد ودّ وقتله له، ما أضعف معنويات المشركين، وفي إرسال الرياح العاصفة التي اقتلعتهم من مواقعهم التي كانوا فيها، وفي غير ذلك مما أرسله من ملائكته. وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا فإذا أراد شيئاً بعباده، فلا رادّ لإرادته، وإذا اقتضت مشيئته أن يقهر أحداً بقوته، فلا يستطيع أحد أن يواجهها بأية وسيلة، ولا يملك أحد أن يواجه عزته التي لا تقهر، فهو الذي يكفي من كل شيء، ولا يكفي منه شيء.
خلق الإنسان:
* ما معنى قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ في ظلمات ثلاث( )؟
ـ إشارة إلى أحوال الجنين مما أشار إليه القرآن الكريم في آية أخرى وكونه نطفة ثم علقة ثم مضغة في ظلمات ثلاث هي ظلمة الرحم والمشيمة والبطن.
الولد للّه:
* قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( )، وقال تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ( ). فإذا علمنا أن خلق الولد شيء وأنه يحمل بعض الصفات الوراثية من أبيه، فكيف يخلق اللّه ولداً؟
ـ كأن السائل لم يفهم مضمون الآية، إذ معناها أن اللّه سبحانه وتعالى لا يحتاج ولداً، وهو الخالق الذي يختار من خلقه من يشاء بالصورة المناسبة، ولكن هذا الأمر غير وارد في عمق العقيدة، لأن البنوّة لا معنى لها في ذات الله، فالحاجة للولد هي لمن يحتاج امتداداً لوجوده وللإرث والأنس به مما يستلزم الحاجة والتجسد واشتراك الولد في بعض صفات الرّب، واللّه سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
حال المنافقين:
* ما معنى قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( )؟
ـ يبين اللّه سبحانه وتعالى حالة المنافقين وهم في حالة حيرة وقلق ذهني كبيرين، وهم بين الضوء القادم من القرآن والظلام المندفع من الكفر، ولذلك نتيجة لحيرتهم وقلقهم يتثبتون بكل ضوء يضاء لهم حتى ولو على مستوى البرق، فيمشون فيه، وما إن يختفي هذا الضوء الخاطف حتى يرجعوا إلى كفرهم وإلى الظلمات المحيطة بهم.
إدانة الأعراب:
* قال تعالى: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ( ) ألا يتناقض ذلك مع الأمر بنشر العلم؟
ـ المقصود بالأعراب هم الذين لم يتفقّهوا في الدين بحكم وضعهم، ولم يحاولوا الخروج من جهلهم، وليس فيه إشارة إلى استحالة تعليمهم، ولكنهم لو أخذوا بأسباب العلم، لاستطاعوا الخروج من هذه الحالة.
معنى الزينة:
* قال اللّه سبحانه وتعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا( )، فما المقصود بالزينة؟
ـ لا إشكال في أنَّ الأموال التي يملكها الإنسان تمنحه الفرصة ليخرج بزينته على من حوله، ولكنها لا تمنحه الخلود، كما هو شِأن (قارون) حينما خرج بزينته على الناس فقالوا عنه: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( ) فاللّه يقول إن زينة الحياة الدنيا لا تخلد، وكذلك المال، فقد يتركك قبل أن تموت أو تتركه بعد أن تموت، وكذلك الأولاد، فعندما يصل الإنسان إلى القبر أو يُحشر، فماذا يفيده المال والأولاد؟! وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ( )، ولذا قال سبحانه في تتمّة الآية التي يذكرها السؤال: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا( ) فإذا أردت الأمل بما يبقى لك بعد موتك، فذلك إنما يكون بالأعمال الصالحة التي تحصل من خلالها على الثواب، والتي تمثل الأمل والسعادة التي تحصل عليها في الدنيا والآخرة.
وفي مضمون بعض الأحاديث، أن الإنسان عندما يأتيه الموت، يلتفت إلى أولاده قائلاً: لقد عشتُ حياتي من أجلكم وتحمَّلت المشاقَّ وقطعت البحار والقفار، وأنا الآن في شدّة، فماذا تعطوني؟ فيقولون له: نشيعك إلى قبرك ونؤبّنك باحتفال، فيلتفتُ عندئذٍ إلى ماله قائلاً: سهرتُ الليالي لجمعك حتى أصبح لي رصيد كبير منك، فما هو رصيدي منك، فيقول له: خذ مني كفنك، وأخيراً يلتفت إلى عمله قائلاً: لقد كنتَ ثقيلاً علي، فعندما يحين وقت الصلاة يأتيني النعاس، أو أتحجّج بالضيوف فأقضي الصلاة بعد حين، ويأتي شهر رمضان فأقضيه بالسفر، ويأتي وقت الحجّ فأقول عندي شغل وتجارة فأؤجل الحج، وعندما آتي إلى الُخمس والزكاة فتلك الطامة الكبرى.. وهنا يلتفت إليه عمله قائلاً: سأكون معك في قبرك مثلما كنت معك في حياتك، وسأحشر معك يوم القيامة، فإمّا إلى جنة أو إلى نار، فإن كان عمل خيراً فسيدخله عمله الرضوان، وإن كان عمل شراً، فسيكون مصيره النار، وقد صوّر لنا الله سبحانه حجم الحسرة يوم القيامة بقوله: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ( ).
المسؤولية والإختبار:
* يقول اللّه تعالى: إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ( )، فهل المقصود بالفتنة الصراع الطبقي والاجتماعي؟
ـ كلا، تعني الاختبار، فعندما أعطاك اللّه المال وأعطاك حرية التصرف به، فأنت مسؤولٌ عن مصدره من أين أخذته وعن نتيجته أين صرفته، وكذلك الأولاد يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ( )، فأولادك من مسؤوليتك، فهل قمت بها كما حمَّلك اللّه إياها تجاه الأولاد أم لا؟! أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، أي يُختبرون، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ( )، ويقول الشاعر المتنبي:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبيَّن من بكى ممن تباكى
منافع الخمر!!
* قال اللّه تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا( )، فهل توجد منافع للخمر والميسر؟
ـ ربما يراد بالمنافع حالة الفرح النفسي الذي يحدث في حالة السكر عندما يدخل الإنسان في غيبوبة ذهنية ضبابية توحي له بالمرح واللهو والعبث، فيتخفف من قيوده الاجتماعية التي يفرضها عليه عقله، ولكن هذه المنافع بحكم الملغاة، ولذلك كان الخمر حراماً، وذلك لأن الأضرار التي تحدث للحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية والصحّية في جميع مجالاتها في الخمر أكبر من المنافع الحاصلة منها، لأن الهروب من الواقع في حالة السكر قد يخدّر الآلام الكامنة في الواقع، ولكنه لا يلغيها، بل تعود بعد ذلك بقسوة أكبر وألم أعمق.
التلاوة الحق:
* كيف تفسرون قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ( )؟
ـ يحدّثنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن أهل الكتاب، أن منهم المؤمنين ومنهم الفاسقين، فهناك مؤمنون من أهل الكتاب آمنوا باللّه ورسوله واليوم الآخر وآمنوا بالقرآن وقرأوه وتدبروه وعقلوه، وهذا معنى قوله يتلونه حق تلاوته، يعني يتدبرونه، أما الآخرون الذين يكفرون بالقرآن وبما يمثله فهم الخاسرون.
رجوع النبي(ص):
* هناك من يرى في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ( ) على أنها رجعة النبي(ص) والأئمة (ع) إلى الدنيا، فما هو رأيكم بذلك؟
ـ ولد النبي(ص) بمكة ونشأ فيها، وكان يحن للرجوع إليها بعد هجرته، وقد وعده اللّه سبحانه أنه سيعود إلى مكة، ولا علاقة لتلك الآية بموضوع الرجعة.
نور الإيمان:
* ما معنى الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( )؟
ـ يعني أن اللّه سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين، وهم المسلمون الذين آمنوا بالإسلام عن قناعة، والمقصود بتقوى اللّه أن يسيروا على خط التقوى، والمقصود ب(وآمِنُوا بِرَسُولِهِ) يعني السير على نهج الرسول(ص) كما هو مفاد قوله تعالى وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا( )، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( )، وأما تفسير يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني نصيبين من رحمته، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ لأن الإنسان عندما يشرق الإيمان في عقله وقلبه فهو يمشي على نور في الفكر ونور في الحركة وفي الحياة.
تجلي الخالق:
* ما معنى قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا( )؟
ـ هذا ما ورد في قصة النبي موسى (ع) حينما قال لربه: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي( ) وهذا لا يعني أن اللّه سبحانه وتعالى تجلّى وظهر، بل يعني أن اللّه سبحانه وتعالى سلَّط نوره عليه، فلم يتحمل موسى ذلك النور، فيقول اللّه لموسى إنك لم تتحمل النور فكيف ترى اللّه سبحانه وتعالى وهو لا يُرى.
مسؤوليات الأمم:
* الآية الكريمة تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( )، نجدها تتكرر في نفس سورة (البقرة)، فما الحكمة في ذلك؟
ـ الآية تتحدث عن عدة أمم في التاريخ، وهي بصدد الإخبار عن حالة الأمم السابقة، لتشير إلى أن على الناس أن لا ينشغلوا بذلك التاريخ، فهؤلاء تحملوا مسؤولية أنفسهم في الخير والشر وفي النصر والهزيمة، فلا تستغرقوا فيهم وتشغلوا أنفسكم بهم، وعليكم أن تأخذوا الدروس منهم وتصنعوا تاريخكم، فلستم مسؤولين عن تأريخهم، وأن لا تعيشوا الفتنة في حالة الاستغراق بذلك التاريخ وكأنكم جزء منه .. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ذهبت في ذلك التاريخ لَهَا مَا كَسَبَتْ فسوف تواجه ما كسبت أمام اللّه، فاصنعوا أنتم تاريخكم وتحملوا مسؤوليتكم. ولكن مع الأسف، فإننا لا نزال نعيش أحقاد وتاريخ الحروب الماضية ونجعلها معاركنا الحاضرة وننسى أزماتنا الحالية، وهذا ما جعل الواقع الإسلامي، الذي يتذكر دائماً تحديات الماضي وينسى تحديات الحاضر، يعيش أزمة دائمة.
أصحاب السوء:
* ما معنى قوله تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ( )؟
ـ القرناء هم الأصحاب أو رفاق الإنسان الذين يصحبهم ويصحبونه ويزيّنون له السير في الخطِّ المنحرف.. وَقَيَّضْنَا لَهُمْ يعني بحسب الظروف الاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان، فكأن كل واحد اتخذ له أصحاباً معينين، وهذا إيحاء بأن على الإنسان أن يدقّق في اختيار أصدقائه وقرنائه، لأن الإنسان كما يقول الشاعر: (كل قرين بالمقارن يقتدي)، أو كما قال الشاعر الآخر:
صاحب أخا ثقةٍ تحظى بصحبته فالطبع مكتسب من كل مصحوب
والريح آخذة مما تمر به نتناً من النتـن أو طيباً من الطيب
سنن الماضين:
* يقول الحديث الشريف: ((لتركبن سنن من قبلكم)) هل يشابه معنى الآية الكريمة تَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ( )؟
ـ الحديث هو عن الخط التاريخي الذي كان يسير عليه الناس من خلال ما كان يحيط بهم من ظروف وأسباب، بينما الآية الكريمة تخبر عن الأحداث التي سيمرُّ بها هؤلاء الناس، أي حالاً بعد حال. وربما قيل: إنَّ المراد به الرحلة بعد الرحلة يقطعها الإنسان في كدحه إلى ربه، من الحياة الدنيا ثم الموت ثم الحياة البرزخية ثم الانتقال إلى الآخرة ثم الحساب والجزاء، وربما كان المراد من ذلك ما يصيب الناس من مشقات الحياة، كما يقال فلان يركب الصعاب. .
الأيام النحسة:
* في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ( )، فهل هناك أيام نحسات على الإنسان أن لا يسافر فيها مثلاً؟
ـ في تصورنا ليس هناك أيام نحسات في ذاتها، والمقصود هنا من النحس في الأيام شدة البرد أو الحر مما لا يتحمّله الإنسان لقساوته، وقد ورد عندنا ((لا تعادوا الأيام فتعاديكم)) وقد ورد عن أحد الأئمة، وهو الهادي (ع)، أنه اعترض على أحد المتشائمين عندما قال" ما أشأم هذا اليوم"، قال الإمام(ع): لماذا تتهم من لا يتحمل أي وزر ولا ذنب، فليس للزمن دخل في هذا الموضوع. ويقال عن النبي(ص) إنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة.
القرآن وتعدد اللهجات:
* لما كان القرآن المعجزة الخالدة بلسان عربي فصيح، فلماذا حصلت اللهجات المحلية، بحيث إن العربي المسلم في المشرق لا يفهم كلام العربي المسلم في المغرب؟
ـ قضية اختلاف اللهجات تنطلق من تمازج واختلاف الحضارات والشعوب واختلاطها مع بعضها البعض، ومع ذلك فالمسلمون كلهم يقرأون القرآن الكريم باللغة العربية ويقيمون الصلاة باللغة ذاتها.
ضرب الأمثال في القرآن:
* ما معنى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِْي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ( )؟
ـ يُقال إن سبب نزول هذه الآية هو ما ورد في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالبُ وَالْمَطْلُوبُ( )، حيث استصغرت قريش هذالمثل، ذلك بأن اللّه يتكلَّم عن ذبابة ولا يتكلم عن الفيل، فكيف يتناسب ذلك مع عظمته، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.. فالمثل لا يُقاس بحجم ما ورد فيه من أجسام وغير ذلك، بل يرى من خلال الفكرة التي يشير إليها، بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن يُبيِّن حقارة أولئك الذين يدعون من دون اللّه ويتألهون، فيقول لهم إنكم الآن تستعرضون عضلاتكم وكلّ واحد منكم يقول (أنا ربكم الأعلى)، فهل يستطيع أحدكم أن يخلق ذباباً؟ وإذا جاءت الذبابة لأحدهم فلا يستطيع ردّها. ويُقال إنه في زمن الإمام الصادق (ع) – ومن باب النكتة – قال أحدهم أنا أستطيع أن أخلق الذباب بأن يأتي بالتراب والماء ويثيره بما يجعل فيه الذباب، فكأنه قد خلق الذباب، فتعجب الناس من حوله وتحيروا بالجواب، فجاءوا للإمام الصادق (ع)، فقال لهم: سلوه كم عدد الذكور والإناث في ذلك الذباب الذي يدّعي خلقه إذا كان هو خالقه كما يزعم، لأن الخالق لابد أن يعلم ذلك أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( )، وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ( )، فبهت ذلك المدّعي وتحيّر في الجواب وأسقط ما في يده فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ( )، فالآية تركز على أن المثل لا يخضع للحجم بل يخضع إلى مضمون الفكرة.
الوعد بالنصر وانكسار المؤمنين:
* قال اللّه تعالى:وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ( )، وقال سبحانه وتعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ( )، مع أن الحسين (ع) عندما خرج لنصرة دين اللّه وهو سيد المؤمنين والأتقياء، لم يستطع الانتصار، فلماذا لم ينجده اللّه بنصرته حسب الآيات السابقة؟
ـ الوعد بالنصر للمؤمنين لا يتحقق على سبيل المعجزة، لأن اللّه خلق لآلية النصر والهزيمة قوانين وسُنناً، واعتبر أن المسألة خاضعة للسُنن الموضوعية، فإن قضية النصر هي من القضايا التي تتحرك بحسب حكمته سبحانه وتعالى، فاللّه يريد أن يركّز المبدأ، وهو أن على الإنسان أن يثق باللّه وأنه ينصر من ينصره، ولكن حركة النصر وامتداده تختلف في طبيعتها وظروفها، فقد يكون النصر بلحاظ المستقبل، وقد يتأخر النصر لأن اللّه سبحانه وتعالى يبتلي عباده من خلال حكمته، ثم يعطي النتائج التي قد لا تكون في الزمن نفسه، بل بعد ذلك، كما هو الحال في ذكرى ثورة الحسين (ع) المتجددة كل عام للبشرية.
أخت هارون:
* قوله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا( )، فمن هو هارون؟
ـ الإشارة إلى هارون أخي موسى (ع) ليس لتأكيد أنها أخته، بل لتأكيد اتصال النسب أو لجهة الشبه بالصلاح، وقيل إن هارون كان رجلاً صالحاً في بني إسرائيل، وقيل إنه كان معروفاً بالفساد، حيث إنهم كانوا بمقام التنديد بها لأنها حملت بعيسى (ع) من دون زواج(*).
دعاء نوح (ع) على قومه:
* قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( )، فكيف نجمع هذه الآية مع دعوة نوح (ع) على قومه حيث قال: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا( )، فما هو ذنب أولئك مع أنهم ليسوا مذنبين؟
ـ إنما دعا نوح (ع) على قومه، لأن ذلك الجيل من البشرية قد أطبق عليهم الضلال ولم يعد هناك أي تجربة منتجة، فقد عاش فيهم 950 سنة وهو يدعوهم إلى الإيمان في كل الأحوال وعلى اختلاف الظروف قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا( )، حيث استمرت دعوته 950 سنة بدون فائدة، ولذا أراد النبي نوح (ع) بقوله إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا أن يبيِّن أنهم بلغوا من الكفر مدى لا يسمحون معه للأجيال اللاحقة بالإيمان، وتبقى مسيرة الكفر لديهم ماضية ولا أحد يستطيع عبادة اللّه بسببهم، فالدعاء ليس على المولودين بل على الوالدين.
موت عيسى (ع):
* جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا( ) الآية عن قول عيسى (ع)، وفي آية أخرى يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا( )، فما هو تفسير هذا الالتباس؟
ـ لا يوجد التباس في ذلك، فما تتحدث به الآية عن أن عيسى (ع) قد رفعه اللّه إليه لا تنفي أن يموت بعد ذلك، وهناك رأي آخر عند بعض علماء المسلمين أن عيسى (ع) قبل أن يرفعه اللّه إلى السماء قبض روحه ثم رفعه.
تفسير القرآن بالقرآن:
* هل تعتقدون بتفسير القرآن بالقرآن؟
ـ يمكن أن نردَّ المتشابه من الآيات إلى المحكم ونستوحي من آية أخرى ما يفسِّر الآية الأخرى، ولكن ذلك ليس في كل آيات القرآن الكريم، فهو أحد مناهج التفسير.
تشابه الرزق:
* قال اللّه تعالى: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا( )، فما تفسير ذلك؟
ـ يعني أنَّ أهل الجنة يشعرون بأن ما يقدَّم لهم من الرزق والفاكهة متشابه لما كان في الدنيا، فكأن اللّه يريد أن يبيّن لهم أن نعمه في الآخرة تشبه نعمه في الدنيا، لأنه سبحانه هو وحده المنعم في الدنيا والآخرة، وإن كانت نعم الآخرة من حيث نوعيتها وطبيعة ما فيها من عناصر اللذة هي أعظم من لذات الدنيا.
مكر اللّه:
* كيف تفسرون الآية الكريمة: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( )؟
ـ كلمة (المكر) ليست سيئة، وإنْ اُستعملت كثيراً في السوء؛ لأن معنى المكر في اللغة هو أن تدبر أمراً بالخفاء، بل إن كلمة الحيلة نفسها هي عبارة عن تدبير ما تريد الوصول إليه، إما من خلال معيشتك، أو من خلال شخص آخر، أو من خلال ردّ العدوان بشكل لا يشعر به الآخر. فكلمة (يمكرون) يعني يخططون بطريقة خفية لينالوا من المسلمين، ولكنَّ اللّه يدبِّر بما لا يشعرون به، من ردّ تدبيرهم ومن الإيقاع بهم ونصرة نبيه(ص)، فإن اللّه خير المدبرين، لأنه وحده يعرف أسرار الأمور وعمقها. فكلمة (المكر) قد تستعمل في المعنى السلبي عندما يستخدمها الإنسان لصالح أمور شريرة، ولكن ذلك لا يجعل الكلمة موقوفةً على ذلك.
احترام الموازين:
* في قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ( )، فأين المقاييس التي يجب أن نعمل بها لنخرج من قاعدة المطففين؟
ـ التطفيف يتعلق بالجانب الاقتصادي. فمثلاً عندما تريد شراء شيء بوزن 5كغ، فإنك قد تستلم 4.800 كغ بنقص مقداره 200غ، فهذا تطفيف، وهكذا في قياس القماش أو الأرض، وكذلك الحال عندما تبيع شيئاً، حيث تنقص في الميزان والمقياس، ومن الناحية الأخلاقية والشرعية عليك أن تعامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به .. فالأمانة والصدق والتقوى مطلوبة في عملية البيع والشراء، كما هي مطلوبة في العبادات .
الزواج من الكتابيات:
* في قوله تعالى:الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ( ) وكذلك في مسألة الزواج من الكتابيات، فهل الإباحة في كلِّ الأوقات والأحوال؟
ـ هناك بعض الفقهاء يقول بعدم جواز الزواج من الكتابيات لأنهن كافرات، لقوله تعالى: لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ( ) بلحاظ الكفر برسول الله إلى جانب الكفر ببعض صفات الله، وفي آية أخرى يقول سبحانه:وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ( ). ولكن بعض العلماء يجوّزون الزواج من الكتابية وهي اليهودية أو النصرانية، بدلالة هذه الآية مورد السؤال، وما استدل به لحرمة الزواج منهم، كما في قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ فهو غير تام، لأن الآية وردت في سياق الزواج بالنساء الكافرات من نساء مكة، فلا تشمل نساء أهل الكتاب، وتفصيل الموضوع موكول إلى البحث الفقهي.
النظر إلى اللّه:
* ما معنى قوله تعالى:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ( )؟
ـ يقول اللّه سبحانه وتعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ( )، ويقول سبحانه وتعالى:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( ) فهذه الآية محكمة لا تقبل التأويل، فعندما تكون لدينا آية متشابهة، فلا بدّ أن نحمل المتشابه على المحكم، ولذلك فإن قوله تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني ناظرة إلى عظمة اللّه وإلى نوره سبحانه وتعالى، فاللّه ليس جسماً.
تاريخ النبي محمد(ص) في القرآن:
* ذكر القرآن الكريم ولادة الأنبياء (ع) عيسى وموسى o، فما هو السبب من عدم ذكر ولادة النبي محمد(ص)؟
ـ لم يعط اللّه سبحانه وتعالى مسألة الولادة الاهتمام الكبير بمعناها البشري، لأن الأنبياء (ع) كلهم يولدون مثلما يولد بقية الناس، وإنما تكمن عظمة الأنبياء (ع) في رسالاتهم وفي اصطفاء اللّه لهم.
أما ذكر ولادة عيسى (ع)، فإنها ليست لخصوصية عيسى (ع) لذاته كبشر، بل لأنها مظهر من مظاهرة قدرة اللّه في الخلق. فإنّ اللّه أراد أن يجعل ولادة عيسى (ع) آيةً وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ( ) لكي يعرف الناس بولادة عيسى (ع) من دون أب قدرة اللّه سبحانه وتعالى، بأنه كما يخلق إنساناً من دون أم وأب كما في خلق آدم (ع) وحواء، وكذلك فإنه يخلق إنساناً من أم دون أب، فاللّه سبحانه وتعالى ذكر هذا لا من أجل خصوصية عيسى (ع) وتفضيله على بقية الأنبياء (ع)، ولكن من خلال إظهار قدرة اللّه لذلك ..
أما بالنسبة لموسى (ع)، فإن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يبين لنا لطفه في إنقاذ موسى (ع) من فرعون، حيث إن فرعون كان قد قرر أن يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، لأنه، كما ينقل، رأى في منامه أن نهاية ملكه يكون على يد ولد من بني إسرائيل، لذلك كان لا يسمع لمولود إلا ويرسل زبانيته ليقتلوه، حتى قيل إنه كان يتفحص النساء الحوامل هل ستلد أنثى أم ذكراً. فعندما ولدت أم موسى (ع) أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يرتب خطة لموسى (ع) الذي سيكون عدوّاً لفرعون في المستقبل، وأن يجعله تحت رعاية فرعون نفسه، فأوحى إلى أمه أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي( ). وهكذا وصل الزورق الذي يحمل موسى(ع) إلى قصر فرعون الذي كان جالساً مع زوجته المؤمنة التي قالت له: عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا( ) ثم بعد ذلك أراد اللّه أن يرسل أمه لترضعه وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ( ) فافتقدت أخته أثره فعلمت أنه وصل إلى حيث فرعون فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا( ). وهنا جاء اللطف الإلهي، فكان موسى رضيعاً ويحتاج إلى من يرضعه، فكانوا يأتون بكل المراضع النساء، وكان موسى لا يقبل ثدي أي واحدة منهن، فدخلت أخته كما لو كانت لا تعرفه فقالت هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ( ).
فاللّه سبحانه وتعالى تحدّث عن ولادة موسى (ع)، لأن ولادته تمثل حدثاً فيه الكثير من الإعجاز واللطف، وفيه الكثير من رعاية اللّه لأنبيائه في هذا المجال، وقد أعدَّ اللّه موسى (ع) ليسقط فرعون، فمن الطبيعي أن يحميه، وهذا ما لم يحدث للنبي(ص) الذي ولد ولادة طبيعية من دون مشاكل، وإن كان يتيم الأب ثم صار يتيم الأم. وقلنا إن الولادة لا تمثل قيمة، كما يجري الآن من الاحتفال في العالم في ذكريات الولادة. ومما لاشك فيه، فإن الوليد لا تكون له قيمة بولادته، بل بقيمته الإنسانية حين يصبح قائداً أو نبياً ذا رسالة في هذا المجال.
تفضيل الرجال على النساء:
* قال اللّه سبحانه وتعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ( ) فما هو وجه تفضيل الرجال على النساء في هذه الآية؟
ـ قال اللّه تعالى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ( ) فإن التفضيل باعتبار أن طبيعة التكوين الجسدي للرجل تفترض أن يكون أكثر قوةً وقدرةً على القيام بالمسؤولية، أمّا المرأة، فإن تكوينها من ناحية الأمومة ومن وجهة الدورة الشهرية لها والحضانة وما إلى ذلك يفترض دوراً آخر.. فالإشارة - واللّه أعلم - في التفضيل إلى تلك الجوانب التي تميّز الرجل عن المرأة، وليس المراد التفضيل في القيمة عند اللّه، وإنما في طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة لأنهما يتكافلان في إقامة وامتداد الحياة، ولكل منهما مهمة تتصل بالحالة الجسدية، فالرجل أكثر تحملاً من المرأة في هذا المجال وما إلى ذلك من الأمور ..
دور الشيطان في الإضلال:
* ما معنى قوله تعالى عن قول الشيطان - لعنه اللّه - وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ( )؟
ـ لقد بيّنا في هذه الندوة بما لا نزيد عليه، أن اللّه أمهل الشيطان الذي تعهد أنه سيبذل جهده ليبعد الناس عن الخطِّ المستقيم، ولكي لا يمكِّن أبناء آدم من الدخول إلى الجنة، ويمكن للأخ السائل الرجوع إلى نشرة (فكر وثقافة) في هذا الموضوع.
تحديات الرسالة:
* ما معنى قوله تعالى وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً( )؟
ـ يعني أن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يحدِّث النبي محمد(ص) عن حجم الضغوط التي كانت قريش تضغط بها على الرسول(ص) بالمستوى الذي لولا تثبيت اللّه له من خلال عصمته ووعيه لرسالته وعلاقته بربه لخضع لهم. وبعبارة أخرى، فقد أراد اللّه سبحانه أن يبيّن أن هذه الضغوط التي أرادوا أن يفتنوا بها النبي(ص)، وأن كل الإغراءات لو حدثت لأي شخص لخضع لها، ولكن الله ثبت النبي(ص) في كل المراحل لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ( )، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا( ) يعني بسبب الضعف البشري لقد كاد يركن إليهم، ولكن من خلال تثبيت اللّه له بالعصمة واللطف الإلهي، فإن الله يثبت الرسول(ص) ويجعله لا يركن إليهم.
حكم الاعتكاف في القرآن:
* ما معنى الآية الكريمة: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ( )؟
ـ يعني أنه في حالة الاعتكاف في المسجد حيث يتعبَّد الإنسان إلى الله بالصلاة والصيام، لا يجوز للمعتكف أن يباشر زوجته.
هل يعتبر الكافر كريماً؟
* عند قراءة سورة (الدخان) نجد فيها الآية الكريمة ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ* ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ( )، فكيف يكون في جهنم عزيز كريم؟
ـ يعني أين عزتك وكرامتك أمام ما ينـزل بك من العذاب؟! وهذا وارد في مقام السخرية من الذين يدخلون جهنم، وليس بمعنى امتلاكه العزّة والكرامة فعلاً.
مواضع نزول الآيات:
* توجد تفسيرات مختلفة لبعض الآيات، مثل آية التطهير آية التبليغ وآية إكمال الدين، فما الحكمة في ذلك، وخاصة أنها ولّدت اختلافات كثيرة بين المسلمين؟
ـ الآيات واضحة، ولكن البعض يُرجِعُها حسب بعض الروايات إلى فترات أخرى، فمثلاً قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ( ) قيل إنها لم تنـزل في يوم الغدير للسبب المعروف، بل نزلت لمّا ورد علي (ع) من اليمن. وكذلك الآية الكريمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا( ). ولكن الروايات المتواترة تدلُّ على أن آية التبليغ والإتمام نزلت في يوم الغدير.
أما آية التطهير، فالبعض يقول إنها نزلت في نساء النبي(ص) بلحاظ السياق، ولكن الملحوظ أن آية التطهير نزلت وحدها بخصوص النبيّ(ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين o، ولكن عند ترتيب القرآن ترتبت بعض الآيات بحسب مناسباتها مع بعض الآيات الأخرى، فالحديث كان عن بيت النبي(ص) ولحقت بها آية التطهير، وليس معناها أن الخطاب موجَّه لنساء النبي(ص).
الكثرة والقلّة في القتال:
* في الآية الكريمة فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( ). نرجو توضيح تلك الآية على الواقع الراهن للمسلمين الآن وهم على كثرتهم؟
ـ الآية وردت في مقام تشجيع المسلمين لمضاعفة قوتهم بالمستوى الذي يتجاوز فردية كلّ منهم، ليضاعف ذاته ليكون بمثابة شخصين أو أكثر من ناحية القوة البدنية أو التسليحية وما إلى ذلك في عالم الحركة الجهادية، أما لماذا هذا الضعف لدى المسلمين اليوم، فإنه يعود إلى عوامل عديدة، منها الفرقة والتمزق وغياب الوعي السياسي وغير ذلك.
المعوذتان في القرآن:
* قال اللّه سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( ). قيل إنه هناك من يشكك ببعض السور بأنها ليست من القرآن كالمعوذتين، فكيف نردُّ ذلك؟
ـ القرآن منذ نزوله حتى الآن هو هو، وإن كل التشكيكات حول القرآن قد سقطت جميعاً، ولذلك فلو أخذنا أقدم نسخة من القرآن الكريم في كلِّ العالم الإسلامي السنيّ والشيعي، فلا نجد نسخة واحدةً فيها مثل تلك التشكيكات، والقرآن واحد عند الشيعة والسُنّة. وأذكر أن أحد علماء السُنة ـ وهو الشيخ محمد الغزالي، وقد التقيتُ به في أحد المؤتمرات الإسلامية في الجزائر ـ قد قال لجماعته بأن يفتشوا بكل البلاد الشيعية ليجدوا ضمّة مثلاً أكثر من الضمّة الموجودة في القرآن، وهذا يدل على أنه حتى الذين يتحدثون عن التحريف لم يستطيعوا أن يضيفوا كلمة مما يدّعون تحريفه إلى القرآن.
ولذلك فإننا نلاحظ أن الأئمة (ع) عندما كثر الرواة الكذّابون قالوا: ((ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف))، ((ما خالف كتاب اللّه فاضربوا به عرض الجدار))، ((ما خالف قول ربنا لم نقله))، فاعتبار القرآن هو الميزان لقبول الأحاديث يعني أنّه محفوظٌ من التحريف، وإلا فلا يكون ميزاناً لذلك. فاللّه سبحانه وتعالى قد حفظ القرآن، والدليل على ذلك هو أن جميع المسلمين يقرأون قرآناً واحداً.
أعلمية سليمان (ع) !
* قال سبحانه وتعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا( )، كيف أصبح سليمان أعلم من أبيه داود الذي هو خليفة اللّه في أرضه؟ وما هو الشيء الذي فهَّمَّه اللّه لسليمان (ع) دون داود (ع)؟
ـ لم يخطئ داود (ع) في الحكم ولم يصوِّب سليمان حكمه، ولكن المسألة هي أن شخصاً أدخل غنمه إلى بستان شخص فعبث فيه وأتلف زرعه، ودارت المسألة حول كيفية أخذ صاحب الزرع حقه، فكانت هناك طريقتان: إما أن يأخذ صاحب الزرع الغنم، أو أن يأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بها لا على سبيل الملك، مقابل أن يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود الزرع كما كان، وعندها يأخذ كل واحد منهما غنمه وزرعه، فهما متفقان على أساس إرجاع الحق إلى صاحبه، ولكنهما اختلفا في الوسيلة، وكلا الوسيلتين صحيحة، ولكن وسيلة سليمان كانت أسهل وأيسر من وسيلة داود، وذلك ليس نقصاناً في داود (ع).
العفو عن النبي(ص):
* قال اللّه سبحانه وتعالى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ( )، وقال سبحانه وتعالى:لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر( )، كيف نوفق بين هاتين الآيتين وشبيهاتها مع كون الرسول(ص) معصوماً لا يأتي بذنب أو بشيء يستوجب العفو عنه من اللّه سبحانه وتعالى؟
ـ يقول المفسِّرون إنه ليس المراد بالذنب في هذه الآية هو ذنب النبي(ص) مع اللّه سبحانه وتعالى، بل ذنبه مع أهل مكّة، حينما انطلق الرسول(ص) بالدعوة، فأربك كل حياتهم، وجعلهم يتحركون معه في حرب هنا وحرب هناك، بحيث أدى ذلك إلى حصول وضع مربك كانت نتيجته إلحاق الهزيمة بهم في فتح مكة. فاللّه سبحانه وتعالى يقول إن هذا الفتح لغرض أن يعذرك أهل مكة في أي شيء سابقاً ولاحقاً. فالناس بحسب وضعهم إن انتصر أحدهم فإنهم يغفلون ما كان منه قبل ذلك التاريخ، فمثلاً إذا خدمت إنساناً أو أعطيته الحرية فيقول لك اعمل ما شئت، باعتبار أن تلك الحسنة تمحو كل ذنب، والله العالم..
وحدة الوجود:
* قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ( )، وقال تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ( )، فهل يستدل من أمثال هذه الآيات على وحدة الوجود؟
ـ ما علاقة وحدة الوجود بذلك؟ إن معنى هذه الآيات أن اللّه سبحانه وتعالى ليس موجوداً في مكان محدَّد، فاللّه هو خالق الخلق كله، وهو سر الوجود، وهو المهيمن على الأمر كله، فليس للّه مكان خاص، وهو اللّه في قدرته وعظمته، وفي نعمته وفي ما يتمثل في خلقه بما يتمثل فيه وجوده، وليس معناه أن وجود الخلق ووجود اللّه واحد، فلا علاقة لذلك بوحدة الوجود.
إبراهيم (ع) وعبادة الكواكب:
* في قوله تعالى في الحديث عن النبي إبراهيم (ع) إذ يقول: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي( )، فما تأويل هذه الآية، ومعلوم أن الأنبياء هم أعرف الناس باللّه سبحانه وتعالى؟
ـ هناك تفسيران: أحدهما يقول بأن اللّه سبحانه يهيّئ أنبياءه بشكل تدريجي تكاملي، ولذلك فإن إبراهيم (ع) كان ينتقل في عالم التفكير باللّه سبحانه مما عند الناس من جانب إلى جانب إلى أن حصل على دليل اليقين باللّه سبحانه وتعالى، وهذا ما يذهب إليه العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان، وهناك رأي آخر ذكرناه في تفسيرنا (من وحي القرآن)، وهو أن إبراهيم (ع) كان يريد أن يردّ على قومه ما أخذوا به من عبادة الكواكب والشمس والقمر بطريقة لا يتحداهم فيها وجهاً لوجه، بل إنه أدار الأسلوب كأنه يناجي نفسه ويجعلها في موقع الشاك المفكِّر، ثم يناقش المسألة حتى يستمعوا إليه فيعرفوا الصواب والمنطق من خلال ردّه على نفسه، فيدعوهم ذلك للتأمّل. إنه أسلوب تربوي يدعو من خلاله قومه إلى توحيد اللّه سبحانه وتعالى، ويردُّ عليهم بطريقة المناجاة الذاتية، وذلك من أفضل أساليب الدعوة إلى اللّه، وينبغي الأخذ بمثل هذا الأسلوب والدعوة به إلى اللّه سبحانه وتعالى.
استقبال القبلة في الفضاء:
* قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ( )، فكيف يكون اتجاه القبلة في الصلاة بالنسبة لرواد الفضاء الذين يكونون خارج المجال الجوي للكرة الأرضية؟
ـ الظاهر أنّهم يتوجّهون نحو الأرض، لأنه لا يمكن وضع خط مستقيم من محل الصلاة نحو الكعبة، وشطر المسجد الحرام، يعني جهة المسجد الحرام، وقد تكون الأرض أشمل في اتجاه القبلة بالنسبة لروَّاد الفضاء بمثل هذا المورد، بحيث يكون التوجّه نحو شطر المسجد الحرام المذكور في الآية، نظير ما ورد في بعض الروايات من أن البيت قبلة القريب ثمّ المسجد ثمّ الحرم للبعيد، والله العالم.
هداية الإنسان والمشيئة الإلهية:
* تقول الآية الكريمة إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ( ) هل تعني أنْ يشاء الإنسان من نفسه أم من اللّه عز وجل؟
ـ إنَّ اللّه لا يهدي الإنسان بطريقة جبرية، فالله يقول: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( )، ولكن اللّه يريد للإنسان أن يؤمن من خلال وسائل الإيمان التي هداه اللّه لها في ما أعطاه من عقل وفي ما هيّأ له من الوسائل التي يستطيع أن يستدّل بها على اللّه، وفي ما أنزل عليه من رسالات. لذلك فإنَّ اللّه يقول للنبي(ص) بأنك لا تملك أنْ تجعل الإيمان في نفوس الناس بشكل جبري أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( )، وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ( )، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ( )، فاللّه أوكل لرسله أن يقدّموا ما يملكون من وسائل الإيمان للناس ـ مما يملكونه منها ـ لينفتحوا على الإيمان. فقضية نسبة الإيمان إلى اللّه باعتبار أنه سبحانه هيّأ كل الوسائل للإيمان، وليس لأنه أجبر الناس على الإيمان، والله تعالى يقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً( ).
تكوين ملكة العقل:
* في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا( )، فكيف تتكَّون ملكة العقل؟ وهل حكم العقل صادر من معلوماته؟ وهل المعلومة متوقفة على العقل أم بالعكس؟
ـ لا بدّ من دراسة المسألة في ذلك، فالعقل ـ كما يقولون ـ على قسمين، فهناك عقلٌ مطبوع وعقل مسموع. هناك العقل الفطري الذي إذا بدأ الإنسان يعي ما حوله عرف اللّه فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا( )، وهو الذي يلتقي عليه كل الناس، وهناك عقلٌ ينطلق من خلال ما يقرأ وما يسمع، ومن خلال ما يجرّبه في الحياة، وذلك هو العقل التجريبي الذي ينطلق من خلال ثقافة الإنسان، سواءٌ من خلال التجربة أو التي يأخذها من تجارب الآخرين. وقد يخلط الناس بين العقل التجريبـي والعقل التأملي (الفطري)، ولذلك ترى بعض الناس يقول إن عقلَه لا يتقبّل الشيء الجديد، لأن ثقافته محدودة، كمن تثقّف على فكرة لا تؤمن بالغيب أو أن لا يقبل عقله فكرة وجود جنة أو نار، بينما لا يراه العلم شيئاً مستحيلاً، وكما قال ابن سينا: ((كلُّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان)). فكل شيء ممكن إلاّ ما ثبتت استحالته، ولذلك فعلى الإنسان أن يفرّق بين ما لا يقبله العقل على أساس الاستحالة والإمكان (العقل الفطري)، وبين ما لا يقبله من موقع الثقافة المحدودة (العقل الثقافي التجريبـي)، وليس من الضروري أن يكون ما تعلمته هو الحقيقة، فقد يكون الذي علّمه مخطئاً.
ولذلك نقول إن هناك فرقاً بين أن يكون الشيء غير معقول وبين أن يكون غير مألوف، فنحن نعيش في عالم المألوف، فنألف المحسوسات، ولا نألف ما هو خارج نطاق الحس، فلو فرضنا أننا لو حدّثنا آباءنا وأجدادنا عن المكتشفات الحديثة، مثل الصعود إلى القمر أو وسائل الاتصالات والإنترنت، بحيث يرى من هو في الشرق صاحبه في الغرب، فلو حدّثناهم بذلك لقالوا: هل ذلك معقول؟. ونحن غالباً ما نخلط بين غير المعقول وغير المألوف.
كملة (الرجس) في آية التطهير:
* ما هو المقصود بكلمة (الرجس) في آية التطهير؟
ـ (الرجس) يعبّر عن القذارة المادية والمعنوية، وقوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا( )، أنه سبحانه وتعالى أذهب عنهم الرجس، رجس المعصية، ورجس الباطل أو الخطأ، وذلك كناية عن ثبوت العصمة لأهل البيت (ع).
رجم الشياطين:
* ما هو تفسير الآية الكريمة: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ( )؟
ـ يُقال إنَّ الشياطين كانت تسترقّ السمع قبل الرسالة الإسلامية، فلما أُرسل النبي(ص)، ـ وكما تحدّث القرآن على لسان بعض الجن ـ: فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا( ). فالشهب كانت ترجم الشياطين الذين يقتربون من السماء، ونصدق بذلك لأن القرآن قال لنا ذلك، وهو ـ أي القرآن ـ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه( )، وإنْ كنّا لا نعرف تفاصيل ذلك، لأنَّ اللّه سبحانه أجمل الحديث عنه، فلنُجمل كما أجمله اللّه سبحانه.
غواية إبليس:
* ما المقصود بقول إبليس بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ( )؟
ـ يعني أنَّ اللّه سبحانه وكَل إبليس إلى نفسه التي بالكبرياء، فتركه اللّه لنفسه وجعله في خطِّ الخسارة، وقال إبليس إنه سيثأر من بني آدم مثلما خرج من الجنة، فإنه سوف يُخرجهم من الجنة، ولذا فقد حذر اللّه بني آدم من الشيطان بقوله سبحانه: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ( ).
معنى كلمة (ثابت):
* ما المقصود بكلمة (ثابت) في الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ( )؟
ـ يعني أنّ الكلمة الطيبة تعبّر عن الحقيقة التي هي متجذّرة في الحياة وفي واقع الإنسان، لأنّها لا تتغيّر ولا تتبدّل ولا تهتزّ، بينما الكلمة الخبيثة تكون على السطح إذا جاءتها ريح اجتثّتها من الأرض، وذلك على سبيل الكناية في عدم ثباتها في عمق الحقيقة.
الباقيات الصالحات:
* قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً( )، فهل الأفضلية للصالحات؟
ـ هي الأعمال الصالحة التي تُقرِّب إلى اللّه، بينما المال سنفارقه، وكذلك الأولاد تعيش معهم مدة، وإمّا أن يفارقوك أو تفارقهم، ولكن الأعمال الصالحات هي التي تبقى لك وتمثّل امتداداً لك في آخرتك وهي التي تفيدك هناك.
الاختلاف بين التضادّ والتنوع:
* الاختلاف سُنَّة ماضية في الحياة البشرية وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ( )، وقد نهى القرآن عن النـزاع والتفرّق الذي يفضي إلى تمزّق المجتمع، لكنه اعترف بالاختلاف وقَيِلَ التنوّع والتعدّد. ما هو الإطار القرآني رغم التنوع والاختلاف؟
ـ لقد أكَّد الإسلام على رفض العدوان على الآخر مما تكرّر في مثل قوله تعالى:وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( ) ما يوحي بأنَّ العلاقة بالآخر هي علاقة سلام من حيث المبدأ ما لم يقم الآخر بالعدوان. وعلى ضوء ذلك، فقد قَبِلَ الإسلام بالآخر في المنطقة التي يملك فيها القوّة والامتداد على مستوى السلطة، فأكَّد التعايش مع أهل الكتاب، ورسم للتعايش مع غيرهم خطوطاً تعاقدية من ضمن النظام العام، كما اعتبر الإنسان الآخر المختلف المسالم إنساناً يملك الحق في التعامل معه على أساس الإحسان والعدل من دون أنْ يحدد هويته العقيديّة، ما يوحي بأنَّ الإسلام لا يمنع التعايش في المجتمع الواحد أو في المجتمعات المتعددة مع الآخر المختلف في واقع التواصل الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة، وذلك قوله تعالى:لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( ).
أما الآخر المحارب أو المتحرّك في خط الظلم والعدوان، فإنَّ الموقف معه يختلف، لأنّه يرفض التعايش القائم على احترام حق الآخر المسلم في دينه، وفي وطنه، وعلى هذا، فلا ولاية معه، لأنه رفض الولاية الاجتماعية مع المسلم، وذلك ما يبيّنه قوله تعالى: إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ( )، لأنَّ الولاية لهم في مثل هذه الحالة العدوانية تؤدي إلى أضرار ومفاسد في الواقع الإسلامي الأمني والسياسي، بالإضافة إلى تأثيرها السلبي على الجانب الثقافي في التزام المسلم بحماية موقعه الفكري في العقيدة وفي الخطوط الثقافية على صعيد المفاهيم العامة. وقد أشار القرآن الكريم إلى مسألة التفريق بين المسالم والمحارب، بقوله تعالى:وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ( )، باعتبار أنّ الظالم ليس رجل الحوار، بل هو رجل العدوان، ما يفرض أن تكون واقعية العلاقة بالتعامل معه بالأسلوب الحاد للدفاع عن الموقع والخط والواقع.
ومن الملاحظ أنَّ الآيتين لم تخصّصا طرق التواصل والتعايش لأي من الفريقين، بل جعلت السلم عنواناً للفريق المسالم، ما يوحي بأن المقصود بها في الإطار القرآني هي حالة السلم، أياً كانت الظروف الموضوعية المحيطة بالمجتمع في العلاقات السلمية بين المسلمين بغيرهم، ولا سيما أنَّ المسألة لا تنحصر في عقد الذمة، بل تشمل المصلحة الإسلامية العليا في ذلك. أمّا مسألة الاختلاف في الفكر أو في حركة الواقع أو في حاجات الحياة، فهي قضايا نابعة من طبيعة الاختلاف في التكوين العقلي والنفسي والعملي للإنسان، ما يجعل من الضروري دراسة الأسس التي يتمّ فيها التواصل والحوار، ومعالجة السلبيات الناتجة عن ذلك، بما يمنع الناس من تهديم الحياة على أساس ما يختلفون فيه.
الألفاظ غير العربية في القرآن الكريم:
* لماذا ذُكرت في القرن الكريم أسماء غير عربية، مثل (آزر) و (إسحاق)، بينما نزل القرآن باللغة العربية؟
ـ اللغة العربية هي أنْ تعبّر من خلال المناهج العربية وأصول المحاورة عند العرب، أما أسماء الأشخاص فإنها تنقل كما هي، وحتى في اللغة الإنكليزية مثلاً، فإنهم عندما يذكرون أي مصطلح أو اسم عربي، فإنهم يأتون به عربياً، لأنَّ الأساس في أنْ يكون الكلام عربياً هو أن يجري وفق قواعد اللغة العربية، وهنالك أسماء معرّبة، فكل اللغات لم تبق فيها بعض الكلمات كما كانت عليه منذ البداية، ولكنها كانت تتطوَّر بفعل التفاعل بين الشعوب، حيث أنَّ كل شعب يأخذ مما لدى الشعوب الأخرى من خلال المؤثرات الثقافية وغيرها، فمثلاً اللغة الفارسية أكثر مفرداتها عربية، ولذلك كان شاه إيران – قبل انتصار الثورة الإسلامية – يحاول أن يبعد المفردات العربية من الفارسية. وعلى كل حال، فاللغات تتطور ولا تبقى كما كانت منذ البداية، وذلك لا ينافي كون القرآن عربياً.
النفس والروح في القرآن:
* لقد ورد في القرآن الكريم مصطلحان في عدّة موارد، وهما (النفس) و (الروح)، فهل يحملان المعنى نفسه أم لا؟
ـ يراد بمصطلح (النفس) في أغلب تعابير القرآن الكريم الذات الإنسانية، وهو الوجود الإنساني المركَّب من الروح ومن المادة، أما (الروح) فهي عبارة عن الطاقة التي أودعها اللّه في كل الأحياء، من إنسان أو حيوان أو غيرهما قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي( ) وإنْ كنّا لا نعرف طبيعتها، ولكن نعرفها بآثارها، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( )، أو بالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ( )، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ( )، فليست الروح هي التي تذوق الموت، ولكن الجسد هو الذي يذوق الموت، فالمراد هو الذات الإنسانية، وهي التي تحصل على الطمأنينة وعلى القيام باللوم على الأعمال السلبية التي يمارسها الإنسان.
تنزيل الملائكة:
* قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِم الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ( )، فمن هم الذين تتنـزّل عليهم الملائكة؟ وكيف يبشّرهم بالجنة؟
ـ الذين تتنـزل عليهم الملائكة هم المستقيمون كما بيّنت الآية، أما كيف تبشرهم الملائكة بالجنة، فذلك لا نعرفه، فالمهم البشارة، حيث نكتفي بها. أما كيف نتلقى البشارة، فذلك من غيب اللّه سبحانه وتعالى.
ما هو (الْخُنَّسِ):
* ما هو تفسير قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ( )؟
ـ (الْخُنَّسِ) النجوم التي تلمع ثم تخبو.
النفس الأمّارة:
*ما هو تفسير إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ( )،هل القول للنبي يوسف(ص)؟
ـ الظاهر أنّ ذلك القول لامرأة العزيز، باعتبار أنها كانت في مقام التوبة وتبرئة النبي يوسف (ع). أمّا النبيّ يوسف(ع)، فلم يصدر منه أيّ ضعف نفسي اختياري في مواجهة مواقف الإغراء ليتحدّث عن النفس الأمّارة بالسوء، بل تمرّد على ذلك واستعان بالله في مساعدته على الثبات في خط العصمة الروحية والعملية.
هل كان المؤمنون في ظلمات؟
* في آية الكرسي: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ( ). نفهم من هذه الآية ظاهراً أنَّ المؤمنين كانوا في بحر الظلمات ثم أخرجهم الله إلى النور والهداية، وكذلك الكفار كانوا في النور ثم أخرجوا إلى الظلمات ، فما هو تعليقكم؟
ـ المراد من ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطاهم الهدى الذي أخرجهم من ظلمات الضلال، وذلك بلحاظ ما قبل الهدى الذي جاءهم، أو الضلال الذي يمكن أن يقعوا فيه، وكان كثير من المؤمنين في الضلال فأخرجهم الله منه. أما الكفار، فإن الطاغوت هو الذي أوقعهم في الظلمات، لأن الهدى من الله والكفر من الطاغوت، وقد جرّهم الطاغوت إلى الضلال وأخرجهم من دعوة الله وفطرته التي فطر الناس عليها، وهي دين الله. قال تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ( )، وقد ورد في الحديث: ((كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)).
معنى الظن في القرآن:
* هناك آية قرآنية تقول: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه( )، فهل نفهم من سياق هذه الآية أن الإنسان لا يصل إلى مرحلة اليقين بيوم الحساب؟
ـ أولاً: يكفي الإنسان لدرء المفاسد والمخاطر ظنه، بحيث يكون هناك ترجيح لحالة على حالة، وهذا أمر طبيعي، إذ قد يحذر الإنسان من شيء خطر ولو ظن بوجوده ويستعد لمواجهته.
وثانياً: فإن الظن قد يراد به اليقين، فيكون قوله إني ظننت أي اعتقدت وتيقنت ذلك، باعتبار أنّ الظنّ يمثّل الاحتمال الراجح الذي قد يلتقي باحتمال آخر مرجوح في مقابل ذلك وقد لا يلتقي.
تفسير الشُّح:
* ما تفسير الآية وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ( )؟
ـ يعني يوقى البخل، فالشحّ هو البخل، بمعنى أن من يتحرر من البخل ويعش العطاء الذي يؤدي به إلى الله سبحانه وتعالى، يكن من المفلحين. وقد مدح الله سبحانه وتعالى أهل البيت (ع) لذلك، حيث قال تعالى: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا( ).
تجلي اللّه:
* ما نوع التجلّي المذكور في قوله:فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا( )؟
ـ يقول المفسِّرون إن اللّه سبحانه وتعالى لم يتجلَّ بذاته بالمعنى المادي للتجلي، ولكنه بعث بنوره في الجبل بالطريقة التي لم يستطع الجبل أن يتماسك فيها.
الخلق العظيم:
* في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( )، نعلم أن خُلق المصداقية والإخلاص هو من سيماء المؤمنين، فما هي توجيهات سماحتكم لرجالات الحوزة العلمية بالتحلي بتلك الأخلاق الإسلامية؟
ـ لقد كنت منذ انطلاقي بالعمل، أدعو المؤمنين لأنْ يعيشوا في الخط الذي انطلق فيه الرسول(ص) في خُلقه العظيم الذي هو تجسيد القرآن الكريم كلّه، وأنَّ على الإنسان الحوزوي المؤمن أنْ يكون قدوةً للآخرين، بأنْ يكون واسع الصدر، منفتح العقل، رحيماً بالناس، كما كان خُلُق الرسول(ص) مع قومه لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ( ) أن لا يتكبّر على الناس، أو يستعلي عليهم، وأنْ لا يشعر أنه في درجة فوقهم، بل يشعر بآلامهم ومشقاتهم. عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حريص عليكميعني يشق عليه ما يصيبكم في الحياة، ويحرص عليكم من أنْ تنهزموا أو تتفرقوا، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. ولعل المشكلة أنّ البعض من الناس الذين يحملون الدين كعنوان، لا يعيشونه كواقع يجسّدونه بأنفسهم. إنّ اللّه أراد لرسوله أن يكون إلى جانب كونه شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، أنْ يكون القدوة، فقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( ). ولذلك، فعلى الإنسان أن يكون القدوة للناس في سيرته أكثر من كلامه لهم بلسانه.
إفساد بني إسرائيل:
* في قوله تعالى: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ( )، فهل في ذلك تقهقر للمسلمين أمام حالة الإفساد لبني إسرائيل؟ وهل يمكن العمل على قيام دولة الإسلام حتى قبل ظهور الإمام الحجة r حسب الدليل العقلي والنقلي؟
ـ يصف الله سبحانه وتعالى حالة بني إسرائيل باعتبار أنهم الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ( )، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ( )، أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وقد اختلف المفسِّرون في توقيت المرتين، فهناك من يقول إنَّ المرة الأولى قد حصلت، وإنَّ علينا أنْ نترقَّب المرة الثانية، ويرى البعض أنه في المرة الثانية، سينتصر المسلمون على اليهود في فلسطين، ولا يمنع ذلك من أنْ نكون نحن منْ يصلح الأرض، ولذلك علينا أن نؤسس للإسلام حكمه ومواقعه بالوسائل المتاحة على مستوى التخطيط، وعلى مستوى التنفيذ.
وإذا كان البعض يقول إنَّ عملية الإصلاح تكون في آخر الزمان، فإنهم لا يدققون في هذه المسألة. فإنَّ في آخر الزمان سيعود العدل الشامل للأرض قبل يوم القيامة، ولكن تكليفنا هو أن نصنع موقعاً للعدل هنا وهناك، ولابد لنا أنْ نقوم بتأسيس موقع إسلامي يواجه التحديات، ويمنح المسلمين كرامتهم وعزتهم، ولا يستسلم للعدو الصهيوني، فهناك فرق بين العدل الشامل على الكون كلّه، وذلك في ظهور الحجّة r، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً، وبين إشاعة العدل هنا وهناك.
وتبقى مسؤولياتنا في الدعوة إلى الإسلام، وإقامة حكم الإسلام على مستوى العالم كلّه، وندعو إلى أسلمة العالم كلّه، كما كانت دعوة النبي محمد(ص): وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا( )، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار بالتي هي أحسن وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( )، ولكن مع الأسف، فإنّ بعض الناس غير مستعدين للعمل والجهاد في سبيل الله، ويقولون يجب أن تترك الأرض لتفسد حتى ظهور الحجةr، والكثير من جهلاء الناس يقفون بوجه المصلحين، لأنَّ المصلحين ـ برأيهم ـ يؤخرون ظهوره، باعتبار أنّهم يمنعون الفساد من أن ينتشر. وقد نبّهت إلى أن الذين يقفون عند نهضة الإمام الحسين (ع) دون اعتبارها مرتكزاً للجهاد والعمل الجهادي، ويقولن إنه لتكن الحياة فوضى بعد ذلك ينطلق فيها المستكبرون والظالمون حتى يظهر الحجَّة r، نقول: إنّ هذا الادعاء على خلاف الإسلام، وعلى خلاف مفاهيم القرآن، والله تعالى يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ( ).
الوادي المقدّس:
* في قوله تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى( )، فأين يقع هذا الوادي المقدّس، وهل القدسية تعتبر روحية أم مادية؟
ـ من الطبيعي أنَّ الوادي المقدَّس الذي قدّسه الله يقع في تلك المنطقة التي أرسل الله فيها موسى (ع) بالرسالة (التوراة)، والبعض يقول إنها كانت في (سيناء) أو (فلسطين)، والمهم الفكرة، وتعني أن الله سبحانه وتعالى أعطى لبعض المناطق المقدسة معاني يمتزج فيها الجانب الروحي بالجانب المادي.
الدين القيِّم:
* ما هو معنى القيِّم في قوله تعالى ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ؟
ـ يعني الدين القائم الذي يقوِّم شؤون الناس وأوضاعهم ومستقبلهم.
الموت والإحياء:
* من هو الذي أماته الله مائة عام، ثم أحياه مرة أخرى؟
ـ يُقال بأنّه عزير (ع). ولكن ليس المهم الاسم، بل المهم المعنى، وهو بيان قدرة الله سبحانه وتعالى على الإحياء مرة ثانية. وينبغي أن تكون الأسئلة من خلال ما يتّصل بالواقع الحياتي أو بما يتعلق بأحكام الشريعة ومفاهيم الدين وعقائده مما يخضع لدائرة المسؤولية. فلو فرض أنّنا عرفنا الاسم، فماذا يقدِّم أو يؤخر في الفكرة الأساس لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأنَّ الله قد أجمل في الموضع، فلنجمل ما أجمله الله.
شجرة آدم:
* هل يمكن أن تكون الشجرة التي أكل منها آدم وحواء رمزية أم حقيقية؟
ـ لا شك أنها شجرة حقيقية، وليست رمزية، لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ( )، حيث نفهم من الإشارة كونها كذلك، بالإضافة إلى أن الترخيص في أكل كل ما في الجنة في قوله تعالى: وكلا منها رغداً حيث شئتما( ) يراد به الأكل المادي من خلال وحدة السياق، والله العالم.
الصلاة الوسطى:
* ما معنى قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ( )؟
ـ اختلف في تحديد الصلاة الوسطى، فالبعض يقول إنها صلاة الصبح، لأنها تتوسط بين الليل والنهار، والبعض يقول إنها صلاة الظهر لأنها تكون في وسط النهار، والبعض الآخر يقول إنها صلاة الجمعة، ويقال إن الله أخفاها كما أخفى ليلة القدر حتى يهتمّ الناس ويحافظوا على كل الصلوات.
الإنزال والتنزيل:
* ما الفرق بين الإنزال والتنـزيل؟
ـ الإنزال للقرآن الكريم يعني كما يقول البعض إنه نزل دفعة واحدة، أما التنـزيل فيعني أنه نزل على دفعات.
من هم المطهَّرون:
* في قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ( )، هل تختص بأهل البيت (ع) أو العلماء، أو كل إنسان؟
ـ هناك وجهتا نظر في هذه المسألة، وهي أنَّ بعضهم يفهم من الطهارة الطهارةالحدثية، وذلك عندما يريد الإنسان أن يمسّ القرآن، فلابد أنْ يكون على طهارة، إما على وضوء أو على غُسُل إذا كان قد أحدث بما يوجب الوضوء أو الغسل. وهذا الفهم جعل كثيراً من الفقهاء يفتون بأنه لا يجوز للإنسان أن يمسّ كلام الله إلاّ إذا كان على طهارة.
وهناك اتجاه آخر في تفسير لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ، وهو أنه لا يمس تفسيره إلاّ المطهرّون، وهم الذين يعيشون طهر الفكر، وربما جاءت بعض الأحاديث لتشير إلى الأئمة (ع)، وربما توسعت بعض الأحاديث لتشير إلى كل من صدق عليه عنوان أهل الذكر فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ( )، يعني أهل الاختصاص وأهل القرآن. ولكن الأخذ بالتفسير الثاني ـ يعني أنّ علينا أن نقرأ القرآن وقلوبنا مغلقة؛ والمفروض ـ حسب التفسير الثاني ـ أنّنا قاصرون عن فهم القرآن، مع أنَّ الله خاطب الناس كلهم، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ( )، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى( )، وإلاّ كيف يكون القرآن حجة على الناس. نعم، قد لا يكون فهم كلّ تفاصيل المعنى القرآني متيسّراً لجميع الناس، لأنّ في بعض الآيات عمق النظرية التي تحتاج إلى تفريع وتوسيع وتعميق، ولكن، مع ذلك، فإنّ هذا المعنى العميق يمثّل المعنى الذي نفهمه من الآيات عند قراءتها، غاية الأمر، أنّ نفس المعنى عميق، لا أنّ معناه لا يُدرك من قبَل أهل العلم والاختصاص.
ولذلك نقول إنّ هذا التفسير الثاني قد يكون بعيداً عن طبيعة دور القرآن في الدعوة إلى الله، والله يتحدث عن القرآن أنه واضح، وأنه (بلسان عربي مبين)، وما إلى ذلك .. نعم فيه آيات متشابهات ـ مثلاً ـ وهذا يرجع بها إلى المحكمات، وتدرس على هذا الأساس، وأما القرآن بشكل عام فمعناه ظاهر، ولذا يقول العلماء إنَّ ظاهر القرآن حجة.
الإصرار على الكفر:
* قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ( ). هل تتوقف حركة الدعوة إلى الله عند مواجهة البعض؟
* هؤلاء الذين أغلقوا عقولهم عن الاستماع ولم يكونوا على استعداد للسماع خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ( ). تقول له فكّر واسمع، فيقول لك: لست مستعداً لأن أفكر أو أسمع، وبعض الناس لا يسمع لأنّه يعتبر فوق عقول الناس، ولذلك كان أمثال هؤلاء المذكورين في الآية ممن لا يفيد معهم الكلام، لأن الكلام إنما يكون مع الإنسان الذي يفتح عقله ليستمع إليك أو ليفكر معك..
سيل الأودية:
* ما معنى قوله تعالى: أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا( )؟
ـ يعني (الزبد) الذي يطفو فوق الماء، وتتمّة الآية: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ وهو ما يظهر عند الاشتعال، كما في صناعة الذهب والحلي أو اتخاذ الأواني والآلات المصنوعة من الحديد والمعادن، فيظهر شيء مثل الزبد عند صهر الذهب بالنار.. كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وقد شبّه الباطل بالزبد، الذي يكون فوق الماء لأنه لا استقرار له ولا بقاء، بل يرمى خارجاً. أما ما ينفع الناس فهو نفس الماء الذي يمكُث في الأرض ويتحوَّل إلى خزَّانات جوفية، وهذا هو مثل الحق؛ فالباطل قد يطفو ويظهر ولكنه يذهب مثل الزبد، ولكن الحق يتعمق لأنه في مصلحة الإنسان وفي حياة الإنسان.
القلب في القرآن:
* ما هي علاقة العقل بالقلب في قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا( ) أليست النية تصدر من القلب؟
ـ القلب هو العقل إن في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ( )، فالقلب هو منطقة الإدراك الداخلي للإنسان، سواء كان ذلك بالإحساس أو الشعور أو العقل، فلا فرق بين تعبيري العقل والقلب في هذا المجال.
الروح القدس في القرآن:
* ما معنى الروح القدس في القرآن؟
ـ لعلّ المقصود بالروح القدس الذي ورد في القرآن هو الروح المطهر جبرائيل (ع)، وذلك من خلال مراجعة الآيات التالية: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ( )، و تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ( )، و إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا( )، وقُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ( ). وربما أريد من الروح القدس الطاقة الروحية والعقلية التي يفيضها الله على الأنبياء والأولياء بما ينفتح بهم على الحق في مواقع العصمة الفكرية والعملية ويهديهم إلى الصراط المستقيم وإلى سبل السلام.
شهادة المرأة في القرآن:
* لماذا صرّح القرآن الكريم بأن شهادة امرأتين هي بمثابة شهادة رجل واحد، بحيث لو أنني كنت شاهدةً لجريمة ما فإن شهادتي تعتبر لا شيء؟
ـ إن الإسلام لم يلغ شهادة المرأة مطلقاً وفي جميع الحالات، كما لم ينطلق في ذلك من خلال دونية المرأة أمام الرجل، بل انطلق ـ في عالم الشهادة ـ من خلال طبيعة المشهود به، حيث يتطلب الأمر ـ في بعض الحالات ـ الاحتياط من أجل تحقيق العدالة. فنحن نلاحظ ـ مثلاً ـ في مسألة إثبات الزنا، أنّ الإسلام لم يكتف بشهادة رجل واحد أو رجلين، بل لا بد أن يشهد أربعة رجال، وهذا ليس المراد منه الانتقاص من قيمة الشاهد، بل هو زيادة في الاحتياط فيما يتصل بالمسألة، حذراً من احتمالات الغفلة أو الخطأ أو نحو ذلك مما يخضع له الشاهد من دون تعمّد.
ثمّ إنّ الآية القرآنية بيّنت ذلك بصراحة وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى( )، مع العلم أن هناك موارد لا يأخذ بها إلا بشهادة النساء، وذلك حيث يتعذر إشهاد الرجال ولو من الناحية الشرعية، بل لو فرضنا كما في مورد السؤال، وبصرف النظر عن بعض الخصوصيات، لم يكن إلا امرأة واحدة وشهدت على حصول جريمة ووقوعها، فلو أفادت شهادتها القطع والاطمئنان، فإن شهادتها معتبرة ويؤخذ بها في هذا المقام. ولو فرضنا أن شهادتها لم تكن بهذه المثابة، بل أفادت الظن وكان هناك احتمال للخلاف، فلا يجوز ترتيب الأثر على هذه الشهادة، لأن ذلك قد يوقعنا بالندم فيما بعد لو تبين أن هذا الاحتمال لم يكن مطابقاً للواقع، وأن الظن كان وهماً وخطاً، كما هو الحال تماماً لو كان الشاهد الوحيد أيضاً هو رجل واحد. ولذا فإن الإشهاد هو وسيلة من وسائل الإثبات، ولابدَّ من أنْ نوفر العناصر الضرورية من أجل أن تؤدي هذه الوسيلة غرضها في بعض ما يتصل بما أحاطت به الشريعة، كالدماء والأعراض والأموال الخطيرة.
زينة المرأة في القرآن:
* ما المقصود بالآية (31) من سورة (النور) وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، هل المقصود من يضربن هو إحداث صوت أثناء المشي، كما هو الحال باستخدام حذاء ذي كعب ؟ هل هناك حرمة في لبس المرأة مثل هذا النوع من الأحذية؟ وهل هذا الحكم يشترك فيه المراجع؟
ـ ليس المقصود من هذه العبارة هو خصوص لبس حذاء ذي كعب عال وإحداث الصوت من خلاله أثناء المشي، بل ذلك إشارة إلى ما يصدر من المرأة مما هو مخفي من زينتها، كالخلخال والعقد والقرط والسوار، بحيث يكون ذلك مما يثير الرجال ويدفعهم إلى التفكير بالأمور المحرّمة، وليس لبس الكعب العالي بحسب طبيعته محرماً، بل إنما حُرِّم إذا كان مصداقاً لما يثير ذلك عند الرجال.
الخلود خلود السموات والأرض:
* ورد في بعض الآيات القرآنية خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ( )، فهل سنحيا إلى أجل مسمى في دار الآخرة، أم نحن خالدون كخلود اللّه عزّ وجلّ؟
ـ قد يكون المراد من قوله تعالى خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُأن سبحانه وتعالى يريد أن يقول بأن كل شيء خاضع لمشيئته، فليس هناك شيء يستمر في الدنيا أو في الآخرة إلاّ من خلال إرادته التي تعطي للأشياء وجودها واستمراريتها، والخلود في الجنة أو في النار يخضع كذلك لمشيئة اللّه في بقاء الإنسان هنا أو هناك، واللّه العالم بحقائق آياته.
تعذيب الأنبياء:
* في قصة النبي سليمان (ع)، حينما فتش عن الهدهد ولم يجده، فقال عنه لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ( )، ونعلم أن الأنبياء رحمة للعالمين، فما هو رأي سماحتكم في تهديد النبي سليمان (ع) لهدهد؟
ـ لا يوجد منافاة للرحمة في تلك القصة. فالنبي سليمان (ع) كان يمثل ملكاً يتحمل فيه مسؤولية كل المخلوقات التي وضعها اللّه تحت سلطته من الجن والإنس والطير، فكان الجميع ـ بما فيهم الهدهد ـ خاضعين للقانون، وعندما غاب الهدهد عن سليمان من دون إذنه، فبحسب الشكل كان الهدهد في حالة معصية لسليمان، لذلك فعقوبته تنسجم مع القانون، أو أن يكون الهدهد قد ذهب في مهمة تخدم الرسالة وتعرّف النبي سليمان (ع) أمراً يمكن أن ينطلق منه إلى عالم آخر أو أناس آخرين ليهديهم إلى اللّه ليكون غيابه مبرراً، فعندما جاء الهدهد وأخبرهم عن أولئك الناس الذين كانت تملكهم امرأة ويعبدون الشمس من دون اللّه، وعرف النبي بحالتهم، فعند ذلك تهيأت الظروف للنبي سليمان ليرسل إلى ملكة سبأ رسالة فيها دعوة وقوة، ثم انطلقت تلك الدعوة وأسلمت تلك الملكة. فمعاقبة العاصي أو المخالف للقانون هو أمر لا يمنع من الرحمة ولا يتنافى معها، لأن هناك فرقاً بين رحمة المجتمع ورحمة الفرد. فعندما يراد قتل شخص قاتل فربما تشعر نحوه بشيء من الرحمة لأنه إنسان، وهذا ما يبرّر به البعض رفضهم لفكرة إعدام القاتل، في الوقت الذي نرى فيه أنّ الاقتصاص منه قد يشكلِّ ضمانةً لحياة المجتمع وأمنه، كما في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ). فالأمر في العقوبة القانونية موجود في كل الرسالات السماوية من أجل تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، واللّه العالم.
تعلّم سورة يوسف (ع):
* نرجو من سماحتكم البيان في صورة الحديث المروي عن الإمام علي (ع): ((لا تعلِّموا نساءكم سورة يوسف، ولا تقرئوهنّ إياها، لأن فيها الفتن، ولكن علّموهن سورة النور، فإن فيها المواعظ)).
ـ في مناقشتنا لهذه الرواية ـ من حيث مضمونها ـ نجد:
أولاً: إن كل القرآن نور وهداية، ولذلك لا يمكن أن يصدر من أي إمام نهي عن قراءة أية سورة من القرآن.
ثانياً: إن سورة يوسف (ع) تمثِّل أعلى درجات العفّة. صحيح أنها تمثِّل شخصية امرأة العزيز والنسوة اللاتي جمعتهن لمحاولة إغراء يوسف (ع)، ولكن السورة توضّح أن يوسف (ع) برز في أعلى درجات العفّة وأعلى درجات اللجوء إلى اللّه سبحانه وتعالى. والآية الكريمة وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا( ) ليس المراد فيها المعصية أو الهم بها، ولكنها تعني الانجذاب الجسدي لا الانجذاب العقلي، وهي حالة شبيهة بحالة الصائم الذي عندما يمرّ على مطعم ويشمّ رائحة الطعام، فتصبح عنده إفرازات طبيعية رغم أنه صائم، وهو ليس مستعداً لأن يفطر. وهو مما قرره الكثيرون من العلماء حول تفسير تلك الآية من سورة (يوسف)، وكما عبّرنا عنها بالانجذاب، فعندما جمعت امرأة العزيز نسوة المدينة وحاولت إغراء يوسف (ع) وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ فاستعملت كل وسائل الإغراء ووسائل الضغط فوق العادة على يوسف(ع) وهو بعد لم يزل شاباً، فقال قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ. فالنبي يوسف(ع) في تلك القصة يمثِّل العصمة والسُموّ.
ثم نلاحظ عند خروج يوسف من السجن، وقد أراد العزيز (الملك) أن يجعله (ع) في المراتب العالية حينما فسّر حُلم الملك، فلم يقبل يوسف (ع) أن يخرج من السجن إلاّ بعد أن تثبت براءته للناس كافة، فقال لمبعوث الملك: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، عند ذلك قالت امرأة العزيز الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. إذاً معنى ذلك أن امرأة العزيز تراجعت وأعلنت بعد ذلك عن شعورها بالخطأ، وأن يوسف (ع) بريءٌ من تهمها، فخرج يوسف (ع) نقيّاً أمام المجتمع بريئاً وبالمستوى الأعلى من الأخلاق، وعلى هذا الأساس، تمّ تكليفه بتلك المسؤولية بقوله للملك قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( ) فلو لم تظهر براءته أمام الناس لما وصل إلى تلك المسؤولية.
فعندما ندرس قصة يوسف (ع) من أوَّلها إلى آخرها، نشعر بأن هناك نوعاً من الإرباك الاجتماعي موجود في كلِّ زمان ومكان، وتمثّل تجربة النبي يوسف (ع) فيه التجربة الأخلاقية الرائعة، سواء بالنسبة ليوسف (ع) أو حتى بالنسبة لامرأة العزيز التي اعترفت بخطئها وتراجعت. فأي درس للرجال والنساء أعظم من ذلك الدرس في قصة يوسف (ع)، والذي يمكن أن يستفاد منه في المجتمع في كل زمان ومكان، هذا بالإضافة إلى أنّ الرواية المذكورة ضعيفة السند. والرواية لا بد أن تناقش من ناحية السند والمضمون معاً.
مناجاة النبي محمد(ص):
* ما معنى الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( )؟
ـ قيل إن سبب نزول هذه الآية أن الناس كانوا يتجمعون عند النبي(ص) بحيث يشغلونه ويعكّرون حياته الشخصية، فأراد اللّه أن يخفّف عن النبي(ص)، فأمر كل واحد من الناس يريد أن يلتقي بالنبي(ص)، أن يأتي بصدقة، ثم رفع اللّه عنهم ذلك، لأن المسألة كانت اختباراً وامتحاناً.
أمّية النبي محمد(ص):
* قال اللّه سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ( )، وفي آية أخرى يصف النبي(ص) بالأميّ، فهل الأمية تعني الافتقار إلى القراءة والكتابة؟ وهل تنطبق صفة الأمية على النبي(ص) وهو الذي جاء برسالة الإنسانية العالمية؟
ـ البعض يفسِّر كلمة (الأميّ) نسبة إلى أم القرى وهي مكّة، وقد كان اليهود يُطلقون على العرب (الأميين)، لأنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم من أهل الكتاب ويطلقون على غيرهم وصف (الأميين)، ولكن القرآن الكريم تحدَّث عن سر عدم ممارسة النبي القراءة والكتابة، كما في قوله تعالى وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ( ) فعلى مدى أربعين سنة لم يره أحد يقرأ في الورق ولم يكتب، إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ فقد رأى الناس النبي(ص) لا يقرأ و لا يكتب، وجاء برسالة يعجز عن فهم أسرارها الذين يقرأون ويكتبون.
فالقضية أن (الأميّة) هنا ليست ناتجةً عن حالة نقص، بل هي منطلقة من حالة بيان إعجاز الرسول(ص)، فهذا النبي الذي لم يقرأ كتاباً أو يستنسخ كتاباً خلال أربعين سنة، جاء بما يعجز عنه الذين يقرأون ويكتبون. فمعجزة النبي(ص) ليست فقط القرآن الكريم، ولكنها أيضاً رسالته العالمية التي لا تزال تفرض نفسها على الحياة، ولا يزال الناس يتحاورون في فهمها، فهذا هو الإعجاز. فالأميّة تكون نقصاً عندما تستتبع الجهل، ولكن عندما تنطلق الأمية لينتج صاحبها العلم كأفضل ما يكون العلم، فعند ذلك تعتبر قيمةً في هذا المجال، لأنّها تمثّل المعجزة، وتعدّ دليلاً على نبوّة الرسول(ص).
الله تعالى بين السِنة والنوم:
* في آية الكرسي كلمة لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ( ) والسِنة هي الغفوة كما هو معروف، والسؤال: ألا تكفي السِنة من النوم لأن الذي لا تأتيه السنة فهو من باب أولى لا يأتيه النوم؟
ـ يريد بذلك أنه لا تعرض عليه الغفوة، فكيف يعرض عليه النوم، ولذلك نفى ما هو أدنى، فهو في مقام نفي الاثنين معاً.
من هم الصادقون؟
* قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ( )، الخطاب موجّه للمؤمنين فما درجة إيمانهم، ومن هم الصادقون الذين أمر المؤمنين باتباعهم؟
ـ المراد بالذين آمنوا الذين أسلموا عن إيمان، وهم الذين انتموا إلى خط الإيمان وانفتحوا عليه في عقائدهم، أما الصادقون، فهم الذين يتحركون بالصدق في الكلمة وفي الموقع، وفي المسؤولية في كل قضايا الناس. ولذلك فانظر من تجعله أمامك تأتمر بأمره، وتجعله مثلَك الأعلى، فليكن الصادق الذي لا يخونك، والصادق الذي لا يؤدّي بك إلى الضياع. ولذلك ورد أيضاً تفسيرها في الأئمة(ع)، وذلك من باب التفسير بالمصداق الأكمل.
القدرات الخارقة:
* ورد في القرآن الكريم قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ( )، وقد فعل أن أتى بعرش بلقيس، فكيف حصل ذلك؟
ـ إنه ينطلق من خلال سر فيه الكثير من الغيب، وقد جاء عقيب ما أبداه عفريت من الجن، قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ( )، وكان الفارق بين هذا وذاك لحظات من الزمن.
الإمام المبين:
* ما المراد من قوله تعالى:وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ( )؟
ـ الظاهر أن الإمام هو الكتاب الذي أحصى اللّه سبحانه وتعالى فيه كل الأشياء من موجودات ومعلومات وكل ما يتصل بمخلوقاته، وهو اللوح المحفوظ، وهناك رأي آخر يفيد أن المراد منه هو صحف الأعمال.
الحق والصدق:
* قال اللّه تعالى:وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ( )، فما هو الفرق بين الحق والصدق؟
ـ لا فرق بينهما، "مصدِّقاً" يعني أن الرسول عندما يأتي برسالة، فإنه لا يلغي الرسالات الأخرى، بل إنه يصدق بكتب اللّه سبحانه وتعالى كلها.
وحدة الخلق:
* قال اللّه سبحانه وتعالى:وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( )، فما هو تفسيرها؟
ـ أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يبين أن قضية خلق الإنسان إنما هو على أساس زوجية الذكر والأنثى، وأراد سبحانه أن تكون العلاقة بينهما علاقة محبة ورحمة يخلص كلٌّ منهما فيها للآخر، وأن لا يجعلا حياتهما وفق القوانين الجامدة والحرفية، بل بالتسامح والمحبة.
صعود الكلام الطيب:
* ما معنى قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ( )؟
ـ يعني أنَّ الله سبحانه وتعالى يتقبل الكلام الطيب الذي يُمثِّل الكلام الذي يُرضي الله سبحانه وتعالى وينفع الإنسان وينفتح به على القيم الروحية والأخلاقية، وهذا ما توحي به كلمة الصعود إليه، فهي كناية عن قبول الكلام الذي يتحرّك في الحياة، ليؤكّد الحق ويستقيم به منهج العقيدة والشريعة والحياة. أمّا رفع العمل الصالح، فلأنّ العمل لا يبقى في الأرض ليكون مجرّد حركة تنطلق في نشاط الإنسان ثمّ تموت في تهاوي الصورة وغياب الزمن، بل يرتفع إلى الله لما فيه من نفع للإنسان والحياة في معناه الإيماني وغايته التوحيدية وروحيّته الإنسانية المتعلّقة بالله الخالصة له، فيلقى العامل بالصالحات أجره عند الله.
معنى الاستواء في القرآن:
* ما معنى كلمة (الاستواء) في القرآن الكريم، فقد وردت في موارد كثيرة، وكيف نوجه قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟
ـ الاستواء بالمعنى المادي هو الجلوس، وذلك أنْ يستوي على الشيء بمعنى أنْ يجلس عليه، ولكن الآية بقدر ما يتعلّق الأمر بالله سبحانه وتعالى، فإنّ المراد من الاستواء السيطرة، لأنَّ الإنسان إذا استوى على العرش أحاط به، بمعنى سيطر عليه بجسمه وأصبح جسمه مسيطراً عليه، ثم قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فإن العرش ـ هنا ـ كناية عن الملك، وهذا متعارف عندنا، وفي اللغة، ولذلك عندما يقولون فلان مثلاً ـ وبلا قياس وتشبيه ـ جلس على العرش، يعني جلس على المملكة. فالعرش كناية عن موقع السيطرة. وربّما كان المراد من العرش الموقع الأعلى في الكون الذي يمثّل المظهر البارز للسلطة. أما كلمة ثُمَّ فليس المراد بها الترتيب الزماني في هذا المقام، ليقال بأنه لم يكن هناك سيطرة على الملك، ثم حصلت السيطرة، وإنما هي واردة في مقام الترتيب الذكري. وهناك ملاحظة، وهي أنّ الفعل الماضي إذا أسند إلى الله وإلى المجرّدات فإنّه يتجرّد عن دلالته على الزمان الماضي، والله العالم.
ثبات الآجال وتغيرها:
* قال الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ( ). ما هو الرابط بين هذه الآية والروايات التي تقول بأنّ صلة الرحم ـ مثلاً ـ تطوّل العمر؟
ـ ليس معناه أنْ يطول العمر بعد أنْ كان قصيراً، بل يعني أنَّ الله إذا علم أنَّ فلاناً سوف يصل رحمه، فإنه يقدِّر عمره بملاحظة ذلك، كما يقدِّر الله الأعمار بأسبابها الطبيعية التي يعيشها الإنسان بعد أو في وجوده، فإنَّ الإنسان قد يعيش في مجتمع يزخر بالمكروبات، فإن جسمه لا يتقبل أن يعيش طويلاً، وقد يعيش في مجتمع صحي، في غذاء جيد، وما أشبه ذلك.. وعليه، فإن الله في تقديره عمر الإنسان يلحظ ذلك، وهو الذي سبَّب الأسباب، وهو الذي سنَّ السُنن، وهو الذي نظم الكون، ومثلما يلحظ في تقدير عمر الإنسان الظروف الطبيعية التي تساهم في عمره، كذلك يلحظ الجوانب المعنوية التي تطيل العمر، وليس معناه أنه كان عمره في تقدير الله قصيراً، ثم عندما وصل رحمه أطال الله عمره، لأنّ إرادة الله النابعة من إحاطة علمه بالأشياء لا تتغير ولا تتبدل.
مسّ المصحف:
هل يجوز للمجنب أن يمس المصحف أو يقرأ كتاب الله؟
ـ أن يقرأ كتاب الله من دون مسّ كلماته وحروفه فذلك لا مانع منه، أما مسّ الكلمات وتوابعها فلا يجوز.
هروب يونس (ع):
* تقول الآية الكريمة: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ( )، فما تفسير هذه الآيات؟
ـ يعني كأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل يونس (ع) يعيش هذه التجربة نتيجة وجود خلل في الجوّ الذي كان فيه، حيث اعتبر أنه قام بكل جهده وأنّ قومه لم يؤمنوا، فرأى أنه معذور أمام الله سبحانه وتعالى فيما لو فارق قومه، فذهب وخرج من قومه وركب السفينة، وكانت العادة أنه عندما يهاجم الحوت السفينة، فإنه يقدم له أحد ليأكله، ومن عادتهم أنْ يقوموا بالقرعة، فخرجت القرعة على يونس (ع)، فالتقمه الحوت، ولكن الله سبحانه وتعالى أبقاه بظروف حياة غير طبيعية في بطن الحوت إعجازاً، وكان سبب ذلك أنه كان يسبّح الله وهو في بطن الحوت. والمسألة كما بيّنّاها أنه كان يرى نفسه معذوراً في ذلك، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يبتليه بذلك من حيث ترك الأولى لا ممارسة الخطيئة، ولكنه أنقذه ثم أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، ما يدل على أنه لم يكن في موضع غضب فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ( ).
نبوَّة هارون:
* ورد في القرآن أنّ هارون صار نبياً بسبب دعاء أخيه موسى (ع)، فما تعليقكم؟
ـ لقد أراد موسى (ع) ـ في مواجهة فرعون ـ أن يكون معه شخص يصدقه ويدعمه ليكون في الموقف الأقوى، فقد جاء على لسانه في القرآن الكريم: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، والله سبحانه وتعالى أجابه لذلك: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى( )، والمسألة أن الله سبحانه أجاب سؤله لا لمجرد الدعاء، بل لأنّ هارون يملك هذه القابلية، يعني أنَّ موسى (ع) يعرف أن له القابلية، والله يعلم ذلك، غاية الأمر أن نبوّة هارون مع موسى ليست نبوَّة مستقلة، بل نبوّة بإشراف موسى (ع) إنْ صحَّ التعبير، مثل قضية لوط (ع)، لأنّ لوطاً أساساً من أصحاب إبراهيم (ع)، فالله سبحانه وتعالى بعثه نبياً إلى قومه حتى يعالج مسألة الشذوذ الجنسي وما إلى ذلك .. وعندما جاء العذاب وجاء أمر الله بأنْ يعذب قوم لوط، فإن الملائكة ذهبوا أولاً إلى إبراهيم (ع)، ولذا ورد في القرآن: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ( ).
ولذلك فإنّ نبوَّة هارون جاءت لأن الله أراد من هارون أنْ يسدِّد خطوات موسى (ع) عندما يحتاج موسى (ع) إلى الدعم والقوة في ذلك، لأنّ للأنبياء منازل مختلفة، والله يقول تلك الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ( ).
إظهار الإيمان والدين:
* قال الله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ( )، قيل إنها إشارة إلى المهدي r ، ما هو رأيكم بتفسير هذه الآية الكريمة؟
ـ هذه الآية تتحدّث عن النبي(ص) في رسالته في ذلك الوقت، وأنه يسيطر على الشرك كلّه، وأنه يسيطر على المنطقة التي كانت الأديان تتحرك فيها، وخصوصاً على المشركين وعلى اليهود، بحيث ضعف الشرك وضعف اليهود والنصارى وما إلى ذلك وظهر الإسلام وانتشر الحق، فالآية هنا ليست واردة في مرحلة الظهور. ولكن على كل حال، لا إشكال بأنّ مرحلة الظهور مرحلة ينطبق عليها ذلك، وأن الله يظهره على الدين كلّه في تلك المرحلة عندما يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
تحمل مسؤولية الجريمة!!
* ما تفسير هذه الآية: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى؟
ـ يعني أن كل إنسان يتحمل مسؤولية جريمته ومعصيته، فلا يحاسب إنسان ما بجريمة إنسان آخر، ولا يمكن أن نحاسب الأب بجريمة ولده، أو الولد بجريمة أبيه أو ما أشبه ذلك، لأنّ كل إنسان يتحمَّل مسؤولية نفسه، ولا يتحملها أقرب الناس إليه، ولذا قلنا إن الشرف في الإسلام ليس عائلياً ولا وطنياً، بل إنه شخصي، وإنّ كل إنسان يحمل شرفه في ذاته من خلال حركة مسؤوليته في هذا المجال.
الشمس والزمهرير:
* ما معنى قوله تعالى: لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا( )، وهل الزمهرير من أسماء القمر؟
ـ المقصود لا يرون فيها حرّاً، ولا برودة، بل يجدون فيها الاعتدال، حيث المقصود بالشمس الحرارة، والزمهرير البرودة الشديدة، والله العالم.
ولاية الأرحام:
س: ما هو تفسيركم للآية الكريمة: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ( )؟
ـ قد تكون عامّة، لكن الفقهاء استدلوا بها، وخاصة فقهاء الشيعة، على مسألة الإرث، لأنّ اللّه لم يتحدّث عن كلِّ تفاصيل الإرث. فبالنسبة إلى البنت إنْ كانت واحدة، فلها النصف مما ترك أبوها، وأما النصف الآخر فإنها ترثه بمقتضى هذه الآية، وهكذا إذا كان ـ مثلاً ـ ابنتان فلهما ثلثا ما ترك، فيرجع الثلث عليها بمقتضى هذه الآية. ولم يتحدّث القرآن عن إرث العم والخال وأبناء العم وأبناء الخال. ففي هذه المسألة مثلاً، يفتي علماء الشيعة انطلاقاً من تفسير أهل البيت (ع)، بأن البنت لها النصف بالفريضة والنصف بالقرابة، باعتبار أنّ لها القرابة، وهي الأقرب، فتقدَّم على الأبعد وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فهي أولى من الأخوة وأولى من الأعمام مثلاً. وهكذا إذا لم يكن هناك أب أو أم ولا بنت ولا ابن ولا أخ، فإن الأعمام والأخوال يرثون بمقتضى هذه الآية، لأنهم أولى من أولاد الأعمام وأولاد الأخوال.
من هم العالون:
* ما معنى قوله تعالى: أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ( )، هل هو مقام أعلى من مقام العناصر (النار والطين والملائكة)؟
ـ بمعنى الاستعلاء، فهل أنت عالٍ حتى تأخذ لنفسك هذا الموقع الذي قد تدَّعي به السيطرة على الناس، وأنت لست بعالٍ فعلاً، وليس المقصود من العالين أن هناك جماعة معينة من الملائكة أو غيرهم موصوفين بذلك، بل هي كما يقال للشخص الذي يحاول أن يسيطر على الناس وأن يدعي القيادة وهو يفتقر إلى ما يؤهّله لهذا الاستعلاء.
الصوم والتقوى:
* قال اللّه سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( )، فما هي العلاقة بين الصيام والتقوى؟ وكيف نستغلُّ الصيام في بناء الروحانية؟
ـ هي علاقة عضوية مرتبطة ببعضها البعض، لأنّ التقوى تتأتى من تدريب الإنسان نفسه على ترك ما يحبّه وعلى فعل ما لا يحبه. ودور الصيام تقوية الإرادة في خطِّ المعاني التي يوحي بها الصيام، باعتباره فريضةً من اللّه سبحانه وتعالى، بحيث يترك الإنسان كل سيئ من العادات التي اعتادها، كما في التدخين أو في المخدّرات، أو غير ذلك مما قد ينشأ معه منذ طفولته أو خلال نشأته.. هنا الصوم يصقل إرادة الإنسان، فإذا كان مثلاً يستيقظ صباحاً ليفطر ثم يتناول غداءه ظهراً ثم ليلاً.. فإنه يقهر هذه العادة، لأنّ اللّه أمره بأن يصوم عن الطعام وعن الشراب، حيث يغير الصوم منهاج الإنسان وبرامجه، ويحذّره من العادة التي أخضع لها الإنسان حياته. وذلك عندما يصوم الإنسان صوماً واعياً، وهذا الوعي يجعل إرادته واعية وقوية، حصل عليها بمجاهدة نفسه ضد رغباته أثناء الصوم، ليجاهد نفسه في الردع عن المحرمات في غيره من الشهور، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى كما أمرنا بالصوم الصغير في شهر رمضان، فإنه أمرنا بالصوم الكبير في كل العمر، وهو الصوم عن كل المحرَّمات، فإنّ اللّه عز وجلّ يريدنا أنْ نصوم عن المحرَّمات في النهار والليل في شهر رمضان وفي مواقع الزمن. أما الإنسان الذي يصوم صوماً تقليدياً، لأنه اعتاد على الصوم، فإنه كما ورد عن النبي(ص): ((رب صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلاّ التعب والسهر، حبَّذا نوم الأكياس)) العقلاء ((وفطرهم)).
اختلاط الأعمال:
* قال الله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا( ). نحن ـ كما تقولون ـ لا نشك في غاية البعض وإخلاصهم للإسلام في حركتهم، ولكن ألا ترون أنّ الخلط يستوجب التنبيه والتدقيق لنتيجته السيئة؟
ـ إنَّ اللّه سبحانه وتعالى يتحدّث في هذا المقام عن بعض الناس الذين يعترفون بذنوبهم عندما خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهم يقفون نادمين أمام اللّه وتعالى.
العذاب القريب:
* ما معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا( )؟
ـ الظاهر ـ واللّه العالم ـ أنه وارد على نحو الكناية، بمعنى يا ليتني لم أكن موجوداً ولا إحساس لي ولا مسؤولية، كما هو التراب.
العفو عن ذنب النبي(ص):
* ما هو تفسير قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ( )؟
ـ ظاهر الآية أنّ النبي(ص) ارتكب خطأً وأنّ اللّه عفا عن ذلك، ولكن الواقع أن النبي(ص) لا يرتكب خطأً ما، وهو يكشف عن عدم إرادة هذا الظاهر، وذلك لأنّ اللّه لم يعهد إليه بأن لا يأذن للمتخلّفين، وإنما كان النبي(ص) يراعي المصلحة في قضية الإذن لهم، لأنهم يمثِّلون شخصيات اجتماعية، بحيث إن النبي(ص) يفكر بأنه إذا لم يأذن لهم ربما تخلق له المشاكل، ولكن اللّه تعالى أراد أن يفضحهم في هذا المجال، ويبين له أنهم لا يصدقون في أعذارهم ولو لم يأذن لهم لكان أولى.
مثل الكافرين:
* ما تفسير قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( )؟
ـ إنّ اللّه يتحدّث عن الذين يحملون الكتاب، وهم اليهود الذين يحملون التوراة في عقولهم وفي ثقافتهم، ولكنّهم لا يستفيدون منها، فلا يحلّلون حلالها، ولا يحرّمون حرامها، ولا ينفتحون على قيمها وتعاليمها وما إلى ذلك، فمثلهم كمثل الحمار، لأنّ الحمار عندما يحمل كتباً، فإنه يظلُّ حماراً، لأنه لا يستفيد من ذلك. لذلك لا يوجد فرق بين أن تحمل علماً في فكرك ولا تعمل به، ولا تستفيد منه، أو تحمل كتباً على ظهرك، لأنّ العلم أُريد له أن يتحوّل إلى عمل، يعني أنْ ينطلق ما في عقلك ليتحرك في كل حياتك، لذا قيل: العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، والمقصود بالأسفار الكتب.
إيذاء النبي(ص):
* ما تفسير قوله تعالى: وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( )؟
ـ هذه الآية لها قصة، وهي أنّ النبي(ص) كان يستمع لكل الناس، حيث يحدثه شخص عن مسألة ما فيستمع إليه، ويحدثه شخص آخر عن مسألة مضادَّة فيستمع إليه، فكان المنافقون يقولون إنه أذن، يعني أنه يستمع لكلِّ من حدَّثه، بمعنى أنه يصبح تحت سيطرة الآخرين، باعتبار أن الأذن هي التي تسيطر على علاقته بالناس، فيسمع لكل أحد، فالله يقول إنه أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ وذلك لأنه عندما يسمع، فإنه يسمع ولا يرتّب الأثر على ما يسمع، لأنه القائد الذي يسمع من الناس كلّ ما يقولون، ويسمع منهم حتّى المتناقض، وذلك يجعل للقائد خبرةً بالصورة العامة للمجتمع، وهو يسمع، ولكن عندما يتحرك، فإنه يتحرك بما يقتنع به ويعتقد أنه الحق، ولذا يقول اللّه أنه إذن خير، يعني أنه عندما يسمع شيئاً عنكم، فإنه لا يبادر إلى أن يصدّق أو يعاقب، بل يترك الأمر إلى دراسة كلِّ هذه المسموعات وما إلى ذلك .. وأي رحمة أعظم من رحمة القيادة التي لا تتصرَّف مع الناس بشكل سلبي لمجرد أنها تسمع من هذا سلباً بحق ذاك، وسلباً بحق هذا، واللّه العالم بحقيقة آياته.
قراءة القرآن في شهر رمضان:
* هل يجب على المكلف تجنب قراءة القرآن في نهار رمضان إذا كان لا يجيد القراءة الصحيحة، ويلحن بشكل واضح؟
ـ فليقرأ القرآن وليستفد منه ويفكر فيه، حتى لو لم يكن يجيد القراءة، لكن عليه أن يحاول تصحيح اللحن، بأن يستمع إلى تسجيلات القرآن ويعرض نفسه على هذه التسجيلات، فمن الممكن أن يجمع بين الأمرين.
باب المسائل
الفصل الثاني
المسائل العقيدية
مكانة العلماء:
* ما هو رأي سماحتكم بقول البعض إن العلماء العاملين في هذا الزمان قد يصلون إلى مستوى الإمام المعصوم من حيث العصمة؟
ـ العصمة لا تقوَّم بالكمية بل بالنوعية، فإن اللّه سبحانه وتعالى أعطى للذين اصطفاهم لرسالته واصطفاهم لولايته لطفاً من ألطافه، بحيث إنه جعل فيهم بعض الأسرار التي يتحركون فيها بخطِّ العصمة ولكن مع الاختيار، بالطريقة التي يعلمها اللّه سبحانه وتعالى، فالعصمة ليست بكثرة العمل، بل بالحكمة والملكة الروحية التي يملكها المعصوم في هذا المجال، وأنا شخصياً أستدل على العصمة بغير ما يستدل به العلماء الآخرون في موقع النبّوة والإمامة، لأن الإمامة هي حركة في خط النبوة، فعندما ندرس مهمة النبي(ص)،نجد أنه ليس مجرد ساعي بريد ليُسلِّم الرسالة إلى أصحابها فحسب،بل إن مهمته هي تغيير العالم وتغيير الإنسان على الصورة التي يريدها اللّه سبحانه وتعالى: وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ( )، فلابد من أن يكون النبي نوراً كله، في عقله وفي قلبه وفي عمله، فلا يبتعد عن الخط، والإمامة امتداد للنبوة من غير نبوة، كما ورد في حديث رسول اللّه(ص): ((يا علي، أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))( ).
ولذلك، فإن الإنسان قد يستطيع أن يعصم نفسه، ولكن درجة المعصومين هي مما لا يتوفر للناس أن يصلوا إليها، لأن فيها شيئاً من اللّه في ألطافه، وشيئاً من المعصوم في جهاده.
اختيار القائد:
* ذكرتم أن الحاكم أو القائد يجب أن يختاره الناس ويرتضوه، فهل ينطبق ذلك على الإمام، ولماذا؟
ـ إننا نتحدث عن الذي يحكم ويقود من خلال اختيار الناس له، وأما بالنسبة للأنبياء وللأئمة المعصومين(ع)، فإن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي اختارهم، وأما بالنسبة للقيم التي يتصفون بها، فإنه لو اطلع عليها الناس لاتبعوهم واختاروهم وما إلى ذلك.
توزيع أرزاق العباد:
* ما هو سبب قلة الرزق للإنسان رغم الدعاء من الأم لأولادها؟
ـ يقول اللّه سبحانه وتعالى: اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ( )، فإن الظروف التي يعيشها الإنسان في بلده أو في نفسه أو بسبب الظروف الاقتصادية كلها عوامل تؤثر على الرزق، وليس معناه أن من يكون رزقه قليلاً فإن اللّه غير راضٍ عنه، أو لم يستجب له، لأن اللّه يجري الأمور بحسب السُنن التي أودعها لعباده.
تربية الأنبياء(ع):
* نرجو بيان سماحتكم بما تقولون إن اللّه سبحانه وتعالى يثبِّت رسله بالوحي ليتكاملوا بطريقة تدريجية في الانطلاق باتجاه مدارج الكمال بوعي الفكر وحركية الخط وحل المشكلة وثبات الموقف، ما يوحي بأن المسألة ليست حاسمة بالنسبة للكمال النبوي؟
ـ إن اللّه سبحانه وتعالى يثبِّت رسله، لأن الرسول بشرٌ يتألَّم ويحزن ويخاف، كما في قصة النبي موسى(ع) أو إبراهيم(ع)، كما في قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً( )، لكن نقاط الضعف البشري هذه لا تبتعد عن العصمة، ثم إن اللّه سبحانه وتعالى يثبِّت الأنبياء(ع)، كما في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً( )، وفي الآية الكريمة: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً( )، فالتثبيت هنا بمقام رعاية اللّه للأنبياء(ع) عندما يواجهون المخاطر والمشاكل الصعبة في هذا المجال، وهذا ما لا مانع له.
الدليل على ولاية علي(ع):
* نرجو تقديم الدليل القاطع على إثبات الإمامة لعلي(ع) بعد الرسول(ص)؟
ـ في كلمة للخليل بن أحمد الفراهيدي، حينما قيل له لماذا قدَّمت علياً، فأجاب: ((احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على أنه إمام الكل))، ونرى أن القرآن والسُنّة دليل على إمامته، وكذلك عناصر شخصيته، وللبحث تفصيل تجده في مطولات الكتب العقائدية، وقد تحدثنا كثيراً عن ذلك في أحاديثنا، وخاصة في الندوة.
العصمة هبةٌ أم اكتساب:
* هل العصمة هبة من اللّه للإنسان، أم أنه يصل إليها باجتهاده وبالتقوى؟
ـ فيها شيء من اللطف الإلهي وشيء من جهد الإنسان، وهي لا تسلب المعصوم الاختيار، فمع هذا اللطف الإلهي، فإن المعصومين قادرون بحسب بشريتهم على المعصية، ولكنهم لا يعصون، لأن العصمة التي حصلوا عليها تمنعهم من المعصية.
عدل اللّه:
* بعض الناس يناقش في مسألة عدل اللّه، حيث إنهم يقولون بأنه ليس من العدل أن يسمح اللّه للرجال بالزواج من أربع زوجات فلا يسمح للمرأة بالزواج من أربعة أزواج؟
ـ أولاً: إن العدل هو أن تعطي كل إنسان حقه، وليس لأحد حق على اللّه سبحانه وتعالى، لأنّه لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ( ) وكذلك الآية الكريمة: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( ).
وثانياً: إنَّ الإسلام يركِّز في بناء الأسرة على الجانب الأبوي، باعتبار أن الأساس في مسألة الإنجاب هو الأب، حيث تتولى النطفة عملية تلقيح البويضة، فالنطفة تقوم بدور الفاعل بينما البويضة هي المنفعل، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإننا عندما ندرس كلَّ التاريخ سواء في المناطق الإسلامية أو غير الإسلامية، أو في المناطق البدائية والحضارية، نجد أن المرأة تبقى على طبيعتها ما لم تطرأ عليها بعض الطوارئ، فالمرأة لا تميل إلى التعدد، لأنّها تطلّب الاستقرار النفسي والعائلي الذي يتحقّق بالوحدة، بعكس الرجل الذي يميل إلى تعدد الزوجات. ولذلك تلاحظ في الغرب مثلاً أنهم وإن منعوا تعدد الزوجات، لكنهم يعدّدون بطريقة غير شرعية، بأن يكون للرجل زوجة واحدة وعدّة عشيقات. وفي الحروب كلها أكثر ما يقتل هم الرجال، كما في الحرب العالمية الأولى والثانية، وخصوصاً إذا كانت الحرب مدمرة، وتبقى أكثريةٌ عانسات، حتى قيل إنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية طرحت مسألة تعدد الزوجات في ألمانيا لحل مشكلة العوانس. فالمسألة يجب أن تُدرس من عدّة جوانب، وليس من جانب واحد.
اليقين والاطمئنان:
* قال الإمام علي(ع): ((واللّه لو كشف لي الغطاء ما ازددت إلاّ يقيناً))، وقال اللّه سبحانه لإبراهيم: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي( ) فما هو تعليقكم؟
ـ بعض الناس قد يحاول من خلال ذلك الدخول بمثل هذه المداخل لكي يقول إن الإمام علي(ع) أفضل من النبي إبراهيم(ع) في عملية التفضيل التي تشغل البعض، ولكن مما لا شك فيه أن قضية إيمان إبراهيم ليس فيها نقصان ولو بنسبة واحد بالمليون، وقد تحدث اللّه سبحانه وتعالى عن النبي إبراهيم(ع) كما لم يتحدث به عن الأنبياء(ع) الآخرين، وما ورد في طلب النبي إبراهيم(ع) إنما هو لا لجهة نقصان في الإيمان، بل لطلب المزيد منه، لأن معايشة الإيمان بالحس أبلغ في التعبير ليطّلع على كيفية النشر والبعث.
وأما كلامه(ع)، فإنه يريد أن يقول: إنه وصل إلى حد بعيد من الإيمان، بحيث إنه لو كشفت له آفاق الغيب فإن الغيب مثل الحس عنده، فهو يتحدث عن أعلى مستويات اليقين عنده. فلم يكن في إيمان إبراهيم(ع) أي نقص أو ضعفٍ، بل كان في الدرجة العليا، بحيث أعطى كل ذاته لله سبحانه في عملية استسلام وتسليم. أمّا الطمأنينة فلا تتصل بمسألة اليقين من أجل اكتماله، بل هي تابعة للحالة النفسية المنفتحة على الحسّ. والملاحظ أن التفاضل بين الأنبياء والأولياء هو أمر لم نكلّف به ولا يدخل في مسؤولياتنا العقائدية والشرعية، وعلينا أن ننطلق لنملك ثقافة العقيدة والشريعة والمسؤولية.
إجابة الدعاء:
* أدعو كثيراً وأجد أن دعائي لا يستجاب ولا أجد أثراً له، وألجأ دائماً للتوسل بالأئمة(ع) في دعائي، وأنا على هذه الحالة منذ سنة، وأنا في حالة قلق وألم، لأن دعائي لم يستجب؟
ـ يقول سبحانه وتعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( ) ولكن قد تدعو بشيء لا مصلحة لك فيه، أو تدعو بشيء لم تتوفر له شروطه، كما لو دعا البعض لأن تحمل زوجته في ظرف زمني قصير جداً على خلاف عادة الحمل عند النساء، فيقول: اللهم ارزقني ولداً ذكراً سوياً في الشهر الأول من الحمل. فهل هذا من المعقول؟! لأن الولادة المعتادة بعد تسعة شهور من الحمل، وقد تدعو على شخص من خلال عقدة لك معه من دون أن يكون مستحقاً لذلك. وعلى كل حال فاللّه لا يريد للإنسان أن ييأس من رحمته.
نسخ الأديان السابقة:
* من المعروف أن كل دين سماوي ينسخ الدين الذي جاء قبله، فما هو تفسير بقاء آباء الرسول(ص) وأمهاته على دين إبراهيم، علماً أنه ليس الأخير قبل الإسلام؟
ـ إن دين إبراهيم يجمع الأديان كلها وهي الحنيفية، فالعناوين العامة الموجودة في بقية الأديان هي موجودة في الحنيفية، فعيسى(ع) أيضاًً أمضى دين موسى(ع)، والأديان لم تنسخ إلا في النقاط التي أراد اللّه أن يغيّرها من خلال مصلحة ما، كما في قول النبي عيسى(ع)وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ( ) وليس أن ينسخ الصدق والعفة والأمانة، فجميع الأديان تلتقي في ذلك، فالنسخ ليس بمعنى جعل بقية الأديان في سلّة المهملات. وربما لم تكن المسألة في تلك الأزمنة بالدقّة التي يلتزم فيها المسلمون الآن، وقد تكون الحنيفية هي الخط الديني العام الذي انتشر لدى العرب وكانوا معذورين فيه، والله العالم.
الأرض بعد دعوة نوح(ع):
* دعا النبي نوح(ع) قومه 950 سنة فلمّا، يئس منهم دعا عليهم فأغرقهم الله بالطوفان، فهل الأرض كلها غرقت أم جزء منها على قدر مساحة قوم النبي نوح(ع)؟ وما هو مصير بقية سكان الأرض حينئذٍ؟
ـ ليس لدينا جغرافية سكان الأرض في ذلك الوقت، ولم يعرف أنه كان هناك منطقة مأهولة غير منطقة قوم النبي نوح(ع)، هذا أولاً. وثانياً، ليس من الضروري أن تكون الأرض كلها غرقت، فالنبي نوح(ع) دعا على قومه قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا( ) وقال اللّه له أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ( ) فقد يكون الطوفان بتلك المنطقة، وليس عندنا تاريخ دقيق ليبين الحقيقة في هذا المجال.
جزاء الخير:
* يقول البعض إنه يعمل الخير ويناضل من أجل العدالة ورفع الظلم عن الناس وهو لا يؤمن بوجود اللّه سبحانه وتعالى، فما تعليقكم على ذلك؟
ـ إن أساس عمل الخير هو الإيمان باللّه سبحانه وتعالى، فأعمال الخير لها برنامج ووسائل تقوم على أساس ما جاء في الرسالات السماوية، ومن لا يؤمن باللّه سبحانه لا يملك قاعدة ذاتية تحميه من الانحراف، فمن أين يأتي بعمل الخير للآخرين؟ فقضية الارتباط باللّه سبحانه وتعالى هي سر الحياة وسر الوجود، ولذلك من الصعب جداً لمن لا يؤمن باللّه أن يكون خيّراً. وليس معنى ذلك أن غير المؤمن لا يفعل الخير، ولكننا عندما ندرس جذور أعمال الخير لديه فإننا نكتشف أنّها تنطلق ـ في بعض الحالات ـ من الفطرة ومن الرواسب الدينية الإيمانية الكامنة في اللاشعور، بحيث تصدر من الإنسان تلقائياً. ومن الطبيعي أن التربية قد تؤثّر في ذلك، ولكن قيمة الإيمان أنّه يمثّل القاعدة التي ترتكز عليها كل منطلقات الخير في الإنسان، وكل امتداداته، فلا يكون الخير مجرد حالة طارئة تتسع وتضيق بحسب المؤثّرات الداخلية والخارجية المحدودة لتزول عند أول بادرة مضادّة.
التقية هل هي ضرورة؟
* هل تعتقدون أن التقية ضرورة الآن في العمل السياسي، سواء كانت التقية على مستوى الحركات والأحزاب الإسلامية أو على مستوى الدول الإسلامية؟
ـ التقية مبدأ إنساني تنطلق من حالات معيّنة في أوضاع الإنسان وظروفه الحادة كما في حالات الخطر أو الاضطهاد في نطاق خاص، وليست مطلقة، حتى إنه ورد في القرآن لا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً( )، فالتقية أساساً هي وسيلةٌ من وسائل حماية النفس أو حماية الخطِّ الإسلامي أو حماية الأمَّة أو الوطن من الأعداء، بمعنى أنها تمسُّ حركة الحماية بطريقة مرنة، ولا يجوز أن تصل التقية إلى موقع تفسد فيه القيم الأخلاقية.
وفي زمن الدعوة في صدر الإسلام، أصرَّ ياسر وسميّة على موقفيهما، ولم يقولا كلمة الكفر فأصبحا شهيدين، بينما نجد ابنهما عماراً قالها تحت الضغط فنزلت الآية الكريمة: إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ( ). لذلك نقول إن للتقية مواقعها بحسب القضية والظروف التي تتحرك فيها، بحيث قد يؤدّي عدم الأخذ بالتقية إلى إنهاء القضيّة بشكل وبآخر، وبما أنّ التقية مبدأ إنساني، فقد أصبحت قضية العالم كله، فالواقع السياسي، سواء في الشرق أو في الغرب، يستعمل التقية في تعامله مع بعضه البعض بلحاظ المصالح والمفاسد ذات الأهمّية الكبرى في مواجهة الأخطار والتحدّيات. وإذا كان البعض يرى أنّها من خصوصيات المذهب الشيعي، فإنّه يخطئ في ذلك، فإنّ التقيّة لديهم خاضعة للمبدأ العام في أبعاده الإنسانية.
غيرة الرجل وغيرة المرأة:
* ما معنى قول الإمام علي(ع): ((غيرة المرأة كفر وغيرة الرجل إيمان))؟
ـ ربما لجهة أن الرجل إذا تزوَّج زوجةً ثانية فقد تغار الزوجة الأولى، وقد يدفعها ذلك إلى تصرفات غير شرعية، أما الرجل فإذا غار على زوجته من أن تنحرف أو تصبح ناشزاً فتعتبر غيرته إيماناً لأنه يحفظها في إطار الشرع.
حفظ الأحاديث النبوية:
* قال اللّه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( )، فقد تكّفل سبحانه بحفظ القرآن الكريم من التحريف في اللفظ، ولعلّه في حفظ المعنى كذلك، فلماذا لم يتكفل بحفظ الأحاديث النبوية الشريفة كما حفظ القرآن الكريم؟
ـ ليس الأمر كذلك، فقد أعطانا سبحانه وتعالى القرآن ليكون هو الأساس، وقال لنا النبي(ص) ثم الأئمة(ع): ((كل ما جاءكم من حديث من بر أو فاجر فاعرضوه على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوا به وما خالف كتاب اللّه فاضربوا به عرض الجدار))، و((ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف))، أمّا تكفّل الله بحفظ القرآن، فلأنه كلامه، وهو كتاب الحياة والخاتم ويجمع بقية كتب اللّه التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم. فقضية حفظ القرآن هي مسألة أساسية، لأنه يمثل القاعدة للإسلام. أما بالنسبة لبقية أحاديث النبي(ص) فقد تركها للطريقة العقلائية في نقل الأحاديث، وجعل العرض على القرآن هو الأساس في منع التحريف، وما إلى ذلك..
مكانة النبي(ص) وأهل بيته(ع):
* في الأدعية المباركة نقول: ((اللهم بحقّ محمد وآل محمد افعل بنا كذا وكذا ))، فما هي أحقية النبي الأكرم(ص) وأهل بيته الطاهرين(ع) عند اللّه سبحانه؟
ـ يعني أنْ نستشفع بهم إلى اللّه سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطي ويمنع ويرزق، وجعل الشفاعة للمقربين من الأنبياء(ع) والأولياء إكراماً لهم وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى( ).
علل الأحكام:
* لماذا لم يبين لنا الإسلام سبب حرمة بعض الأشياء، هل أراد لنا أن نكتشف هذه الأسباب ؟
ـ إنَّ الله سبحانه وتعالى بيَّن بعض الأشياء وأراد لنا أن نطيعه في ما بيَّنه وما لم يبيّنه، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا( )، وربما أراد لنا أن نكتشف بعضها من خلال الدراسة العميقة للمصالح والمفاسد المترتبة على الأحكام، أو من خلال ما ورد في السنّة في ذلك، هذا بالإضافة إلى الفكرة الإيمانية، وهي أن أحكام الله تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها مما يعلمه الله في ما يعلمه من غيب الأشياء.
إخبار إبراهيم(ع) بغير الحقيقة:
* هل يعتبر اتهام النبي إبراهيم لكبير الأصنام إخباراً بغير الواقع؟ وكيف يتناسب مع العصمة؟
ـ أولاً: ورد عندنا في أحاديث أهل البيت(ع) أن إبراهيم(ع) لم يكذب، وإنما استعمل التورية بقوله قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ( ) يعني إذا كانوا ينطقون فسلوهم، ولم يقل لهم ذلك جزماً.
ثانياً: لا مانع من التحدّث بخلاف الواقع من دون قصد، بل باعتباره أسلوب إخبار غير واقعي، القصد منه إقناع الإنسان الآخر بالواقع من خلال تسجيل الخلل في منهج الإنسان وطريقة تفكيره، ولذا لا يعتبر ذلك في مقام الإخبار، وإنما في مقام إلقاء الحجة وتحميل المسؤولية.
تشتت التيارات:
* هل يعتبر تشتت المواقف للتيارات الشيعية مدعاةً إلى ضعفهم وانكفائهم عن الساحة الدولية وتداعي الأمور عليهم، مع أن إمامهم واحد ومحور اعتقادهم واحد؟
ـ يقول اللّه سبحانه وتعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ( )، ويقول سبحانه وتعالى: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ( ). فلا يكفي للإنسان أن يكون عنده الأساس الفكري للوحدة، بل أن يعيش معناها، فإننا مسلمون، نؤمن بالنبي(ص) وبالأنبياء(ع) والأئمة(ع) والقرآن، ولكن هذا الإيمان إيمان تقليدي لا نعيشه كشعور وإحساس، وربما تتدخل غرائزنا ونقاط ضعفنا في ذلك، وهذه المسألة لا تتوقف على الشيعة فحسب، بل تشمل بعض المسلمين الآخرين الذين يكفّر بعضهم البعض الآخر، مع أن ربنا واحد وكتابنا واحد. إذاً فقضيّة الوحدة قضية أساسية، ولكنها بحاجة إلى أن يعيش الإنسان الفكر الذي يوحِّده مع الآخرين، وأن يعيشها بفكره ومشاعره وأحاسيسه بصورة جدية، ولكن مع الأسف، فقد تحوَّلت العقيدة عندنا إلى حالة تقليدية، ولم تعد حالة فكرية عقلية وجدانية.
العذاب الأخروي:
* هل العذاب بعد الموت مادي أم معنوي؟
ـ الظاهر من الأدلة هو العذاب المادي، كما في قوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ( )، و كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا( )، فهذا دليلٌ أن العذاب مادي ويخلق عذاباً معنوياً، وهكذا بالنسبة للنعيم.
العقل والدماغ:
* العلم الحديث يربط كلَّ فعاليات الوعي والتفكير والإيمان بالدماغ، بينما في القرآن الكريم يعتبر تلك الفعاليات من اختصاص القلب ولكن تعمى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ( )، فما تفسير ذلك؟
ـ قوله تعالى {ولكن تعمى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وارد على نحو الكناية، لأن الصدر يمثِّل الواجهة للإنسان، باعتبار أنّه يضمُّ الأجهزة التي تمسك حياة الإنسان وترتبط أيضاً بالدماغ، لأنه يوجه كل الأجهزة الموجودة في الجسد، فليست المسألة واردة في مقام تحديد المنطقة في القلب، ولكنها من باب الكناية، كما إن الوجه يمثل الإنسان، يعني أنه يعبِّر عن ذات الإنسان، كما في قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ( ) يعني ذاته سبحانه وتعالى، فليس لله وجه سبحانه وتعالى.
ولاية الفقهاء وولاية المعصوم:
* هل يُفهم من حديث الإمام الحجة(عج) بخصوص المجتهدين: ((هم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه عليهم)) أن للعلماء ارتباطاً بولاية المعصوم؟
ـ نحن لا نرى ارتباطاً بذلك، حيث كان السؤال للإمام الحجة(عج) في زمن الغيبة الصغرى متعلقاً بجملة من المسائل الشرعية، فكان جواب الإمام ((فأما الحوادث الواقعة - أي الجديدة - فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا)) لأن رواة الأحاديث هم الذين يملكون ثقافة أحاديث أهل البيت(ع)، ولذلك فإنهم يستطيعون أن يجيبوا الناس ويعطوا الأحكام الشرعية في الخط الذي كانوا يسمعونه من الأئمة(ع)، إذ كان الأئمة(ع) يبينون ذلك للعلماء ثم يبيّن العلماء الأحكام للناس ويعرّفونهم إياها، وذلك لأن الإمام يحتج على الناس يوم القيامة بأنه ترك لهم أناساً حجةً بينهم وبين اللّه، وإن الإمام(ع) هو حجة اللّه عليهم، ولذلك نحن في أبحاثنا قد استغربنا من الذين يستدلُّون بتلك الرواية على ولاية الفقيه.
عفو اللّه وحلمه:
* لما كان إبليس قد عبد اللّه ستة آلاف سنة ثم سقط في ساعة واحدة حينما عصى أمر اللّه بالسجود لآدم(ع)، فأين حُلم اللّه سبحانه وتعالى، مع أن عفوه تعالى أعظم من ذنب إبليس وكبريائه؟
ـ أولا: إن إبليس قد تمرد على اللّه سبحانه وتعالى، بمعنى أنه قد أظهر ما في نفسه بعدما أخفاه زمناً طويلاً، فقد رفع إبليس رأسه مستكبراً حينما قال اللّه سبحانه وتعالى إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( ) إذ رفض إبليس أمر اللّه.
وثانياً: لماذا نعترض على اللّه سبحانه وتعالى لأنه لم يغفر لإبليس، فإنه لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ( )، فاللّه سبحانه وتعالى يعرف أن هذا المخلوق (إبليس) يختزن في داخله الشر رغم أن اللّه قد أعطاه المهلة لحكمة في ذلك، فالمسألة ليست فقط رفض إبليس السجود لآدم، وإنما لأن إبليس خطط لإضلال الناس وإبعادهم عن اللّه سبحانه وتعالى، فكان إبليس يتوعد أمام اللّه بدون حياء، فالمسألة ليست ذنباً عادياً مثل بقية الذنوب العادية.
مصدر الضرر:
* إذا أصيب الإنسان بفقر نقول مرة إنَّ الله ابتلاه ليشكر أو يكفر، ومرة نقول إن ما يصيب الإنسان هو مما كسبت يداه، أي بخطئه وتقصيره، فكيف نوفّق بين التفسيرين، علماً بأن العقل يرجّح التفسير الثاني؟
ـ لا يوجد تنافٍ بين التفسيرين، لأن اللّه سبحانه وتعالى خلق الدنيا وخلق لكل شيء سبباً وجعل السبب بيد الإنسان، فاللّه سبحانه وتعالى يبتلي الإنسان بما كسبت يداه ومن خلال عمله، فأنت تبتلى على أساس أن عملك هو الذي ينتج ذلك البلاء. وكذلك قضية الرزق فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ( ) فالذي لا يعمل يفتقر. فكل ما يصدر من الإنسان فهو بما كسبت يداه، وقد قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( )، ثم إذا وصل الإنسان إلى نتيجة عمله فحينئذٍ يبتلى، فهل يشكر أم يكفر؟.
مراودة الشيطان:
* ما العمل في حالة مراودة الشيطان للإنسان، فإني عندما أقرأ القرآن وأقوم بالصلاة أو بالعمل الصالح، أو عند دراسة كتب إسلامية، فإن الشيطان يراودني في التشكيك في كل ذلك؟
ـ إن الشيطان عندما يجد شخصاً جاداً في طاعة اللّه وفي عملية تنمية نفسه، فإنه يحاول أن يشككه في نفسه، حتى إن أحدهم يشعر بعدم وجود فائدة من عبادته، وقد يقوده ذلك إلى تركها، لذلك أراد اللّه للإنسان أن يكون واعياً لخطوات وسوسة الشيطان إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ( ) و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ( ). ولذلك فإن أفضل رد على الشيطان أن لا يتوقف الإنسان عند وسوسته، ويحاول معالجة موضوع الوسواس بالفكر المنفتح الدقيق.
صوم زكريا ومريم(ع):
* ما الحكمة الإلهية في حُجة كلِّ من زكريا ومريم(ع) بعدم الكلام مع الناس لمدة ثلاث ليال؟
ـ بالنسبة إلى مريم(ع)، فقد أراد اللّه أن ينقذها من الدخول في جدل مع الذين أرادوا أن يتهمونها بالزنا، وذلك قوله تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا( )، ولذلك لم تتحدّث معهم عندما قالوا لها على لسان القرآن: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا *فأشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا( )، فأنقذها اللّه بما هو معروف في ذلك الزمان بصوم الصمت. وأما زكريا، فإنه عندما بشَّره اللّه بالولد وكان شيخاً كبيراً وكانت امرأته عاقراً، فقد أعطاه اللّه آيةً ليطمئن بها قلبه ويشكره، فصام ثلاثة أيام عن الكلام شكراً للّه.
طبيعة المعجزة:
* هل تعتبر معجزات الأنبياء(ع) خرقاً لقوانين الكون ونواميس الطبيعة؟
ـ كلا، فإنَّ اللّه سبحانه وتعالى خلق الكون على أساس قانون السببية، فمثلما يخلق الشمس لتنير ويخلق الإنسان أو غيره من المخلوقات، فإنه يجعل طاقة الحياة بالعصا فتكون أفعى، ويخلق من التراب بشراً وَإِذْ قَالَ رَبُّكََ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( ). ويبدل يد موسى من سمراء إلى بيضاء، أو يجعل سبحانه سبباً في نار إبراهيم لتكون برداً وسلاماً، والله على كل شيء قدير، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ( ). وباختصار نقول: هي خرق للعادة لا لنواميس الطبيعة.
عصمة الإمام:
* هناك إشكالية، وهي أن العصمة تجعل قول الإمام(ع) بمثابة أو برتبة الآية القرآنية أو الحديث النبوي، فكيف نحلّ أو نفهم هذه الإشكالية، وقد لاحظنا أنكم أجبتم على استفتاء حول عدم السجود على ما يؤكل أو يلبس بحديث عن الإمام الصادق(ع) وليس من خلال آية قرآنية أو حديث نبوي؟
ـ العصمة تعني أن المعصوم لا يخطئ ولا يتبع الهوى، ولذا فهو عندما يخبر بخبر، فإنما يخبر عن النبي(ص)، كما قال الإمام جعفر الصادق(ع): ((حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي..)) حتى انتهى إلى رسول اللّه(ص)، ولذا فنحن عندما نأخذ بأحاديث الأئمة(ع)، فإنما نأخذ بأحاديث الرسول(ص).
إيذاء الرسول(ص):
* روي عن رسول اللّه(ص) أنه قال: ((ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت)) فأين أذية بقية الأنبياء(ع)؟
ـ هناك الأذى الروحي.. صحيح أن إبراهيم(ع) أُلقي في النار، وقال اللّه تعالى للنار: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ( ). والنبي أيوب(ع) أصيب بأهله وجسده، وفرّج اللّه عنه، وصحيح أن عيسى(ع) اضطهد وأوذي، وأن موسى(ع) تعرَّض لذلك فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ( ). أما رسول اللّه(ص)، فقد قُوبل بالاتهامات والسخرية، وكانت مهمّته(ص) بحجم العالم، فيُقال عنه بأنه ساحر،كاذب،كاهن، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً( )، ثم إنه(ص) عندما كان يعرض نفسه على القبائل في مكة، كان أبو لهب يسير وراءه ويقول، لا تصدقوا ابن أخي، إنه مجنون..وعندما خرج إلى الطائف لاحقه الناس بالحجارة حتى دُميت رجلاه، وكان(ص) قد تعرّض وهو في مكة لمحاولة قتله، حتى اضطر أن يهاجر إلى المدينة، وما واجهه بعد ذلك من عدوان المشركين عليه، وعدوان المنافقين، وعدوان اليهود.. فالتحديات المتحركة التي واجهها رسول اللّه(ص) جعلته لا يرتاح لحظةً واحدة، فكانت حياته كلها حركة دعوةٍ وتربية وتعليم، وحركة حرب وسلم وصراع ومواجهة، وما إلى ذلك.. حتى إنه ابْتُلي في داخل بيته، وأنزل اللّه سورة يؤنّب فيها بعض نسائه بطريقة وأخرى. فلو أردنا أن نجمع كل المشاكل التي عاشها النبي(ص)، والأذى الذي لحقه، بحيث إنه لم يستطع أن يستقر لحظة واحدة منذ أن بعثه اللّه بالرسالة حتى اختاره تعالى إلى جواره، نجد أنْ ليس هناك نبي أُوذي كما أُوذي(ص). إنّنا عندما ندرس مجموع الأذى الذي أصاب رسول اللّه(ص)، وندرس الأذى الذي أصاب كل الأنبياء(ع)، فإننا نجد أن أذى كل واحد منهم كان جزئياً، أما أذاه(ص) فقد كان متنوّعاً في كل مواقعه، وفي كلِّ مجالاته.
ألقاب الأئمة(ع):
* ما هو سبب تسمية كل إمام بصفة معينة، مثل الإمام زين العابدين(ع)، مع أن جميع الأئمة معروفون بالعبادة الخالصة للّه، وكذلك تسمية الصادق(ع) مع أن جميعهم صادقون، وهكذا في بقية صفاتهم؟
ـ اللقب بشكل عام يخضع لحالتين، فالأب عندما يولد له ولد يكنِّيه ويسميه ويلقبه، وفي بعض الحالات يضفي المجتمع على البعض الصفة أو اللقب، والتي قد يكون الملحوظ فيها الواقع الاجتماعي، إذ يشتهر مثلاً الإمام علي بن بالحسين(ع) بالعبادة فيسمى بذلك، ولا يعني أنه يختص به دون آبائه أو أولاده من الأئمة(ع)، وقد يطلق على البعض لقب المصلح وما إلى ذلك من جهة أن الناس تنظر إلى الشخص وإلى أعماله فتصفه بألقاب معينة، والواقع الاجتماعي عندما يطلق لقباً فإنه يلاحظ الحالة الغالبة.
إصرار عثمان على الخلافة:
* ما هو سبب إصرار عثمان على عدم الاستقالة، بالرغم من أنه حوصر أربعين يوماً، وهو يعلم بأن مقتله سيترك الفوضى والانحراف، مع أنه من الصحابة؟
ـ لعله يرى حكمه شرعياً وأن مسألة الخلافة هي مسؤولية، أو أنه كان يعيش مسألة الحكم من خلال الجانب المزاجي، لأن الصحابة ليسوا معصومين مع احترامنا لهم..
تمرُّد طلحة والزبير:
* ألا تعتقدون أن خروج طلحة والزبير وعائشة لحرب علي(ع) هو هروبهم من الحق في العطاء، لأن علياً(ع) كان يوزِّع الأموال التي ترده ثم يكنس بيت المال ويحمد اللّه؟
ـ القضية ليست بهذا الشكل، ولم يتحدث طلحة والزبير عن نقصان في عطائهم، ولكنهم كانوا يريدون مشاركته في الحكم.
منع سهم المؤلَّفة قلوبهم:
* ألا تعتقدون أن منع عطاء سهم المؤلفة قلوبهم شجّع معاوية على طلب الخلافة، باعتبار أنهم كانوا من الطلقاء؟
ـ لا ربط بين ذلك وموقف معاوية، بل كان معاوية صاحب مشروع للاستيلاء على السلطة، والمؤلَّفة قلوبهم كانوا يعطون حتى يرغّبوا في الإسلام الذي ربما دخلوه رهبةً، حتى يقوى إسلامهم، أو من جهة تحييد المشركين حتى ينتشر الإسلام ويدخل قلوب الناس.
إيمان أبي طالب:
* ما هو موقف الإمام علي(ع) من أبيه أبي طالب وإسلامه، وما موقفه من زعم القوم بأن أباه مات كافراً؟
ـ إن حديث (أن أبا طالب مات كافراً) هو حديث من لا يفهم التاريخ، وهو حديث من لم يدرس تراث أبي طالب في شعره ورعايته للرسول(ص) ودعمه له. ولو كان أبو طالب مصراً على الكفر والشرك، فكيف يشجِّع أبناءه على أن يسيروا في خطٍ مضادّ لخطه؟! وهو يقول:
ولقد علمت بأن دين محمَّد من خير أديان البريّة ديناً
لذلك لم يثبت بأن الآية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( ) أنها نزلت بحق أبي طالب، بل إنها عامة، ولكن لما لم يجدوا لعلي(ع) منقصة، زعموا أن أباه كان كافراً وأن أبا معاوية كان مسلماً.
معرفة الله عبر معرفة النفس:
* نرجو من سماحتكم تفسير معنى ((من عرف نفسه فقد عرف ربّه))؟
ـ إن الإنسان عندما يعرف نفسه بكل الأجهزة الدقيقة التي خلقها اللّه في جسده مما ينتج عقلاً وينتج عاطفة، وتحكّم حركة الحياة في جسده، وعندما يعرف الإنسان نفسه في الجانب المادي والروحي والعقلي، فإنه يعرف أنه لا بد لهذا النظام المتوازن في جسده ونفسه أن يدله على عظمة الخالق سبحانه وتعالى.
خلافة عليّ(ع) من خلال آية التصدّق:
* هل يمكن الاحتجاج بالآية الكريمة: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ( ) مع المخالفين لإثبات ولاية الإمام علي(ع) بعد الرسول(ص)؟
ـ أولاً: إن السُنّة والشيعة يرون أن هذه الآية نزلت بمناسبة تصدّق علي(ع) بخاتمه وهو راكع. صحيح أن الآية ـ لو خُلّيت ونفسها بقطع النظر عن الروايات ـ ليس فيها دلالة بنفسها على خصوص الإمام عليّ(ع)، ولكن الروايات المتواترة بين السُنّة والشيعة تؤكد نزولها فيه(ع)، ومن الطبيعي أن تكون الآية هذه دليلاً على ولاية علي(ع). ثم نحن نقول لماذا هذا الجدل في موضوع ولاية الإمام علي(ع)؟ وهل يقتصر إثبات ولايته على ذلك وحده؟. فعندما ندرسه، لا نجد هناك في كلَّ الصحابة ـ مع الاحترام للجميع ـ شخصاً يملك كلَّ هذا العلم بالإسلام الذي يستطيع من خلاله أن يقوم مقام الرسول(ص) في إعطاء المسلمين كل علوم رسول اللّه(ص).. فقد قال الرسول(ص): ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) وعبّر عليّ(ع) عن ذلك: ((علَّمني رسول اللّه ألف باب من العلم يفتح لي من كلِّ باب ألف باب)).
ثم إن عليّاً(ع) هو الرجل الذي عاش الإسلام منذ ولادته، وكرّم اللّه وجهه عن السجود لصنم، فكان التوحيد منذ البداية سرّ عقله وقلبه وحركة حياته، فلا دور للصنميّة من قريب أو بعيد في كلّ ذاته، ما يوحي بأنّه الأعمق توحيداً لله، كما تربّى منذ طفولته على أخلاق النبي(ص)، فكان(ع) يقول: ((كان(ص) يلقي عليّ في كل يوم خُلقاً من أخلاقه وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمّه))، وهو الذي جاهد للإسلام منذ نعومة أظفاره إلى حين استشهاده(ع) في مسجد (الكوفة)، ثم من كان يملك ثقافة الإدارة للمسلمين بالمستوى الذي كان يملكه علي(ع)؟ ولو لم يزرعوا المعوقات في طريقه، لاستطاع(ع) أنْ يعطي الإسلام ما يفتح كلّ أبواب الحضارة من خلال مفاهيمه وتشريعاته، فكان يقول: ((سلوني قبل أنْ تفقدوني)).
لذلك نحن نقول إنه لا يصلح للخلافة إلاّ علي(ع)، لأن الخليفة يحتاج إلى خطين:
الأول: أن يملك علم الإسلام مثل خطِّ النبي(ص) بصفة كونه رسولاً، ولذلك لا بد لمن يخلف الرسول أن تكون كل الرسالة في عقله وليس هناك إلاّ علي(ع).
والثاني: صفة كونه حاكماً، ونحن نعرف من خلال رسائل الإمام علي(ع) لعماله على الأمصار، ومنها عهده لمالك الأشتر حينما ولاه مصر، أن العقل الإداري الذي كان يتمتع به الإمام علي(ع) لم يكن يتمتع به أحد غيره.
ولذلك نقول إن الإمام علي(ع) قد ظُلِم في حياته، كما ظُلِم بعد مماته، فمن منّا يحمل فكر الإمام علي(ع)؟! ومن الذي يحمل مواعظه وحكَمَه؟. نقرأ التعزية في شهر رمضان بمناسبة استشهاده(ع)، ولا نقرأ فكره الذي كان يقول: ((إنّ ها هنا لعلماً جماً لو وجدت له حملة)) ويقول الشاعر (بولس سلامة) بمناسبة عيد الغدير:
جلجل الحب في المسيحي حتى عُدَّ من فرط حبّه علويا
يا سماء اشهدي ويا أرض قري واخشعي إنني ذكرت عليا
تعليم الأنبياء(ع):
* تدلل قصة النبي موسى(ع) مع الخضر في حادثة السفينة وغيرها بأن الخضر أعلم من النبي موسى(ع)، فهل الخضر هو من الأنبياء أم من العباد الصالحين؟
ـ أولاً: بالنسبة للعلم الذي أراد اللّه لموسى(ع) أن يأخذه من الخضر – وربما غير الخضر – في تلك الحوادث التي كان ظاهرها شراً، ولكن باطنها خير أو عاقبتها كانت إلى خير، لأنَّ النبي موسى(ع) كان مكلفاً بشريعة الظاهر ولم يكن مكلفاً بشريعة الباطن، فاللّه سبحانه وتعالى أراد أن يبيّن له أنَّ هناك بعض الحوادث أو الأشياء التي تكون حسب الظواهر شراً، ولكن بالتعمُّق فيها يمكن أن يكشف عن وجود خير فيها، ومن الممكن أنّ الله يعلّم أنبياءه تفاصيل الأمور المرتبطة بالرسالة بالوحي تارة وبالإلهام أخرى، وبتعليمه من قبل الشخص المميّز الذي أعطاه الله علم ما لم يعطه لموسى(ع). أما إذا كان موسى يستعجل في حصول الإجابة لتلك الحوادث، فذلك بحسب طبيعة مسؤوليته الشرعية، كما بالنسبة لحرق السفينة، ولكنه التفت إلى نفسه في حينها، ولا مانع من ذلك في هذا المجال، أما الخضر(ع)، فقد عبر عنه سبحانه بقوله: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا( )، فكان للخضر علاقة وارتباط بالله، وكما قال لموسى(ع)وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا( ).
الكوفة عاصمة الدولة الإسلامية:
* لماذا لم يتخذ الإمام علي(ع) اليمن عاصمةً له بدل الكوفة لوجود أنصاره فيها؟
ـ لقد اختار الإمام علي(ع) الكوفة عاصمةً لحكمه لدواع، منها أن الكوفة يوجد فيها أيضاً أنصار له، ثم للظروف التي أحاطت به، خاصة الحروب التي خاضها (في صفين والجمل والنهروان) والتي كان لها دور في اختيارها، وكانت هذه الحروب من المعوّقات التي وقفت عائقاً أمامه لكي لا ينفذ برنامجه وخططه في الخلافة الإسلامية، وقد عاش(ع) الظروف الطبيعية باختياره الكوفة عاصمةً له.
منهج الأئمة(ع) في التعامل:
* ما هو المنهج العقلائي الذي سلكه أهل البيت(ع) في التعامل مع غير المسلمين؟
ـ الأئمة(ع) كانوا يفتحون عقولهم للمسلمين وغيرهم، وخاصةً لأهل الكتاب، وحتى لملحدين والزنادقة، كما ينقل لنا كتاب (الاحتجاج) للطبرسي، وفي (الكافي)، إذْ إنَّ الإمام كان يفتح عقله ويجيب عن كل الشبهات ويعطي الفرصة لهم بالكلام الذي لا يستطيع أن يسمعه الكثيرون في واقعنا، ومع ذلك كان لا يتعقد من ذلك، ولم يكن لدى الأئمة(ع) مسألة (هذا سُنّي وهذا شيعي) ـ كما هو الحال اليوم ـ وإن كان خطهم(ع) مذهب أهل البيت(ع)، ولكنهم كانوا يجلسون ويتحدثون مع أهل السُنّة، وقد تربى الكثير من أئمة أهل السُنّة في مدرسة الإمام الصادق(ع)، فكانت مدرسة الإمام مفتوحة لكل الناس شيعةً وسُنّةً، وحتى لغير المسلمين من الناس.
وعندما ندرس حياة الأئمة(ع)، نجد أن أسلوبهم هو أسلوب الرسول(ص) الذي قيل عنه ((كان فينا كأحدنا)) وحتى الطفل أو الشخص العادي عندما كان يسأل أسئلةً تافهةً ـ مثلاً ـ فكان الإمام(ع) يجيبه، ولكن تطورات الزمن ومشاغله جعلت المسألة بحيث لا يمكن لأي كان أن يسأل المرجع الفلاني إلاّ المسائل التي هي فوق العادة، ومثلاً كانت الأسئلة التي توجّه للإمام حول لماذا حلّل اللّه هذا وحرَّم ذاك، بينما نحن الآن لو أراد أحدنا أن يسأل العلماء الكبار عن مغزى الفتوى الفلانية، فإنه ربما يقال له: (هذا ليس شغلك، خذ الفتوى واذهب). ونلاحظ في (علل الأحكام) للإمام الرضا(ع)، أنه كان يجيب عن كل سؤال، كما نلاحظ في القرآن الكريم، حيث يعلل بعض الأشياء يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا( )، لأنَّ أسلوب الأئمة(ع) هو أسلوب القرآن، فالعلم لابد أن يُقدَّم للناس كافة، وقد ورد الحديث: ((إذا ظهرت البدع فعلى العالم أنْ يظهر علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة اللّه))، لأنَّ العلم هو أمانة اللّه عند العلماء.
الموت والانتقال إلى الآخرة:
* هل تتعارض مسألة الموت مع بعض الأحاديث التي تشير إلى أنّ روح الإنسان لا تموت، بل تنتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة؟
ـ الموت نسبي إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ( )، فالإنسان يموت جسداً، ولكن تبقى الروح في عالم آخر، ولا منافاة في ذلك.
الفلاسفة القدماء:
* هل يعتبر بعض الفلاسفة القدماء مثل (أفلاطون) و (سقراط) و (أرسطو) وغيرهم بمنـزلة الأنبياء أو الأولياء الصالحين؟
ـ لم يثبت ذلك.
القدرة الإلهية والأشياء:
* هل القدرة الإلهية تتعلَّق بالأشياء التي لها قابلية وفق القوانين الطبيعية وما عداها يعتبر من المعاجز الخارجة عن دائرة القدرة الطبيعية؟
ـ بالنسبة لمسألة القدرة الإلهية، فإنها غير محدودة، فهو – أي اللّه سبحانه وتعالى – على كلِّ شيء قدير، فاللّه هو مطلق القدرة، فحينما تقول (اللّه أكبر)، فلا مجال فيها للمقارنة بين "هذا أكبر" و"هذا أصغر". وقد يعتبر هذا السؤال غير منطقي، كما هو سؤال ذاك الشخص للإمام الصادق(ع)، إذ قال له: هل يستطيع اللّه أن يجعل الدنيا في داخل بيضة بحيث لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا، فأجابه الإمام(ع) قائلاً بفكرة تقريبية، إنّ اللّه الذي جعلك تنظر إلى كلِّ الطبيعة بجبالها وأنهارها وسهولها وغيرها من خلال بؤبؤ العين الذي هو أصغر من البيضة، هو قادرٌ على كل شيء، ولكن ذلك لا يكون، لأنّ البيضة لا تحتمل ذلك. وكما قلت لكم سابقاً، فقد يأتي أحدهم إلى المهندس ويطلب منه أن يبني له ناطحة سحاب على مساحة أرض لا تتجاوز أربعة سنتيمترات، فهل هذا مقبول منطقياً؟. وخلاصة الفكرة، أن ساحة القدرة هي الساحة القابلة في ذاتها لتحرّك القدرة فيها من خلال العمل الذي يُراد تحقيقه، بقطع النظر عن شخصية القادر، فهي ترتبط بذات المقدور لا بذات القادر.
تكليف الناس في المجاهل:
* ما حكم الناس الذين يعيشون في مجاهل أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو القارة الهندية وغالبيتهم من الفقراء والذين لم تصلهم رسالة الإسلام ولم يسلموا؟
ـ إذا لم تصلهم الدعوة الإسلامية بالطريقة التي يمكنهم بها أنْ يفهموا الإسلام، فإنهم معذورون. إلاّ أنّه يجب على المبلغين المسلمين أن يقوموا بهذه المهمّة، كما يجب على الحوزات العلمية أن تبعث إليهم منْ يرشدهم ويهديهم إلى الإسلام، أو من خلال دعوة البعض منهم للتسجيل في الحوزات العملية، عملاً بالآية الكريمة: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ( ).
المذهبية والطائفية:
* إنّ الحوار ضروري لتبليغ مذهب أهل البيت(ع) إلى الآخرين، ولكن المشكلة التي تواجه الدعاة أنهم يتهمون بالطائفية، فما هو الأسلوب الأمثل للتبليغ، خاصة وأنَّ بعض القضايا التاريخية مختلف عليها بين الطائفتين؟
ـادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ). وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَسُبُّوا الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ( )، وقال الإمام علي(ع): ((إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكن لو وصفتم حالهم وذكرتم أفعالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر))، فالأساس هو احترام الآخر، والمهم اتباع الأسلوب الحسن مع الخصم، وإذا استطاع المبلّغون أن يأخذوا بهذا الهدى الإسلامي ويصوغوا أسلوبهم على نهجه، أمكنهم أن يقدّموا الإسلام بطريقة منفتحة بعيدة عن العصبية وقريبة إلى الموضوعية والعقلانية بروح إنسانية.
فهم التشيع:
* هل المتشيع لأهل البيت(ع) أفضل عند الله، أم الشيعي بالولادة؟
ـ الذي يفهم التشيع ويخلص له هو الأفضل، سواء كان المتشيع أم الشيعي بالولادة.
نصرة المهدي(عج):
* كيف يجسد الإنسان نصرة الإمام المهدي(عج) عملاً وروحاً؟
ـ هناك طريقتان: مباشرة وغير مباشرة. فالطريقة المباشرة هي أن ننصر الخط الرسالي الذي ينطلق فيه الإمام الحجة(عج)، وهو إمام المسلمين كباقي آبائه، وليس هناك خصوصية من هذه الناحية، فهو من الأئمة الاثني عشر(ع)، ودوره هو نصرة الإسلام وإقامة العدل الشامل على أساس الإسلام. فعندما نريد نصرة الإمام، فإنّ علينا أن ندعو للإسلام، ولا نكتفي بالدعاء، كما لو يكتفي البعض بقراءة دعاء (الندبة)، بل علينا أولاً أن نثقف أنفسنا بالإسلام، وأهلنا على الإسلام، والاهتمام بالقضايا الإسلامية والوقوف في وجه التحديات ضد المسلمين، ومواجهة الظالمين والمستكبرين الذين يفرضون أنفسهم على كلِّ المسلمين في الاقتصاد والسياسة والأمن.
أما الطريقة غير المباشرة، فهي أن نعدّ أنفسنا بحسب مسؤولياتنا الشرعية، ولا يعني ذلك أننا في زمن الغيبة أحرار لنتخلى عن مسؤولياتنا ونجلس فنشرب الشاي ونذهب إلى مسجد السهلة ونعمل أعمال ليلة الأربعاء مكتفين بذلك، فإن الله سبحانه جعل المسؤولية كما في الآية الكريمة: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا الله وَكَفَى بِالله حَسِيبًا( )، فنحن مسؤولون في كل شيء، وننتظر قدوم الإمام في هذه الحال. ولعل أفضل تعبير لهذه الحال هو دعاء (الافتتاح): ((اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة)).. أن تكون مشروع داعية للإسلام وتعد نفسك للقيادة.
أصول الاستدلال الكلامي:
* ما هي الأدلّة التي يجب أن تُعتمد في الاستدلال على مسائل علم الكلام؟
ـ في علم الكلام، هناك بعض المسائل التي تتصل بالإدراك العقلي، وقد تفرعت عن مسائل الفلسفة، وفي هذا القسم، لابد أنْ تكون الحجة على المسائل الكلامية من العقل القطعي، وهناك مسائل في علم الكلام يستدلُّ فيها بالنصوص القرآنيّة أو نصوص السنّة الشريفة، كما في بعض التفاصيل المتعلّقة بالعرش أو النبوّة أو الإمامة أو أحداث القيامة وما إلى ذلك..
عصمة الأئمة(ع):
* هناك من يقول إنَّ آية التطهير أثبتت العصمة للخمسة أهل الكساء، فهل هناك دليلٌ من الكتاب والسُنّة على عصمة بقية الأئمة الاثني عشر(ع)؟
ـ لا إشكال أنّ هذه الآية نزلت في أهل الكساء، ولكننا نستدل على عصمة الأئمة(ع) بالدليل العام، وهو أنّ عصمة الأنبياء(ع) إنما انطلقت من خلال دور الأنبياء(ع)، وهو أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ((وفاقد الشيء لا يعطيه))، فلابد أن يكون النبي نوراً في عقله، ونوراً في قلبه، ونوراً في كل حياته حتى يعطي الناس نوراً، فإذا كانت هناك ظلمة في عقله، فكيف يُخرج الناس من الظلمات العقلية إلى النور العقلي، وهكذا الإمامة من خلال عقيدة الإمامية، فإنها تمثّل الامتداد العملي الحركي للنبوّة، وإذا كانت امتداداً حركياً، فدور الإمام أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور في التطبيق وفي ما أشكل من مسائل التنظير.. وعلى هذا الأساس، يمكن أن يكون نفس الدليل الدالّ على عصمة الخمسة شاملاً لبقيّة الأئمّة(ع).
مشروعية الثورات:
* قال الإمام الصادق(ع): ((ما خرج منّا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقاً إلاّ اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا))، هل المقصود أهل البيت(ع) أم ذرياتهم؟
ـ هذا النوع من الأحاديث التي وردت عن أهل البيت(ع) ربّما كانت تعالج واقعاً معيّناً، وهو واقع محدود، لأنّ أصحابهم كانوا مستعجلين، وكانوا مغامرين أحياناً، وكانوا يندفعون من دون وجود أي شروط للانتفاضة وللثورة، ما قد ينتج زيادةً في الإساءة للتشيّع؛ لأنَّ الإنسان الذي يدخل في معركة من دون أنْ يكون هناك أي خطة أو أساس للتوازن فيها، قد يزيد من رصيد ضعفه، مع أنَّ الأئمة كان همهم أن يبقى هذا الخط المستقيم الذي يمثِّل الخط الأصيل للإسلام، وهو خط أهل البيت(ع).
ولعلنا نشبّه أسلوب الأئمة(ع) في منع التحرّك الذي لا يخضع للخطة بأسلوب النبي(ص) قبل الهجرة، عندما كان المسلمون الأوائل يُضطهدون، وكان النبي(ص) يوصيهم بالصبر، ويمنعهم من القتال، وكان هناك أبطال في صفوف المسلمين في مكة يمكن لهم أن يواجهوا هؤلاء الذين يعذّبونهم ويضطهدونهم، وكانوا يأتون إلى النبي(ص) ويقولون: اسمح لنا بالقتال، وكان(ص) يصبِّرهم انطلاقاً من مصلحة الدعوة لحاجتها إلى الحالة السلميّة في مكّة لإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من الناس من خلال موقعها المميّز، حتى إذا ضاق الأمر بهم، أمرهم النبي(ص) بالهجرة إلى الحبشة.
وهنا نقطة يجب أن نفهمها جيداً في مسألة التحرّك الثوري، وهي أن الثورة ليست مجرد حالة اندفاع أو حالة حماس وليست شعاراً، بل هي ـ قبل ذلك ـ خطة، تدرس فيها الظروف، ويخطَّط لها، حتى يصل الإنسان من خلال هذه الخطة إلى نتيجة، يعني: يخطط الآن ويربح ولو بعد خمس سنين". وهذه هي الثورة، وهي أنْ تبقى أنت في خط التغيير وفي خط الهدف إلى الأخير، مع الاستراتيجية، وتحرّك التكتيك حسب طبيعة الظروف، وهذا هو الذي أمر به الرسول(ص) ذاك الشاب الذي طلب منه أنْ يوصيه، فقال له: ((إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يكن رشداً فامضه، وإنْ يك غيّاً فانته عنه))، أيْ لا تنظر إلى بدايات الأمور، ولكن انظر إلى نهاياتها، وهذا هو المثل الغربي المعروف: (الذي يضحك هو الذي يضحك أخيراً)، فقد يبدأ بعض الناس بالقهقهات، ولكنها تتحوَّل إلى دموع في نهاية المطاف، لأنه لم يحكم خطَّ السير، ولم يحكم وعي الهدف، فيما يراد للهدف أنْ يتحقق.
حب النفس:
* المجتمع مصاب بأمراض خطيرة، مثل حب النفس، وذلك ما يؤدي إلى تخريبه، فما تعليقكم؟
ـ حب النفس بذاته ليس قيمة سلبية، لأنّه يساهم في حماية الحياة للإنسان وتنميتها وتطوّرها، ولكن على الإنسان أن يحب لنفسه النجاة والتقدم في تنميتها علمياً وروحياً وحركياً بما يحقق لها الدرجة العليا في الكمال، والحصول على رضا الله سبحانه الذي أراد من حبنا لأنفسنا أن نجعلها تدخل الجنة وتحصل على رضا الله سبحانه وتعالى الذي تحدث عن بعض الناس في المعاصي: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ). فحب النفس ليس أمراً سيئاً بالمطلق، وإنما يكون سيئاً عندما يكون سبباً للاقتتال والاعتداء والاستئثار.
استلهام سيرة الزهراء(ع):
* بمناسبة ذكرى وفاة السيدة الزهراء(ع) سيدة نساء العالمين، ما هي توجيهاتكم في مثل هذه المناسبة للنساء المسلمات؟
ـ أن يتم الانفتاح على آفاق هذه السيدة المعصومة التي تربت عند رسول اللّه(ص)، فكان عقلها من عقله، وروحها من روحه، ولذلك كان الاندماج بينها وبين الرسول(ص) اندماجاً روحياً، وكان يقول عنها بأنها "أم أبيها"، بحيث إنه(ص) وجد في الزهراء(ع) ما فقده من حنان الأم وعاطفتها. وكانت(ع) تقوم الليل للّه وكانت تحب الناس، وقد قال لها ولدها الحسن(ع): يا أمّاه لم لا تدعين لنفسك وأنت بحاجة إلى الدعاء، فقالت: ((الجار قبل الدار)) وكأنّها تريد أن تقول: نحن نفكر بالآخرين أكثر مما نفكر بأنفسنا.
وهكذا عاشت الزهراء(ع) وهي ربّة منـزل في بيتها المشقة الشديدة، لصعوبة الوضع الاقتصادي لعلي(ع)، ولم يكن لدى الرسول(ص) ما يساعدهم فيه، ولكنَّها عاشت في رعايتها لأبيها وزوجها ولأبنائها مع أن جسدها كان نحيلاً عليلاً.
ثم إنها(ع) كانت تجمع نساء المهاجرين والأنصار لتعلّمهم وتحدّثهم بما سمعته من الرسول(ص). وكانت المجاهدة التي وقفت مع علي(ع) كأقوى ما يكون الموقف، لا لأنه زوجها، ولكن لأنه إمامها، وكانت تعلم أن الحق له ومعه، ولذلك وقفت في مسجد الرسول(ص) وخطبت خطبتها التي تمثل ثروةً ثقافية إسلامية وهي من أفضل ما تركه التراث الإسلامي، ولم تسبقها امرأة في ذلك كله، وكانت تتحدث عن علي(ع) مع نساء ورجال المهاجرين والأنصار، وعندما عاشت ظلامات كثيرة لم تركّز على ظلاماتها بقدر ما كانت تركز على حق علي(ع)، حتى كان الاحتجاج الأخير على الذين أبعدوا علياً(ع) بأن لا يحضروا جنازتها، فهي المعصومة التي لديها من الصفات ما لم تجمعها امرأة بعدها ولا قبلها. لذلك فعلى النساء المسلمات أن يتخذن من الزهراء(ع) القدوة كل القدوة، ونحن نقرأ في شعر أحمد شوقي (أمير الشعراء) يقول عنها:
ما تمنى غيرها نسلاً ومن يلد الزهراء يزهد في سواها
لأنها ملأت كل حياة الرسول(ص) وعقله وروحه.
الاستلهام من شخصيّة الرسول(ص):
* ونحن نمر بذكرى الرسول(ص)، نرجو إرشادنا إلى كيفية استلهام رسالته(ص) في واقعنا الحالي؟
ـ يمكننا معرفة شخصية الرسول(ص) من خلال قراءة القرآن الكريم، ولقد سئلت إحدى زوجات الرسول(ص) عن أخلاقه، فقالت: ((كان خُلقه القرآن))، فكان(ص) الكتاب الناطق، وكان قرآناً في عقله وقلبه وحياته، ولذلك علينا أن ندرس شخصية الرسول(ص) في القرآن، باعتبار أن سيرته القرآنية خالية من أي تحريف، وفوق ذلك تتحدث عن كلِّ عناصر شخصيته.
ومع الأسف، فإن الناس تركوا قراءة العقيدة وتاريخ الأنبياء(ع) في القرآن، الذي يجب أن يُفرض على كل الأحاديث المروية هنا هناك، والبعض بالمناسبات التي تخص الأئمّة(ع)، ولكنه لا يهتم بالمناسبات التي تتصل بالنبي(ص)، ونحن نقول: إن عظمة أهل البيت(ع) أنهم أخلصوا العبودية للّه كما ورد في زيارة الحسين(ع): ((وعبدت اللّه مخلصاً حتى أتاك اليقين))، وأنهم كما في القرآن عِبَادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ( ) وكانوا يقولون ((من كان ولياً لله فهو لنا ولي، ومن كان عدواً للّه فهو لنا عدو))، فعلينا أن نذكر اللّه ونذكر النبي(ص) من خلال أنه رسول اللّه ونذكر الأئمة(ع) من خلال أنهم أولياء اللّه.
الإمام المهدي(عج) والقوة:
* مع ظهور المهدي(عج)، فإن سلطانه يقوم على السلطة والقوة، فهل يعدّ ذلك استثناءً؟
ـ هناك فرق بين الرسول(ص) الذي يريد القيام بالدعوة والتبليغ، وهما يقومان على الإقناع بشكل تدريجي، من أجل الالتزام الفكري والعملي بالرسالة، وبين مهمة الإمام المهدي(عج)، فإن دوره في نهاية العالم تغيير العالم، وإن كانت الدعوة جزءاً من رسالته التي هي رسالة النبي محمد(ص)، فدوره هو أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهذه تحتاج إلى شروط تختلف عن الشروط الخاصة بالأنبياء(ع)، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون للإمام المهدي(عج) أسلوبه في الدعوة إلى الله في الموارد التي يحتاج فيها إلى الإقناع بالرسالة والفكرة والواقع.
جاذبيّة الانحراف لدى البعض:
* نلاحظ وجود انحراف كبير في جوانب العقيدة لدى بعض البشر، رغم أنَّ لديهم قدرات علمية عالية، ولكن هذه القدرات تضلل وتخدع، فكيف يتم ذلك؟
ـ إنّ على الإنسان أن يملك الفكر الذي يستطيع به أن يميز بين الحق والباطل، ويميز بين الانحراف والاستقامة، ويتابع حركة المعرفة لديه بالحوار مع أهل الفكر، وبالقراءة الدقيقة للعقيدة في مفرداتها وإيحاءاتها، ليكمل له علم ذلك كلّه بطريقة علمية مدروسة.
أثر الطلاسم:
* ما رأيكم في الطلاسم الموجودة في كتب الأدعية من حيث حليّة التعامل بها؟
ـ أغلب هذه الطلاسم لم ترد بسند صحيح، وإنما توارثها المسلمون من خلال ما هو موجود سابقاً من ثقافات أخرى، خصوصاً أنها غير مفهومة. وفي هذا المجال، علينا إذا أردنا من الله شيئاً أنْ ندعوه كما قال هو سبحانه وتعالى في محكم كتابه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( ). إنَّ الإسلام مفتوح، وفي علاقة الإنسان بالله لا توجد حواجز وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ( )، وهذه من أكثر الآيات حناناً، يعني يا عبادي لماذا تبتعدون عنّي؟ لماذا تهربون منّي؟ تعالوا إليَّ، فإني قريب إلى آلامكم وإلى أحلامكم، لأني ربّكم الذي خلقتكم، أنا قريب، ادعوني فيما هي حاجتكم، ما هي آلامكم، ما هي أحلامكم، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، فلماذا نحن غير مستعدين لذلك وَلْيُؤْمِنُوا بِي لأني القادر على كل شيء، ولأني الرحمن الرحيم لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ في الطريق. وإذا كانت بعض الطلاسم قد وردت في بعض الأحراز المعتبرة سنداً، فإنّه يردّ علمها إلى أهلها لغموض دلالتها.
لعن اليهود باتخاذ القبور:
* كيف تفهمون الحديث إنّْ صح ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))؟
ـ بمعنى جعلوها قبلة كما ورد في بعض التفاسير، إذ جعلوا الأنبياء قبلة لهم بحيث يتوجهون إليها في الصلاة، أما الإنسان الذي يزور هذه القبور – مثلاً – ويجعل المساجد إلى جانبها، بحيث يتوجّه الناس إلى الله لا إلى صاحب القبر، فإنّ هذا الحديث لا يشمل هذه الحالة.
سلطة الأئمة(ع):
* بقي الأئمة(ع) بين الناس من غير سلطة تنفيذية ظاهرة، إلاّ أنَّ وجودهم بقي حجة كبيرة بسبب المميزات الخاصة التي تمتعوا بها كقادة، والسؤال: لماذا لم يتم ذلك في الإمام المهدي(عج) ؟ وأي فائدة في إمام غائب؟
ـ هناك مرحلتان للحياة، هناك مرحلة التجارب الجزئية التي تحرك بها الناس على أساس تجربة هنا قد تنجح أو تفشل، وهناك خط قد يستقيم وقد ينحرف. ومن الطبيعي جداً أنّ الحياة لم تنطلق في زمن الغيبة من فراغ، وذلك لأنَّ الشريعة الإسلامية شريعة كاملة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا( )، وحتى أنه ورد في التوقيع المروي عن الإمام(عج)، يعني الحجة: ((وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا))، يعني الذين يملكون ثقافة الإسلام وثقافة أهل البيت(ع) في ما قدّموه لنا من الإسلام ((فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)). لذلك لم تترك الأمة في فراغ، وإذا كان الأئمة(ع) غير موجودين كأشخاص، فهم موجودون كفكر وخط ودُعاة ينطلقون من أجل الدعوة إلى هذا الخط الإسلامي الأصيل.
وهناك مرحلة أخرى، وهي مرحلة الإصلاح الشامل، وهذا هو الذي يُعبّر عنه بملء الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ويعني بذلك التجربة الأخيرة للبشرية التي تشاهد فيها لأول مرة العدل الشامل، والذي يمتدُّ في كل العالم. أمّا ما هي الفائدة من غيابه، حيث إنّ الإمام هو الذي يمثّل الحجّة على الناس في إمامته حتى لو كان خارج السلطة التنفيذية، فالجواب عنه أنّ قضيّة إمامة الإمام المهدي(عج) تختلف في طبيعتها عن إمامة الأئمة الذين سبقوه؛ لأنّ الله أعدّه ليكون إمام العدل الشامل، لا ليمارس دوره الحركي في مدى الزمن قبل الظهور، لحكمة اختصّ الله بعلمها، والله العالم.
تجديد الدين:
* ما رأيكم في الحديث المنسوب إلى رسول الله(ص) حول إرسال منْ يجدِّد الدين على رأس كل قرن؟
ـ الواقع أنَّ هناك بعض المسلمين يرون صحة هذا الحديث وإنْ كانوا يختلفون في تشخيص هذا المجدد أو ذاك. وحتى أنَّ معنى التجديد ربما يكون معنى نسبياً، لأنَّ الدين لا يحتاج إلى تجديد في مضمونه، بل يحتاج إلى تجديد بمعنى عدم الجمود على ما اجتهد به الأقدمون، لأنَّ للمتأخرين أيضاً اجتهادهم، ولأنَّ لديهم ما عند المتقدمين وما عندهم استجد في الفكر الإسلامي والفكر الفقهي والفكر الاجتهادي، لذلك لو فرضنا صحة هذا الحديث، فإننا لا نستطيع أن نشير إلى ضرورة أنّ في كل قرن شخصاً معيناً، لأنّ المسألة مسألة نسبية، يعني هناك في كل قرن مجتهدون ومفكرون يمكن أن يأتوا بالجديد هنا والجديد هناك. ولكن لم يثبت عندنا صحّة الحديث، ولم نجد في تشخيص المجدّد ما يؤكّد واقعيّة ذلك.
إدّعاء رؤية الإمام المهدي(عج):
* ما رأيكم في من ادّعى رؤية الإمام المنتظر(عج)، علماً أنّ بعضهم ممن يوثق بكلامه وبعضهم من العلماء؟
ـ غيبة الإمام المهدي(عج) غيب من غيب الله سبحانه، وهي غيبة كبرى، يعني أنه لا يلتقي به أحد. أما إذا كان شخص ما رآه، كما يدَّعي، فما هي خصوصية هذا الشخص لأن يراه حتى يهمس في أذنه شيئاً؟ وهناك بعض النصوص تتحدّث عن تكذيب من ادّعى الرؤية ولو كانوا من الموثقين، فنحن لا نكذّبهم، ولكن ربما يخيّل إليهم ذلك.
تأثير السحر:
* نسمع من الآخرين أنّ رجلاً طلّق زوجته أو أصبح سيئاً معها من أثر سحر قد عمل له. أود استيضاح مسألة السحر، هل هو موجود الآن في زمننا، وما هي عقيدتنا في ذلك، وما هو مدى صحة أن الرسول(ص) قد سحر أو أثّر به السحر؟
ـ القرآن أصدق من كل هذه الأقوال إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ( )، وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ( )، السحر لا حقيقة له، وإنما هو مجرّد تخيل، وإيجاد خيالات وأوهام ومحاولة نفسية وذهنية ما يشبه غسل الدماغ في هذا الموضوع، ولكن السحرة يضحكون على الناس ويأخذون أموالهم من خلال كتابة كتاب في بعض القضايا وقد يكون له تأثير نفسي. وبعض الناس يعتقد أنه إذا كتب له الساحر كتاباً، فإنه سوف يشفى، ولذلك فإن الساحر قد يستعمل الصدمة النفسية، التي ربما تتحوَّل إلى معاملة نفسية، وفي بعض الحالات، يمكن أن تعالج الإنسان بالوهم، وذلك لا يعني أنه أصبح حقيقة، أما مسألة سحر النبي(ص)، فهو أمر مستبعد، لأنه لا يتناسب مع شخصية النبي(ص) الذي أراده الله أن يمنح الأمة عقلاً من عقله أو يسدد عقولها لتتجه إلى طريق الصواب في تفكيرها.
إباحة دم بعض المشركين:
* أرجو بيان سبب إباحة الرسول(ص) لدم الحكم بن العاص ومن كان معه في فتح مكّة لمجرد مخالفة البعض لرسول الله(ص)؟
ـ النبي(ص) أهدر دمه من جهة التمرد، ومن جهة أنه كان يعطِّل حركة النبي(ص) في فتح مكّة، بما يسيء للوضع الأمني العام للأمّة في هذا المقام.
شيوع العدل كما هو شيوع الظلم:
* ماذا يقصد من الحديث المشهور: ((كما ملئت ظلماً وجوراً)). ما هو مفهوم الامتلاء؟
ـ الامتلاء بمعنى أنّ الظاهرة العامة في المجتمع هي الظلم، وملئت ليس معناها أن هناك شيئاً مادياً، بل هو أمر معنوي، بحيث يشيع الظلم كما في قضية الحكم أو قضية الحرب والسلم، وفي قضية علاقة الإنسان بعائلته وعلاقة الأسرة برب العائلة، بمعنى أنّ المظاهر العامة الموجودة في الدنيا هي أنّ الناس لا تحترم حقوق بعضها البعض، وهذا هو معنى الظلم.
عدد السبع للسموات والأرض:
* ما هو المراد من عدد السبع للسماوات والأرض؟ وما هي الغاية من عدد الثمانية والسبعة للجنة والنار؟
ـ هذا أمر استقلَّ اللّه بعلمه ولا نعلم إلا ما علَّمنا اللّه.
مقياس الحق:
* في الحديث عن الإمام علي(ع) أنه: ((لا يُعْرَفُ الحق بالرجال بل يُعْرَف الرجال بالحق)). إذا كان يُعرف الرجال بالحق، فكيف يُعرف الحق؟ وما هي المقاييس؟
ـ نستطيع أنْ نعرف الحق من خلال القرآن ومن خلال النبي ومن خلال الإمام، وأنْ نزن الأمور بعقولنا ونحكم بما رأينا ((فالحق أن تقول رأيت والباطل أنْ تقول سمعت)).
جديد الإسلام:
* ما هو الجديد الذي قدّمه الإسلام عن باقي الأديان؟
ـ الإسلام لم يأت ناسخاً للأديان، لأن دين اللّه واحد إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ( )، أي أنْ يسلم الإنسان نفسه للّه، إذ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( )، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( )، ولكنَّ الإسلام ركّز على عناوين لم تظهر في نصوص الأديان الأخرى بشكل واضح، ولا سيّما في التشريع.
فالإسلام ركّز على العقل كحجّة على عباده، وحجة أيضاً للعباد في هذا المجال، فاعتبر العقل رسولاً من الداخل، وهذا المنهج ـ وهو منهج الأخذ بالأسباب، واعتبار العقل هو الحجّة في كل الأمور ـ هو الذي لا يمكن لأيِّ تطوّر في الحياة أن يتجاوزه، بل إنّ العقل هو الذي يصنع التطوّر، وهو الذي يصنع النموّ، وهو الذي يدفع الإنسان إلى أنْ يأخذ بأسباب التقدم في ما يصلح حياته في جميع مجالاته، كما أنّ الإسلام اعتبر العلم قيمةً لا قيمة فوقها: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ( )، فاللّه اعتبر العلم قيمة، وقد أخذ ذلك الإمام علي(ع) عندما استوحى هذه الآية وقال: ((قيمة كل امرئ ما يحسنه)).
وهكذا رأينا أنّ اللّه سبحانه وتعالى في خطابه إلى الناس من خلال خطابه إلى الرسول(ص) يقول: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا( )، ما يعني أنه لا بد للإنسان عندما يصل إلى مرحلة معينة في العلم، أن لا يجمد عندها، بل يتجاوزها إلى المراحل الأخرى، أن يبقى في خط التصاعد بحيث يبلغ أعلى المراحل بحسب إمكاناته. هذا ما أكّده الإسلام وركّز عليه.
وقد ركّز الإسلام على العدل، باعتبار أنّ العدل هو الأساس، وتحدّث عن العدل حديثاً مفصَّلاً، العدل مع الأقربين والأبعدين، ومع الأعداء والأصدقاء، وعدل الإنسان مع نفسه، ومع ربه، ومع البيئة ومع الحياة، وما أشبه ذلك، هذا بالإضافة إلى التشريع الكامل الذي استطاع أنْ يفتح الحياة كلها في نمو امتداداتها على القانون الذي يمنح الناس الحياة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ( )، فالحياة هي هدف كل التشريع الإسلامي.
التفاوت في الخلق:
* ما هو الرد على شبهة التفاوت في الخلق، وهل من الظلم أنْ يولد الإنسان أعمى أو مشلولاً أو مصاباً بأي عاهة مستديمة؟
ـ أي ظلم في ذلك؟ اللّه هو الصانع وهو الخالق. ويرتكز عنوان الظلم والعدل على أنْ يكون هناك حق للمظلوم على الظالم، فإذا منعه حقه كان ظالماً، ولا حق لعباده عليه يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ( )، هذه نقطة أولى.
والنقطة الثانية هي أن الناس تنظر إلى المأساة من جانب واحد، فالشخص الذي يكون عنده بصر يعتبرونه كامل الأوصاف، وإنْ كان أغبى الناس، والشخص الأعمى يعتبرونه يعيش المأساة وإنْ كان من أذكى الناس، مع أنّ اللّه سبحانه وتعالى ربما يحرم إنساناً شيئاً، ولكنه يعطيه تعويضاً عن ذلك بشكل أفضل في هذا المجال. ونحن نعرف كثيراً من العباقرة في العالم، عباقرة الأدب والشعر والفكر والموسيقى... إلى آخره، حتى عباقرة الاختراع، هم من المشوهين في كثير من الحالات، ويتميزون على الأشخاص الأصحّاء، ونقدم لذلك مثالاً (بشار بن برد) الذي عاش في العصر العباسي وكان أعمى، وبينا هو واقف ذات يوم في الشارع أو في زقاق، جاءه شخص يسأله عن مسكن فلان، فبدأ يصفُ له موقع البيت، فلم يفهم عليه السائل، فلاحظ أنه كلما قرَّب له الموضوع لم يفهمه، فعمد الشاعر إلى مسك يد الشخص واعتمد على عصاه وسار به يدله على البيت، وهو يقول:
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضلَّ من كانت العميان تهديه
بمعنى أنا أعمى ولكني بصير القلب، ولكن أنت مبصر وفي الوقت نفسه أعمى القلب.
أما النقطة الثالثة، وهي مسألة المشوَّهين في الخلق، وهذه المسألة لا تأتي من خلال أن اللّه يخلق الأعمى بشكل مباشر، لأن اللّه خلق آدم وحواء بشكل مباشر، وخلق الناس بشكل غير مباشر، وقانون الخلق يقتضي أن هذا الحمل وهذا الجنين يخضع لصحة الأم، وهو يتغذى منها ويعيش في داخل رحمها، ويتغذى بخصائص الأب من خلال مؤثّرات الوراثة في ما تشتمل عليه النطفة من عناصرها، فربما انتقل إليه من المحيط ومن أبويه ومن أسرته بالوراثة وغيرهما ما صار سبباً إلى ذلك. وقد يقول شخصٌ: لماذا لا يلغي اللّه تعالى كل السلبيات بحيث يصنع الطفل في رحم أمه على نحو لا يتأثر بالطعام ولا يتأثر بالمناخ ولا يتأثر بالحالة النفسية ولا حتى بالوراثة؟ ولكن هذا غير ممكن، ليس لأن اللّه غير قادر على ذلك، ولكن طبيعة الأشياء لا تتحمل مثل هذا الطابع، وذلك كما تفترض أن الزرع لا يتأثر بالهواء ولا بالأرض، فهذا غير ممكن، لأنّ عالمنا اليوم عالم محدود، فلا تحصل فيه على شيء إلا عندما تخسر شيئاً آخر.
لذلك، فإن الأمر يقتضي أن يلغي الله كلَّ القوانين بالخلق، وعندئذٍ لا يعود إلى قانون الوراثة. وعليه، فإذا كان الطفل لا يتغذى من أمه، فمن أين يتغذى؟ أو كيف لا يعيش مناخ أمه؟ نحن الآن إذا أردنا أن نوازن بين المصالح التي تحصل من خلال هذه القوانين؛ قوانين الخلق، والمصالح التي تحصل لنوع الإنسان وبين السلبيات، فإننا نرى المصالح أكثر، ولذلك فإن المسألة أن نفهم بهذا الشكل بأن عالمنا عالم محدود والله وحده هو المطلق، ولذلك فإن طبيعة الأشياء افترضت أن تكون الحياة قائمة بهذا النحو، بحيث لا يمكن أن تربح فيها دائماً بشكل مطلق، لأنّ التشابك بين الظواهر والأشياء تفرض أشياء أخرى لها نتائجها الإيجابية والسلبية معاً.
العصمة عن ترك الأولى:
* هل الأنبياء(ع) معصومون عن ترك الأولى؟ ولماذا عُبر عنه في النصوص بالعصيان والغواية؟
ـ العصيان على قسمين: عصيان قانوني، وعصيان إرشادي، فإذا ذهبت إلى الطبيب، فقد يطلب منك أنْ لا تأكل من هذه الأكلة، أو أنّ شخصاً نصحك نصيحة ولم تعمل بها، فإنك تقول أنا عصيت الناصح، ولكن لا يوجد شيء قانوني في هذا الموضوع، فترك الأولى هو عبارة عن الأمر الإرشادي الذي يترتب عليه الأثر في حال المخالفة، ولكن من دون عصيان قانوني تكليفي.
قتال الإمام المهدي(عج):
* هل يقاتل الإمام المهدي(عج) أعداءه بالمعجزة أم بالأسلحة المعتادة؟ وما هي أسلحته التي يقابل بها؟
ـ جعل اللّه سبحانه وتعالى غيبته من الغيب وظهوره من الغيب، واللّه يتكفل أداءه وظيفته في أن ينشر العدل الشامل من خلال الإسلام. فلماذا نتعب أنفسنا بأي سلاح يستخدم، وهل هو سلاح نووي أو صواريخ أو غير ذلك؟ إن هذا علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه. ونحن نقول إن من الأفضل أن نعرف ما هي معلوماتنا عن الإسلام الذي يحمله الإمام المهديّ؟ وما هي معلوماتنا عن العدل الذي هو عنوان حركة الإمام المهدي(عج)؟ هل نحن نفهم العدل في العالم؟ وهل نحن مع خطوط العدل في العالم؟ وهل نحن مع خطوط العدل في حياتنا كلها، حيث يعدل الزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها... وعلينا أن نسأل عن الأشياء التي نتحمل فيها مسؤولية في تكليفنا أمام اللّه سبحانه وتعالى، ونتحمل فيها مسؤولية في بناء حياتنا على الأسس الصحيحة، وعندما يظهر بإذن الله تعالى، فعند ذلك لا تكون ثمّة مشكلة في هذا المجال.
الاستسلام للظالم والعفو عنه:
* ما الفرق بين الاستسلام للإنسان الظالم والعفو عنه والرحمة له عند المقدرة على القصاص، على مستوى الفرد والمجتمع؟
ـ هناك فرق بين أن تستسلم له وأن تعفو عنه، فأن تستسلم له، فإنه لا يجوز؛ لأنّه يشجّع الظالم على ظلمه. أما العفو فهو ليس استسلاماً إذا درستَ الموضوع ورأيت أن هناك مصلحة في العفو عن الحقّ الشخصي ـ لا الحقّ العام ـ مع قدرتك على الاقتصاص، لأنّ من الممكن حلّ بعض المشاكل من خلال ذلك. وعلى كلّ حال، فعليك عندما تعفو عن شخص أن ترتكز في عفوك على أساس دراسة حال من تعفو عنه، ولذا ورد عن الإمام زين العابدين(ع): ((وأما حق من ساءك فأن تعفو عنه، فأن رأيت أن العفو عنه يضره)) حيث يظل يسئ للناس ويعتدي عليهم ويسيء إلى نفسه ((انتصرت))، فالعفو يحتاج إلى دراسة في النتائج السلبية والإيجابية اتجاه المجتمع، حتى تجاه الشخص المعفوّ عنه.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
* الأمر بالمعروف أساس من أسس الإنسانية والدين الإسلامي مشرع للإنسانية، فلماذا جعلناه نحن الإمامية فرعاً من فروعه وليس أصلاً من أصوله؟
ـ هو أصلٌ وفرع، هو أصلٌ في التخطيط الإسلامي للحياة، بمعنى أنه من المرتكزات الأساسية في الإسلام، ولكنَّه ليس أصلاً من أصول الدين، بمعنى أن يكون الإنسان الذي لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر خارجاً عن الإسلام، لأن أصول الدين هي التي بها يكون الإنسان مسلماً وبإنكار واحد منها يكون كافراً. وأما فروع الدين، فهي التي يجب على الإنسان أن يقوم بها ويتمثلها إذا كانت من الإلزاميات، وأن يبتعد عنها إذا كانت من السلبيات، وإذا عصى اللّه فإنه يعاقبه، يعني أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل الصلاة، فالذي لا يصلي أو لا يصوم لا يخرج من الإسلام مثلاً، ولكنه يعصي اللّه ويفسق في ذلك.
باب المسائل
الفصل الثالث
المسائل الفكرية
فائدة التاريخ:
* كيف نقرأ التاريخ؟ وما الذي نستفيده من أمور كثيرة أكل الدهر عليها وشرب؟
ـ التاريخ على قسمين؛ فهناك تاريخ يموت بموت صاحبه مع الزمن، وهناك تاريخٌ يحمل فكراً وعِبرةً ودرساً، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ( )، فعلينا أن نقرأ التاريخ قراءة الإنسان الذي يحاول أن يدرس التاريخ وأن يتعرف على خصائصه وعناصره وإيحاءاته، وكل ما يبقى منه للحياة، لنأخذ منه زاداً، ولنصنع التاريخ كما صنع الآخرون تاريخهم، ولنتفادى السلبيات التي وقع فيها الآخرون في واقعهم التاريخي. ونحن دائماً نقول إن علينا أن نعيد دراسة التاريخ وكتابته، لأن الكثير من التاريخ قد دخله الدسّ والكذب وما إلى ذلك بالمستوى المخالف للحقيقة.
محاربة البدع:
* ما هو معنى قول الرسول(ص): ((إذا ظهرت البدع في أمتي فعلى العالم أن يظهر علمه وإلاّ فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين))؟
ـ هذا الحديث صحيح، ويأتي إنسجاماً مع قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاعِنُونَ( )، فلا يجوز للعالم أن يحجب علمه عن الناس، لأننا نعتبر أن العلماء هم أمناء الرسل، وأنهم ورثة الأنبياء، فعليهم أن يحملوا رسالة الأنبياء، حتى لو تأذوا وتعذّبوا، وأن يتحمّلوا الشتائم كما تحمَّلها الأنبياء ولا تأخذهم في اللّه لومة لائم، وأن كلمة اللّه، وهي الإسلام، أمانة اللّه لدى المسلمين كافةً وليس فقط لدى العلماء، فالإنسان المسلم يستطيع أن يهدي الناس للإسلام ويدعوهم إلى الصلاة واتباع تعاليم دين اللّه، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكل الناس، ولذا يقول النبي(ص): ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن اللّه شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم)).
ما هو العرفان؟
* ما هو التعريف المختصر لعلم العرفان؟
ـ هو علم السلوك الذي يفتح وجدان الإنسان على اللّه بأسلوب خاص ويوجّهه لمسألة الأخذ بالجانب الأخلاقي في علاقته مع اللّه وبالناس، ولكننا مع العرفان القرآني النبوي، ولسنا مع العرفان الفلسفي، لأنه قد يكون من ثقافات سابقة، وليس نابعاً من ثقافة إسلامية قرآنية أصيلة.
معنى (قيمة كل امرئ ما يحسنه):
* ما معنى ((قيمة كل امرئ ما يحسنه)) على طريقة الاستيحاء؟
ـ معنى ذلك أنَّ الإمام علياً(ع) يريد أن يقول إنّ قيمة الإنسان هي بمقدار ما يغتني بالعلم الذي يملكه، لأنَّ الإنسان ليس جسداً فقط، وليست قيمته بالحسابات المادّية، كما يقال في السوق: فلان يساوي عشرة آلاف دينار، فالمال يمثّل طاقة يستفيد منها الإنسان في تلبية حاجاته، ولكنّه يبقى خارج ذاته. أمّا العلم، فإنّه يمتدّ في كلّ كيان الإنسان، فيكون جزءاً من عقله وشعوره وحياته، ما يجعله في ميزان القيمة الإنسانية من الداخل، والإمام(ع) استوحى هذا القول من القرآن الكريم بقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( ).
التمييز بين المعقول واللامعقول:
* كيف يتم معرفة شيء أنّه ضمن حدود العقل أم خارج حدود العقل؟
ـ أن يُدرس بحسب طبيعته، وهل ذلك الشيء واقعي أم غير واقعي النحو الذي بيّناه في ما سبق من أسئلة، فاللامعقول هو المستحيل في ذاته، كاجتماع النقيضين في موقع واحد، أو هو الذي لا يملك الشروط الضرورية لتحقيقه في الواقع. أمّا المعقول، فهو الذي يملك عناصر الإمكان في طبيعته، ثمّ تتوفّر الشروط الضرورية لوجوده في الحياة.
مستقبل الحوزة بعد اغتيال السيد الحكيم:
* ما هي رؤيتكم لمستقبل الحوزة والمرجعية في النجف الأشرف مع هذا الاعتداء الآثم الذي طال الشهيد السيد محمد باقر الحكيم والمصلين؟
ـ إن مثل هذا العمل الإجرامي المأساوي لم يشهده النجف في كل تاريخه، وربما لم يشهده العراق في وقت من الأوقات، وذلك بوضع سيارة مفخخة بجانب حرم الإمام علي(ع)، ما يعتبر تطوّراً خطيراً جداً، لأنه يفتح لمستقبل العراق أن يعيش الفوضى، ولا سيما عندما تُستهدَف الرموز القيادية التي يمكن أن تعطي الأمة كثيراً من الخبرة والحركية وما إلى ذلك .. فلابد لإخواننا وأهلنا في العراق أن لا يكتفوا بالتظاهر، وإنْ كان جيداً في مقابل أولئك الذين قاموا بالجريمة، ولكن أن يخططوا في أْنْ يكون كل مواطن حارساً طالما لا يوجد أمن في العراق، حيث إنّ قوى التحالف تدافع عن نفسها ولا تدافع عن العراقيين، فعلى المجتمع أنْ يخطّط لنفسه بنفسه.
ونحن نعتبر أن السيد الشهيد محمد باقر الحكيم هو من القلائل من الشخصيّات القياديّة المميّزة، حيث إنه يملك العلم والثقافة المعاصرة والتجربة الغنية، ويملك الأفق السياسي الواسع، ويملك الشجاعة والصلابة في مواجهة الطاغية بالموقف الصلب الذي تحمَّل فيه ما تحمَّل، خصوصاً من خلال الجريمة الكبرى للطاغية صدام، حينما اغتال أخوته والصفوة من آل الحكيم. لذلك نعتبر أن فقدانه خسارة كبيرة للإسلام والمسلمين ولخط أهل البيت(ع) وللشيعة وللشعب العراقي كله. أما مسألة الخوف على الحوزة العلمية في النجف الأشرف ، فنحن نعتقد أن المرجعية عاشت أكثر من ألف سنة في النجف ومرّت بظروف صعبة وقاسية، ولكنها بقيت وستبقى إن شاء اللّه حتى ظهور الحجة(عج).
إعانة الإمام(ع) على الورع والاجتهاد:
* من كلام الإمام علي(ع): ((ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دُنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد))( )، فكيف نستطيع أن نعين الإمام على الورع والاجتهاد، ونحن ما زلنا نختلف في التوافه من الأمور التي تواجهنا وعلى كل الاتجاهات، فهل من حل؟
ـ يقول اللّه سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ( ). فعلينا أن نعينه بأنْ يعيش كل منّا الورع والاجتهاد والطاعة للّه والعفّة والسداد في الرأي، وإذا فكّر كلٌّ منّا بمسؤولياته الشرعية، فسوف لن يكفّر الناس عند ذلك، أما اعتبار ذلك إعانة للإمام(ع)، فقد يكون المقصود الإعانة له على أنفسنا بتوجيهها إلى الورع والاجتهاد والفقه والسداد، باعتبار أنَّ ذلك هو مسؤوليته في إطلاع الناس على أساس الخط الإسلامي الأصيل في طاعة اللّه وتقواه.
العقل والتنمية الروحية:
* هل الجانب العقلي والفكري في الإنسان أهم من الجانب الروحي والعبادي؟
ـ العقل هو الذي ينمّي الجانب الروحي للشخصية، ويقود الإنسان إلى عبادة اللّه، عندما تشعر بربوبيته وألوهيته. فنحن عندما نتكلم عن العقل، فإننا لا نتكلم عن العقل التجريدي الذي يحلِّق في الفراغ، بل نتكلم عن العقل الذي يُمثِّل القيادة للإنسان، فيما يجلب له النفع، ويُبعد عنه الضرر، ومن الطبيعي أنَّ العقل عندما يرتبط باللّه، فإنّه يكشف كل الأبعاد الروحية التي تتمثل في ارتباطه باللّه سبحانه وتعالى، وعندما يرتبط الإنسان بعبوديته للّه، فإنّه يأخذ بالوسائل العباديّة التي تجسّد هذه العبودية. ونحن نقرأ في الحديث الشريف الذي رواه السُنّة والشيعة، "أن اللّه سبحانه عندما خلق العقل، قال له أقبِل فأقبَل، ثم قال له أدبِر فأدبَر، فقال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أعزّ عليَّ منك، إياك آمر وإياك أنهى، وبك أثيب وبك أعاقب". وكذلك عندما حدَّثنا سبحانه وتعالى عن أولي الألباب أنهم هم الذين يقيمون الصلاة، وهم الذين يخشون ربهم، وهم الذين يخافون سوء العذاب.
مشاورة النساء:
* ما هو تفسيركم للأحاديث المرويَّة عن الإمام الحسن(ع) حول المرأة، وهي: ((إيّاك ومشاورة النساء، فإنَّ رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن))، وقوله: ((لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإنَّ المرأة ريحانه وليست قهرمانة))؟
ـ إذا صحّت أسانيد تلك الأحاديث، فلعلّها تنطلق من واقع تلك المرحلة، لأن الإمام(ع) لم يتحدَّث عن نوع المرأة، فقد حدّثنا اللّه سبحانه وتعالى في القرآن عن تلك المرأة التي تميّزت بعقلها على الرجال، وهي ملكة (سبأ)، وحدّثنا عن المرأة القوية الإيمان التي رفضت الدنيا من أجل إيمانها، وهي امرأة (فرعون)، وحدّثنا عن المرأة التي أحصنت فرجها، وعاشت الروحانية والآلام، وصدقت بكلمات ربّها وكتبه، وكانت من القانتين، وهي السيدة (مريم) العذراء(ع). ثم هل ينطبق هذا الكلام على السيدة فاطمة الزهراء(ع)، وهي امرأةٌ، إذا كان يتكلم عن نوع المرأة!
لذلك، يمكن تفسير مثل تلك الأحاديث عن المرأة على نحو يؤكد عدم الاستسلام لها، لأنه ورد – أيضاً – في الأحاديث المنسوبة عن الإمام(ع): ((لا تطيعوهن في المعروف لئلا يطمعن في المنكر))( )، لأنَّ رابطة العاطفة الزوجية قد تجعل الإنسان يستسلم عاطفياً لزوجته التي قد لا تملك العقل، وتلك الحكمة من ذلك، وإلاّ فهل يشاور أحدهم امرأته في صلاته، فإذا قالت: صلّ، فهل عليه أن يخالف كلامها؟! أو إذا كان للزوجة اختصاص – مثلاً – في التجارة وتفهم في أمورها، فهل رأيها إلى أفن؟.. لذلك فهناك عدّة تفاسير لتلك الأحاديث ـ على فرض صحّتها ـ خصوصاً وأنَّ القرآن الكريم لم يميّز بين الرجل والمرأة في الجانب العقلي والعبادي إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ الْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا( )، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( ).
* وما هو مدى واقعية الحديث ((شاوروهن ثم خالفوهن))؟
ـ معنى الحديث أن لا تستسلموا استسلاماً أعمى للنساء، فالرجل عادةً ما ينجذب للمرأة، بحيث تسيطر عليه وتوقعه بنتائج سلبية، وذلك ما نلاحظه في العالم، فأغلب الجاسوسية في الحرب العالمية كانت من النساء، لاعتبارات غريزية تجعل الإنسان يستسلم لها فلا يناقش الأمور، ولذلك فالإمام علي(ع) يقول: ((لا تطيعوهن في المعروف كي لا يطمعن في المنكر)) يعني لا تعوِّدوهن على الطاعة المطلقة، ولكن قد تكون المرأة أكثر وعياً وصلاحاً من الرجل، وليس معنى الحديث مخالفتها في الصلاح والوعي، وقد أعطانا القرآن الكريم نماذج عدة من النساء كانت في قمة المسؤولية، مثل ملكة سبأ وكذلك مريم بنت عمران وآسيا امرأة فرعون.
الدين المعاملة:
* ما هي جدلية العلاقة بين العبادات والمعاملات في البناء الاجتماعي في ضوء الحديث الشريف ((الدين المعاملة))؟
ـ العبادات تصنع إنساناً يخاف اللّه ويتحمَّل المسؤولية ولا يُسيء إلى أحد ولا يأكل أموال الناس بالباطل ولا يظلم ولا يغش ولا يخدع. لذلك فإن العبادات تحفظ للإنسان استقامته في المعاملات. فمعنى الحديث الشريف ((الدين المعاملة)) أنك تعرف الإنسان من خلال معاملته لك، ولذلك ورد في الحديث ((لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ولكن اختبروه فلعلها عادة اعتادها فاختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة))( ).
التعددية في الإسلام:
* قرأت لأحد المفكرين الإسلاميين ما مضمونه أن قيم الحرية والتعددية وتداول السلطة التي هي أساس نهضة العرب هي قيم لها أساس في القرآن، ولكن المسلمين لم يهتدوا لها خلال كل تاريخهم، ولا ضير عليهم الآن أن يأخذوا من الغرب ويجدوا لها الأصل القرآني. فما دقة هذا الكلام؟
ـ لماذا نأخذ تلك القيم من الغرب إذا كان لها أساس قرآني. فعلينا أن نقرأ القرآن ونفسِّره ونكتشف ما فيه لنعرف قيم الحرية التي ينطلق منها القرآن، هل هي نفس قيم الحرية في الغرب أو لا؟ وهل أن التعددية الموجودة في الإسلام هي نفسها السائدة في الغرب؟ مع هذا لا يكفي الآن أن تكون هناك عناوين لبعض الأشياء في القرآن، بل علينا أن نؤصّل المفاهيم القرآنية، حتى لا نخلط بين القيم الغربية التي ترتكز على فلسفة معيّنة، والقيم الإسلامية التي ترتكز على قاعدة معينة، فقد يتفق الغرب معنا أحياناً وقد لا يتفق، فهم لهم قواعدهم الفكرية ولنا قواعدنا الفكرية، ولكن العقدة السائدة الآن هي عقدة الخواجة، حيث أصبح الغرب هو الأقوى وهو يملك التكنولوجيا، وكما يقال كل ما هو "إفرنجي جيد"، ولكن علينا أن لا نسقط أمام الآخرين، فعندنا أيضاً حضارة ونستطيع أن نتعلم من الآخرين كما تعلموا منا، لكي لا نسقط أمام مظاهر القوة.
تخلّف المرأة المسلمة:
* يقول البعض إن حجاب المرأة هو رمز التخلّف وحاجز أمام تطورها وتقدمها، فما هو الدليل الشرعي على فرض الحجاب على المرأة في الإسلام؟
ـ كما ذكرت لبعض الصحفيات أنّنا كلنا متفقون على الحجاب، ولكن نختلف حول عدد قطع الثياب، فلا أحد في العالم يؤمن بالتعري إلا بعض الشواذ كما هو حال نوادي العراة في الغرب، ثم ما هي علاقة الحجاب بالتخلف؟ فالمرأة قد تدخل الجامعة وهي محجبة وتصبح أستاذة في الجامعة أو تكون مسؤولة في الإدارة .. فما علاقة الحجاب بالتخلف العقلي؟ فالتخلف حالة سلبية تتصل بالذهنية والأفق الفكري ولا علاقة لها بالحجاب، ولدينا الآن الكثير من النساء المحجبات المتعلمات وبعضهن يعيش في الغرب، ولكن البعض يخافون من الحجاب بما هو التزام، ويريدون أن يبعدوا الإنسان المسلم والمرأة المسلمة عن التزامهما الديني. أما الأدلة الشرعية فهي واضحة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى( )، وكذلك قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ( )، وما أكثر الأحاديث عن النبي(ص) والأئمة(ع) في هذا المجال. والقدوة في ذلك سيدة نساء العالمين السيدة الزهراء(ع) وزينب(ع)، فهل كنّ متخلفات ؟!..
العمل للدين:
* ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً))( ). فهل هذا الحديث صحيح؟
ـ نعم، فقد ورد الحديث عن الإمام علي(ع)، وكذلك عن الإمام الحسن(ع)، وهذا أمرٌ يمثل حالة التوازن بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، فبعض الناس يقول إنه سيموت، فلماذا يعمل المشاريع والمصانع أو البيوت، وربما يكتفي بأن يصلي الليل والنهار، والبعض يستغرق في الدنيا ولا يفكر بالآخرة.. والمطلوب من كل الناس أن يعمّروا الدنيا، وأن يفجّروا طاقاتها، لأن تفجير الطاقات في الدنيا هو الذي يحرك الحياة فيها.. فعندما تفكر بالعمل وفي مسؤولياتك في العمل، سواء كان سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، فكِّر كما لو أنّك لا تموت، ولكن عندما تعمل وأنت في خط المسؤولية، فكِّر أنك ستموت غداً وأن الله سيحاسبك، ليعيش الإنسان حالة التوازن بين عمل الدنيا وحساب الآخرة.
شعارات الإسلاميين:
* الإسلاميون اليوم يرفعون شعارات مشابهة لما يرفعه غيرهم من الوطنية والديمقراطية وما إلى ذلك، ولم نعد نسمع ما عهدناه في فترة السبعينات والثمانينات بطرح الإسلام بكلِّ مفاهيمه بكل ثقة، فهل هذا تراجع منهم؟
ـ إنهم يقولون ـ ولا نضمن صحَّة ما يقولون ـ بأنهم يعملون على أساس التكتيك، وذلك من خلال ضغط الظروف الموضوعية التي تمنعهم من طرح شعاراتهم الإسلامية بشكلٍ واضح، ولذلك فهم ـ كما يقولون ـ يبقون مع الاستراتيجية؛ فهم عندما يدعون إلى الديمقراطية، يدعون إليها على أساس أنّها تمهّد لهم الطريق لاختيار الإسلام. ولكننا نرى أن علينا أن نبقى مع الإسلام حتى لو رفضه العالم..
خصائص خطابة الشيخ الوائلي:
* ما هي نصيحتكم التربوية للخطباء بعد رحيل عميد المنبر الحسيني الدكتور الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله لكي يقتدوا به وهو مدرسة بحدِّ ذاته؟ وما هي مواصفات الخطيب الناجح؟
ـ الشيخ الوائلي رحمه الله هو من طليعة (منتدى النشر) في النجف الأشرف، والتي كان يديرها الشيخ محمد رضا المظفَّر رحمه الله، وكانت فكرة المنتدى هي إخراج المنبر الحسيني من التخلّف والخرافة، لتحويله من منبر الدمعة المجرّدة إلى منبر الدمعة الواعية المليئة بالثقافة والتقدم وربط الناس بالإسلام بكل قضايا الحياة..
فقد كان الشيخ الوائلي رحمه الله نموذجاً لتلك المدرسة التي عانت الكثير من الاتّهامات والسُباب والشتائم ولكنها انتصرت في النهاية. ورأى الناس هذا النموذج الخطابي للشيخ الوائلي رحمه الله والسيد المرحوم جواد شبّر رحمه الله والشيخ جواد قسام رحمه الله، بحيث إن الناس عندما يحضرون مجالسهم يشعرون بأنهم يتثقفون، ويطلعون على دروس التاريخ والتفسير وما إلى ذلك، ولا ينحصر دورهم في البكاء والرثاء. وكانت الأجيال العلمائية التي سبقتهم كالمرحوم السيد صالح الحلي رحمه الله والشيخ محمد علي اليعقوبيرحمه الله ، مدرسة أدبية جامعة حينما كانوا يتحدثون عن اللطائف والظرائف. ونحن نريد للخطباء أن يكونوا بمستوى عصرهم، ولا نريد بذلك أن نبعد العاطفة عن القضية الحسينية، باعتبار أن القضية الحسينية ليست كلها دمعة وعاطفة، بل هي قضية فكر وإصلاح، وكما قال الإمام الحسين(ع): ((إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي))( ) فكان عنوانه أنه أراد تغيير الواقع الفاسد.. فلابد لخطباء المنبر أن يقوموا بتغيير الذهنيات المتخلّفة والخرافية وتغيير الواقع الفاسد، بحيث يكون المنبر الحسيني ـ كما لو أن الإمام الحسين(ع) موجود ـ لطرح الأشياء التي نعيشها في كلِّ قضايا الحرية والاستقلال وما إلى ذلك، كما طرحها في مرحلته التي عاشها، لا أن تبقى القضية مجرَّد دمعة ورنّة، خصوصاً أن بعض الناس يستنـزفون الدمعة بالخرافات والأكاذيب. وربما أقول لبعض الأخوان إن هذه الرواية - مثلاً - غير صحيحة تعليقاً على بعض الروايات، فيقول سيدنا: ماذا نعمل، نريد أن نُبكّي الناس بمثل هذه الروايات العاطفية، ولكن الصحيح أن علينا توعية الناس، فلو طرحت قضية الإمام الحسين(ع) بالشكل الإنساني بعناصر المأساة الواقعية التي تختزنها، تجد نفسك تبكي طبيعياً من دون حاجة إلى اختلاق الكثير من الروايات، فالعاطفة الإنسانية أصيلة لدى الإنسان، وربما لو حضر الإنسان مشهداً في فيلم سينمائي مؤثر لقصة مأساوية، فإنه يتأثر، فكيف إذا كانت قضية الإمام الحسين(ع)؟!. ولذلك فلا يحتاج الخطيب أن يأتي ببعض الأكاذيب والخرافات لاستثارة عاطفة الناس بذلك .. والإخلاص لمدرسة الوائلي أن تبقى مدرسة وعي وانفتاح وثقافة وحضارة، فهذا هو الذي يخلّد ذكراه وذكرى الخطباء والعلماء الذين سبقوه.
مواجهة الحرب على الإسلام:
* ما هي الوسائل التي تمكِّن المسلمين من صدّ الهجوم على الإسلام والمسلمين؟
ـ أن ندرس الواقع الإسلامي، حيث هناك معركة ثقافية وحرب سياسية واقتصادية وأمنية وما إلى ذلك يُراد من خلالها إسقاط مواقع قوّة العالم الإسلامي ومنعه من أن يصنع مستقبله باختياره، لأن الغرب يريد صياغة العالم الإسلامي على مستوى مصالحه، وهذا ما سمعناه في الحرب على العراق مؤخراً، عندما قال (كولن باول) وزير خارجية أمريكا بأنهم يريدون تغيير خريطة المنطقة الإسلامية كلها على أساس حماية مصالحهم في المنطقة، وخاصة بعد أحداث (11 سبتمبر)، فطرحوا التغيير السياسي والثقافي للمنطقة، وهم الذين يريدون أن يضعفوا قوتنا الأمنية والعسكرية والاقتصادية، ويريدون أن يصنعوا لنا واقعنا الإسلامي والأمني.
المهمّ أنَّ علينا الانتباه لأصول اللُّعبة؛ لأن الإعلام لا يشير إلى المأزق الذي يصنعونه لنا وهم يحاولون أن يأتوا إلينا بحجة تحريرنا من ذلك المأزق؛ لذلك علينا أن نكون واعين سياسياً وحضارياً، باعتبار أنهم ربما يخاطبون بعض عواطفنا ومشاعرنا وأوضاعنا تماماً لو كانوا يريدون مصلحتنا وتطويرنا، ولكنهم بالدرجة الأولى يريدون مصالحهم التي هي على حساب مصالحنا، ونحن نعرف في كل تاريخنا في القرن الماضي وبداية هذا القرن، أنهم جاءوا من أجل أن يستغلوا كل شيء عندنا، ووظفوا لأجل ذلك الكثيرين لحراسة مصالحهم ولحراسة السجن الكبير الذي يحوي شعوبهم، فلابد أن يكون لنا وعيٌ إسلامي سياسي، وأن نعرف الأمور في العمق وليس من خلال السطح، على حدِّ تعبير بعض الشعوب في ما يضربونه من أمثال شعبية فيقولون: (فلان يقرأ الممحي)، و(فلان يقرأ بين السطور) أو (يعرفها وهي طائرة)، لأن الشيء المكتوب والإعلام لا يعبِّر عن الحقيقة. كما إنّ المهم أن نشعر أننا أمّة واحدة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً( )، ولا نتحرّك كأفراد يحاول كل واحد أن يهتمّ بنفسه، على طريقة ذلك الشاعر اللبناني في المهجر الذي يصوِّر الحالة بقوله:
ما علينا إن قضى الشعب جميعاً أفلسنا في أمان
بينما القضية الإسلامية ليست كذلك.
الأيديولوجية الإسلامية:
* منذ أكثر من عقدين والحركات الإسلامية، سواء كانت سُنيّة أو شيعية، معتدلة أو متطرفة، تنظم الأيديولوجية الفكرية الإسلامية، وقد دفعت هذه الحركات خيرة أبناء المسلمين وقوداً لطموحاتها، والسؤال: هل كانت الأمة الإسلامية تجري وراءهم بما لا يتعدى الشعارات البراقة، بمعنى أنه لا يوجد لتلك الحركات برنامج إسلامي واضح يمكن تطبيقه؟
ـ نحن نتحفّظ على هذا الاتهام، ونعرف أن بعض الحركات الإسلامية ليس لديها إلاّ الشعارات، ولكن للبعض منها برامج سياسية، مع أن هناك فرقاً بين البرنامج الذي يُمثِّل الخطوط العامة للحركة والتي تمثل الدستور، وبين البرامج التي تمثل الأشياء التفصيلية.
فمثلاً من خلال بحث الشهيد المرجع السيد محمد باقر الصدر رحمه الله في كتابه (اقتصادنا)، نجد أنه استطاع أن يُقدِّم المنهج الاقتصادي للإسلام، ولكنه بحث نظري، وأما في حالة التطبيق من حيث تدار المسألة الاقتصادية وغير ذلك من التفاصيل، فإن هذه المسائل تحتاج إلى واقع اقتصادي إسلامي من حيث كيفية التعامل مع العلاقات الاقتصادية والدولية، وهل إن هذا البلد الإسلامي فيه إمكانية اكتفاء ذاتي أم لا، ولذلك ليست من مسؤولية الحركات الإسلامية ولا القومية ولا الاشتراكية أن تطبق هذه المسائل بصورة كاملة، لأنها تحتاج إلى تجربة، وهناك فرق بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي.
لذلك نعتقد أننا عندما ندرس أدبيات الإسلاميين من خلال الحركات الإسلامية، على مستوى نظرية الحكم وغيرها من العناوين، كما هو شأن أدبيات الحركات القومية التي ترفع شعار الوحدة العربية وكذا بالنسبة للاشتراكية، فإننا نجد أنه لا توجد لديها خطط تفصيلية، بل إن هذه الحركات تعمل على تطبيق النظرية على الواقع عندما تستلم الحكم. والإسلام هو كذلك في هذا المجال، فلا موجب للنظرة السلبية تجاه الحركات الإسلامية.
أما مسألة الدماء التي أُريقت من قبل المستكبرين، فلأنهم لا يريدون للإسلام كياناً حاكماً، وهو موقف عام تجده عند المستكبرين والسائرين في فلكهم. والآن، عندما تتكلم أمريكا باسم الديمقراطية وأن الشعب العراقي سيكون نموذجاً للديمقراطية ويستطيع أن يأخذ حريته، ولكن – في الوقت نفسه – عليه أن لا يقيم نظاماً إسلامياً في العراق، فأية حرية وديمقراطية هي هذه؟فإذا اختار الشعب العراقي النظام الإسلامي، فإن أمريكا تقول له ممنوع هذا الخيار، فأين هي الديمقراطية التي يقصدون بها أن الشعب هو الذي يقرر مصيره بنفسه، ونحن نقول حتى أمريكا ليس فيها ديمقراطية رغم أن فيها انتخابات، وما هو معنى ديمقراطية أمريكا عندما تحاول معاقبة الذين لم يؤيدوها في الحرب ضد العراق مثل فرنسا وألمانيا وروسيا؟ فأين الحريات في العالم تلك التي تأتي من باب قول فرعون أنا ربكم الأعلى.
تعليم الإنسان:
* ما هو المقصود من العلم في قوله تعالى: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( )؟
ـ هو كل العلم الذي ألهمه اللّه سبحانه وتعالى للإنسان، وأعطاه الفكر والحواس ليتعلم، وهيأ له وسائل العلم في هذا المقام.
التعُّرب بعد الهجرة:
* في بلاد الغرب، لا يستطيع الكثير من العوائل المسلمة المهاجرة السيطرة على أولادهم بسبب قوانين بلاد الغرب التي تعتقل الأب عندما يؤدب ابنه أو ابنته، فهل يجوز للمسلمين شرعاً طلب اللجوء إلى بلاد الغرب تلك؟
ـ في تلك الحالة يحرم البقاء في بلاد الغرب، وقد حصلت بعض الحالات الأخرى مثل قيام المرأة بالشكوى ضد زوجها وطلبها التطليق منه على غير الوجوه الشرعية، وهذا مما لا يجوز.
نصيحة للشباب:
* ما هي نصيحتكم للشباب المسلم، وخاصة أنهم يعيشون فترة مهمة من حياتهم ؟
ـ نصيحتي لهم أن يدرسوا الإسلام، وأن يأخذوا بأسباب العقل لا العاطفة، ويأخذوا بأسباب التخطيط لا الارتجال، وأن ينفتحوا على الواقع من دون أن يستسلموا له، ليفهموه بمداخله ومخارجه، يعلموا ان لا يستبدلوا بالإسلام غيره. ومع الأسف، فإنّ البعض أصبح يصرّح بأننا لا نريد حكماً إسلامياً أو حكومة إسلامية، ونريد فصل الدين عن الدولة. هل سمعتم قومياً يقول بأنه لا يريد دولة قومية أو ماركسياً يقول إنه لا يريد دولة ماركسية، والله يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ( ). نحن نقول: هناك استراتيجية وتكتيك، وعلى التكتيك أن لا يغلب الاستراتيجية الإسلامية، ومشكلتنا في الواقع العربي أننا نجعل التكتيك استراتيجية والاستراتيجية تكتيكاً.
الأنبياء والسلطة والمال:
* هل إن مثال السلطة والملك للنبي سليمان(ع) استثناء للقاعدة؟
ـ نعم، كان النبي سليمان(ع) يعيش الدعوة، ولكن الظروف التي كانت محيطة به في ذلك الوقت جعلته يطلب من اللّه ملكاً لا ينبغي لغيره، ومع ذلك فإنه، كما حدّثنا القرآن، كان متواضعاً للناس ولم يعش الكبرياء.
الرسالة والقوة:
* ذكرتم أن رسالة الأديان السماوية لم تكن مرتبطة بالقوة والعنف بل بالإقناع، على عكس سلطة القوة والعنف المتحكمة اليوم في العالم؟ فهل يعتبر ذلك سبباً لتعذر إقامة حكم اللّه على الأرض إلاّ بظهور المهدي(عج)؟
ـ نحن نقول إن رسالة الأنبياء(ع) انطلقت من القاعدة الإيمانية الرسالية في نفس الإنسان، ولم تنطلق من الظروف الخارجية المحيطة به، ولكن ليس معنى ذلك أن لا نأخذ بأسباب القوة، بل لا بدّ من أن ينطلق الدعاة إلى اللّه من أجل أن يرتبط الناس بالرسالة على أساس العقل. أما تغيير الواقع فله شروط أخرى، فإذا وصلت الرسالة أو الدعوة إلى مسألة تغيير الواقع، فقد تفرض الظروف القوة أو السلم حسب اختلاف هذه الظروف.
الطبقة المثقفة والهزيمة:
* كيف تنظرون إلى واقع الطبقة المثقفة في ظل حالة الهزيمة التي يعشيها واقعنا؟
ـ مشكلة الطبقة المثقفة والواعية أنها تتحرك في خطين:
الخط الأول: أنها أصبحت نخبوية أكثر من اللازم، بحيث أصبحت تفكّر في التجريد أكثر مما تفكر في الواقع، ولهذا فإنّ مؤتمرات الثقافة العربية أو المثقفين العرب أصبحت تنتج كتباً، ولكنها لا تُنتج عقلاً، سواء كنت تتحدث عن اليمين المثقف أو اليسار المثقف أو الوسط المثقف.
لقد كفّوا عن صنع الواقع وأصبحوا ينظّرون له، وبذلك أصبحت عملية التنظير بعيدة عن خطوط الواقع، وبالتالي فهم مدعوّون إلى أن ينـزلوا إلى الأرض ليفهموا الأرض جيداً.
إنَّ مشكلتنا في بعض الفترات الزمنية (الخمسينات والستينات) كانت تكمن في أن المثقفين العرب كانوا يفكرون في الواقع العربي من خلال تفكير المثقفين الأوروبيين والأمريكيين أو غيرهم، حتى باتوا صدى لهم، ونقلوا تجربتهم، التي تحمل طابعاً خصوصياً، بحذافيرها إلى بلادنا، دون إجراء أي دراسة ومقارنة بين المراحل التي قطعتها التجربة هناك والتي تحتاجها التجربة هنا، ودون مراعاة أن لكل تجربة ظروفها وأجواءها الواقعية، والتي تحتاج، عندما نريد أن ننقلها، إلى دراسة وإعادة إنتاج بما يتلاءم مع واقعنا. لذلك أعتقد أن المثقفين العرب في ذلك الوقت، كانوا يستعيرون النظريات من مواقع أخرى ليفرضوها ويسقطوها على الواقع العربي.
نحن لا نعتقد أن للفكر وطناً معيَّناً، فالفكر لا وطن له، ولكن بعض الفكر قد يكون نتيجة تجارب شخصية، فلا يمكن لك أن تعمّمه بعيداً عن ظروف التجربة الخاصة. إننا نتصوّر أن على المثقفين أن ينزلوا إلى الواقع أكثر، وأن يدرسوا ويخططوا للمسألة الثقافية السياسية بطريقة أكثر واقعية.
الخط الثاني: هو مسألة الحريات، فمن الطبيعي أنّ الثقافة تفتقد إلى الحرية في فكرها وفي حركة الحوار داخلها؛ لأنّ اضطهاد الحريّة يؤدّي بالفكر إلى الانغلاق والجمود، باعتبار أنّه يبقى كامناً في نطاق الذات من دون تفاعل مع الفكر الآخر، أو انفتاح على الصراع الذي يتحرك بالحوار والجدل الفكري الذي يخلق حالات التوتّر الثقافي من خلال التوتّرات النفسية. ولهذا نرى أن الفكر ينمو في فضاء الحرّية، في الهواء الطلق، بما لا يملك فيه النموّ في الزوايا الضيّقة والأفق المحدود.
إقامة المجتمع الإسلامي في عصر الغيبة:
* هل يمكن إقامة مجتمع إسلامي قبل خروج صاحب الزمان(عج)؟
ـ لماذا لا يتحقق؟ التجربة أمامنا … ومشكلة بعض الناس أنّهم عندما يؤمنون بالإمام(عج) يقولون: ممنوع على أي شخص أن يقوم بعمل إسلامي، حتى إن بعضهم يرى حرمة الإصلاح والموعظة، لأنه كلما وعظَ الناس أكثر، كلما صاروا مؤمنين أكثر، وذلك يؤخّر خروج الحجة(عج)، لأنّه لا يخرج إلا عندما تمتلئ ظلماً وجوراً .. وكلما - حسب رأيهم - عملت للإسلام وأسست دولة إسلامية هنا، ودولة إسلامية هناك، تكون قد عطلت عمل الحجة(عج).
هؤلاء يجمِّدون الإسلام ، والإسلام لا يتجمد في كل أحكامه في أي زمن، ف((حلال محمد حلال إلا يوم القيامة، وحرام محمد حرامٌ إلى يوم القيامة))( )، فالجهاد لا يتجمد ولا الأمر المعروف والنهي المنكر، ولا يتجمد شرع اللّه بعامّة.. وأما ما في بعض الروايات كقوله: ((كل راية تخرج في زمن الغيبة هي راية ضلال)) فهي محل تحفّظ كبير ، فهل تعتبر راية ضلال راية الإنسان الذي يدعو للأئمة من أهل البيت(ع) ولخطهم وللإسلام، ويواجه العالم كله؟
لابد للإنسان من إعمال عقله حتى يفهم أن هذه الروايات هل هي موضوعة أو أنه يراد منها شيء آخر.. وهل من المعقول أن يقال: إن اللّه لا يطالب بتطبيق الإسلام؟
إن اللّه تعالى خلق لنا عقلاً، وأعطانا قرآناً، وأعطانا ما صحّ من السُنّة النبوية، ومن تراث أهل البيت(ع) .. فلا يصح لمجرد رواية غير دقيقة أن نعطِّل كل هذا ..مشكلتنا، كما يقال: أمة متخلفة تتصور قيمها بطريقة متخلّفة ..ونحن نفرض التخلف على الإسلام، لأن فهمنا متخلف.
انطوائية الثقافة:
* كيف ترون حركة الثقافة، وتجليات الوعي في واقعنا؟
ـ قد تكون بعض مشاكلنا الثقافية، هي أن يحوِّل الإنسان عقله إلى مكتبة تتجمع فيها الكتب بطريقة فنية، ولكنه لا يحوِّل كيانه إلى فكر يمتص كل ما في هذه الكتب، ليكون الإنسان الذي يعيش الكتاب ولا يستهلكه. لدينا مثقّفون كثيرون، ولكن لا نتحسس هذه الثقافة في الوجدان الروحي للإنسان، لأن الإنسان قد يفكر بعقله، ولكن يتحرك بغريزته، وربما تفرض الغرائزية نفسها على العقل، فيتحوَّل إلى أمر فوضوي، لا تُعرف فيه حدود العقل من حدود الغريزة. وهذا ما جعل المسألة الثقافية في كثير من مواقعها، مسألةً بعيدة عن إنسانية الإنسان في حركته الإنسانية، لتكون مجرد شيء يختزنه الفكر، ولكنه لا يجري مجرى الدم في العروق.
ربما نحتاج أن نُحرّك الثقافة في وجداننا الشعوري، وفي وجداننا الحركي، حتى نستطيع أن نُؤَنْسِنَ الثقافة، فنجعل هناك إنسان ثقافة، ولا تبقى عندنا مجرد ثقافة إنسان، وثمة فرق بينهما؛ أن يكون الإنسان إنسان ثقافة، معناه أن الثقافة تتحرك في الأرض، وتمثِّل روح الإنسان وفكره ووجدانه وتطلعاته وحتى أحلامه، فقد نحتاج إلى أن تكون لدينا أحلام مثقفة، لأن الأحلام المثقفة تستطيع أن توازن تطلعات الإنسان في حركته في الواقع، وفي حركته نحو المستقبل.
موقع عالم الدين:
* كيف تنظرون إلى دور عالم الدين؟
ـ إن عالم الدين إنسان يملك ثقافة دينية منفتحة على كل ما له علاقة بحركة الدين في الإنسان وفي الحياة، من خلال الخطوط التفصيلية في القانون والأخلاق والقيم وما إلى ذلك .. لذلك لابد للعالم الديني من أن يكون مُلماً بكل ما يتصل بحركة الدين في وجدان الإنسان وفي واقع الحياة.
أما الاختصاصات الأخرى، كالكيمياء والفيزياء والهندسة وغيرها، فإن عالم الدين لا يدَّعي لنفسه الإحاطة بها، بل إن طبيعة أمانته لمسؤوليته، وأمانته على الناس، ألاّ يُعطي رأياً اقتصادياً إلاّ بعد أن يرجع إلى أهل الخبرة في الاقتصاد، وألا يعطي رأياً سياسياً إذا لم تكن له ثقافة سياسية، إلاّ بعد أن يرجع إلى أهل الخبرة. لذلك فعالم الدين لا يتصوّر نفسه إنساناً يملك كل الخبرات، بل هو إنسان يقف في دائرة الخبرة الثقافية والعملية من خلال أنه رجل دين، يعطي لنفسه الخبرة في ما يتصل بالمسألة الاقتصادية في الجانب الديني، كما يعطي لغيره الخبرة في هذا المقام.
لذلك نحن نقول: إن الدين يحترم العلوم الأخرى، ويرى أن على كل إنسان أن يقف عند حدود معرفته، وأن على عالم الدين أن يحترم أهل الخبرة الآخرين، وألا يعطي أي رأي في مسألة لا تتصل باختصاصه وخبرته إلا بعد أن يرجع إلى أهل الخبرة، وعليه أن يلتزم برأيهم إذا رآه ملزماً؛ لأن عملية الرجوع إلى أهل الخبرة هي عملية متحرّكة، لأنك قد ترجع إلى بعض أهل الخبرة الذين يرون رأياً، وقد يكون هناك بعض أهل الخبرة يرى رأياً آخر، لذلك لابد لك أن تتشاور، ثم تحاول أن ترجع إلى نفسك، لتتخذ القرار من خلال ذلك، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة في خطاب اللّه للنبي(ص)، يقول سبحانه وتعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ( ).
ومن الطبيعي، أنه ليس كل "شيخ" ـ والمقصود من يلبس زي رجل الدين ـ عالمَ دين، فالعلم ليس عمامة، والعلم ليس موقعاً، العلم الديني هو كأي علم آخر .. إن الموقع لا يمنحك الدرجة العلمية، وإن الزيَّ لا يمنحك الدرجة الدينية.. عالم الدين كأي إنسان إذا كان لا يمتلك المستوى العلمي الذي يمكن أن يجعله في مستوى موقعه، وعلى الناس أن يقدّروه كتقديرهم لأي شخص صاحب علم، وإذا لم يكن له ذلك، ووضع نفسه في موقع، فعلى الناس أن يرفضوه حتى لا يُسيء إلى القيمة الدينية والعلمية من خلال جهله، أو من خلال انحرافه.
بناء الأسرة المسلمة:
* ذكرتم في إحدى المحاضرات أن الزواج من أصعب الأمور تعقيداً، فما هي نصيحتكم؟
ـ كنت أقرِّب الفكرة للناس ليحسنوا الاختيار في الزواج، سواء للرجال أو للنساء، لأن عقد الزواج طويل الأمد، وقد يصل لفترة خمسين سنة أو أكثر من التعايش بين الزوجين، وما ينطوي ذلك من المزاج والمنام والأكل والأفكار المشتركة والمعايشة ليلاً ونهاراً، فمسألة الزواج ليست من قبيل الحياة مع الصديق الذي قد تفارقه، وقد عبّر القرآن الكريم عن الزواج أصدق تعبير: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ( )، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً( )، فيكون الرجل للمرأة والمرأة للرجل مثل الثوب للجسد، وبذلك يجب أن تحسنوا الاختيار في مسألة الزواج.
أولويات الدعوة إلى اللّه:
* أيّهما أولى؛ أن ندعو مسلماً فاسقاً للهداية أم أن ندعو كافراً أن يكون مسلماً ولو شكلاً؟
ـ يمكن في الوقت نفسه أن نهدي المسلم الفاسق، فننقله من حالة الفسق إلى التقوى، وكذلك الكافر نهديه للإسلام، وليست هناك مشكلة في هداية أكبر عدد من الناس، لكن بعض الناس قد يتكاسل ولا يريد أن يتعب نفسه بهداية الكثير من الناس، وعلى الإنسان الذي يعيش إرادة الدعوة إلى اللّه سبحانه وتعالى، أن يكون لديه استعداد قوي لأداء هذه المهمة.
علماء الدين والسياسة:
* هناك من يقول إن رجل الدين لا يجوز له أن يكون حاكم دولة، بل عليه أن لا يدخل نفسه في السياسة أصلاً، لأنه إما أن يفشل فيها، أو يضطر للتنازل عن الكثير من المبادئ وتعاليم الدين، فما هو مدى صدق هذه المقولة؟
ـ لا يختلف هذا القول عن قول بعضهم بحق الإمام علي(ع) بأن يتخلى عن الخلافة ويترك الحكم ويتفرغ للصلاة بالمسجد فقط، لأن معاوية – مثلاً – تغلب عليه بالمكر والخديعة. ثم لماذا يكون رجل الدين الفاشل الوحيد في عمله؟! فما أكثر الفاشلين في السياسة، فمثله مثل غيره. ثم ما هو مقياس الفشل في الحاكم؟ هل هو في أن لا يسيطر على الناس أو لا يحقق للناس الأهداف والحياة التي يريدونها؟ وكم فشل رجالات السياسة في العالم، وكم حدثت ضدهم الثورات والانقلابات. ثم إن رجل الدين يستطيع أن يحكم ويتحرك بالواقع دون أن ينحرف عن خط الدين، لأن الإسلام واقعي وليس مثالياً معلقاً في الهواء، فالإمام الخميني رحمه الله كان رجل دين وقاد الثورة الإسلامية في إيران. وليس هناك دولة في العالم لم توجه إليها انتقادات. فلماذا لا نأخذ الإمام الخميني رحمه الله كنموذج لرجل الدين الواعي المنفتح على الحياة، والذي يحمل المسؤولية السياسية والدينية والذي يستطيع أن يحكم بما أنزل اللّه وإن كان ليس معصوماً، وقد كنت حاضراً في حسينية (جمكران) وسمعت الإمام الخميني يقول أمام الحضور من الدبلوماسيين وغيرهم إن انتصار تلك الثورة المباركة كانت من اللّه سبحانه وتعالى وليس منه شخصياً، فهو لم يتنازل عن أي خط من خطوطه الفكرية والفقهية والدينية.
لذلك فليس في الإسلام مكان لشعار فصل الدين عن الدولة، لأن ذلك الشعار قد جاءنا من الغرب، حيث كانت الكنيسة تحكم في القرون الوسطى ولم تكن تملك مضموناً فكرياً، وإن كانت قد تطورت في العصر الحديث ، ولكن الإسلام صنع دولةً لأكثر من ألف ومائتي سنة، وكان يحكم في العالم بعنوان الدولة الإسلامية، وإن لم يكن الملوك الذين تعاقبوا بمستوى المسؤولية، فضلاً عن بعض الانحرافات في مسلكهم وأدائهم، ولكن الإسلام عاش التجربة مع الناس ولم يكن هناك قوانين مكتوبة لا في زمن الخلفاء الراشدين ولا الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين، بل كان الفقهاء هم الذين يصدرون الفتاوى التي يسير عليها الناس، ولم تكن هناك مشكلة، سواء في حالة الحرب أو السلم. وعندما نقرأ الفقه الإسلامي، نرى أن العلماء كانوا ينظرون لفقه الدولة مثلما ينظرون إلى فقه الفرد، وإذا كانت بعض التجارب فاشلة في التاريخ الإسلامي، فكم هي فاشلة التجارب العلمانية التي حدثت في العصر الحديث ؟
الانتخابات وحكم الأكثرية:
* ما هو رأي الإسلام في الانتخابات التي يحصل فيها الفوز للأكثرية، وقد قلتم إن الكثرة ليست في جانب الحق، فقد يحصل فيها الخداع؟
ـ قلنا إن الكثرة ليست دائماً مع الباطل وقد تكون مع الحق. أما مسألة الانتخابات في القضايا السياسية، فإنهم يقولون إن الديمقراطية ليست أفضل الأنظمة ولكنّها أقلها سوءاً، فلو فرضنا أن نسبة 51% صوتت إلى جانب معين فماذا يعني البقية 49% ، ونحن نرى أن الشركات الاحتكارية الرأسمالية في أمريكا هي التي تصدر أعضاء الكونغرس باسم الديمقراطية. ولكن مع ذلك، فإننا نجد في بعض المواقع الإسلامية الانتخابات بشكل واضح، مثلاً في الانتخابات في الجمهورية الإسلامية في إيران، فإنها تمثل عنوان الشورى الشعبية، وكما قلنا إذا دار الأمر بين الاستبداد والاستفتاء الشعبي، فالاستفتاء الشعبي أفضل وإن كان لا يمثِّل الخط الإسلامي الأصيل، ولكنه قد يكون حالةً ضروريةً نتيجة طبيعة واقع المسلمين.
هل الغنى مذموم؟
* الغنى مذموم في الإسلام، فهل يعني هذا أنَّ الدنيا سجن المؤمن، وهل السعي نحو الغنى أمر مكروه؟
ـ من قال إنَّ الغنى مذموم في الإسلام وإن الفقر محبوب؟ إنّ اللّه أراد للإنسان أن يعمل في الدنيا وأنْ يصبح غنياً، ولكن عليه أن يأخذ ماله من حلال ويصرفه في الحلال، والله يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ( ). أما كلمة ((الدنيا سجن المؤمن)) فإنها واردة في مقام المقارنة بين واقعه في الدنيا وما ينتظره من الخير والنعيم في الآخرة.
* قال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ( )، مسألة الشورى وإلزاميتها، هل هي إشكالية في فهم النص، أم أنها مسألة مسيَّسة؟
ج: جعلت الشورى في الإسلام على أساس تبادل الرأي، حيث لا بدّ للمجتمع الإسلامي، حتى على مستوى القيادة، من أنْ يتشاور في ما يتشاور فيه من الأمور الأساسية والمصيرية، حتى تكون الشورى وسيلة لوضوح الحقيقة. وقد ورد في الحديث: ((من شاور الرجال شاركها في عقولها))، والشورى لا تلزم القيادة. والكثير من العلماء لا يعتبرها نظاماً في نفسها، لأنها ليست ملزمة. نعم، قد تأتي بعض العناوين الثانوية التي قد تبرّر الإلزام بالعنوان الثانوي فيما إذا كانت مصلحة النظام العام للأمَّة تقتضي ذلك، وهي قضية تتحرك من خلال استشارة القيادة لأهل الخبرة، وكذلك طابع المجتمع الإسلامي في أنْ يستشير بعضه بعضاً ممن يملكون الخبرة في أمر يسير الناس عليه أو لا يسيرون، ومن الطبيعي أن الشورى في الغالب إذا كانت جديّة ومع الذين يملكون الخبرة، فقد تنتهي إلى اقتناع القيادة أو اقتناع المجتمع.
الأكثرية وتحديد الخبيث والطيب:
* إذا اختارت الأكثرية الخبيث، فماذا تفعل الأقلية الطيبة ؟ وما هو المعيار للخبيث والطيب؟ أليس للأمة حقها في الاختيار؟
ـ في العالم اليوم أن الأكثرية إذا اختارت شيئاً ورأت الأقلية أنه خطأ فعليها أنْ تكون معارضة، وهذا من شعارات الديمقراطية اليوم، لأن الديمقراطية تقتضي بحسب نظامها الأخذ برأي الأكثرية، ولكن على الأكثرية أنْ لا تضطهد الأقلية، ومن حق الأقلية أن تعبّر عن رأيها ومعارضتها وتعمل على أساس أن تتحول إلى أكثرية وتطرد الأكثرية من الحكم. وصحيح أن الأمة لها الحق في الاختيار، لكن عليها أن تختار بمسؤولية، خصوصاً إذا كان هذا مما يتصل بالواقع العام للناس والنظام العام لهم؛ لأن اللّه يسألك عن اختيارك على أي أساس اخترت، وليس معنى ذلك أنك حر في الاختيار حتى في ما يضر الناس وفي ما يضر المجتمع.
البكاء المستمر:
* قلتم في محاضرة سابقة: (بكينا الماضي ونبكي الحاضر ونخشى أن نبكي المستقبل)، هل يعني ذلك أننا بدأنا نفقد الأمل في المستقبل نتيجة الأوضاع الراهنة؟ وما هو الحل برأيكم؟
ـ كنت في مقام النصح وفي مقام الإثارة، بمعنى أن نفكر ولا نسترخي أمام تحديات المستقبل، وأنْ لا نتخفَّف من المسؤولية، وأنْ لا نهرب على أساس قول الشاعر:
ما علينا إن قضى الشعب جميعاً أفلسنا في أمان
نحن لا نتشاءم، ولكننا نقول قد نصنع التشاؤم بحسب طبيعة حالات الاسترخاء واللامبالاة واللامسؤولية.
باب المسائل
الفصل الرابع
المسائل التربوية
نصيحة للشباب:
* هنالك كثير من الشباب المسلم الذين أنهوا التحصيل العلمي الجامعي، ولكن قد يصيبهم حالة من اليأس بعد تخرّجهم حينما لا يجدون فرصة العمل أمامهم، ما قد يؤدي بهم إلى الانهيار النفسي، فما هي نصيحة سماحتكم بذلك؟
ـ من خصائص الإنسان المسلم أولاً وأخيراًً أنْ يعيش حالة الثقة باللّه سبحانه وتعالى، لأنّ اليأس يعدل الكفر، إِنَّهُ لا يَيْئأسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ( )، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا( )، فللرزق نظام، وللعمل نظام، فعلى الإنسان أن يسعى في تحصيل رزقه الحلال فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ( )، فلا بد من الصبر والتوكل على اللّه في طلب الرزق.
الطلاب في بداية العام الدراسي:
* ما هي نصيحتكم للطلبة مع بدء العام الدراسي الجديد؟
ـ النصيحة لكلِّ أبنائي من الطلبة أن يجتهدوا في الدرس ليبلغوا أعلى درجات العلم، سواء كانت أكاديمية أو حوزوية، وأقولها لكلِّ الناس، لطلبة الجامعات، والحوزات، والمراحل الدراسية العديدة، إنّ عليكم أن تستغلوا كل دقيقة في التحصيل العلمي، وأنْ لا تضيعوا أوقاتكم باللهو والعبث أو السهرات الفارغة هنا وهناك، فإنّ قيمة كل إنسان هي أن يكبر علمه وينمو عقله. وأقول لطلبة الحوزات ـ خصوصاً ـ بأنهم يتحملون المسؤولية الكبرى في المجتمع، لأنهم يجلسون في موقع رسول اللّه(ص)، فإذا كانوا جاهلين ومتخلفين، فإنهم يعكسون الجهل والتخلف باسم الرسول(ص)، وبذلك يخونون اللّه ورسوله، ويخونون الناس وأماناتهم في ذلك، فإنّ الذي يبقى متخلّفاً وجاهلاً ويلهو هنا وهناك، هو إنسان لا يحترم نفسه ولا الآخرين.
هجر الصديق:
* إذا كان الجار أو الصديق يخالف تعاليم الإسلام في الوقوف عند الشدة وطلب الحاجة وهو قادر عليها، فهل يجوز تركه؟
ـ كلا، لا يجوز تركه، فلو لم يقم الجار بحق جاره فلا تجوز مقابلته بالمثل، وكذا الصديق.
مواضع العفّة والمسامحة:
* في أي الأشياء ينبغي لنا أن نسامح ونعفو عن الناس، وفي أي الأمور يجب أن لا نعفو عنهم وأن نغضب عليهم لغضب اللّه؟
ـ هناك حديث للإمام زين العابدين(ع) في رسالة الحقوق، يقول فيه: ((وأما حق من ساءك فأن تعفو عنه))، لأن اللّه يقول: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى( )، ((فإذا رأيت أن العفو عنه يضر به)) يعني إذا فوت عنه ورأيت أنه يتضرر بعفوك، كما هو حال بعض الناس عندما يراك تعفو عنه فإنه يتجرأ على الناس أكثر، ما قد يؤدي إلى نتائج مدمرة بالنسبة له، ((انتصرت)) لنفسك. ويُنقل في هذا الصدد أن شخصاً أتى لرئيس عشيرته ودار بينهما خلاف، فقام الشخص المسيء وضربه، فما كان من هذا إلاّ أن وضع عباءته على رأسه ومشى ولم يردّ الضربة بضربة مماثلة، وتجرأ المسيء بعد ذلك، فجرّب مع شخص ثان أن يضربه أيضاً، ولكن المعتدى عليه أطلق عليه الرصاص، فجاءوا إلى الأول وقالوا له إن فلاناً (القاتل) عنده غيرة على كرامته أكثر منك، فقال: كنت أعرف أنني إذا سامحته فإنه سيتجرأ على غيري فيقع في حفرة إساءته. فبعض الناس كهذا إذا عفوت عنه سيزداد إضراراً بالناس، وعلى طريقة الشاعر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
إنسان اللّه:
* تذكرون دائماً عبارة (إنسان اللّه)، فماذا تقصدون بها؟
ـ المقصود ب(إنسان اللّه) هو الإنسان الذي يؤمن باللّه، ويطلب رضاه، ويعيش في أجواء طاعته ومحبته وتقواه، وهو ـ بعبارة أخرى ـ إنسان القرآن الذي يعمل على أنْ يكون خُلُقُه وعمله موافقاً لما جاء في كتاب اللّه، بحيث يكون انتماؤه إلى اللّه من موقع العبودية أكبر من انتمائه إلى أي شخص آخر من حيث الرغبة في الحصول على محبته ورضاه، بحيث يكون اللّه كل شيء بالنسبة إليه.
حدود التوبة:
* هل للتوبة ورحمة اللّه وعفوه حدود؟ أم أنَّ التوبة مقبولة في كل وقت مهما كانت الذنوب ومهما تكررت؟
ـ يقول اللّه سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( )، ويقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ( )، ويقول تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( )، ويقول: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ( ). وقد ورد في الحديث: ((إنَّ للّه رحمة في يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس))، فعندما يرى إبليس كيف يرحم اللّه الخلائق، يطمع بالرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء، فكيف نحدد رحمة اللّه بالقول إنَّ فلاناً لا يدخل الجنة وفلاناً يجب أن يدخل النار، واللّه سبحانه وتعالى يقول: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ( )، فلو فرضنا أنَّ اللّه جعل الجنّة بأيدينا، فكم هم الذين سيدخلون الجنة، وكم هم الذين يدخلون النار؟! وقد نقل لي أحد المشايخ من أهل السنّة أنه تحدّث مع أحد أقطاب الاتجاهات التي تكفّر الشيعة، حيث كان يقول: إنَّ الشيعة كلهم في النار، فقال له ذلك الشيخ: الجنة عرضها السماوات والأرض وأنت تريدها لك ولجماعتك فقط؟ إنَّ اللّه رحمن رحيم، ولا علم لنا بحدود رحمته الواسعة.
أما التوبة المقبولة، فهي التوبة النصوح التي لا يعود بعدها الإنسان إلى ارتكاب الذنوب، لأنّ الإصرار على الذنب تجرّؤ على اللّه سبحانه وتعالى، وأبواب التوبة مفتوحة لمن أناب إلى اللّه واستغفر من ذنبه وتاب. نعم، يبقى للشرك خصوصية في أنّ الله لا يغفره غفراناً عفوياً من دون التوبة، وذلك قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء( )، فإذا تاب من الشرك، كما كان الكثيرون من المسلمين الذين لم يكونوا على التوحيد في بداية حياتهم، فآمنوا في المرحلة النبويّة وما بعدها، فإنّ الله يقبل التوبة ويغفر له ما تقدّم من شركه.
أصول المناقشة:
* ذكرتم أنه لا ينبغي استعمال أساليب إثارة الغوغاء في المجتمع أو الذين لا يعقلون ولا يفهمون، فهل هناك مسائل علمية أو عقلية أو مسائل خاصة لا ينبغي نقاشها إلاّ مع ذوي الاختصاص لأجل وحدة المجتمع؟
ـ في الأساس تصعب مناقشة الغوغاء، لأنهم لا يعتمدون أسلوب الحوار، بل يعتمدون أسلوب التشهير. ففي حال حصول قضية فيها جدل، يمكن إإثارتها مع الناس الذين يفهمون أساليب الجدل والحوار، ولا يمكن إثارتها مع مجتمع لا يؤمن بالحوار ولا يتبنّى وجهة النظر الأخرى. فحالة الغوغاء هي حالة عدوانية، والذين يستغلّون الغوغاء لا يملكون حجةً علمية، ولذلك يلجأون إلى إسقاط الطرف المقابل بواسطة التشهير الغوغائي، كما فعل قوم فرعون وقوم إبراهيم(ع).
النشأة في محيط غير متدين:
* بماذا تنصحون الذي ينشأ في بيئة غير متدينة تنظر إلى الدين نظرة سلبية وهو يريد تغيير هذا الواقع والاقتراب من اللّه سبحانه، فكيف يكون البدء بذلك؟
ـ أوصي أولاً بالانفتاح على الوسائل التي تقرِّب إلى اللّه، بالتفكير في عظمة اللّه سبحانه، والنظر إلى الظواهر الكونية وإلى ما خلق اللّه سبحانه من القوانين التي تحكم هذه الظواهر الكونية كما تحكم الظواهر الإنسانية في حركة الإنسان في التاريخ، للتعرف على عظمة اللّه من خلال ذلك.. ثم إلى جانب ذلك، يكون التفكير بنعم اللّه سبحانه وتعالى، ليشعر الإنسان بارتباط كل حياته باللّه، ثم يبدأ الإنسان بدراسة القرآن والكتب التي تربي في نفسه هذه الروحانية، ليتحرك بعد ذلك للقيام بالأعمال التي كُلّف بها.
العداء بين المسلمين:
* ما هي أسباب التفرقة والعداء بين بعض المؤمنين الذين يدعون إلى الإسلام والجهاد في سبيل اللّه، بينما يؤدي الحقد فيما بينهم إلى القتال؟
ـ هذه من إيحاءات الشيطان، فالكثير من المؤمنين بالإسلام يؤمنون به سطحياً وليس في العمق، فكيف لمؤمن بالإسلام أن يقتل مؤمناً؟ وهي ظاهرة أدانها القرآن الكريم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ( )، وقصة الإيمان في الإسلام - كما قلنا - إذا لم يصاحبه العمل بحدود اللّه سبحانه فليس بإيمان قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ( ).
آثار المزاح:
* ما هو حكم المزاح بين الأصدقاء، الذي يصل في بعض الأحيان إلى التلفظ بألفاظ غير مقبولة بحجة المزاح؟
ـ المزاح بطبيعته ليس محرماً، ولكن إذا تحوّل إلى سلوك للإنسان فيعتبر ذلك من السلبيات، وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ( ) ، لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ، وإذا صاحبه الحرام فهو حرام.
ترك الجدال:
* ما صحة الحديث: ((أنا زعيم ببيت في رياض الجنة لمن ترك الجدال ولو كان محقاً)) فهل نترك الجدال نهائياً، أم ماذا؟
ـ لم يثبت لنا سند هذا الحديث، ولكن إذا صح فإنه يقصد به الجدال الذي يكثر بدون وجه حق وقد يؤدي إلى نتائج سلبية. وربما يجادل البعض ليثبت الحق فهذا واجب، كما في قوله تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وكذلك في قوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، ولكن هذا الجدال هو من أجل الوصول إلى نتيجة الفكرة الحق، أما الجدال من أجل الجدال فهو مرفوض.
اختيار الزوجة:
* أريد أنْ أتزوّج، بماذا تنصحني، فتاة محجبة حجاباً تقليدياً، وعقل متحجر، أو فتاة عادية أغيّرها بنفسي، أم عليّ أنْ أبحث عن فتاة متحجبة وقابلة للتغير، وهذا ما لم أره إلى الآن؟
ـ قضية الزواج ليست "هذا أو هذا"، والدنيا لا تخلو من الجيد، لكن عليك أن تبحث جيّداً، وهناك فتيات مؤمنات محجبات بعقل حر ومنفتح، ويمكن أن تكون تجربتك تجربة محدودة جداً. وحسب ما نلاحظ أنّ من يقول: أنا أحجبها وأنا أجعلها تصلي وكذا، فبالتجربة يمكن أنْ نقول إنّ الكثيرين من هؤلاء لم ينجحوا، لأنه عند الزواج ليس هناك مجال بأن تكون واعظاً ومرشداً، وذلك بسبب الانشغال، ونحن يهمنا أن نغيّر الفتاة غير الملتزمة أو الشاب غير الملتزم ليكونا ملتزمين إسلامياً، ولكن أقول إن قضية الزواج هي قضية لابد أن تنطلق من قاعدة الانسجام والتفاهم والتوازن في هذه الحياة، لأنّ الإنسان يجب أن يفكر بقاعدة للزواج. ويروى أن شخصاً جاء إلى النبي(ص) وقال له: من أتزوج؟
قال: عليك بذات الدين، طبعاً ليس معنى ذات الدين أنْ لا تكون جميلة وليس لديها فهم، يعني أنّ الدين هو أساس في الزواج، لأنه يحفظ التوازن للعلاقة بينك وبينها، كما أنه في جانب الرجل أيضاً ورد ((إذا جاءكم من ترضون خُلُقه ودينه فزوجوه)).
معنى الخرافة:
* كثيراً ما تستعملون في خطابكم مصطلح (الخرافة)، فما هو تعريف هذا المصطلح؟
ـ الخرافة هي الفكرة التي لا تستند إلى قاعدة يقبلها العقل، أو تقوم عليها الحجّة، أي أنها من الأمور التي لو درستها لما رأيت في داخلها أي أساس مما يملك الحجة، أو مما يملك العقلائية وما إلى ذلك، وما أكثرها عندنا في الشرق.
مواجهة الفضائيات:
* تلعب الفضائيات المرئية دوراً بارزاً في نشر المفاهيم الخاطئة وبث الأفلام التي تساعد على اقتراف الجريمة، إضافة إلى الأفلام الخلاعية ما يساهم بشكل كبير في الانحراف الشبابي والتخطيط لجرائم القتل وغير ذلك، كيف يمكن مواجهة هذه الظاهرة في ظل عدم وجود البرامج؟
ـ نواجهها كما نواجه الحرب، كيف نستطيع أن نواجه الاحتلال عندما يحتل بلادنا، أو نواجه الظالمين عندما يتعسفون بالظلم في بلادنا وفي مواقعنا؟ علينا أن لا نسترخي ولا يجبِّن بعضنا بعضاً، بل ندرس أفضل الوسائل لحل المشكلات التي تواجه العالم الإسلامي، وما هي الأساليب التي يمكن أن نستخدمها في سبيل ذلك، وعلينا أن لا نيأس، لأننا في كل تاريخنا الإسلامي، مررنا بمشاكل كادت تقضي على الإسلام، سواءً أكانت المشاكل الأمنية أم المشاكل الفكرية، ولكن الإسلام خرج قوياً منتصراً. المهم أن لا نتجمد أو نتحجر، وأنْ لا نعيش لنبكي المشكلة، بل علينا أنْ نحلها. ولكن مشكلتنا أننا شعب يبكي مشاكله، ويسقط أمام كل حالات البكاء، نحن نبكي الماضي ونبكي الحاضر وأخشى أن نعدّ أنفسنا لنبكي المستقبل. أنْ تكون إنساناً تعيش مسؤولية وجودك، هو أن تتحرك مع كل الناس من حولك ممن يحملون فكرك لتظل في حالة الطوارئ في دراسة كيف يمكن أنْ نحل مشكلة صغيرة هنا لنصل إلى حل المشكلة الكبيرة هناك، وأنْ تكون لنا إرادة التغيير لا إرادة التنقير والتجميد وما إلى ذلك إذا صح التعبير.
آثار الذنوب:
* جاء في الحديث: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له))، كيف ذلك؟ وآثار الذنوب ما تزال عالقة في النفس والرواسب التي حملناها ما تزال معنا بعد توبة وتوبة، وأقول في ذلك إن الطريق للوصول إلى درجة التقوى عسير نوعاً ما؟
ـ ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له))، وهو الذي يتوب توبةً نصوحاً، وذلك بأن يقتلع جذور الذنب من داخل نفسه، لأنّ التوبة هي أنْ تندم على ما فات، وأنْ تعزم على أنْ لا تفعل الذنب في المستقبل، ومعنى ذلك أنك تريد أن تقتلع كل جذور هذا الذنب. وإذا فرضنا بقاء بعض الحالات النفسية، فعليك إذا كنت تائباً توبةً حقيقيةً أنْ تعالجها. أمّا قولُك إنَّ تحصيل التقوى مسألة عسيرة، فهو كلام غير صحيح. نعم، هي عسيرة في مجتمع لا تقوى فيه، ولكن اللّه سبحانه وتعالى جعل للإنسان القدرة على أن يحرك إرادته ويفتح وعيه ليعرف النتائج الإيجابية للتقوى ليختارها، والنتائج السلبيّة لما يضلّه فيتركها.
باب المسائل
الفصل الخامس
المسائل الفقهية
أولاً: المرجعية والتقليد ثانياً: النجاسات والطهارات
ثالثاً: الوضوء والصلاة رابعاً: الصيام والكفّارات
خامساً: الخمس والزكاة سادساً: الحج والعمرة
سابعاً: الزواج والطلاق ثامناً: أموال وبنوك
تاسعاً: السلوك والمعاملات
أولاً: المرجعية والتقليد:
التقيّة في التقليد:
* في بعض الأماكن، يجبر الإنسان على إخفاء مسألة المرجع الذي يقلّده، فهل يجوز التقية في هذا المقام؟
ـ مع الأسف أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة، حيث أصبحت قضية التقليد أدياناً مختلفة، كما لو كان ينتمي إلى هذا الدين أو ذاك الدين، أو ينتمي إلى هذا المذهب أو ذاك المذهب، بحيث يضطر الإنسان إلى إخفاء تقليده كما يضطر البعض إلى إخفاء أديانهم ومذاهبهم، لأن الإنسان يخشى أن يعلن عن تقليده لفلان أو فلان، وهذا يدل على عدم التدين. لأن المسألة لا تستحق ذلك، فالتقليد هو أن تقلِّد الفقيه كما تقلد الطبيب أو المهندس، وهو يعني رجوع الجاهل إلى العالم، فإذا كنت مقتنعاً بفلان، فالآخر ما دخله معك، وهو مقتنع بفلان، وما دخلك أنت بذلك، هذا يدل على التخلف وعلى عدم الدين، لأنّ الدين لا يجيز للإنسان أن يضر إنساناً وأن يخيفه ويرعبه باختلافه معه بالرأي. وللأسف، فإن بعض الناس يصلّي ويصوم، ولكنه يضر الناس ويتدخل في قناعاتهم، وهذا مصداق من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، ولم يدفعه الصوم إلى التقوى، وهو نوع من الظلم الفاحش بما يمثله من تخويف وإرهاب المؤمنين الذين يخالفونه في الرأي.
معرفة الإنسان قدر نفسه:
* هل يصحُّ لكل من انتسب إلى الحوزة العلمية أو إحدى مؤسساتها، كالخطابة، أنْ يخوض في كل مسألة أو يعطي آراءه فيها ليكفّر أو يجرّح من يشاء؟
ـ إنَّ الشخص المؤمن والشخص الواعي والشخص المسؤول هو الذي يقف عند حدوده، بحيث يعرف حجمه وإمكاناته وثقافته، فلقد رأى أمير المؤمنين علي(ع) شخصاً يفاضل بين المهاجرين والأنصار، وهو رجل ذو مكانة ضعيفة، فقال له: كما جاء في نهج البلاغة ((وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين... ألا تربع أيها الإنسان على ضلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر)).
فمن ير أنَّ إمكاناته ضعيفة، وتسنح له الفرصة لأنْ يخطب في الناس ويتحدّث إليهم، فلا ينبغي أنْ يعتبر هذا امتيازاً، ولكن عليه أنْ يشعر بالمسؤولية، وعليه أنْ يعيش حالة طوارئ قبل أنْ يتكلم، أي عليه أن يسأل نفسه: هل أتكلّم بالحق أم بالباطل؟ فربما يدخل كلامي في عقول الناس، فهل أتكلّم لأجادل الناس أو لأعلّمهم، وعليه أن يقرأ القرآن جيدا،ً حيث يقول: عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ( )، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ( )، ألم نقل في الدعاء: ((فلا تفضحني يوم تبلى السرائر))؟ فقد يفضح اللّه سريرتك يوم تبلى السرائر.
المراجع وحاجات الناس:
* الناس يريدون من المراجع العظام التدخل في شؤونهم الاجتماعية والسياسية ليدلُّوهم على الطريق الأمثل، ما هو العمل إذا لم يستجب بعض المراجع لمطالب الجماهير، لا سيما في ظروف الفتن؟
ـ (لعلَّ لها عذراً وأنت تلوم) كما قال الشاعر، ولكن عليك أن تأخذ في ذلك بمن تثق به من المراجع الذين يتحمَّلون مسؤولية المجتمع في قضاياه الاجتماعية والسياسية بحسب إمكاناتهم وقدراتهم.
الرجوع إلى العالم الميت:
* لماذا لا يجوز الرجوع في التقليد إلى العالم الميت، مع العلم أن علمه باقٍ حتى بعد موته؟ ألا يُعتبر هذا التقليد حجة للمقلد أمام اللّه سبحانه وتعالى؟
ـ رأينا كذلك، لكنّنا سجّلنا تحفّظاً على نحو الاحتياط الوجوبي، نظراً لبعض الاعتبارات الراجحة.
تلّهي طالب الحوزة:
* هل يجوز لطالب الحوزة أن يتسلى أحياناً في بعض أوقاته للترويح عن نفسه؟
ـ إذا كان لا يتعارض مع واجباته الدينية والدراسية، فلا مانع من ذلك.
علل الأحكام:
* هل ما تطرحونه من تفسيرات لبعض علل الأحكام الشرعية، كما (للذكر مثل حظ الأنثيين) و (الزواج المتعدد) .. الخ، هل هذه تفسيرات لعلل واضحة أم استحسانات يراد منها تقريب وجهات النظر؟
ـ ليست استحسانات، بل هي محاولة لدراسة الأحكام المختلفة التي تتعلق ببعض المجالات من أجل التوصل إلى الهدف الذي يريده الشارع، سواء كان من قبيل الحكمة أو العلّة، على أنَّ الغالب هو ما نستوحيه من روايات أهل البيت(ع) في ما يتعلق بعلل الأحكام، كما في مسألة أنّ ميراث المرأة نصف ميراث الرجل ونحوه.
تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد:
* إذا كان هناك فعل محرّم في الإسلام، ولهذا الفعل عدّة آثار سلبية، فإذا انتفى تقديرياً واحد من تلك الآثار، فهل تنتفي حرمة هذا الفعل ويصبح مباحاً؟
ـ لقد بينَّا مراراً أنَّ الحكم الشرعي تابع للمصالح والمفاسد، فما يكون ذا مصلحة، فيكون مباحاً وجائزاً، وما يكون ذا مفسدة، يكون حراماً، ولابد من تركه، ويكون ذلك لا على نحو مطلق، بل معنى أنْ يكون الشيء ذا مصلحة، أن تكون الإيجابيات فيه أكثر من السلبيات لدى المقارنة بينهما، ومعنى كونه ذا مفسدة هو العكس، أي السلبيات أكثر من الإيجابيات، وعندئذٍ، إذا انتفى بعض الآثار السلبية لشيء ما وكان حراماً عندما كان متّصفاً بهذه الصفة، فلابد من النظر إلى حال الدليل الذي دلّ على حرمته أوّلاً، فإنْ كان التحريم قد لوحظ فيه ذلك وعرف أنّ هذه الآثار السلبية هي التي أوجبت التحريم (وهذا يستدعي وجود أدلة لفظية عليه)، كما إذا ورد عندنا أنّ حرمة الخمر إنّما هي باعتباره يؤدي إلى الإسكار، فإذا ارتفع الإسكار، وشككنا في حرمة المائع بعد ذلك، فنقول بحلية ذلك، لأنه شراب جديد خال مما يؤدي إلى الإسكار ولا دليل على حرمته، فنقول كل شيء لك حلال أو مباح حتى تعرف أنه حرام فتدعه.
أمّا إذا لم يلاحظ الدليل الشرعيّ ذلك، وإنما يثبت التحريم مطلقاً، فعندئذٍ لا يصلح انتفاء بعض السلبيّات للقول بحلّيته. لذلك فزوال بعض الآثار السلبية لا يعني دائماً تبدّل الحكم.
المشهور والأشهر:
* ما هو الفرق بين المشهور والأشهر؟
ـ المشهور هو الذي بنى عليه مجموعة كبيرة من العلماء، بحيث يكون المخالفون فئة قليلة منهم، بينما الأشهر اصطلاحاً أكثر شهرةً منه مع كون الرأي الآخر مشهوراً.
العدول في موارد الاحتياط:
* هل تجيزون العدول في المسائل التي فيها احتياط وجوبي بشكلٍ مطلق؟
ـ في الموارد التي فيها احتياط وجوبي يجوز العدول إلى المجتهد الجامع لشروط التقليد.
المرأة وتولي المرجعية:
* تقولون بأنّ المرأة يمكن أنْ تكون مرجعاً دينياً إذا نالت درجة العلم والاجتهاد، مع وجود الروايات التي لا تجيز أنْ تتولى المرأة شؤون القضاء، والمعروف هو أنّ المرجع الديني يعتبر هو الحاكم الشرعي في الإسلام، علماً بأنه لم يحصل طيلة التاريخ في حياة النبي(ص) أو الأئمة الأطهار(ع) أن تولت المرأة ذلك المنصب؟
ـ رأي الكثير من العلماء من الناحية العلمية بلحاظ القاعدة، أنه لا فرق بين المرأة والرجل في شرعية التقليد إذا وصلت إلى درجة الاجتهاد الذي يجوز من خلاله الأخذ بفتواها وكانت على خط العدالة، وهو رأينا وليس شيئاً جديداً. أما مسألة القضاء، فليس لها ذلك على المشهور الذي كاد أن يكون إجماعاً وإن كان لها الإفتاء، كما أنّ بعض العلماء لا يملكون ثقافة إدارة القضاء ولو كانوا أفضل المجتهدين، فذلك ليس نقصاً للمرأة، فقد تكون مجتهدةً في الطب أو أستاذةً في الكيمياء وغيرها من دون أن تملك الاجتهاد في علم آخر.
تعدّد الولي الفقيه:
* هل رأيكم مبني في ولاية الفقيه على الولاية الواحدة أم على الولاية المتعددة؟
ـ من حيث المبنى الفقهي للولاية، نحن نقول بالتعددية، لأنّ النظرة الإسلامية الفقهية الشيعية هي أنّ الولي الفقيه مثل نائب الإمام، فمثلما كان للإمام عدّة وكلاء أو نوّاب، فيمكن كذلك تعدد ولاية الفقيه. وعليه، فإنَّ ولاية الفقيه متعددة بسبب تعدد المناطق وتعدد الفقهاء، مثل تعدد الدول والولايات كما هو الحال اليوم.. فلا يمكن ـ من حيث طبيعة الأمور ـ أنْ تكون هناك سياسة القطب الواحد، ولا يمكن أن يحكم شخص واحد غير معصوم العالم كله، فهذا كلام غير واقعي، وإنّما هو محض افتراض. ولكن إذا كانت المصلحة الإسلامية العليا تفرض وحدة الولاية في منطقة واحدة متعددة البلدان من الناحية الإقليمية، فلا بدّ من توحيدها في هذه الفرضيّة بالعنوان الثانويّ، ولا وجه لقياس وحدة الوليّ بوحدة الإمام، لأن ملاك ولاية الإمام وموقعه في الإمامة يختلف عن موقع الفقيه، لأن الإمام هو الأصل والوليّ هو النائب.
الفقه التبريري:
* قد يقال: أصبح الفقه الشيعي اليوم فقهاً تبريرياً وترقيعياًيماشي الحياة أم أنه لا يزال فقهاً خلاّقاً. فما هو رأيكم؟
ـ الفقه نتاج الفقهاء، فهناك فقهاء يعيشون الانفتاح، ويواجهون الحياة، في كلِّ حاجاتها أو تطلّعاتها، ويدرسون الأمور بوعي، ويفهمون النصوص أيضاً بثقافة منفتحة، وهناك فقهاء لا ينطلقون من هذه الروح. ومن الطبيعي أنّ الفقهاء الذين يملكون وعي حركة الحياة، ووعي الاستقلالية في الاجتهاد، وعدم السقوط أمام اجتهادات الآخرين، مع الالتزام بالقواعد الاجتهادية الأصيلة، هؤلاء يمكن أن يعطوا فقهاً خلاّقاً، وهناك تجارب عديدة في هذا المجال يمكن لنا أنْ نجد لها مظاهر هنا وهناك.
دائرة التقليد:
* هل يكون التقليد مقتصراً على العبادات والمعاملات، أم يتعداه إلى الآراء السياسية والعقائدية؟
ـ إن الله يريد للإنسان أن يُقلِّد في العبادات والمعاملات، لأنه لا يملك ثقافة الفقه، كما يُقلِّد الطبيب في اكتشاف المرض والدواء، أو يقلِّد المهندس عندما يريد أنْ يرسم الخارطة للبيت، أو يقلِّد المحامي في الدفاع عن قضاياه. إنّ التقليد أمر فطري، وهو رجوع من لا خبرة له إلى من له الخبرة. أما مسألة القضايا التي تتصل بالعقيدة، فالله يريد للإنسان أن يجتهد فيها، وأن يقتنع من خلال معطيات القناعة في هذا المجال.
وحتى في المسألة السياسية التي هي على قسمين، إذ هناك مسائل تتصل بالفقه وعليه أن يقلّد فيها، مثل أنْ يقاتل الإنسان هنا أو لا يقاتل، أو يؤيد هذا الحاكم أو لا يؤيده، فهذا على مستوى النظرية الشرعية أو ما يُصطلح عليه بالحكم الشرعي الكلّي، وهناك مسألة تطبيقات الأحكام، التي يمكن أن يرجع فيها المكلّف إلى خبرته السياسية التي قد تفوق خبرة مرجع التقليد في هذا المجال. ولذلك، فإن رأي المرجع السياسي لا يُلزم مقلِّديه إلاّ بما يتصل بالحكم الشرعي ـ كما أسلفنا ـ، فلو كان عنده رأي سياسي يعطي من خلاله تحليلاً لمسألة الاحتلال الأمريكي أو مسألة اللجنة الرباعية أو خارطة الطريق، وما إلى ذلك، فهذا رأيٌ يُحترم من العلماء وغيرهم، ولكن لنا أنْ نناقشه.
وأحبّ أن أشير في هذا المجال إلى أنَّ من الأمور التي حملت لواءها من زمن بعيد، أنّه لا قداسة لأي فكر ـ غير فكر المعصوم ـ، بمعنى أنّ كلّ فكر ـ غير فكر المعصوم ـ قابل للمناقشة، لأنّ احتمال الخطأ في حقّه وارد. وقد قلتُ لبعض رجال الدين من أهل الأديان الأخرى: إذا كان عندكم أفكار سياسية أو غير سياسية، فمن حقنا أن نناقشكم فيها ونقول رأينا فيها، وأنْ نقول أخطأتم هنا وأصبتم هناك؛ لأنكم لا تتكلمون في مسألة دينية بالمعنى القانوني للمسألة الدينية التي قد لا يملك الناس أدوات معرفتها، وليس من حقّك أن تفرض قداسة موقعك على فكرك السياسي، فلستَ نبيّاً أو معصوماً.
نعم، عندك وجهة نظر وكذلك الناس الآخرون عندهم وجهة نظر. أنا لا أؤمن بتقديس الإنسان في الفكر، فكل إنسان، أيّاً كان وفي أي موقع كان، عندما يكون له فكر، ينبغي أن يفسح للناس المجال في مناقشته دون أن يتعقّد من ذلك، بل نحن نلاحظ أنّه حتى المعصوم يغري الناس بمناقشته، لا يوجد عندنا من يملك قمة الفكر بعد رسول الله(ص) كأمير المؤمنين(ع) الذي كان يقول أيّام خلافته: ((لا تكلموني بما تكلَّم به الجبابرة))، فتخافون منّي وتتواضعون أمامي لأنّي حاكم فقط، ((ولا تتحفظوا مني بما يُتحفَّظ به عند أهل البادرة)) أهل القوة، ((ولا تظنوا بي استثقالاً لحق قيل لي))، يعني تقول أنت أخطأت، ((أو لعدل يعرض عليّ))، ثم يعطي قاعدة لكل الحكّام ، ((فإن من استثقل الحق أن يقال له، والعدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل، فلا تكفُّوا عن مشورة بحقّ أو مقالة بعدل)). والخلاصة أنّك إذا كنت تملك الفكر في ما يُطلقه الآخر، فلك أن تناقشه وتختلف معه في هذا المجال.
إفتاء المرجع:
* هل يجوز للمرجع تحليل شيء لا يعرفه أو غير متأكد منه؟
ـ لا يجوز له أن يفتي بغير علم، وقد ورد في الحديث: ((من أفتى بغير علم فليبتوأ مقعده من النار))، كما ورد في القرآن قوله سبحانه عن النبيّ(ص): وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل ِ* لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ( )، وهو النبي الذي جاء بالشريعة، فكيف يسوّغ للمرجع ذلك؟
الاستفهام من الفقيه:
* هل يجوز للمكلَّف أن يسأل مقلده عن المباني التي استدل بها على فتواه؟ وما هو دور العقل وحدوده في تطبيق الفتوى؟
ـ من حقه أن يسأل إذا كان يملك معرفة المباني الفقهية وطرق الاستدلال الفقهي، أما إذا كان لا يملك ذلك، فلا فائدة من ذلك السؤال. أما دور العقل، فيعني أنه لابد لك من حجَّة عندما تقلِّد، لابد أن يستند المقلد على حجة وبرهان، والله تعالى يقول: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( ).
التقليد في المسائل التاريخية
* هل التحقق من الوقائع التاريخية يحتاج فيها المقلد إلى تقليد؟
ـ كلا، إن مجال التقليد هو في الأحكام الشرعية التي لا خبرة للمقلِّدين فيها، وأما المسائل التاريخية فربما يكون المقلِّد - بكسر اللام - أعلم من المقلَّد بالنسبة للحقائق التاريخية، فمثلاً قد يكون له اختصاص في التاريخ أو له اختصاص في بعض العلوم الأخرى، كالطب والهندسة وغير ذلك من المجالات في الثقافة والأدب، بينما المقلَّد ـ بالفتح ـ مجتهد في الفقه والأصول، فيكون المرجع فيهما وفي مجال اختصاصه وصلاحياته.
شروط الأعلمية:
* هل يعتبر عدم اهتمام المرجع بأمور المسلمين السياسية والاجتماعية نقصاً كبيراً في الأعلمية؟
ـ كلا، فالأعلمية المعتبرة في كلمات الفقهاء، وهي الأفضلية في القدرة على الاستنباط، تختص بالجانب الفقهي وليس السياسي بناءً على اشتراط الأعلمية.
قومية المرجع:
* هل تعتقدون أن جنسية أو قومية المرجع مهمة في اختيار المرجعية؟
ـ كلا، إن أساس الرجوع إلى المرجع هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم، وقد يكون العالم تركياً أو عربياً أو فارسياً، والرجوع إلى العلماء نظير الرجوع إلى الأطباء أو المهندسين والعلوم الأخرى، ولا علاقة للقوميّة بذلك.
التبعيض في التدخين:
* أحد المنتقلين إلى تقليدكم حديثاً لا يستطيع الامتناع عن عادة التدخين، فهل يجوز التبعيض في التقليد في هذه الحالة؟
ـ نحن نشفق على صحة إخواننا وننصح بالامتناع عن التدخين ، ولكن إذا كان الوضع حرجياً فيجوز التبعيض في تلك الحالة.
تغيير التقليد:
* قلدت اثنين من المراجع خلال سنة واحدة وأفكر بالعدول إلى مرجع ثالث مع قناعة ويقين في العدول، فهل يجوز ذلك؟
ـ يجب أن لا تكون قضية الانتقال من مرجع لمرجع خاضعة للمزاج، بل نقول إذا كان ذلك المرجع يملك الكفاءة فلا مانع من العدول إليه.
من شرائط المرجعية:
* هل يشترط بالمرجع الإلمام بالقضايا السياسية والاجتماعية؟
ـ في رأينا، على المرجع أن يكون منفتحاً على العالم، لأن المرجعية تقتضي أن يرجع الناس إلى المرجع في كل القضايا العامّة والخاصّة، بما يعطي رأي الإسلام ويحدد الموقف الإسلامي، إلاّ أن المرجعية التقليدية لا تشترط للمرجع الإلمام بالقضايا السياسية والاجتماعية، ونحن مع احترامنا لها نختلف مع المرجعية التقليدية في ذلك، وكذلك كان رأي الشهيدين الصدرين والإمام الخميني(رحمهم اللّه).
بيان المرجعيَّة:
* لماذا لا يقدّم المراجع كشف حساب عن أعمالهم وإنفاقهم كما كان الرسول(ص)؟
ـ تُصدر المؤسسات التي أشرف عليها كتاباً سنوياً نقدّم فيه كشف حساب بما يمكن كشفه من مصاريف وموارد وأعمال وغير ذلك على الصعيد الديني والاجتماعي والمعرفي والمالي أيضاً.
معنى التقليد:
* ماذا تنصحون بعض الشباب ممن يستخفّون بالتقليد، إما بناءً على أفكار من نظرية معينة، أو نتيجة لما حصل من مشاكل بين بعض الجهات المرتبطة بمرجعية معينة، وهذه الفكرة قد تنعكس على الواقع المعاصر في العراق وعدم وجود جهة واحدة تمثل مرجعية الشيعة؟
ـ كما بيّنا سابقاً، إنّ مسألة التقليد هي رجوع العالم إلى الجاهل، بمعنى رجوع من لا خبرة له إلى ذوي الخبرة، فكما تراجع الطبيب ويعطيك وصفة وأنت تثق به، وكذلك مراجعة المهندس في مشروع، سواء كان مشروع بناء أو غير ذلك، وهكذا بالنسبة للمحامي في المسائل القانونية، كذلك الفقيه، فهو من ترجع إليه في الأحكام الشرعية التي تكون مكلفاً بها ولا تعلمها، فالإنسان كما يختار الطبيب الذي يقتنع به كذلك يختار الفقيه الذي يقتنع به ويطمئن إليه وفق المعايير الشرعية، ولكن بعض الناس يحمِّلون بعض القضايا أكثر مما تحتمل.
التبعيض في التقليد:
* إذا وجد عدة فقهاء عدول في زمن واحد، فهل يجوز للمكلَّف أن يأخذ فتاواه من أيِّ واحد منهم، باعتبار أن تقليد كلَّ واحد مبرئ للذمّة، فهل يجوز التبعيض دائماً؟
ـ لابدَّ أن يرجع في التبعيض إلى الفقيه الذي يجيز التبعيض وتتوفر فيه شؤون التقليد، فإذا أفتى بجواز التبعيض فيكون ذلك حجةً، وهي فتواه ويمكنه أن يأخذ بذلك.
الأجر على الواجب:
* هل يجوز لرجل الدين أن يأخذ راتباً على ما يقوم به من أعمال، كإمامة الناس في الصلاة، وإلقاء خطبة الجمعة، وتغسيل وتكفين الأموات وعقد الزواج وغيرها؟
ـ ليس ذلك محرماً، ولكن لا يجب عليه ذلك. نعم، الأفضل أن لا يأخذ إلا حسب الحاجة.
العدول من فقيه إلى آخر:
* هل العدول من مرجع إلى آخر، بحيث تحصل المخالفة القطعية، مثلاً المرجع الأول كان يقول إن العمل الفلاني حلال بينما المرجع الثاني يقول إن ذلك العمل حرام ثم عدلت إلى مرجع ثالث الذي يقول حلال؟
ـ يعني هو يعرف نفسه أنه خالف الحكم الشرعي قطعاً من خلال هذا أو ذاك كما في بعض الموارد، فلا يجوز مثل هذا العدول، أما المخالفة الاحتمالية فلا مانع فيها.
فتوى الميت:
* هل يجوز تطبيق فتوى المرجع المتوفى ولو كانت مخالفة للمرجع الحي؟
ـ يجب الرجوع إلى المرجع الحي في جواز البقاء على تقليد المرجع المتوفى.
تقليد المُدخِّن:
* هل يجوز تقليدكم وأنا من المدخنين؟
ـ في حالة الحرج الشديد، فإننا نقول بجواز تبعيض التقليد، وإن كنّا لا ننصح بالتدخين، لأنه يؤدي إلى التهلكة، ولذلك نجد في أوروبا وغيرها في الأماكن العامة أو السيارات أو المطاعم يمنع التدخين، لأن ضرره ليس مجرد ضرر عادي، بل لأنه يشكل خطراً حقيقياً على حياة الإنسان، وأصبح محرّماً حتى عند بعض العلماء الآخرين لأنه يؤدي إلى التهلكة، فحرام من الآن أن يدخن الإنسان حتى لو أصيب بعد عدّة سنوات بسرطان الرئتين مثلاً، ولكن البعض يفكّر بمزاجه أكثر من صحته.
الإجابة عن أسئلة المفتين:
* هل يجوز للمبلغين الإجابة عن الأسئلة حسب الرأي الاحتياطي من خلال جواز التبعيض في حالة عدم استحضار الجواب وفق المقلد السائل؟
ـ إذا كان السائل المقلد يسأل عن رأي مقلده، فعلى المبلغ أن يجيبه برأي مقلده، أما إذا كان لا يعرف، فكما يقول الإمام علي(ع): ((ولا يستحينَّ أحدكم أن يقول لا أعلم إذا لم يعلم))، أما إذا كان المقلد يرجع إلى من يقول بالتبعيض، فيمكن للمبلّغ أن يرجع لرأي مجتهد آخر.
مشكلة فتح باب الاجتهاد:
* ألا ترون أن فتح باب الاجتهاد يسبب تعددية المراجع لكثرة المجتهدين وتعدد التيارات وما قد يسبب ذلك من إشكاليات وانقسامات في المذهب؟
ـ الواقع أن المشكلة ليست في تعدد الاجتهاد، فإن تنوّع الفكر والآراء يمثِّل غِنى في الفكر، ولكن العصبيات هي التي أوجبت هذا النوع من التمزُّق والبعض يعيش العصبية في نفسه أو في عائلته أو لقومه أو لمرجعية معينة، وهذا السلوك موضع إدانة من وجهة نظر الإسلام، لأن العصبية في النار، وقد ورد في القول المأثور ((من تعصَّب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه))، وقد حدد الحديث المروي عن الإمام زين العابدين(ع) العصبية المقيتة في نحو خاص من العصبية، حيث يقول: ((إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم الآخرين))، بينما يخرج منها ما لا يكون بهذه الصورة ((وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن أن يعينهم على الظلم))، فهذا هو الخط الإسلامي.
النية في العبادات:
* كيف يكون مقصد النية بالنسبة لأمور الصلاة والصوم والخمس والصدقة والفاتحة للميت؟
ـ النية عبارة عن قصد فعل شيء للّه سبحانه وتعالى، ولذلك لا يجب أكثر من ذلك، وإلاّ فهل تصلي أو تتصدق في حالة غياب الوعي؟ وهل يستطيع أن يأكل أو يسافر الشخص بدون نية؟ فلا داعي لمثل هذه التعقيدات، حتى إن بعض علمائنا، وهو الشهيد الثاني، كان يقول بعدم وجوب اعتماد موضوع النية في الأبحاث الفقهية.
فتوى المرجع بالجهاد:
* في أي وقت يحق للمرجع الديني إصدار فتوى الجهاد ضد الأعداء؟
ـ عندما تتوافر الشروط الواقعية العملية، وعندما تتوفر عناصر الجهاد، باعتبار أن هناك خطراً على الإسلام والمسلمين، وفضلاً عن ذلك، فإن الجهاد يحتاج إلى إعداد وقيادة مخططة له.
سن تكليف الفتاة:
* ما هو سن التكليف للفتاة؟
ـ هناك رأيان، فهناك من يقول بإكمال التاسعة من العمر، وهو الموافق للاحتياط، وهناك من يقول ببلوغ سن البلوغ الطبيعي وهو الحيض.
ثانياً: النجاسات والطهارات:
حكم الماء المتجمع في الشارع:
* ما هو حكم الماء المتجمع في الشارع، والذي يتطاير على المارة من الناس عند مرور السيارات، فهل يعتبر بحكم النظيف أم المتنجس؟
ـ في حالة الشك بطهارته ونجاسته، فيحكم بطهارته.
تطهير التراب النجس:
* هل إن ماء المطر يطهِّر التراب النجس؟ وهل يجب أن يصير التراب طيناً؟
ـ مجرد ملامسة المطر لأي شيء يطهّره ما لم تكن هناك نجاسة عينية.
طهارة الماء الملاقي:
* ما حكم الماء الذي يتطاير من الفم عند طبيب الأسنان، مع احتمال أن يكون معه دم؟
ـ إذا لاقى الماء الدم فهو نجس، ومع الشكّ في ذلك يُحكم بطهارة الماء.
الختان بالليزر:
* هل يجوز إجراء الختان بالليزر؟
ـ نعم، يجوز بأي طريقة لا تؤذي الإنسان بشكل غير معتاد.
تشخيص دم الحيض:
* ما حكم صلاة الحائض التي تشكّ بأوصاف دم الحيض؟
ـ لا بد من الرجوع إلى القاعدة الشرعية لتمييز دم الحيض عن غيره، فكل ما هو في داخل العادة فهو حيض حتى لو لم يتصف بصفاته، وما كان بعد العادة داخل العشرة حيض إذا كان بصفاته، واستحاضة إذا لم يكن بصفاته، وإذا تجاوز العشرة كان ما في العادة حيض وما بعدها استحاضة.
المستخرج من عصير العنب:
* هل السكّر المستخرج من عصير العنب طاهر؟
ـ لا إشكال في أنه طاهر.
حكم الشهيد:
* ما حكم المرأة التي استشهدت بسبب إعطائها السم من قبل الحكم الصدامي المقبور، فهل يجب تغسيلها وتكفينها أم تدفن من غير غسل؟
ـ يجب الغسل والتكفين في هذه الحالة ولو أنها ماتت مظلومة، لأن الذي لا يجب تغسيله وتكفينه هو الذي يقتل في ساحة المعركة مع بعض الشروط المعتبرة في هذا المجال.
الكحول الطبي:
* هل إن استعمال الكحول الطبي في تحضير الأدوية وتناوله في المعالجة الطبية عن طريق الفم حلال؟
ـ إذا لم يكن مسكراً وبنسبة مستهلكة بحيث لا يؤثّر في الإسكار بحسب طبيعته فلا مانع.
تغسيل الزوج زوجته:
* في بعض البلدان غير الإسلامية لا يوجد مغتسل للمسلمين، فهل يجوز للزوج تغسيل زوجته؟
ـ الزوج أحقّ بتغسيل زوجته، وقد تولى الإمام علي(ع) تغسيل زوجته الزهراء(ع).
تغسيل المحارم:
* هل يجوز لزوج البنت أن يغسل أم زوجته في الدول غير الإسلامية؟
ـ تعتبر محرماً من محارمه فيجوز تغسيلها.
مصادر صنع الخمر:
* ما حكم الخمر المستخرج من العنب، فهل هو حرام؟
ـ الخمر المستخرج من العنب هو من أظهر مصاديق الخمر، وهو حرام.
خروج الدم من الجبهة:
* إذا كان الشخص يصلّي وخرج من جبهته دم بقدر بسيط أثناء السجود، فهل هذا يفسد الصلاة؟
ـ إذا كان الدم أقل من مقدار درهم فلا بأس بذلك، مع أخذ العلم بأن لا ينجس موضع السجود.
حكم المتنجس:
* لو لامست يدي النجاسة ثم لمست يداً أخرى، فهل تتنجس اليد الثانية؟
ـ وفقاً لرأينا أن المتنجس الثاني لا ينجّس، فإن اليد الأولى لو لامست الثانية ـ مع فرض كونها خالية من عين النجاسة ـ فإنّها تنجّس الثانية على الأحوط، ولكن اليد الثانية لا تنجّس مطلقاً.
التطهير بالاستحالة:
* هل يطهر الطحين المتنجس بالاستحالة؟
ـ لا يعتبر تحويل الطحين إلى خبز استحالة وبذلك لا يطهر.
دخول الحائض المساجد:
* هل يجوز للمرأة الحائض الدخول لمسجد السيدة زينب(ع) وقراءة الأدعية؟
ـ لا يجوز لها ذلك في المنطقة التي أوقفت في السابق مسجداً ثم ألحقت في الحرم، أما غير ذلك فيجوز لها دخولها من دون إشكال، لأن الحكم التحريمي مختص بالمسجد.
حكم الرطوبة بعد الاستبراء:
* ما هو حكم الرطوبة اللزجة قبل الانتهاء من الخرطات التسعة؟ هل توجب الغسل إن كانت من إفرازات البروستات وبلا شهوة؟
ـ إذا كان الإنسان يعرف أنها من المني قطعاً فعليه أن يغتسل، أما إذا كان يشك في ذلك فلا اعتبار للشك.
استخدام الماء الساخن:
* ما حكم استخدام الماء الساخن في الأماكن غير الطاهرة والبخار المتصاعد؟ وهل ينجس بملاقاته الثياب والبدن؟
ـ البخار طاهر، وإن كان الماء الذي حصل منه البخار نجساً، لأنه يطهر بعد التحوّل إلى البخار، ولذلك لا ينجس الثياب وكذلك البدن.
تنجيس الذباب للثياب:
* هل ينجّس الذباب والبعوض الثياب والبدن، وكيف يتم التطهير في تلك الحالة؟
ـ الذباب لا ينجس وكذلك البعوض إلا إذا كان حاملاً للنجاسة مثل دم الإنسان، وإلا فإن دم البعوض غير نجس.
ثالثاً: الوضوء والصلاة:
السجود على ما لا يصحُّ السجود عليه:
* هل لي أجر في ثواب صلاة الجماعة إذا لم أستطع أن أسجد على ما يصحُّ السجود عليه مع من نختلف معهم في المذهب؟
ـ إذا كان يجوز لك ذلك من ناحية التقية وما إلى ذلك، فلك ثواب الجماعة.
الجمع بين الصلاتين:
* قرأت مسألة في كتاب (فقه الحياة) في مسألة جواز الجمع بين الصلاتين وأن والتفريق أفضل، فما هو المقصود بالتفريق؟
ـ يعني أنْ تصلّي الظهر وقت الفريضة، وتصلي العصر في وقت الفريضة، وهذا رأي العلماء بشكل عام، بمعنى أن الجمع رخصة، ولكن التفريق أفضل.
التيمم لضيق الوقت:
* هل يجوز التيمّم للشخص المجنب لضيق الوقت في صلاة الفجر، وإذا كان الجواب نعم فهل يقضي الصلاة بعد ذلك؟
ـ يجب عليه التيمم إذا كان غير قادر على الغسل، لأنّ هذا هو تكليفه إذا لم يتّسع الوقت كلياً وخاف فوات وقت الصلاة، ولا يجب عليه القضاء، لأنّ هذا هو تكليفه.
عدم العلم بدخول الفجر:
* إذا عُلِم أنَّ هناك فرقاً في وقت أذان الفجر في صلاة الصبح بما يقارب النصف ساعة، فمتى يمكن أداء الصلاة؟
ـ أن يتم الأخذ بأسباب الاحتياط في حالة عدم الاطمئنان بدخول الوقت.
إجزاء الغفيلة عن نوافل المغرب:
* هل تجزي صلاة (الغفيلة) عن نوافل المغرب؟
ـ كلا، لا تجزي صلاة الغفيلة إلا عن ركعتين، فلا بدّ من استكمال النافلة بالإتيان بركعتين أخريين.
غسل الوجه بأكثر من غرفة:
* هل يجوز غسل الوجه واليدين في الوضوء بعدة غرفات من الماء أم بغرفة واحدة؟
وهل يجب إعادة غسل الوجه واليدين إذا سقط عليها ماء من غير ماء الوضوء؟
ـ المهم هو غسل الوجه، وربما يكون بعدة غرفات وليس بغرفة واحدة، ولا يعني تعدد الغرفة تعدد الغسل، وإنّما تعتبر غسلةً ثانية إذا أتمّ غسل وجهه ثمّ صبّ الماء من جديد.
الطفل في صلاة الجماعة:
* ما حكم الاتصال بالطفل غير البالغ في صلاة الجماعة، وحالة ما إذا وقع المصلّي على الأرض أثناء الصلاة؟
ـ لا مانع من ذلك، لأن صلاة الصبي المميز صحيحة، ولو أنها غير واجبة عليه شرعاً، أما إذا كان الطفل صغيراً فلا يكون فاصلاً بين المصلين، لأنه لا يشغل مكاناً واسعاً يمنع من الاجتماع، والأفضل أن يكون الأطفال الصغار في الصفوف الخلفية تجنباً لإرباك المصلين، لأن الأصل في الصلاة هو حصول الطمأنينة فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ( ). وأما إذا وقع المصلي على الأرض فيمكنه أن يقوم ويتم الصلاة.
صلاة الطلاب في مناطق دراستهم:
* ما حكم صلاة الشخص الذي يدرس في مدينة أخرى وجاء إليها في غير وقت الدراسة، فهل يصلي تماماً؟
ـ إذا كان كثير السفر فيصلي تماماً.
صلاة المبلِّغ:
* ما حكم صلاة المبلِّغ الذي يسافر كل أسبوع إلى منطقة يومي الخميس والجمعة، فهل يقصر في صلاته؟ وهل يعتبر التبليغ عمله فيتم الصلاة؟
ـ يعتبر التبليغ عملاً وحكمه الإتمام في الصلاة، وكذلك الصوم في شهر رمضان.
الأذكار في الصلاة:
* في صلاة الجماعة، هل يجوز أن يأتي بأذكار مثل (سبحان اللّه) أو (أستغفر اللّه) أثناء قراءة الإمام للحمد والسورة؟
ـ نعم، يصحّ ذلك في الصلاة الإخفاتية أو إذا لم يكن يسمع الإمام، وكذا يجوز للإنسان أن يذكر اللّه في أي موقع من مواقع الصلاة.
الأذكار الخاصة في غير مواقعها:
* هل يجوز للمصلي أن يقول (سمع اللّه لمن حمده) حال قيامه من الركوع؟
ـ نعم، يجوز ذلك.
الاستعداد للصلاة:
* كيف يستحضر الإنسان ذهنه وقت الصلاة؟
ـ أولاً: على الإنسان أن يركِّز ذهنه قبل الدخول في الصلاة، أنه أمام اللّه سبحانه وتعالى وفي عبادة له.
ثانياً: يركِّز على كل الكلمات ويستغرق فيها سواء في السور أو في الأذكار.
أداء الصلاة المستحبَّة جماعةً:
* هل يجوز أداء الصلاة المستحبة جماعةً أو صلاة القضاء جماعة؟
ـ لم تشرع الجماعة للصلاة المستحبة، ولكن في حالة صلاة الاحتياط يجوز ذلك.
جريان قاعدة الفراغ:
* هل تجري قاعدة الفراغ لمن أحدث بعد الصلاة ثم شك في غسل الجنابة أم لا؟
ـ لا مانع من جريان قاعدة الفراغ بذلك بالنسبة للصلاة الماضية.
الدليل على طهارة الإنسان:
* ما هو الاستدلال على طهارة الإنسان؟
ـ الأصل هو طهارة الإنسان، ولا يمكن الاستدلال بالآية الكريمة إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ( )، كما يتوهم البعض، لأنها تعني النجاسة المعنوية، وليست هناك دلائل على النجاسة المادية للإنسان، حتى أهل الكتاب الذين استدلّ بعض الفقهاء بنجاستهم على نجاسة الملحد أو المشرك، فإنه لم يثبت دليل على نجاستهم عند كثير من العلماء، وكذلك بعد نزول الآية إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ لم يصدر أي حديث نبوي عنه، مع أن للرسول(ص) أقرباء مشركون مثل (أبو لهب) وللمسلمين أقرباء أيضاً منهم، ولم يسأل أحد الرسول(ص) عن موضوع نجاستهم.
سجدة الشكر:
* بالنسبة إلى سجدة الشكر، هل تكون سجدة واحدة أم أكثر؟
ـ تكون بعدد نعم اللّه سبحانه وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا( )، وهي مستحبة في كل وقت.
الأذان والإقامة لصلاة القضاء:
* هل يتوجب الأذان والإقامة لصلاة القضاء؟
ـ إن الأذان والإقامة من الآداب المستحبة التي يُؤتى بها قبل الصلاة، ويتأكد استحباب الإتيان بالإقامة أكثر من الأذان، ولكن يجوز للمصلي الصلاة بدونهما.
الصلاة قصراً وتماماً:
* عملي التجارة من فترة إلى فترة، والمدة التي أقيمها في بلدي أكثر من عشرة أيام، وفي البلد الثاني أقلّ من عشرة أيام، والسفر في الشهر لمرة واحدة، فهل الصلاة قصر أم تمام؟
ـ إذا كان السفر في الشهر لمرة واحدة، فالصلاة قصر.
الإقامة عشرة أيام:
* أنا مسافر ونويت الإقامة عشرة أيام في بلد أتممت فيه الصلاة وصمت واجباً وقضاءً عمَّا في الذمة، ولكنني أكملت عملي قبل انقضاء عشرة أيام، فهل يجوز لي الرجوع إلى بلدي، وما حكم الصلاة والصيام؟
ـ إذا كنت مصمماً منذ أن دخلت هذا البلد أنْ تقيم عشرة أيام، ثم بعد ذلك طرأ طارئ عليك، فصومك صحيح في مفروض السؤال، وتبقى على الإتمام إلى أن تخرج من البلد.
الحاجب في الوضوء:
* إذا كان إزالة الحاجب من مواقع أعضاء الوضوء صعبة، كما لو كان صبغاً أو صمغاً أو غيره، فهل يكفي الوضوء فقط، أم ينبغي التيمّم؟
ـ في رأينا أنه يكفي الوضوء ويتيمم من باب الاحتياط.
إعادة الصلاة لغياب الوعي:
* هل يجب إعادة الصلاة للمريض بنوبات الصرع المتكررة بعد شفائه؟
ـ إذا حصلت الحالة المرضية بين الأعمال والأفعال، فإنها لا تضر شيئاً، أمّا إذا كانت تحصل خلال الصلاة، فمن الطبيعي إعادة الصلاة الباطلة في هذا المجال.
اتحاد السور:
* هل صحيح أن سورة (الضحى) و(ألم نشرح..) هما من سورة واحدة وكذلك سورة (قريش) و (الفيل)، وإذا كان الجواب نعم، فهل يصح أن نقرأ واحدة منهما فقط في الصلاة؟
ـ هناك بعض الآراء ترى أنهما سورة واحدة، ونحن نتحفظ في ذلك. وعلى كل حال يجوز ـ على رأينا ـ الاكتفاء بقراءة بعض السورة، ولذا يجوز قراءة إحدى السورتين، والله العالم.
صيغة السجود للتلاوة:
* ما هي الصيغة التي نقولها عند السجود للتلاوة؟
ـ تكفي أية صيغة فيها ذكر للّه سبحانه وتعالى، وليس ذلك واجباً.
صلاة المسافر:
* نحن زوّار السيدة زينب(ع)، ونوينا الإقامة 13 يوماً، ونريد خلالها زيارة المصايف البعيدة عن إقامتنا، فهل علينا تقصير الصلاة أم الإتمام؟
ـ إذا لم تكن النية الإقامة في المصايف عشرة أيام، فتكون الصلاة قصراً في المصايف.
البكاء في الصلاة:
* هل تبطل الصلاة إذا اغرورقت العين بالدموع ولكن دون أن تخرج من العين ودون أن يصدر صوت البكاء؟
ـ إذا لم يكن البكاء من حالات حب الدنيا، بل لأجل الخشوع للّه فلا تبطل الصلاة.
ارتفاع الجبهة في السجود:
* إذا ارتفعت الجبهة عن التربة قهراً قبل الذكر وعادت إلى التربة قسراً، فهل يجب الذكر عندئذٍ؟ وهل تبطل الصلاة إذا تمّ الذكر في الحالة السابقة؟
ـ إذا رفعت الجبهة عن محل السجود قهراً، بحيث لم يستطع الإنسان التماسك، فتعتبر سجدةً واحدة في هذا المقام.
حكم الوسواس:
* ما هو حكم الشك والوسواس في الوضوء والغسل والصلاة؟
ـ لا يعتني بالشك والوسواس المتكرر، بل يبني دائماً على الصحّة.
شروط إمام الجمعة:
* ما حكم الصلاة خلف إمام ظهر فيما بعد أنه غير مستوفٍ لشروط الإمامة؟ وهل الصلاة صحيحة أم يجب إعادتها؟
ـ الصلاة صحيحة إذا كنت معتقداً ابتداءً باستيفاء شروط الإمامة.
تكرار الأدعية:
* ما فائدة التكرار في بعض الأدعية؟
ـ لتأكيد الدعاء وطلب المغفرة وشموليتها من اللّه سبحانه وتعالى.
حكم الإقامة:
* هل الإقامة في الصلاة واجبة؟
ـ ليست واجبة، بل الأحوط الإتيان بها.
قراءة بعض السورة:
* هل يجوز قراءة بعض من سورة بعد الفاتحة في الصلاة؟
ـ رأينا أنه يجوز، وإن كان من باب الاحتياط قراءة سورة كاملة.
الشك في أداء الفريضة:
* صليت الصبح قضاءً بعد الظهر، ولكن شككت هل أني صليت العصر بعد الانتهاء من صلاة الصبح، فما هو حكم صلاة العصر؟
ـ عليك أن تأتي بصلاة العصر ما دام الشكّ في الوقت.
حكم غيرة الزوجة:
* امرأة تغار على زوجها غيرةً شديدةً وغير عادية وتخاف عليه من الضغوط ومن الوقوع في الحرام، فما رأيكم؟
ـ لا يجوز الغلوّ والشك غير الطبيعي في هذا المقام. ولذلك ورد ((غيرة المرأة كفر وغيرة الرجل إيمان)).
زواج في العدة:
* إذا تزوّج رجل بامرأة في عدة الطلاق الخلعي واستمر الزواج وأنجب أطفالاً مع الجهل فما هو الحكم؟
ـ عليه الانفصال عن زوجته، ولكن الأولاد شرعيون لأنهم أولاد شبهة.
كثير السفر:
* ما حكم الصلاة لمن كان سفره يوماً في الأسبوع؟ وإذا كان يجوز له التمام في حالة اعتباره كثير السفر، فهل يجوز لمن يقلد مرجعاً يرى الصلاة قصراً في تلك الحالة أن يأتم بمثل هذا المقام؟
ـ إذا فرضنا أنه في كل أسبوع يسافر يوماً، فإنه يعتبر كثير السفر، فيصلي تماماً، والأحوط وجوباً ترك الائتمام به.
وقت صلاة الفجر:
* وقت صلاة الصبح عندنا يبدأ مع طلوع الفجر، وهكذا الصوم، فهل هذا الوقت نفسه عند إخواننا أهل السنة؟
ـ لا فرق في الوقت بيننا وبين إخواننا من أهل السنة، نعم هناك من يحتاط لعدم إحراز طلوع الفجر، ولا فرق من هذه الجهة بين المؤذن الشيعي والسني، وهكذا لا فرق بيننا لا في الفجر ولا في الظهر ولا في العصر. نعم في المغرب بلحاظ الرأي الفقهي الذي يعتبر الحمرة المشرقية لتحقق الغروب، لأن السنة يقولون بسقوط القرص، فربما هذا هو الفرق. ومع عدمه لا فرق، كما هو رأينا بعدم اعتبار الحمرة المشرقية، وكذلك الرأي العلمي للسيد الخوئي، وإن كان في الرسالة العملية يعتبر ذهاب الحمرة المشرقية لتحقق الغروب على سبيل الاحتياط.
سفر الزوجة:
* هل يعتبر سفر الزوجة معصيةً إذا سافرت بدون إذن زوجها لزيارة المراقد المقدَّسة، مثلاً مرقد السيدة زينب(ع)، وهل صلاتها تكون قصراً أم تماماً؟
ـ لا يمكن اعتباره سفر معصية في هذه الحالة إلاّ بعد دراسة تفاصيله، لأن هناك وجهاً للجواز في بعض الفروض.
اللحن في القنوت:
* هل تبطل الصلاة في حالة القنوت بغير الفصحى؟
* لا تبطل الصلاة.
رفع الأيدي في التكبير:
* هل رفع الأيدي في تكبيرة الإحرام وبعد الركوع وبعد السجود مستحب أم هو واجب؟
ـ نعم، ورد الاستحباب في ذلك.
حكم الإقامة:
* طالب حوزة يتنقل أسبوعياً بين دمشق ومدينته، فكيف تكون الصلاة أثناء سفره، قصراً أم تماماً إذا كانت خارج المسافة الشرعية؟
ـ إذا كان كثير السفر مثلاً، بحيث يسافر أربعة أو خمسة أيام في الشهر، بحيث يصدق عليه أنه دائم السفر فيصلي تماماً.
المسح في الوضوء:
* هل يكفي جفاف مقدَّم الرأس للمسح عند السيدات في حالة الوضوء عن الغسل المستحب؟
ـ طبعاً يكفي، ولكن لا يجوز المسح على الشعر الخارج عن حدّ الرأس، وقد أفتينا بأن الغسل المستحب الثابت استحبابه شرعاً مجزٍ عن الوضوء.
الصلاة قصراً أو تماماً:
* أرجو التوضيح بخصوص الحكم بالصلاة تماماً أو قصراً إذا خرجت المسافة الشرعية بين مدينتي ومدينة دمشق؟
ـ إن حكم القصر يرتبط بقطع المسافة، وهي 44 كم في اتجاه واحد، أو ملفّقة بين الذهاب والإياب، فمن قطع هذه المسافة فإن عليه أن يصلي قصراً، ولكن إذا كان المكلف كثير السفر، بحيث كان يسافر في الشهر أربع أو خمس مرات بشكل دائم، كما لوكان عمله سائق سيارة بحيث كانت طبيعة عمله السفر، فإنه يصلي تماماً. أما إذا كانت السفرة مرة أو مرتين في الشهر، فإنه يصلي قصراً، وبالنسبة للأخ السائل، فإنه في دمشق يصلي تماماً لأنها مكان دراسته وعمله، وكذلك في مدينته، فيصلي تماماً أيضاً، ولكن في الطريق بين المدينتين إذا كان خارج المسافة الشرعية 44 كم فيصلي قصراً، وإذا كان كثير السفر فيصلي تماماً بين المدينتين أيضاً.
المسح على الشعر:
* في الوضوء، هل يحق المسح على الشعر لو جف الشعر وبقيت البشرة مبلَّلة؟
ـ أولاً: لابد أن يكون المسح على الشعر الواقع في مقدم الرأس وليس الشعر الخارج عن الرأس، بحيث لو مدّه لخرج عنه. وثانياً: لابد من أن يكون جافاً، بمعنى أن لا ينتقل شيء من بلل الممسوح إلى العضو الماسح.
تجفيف الوجه في الوضوء:
* قبل البدء بغسل اليد، هل يبطل الوضوء لو جفف الوجه بعد غسله؟
ـ لا يبطل الوضوء مع تحقّق الموالاة.
قراءة بعض السورة:
* هل يجوز قراءة جزء من السورة الثانية وعدم قراءة سورة كاملة أثناء الصلاة الواجبة؟
ـ الأفضل والأحوط أن يقرأ سورة كاملة، وإن كان يجوز في رأينا قراءة بعض السورة.
وضوء المريض:
* يرجى توضيح حكم الوضوء لمريض (القولون)؟ وهل يوجب الاستنجاء عند خروج الريح القليل الطعن بصحة الوضوء؟
جفاف أعضاء الوضوء:
* في حالة جفاف الماء عن اليد قبل مسح القدمين، هل يؤخذ الماء من الوجه؟
ـ يمكن ذلك من اللحية إذا جفّ من دون الإخلال بالموالاة.
أحكام الإسلام على الميت:
* هل تجري أحكام الإسلام، كالصلاة على الميت المسلم الذي ينتسب إلى الحزب الشيوعي؟
ـ إذا كان انتماؤه ذا طابع سياسي ولم يلتفت إلى ما يستلزمه من التناقض مع العقيدة الإسلامية فإنه يجوز الصلاة عليه، بل يجب، أما إذا كان ملحداً بوجود اللّه سبحانه، فلا تجري عليه أحكام الإسلام.
تسبيحة الزهراء(ع):
* هل تسبيحة الزهراء(ع) واجبة في كلِّ صلاة؟
ـ ليست واجبة وإنما هي من المستحبات المذكورة.
جفاف بعض اليد في الوضوء:
* شرعت بالوضوء، وعندما وصلت إلى مسح القدمين نسيت خلع الجوارب من قبل، فهل يجوز خلعه بأحد الأصابع والمسح بالأصابع الأخرى على القدمين؟
ـ لا مانع من ذلك.
صلاة الليل للمُسِن:
* إني كبير في السن ومصاب بمرض السكري، لذلك أجد صعوبة في أداء صلاة الليل، وأنا من مقلديكم، فكيف أصليها؟
ـ يمكن أن تصليها قبل منتصف الليل، وتصليها من جلوس إذا لم تستطع الصلاة من قيام، وتقتصر على أقل ما فيها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا( ).
وقت صلاة الظهر:
* يقال إنه في لحظة وقت صلاة الظهر لا يجوز الإتيان فيه بأية صلاة أخرى، فما حكم من يقضي صلاة الصبح عند بدء وقت صلاة الظهر؟
ـ المعنى أن أوّل وقت الظهر مختصّ بالظهر، فلا يجوز أن يأتي بالعصر فيه، وإلاّ فإنّه يجوز له قضاء الصبح كما هو مفروض السؤال.
حمل السلاح في الصلاة:
* هل يجوز حمل السلاح في الصلاة أو في الأماكن المقدسة؟
ـ هو مكروه في حدّ ذاته إلاّ في حال الضرورة.
السفر يوم الجمعة:
* لو سافرنا يوم الجمعة للنـزهة، وكان المكان بعيداً بحيث لا تجب صلاة الجمعة علينا، فهل نرتكب بذلك إثماً؟
ـ فيه إشكال، وما قصدته من الثواب في الصلاة أكثر من السفر يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ( ) وقد ذمّ اللّه سبحانه وتعالى المنشغلين عن صلاة الجمعة بقوله وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ( ).
صلاة الجمعة:
* هل صلاة الجمعة واجبة؟
ـ نعم، هي واجبة في رأينا.
* وهل من الممكن الحضور في نهاية الخطبة الثانية أو بداية الركعتين بسبب انشغالي، فهل تعتبر مجزية؟
ـ نعم، تعتبر مجزية إن شاء اللّه.
* وهل يجوز لمقلِّديكم أن لا يحضروا صلاة الجمعة بسبب أن الخطبة باللغة الأجنبية؟
ـ إن حضور صلاة الجمعة واجب على مقلِّدينا.
توزيع الخطبة والصلاة بين إمامين:
* في صلاة الجمعة إذا كان الإمام غير الخطيب، فما حكم هذه الصلاة؟
ـ ظاهر الفتوى أنّ الإمام هو الخطيب.
وجوب صلاة الجمعة على النساء:
* هل إن صلاة الجمعة واجبة الحضور عينياً على النساء؟
ـ لا تجب على النساء صلاة الجمعة، وإن كان يصح منهن الصلاة، وتغني عن الظهر لو أنهن حضرن صلاة الجمعة.
عدالة إمام الجماعة:
* في أثناء الجمعة يتكلم الشيخ الذي يؤدي صلاة الجمعة على الناس بشكل كثير، فهل يجوز الصلاة خلفه؟
ـ إذا لم يكن عادلاً لا تجوز الصلاة خلفه.
تعلّم أحكام الشكوك:
* هل يجب تعلّم أحكام الشكوك أم يكتفي المكلف بإعادة الصلاة؟
ـ يجب تعلّم أحكام الشكوك في الصلاة.
صلاة الكسوف:
* هل يجب قضاء صلاة الآيات لمن لم يصلّها أثناء الكسوف؟
ـ إذا علم المكلَّف بحصول الكسوف في وقته، فيجب عليه صلاة الآيات، أما إذا علم بعد انقضاء زمن الكسوف فلا يجب القضاء، لأن الكسوف المشار إليه كان جزئياً، وأما إذا كان كليّاً فيجب القضاء.
قراءة المأموم في صلاة الجماعة:
* هل يجوز قراءة (الفاتحة) والسورة في الركعة الأولى والثانية خلف الإمام أم الأفضل عدم القراءة مع الإمام؟
ـ لا يجوز القراءة في ذلك مع الإمام، ولكن يذكر اللّه في ذلك.
كيفية غسل الوجه:
* هل يجب في الوضوء غسل الوجه بيد واحدة فقط، أم يجوز استعمال اليدين في ذلك، وهل يصحُّ المسح مع تحرّك القدمين؟
ـ يجوز استعمال اليدين، ولا إشكال في تحرّك القدمين..
نسيان القنوت:
* ما حكم نسيان دعاء القنوت في الصلاة؟
ـ القنوت مستحبّ، فإذا فات نسياناً أمكنه أن يأتي به بعد الركوع، وإلا فيقضيه بعد الصلاة، وعلى كل حال، فترك القنوت لا يؤثر على صحّة الصلاة.
ترك صلاة الجمعة:
* ما حكم ترك المكلَّف لصلاة الجمعة، وهو من مقلِّديكم؟
ـ يأثم إذا لم يكن له عذر، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، ولكن بعض الناس يريد أن يكسب عاجل الدنيا في وقت الصلاة، فيشير القرآن الكريم لذلك وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ( )، ولذلك نرى أنه يجب على الإنسان حضور صلاة الجمعة حينما لا يكون له عذر في الترك.
الصلاة في الطائرة:
* ما هي كيفية الصلاة في الطائرة عند حضور وقتها؟
ـ يمكن الاستفسار من المضيفين في الطائرة عن اتجاه القبلة والتوجه إليها.
السفر قبل الصلاة:
* أسكن في دمشق وحان وقت صلاة الظهر ولم أصلِّ، فذهبت إلى الزبداني وصلّيت قصراً، فهل صلاتي صحيحة؟
ـ نعم صحيحة.
الماء المختلط بالوضوء:
* في الوضوء، هل يجب غلق الصنبور قبل غسل اليد اليسرى حتى لا يختلط ماء الغسل؟
ـ يمكن غلقه بإصبعين والمسح بالأصابع الثلاثة، والمهم أن لا يكون ما يمسح به القدمين قد اختلط بماء جديد.
تجفيف أعضاء الوضوء:
* الوجه إذا كان مبتلاً ولمباشرة الوضوء، فهل يجب تجفيفه؟
ـ بالنسبة للوجه واليدين فإنه يجوز الوضوء ولو كانا مبتلين، أما بالنسبة للرأس والقدمين فيجب تجفيفهما قبل المسح.
تأخير الصلاة:
* عامل في محل مزدحم ويؤخر صلاته بسبب العمل، فما هو الحكم؟
ـ على المسلم أن لا يؤخر الصلاة عن وقتها تحت أي عذر، ويستطيع أن يجد معاوناً له وقت الصلاة مثلاً إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا( ).
الحاجب في الوضوء:
* إذا كانت إزالة الحاجب من مواقع أعضاء الوضوء صعبة، كما لو كان صبغاً أو صمغاً أو غيره، فهل يكفي الوضوء فقط، أم ينبغي التيمّم؟
ـ في رأينا أنه يكفي الوضوء ويتيمم من باب الاحتياط.
صلاة العامل:
* أنا أعمل في مؤسسة رسمية، خرجت لتنفيذ مشروع في مكان بعيد لمدة 12 يوماً، ولكنني غير متأكد من مدة الإقامة، فقد تكون أكثر من عشرة أيام، وربما تكون أقل، فهل أصلي تماماً أم قصراً؟
ـ تصلي قصراً، لأن الصلاة تماماً تكون حيثما تكون كثير السفر، أو حيث تنوي الإقامة في سفرك لمدة عشرة أيام.
الصلاة مع عدم وجود التربة:
* هل تبطل الصلاة بدون وجود التربة؟
ـ التربة ليست من ضروريات الصلاة، بل المهم هو السجود على ما يصح السجود عليه، وهو الأرض وما أنبتت مما لا يؤكل ولا يُلبس، وقد قال رسول اللّه(ص): ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)).
قراءة السورة الكاملة:
* ما هي الحكمة من قراءة سورة كاملة في صلاة الفرض وجزء من السورة في النوافل؟
ـ على رأينا لا يشترط قراءة السورة كاملة في الفريضة، بل يمكن الاكتفاء بقراءة بعض الآيات. وربما تكون الحكمة -بناءً على اشتراط قراءة سورة كاملة- هي أهمية الفريضة.
فوات صلاة الفجر بالنوم:
* إنني أعمل في التجارة وينتهي عملي عند منتصف الليل، وفي بعض الأحيان عندما أعود متعباً أنام حتى طلوع الشمس ولا أستيقظ لصلاة الفجر فهل أكون آثماً؟
ـ ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر، فبالنسبة إلى صلاة الفجر التي يسأل عنها السائل لا يأثم لو تركها لجهة غلبة نومه عليه، وأما صلواته الأخرى التي تقع في وقت عمله فلا يجوز له تركها بحجة العمل، إذ لا يجوز له أن يستغرق في عمله على نحو يفرط بها ويتركها.
فوات الخشوع في الصلاة:
* يطرأ على المصلي بعض الأفكار بما يذهب الخشوع، هل يبطل ذلك الصلاة؟
ـ لا يبطل ذلك الصلاة، ولكنه يقلِّل من روحانيتها، لأن الله يقبل من الصلاة ما أقبل عليه الإنسان بقلبه، وليحاول المصلي استحضار كل المعاني التي تولّد الخشوع.
أداء الجمعة عبر الراديو:
* هل يجوز إقامة صلاة الجمعة عبر الراديو لبعد المسافة أو عدم وجود إمام جماعة؟
ـ لا يجوز ذلك، نعم يستمع لها ويستفيد منها، لأن صلاة الجمعة هي في قيمتها الاجتماعية، وهي مؤتمر أسبوعي للمسلمين يلتقون فيه ويتعارفون ويبحثون في قضاياهم العامة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَت الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( )، ومن شرائط صلاة الجمعة الحضور بما يصدق عليه الاجتماع ولا يصدق على مجرد المتابعة عبر الراديو مثلاً..
الصلاة في مساجد أهل السنة:
* كثيراً ما يصدف وجودي في أحد الأماكن العامة، ويحين موعد الصلاة، فأدخل إلى أي مسجد قريب، ولكنني أعاني الحرج في استخدام التربة، بحيث لا أستطيع التركيز في الصلاة لشعوري بمراقبة المصلين من أبناء العامة؟
ـ التربة ليست شرطاً لإقامة الصلاة. ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) ويجوز السجود على ورقة مثلاً.
حكم الجبيرة:
* ما هو حكم الجبيرة لليد ما بين الكوع إلى ما قبل الأصابع، والتي لا يمكن انتزاعها، فهل يكون لها الوضوء أم التيمم أم كلاهما.
ـ في رأينا الوضوء، ويمسح على الجبيرة.
السجود على ما لا يصحُّ السجود عليه:
* هل يجوز السجود على الموكيت عند الصلاة بمسجد العامة في صلاة الجمعة؟
ـ لا يجوز ذلك، ولكن يجوز السجود على الورق في مثل هذا المقام.
الهاتف النقّال أثناء الصلاة:
* ما حكم الشخص الذي يترك الموبايل (الهاتف النقال) أثناء الصلاة مفتوحاً، وهل يجوز له الانحناء لإطفائه إذا رنّ أثناء الصلاة؟
ـ المفروض بالمصلِّي أن يعيش الخشوع في الصلاة ويبتعد عما يشغله عن ذكر اللّه، فعليه أن يغلق الهاتف في المسجد أثناء الصلاة، هذا فضلاً عن أنّ الانحناء الكامل بما يحقق الركوع لإغلاقه مبطل للصلاة لزيادة ركن في الصلاة.
التكبيرة للصلاة جهراً أو إخفاتاً:
* هل تكون تكبيرة الإحرام في صلاة الجماعة جهراً أم إخفاتاً بالنسبة للمأموم؟
ـ الأفضل في صلاة الجماعة أن تكون تكبيرة الإحرام إخفاتاً بالنسبة للمأموم.
التحدث أثناء خطبة الجمعة:
* هل إن التحدث أثناء خطبة الجمعة مبطل للصلاة؟
ـ لا يجوز التحدث أثناء خطبة الجمعة ويجب الاستماع إليها، ولكن ذلك لا يبطل الصلاة.
صلاة الأخرس قضاءً:
* هل يتمكَّن الأخرس من أن يقضي الصلاة عن والده غير الأخرس؟
ـ لا يجوز.
الوضوء من بركة راكدة:
* هل يجوز الوضوء من بركة غير جارية دخل فيها كلب أو خنـزير؟
ـ إذا كانت بمقدار (الكرّ) أو تزيد فلا مانع من ذلك لأنها لا تنجس بذلك.
وقت قضاء الصلاة:
* هل يجوز الإتيان بصلاة القضاء قبل موعد الأذان؟
ـ لا وقت لصلاة القضاء، فيمكن الإتيان بها في أيِّ وقت.
اضطراب صفوف الجماعة:
* ما هو تعليقكم بالنسبة لصفوف المصلين التي غالباً ما تكون غير مرتبة وإن أئمة الجماعة لا ينبّهون لذلك؟
ـ علينا أن نتعلم النظام، ولكن - مع الأسف - إننا لا زلنا في حالة فوضى، خصوصاً إذا اصطف المصلون دفعةً واحدة لصلاة الجماعة، حيث تسمع أحياناً الأخير يُكبّر قبل أن يُكبر الأول، فتسمع التكبير من أول الصلاة، فهذا يكبر وذاك يكبر وكل يرفع صوته دونما انتظام، فعلينا أن نتعلم النظام، ومع الأسف حتى الآن نعيش الفوضى حتى في الصلاة.
قراءة الأحاديث في القنوت:
* هل يجوز قراءة الأحاديث المنقولة عن النبي(ص) والأئمة(ع) في قنوت الصلاة؟
ـ قنوت الصلاة بمعنى الدعاء، فإذا كانت هذه الأحاديث تشتمل على الدعاء فيجوز.
نية إمام الجماعة:
* عندما أصلي في البيت يقف خلفي أخي أو زوجتي، فما هي النيّة في الصلاة؟
ـ لا يجب على الإمام أن ينوي الإمامة، ولكنها مستحبّة، ولكن على المأموم أن ينوي الصلاة مأموماً.
قضاء صلاة الفجر:
* إذا فاتت صلاة الفجر بسبب النوم أو غيره، فهل يجب جمعها مع صلاة الظهر خلف الإمام جماعةً؟
ـ الأفضل أن يقضي صلاة الفجر قبل مجيء وقت الظهر وحدها.
الالتزام بصلاة الجمعة:
* لوحظ عدم التزام بعض علماء الشيعة المعممين بصلاة الجمعة، وأنهم يتجوَّلون بالأسواق وقت الصلاة، ما يعطي انطباعاً سيئاً عند العامّة؟
ـ أغلب الفتاوى للمراجع تقول إن الإنسان مخيّر بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر في حالة غيبة الإمام الحجة(عج)، ولكننا نتصور أن على الأمة الإسلامية جمعاء إقامة صلاة الجمعة، لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( )، والسيد الخوئي رحمه الله كان يرى التخيير في إقامتها، ولكنه يوجب حضور صلاة الجمعة على الأحوط وجوباً فيما لو أقيمت. ورأينا وجوب الحضور تعيينياً.
صلاة المرأة مع المكياج:
* هل يجوز للمرأة الصلاة بعد وضع المكياج على وجهها وبعد الوضوء؟
ـ يجوز ذلك، ولكن مع الأمن من الناظر الأجنبي.
صلاة الجمعة في العراق:
* ما رأيكم بإقامة صلاة الجمعة في العراق، ولو تعممت في جميع المحافظات في العراق، فهل علينا أداؤها، علماً بأننا من مقلدي السيد الخوئي رحمه الله؟
ـ إذا كانت صلاة الجمعة واجدة لشروطها، كما إذا كان الإمام عادلاً ومستوفياً للشروط الشرعية، فيجب على الأحوط وجوباً حضور إقامتها، وإذا أقيمت وجب الحضور.
مانعية (كريم الشعر) في الوضوء:
* هل يبطل وضع كريم الشعر الوضوء؟
ـ إذا كان خفيفاً ولا يمنع الماء من الوصول إلى ظاهر الشعر فالوضوء معه صحيح.
إدارة الخاتم في القنوت:
* هل هناك حديث يؤكد تقليب الخاتم في اليد عند القنوت؟
ـ في بعض الأحاديث كذلك، ولكنها لا تعرف حكمتها.
الغسل لداعي الصلاة:
* هل يجوز الصلاة بعد الاستحمام وبعد نية الغسل لأجل الصلاة؟
ـ يجوز ذلك في غسل الجنابة أو الحيض والاستحاضة الكثيرة والنفاس، وفي كل غسل ثبت استحبابه كالجمعة والعيدين.
لبس المطليّ بالذهب:
* ما هو حكم لبس المطلي بالذهب كالساعة أثناء الصلاة وغيرها؟
ـ إذا كان مجرد طلاء فلا حرمة في ذلك.
رابعاً: الصيام والكفارات:
التيمُّم بدلاً عن الغسل:
* استيقظت في شهر رمضان قبل أذان الفجر بعشر دقائق، وكان علي أن أغتسل غسل الجنابة، ولكني لم أغتسل، بل تيمَّمت بدل الغسل عجزاً وظناً مني أن الوقت لا يسمح للغسل، وعندما استيقظت في الصباح، اغتسلت فماذا أفعل؟ هل عليّ كفارة؟ وما مقدارها؟
ـ صومك صحيح، فإذا لم يكن الوقت متّسعاً للغسل، فعليك التيمم، وإذا فعلت كما هو تكليفك، فيكفيك هذا اليوم.
وقت الإفطار:
* أغلب الأحيان أُدعى إلى تناول طعام الإفطار في بعض منازل أخوتنا أهل السُنّة، فهل هناك وقت يجب أن أراعيه؟
ـ في رأينا ورأي الكثير من العلماء، أن لا فرق بيننا وبين السُنّة في الغروب، لأنّ الغروب هو سقوط القرص، وأما قضية ذهاب الحمرة المشرقية، فإنّ بعض العلماء يحتاط بها، وبعضهم لا يحتاط بها، لذلك رأينا في هذا المجال أن لا مانع من أنْ يدعى الإنسان إلى الإفطار عند أهل السُنّة ويفطر في الوقت الذين يفطرون فيه، وصومه صحيح وإفطاره صحيح.
تشخيص الخيط الأبيض من الفجر:
* هناك مقولة لأحد الفلكيين مفادها أن حالة حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر لا تتحقق إلاّ بعد 20 – 30 دقيقة من أذان الفجر، فهل هذا القول يدعونا إلى عدم التقيد بوقت الإمساك المحدد بالساعة والدقيقة؟ خصوصاً في حالة الاضطرار وضيق الوقت؟
ـ أولاً: ليس عندنا وقت إمساك ووقت فجر من الناحية الشرعية، إنما الإمساك أصبح مصطلحاً لأنه لا يتيقن الإنسان بأنه بدأ صيامه من أول الفجر إلاّ بذلك، ولذلك فإنّ الإنسان يحتاط لصيامه بأن يمسك قبل ذلك، ومسألة تحديد الفجر فيها اختلاف بين الفلكيين، والاحتياط جيّد في هذه الأمور.
الإفطار عند سقوط القرص:
* إذا أفطر الصائم في شهر رمضان عند مغيب قرص الشمس، فهل يعتبر إفطاره معصية وتقع عليه كفارة؟
ـ في رأينا أنّ الإفطار يتحقق بغياب قرص الشمس، ويعتبر إفطاره صحيحاً وصومه صحيحاً.
قضاء الصوم الفائت:
* هل يجب قضاء ما فات من الصوم منذ البلوغ ولعدة سنوات؟
ـ نعم، يجب على المكلَّف كما هو مفروض السؤال، القضاء بالتدريج، مع دفع الكفّارة، وهي إطعام ستين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين، وبالتدريج أيضاً عن السنوات السابقة إذا لم يمكن دفعها دفعة واحدة.
الإفطار بأخبار الإذاعة:
* ما حكم من أفطر من غير تعمّد على خبر الإذاعات باعتبار أنه يوم عيد وختام شهر رمضان، بينما اتَّضح شرعياً أنه ليس يوم عيد؟
ـ عليه أن يقضي ذلك اليوم ولا كفّارة عليه.
كفارة الإفطار:
* منذ فترة طويلة أفطرت ثلاثة أيام خلال الصوم الواجب في شهر رمضان ولإبراء الذمة، ما هو المبلغ الذي أدفعه؟ وهل أدفعه هنا أم للفقراء في العراق؟
ـ إذا كان الإفطار متعمداً فيدفع عن كل يوم إطعام 60 مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين لكل فقير ثلاثة أرباع الكيلو من الحنطة وأشباه ذلك، وتدفع لفقراء المؤمنين، هذا فضلاً عن قضاء هذه الأيام ودفع فدية تأخير القضاء في ما لو أخّره إلى شهر رمضان التالي، على تفصيل مذكور في رسالتنا العملية.
خامساً: الخمس والزكاة:
خمس القرض للسكن:
* ما هو الحكم في بيت يسكنه شخص غير مستقرّ مالياً، ويملك بيتاً بقرض من الشركة التي يعمل فيها، وقد سدَّد جزءاً من القرض، فهل عليه الخمس؟
ـ لا يجب الخمس في حالة القرض لشراء البيت، أما بالنسبة لبقية الأموال التي قد يتعلق بها الخمس، فلا بدّ من دراسة تفاصيلها لمعرفة حكم الخمس فيها.
الخمس في أموال المضاربة:
* هل هناك حق شرعي على أموال المضاربة التي يودعها الشخص عند الآخرين لأجل الحصول على مبلغ شهري لمصروف عياله، مع أنه لا يملك دار سكن؟
ـ إذا مر الحول على تلك الأموال، فيجب عليها الخُمس، وكما أن اللّه رزقك إياها فسيرزقك أيضاً مثلها أو أكثر منها عند مساعدتك للفقراء والمحتاجين.
إعطاء الخمس للقريب:
* هل يمكن إعطاء الخُمس للمستحقّ من الأقرباء الذي عليه دين وبدون إعطائه لوكيل الحاكم الشرعي الذي قد لا يوصل ذلك المال المخمس للقريب المستحق؟
ـالأقربون أَولى بالمعروفِ فيجوز إعطاء الخمس للمستحقين منهم، مع مراعاة الإذن من الحاكم الشرعي أو وكيله.
إخراج الخمس لأولَّ مرة:
* من يريد أن يخمّس لأول مرة، فهل يخمّس كل ما يملك من مال حتى لو لم يكن المال قد حصل عليه بطريقة العمل ؟
ـ ما يصرفه في المؤونة أو ما اشتراه أثناء السنة فلا يجب تخميسه، ولا يخمّس ما ورثه. أما الشيء الذي مرت عليه السنة فيجب عليه الخمس.
الخمس في الهدية:
* هل يتمُّ دفع الخمس عن الهدية أو الهبة؟
ـ نعم، يجب تخميسها إذا مضى عليها الحول.
الخمس عن سنوات مضت:
* قبل أربع سنوات دفعت الخُمس وعملت تسوية لكل شيء ومن ضمنها البيت وكل ما أملك، ولكني تركت الخُمس في السنوات التالية، فما هو الحكم؟
ـ بعد تلك المصالحة عليك أن تحسب حساب ما استجدَّ لمعرفة ما إذا كان يتعلق الخمس به أم لا.
المسؤول عن إخراج الخمس:
* يعمل الأولاد مع الأب في عملٍ واحد، والأب هو الذي يشرف عليهم. من المسؤول عن إخراج الخمس، وهل يحقُّ للولد أن يكون له ماله الخاص؟
ـ نعم، يحق للولد أن يكون له ماله الخاص، يعني يقول لأبيه إني أعمل عندك بالأجرة، وهو مسؤول عندئذٍ عن معاشه، أما إذا فرضنا أن الأب هو الذي يملك المال وكان الأبناء متبرعين بعملهم ويعاونون أباهم، فالخمس على الأب.
زكاة المدين:
* هل تجب الزكاة على رجلٍ عليه ديون كثيرة، وإذا حصل أن هذا الشخص عنده غلاّت تجب الزكاة فيها وفي الوقت نفسه عليه ديون، فما هو حكم الزكاة في ذلك؟
ـ لابد له أن يدفع الزكاة عندما يحول عليها الحول، ويمكن تدبير أمره من جوانب أخرى.
خُمس مستحق مؤجَّل:
* اشتريت منـزلاً وبقي لصاحب المنـزل مبلغ مؤجل لمدة عام، فهل هذا المبلغ المتبقّي في حوزتي لمدة عام كامل يُخمّس أم لا؟
ـ إذا فرضنا أنه كان عندك دَيْن مستحق عليك في أول السنة فلا يجب التخميس إذا كان المنـزل من مؤونتك.
تخميس الحُلي:
* اشترى لي والدي حُليّاً لحاجة الزواج، وقد مرّ عليها أكثر من سنة، هل عليّ أن أخمِّسها؟
ـ لا يتعين إخراج خمس ذلك، وإن كان الأفضل والأولى ذلك بالنسبة إليك. نعم إذا أهداك إياه مطلقاً، أي بدون أن تكون جزءاً من جهاز العروس الذي لا يستعمل إلاّ بعد الزفاف، ولم يتم استعمال ذلك ومرّ الحَوْل وجب عليك إخراج الخُمس عندئذٍ.
تخميس القرض:
* هل يجب أن أخمّس قرضاً من الدولة لتسهيل الدراسة؟
ـ لا خمس في القرض بل في الأرباح والمكاسب.
خمس أموال سابقة:
* ما هو حكم الخُمس على من تشيَّع حديثاً وعمره أكثر من ثلاثين سنة ولديه أملاك كثيرة، كالمنـزل والسيارة وغيرهما، وما حكم السنوات السابقة؟
ـ عليه أن يحسب حسابه عند الحاكم الشرعي، وقد يجب عليه أو لا يجب عليه، وفي ذلك تفاصيل.
خمس الزوجة:
* الزوج إذا دفع إلى زوجته مصرفاً شهرياً أو أسبوعياً وادّخرت من ذلك المبلغ شيئاً، هل يجب عليها تعيين رأس سنة مالية لغرض الخمس، وإذا لم يجب فهل تحتاط؟
ـ أولاً إذا أدّخرت من هذا المبلغ فإنه لابد أن تدخره بإذن زوجها، وثانياً إذا ادخرته بإذن زوجها ومضى الحولُ على ما ادخرته فلا بد لها من دفع الخمس.
الخمس في عدّة العمل:
* هل الخمس واجب في أدوات عمل الإنسان؟
ـ بالنسبة لرأس المال فإنه يجب فيه الخمس بشرط أن يكون زائداً عن مؤونة السنة.
الخُمس في المصاريف الحرام:
* هل يجب دفع الخمس في مصاريف سفرة محرّمة، بحيث تعد المصاريف من الإسراف؟
ـ نعم، فالخمس لا يدفع من حاجات الإنسان في المؤونة السنوية له، لأن المؤونة السنوية مستثناة من الخمس، أما ما يصرفه الإنسان إسرافاً أو حراماً، فإنه يجب عليه الخمس، لأنه ليس من المؤونة.
الخمس في المقتنيات:
* هل يجب الخمس في هواية جمع الطوابع والعملات العربية والأجنبية والتي قد تكون كمياتها كبيرة لعدة سنوات؟
ـ نعم، يجب الخمس فيها.
سادساً: الحج والعمرة:
ترك طواف النساء:
* إذا لم يأت الرجل بطواف النساء جاهلاً بالحكم وقارب زوجته، فأولدها، فما هو حكم ذلك الولد؟ هل هو ابن شبهة أم ابن زنى أم ماذا؟
ـ هو ابن شرعي 100%، لأنّ عدم طواف النساء لا يجعل المرأة أجنبية. نعم، يجعل حرمة مواقعتها كحرمة مواقعة الحائض، كما هو حكم طواف الحج الذي لا يحلُّ له الطيب أو اللباس أو التظليل، فإن لطواف النساء أثراً، وهو عبارة عن حرمة المعاشرة، ولا تعني عدم شرعية ما ينتج عنها.
الاستطاعة في الحج:
* امرأة أكملت شروط الذهاب إلى الحج، وقد احتاجت حفيدتها إلى المال لإجراء عملية جراحية، فهل تعطيها المال، علماً بأنّ ذلك يجعلها غير قادرة على الذهاب للحج؟
ـ إذا كانت شؤون حفيدتها من شؤونها ويخاف عليها من الهلاك، فيجوز لها صرف المال لعلاج حفيدتها، وتصبح بذلك غير مستطيعة للحج، والله يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً( ).
عمرة تارك الصلاة:
* هل تُقبَل العمرة من شخصٍ تارك للصلاة؟
ـ إذا كانت عمرته واجدةً للشرائط، فتصحُّ منه، ولكن ورد ((الصلاة عمود الدين إنْ قُبلَت قُبِلَ ما سواها وإنْ رُدَّتْ رُدَّ ما سواها))، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ( )، فهناك فرق بين الصحّة والقبول.
دفع الخُمس قبل الذهاب إلى العمرة:
* هل يجب دفع الخُمس قبل الذهاب إلى العمرة؟
ـ يجب دفع الخُمس سواء اعتمر أو لم يعتمر.
حدود الطواف:
* هل يوجد إشكال في صحة الطواف عند المرور على الخط الذي يبدأ منه الطواف بدون ملامسة الأرجل، مع المعرفة بأن ذلك الخط هو بداية الطواف ونهايته؟
ـ لا إشكال في الطواف.
الخدش أثناء الإحرام:
* هل تجب الكفارة في حال التعرض للخدش أثناء الإحرام ولو ثلاث مرات؟
ـ إذا لم تكن مختاراً في حصول الخدش مع الإدماء، فلا تجب الكفارة.
سابعاً: الزواج والطلاق:
الزواج بعمة الزوجة:
* هل يجوز الزواج من عمَّة الزوجة؟ وهل يشترط موافقة الزوجة أم لا؟
ـ لا يشترط موافقة الزوجة. نعم، إذا كانت عنده العمة وأراد الزواج بابنة أخيها فلابد أن يستأذن العمة.
تبني الأطفال:
* ماذا تقولون في تبني طفل من إحدى دور الأيتام؟ وماذا يترتب على ذلك من أحكام شرعية؟
ـ إذا كان التبني بمعنى الإنفاق وتبني الرعاية، فهو أمر جيد وخيّر. أما إذا كان التبني بمعنى الإلحاق بالنسب، فإنه لا يجوز، وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ( ).
متقدم للزواج لا يصلي:
* تقدّم شاب لخطبة أخت لي، وهو مثقف ومتعلم، ويقول إنه يؤمن بوجود اللّه وهو مسلم، إلاّ أنه لا يصلي ولا يصوم، فبم تنصحونني باعتباري أخاها؟
ـ لا ننصحك بتزويج أختك منه، لأنّ المرأة تأخذ من دين زوجها.
عدم تحديد المدة في العقد المؤقت:
* إذا خلا العقد المنقطع من تحديد المدّة، فهل يبطل العقد أو ينقلب إلى دائم؟
ـ هناك اختلاف في هذه المسألة، فإن بعض العلماء يقولون بأن العقد يبطل، وبعض يقول، وهذا ما نستقربه، بأنه ينقلب إلى دائم، لأنّ العقد المنقطع هو العقد الذي يذكر فيه المدة، أما إذا لم يذكر المدّة، فإنه دائم، وهذا بحث فقهي.
التوكيل في الزواج:
* امرأة وكَّلت رجلاً غير محرم ليعقد لها على رجل، فعقد لنفسه عليها، ما هو الحكم إذا رفضت؟ وما هو الحكم إذا رضيت؟
ـ لا قيمة لهذا العقد، لأنها لم توكله بالعقد لنفسه، ويسمى عقداً فضولياً، فإذا أجازته جاز وإلاّ كان لاغياً.
حكم إسقاط الجنين:
* كانت زوجتي قد تعرَّضت لبعض الفحوصات الطبية، وبعد ذلك علمت بأنها حامل وإن استمرت في الحمل فسيولد الطفل مشوهاً، فهل يجوز إسقاط هذا الجنين، علماً بأنه لم يكتمل الشهر الواحد.
ـ لا يجوز الإجهاض في هذه الحال، إذ لا يجوز الإسقاط ولو من اليوم الأول من انعقاد النطفة، إلاّ إذا كان هناك ضرر بالغ فوق العادة بالنسبة إلى الأم في بعض مراحل الحمل، أو إذا كان هناك خطر على الحياة.
اشتراط عدم الدخول في الزواج:
* في كتابكم (فقه الشريعة): الجزء 3، المسألة 64، تقولون إنه يجوز في عقد الزواج أن تشترط المرأة على الرجل أن لا يدخل بها، فكيف ذلك؟ أوليس هدف الزواج هو الحفاظ على الامتداد الطبيعي للبشر؟
ـ صحيح أن الزواج هو للحفاظ على الامتداد الطبيعي للبشر، ولكن قد تكون هناك ظروف معيّنة لدى المرأة تمنعها من المقاربة وبرضا الزوج، وذلك كما في العقد المنقطع، فالمسألة هي خيار الرجل في حقه الاستمتاع بزوجته، ولها الحق بذلك أيضاً، ولكن إذا تنازل أحد عن حقه، فيجوز ذلك، لأن الناس مسلَّطون على أنفسهم.
حدود طاعة الزوج:
* إذا لم تستجب الزوجة لرغبات زوجها، فهل تعتبر مقصرة وآثمة؟ وما هي حدود طاعة الزوجة لزوجها؟
ـ لا يجوز لها التنكّر لحاجات زوجها الجنسيّة في الاستمتاع من دون عذر شرعي، وبعض العلماء يقولون بعدم جواز خروج المرأة من بيتها إلاّ بإذن زوجها، بينما يرى السيد الخوئي رحمه الله، وهو رأينا، أنه يجوز الخروج لها إذا كانت لا تحرمه من الناحية الجنسية أو الاستمتاع.
عدَّة المرأة اليائس:
* هل توجد عدّة طلاق على المرأة التي بلغت سن اليأس؟
ـ كلا، لا عدّة عليها.
كفّارة الإجهاض:
* أجهضت زوجتي عن قصد مرتين، فما هي كفّارة ذلك؟
ـ إعطاء الدية كفّارة لذلك، وهي تختلف باختلاف الوقت الذي تمّ الإجهاض فيه.
حرية المرأة في الإنجاب:
* تقولون عن المرأة إنها حرة في الإنجاب وليس للرجل حرية في فرض ذلك عليها، فلو أرادت المرأة الإنجاب وكان الرجل لا يرغب، فهل تتكفل المرأة بمعيشة الطفل لأنها هي التي اختارت الإنجاب؟
ـ ضمن عقد الزواج يجب أن يكون هناك إنجاب، ولكن إذا أراد الرجل مثلاً عشرة أولاد والمرأة تريد ثلاثة فقط، فالاختيار يكون للمرأة في ذلك، لأن المرأة هي التي تتحمل التعب وأعباء الحمل، ولذا عندما جاء أحدهم للنبي(ص) وقال له من أبرّ؟ فقال له النبي(ص): ((أمك أمكأمك ثم أباك)). أما إذا اختارت الإنجاب تبعاً لحاجتها النفسية لذلك أو لاعتبارات أخرى، فهي حرّة في التصرف في جسدها في هذا الجانب وغيره، وللرجل استعمال وسائل الحمل الاختيارية لمنع ذلك من دون إساءة للمرأة، ولا علاقة للموضوع بالإنفاق على الطفل من قبل الأب أو الأم كما هو منطق السؤال.
الزواج من أسرة غير متدينة:
* هل يصحُّ الزواج من فتاة ملتزمة ومتعلمة ولكن أهلها ليسوا ملتزمين؟
ـ إذا كان هناك ثقة بأن الفتاة لم تتأثر بالبيئة التي عاشت فيها سابقاً، فلا بأس من الزواج منها.
الإشهاد على الزواج:
* بالنسبة لعقد الزواج، هل يحتاج إلى شهود؟
ـ بالنسبة لمذهب أهل السُنّة لا بد من الشهود، ولكن عند الشيعة لا يجب ذلك، بل هو مستحبّ.
تغيير نسبة الولد:
* هل يحق للزوجة تسجيل طفلها باسم رجل غير الأب في حالة رفض الأب الحقيقي تسجيله؟
ـ قال الله تعالى: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ( )، ولذلك لا يجوز تسجيل الطفل منسوباً لغير أبيه، وعلى تلك الزوجة أن ترفع الأمر إلى الحاكم الشرعي.
الخلع في المحاكم الشرعية:
* هل يجوز إجراء الخلع عن طريق المحكمة الشرعية التي تسير وفق مذهب غير مذهب أهل البيت(ع)؟
ـ المهم استجماع شروط الطلاق بحسب ما يلتزمه الإنسان في مذهبه واعتقاده في هذا المجال.
الإحجام عن الزواج:
* هل يعتبر مأثوماً من لم يرد الزواج لخوفه من أعباء عائلته القادمة ومصاريفها؟
ـ إن الزواج في الأصل من الأمور التي ندب الشارع إليها، فهي مستحبة بالنسبة إلى الإنسان العادي، وقد يجب الزواج بالنسبة إلى من لا يقدر أن يمنع نفسه عن الوقوع في الحرام ... فإذا أمن الإنسان على نفسه من الوقوع في الحرام، فلا يجب عليه الزواج من الناحية الإلزامية. نعم، يستحب ذلك لما ورد أن النكاح من سُنّة النبي(ص)، وليس من النبي من رغب عن سُنّته.. ولكن الإعراض كلياً عن الزواج قد يكون مبغوضاً من قبل الشريعة، خاصة وأنّه لا رهبانية في الإسلام، وتشتدُّ المبغوضية إذا كان ترك الزواج خوفاً من الإملاق، وهو عدم القدرة على الإنفاق على العائلة وتحمّل مسؤوليات ذلك، إذا كان الإنسان يملك عملاً أو مالاً يمكّنه من ذلك، وقد حثَّ الإسلام على الزواج، فلا ينبغي تركه والإعراض عنه كلياً. نعم، إذا أراد الإنسان عدم الإسراع في ذلك لترتيب أموره الحياتية والمعاشية من دون أن تكون نيته الإعراض كلياً، فلا مشكلة في ذلك، واللّه العالم.
عقد الزواج أثناء الدورة الشهرية:
* هل صحيح أنه لا يجوز عقد الزواج للمرأة إلا في حالة كونها طاهرة من الحيض؟
ـ يمكن أن يتم العقد على المرأة وهي في دورتها الشهرية، ولكن لا يجوز الدخول بها إلاّ أن تطهر من الحيض.
شروط الطلاق:
* هل يجوز طلاق المرأة وهي في الدورة الشهرية؟
ـ يشترط في الطلاق أن تكون المرأة في طُهر لم يواقعها زوجها فيه.
إرث الزوجة من الزوج:
* هل ترث الزوجة زوجها إذا توفي لمجرَّد العقد؟
ـ نعم، ترثه الزوجة وإنْ لم يتحقَّق الدخول.
الزواج من شارب الخمر:
* ما هو الحكم الشرعي من الزوج الذي يشرب الخمر ويكفر باللّه باستمرار؟
ـ على الزوجة أن تحاول إصلاح زوجها ونهيه عن شرب الخمر، أما الكفر، فإذا كان مجرد لقلقة لسان ولا يعتقد ما يقوله فلا يخرجها ذلك عن الزوجية.
تزويج مريض:
* شخص مريض عقلياً ولكن فيه أملٌ بالشفاء، وهو يريد الزواج، فهل يزوِّجه أهله أم لا؟
ـ يجوز له الزواج ولكن بأمر الحاكم الشرعي الذي هو وليه الشرعي، إذ ربما يساهم الزواج في شفائه.
مراسم الزواج:
* ما هي أفضل طريقة للاحتفال بمراسم الزواج؟
ـ الاحتفال بمراسم الزواج إذا لم يشتمل على حرام، كشرب الخمر، ودخول الرجال على النساء، والغناء المحرَّم، جائز، ولا بأس فيما إذا كان هناك مكان للرجال وآخر للنساء، وعندئذٍ يباح للنساء الغناء شرط أن لا ينضم إلى ذلك أي محرّم آخر، واللّه العالم.
الزواج ثانية:
* ما هي شروط التزوّج من امرأة ثانية في الإسلام، وهل هذا حق مطلق للزوج، وبدون الأخذ برأي الزوجة الأولى، ومن يكفل حق الزوجة الأولى إذا لم يعدل الرجل بين الزوجتين؟
ـ إنَّ الإسلام أباح الزواج بأكثر من واحدة، شرط أن يكون الرجل قادراً على الإنفاق عليهنّ، كل واحدة بحسب حالها وشأنها، وأن يكون ذلك على أساس الشروط العامة للزواج، أي على أساس المعاشرة بالمعروف.. هذا من الناحية القانونية الإلزامية، أمّا من الناحية العملية، فالأفضل للزوج أن تكون زوجته الأولى على علم بذلك وموافقة عليه، فلا يكفي فيها رغبة الزوج بالتعدّد؛ لأن الحياة الزوجية مشتركة، فلا بد أن يكون ذلك بعد تفاهم وتشاور مع الطرف الآخر. ونحن نعتقد أن الإسلام عندما أباح التعدّد للرجال، انطلق من خلال المصلحة العامة للنوع الإنساني، والذي يشمل الرجل والمرأة معاً.
ولو فرضنا أنَّ الزوجة لا تريد للرجل أن يتزوَّج بأخريات سواها، فلها أن تشترط ذلك ضمن العقد، وعندئذٍ يصبح الزوج ملزماً بما وافق عليه ضمن العقد من شروط، ثم إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته أو كان يسيء معاملتها بنحوٍ لا يصدق على المعاشرة أنها بالمعروف، أو كان يمتنع عن الاستجابة لرغباتها الجنسية، فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، وهو بدوره يخيّره بين الإنفاق والالتزام بالمعروف أو الطلاق، فإذا امتنع عن كليهما أجبره الحاكم، وإلاّ أجرى الحاكم بنفسه الطلاق، فإن الشريعة أباحت تعدد الزوجات للرجل، ولكن لم تجعل ذلك على نحو يكون للرجل حق استبداد المرأة واستعبادها، بل إن الإسلام دائماً يلاحظ المصلحة للمرأة كما يلاحظها للرجل.. غير أن المشكلة تكون أحياناً في تعطيل هذه الأحكام وتغييبها عن الممارسة الفعلية، خاصة وأن إساءة الكثير من الرجال لاستخدام بعض الأحكام الشرعية، من دون الالتزام بالبعض الآخر، هي من جملة العوامل التي ساعدت على تشكيل صورة مشوَّهة لدى الآخرين عن الإسلام ونظرته إلى المرأة، بالإضافة إلى أن أعداء الإسلام كانوا ولا يزالون يركّزون على بعض الصور السلبية الموجودة في المجتمعات الإسلامية، وأن الإسلام هو المسؤول عن ذلك.
وعلى كل حال، فلا بد للإنسان من دراسة الموضوع بشكل دقيق موضوعي إنساني حتى لا يخلق مشكلة لنفسه وللآخرين، لأن التعدد مباح في نفسه، ولكنه قد يتغيّر إلى الكراهة أو الحرمة عندما تطرأ عليه بعض العناوين المكروهة أو المحرّمة، ولا تكفي إباحة الشيء في نفسه للإقدام عليه، بل ينبغي ملاحظة الظروف السلبية أو الإيجابية المحيطة به.
إضرار الزوجة بنفسها:
* ما هي كفّارة رجل أجبر زوجته على القيام ببعض الأعمال التي هي من اختصاص الرجال، فأدى ذلك إلى إقدام الزوجة على إحراق نفسها، ولكن من دون أن يعلم الزوج أنّ ذلك سوف يؤدي إلى هذه النتيجة للزوجة؟
ـ إذا لم يعلم ذلك، ولم يكن من عادته أن يجبر زوجته على عمل ذلك، فليس عليه شيء من هذا الجانب، ولكن تعسف الزوج بحق زوجته وتكليفها بما لا تطيق أمر مأثوم عليه، وعليه أن يستغفر اللّه من ذلك.
مهر الزوجة:
* هل يصح أن يكون المهر حج البيت الحرام أو مصحفاً؟
ـ نعم، يصحُّ ذلك.
طاعة الزوج:
* ذكرتم في المسائل الفقهية أنه يجوز للزوجة الخروج من بيت زوجها بدون إذنه، بينما في الندوات السابقة ذكرتم أن بيت الزوج قفل ومفتاحه بيد الزوج، فأي من الفتوى نأخذ؟
ـ نحن لم نقل يجوز للزوجة الخروج بدون إذن زوجها مطلقاً، بل يجوز لها الخروج إذا لم يكن الزوج محتاجاً لها، بأن لم يكن خروجها منافياً لحق استمتاع الزوج، أما بالنسبة للناس الذين يحبسون زوجاتهم ويقفلون عليهن، فكان ذلك من باب الانتقاد لتلك الحالة التي تعتبر البعض أن بيت الزوجية هو سجن للمرأة لمجرد أنه يوفر لها الطعام والحاجات والخادمة، ولا يسمح لها بالخروج إلا في حالة الضرورة القصوى كالذهاب للمستشفى، لأن ذلك ليس من المعاشرة بالمعروف، واللّه سبحانه وتعالى يقول: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ( )، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ( ).
علاقة المصاب بالإيدز بأهله:
* ما الحكم الشرعي للمصاب بالإيدز وعلاقته بزوجته وأطفاله؟
ـ طبعاً، حسب ما يقول المختصّون، فإن الإيدز ينقل العدوى بواسطة العلاقة الجنسية والدم، فعلى المصاب به أن يبتعد عن كل ما ينقل المرض إلى زوجته وأطفاله والآخرين.
حضانة المرأة للأولاد:
* في حالة وفاة الزوج الثاني لمطلقة الزوج الأول الذي يريد استرجاع طفله منها قبل زواجها من الثاني، فهل يحق له ذلك وإسقاط حضانة المرأة للطفل؟
ـ حق حضانة المرأة المطلقة لطفلها لغاية سبع سنوات ويمكن بعدها للأب المطالبة به.
حداد الزوجة:
* هل يختلف السُنّة والشيعة في مسألة حداد الزوجة على زوجها المتوفى، حيث يُقال إنه يحرم عليها الخروج من المنـزل وعدم رؤية أحد من الناس؟
ـ يحرم عليها التزيّن، وهو محل وفاق بين السنة والشيعة، ولا يحرم عليها الخروج من المنـزل، والاجتماع مع الآخرين وهو جائز، وأما غير ذلك من الحداد فهو من التقاليد وليس له أساس في الشرع.
التدليس على الزوج:
* ما هو حكم الشرع الإسلامي في موضوع التدليس بالنسبة للمرأة التي تزوجت وأصيبت بمرض السكري ويمتنع الزوج عن إعطائها المهر المقدم بحجة أنها لم تخبره بمرضها رغم أنها قد أنجبت له طفلاً؟
ـ لا يجوز للزوج الامتناع عن إعطاء الزوجة المهر المقدم طالما أنها قد أنجبت له طفلاً وقد عاش معها فترة طويلة، لأن التدليس حكمه أنه يحق له فسخ عقد الزواج عند بداية اكتشاف المرض وليس بعد فترة المعاشرة الطويلة، التي تدل على رضاه بالواقع.
الطلاق بالوكالة:
* هل يجوز طلاق الزوجة بالوكالة دون الحضور شخصياً؟
ـ لا نشجع على ذلك، ولو أن الطلاق الغيابي في حالة الضرورة القصوى جائز، لأنه على خلاف المنهج الأخلاقي في هذا المقام.
مهر الزوجة:
* شخص عقد على فتاة، وبعد العقد اتضح أنها لا تصلح له كزوجة، علماً أنه لم يدخل بها، فكيف يدفع لها المهر؟
ـ يدفع لها نصف المهر كاملاً، وهو نصف مجموع المعجل والمؤجل.
الزواج بالإكراه:
* امرأة زوّجها أهلها بالإكراه، وهي الآن مطلقة، وتقدّم لها شخص، فوافقت عليه ولكن أهلها يرفضون زواجها منه، فما هو الحكم الشرعي؟
ـ في رأينا أنّه ليس للأهل ولاية على المرأة البالغة الرشيدة، ولا سيّما إذا كانت ثيّباً أي مدخولاً بها، ولكن عليها ملاحظة النتائج الاجتماعية المترتبة على الزواج من دون إذن أهلها، ولا سيّما أن هناك من يرى ولاية الأب أو الجد للأب على المرأة إذا كانت لا تزال بكراً.
الحكم بوفاة الزوج:
* قام الأمن الصدّامي المقبور بتسليم ورقة إلى أهل أحد المؤمنين المعتقلين بأنه تم إعدامه من قبل النظام البائد، فقام الأهل بتزويج امرأة ذلك المعدوم من أخيه ستراً لها، وبعد عشر سنوات تبيّن أن الزوج الأول خرج من السجن ولم يُعدم، فما هو حكم زواج المرأة؟
ـ يعتبر ذلك الزواج باطلاً، ولكنهما يعتبران معذورين بسبب تلك الورقة الكاذبة، ولكن عليهما أن ينفصلا تلقائياً، وتعود المرأة إلى زوجها الأول، وهي لا تستطيع البقاء مع زوجها الثاني حتى لو طلقها زوجها الأول على الأحوط وجوباً.
حكم التبني في الإسلام:
* لماذا لا يجوز التبني في الإسلام؟
ـ يقول اللّه سبحانه وتعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( ). والأدعياء هم الأولاد الملحقون بالنسب - بواسطة التبني- ولعل الأساس في ذلك هو أنه ليس واقعياً" لأنّه ليس متوّلداً" منه، فلا تترتب عليه الآثار الشرعيّة التابعة للواقع.
التعامل مع الزوج:
* هل يجوز للزوجة أن تخفي عن زوجها أمراً إذا عرفه قد يؤدي إلى إرتكابه حماقة، علماً أن ذلك الأمر لم يستلزم عملاً محرماً؟
ـ إذا كان ذلك الأمر الذي تكتمه المرأة عن زوجها يسّبب ارتكابه لأمر محرم، فيحرم عليها أن تخبره.
حكم الإجهاض:
* ما هو الحكم الشرعي في امرأة أجهضت بسبب ظروفها المادية الصعبة ولها طفل عمره شهران وزوجها غير منسجم معها ويعيشون ظروفاً صعبة في العراق؟
ـ عليها أن تستغفر اللّه وتدفع الديّة عن ذلك لزوجها.
ترك الزوجة لزوجها:
* امرأة مسنّة تركت زوجها المسن والمريض، وسافرت وزوجها غير راضٍ عنها، فما الحكم الشرعي في ذلك؟
ـ لا يجوز لها ذلك.
الحضانة للأب:
* طلّق رجل امرأة وتزوج من غيرها ولهما طفل عمره خمس سنوات، فهل إن القانون الإداري هو مع استرجاع الطفل وأخذه من الأب؟
ـ إن الحضانة للأب بعد بلوغ الطفل سبع سنين وليست للأم.
حضانة البنت:
* هل صحيح أن حضانة البنت تختلف عن حضانة الولد، فقد قرأت في بعض الكتب أن الأم أولى بحضانة البنت إلى عمر سبع سنوات؟
ـ إننا نرى أن للأم حضانة الولد - ذكراً كان أو أُنثى - لمدة سبع سنين، ثم بعد ذلك هو للأب.
دية الإجهاض:
* ما هو الحكم الشرعي لأمٍّ أجهضت نفسها في الأسبوع الأول من الحمل، وما هو مقدار الدية، هل يجوز أن تدفعها لأبنائها الآخرين؟
ـ مقدار الديّة عشر ليرات ذهبية عثمانية رشادية تقريباً.
زواج الرشيدة:
* امرأة مطلقة عمرها 30 سنة تقدم لها شخص للزواج وهو ذو أخلاق جيدة، ويرفض الأهل تزويجها رغم موافقتها، فما هو الحكم الشرعي؟
ـ أولاً: من الناحية الشرعية الفقهية لا ولاية للأهل على المطلقَّة إذا رغبت الزواج ثانية. أما من الناحية الاجتماعية، فيفضّل أن تتزوج المرأة برضى أهلها وخاصة البكر. أما في حالة هذه المرأة المطلقة، فعلى الأهل أن يفهموا أنهم يظلمون ابنتهم المطلقة إذا منعوها من الزواج بالرجل الكفء، وإذا منعوها فإنهم يحاسبون حساب الظالمين. وتنقل قصة عن بعض علماء النجف أنه تعاهد اثنان منهم أنه إذا مات أحدهم قبل الآخر فإنه يأتيه في المنام، فلما مات أحدهم جاء إلى الثاني بالمنام قائلاً إنه يتعذب لأنه منع أخته من الزواج ولا يرفع عنه العذاب إلاّ إذا رضيت عنه أخته وسامحته، فقال له أرجوك أن تذهب لأختي وتطلب منها أن تسامحني، فجاء إليها يطلب منها السماح لأخيها فرفضت إلا أن تتزوج به، فتزوجها ذلك العالم أو هو قام بتزويجها لشخص آخر فجاءه ذلك الطيف ثانية قائلاً له جزاك اللّه خيراً فقد رفع عني العذاب الآن، وهذه القصة ذات مدلول وعظي تشير إلى حالة الظلم هذه.
الاستشارة في الزواج:
* شاب سألني عن فتاة لخطبتها، وأنا مدحتها كثيراً في حين أنها ليست كذلك، مع العلم أن الشاب قد أحلفني ولم أرد من مدحها سوى أن تكون هداية للفتاة وتقوية لسلوكها، فهل عليّ ذنب؟
ـ يجب على المسلم نصيحة أخيه المسلم، فالمفروض أن تبيِّن الأشياء السلبية والإيجابية، والنصيحة من موارد جواز الغيبة.
مطالبة المرأة بالطلاق:
* امرأة زوجها مسافر منذ خمس سنوات، فهل لها الحق بالطلاق بإذن الحاكم الشرعي والزواج من غيره؟
ـ لابد من عرض الموضوع على الحاكم الشرعي لدراسته من جميع جهاته.
عقد زواج غير البالغة:
* ما هو حكم عقد الزواج بمن لم تبلغ بموافقة الوالدين، وحينما بلغت الفتاة الحُلُم رفضت الزواج بذلك الرجل وطلبت منه الطلاق؟
ـ لا صلاحية للوالدين بتزويج ابنتهما التي لم تبلغ الحلم مع حصول مفسدة في الزواج التي قد تكتشفها عند بلوغها، لأننا نشترط في ولاية الأب على غير البالغين أن يتصرف بما يصلح أمرهما وأن لا تحصل مفسدة.
علاقة الرجل بالمرأة:
* امرأة متزوجة وكانت لها علاقة برجل آخر، فهل يجوز إذا التقته صدفةً أن تكلمه، مع العلم أن حديثها معه موجبٌ للفتنة؟
ـ لا يجوز لها ذلك إذا كان موجباً للفتنة.
الإضرار بالزوجة:
* هل يعتبر كثرة تردُّد الزيارة من الأقرباء أو الأصدقاء للبيت ظلماً للزوجة؟
ـ البيت أساساً يمثِّل خصوصية للزوج والزوجة وليس نادياً، وكما للزوج الحق في مراعاة خصوصياته وراحته، فللزوجة الحق في ذلك، وللأسف، فإن بعض الزائرين يتردَّدون كثيراً من الصباح حتى المساء، وهذا يعتبر ظلماً إذا أدى إلى إهدار حق الزوجة، ونحن نقول في مثل هذه الموارد كما هو معروف في العالم كله، إن للزيارة مواعيد محدَّدة ومحدودة.
حق الزوجة المطلّقة:
* ما حكم الزوجة المطلَّقة التي لم تحصل على حقوقها إلا بنسبة الربع؟ وهل يجوز لها المطالبة ببقية حقوقها أمام الحاكم إذا لم تنفع وساطة الأهل والأقارب؟
ـ لا علاقة للأهل والأقارب بالمطالبة بالحقوق التي تطلبها المطلَّقة من الزوج، ويمكن رفع الأمر إلى المحكمة بذلك، لأنه يجوز للإنسان رفع ظلامته إلى المحاكم غير الشرعية إذا توقف استنفاذ حقه على ذلك.
ثامناً: أموال وبنوك:
حرمان الزوجة من إرث العقار:
* ما الدليل على حرمان المرأة من أنْ ترث العقار من عينه ومن قيمته، مع أننا نعرف أن السيدة الزهراء(ع) طالبت بفدك على أنها نحلة، ثم على أنها إرث، وفدك تعدُّ من العقار؟ ما حكمة هذا الحرمان للمرأة؟
ـ أولاً، إن البحث في حرمان الزوجة لا المرأة مطلقاً، ونحن نختلف مع المشهور من العلماء في ذلك، ونلتقي مع الشيخ الطوسي وغيره، من أنّ المرأة الزوجة ترث من عين العقار كما ترث من الأشياء الأخرى، وهناك روايات متعارضة كثيرة، لأنّ الروايات تدل على أنّ المرأة ترث من كل ما يرثه الرجل في هذا المجال، ولذلك نستبعد دعوى التخصيص ولا بد من وجود قرينة على ما نقول على حدِّ تعبير أستاذنا السيد الخوئي رحمه الله، لأنه "لو كان لبان". والمسألة لو كانت كما هي فتوى المشهور، لكثر سؤال المسلمين للنبي(ص)، لأن هذا مما يبتلى به كل إنسان. فلم يسأل أحدهم النبي(ص) عن ذلك، ولم يسأل أحد بعد النبي(ص) عن ذلك، وفي خلافة علي(ع) لم يطبَّق التفريق في هذا المقام.. لذلك يقال إنَّ مع الإطلاق في القرآن وعدم ورود شيء واضح في أمر، وهو محل ابتلاء كل الناس، ولا يأتي سؤال واحد لا في زمان النبي(ص) ولا بعد النبي(ص) ولا في زمان الإمام علي(ع)، فإنه يشير إلى صعوبة الالتزام برأي المشهور، ومع ذلك نحن نحتاط احتياطاً وجوبياً بهذه المسألة، وعلى الورثة أن يتصالحوا فيما بينهم مع الزوجة في التفاصيل.
شراء بطاقات اليانصيب:
* هل يجوز شراء بطاقة اليانصيب، وإذا ربح الجائزة الكبرى، فهل يجوز أن يتصرف بالمال؟ وإذا تصرف به فما حكم ذلك؟
ـ هذه من المسائل الخلافية، لأنّ هناك بعض العلماء يقول بأنه قمار، مثل السيد الخوئي رحمه الله والسيد الخميني رحمه الله، ولكن هناك من لا يعتبره قماراً، مثل السيد محسن الحكيم رحمه الله والسيد عبد الأعلى السبزواري رحمه الله، أما نحن فلا نعتبره قماراً، ولذلك يجوز التعامل به، والإنسان الذي أخذه لا يجب عليه الخمس إلا بعد مرور عام.
الاتجار بتماثيل خشبية:
* هل يجوز الاتّجار والتكسب بتماثيل خشبية أو غير ذلك على شكل أحد الحيوانات، وهل يجوز عرضها في المحلات والبيوت؟
ـ الرأي الفقهي الغالب في مذهب أهل البيت(ع)، أنه يجوز ذلك.
تعاقب الأيدي على المساكن والأملاك:
* عندنا في العراق الآن مشكلة الناس الذين هجّرهم النظام ورجعوا إلى منازلهم ووجدوا فيها أناساً غيرهم وقد بيعت واشتريت هذه المنازل لعدة مرات، فما حكم صاحب الدار الأصلي؟
ـ صاحب الدار الأصلي لا يزال يملك داره، ولا قيمة لعطايا الظالم ولمصادراته، ولذلك لابد للساكن والمشتري أن يحسبا هذا الحساب.
تمليك بعض الأبناء:
* سجل أبي رحمه الله داراً باسمي ولم يسجل شيئاً لأخوتي ؟
ـ الإنسان في حالة حياته مسلَّط على ماله، وهو يستطيع أنْ يعطي ماله لأجنبي أو يتبرع به لعمل خيري، ويستطيع أن يخص به بعض أولاده، دون بعض وإن كان الأفضل أن لا يفعل ذلك، إلاّ إذا كان لبعض أولاده ميزة معيّنة أو ظروف معيّنة صعبة أكثر من ظروف إخوانه، لا أقول إنّه محرّم، ولكن الأفضل اجتنابه.
المأخوذ حياءً:
* دائماً نسمع هاتين العبارتين: ((ما أُخذ حياءً فهو غصب))، ((السارق من السارق كالوارث من أبيه))، فما موقعهما من الصحة والبطلان؟
ـ القول إنَّ ((ما أُخذ حياءً فهو غصب)) صحيح، لأنه (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) ـ كما ورد في الحديث ـ، فإذا أخذ منه المال بفعل حياء، بمعنى أعطاه بدون رضاه، فهو كالغصب، لا يجوز. أما القول إنّ ((السارق من السارق كالوارث من أبيه)) فهو غير صحيح؛ لأنّ السارق لا يملك المال، ولذلك، فعلى من يأخذ المال من السارق إذا عرف صاحبه أن يرجعه إلى صاحبه، وإذا لم يعرف صاحبه، فعليه أن يرجعه إلى الحاكم الشرعي كأي مال مجهول مالكه.
أخذ الفائدة من البنوك:
* ما رأيكم في وضع المال في البنك بفائدة وأخذ الفائدة وإعطائها للفقراء أو الجمعيات الخيرية، لأنّ البنوك تقوم باستثمار الأموال، وقد يكون في مشاريع غير جائزة شرعاً؟
ـ شرط الفائدة لا يجوز، فقد جاء في الحديث: ((جاء الربا من قبل الشرط وإنما تفسده الشروط))، ولا يجوز لمجرّد إعطائه للفقراء، لأنّ المال ليس حلالاً حتى تعطيه إليهم. نعم، إذا فرضنا أنك وضعت المال في البنك من أجل الإيداع ومن أجل تسهيل معاملاتك، وأنت تعرف أنّ البنك يعطيك، ولكن لم تشترط الفائدة، فيجوز لك أن تأخذه، وعندئذٍ تتصرّف به كما تشاء.
تحديد الأجرة في الأعمال:
* أنا مهندس أعمل في إصلاح الآلات الصناعية في المعامل، في معظم الأحيان لا يمكن تقدير الأجرة قبل تمام عمليّة التصليح بسبب الجهل بمستوى العطل والمدة اللازمة لإصلاحه، وهكذا تتم عملية الاتفاق على الأجر بعد إتمام العمل تماماً، ما هي شرعية هذه المعاملة؟
ـ لا مانع في ذلك، بمعنى أن تتفق أنت وصاحب هذه الآلة بأنّ هناك أجراً معيّناً في ذلك عند المهندسين يتقاضونه بحسب طبيعة ما يبذلون من جهد، ويرجع في ذلك إلى أجرة المثل، فإذا اتفقتما على ذلك، فالمعاملة صحيحة.
حرمة الرشوة:
* نرجو منكم أنْ توضحوا لنا مسألة الرشوة (أخذها وإعطاؤها والسعي فيها) وما هو الدليل؟ وأخذ وإعطاء الفوائد وما حكمها، وللعاطي والمعطي والساعي بالأمر وما أدلتها؟
ـ يحرم دفع الرشوة كما يحرم أخذها والتوسّط فيها، والرشوة المحرَّمة هي الرشوة التي يدفعها الشخص من دون اضطرار. أما إذا اضطرَّ الشخص بشكل فوق العادة إلى دفعها، لأن بعض الموظفين لا مسؤولية لهم، ولأنهم يعطّلون مصالح الناس، فيمكن بالاضطرار أن يعطيه، لكن ذاك الذي يأخذ المال يرتكب حراماً، لأنه لا يجوز له أخذ المال وإن أعطاه إيّاه هذا الشخص.
حكم ما يُنسى في الفندق؟
* ما هو حكم الحاجات التي يتركها بعض الزائرين في الفندق، مثل لعب الأطفال أو الملابس وأحياناً ينسونها مثل ساعات رجالية ونسائية وغيرها؟
ـ إذا أمكن التعرّف على أصحابها فيجب إرسالها إليهم، فإذا لم يمكن ذلك فيكون حكمها حكم المال مجهول المالك الذي يراجع فيه الحاكم الشرعي أو يتصدق به عن صاحبه، وإذا علم أنَّ تلك الحاجات قد أعرض عنها المسافرون فتصبح مباحة للتصرف بها، ويجب أن يعود الإنسان إلى وجدانه في ذلك.
جمع القناني وبيعها:
* هل يجوز جمع القناني الفارغة، الكوكا كولا مثلاً، وأخذ قيمتها من المعمل؟
ـ إذا كانت مرمية في الشارع، فيجوز الاستفادة منها في بيعها والحصول على ثمنها.
حكم الاقتراض من المصرف:
* هل يجوز استقراض مبلغ من المصرف مع أن المصرف يقرض بالفوائد؟
ـ لا يجوز التعامل الربوي مع قصد الفائدة، لأنّه ربا محرّم، وأمّا مع عدم الاشتراط فيجوز إذا لم يلتزم الإنسان بالفائدة مع تحقّق القصد الجدّي لذلك.
الإرهاب وأموال الجمعيات الخيرية:
* تقوم قوى الاستكبار العالمي بين حين وآخر بحجز أموال الجمعيات الخيرية في العالم بحجة أنها تموّل الإرهاب، فكيف السبيل إلى الحفاظ على أموال المسلمين، وهل يمكن إعادة العمل بنظام بيت المال بدلاً من البنوك؟
ـ المشكلة هي أن أمريكا الآن في ما أعلنته بحجة الحرب على الإرهاب، تحاول أنْ تحاصر كل الجمعيات الإسلامية، وتحجِّم النشاط الإسلامي، بحجّة أن تلك الجمعيات تساعد (حماس) أو (الجهاد الإسلامي) وما إلى ذلك.. فهم يعتبرون مساعدة الجمعيات لأيتام المسلمين مساعدةً للإرهاب، لأنهم يريدون للفلسطينيين أن يجوعوا وأنْ يستسلموا للكيان الصهيوني، ولذلك فإنهم يضغطون على بعض البلدان العربية التي تساعد الفلسطينيين ليقطعوا المساعدات ولو كانت إنسانية، فقد سمعنا (بوش) كيف يتحدّث عن هذا الموضع، وطبعاً (بوش) متعصّب ضد الإسلام لصالح الكيان الصهيوني، وإدارة (بوش) هي إدارة يهودية مائة في المائة، ولا سياسة لأمريكا في الشرق الأوسط إلا وفقاً للسياسة الصهيونية، ونحن نعتبر أن (بوش) تابع ل(شارون) وليس العكس، خصوصاً أن أمريكا الآن على أبواب الانتخابات الرئاسية، وللصهاينة دور كبير في هذه الانتخابات. فلنفهم الموضوع على حقيقته، ولا نغترّ بظواهر الأمور، حيث يقول بعض الناس إن بوش حرّر العراق، في الوقت الذي لا ينظرون إلى ماهية الخلفيات التي تقف وراء ذلك فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟.
البيع بسعر أعلى من السوق:
* ما حكم من يبيع كثيراً من السلع في السوق بربح فاحش ضعف السعر؟
ـ ينبغي للبائع المسلم أن يكتفي بالمقدار المعقول من الربح، وقد قال رسول اللّه(ص): ((رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع وسمحاً إذا اشترى)).
نفقة الولد من أموال أبيه:
* هل يجوز أخذ الفوائد من البنك الأجنبي (الربا)؟ وما هو حكم المال الذي ينفقه الوالد على أبنائه في هذه الحالة، وهو من مقلدي السيد الخوئي رحمه الله؟
ـ الربا حرام في جميع الحالات، ولكن السيد الخوئي كان يرى أنه في حالة كون صاحب المصرف الأجنبي يلتزم بالفوائد (الربا)، فيجوز الأخذ منه إلزاماً له بما ألزم به نفسه، ولكن لا يجوز أن نعطيه، وكذلك هو رأينا.
العمل في المصارف:
* هل يجوز العمل في مصرف يفرض الفوائد على المستقرضين منه؟
ـ كل عمل فيه ربا فهو حرام، فعلى الإنسان أن يبحث عن عمل آخر، واللّه خير الرازقين.
قيمة العلم فقهياً:
* يقال إن (العلم حُوَّل قُلَّب)، إذاً كيف يمكن الاعتماد على أقوال العلماء، كالأطباء والفلكيين في إصدار الفتاوى؟
ـ بصرف النظر عن هذا القول، فإنَّ الاعتماد على أقوال مثل الأطباء والفلكيين لإصدار الفتاوى، إنما يكون في ما يرجع إلى تشخيص الموضوع، والذي لا يكون من الموضوعات التي حدَّدها الشرع كالصلاة والصوم ونحو ذلك، كثبوت الهلال الذي يؤكد لنا دخول شهر رمضان، بحيث نعرف أنه وجب علينا الابتداء بالصوم، وهكذا في كلِّ مورد، كما إذا اعتمدنا على رأي أهل الخبرة لتشخيص أن هذا السائل الأحمر اللون هو دم الإنسان، فلابد عندئذٍ من البناء على نجاسته وترتيب الأثر على ذلك، وهذا يشترط فيه قبل كل شيء أنْ يكون الطبيب أو الفلكي أو العالم من أهل الخبرة في المجال الذي نرجع فيه إليه، وأنْ يكون موثوقاً، فلو لم يحصل هذان الشرطان، فلا يمكن القبول برأيه والركون إليه. أمّا هذا القول (العلم حوّل قلّب) فهو بناءً على صحته وصدوره عن المعصوم، فإنه يراد منه أنْ العالم لا يعجزه شيء، لأنه يقلب المسألة بنحو يمكن له من خلال ذلك الوصول إلى حلّها الصحيح، وهذا يعني أن العالم – حقاً – هو الذي لا يجمد على احتمال واحد إزاء أيّة مسألة علمية تعترضه، بل من خلال خبرته، فإنه يتوصل إلى معرفة كلِّ الآراء المحتملة، ثم يقوِّي ما يدعمه الدليل من هذه الآراء، وهذا يوجب الاطمئنان عندئذٍ بما يصدر عن العلماء حقاً، لأنه ناتج عن خبرة وإحساس بالمسؤولية، واللّه من وراء القصد.
المطالبة بأجرة الخدمة البيتية:
* طلّق زوج زوجته، وبعد الطلاق طالبته الزوجة بأجرة خدمتها في البيت وإرضاع الأولاد، مع العلم أنه لم يكن هناك اتفاق على أن تكون خدمتها في البيت بأجرة، كما لم يكن هناك اتفاق على الخدمة المجانية، فهل يجب دفع الأجرة؟
ـ لا يجب عليه ذلك، والسبب هو أنَّ المرأة عندما تشتغل في البيت، فإنها تشتغل متبرعة. ولو فرضنا أنها منذ البداية اشتغلت على أساس الأجرة فإنها تستحقّها، ولكن واقع الحال هو أن الرجل يعطي المرأة ـ في الغالب ـ أكثر مما يجب عليه من النفقة. والمهم أن نفهم أن اللّه سبحانه وتعالى جعل الحياة الزوجية مودةً ورحمة، ولهذا فهي من الناحية الشرعية لا تستحقُّ شيئاً ولا يجب دفع ذلك. ولكنّ على الزوج أن يقدّر لها الجهد الشاقّ الذي صرفته في تربية الأولاد وفي أعمال البيت وفي رعايتها له ولأوضاعه مما لا يجب عليها في البيت الزوجي، ولا سيّما إذا كانت الزوجة المطلّقة بحاجة إلى المال بعد طلاقها منه.
عزل المال للصدقة:
* أستخرج في اليوم مبلغاً معيناً كصدقة، وأجمع الصدقات في البيت، فهل يجوز لي شراء مأكولات بهذا المبلغ وإعطاؤها للفقراء؟
ـ المال يبقى ملكك ما دمت لم تعطه بيد الفقير، فلو عزلته بعنوان الصدقة فلا يصبح صدقةً حتى تتصدَّق به. والمال ملكك حتى إذا مرت عليه سنة فيجب أن تخمّسه. إنما يخرج المال عن ملكك إذا سلّمته للفقير، أما مجرد عزله فلا يجعله صدقة، ولذا يجوز أن تأخذه أو ترجعه كما يجوز أن تشتري به ما شئت.
نسخ الكتب والأشرطة:
* ما هو حكم استنساخ الأشرطة والكتب، علماً بأنَّ حقوق طبعها محفوظة، ولكن بعض الأماكن لا تصلها هذه الكتب والأشرطة؟
ـ إذا كان صاحبها في مجتمع يعترف بالملكيّة الأدبية أو حقّ الاختراع والتأليف والنشر وما شابه، فإنها كالملكية المالية لا يجوز التعدّي عليها من دون إذن صاحبها.
القمار في ألعاب الكمبيوتر:
* هل يجوز المضاربة في ألعاب الكمبيوتر، على أساس أن الذي يخسر اللعبة هو الذي يدفع أجور استعمال الكمبيوتر لصاحب المحل؟
ـ لا يجوز ذلك، لأنه يعتبر من القمار، والقمار هو أن يكون الذي يكسب اللعبة رابحاً، ولا فرق في ذلك بين دفع المال مباشرة للرابح أو لصاحب الكمبيوتر.
البناء على أرض مشاع:
* قطعة أرض ملكيتها مشتركة بين عدّة أشخاص، ولم يتمّ فرزها ويصعب تقسيمها بين الشركاء، وقام أحد الشركاء ببناء دار له، فهل يجوز لي ذلك أيضاً، خاصة وأني أحد الشركاء في الأرض وبحاجة إلى دار سكن؟
ـ الأرض المشاعة بين الشركاء والورثة لا يجوز التصرف بها شرعاً إلاّ بموافقة جميع الشركاء والورثة.
توفير حاجات الزوجة:
* هل يجب على الزوج الفقير أن يوفر لزوجته الغنية كافة المتطلبات التي كانت تمتلكها في بيت أبيها، مثل الخادمة والسيارة وما إلى ذلك؟
ـ لا يجب عليه ذلك بما يخرج عن المتعارف وعن نطاق قدرته، والله تعالى يقول: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ( ). فعلى الزوج الإنفاق على زوجته حسب الوضع الاجتماعي العام المتعارف عليه، أما إذا كان الإنفاق يكلّفه فوق طاقته، فلا يجب عليه ذلك.
الاستقراض من البنك:
* هل يجوز الاستقراض من المصرف لتأسيس شركة تجارية لمن ليس لديه رأس مال؟
ـ لا يجوز الاقتراض على أساس الربا. ولكن إذا أخذ بالوسائل الشرعيّة المحلّلة التي قد تخرجه عن الربا فيجوز له الاقتراض حينئذٍ.
الإنفاق على الأمّ والزوجة:
* إذا تزاحم الإنفاق بين الزوجة والأم التي لا تملك شيئاً، فمن هي الأولى؟
ـ الزوجة لأنّها واجبة النفقة على زوجها على نحو الحقّ الملزم وضعاً، بحيث لو لم ينفق عليها الزوج كانت النفقة ديناً في ذمّته بالإضافة إلى الإثم، أما بالنسبة للأم، فإن الوجوب تكليفيّ، فلو لم ينفق عليها كان آثماً وعاصياً، ولكن النفقة لا تتحوّل إلى دين.
احتكار أموال المسلمين:
* ما هي نصيحتكم للذين يحتكرون أموال المسلمين بحجّة مشاريع إسلامية بينما هي تصبّ في صالحهم؟
ـ إنّ احتكار أموال المسلمين في المصالح الخاصة ومنعها عن المصالح العامّة للمسلمين، يعتبر خيانةً وحراماً وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ).
شراء أرض مغصوبة:
* حصلت على قسيمة سكنية من الدولة، واتضح أن هذه الأرض مغصوبة، علماً بأن الحكومة قد اشترتها ووزعتها على المواطنين (أصحاب الدخل المحدود)؟
ـ لابد من إرجاعها إلى مالكها الأصلي إذا كان معلوماً، أو إلى الحاكم الشرعي إذا كان المالك مجهولاً، ولكن إذا كان صاحبها قد قبض ثمنها من الدولة ورضي بذلك أو أعرض عنها بعد استيلاء الدولة عليها جاز تملّكها من قبلك.
ضمان الضائع:
* أخذت إحدى الأخوات مني خاتماً وضاع عندها، فهل يجب أن تضمنه لي؟
ـ إن كانت أخذته على نحو الأمانة وضاع من دون تفريط فلا تضمنه. أما إذا سرقته أو لم تحفظه فتضمنه.
رد الاعتداء:
* هل يجب على المعتدى عليه بالضرب خلال المشاجرة أن يدفع الدية في حال الردّ الأعنف بالضرب على المعتدي، في حالة عدم السيطرة على أعصابه خلال المشاجرة؟
ـ المنهج القرآني في تلك الحالة هو فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله( )، فعندما تريد أنْ تأخذ حقك، فحاول أن تأخذه بهدوء وبعقل بارد، ولنا القدوة في كلام الإمام علي(ع)، حينما ضربه ابن ملجم، فقال(ع): ((انظروا إنْ أنا متُّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثّلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: إياكم والمثلة لو بالكلب العقور)). وفي ضوء هذا، فإذا تجاوز المعتدى عليه حقّه وضرب المعتدي بما لا يستحقه وأحدث في جسده حدثاً يستحقّ فيه الدية، وجب عليه ذلك، بالإضافة الى الاستغفار والتوبة لله.
وفاة الواقف والموقوف عليه:
* ما هو حكم من أوقف أرضاً لشيخ المنطقة، وقد توفي الواقف والموقوف له، فهل تعود الأرض لورثة المالك أم لورثة الموقوف له، علماً بجهل صيغة الوقف؟
ـ إذا كان الوقف للشخص المحدَّد، ففي تلك الحالة يكون الوقف باطلاً، لأنّه منقطع الآخر وتعود الملكية للورثة.
العجز عن الوفاء بالنذر:
* ما هو حكم من ينذر نذراً شرعياً للّه بأن يشتري خروفاً ويوزعه على الفقراء، ولما تحقق النذر لم يكن يملك المال اللازم للوفاء بالنذر؟
ـ يسقط عنه النذر في حالة عدم القدرة على الوفاء به، ولكن السؤال: لماذا ينذر من لا يستطيع الوفاء بالنذر؟!
إرجاع المسروقات:
* ما هو حكم من يريد التوبة من السرقة ويريد إرجاع المسروقات لأصحابها، ولكنه يخشى افتضاح أمره بعد أنْ ستره الله؟
ـ في حالة معرفة أصحابها يمكن إعادة الحاجات المسروقة إليهم بطريقة معينة، ولو أن يتم وضعها في أماكن تواجدهم أو بواسطة شخص آخر، أما إذا كانوا غير معروفين فيتصدق عنهم.
التصدّق بالفائدة المصرفية:
* أودعت مبلغاً من المال في البنك بفائدة، فهل يجوز أن أتصدّق بتلك الفائدة، أو أضع ذلك المبلغ بدون فائدة، وهل يجوز أن أهب أهلي جزءاً من ذلك المبلغ على سبيل الخمس؟ علماً بأن ذلك المبلغ المودع هو لأجل الزواج أو شراء منـزل أو للمعيشة؟
ـ لا يجوز للإنسان أن يشترط حصوله على الفائدة إذا أودع المبلغ في البنك، بل يودعه على سبيل المحافظة عليه من الضياع، ولا يجوز له إعطاء الخمس من ذلك المبلغ للوالدين، لأنهما واجبا النفقة عليه، بل يعطي الخمس للأقرباء والمحتاجين إذا كانوا متديّنين. وهناك ملاحظة، وهي أن المصرف إذا كان يعطي الفائدة لمصلحته لجذب الزبائن، بقطع النظر عن الاستحقاق، جاز تملّك المودع للفائدة بلحاظ ذلك، مع بقاء الإثم في المعاملة الربوية من حيث القيام بها.
سفر الدائن:
* ما هو حكم الدَّين الذي سافر صاحبه ولم يتم تسديده له؟
ـ يجب الانتظار إلى حين رجوع صاحب الدَّين، فيتم التسديد، أو أن يتم التصدق عنه بالمبلغ على الفقراء إذا حصل اليأس من العودة أو إمكانية إيصال المال إليه.
حكم الفروغ في الإيجارات:
* ما هو الحكم عندما يرفض المستأجر الخروج من المحل إلا بدفع البدل له؟
ـ إذا كان عقد الإيجار يجعل للمستأجر الحق في أن لا يخرج دون رضاه فله الحق في أخذ العوض، أما إذا لم ينص العقد على ذلك، فليس له الحق في ذلك البدل.
إرجاع البضائع:
* بعت حاجةً لشخص وأخذها بموافقته، وبعد فترة أرجعها لي بحجة وجود عيب فيها، وقد صرفت مبلغها ولم أخل بشروط البيع، فهل عليّ إرجاعها؟
ـ نعم عليك إرجاعها إذا كنت تعلم بوجود عيب فيها عند البيع، أو أن تعطي فرق السعر للمشتري ويسمى هذا (الأرش).
بيع المواد المسروقة:
* ما هو حكم التصرف ببيع وشراء الموادّ المسروقة من دوائر الدولة في العراق، وهل يجوز تخميسها؟
ـ لا يجوز التصرف بتلك المواد، لأنها ليست ملك صدام، بل هي ملك الشعب العراقي، وفي أية دولة المفروض أن يأخذ رئيس الدولة أو الوزراء رواتبهم من الدولة وليست المنشآت والمواد والأجهزة ملكاً لهم، فلا يجوز التصرف بها إلى حين قيام حكومة شرعية في العراق، ونحن نقول إن الناس إذا سرقوا دولتهم فسوف يدفعون الضرائب بعدئذٍ لشراء البديل من المسروقات. ولذلك علينا أن نحافظ على الأموال العامة، وهذا هو رأينا ورأي أغلب الفقهاء.
الإنفاق على الوالدة:
* هل يجب على الولد الإنفاق على والدته إذا لم يكن لها معيل؟
ـ نعم يجب عليه ذلك.
هبة الأعضاء عند الموت:
* ما هو رأيكم في مسألة وهب الأعضاء عند الموت على سبيل الوصية بذلك، وهل تجب استجازة الورثة لاستئصال تلك الأعضاء؟
ـ يجوز للإنسان أن يوصي بأعضائه عند الموت، ولا يجب استجازة الورثة.
الترافع إلى القضاء:
* نعيش في كندا. ما حكم الترافع لدى القضاة، علماً بأن استنقاذ المال لا يتم إلا بالترافع إليهم، أرجو إجابتنا وفقاً لرأي السيد الخوئي (قده) لأننا من مقلديه؟
ـ إذا كان الحق ثابتاً وتوقف استنقاذه على إقامة الدعوى إليهم، جاز ذلك على رأينا ورأي السيّد الخوئي.
موت طفلة:
* أنا امرأة متزوجة، رزقني اللّه سبحانه وتعالى بطفلة، ولكن حدث ذات يوم أن تركت الطفلة على فراشها لقضاء الحاجة، وشاء القدر بعد أن رجعت أن أجد طفلتي الصغيرة انقلبت على وجهها، فانقطع عنها النفس، فماتت والبقاء للّه سبحانه وتعالى وحده.. إن ما أريد الاستفسار عنه هو هل عليَّ أيُّ ذنبٍ من حيث الإهمال؟ وهل عليّ أي قضاء شرعي مثل الصوم أو دفع المال، أو أي التزام يفرضه عليّ الإسلام؟
ـ إذا كنت قد تركت الطفلة بالنحو الذي ليس عليها أي خطورة وبنحو لم تكوني فيه مقصِّرة، فلا شيء عليك، وقد شاء اللّه سبحانه وتعالى، ويكون ذلك من قبيل القضاء والقدر، وليس عليك أي كفارة أو أي غرامة مالية.
التصرف بأموال الولد:
* تعرض الولد لحادث، وقد حصل والده على تعويض، وبسبب حاجة الوالد وفقدانه لعمله، فقد صرف مبلغ التعويض على الأسرة في حينه، ولكن عندما كبر الولد وتزوَّج، ترك بيت والده ليعيش مع زوجته، فهل يحق له المطالبة بملغ التعويض من والده، علماً بأن والده لا يزال يعيل بقية الأولاد بما يجود به الخيّرون؟ وما صحة القول إن الولد وما يملك ملك لأبيه؟
ـ إن مقولة (الولد وما يملك ملكٌ لأبيه) أخلاقية وليست مسألة قانونية، فلا يحقُّ للوالد أن يأخذ من مال ولده من دون رضاه، إلاّ إذا كان بحاجة إلى نفقة ولا ينفق عليه ولده، فيأخذ بمقدار حاجته، أما في مثل هذه القضية، حيث يطالب الولد بمبلغ التعويض الذي صرفه عليه والده حينما كان صغيراً، فإنه ليس له الحق بالمطالبة عندما يكبر، وليس من الإنسانية ولا القيمة الأخلاقية أن يطالب الولد والده عمّا صرفه عليه في صغره.
مساعدات للعائلة:
* تعيش عائلة مسلمة على المساعدات بسبب فقدان العمل لربِّ الأسرة، فهل يحق للزوجة التصرف بتلك النقود كيفما تشاء دون إذن زوجها؟
ـ تستطيع الزوجة التصرّف بحصتها فقط، أما الأولاد فوليهم أبوهم وعليها أن تستأذن من زوجها في ذلك.
الاستئجار مرتين:
* استقدمت مؤسسة عمالاً، فهل يجوز لصاحبها أن يؤجرهم لمؤسسة أخرى بأجرة أكثر ويكون الفرق بين الأجرين لصالح صاحب المؤسسة الأولى الذي يتكفَّل بإدخال العمال إلى البلاد وإدارة شؤونهم الإدارية والقانونية؟
ـ يجوز له ذلك بلحاظ ما صرفه عليهم من المال في إدخالهم إلى البلاد وإدارة شؤونهم.
الإسراف مع الأولاد:
* لو طلب منا أبناؤنا الصغار مالاً أو ملابس أو أكلاً يصل إلى حدِّ الإسراف، فهل يحق لنا إعطاؤهم لأنهم ليسوا مكلفين؟
ـ ليس لك الإسراف في مثل هذا الفرض، لأن مقتضى ولايتك وأبوتك أن تجنبهم الإسراف، لأن هذا يضرهم، بقطع النظر عن قضية الحلال والحرام، فكما لا يجوز لك أن تسرف كذلك لا يجوز لك أن تعطي أولادك مالاً لا يحتاجونه في حياتهم الخاصة، لأنك تصبح في هذه الحالة مسرفاً، لأن الإنسان لابد له أن يصرف ماله بالطريقة العقلائية. فأنت عندما تعطي أولادك مالاً لا يحتاجونه، فإن ذلك يمثل إسرافاً، فالإسراف يكون فعل الأب لا فعل الأبناء، فيحرم من هذه الجهة أيضاً.
ضمان العيب:
* جلبت معي في سفري عربة طفل في الطائرة، وعند وصولي المطار وجدت العربة مكسورةً، فعملوا لي محضر تغريم الشركة الناقلة وأعطوني وصل الغرامة بمبلغ 200 $، فهل يعتبر أخذي لذلك المبلغ حلالاً أم حراماً؟
ـ إذا كان ذلك حسب قانون الشركة الناقلة، فلا مانع من ذلك.
التعامل مع البنوك:
* في التعامل مع أحد البنوك بالغرب، يتم دفع مبلغ ألفي دولار ليشتري البنك لصاحب المبلغ بيتاً بمبلغ خمسة آلاف دولار بعد ستة عشر شهراً، على أن يسدد الباقي على شكل أقساط، فهل يجوز ذلك شرعاً في حالة الضرورة أو غيرها؟
ـ إذا كان ذلك الشراء للبيت في حالة الضرورة وفي حالة عدم اشتراط الفوائد ، فلا إشكال في ذلك التعامل مع تلك البنوك، وبعكس ذلك فلا يجوز شرعاً.
الإعلان عن لقطة:
* في حال العثور على لقطة بمبلغ 1500 ل.س، وقد تم الإعلان عنها عدة مرات، فهل يجب الاستمرار بالإعلان عن اللقطة لغاية سنة ثم التصدّق بقيمتها؟
ـ نعم، إذا كانت لتلك اللقطة علامة فلابد من الاستمرار بالإعلان عنها.
تجاهل اللقطة:
* إذا وجدت نقوداً في الشارع أو في مكان آخر، فهل أتركها أو ألتقطها وأتصدق بها عن صاحبها؟
ـ أخذ اللقطة مكروه، لاحتمال أن يرجع صاحبها إلى المحل الذي سقطت فيه، أما في حال الخوف على ضياعها أو تلفها أو التقاط غير الأمين لها فلا كراهة، ولكن إذا التقطتها وكانت لها علامة تعرف بها، وكانت قيمتها قيمة غرامين ونصف من الفضة فصاعداً، وجب عليك التعريف عنها سنة، ثم بعد ذلك تتخير بين التصدق بها أو تملكها أو إبقائها أمانة عندك على مدى الزمن.
أجرة معقب المعاملات:
* أعمل كمعقِّب معاملات، ويحدث أن يسألني شخص عن كلفة معاملة، فأحدد له مبلغاً معيناً، فيفهم أن ذلك ليس لي، بل لمن ينجز المعاملة، فهل يجوز لي أن آخذ المبلغ بالكامل؟
ـ عليك إيضاح الأمر ولو بالإجمال، كأن تقول له: (إن هذه تكلفك كذا من المال الذي هو ما بين طوابع وإكرامية وأجرة طريق وبدل أتعاب)، فتخرج بذلك من كل التباس، ويكون المال الذي أخذته حلالاً لا إشكال فيه.
وراثة الشركة:
* من ليس له وارث وله ضمان من شركة التأمين، هل ترثه الشركة إذا مات؟
ـ يرثه بيت المال الإسلامي الذي هو بيد العالم الفقيه المجتهد العادل.
مال العقيقة:
* إذا دُفِع لشخص مبلغ من المال لشراء عقيقة وكان ثمنها أقل من المال المدفوع، فهل يجوز صرف ما فضل منه لطبخ الطعام مع لحم العقيقة؟
ـ عليه أن يستأذن صاحب المال في ذلك.
وفاء النذر:
* امرأة نذرت أن تدفع مبلغاً من المال للفقراء إذا حملت، وبالفعل فقد حملت، ولكن لم يستمر حملها، فهل عليها وفاء النذر؟
ـ إذا كان نذرها بأنها إذا حملت وبقي حملها حياً، فلا يجب عليها الوفاء، وأما إذا كان النذر لمجرد الحمل، فلابد من الوفاء عندئذٍ.
أجور الطبيب:
* أجريت عملية عند طبيب دفعت له 1000$ وبقي 300$ ولم أجد النتيجة المرجوة، هل يجب أن أعطيه كامل حسابه؟
ـ إذا انتهت فترة العلاج وكان الاتفاق أن تدفعي المبلغ المذكور أي 1300$ فلابد من الوفاء بذلك ودفع الباقي أيضاً.
وراثة الشركة:
* من ليس له وارث وله ضمان من شركة التأمين، هل ترثه الشركة إذا مات؟
ـ يرثه بيت المال الإسلامي الذي هو بيد العالم الفقيه المجتهد العادل.
الأموال من الحرام:
* لو أن شخصاً ما يكسب مالاً من أعمال التنجيم المحرّم، فهل يجوز تلبية دعوته إلى وليمة وحضورها لعلاقة القربى؟
ـ لا يمكن الحكم بحرمة طعام ذلك المنجّم، لأنه قد يكون اشتراه من غير مال التنجيم.
شركات البرمجة:
* ما هو حكم العمل في شركة كمبيوتر تعتمد نظام التشويق الشبكي القائم على الدعاية والإعلان لمنتجات الشركة وجلب الزبائن بعمولة ما وقد تصل الأرباح إلى مبالغ كبيرة من جراء ذلك العمل؟
ـ نحن نتحفظ على مثل الاشتراك في هذه الشركات، التي تعتمد أسلوب المصيدة في طلب الزبائن، وذلك عن طريق ربطهم ببعض الأمور وإشغالهم عن أعمالهم، لا من أجل تعليمهم عبر الكمبيوتر.
حرمان ولد الزنا من الإرث:
* ما الحكمة من حرمان ابن الزنا من الإرث؟
ـ باعتبار أن الإسلام أراد أن يبين الحد الفاصل بين الولد الشرعي والولد غير الشرعي، وذلك ليس عقوبة له، بل هو تأكيد على شرعية النسب من عدمه.
مصرف الأموال المتبرَّع بها:
* تبرع رجل بمبلغ 200$ من أجل شراء كتب للفقراء ليتعرفوا على مذهب أهل البيت(ع)، وبقي منه مبلغ 50$، وقد توفي الرجل المتبرع، فهل يجوز دفعها صدقةً عنه؟ أم شراء بقية الكتب بالمبلغ المتبقي؟
ـ يجب أن تتصرف بالمبلغ كما أمرت به في شراء الكتب للفقراء.
صرف مبلغ التبرع:
* إحدى الأخوات أعطتني مبلغاً من المال لكي أضعه في مرقد السيدة رقية(ع)، فهل يجوز أن أوزعه على الفقراء؟
ـ لا يجوز، لأنها أمانة عندك لوضعها في مرقد السيدة رقية، إلاّ أن تحاولي إقناعها بتوزيع المبلغ على الفقراء باسم السيدة رقية.
التعامل مع الشركات الأمريكية:
* أحد مقلِّديكم يسكن في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أفتيتم بحرمة التعامل مع الأمريكان بأي شكل من الأشكال، وهو يريد العودة إلى العراق، وتطرح الآن الشركات الأمريكية عقود إعمار العراق، فهل يجوز الحصول على عقد عمل من تلك الشركات بصفة مترجم، خصوصاً أنه لا يتوفر له عمل بديل حين عودته إلى العراق؟
ـ لقد حرّمنا التعامل مع الشركات الأمريكية لأجل أن يكون لدينا وعي سياسي لمعاقبة كل من يعاقبنا، وهذا ما نراه في مقاطعة الأمريكيين البضائع الفرنسية عندما عارضت فرنسا أمريكا في الحرب على العراق، وكذلك هو حال اليهود إذا عرفوا بأن صحيفة ما أثارت موضوعاً ولو بطريقة حيادية بين العرب واليهود فإنهم يقاطعون تلك الصحيفة، أما في حالة الأخ السائل بخصوص العمل في شركات أمريكية التي تخص إعمار العراق وليس لها دخل بالجانب السياسي أو تقوية الاحتلال، وفي حالة عدم توفر فرص عمل أخرى، فيجوز له العمل في تلك الحالة.
ردّ حق الزوج:
* ما هو الحكم الشرعي في امرأة مطلّقة استلمت مبلغاً من المال وأقامت دعوى قضائية على زوجها الغائب بأنها لم تستلم ذلك المبلغ، لأنها صرفته أو أنفقته على أولادها وللمستشفى، وهي لا تعرف عنوان زوجها، فهل يكون بذمتها ذلك المبلغ أم لا؟
ـ لا يجوز لها الحلف بعدم استلام المبلغ من زوجها الغائب، ويبقى في ذمتها إذا كانت قد استلمته.
فندق مُموَّل إسرائيلياً:
* أعمل متعهِّد ديكور في بلد أوروبي، وقد اتفقت مع بعض العمّال على إنجاز ديكور لفندق، اتضح أن تمويله من قبل رجل إسرائيلي، فهل أنجز العمل أم تركه؟
ـ إذا كان الفندق للإسرائيلي أو للمتعاطين المتعاملين مع إسرائيل أو من المؤيدين لها فلا يجوز العمل فيه أو لصالحه.
شرط البائع:
* توضع في بعض المحلات لافتة يكتب عليها (المباع لا يرد ولا يبدل)، فهل هذا ملزم؟ وهل هذا مسقط لخيار المدة أو العيب أو غيرها؟
ـ هذه اللافتة بمثابة الشرط في ضمن العقد بإسقاط الخيارات، ما يجعل البيع لازماً لا خيار فيه، ولكن هذا مخصوص بصورة اطلاع المشتري على اللافتة وقراءته لها، لأن من الممكن أن لا ينتبه إليها أو لا يكون ممن يعرف القراءة.
حقوق النشر والتأليف:
* حقُّ التأليف أو حق النشر، هل لهما اعتبار مادي؟ وهل يجوز الطبع من دون إذن المؤلف أو الناشر، علماً أن الناشر يبذل المال ليحصل على موافقة المؤلف في بداية التعاقد، وكذلك يبذل المال في إعداد الكتاب؟
ـ لا يجوز الطبع من دون إذن المؤلف - بلحاظ حق التأليف - ومن دون إذن الناشر - بلحاظ حق النشر - لأن للكتاب - بمعناه العام - اعتباراً مالياً يختلف عن الاعتبار الذي كان في السابق، فإن الاعتبار القديم كان يرى المالية للجانب الشخصي للكتاب، ولذلك فإنه لا يرى في الطبع على النسخة التي يملكها الطابع اعتداءً على الملكية، لأنه لم يتصرف في مال المؤلف الذي لا يملك إلا النسخة الموجودة لديه، أما الاعتبار العقلائي الجديد فيرى المالية للجانب النوعي للكتاب، بحيث يرى أن التصرف بطبع الكتاب اعتداء على المؤلف أو الناشر، لأنه تصرف في ماله بدون رضاه، ولذلك فيصدق عليه عنوان السارق والغاصب والمعتدي. وهكذا الحال في كل ما يعتبره العقلاء مالاً بنوعيته، كالاختراع وغيره. وهذا كله ينطلق من قاعدة ثابتة، وهي أن مالية المال تختلف حسب اختلاف الاعتبار العقلائي الذي يتطور في نظرته إلى الأمور حسب تطور الأوضاع الاقتصادية في حاجاتها العامة إلى اعتبارات جديدة، ولا دليل على ضرورة الجمود على الطريقة المتعارفة في الواقع الاعتباري السابق، لأن مسألة المالية تتطور حسب تطور الحاجات التي تتحرك من خلال الاعتبارات، فقد يتحول ما لا مالية له إلى مال كالأوراق النقدية، وقد يتحول المال إلى عدمه إذا فقد الاعتبار السابق،كالعملات الملغاة والتي فقدت اعتبارها. وبعبارة أخرى، ليس دور البناء العقلائي إلا إيجاد مالية الشيء، فإذا تبانى العقلاء على كون شيء ما مالاً أصبح شأنه شأن الأموال الأخرى.
الغش في البيع:
* هل يعتبر تغيير المواصفات الخاصَّة بالبضاعة غشاً إذا كان مقابل تخفيض السعر؟
ـ الغش يتمثَّل بإخفاء الأدنى من الأعلى كمزج الجيد بالرديء، وبإخفاء غير المراد بالمراد كمزج الماء باللبن، وبإظهار الصفة الجيدة مع أنها مفقودة - واقعاً - مثل رش الماء على بعض الخضراوات ليتوهم أنها طازجة، وبإظهار الشيء على خلاف جنسه، مثل طلي الحديد بماء الفضة أو الذهب ليتوهَّم أنه فضة أو ذهب، وقد يكون بترك الإعلام مع ظهور العيب وعدم إخفائه، كما إذا اعتمد المشتري على البائع في إعلامه بالعيب فاعتقد أنه صحيح، ولم ينظر في المبيع ليظهر له عيبه، فإن عدم إعلام البائع للمشتري بالعيب مع اعتماد المشتري عليه هو غش للمشتري، فإذا كان تغيير المواصفات الخاصة بالبضاعة مع إبقاء عنوان البضاعة التي يريدها المشتري، مع إخفاء التغيير، كان غشاً محرماً، حتى لو كان السعر أقل من السعر العادي.
خطأ في الحساب:
* اشتريت من رجل بضاعة بقيمة 2500 ل.س، وعندما ذهبت إلى البيت وحسبت البضاعة فإذا هي بقيمة 3500ل.س، فهناك ألف ليرة سوري بذمتي ولا أعرف عنوان صاحبها، فما هو حكم ذلك؟
ـ عليك البحث عن صاحبها وإذا لم تعرفه فتصدّق بذلك عنه.
أخذ الأجرة على السمسرة:
* ما رأي الشرع في عمل الدلالة (السمسرة) ؟
ـ هو أمر مشروع في حد ذاته، ولكن على السمسار (الوسيط) أن يلتزم بأمانة العمل ولا يلعب على هذا أو ذاك.
إعطاء الرشوة:
* لو تابعت معاملةً كانت بحاجة إلى رشوة، فهل ذلك حلال أم حرام؟
ـ الموظف يأخذ راتباً من الدولة لإنجاز المعاملات، فلا يجوز له أخذ الرشوة، كما لا يجوز إعطاء الرشوة إلا إذا توقف أمر إنجازها على ذلك.
الشهادة لإنقاذ حق:
* شخص مؤمن له دين تجاري على آخر محتال، وقد خفّض الأول حقه بسند أمانة، وبعد سنوات لم يتمكَّن صاحب الحق من الحصول على دينه، فقدّم إلى المحكمة سند الأمانة وحصل على حكم أولي بسجن المحتال، ولكن المحتال طلب شهوداً ليثبت أن الدين تجاري وليس أمانة، فهل يصحُّ للشهود أن يشهدوا بأن المبلغ أمانة بحجة؟
ـ لا يجوز لهم ذلك باعتبار أنه ليس أمانة.
إرجاع الأملاك بالقوَّة:
* هل يجوز استرجاع الأملاك والبيوت المغتصبة والمباعة من قبل النظام السابق في العراق باللجوء إلى القوة المسلّحة عند رفض القاطنين؟
ـ قد يكون بعض الناس الذين اشتروا البيوت المغصوبة مغشوشين أو مستندين لبعض الفتاوى في زمن الشراء وما أشبه ذلك، ولكن لصاحب الملك الحق في أن يسترجع أملاكه على كل حال، لأن الاغتصاب لا يعطي أساساً شرعياً لغيره، ولكننا لا نجد الآن مصلحة في استعمال القوة، خصوصاً في الظروف الحالية في العراق، لعدم وجود حكومة شرعية حالياً.
مسؤولية العامل:
* أعمل في محل تجاري، وأنا مسؤول عن المحل، وقد أخذ بعض الأشخاص ديناً من المحل ولم يرجعه، فهل يبقى المبلغ في ذمتي أم في ذمته؟
ـ في ذمته هو، إلا أن تكون قد أقرضته وهو ليس بمستوى القرض ولم يكن بمستوى الأمانة؛ فتضمن لصاحب المحل التجاري المال، لأنّك فرّطت في حفظ أمانة المحلّ.
الشرط في المعاملة:
* رجل عملت معه بشرط أن أحصل على فطور يومي لكنه أخلَّ بالشرط، فهل يجوز لي أن آخذ مقدار الفطور بدون علمه؟
ـ لا يجوز ذلك.
إعادة حق الآخر:
* إذا أخذت شيئاً من آخر وأردت إعادته، فهل يجب عليّ أن أعلمه؟
ـ تستطيع إعادته من دون أن يعرف بأي طريقة من الطرق.
بيع حليّ الرجال:
* أعمل بائعاً للمجوهرات في آذربيجان، وهناك الكثير من الخواتم الذهبية الخاصة بالرجال والنساء والتي أبيعها يومياً، فما هو حكم ذلك؟
ـ ليس محرَّماً بيع الخاتم للرجال، ولكنه لا يجوز للرجال لبس الذهب.
عقد التأمين:
* ما مدى حلّية عقد التأمين على الحياة، وهل يعتبر من الربا؟
ـ عقد التأمين جائز وليس ربا.
البضائع المصادرة:
* أنا أعمل في محل بقالة، اشتريت بضاعةً من جهة رسمية وعلمت أنها مصادرة، فهل يجوز بيعها؟
ـ لابد لك من أن تراجع بها الحاكم الشرعي ليدرس المسألة حسب موازينها الشرعية.
حكم النقد المزوَّر:
* ما هو حكم من وقعت في يده نقود مزوَّرة، وهل يجوز التعامل بها؟
ـ لا يجوز التعامل بالنقود المزورة لأنها غش، ((من غشنا ليس منّا)).
شراء المواد المنهوبة:
* هل يمكن شراء المواد الغذائية وغيرها من الباعة، مع علمنا أنها قد تكون مسروقة من مخازن النظام الصدامي المنهار؟
ـ لا يجوز ذلك، لأن تلك المواد ملكٌ للناس.
تاسعاً: السلوك والمعاملات:
الموقف الإسلامي من جريمة الشرف:
* في بعض الأقطار العربية تكثر ظاهرة (جريمة الشرف)، والقانون لا يحاسب عليها، ما هو رأي الإسلام في هذا النوع من الجرائم؟
ـ ليس لأحد أنْ يقدم على القتل مما يسمى بجرائم الشرف، وذلك لأنَّ مثل هذه الأمور تحتاج إلى تحقيق قضائي، لأنه ربما تتهم بعض النساء بجريمة لم يفعلنها، لأنّ الذين يقومون بما يسمى بجرائم الشرف قد ينطلقون من إشاعة. ثم إن مسألة الزنا لا تقتضي الإعدام دائماً، بل إن الزانية غير المحصنة (غير المتزوجة) والزاني غير المحصن لا يقتلان، كما في قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ( )، ولذلك فإنّ الذي يقتل الزانية غير المحصنة هو قاتل مجرم؛ لأنه ارتكب جريمة يستحق صاحبها القتل. ثمّ إن إثبات المسألة قضائيّاً يحتاج إلى شهود، حتى لا يتجرأ الناس على اتهام الناس الآخرين بأعراضهم. ولابد في مسالة الزنا من توفّر أربعة شهود عدول، أي تستطيع أن تصلي خلفهم، وأن يروا فعل الزنا بكل تفاصيله الدقيقة، وكما نعلم، لا أحد يستطيع أن يرى هذا الشيء إلا نادراً.
أما مسألة إقامة الحدود فهو من اختصاص السلطة الشرعية، ولم يرخّص الله سبحانه وتعالى لأحد في أنْ يقيم بنفسه الحدود وأنْ ينفذ الأحكام. ثم لماذا تتحمل المرأة دائماً مسؤولية الشرف ولا يتحملها الرجل، كما نلاحظه في مسألة ما يسمى بالشرف؟! وفي مسألة الشرف لا يوجد فرق بين المرأة والرجل أبداً، لأنَّ الله ساوى بين الرجل والمرأة في هذه المسألة وفي تحديد عقوبتها، فكما أنّ الرجل هو الذي يسيء إلى الشرف عندما يزني، فإنّ المرأة تسيء إلى شرفها عندما تزني، ولكننا وللأسف غالباً ما ندافع عن الزاني ونقتل الزانية، هذا على طريقة أبي العلاء المعري، هذا الشاعر الكبير، والذي كان نباتياً لا يأكل اللحم، ولكنه مرض يوماً، فجيء له بالطبيب، فوصف له (فروجاً) فعندما جيء له بالفروج خاطبه قائلا:
استضعفوك فوصفوك ألا وصفوا شبل الأسد
لأنهم لا يقدرون عليه.
والأمر عندنا على هذا المنوال، لأنَّ الرجل يُوكَل له محامٍ حتى لا يُقتَل، ولكن المرأة تُقتل لأنها ضعيفة مستضعفة.. وربّما تكون هناك ظروف ضاغطة أدّت بها إلى ذلك، كالاغتصاب والضغوط النفسية وما إلى ذلك مما لا يلاحظه الأهل، لأنّهم يحدّقون بنظرة الناس إليهم بما قد يجلب لهم العار ولا ينظرون إلى عدالة المسألة. ثم إنّ هناك شيئاً أساسياً في القيمة الإسلامية، وهي أن كل إنسان يتحمّل شرفه. فلو فرضنا أن شخصاً أساء، فإنه يسيء لنفسه ولا دخل للعائلة، فيبقى شرف العائلة كما هو، فلو كان هناك جاسوس في العائلة، أو خائن، أو زانية، فإن ذلك لا يقلل من قيمة العائلة، لأنّ الخائن والجاسوس والزاني والزانية كل واحد منهم يتحمل مسؤولية شرفه، والعائلة لا تتحمل ذلك عنهم ، لأنّ الله يقول وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى فهل نكون مع الجاهلية؟! فالذي أخطأ واحد، فكيف يتحمل كل الناس الذين لهم علاقة به هذه المسؤولية، وهم لا دخل لهم بالموضوع، وليس لهم دخل فيه؟! هناك شاعر يعبّر عن هذه الحالة بقوله:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم فكأنني سبابة المتندم
لأنّ المتندّم يعضّ سبّابته، وهي لا دخل لها في ما فعل.
لذلك كل ما يسمى بجرائم الشرف هو جريمة يتحملها الذين يحكمون فيها من القضاة، وتتحملها القوانين التي تخفف من هذا الموضوع، والإسلام فوق كل هذه التقاليد والعادات، ويريد منّا أنْ نلتزم بأحكامه ومفاهيمه.
الثأر للقتيل:
* شخص قتل شخصاً آخر، والحاكم الشرعي غير موجود كما هو معروف في مجتمعاتنا، وما من أدلة على تعدي وظالمية القاتل، فهل يجوز الأخذ بالثأر، مع العلم أنّ المجتمع يجعل العار بأهل المقتول في حال عدم الأخذ بالثأر؟
ـ أولاً: هذا مما يجب أنْ يتم إثباته عند الحاكم الشرعي ووفقاً للأصول القضائية. إنّ الإسلام أعطى فرصة للعفو وفرصة للدية، وليس المهم أنْ ننظر إلى المسألة من زاوية العار، وإنما ننظر إلى عار الآخرة لا إلى عار الدنيا، وكلّنا نسمع الكلمة المنسوبة للإمام الحسين(ع): ((الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار)) أترك الناس تتكلم، المهم أنّ الله يرضى أو لا يرضى؟! إنّ هذا المنطق لدى أولئك هو منطق الجاهليّة.
المركز الشرعي لولد الزنا:
* هل هناك رأي فقهي يرى أنَّ ولد الزنا لا يستطيع أنْ يكون إمام الصلاة أو يتولى منصب القضاء؟
ـ هناك بعض الأحاديث الواردة في هذا المقام، وإن ناقشها البعض أخيراً، وهي تمنع أن يكون قاضياً أو إماماً، وعلى كل حال، فهذا ليس انتقاصاً منه، ولكنه من أجل حماية قيمة المركز حتى لا يتعرّض لسوء بحيث يفقد الناس احترامه.
الاضطرار في الوظائف:
* أنا معلّمة، وكنت أمارس مهنة التدريس تحت ظل نظام صدام، وكنت أضطر لكي أمتدح الطغمة الفاسدة، وأنا الآن أنوي العودة إلى ممارسة مهنتي، ما مدى مصداقيتي تجاه تلاميذي؟ وهل أترك هذه المهنة حفاظاً على ماء وجهي أمامهم؟
ـ من ناحية شرعية، فقد ورد ((ما من شيء إلاّ وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه))، يعني إذا كنت ترين نفسك في حالة اضطرار وخوف على الحياة أو ما شابه ذلك، فأنت معذورة شرعاً في هذا المجال، والمهم أنْ لا يكون الإنسان ظهيراً للمجرمين وولياً لهم، إلاّ في حالة التقيّة منهم والخوف على النفس. لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ الله فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً( ). أما قضية كيف يمكن أن تتحدثي مع طلابك، فإنّ من الممكن أن تشرحي لهم تلك الظروف.
حكم تمثيل دور الأنبياء(ع):
* ما حكم الشارع في تمثيل دور الأنبياء(ع) في حركاتهم وأفعالهم بدون حجاب نوراني – ضوء مثلاً – في الأفلام والمسلسلات، وهذا ما تم في فيلم إيراني، حيث مثلت فتاة دور مريم(ع) بوجهها كما هي، ومثَّل الشيخ المسن دور زكريا(ع)؟
ـ هناك خلاف فقهي بين كثير من الفقهاء السُنّة والشيعة، فهناك رأي يمنع تمثيل دور الأنبياء(ع) أو الصحابة أو الأئمة(ع)، لأنّ ذلك يؤدي إلى هتك حرمتهم والإساءة إلى الصورة التي يحملها الناس عنهم في هذا المقام، وهناك رأي آخر يجيز ذلك، لكن بشرط أن لا تكون الصورة مؤدية إلى الإساءة إلى مكانة هذا الشخص الذي يمثله هذا أو ذاك.
حبوب التجميل:
* هنالك حبوب تسمى خميرة البيرة تتعاطاها النساء من أجل تجميل بشرة الوجه، وذلك أنْ تأخذ ثلاث حبات كل وقت صباحاً وظهراً ومساءً، فيصل العدد إلى تسع حبات يومياً، ترى هل هناك وجهة حرمة لأن لها علاقة بالبيرة من ناحية التسمية، علماً أني لا أعرف تركيبها الطبي؟
ـ إنّ البيرة محرّمة نتيجة احتوائها على المسكر والكحول وليس من جهة الاسم، ولذلك فإنَّ البيرة التي تخلو من الكحول يجوز تناولها. أما مجرّد النسبة إلى البيرة فلا مشكلة في تناولها واستعمالها، لأنّ مجرد الاسم لا يعني الحرمة من دون أنْ تكون فيه خصوصية ذلك الاسم.
النظر إلى الربيبة:
* ابنة الزوجة تحرم على زوج الأم حرمة أبدية. السؤال هل لهذه الابنة أن تُخرج مفاتنها أمام ذلك الزوج، وهل في الأمر كراهة؟
ـ يقول الله سبحانه وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ( )، أي ابنه الزوجة المدخول بها، فيصبح زوج أمها من محارمها، أما قضية النظر، فإنه يجوز النظر إليها بشكل طبيعي، ولكن ليس بالشكل الذي يؤدي إلى نوع من الإغراء والإغواء ووصول الأمور إلى درجة غير مقبولة، لأنه قد يكون في بعض الحالات عند أب البنت النسبية حالة غير أخلاقية، ومع الأسف، نسمع هذه الأيام كثرة حالات اعتداء الأب على ابنته واعتداء الأخ على أخته واعتداء الزوج على ابنة زوجته وما إلى ذلك.
الشروع في القتل:
* قد يقصد إنسان القتل لآخر، فلا يصيبه أو يجرحه ولا يقتله، عن طريق الصدفة، فكيف نحمي المجتمع منه، مع أنه يحمل كل عوامل الاعتداء والجريمة على المجتمع والصدفة هي التي أبعدته عن الوقوع في الجريمة؟
ـ هنا لا يُقتّل كما هو مفروض السؤال، لأنه لم يقتل، ولكن يعاقب على أساس تعديه وعلى أساس ما قام به، فكل شيء له عقوبة بحسبه.
عدم تطبيق حكم الإعدام:
* إذا كان الإعدام حكماً إسلامياً شرعياً، فلماذا ـ كما علمنا ـ لا تطبِّق الحكومة الإسلامية في إيران ـ مثلاً ـ هذا الحكم في حالات القتل وغيره؟
ـ مسألة التطبيق منفصلة عن النظرية، وقد يمنع من التطبيق الوضع الدولي، كما هي حالات الضغط على الدولة الإسلامية أو حالات أخرى تمنع من ذلك، ونحن نعلم أن الحكومة الإسلامية في إيران تطبق قانون الإعدام بشكل دقيق بارز.
عدم تدارك خطأ القاضي:
* بالنسبة لموضوع الندوة، ذكرتم أن احتمال عدم تدارك القاضي لخطئه وارد في الحكم على القاتل بغير الإعدام، لكن ألا ترون أن درجة احتمال عدم تدارك القاضي لخطئه وعدم انكشافه له ضئيل جداً في مقابل النسبة الاحتمالية لعدم تدارك القاضي الذي حكم بالإعدام وانكشف خطأه؟
ـ من قال بأنه ضعيف جداً، فلو فرضنا أننا أردنا أنْ ندرس حالات الإعدام التي أخطأ فيها القاضي، فلا يوجد عندنا إحصائية تقول إن حالات تدارك الخطأ في قضاء السجون أكبر مما هي في حالات الإعدام، وكذلك الأمر بالنسبة للأمور الأخرى؛ لأن الحكم بأنّ هذا الاحتمال ضئيل وذاك الاحتمال قوي يحتاج إلى عملية استقراء واسعة. المشكلة هي أن المبدأ واحد في الخطأ، وهو أنّ القاضي يعتمد في حكمه على المعطيات القضائية، وهذه المعطيات ليست معصومة.
حدود الغيبة:
* ما هي حدود الغيبة؟
ـ المقصود بالغيبة ذكرك أخاك بعيب مستور، وربما يضيف بعض الفقهاء إليه قيد ((تريد به هتك حرمته وهدم مروءته)).
الأمن المائي:
* نتمنَّى أنْ تحدّثونا عن الأمن المائي في ضوء الكتاب والسُنّة؟
ـ عندما ندرس المفردات الموجودة في الكتاب والسُنّة، نجد أنَّ الله قد أعطانا فكرةً عامّة عن أهمية الماء وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ( ). وأنَّ الله أنزل الماء وسلكه ينابيع في الأرض لنفع الإنسان كلّه، وعندما ندرس المفردات الإسلامية الأخلاقية التي تنهى عن الإسراف حتى في فضل الشراب، نرى أنها مفردات صغيرة، لكننا نستطيع أن نفهمها في ضوء التخطيط الإسلامي لحركة الطاقات في الحياة.
فالله سبحانه وتعالى لا يريد أن يطغى جانب على جانب أو فئة على فئة أخرى، وهو القائل سبحانه: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ( ) بكل ما فيها، ولا نريد الآن أنْ نستنتج من ذلك حكماً شرعياً، كما يحاول البعض القول إنّ الأرض مشاع للناس أجمعين، فهناك تفاصيل فقهية ليس هنا مجال البحث فيها، لكننا نستوحي من ذلك أنَّ الله خلق الكون للإنسان كلّه، فلا يمكن لإنسان من الناحية الأخلاقية أنْ يصادر الأمن المائي بأن يمنع الناس من الماء الذي يستغني عنه.
وقبل أن يصبح الماء مشكلةً في مجتمعاتنا، كان الحديث الشريف يقول: ((الناس شركاء في ثلاث: النار والماء والكلأ)). فلا يجوز لأحد أن يحرم إنساناً من ماء يستغني عنه، فللمياه أحكامٌ في الإسلام. إنّ العنوان الأولي أو العنوان الثانوي قد يجعل الأمن المائي كالأمن السياسي والأمن الاجتماعي والأمن الغذائي، الذي لا يجوز لأحد أنْ يسقطه إذا كان يترك تأثيراً سلبياً شديداً على حياة الناس.
هل الحجاب اجتهاد فردي؟!
* يقول أحد الكتّاب: (إن الحجاب بشكله الحالي هو مسألة اجتهاد فردي، وإنّ من حق النساء الأخذ برأي أيِّ من المجتهدين ونزع غطاء الرأس من دون أن يكون في ذلك مخالفة لنصوص اللّه). فماذا ترون؟
ـ إذا كان ما يقوله بأنه اجتهاد فردي في الحكم بوجوب الحجاب، فنحن نقول بأن اجتهاده في كلمته هذه اجتهاد مزاجي، فقضية الحجاب هي من القضايا الشرعية في رأي الذين يرون الحجاب، ولا أظن أنَّ هناك من علماء وفقهاء المسلمين السُنّة والشيعة في الماضي وفي الحاضر من لا يرى الحجاب واجباً. نعم، هناك بعض الناس ممن يحاول أنْ يتفلسف في هذه الأمور، ولذلك نقول لهذا الكاتب: إذا كنت تقول بأنه اجتهاد فردي، فماذا عندك من وسائل الاجتهاد حتى تناقش المجتهدين لتثبت خطأهم؟ وما هي حجّتك على أنَّ اجتهادهم فردي نابع من الذات لا من الدليل؟
النذر بالنيابة:
* هل يجوز النذر بالنيابة عن شخص إذا جازت لشخص آخر أن ينذر عنه، فإنه يقول: للّه على فلان نذر؟
ـ النذر لابد أنْ يكون من الشخص نفسه.
تولي القضاء في محاكم غير إسلامية:
* هل العمل في القضاء بصفة قاض في المحاكم الشرعية حرام، باعتبار أنه حكم غير إسلامي بغير ما أنزل اللّه؟
ـ من حيث المبدأ لا يجوز، لكن قد تأتي بعض العناوين الثانوية التي قد تجوِّز ذلك بحدود معينة.
الأوراق التي تحمل أسماء اللّه:
* ماذا نفعل حينما نرى في الأرض أوراقاً كتب عليها من القرآن؟ وهل يجوز حرقها؟
ـ ورد عندنا أنه لا يجوز حرق الآيات القرآنية، بل لابد من إتلافها بالتلاّفة أو ما أشبه ذلك.
شعار (الجدل حرام):
* يُطلق شعار (الجدل حرام)، فما هو الفرق بينه وبين الجدل المحلل؟
ـ من قال بأنَّ الجدل حرام؟ فاللّه سبحانه وتعالى يقول: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ). فالجدل الحرام هو الجدل بالباطل وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ( )، أو الجدل بما لا يملك الإنسان معرفته، هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ( ).
حكم ربطة الحرير:
* هل لبس ربطة العنق (الكرافات) من الحرير محرّم؟
ـ يحرم لبس الحرير الخالص بالنسبة للرجل، ولا بأس بما يكون ممزوجاً بغيره بنحو يكون الغالب غير الحرير، أو كان مما لا تتمّ الصلاة به كربطة العنق ونحوها.
ملابس الشباب:
* كلنا نعلم أن الأحكام الإسلامية بين الذكر والأنثى لا تختلف، فماذا لا ينتقد الشباب المسلم على ملبسه الذي يصاحب الموضة، والذي يثير عند الفتاة المسلمة الانجذاب، وكذلك العطر والكوافير، في حين أن الفتاة المسلمة محرم عليها كل هذا؟ وهل يحل عليه لبس الملابس الضيقة؟
ـ نقول إن الرجل إذا كان ملبسه يمثل حالة إغراء، فقد يُحدث حالة إغراء للرجال والنساء، كما في حالات الشذوذ وزواج الشاذين بعضهم ببعض، كما في التشريعات الغربية، فإنه إذا وصل الأمر إلى حد بحيث يثير فساداً في المجتمع أو إلى حدّ الإغراء فيكون محرماً، وكذلك بالنسبة للمرأة من حيث التبرج ومن حيث الإغراء والإغواء معاً، لأن الإسلام يريد للمرأة والرجل أن يعيشا في المجتمع عيشاً إنسانياً بعيداً عن العنصر الجنسي للرجل والمرأة، إلاّ في الإطار الخاص بذلك ضمن عقد الزواج مثلاً.
ارتداء المرأة البنطال:
* ما هو رأي الشرع في ارتداء المرأة البنطال الرجالي؟ وهل يختلف الحكم لو كان تحت العباءة؟
ـ تحت العباءة ليس محرماً، وحتى فوق العباءة إذا كان ساتراً ومحتشماً ويصدق عليه أنه حجاب، وهذا ممّا قد يختلف في استلزامه الإثارة وعدمه حسب اختلاف المجتمعات، ولا بدّ من مراعاة ذلك.
حول تغطية الوجه:
* في مسألة الحجاب، لماذا يُشار إلى تغطية الشعر فقط، بينما قد تكون فتنة الوجه أكبر من الشعر؟ وهل هناك زي إسلامي للمرأة متفق عليه بين الفقهاء؟
ـ بالنسبة إلى الوجه واليدين فهما من ضرورات الحياة الإنسانية في حركة الإنسان في تنقّلاته وتلبية حاجاته مما يحتاج فيه إلى العين التي تبصر واليد التي تبحث وتفحص وتمسك، وقد فُسِّرت الآية وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا( ) بأنّ المقصود من الزينة الوجه والكفّان، وفي بعض الروايات جواز إظهار القدمين أيضاً، والنبي(ص) كان يستقبل النساء ويرى وجوههن، وأكثر من ذلك كان(ص) يُخرج بعض النساء معه في الحرب لمداواة الجرحى وسقاية العطشى، فكيف يكون ذلك إذا كنّ منقّبات، ولكن البعض منّا يمارس التقاليد ولا يمارس الأحكام الشرعية في ذلك، فهذا حكم شرعيّ كأيّ حكم شرعي آخر، وإذا كان البعض يُفتتن بالوجه فعليه أن يغضّ النظر؛ لأنّه لا يجوز له النظر بريبة وشهوة حتى بالنسبة إلى من يجوز النظر إليهنّ كالمحارم، ولا يُراد من التشريع عزل الناس بالكامل عن بعضهم البعض لأجل ذلك، بل يُراد لهم ممارسة حياتهم الطبيعية في نطاق الضوابط الأخلاقية.
حكم الفاكهة المُعرَض عنها:
* هناك خضر وفواكه توضع خارج الجمعيات الاستهلاكية عند اقتراب مدة انتهاء فترة صلاحيتها للبشر، فهل يجوز الاستفادة منها وأخذها؟
ـ نعم، يجوز الاستفادة منها إذا تمَّ الإعراض عنها من الجمعية، ولم تكن مضرة بصحة البشر أو لاستخدامها الحيواني.
طبخ الذبيحة مع أجزائها المحرّمة:
* ما حكم الذبيحة إذا طبخت وفيها أجزاء محرَّم أكلها مثل الطحال، فهل يجوز أكل بقية الأجزاء وترك المحرّمة منها؟
ـ نعم يجوز أكلها بعد إزالة الأجزاء المحرَّم أكلها، لأنها غير نجسة.
اللحوم في المطاعم اللبنانية:
* ما هو حكم اللحوم في المطاعم اللبنانية التي يؤمها الزائرون في رحلات سياحية بواسطة مكاتب السفر السياحية في منطقة السيدة زينب(ع)؟
ـ بعض مطاعم لبنان يشرف عليه المسلمون، ومنها ما يُشرف عليها غير المسلمين، فيجب أن يسأل المسافر عن ذلك، لأنّه لا يجوز أكل اللحم المشكوك التذكية.
العمل مع الفتيات مع خوف المعصية:
* عامل مسلم يعمل مع فتيات ويخاف الوقوع في المحذور، رغم أن الدخل المادي جيد لذلك العمل، فهل له البقاء في ذلك العمل أم تركه رغم صعوبة الحصول على عمل آخر؟
ـ إذا لم يستطع أن يعصم نفسه من الوقوع في الحرام، فعليه أن يوفِّر على نفسه غضب الله، واللّه خير الرازقين، ويبحث عن عمل آخر، وعليه أن يجاهد نفسه ويفكّر في النتائج السلبية في سخط الله عليه بارتكاب المحرّم.
حكم الحشيش:
* ما هو حكم الطعام المطبوخ في بعض المناطق بقليل من الحشيش؟
ـ لا يجوز ذلك، ومع الأسف أنه في بعض المناطق الإسلامية يروج البعض للمخدرات. إنّ مثل هذه الأمور التي تجري في البلاد تشكّل خطراً على الشعب المسلم كما هو خطر الاحتلال، فالمخدرات هي وسائل قوى الاستكبار لتدمير الإنسان.
مسؤولية الآباء:
* هل تتم محاسبة الفتاة عند بلوغها سن التكليف الشرعي في بعض الأمور الشرعية، كارتداء الحجاب، علماً أنها ليست مدركة لأهمية تلك الأمور؟
ـ على الإنسان محاولة إيصال الواجبات الشرعية بطريقة لبقة ورحيمة.
الدفاع عن الأوطان:
* هل يعتبرون شهداء شرعاً من يضحُّون في سبيل الوطن، أم أنه لا يصحُّ تضحيتهم إلاّ إذا كانت نيتهم خالصة في سبيل اللّه سبحانه وتعالى؟
ـ يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة ((إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى)) كما ورد في الأحاديث الشريفة، ويقال إن شخصاً قتِل في بعض حروب النبي(ص)، فقالت عنه أمه أو إحدى قريباته (هنيئاً له الجنّة)، فقال الرسول(ص): وما يدريك أنه في الجنة؟ فأجابت المرأة أنه شخص قُتِل بين يديه في معركة من معارك الإسلام، فكيف لا يكون في الجنة؟ فقال(ص): اسألوا عنه علام كان يقاتل؟ فقيل له: سمعنا أنه كان يقول إننا نقاتل على الأحساب، أي عصبية قومه، فقال(ص): إنه في النار.
الاختلاط مع النساء في الزحام:
* في حالة الزحام بين امرأتين، هل يجوز التوسط بينهما من شخص ثالث غريب؟
ـ لابد أن يحاول الإنسان عدم التأثر بإحاطة المرأتين حوله بما لا يرضي اللّه سبحانه وتعالى فمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ).
وضع المكياج في شهر رمضان:
* هل يجوز للمرأة وضع المكياج في البيت خلال شهر رمضان؟
ـ ليس محرماً وضع الزينة للمرأة داخل بيتها وبعيداً عن أنظار الأجانب.
حكم استعمال الكمبيوتر والإنترنت:
* نرجو توجيه سماحتكم لمستخدمي جهاز الكمبيوتر والإنترنت وجهاز الستلايت وتأثيرها على الشباب المسلم، وكيفية التوفيق بين استخدامها الإيجابي والسلبي ؟
ـ على الإنسان المسلم عند استخدام تلك الأجهزة أنْ يعرف الحلال والحرام، فيتجنب استعمالها في الحرام، ويستخدمها في المعرفة والعلوم والثقافة.
حمل الخمر جهلاً:
* أحد الأشخاص حمَّل بعض المؤمنين خمراً دون علمهم، فما حكم الشرع في هذه القضية؟
ـ إذا كان ذلك دون علمهم فليس عليهم شيء.
حلق اللحية:
* بالنسبة لحلق اللحية، هل يعتبر حالقها فاسقاً؟
ـ على رأي السيد الخوئي رحمه الله لا يعتبر فاسقاً بمجرّد حلق لحيته، لأن هناك موارد يجوز فيها حلق اللحية، وهي موارد الحرج والضرر، على أنّه رحمه الله يحتاط وجوبياً ولا يفتي بالحرمة، ولا سيّما في موارد الحرج. وأما إذا قلنا إنه لا يحرم حلقها فلا يفسق قطعاً.
تغذية المواشي:
* هل يعتبر محرَّماً أكل لحوم المواشي أو الدواجن التي لا تأكل من المراعي الطبيعية، بل تتغذى من الأزبال واللحوم الميتة؟
ـ في حالة احتمال حصول حالة مرض – مثل جنون البقر – عند تلك الحيوانات بسبب تلك الأغذية الرديئة أو العدوى، فأكلها محرّم لأنّها تضرّ بالإنسان. وهناك رأي باجتنابها إذا كانت تتغذّى بالنجاسات، حتّى لو لم تستتبع ضرراً، وهناك من يخصّ الحرمة باغتذائها بالعذرة.
التعامل مع غير المسلمين:
* نحن نعيش في بلدان الغرب التي فيها ندرة العوائل الملتزمة، ولكن نجد عدداً لا بأس به من العوائل المسيحية التي تمتلك عادات أفضل من بعض العوائل المسلمة، ولكن المشكلة أنهم غير موحِّدين، ولكنهم يعترفون بديننا والتزامنا الديني، فما رأيكم بمسألة تناول الطعام وما يسببه من إحراج لنا؟
ـ لا مانع من العيش مع الآخرين والأكل من طعامهم، إلا ما حرّمه الإسلام بالنص، كلحم الخنـزير، ويمكن توضيح تعليمات الدين لهم.
حل الخصومة بالصلح:
* متخاصمان يريد أحدهما الصلح بينما يرفضه الآخر، فهل يأثم الطرف الأول؟
ـ كلا، لا إثم عليه، لأنه أدَّى ما عليه من طلب الصلح الذي شجّع الله عليه
المؤمنين، باعتبار أن الصلح خير.
نظام العقوبات في الإسلام:
* ما هو ردكم على من يقول إن نظام العقوبات في الإسلام وضع لمرحلة معيّنة وباب الاجتهاد يبقى مفتوحاً لإنشاء عقوبات متناسبة مع الحياة المعاصرة؟
ـ سنتحدث إن شاء الله في ما نستقبل من حديث حول هذا الموضوع. واختصاراً نقول، إنّ مسألة التطوّر لا تعني أنّ العقوبات محدودة بزمن معيّن، ولا تعني أنّ التطوُّر استطاع أنْ يتجاوز هذه العقوبات، فهذا كلام غير صحيح، وإن الإعدام لا يزال هو العقوبة التي يمكن أن تمنع الجريمة بنسبة كبيرة.
مسؤولية الولي عن الصغير:
* إذا أحدث الصبي ضرراً للغير، فهل يحق للمتضرر أن يقاضي ولي الصغير ويستوفي حقه منه؟
ـ إذا كان ولي الصغير مهملاً للصغير بحيث يؤدي إهماله إلى حصول الضرر للآخرين، فيمكن مقاضاة ولي الصغير بذلك الضرر.
تسليم الأطفال إلى أهلهم:
* هل تأثم المرأة المطلَّقة إذا امتنعت عن تسليم أطفالها إلى أهل مطلقها؟
ـ إذا انتهى زمن الحضانة للطفل، فعلى المرأة المطلقة أن تعيده لأبيه، أما بالنسبة لتسليم الطفل إلى أهل أبيه، فليس واجباً عليها ذلك، إلا إذا أراد الأب ذلك.
الإجحاف بحق العامل:
* هل يأثم صاحب العمل إذا تسبّب في ترك العامل عمله في حالة إهانته؟ وكيف ينتصف العامل المظلوم من الظالم؟
ـ كل إنسان يظلم إنساناً آخر ويضطهده ويأكل حقّه فهو مأثوم، أما كيف ينتصف العامل لمظلوميته، فيجب معرفة نوع الظلم الذي لحق به أولاً.
قطع شجرة في المقبرة:
* هل يجوز قطع شجرة في المقبرة؟
ـ إذا كانت مثمرةً أو يتفيأ في ظلالها الناس، فلا يجوز قطعها.
حكم النذر:
* هل النذر أمرٌ مستحبّ، وهل له تأثير في تسهيل المطلب؟
ـ النذر هو نوع من أنواع التقرّب إلى لله تعالى، مثلما تقول: لله عليّ نذر كذا إذا قضى الله حاجتي كذا، لأن فيه نوعاً من الاستشفاع إلى الله سبحانه وتعالى.
تقديم السجائر في مجالس الفاتحة:
* يسأل بعض مقلديكم عن تقديم السجائر المتعارف في إقامة مجالس الفاتحة، وقد أفتى سماحتكم بحرمة التدخين؟ ويقال إن عدم تقديم السجائر يعني البخل؟
ـ هل الحفاظ على صحّة الناس بخل؟! لو فرضنا أنّ المسألة كانت مخدرات، فهل يعني عدم تقديمها للشباب بخل؟! والتدخين هو مثل سموم المخدّرات، ويسبب سرطان الرئة والفم والحنجرة، ومسألة مكافحة التدخين أصبحت عالمية لتأثيراتها السيئة على الصحة العامة، حتى في أوروبا وفي البلاد الغربية عموماً يمنعون التدخين في الأماكن العامة، وربما يتجه العالم إلى تحريم التدخين كتحريم المخدّرات، ويمكن أن يتم تقديم القهوة والشاي بدلاً من السجائر في الفواتح.
حق الأخ على الأخت:
* هل هناك حقوق شرعية للأخ على أخته البالغة، كمنعها من الخروج أو الدراسة؟
ـ الأخت البالغة الرشيدة مستقلة بنفسها كالبالغ الرشيد، ولكن ربما يخاف على أخته من أصحاب السوء أو الانحراف، وليس من باب الشعور بأنها ناقصة، حتى بالنسبة للأب، فإن بعض العلماء يحتاطون باستئذان الأب بالنسبة للبالغة الرشيدة، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ( ).
فائدة زيارة الموتى:
* هل إن زيارة القبور كل ليلة جمعة يستفيد منها الموتى، أم علينا قراءة الفاتحة لهم فقط؟
ـ زيارتهم من باب الدعاء وقراءة القرآن والفاتحة لهم، وهناك قول بأن اللّه يكشف عن الميت، ولكنّ المسألة ليست بهذا الوضوح.
كفّارة الغيبة:
* شخصٌ اغتاب شخصاً آخر، ولم يستطع أن يعتذر منه أو يقول له ذلك، فهل يمكن أن يدفع الصدقة بدلاً من ذلك أو أن يقوم بالأعمال الخيرية باسم ذلك الشخص للاستغفار؟
ـ يستغفر اللّه له، وكما نقرأ في دعاء يوم (الاثنين) في (الصحيفة السجادية): ((اللهمَّ، وأيما عبد من عبيدك أو أمَة من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في نفسه أو في ماله أو في عرضه أو في أهله وولده، أو غيبة اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حميّة أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، حيّاً كان أو ميتاً، فقصرت يدي وضاق وسعي عن ردّها إليه والتحلل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته ومسرعة إلى إرادته، أن ترضيه عنّي بما شئت، وتهب لي من عندك رحمةً، إنه لا تنقصك المغفرة ولا تضرك الموهبة يا أرحم الراحمين)). فاللّه سبحانه وتعالى لا يغلق باب التوبة لمن أراد التوبة، واللّه غفور رحيم.
العمل في مزارع لصنع الخمر:
* ما حكم العمل في مزرعة فيها أشجار يصنع من ثمارها الخمر؟
ـ ذلك العمل ليس محرماً ويقع الحرام على من يصنع الخمر.
حق المارة:
* ما هو حق المارة؟ وما هي شروطه؟
ـ يجوز للمار على الأشجار المثمرة أن يأكل منها شرط أن لا يحمل معه شيئاً منها، على أن لا يكون دخوله إليها بقصد الأكل منها، وأن لا يكون مروره على أرض لا يجوز له الدخول إليها.
الرسم على وجوه الأطفال:
* هل يجوز أن نرسم على وجوه أطفالنا للتمويه، كوجوه الحيوانات أو أي شيء آخر لمناسبة العيد أو لأي مناسبة أخرى، كما يفعل الكثيرون هنا في الغرب لأطفالهم؟
ـ لا مانع من ذلك بالنسبة للأطفال غير البالغين، ولكننا لا نشجع على ذلك، لأن علينا تربية أطفالنا على العادات الحسنة المتناسبة مع أوضاعنا الاجتماعية الإسلامية.
ذباحة المرأة:
* هل يجوز للمرأة أن تذبح دون استقبال القبلة؟
ـ لا فرق بين الرجل والمرأة في الذباحة، فكما تجوز الذباحة للرجل، كذلك تجوز للمرأة، ولكن مع توفّر الشروط الشرعية من التسمية والتوجيه نحو القبلة وما إلى ذلك..
الإعلان عن براءة الذمة:
* هل يجب طلب براءة الذمة وقول الحقيقة لمن كذبت عليه، أم تكفي التوبة عن الكذب والدعاء للمكذوب عليه؟
ـ يكفي الاستغفار والدعاء.
حق المربية:
* أمي ولدتني ولم تربني وقد ربتني عمتي، فهل أطيع أمر عمتي أم أمر أمي، خصوصاً إذا كان هناك اختلاف في رأيهما؟
ـ إن الله سبحانه وتعالى أوصى بالوالدين فقال: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ وقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا..( )، ما يوحي بأن تربيتها لك وأنت في رحمها، وفي حضانتها وإرضاعها لك يمثل أقسى أنواع التربية التي لابد لك أن تبرها بسببها… وأما عمتك فلها عليك حق الإحسان، والله تعالى يقول: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ( ).
استثناء من الجهر بالسوء:
* إذا شكا لي صديق شخصاً قد ظلمه و لم أستطع مساعدة صديقي، فهل يحق لي أن أسمع كيف ظلمه؟
ـ نعم، لأن لصاحب الحق مقالاً. ويقول الله سبحانه وتعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ( ) ولكن الأحوط أن يذكر المظلوم ظالمه بالسوء الذي ظلمه به عند من يرجو قدرته على دفع ظلمه عنه.
المراسلة عبر الإنترنت:
* أود أن أسأل سماحتكم فيما إذا كانت المراسلة بين الرجل والمرأة عن طريق الإنترنت حلالاً أم حراماً؟
ـ إذا كانت لغرض عملي أو ديني، وكانت بعيدةً عن الأجواء المثيرة فلا حرمة عندئذ، ولكننا لا ننصح بذلك، لأنها قد تؤدي - بفعل الأجواء الحميمة - إلى ما لا تحمد عقباه، وقد تخضع بعض النساء للإغراءات في الزواج أو في علاقات غير شرعية من خلال بعض أساليب التخاطب.
الإيمان بالأرقام:
* بالنسبة إلى علم الأرقام وارتباطه بحركة الكواكب، هل هذا العلم موجود، وهل ممارسته والأخذ به جائز؟
ـ أظن أن الاكتشافات الحديثة والتطور العلمي تجاوز علم الأرقام وما إلى ذلك، وأما الأخذ به فهو لا يجوز إذا نسب إليها التدبير والتأثير.
الموقف من الطفل المميَّز:
* عائلة فيها فتيات ومعهم طفل مميز، وأنصحهم دائماً أن يستتروا أمامه، فيرفضون ذلك، فكيف التعامل؟
ـ إذا كان الطفل المميز غريباً عنهن فعليهن أن يستترن أمامه بما يضمن عدم التكشف على الأحوط.
تحديد مفهوم الحرب الابتدائية:
* ما معنى حرب ابتدائية؟ وقلتم إن النبي(ص) كانت حروبه دفاعية، فهل يوجد في الإسلام حرب ابتدائية؟
ـ الحرب الابتدائية ربما تكون وقائية أو لأجل نشر الإسلام بالدعوة، وذلك عندما يقف الآخرون ضد نشر الإسلام، ولذلك تفاصيل خاصة.
حكم البنطلون للنساء كحجاب شرعي:
* ما هو حكم لبس البنطلون للنساء؟
ـ الواجب الشرعي للنساء التستر والحشمة بما لا يسبب الإثارة. ولذلك لا بد من دراسة المسألة في موضوع السؤال على حسب هذا المقياس الشرعي.
السفر لحضور الأعراس المختلطة:
* هل يعتبر السفر للمشاركة في الأعراس الشعبية المختلطة بالمحرمات سفر معصية؟
ـ إذا كانت تلك المشاركة في أعراس مختلطة بالمحرمات فتعتبر سفر معصية.
تشييع المرأة الجنازة:
* هل يجوز للمرأة السير خلف الجنازة والدخول إلى المقبرة وحضور مراسم الدفن؟
ـ ليس حراماً، ولكنه غير مستحب، لا سيما إذا خضعت لعاطفتها ومشاعرها الخاصة في أسلوب الإثارة الذي يُخرج الجو الجنائزي الروحي عن طبيعته الروحية الباعثة على التأمل والتذكّر والانفتاح على الآخرة في خط التقوى وحساب النفس.
مسّ اسم الجلالة:
* ما حكم مسّ لفظ الجلالة باللغة الإنكليزية بدون طهارة؟
ـ يحسُن الاجتناب عن ذلك.
آلات اللهو:
* ما حكم العامل المسلم في مقهى أكثر زبائنه يطلبون لعبة (الدمينو) و (الطاولة) و(الشطرنج)، فهل هي محرمة، مع ملاحظة الحالة الاجتماعية وإلحاح الزبائن؟
ـ رأينا هو جواز اللعب بتلك الآلات من دون رهن، ولكن الكثيرين من المراجع يقولون بحرمة اللعب بآلات القمار، ولاسيّما الشطرنج ولو من دون رهن، والإنسان يتبع مقلده في هذه المسالة.
العمل في مطعم:
* ما حكم العمل في مطعم يرتاده بعض الأشخاص وبعضهم دائماً يكفر باللّه ورسوله؟
ـ إذا لم تكن قادراً على أن تنهاه، فليس عليك شيء من الإثم.
الدليل على حرمة التدخين:
* نرجو توضيح استدلالكم في حرمة التدخين؟
ـ أولا: لجهة أن الإضرار بالجسد هو أمر يحكم العقل بقبحه، ففي أيام الشتاء مثلاً، إذا خرج الإنسان في الجو البارد - بقصد إيذاء نفسه - وأصيب بالحمى، فإن العقل يحكم بقبح هذا الفعل، وكذلك يحكم العقلاء بقبحه. وعليه، فإن الإضرار بالجسد بنحو ما قبيح عقلاً وشرعاً، لأن كل ما يحكم العقل بقبحه فإن الشرع يحكم بقبحه.
وثانياً: فإننا نستدل بقوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا( )، فاللّه سبحانه وتعالى حرّم الخمر والميسر لأن ضررهما أكبر من نفعهما، فالنتسائل: ما هو نسبة الضرر في الدخان 10% أم 90%، فكيف يمكن الإقدام على مثل هذا الضرر، فلو قال أحدهم إنه يريد الدخول في عمل فيه خسارة 90% وربح 10%، فما هو رأي العقول فيه؟ فالذي يرتكب عملاً ضرره 90% لأنه تعوّد عليه فهل هذا من العقل في شيء؟! ولكن مزاج بعض الناس أهمّ عندهم من حياتهم. ثم إنه في رأي أكثر العلماء يرون حرمة الإضرار البالغ بالجسد، ولو أن بعضهم يقول إن الضرر إذا لم يصل إلى حد التهلكة فليس حراماً، ولكن أجمع الأطباء على أن الدخان يؤدي إلى التهلكة ولو بعد حين، لأنه المسؤول عن سرطان الرئة واللثة والفم والحنجرة.
السباب في النقد:
* هل يجوز الشتم والسباب في الانتقاد؟
ـ لا يجوز ذلك.
أكل (القريدس) و(الكافيار):
* هل يجوز أكل القريدس والكافيار؟
ـ لا مانع من ذلك.
حكم التصويت:
* هل إن الأكثرية والتصويت بالأغلبية تمنح الشرعية لمن ينالها؟
ـ إن الأكثرية لا تُمثِّل شرعية بعنوان أنها حق، ولكن عندما يراد معرفة آراء الناس وتكون المصلحة في أخذ قرارات الناس بهذا الاعتبار، بحسب ما يراه أولو الأمر في ذلك، فقد تكون الأكثرية هي الخيار الأفضل في غياب وجود البديل.
كفّارة القسم بغير اللّه:
* هل تجب الكفّارة عن القسم بغير اللّه سبحانه وتعالى؟
ـ لا تجب الكفّارة على ذلك، وينبغي للإنسان أن يقسم باللّه فقط. وتحرِّم بعض النظريات الفقهية القسم بغير اللّه سبحانه وتعالى.
لعبة (البلياردو) و(السنوكر):
* أريد الاستفسار عن اللعب ب(البلياردو) و(السنوكر)، هل هو حلال أم حرام، وكذلك الشراء والمعاملة؟
ـ يحرم اللعب بالألعاب المذكورة إذا كان ذلك مع الرهان والغلبة، وأما لمجرد التسلية العابرة فلا حرمة عندئذٍ، ولا فرق في ذلك بين اللعب أو الشراء أو التعامل.
ذكر الموتى بالخير:
* يقال ((اذكروا موتاكم بالخير))، فماذا لو كان الموتى من أهل السوء؟
ـ معنى أن تذكر الموتى بالخير أن تذكر محاسنهم، إلا أن تكون القضية قضية حق أو باطل أو عدل وظلم، فإن اللّه لم يذكر فرعون وغيره من الظالمين بالخير، وذلك كي تكون سيرتهم ومصيرهم عبرة.
رؤية صورة امرأة متوفَّاة:
* تزوَّجت فتاة والدتها متوفاة، فهل يجوز لي رؤية صور والدتها من دون حجاب؟
ـ لا مانع من ذلك.
الملابس التي عليها كلمات أجنبية:
* إذا كان على الملابس كتابة أجنبية، فهل يجوز الصلاة فيها؟
ـ يجوز الصلاة فيها، ولكن حذار من وجود بعض الصور الدعائية للبضائع المحرّمة أو ما لا يتناسب وروحية الإنسان المؤمن.
حكم اللهو والترف:
* هل يجوز الأخذ بوسائل الترف، سواء في البيوت أو في الصالات العامة للمسلمين في ظل وجود الفقراء؟
ـ الأفضل للإنسان أن يتوازن في ما أعطاه اللّه سبحانه وتعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( )، فإذا أخرج الإنسان ما يجب عليه من حقوقه الشرعية للفقراء للمحرومين مما أوجبه اللّه عليه فعند ذلك يقول اللّه سبحانه وتعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ( )، والأفضل للمسلم أن لا يكتفي بما يوجب عليه الإنفاق، بل ينفق في موارد المستحبّات كذلك.
استحباب النذر:
* هل النذر عمل مستحب؟
ـ لم يثبت استحباب النذر إلاّ في ظرف يمكن الرجوع فيه إلى الله، كما في حالة وجود مشكلة للإنسان، فينذر الإنسان للّه في حالة حل المشكلة، وعندئذٍ يجب الوفاء عليه.
حكم الصلاة على النبي(ص):
* عندما نسمع اسم النبي محمد(ص) أو الصلاة عليه، فهل تجب الصلاة عليه؟
ـ لا يجب ذلك، ولكنه مستحبّ، وهو وفاء للنبي(ص) وتعظيم له.
نية القربة:
* هل نية القربة يعني التقرب إلى رحمة اللّه أم إلى ذاته؟
ـ نحن نتقرب إليه في حال العبادة. والتقرّب إلى اللّه لا يعني القرب المكاني، بل القرب بالعمل والروح والطاعة للحصول على رضا اللّه سبحانه وتعالى.
العمل بمزارع لصناعة الخمور:
* شخص مقيم في أحد بلدان الغرب، ويعمل في المزارع الخاصة بصناعة الخمور من تلك الأشجار، فما هو الحكم بذلك العمل؟
ـ لا يعتبر العمل بتلك المزارع محرَّماً، لأنه يخدم زراعة الأشجار وليس عمله في تصنيع الخمور.
ارتداء الملابس القصيرة:
* في البيت ألاحظ البنات يلبسن الملابس القصيرة أو البنطلون، وأنصحهم دائماً بعدم لبس تلك الملابس، وتولِّد هذه المسألة خلافاً ومشاحنات تصل إلى درجة العنف، فما هو العمل؟
ـ يجوز ارتداء البنطلون للبنات في البيت مع عدم وجود الأجانب إذا لم يكن في البيت سوى المحارم. وإذا أردت أن توجّههن إلى اللباس الأفضل من البنطلون الذي يستر أجسادهن، فعليك أن تفعل بالحكمة والموعظة الحسنة وليس بالعنف، لأن العنف في مثل هذه القضايا لا يؤدي إلى نتيجة.
حكم الإنترنت:
ـ يتردَّد الكثير من الشباب اليوم على شبكات الإنترنت مع حصول المفسدة لأخلاقهم من تلك البرامج، فما هي نصيحكتم؟
ـ على الشباب المسلم اختيار المواقع التي تنفعهم في الدين والدنيا واجتناب الإنترنت في مواقعه المشبوهة.
الوفاء بالوعد:
* هل تستلزم كلمة (إن شاء اللّه) الوفاء بالوعد أم لا؟
ـ أحياناً نقول (إن شاء اللّه) من باب التبرك ومن باب الاعتقاد بأنه لا إرادة للإنسان في مقابل إرادته وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلا أن يشاء الله( )، لأن الإنسان لا يضمن عمره وظروفه، وأحياناً يقصد البعض بها الغش وتعليق الموضوع وهو فعل حرام، ومع الأسف فإن البعض تعلّم الغشَّ بالكلام والمعاملة.
العمل في متاجر الخمور:
* محاسب يعمل في متجر لبيع المواد الغذائية بما فيها الخمور، فهل يجوز ذلك؟
ـ الأصل أنه لا يجوز بيع الخمور، وعلى الإنسان أن يبحث عن عمل آخر. نعم، إذا كان في ترك العمل حرجٌ شديد يوجب اختلال نظام حياته، ولم يكن له عمل آخر يكفيه، فلا مانع من العمل في المتجر المذكور، والله يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( )، ويقول أيضاً: بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره( ).
الشراء من متاجر تبيع الخمور:
* هل يجوز الشراء من المتاجر التي تتاجر بالخمور حتى لو كانت في مناطق مسيحية؟
ـ إذا كان التاجر مسلماً فعلينا شراء ما نحتاجه من البضاعة ممن لا يتاجر بها من المسلمين. وإذا كان التاجر مسيحياً فلا مانع من الشراء منه.
التعرّب بعد الهجرة:
* إذا فسرنا التعرّب بعد الهجرة بأنه ترك مواطن العلم والإيمان إلى مواقع يضعف فيها العلم والدين، ولذا كان التعرّب محرماً، فعلى هذا، هل يكون تواجد المسلم في بلده الإسلامي محرّماً إذا لم يزدد فيه علمه وإيمانه، وتجب عليه الهجرة إلى بلدان أخرى يزداد فيها علمه؟
ـ لو فرضنا أنه في بلد ما سيطر عليه الظلم والكفر، بحيث يجعل المسلمين في وضع لا يسمح لهم أن يأخذوا بأسباب القوة والعلم، ويصبح إسلامهم في حالة اهتزاز أمام هذه الضغوط فلا يبعد وجوب الهجرة في ذلك، كما تحدّث سبحانه عن المستضعفين الذين سقطوا تحت تأثير المستكبرين في الجانب العقائدي، حيث قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا( ).
النظر إلى النساء:
* بعض الرجال ينظرون إلى النساء لحد الإشباع، بحجة قولهم إن النظرة الأولى حلال، فما هي نصيحتكم لهم؟
ـ إن هؤلاء لم يفهموا معنى النظرة الأولى، فالنظرة الأولى تعني النظرة العابرة وغير المقصودة، ولا يراد منها من ينظر بلذة وشهوة وإشباع.
التسمية على الذبيحة:
* هل يصحُّ التسمية على الذبيحة بصوتٍ خافت؟
ـ المهم هو ذكر اسم اللّه على الذبيحة، سواءً إخفاتاً أو جهراً.
الالتزام بالعهود:
* أهداني أحد الأخوة كتاب القرآن الكريم على أن أقرأ فيه، وعندما أعود إلى العراق أضعه في مقام السيدة زينب(ع) ، فهل يجوز لي أن آخذ القرآن إلى العراق حيث لا يوجد لديَّ مصحف أم يجب أن أضعه في مقام السيدة زينب؟
ـ لا يجوز لك أخذ المصحف عند سفرك، بل تضعه في مقام السيدة زينب(ع) كما أوصاك صديقك بذلك.
الموت الدماغي:
* ما هو رأي الشرع بالمصطلح الطبي (الموت الدماغي)، حيث يعتبر الأطباء موت الدماغ هو الموت الحقيقي؟
ـ نحن نفتي بأنه إذا تحقق موت الدماغ طبياً بشكل قطعي فلا يجب وضع الجهاز المشجِّع لنبضات القلب، ولا يحرم رفع ذلك الجهاز عن المريض لو وضع له وتبيَّن بعد ذلك أنه في حالة موت دماغي قطعاً.
التقييم والغيبة:
* هل يعتبر تقييم شخص ما والحديث عنه من الغيبة؟
ـ إذا كان الحديث تقييماً لمصلحة إسلامية فليس من الغيبة، وإلا إذا كان مجرد تقييم شخصي فإنه يعتبر غيبة. ويجب الحذر من ذلك، لأنه قد يشوب ذلك الهوى والرأي الشخصي، فيلزم التريث والاحتياط.
بناء الملاهي:
* هل يجوز الاشتراك في بناء وترميم وزخرفة قاعات يقام فيها رقص ومشروب؟
ـ الأفضل عدم ذلك، ولكنه بناء وليس مسؤولاً عن مستقبله وما يُعمل فيه.
قطع شجر المقابر:
* هل يجوز قطع شجرة في المقابر؟
ـالأحوط ترك ذلك، لأنها من شؤون المقبرة بما ينفع الناس الذين يتفيّأون تحت ظلالها، إلا إذا تعارضت مع الدفن وما أشبه ذلك.
الحلف على أمر:
* ما هو حكم من يقول (واللّه العظيم) بأنه سوف لن يدخل إلى مكان ما ثم يدخل ذلك المكان، فما يترتب عليه على ذلك؟
ـ تارة يكون الحلف غير راجح، مثل أن يحلف شخص بأنه لن يزور بيت أخيه أو رحمه أو لا يدخل المسجد، فهذا الحلف لا قيمة له شرعاً. وأما إذا كان ما يحلف عليه راجحاً ثم حنث باليمين فعليه كفَّارة.
تصنيف المساجد:
* ذكرتم أنَّ من واجب المسلم أن يدخل لأي مسجد دون تمييز بين أن يكون هذا الجامع للفئة الفلانية وذلك المسجد محسوب على الحزب الفلاني، فما هو رأيكم في دخول مسجد يقوم إمامه بترويج الفتنة بين المسلمين؟
ـ إذا كان ذلك المسجد تحصل فيه الفتنة، مثل مسجد ضرار إرصاداً وتفريقاً، فلا يجوز الدخول إليه والصلاة فيه.
لبس السلاسل والقلادة:
* ما حكم لبس القلادة والسلاسل الفضية للرجال للزينة؟
ـ ليس حراماً في ذاته، ولكن نقول علينا أن نحترم هويتنا الإسلامية ولا نأخذ بعادات الآخرين من دون وعي ، فلا نأخذ بتقليد إلا ما يتماشى مع التعاليم الإسلامية ومفاهيم القرآن الكريم .
الحنث في النذر:
* ما حكم من ينذر الصيام سنةً كاملةً كعقوبة لترك معصية ما، ثم يعود إليها، فهل عليه الوفاء بالنذر؟
ـ لا يعتبر في تلك الحالة حنثاً بالنذر، ولا يلغى النذر عن المعصية الأولى في حالة حصول معصية جديدة إذا كان الملحوظ المعصية السابقة، أما إذا كان المقصود بها نوعية المعصية في الماضي والحاضر، فإن ذلك يكون حنثاً بالنذر إذا كان شرطاً في النذر.
العمل الإضافي:
* يضطر البعض للقيام بأعمال إضافية لزيادة الدخل، وقد يشغله ذلك عن أداء الواجبات الشرعية وممارسة النشاطات الثقافية والفكرية والاجتماعية، فما هي الحدود الشرعية في ذلك؟
ـ على الإنسان أن يدرس حاجاته، فإذا كان يعيش في ظروف معاشية صعبة، فعليه أن يوازن بين ظروف عمله وبقية النشاطات الحياتية بما في ذلك الواجبات.
توضيح في مسألة الغناء:
* نرجو توضيح الفتوى بصدد الغناء والموسيقى؟
ـ قلنا إذا كان الكلام حقاً فهو حلال إن لم يصاحبه محرم آخر، وإذا كان باطلاً فالغناء حرام. ولو أفتينا بحرمة الغناء مطلقاً لمجرد التغني والترنيم لأفتينا بحرمة التعزية أيضاً، لأنها لحن وشعر أيضاً، لأن الغناء هو عبارة عن ترديد الصوت وترجيعه مثل المدائح النبوية والموالد، ولذا نقول إن الغناء المحرّم هو الغناء الذي يضلُّ عن سبيل اللّه بحسب المضمون من الكلمات وما تعارفه أهل الفسق والفجور.
التداوي للمرأة عند الطبيب:
* هل يجوز للطبيب فحص المرأة التي تعاني من مرض جلدي في منطقة معيّنة لا يجوز النظر إليها من قبل الرجل؟
ـ إذا لم يكن هناك طبيبة مختصة بهذا المجال فيجوز للطبيب الفحص، وقد ورد في بعض النصوص المعتبرة جواز ذلك لها وله إذا كان الرجل أرفق بعلاجها من النساء.
القصاص من الظالم:
* هل يجوز القصاص من الظالم أو النيل منه بأية طريقة كانت؟
ـ يجب دراسة القضية ونوع الظلم لتحديد نوعية القصاص بشروطه المعيّنة، كما أن هناك نقطة مهمة، وهي أنه ليس لأي شخص إقامة الحدود، لأن ذلك من صلاحيات السلطة الشرعية، ولذلك فلا يجوز للناس القيام بالقتل العشوائي من دون الرجوع في ذلك إلى الحاكم الشرعي الذي يدرس الأمور قضائياً حسب الموازين الشرعية، كما يدرس طريقة التنفيذ بحسب المصلحة الإسلامية العامة.
تعامل المرأة مع الرجال:
* ما هي نصيحتكم في موضع تعامل المرأة مع الرجال في الأسواق والمحلات وما قد يحدث من الكلام بينهما والذي قد يتحول إلى مزاح؟
ـ على المرأة المسلمة أن تتحفظ في حديثها مع الرجال عند الشراء وغيره لضمان عدم حصول ما لا تحمد عقباه في حالة الكلام الزائد أو بما يؤدي للمزاح وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ( ).
صيد السمك في موسم التكاثر:
* هل يحرم صيد السمك أثناء موسم التكاثر أم هو مكروه؟
ـ لا يجوز صيد السمك أثناء فترة تكاثره، وكذلك الطيور النادرة حفاظاً عليها، لأن ذلك يؤدي إلى الضرر العام على الناس.
إتلاف لفظ الجلالة:
* ما هو حكم استعمال المجلات والجرائد التي يوجد فيها لفظ الجلالة، وما هي طريقة التخلص منها، فهل يجوز حرقها إذا تعذر الرمي في البحر؟
ـ يمكن استخدام التلاّفة بحيث نتلف الكلمة، لأننا إذا استطعنا أن نتلف الكلمة لم تعد لفظة مقدَّسة. أما قضية الحرق فلدينا أحاديث تنهى عن الحرق.
تخدير الذبيحة:
* في السويد يقوم القصَّابون بتخدير الحيوان قبل ذبحه، فما حكم هذا العمل، علماً أن القصَّابين مسلمون يقومون بهذا العمل تلبيةً لطلب قانون الدولة؟
ـ لا مشكلة في ذلك، فالمهم أن تبقى حية حال الذبح.
التعامل مع غير المسلمين:
* نحن نعيش في بلدان الغرب التي فيها ندرة العوائل الملتزمة، ولكن نجد عدداً لا بأس به من العوائل المسيحية التي تمتلك عادات أفضل من بعض العوائل المسلمة، ولكن المشكلة كونهم غير موحِّدين، ولكنهم يعترفون بديننا والتزامنا الديني، فما رأيكم بمسألة تناول الطعام عندهم وما يسببه من إحراج لنا؟
ـ لا مانع من العيش مع الآخرين، ويمكن توضيح تعليمات الدين لهم، ويجوز الأكل من طعامهم الذي لم تلحقه النجاسة، ما عدا اللحم غير المذكى فإنه غير جائز، ورأينا هو الحكم بطهارة كل إنسان، سواءًَ أكان مسلماً أم كافراً.
الجلوس في الشوارع:
* ما رأيكم بظاهرة الجلوس في الشوارع، وخاصة المطاعم، حيث تترك الكراسي والطاولات وسط الشارع ويأكلون أمام الفقراء؟
ـ إن المشكلة فقهياً ليست في الأكل أمام الفقراء، ولكن لا يجوز الجلوس في الشارع (على الأرصفة) بما يعرقل حركة المرور، لأنه غصب وافتئات على حق المارة في الطريق، كما أن على الإنسان المؤمن تقدير مشاعر الناس الآخرين بطريقة وأخرى، حذراً من إثارة بعض السلبيات من قبلهم.
الغناء المحرَّم والمحلَّل:
* ما هو رأيكم بالغناء، وهل هناك غناء حلال؟
ـ الغناء إذا كان كلامه يتضمن الحق وذكر اللّه وذكر النبي(ص) وأوليائه(ع) ويتضمن الحق في شؤون الحياة فليس بمحرّم إنْ لم يخالطه حرام آخر، فما عدا ذلك يعتبر من اللغو والزور، قال تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ( )، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ( )، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ( )، والبحثُ طويلٌ في مسألة الغناء، ولكن البحث في الغناء قد يكون على أساس حرمة العنوان نفسه والدليل على ذلك، وقد يكون على أساس حرمة العناوين الأخرى، كما هو رأي الشيخ الفيض الكاشاني رحمه الله.
حكم تقبيل اليد:
* ما هو رأي سماحتكم بمسألة تقبيل يد العلماء والأقارب المتقدمين في العمر؟
ـ تقبيل اليد من باب التقاليد والاحترام مثلما يقوم البعض من مكانه عندما يستقبل أحداً، أو ما هو مألوف ومعروف عند اليابانيين من تقليد في حالة السلام والتحية للآخرين فإنه ينحني لهم احتراماً، بينما نرى الغربيين عند الجلوس فإنهم مثلاً يضعون رجلاً فوق أخرى أمام الآخرين الجالسين، فيما يعتبر ذلك قلة احترام عند الشعوب الشرقية الإسلامية.
قول الشعر ليلة الجمعة:
* هل يُعتبر قول الشعر في ليلة الجمعة ونهارها مبطلاً للصلاة أو الصوم؟
ـ هذا ليس مبطلاً.
رجوع العراقيين إلى بلادهم:
* هل هناك ضرورة تصل إلى حد الوجوب لرجوع العراقيين إلى وطنهم لمساعدة إخوانهم ومواساتهم، أم يجب التريث لحين استتباب الأمور؟
ـ كلّ من يجد في نفسه القدرة على مساعدة وتقوية موقف الشعب فعليه أن يساهم في ذلك وكل بحسب ظروفه، فلربما لا يستطيع بعض الناس العودة إلى العراق حالياً.
صبغ الشعر:
* هل صبغ الشعر عند الرجل والمرأة حرام أم لا؟
ـ لا دليل على حرمته.
الذبح الآلي للحيوان:
* نظراً للتطوّر الحاصل في تربية الدواجن، تقوم بعض الجهات بذبح كميات كبيرة من الدجاج بصورة مكيانيكية، فهل يجب أكل هذا الدجاج؟ وهل يعتبر ضمن الشروط الشرعية للذبح؟
ـ إذا قطعت الأوداج الأربعة مع التسمية بذكر اللّه، فيجوز أكل تلك الذبائح.
مخاطبة اليهود في الإنترنت:
* ما هو رأيكم بمخاطبة اليهود عبر شبكة الإنترنت؟
ـ إذا كانت المخاطبة للاعتراض عليهم أو التصحيح لانحرافهم فلا يحرم، ولكن لابد من الحذر في ذلك.
الحلاقة الغربية:
* ما حكم تصفيف الشعر على الطريقة الغربية؟
ـ علينا أن لا نفقد هويتنا ونقلِّد الغربيين في كل شيء.
استعمال القسوة مع الأبناء:
* ما حكم الآباء الذين يستعملون القسوة بالضرب لأبنائهم بشدة عند معاقبتهم، ما يؤثر على شخصية الأولاد ونفسياتهم مدى الحياة؟
ـ هو ظلم وظلم الضعيف لا يجوز، بل هو أفظع الظلم، فالطفل جعله اللّه أمانة، ولذلك فإن الآباء الذين يضربون أولادهم تنفيساً عن عقدة أو جهل عندهم ظالمون، والطفل، وحتى المراهق، قد لا يستطيع أن يرد، ولكنه يشتكي إلى اللّه ويدعو على من ظلمه، والواجب على كل إنسان أن يخلِّص الطفل من الظلم الذي يمكن أن يطاله، وحتى لو كان الظلم صادراً من الأب، ولكننا وللأسف نرى البعض يعارض من يدافع عن الطفل بحجة أنه ابنه، فالأب الواعي هو الذي يعيش الرحمة في قلبه.
حكم الألفاظ البذيئة:
* بعض المؤمنين يستخدمون الألفاظ البذيئة في كلامهم، وفي ذلك انتهاك لحرمة المسلم وتقديم نظرة سيئة عنه أمام الآخرين، فهل المزاح جائز؟
ـ لا يجوز المزاح بالألفاظ البذيئة، وقد قال تعالى: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ( ). وقد ورد ((حرّم اللّه الجنة على كل فاحش بذيء اللسان قليل الحياء لا يبالي بما قال وقيل له))، وورد ((إن اللّه يبغض المتفحش البذيء اللسان)).